الكتاب: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني المؤلف: أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (المتوفى: 1126هـ) الناشر: دار الفكر الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1415هـ - 1995م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   «رِسَالَة ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ» بأعلى الصفحة يليها - مفصولا بفاصل - شرحها «الفواكه الدواني» للنفراوي ---------- الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني النفراوي الكتاب: الفواكه الدواني على رسالة ابن أبي زيد القيرواني المؤلف: أحمد بن غانم (أو غنيم) بن سالم ابن مهنا، شهاب الدين النفراوي الأزهري المالكي (المتوفى: 1126هـ) الناشر: دار الفكر الطبعة: بدون طبعة تاريخ النشر: 1415هـ - 1995م عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   «رِسَالَة ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ» بأعلى الصفحة يليها - مفصولا بفاصل - شرحها «الفواكه الدواني» للنفراوي [مُقَدِّمَة الْكتاب] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَرْضَاهُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي ابْتَدَأَ الْإِنْسَانَ بِنِعْمَتِهِ.   [الفواكه الدواني] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الْعَظِيمِ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، الْمَانِّ عَلَيْنَا بِنِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، وَالْمُبَيِّنِ لَنَا مَعَالِمَ حُدُودِ الْأَحْكَامِ، مُفَرِّقًا لَنَا فِيهِ بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، الْفَرْدُ الصَّمَدُ، الَّذِي لَيْسَ لِنِهَايَتِهِ أَمَدٌ، الْمُنَزَّهُ عَنْ الصَّاحِبَةِ. وَالشَّرِيكِ وَالْوَلَدِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، مَنْ بِخَتْمِ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ انْفَرَدَ، - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ فِي كُلِّ أَمَدٍ. (وَبَعْدُ) : فَيَقُولُ الْعَبْدُ الْحَقِيرُ الضَّعِيفُ، وَالْمُفْتَقِرُ إلَى مَوْلَاهُ الْقَوِيِّ اللَّطِيفِ، أَحْمَدُ بْنُ غُنَيْمِ بْنِ سَالِمٍ النَّفْرَاوِيُّ بَلَدًا، الْأَزْهَرِيُّ مَوْطِنًا الْمَالِكِيُّ مَذْهَبًا، قَدْ كَثُرَ اشْتِغَالُ النَّاسِ بِرِسَالَةِ الْإِمَامِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْمُلَقَّبَةِ بِبَاكُورَةِ السَّعْدِ وَبِزُبْدَةِ الْمَذْهَبِ، لِمَا ظَهَرَ فِي الْخَافِقَيْنِ مِنْ أَثَرِهَا وَبَرَكَتِهَا، لِأَنَّهَا أَوَّلُ مُخْتَصَرٍ ظَهَرَ فِي الْمَذْهَبِ بَعْدَ تَفْرِيعِ ابْنِ الْجَلَّابِ وَكَثُرَتْ الشُّرَّاحُ عَلَيْهَا، وَلَمْ يَكُنْ يُسْتَغْنَى بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَنْ غَيْرِهِ، أَرَدْت أَنْ أَضَعَ عَلَيْهَا شَرْحًا مُشْتَمِلًا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِفَضْلِهِ الْعَمِيمِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، بِحَيْثُ إنَّ الشَّيْخَ أَوْ الطَّالِبَ يَسْتَغْنِي بِهِ عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَيْهِ وَسَمَّيْته: (الْفَوَاكِهُ الدَّوَانِي عَلَى رِسَالَةِ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ الْقَيْرَوَانِيِّ) . وَأَسْأَلُ اللَّهَ الْمَانَّ بِفَضْلِهِ أَنْ يَرْزُقَنِي الْإِخْلَاصَ بِوَضْعِهِ لِيَكُونَ مُوجِبًا لِلْفَوْزِ لَدَيْهِ لِلْقَطْعِ بِعَجْزِنَا وَالْعِلْمِ بِأَنَّ الْأَمْرَ مِنْهُ وَإِلَيْهِ، وَسَلَكْت فِيهِ صَنْعَةَ الْمَزْجِ لِيَسْهُلَ تَنَاوُلُهُ، فَقُلْت مُسْتَعِينًا بِاَللَّهِ إنَّهُ مُفِيضُ الْخَيْرِ وَالْجُودِ. قَوْلُهُ: (بِسْمِ) ابْتَدَأَ بِهَا لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ الِابْتِدَاءُ بِهَا اقْتِدَاءً بِالْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ الَّتِي أَشْرَفُهَا الْقُرْآنُ لِمَا قَالَهُ الْعَلَامَةُ أَبُو بَكْرٍ التُّونُسِيُّ مِنْ إجْمَاعِ عُلَمَاءِ كُلِّ مِلَّةٍ عَلَى أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ افْتَتَحَ جَمِيعَ كُتُبِهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَيَشْهَدُ لَهُ خَبَرُ «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَاتِحَةُ كُلِّ كِتَابٍ» ، وَقَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ أَنَّهَا مَبْدَأُ كَلِمَاتِ اللَّهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى آدَمَ ثُمَّ رُفِعَتْ وَأُنْزِلَتْ عَلَى مَنْ بَعْدَهُ حَتَّى أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَوْلُ الْمُؤَلِّفِينَ اقْتِدَاءً بِالْقُرْآنِ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ بَلْ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ، وَلَمْ تَزُلْ النَّاسُ تَقْتَدِي بِالْأَشْرَفِ وَعَمَلًا بِخَبَرِ «كُلِّ أَمْرٍ ذِي بَالٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِبَسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ أَوْ بِاسْمِ اللَّهِ أَوْ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ أَوْ بِحَمْدٍ أَوْ لَا يُفْتَتَحُ بِذِكْرِ اللَّهِ فَهُوَ أَقْطَعُ أَوْ أَبْتَرُ أَوْ أَجْذَمُ» أَيْ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ أَوْ مَقْطُوعُهَا، وَلَا تَعَارُضَ بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ لِأَنَّ الْمُقَيَّدَ مِنْهَا يُحْمَلُ عَلَى الْمُطْلَقِ، فَكُلُّ لَفْظٍ اُبْتُدِئَ بِهِ مِنْهَا يُحَصِّلُ الْمَقْصُودَ، لِأَنَّ الْغَرَضَ الثَّنَاءُ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ ذِكْرٍ. وَلَا يُقَالُ: الْقَاعِدَةُ عَكْسُ هَذَا الْحَمْلِ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ كَمَا فِي آيَتَيْ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ، فَإِنَّهُمْ حَمَلُوا الرَّقَبَةَ الْمُطْلَقَةَ فِي الظِّهَارِ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ بِالْمُؤْمِنَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ: قَاعِدَةُ الْأُصُولِيِّينَ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ الْقَيْدِ وَاحِدًا، وَأَمَّا إذَا تَعَدَّدَتْ الْقُيُودُ وَتَخَالَفَتْ فَيُرْجَعُ لِلْمُطْلَقِ أَوْ يُحْمَلُ حَدِيثُ الْبَسْمَلَةِ عَلَى الْبَدْءِ الْحَقِيقِيِّ وَهُوَ جَعْلُ الشَّيْءِ أَوَّلُ عَمَلٍ يُعْمَلُ بِحَيْثُ لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ. وَحَدِيثُ الْحَمْدَلَةِ عَلَى الْإِضَافِيِّ وَهُوَ الَّذِي يَكُونُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ بِالذَّاتِ فَيَصَدَّقُ بِمَا بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ، وَلَمْ يُعْكَسْ لِقُوَّةِ حَدِيثِ الْبَسْمَلَةِ وَلِمُوَافَقَةِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ الْوَارِدِ عَلَى هَذَا الْمِنْوَالِ، أَوْ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ الرِّوَايَاتِ تَخْيِيرُ الْبَادِئِ فِي الْعَمَلِ بِرِوَايَةٍ مِنْهَا، لِأَنَّ الْخَبَرَيْنِ إذَا تَعَارَضَا وَلَمْ يُعْلَمْ سَبْقٌ وَلَا نَسْخٌ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الْعَمَلِ بِأَحَدِهِمَا كَمَا فِي الْأُصُولِ، ذَكَرَ هَذَا الْجَوَابَ مُرْشِدُ الشِّيرَازِيِّ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ أَنَّهُ يُوقَفُ عَنْ الْعَمَلِ بِهِمَا، وَهَذَا التَّعَارُضُ الْمُحْتَاجُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لِتِلْكَ الْأَجْوِبَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى حَمْلِ الْبَاءِ فِي بِسْمِ اللَّهِ وَفِي بِالْحَمْدِ لِلَّهِ صِلَةً لِيُبْدَأَ. وَأَمَّا إنْ جُعِلَتْ لِلِاسْتِعَانَةِ أَوْ لِلْمُصَاحَبَةِ التَّبَرُّكِيَّةِ أَوْ لِلْمُلَابَسَةِ فَلَا تَعَارُضَ، لِأَنَّ الِاسْتِعَانَةَ بِشَيْءٍ لَا تُنَافِي الِاسْتِعَانَةَ بِغَيْرِهِ، وَمَعْنَى الْبَالِ الْحَالُ وَالشَّأْنُ، وَمَعْنَى أَقْطَعُ وَأَجْذَمُ وَأَبْتَرُ نَاقِصٌ قَلِيلُ الْبَرَكَةِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْ بَابِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، وَهُوَ مَا حُذِفَتْ مِنْهُ أَدَاةُ التَّشْبِيهِ نَحْوُ زَيْدٌ حِمَارٌ أَوْ أَسَدٌ أَيْ كَأَجْذَمَ أَوْ كَأَبْتَرَ فِي النَّقْصِ، لِأَنَّ الشَّخْصَ الْأَجْذَمَ نَاقِصٌ بِالنِّسْبَةِ لِلسَّلِيمِ، وَالشَّاةُ ذَاتُ الذَّنَبِ كَامِلَةٌ بِالنِّسْبَةِ لِمَقْطُوعَتِهِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ النَّقْصِ الْمَعْنَوِيِّ بِالْحِسِّيِّ، لِأَنَّ الْحِسِّيَّ قَرِيبٌ لِلنَّفْسِ تُدْرِكُهُ سَرِيعًا فَشَبَّهَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ لِذَلِكَ، وَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِذِي الْبَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأُمُورِ غَيْرِ ذَاتِ الْبَالِ وَهِيَ سَفَاسِفُ الْأُمُورِ وَمُحَقِّرَاتِهَا، فَلَا تُطْلَبُ فِيهَا بَسْمَلَةٌ لِعَدَمِ الِاهْتِمَامِ بِهَا أَوْ يُهْتَمُّ بِهَا لَا شَرْعًا، فَلَا يَجُوزُ فِيهَا تَسْمِيَةٌ بَلْ تَحْرُمُ فِي الْمُحَرَّمِ وَتُكْرَهُ فِي الْمَكْرُوهِ. فَإِنْ قِيلَ: الْبَسْمَلَةُ وَالْحَمْدَلَةُ مِنْ الْأُمُورِ ذَوَاتِ الْبَالِ فَتَحْتَاجُ إلَى الْبَسْمَلَةِ وَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ. أُجِيبَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدِهِمَا: أَنَّ الْمُرَادَ الْأَمْرُ الَّذِي يُقْصَدُ فِي ذَاتِهِ بِحَيْثُ لَا يَكُونُ وَسِيلَةً لِغَيْرِهِ. ثَانِيهِمَا: وَهُوَ الْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ كُلٌّ مِنْ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ، كَمَا يُحَصِّلُ الْبَرَكَةَ لِغَيْرِهِ وَيَمْنَعُ نَقْصَهُ كَذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُحَصِّلَ الْبَرَكَةَ لِنَفْسِهِ كَالشَّاةِ مِنْ الْأَرْبَعِينَ تُزْكِي نَفْسَهَا وَغَيْرَهَا، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا الْجَوَابُ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ الْوَسِيلَةَ قَدْ تُطْلَبُ فِيهَا الْبَسْمَلَةُ كَالْوُضُوءِ. فَإِنْ قِيلَ: كَثِيرٌ مِنْ الْأُمُورِ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَلَا يَتِمُّ وَكَثِيرٌ بِالْعَكْسِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالتَّمَامِ فِي الْحَدِيثِ كَوْنُهُ مُعْتَبَرًا شَرْعًا بِاشْتِمَالِهِ عَلَى مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ وَيُحَصِّلُ الْبَرَكَةَ، وَيُعْدِمُ تَمَامُهُ عَدَمَ اعْتِبَارِهِ فِي الشَّرْعِ، فَالْمُرَادُ بِتَمَامِهِ تَمَامُهُ فِي الْمَعْنَى، وَبِعَدَمِ تَمَامِهِ نَقْصِهِ فِي الْمَعْنَى وَإِنْ كَمُلَ فِي الْحِسِّ. فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى الْحَدِيثِ {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} [النمل: 30] فَإِنَّهُ لَمْ يُصَدِّرْ اسْمَ اللَّهِ لِأَنَّ صُورَةَ الْكِتَابِ الَّذِي أَرْسَلَهُ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِبِلْقِيسَ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ دَاوُد إلَى بِلْقِيسَ مَلِكَةِ سَبَأٍ، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] ثُمَّ طَبَّقَهُ بِالْمِسْكِ وَخَتَمَهُ بِخَاتَمِهِ ثُمَّ قَالَ لِلْهُدْهُدِ: اذْهَبْ بِكِتَابِي، هَذَا فَأَلْقِهِ إلَيْهِمْ أَيْ إلَى بِلْقِيسَ وَقَوْمِهَا مَعَ أَنَّ الْكِتَابَ مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ. فَالْجَوَابُ مِنْ وُجُوهٍ: أَحْسَنِهَا وَعَلَيْهِ نَقْتَصِرُ أَنَّ بِلْقِيسَ لَمَّا كَانَتْ كَافِرَةً خَافَ سُلَيْمَانُ أَنْ تُهِينَ اسْمَ اللَّهِ إذَا رَأَتْهُ مُصَدَّرًا بِهِ فِي أَوَّلِ الْكِتَابِ فَصَدَّرَ سُلَيْمَانُ اسْمَهُ لِيَكُونَ وِقَايَةً لِاسْمِهِ تَعَالَى. فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى الْحَدِيثِ أَنْ يُقَالَ بِاَللَّهِ بَدَلَ بِسْمِ اللَّهِ حَتَّى يَصْدُقَ عَلَيْهِ لَفْظُ الِابْتِدَاءِ بِاسْمِ اللَّهِ فَلِمَاذَا قَالَ بِسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ عَمَلًا بِمُقْتَضَى الْحَدِيثِ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ وَغَيْرُهُ: أَنَّ كُلَّ حُكْمٍ وَرَدَ عَلَى اسْمٍ فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ وَارِدٌ عَلَى مَدْلُولِهِ إلَّا لِقَرِينَةٍ كَضَرَبَ فِعْلُ مَاضٍ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ إذَا قِيلَ: ذَكَرْت اسْمَ زَيْدٍ فَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ اسْمٍ بَلْ أَنَّهُ ذَكَرَ لَفْظَ زَيْدٍ لِأَنَّهُ مَدْلُولُ اسْمِ زَيْدٍ، إذْ مَدْلُولُ اللَّفْظِ الدَّالُ عَلَيْهِ وَهُوَ لَفْظُ زَيْدٍ، فَكَذَا قَوْلُهُ: بِسْمِ اللَّهِ أَبْتَدِئُ مَعْنَاهُ أَبْتَدِئُ بِمَدْلُولِ اسْمِ اللَّهِ وَهُوَ لَفْظُ اللَّهِ فَكَأَنَّهُ قَالَ بِاَللَّهِ أَبْتَدِئُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ بِاَللَّهِ لِأَنَّ التَّبَرُّكَ وَالِاسْتِعَانَةَ بِذِكْرِ اسْمِهِ أَوْ لِلْفَرْقِ بَيْنَ الْيَمِينِ أَيْ الْحَلِفِ وَالتَّيَمُّنِ أَيْ التَّبَرُّكِ، وَلِأَنَّ الْمُسَمَّى إذَا كَانَ فِي غَايَةِ الْعَظَمَةِ لَا يُذْكَرُ بَلْ اسْمُهُ وَحَضْرَتُهُ وَجَنَابُهُ، كَمَا يُقَالُ: سَلَامٌ عَلَى الْمَجْلِسِ الْعَالِي وَعَلَى الْحَضْرَةِ الْعَالِيَةِ، وَقَوْلُنَا ضَرَبَ فِعْلٌ مَاضٍ فَإِنَّ الْحُكْمَ بِالْفِعْلِيَّةِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ وَارِدٌ عَلَى ضَرْبِ نَفْسِهِ لَا عَلَى مَدْلُولِهِ مِنْ الْحَدَثِ وَالزَّمَنِ بِقَرِينَةِ امْتِنَاعِ وُرُودِهِ عَلَيْهِ، إذْ الْفِعْلِيَّةُ الْمَحْكُومُ بِهَا إنَّمَا يَتَّصِفُ بِهَا اللَّفْظُ لَا الْحَدَثُ وَالزَّمَانُ. وَالِاسْمُ لُغَةً مَا دَلَّ عَلَى مُسَمًّى، وَعُرْفًا مَا دَلَّ مُفْرَدًا عَلَى مَعْنًى بِنَفْسِهِ غَيْرُ مُتَعَرِّضٍ بِبَيِّنَتِهِ لِلزَّمَانِ، وَهُوَ مُشْتَقٌّ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ مِنْ السُّمُوِّ وَهُوَ الْعُلُوُّ لِأَنَّهُ يُعْلِي مُسَمَّاهُ وَيُظْهِرُهُ، وَعِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مُشْتَقٌّ مِنْ السِّمَةِ وَهِيَ الْعَلَامَةُ فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الثُّلَاثِيَّةِ الْمَحْذُوفَةِ مِنْهَا، وَأَوْ هِيَ لَامُهُ عِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَهُمْ سَمَوَ، وَفَاؤُهُ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ لِأَنَّ أَصْلَهُ عِنْدَهُمْ وَسْمٌ، فَوَزْنُ اسْمٍ إمَّا افْعَ أَوْ اعْلَ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الِاشْتِقَاقِ تَظْهَرُ فِي صِفَاتِ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَعَلَى كَلَامِ الْبَصْرِيِّينَ تَكُونُ صِفَاتُهُ تَعَالَى قَدِيمَةً، وَعَلَى كَلَامِ الْكُوفِيِّينَ تَكُونُ حَادِثَةً. وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَوْنُ الْكُوفِيِّينَ مُعْتَزِلَةً. لِأَنَّا نَقُولُ: لَازِمُ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ عَلَى الصَّوَابِ عَلَى أَنَّ هَذَا مُقْتَضَى اللَّفْظِ. وَجَرَى خِلَافٌ فِي كَوْنِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرَهُ أَوْ وَلَا، وَالْحَقُّ التَّفْصِيلُ وَهُوَ أَنَّهُ إنْ أُرِيدَ اللَّفْظُ فَغَيْرُ الْمُسَمَّى لِأَنَّهُ يَتَأَلَّفُ مِنْ أَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ وَالْمُسَمَّى لَا يَكُونُ كَذَلِكَ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] ذَاتُ الشَّيْءِ فَهُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى لَكِنَّهُ لَمْ يَشْتَهِرْ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ بِالِاسْمِ الصِّفَةُ لَانْقَسَمَ انْقِسَامَهَا فَيَكُونُ عَيْنُ الْمُسَمَّى فِي الْوَاحِدِ وَالْقَدِيمِ وَغَيْرِهِ فِي كَالْخَالِقِ وَالرَّازِقِ، وَيَكُونُ لَا عَيْنًا وَلَا غَيْرًا فِي نَحْوِ الْحَيِّ وَالسَّمِيعِ وَسَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ. (اللَّهُ) عَلَمٌ عَلَى الذَّاتِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ الْمُسْتَحِقِّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ فَهُوَ جُزْئِيٌّ، وَقَوْلُنَا: الْوَاجِبُ الْوُجُودِ إلَخْ تَعْيِينٌ لِلْمَوْضُوعِ لَهُ، فَلَا يُقَالُ: إنَّ الْوَاجِبَ الْوُجُودِ كُلِّيٌّ فَلَا يَكُونُ الْمَوْضُوعُ لَهُ مُعِينًا، فَلَا تُفِيدُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ التَّوْحِيدَ وَهُوَ أَعْرَفُ الْمَعَارِفِ وَالِاسْمُ الْأَعْظَمُ أَيْضًا عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَدَمُ الِاسْتِجَابَةِ لِكَثِيرِينَ لِعَدَمِ اسْتِجْمَاعِهِمْ شُرُوطَ الدُّعَاءِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا أَكْلُ الْحَلَالِ لَمْ يَتَسَمَّ بِهِ غَيْرُهُ تَعَالَى، وَيُقَالُ: إنَّ بَعْضَ الْجَبَّارِينَ عَزَمَ أَنْ يُسَمِّيَ وَلَدَهُ بِلَفْظِ اللَّهِ فَابْتَلَعَتْهُ الْأَرْضُ، وَقِيلَ: نَزَلَتْ عَلَيْهِ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ. وَاخْتُلِفَ فِي أَصْلِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ الَّذِي تَرَكَّبَتْ مِنْهُ، فَقِيلَ: أَصْلُهُ لَاهٍ بِالتَّنْوِينِ عِنْدَ الْكُوفِيِّينَ مَصْدَرُ لَاهٍ يَلِيهِ لَيْهًا وَلَاهَا إذَا احْتَجَبَ أَوْ ارْتَفَعَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى مَحْجُوبٌ عَنْ إدْرَاكِ الْأَبْصَارِ وَمُرْتَفِعٌ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ وَعَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، ثُمَّ أُدْخِلَ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللَّامُ وَأُدْغِمَ وَفُخِّمَ فَصَارَ اللَّهَ، وَعَلَى هَذَا فَهُوَ غَيْرُ مُشْتَقٍّ. وَعِنْدَ الْبَصْرِيِّينَ إلَهٌ بِالتَّنْوِينِ فَيَكُونُ وَصْفًا لِأَنَّهُ اسْمُ مَفْعُولٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ وَمَعْنَاهُ الْمَعْبُودُ، وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ مُشْتَقًّا، ثُمَّ أُدْخِلَتْ عَلَيْهِ أَلْ فَصَارَ الْإِلَهُ، ثُمَّ حُذِفَتْ الْهَمْزَةُ وَأُدْغِمَ وَفُخِّمَ، وَمَعْنَاهُ قَبْلَ دُخُولِ أَلْ عَلَيْهِ يُطْلَقُ عَلَى الْمَعْبُودِ مُطْلَقًا، وَبَعْدَ دُخُولِهَا يَصِيرُ عَلَمًا بِالْغَلَبَةِ عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ، لَكِنْ قَبْلَ الْإِدْغَامِ وَالْحَذْفِ غَلَبَتْهُ تَحْقِيقِيَّةٌ وَبَعْدَهُمَا تَقْدِيرِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ التَّحْقِيقِيَّةَ اللَّفْظُ أُطْلِقَ بِالْفِعْلِيِّ عَلَى غَيْرِ مَا غَلَبَ فِيهِ مِنْ الْأَفْرَادِ، وَالتَّقْدِيرِيَّة اللَّفْظُ فِيهَا صَالِحٌ لِإِطْلَاقِهِ عَلَى أَفْرَادٍ كَثِيرَةٍ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهَا، لَكِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا الْفَرْدُ الْمُسْتَعْمَلُ فِيهِ اللَّفْظُ كَلَفْظِ الْجَلَالَةِ، فَإِنَّ ذَاتَ الْبَارِّي وَاحِدَةٌ وَحَقِيقَةُ الْغَلَبَةِ قَصْرُ اللَّفْظِ عَلَى بَعْضِ مُسَمَّيَاتِهِ إمَّا تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، وَعَلَى أَنَّ أَصْلَ اللَّهِ إلَهٌ وَهُوَ قَوْلُ الْبَصْرِيِّينَ وَإِنَّهُ وَصْفٌ، فَاخْتُلِفَ فِيمَا اُشْتُقَّ مِنْهُ فَقِيلَ مِنْ أَلِهَ يَأْلَهُ أَلَاهَةً وَأُلُوهَةً بِمَعْنَى عَبَدَ، وَقِيلَ مِنْ أَلِهَ إذَا تَحَيَّرَ؛ لِأَنَّ الْعُقُولَ تَتَحَيَّرُ فِي مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مِنْ أَلْهَمْت إلَى فُلَانٍ أَيْ سَكَنْت إلَيْهِ لِأَنَّ الْقُلُوبَ تَطْمَئِنُّ بِذَكَرِهِ وَالْأَرْوَاحَ تَسْكُنُ إلَى مَعْرِفَتِهِ، أَوْ مِنْ أَلِهَ إذَا فَرَغَ مِنْ أَمْرٍ نَزَلَ إلَيْهِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا فِي الْبَيْضَاوِيِّ، فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِالِاشْتِقَاقِ وَعَدَمِهِ إنَّمَا هُوَ أَصْلُ لَفْظِ الْجَلَالَةِ لَا لَفْظِهَا، خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ الْأَلْسِنَةُ وَفِي عِبَارَةِ كَثِيرٍ مِنْ الْمُؤَلِّفِينَ، وَنَقْلِ الْأُسْتَاذِ أَبُو الْقَاسِمِ الْقُشَيْرِيُّ أَنَّ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى صَالِحَةٌ لِلتَّخَلُّقِ بِهَا أَوْ التَّعَلُّقِ إلَّا لَفْظَ الْجَلَالَةِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ إلَّا لِلتَّعَلُّقِ، وَمَعْنَى التَّعَلُّقِ الِاعْتِمَادُ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ وَالِافْتِقَارُ إلَيْهِ، وَمَعْنَى التَّخَلُّقِ. الِاتِّصَافُ فَإِنَّ نَحْوَ الرَّحْمَنِ وَالْحَلِيمِ يُمْكِنُ أَنْ يَتَّصِفَ بِمَعْنَاهُمَا بَعْضُ الْمُؤْمِنِينَ نَحْوُ فُلَانٌ حَلِيمٌ أَوْ عِنْدَهُ رَحْمَةٌ. (الرَّحْمَنِ) أَيْ الْبَالِغُ فِي الرَّحْمَةِ وَالْإِنْعَامِ لِأَنَّهُ الْمُنْعِمُ بِجَلَائِلِ النِّعَمِ (الرَّحِيمِ) الْمُنْعِمِ بِدَقَائِقِ النِّعَمِ، وَالرَّحْمَنُ وَالرَّحِيمُ صِفَتَانِ مُشَبَّهَتَانِ بُنِيَتَا لِلْمُبَالَغَةِ مِنْ رَحِمَ كَالْعَلِيمِ مِنْ عَلِمَ، وَاسْتُعْمِلَتَا مَجَازًا فِي الْكَثْرَةِ كَسَائِرِ صِفَاتِ اللَّهِ الَّتِي عَلَى صِيغَةِ الْمُبَالَغَةِ كَغَفُورٍ وَشَكُورٍ وَلَا مُبَالَغَةَ فِيهَا، لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إثْبَاتُك لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ، وَلَا يَصِحُّ ذَلِكَ إلَّا فِيمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ، وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ لِبُلُوغِهَا الْغَايَةَ، وَلَا يُقَالُ: الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ إنَّمَا تُصَاغُ مِنْ اللَّازِمِ وَرَحِمَ مُتَعَدٍّ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْفِعْلُ الْمُتَعَدَّى إذَا أُرِيدَ بِهِ الْمَدْحُ أَوْ الذَّمُّ يُجْعَلُ لَازِمًا بِمَنْزِلَةِ فِعْلِ الْغَرِيزَةِ، فَيُنْقَلُ إلَى بَابِ فَعُلَ بِضَمِّ الْعَيْنِ ثُمَّ تُشْتَقُّ مِنْهُ الصِّفَةُ الْمُشَبَّهَةُ أَوْ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا نَزَلَ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ وَمَا جُعِلَ لَازِمًا أَنَّ الْأَوَّلَ مُتَعَدٍّ لِلْمَفْعُولِ لَكِنْ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَفْعُولِهِ فَلَا يُذْكَرُ وَلَا يُقَدَّرُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَهُوَ غَيْرُ مُتَعَدٍّ وَالرَّحْمَةُ الْمَفْهُومَةُ مِنْ رَحْمَنٍ وَرَحِيمٍ لُغَةً رِقَّةٌ فِي الْقَلْبِ وَانْعِطَافٌ تَقْتَضِي التَّفَضُّلَ وَالْإِحْسَانَ، وَهَذَا الْمَعْنَى مُحَالٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ حَمْلُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْغَايَةِ لَا عَلَى الْمَبْدَأِ، فَالتَّفَضُّلُ وَالْإِحْسَانُ غَايَةُ الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةُ مَبْدَؤُهَا، وَكَذَا سَائِرُ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ نَحْوِ ذَلِكَ إنَّمَا تُؤْخَذُ فِي حَقِّهِ بِاعْتِبَارِ الْغَايَاتِ الَّتِي هِيَ أَفْعَالٌ دُونَ الْمَبَادِئِ الَّتِي هِيَ انْفِعَالَاتٌ، فَالرَّحْمَةُ فِي حَقِّهِ إرَادَةُ التَّفَضُّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ ذَاتٍ أَوْ نَفْسِ التَّفَضُّلِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا صِفَةُ فِعْلٍ، فَهِيَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ فِي الْإِحْسَانِ أَوْ فِي إرَادَتِهِ بِإِطْلَاقِ اسْمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبِّبِ أَوْ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ، وَهِيَ مَا يَكُونُ وَجْهُ الشَّبَهِ فِيهَا مُنْتَزَعًا مِنْ عِدَّةِ أُمُورٍ، بِأَنْ يُمَثَّلَ حَالُهُ تَعَالَى بِحَالِ مَلِكٍ عَطَفَ عَلَى رَعِيَّتِهِ وَرَقَّ لَهُمْ فَعَمَّهُمْ مَعْرُوفُهُ فَأُطْلِقَ عَلَيْهِ الِاسْمُ وَأُرِيدَ غَايَتُهُ الَّتِي هِيَ الْإِحْسَانُ أَوْ إرَادَتُهُ، وَمِنْ هُنَا يُؤْخَذُ أَنَّ الرَّحْمَنَ مَجَازٌ لَا حَقِيقَةَ لَهُ عَلَى نِزَاعٍ بَيْنَهُمْ مِنْ فَنِّ الْبَيَانِ يَطُولُ ذِكْرُهُ. وَإِنَّمَا قُدِّمَ اللَّهُ عَلَى الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ لِأَنَّهُ اسْمٌ. بِخِلَافِهِمَا، وَالذَّاتُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الصِّفَاتِ، وَقَدَّمَ الرَّحْمَنَ عَلَى الرَّحِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لِأُمُورٍ: مِنْهَا اخْتِصَاصُهُ بِالْبَارِئِ بِخِلَافِ الرَّحِيمِ، وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ وَالْمُخْتَصُّ الْمُعَرَّفُ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ فَلَا يَرِدُ لَا زِلْت رَحْمَانًا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا زِلْت ذَا رَحْمَةٍ، فَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ مَالِكٍ، وَاعْتَرَضَ الْجَوَابَ بِأَنَّهُ مِنْ تَعَنُّتِهِمْ فِي كُفْرِهِمْ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُسَلَّمٌ. وَمِنْهَا أَبْلَغِيَّتَهُ دُونَ الرَّحِيمِ لِأَنَّ زِيَادَةَ الْبِنَاءِ تَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ الْمَعْنَى كَمَا فِي قَطَعَ وَقَطَّعَ بِالتَّشْدِيدِ وَلَا يَنْتَقِضُ بِحَذَرٍ وَحَاذِرٍ، لِأَنَّ هَذَا أَكْثَرِيٌّ أَوْ مَشْرُوطٌ بِاتِّحَادِ نَوْعِ الِاسْمِيَّةِ، وَحَذِرٌ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ مِنْ صِيَغِ الْمُبَالَغَةِ، وَحَاذِرٌ اسْمُ فَاعِلٍ، وَأَبْلَغِيَّةُ الرَّحْمَنِ إمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَمِّيَّةِ الَّتِي هِيَ إفْرَادُ مَدْلُولِهِ التَّضَمُّنِيِّ وَهُوَ الرَّحْمَةُ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ الْكَيْفِيَّةِ الَّتِي هِيَ قُوَّةُ مَدْلُولِهِ التَّضَمُّنِيِّ وَعَظَمَتُهُ فِي نَفْسِهِ. وَمِنْهَا أَنَّهُ قِيلَ: إنَّهُ عَلَمٌ أَوْ صَارَ كَالْعَلَمِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ لَا يُوصَفُ بِهِ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ وَصْفٌ لِمَنْ وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، وَهَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ. وَمِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الرَّحِيمَ مَعْنَاهُ الْمُنْعِمُ بِدَقَائِقِ النِّعَمِ، فَذَكَرَ بَعْدَ الرَّحْمَنِ الْمُنْعِمَ بِالْجَلَائِلِ لِيَكُونَ كَالتَّتِمَّةِ وَالرَّدِيفِ لَهُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْبَسْمَلَةُ بِهَذِهِ الْأَسْمَاءِ لِيَعْلَمَ الْعَارِفُ أَنَّ الْمُسْتَحِقَّ لَأَنْ يُسْتَعَانَ بِهِ فِي مَجَامِعِ الْأُمُورِ هُوَ الْمَعْبُودُ الْحَقِيقِيُّ الَّذِي هُوَ مَوْلَى النِّعَمِ كُلِّهَا عَاجِلِهَا وَآجِلِهَا جَلِيلِهَا وَحَقِيرِهَا. وَاخْتُلِفَ فِي الْبَاءِ مِنْ بِسْمِ اللَّهِ فَقِيلَ: زَائِدَةٌ فَلَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ، وَعَلَيْهِ فَاسْمٌ مُبْتَدَأٌ مَرْفُوعٌ تَقْدِيرًا وَخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ اسْمُ اللَّهِ مُبْتَدَأٌ بِهِ أَوْ مُسْتَعَانٌ بِهِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهَا أَصْلِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذُوفٍ يَصِحُّ كَوْنُهُ اسْمًا أَوْ فِعْلًا خَاصًّا أَوْ عَامًّا مُقَدَّمًا أَوْ مُؤَخَّرًا، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَوْجُهٍ: الْأَوْلَى مِنْهَا كَوْنُهُ فِعْلًا خَاصًّا مُؤَخَّرًا. أَمَّا أَوْلَوِيَّةُ كَوْنِهِ فِعْلًا فَلِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْعَمَلِ لِلْأَفْعَالِ، وَلِمَا فِي تَقْدِيرِ الِاسْمِ مِنْ زِيَادَةِ الْإِضْمَارِ لِأَنَّهُ يُضْمَرُ الْمُضَافُ وَالْمُضَافُ إلَيْهِ، وَمُتَعَلَّقُ الْجَارِ وَالْمَجْرُورِ إنْ جُعِلَ خَبَرًا، وَإِنْ لَمْ يُجْعَلْ الْمَجْرُورُ خَبَرًا يَحْتَاجُ إلَى تَقْدِيرِ خَبَرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْتَاجُ إلَى ثَلَاثِهِ أُمُورٍ بِخِلَافِ الْفِعْلِ وَفَاعِلِهِ فَإِنَّهُمَا كَلِمَتَانِ، وَكَوْنُهُ خَاصًّا لِأَنَّ كُلَّ شَارِعٍ فِي شَيْءٍ يُضْمِرُ مَا تُجْعَلُ التَّسْمِيَةُ مَبْدَأٌ لَهُ وَكَوْنُهُ مُؤَخَّرًا عَنْ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ الْمَعْمُولِ هَهُنَا أَوْقَعُ كَمَا فِي {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] لِأَنَّهُ أَهَمُّ وَأَدَلُّ عَلَى الِاخْتِصَاصِ، لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا يَبْدَءُونَ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ فَيَقُولُونَ: بِاسْمِ الْلَاتِ بِاسْمِ الْعُزَّى، فَقَصْدُ الْمُوَحِّدِ تَخْصِيصُ اسْمِ اللَّهِ بِالِابْتِدَاءِ لِلِاهْتِمَامِ وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ، فَنُكْتَةُ التَّقْدِيمِ الِاهْتِمَامُ عِنْدَ النَّحْوِيِّينَ وَإِفَادَةُ الِاخْتِصَاصِ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَصْرِ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ لِلنَّحْوِيِّينَ الِاهْتِمَامُ، وَالْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ لِلْبَيَانِيِّينَ الْحَصْرُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ كُلًّا مِنْ الْفَرِيقَيْنِ لَا يُخَالِفُ غَيْرَهُ فِيمَا يَدَّعِيهِ بَلْ لِكُلٍّ مَقْصُودٌ بِالذَّاتِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاهْتِمَامِ وَالْحَصْرِ أَنَّ الْحَصْرَ يَقْتَضِي الرَّدَّ عَلَى مُدَّعِي الشَّرِكَةِ أَوْ الْعَكْسِ بِخِلَافِهِ الِاهْتِمَامُ لَا يَقْتَضِي رَدًّا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يُهْتَمُّ وَلَا يَرُدُّ عَلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا اخْتِصَاصُ بِسْمِ اللَّهِ بِالِابْتِدَاءِ وَحَمْلُهُ مِنْ بَيْنِ أَسْمَاءِ اللَّهِ مُخْتَصًّا بِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا جَعَلَ التَّأْلِيفَ مُخْتَصًّا بِهِ دُونَ غَيْرِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَعْنَى الِاخْتِصَاصِ هُنَا جَعَلَ التَّأْلِيفَ مَقْصُورًا عَلَى التَّبَرُّكِ أَوْ الِاسْتِعَانَةِ بِاسْمِهِ تَعَالَى، لَا التَّبَرُّكُ أَوْ الِاسْتِعَانَةُ بِاسْمِ الْلَاتِ أَوْ الْعُزَّى وَهُوَ مِنْ بَابِ قَصْرِ الْأَفْرَادِ، لِأَنَّهُ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، وَالْكُفَّارُ إنَّمَا كَانُوا يَبْدَءُونَ بِأَسْمَاءِ آلِهَتِهِمْ لِلتَّبَرُّكِ لِلِاخْتِصَاصِ لَا لِاعْتِرَافِهِمْ بِصِحَّةِ التَّبَرُّكِ بِاسْمِهِ تَعَالَى لِقَوْلِهِمْ: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزمر: 3] . وَمُسَلَّمُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَصْرِ الْأَفْرَادِ وَالْقَلْبِ بِأَنَّ الْأَوَّلَ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَعْتَقِدُ الشَّرِكَةَ، وَالْقَلْبُ يُخَاطَبُ بِهِ مَنْ يَدَّعِي الْعَكْسَ، وَقَيَّدْنَا التَّقْدِيمَ بِهَا هُنَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَحْوِ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] فَإِنَّ تَقْدِيمَ الْعَامِلِ فِيهِ أَوْقَعُ وَأَبْلَغُ، لِأَنَّ الْمَقَامَ يَقْتَضِي تَقْدِيمَ الْعَامِلِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا أَوَّلُ سُورَةٍ أَوْ أَوَّلُ آيَةٍ مِنْ سُورَةٍ نَزَلَتْ، فَكَانَ الْأَمْرُ بِالْقِرَاءَةِ أَهَمَّ وَإِنْ كَانَ ذِكْرُ اللَّهِ أَهَمَّ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّ الْأَهَمِّيَّةَ الْعَارِضَةَ تُقَدَّمُ مُرَاعَاتُهَا عَلَى الذَّاتِيَّةِ، لِأَنَّ الْعَارِضَةَ فِي مُرَاعَاتِهَا بَلَاغَةٌ لَيْسَتْ لِلذَّاتِيَّةِ، لِأَنَّ بَلَاغَةَ الْكَلَامِ مُطَابِقَةٌ لِمُقْتَضَى الْحَالِ، أَوْ أَنَّ بِسْمِ رَبِّك مُتَعَلِّقٌ بِاقْرَأْ الثَّانِي تَعَلُّقَ الْمَفْعُولِيَّةِ وَدَخَلَتْ فِيهِ الْبَاءُ مَعَ تَعُدِّي الْفِعْلِ بِنَفْسِهِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى التَّكْرِيرِ، وَاقْرَأْ الْأَوَّلُ لَا مَفْعُولَ لَهُ لِتَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ اللَّازِمِ فَمَعْنَاهُ أُوجِدُ الْقِرَاءَةَ نَحْوَ: فُلَانٌ يُعْطِي. فَإِنْ قِيلَ: مَا حُكْمُ حَذْفِ ذَلِكَ الْمُتَعَلِّقِ هَلْ الْوُجُوبُ أَوْ الْجَوَازُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ خَاصًّا وَدَلَّتْ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ مَا جَازَ حَذْفُهُ، وَالْقَرِينَةُ عَلَيْهِ هُنَا هِيَ الشُّرُوعُ فِي التَّأْلِيفِ وَأَيْضًا كَثْرَةُ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ خَاصًّا وَلَمْ تَدُلَّ عَلَيْهِ قَرِينَةٌ فَيَجِبُ ذِكْرُهُ لِأَنَّهُ لَا يُحْذَفُ إلَّا مَا عُلِمَ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَامًّا نَحْوُ: كَائِنٌ أَوْ مُسْتَقِرٌّ فَلَا يَجُوزُ ذِكْرُهُ اخْتِيَارًا فَلَا يَرِدُ. فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهَوْنِ كَائِنٌ. فَإِنْ قِيلَ: مَا مَحَلُّ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ فِي مِثْلِ هَذَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ فِيهِ تَفْصِيلًا مُحَصَّلُهُ إنْ قُدِّرَ الْعَامِلُ فِعْلًا كَمَا يَقُولُهُ الْكُوفِيُّونَ كَانَ مَحَلُّهُ نَصْبًا عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ أَوْ عَلَى الْحَالِيَّةِ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ الْفِعْلِ، وَالتَّقْدِيرُ أُؤَلِّفُ مُتَبَرِّكًا أَوْ مُسْتَعِينًا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْمَحْذُوفُ مَصْدَرًا مُبْتَدَأً عَلَى مَا يَقُولُهُ الْبَصْرِيُّونَ وَعَلَّقَاهُ بِنَفْسِ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ ابْتِدَائِي بِسْمِ اللَّهِ ثَابِتٌ أَوْ حَاصِلٌ وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ حَذْفُ الْمَصْدَرِ وَإِبْقَاءُ عَمَلِهِ لِأَنَّهُ يُتَوَسَّعُ فِي الظَّرْفِ وَالْمَجْرُورِ بِحَذْفِ عَامِلِهِمَا، عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ ذِكْرِ الْمَصْدَرِ فِي الْعَمَلِ إنَّمَا هُوَ فِي عَمَلِهِ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْفِعْلِ فَمَا هُنَا عَمَلُهُ بِسَبَبِ مَا فِيهِ مِنْ رَائِحَةِ الْفِعْلِ، لِهَذَا يَجُوزُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ، وَاشْتِرَاطُ الذِّكْرِ وَالتَّقْدِيمِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ عَمَلِهِ بِالْحَمْلِ عَلَى الْفِعْلِ، وَكَذَا لَوْ قُدِّرَ تَعَلُّقُهُ بِخَبَرٍ مَحْذُوفٍ، وَأَمَّا لَوْ جُعِلَ نَفْسُ الْخَبَرِ أَوْ هُوَ مَعَ كَائِنٍ لَجَازَ الْحُكْمُ عَلَى مَحَلِّهِ بِالرَّفْعِ وَبِالنَّصْبِ، أَمَّا الْحُكْمُ بِالرَّفْعِ فَلِأَنَّهُ فِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَأَمَّا بِالنَّصْبِ فَلِأَنَّهُ مَعْمُولٌ لِكَائِنِ الْمَحْذُوفِ، وَمَنْ لَهُ أَدْنَى مَعْرِفَةٍ بِالْعَرَبِيَّةِ يُدْرِكُ ذَلِكَ. وَلَفْظُ الْجَلَالَةِ مَجْرُورٌ بِالْمُضَافِ الَّذِي هُوَ اسْمٌ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالرَّحْمَنُ نَعْتُ اللَّهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ صِفَةٌ، وَالرَّحِيمُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا عَلَى عِلْمِيَّةِ الرَّحْمَنِ فَيَكُونُ بَيَانًا أَوْ بَدَلًا، وَالرَّحِيمُ نَعْتٌ لَهُ لَا لِلَّهِ لِئَلَّا يَلْزَمَ تَقْدِيمُ الْبَدَلِ عَلَى النَّعْتِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ، وَيَجُوزُ أَيْضًا جَعْلُ الرَّحْمَنِ نَعْتًا لِلَّهِ مَعَ كَوْنِهِ عَلَمًا نَظَرًا لِمَعْنَاهُ كَمَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي مَتْنِ الْبَسْمَلَةِ: وَهَذَا الْإِعْرَابُ مُسْتَعْمَلٌ عَرَبِيَّةً وَقِرَاءَةً، وَيَجُوزُ قَطْعُ النَّعْتِ هُنَا لِلْعِلْمِ بِالْمَنْعُوتِ فَيُرْفَعُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ أَوْ يُنْصَبَانِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَارْفَعْ أَوْ انْصِبْ إنْ قَطَعْت مُضْمَرًا ... مُبْتَدَأً أَوْ نَاصِبًا لَنْ يَظْهَرَا وَالْأَوْجُهُ تِسْعَةٌ حَاصِلَةٌ مِنْ ضَرْبِ ثَلَاثَةٍ، وَهِيَ: رَفْعُ الرَّحْمَنِ أَوْ نَصْبُهُ أَوْ جَرُّهُ فِي الثَّلَاثَةِ فِي الرَّحِيمِ الْمُجْمَعِ عَلَى جَوَازِهِ مِنْهَا جَرُّ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا رَفْعُهُمَا أَوْ نَصْبُهُمَا أَوْ نَصْبُ الرَّحِيمِ أَوْ رَفْعُهُ مَعَ جَرِّ الرَّحْمَنِ فَيَجُوزُ عَرَبِيَّةً لَا قِرَاءَةً بِخِلَافِ جَرِّهِ مَعَ نَصْبِ الرَّحْمَنِ أَوْ رَفْعِهِ فَيَمْتَنِعُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الِاتِّبَاعِ بَعْدَ الْقَطْعِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ أَبِي الرَّبِيعِ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَالَهُ صَاحِبُ الْبَسِيطِ مِنْ أَنَّ الصَّحِيحَ الْجَوَازُ فَلَا مَنْعَ، وَمَا فِي نَظْمِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ حَيْثُ قَالَ: إنْ يُنْصَبْ الرَّحْمَنُ أَوْ يَرْتَفِعَا ... فَالْجَرُّ فِي الرَّحِيمِ قَطْعًا مُنِعَا وَإِنْ يَجُرُّ فَأَجِزْ فِي الثَّانِي ... ثَلَاثَةَ الْأَوْجُهِ خُذْ بَيَانِي فَعَلَى إحْدَى الطَّرِيقَتَيْنِ لِشُهْرَتِهَا، وَإِلَّا فَالشَّيْخُ وَاسِعُ الِاطِّلَاعِ وَأَكْثَرُ إحَاطَةً بِمَا طَرَقَ الْأَسْمَاعَ. 1 - تَتِمَّةٌ: فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَسْمَلَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى فَائِدَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ قَوْلِ الْعُلَمَاءِ، ابْتَدَأَ الْمُصَنِّفُ كِتَابَهُ بِالْبَسْمَلَةِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ فَإِنَّهُ مُفْتَتَحٌ بِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ قِرَاءَةً وَكِتَابَةً، وَكَذَا فِي أَوَائِلِ السُّوَرِ خَلَا سُورَةَ بَرَاءَةٍ، وَبَيَّنَ قَوْلَ مَالِكٍ إنَّهَا لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ كُلِّ سُورَةٍ لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِيهَا فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَتْ قُرْآنًا لَكَفَرَ جَاحِدُهَا، لِأَنَّهُ يُقَالُ عَلَيْهِ: لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ لَكَفَرَ مُثْبِتُهَا. وَفِي التَّتَّائِيِّ: وَقَدْ يُجَابُ عَنْ الْمَالِكِيِّ بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنَّ الْكِتَابَ الْعَزِيزَ ابْتَدَأَ بِهَا فِي الْكِتَابَةِ أَيْ وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنُهَا قُرْآنًا، وَقَوْلُنَا فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْهَا فِي آيَةِ النَّمْلِ فَإِنَّهَا آيَةٌ قَطْعًا ثَانِيَتُهُمَا: رُوِيَ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الزَّبَانِيَةِ التِّسْعَةَ عَشَرَ فَلْيَقْرَأْ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ جَنَّةً مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ. وَرُوِيَ أَنَّ رَجُلًا كَتَبَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنَّ بِي صُدَاعًا لَا يَسْكُنُ فَابْعَثْ لِي دَوَاءً فَبَعَثَ إلَيَّ قَلَنْسُوَةً، فَكَانَ إذَا وَضَعَهَا عَلَى رَأْسِهِ سَكَنَ صُدَاعُهُ وَإِذَا رَفَعَهَا عَادَ الصُّدَاعُ إلَيْهِ، فَفَتَحَهَا فَإِذَا فِيهَا: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا لَمَسِّ الْحَاجَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا وَلِمَا اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْبُدَاءَةَ بِالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبِالْحَمْدَلَةِ لِكُلِّ مُصَنِّفٍ وَمُدَرِّسٍ وَقَارِئٍ بَيْنَ يَدَيْ شَيْخِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْمَبْدُوءُ أَوْ الْمَقْرُوءُ فِقْهًا أَوْ حَدِيثًا أَوْ غَيْرَهُمَا ذَكَرَهُمَا عَقِبَ الْبَسْمَلَةِ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ فَقَالَ: (وَصَلَّى اللَّهُ) بِلَفْظِ الْخَبَرِ وَالْمُرَادُ الطَّلَبُ أَيْ أَنْزِلْ يَا اللَّهُ الرَّحْمَةَ الْمَقْرُونَةَ بِالتَّعْظِيمِ أَوْ مُطْلَقَهَا، لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ وَمِنْ الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ وَمِنْ غَيْرِهِمْ التَّضَرُّعُ وَالدُّعَاءُ بِخَيْرٍ (عَلَى سَيِّدِنَا) أَيْ فَائِقُنَا وَعَظِيمُنَا فِي سَائِرِ خِصَالِ الْخَيْرِ مِنْ سَادَ قَوْمَهُ يَسُودُهُمْ سِيَادَةً وَهُوَ سَيِّدٌ وَأَصْلُهُ سَيْوِدٌ عَلَى وَزْنِ فَيْعِلْ اجْتَمَعَتْ الْوَاوُ وَالْيَاءُ وَسَبَقَتْ إحْدَاهُمَا بِالسُّكُونِ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً وَأُدْغِمَتْ الْيَاءُ فِي الْيَاءِ، وَيُطْلَقُ السَّيِّدُ عَلَى الْحَلِيمِ الَّذِي لَا يَسْتَفِزُّهُ الْغَضَبُ، وَعَلَى الْكَرِيمِ وَعَلَى الْمَالِكِ وَعَلَى الشَّخْصِ الْكَامِلِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ، وَعَبَّرَ بِسَيِّدِنَا إشَارَةً إلَى جَوَازِ اسْتِعْمَالِهِ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا. قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَاسْتِعْمَالُهُ فِي غَيْرِ اللَّهِ كَثِيرٌ، قَالَ تَعَالَى: {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا} [آل عمران: 39] . {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا} [يوسف: 25] وَاخْتُلِفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] فِي إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَعَنْ مَالِكٍ مَنْعُهُ وَقِيلَ يُكْرَهُ وَقِيلَ يَجُوزُ، وَلَا وَجْهَ لِمَنْعِ اسْتِعْمَالِهِ فِي غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ وَفِي سَعْدٍ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ وَأَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» . (مُحَمَّدٌ) بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ وَهُوَ عَلَمٌ مَنْقُولٌ مِنْ اسْمِ مَفْعُولِ الْفِعْلِ الْمُضَعَّفِ، سُمِّيَ بِهِ أَفْضَلُ الْخَلْقِ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِكَثْرَةِ خِصَالِهِ الْمَحْمُودَةِ، وَالْمُسَمِّي لَهُ جَدُّهُ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ رَجَاءَ أَنْ يَحْمَدَهُ أَهْلُ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَحَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ. (وَ) صَلَّى اللَّهُ عَلَى (آلِهِ) أَيْ أَتْقِيَاءِ أُمَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِتَعْمِيمِ الدُّعَاءِ كَمَا قَالَهُ الْأَزْهَرِيُّ وَجَمَاعَةٌ، بِخِلَافِ بَابِ الزَّكَاةِ فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أَقَارِبُهُ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ وَالْمُطَّلِبِ، وَآلُ اسْمُ جَمْعٍ لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ مُشْتَقٌّ مِنْ آلَ يَئُولُ إذَا رَجَعَ إلَيْك بِقَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا أَصْلُهُ أَوَلُ كَجَمَلٍ تَحَرَّكَتْ الْوَاوُ وَانْفَتَحَ مَا قَبْلَهَا قُلِبَتْ أَلِفًا، وَقِيلَ أَصْلُهُ أَهْلٌ قُلِبَتْ الْهَاءُ هَمْزَةً ثُمَّ الْهَمْزَةُ أَلِفًا لِوُقُوعِهَا سَاكِنَةً بَعْدَ فَتْحَةٍ، وَيَشْهَدُ لِلْأَوَّلِ تَصْغِيرُهُ عَلَى أُوَيْلُ، وَالثَّانِي تَصْغِيرُهُ عَلَى أُهَيْلُ، وَلَا يُضَافُ إلَّا لِمَنْ لَهُ شَرَفٌ وَلَوْ بِاعْتِبَارِ الدُّنْيَا فَيَدْخُلُ آلُ فِرْعَوْنَ، فَلَا يُقَالُ آلُ الْإِسْكَافِيِّ وَنَحْوُهُ مِنْ أَصْحَابِ الْحِرَفِ الرَّذِلَةِ بِخِلَافِ هَلْ فَيُضَافُ إلَى كُلِّ شَيْءٍ وَأَضَافَهُ لِلضَّمِيرِ إشَارَةً لِلْجَوَازِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ. (وَ) صَلَّى اللَّهُ أَيْضًا عَلَى (صَحْبِهِ) اسْمُ جَمْعٍ لِصَاحِبٍ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِمَعْنَى الصَّحَابِيُّ وَجَمْعٌ لَهُ عِنْدَ الْأَخْفَشِ وَبِهِ جَزَمَ الْجَوْهَرِيُّ كَرَكْبٍ وَرَاكِبٍ، وَالصَّحَابِيُّ عُرْفًا كَمَا قَالَ ابْنُ حَجَرٍ مَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَالْمُرَادُ بِاللِّقَاءِ مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ الْمُجَالَسَةِ وَالْمُمَاشَاةِ، وَوُصُولِ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ وَإِنْ لَمْ يُكَالِمْهُ وَيَدْخُلُ فِيهِ رُؤْيَةُ أَحَدِهِمَا إلَى الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ اللِّقَاءُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِغَيْرِهِ، وَالتَّعْبِيرُ بِاللِّقَاءِ أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الصَّحَابِيُّ مَنْ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ يُخْرِجُ ابْنَ أُمِّ مَكْتُومٍ وَنَحْوَهُ مِنْ الْعُمْيَانِ وَهُمْ صَحَابَةٌ بِلَا تَرَدُّدٍ، وَقَوْلِي مُؤْمِنًا كَالْفَصْلِ يُخْرِجُ مَنْ حَصَلَ لَهُ اللِّقَاءُ فِي حَالِ كُفْرِهِ، وَقَوْلِي بِهِ فَصْلٌ ثَانٍ يُخْرِجُ بِهِ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِغَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، لَكِنْ هَلْ يُخْرِجُ مَنْ لَقِيَهُ مُؤْمِنًا بِأَنَّهُ سَيُبْعَثُ وَلَمْ يُدْرِكْ الْبَعْثَةَ فِيهِ نَظَرٌ، وَاَلَّذِي مَالَ إلَيْهِ شَيْخُ الْإِسْلَامِ اعْتِبَارُ لَقِيَهُ بَعْدَ نُبُوَّتِهِ، وَنَقَلَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ حَجَرٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَاعْتَبَرَ جَمَاعَةٌ التَّمْيِيزَ وَأَلْغَاهُ آخَرُونَ، وَجَزَمَ الْجَلَالُ بِعَدِّ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ الصَّحَابَةِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ عَدُّ الْخَضِرِ وَإِلْيَاسَ. قَالَ الذَّهَبِيُّ: عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ نَبِيٌّ وَصَحَابِيٌّ فَإِنَّهُ رَأَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ آخِرُ الصَّحَابَةِ مَوْتًا، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ فِي اللَّقَى التَّعَارُفَ، وَقَدْ اعْتَبَرَهُ آخَرُونَ فَأَخْرَجُوهُمْ وَالْحَقُّ الدُّخُولُ، وَلَمَّا اُشْتُهِرَ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ كَرَاهَةُ إفْرَادِ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ وَإِنْ كَانَ خَارِجَ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا لِبَعْضِهِمْ جَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا فَقَالَ بِالْعِطْفِ عَلَى صَلَّى اللَّهُ. (وَسَلَّمَ) أَيْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ فَذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى قَصَدَ بِهَا التَّضَرُّعَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَنْ يَرْحَمَ وَيُحْيِي نَبِيَّهُ، وَالْمُرَادُ بِرَحْمَتِهِ لِنَبِيِّهِ زِيَادَةُ تَكْرِمَةٍ لَهُ وَإِنْعَامٍ، وَبِالسَّلَامِ عَلَيْهِ تَأْمِينُهُ بِطَيِّبِ تَحِيَّةٍ وَإِعْظَامٍ، فَإِنْ قِيلَ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَفَاضَ عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّ كَمَالٍ لِبَشَرٍ أَوْ مَلَكٍ حَتَّى لَمْ يَبْقَ كَمَالٌ مِنْهَا إلَّا وَقَدْ أُفِيضَ عَلَيْهِ فَأَيُّ شَيْءٍ يُطْلَبُ حُصُولُهُ لَهُ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ: مِنْهَا أَنَّ أَمْرَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إيَّانَا بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَحْضُ تَعَبُّدٍ. وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقَةِ الشُّكْرِ لَهُ مِنَّا لِلْمُكَافَأَةِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا فِي الْوُسْعِ. وَمِنْهَا: أَنَّ ذَلِكَ لِطَلَبِ كَمَالٍ فِي سَعَةِ كَرْمِهِ تَعَالَى، عَلَّقَ حُصُولَهُ عَلَى الصَّلَاةِ مَثَلًا لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ جَمْعِهِ لِلْكَمَالَاتِ الْمُفَرَّقَةِ فِي الْمَلَكِ وَالْبَشَرِ أَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ تَعَالَى زِيَادَةٌ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْكَامِلُ يَقْبَلُ الْكَمَالَ، وَالْأَظْهَرُ أَنَّ فَائِدَةَ الصَّلَاةِ عَائِدَةٌ عَلَيْنَا بِسَبَبِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَالَ حَيَاتِهِ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ إذَا صَلَّى عَلَيْهِ أَحَدُنَا صَلَاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا. 1 - (تَتِمَّةٌ) الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُشْتَمِلَةٌ عَلَى بَيَانِ فَوَائِدِهَا وَهِيَ أَنَّهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ كُلِّ مُؤْمِنٍ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ الْأَعْمَالِ مَقْبُولًا وَمَرْدُودًا إلَّا الصَّلَاةَ عَلَيْك فَإِنَّهَا مَقْبُولَةٌ غَيْرُ مَرْدُودَةٍ» وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ الدُّعَاءَ مَوْقُوفٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ حَتَّى يَبْدَأَهُ الدَّاعِي وَيَخْتِمَهُ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَسُئِلَ الشَّيْخُ السَّنُوسِيُّ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ كَوْنِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْبُولَةً غَيْرَ مَرْدُودَةٍ هَلْ هُوَ صَحِيحٌ؟ فَأَجَابَ بِأَنَّهُ مُشْكِلٌ إذْ لَوْ قَطَعَ بِقَبُولِهَا لَقَطَعَ لِلْمُصَلِّي عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، وَيُجَابُ بِأَنَّ مَعْنَى الْقَطْعِ بِقَبُولِهَا إذَا خُتِمَ لِلْمُصَلِّي بِالْإِيمَانِ وَجَدَ حَسَنَتَهَا قَطْعًا مَقْبُولَةً مِنْ غَيْرِ رَيْبٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْحَسَنَاتِ لَا وُثُوقَ بِقَبُولِهِمَا وَإِنْ مَاتَ صَاحِبُهَا عَلَى الْإِيمَانِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْقَطْعِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ صَاحِبِهَا مَحَبَّةً فِي الْمُصْطَفَى فَيُقْطَعُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ وَلَوْ بِتَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ إنْ قَضَى عَلَيْهِ بِهِ وَلَوْ عَلَى سَبِيلِ الْخُلُودِ لِعِظَمِ مَحَبَّتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَانْتِفَاعِ أَبِي لَهَبٍ بِسَقْيِهِ فِي نُقْرَةِ إيهَامِهِ وَتَخْفِيفِ عَذَابِهِ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعِتْقِهِ مُبَشِّرَتَهُ بِوِلَادَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِذَا حَصَلَ انْتِفَاعُهَا بِحُبٍّ طَبِيعِيٍّ وَكَانَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى فَكَيْفَ بِحُبِّ الْمُؤْمِنِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ انْتَهَى مِنْ كِفَايَةِ الْمُحْتَاجِ. وَلَهَا فَضَائِلُ لَا تُحْصَى فَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ وَهُوَ عَنْهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] رَاضٍ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» . وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَكْثِرُوا مِنْ الصَّلَاةِ عَلَيَّ فَإِنَّهَا تَحُلُّ الْعُقَدَ وَتَكْشِفُ الْكَرْبَ» وَالْكَثْرَةُ كَمَا قَالَ بَعْضٌ أَقَلُّهَا ثَلَاثُمِائَةٍ وَفَضْلُهَا مَشْهُورٌ حَتَّى وَرَدَ أَنَّهَا أَمْحَقُ لِلذُّنُوبِ مِنْ الْمَاءِ الْبَارِدِ لِلنَّارِ، وَوَرَدَ «إنَّ السَّلَامَ عَلَيَّ أَفْضَلُ مِنْ عِتْقِ الرِّقَابِ» وَحُكْمُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوُجُوبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً وَكَذَلِكَ الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ مُسْتَحَبٌّ أَوْ سُنَّةٌ، وَمِمَّا هُوَ وَاجِبٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّهْلِيلُ وَالتَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالتَّعَوُّذُ وَالْحَوْقَلَةُ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ أُمِّ الْبَرَاهِينِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوُرُودِ الْمَذْكُورَاتِ بِصِيغَةِ الْأَمْرِ نَحْوُ: فَسَبِّحْ وَكَبِّرْ فَاسْتَعِذْ بِاَللَّهِ، وَيَتَأَكَّدُ الْحَثُّ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا لِأَنَّهَا فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ وَيَوْمِهَا أَفْضَلُ مِنْ نَفْسِهَا فِي غَيْرِهِمَا حَتَّى قِيلَ: إنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَفْضَلُ مِنْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ فِي تِلْكَ اللَّيْلَةِ، كَمَا يَتَأَكَّدُ الْحَثُّ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَفِي آخِرِ الدُّعَاءِ وَفِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَلَكِنْ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهَا لِلْمُصَلِّي إلَّا إذَا قَالَهَا بِقَصْدِ الدُّعَاءِ وَالتَّحِيَّةِ، فَلَا يُثَابُ الْبَيَّاعُ عَلَيْهَا إذَا قَالَهَا لِيُعْجِبَ غَيْرَهُ مِنْ حُسْنِ بِضَاعَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ قَوْلُهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، كَمَا تُكْرَهُ عِنْدَ الذَّبْحِ وَالْعُطَاسِ وَفِي الْحَمَّامِ وَالْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ وَفِي الْمَوَاضِعِ الْقَذِرَةِ وَعِنْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهَا قَدْ تَجِبُ وَقَدْ تَحْرُمُ كَقَوْلِهِ عِنْدَ فِعْلٍ مُحَرَّمٍ، وَقَدْ تُكْرَهُ وَقَدْ تُسْتَحَبُّ وَلَا يَتَأَتَّى فِيهَا الْإِبَاحَةُ، وَثَبَتَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْقَلِيلَةِ لَفْظُ. (قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ) كَتَبَهُ الْمُصَنِّفُ وَهِيَ جَائِزَةٌ لِمَنْ بَلَغَ دَرَجَةَ التَّعْظِيمِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا، وَلِإِشْعَارِهَا بِالتَّعْظِيمِ امْتَنَعَ تَكْنِيَةُ الْكَافِرِ الْمُبْتَدِعِ وَالْفَاسِقِ إلَّا إذَا لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِهَا، أَوْ خِيفَ مِنْ ذِكْرِهِ بِاسْمِهِ فِتْنَةٌ، فَقَدْ كُنِّيَ عَبْدُ الْعُزَّى بِأَبِي لَهَبٍ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا أَوْ كَرَاهَةٌ فِي اسْمِهِ حَيْثُ جُعِلَ عَبْدُ الصَّنَمِ، وَكُنِّيَ إبْلِيسُ بِأَبِي مُرَّةَ وَبِأَبِي الْغِمْرِ وَبِأَبِي كُرْدُوسٍ وَعَلَمُهُ الْأَصْلُ قَبْلَ عِصْيَانِهِ عَزَازِيلُ، وَعَبَّرَ بِقَالَ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِ الْمَقُولِ نَحْوُ: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ، وَالْكَثِيرُ أَنَّهَا مِنْ وَضْعِ التَّلَامِذَةِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ سَيَذْكُرُهَا فِي آخِرِ الْكِتَابِ، وَعَلَيْهِ فَالتَّعْبِيرُ يُقَالُ فِي مَحِلِّهِ وَلِذَلِكَ أَكْثَرُ النُّسَخِ عَلَى حَذْفِهَا هُنَا. (عَبْدُ اللَّهِ) اسْمُ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ بَدَلٌ أَوْ عَطْفُ بَيَانٍ. (بْنُ أَبِي زَيْدٍ) بِحَذْفِ أَلْفِ ابْنِ وَرَفْعُهُ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَأَبِي زَيْدٍ كُنْيَةٌ لِأَبِي الْمُصَنِّفِ وَاسْمُهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ بِلَالِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ. (الْقَيْرَوَانِيُّ) بِالرَّفْعِ نَعْتٌ لِعَبْدِ اللَّهِ، وَالْقَيْرَوَانِيُّ نِسْبَةٌ لِلْقَيْرَوَانِ بَلْدَةٍ مَعْرُوفَةٍ بِالْمَغْرِبِ نُسِبَ الْمُصَنِّفُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا مَسْكَنُهُ وَمَوْلِدُهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَنَةَ سِتَّ عَشَرَةَ وَثَلَثِمِائَةٍ، وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سِتٍّ وَتِسْعِينَ وَثَلَثِمِائَةٍ، فَعُمْرُهُ حِينَئِذٍ ثَمَانُونَ سَنَةً عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَمَنَاقِبُ الْمُصَنِّفِ كَثِيرَةٌ شَهِيرَةٌ مِنْهَا كَثْرَةُ حِفْظِهِ وَدِيَانَتُهُ وَكَمَالُ وَرَعِهِ وَزُهْدِهِ، وَكَانَ مِمَّنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بِسَعَةِ الْمَالِ وَبَسْطَةِ الْيَدِ، وَيُقَالُ إنَّ مَنْ عَمِلَ بِكِتَابِهِ بَعْدَ قِرَاءَتِهِ يَجْمَعُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الْأَوْصَافِ الْحِسَانِ مَا كَانَ فِي الْمُصَنِّفِ أَوْ مُعْظَمِهَا، وَمِنْ أَعْظَمِ أَوْصَافِهِ عُلُوُّ سَنَدِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَرْوِي عَنْ سَحْنُونٍ بِوَاسِطَةٍ وَعَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ بِوَاسِطَتَيْنِ وَعَنْ مَالِكٍ بِثَلَاثٍ، وَكَانَ يُعْرَفُ بِمَالِكٍ الصَّغِيرِ وَبِخَلِيفَةِ مَالِكٍ، وَكَانَ يُقَالُ فِيهِ قُطْبُ الْمَذْهَبِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُصَنِّفُ إمَامٌ عَظِيمٌ جَمَعَ فِي كِتَابِهِ هَذَا مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمِمَّا يُسَنُّ أَوْ يُنْدَبُ مِنْ الْآدَابِ، وَلَمَّا ابْتَدَأَ بِالْبَسْمَلَةِ ابْتِدَاءً حَقِيقِيًّا وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْهُ شَيْءٌ، ابْتَدَأَ بِالْحَمْدَلَةِ ابْتِدَاءً إضَافِيًّا وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ أَمَامَ الْمَقْصُودِ سَبَقَهُ شَيْءٌ أَمْ لَا فَقَالَ: (الْحَمْدُ لِلَّهِ) أَيْ مَمْلُوكٌ وَمُسْتَحَقٌّ لِلَّهِ: وَلَمْ يَقُلْ لِلْخَالِقِ أَوْ الرَّازِقِ لِأَنَّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ جَامِعٌ لِمَعَانِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، إذْ يُضَافُ إلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَا يُضَافُ إلَى غَيْرِهِ، فَيُقَالُ الرَّحْمَنُ مَثَلًا اسْمُ اللَّهِ وَلَا يُقَالُ اللَّهُ اسْمُ الرَّحْمَنِ، وَأَيْضًا لِلْإِشَارَةِ إلَى اسْتِحْقَاقِهِ الْحَمْدَ لِذَاتِهِ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ الْحَمْدُ لِلْخَالِقِ أَوْ الرَّازِقِ لَتُوُهِّمَ أَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ الْحَمْدَ إنَّمَا هُوَ لِكَوْنِهِ خَالِقًا أَوْ رَازِقًا، وَعَبَّرَ بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ دُونَ الْفِعْلِيَّةِ كَحَمِدْتُ أَوْ نَحْمَدُ لِإِفَادَةِ الِاسْمِيَّةِ ثَلَاثَ فَوَائِدَ: الدَّلَالَةُ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ، وَلِشُمُولِ لَفْظِ الْحَمْدِ لِلْقَدِيمِ وَالْحَادِثِ، وَصَيْرُورَةِ اللَّفْظِ مَحْضَ صِدْقٍ. بَيَانُ الْأُولَى: أَنَّ حَمِدْتَ أَوْ نَحْمَدُهُ مَحْضُ إخْبَارٍ وَلَيْسَ فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ لِفَقْدِ آلَةِ التَّعْرِيفِ. وَبَيَانُ الثَّانِيَةِ: أَنَّ لَفْظَ حَمِدْت أَوْ نَحْمَدُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَادِثِ فَقَطْ، وَبَيَانُ الثَّالِثَةِ: أَنَّ حَمِدْت أَوْ نَحْمَدُ خَبَرٌ فَإِنْ صَدَرَ مِنْهُ فَهُوَ صِدْقٌ وَإِلَّا كَانَ كَذِبًا بِخِلَافِ قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَهُوَ صِدْقٌ حَمِدَهُ أَوْ لَمْ يَحْمَدْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَلْفِ وَاللَّامِ فِي الْحَمْدِ فَقِيلَ لِلْجِنْسِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا فَاللَّامُ الْحَقِيقَةِ، فَتُفِيدُ قَصْرَ الْحَمْدِ عَلَى اللَّهِ لِلْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ إذَا كَانَ مُعَرَّفًا فَاللَّامُ الْجِنْسِ يَكُونُ مَحْصُورًا فِي الْمُسْنَدِ وَعَكْسُهُ عَكْسُهُ، وَاخْتِصَاصُ الْجِنْسِ بِاَللَّهِ يُوجِبُ اخْتِصَاصَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْحَمْدِ لِلَّهِ. وَقِيلَ لِلِاسْتِغْرَاقِ وَقِيلَ لِلْعَهْدِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلِاسْتِغْرَاقِ دَلَالَتُهَا عَلَى أَنَّ أَفْرَادَ الْمَحَامِدِ الْأَرْبَعَةِ وَهُمَا الْقَدِيمَانِ وَالْحَادِثَانِ لِلَّهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلْجِنْسِ دَلَالَتُهَا عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْمَوْلَى الْحَمْدَ الَّذِي هُوَ الثَّنَاءُ، لِأَنَّ الْحَمْدَ إنْ كَانَ قَدِيمًا فَهُوَ وَصْفُهُ وَإِنْ كَانَ حَادِثًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] فَهُوَ خُلُقُهُ، فَتَعَيَّنَ اسْتِحْقَاقُهُ لِلْحَمْدِ دُونَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا حَمْدُ النَّاسِ بَعْضَهُمْ لِبَعْضِ عَلَى الْإِحْسَانِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْحَدِيثِ وَهُوَ: «مِنْ لَمْ يَحْمَدْ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدْ اللَّهَ» فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ حَمْدٌ لِلَّهِ، فَاسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّ الْحَادِثِ مَجَازٌ لِأَنَّ الْمُنْعِمَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى فَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَمْدِ، لِأَنَّ تَوْحِيدَ الْعِبَادِ لِلْإِحْسَانِ لِغَيْرِهِمْ إنَّمَا هُوَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَمَعْنَى كَوْنِهَا لِلْعَهْدِ دَلَالَتُهَا عَلَى الْحَمْدِ الَّذِي صَدَرَ مِنْ الْمَوْلَى فِي الْأَزَلِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَلِمَ عَجْزَ خَلْقِهِ عَنْ كُنْهِ حَمْدِهِ حَمِدَ نَفْسَهُ بِنَفْسِهِ فِي أَزَلِهِ نِيَابَةً عَنْ خَلْقِهِ قَبْلَ أَنْ يَحْمَدُوهُ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ ذِكْرِيٌّ أَوْ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ فِي ذِهْنِ آدَمَ ثُمَّ نَطَقَ بِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعَهْدَ ذِهْنِيٌّ، وَجُمْلَةَ الْحَمْدِ لِلَّهِ خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِحُصُولِ الْحَمْدِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مَوْضُوعَةً شَرْعًا لِلْإِنْشَاءِ وَهُوَ كَلَامٌ يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ بِالتَّلَفُّظِ بِهِ نَحْوُ: أَنْتَ حُرٌّ وَقُمْ، وَالْخَبَرُ كَلَامٌ يَحْصُلُ مَدْلُولُهُ فِي الْخَارِجِ قَبْلَ النُّطْقِ بِهِ وَالتَّلَفُّظِ بِهِ حِكَايَةً لَهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ: الْإِنْشَاءُ يَتْبَعُهُ مَدْلُولُهُ وَالْخَبَرُ يَتْبَعُ مَدْلُولَهُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ جُمْلَةُ الْحَمْدِ لِلَّهِ إنْشَائِيَّةٌ مَعْنًى لِأُمُورٍ: مِنْهَا حُصُولُ الْحَمْدِ بِالتَّكَلُّمِ بِهَا مَعَ الْإِذْعَانِ لِمَدْلُولِهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ قَائِلَ الْحَمْدِ لِلَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ الْإِخْبَارَ عَنْ حَمْدِ غَيْرِهِ وَإِنَّمَا يَقْصِدُ إيجَادَ الْحَمْدِ مِنْهُ لَهُ تَعَالَى، كَمَا إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ أَنْتَ حُرٌّ إنَّمَا يَقْصِدُ إيجَادَ الْعِتْقِ وَصُدُورَهُ مِنْهُ وَذَلِكَ لَا يُمْكِنُ إلَّا بِجَعْلِ الْجُمْلَةِ إنْشَائِيَّةً. وَمِنْهَا: أَنَّ وَصْفَ الْمُتَكَلِّمِ لِلَّهِ تَعَالَى بِأَنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِجَمِيعِ الْمَحَامِدِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ، كَمَا أَنَّ وَصْفَ الْعَبْدِ بِالْحُرِّيَّةِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِقَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ وَذَلِكَ عَلَامَةُ الْإِنْشَاءِ. وَمِنْهَا: إنَّ الْمُتَكَلِّمَ يُثَابُ عَلَى قَوْلِهِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بِنَاءً عَلَى كَوْنِهِ حَامِدًا بِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةً لَمْ يُثَبْ، إذْ الثَّوَابُ إنَّمَا هُوَ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ بِهِ لَا عَلَى الْإِخْبَارِ، وَهَذَا مَا قَرَّرَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ مُعَارِضًا بِهِ الشَّيْخَ عَلَاءَ الدِّينِ وَمَنْ تَبِعَهُ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهَا خَبَرِيَّةٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَأَنَّ الْمُخْبِرَ بِأَنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ مُثْنٍ عَلَيْهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ بِمَحْضِ الْخَبَرِ، وَحَقِيقَةُ الْحَمْدِ اللَّفْظِيِّ لُغَةً الثَّنَاءُ بِالْجَمِيلِ عَلَى الْجَمِيلِ الِاخْتِيَارِيِّ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ وَالتَّبْجِيلِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَسَوَاءٌ تَعَلَّقَ بِالْفَضَائِلِ وَهِيَ الْمَزَايَا غَيْرُ الْمُتَعَدِّيَةِ أَوْ بِالْفَضَائِلِ وَهِيَ الْمَزَايَا الْمُتَعَدِّيَةُ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا مُتَعَدِّيَةً أَنَّهُ يَتَوَقَّفُ تَحَقُّقِهَا عَلَى تَعَلُّقِهَا بِالْغَيْرِ، مِثَالُ الْقَاصِرَةِ: الْحُسْنُ وَالْعِلْمُ وَالشَّجَاعَةُ، وَمِثَالُ الْمُتَعَدِّيَةِ: الْإِنْعَامُ وَالْكَرَمُ، وَبِهَذَا عَلِمْت أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ تَعَدِّي ذَوَاتِ الْكِمَالَاتِ لِأَنَّهُ لَا شَيْءَ مِنْ ذَوَاتِهَا يُجَاوِزُ مَحَلَّهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ تَعَدِّي الْأَثَرِ أَيْضًا لِأَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ يَتَعَدَّى أَثَرُهُمَا إلَى الْغَيْرِ مَعَ حُكْمِنَا عَلَيْهِمَا بِالْقُصُورِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالتَّعَدِّي تَوَقُّفُ اتِّصَافِ الْمَوْصُوفِ بِهِ عَلَى وُصُولِ الْأَثَرِ لِلْغَيْرِ، وَالْقَاصِرَةُ مَا يَصِحُّ اتِّصَافُ مَوْصُوفِهِ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَثَرُهُ لِلْغَيْرِ، وَإِنْ كَانَ يَتَعَدَّى نَحْوُ الْعِلْمِ وَالشَّجَاعَةِ، فَإِنَّهُ يَصِحُّ الْوَصْفُ بِهِمَا وَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ أَثَرُهُمَا لِلْغَيْرِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ يَظْهَرُ بِنَحْوِ السُّؤَالِ مَثَلًا، وَالشَّجَاعَةُ بِنَحْوِ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحُرُوبِ. وَالْحَمْدُ يَتَوَقَّفُ عَلَى خَمْسَةِ أُمُورٍ: مَحْمُودٍ بِهِ وَمَحْمُودٍ عَلَيْهِ وَحَامِدٍ وَمَحْمُودٍ وَمَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ. فَالْمَحْمُودِيَّةُ صِفَةٌ تُظْهِرُ اتِّصَافَ شَيْءٍ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَيَجِبُ أَنْ تَكُونَ صِفَةَ كَمَالٍ شَرْعًا عِنْدَ صَاحِبِ الْعَقْلِ السَّلِيمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْمَحْمُودِيَّةِ بِهِ كَوْنُهُ اخْتِيَارِيًّا، فَلَوْ وَصَفَهُ بِالْحَسَنِ الذَّاتِيِّ مَعَ بَقِيَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ فِي الْحَمْدِ كَانَ حَمْدًا وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَحْمُودُ عَلَيْهِ فَهُوَ مَا كَانَ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ بِإِزَائِهِ وَمُقَابَلَتِهِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ كَمَالًا وَأَنْ يَكُونَ اخْتِيَارِيًّا وَلَوْ حُكْمًا لِيَشْمَلَ حَمْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى صِفَاتِهِ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْحَامِدُ فَهُوَ مَنْ يَتَحَقَّقُ الْحَمْدُ مِنْهُ. وَأَمَّا الْأَمْرُ الرَّابِعُ وَهُوَ الْمَحْمُودُ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. وَأَمَّا الْأَمْرُ الْخَامِسُ فَهُوَ ذِكْرُ مَا يَدُلُّ عَلَى اتِّصَافِ الْمَحْمُودِ بِالْمَحْمُودِيَّةِ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ اصْطِلَاحًا فَهُوَ فِعْلٌ يُنْبِئُ عَنْ تَعْظِيمِ الْمُنْعِمِ بِسَبَبِ كَوْنِهِ مُنْعِمًا، وَالشُّكْرُ لُغَةً هُوَ الْحَمْدُ اصْطِلَاحًا، وَأَمَّا الشُّكْرُ اصْطِلَاحًا فَهُوَ صَرْفُ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ مِنْ سَمْعٍ وَبَصَرٍ وَغَيْرِهِمَا إلَى مَا خُلِقَ لَهُ وَأَعْطَاهُ لِأَجْلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ السَّعْدِ فِي الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ شُمُولُهُ النِّعْمَةَ الْوَاصِلَةَ لِلشَّاكِرِ وَغَيْرِهِ، وَكَلَامُ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْفَاتِحَةِ تَقْيِيدُهَا بِوَصْلِهَا لِلشَّاكِرِ، وَأَمَّا الْمَدْحُ فَهُوَ لُغَةً الثَّنَاءُ بِاللِّسَانِ عَلَى الْجَمِيلِ مُطْلَقًا عَلَى جِهَةِ التَّعْظِيمِ، وَاصْطِلَاحًا اخْتِصَاصُ الْمَمْدُوحِ بِنَوْعٍ مِنْ الْفَضَائِلِ أَوْ الْفَوَاضِلِ، فَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ لِصِدْقِهِمَا بِالثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، وَانْفِرَادِ الشُّكْرِ الْمَذْكُورِ بِصِدْقِهِ بِغَيْرِ اللِّسَانِ فِي مُقَابَلَةِ إحْسَانٍ، فَمَوْرِدُ الْحَمْدِ أَخَصُّ فَيُحْلَمُ أَعَمُّ، وَالشُّكْرُ بِعَكْسِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مِنْ وَجْهٍ أَيْضًا لِمُسَاوَاةِ الْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ لِلشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلِقٌ لِشُمُولٍ فَيُحْلَمُ الْحَمْدُ لِلَّهِ تَعَالَى وَلِغَيْرِهِ وَاخْتِصَاصُ مُتَعَلِّقِ الشُّكْرِ بِهِ تَعَالَى، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ اللُّغَوِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ أَيْضًا لِصِدْقِ الْحَمْدِ بِالِاخْتِيَارِيِّ فَقَطْ وَصِدْقِ الْمَدْحِ بِالِاخْتِيَارِيِّ وَغَيْرِهِ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَدْحِ الْعُرْفِيِّ كَذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ، وَبَيْنَ الشُّكْرِ اللُّغَوِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَالْحَمْدِ الْعُرْفِيِّ تَسَاوٍ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الشُّكْرِ الْعُرْفِيِّ عُمُومٌ وَخُصُوصٌ مُطْلَقٌ لِصِدْقِ اللُّغَوِيِّ بِالنِّعْمَةِ فَقَطْ وَصِدْقِ الْعُرْفِيِّ بِهَا وَبِغَيْرِهَا، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ كَذَلِكَ لِصِدْقِ الشُّكْرِ بِالثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ وَغَيْرِهِ وَصِدْقِ الْحَمْدِ الْمَذْكُورِ بِاللِّسَانِ فَقَطْ، وَمَعْنَى الْوَجْهَيْنِ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مَادَّةٍ بِجِهَتَيْ خُصُوصِهِمَا وَانْفِرَادِ كُلِّ وَاحِدٍ بِجِهَةِ عُمُومِهِ، وَمَعْنَى الْمُطْلَقِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ بِجِهَةِ عُمُومِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ النِّسَبَ الْمَذْكُورَةَ بَيْنَ الْحَمَدَيْنِ وَالشُّكْرَيْنِ وَالْمَدْحَيْنِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ بِحَسَبِ الْحَمْلِ وَبِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ إلَّا النِّسْبَةَ بَيْنَ الْحَمْدِ اللُّغَوِيِّ وَالشُّكْرِ الِاصْطِلَاحِيِّ فَإِنَّهَا إنَّمَا تَصِحُّ بِحَسَبِ التَّحَقُّقِ وَالْوُجُودِ لَا بِحَسَبِ الْحَمْلِ، إذْ لَا يَصِحُّ حَمْلُ الثَّنَاءِ بِاللِّسَانِ إلَخْ عَلَى صَرْفِ الْعَبْدِ جَمِيعَ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ وَلَا عَكْسِهِ، وَلَكِنْ كُلَّمَا وُجِدَ صَرْفُ الْعَبْدِ إلَخْ يُوجَدُ الْوَصْفُ بِالْجَمِيلِ بِلَا عَكْسٍ. 1 - (تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْحَمْدِ بَعْدَ مَعْرِفَةِ انْقِسَامِهِ إلَى قَدِيمٍ وَهُوَ ثَنَاءُ اللَّهِ عَلَى نَفْسِهِ بِكَلَامِهِ، وَحَادِثٍ وَهُوَ ثَنَاءُ الْخَلْقِ عَلَيْهِ تَعَالَى أَوْ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ خَلْقِهِ وَهُوَ انْقِسَامُهُ إلَى مُطْلَقٍ وَمُقَيَّدٍ، فَالْمُطْلَقُ هُوَ الْحَمْدُ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ نَحْوُ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَالْمُقَيَّدُ هُوَ الْحَمْدُ لِلذَّاتِ لِأَجْلِ شَيْءٍ نَحْوُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الرَّازِقِ، أَوْ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا، وَاخْتَلَفَ الْأَئِمَّةُ فِي الْأَفْضَلِ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمُقَيَّدَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطْلَقِ، بِالْإِثْبَاتِ أَفْضَلُ مِنْ الْمُقَيَّدِ بِالنَّفْيِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلْبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْمُقَيَّدِ كَثْرَةُ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ وَلِأَنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ وُقُوعُهُ فِي مُقَابِلَةِ نِعْمَةٍ، وَفَضْلُ الثَّنَاءِ نَفْيُ الْمُطْلَقِ لِصِدْقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَحَامِدِ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي أَفْضَلِ الْمَحَامِدِ فَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ بِجَمِيعِ مَحَامِدِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، عَلَى جَمِيعِ نِعَمِهِ كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: عَدَدَ خَلْقِهِ كُلِّهِمْ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ وَمَا لَمْ أَعْلَمْ وَقِيلَ أَفْضَلُهَا: الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا يُوَافِي، نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، لِمَا وَرَدَ «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَهْبَطَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى الْأَرْضِ قَالَ: يَا رَبِّ شَغَلْتنِي بِكَسْبِ يَدِي فَعَلِّمْنِي شَيْئًا فِيهِ مَجَامِعُ الْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ، فَأَوْحَى اللَّهُ إلَيْهِ أَنْ قُلْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ عِنْدَ كُلِّ صَبَاحٍ وَعِنْدَ كُلِّ مَسَاءٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا يُوَافِي نِعَمَهُ وَيُكَافِئُ مَزِيدَهُ، فَقَدْ جَمَعْت لَك فِيهَا جَمِيعَ الْمَحَامِدِ» . وَقِيلَ أَفْضَلُ الصِّيَغِ: اللَّهُمَّ لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْك أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْت عَلَى نَفْسِك، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي بِرِّ مَنْ حَلَفَ لَيُثْنِيَنَّ عَلَى اللَّهِ بِأَفْضَلِ الثَّنَاءَاتِ وَالْوَرَعِ وَالِاحْتِيَاطِ فِي بِرِّهِ بِالْإِتْيَانِ بِجَمِيعِهَا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، لِأَنَّ هَذَا بِالنَّظَرِ لِلدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْحَمْدُ يَقَعُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، بِخِلَافِ الشُّكْرِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ إلَّا عَلَى السَّرَّاءِ، وَحُكْمُ الْحَمْدِ الْوُجُوبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً بِقَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ كَالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ، وَمَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَوَصَفَ مَدْلُولَ لَفْظِ الْجَلَالَةِ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي) اسْمٌ مَوْصُولٌ صِلَتُهُ (ابْتَدَأَ) أَيْ أَوْجَدَ جَمِيعَ أَفْرَادِ (الْإِنْسَانِ) مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْوَاحِدُ مِنْ الْبَشَرِ الشَّامِلِ لِلذَّكَرِ وَالْأُنْثَى بِنَاءً عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ التَّأَنُّسِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ اشْتِقَاقَهُ مِنْ نَاسَ يَنُوسُ إذَا تَدَلَّى وَتَحَرَّكَ فَلِيَشْمَلَ الْجِنَّ، فَأَلْ فِي الْإِنْسَانِ لِلِاسْتِغْرَاقِ الشَّامِلِ لِآدَمَ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَيَكُونُ قَوْلُهُ الْآتِي: وَصَوَّرَهُ فِي الْأَرْحَامِ رَاجِعًا لِبَعْضِ مَا تَقَدَّمَ، لِأَنَّ آدَمَ لَمْ يُصَوَّرْ فِي رَحِمٍ وَكَثِيرًا مَا يُذْكَرُ الْعَامُّ، وَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَى بَعْضِ أَفْرَادِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] إلَى قَوْلِهِ: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] فَإِنَّ ضَمِيرَ الْمُطَلَّقَاتِ عَامٌّ وَضَمِيرَ بُعُولَتِهِنَّ خَاصٌّ بِالرَّجْعِيَّاتِ، وَبَدَأَ بِالْهَمْزِ وَابْتَدَأَ بِمَعْنًى، وَأَيْضًا الْمُصَنِّفُ لَمْ يَقْصِدْ الْإِتْيَانَ بِلَفْظِ الْقُرْآنِ وَلَا بِمَعْنَاهُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ رِوَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِأَنَّهُ يُتَعَبَّدُ بِلَفْظِهِ، وَالْوَصْفُ هُنَا كَاشِفٌ؛ لِأَنَّ الْخَالِقَ وَالْمُبْتَدِئَ لَيْسَ إلَّا اللَّهُ، قَالَ جَلَّ مِنْ قَائِلٍ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} [المؤمنون: 13] فَالْأَوَّلُ آدَم وَالثَّانِي ذُرِّيَّتُهُ، لَكِنَّ غَيْرَ عِيسَى خُلِقَ مِنْ مَاءِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، وَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّهُ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ إذْ لَا أَبَ لَهُ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَلَكَ تَمَثَّلَ لَهَا بِصُورَةِ بَشَرٍ شَابٍّ أَمْرَدَ حَسَنِ الصُّورَةِ لِشِدَّةِ اللَّذَّةِ بِالنَّظَرِ إلَيْهِ فَنَزَلَ الْمَاءُ مِنْهَا إلَى الرَّحِمِ فَتَوَلَّدَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِمُجَرَّدِ النَّفْخَةِ الْمُوجِبَةِ لِلَّذَّةِ مِنْهَا، فَهُوَ مِنْ نُطْفَةِ أُمِّهِ فَقَطْ قَالَهُ الْحَلَبِيُّ. وَفِي هَذَا رَدٌّ عَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ فِي إنْكَارِهِمْ وُجُودَ مَوْلُودٍ مِنْ مَاءِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِ الْمُفَسِّرِ بَعْدَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى لِمَرْيَمَ حِينَ قَوْلِهَا: {أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا - قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 20 - 21] بِأَنْ يَنْفُخَ - بِأَمْرِي - جِبْرِيلُ فِيكِ فَتَحْمِلِي بِهِ، فَهَذَا لَيْسَ فِيهِ تَصْرِيحٌ بِأَنَّهُ خُلِقَ مِنْ مَائِهَا وَحَرَّرَهُ وَصِلَةُ ابْتَدَأَ. (بِنِعْمَتِهِ) تَعَالَى وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِنِعْمَتِهِ فَقِيلَ قُدْرَتُهُ لِأَنَّ الْقُدْرَةَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وَصَوَّرَ: فِي الْأَرْحَامِ بِحِكْمَتِهِ؛ وَأَبْرَزَهُ إلَى رِفْقِهِ، وَمَا يَسَّرَ لَهُ مِنْ رِزْقِهِ، وَعَلَّمَهُ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] مِنْ صِفَاتِ التَّأْثِيرِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِهَا الْإِنْعَامُ وَهُوَ أَظْهَرُ، فَتَكُونُ الْبَاءُ سَبَبِيَّةً أَيْ ابْتَدَأَهُ. بِسَبَبِ إنْعَامِهِ عَلَيْهِ الْإِيجَادَ مِنْ الْعَدَمِ، وَحَقِيقَةُ النِّعْمَةِ بِكَسْرِ النُّونِ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ كُلِّ مُلَائِمٍ تُحْمَدُ عَاقِبَتُهُ، وَمِنْ ثَمَّ اُخْتُلِفَ هَلْ الْكَافِرُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالِ: فَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ غَيْرُ مُنْعَمٍ عَلَيْهِ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِيهِمَا وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ لِأَنَّهُ مَا مِنْ عَذَابٍ إلَّا وَثَمَّ مَا هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ، وَقِيلَ: مُنْعَمٌ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا دُونَ الْآخِرَةِ، وَأَمَّا النَّعْمَةُ بِالْفَتْحِ فَهِيَ الْمَصْدَرُ أَيْ النِّعَمُ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ فَهِيَ السُّرُورُ، وَنِعَمُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ لَا تُحْصَى. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [النحل: 18] أَيْ إنْ تُرِيدُوا عَدَّهَا لَا يُمْكِنُكُمْ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: اللَّهُ تَعَالَى ابْتَدَأَ جَمِيعَ الْحَوَادِثِ فَمَا وَجْهُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِنْسَانِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْمَوْجُودَاتِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ جَمِيعَ الْمُوجِدَاتِ عَمَّتْهَا نِعْمَةُ الْإِيجَادِ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَوَّلِ نِعْمَةٍ عَلَى الْعَبْدِ فَقِيلَ الْوُجُودُ وَهَذِهِ عَامَّةٌ حَتَّى لِلْكَافِرِ، وَقِيلَ الْحَيَاةُ الَّتِي تُؤَوَّلُ إلَى إدْرَاكِ اللَّذَّاتِ الَّتِي لَا يَعْقُبُهَا ضَرَرٌ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: وَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فِي بَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ غَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ كَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ هَلْ هِيَ مُنْعَمٌ عَلَيْهَا أَوْ وُجُودُهَا نِعْمَةٌ عَلَى الْغَيْرِ؟ وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ لِي مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي حَدِّ النِّعْمَةِ هُوَ الثَّانِي، لِأَنَّ وُجُودَ الْجَمَادَاتِ وَنَحْوِهَا كُلِّ مَا لَا نَفْعَ لَهُ بِوُجُودِ نَفْسِهِ نِعْمَةٌ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى وُجُودِهِ انْتِفَاعٌ بِهِ وَلَيْسَ مُنْعَمًا عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْحَيَوَانِ فَإِنَّهُ مُنْعَمٌ عَلَيْهِ بِنَحْوِ الصِّحَّةِ وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ كَالْإِنْسَانِ. الثَّانِي: أَفْضَلُ النِّعَمِ عَلَى الْإِنْسَانِ كَتَبَ الْإِيمَانَ فِي قَلْبِهِ لِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْخُلُودِ فِي الْجَنَّةِ، وَلِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى نِعْمَةِ الْإِسْلَامِ، فَقَالَ لَهُ: يَا هَذَا قَدْ حَمِدْت اللَّهَ تَعَالَى عَلَى نِعْمَةٍ لَمْ تَحْمَدْهُ عَلَى نِعْمَةٍ أَفْضَلَ مِنْهَا» . وَلِذَا قَالَ فِي الْجَزَائِرِيَّةِ: فَلَيْسَ يُحْصَى الَّذِي أَوْلَاهُ مِنْ نِعَمٍ ... أَجَلُّهَا نِعْمَةُ الْإِيمَانِ بِالرُّسُلِ مَنْ ذَا مِنْ الْخَلْقِ يُحْصِي شُكْرَ وَاهِبِهَا ... لَوْ كَانَ يَشْكُرُ طُولَ الدَّهْرِ لَمْ يَصِلْ وَأَمَّا فَضْلُهَا فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَتَأْخِيرُ عُقُوبَتِهِ فِي الدُّنْيَا، وَقِيلَ: تَوْفِيقُهُ لِمَا يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ خَيْرًا كَالصَّدَقَةِ وَنَحْوِهَا. (وَصَوَّرَهُ) أَيْ وَشَكَّلَ اللَّهُ مُعْظَمَ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي أَرَادَهُ (فِي الْأَرْحَامِ) جَمْعُ رَحِمٍ وَهُوَ مَوْضِعُ نُطْفَةِ الذَّكَرِ فِي فَرْجِ الْأُنْثَى، وَجَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ أَفْرَادِ الْإِنْسَانِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ الَّتِي هِيَ الْبَطْنُ وَالرَّحِمُ وَالْمَشِيمَةُ. (بِحِكْمَتِهِ) أَيْ بِإِتْقَانِهِ وَابْتِدَاعِهِ عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ لَهُ، حَيْثُ خَلَقَ لَهُ بَصَرًا وَجَعَلَهُ فِي أَعْلَاهُ لِتَكُونَ مَنْفَعَتُهُ أَعَمَّ، وَجَعَلَ عَلَيْهِ أَجْفَانًا كَالْأَغْطِيَةِ تَقِيهِ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ، وَجَعَلَهَا مُتَحَرِّكَةً تَنْطَبِقُ وَتَنْفَتِحُ بِمِقْدَارِ الْحَاجَةِ، وَجَعَلَ فِي أَطْرَافِهَا شَعْرًا لِمَنْعِ لَدْغِ الذُّبَابِ وَالْهَوَامِّ إنْ نَزَلَتْ عَلَيْهَا، وَجَعَلَهَا زِينَةً لَهَا كَحِلْيَةِ مَا يُحَلَّى، وَجَعَلَ عَظْمَ الْحَاجِبِ بَارِزًا يَقِيهَا وَيَدْفَعُ عَنْهَا لِأَنَّهَا لَطِيفَةٌ فِي شَكْلِهَا، وَجَعَلَ وَجْهَهُ لِظَهْرِ أُمِّهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِحَرِّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَجَعَلَ غِذَاءَهُ فِي سُرَّتِهِ وَأَنْفِهِ بَيْنَ فَخِذَيْهِ لِيَتَنَفَّسَ فِي فَارِغٍ، وَفَسَّرْنَا الْحِكْمَةَ بِالْإِتْقَانِ إلَخْ، لِأَنَّ التَّصْوِيرَ تَأْثِيرٌ فَلَا يَحْسُنُ تَفْسِيرُ الْحِكْمَةِ بِالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ صِفَةُ إحَاطَةٍ، وَالتَّصْوِيرَ تَشْكِيلٌ وَنَقْلٌ لِلشَّيْءِ مِنْ حَالٍ إلَى حَالٍ، فَهُوَ تَأْثِيرٌ بِالْإِتْقَانِ وَالْإِحْكَامِ بِقُدْرَتِهِ عَلَى وَفْقِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَخَصَّصَتْهُ إرَادَتُهُ، فَالْحِكْمَةُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي مَحَلِّهِ؛ وَبِقَوْلِنَا التَّصْوِيرُ نَقْلٌ لِلشَّيْءِ إلَخْ ظَهَرَ صِحَّةُ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ وَالْأَحْكَامِ بِالتَّصْوِيرِ، وَعَدَمِ صِحَّةِ تَعَلُّقِ الْقُدْرَةِ فِي الْمَوْجُودِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي مَوْجُودٍ كَمُلَ وُجُودُهُ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ حُصُولِ النُّطْفَةِ فِي الْفَرْجِ فَتَعَلُّقُ الْقُدْرَةِ وَالْحِكْمَةِ بَاقٍ فِيهَا حَتَّى تَصَوَّرَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي أَرَادَهَا الْخَالِقُ وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهَا. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الضَّمِيرَ الْمُسْتَتِرَ فِي صَوَّرَهُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَالْبَارِزَ الْمَنْصُوبَ عَلَى الْإِنْسَانِ وَالضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ بِحِكْمَتِهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ. الثَّانِي: أَشَارَ بِقَوْلِهِ بِنِعْمَتِهِ إلَخْ إلَى زِيَادَةِ الصِّفَاتِ عَلَى الذَّاتِ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَنَّ النِّعْمَةَ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى النُّفَاتِ وَعَلَى الطَّبَائِعِيِّينَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ تَعَالَى فَاعِلٌ بِالذَّاتِ لَا بِالِاخْتِيَارِ، وَعَلَى النَّصَارَى فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ عِيسَى ابْنُ اللَّهِ، لِأَنَّ الْمُصَوِّرَ بِالْكَسْرِ لَا يَكُونُ أَبًا لِلْمُصَوَّرِ بِالْفَتْحِ حَتَّى غَيَّرُوا قَوْله تَعَالَى، فِي التَّوْرَاةِ: عِيسَى نَبِيُّ اللَّهِ وَأَنَا وَلَّدْته بِتَشْدِيدِ اللَّامِ بِعِيسَى بُنَيَّ بِلَفْظِ التَّصْغِيرِ وَأَنَا وَلَدْته بِفَتْحِ اللَّامِ مُخَفَّفَةً مِنْ الْوِلَادَةِ، وَإِنَّمَا قُلْت أَفْرَادَ الْإِنْسَانِ لِأَنَّ مِنْهُ مَنْ لَمْ يُصَوَّرْ فِي رَحِمٍ كَآدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِنْسَانَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَنْ لَا أَبَ وَلَا أُمَّ وَهُوَ آدَم وَحَوَّاءُ، وَمَنْ لَهُ أُمٌّ دُونَ أَبٍ وَهُوَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَمَنْ لَهُ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَهُوَ الْبَاقِي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 عَظِيمًا. وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ، وَأَعْذَرَ إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، الْخِيرَةِ مِنْ خَلْقِهِ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ، وَأَضَلَّ مَنْ   [الفواكه الدواني] (وَأَبْرَزَهُ) أَيْ وَأَخْرَجَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ ضِيقِ الْبَطْنِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ. (إلَى رِفْقِهِ) أَيْ ارْتِفَاقِهِ بِمَا يَجِدُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاعِلَ الرِّفْقِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ وَأَبْرَزَ تَعَالَى الْإِنْسَانَ إلَى إرْفَاقِهِ تَعَالَى بِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رِفْقِهِ إلَى الْإِنْسَانِ وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ كَآدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرِفْقُهُ بِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى النُّطْقِ لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِمَا لَذَّةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَأَنْوَاعُ رِفْقِ اللَّهِ بِالْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَصْرَ لَهَا، فَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِرَأْسِهِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ دُونَ رِجْلَيْهِ، وَجَعَلَ حِجْرَ أُمِّهِ لَهُ وِطَاءً وَثَدْيَهَا لَهُ سِقَاءً وَلَبَنَهَا مُعْتَدِلًا بَيْنَ الْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ إذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَسَئِمَهُ، وَجَعَلَ بَارِدًا فِي الصَّيْفِ حَارًّا فِي الشِّتَاءِ. (وَ) أَبْرَزَهُ أَيْضًا إلَى تَنَاوُلِ (مَا يَسَّرَ) أَيْ مُسَهَّلٌ (لَهُ مِنْ رِزْقِهِ) وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا أَوْ لُبْسًا، إذْ الرِّزْقُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، تَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ حَيَوَانٍ بِمَحْضِ فَضْلَةِ لَا عَنْ إيجَادٍ وَلَا جَوَابٍ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِمَخْلُوقِهِ شَيْءٌ وَمَا أُوهِمَ الْوُجُوبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: 6] وَنَحْوِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: 54] ، فَمَعَنَا بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَبِكَوْنِ الرِّزْقِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَالْبَهَائِمُ مَرْزُوقَةٌ، وَقِيلَ الرِّزْقُ مَا مَلَكَ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَالُ لَهُ مَرْزُوقٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْبَهَائِمَ وَكُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ غَيْرُ مَرْزُوقٍ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ رِزْقَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رِزْقِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا بِهِ انْتُفِعْ ... وَقِيلَ لَا بَلْ مَا مُلِكْ وَمَا اتُّبِعْ فَيَرْزُقُ اللَّهُ الْحَلَالَ فَاعْلَمَا ... وَيَرْزُقُ الْمَكْرُوهَ وَالْمُحَرَّمَا وَالْأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا تَزِيدُ بِتَقْوَى وَلَا تَنْقُصُ بِفُجُورٍ. قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: 32] وَهَذَا لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ فِي الْبَرَكَةِ وَالنُّقْصَانَ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، إذْ الْمَنْفِيُّ الزِّيَادَةُ الْحِسِّيَّةُ وَالنَّقْصُ الْحِسِّيُّ. وَلَمَّا بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ الْإِنْسَانَ وَأَحْسَنَ تَقْوِيمَهُ، شَرَحَ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَعَلَّمَهُ) أَيْ وَعَلَّمَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَمَفْعُولُ عَلَّمَ (مَا لَمْ يَكُنْ) عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ (يَعْلَمُ) قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [النحل: 78] الْآيَةَ، فَشَمِلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْآيَةِ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِإِلْهَامٍ وَاكْتِسَابٍ، وَأَوَّلُ مَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةُ آبَائِهِ وَأَقَارِبِهِ، ثُمَّ تَمَيُّزُهُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ الْآلَامِ وَاللَّذَّاتِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ وُجُودِهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْجَهْلُ حَتَّى بَنَوْا عَلَيْهِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ: لَوْ حَازَ شَخْصٌ شَيْئًا وَادَّعَى الْمُحَازُ عَنْهُ الْجَهْلَ وَادَّعَى الْحَائِزُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحَازِ عَنْهُ. (وَ) بِسَبَبِ ابْتِدَائِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيمِهِ (كَانَ) أَيْ صَارَ (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا) بِسَبَبِ مَا امْتَنَّ عَلَيْهِ مِنْ إيجَادِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الَّذِي أَعْظَمُهُ مَعْرِفَةُ الْبَارِي الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، إذْ لَا فَضْلٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ عَظِيمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ لِانْدِرَاجِ كُلِّ صِفَةٍ حَسَنَةٍ تَحْتَ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهٌ فِي قَوْلِهِ وَعِلْمِهِ تَلْمِيحٌ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِهَا، وَلَيْسَ بِاقْتِبَاسٍ أَيْضًا لِكَثْرَةِ التَّغْيِيرِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (نَبَّهَهُ) أَيْ أَيْقَظَهُ مِنْ غَفْلَتِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَهْتَدِي بِهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ (بِآثَارِ) أَيْ مُحْدَثَاتِ (صَنْعَتِهِ) عَلَى مَعْرِفَةِ صَانِعِهِ، وَالْمُرَادُ بِصَنْعَتِهِ صُنْعُهُ أَيْ إيجَادُهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَبْدِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِ خَالِقِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهِيَ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ آثَارُ صَنْعَتِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا يُوَصِّلُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الصَّنْعَةَ بِالصُّنْعِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَادُ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ حَقِيقَةً هِيَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ التَّمَرُّنِ فِي الْعَمَلِ وَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهَا هُنَا، وَطَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِهِ أَنْ تَرَكَّبَ قِيَاسًا بِأَنْ تَقُولَ: هَذِهِ الْآثَارُ مَصْنُوعَاتٌ، وَهَذِهِ يُقَالُ لَهَا مُقَدِّمَةٌ صُغْرَى، وَكُلُّ مَصْنُوعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ تَامِّ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى يُنْتِجُ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ لَهَا صَانِعٌ، وَمِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْخَالِقِ أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْك وَهِيَ نَفْسُك فَتَعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّك لَمْ تَكُنْ ثُمَّ كُنْت، فَتَعْلَمَ أَنَّ لَك مَوْجُودًا أَوْجَدَكَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تُوجِدَ نَفْسَك، وَهُوَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَدُّمِ عَلَى نَفْسِهِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهَا لِوُجُوبِ سَبْقٍ لِلْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ. تَنْبِيهٌ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالدَّلِيلِ لِيَخْرُجَ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى التَّحْقِيقِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ كَانَ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ صَحِيحًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مُشِيرًا إلَى وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا يُوَصِّلُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَاجْزِمْ بِأَنْ أَوَّلًا مِمَّا يَجِبُ ... مَعْرِفَةً وَفِيهِ خَلْفٌ مُنْتَصِبُ فَانْظُرْ لِنَفْسِك ثُمَّ انْتَقِلْ ... لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ ثُمَّ السُّفْلِيِّ تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بَدِيعَ الْحُكْمِ ... لَكِنْ بِهِ قَامَ دَلِيلُ الْعَدَمِ فَالْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ. (وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (أَعْذَرَ إلَيْهِ) أَيْ قَطَعَ عُذْرَهُ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهِ الْأَحْكَامَ. (عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ الْخِيَرَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْخُلَاصَةِ الْمُنْتَخَبِينَ الْخِبْرَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ. (مِنْ خَلْقِهِ) تَعَالَى وَإِنَّمَا أَعْذَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ بِإِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ فَيُبَلِّغُوا لَهُمْ الْأَحْكَامَ وَيُوَضِّحُوا لَهُمْ الشَّرَائِعَ لِيَقْطَعُوا بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ وَيُزِيحُوا عَنْهُمْ عِلَلَهُمْ فِيمَا قَصَرَتْ عَنْ إدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. قَالَ تَعَالَى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] فَلَوْلَا إعْذَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَيْهِمْ وَقَطْعُهُ عُذْرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَإِقَامَتُهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِبِعْثَتِهِ أَهْلَ خِيرَتِهِ الْمُرْشِدِينَ لَتَوَهَّمُوا أَنَّ لَهُمْ حُجَّةً وَعُذْرًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: 134] لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَتْ أَجْسَامُنَا تَقْبَلُ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْنَا الشَّيَاطِينُ وَالشَّهْوَةُ وَالْهَوَى؛ فَإِهْمَالُك إيَّانَا مِنْ غَيْرِ إرْسَالِ مَنْ يُعَلِّمُنَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا إغْرَاءً لَنَا عَلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، لَا سِيَّمَا مَعَ رَغْبَةِ النَّفْسِ إلَى نَيْلِ مُشْتَهَاهَا وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِهَلَاكِهَا وَرَدَاهَا، وَالْمُرْسَلِينَ جَمْعُ مُرْسَلٌ وَهُوَ إنْسَانٌ حُرٌّ ذَكَرٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لِلْعِبَادِ حَتَّى إلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إذَا بَلَّغَ الْأُمَّةَ حُكْمًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ لَهُمْ، وَبِهَذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ الْمُوهِمِ خُرُوجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ مُغَايِرَتُهُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَ حَالُ الْمُرْسَلِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَنْ عَدَاهُ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى الْبَعْضِ. وَاسْتُعْمِلَ جَمْعُ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِأَنَّ عِدَّتَهُمْ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَدَدٍ فِيهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ أَوَّلُهُمْ لَهُمْ آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ فِي خُلُقِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ تَفْضِيلُ رُسُلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَيَلِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْفَضْلِ أُولُوا الْعَزْمِ أَيْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِسْمَاعِيلَ، لِصَبْرِ إبْرَاهِيمَ عَلَى النَّارِ، وَنُوحٍ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَى الذَّبْحِ لِأَنَّهُ الذَّبِيحُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا إِسْحَاقَ، وَعِدَّتُهُمْ عَشَرَةٌ وَقِيلَ خَمْسَةٌ، وَلِشِدَّةِ صَبْرِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقِظَةِ، وَيَلِي الْأَنْبِيَاءَ مُطْلَقًا فِي الْفَضْلِ الْمَلَائِكَةُ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ... نَبِيُّنَا فَمِلْ عَنْ الشِّقَاقِ وَالْأَنْبِيَاءُ يَلُونَهُ فِي الْفَضْلِ ... وَبَعْدَهُمْ مَلَائِكَةُ ذِي الْفَضْلِ وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشَاعِرَةِ وَفِيهَا تَفْضِيلُ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ غَيْرُ الرُّسُلِ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ نَحْوُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَمُقَابِلُهَا طَرِيقَةُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلَ خَوَاصِّ الْبَشَرِ وَهُمْ الرُّسُلُ عَلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَفْضِيلُ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ رُسُلُهُمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعَوَامِّ الْبَشَرِ عَلَى عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي مَنْهَجِ الْأُصُولِيِّينَ لِلسَّرَّاجِ الْبُلْقِينِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْخَوَاصَّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالتَّفْضِيلُ حَيْثُ قِيلَ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَمَلُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُصْطَفَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مُعْجِزَاتٌ كَمُعْجِزَاتِهِ كَمِّيَّةٌ وَلَا كَيْفِيَّةٌ، وَلَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ كَعَدَدِ نُزُولِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَقِيلَ سِتًّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 خَذَلَهُ بِعَدْلِهِ، وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى وَشَرَحَ صُدُورَهُمْ لِلذِّكْرَى، فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ. وَبِقُلُوبِهِمْ   [الفواكه الدواني] وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ كَمَا نَقَلَهُ السُّيُوطِيّ وَلَمْ يَبْلُغْ أَحَدٌ هَذَا، وَجِبْرِيلُ أَوَّلُ مَنْ سَجَدَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لِآدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا: وَمِنْ فَضْلِهِ أَنْ أَعْذَرَ إلَيْهِ إشَارَةً إلَّا أَنَّ إرْسَالَ الرُّسُلِ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ خِلَافًا لِبَعْضِ فِرَقِ الْمُبْتَدِعَةِ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَوْ عَبَثٌ لَا عَنْ الْعَقْلِ عَنْهُ أَوْ أَنَّهُ مُحَالٌ، فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِ الْإِرْسَالِ مِنْ قَبِيلِ الْجَائِزِ عَقْلًا الْوَاجِبِ سَمْعًا وَشَرْعًا هُوَ مَذْهَبُ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ إرْسَالُ جَمِيعِ الرُّسُلِ ... فَلَا وُجُوبَ بَلْ بِمَحْضِ الْفَضْلِ لَكِنْ بِذَا إيمَانُنَا قَدْ وَجَبَا ... فَدَعْ هَوَى قَوْمٍ بِهِمْ قَدْ لَعِبَا وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ لِلْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ. الثَّانِي: الرَّسُولُ عُرْفًا إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْإِنْسِ لَا مِنْ الْمَلَائِكَةِ وَلَا مِنْ الْجِنِّ، وَالْعَامُّ الرِّسَالَةُ مِنْ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ مُرْسَلٌ حَتَّى لِلْمَلَائِكَةِ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَإِيمَانُ الْجِنِّ بِالتَّوَاتُرِ الدَّالِّ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى} [الأحقاف: 30] لَا يَدُلُّ عَلَى إرْسَالِهِ لَهُمْ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إيمَانُهُمْ بِهِ تَبَرُّعًا مِنْهُمْ، وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ} [الأنعام: 130] فَالْمُرَادُ مِنْ أَحَدِكُمْ وَهُمْ الْإِنْسُ عَلَى حَدِّ: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] فَإِنَّ الْمُرَادَ مِنْ إحْدَاهُمَا. الثَّالِثُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا، وَأَعْذَرَ إلَيْهِ الْمُقْتَضِي لِقَصْرِ الْإِرْسَالِ عَلَى جِنْسِ الْإِنْسَانِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ أَيْ إلَى جَمِيعِ الْعِبَادِ الْمُقْتَضِي لِلتَّعْمِيمِ، لِأَنَّ الْإِرْسَالَ لِلْإِنْسَانِ لَا يُنَافِي الْإِرْسَالَ لِغَيْرِهِ، وَقَالَ التَّقِيُّ السُّبْكِيُّ بَعْدَ تَرْجِيحِهِ إرْسَالَهُ إلَى الْمَلَائِكَةِ أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأُمَمِ السَّابِقَةِ مِنْ لَدُنْ آدَمَ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، وَرَجَّحَهُ الْبَارِزِيُّ وَزَادَ: أَنَّهُ مُرْسَلٌ لِجَمِيعِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْجَمَادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ مُرْسَلٌ إلَى نَفْسِهِ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْحَلَبِيُّ. الرَّابِعُ: فُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ لِتَبْلِيغِ الشَّرَائِعِ أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَيَكُونُ قَرَارُهُ فِي الْجَنَّةِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ كَالْبُلْهِ وَالْمَجَانِينِ وَمَنْ وُلِدَ أَكْمَهُ أَعْمَى أَصَمُّ، لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ بِعَمَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، لَكِنْ لَا ثَوَابَ لَهُمْ لِأَنَّ الثَّوَابَ إنَّمَا يَكُونُ فِي نَظِيرِ الْأَعْمَالِ الْمَقْبُولَةِ، وَأَيْضًا النَّارُ إنَّمَا يَخْلُدُ فِيهَا الْكُفَّارُ وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُمْ غَيْرُ كُفَّارٍ، وَقِيلَ هَؤُلَاءِ فِي الْمَشِيئَةِ، وَقِيلَ يُبْعَثُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ نَذِيرٌ فَإِنْ أَطَاعُوهُ دَخَلُوا الْجَنَّةَ وَإِنْ عَصَوْهُ دَخَلُوا النَّارَ، وَلَمَّا كَانَ التَّنْبِيهُ بِآثَارِ مَصْنُوعَاتِهِ وَالْإِعْذَارُ بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ سَبَبًا لِلْهِدَايَةِ لِلْإِيمَانِ وَفَقْدُهُمَا سَبَبًا لِلْغَوَايَةِ وَالْكُفْرَانِ قَالَ بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا. (فَهَدَى) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَعْنَى أَرْشَدَ وَدَلَّ، لِأَنَّ حَقِيقَةَ الْهِدَايَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى مَا اُشْتُهِرَ فِي النَّقْلِ عَنْهُمْ هِيَ الدَّلَالَةُ عَلَى طَرِيقٍ تُوَصِّلُ إلَى الْمَطْلُوبِ، سَوَاءٌ حَصَلَ الْوُصُولُ وَالِاهْتِدَاءُ أَوْ لَمْ يَحْصُلْ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ الدَّلَالَةُ الْمُوَصِّلَةُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَيَرُدُّ عَلَيْهِمْ آيَةُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] لِأَنَّهُمْ لَوْ وَصَلُوا لَمَا اسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى، وَيَدُلُّ لِأَهْلِ السُّنَّةِ آيَةُ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُوَصِّلُ، وَأَمَّا إرْشَادُهُ إدْلَالُهُ فَمَعْلُومٌ لَا رَيْبَ فِيهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَى هَدَى خَلَقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ لِلْإِيمَانِ، لِأَنَّ فَاعِلَ هَدَى هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا تَفْسِيرٌ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ بَعْدَ: وَأَضَلَّ مَنْ خَذَلَهُ بِعَدْلِهِ، لِأَنَّ مَعْنَى أَضَلَّ خَلَقَ قُدْرَةَ الْمَعْصِيَةِ فِي قَلْبِ مَنْ أَرَادَ خِذْلَانَهُ كَمَا يَأْتِي، وَالْأَوَّلُ مُنَاسِبٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُفَرَّعٌ عَلَى قَوْلِهِ هُنَا فَهَدَى. (مَنْ وَفَّقَهُ) أَيْ أَرَادَ تَوْفِيقَهُ لِلْإِيمَانِ إذْ الْمُوَفَّقُ بِالْفِعْلِ مُؤْمِنٌ، وَحَقِيقَةُ التَّوْفِيقِ فِي اللُّغَةِ التَّأْلِيفُ وَجَعْلُ الْأَشْيَاءِ مُتَوَافِقَةً وَشَرْعًا. قَالَ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ: خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ وَالدَّاعِيَةَ إلَيْهَا فِي الْعَبْدِ، وَقَالَ الْأَشْعَرِيُّ: خَلَقَ قُدْرَةَ الطَّاعَةِ فِي الْعَبْدِ وَلَا يَصْدُقُ عَلَى الْكَافِرِ أَنَّهُ مُوَفَّقٌ لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْقُدْرَةِ الْعَرْضَ الْمُقَارِنَ لِفِعْلِ الطَّاعَةِ لَا سَلَامَةَ الْآلَاتِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْأَوَّلَ، فَزَادَ قَيْدَ الدَّاعِيَةِ لِإِخْرَاجِهِ لِأَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا هَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ قَبْلَهَا أَوْ مُقَارِنَةً لَهَا؟ فَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ قَبْلَهَا فَاحْتَاجَ إلَى زِيَادَةِ قَيْدِ الدَّاعِيَةِ، وَالْأَشْعَرِيُّ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى أَنَّ الْقُدْرَةَ عَلَى الطَّاعَةِ تُخْلَقُ مُقَارِنَةً لَهَا فَالْكَافِرُ وَالْفَاسِقُ غَيْرُ مُوَفَّقَيْنِ لِعَدَمِ حُصُولِهَا مِنْهُمَا وَصِلَةُ فَهَدَى. (بِفَضْلِهِ) أَيْ بِمَحْضِ عَطَائِهِ وَامْتِنَانِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعَالَى شَيْءٌ لِخَلْقِهِ لِإِصْلَاحٍ وَلَا أَصْلَحَ. (وَأَضَلَّ) بِمَعْنَى خَلَقَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْقُدْرَةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِصْيَانِ فِي قَلْبِ (مَنْ خَذَلَهُ) أَيْ أَرَادَ خِذْلَانَهُ أَيْ عَدَمَ إيمَانِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَتَوْفِيقِهِ، لِأَنَّ الْخِذْلَانَ ضِدُّ التَّوْفِيقِ فَهُوَ خَلَقَ الْقُدْرَةَ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ وَالدَّاعِيَةِ إلَيْهَا، أَوْ خَلَقَ قُدْرَةَ الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ عَلَى الرَّأْيَيْنِ فِي التَّوْفِيقِ، وَيُرَادِفُهُ اللُّطْفُ وَهُوَ مَا يَقَعُ عِنْدَهُ صَلَاحُ الْعَبْدِ آخِرَةً بِأَنْ تَقَعَ مِنْهُ الطَّاعَةُ دُونَ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُرَادُ بِآخِرَةٍ آخِرَ الْأَمْرَيْنِ بِأَنْ يُرِيدَ فِعْلَ الْمَعْصِيَةِ ثُمَّ يَعْدِلَ عَنْهَا إلَى فِعْلِ الطَّاعَةِ لِآخِرِ عُمْرِهِ. قَالَ اللَّقَانِيُّ بَعْدَ كَلَامٍ طَوِيلٍ: فَبِهَذَا ظَهَرَ تَرَادُفُ التَّوْفِيقِ وَالْعِصْمَةِ وَاللُّطْفِ وَالضَّلَالِ وَالْخِذْلَانِ وَالْكُفْرِ عُرْفًا أَوْ تُسَاوِيهَا وَصِلَةُ خَذَلَهُ (بِعَدْلِهِ) أَيْ بِوَضْعِهِ الشَّيْءَ فِي مَحَلِّهِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الظُّلْمُ وَالْجَوْرُ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] وَقَالَ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا} [يونس: 44] وَالْعَدْلُ مَا لِلْفَاعِلِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَنْ حُجِرَ عَلَيْهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَوْفِيقَهُ تَعَالَى لِبَعْضِ خَلْقِهِ مَحْضُ فَضْلٍ وَإِضْلَالَهُ لِبَعْضِهِمْ مَحْضُ عَدْلٍ، لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَجِبُ عَلَيْهِ شَيْءٌ لِخَلْقِهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ عَلَى اللَّهِ لِعِبَادِهِ لِبُطْلَانِ مَذْهَبِهِمْ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَقَوْلُهُمْ إنَّ الصَّلَاحَ وَاجِبٌ ... عَلَيْهِ زُورٌ مَا عَلَيْهِ وَاجِبُ أَلَمْ يَرَوْا إيلَامَهُ الْأَطْفَالَا وَشَبَهَهَا فَحَاذِرْ الْمُحَالَا. وَكَيْفَ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ وَقَدْ أَمَاتَ الْمُرْسَلِينَ وَالْعُلَمَاءَ الَّذِينَ يُرْشِدُونَ الْخَلْقَ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ وَمَا يَحْرُمُ، وَأَحْيَا إبْلِيسَ وَأَعْوَانَهُ السَّاعِينَ فِي الْفَسَادِ وَالْإِضْلَالِ إلَى يَوْمِ الدِّينِ، وَخَلَقَ الْكَافِرَ الْفَقِيرَ الْمُعَذَّبَ فِي الدُّنْيَا بِالْفَقْرِ وَالْأَسْقَامِ وَفِي الْآخِرَةِ بِالتَّخْلِيدِ فِي النَّارِ، وَمِمَّا يُبْطِلُ مَذْهَبَهُمْ مَا حُكِيَ مِنْ الْمُنَاظَرَةِ بَيْنَ الشَّيْخِ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ إمَامِ هَذَا الْفَنِّ وَبَيْنَ شَيْخِهِ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ الْمُعْتَزِلِيِّ، لِأَنَّ الْأَشْعَرِيَّ كَانَ تِلْمِيذًا لَهُ فِي مُبْتَدَأِ أَمْرِهِ، ثُمَّ رَجَعَ عَنْ مَذْهَبِهِ إلَى كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فَسَادُ مَذْهَبِهِ، وَاَلَّذِي نَاظَرَهُ فِيهِ قِصَّةُ الْإِخْوَةِ الْمَشْهُورَةِ قَائِلًا لَهُ: مَاذَا تَقُولُ فِي ثَلَاثَةِ إخْوَةٍ مَاتَ أَحَدُهُمْ صَغِيرًا وَكَبُرَ اثْنَانِ فَكَفَرَ أَحَدُهُمَا وَآمَنَ الْآخَرُ مَا حُكْمُهُمْ؟ فَقَالَ الْجُبَّائِيُّ فِي الْجَوَابِ: الْمُطِيعُ وَالصَّغِيرُ يَدْخُلَانِ الْجَنَّةَ وَالْكَافِرُ يَدْخُلُ النَّارَ، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: هَلْ يَسْتَوِيَانِ فِي الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ: لَا، لِأَنَّ الْكَبِيرَ عَمِلَ الطَّاعَاتِ. قَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: فَلَوْ قَالَ لَهُ الصَّغِيرُ يَا رَبِّ كَانَ الْأَصْلَحُ أَنْ تُحْيِيَنِي حَتَّى أَصِيرَ كَبِيرًا وَأَعْمَلَ الطَّاعَاتِ فَلِمَ فَوَّتَّ عَلَيَّ ذَلِكَ مَا يَكُونُ جَوَابُهُ؟ فَقَالَ لَهُ الْجُبَّائِيُّ: يَقُولُ لَهُ الرَّبُّ: عَلِمْت أَنَّك لَوْ كَبُرْت كُنْت تَكْفُرُ وَتَدْخُلُ النَّارَ فَفَعَلْتُ مَعَك الْأَصْلَحَ لَك، فَقَالَ لَهُ الْأَشْعَرِيُّ: حِينَئِذٍ يَقُومُ أَهْلُ النَّارِ جَمِيعًا يَقُولُونَ يَا رَبَّنَا كَانَ الْأَصْلَحُ فِي حَقِّنَا أَنْ تُمِيتَنَا صِغَارًا لِنَدْخُلَ الْجَنَّةَ فَلِمَ فَوَّتَّ عَلَيْنَا ذَلِكَ فَمَا يَكُونُ جَوَابُهُ لَهُمْ؟ فَقَالَ لَهُ الْجُبَّائِيُّ: أَبِكَ جُنُونٌ؟ فَقَالَ لَهُ: لَا بَلْ وَقَفَ حِمَارُ الشَّيْخِ فِي الْعَقَبَةِ، وَقَدْ رَوَيْت هَذِهِ الْقِصَّةَ بِوُجُوهٍ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ فَهَدَى قَوْلَهُ: (وَيَسَّرَ) اللَّهُ تَعَالَى بِمَعْنَى هَيَّأَ وَوَفَّقَ (الْمُؤْمِنِينَ) أَيْ الْمُصَدِّقِينَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (لِ) فِعْلِ (الْيُسْرَى) أَيْ الطَّاعَةِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْيُسْرَى الْجَنَّةُ وَالْأَوَّلُ أَنْسَبُ بِقَوْلِهِ: (وَشَرَحَ) أَيْ فَتَحَ وَوَسَّعَ (صُدُورَهُمْ) أَيْ قُلُوبَهُمْ (لِلذِّكْرَى) أَيْ لِقَبُولِ الْمَوْعِظَةِ وَثُبُوتِ الْإِيمَانِ، وَهَذَا كُلُّهُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَإِلَّا فَالشَّرْحُ حَقِيقَةً مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَعَلَامَةُ انْشِرَاحِ الصَّدْرِ الْعَمَلُ لِدَارِ الْآخِرَةِ وَالتَّجَافِي عَنْ دَارِ الْغُرُورِ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَيُفْهَمُ بِطَرِيقِ الْمُقَابَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَسَّرَ الْمُؤْمِنِينَ لِلْيُسْرَى أَنَّ الْكَافِرِينَ مُيَسَّرُونَ إلَى ضِدِّهَا، لِأَنَّ كُلًّا مُيَسَّرٌ أَيْ مُهَيَّأٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ صَادِرًا مِنْ الْخَلْقِ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، إلَّا أَنَّ الْخَيْرَاتِ مُرَادَةٌ وَمَأْمُورٌ بِهَا وَالشُّرُورَ مُرَادَةٌ غَيْرُ مَأْمُورٍ بِهَا، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَتَعَالَى أَنْ يَقَعَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ، وَعَبَّرَ بِالْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُسْلِمِينَ لِتَلَازُمِهِمَا شَرْعًا وَلِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ فِي، مُقَابَلَةِ الْكُفْرِ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِالْفَاءِ التَّفْرِيعِيَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى تَسَبُّبِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا قَوْلُهُ: (فَآمَنُوا بِاَللَّهِ) أَيْ صَدَّقُوا بِوُجُوبِ وُجُودِهِ تَعَالَى. وَفِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ وَبِرُسُلِهِ أَيْضًا. وَإِنَّمَا حَذَفَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِاَللَّهِ يَتَضَمَّنُ الْإِيمَانَ بِالرَّسُولِ إذْ لَا إيمَانَ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِمَا فَكَأَنَّهُ ذَكَرَهُمَا، وَالدَّلَالَةُ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ بَعْدُ: وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَالضَّمِيرُ فِي آمَنُوا رَاجِعٌ إلَى مَنْ فِي قَوْلِهِ: فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ وَجَمَعَهُ نَظَرًا إلَى مَعْنَاهَا عَلَى حَدِّ {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] الْآيَةَ، وَيَحْتَمِلُ عَوْدُهُ إلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي يُسْرِ الْمُؤْمِنِينَ لِتَأَوُّلِ الْمُؤْمِنِينَ بِمَنْ أَرَادَ اللَّهُ إيمَانَهُمْ لِتَصِيرَ الضَّمَائِرُ كُلُّهَا لِلْمُؤْمِنِينَ، وَبَيَّنَ الْإِيمَانَ بِقَوْلِهِ: (بِأَلْسِنَتِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (نَاطِقِينَ) الْوَاقِعُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ آمَنُوا، وَالتَّقْدِيرُ: فَآمَنُوا أَيْ صَدَّقُوا بِاَللَّهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ رُسُلُهُ حَالَ كَوْنِهِمْ نَاطِقِينَ أَيْ قَائِلِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، عَلَى مَا ارْتَضَاهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَمَنْ تَبِعَهُ، وَمَا يُؤَدِّي مَعْنَى الشَّهَادَتَيْنِ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ تِلْمِيذُهُ الْأَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ، هَذَا كُلُّهُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ وَإِلَّا اكْتَفَى بِالْإِشَارَةِ إلَى الشَّهَادَتَيْنِ وَذِكْرِ الْأَلْسِنَةِ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ إذْ النُّطْقُ لَا يَكُونُ إلَّا بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 مُخْلِصِينَ، وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، وَتَعَلَّمُوا مَا عَلَّمَهُمْ، وَوَقَفُوا عِنْدَ مَا حَدَّ لَهُمْ، وَاسْتَغْنَوْا بِمَا أَحَلَّ لَهُمْ عَمَّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ.   [الفواكه الدواني] (وَبِقُلُوبِهِمْ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: (مُخْلِصِينَ) الْوَاقِعِ حَالًا ثَانِيَةً مِنْ فَاعِلِ آمَنُوا، وَمَعْنَى الْمُخْلِصِينَ مُصَدِّقِينَ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِخْلَاصِ هُنَا، لِأَنَّ هَذَا الْمَعْنَى هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ إخْلَاصُ الْعَمَلِ لِأَنَّهُ غَيْرُ شَرْطٍ فِي الْإِيمَانِ، عَلَى أَنَّ إخْلَاصَ الْعَمَلِ دَاخِلٌ فِي قَوْلِهِ: وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، لَا يُقَالُ: الْإِيمَانُ بِاَللَّهِ هُوَ نَفْسُ التَّصْدِيقِ، فَمَا فَائِدَةُ النَّصِّ عَلَى ذَلِكَ ثَانِيًا بِقَوْلِهِ وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ؟ لِأَنَّا نَقُولُ قَصَدَ بِذَلِكَ مَعْنَى التَّصْدِيقِ الْكَافِي فِي الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ مَعَ الْإِذْعَانِ وَالِانْقِيَادِ لَا مُجَرَّدُ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَيْهِ، فَلَا يَكْفِي لِوُجُودِ ذَلِكَ فِي نَحْوِ أَبِي طَالِبٍ وَمَنْ يُشْبِهُهُ مِمَّنْ يُصَدِّقُ بِلِسَانِهِ وَهُوَ جَاحِدٌ بِقَلْبِهِ اسْتِكْبَارًا أَوْ عِنَادًا فَلَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ التَّصْدِيقُ وَالْقُلُوبُ جَمْعُ قَلْبٍ يُطْلَقُ عَلَى اللَّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ وَعَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِهَا وَهُوَ الْعَقْلُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَحَلُّهُ الْقَلْبَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: الْقَلْبُ الَّذِي يَقَعُ مِنْهُ التَّصْدِيقُ وَيُثَابُ وَيُعَاقَبُ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْقَلْبِ بِمَعْنَى اللَّحْمَةِ الصَّنَوْبَرِيَّةِ تَعَلُّقَ الْأَعْرَاضِ بِالْجَوَاهِرِ، وَيُسَمَّى رُوحًا وَنَفْسًا وَهُوَ أَشَدُّ تَقَلُّبًا مِنْ الْقِدْرِ فِي غَلَيَانِهِ. (وَبِمَا أَتَتْهُمْ) أَيْ جَاءَتْهُمْ (بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ) الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ (عَامِلِينَ) الْوَاقِعِ حَالًا ثَالِثَةً لَكِنْ مُقَدَّرَةً لِأَنَّ الْأَعْمَالَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْإِيمَانِ، وَمَعْنَى الْعَمَلِ بِمَا أَتَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ جَرَى هُنَا وَفِي آخِرِ بَابٍ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ عَلَى مَذْهَبِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ: النُّطْقُ بِاللِّسَانِ وَالتَّصْدِيقُ بِالْقَلْبِ وَالْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ، لَكِنَّ الْأَعْمَالَ عِنْدَهُمْ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ، وَذَكَرَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ فَقَطْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَكِنْ بِحَمْلِ اشْتِرَاطِ الْعَمَلِ عَلَى الْكَمَالِ صَارَ كَلَامُهُ أَوَّلًا وَثَانِيًا وَثَالِثًا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ النُّطْقِ وَالتَّصْدِيقِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَمَلُ فَهُوَ خَارِجٌ عَنْ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ، وَالْخِلَافُ فِي حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ شَهِيرٌ عَلَى أَقْوَالٍ أَشْهُرِهَا مَا عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة وَغَيْرُهُمْ مِنْ أَنَّهُ التَّصْدِيقُ بِمَا عُلِمَ مَجِيءُ الرُّسُلِ بِهِ ضَرُورَةً، وَأَمَّا النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ فَهُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا الْأَعْمَالُ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَفُسِّرَ الْإِيمَانُ بِالتَّصْدِيقِ ... وَالنُّطْقُ فِيهِ الْخُلْفُ بِالتَّحْقِيقِ فَقِيلَ شَرْطٌ كَالْعَمَلِ وَقِيلَ بَلْ ... شَطْرٌ وَالْإِسْلَامُ اشْرَحْنَ بِالْعَمَلِ وَمَا عَدَا مَذْهَبِ السَّلَفِ وَمَذْهَبِ الْجُمْهُورِ مِنْ الْمَذَاهِبِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْمَجْرُورَاتِ عَلَى عَوَامِلِهَا لِاسْتِقَامَةِ الْفَوَاصِلِ، وَهُوَ يُورِثُ الْكَلَامَ حَلَاوَةً وَعَطَفَ عَلَى آمَنُوا قَوْلَهُ: (وَتَعَلَّمُوا) أَيْ الَّذِينَ آمَنُوا بِمَعْنَى فَهِمُوا مَعْنَى (مَا عَلَّمَهُمْ) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْ وَصَلَهُ إلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] الْآيَةَ، فَإِنَّهُمْ عَرَفُوا مِنْهُ جَمِيعَ مَا كَانُوا يَجْهَلُونَهُ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ مَعْرِفَتُهُ مِمَّا يُحِبُّ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَجَمِيعِ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَفَعَلُوا مَا وَجَبَ عَلَيْهِمْ وَتَرَكُوا مَا نُهُوا عَنْهُ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَوَقَفُوا عِنْدَمَا) أَيْ الْحَدِّ الَّذِي (حَدَّ) أَيْ بَيَّنَ (لَهُمْ) وَالْمُرَادُ بِالْوُقُوفِ هُنَا الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الشَّيْءِ لَا الْوُقُوفُ الْحِسِّيِّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِّ الَّذِي حَدَّ اللَّهُ لِعِبَادِهِ الْوَاجِبَاتُ وَالْمَنْهِيَّاتُ، فَوُقُوفُهُمْ عَلَى الْمَأْمُورَاتِ بِالِامْتِثَالِ إلَى فِعْلِهَا وَعَلَى الْمُنْهَيَاتِ بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِهَا، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا وَلَوْ بِتَرْكِهَا مُكْرَهًا، إذْ الْمُتَوَقِّفُ عَلَى نِيَّةِ الِامْتِثَالِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا إنَّمَا هُوَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى نِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الْمَأْمُورَاتِ لَا يَخْرُجُ مِنْ عِدَّتِهَا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ الشَّارِعِ بِهَا لَا إنْ فَعَلَهَا لِقَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ يَتَوَقَّفُ حُصُولُ الثَّوَابِ فِيهِ عَلَى النِّيَّةِ مَعَ قَصْدِ الِامْتِثَالِ أَوَّلًا مَعَ قَصْدِ امْتِثَالٍ وَلَا عَدَمِهِ، وَأَمَّا مَعَ قَصْدِ عَدَمِ الِامْتِثَالِ فَلَا ثَوَابَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى نِيَّةٍ فَيَتَوَقَّفُ الثَّوَابُ فِيهِ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ وَإِلَّا لَا فَلَا ثَوَابَ فِيهِ. قَالَهُ فِي فَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَعَدَمُ الثَّوَابِ فِي فِعْلِهِ لَا يُنَافِي الْخُرُوجَ مِنْ عُهْدَتِهِ بِفِعْلِهِ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَنَحْوِهِ، كَمَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ تَرْكِهِ إنَّمَا هُوَ ثَوَابُ الِامْتِثَالِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمَأْمُورَاتِ مَنْ أُكْرِهَ عَلَى فِعْلِ الصَّلَاةِ وَإِخْرَاجِ الزَّكَاةِ لِأَنَّ نِيَّةَ الْمُكْرِهِ لِتَارِكِ الصَّلَاةِ عِنَادًا أَوْ الزَّكَاةِ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وَنِيَّتُهُ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أَمَّا بَعْدُ) . أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ عَلَى رِعَايَةِ وَدَائِعِهِ، وَحِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ: فَإِنَّك سَأَلْتنِي أَنْ أَكْتُبَ لَك جُمْلَةً   [الفواكه الدواني] (وَاسْتَغْنَوْا) أَيْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَامِلُونَ فِي الْإِيمَانِ بِمَعْنَى اكْتَفُوا. (بِمَا أَحَلَّ) اللَّهُ (لَهُمْ) بِالنَّصِّ عَلَى حِلِّهِ مُقْتَصِرِينَ عَلَى تَنَاوُلِهِ وَرَغِبُوا (عَمَّا حُرِّمَ عَلَيْهِمْ) بِالنَّصِّ عَلَى تَحْرِيمِهِ فَلَا يَتَنَاوَلُونَ شَيْئًا مِنْهُ، وَالْمُرَادُ بِالنَّصِّ مُطْلَقُ الدَّلِيلِ لِيَشْمَلَ الْقِيَاسَ وَالِاسْتِحْسَانَ وَالْإِجْمَاعَ لَهُ، وَلَوْ قَيَّدْنَا بِالْكَامِلِينَ فِي الْإِيمَانِ، لِأَنَّ الَّذِي يَقْتَصِرُ عَلَى الْحَلَالِ لَا يَكُونُ إلَّا كَامِلَ الْإِيمَانِ، وَبَقِيَ عَلَى الْمُؤَلِّفِ الَّذِي لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ بِحِلٍّ وَلَا تَحْرِيمٍ هَلْ يَكُونُ حَلَالًا أَوْ يُوقَفُ عَنْهُ؟ وَهُمَا قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَكِنْ بَعْدَ وُرُودِ الشَّرْعِ، لِأَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ لَا أَصْلِيًّا وَلَا فَرْعِيًّا، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي تَحْكِيمِهِمْ الْعَقْلَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ وُرُودِ الشَّرْعِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْإِبَاحَةُ وَالتَّحْرِيمُ وَالْوَقْفُ فَفِيهِ نَظَرٌ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ لَا حُكْمَ قَبْلَ الشَّرْعِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَغَيْرُهُ، وَبَيَانُ فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ مَذْكُورٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ، وَهَذَا آخِرُ الْخُطْبَةِ. وَشَرَعَ الْآنَ فِي بَيَانِ السَّبَبِ الْحَامِلِ عَلَى تَأْلِيفِ هَذِهِ الرِّسَالَةِ فَقَالَ: (أَمَّا بَعْدُ) أَمَّا بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْمِيمِ حَرْفٌ بَسِيطٌ، وَبَعْدُ ظَرْفٌ زَمَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ النُّطْقِ وَمَكَانِيٌّ بِاعْتِبَارِ الرَّقْمِ، وَأَصْلُ أَمَّا بَعْدُ مَهْمَا يَكُنْ مِنْ شَيْءِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَالْحَمْدَلَةِ وَمَا مَعَهُمَا فَأَقُولُ: إنَّك سَأَلْتنِي وَمَهْمَا مُبْتَدَأٌ وَالِاسْمِيَّةُ لَازِمَةٌ لِلْمُبْتَدَأِ وَيَكُنْ شَرْطٌ وَالْفَاءُ لَازِمَةٌ لَهُ غَالِبًا، فَحِينَ تَضَمَّنَتْ أَمَّا مَعْنَى الِابْتِدَاءِ وَالشَّرْطِ أَيْ حَلَّتْ مَحَلَّهُمَا فَحَذَفَهُمَا اخْتِصَارًا لِلُزُومِهَا الْفَاءَ غَالِبًا، وَلُصُوقِ الِاسْمِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ إقَامَةِ اللَّازِمِ مَقَامَ الْمَلْزُومِ وَإِبْقَاءً لِأَثَرِهِ فِي الْجُمْلَةِ، فَأَمَّا قَائِمَةٌ مَقَامَ شَيْئَيْنِ، وَبَعْدُ قَائِمَةٌ مَقَامَ الثَّالِثِ الَّذِي هُوَ الْمُضَافُ إلَيْهِ وَلِذَا بُنِيَتْ لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَاهُ. وَتَقَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ الْحَذْفِ الِاخْتِصَارُ، وَسَبَبُ تَقْدِيرِ مَا ذُكِرَ الْإِشَارَةُ إلَى تَحَقُّقِ الْجَوَابِ، لِأَنَّك إذَا أَرَدْت الْإِخْبَارَ عَنْ وُقُوعِ أَمْرٍ وَلَا مَحَالَةَ تَقُولُ أَمَّا بَعْدُ فَيَكُونُ كَذَا، لَا أَنَّ الْمَعْنَى مَهْمَا يُوجَدُ شَيْءٌ فِي الْكَوْنِ يَكُونُ كَذَا، وَالْكَوْنُ لَا يَخْلُو عَنْ وُجُودِ شَيْءٍ، وَالْمُعَلَّقُ عَلَى الْمُحَقَّقِ مُحَقِّقٌ، فَهِيَ حَرْفُ شَرْطٍ وَتَوْكِيدٍ دَائِمًا وَتَفْصِيلٍ غَالِبًا، وَيَجِبُ تَوَسُّطُ جُزْءٍ مِمَّا فِي حَيِّزِهَا بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْفَاءِ، إمَّا مُبْتَدَأٌ نَحْوُ: أَمَّا زَيْدٌ فَمُنْطَلِقٌ، أَوْ مَفْعُولٌ نَحْوُ: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} [الضحى: 9] أَوْ غَيْرُهُمَا مِنْ ظَرْفٍ أَوْ حَالٍ، كَرَاهَةَ تُوَالِي لَفْظَتَيْ إرَادَةِ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ الْمُوهِمِ أَنَّ تِلْكَ الْفَاءَ عَاطِفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَقَوْلُنَا غَالِبًا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا كَانَ جَوَابُهَا قَوْلًا وَأُقِيمَتْ حِكَايَتُهُ مَقَامَهُ، وَإِلَّا فَيَجُوزُ حَذْفُهُمَا بِكَثْرَةٍ نَحْوُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أَيْ فَيُقَالُ لَهُمْ: أَكَفَرْتُمْ؟ وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ الْجَوَابُ قَوْلًا فَلَا يُحْذَفُ إلَّا نُدُورًا نَحْوُ: أَمَّا بَعْدُ مَا بَالُ رِجَالِ الْحَدِيثِ؟ وَاعْلَمْ أَنَّ بَعْدَهُ فِيهِ أَرْبَعَةُ مَبَاحِثَ: الْأَوَّلُ: فِي إعْرَابِهَا أَوْ بِنَائِهَا وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهَا تُبْنَى عِنْدَ حَذْفِ مَا تُضَافُ إلَيْهِ إنْ كَانَ مَعْرِفَةً وَنَوَى ثُبُوتَ مَعْنَاهُ لِشَبَهِهَا بِالْحَرْفِ فِي الِافْتِقَارِ، وَبُنِيَتْ عَلَى حَرَكَةٍ لِيَدُلَّ عَلَى أَصْلِهَا وَهُوَ الْإِعْرَابُ، وَكَانَتْ الْحَرَكَةُ ضَمَّةً جَبْرًا لِمَا فَإِنَّهَا مِنْ حَذْفِ الْمُضَافِ إلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ ذَكَرَ الْمُضَافَ إلَيْهِ أَوْ حَذَفَ وَنَوَى ثُبُوتَ لَفْظِهِ أَوْ حَذَفَ وَنَوَى ثُبُوتَ مَعْنَاهُ وَكَانَ نَكِرَةً أَوْ حَذَفَ وَلَمْ يَنْوِ لَفْظَهُ وَلَا مَعْنَاهُ فَإِنَّهَا تُعْرَبُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْأَرْبَعَةِ بِالنَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ أَوْ مَعَ الْجَرِّ بِمِنْ خَاصَّةً. الثَّانِي: فِي الْعَامِلِ فِيهَا، وَمُحَصِّلُ مَا قَالَهُ الدَّمَامِينِيُّ أَنَّهَا مَنْصُوبَةٌ لَفْظًا أَوْ مَحَلًّا، إمَّا بِفِعْلِ الشَّرْطِ الْمَحْذُوفِ الَّذِي هُوَ يَكُنْ أَوْ يُوجَدُ، وَإِمَّا بِلَفْظِ إمَّا لِنِيَابَتِهَا عَنْ فِعْلِ الشَّرْطِ، وَالصَّحِيحُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ أَنَّهَا جُزْءٌ مِنْ الْجَوَابِ فَتَكُونُ مَعْمُولَةً لِمَا بَعْدَ الْفَاءِ. الثَّالِثُ: حُكْمُ الْإِتْيَانِ بِبَعْدِ فِي الْخُطَبِ الِاسْتِحْبَابُ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْتِي بِهَا فِي الْخُطَبِ وَالْمُكَاتَبَاتِ وَتُسْتَعْمَلُ مَقْرُونَةً بِأَمَّا أَوْ بِالْوَاوِ، وَلَا يَجُوزُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا إلَّا عَلَى جَعْلِ الْوَاوِ اسْتِئْنَافِيَّةً، وَعِنْدَ انْفِرَادِ الْوَاوِ تَكُونُ نَائِبَةً عَنْ أَمَّا فَتَكُونُ نَائِبَةَ النَّائِبِ. الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِيمَا نَطَقَ بِهَا أَوَّلًا عَلَى أَقْوَالٍ سَبْعَةٍ: فَقِيلَ يَعْرُبُ بْنُ قَحْطَانَ، وَقِيلَ دَاوُد، وَقِيلَ يَعْقُوبُ، وَقِيلَ سَحْبَانُ، وَقِيلَ قَيْسٌ، وَقِيلَ كَعْبٌ، وَأَقْرَبُهَا أَنَّهُ دَاوُد وَهِيَ فَصْلُ الْخِطَابِ الَّذِي أُوتِيَهُ، وَقِيلَ غَيْرُهُ، وَجُمِعَ بَيْنَ الْأَقْوَالِ بِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ أَوَّلَ بِاعْتِبَارِ قَوْمِهِ. : (أَعَانَنَا اللَّهُ) أَيْ اللَّهُمَّ أَعِنَّا، فَالْجُمْلَةُ خَبَرِيَّةُ اللَّفْظِ إنْشَائِيَّةُ الْمَعْنَى. (وَإِيَّاكَ) يَا سَائِلُ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي أَعَانَتَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ وَهُوَ الْأَوْلَى اهْتِمَامًا بِهِ لِيُحَقِّقَ دُخُولَهُ فِي الدُّعَاءِ، وَعَلَى أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْمُصَنِّفِ يَكُونُ أَتَى بِنُونِ الْعَظَمَةِ فِي أَعَانَنَا إظْهَارًا لِلُزُومِهَا الَّذِي هُوَ نِعْمَةٌ مِنْ تَعْظِيمِ اللَّهِ لَهُ بِتَأْهِيلِهِ لِلْعِلْمِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11] وَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ التَّعَاظُمِ بِالْعِلْمِ، فَقَدْ جَاءَ فِي الْأَثَرِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَعَاظَمْ بِالْعِلْمِ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لَا يَحِلُّ الْفَخْرُ لِأَحَدٍ إلَّا لِلْعَالِمِ بِعِلْمِهِ لِأَنَّ الْعِلْمَ نُورُ الْعَالِمِ وَرُوحٌ فِيهِ، فَإِنْ تَعَاظَمَ بِهِ أَوْ افْتَخَرَ فَيَحِقُّ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ لِبَاسٌ ظَاهِرٌ، وَلَا يَحِلُّ ذَلِكَ لِغَيْرِ الْعَالِمِ لِأَنَّهُ يَفْتَخِرُ بِأَمْرٍ بَاطِنٍ لَا يُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ فَيَصِيرُ مُدَّعِيًا، وَإِيَّاكَ أَنْ تَفْهَمَ أَنَّ مَعْنَى التَّعَاظُمِ رُؤْيَةُ النَّفْسِ مُرْتَفِعَةً عَلَى الْغَيْرِ بِحَيْثُ يَحْتَقِرُ سِوَاهُ، فَإِنَّ هَذَا يُنْهَى عَنْهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَعَاظَمْ بِالْعِلْمِ» فَمَعْنَاهُ: لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ عَظِيمًا بِالْعِلْمِ حَيْثُ جَعَلَهُ مَحَلًّا لَهُ وَمَوْصُوفًا بِهِ، وَلَمْ يَسْتَرْذِلْهُ بِحَيْثُ يَحْظُرُهُ عَلَيْهِ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ لِأَنَّهُ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا اسْتَرْذَلَ اللَّهُ عَبْدًا حَظَرَ عَلَيْهِ بِالْعِلْمِ وَالْآدِبِ» وَالسَّائِلُ الَّذِي خَاطَبَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الشَّيْخُ الصَّالِحُ مُؤَدِّبُ الْأَطْفَالِ مُحْرَزٌ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مُحْرَزًا لَقِيَ الْمُصَنِّفَ وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ الْمُؤَلِّفُ بِالْقَيْرَوَانِ حِينَ التَّأْلِيفِ وَمُحْرَزٌ بِتُونُسَ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَضَرَ لَهُ لِخُصُوصِ السُّؤَالِ فِي تَأْلِيفِهَا وَرَجَعَ إلَى تُونُسَ سَرِيعًا، بَلْ هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ لِقَرِينَةِ الْخِطَابِ، وَلَوْ كَانَ غَائِبًا حِينَ سُؤَالِهِ لَقَالَ: أَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاهُ، وَعَلَى فَرْضِ عَدَمِ حُضُورِهِ يَجُوزُ الدُّعَاءُ لَهُ مَعَ غِيبَتِهِ كَمَا فِي التَّشَهُّدِ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، وَأَيْضًا الدُّعَاءُ لِلْغَائِبِ فِيهِ فَضْلٌ كَثِيرٌ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: «دَعْوَةُ الْمَرْءِ الْمُسْلِمِ لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ مُسْتَجَابَةٌ وَعِنْدَ رَأْسِهِ مَلَكٌ كُلَّمَا دَعَا لِأَخِيهِ بِخَيْرٍ قَالَ آمِينَ وَلَك بِمِثْلِ ذَلِكَ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ وَقَدَّمَ نَفْسَهُ فِي الدُّعَاءِ اقْتِدَاءً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، فَالْكِتَابُ حِكَايَةٌ عَنْ نُوحٍ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ} [نوح: 28] وَالسُّنَّةُ مَا فِي أَبِي دَاوُد عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَعَا بَدَأَ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مِنْ آدَابِ الدُّعَاءِ تَقْدِيمُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُصَلِّ، وَالْجَوَابُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَلَّى فِي نَفْسِهِ أَوْ اكْتَفَى بِالصَّلَاةِ بَعْدَ الْبَسْمَلَةِ. تَنْبِيهٌ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أَعَانَنَا اللَّهُ إلَخْ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَهُ قُدْرَةٌ يَكْتَسِبُ بِهَا فِعْلَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْجَبْرِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ الْعَبْدَ لَا قُدْرَةَ لَهُ وَإِنَّمَا هُوَ كَالنَّخْلَةِ تُمِيلُهَا الرِّيَاحُ وَكَالْمَيِّتِ بَيْنَ يَدَيْ الْغَاسِلِ يُمِيلُهُ كَيْفَ يَشَاءُ، وَعَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ مُشِيرًا لِلْمَذَاهِبِ الثَّلَاثِ: وَعِنْدَنَا لِلْعَبْدِ كَسْبٌ كُلِّفَا ... بِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُؤْثِرْ فَاعْرِفَا فَلَيْسَ مَجْبُورًا وَلَا اخْتِيَارًا ... وَلَيْسَ كُلًّا يَفْعَلُ اخْتِيَارًا وَمُتَعَلِّقُ أَعَانَنَا (عَلَى رِعَايَةِ) أَيْ حِفْظِ (وَدَائِعِهِ) تَعَالَى وَهِيَ جَوَارِحُ الْإِنْسَانِ، وَأُضِيفَتْ لَهُ تَعَالَى لِأَنَّهُ الْخَالِقُ لَهَا، وَيُقَالُ لَهَا الْكَوَاسِبُ وَهِيَ سَبْعٌ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ، وَحِفْظُهَا أَنْ لَا يُرْتَكَبَ بِهَا مَنْهِيًّا عَنْهُ، لِأَنَّ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ عَضُدُ الْجَوَارِحِ السَّبْعِ، مَنْ عَصَى رَبَّهُ بِجَارِحَةٍ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ تِلْكَ، وَمَنْ أَطَاعَهُ بِجَوَارِحِهِ السَّبْعِ غَلَقَ عَنْهُ الْأَبْوَابَ السَّبْعِ، وَتَفْسِيرُ الْوَدَائِعِ بِالْجَوَارِحِ أَوْلَى مِنْ تَفْسِيرِهَا بِالشَّرَائِعِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمَأْمُورَاتِ، لِأَنَّهُ يَقْتَضِي التَّكْرَارَ فِي كَلَامِهِ لِقَوْلِهِ: وَحِفْظُ مَا أَوْدَعَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا الْأَمَانَاتُ، وَيَجُوزُ إرَادَةُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ رَاعٍ عَلَى جَمِيعِ جَوَارِحِهِ وَعِبَادَتِهِ وَسَائِرِ تَصَرُّفَاتِهِ كَمَا فِي حَدِيثِ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ» وَأَعَانَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ يَا مُحْرَزُ عَلَى (حِفْظِ مَا أَوْدَعَنَا) أَيْ ائْتَمَنَنَا عَلَيْهِ وَكَلَّفَنَا بِهِ (مِنْ شَرَائِعِهِ) جَمْعُ شَرِيعَةٍ وَهِيَ لُغَةً الطَّرِيقُ، وَشَرَائِعُ اللَّهِ أَحْكَامُهُ وَتَكَالِيفُهُ، وَحِفْظُهَا الْإِتْيَانُ بِهَا مَعَ الْمُدَاوَمَةِ فِيمَا تَطْلُبُ إدَامَتَهُ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ، وَقَالَ الطَّيَالِسِيُّ: قُلْت لِأَبِي مُحَمَّدٍ: مَا الْوَدَائِعُ الَّتِي أَرَدْت؟ قَالَ: الْإِيمَانُ، قُلْت: مَا الشَّرَائِعُ؟ قَالَ: الْإِسْلَامُ، قُلْت: لَمْ لِمَ تَجْعَلْهَا شَيْئًا وَاحِدًا؟ قَالَ: وَدِيعَةُ الْإِيمَانِ عَقْدٌ خَفِيٌّ وَدِيعَةُ الْإِسْلَامِ كَذَلِكَ مَعَ عَمَلٍ ظَاهِرٍ جَلِيٍّ. قُلْت: وَلِمَ لَمْ تَقُلْ وَحِفْظِ مَا كَلَّفَنَا مِنْ شَرَائِعِهِ؟ فَسَكَتَ اهـ. وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ إنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ الْوَدَائِعِ تَلْمِيحًا بِالْآيَةِ، وقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ} [الأحزاب: 72] الْآيَةَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهَا التَّكَالِيفُ، فَلَمَّا سَمَّاهَا اللَّهُ تَعَالَى أَمَانَةً نَاسَبَ التَّعْبِيرَ عَنْهَا بِالْوَدَائِعِ جَمْعُ وَدِيعَةٍ وَهِيَ أَمَانَةٌ وَالتَّلْمِيحُ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ، وَعَلَى تَفْسِيرِ أَبِي مُحَمَّدٍ الْوَدَائِعُ وَالشَّرَائِعُ بِالْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ يَكُونُ عَبَّرَ عَنْ كُلٍّ مِنْهَا بِلَفْظِ الْجَمْعِ تَعْظِيمًا أَوْ بِالنَّظَرِ لِتَعَدُّدِ مُتَعَلِّقِ كُلٍّ مِنْ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 مُخْتَصَرَةً. مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ، مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وَتَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ، وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ   [الفواكه الدواني] (تَنَبُّهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا أَتَى بِهَذَا الدُّعَاءِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْمَقْصُودِ لِمَا أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ الْمُلَازَمَةُ عَلَى الدُّعَاءِ، وَلَا سِيَّمَا الشَّارِعُ فِي تَأْلِيفٍ يَنْبَغِي لَهُ الْإِكْثَارُ مِنْ الدُّعَاءِ لِنَفْسِهِ وَلِلْمُتَسَبِّبِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ مَنْ أَهْمَلَ الدُّعَاءَ فَقَدْ اُسْتُهْدِفَ لِلْبَلَاءِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَمْ يَسْأَلْ اللَّهَ يَغْضَبْ عَلَيْهِ» ، وَاقْتَصَرَ عَلَى تِينِك الدَّعْوَتَيْنِ لِأَجْلِ الِاخْتِصَارِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَسْطَهُ أَفْضَلُ مِنْ اخْتِصَارِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَدْعِيَةَ السَّلَفِ لَا تَزِيدُ عَلَى سَبْعِ كَلِمَاتٍ غَيْرِ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ، أَوْ الْمُرَادُ مِنْ الْإِخْبَارِ بِمَا اتَّفَقَ مِنْهُمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الزِّيَادَةَ أَفْضَلُ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ هَلْ الْأَفْضَلُ لِلدَّاعِي التَّصْرِيحُ بِحَاجَتِهِ أَوْ عَدَمُ التَّصْرِيحِ، وَقَدْ نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ التَّعْرِيضَ بِهَا أَفْضَلُ مِنْ تَسْمِيَتِهَا فَإِنَّهُ شِعَارُ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَلَا تَرَى أَنَّ أَيُّوبَ قَالَ: {أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ} [الأنبياء: 83] فَعَرَّضَ وَلَمْ يُصَرِّحْ، وَكَذَا مُوسَى عِنْدَ قَوْلِهِ: {رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . الثَّالِثُ: آدَابُهُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا أَنْ يُصْلِحَ لِسَانَهُ بِأَنْ يَدْعُوَ بِأَدَبٍ حُصُولَ أَمْرٍ مُمْكِنٍ عَادَةً وَشَرْعًا فَلَا يَدْعُو بِمُسْتَحِيلٍ وَلَا يَأْتِي بِشَيْءٍ مِنْ الْأَلْفَاظِ مِمَّا يُعَدُّ إسَاءَةَ أَدَبٍ فِي الْمُخَاطَبَاتِ لِوُجُوبِ تَعْظِيمِ اللَّهِ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ مَلْحُونًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِعْرَابِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يُقْبَلُ دُعَاءٌ مَلْحُونٌ» قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إلَّا أَنْ لَا يَسْتَطِيعَ غَيْرَهُ فَيُعْذَرُ. (فَإِنَّك) الْفَاءُ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ أَمَّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ. (سَأَلْتنِي) الْخِطَابُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِمُحْرَزٍ لِأَنَّهُ السَّائِلُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَصِحُّ جَعْلُ جُمْلَةِ " فَإِنَّك سَأَلْتنِي " جَوَابًا مَعَ أَنَّ الْجَوَابَ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا لِأَنَّهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الشَّرْطِ، فَالشَّرْطُ سَابِقٌ عَلَيْهِ ضَرُورَةً وَالْوَاقِعُ هُنَا خِلَافُ ذَلِكَ، لِأَنَّ سُؤَالَ مُحْرَزٍ الْمَدْلُولَ عَلَيْهِ بِسَأَلْتَنِي قَدْ وَقَعَ فِي الزَّمَانِ الْمَاضِي؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ عَلَى جُمْلَةِ فَإِنَّك سَأَلْتنِي بِأَنَّهَا جَوَابٌ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الْمَجَازِ لِوُقُوعِهَا فِي مَحَلِّ الْجَوَابِ، وَالْجَوَابُ حَقِيقَةً مَحْذُوفٌ، وَتِلْكَ الْجُمْلَةُ مَعْمُولَةٌ لَهُ أُقِيمَتْ وَمَقَامُهُ عِنْدَ حَذْفِهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَمَّا بَعْدُ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَى قَائِلٌ لَك إنَّك سَأَلْتنِي أَيْ طَلَبْت مِنِّي لِخُضُوعِ السَّائِلِ، وَاللَّفْظُ الدَّالُّ عَلَى الطَّلَبِ يَكُونُ مَعَ اسْتِعْلَاءِ الطَّالِبِ أَمْرًا، وَمَعَ خُضُوعِهِ سُؤَالًا، وَمَعَ التَّسَاوِي الْتِمَاسًا. وَلِبَعْضِ السُّؤَالِ وَالِالْتِمَاسِ يَكُونَانِ مِنْ الْمُتَمَاثِلَيْنِ، وَالدُّعَاءُ طَلَبُ الْأَدْنَى مِنْ الْأَعْلَى وَالْأَمْرُ عَكْسُهُ، وَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الشَّرْعِ أَنَّ حُكْمَ السُّؤَالِ عَمَّا يَجِبُ عَلَى السَّائِلِ مَعْرِفَتُهُ الْوُجُوبُ. قَالَ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وَإِنْ كَانَ عَنْ غَيْرِ وَاجِبٍ أَوْ كَانَ وَسِيلَةً لِنَفْعِ غَيْرِ السَّائِلِ كَانَ مُسْتَحَبًّا، وَالْيَاءُ فِي سَأَلْتنِي هِيَ الْمَفْعُولُ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي (أَنْ أَكْتُبَ لَك) يَا مُحْرَزُ وَالْمُرَادُ أُؤَلِّفُ لَك، وَعَدَلَ عَنْهُ إلَى أَكْتُبُ تَوَاضُعًا لِمَا فِي التَّعْبِيرِ بِالتَّأْلِيفِ مِنْ الْإِشْعَارِ بِالتَّعْظِيمِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَأَيْضًا فِي التَّعْبِيرِ بِالْكِتَابَةِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ كِتَابَتَهُ لِئَلَّا يُعْتَمَدَ عَلَى الْمَكْتُوبِ وَيُتْرَكَ الْحِفْظُ، وَلَكِنْ فِي هَذَا الزَّمَانِ لَا يُخْتَلَفُ فِي الْجَوَازِ لِقِصَرِ الْهِمَمِ، وَلِذَلِكَ «قَالَ لِلَّذِي شَكَا إلَيْهِ سُوءَ الْحِفْظِ: اسْتَعِنْ عَلَيْهِ بِيَمِينِك» . وَقَالَ سَحْنُونٌ: الْعِلْمُ صَيْدٌ وَالْكِتَابَةُ قَيْدٌ وَمَفْعُولُ أَكْتُبُ. (جُمْلَةٌ) أَيْ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمَقْصُودَةِ لِلسَّائِلِ (مُخْتَصَرَةٌ) مِنْ الِاخْتِصَارِ بِمَعْنَى الْإِيجَازِ أَيْ قَلِيلَةُ اللَّفْظِ كَثِيرَةُ الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا طَلَبَهَا مُخْتَصَرَةً لِسُهُولَةِ حِفْظِ الْمُخْتَصَرِ وَضَبْطِهِ، وَتَرْغِيبًا لِلطَّالِبِ فِي تَنَاوُلِهَا. وَلِبَعْضِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الِاخْتِصَارِ وَالْإِيجَازِ وَهِيَ أَنَّ الِاخْتِصَارَ يَكُونُ فِي اللَّفْظِ وَالْإِيجَازَ يَكُونُ فِي الْمَعْنَى، كَمَا فَرَّقُوا بَيْنَ الِاقْتِصَارِ وَالِاخْتِصَارِ بِأَنَّ الِاقْتِصَارَ هُوَ الْإِتْيَانُ بِبَعْضِ الشَّيْءِ وَتَرْكُ بَعْضِهِ وَالِاخْتِصَارُ تَجْرِيدُ اللَّفْظِ الْيَسِيرِ مِنْ الْكَثِيرِ مَعَ بَقَاءِ الْمَعْنَى الْأَصْلِيِّ. وَلِبَعْضِ الِاخْتِصَارِ حَذْفُ بَعْضِ الْكَلَامِ لِدَلِيلٍ، وَالِاقْتِصَارُ حَذْفُ بَعْضِهِ لِغَيْرِ دَلِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْجُمْلَةُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ) فَمِنْ دَاخِلَةٌ عَلَى وَاجِبٍ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، وَالْوَاجِبُ لَقَبٌ لِأَحَدِ الْأَحْكَامِ الْخَمْسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَلَهُ أَلْقَابٌ أُخَرُ: الْفَرْضُ وَالْمَكْتُوبُ وَالْمُحَتَّمُ وَالْمُسْتَحَقُّ وَاللَّازِمُ فَهَذِهِ سِتَّةٌ. وَأُمُورٌ جَمْعُ أَمْرٍ بِمَعْنَى الْفِعْلِ وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْقَوْلِ الْمَخْصُوصِ جُمِعَ عَلَى أَوَامِرَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْأَوَّلُ بِدَلِيلِ إضَافَةِ الْوَاجِبِ إلَيْهِ. وَالدِّيَانَةُ مُفْرَدُ الدِّيَانَاتِ مَصْدَرُ دَانَ يَدِينُ إذَا طَاعَ، وَالْأَوْلَى تَفْسِيرُ الْأَمْرِ بِالشَّأْنِ لِأَجْلِ شُمُولِهِ لِلْأَقْوَالِ وَغَيْرِهَا، لِأَنَّ أُمُورَ الدِّينِ الَّتِي سَيَذْكُرُهَا مِنْهَا الْقَوْلُ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَمِنْهَا الِاعْتِقَادُ بِالْقَلْبِ، وَمِنْهَا أَفْعَالُ الْجَوَارِحِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ الدِّيَانَاتُ بِالْجَمْعِ أَوْرَدَ عَلَيْهَا أَنَّ الدِّينَ الْحَقَّ وَاحِدٌ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ جَمْعٌ بِاعْتِبَارِ أَشْخَاصِ الْمُكَلَّفِينَ أَوْ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ، وَالْوَاجِبُ الَّذِي هُوَ أَحَدُ الْأَحْكَامِ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ وَيُذَمُّ تَارِكُهُ وَالْحَرَامُ عَكْسُهُ. وَعَرَّفَ بَعْضُهُمْ الْوَاجِبَ بِأَنَّهُ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ امْتِثَالًا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ اخْتِيَارًا غَالِبًا فِيهِمَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَيْسَ كُلُّ وَاجِبٍ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَلَا كُلُّ حَرَامٍ يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ، فَنَفَقَاتُ الزَّوْجَاتِ وِرْدُ الْغُصُوبَاتِ وَالدُّيُونِ وَالْعَوَارِيّ إذَا فَعَلَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 مِنْ ذَلِكَ مِنْ السُّنَنِ: مِنْ مُؤَكَّدِهَا، وَنَوَافِلِهَا، وَرَغَائِبِهَا. الْمُرَادِ بِهِ وَشَيْءٍ مِنْ الْآدَابِ مِنْهَا. وَجُمَلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ:   [الفواكه الدواني] الْمُكَلَّفُ غَافِلًا عَنْ نِيَّةِ امْتِثَالِ أَمْرِ اللَّهِ فِيهَا وَقَعَتْ وَاجِبَةً مُبَرِّئَةً لِلذِّمَّةِ، وَلَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يَنْوِيَ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ فِيهِ، قِيلَ: وَمِنْ الْوَاجِبِ الَّذِي لَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ مَعْرِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى لِأَنَّ الثَّوَابَ يَتَّبِعُ النِّيَّةَ وَالنِّيَّةَ هُنَا مَمْنُوعَةٌ، لِأَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ بِالشَّرْعِ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ جِهَتِهِ، فَمَنْ لَمْ يَعْرِفْهُ لَا يَكُونُ عِنْدَهُ شَيْءٌ وَاجِبٌ بِالشَّرْعِ فَلَا يَتَصَوَّرُ أَنْ يَفْعَلَهُ بِالنِّيَّةِ امْتِثَالًا، وَإِذَا انْتَفَى فِعْلُهُ بِالنِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ انْتَفَى الثَّوَابُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَقَالَ اللَّقَانِيُّ: قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: لَا تَحْتَاجُ مَعْرِفَةُ اللَّهِ إلَى نِيَّةٍ بَلْ لَا يُمْكِنُ تَوَقُّفُهَا عَلَيْهَا لِأَنَّ النِّيَّةَ قَصْدُ الْمَنْوِيِّ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُ الْعَاقِلُ مَا يَعْرِفُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ عَارِفًا قَبْلَ الْمَعْرِفَةِ وَهُوَ مُحَالٌ، وَبَحَثَ بَعْضُهُمْ فِيهِ قَائِلًا: إنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَشْعُرُ بِأَنَّ لَهُ مَنْ يُدَبِّرُهُ فَإِذَا نَظَرَ فِي الدَّلِيلِ لِيَتَحَقَّقَهُ لَمْ تَكُنْ النِّيَّةُ مُحَالَةً، وَنُقِلَ عَنْ السَّعْدِ أَنَّ الْحَقَّ تَرَتَّبَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِاعْتِبَارِ أَسْبَابِهَا فَإِنَّهَا اخْتِيَارِيَّةٌ وَحُصُولُهَا بَعْدَ النَّظَرِ عَادِيٌّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ، وَالْمُحَرَّمُ الَّذِي لَا يُثَابُ عَلَى تَرْكِهِ شُرْبُ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ وَالزِّنَا وَقَتْلُ النَّفْسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ الْمُحَرَّمَاتِ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا بِتَرْكِهَا وَلَا يُثَابُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ حَتَّى يَنْوِيَ بِالتَّرْكِ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا كَانَ وَاجِبُ أُمُورِ الدِّيَانَةِ مُبْهَمًا بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسُنُ) كَالشَّهَادَتَيْنِ لِلْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ بِهِمَا، وَكَقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَالْآمِرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَسَائِرِ الْوَاجِبَاتِ الْقَوْلِيَّةِ، وَالْأَلْسِنَةُ جَمْعُ لِسَانٍ آلَةُ النُّطْقِ الْمَعْرُوفَةِ. (وَ) مِمَّا (تَعْتَقِدُهُ) أَيْ تَجْزِمُ بِهِ وَتُصَمِّمُ عَلَيْهِ (الْقُلُوبُ) كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: الْأَفْئِدَةُ بَدَلُ الْقُلُوبِ جَمْعُ قَلْبٍ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ. (وَ) مِمَّا (تَعْمَلُهُ) أَيْ تَكْتَسِبُهُ (الْجَوَارِحُ) وَهِيَ السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْفَرْجُ وَالْبَطْنُ، وَتُسَمَّى الْكَوَاسِبُ لِأَنَّ بِهَا يَكْتَسِبُ الْإِنْسَانُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى وَاجِبٍ قَوْلَهُ: (وَمَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ) أَظْهَرَ فِي مَحَلِّ الْإِضْمَارِ أَيْ فَإِنَّك سَأَلْتَنِي أَنْ أَكْتُبَ لَك جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ وَمِمَّا يَتَّصِلُ بِهِ. (مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِشَارَةَ رَاجِعَةٌ لِلثَّلَاثَةِ، وَيَصِحُّ رُجُوعُهُ لِمَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ فَقَطْ بِدَلِيلِ بَيَانِ الْمُتَّصِلِ بَعْدُ بِقَوْلِهِ: مِنْ السُّنَنِ وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ إنَّمَا تَتَّصِلُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ بِخِلَافِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فَلَا تَتَّصِلُ بِهِ رَغِيبَةٌ، وَمَا تَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ لَا تَتَّصِلُ بِهِ سُنَّةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ مِنْهَا مَا هُوَ سُنَّةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ رَغِيبَةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ فَضِيلَةٌ، فَيَتَّصِلُ جَمِيعُ ذَلِكَ بِالْوَاجِبِ مِنْهَا، وَمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ فِيهِ السُّنَّةُ وَالْفَضِيلَةُ، فَالْمُتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ مِنْهُ فِيهِ السُّنَّةُ وَالْفَضِيلَةُ فَقَطْ، وَمَا تَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ لَيْسَ فِيهِ إلَّا الْوَاجِبُ وَالْفَضِيلَةُ، وَالْمُتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ فِيهِ الْفَضِيلَةُ فَقَطْ، كَاعْتِقَادِ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَنْفَعُ عِلْمُهُ وَلَا يَضُرُّ جَهْلُهُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَمَعْنَى الِاتِّصَالِ بِالْوَاجِبِ فِعْلُهُ عَقِبَ فِعْلِهِ، وَيَحْتَمِلُ انْخِفَاضَ رُتْبَتِهِ عَنْ رُتْبَةِ الْوَاجِبِ وَإِنْ فُعِلَ قَبْلَهُ وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَحْسَنُ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنْ السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ فَرْضٍ كَالْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَالْعِيدَيْنِ، وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الْمُرَادُ يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ أَيْ يَلِيهِ فِي رُتْبَتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَتَّصِلُ بِالْوَاجِبِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ السُّنَنِ) جَمْعُ سُنَّةٍ وَالْمُرَادُ بِهَا فِي كَلَامِهِ مَا قَابَلَ الْفَرْدَ بِقَرِينَةِ الْإِبْدَالِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ مُؤَكَّدِهَا وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا) وَأَمَّا مَعْنَى السُّنَّةِ فِي غَيْرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَيَخْتَلِفُ بِحَسَبِ مَنْ تُضَافُ إلَيْهِ، فَفِي اللُّغَةِ الطَّرِيقَةُ. وَفِي اصْطِلَاحِ الْأُصُولِيِّينَ أَقْوَالُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَفْعَالُهُ وَتَقْرِيرَاتُهُ وَهَمُّهُ، وَيُزَادُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُحَدِّثِينَ وَصِفَتُهُ. وَفِي اصْطِلَاحِ عُلَمَائِنَا مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاوَمَ عَلَيْهِ أَوْ فُهِمَ مِنْ الْمُدَاوَمَةِ عَلَيْهِ كَصَلَاةِ الْخُسُوفِ وَاقْتَرَنَ بِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقِيلَ: مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي تَدْخُلُ رَكْعَتَا الْفَجْرِ لِأَنَّهُ فَعَلَهُمَا وَدَاوَمَ عَلَيْهِمَا وَلَمْ يُظْهِرْهُمَا فِي جَمَاعَةٍ، وَإِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى مَا قَابَلَ الْفَرْضَ اصْطِلَاحُ الْبَغْدَادِيِّينَ لِأَنَّ كُلَّ مَا طُلِبَ شَرْعًا مِنْ الْعِبَادَاتِ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَإِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي اصْطِلَاحُ غَيْرِ الْبَغْدَادِيِّينَ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُؤَكَّدِ مِنْهَا مَا كَثُرَ ثَوَابُهُ وَهُوَ السُّنَّةُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهَا عِنْدَ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ الَّتِي هِيَ قِسْمُ الرَّغِيبَةِ، وَالْمَنْدُوبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالنَّافِلَةِ كَالْعِيدَيْنِ وَالْوِتْرِ وَالْكُسُوفِ، وَالنَّوَافِلُ جَمْعُ نَافِلَةٍ وَهِيَ لُغَةً الزِّيَادَةُ عَلَى الْفَرْضِ وَاصْطِلَاحًا مَا فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَغَّبَ فِيهِ وَلَمْ يَحُدَّهُ سِوَى الَّذِي لَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ أَوْ دَاوَمَ عَلَيْهِ كَأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَبَعْدَهُ وَقَبْلَ الْعَصْرِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَالضُّحَى وَقِيَامِ اللَّيْلِ، وَالرَّغَائِبُ جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا حَضَّ عَلَى فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحْدَهُ وَلَمْ يَفْعَلْهُ فِي جَمَاعَةٍ خَرَجَتْ السُّنَّةُ وَتَمَحَّضَ التَّعْرِيفُ لِلرَّغِيبَةِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ تَعْرِيفَ السُّنَّةِ بِمَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ مُتَعَيِّنٌ عَلَى طَرِيقِ مَنْ يُفَرِّقُ بَيْنَ السُّنَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَالرَّغِيبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ، لِأَنَّ الرَّغِيبَةَ وَالنَّافِلَةَ خَرَجَتَا مِنْهُ بِقَيْدِ الْإِظْهَارِ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ السُّنَّةِ وَالرَّغِيبَةِ، وَبَعْدَ الْفَجْرِ سُنَّةٌ لَا يُعْتَبَرُ فِي حَدِّ السُّنَّةِ قَيْدٌ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَجْعَلُ الْفَجْرَ رَغِيبَةً يَعْتَبِرُ فِي حَدِّ السُّنَّةِ قَيْدَ الْفِعْلِ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلْهَا رَغِيبَةً يُسْقِطُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النَّافِلَةِ وَالرَّغِيبَةِ أَنَّ الرَّغِيبَةَ دَاوَمَ عَلَيْهَا وَحْدَهَا بِخِلَافِ النَّافِلَةِ فَإِنَّهَا مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُدَاوِمْ عَلَيْهِ أَوْ دَاوَمَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَحُدَّهُ أَوْ حَدَّهُ وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَعْنَى الْإِظْهَارِ فِي جَمَاعَةٍ فِعْلُهُ فِي جَمَاعَةٍ، وَمَعْنَى الْحَدِّ التَّعْيِينُ فِي عَدَدٍ مَخْصُوصٍ بِحَيْثُ تَكُونُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهِ وَالنَّقْصُ عَنْهُ مُفَوِّتًا لِلثَّوَابِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ ثَبَتَتْ مُدَاوَمَتُهُ عَلَى أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا وَأَرْبَعٍ قَبْلَ الْعَصْرِ وَهَذَا يَتَضَمَّنُ التَّحْدِيدَ فَبِأَيِّ شَيْءٍ تَتَمَيَّزُ هَذِهِ عَنْ الرَّغِيبَةِ؟ قُلْت: هَذَا مَفْهُومُ عَدَدٍ لَا يُفِيدُ قَصْرَ فِعْلِهِ عَلَى أَرْبَعٍ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ، لِأَنَّ مَنْ يُوَاظِبُ عَلَى مِائَةِ رَكْعَةٍ قَبْلَ الظُّهْرِ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْمُوَاظَبَةُ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَعَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَزِيدُ عَلَيْهَا يُفَرِّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الرَّغِيبَةَ فَعَلَهَا وَحَضَّ عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ مُطْلَقِ النَّافِلَةِ فَتَأَمَّلْهُ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ قَائِلًا لَمْ أَسْمَعْهُ مِنْ الثَّانِي: إذَا عَرَفْت أَنَّ الْمُرَادَ بِالسُّنَنِ فِي كَلَامِهِ مَا قَابَلَ الْفَرْضَ ظَهَرَ لَك عَدَمُ الْمُنَافَاةِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْلِهِ: بَعْدُ: وَنَوَافِلِهَا وَرَغَائِبِهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّ التَّأْكِيدَ مُخْتَلِفٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ ثُمَّ عِيدٌ ثُمَّ كُسُوفٌ ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَشْتَدَّ طَلَبُهُ يَكُونُ ثَوَابُهُ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ. (وَشَيْءٌ مِنْ الْآدَابِ) جَمْعُ أَدَبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِ فَقِيلَ مَا يَذْكُرُهُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَا تَحْسُنُ بِهِ حَالَةُ الْإِنْسَانِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَسَائِرِ النَّاسِ، فَإِنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْجَمِيعِ فِي آخِرِ هَذَا الْكِتَابِ، فَاَلَّذِي تَحْسُنُ حَالَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ تَجَنُّبُهُ عَنْ كُلِّ مَا يُؤْثِمُ وَهُوَ التَّقْوَى، وَاَلَّذِي تَحْسُنُ بِهِ حَالَتُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ كُتُبِ اللَّهِ احْتِرَامُهَا وَتَعْظِيمُهَا بِحَيْثُ لَا يَمَسُّهَا إلَّا عَلَى طَهَارَةٍ، وَلَا يَقْرَؤُهَا فِي مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ، وَمَعَ الرُّسُلِ وَالنَّاسِ التَّأَدُّبُ مَعَ الْجَمِيعِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ بَعْضِهِمْ: الْأَدَبُ أَنْ يُؤَدِّبَ ظَاهِرَهُ بِاتِّبَاعِ السُّنَّةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَبَاطِنَهُ بِالْحَقِيقَةِ بِأَنْ يَرْضَى بِمَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ اللَّهِ وَيَتَلَقَّاهُ بِالْقَبُولِ وَيُعِدُّهُ نِعْمَةً إمَّا عَاجِلَةً وَإِمَّا آجِلَةً، فَالْعَاجِلَةُ بُلُوغُ النَّفْسِ فِي الْحَالِ مَحْبُوبَهَا وَمَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْآجِلَةُ كَأَنْوَاعِ الْمَضَارِّ فَإِنَّهُ يُثَابُ عَلَيْهَا آجِلًا أَوْ يَحُطُّ عَنْهَا بِهَا خَطِيئَةً فَهِيَ نِعْمَةٌ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْآدَابَ مِنْ غَيْرِ مَا ذُكِرَ مِنْ الْوَاجِبِ وَالسُّنَّةِ وَالنَّافِلَةِ قَالَ: (مِنْهَا) أَيْ إنَّ ذَلِكَ الشَّيْءَ الَّذِي أَذْكُرُهُ مِنْ الْآدَابِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ الَّتِي هِيَ الْوَاجِبُ وَالسُّنَّةُ وَالنَّافِلَةُ فَعَوْدُ الضَّمِيرِ فِي مِنْهَا لِلْوَاجِبِ، وَالسُّنَّةُ وَالنَّافِلَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ أَحْسَنُ، لِأَنَّ بَعْضَ مَا ذُكِرَ فِي بَابٍ جَامِعٍ مِنْ الْآدَابِ بَعْضُهُ وَاجِبٌ وَبَعْضُهُ سُنَّةٌ وَبَعْضُهُ نَفْلٌ، وَأَمَّا عَوْدُ ضَمِيرِ مِنْهَا لِلْجُمْلَةِ فَبَعِيدٌ إذْ هُوَ بِصَدَدِ بَيَانِ مَا تَكُونُ مِنْهُ الْجُمْلَةُ. (تَتِمَّةٌ) الْأَدَبُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: طَبِيعِيٌّ: وَذَلِكَ كَالْكَرَمِ وَالشَّجَاعَةِ وَتَعْظِيمِ مَنْ يُطْلَبُ تَعْظِيمُهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْإِنْسَانِ الْجِبِلِّيَّةِ الْحِسِّيَّةِ. وَكَسْبِيٌّ: وَهُوَ مَعْرِفَةُ النَّحْوِ وَاللُّغَةِ وَالشِّعْرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُلُومِ الْعَقْلِيَّةِ وَمِنْ ذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَصُوفِيٌّ: وَهُوَ ضَبْطُ الْحَوَاسِّ وَمُرَاعَاةُ الْأَنْفَاسِ وَالِاشْتِغَالِ بِالتَّفَكُّرِ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ. وَشَرْعِيٌّ: وَهُوَ مَا يَذْكُرُهُ الْمُصَنِّفُ فِي آخِرِ الْكِتَابِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ أَوْ تَرْكُهُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْخَالِقِ وَالْمَخْلُوقِ. (وَجُمَلٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ) وَالْأُصُولُ جَمْعُ أَصْلٍ وَهُوَ مَا بُنِيَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ كَأَصْلِ الْجِدَارِ وَهُوَ أَسَاسُهُ، وَالْفُنُونُ جَمْعُ فَنٍّ وَهُوَ الْفَرْعُ الْمَبْنِيُّ عَلَى غَيْرِهِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِمَعْنَاهُمَا لُغَةً، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِهِمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ أُمَّهَاتُ الْمَسَائِلِ كَمَسْأَلَةِ بُيُوعِ الْآجَالِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي يَتَشَعَّبُ مِنْهَا مَسَائِلُ كَمَسْأَلَةِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةِ وَبِالْفُنُونِ مَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْأُصُولِ الْأَدِلَّةُ وَبِالْفُنُونِ مَا يُسْتَفَادُ مِنْهَا، وَاَلَّذِي قَالَهُ الطَّيَالِسِيُّ نَقْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ خِلَافُ هَذَا، وَأَنَّ الْمُرَادَ بِالْأُصُولِ الْأَحَادِيثُ الْمُلَخَّصَةُ الْأَسَانِيدِ أَيْ الْمَحْذُوفَةُ الْأَسَانِيدِ، وَبِالْفُنُونِ الْآرَاءُ الْمَنْسُوبَةُ إلَى الْعُلَمَاءِ. قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: وَهَذَا شَاهِدٌ عَلَى خَطَأِ مَنْ فَسَّرَ أُصُولَ الْفِقْهِ فِي كَلَامِهِ بِأُمَّهَاتِ الْمَسَائِلِ وَالْفُنُونِ بِمَا يَتَفَرَّعُ عَلَيْهَا، وَعَلَى تَفْسِيرِ الْمُصَنِّفِ يَكُونُ عِطْفُ جُمَلٍ عَلَى وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ مِنْ عِطْفِ الْمُغَايِرِ، وَيَصِحُّ نَصْبُ جُمَلٍ عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةٍ إنْ ثَبَتَ نَصْبُهَا فِي الْمُصَنَّفِ، لَكِنْ يَلْزَمُ عَلَيْهِ خُرُوجُهَا مِنْ الْجُمْلَةِ مَعَ أَنَّهَا بَعْضُهَا، وَيُجَابُ بِأَنَّهُ مِنْ عِطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ بِخِلَافِ الْجَرِّ فَإِنَّهُ مِنْ عَطْفِ الْمُغَايِرِ، وَالْفِقْهُ لُغَةً الْفَهْمُ وَالْعِلْمُ، يُقَالُ: فَقِهَ بِكَسْرِ الْقَافِ إذَا فَهِمَ، وَبِفَتْحِهَا إذَا سَبَقَ غَيْرَهُ لِلْفَهْمِ، وَبِضَمِّهَا إذَا صَارَ الْفِقْهُ لَهُ سَجِيَّةً. وَفِي الِاصْطِلَاحِ: الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُكْتَسَبِ مِنْ أَدِلَّتِهَا التَّفْصِيلِيَّةِ وَاحْتَرَزَ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ عَنْ مَعْرِفَةِ الذَّوَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا سَهَّلَ سَبِيلَ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ   [الفواكه الدواني] وَالْأَجْسَامِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ فَلَا تُسَمَّى فِقْهًا، وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنْ الْعَقْلِيَّةِ كَأَحْكَامِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَلَا تُسَمَّى مَعْرِفَتُهَا فِقْهًا، وَبِالْمُكْتَسِبِ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَنْ جَزْمِ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ الرَّسُولِ وَعِلْمُ الْمَلَكِ فَإِنَّهُ بِالْوَحْيِ، فَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِقْهًا لِعَدَمِ اكْتِسَابِهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَخَرَجَ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ فَإِنَّهُ مُكْتَسَبٌ مِنْ دَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي فَهُوَ فِي حَقِّهِ حُكْمُ اللَّهِ بِدَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ لَا تَفْصِيلِيٍّ لِأَنَّهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ. وَمَوْضُوعُهُ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ عُرُوضُ الْأَحْكَامِ لَهَا. وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ نَقْلًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ صَالِحٍ: الْأَدِلَّةُ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَالِكٌ مَذْهَبَهُ سِتَّةَ عَشَرَ: نَصُّ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَهُوَ الْعُمُومُ، وَدَلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَمَفْهُومُ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ بِالْأَوْلَى، وَتَنْبِيهُ الْكِتَابِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] أَوْ فِسْقًا، وَمِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا مِثْلُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ. وَالْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعُ. وَالثَّانِيَ عَشَرَ: الْقِيَاسُ. وَالثَّالِثَ عَشَرَ: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَالرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ. وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الِاسْتِحْسَانُ. وَالسَّادِسَ عَشَرَ: الْحُكْمُ بِالذَّرَائِعِ أَيْ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي السَّابِعَ عَشَرَ وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ فَمَرَّةً رَاعَاهُ وَمَرَّةً لَمْ يُرَاعِهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَمِمَّا بَنَى عَلَيْهِ مَذْهَبَهُ الِاسْتِصْحَابُ اهـ مِنْ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. وَفَائِدَتُهُ: امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ الْمُحَصِّلَانِ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ حَالَ كَوْنِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ مُشْتَمِلَةً. (عَلَى) بَيَانِ (مَذْهَبِ) الْإِمَامِ (مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) وَأَنَسٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ غَيْمَانَ بْنِ خُثَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ ذُو أَصْبَحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذُو أَصْبَحَ وَلَمْ يَقُلْ الْأَصْبَحِيُّ لِأَنَّ الْعَادَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ إذَا كَانَ الشَّخْصُ مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ يَقُولُونَ ذُو كَذَا، وَالْإِمَامُ مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ، وَغَيْمَان بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ، وَخُثَيْلٌ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ فَثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ فَمُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ، وَأَبُو عَامِرٍ جَدُّ أَبِي مَالِكٍ الْإِمَامِ صَحَابِيٌّ شَهِدَ الْمَغَازِيَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَا بَدْرًا، وَوَلَدُهُ مَالِكٌ جَدُّ مَالِكٍ كُنْيَتُهُ أَبُو أَنَسٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، يَرْوِي عَنْ عُمَرَ وَطَلْحَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ حَمَلُوا عُثْمَانَ لَيْلًا إلَى قَبْرِهِ وَغَسَّلُوهُ وَدَفَنُوهُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَهُوَ تَابِعُ تَابِعِيٍّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ جَدَّ أَبِي مَالِكٍ صَحَابِيٌّ، وَأَنَسًا وَمَالِكًا أَبَاهُ تَابِعِيَّانِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ تَابِعُ تَابِعِيٍّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ مُحْرَزٌ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ لِأَنَّهُ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ الَّذِي هَرِعَتْ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ، فَهُوَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّحْقِيقِ، وَنَاصِرُ السُّنَّةِ بِالدَّقِيقِ، لَا يَنْصَرِفُ نَجْمُ السُّنَنِ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا يُعَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا عَلَيْهِ، وَلِلْأَثَرِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ الثِّقَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُوشِكُ النَّاسُ أَنْ تَضْرِبَ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «لَا تَنْقَطِعُ الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونَ عَالِمٌ بِالْمَدِينَةِ تُضْرَبُ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الدُّنْيَا أَعْلَمُ مِنْهُ» قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَالِمِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَرِدُ فِيهِ الْأَحَادِيثُ قَبْلَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ مَالِكٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُخْبِرُ بِبَعْضِ مُغَيِّبَاتٍ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَالْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بَحَثُوا فَمَا وَجَدُوا صِدْقَ الْحَدِيثِ إلَّا عَلَى مَالِكٍ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ الَّذِي هَرِعَتْ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غَالِبِ الْأَقْطَارِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمَزِيدِ فَضْلِهِ أَنَّ ابْنَ هُرْمُزَ مِنْ شُيُوخِهِ وَقَالَ فِيهِ: مَالِكٌ أَعْلَمُ النَّاسِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَالِكٌ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِيهِ: مَالِكٌ عَالِمُ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُفْتِي الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَالِكٌ أُسْتَاذِي وَعَنْهُ أَخَذْت الْعِلْمَ، وَمَالِكٌ مُعَلِّمِي وَمَا أَحَدٌ آمَنُ عَلَيَّ مِنْ مَالِكٍ وَجَعَلْته حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَكْفِيك شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ الْآئِمَةِ فِي بَيَانِ فَضْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَفِي سُؤَالِهِ مُحْرِزًا كِتَابَتَهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ امْتِنَاعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ مَعَ وُجُودِ الْأَعْلَمِ وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَمُ مَيِّتًا لِلْأَمْنِ بِمَوْتِهِ عَنْ رُجُوعِهِ عَنْ قَوْلِهِ، وَمَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ نَزِيلُ بَغْدَادَ مَاتَ بِهَا لِخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي تَلْمَذَتِهِ لِمَالِكٍ نِزَاعٌ كَمَا فِي تَابِعِيَّتِهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَزِيلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] بَغْدَادَ مَاتَ بِهَا لِإِحْدَى وَأَرْبَعِينَ وَمِائَتَيْنِ وَهُوَ تِلْمِيذُ الشَّافِعِيِّ اتِّفَاقًا، وَبِالْجُمْلَةِ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّ جَمِيعَ الْمُجْتَهِدِينَ عَلَى هَدْيٍ حَتَّى مَنْ هَجَرَ مَذْهَبَهُ، وَامْتِنَاعُ تَقْلِيدِ غَيْرِ الْأَرْبَعَةِ إنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ حِفْظِ مَذَاهِبِهِمْ فَلَا يُنَافِي أَنَّ جَمِيعَهُمْ عَلَى خَيْرٍ مِنْ اللَّهِ وَهُدًى وَلَيْسُوا عَلَى ضَلَالٍ وَلَا بِدْعَةٍ. (وَ) عَلَى (طَرِيقَتِهِ) الضَّمِيرُ لِمَالِكٍ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمُرَادِ بِطَرِيقَتِهِ فَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا مَذْهَبُهُ فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى مُرَادِفِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِطَرِيقَتِهِ أَقْوَالُ أَصْحَابِهِ إذْ طَرِيقُ أَصْحَابِهِ طَرِيقُهُ لِأَنَّهُمْ أَخَذُوا أَقْوَالَهُمْ مِنْ قَوَاعِدِهِ، وَمُرَادُهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلُهُ: قَالَ ابْنُ نَاجِي هَذَا هُوَ الصَّوَابُ إذْ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُ الْمُؤَلِّفُ وَغَيْرُهُ قَوْلَ بَعْضِ الْأَصْحَابِ وَيَتْرُكُ قَوْلَ الْإِمَامِ لِرُجْحَانِ الْأَوَّلِ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْمُغَايِرِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: اُكْتُبْ لِي جُمْلَةً لَا تَخْرُجُ عَنْ قَوْلِهِ وَلَا قَوْلِ أَصْحَابِهِ، وَقِيلَ: مُرَادُهُ بِمَذْهَبِ مَالِكٍ مَا يُفْتَى بِهِ وَطَرِيقَتُهُ مَا يُؤْخَذُ بِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ لِأَنَّهُ يَلْتَزِمُ بَعْضَ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ وَيُفْتِي الْغَيْرَ بِخِلَافِهَا، وَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ تَكُونُ الْوَاوُ فِي وَطَرِيقَتُهُ بِمَعْنَى أَوْ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: الْمَذْهَبُ فِي الْأَصْلِ مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ يُطْلَقُ عَلَى الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالْحَدَثِ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ الْمُرَادُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَهُوَ مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ الْأَحْكَامِ مُعْتَمَدَةً كَانَتْ أَوْ لَا، فَيَكُونُ مَذْهَبٌ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى الْمَذْهُوبِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ مَذْهُوبٌ إلَيْهَا لَا فِيهَا، وَقَدْ يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَذْهَبِ عَلَى مَا بِالْفَتْوَى فَيَكُونُ مِنْ إطْلَاقِ الشَّيْءِ عَلَى جُزْئِهِ الْأَعْظَمُ عَلَى حَدِّ: الْحَجُّ عَرَفَةَ. الثَّانِي: قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الْأَحْكَامِ مَا مَعْنَاهُ: فَإِنْ قِيلَ مَا مَعْنَى مَذْهَبِ مَالِكٍ الَّذِي يُقَلَّدُ فِيهِ وَيُتَّبَعُ فِيهِ وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ؟ فَإِنْ قُلْتُمْ: مَذْهَبُهُ مَا يَقُولُهُ مِنْ الْحَقِّ أَشْكَلَ عَلَيْهِ الْوَاحِدُ نِصْفُ الِاثْنَيْنِ وَسَائِرُ الْحِسَابِيَّاتِ وَالْعَقْلِيَّاتِ مِمَّا لَا تَقْلِيدَ فِيهِ، وَإِنْ قُلْتُمْ مَا يَقُولُهُ مِنْ الْحَقِّ فِي خُصُوصِ الشَّرْعِيَّاتِ بَطَلَ ذَلِكَ بِأُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ فَإِنَّهَا أُمُورٌ طَلَبَهَا صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَلَا يَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا لِمَالِكٍ وَلَا لِغَيْرِهِ، إنْ قُلْتُمْ مَذْهَبُهُ وَمَذْهَبُ غَيْرِهِ هُوَ الْفُرُوعُ الشَّرْعِيَّةُ يُقَالُ عَلَيْهِ: إنْ أَرَدْتُمْ جَمِيعَ الْفُرُوعِ الْمَعْلُومَةِ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَصَوْمِ شَهْرِ رَمَضَانَ وَتَحْرِيمِ نَحْوِ الْخَمْرِ وَالسَّرِقَةِ مِمَّا يَسْتَحِيلُ فِيهِ التَّقْلِيدُ لِاسْتِوَاءِ الْعَوَامّ وَالْخَوَاصِّ فِيهِ، فَإِنْ أَرَدْتُمْ بَعْضَ ذَلِكَ فَمَا ضَابِطُهُ؟ وَإِنْ بَيَّنْتُمْ ضَابِطَهُ لَا يَتِمُّ لِكَوْنِ الْحَدِّ لَا يَكُونُ جَامِعًا، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ عَنْهُ الْأَسْبَابُ الْمَوْضُوعَةُ لِتِلْكَ الْأَحْكَامِ وَالشُّرُوطِ الَّتِي نُقَلِّدُهُمْ فِيهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ الْأَحْكَامِ، وَإِنَّمَا نُقَلِّدُهُمْ فِي الْأَحْكَامِ وَهِيَ غَيْرُ الشُّرُوطِ وَالْأَسْبَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ: الْأَحْكَامُ مِنْ خِطَابِ التَّكْلِيفِ وَالْأَسْبَابُ وَالشُّرُوطُ مِنْ خِطَابِ الْوَضْعِ فِيهِمَا بَابَانِ مُتَبَايِنَانِ، وَلِأَجْلِ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ لَا يَكَادُ فَقِيهٌ يَسْأَلُ عَنْ حَقِيقَةِ إمَامِهِ الَّذِي يُقَلِّدُهُ فِيهِ يَحْسُنُ جَوَابُهُ. فَجَوَابُهُ أَنْ يُقَالَ الْمَذَاهِبُ الَّتِي تُقَلَّدُ فِيهَا الْأَئِمَّةُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةُ الْفَرْعِيَّةُ وَالِاجْتِهَادِيَّة وَأَسْبَابُهَا وَشُرُوطُهَا وَمَوَانِعُهَا وَالْحُجَجُ الْمُثْبِتَةُ لِلْأَسْبَابِ وَالشُّرُوطِ وَالْمَوَانِعِ، فَخَرَجَتْ الْعَقْلِيَّةُ كَالْحِسَابِيَّاتِ، وَخَرَجَتْ الْأُصُولِيَّةُ بِالْفَرْعِيَّةِ، وَخَرَجَتْ الضَّرُورِيَّةُ بِالِاجْتِهَادِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْحُجَجِ الْمُثْبِتَةِ الْأَسْبَابَ وَالشُّرُوطَ إلَخْ مَا تَعْتَمِدُهُ الْحُكَّامُ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْأَقَارِيرِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ عَلَى الْخَمْسَةِ قَيْدٌ آخَرَ أَنْ لَا يَكُونَ مُجْمَعًا عَلَيْهِ، فَيُقَالُ مَذْهَبُ مَالِكٍ مَثَلًا مَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ الْفَرْعِيَّةِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ أَسْبَابِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ وَشُرُوطِهَا وَمَوَانِعِهَا. الثَّانِي: لَوْ قَلَّدَ شَخْصٌ مَذْهَبًا مُعَيَّنًا مُلْتَزِمًا لَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَقِلَ لِمَذْهَبٍ آخَرَ هَلْ يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ لِلْعُلَمَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ مُطْلَقًا، عَدَمُ الْجَوَازِ مُطْلَقًا، عَدَمُ الْجَوَازِ إنْ عَمِلَ، وَالْجَوَازُ إنْ لَمْ يَعْمَلْ. وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّنَاتِيُّ الْجَوَازُ فَإِنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ فِي النَّوَازِلِ وَالِانْتِقَالِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: أَنْ لَا يُجْمَعَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ عَلَى صِفَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ. الثَّانِي: مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ وَلَوْ بِوُصُولِ خَبَرٍ إلَيْهِ وَلَا يُقَلِّدُهُ زَمَنًا فِي عَمَائِهِ. الثَّالِثُ: مِنْ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ أَنْ لَا يَتَّبِعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ. هَذَا مُلَخَّصُ مَا نَقَلَهُ الشَّهَابُ الْقَرَافِيُّ عَنْ الزَّنَاتِيِّ، وَنَقَلَ عَنْ غَيْرِهِ جَوَازَ تَقْلِيدِ الْمَذَاهِبِ وَالِانْتِقَالِ إلَيْهَا فِي كُلِّ مَا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي وَهُوَ كُلُّ مَا خَالَفَ قَاطِعًا أَوْ جَلِيَّ قِيَاسٍ. قَالَ الْقَرَافِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنْ أَرَادَ الزَّنَاتِيُّ بِالرُّخَصِ هَذِهِ فَهُوَ حَسَنٌ، وَإِنْ أَرَادَ بِهَا كُلَّ مَا فِيهِ سُهُولَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَيْفَ لَزِمَهُ أَنْ يَكُونَ مَنْ قَلَّدَ مَالِكًا فِي الْمِيَاهِ وَالْأَرْوَاثِ وَتَرْكِ الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ مُخَالِفًا لِتَقْوَى اللَّهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْدِيمُ تَقْلِيدِ الْأَفْضَلِ وَلَوْ مَيِّتًا وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَأَمَّا تَقْلِيدُ الْمَفْضُولِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْمُخْتَارُ يَجُوزُ تَقْلِيدُهُ إنْ اعْتَقَدَهُ أَفْضَلَ أَوْ مُسَاوِيًا لَا إنْ اعْتَقَدَهُ مَفْضُولًا، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ كُلِّ مَذْهَبٍ اعْتِقَادُ أَفْضَلِيَّةِ إمَامِهِمْ. الْخَامِسُ: حُكْمُ التَّقْلِيدِ لِوَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ الْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ الْوُجُوبُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا الْمُقَلِّدِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَقَيَّدْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 الرَّاسِخِينَ، وَبَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينَ. ، لِمَا رَغِبْت فِيهِ مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ لِلْوِلْدَانِ، كَمَا تَعْلَمُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ، لِيَسْبِقَ إلَى   [الفواكه الدواني] بِالْمَذَاهِبِ الْأَرْبَعَةِ لِأَنَّ غَيْرَهُمْ لَمْ يُضْبَطْ مَذْهَبُهُ وَإِلَّا لَجَازَ تَقْلِيدُهُ لِأَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى هُدًى؛ وَإِنَّمَا أَطَلْت فِي ذَلِكَ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَى مَعْرِفَةِ مَا ذُكِرَ. (مَعَ) بِفَتْحِ الْعَيْنِ عَلَى الْفَصِيحِ أَيْ سَأَلْتنِي أَنْ أَكْتُبَ لَك جُمْلَةً مُخْتَصَرَةً مُصَاحِبَةً لِكِتَابَةِ (مَا) أَيْ الَّذِي (سَهَّلَ) أَيْ يَسَّرَ (سَبِيلَ) أَيْ طَرِيقَ (مَا أَشْكَلَ) أَيْ صَعُبَ وَعَسِرَ فَهْمُهُ (مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ فِي الْجُمْلَةِ الْمُخْتَصَرَةِ أَوْ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَطَرِيقَتِهِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُسَهِّلَ بِكَسْرِ الْهَاءِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاسِخِينَ) أَيْ الثَّابِتِينَ فِي الْعِلْمِ مِنْ الصَّحَابَةِ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَّامٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَشْهُورِينَ بِالْعَدَالَةِ. وَكَبَعْضِ أَتْبَاعِ الْإِمَامِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْجَمِيعِ فَإِنَّهُمْ وَضَّحُوا مَا خَفِيَ مَعْنَاهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ. (وَ) مِنْ (بَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينَ) الْمُرَادُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَغَيْرِهِمَا فَإِنَّهُمْ قَيَّدُوا مَا أُطْلِقَ وَخَصَّصُوا مَا عُمِّمَ مِنْ الْآثَارِ، فَإِنَّهُمْ بَيَّنُوا خَبَرَ: «لَا يَخْطُبُ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ» بِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ مَحَلُّ النَّهْيِ إذَا رَكَّبْنَا بِأَنْ تَقَارَبَا وَتَوَافَقَا، وَخَبَرُ مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا لَا يَبِيعُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ، بَيَّنُوا أَنَّهُ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ مَحَلُّ النَّهْيِ إنْ كَانَ الشِّرَاءُ عَلَى الْكَيْلِ لَا إنْ كَانَ اشْتَرَى عَلَى وَجْهِ الْجُزَافِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ هُنَاكَ خُلْطَةٌ أَوْ ظِنَّةٌ فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الْمُسْتَثْنَاةِ، وَأَضَافَ التَّفْسِيرَ لِلرَّاسِخِينَ وَالْبَيَانَ لِلْمُتَفَقِّهِينَ؛ لِأَنَّ التَّفْسِيرَ أُشْرَفُ مِنْ الْبَيَانِ مِنْ حَيْثُ صُعُوبَتِهِ لِأَنَّهُ الْكَشْفُ عَنْ الْمُرَادِ مِنْ اللَّفْظِ، وَالْبَيَانُ هُوَ التَّعْبِيرُ عَنْ إظْهَارِ ذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُرَادِ بِعِبَارَةٍ جَلِيَّةٍ، وَالْفَضْلُ وَالْمَزِيَّةُ لِكَاشِفِ الْمُرَادِ، وَإِنَّمَا قُلْت الْمُرَادُ الْفُقَهَاءُ لِأَنَّ الْمُتَفَقِّهِينَ فِي الْأَصْلِ الْمُتَوَسِّطُونَ فِي الْفِقْهِ وَهَذَا الْمَعْنَى لَا يَصِحُّ هُنَا. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: إذَا أُرِيدَ بِالرَّاسِخِينَ خُصُوصُ الصَّحَابَةِ كَابْنِ عَبَّاسٍ وَمَنْ تَقَدَّمَ مَعَهُ لَمْ يَصِحَّ جَعْلُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ مِنْ ذَلِكَ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَطَرِيقَتِهِ أَيْ قَوْلِهِ وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ لَيْسَ لَهُمْ تَسْهِيلٌ فِي طَرِيقِ مَا أَشْكَلَ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ، وَإِنْ أُرِيدَ بِالرَّاسِخِينَ مُطْلَقُ الثَّابِتِينَ فِي الْعِلْمِ حَتَّى غَيْرِ الصَّحَابَةِ مِنْ أَتْبَاعِ مَالِكٍ، وَلَعَلَّ هَذَا أَوْلَى صَحَّ جَعْلُ الْإِشَارَةِ فِي ذَلِكَ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ وَطَرِيقَتِهِ وَلِلْجُمْلَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ وَبَيَانُ الْمُتَفَقِّهِينَ فَيَصْلُحُ عَلَى كُلِّ تَفْسِيرٍ قِيلَ فِي الرَّاسِخِينَ. الثَّانِي: مَا يَقَعُ مِنْ الصُّوفِيَّةِ فِي بَيَانِ بَعْضِ آيَاتٍ مِمَّا هُوَ مُخَالِفٌ لِمَا يُفِيدُهُ ظَاهِرُهَا، لَيْسَ تَفْسِيرًا لَهَا وَإِنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِمَا تُشِيرُ لَهُ الْآيَةُ وَيَفْهَمُونَهُ مِنْهَا، لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: لَا يَحِلُّ تَفْسِيرُ الْمُتَشَابِهِ إلَّا بِشَيْءٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ خَبَرٍ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ إجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى بَيَانِ مَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ الْجُمْلَةُ، شَرَعَ فِي بَيَانِ سَبَبِ سُؤَالِ مُحْرَزٍ فِي تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ وَكَوْنِهِ مُخْتَصَرًا بِذِكْرِ صِلَةِ سَأَلْتنِي وَعِلَّتُهُ فَقَالَ: (لَمَّا) أَيْ لِأَجْلِ الَّذِي (رَغِبْت) بِفَتْحِ التَّاءِ لِأَنَّ الْخِطَابَ لِمُحْرَزٍ (فِيهِ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ إلَى مَا الْمُبَيِّنَةِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ تَعْلِيمِ ذَلِكَ) الَّذِي سَأَلْت فِيهِ وَهِيَ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ (الْوِلْدَانَ) الصِّغَارَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَيَلْتَحِقُ بِهِمْ جَهَلَةُ الْمُؤْمِنِينَ تَعْلِيمًا مُشْتَمِلًا عَلَى تَدْرِيبٍ وَتَرْتِيبٍ شَيْئًا فَشَيْئًا. (كَمَا تُعَلِّمُهُمْ حُرُوفَ الْقُرْآنِ) لِأَنَّ الْوِلْدَانَ أَوَّلُ مَا يَعْلَمُونَ الْحُرُوفَ لِيَتَوَصَّلُوا لِلْقُرْآنِ، فَالتَّشْبِيهُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّعْلِيمِ وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ: لِئَلَّا يُشْكِلَ بِاقْتِضَائِهِ وُجُوبَ تَعْلِيمِ الْحُرُوفِ كَوُجُوبِ تَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ وَبَعْضِ الْقُرْآنِ كَالْفَاتِحَةِ، وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ تَعْلِيمِ الْعَقَائِدِ وَالشَّرَائِعِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا الْمُكَلَّفُ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقْدُمَ عَلَى حُكْمٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، بِخِلَافِ تَعْلِيمِ مُجَرَّدِ الْحُرُوفِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ حِفْظُ أُمِّ الْقُرْآنِ وَيُسَنُّ كَآيَةٍ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَتَعَلُّمُهُ مُسْتَحَبٌّ، وَتَعَلُّمُ الْفَاتِحَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ الْحُرُوفِ، وَإِضَافَةُ الْحُرُوفِ لِلْقُرْآنِ مِنْ إضَافَةِ الدَّالِّ لِلْمَدْلُولِ إنْ أُرِيدَ بِالْقُرْآنِ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَكُونُ الْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةً، وَتَقْيِيدُ الْأَوْلَادِ بِالْمُسْلِمِينَ لِحُرْمَةِ تَعْلِيمِ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ الْقُرْآنَ زَمَنَ عِلْمِهِمْ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ شَهَادَةٌ وَلَمْ تَصِحَّ لَهُ إمَامَةٌ عَلَى مَذْهَبِ خَلِيلٍ، وَنَصَّ فِي مُخْتَصَرِ الْبُرْزُلِيِّ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَعْلِيمُ أَوْلَادِ الظُّلْمَةِ وَلَا أَوْلَادِ كَتَبَةِ الْمُكُوسِ الْخَطَّ لِأَنَّهُمْ يَتَوَصَّلُونَ بِتَعْلِيمِ ذَلِكَ إلَى كِتَابَةِ الْمَعْصِيَةِ، وَالْمُوَصِّلُ إلَى الْمَعْصِيَةِ مَعْصِيَةٌ وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَوْلَادَ. (لِيَسْبِقَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قُلُوبِهِمْ مِنْ فَهْمِ دَيْنِ اللَّهِ وَشَرَائِعِهِ؛ مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ، وَتُحْمَدُ لَهُمْ عَاقِبَتُهُ: فَأَجَبْتُك إلَى ذَلِكَ؛ لِمَا رَجَوْته لِنَفْسِي   [الفواكه الدواني] قُلُوبِهِمْ) . أَيْ لِأَجْلِ أَنْ يُسْرِعَ إلَى الدُّخُولِ فِي قُلُوبِهِمْ. (مِنْ فَهْمِ دَيْنِ اللَّهِ) بَيَانٌ قُدِّمَ عَلَى الْمُبَيَّنِ وَهُوَ مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ الْآتِي الْوَاقِعِ فَاعِلًا، وَالْفَهْمُ ارْتِسَامُ صُورَةِ مَا فِي الْخَارِجِ فِي الذِّهْنِ، وَالْمُرَادُ مَعْرِفَةُ الْأَحْكَامِ، وَالْجَاهِلُ الْغَافِلُ يُشَارِكُ الصَّبِيَّ فِي ذَلِكَ، وَالْمُرَادُ بِدِينِ اللَّهِ دِينُ الْإِسْلَامِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يُرِيدَ بِهِ مَعْرِفَةَ أُصُولِ الدِّيَانَاتِ بِأَنْ يَعْرِفَ اللَّهَ تَعَالَى بِصِفَاتِهِ، لِأَنَّ مَنْ وَصَفَهُ بِغَيْرِ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ إنْ كَانَ عَنْ قَصْدٍ فَكُفْرٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَأْوِيلٍ فَابْتِدَاعٌ، وَإِنْ كَانَ عَنْ جَهْلٍ فَلَا يُعْذَرُ بِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْ فَهْمٍ وَلَمْ يَقُلْ مِنْ عِلْمٍ لِأَنَّ الْعِلْمَ يَسْتَدْعِي مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْمَعْلُومِ، وَذَلِكَ لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا بَعْدَ الِاتِّصَافِ بِكَمَالِ الْعَقْلِ، وَالصَّغِيرُ لَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا حَظُّهُ مِنْ الْإِدْرَاكِ الْفَهْمُ وَهُوَ انْتِفَاءُ الْوَهْمِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى الْعَقْلِ الَّذِي لَا يُفَارِقُهُ جَهْلُ الصَّبِيِّ إلَّا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ أَنْ يَسْبِقَ إلَى قُلُوبِهِمْ مِنْ فَهْمٍ. (وَشَرَائِعِهِ) جَمْعُ شَرِيعَةٍ وَهِيَ الطَّرِيقَةُ، وَالشَّارِعُ مُبَيِّنُ الْأَحْكَامِ، وَالشَّارِعُ لُغَةً الْبَيَانُ وَاصْطِلَاحًا تَجْوِيزُ الشَّيْءِ أَوْ تَحْرِيمُهُ أَيْ جَعْلُهُ جَائِزًا أَوْ حَرَامًا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الشَّرْعُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ، كَمَا تَعْرِفُ الْعِبَادُ مِنْهُ أَحْكَامَ عَقَائِدِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ صَلَاحُهُمْ فِي دَارِ الْمَعَاشِ وَالْمَعَادِ، وَمَعْنَى وَضْعِ مَوْضُوعٍ وَضَعَهُ الْإِلَهُ، وَالْمَشْرُوعُ مَا أَظْهَرَهُ الشَّرْعُ، فَالْمُرَادُ بِالشَّرَائِعِ فُرُوعُ الشَّرِيعَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَيَطْلُبُ مِنْ الْوَلِيِّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ، وَمِنْ الزَّوْجِ تَعْلِيمَ زَوْجَتِهِ، وَمِنْ السَّيِّدِ تَعْلِيمَ رَقِيقِهِ. قَالَ الْعَوْفِيُّ وَغَيْرُهُ: لِأَنَّ الْعِلْمَ بِأُمُورِ الدِّينِ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي الْعَيْنِيَّاتِ وَكِفَايَةٍ فِي غَيْرِهَا، لَا يَسَعُ الْمُكَلَّفَ جَهْلُهُ، وَعَلَيْهِ الْإِثْمُ فِي كُلِّ زَمَانٍ يَمُرُّ عَلَيْهِ يُمْكِنُهُ فِيهِ تَحْصِيلُهُ فَيُضَيِّعُهُ بِتَرْكِ التَّعَلُّمِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمُكَلَّفٍ الْإِقْدَامُ عَلَى حُكْمٍ قَبْلَ مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ فِيهِ وَلَمْ تَحْكِ الْأَئِمَّةُ فِي ذَلِكَ خِلَافًا، وَالْحُكْمُ عَامٌّ فِي الْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الَّتِي لَا بُدَّ لَهُ مِنْ التَّلَبُّسِ بِهَا، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُصَنِّفِ دِينَ اللَّهِ عَلَى شَرَائِعِهِ وُجُوبُ تَعَلُّمِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ مِنْ وَاجِبٍ وَجَائِزٍ وَمُسْتَحِيلٍ ابْتِدَاءً، لِأَنَّ فَهْمَ دِينِ اللَّهِ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ كُلِّ عِبَادَةٍ، وَالشَّرْطُ مُقَدَّمٌ عَلَى الْمَشْرُوطِ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَتَعَلُّمُ أَحْكَامِ الشَّرَائِعِ مِنْ صِحَّةٍ وَبُطْلَانٍ وَتَحْلِيلٍ وَتَحْرِيمٍ بَعْدَ ذَلِكَ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إضَافَةُ دِينٍ إلَى اللَّهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّخْصِيصِ، لِأَنَّ لَفْظَ الدِّينِ يُطْلَقُ عَلَى دِينِ اللَّهِ وَعَلَى غَيْرِهِ بِالِاشْتِرَاكِ اللَّفْظِيِّ، وَأَمَّا إطْلَاقُهُ عَلَى الْأَدْيَانِ الْحَقَّةِ فَهُوَ بِالِاشْتِرَاكِ الْمَعْنَوِيِّ وَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الْمُشْكِلِ لَا الْمُتَوَاطِئِ لِاخْتِلَافِ الْأَدْيَانِ. الثَّانِي: الدِّينُ لُغَةً الطَّاعَةُ وَالْعَادَةُ وَالْجَزَاءُ وَكُلُّ مَا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَهُوَ وَضْعٌ إلَهِيٌّ سَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودَ فِيمَا هُوَ خَيْرٌ لَهُمْ بِالذَّاتِ، أَيْ مَوْضُوعٌ وَأَحْكَامٌ وَضَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِلْعِبَادِ، فَرْعِيَّةٌ كَالْأَعْمَالِ أَوْ أَصْلِيَّةٌ كَالِاعْتِقَادِيَّاتِ نَحْوَ الْعِلْمِ بِأَنَّ اللَّهَ قَادِرٌ، فَخَرَجَ بِالْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ الْأَوْضَاعُ الْبَشَرِيَّةُ ظَاهِرًا نَحْوُ الرُّسُومِ السِّيَاسِيَّةِ وَالتَّدْبِيرَاتِ الْمَعَاشِيَّةِ وَالصِّنَاعِيَّةِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ " سَائِقٌ " الْأَوْضَاعُ الْإِلَهِيَّةُ غَيْرُ السَّائِقَةِ كَإِنْبَاتِ الْأَرْضِ وَإِمْطَارِ السَّمَاءِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ لِذَوِي الْعُقُولِ مَا يَسُوقُ غَيْرَهُمْ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ كَالْأَوْضَاعِ الطَّبِيعِيَّةِ الَّتِي تَهْتَدِي بِهَا الْحَيَوَانَاتُ لِمَنَافِعِهَا وَمَضَارِّهَا، وَخَرَجَ بِالِاخْتِيَارِ الْأَوْضَاعُ الْإِلَهِيَّةُ الِاتِّفَاقِيَّةُ وَالْقَسْرِيَّةُ السَّائِقَةُ لَا فِي الِاخْتِيَارِ كَالْوِجْدَانِيَّاتِ، وَخَرَجَ بِالْمَحْمُودِ الْكُفْرُ فَإِنَّهُ وَضْعٌ إلَهِيٌّ عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِخَلْقِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ وَسَائِقٌ لِذَوِي الْعُقُولِ بِاخْتِيَارِهِمْ لَكِنْ بِاخْتِيَارٍ مَذْمُومٍ وَبِالذَّاتِ مُتَعَلِّقٌ بِسَائِقٍ، يَعْنِي أَنَّ الْوَضْعَ الْإِلَهِيَّ بِذَاتِهِ سَائِقٌ لِأَنَّهُ مَا وُضِعَ إلَّا لِذَلِكَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ خَيْرًا بِالذَّاتِ أَنَّهُ خَيْرٌ بِالنَّظَرِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَتَخْرُجُ صِنَاعَةُ الطِّبِّ وَالْفِلَاحَةُ فَإِنَّهُمَا وَإِنْ تَعَلَّقَتَا بِالْوَضْعِ الْإِلَهِيِّ أَعْنِي تَأْثِيرَ الْأَجْرَامِ الْعُلْوِيَّةِ فِي السُّفْلِيَّةِ وَكَانَتَا سَائِقَتَيْنِ لِذَوِي الْأَلْبَابِ بِاخْتِيَارِهِمْ الْمَحْمُودَ إلَى صِنْفٍ مِنْ الْخَيْرَاتِ، فَلَيْسَتَا تُؤَدِّيَانِهِمْ إلَى الْخَيْرِ الذَّاتِيِّ الَّذِي هُوَ السَّعَادَةُ الْأَبَدِيَّةُ وَالْقُرْبُ إلَى خَالِقِ الْبَرِّيَّةِ وَالْخَيْرُ النَّفْعُ الَّذِي لَا ضَرَرَ مَعَهُ وَهُوَ حُصُولُ الشَّيْءِ لِمَا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ حَاصِلًا لَهُ وَمُنَاسِبًا لَهُ، فَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَمَالِ اعْتِبَارِيٌّ، لِأَنَّ الْحَاصِلَ الْمُنَاسِبَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ خَارِجٌ مِنْ الْقُوَّةِ إلَى الْفِعْلِ كَمَالٌ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مُؤَثِّرٌ خَيْرٌ. الثَّالِثُ: أُمُورُ الدِّينِ أَرْبَعَةٌ: الصِّحَّةُ بِالْعَقْدِ، وَالصِّدْقِ بِالْقَصْدِ، وَالْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ، وَاجْتِنَابُ الْحَدِّ. أَمَّا الصِّحَّةُ بِالْعَقْدِ فَالِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ السَّالِمُ مِنْ التَّشْبِيهِ وَالتَّعْطِيلِ وَالتَّجْسِيمِ فِي صِفَاتِ اللَّهِ، وَأَمَّا الصِّدْقُ بِالْقَصْدِ فَالْعِبَادَاتُ بِالنِّيَّةِ وَالْعَمَلُ بِالْإِخْلَاصِ، وَأَمَّا الْوَفَاءُ بِالْعَهْدِ فَأَدَاءُ الْفَرَائِضِ فِي أَوْقَاتِهَا، وَأَمَّا اجْتِنَابُ الْحَدِّ فَاجْتِنَابُ مَحَارِمِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَجْمَعُ هَذِهِ كُلَّهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} [الحشر: 7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وَلَك مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلِمَ دِينَ اللَّهِ أَوْ دَعَا إلَيْهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ الْقُلُوبِ: أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا لَمْ   [الفواكه الدواني] وَفَاعِلُ يَسْبِقُ (مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَجُمْلَةُ تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ صِلَةٌ، وَالرَّجَاءُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِمَطْمُوعٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْأَخْذِ فِي السَّبَبِ فَهُوَ طَمَعٌ وَهُوَ قَبِيحٌ وَالرَّجَاءُ حَسَنٌ، وَالضَّمِيرُ فِي " لَهُمْ " لِلْأَوْلَادِ وَفِي " بَرَكَتُهُ " لِمَا، وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَزِيَادَتُهُ. (وَ) الَّذِي (تُحْمَدُ) أَيْ تُمْدَحُ (لَهُمْ عَاقِبَتُهُ) أَيْ آخِرَتُهُ لِأَنَّ عَاقِبَةَ كُلِّ شَيْءٍ آخِرَتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامُ الشَّرَائِعِ فِي قُلُوبِ الصِّبْيَانِ ثَبَتَ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْرُقُ الْقُلُوبَ زَمَنَ خُلُوِّهَا مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا يَثْبُتُ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ مَا ثَبَتَ، وَلَا سِيَّمَا يَصِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ سَهْلًا خَفِيفًا، فَيُحْمَدُونَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا لِمَا قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ لَا يُبَدَّلُ بِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا يُبَدَّلُ بِمَنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ سَيِّئَةٍ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ يُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَثَوَابُهَا لَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا فِي خَبَرِ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ. وَلَمَّا انْقَضَى السُّؤَالُ وَسَبَبُهُ ذَكَرَ الْجَوَابَ فَقَالَ: (فَأَجَبْتُك) الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ بِالسُّؤَالِ وَالْخِطَابُ لِمُحْرَزٍ السَّائِلِ، وَمَعْنَى أَجَبْتُك أَيْ أَسْعَفْتُك وَوَصَلْتُك (إلَى ذَلِكَ) الَّذِي قَصَدْته بِسُؤَالِك وَهُوَ الشُّرُوعُ فِي كَتْبِ الْجُمْلَةِ الْمُخْتَصَرَةِ، فَالْإِشَارَةُ عَائِدَةٌ عَلَى السُّؤَالِ بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ امْتِثَالِهِ لِلْإِتْيَانِ بِالْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: (لَمَّا رَجَوْت لِنَفْسِي وَ) رَجَوْته (لَك) يَا مُحْرَزُ (فِيهِ) أَيْ فِي الْجَوَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَرَجَّاهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلِمَ) أَيْ فَهِمَ (دِينَ اللَّهِ) أَيْ دِينَ الْإِسْلَامِ (أَوْ دَعَا إلَيْهِ) أَيْ إلَى تَعْلِيمِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ، وَالْمَعْنَى: إنَّمَا أَجَبْتُك لِابْتِغَاءِ حُصُولِ الثَّوَابِ لِي وَلَك الْمُتَرَتِّبِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَعَلَى الدُّعَاءِ إلَيْهِ لَا لِذَاتِك وَلَا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيَّ وَلَا لِقَصْدِ دُنْيَا، وَلَا يُقَالُ: الْمُصَنِّفُ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّأْلِيفُ تَعْلِيمٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْ التَّأْلِيفِ وَالتَّعْلِيمِ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَأَوْفَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنْوِيعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَالْمُعَلِّمُ الْمُصَنِّفُ وَالدَّاعِي مُحْرَزٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُصَنِّفِ وَمُحْرَزٍ مُعَلِّمٌ وَدَاعٍ، فَالتَّأْلِيفُ تَعْلِيمٌ إذْ هُوَ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَهُوَ دَاعٍ وَمُعَلِّمٌ وَمُحْرَزٌ كَذَلِكَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: 33] . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ - بِفَتْحِ اللَّامِ - يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَمَنْ تَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا» وَرَوَى صِدِّيقًا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُجَاهِدِ وَالْعَابِدِ: اُدْخُلَا الْجَنَّةَ، فَتَقُولُ الْعُلَمَاءُ: يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا جَاهَدُوا وَعَبَدُوا فَمَا لَنَا عِنْدَك؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلَائِكَتِي اشْفَعُوا لِعِبَادِي كَمَا كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ أَدَبَهُمْ وَتُعَلِّمُونَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مِنْ دَاعٍ إلَى هُدًى إلَّا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِهِمْ شَيْءٌ» . وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كُنَّا إذَا وَدَّعْنَا مَالِكًا يَقُولُ لَنَا: اتَّقُوا اللَّهَ وَافْشُوَا الْعِلْمَ بَيْنَكُمْ وَلَا تَكْتُمُوهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ لِيَتَعَلَّمَ عِلْمًا أَوْ يُعَلِّمَهُ رَجَعَ غَانِمًا كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ إلَّا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ» . وَحَدِيثُ «سَبْعَةٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا» إلَخْ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ. وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمُهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى ثَوَابِ مَنْ عَلَّمَ وَدَعَا، وَأَطَلْنَا بِهَا تَرْغِيبًا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ بِهِ تُنَالُ السَّعَادَةُ فِي الدَّارَيْنِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إجَابَةُ الْمُصَنِّفِ لِلسَّائِلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا أَنَّ إجَابَةَ السُّؤَالِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِجَابَةِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الْمَسْئُولِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَسْئُولِ، لَكِنْ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا أَجَابَ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا أَجَابَ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ رَاجِحًا مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْأَلَ السَّائِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ. ثَانِيهَا: أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ النَّازِلَةِ بِتَرْكِ الْجَوَابِ. وَثَالِثِهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ بَالِغًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يَسْبِقْ الشَّرُّ إلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ، وَرَغَّبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ: إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَرْسَخَ فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ؛ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ   [الفواكه الدواني] وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَإِنْ انْفَرَدَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَأَمَّا السَّائِلُ فَلَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ حَيْثُ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَخِيفَ فَوَاتُ النَّازِلَةِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ إلَّا لِمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَا وَجْهَ لِعَدِّ الْعِلْمِ شَرْطًا. الثَّانِي: إذَا كَانَتْ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً امْتَنَعَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْأَخْذُ عَلَيْهَا بِالرِّفْقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا. الثَّالِثُ: اسْتَشْكَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِمَا رَجَوْت، مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ مَعَ خُلُوصِ النِّيَّةِ مُحَقَّقٌ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِخْلَاصَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِوُجُودِهِ، وَعَلَى فَرْضِ وُجُودِهِ الْقَبُولُ لِلْعَمَلِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْإِثَابَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْقَبُولِ. وَثَانِيهِمَا: احْتِمَالُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْسِبَ التَّقْصِيرَ إلَى نَفْسِهِ فِي طَاعَتِهِ وَجَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَخَافُ عَدَمَ الْقَبُولِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا وَهُوَ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ خَالِيًا مِنْ الْمَعَاصِي وَالشَّوَاغِلِ لَيَعْظُمَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَعْلِيمِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَاعْلَمْ) أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ (أَنَّ خَيْرَ) أَيْ أَحْسَنَ (الْقُلُوبِ) (أَوْعَاهَا) أَيْ أَحْفَظَهَا (لِلْخَيْرِ) ضِدُّ الشَّرِّ، فَلَيْسَ كَخَيْرِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ اشْتَرَكَتْ فِي حِفْظِ الْخَيْرِ وَأَحْسَنَهَا وَأَفْضَلَهَا أَشَدُّهَا حِفْظًا وَضَبْطًا لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَوْعَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لَا يُبْنَى إلَّا مِنْ الَّذِي يُبْنَى مِنْهُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: صُغْ مِنْ مَصُوغٍ مِنْهُ لِلتَّعَجُّبِ ... أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأْبَ اللَّذِّ أَبِي وَأَوْعَى زَائِدٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ أَوْعَى مِنْ وَعَى الْمُجَرَّدُ لَا مِنْ أَوْعَى (وَ) اعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ (أَرْجَى الْقُلُوبِ) أَيْ أَقْرَبَهَا (لِلْخَيْرِ) أَيْ لِحِفْظِهِ وَقَبُولِهِ (مَا) أَيْ قَلْبٌ (لَمْ يَسْبِقْ) أَيْ يُسْرِعْ (الشَّرُّ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ الشَّرَّ إلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْصِيَةُ يَقْبَلُ كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَإِذَا سَبَقَ الشَّرُّ إلَيْهِ عَظُمَتْ الْحِيلَةُ فِي إزَالَتِهِ فَيَنْدُرُ قَبُولُهُ لِلْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بَعْضُهُمْ الْقَلْبَ بِآنِيَةِ الْفَخَّارِ الْجَدِيدَةِ يُجْعَلُ فِيهَا الْقَطِرَانُ فَلَا تَزُولُ رَائِحَتُهُ مِنْهَا إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَحَكَّمَا وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الشَّرُّ أَكْثَرُ وَالرُّكُونُ إلَيْهِ أَسْرَعُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الصِّبَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصِّبَا شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ» وَالْقَابِلِيَّةُ فِي مُدَّةِ الصِّبَا لِلشَّرِّ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ مِنْ قَابِلِيَّةِ الْخَيْرِ لِإِعَانَةِ الْجَهْلِ وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْعَقْلِ الْوَافِرِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَ الصَّبِيَّ الْقُرَنَاءَ السُّوءَ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الشَّبَابِ، وَالطِّبَاعُ تَسْرِقُ وَلَا سِيَّمَا مِنْ الْمُصَاحِبِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ، وَالصَّاحِبُ كَالرُّقْعَةِ فِي الثَّوْبِ فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْقِعُ ثَوْبَهُ» . تَنْبِيهٌ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ حَثًّا لِلشَّيْخِ مُحْرَزٍ وَغَيْرِهِ عَلَى تَعْلِيمِهَا لِمَنْ يَقْبَلُ فَهْمَ مَعْنَاهَا بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبُهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ مَنْ قَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِمَا يَمْنَعُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا مَا هُوَ كَالتَّعْلِيلِ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَأَوْلَى) مُبْتَدَأٌ وَهُوَ بِمَعْنَى أَحَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا. (مَا عُنِيَ) بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ أَيْ اهْتَمَّ وَاشْتَغَلَ (بِهِ النَّاصِحُونَ) فَاعِلٌ بِمَعْنَى لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ كَحُمَّ وَزُكِمَ، وَبِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ لِغِيَّةٍ، وَالنَّاصِحُونَ الْخَالِصُونَ الْمُرْشِدُونَ لِلْخَيْرِ الْمُحَذِّرُونَ مِنْ الشَّرِّ. (وَرُغِبَ) مَعْطُوفٌ عَلَى عُنِيَ أَيْ طُمِعَ (فِي) تَحْصِيلِ (أَجْرِهِ) أَيْ ثَوَابِهِ. (الرَّاغِبُونَ) الطَّالِبُونَ وَخَبَرُ أَوْلَى الْوَاقِعُ مُبْتَدَأٌ (إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ) وَإِرْشَادُهُمْ إلَى فَهْمِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَوْلَادَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ جَهَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (لِيَرْسَخَ) أَيْ يَثْبُتَ (فِيهَا) أَيْ الْقُلُوبِ وَتَنْقَادُ إلَيْهِ طَبَائِعُهُمْ وَيَنْطَاعُونَ إلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ قُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا. (وَتَنْبِيهُهُمْ) بِالرَّفْعِ لِعَطْفِهِ عَلَى " إيصَالُ " أَيْ إيقَاظُهُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَإِيقَافُهُمْ (عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ) وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَى الدِّيَانَةِ. (وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى (حُدُودِ الشَّرِيعَةِ) وَمَعْنَى تَنْبِيهِهِمْ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ إيقَافُهُمْ عَلَيْهَا لِيَتَجَنَّبُوهَا، كَالزِّنَا وَالشِّرْكِ وَالشُّرْبِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ الْأَوْلَوِيَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 الدِّينِ قُلُوبُهُمْ، وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ: يُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ، وَأَنَّ تَعْلِيمَ   [الفواكه الدواني] بِقَوْلِهِ: (لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا) أَيْ إنَّمَا كَانَ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ مَا ذَكَرَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَرَّنُوا عَلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا وَتَصِيرَ لَهُمْ كَالْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي قُلُوبِهِمْ تَنْقَادُ إلَيْهَا طَبَائِعُهُمْ، كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي تُرَاضُ لِلتَّعْلِيمِ لِيَحْصُلَ مِنْهَا الْمُرَادُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّمْ كَانَتْ جَمُوحًا لَا تَنْقَادُ لَا خَيْرَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ تَدْرِيبُ الصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَيُجَنِّبُهُ مَا تُخْشَى عَاقِبَتُهُ، لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَسْرِقُ، فَمُخَالِطُ الْعُلَمَاءِ يَكْتَسِبُ مِنْهُمْ وَمُخَالِطُ السُّفَهَاءِ كَذَلِكَ. (وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ (مَا) أَيْ الَّذِي يَجِبُ (عَلَيْهِمْ) بَعْدَ بُلُوغِهِمْ (أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ) وَهُوَ عَقَائِدُ الْإِيمَانِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبِقَوْلِنَا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادٌ وَلَا عَمَلٌ. (وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا (تَعْمَلُ) أَيْ تَشْتَغِلُ (بِهِ جَوَارِحُهُمْ) أَيْ أَعْضَاؤُهُمْ، وَيُقَالُ لَهَا الْكَوَاسِبُ لِأَنَّ بِهَا يَكْتَسِبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ جَوَارِحَ. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَكْتَسِبُ بِهَا، فَمَا مَوْصُولَةٌ كَمَا بَيَّنَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَعَالِمَ وَلَيْسَتْ اسْتِفْهَامِيَّةً وَلَا نَافِيَةً، وَالْمَعْنَى: وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إلَخْ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى اعْتِقَادِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَعْمَلُ بِهِ جَوَارِحُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ. تَنْبِيهٌ: قَدْ ادَّعَى بَعْدَ تَكْرَارِ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ مَعَ مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَتَكْرَارِ مَا تَعْمَلُ بِهِ جَوَارِحُهُمْ مَعَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنْ حَمْلِ مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَحَمْلِ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، وَحَمْلِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ مِنْ نَحْوِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا، وَمَا تَعْمَلُ بِهِ الْجَوَارِحُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ الْمُصَنِّفُ: وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إيصَالُ. . . إلَخْ مَعَ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَوْلَى مِنْ إيصَالِ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ : الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» . وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . وَقَالَ فِي آخَرَ: «الْجِهَادُ» . فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّعَارُضُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَالطَّبِيبِ، فَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ بِرِّ وَالِدَيْهِ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ بِرُّهُمَا. وَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِقَوْلِهِ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا. وَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ مَحَبَّتِهِ الْجِهَادَ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْجِهَادُ، أَوْ أَنَّ مِنْ مَقْدِرَةٌ فِي كَلَامِهِ أَيْ وَمِنْ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إلَخْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ بِالِاشْتِغَالِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ لَمْ أَعْلَمْ مَنْ بَيَّنَهُ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا اشْتَدَّ طَلَبُهُ وَكَثُرَ ثَوَابُهُ مِنْهَا. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَخْ بِثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ قَالَ: (فَإِنَّهُ) أَيْ الْحَالُ وَالشَّأْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَرْجِعٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُسَمَّى ضَمِيرَ شَأْنٍ وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً لَهُ، لِأَنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ وَهِيَ جُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ، وَالْفَاءُ هُنَا لِرَبْطِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا رَبْطَ الْجَوَابِ بِالسُّؤَالِ لَا كَرَبْطِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي الْأَحَادِيثِ وَالشُّرُوطِ بِالْمَشْرُوطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ قُلْت كَذَا؟ قَالَهُ فِي الْجَوَابِ فَإِنَّهُ (رُوِيَ) قِيلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ كَلَامِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مَعْنًى. (أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ حَتَّى جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ أُعْطِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ» أَيْ عَلِمَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ. (وَيُطْفِئُ) أَيْ يُخْمِدُ وَيُسْكِنُ (غَضَبَ اللَّهِ) وَتَفْسِيرُنَا الْإِطْفَاءَ بِالْإِخْمَادِ تَفْسِيرٌ لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا رَدُّ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ بِالْغَضَبِ، وَرَدُّهُ إمَّا عَنْ آبَائِهِمْ أَوْ عَمَّنْ تَسَبَّبَ فِي تَعْلِيمِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ عَنْ الْمَجْمُوعِ أَوْ يُرَدُّ الْعَذَابُ عُمُومًا، وَالْغَضَبُ فِي الْأَصْلِ هَيَجَانُ الدَّمِ وَغَلَيَانُهُ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ صَرْفُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى إلَى لَازِمِهِ. فَإِذَا قِيلَ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ أَوْ ذَمَّهُ وَهُمَا رَاجِعَانِ إلَى صِفَةِ الذَّاتِ، أَوْ بِمَعْنَى أَوْقَعَ بِهِ الِانْتِقَامَ فَيَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ الْغَضَبُ فِي كَلَامِهِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الَّذِي عَلَاقَتُهُ اللَّازِمِيَّةُ وَالْمَلْزُومِيَّة، وَالْمُرَادُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِ مَالِكٍ: لَا تُعَلِّمْ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ الْقُرْآنَ. وَرُوِيَ أَيْضًا: «الصِّغَارُ فِي الْمَكَاتِبِ شُفَعَاءُ الْكِبَارِ ذَوِي الْمَعَائِبِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا: «إذَا اسْتَوْجَبَ النَّاسُ الْعِقَابَ نَظَرَ اللَّهُ لِلصِّغَارِ فِي الْمَكَاتِبِ فَيَدْفَعُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الشَّيْءَ فِي الصِّغَرِ: كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ. وَقَدْ مَثَّلْت لَك مِنْ ذَلِكَ: مَا يَنْتَفِعُونَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ، وَيَشْرُفُونَ بِعِلْمِهِ،   [الفواكه الدواني] عَنْهُمْ» وَرُوِيَ أَيْضًا: «إذَا تَتَابَعَ النَّاسُ بِالْمَعَاصِي وَأَظْلَمَتْ الْأَرْضُ بِأَهْلِ الْفِسْقِ وَعُبِدَتْ الصُّلْبَانُ وَسُجِدَتْ لِلنِّيرَانِ وَاسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ نَظَرَ اللَّهُ إلَى أَصْوَاتِ الْأَوْلَادِ فِي الْمَكَاتِبِ وَالْمُؤَذِّنِينَ فِي الْمَنَائِرِ فَيَحْلَمُ عَلَيْهِمْ وَيَرُدُّ مَا يَسْتَحِقُّونَ مِنْ الْعَذَابِ» . (وَ) الْحَدِيثُ الثَّانِي مَا رُوِيَ (أَنَّ تَعْلِيمَ الشَّيْءِ فِي) حَالِ (الصِّغَرِ) يَثْبُتُ (كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ) زَادَ فِي النَّوَادِرِ عَلَى هَذَا: وَالتَّعْلِيمُ فِي الْكِبَرِ كَالنَّقْشِ عَلَى الْمَاءِ، وَمَا زَادَهُ فِي النَّوَادِرِ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي الرِّوَايَةِ الْآتِيَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْكَبِيرِ مَرْفُوعًا عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ بِغَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ بَلْ بِلَفْظٍ «مَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ فِي صِغَرِهِ كَالنَّقْشِ فِي الْحَجَرِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ فِي كِبَرِهِ كَاَلَّذِي يَكْتُبُ عَلَى الْمَاءِ» ، وَالْحَدِيثَانِ دَالَّانِ عَلَى فَضْلِ تَعَلُّمِ الْوِلْدَانِ، وَتَعْلِيمُ كِتَابِ اللَّهِ الْمُرَادُ مِنْهُ تَعْلِيمُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي حَتَّى تَحْصُلَ مَعْرِفَةُ الِاعْتِقَادِ وَالشَّرَائِعِ، وَحِينَئِذٍ صَحَّ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ وَسَقَطَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ هَذَا الدَّلِيلَ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ كِتَابِ اللَّهِ بَعْضُ الْخَيْرِ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُتَعَلَّمُ حُرُوفُهُ دُونَ مَعَانِيهِ، وَمِنْ شَرْطِ الدَّلِيلِ كَوْنُهُ أَعَمَّ مِنْ الْمَدْلُولِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ، وَالْحَدِيثُ بِهَذَا الْمَعْنَى لَيْسَ كَذَلِكَ إذْ لَا يُعْلَمُ مِنْهُ مَعْرِفَةُ اعْتِقَادٍ وَلَا شَرَائِعَ، بِخِلَافِ مَا إذَا أُرِيدَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللَّهِ تَعْلِيمُ الْحُرُوفِ وَالْمَعَانِي صَارَ الدَّلِيلُ مُسَاوِيًا لِلْمَدْلُولِ بَلْ أَعَمَّ، لِأَنَّ مَعَانِيَ الْقُرْآنِ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ الْمَدْلُولِ، وَإِنَّمَا رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّ قَلْبَ الصَّغِيرِ فَارِغٌ مِنْ وَسْوَاسِ هُمُومِ الدُّنْيَا، وَإِنْ كَانَ عَقْلُ الْكَبِيرِ أَرْجَحُ لَكِنَّ الْوَسْوَاسَ وَالْخَوَاطِرَ تُزِيلُهُ. قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَوْ كُلِّفْت بِصِلَةِ مَا حَفِظْت حَدِيثًا. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: يَنْبَغِي لِمَنْ لَهُ وِلَايَةٌ عَلَى صَغِيرٍ الرِّفْقُ بِهِ فَلَا يُكَلِّفُهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُهُ. قَالَهُ فِي سَمَاعِ أَشْهَبَ مِنْ كِتَابِ الْجَامِعِ قَالَ: وَسَمِعْته يَسْأَلُ عَنْ صَبِيٍّ ابْنِ سَبْعِ سِنِينَ جَمَعَ الْقُرْآنَ، قَالَ: مَا أَرَى هَذَا يَنْبَغِي. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّمَا قَالَ هَذَا لَا يَنْبَغِي مِنْ أَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ التَّشْدِيدِ عَلَيْهِ فِي التَّأْدِيبِ وَالتَّعْلِيمِ وَهُوَ صَغِيرٌ جِدًّا وَتَرْكُ الرِّفْقِ بِهِ فِي ذَلِكَ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ وَيَجِبُ الرِّفْقُ مِنْ الْأَمْرِ كُلِّهِ» . الثَّانِي: أَوَّلُ مَنْ جَمَعَ الْأَوْلَادَ فِي الْمَكْتَبِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَأَمَرَ عَامِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ الْخُزَاعِيَّ أَنْ يُلَازِمَهُمْ لِلتَّعْلِيمِ وَجَعَلَ رِزْقَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَكَانَ مِنْهُمْ الْبَلِيدُ وَالْفَهِيمُ فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ لِلْبَلِيدِ فِي اللَّوْحِ وَيُلَقِّنَ الْفَهِيمَ مِنْ غَيْرِ كَتْبٍ، وَكَانَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُشْهِدُهُمْ عَلَى الْأُمُورِ الَّتِي يَخَافُ عَلَيْهَا الِانْقِطَاعَ بِطُولِ الزَّمَانِ كَالنَّسَبِ وَالْجِنْسِ وَالْوَلَاءِ، فَسَأَلَتْهُ الْأَوْلَادُ أَنْ يَشْرَعَ لَهُمْ التَّخْفِيفَ فَأَمَرَ الْمُعَلِّمَ بِالْجُلُوسِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى الضُّحَى الْعَالِي، وَمِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَيَسْتَرِيحُونَ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، إلَى أَنْ خَرَجَ إلَى الشَّامِ عَامَ فَتْحِهَا فَمَكَثَ شَهْرًا، ثُمَّ إنَّهُ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ وَقَدْ اسْتَوْحَشَ النَّاسُ مِنْهُ فَخَرَجُوا لِلِقَائِهِ فَتَلَقَّاهُ الصِّغَارُ عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمٍ وَكَانَ ذَلِكَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَبَاتُوا مَعَهُ وَرَجَعَ بِهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَتَعِبُوا فِي خُرُوجِهِمْ وَرُجُوعِهِمْ فَشَرَعَ لَهُمْ الِاسْتِرَاحَةَ فِي الْيَوْمَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ، فَصَارَ ذَلِكَ سُنَّةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَدَعَا بِالْخَيْرِ لِمَنْ أَحْيَا هَذِهِ السُّنَّةَ وَدَعَا بِضِيقِ الرِّزْقِ لِمَنْ أَمَاتَهَا. (وَقَدْ مَثَّلْت) أَيْ بَيَّنْت (لَك) يَا مُحْرَزُ أَيْ جَعَلْت لَك الْمَسَائِلَ وَاضِحَةً كَالْمِثَالِ الْمُوَضِّحِ لِلْقَوَاعِدِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ الْمَسَائِلَ الَّتِي اشْتَمَلَتْ عَلَيْهَا الْجُمْلَةُ كَالشَّيْءِ الْمُدْرَكِ بِالْحِسِّ بِحَيْثُ يَفْهَمُهُ الْبَلِيدُ لِأَنَّهُ وَضَّحَ جَمِيعَ مَا يَذْكُرُهُ بِبَيَانِ صِفَتِهِ، كَبَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِهَا مِنْ صِفَةِ الزَّكَاةِ، وَمَنْ اعْتَنَى بِكَلَامِهِ وَجَدَهُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَالْمُرَادُ تَمْثِيلُهَا فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِأَنَّ هَذَا إخْبَارٌ عَمَّا يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَقَوْلُهُ: مَثَّلْت مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْمَاضِي عَنْ الْمُسْتَقْبَلِ لِتَحَقُّقِ وُقُوعِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِعِلَّةِ رَجَائِهِ فِي إقْدَارِ اللَّهِ لَهُ عَلَى إتْمَامِ مَا قَصَدَ، فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي» إلَخْ. (مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ فِي السُّؤَالِ وَهُوَ الْجُمْلَةُ الْمُخْتَصَرَةُ، وَمَفْعُولُ مَثَّلْت (مَا يَنْتَفِعُونَ) أَيْ الْوِلْدَانُ (إنْ شَاءَ اللَّهُ) النَّفْعَ (بِحِفْظِهِ) وَأَتَى بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا} [الكهف: 23] {إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 24] (وَيَشْرُفُونَ) بِضَمِّ الرَّاءِ (بِعِلْمِهِ) أَيْ يَنَالُونَ الرِّفْعَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِمَعْرِفَتِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَمَاضِيهِ شَرُفَ بِضَمِّ الرَّاءِ شَرَفًا بِفَتْحِهِ إذَا نَالَ الْعُلُوَّ، وَيُقَالُ: شَرَفَ بِفَتْحِ الرَّاءِ شُرُوفًا بِضَمِّ الشِّينِ إذَا كَبِرَ وَأَسَنَّ، وَيُقَالُ: أَشْرَفَ الشَّيْءُ إذَا ارْتَفَعَ، وَأَشْرَفَ الْمَرِيضُ إذَا انْتَهَى إلَى الْمَوْتِ، وَأَشْرَفْت عَلَى الشَّيْءِ إذَا عَلَوْت عَلَيْهِ، وَشَرَفُ الْعِلْمِ وَعُلُوُّ مَرْتَبَتِهِ وَمَنْزِلَةُ صَاحِبِهِ الْعَامِلِ بِهِ لَا يُنَازِعُ فِيهِ عَاقِلٌ، إذْ لَا شَيْءَ أَعْظَمُ مَرْتَبَةً مِنْ الْعِلْمِ، حَتَّى قِيلَ: إنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وَيَسْعَدُونَ بِاعْتِقَادِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ. وَقَدْ جَاءَ أَنْ يُؤْمَرُوا بِالصَّلَاةِ: لِسَبْعِ سِنِينَ، وَيُضْرَبُوا عَلَيْهَا لِعَشْرٍ، وَيُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي   [الفواكه الدواني] أَفْضَلُ مِنْ الْعَقْلِ عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهُ تَعَالَى يَتَّصِفُ بِهِ وَلَا يَتَّصِفُ بِالْعَقْلِ. (وَيَسْعَدُونَ) أَيْضًا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى (بِاعْتِقَادِهِ) أَيْ بِالْجَزْمِ بِهِ كَاعْتِقَادِ وُجُودِ الْبَارِي جَلَّ وَعَلَا وَاتِّصَافِهِ بِسَائِرِ أَوْصَافِ الْكَمَالِ وَتَنَزُّهِهِ عَنْ أَوْصَافِ النُّقْصَانِ وَصِدْقِ الرُّسُلِ فِي كُلِّ مَا أَخْبَرُوا بِهِ. (وَالْعَمَلِ بِهِ) بِسَائِرِ الْجَوَارِحِ الَّتِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الْعَمَلُ، وَالْمُرَادُ الْعَمَلُ عَلَى وَجْهِ الْإِخْلَاصِ لِأَنَّهُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ السَّعَادَةُ، وَالسَّعَادَةُ هِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، فَهِيَ الْمَنْفَعَةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى، وَهُوَ دُخُولُ الْجَنَّةِ، وَهِيَ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلْإِنْسَانِ، فَيَنْبَغِي لَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي الْخَوْفِ وَعَدُّ نَفْسِهِ عَدَمًا لِأَنَّهُ لَا يَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ، وَالشَّقَاوَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَهِيَ الْمَضَرَّةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى وَهِيَ دُخُولُ النَّارِ وَلَوْ انْقَضَى عُمُرُ الْإِنْسَانِ فِي عِبَادَةٍ، وَحَذَفَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الْجُمْلَتَيْنِ الْأَخِيرَتَيْنِ لِدَلَالَةِ الْأُولَى فَهِيَ مُقَدَّرَةٌ فِيهِمَا، وَقَيَّدَ النَّفْعَ بِالْحِفْظِ، وَالشَّرَفَ بِالْعِلْمِ، وَالسَّعَادَةَ بِالِاعْتِقَادِ وَالْعَمَلِ، لِأَنَّ الِانْتِفَاعَ بِالشَّيْءِ إنَّمَا يَكُونُ بِحِفْظِهِ، وَالشَّرَفَ إنَّمَا يَكُونُ بِالْعَمَلِ الَّذِي هُوَ امْتِثَالُ الْأَوَامِرِ وَاجْتِنَابُ النَّوَاهِي إذْ بِهِ يَحْصُلُ شَرَفُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِالْجَنَّةِ، وَأَمَّا الْعِلْمُ بِلَا عَمَلٍ فَلَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ كَنَخْلَةٍ بِلَا ثَمَرٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعِلْمَ بِكِتَابِ الرِّسَالَةِ الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِالْجُمْلَةِ الْمُخْتَصَرَةِ، وَالْعَمَلَ بِمَا فِيهَا يَحْصُلُ لِلْعَامِلِ غَايَةُ الشَّرَفِ وَالسِّيَادَةِ فِي الدُّنْيَا وَالسَّعَادَةُ فِي الْآخِرَةِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ أَفْضَلُ مَا يَتَزَيَّنُ بِهِ الْإِنْسَانُ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ وَالرُّسُلَ وَالْمُلُوكَ تُخْضَعُ لِلْعَالِمِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: مَنْ حَفِظَ الرِّسَالَةَ أَجْزَأَتْهُ عَنْ غَيْرِهَا وَإِنْ أَرَادَ غَيْرَهَا كَانَتْ لَهُ مِفْتَاحًا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا قَصَدَ بِعِلْمِهِ وَبِالْعَمَلِ بِهِ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ قَصَدَ بِطَلَبِهِ الْعِلْمَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَلَيْسَ أَشَدُّ عَذَابًا مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ سَحْنُونٌ: لَأَنْ آكُلَ الدُّنْيَا بِالدُّفِّ وَالْمِزْمَارِ خَيْرٌ لِي مِنْ أَنْ آكُلَهَا بِالدِّينِ، وَاعْلَمْ أَنَّ حَرْفَ الْمُضَارَعَةِ مِنْ الْأَفْعَالِ الثَّلَاثَةِ مَفْتُوحٌ، وَأَجَازَ بَعْضُهُمْ ضَمَّهُ مِنْ يَسْعَدُونَ لَكِنْ لَمْ تَقَعْ بِهِ رِوَايَةٌ. (وَ) الْحَدِيثُ الثَّالِثُ مَا يَدُلُّ عَلَى قَوْلِهِ: وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ مَا (قَدْ جَاءَ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْ يُؤْمَرُوا) أَيْ الْأَوْلَادُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (بِالصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ عَلَى الْبَالِغِينَ (لِسَبْعِ سِنِينَ) أَيْ لِإِتْمَامِ السَّبْعِ عَلَى قَوْلِ بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: الْمَفْهُومُ مِنْ النُّصُوصِ يُؤْمَرُونَ بِالدُّخُولِ فِي السَّبْعِ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا بَعْدَ إكْمَالِهَا وَاَلَّذِي يَأْمُرُهُمْ الْوَلِيُّ لِأَنَّ الْخِطَابَ لَهُ، وَأَمْرُ الشَّارِعِ لِلْوَلِيِّ أَمْرُ نَدْبٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَيْسَ الْخِطَابُ لِلصَّبِيِّ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ، وَالْخِطَابُ مِنْ الشَّارِعِ إنَّمَا يَكُونُ لِلْمُكَلَّفِينَ، وَعَلَى مَا قُلْنَا: إنَّهُ الْمَشْهُورُ لَوْ تَرَكَ الْوَلِيُّ أَمْرَ الصَّبِيِّ لَا إثْمَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَرَكَ مَنْدُوبًا، وَالتَّارِكُ لَهُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ قَوْلُ ابْنِ بَطَّالٍ: أَمْرُ الشَّارِعِ لِلْوَلِيِّ أَمْرُ إيجَابٍ عَلَى الْوَلِيِّ، وَعَلَيْهِ إنْ لَمْ يَأْمُرْ الْوَلِيُّ الْأَوْلَادَ يَأْثَمُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَيَكُونُ أَمْرُهُمْ بِالْكَلَامِ ابْتِدَاءً ثُمَّ بِالتَّهْدِيدِ وَالتَّخَوُّفِ بِالضَّرْبِ لَا بِالشَّتْمِ. (وَ) إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمْ امْتِثَالٌ بِالْكَلَامِ وَلَا بِالْإِيعَادِ بِالضَّرْبِ يَجُوزُ أَنْ (يُضْرَبُوا عَلَيْهَا) بِالْفِعْلِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ وَذَلِكَ عِنْدَ الْبُلُوغِ (لِعَشْرٍ) أَيْ عِنْدَ الدُّخُولِ فِيهَا كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. (وَ) يُنْدَبُ أَيْضًا عِنْدَ دُخُولِهِمْ فِي الْعَشْرِ عَلَى رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ الْمُقَدَّمَةِ هُنَا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَطْلُبُهَا عِنْدَ بُلُوغِ السَّبْعِ أَنْ (يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ) قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الصَّوَابُ أَنْ لَا يُفَرَّقَ بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ إلَّا عِنْدَ الْعَشْرِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ كَمَا قَدَّمْنَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَتَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ بِنَوْمِ كُلِّ وَاحِدٍ فِي ثَوْبِهِ وَإِنْ نَامَ الْجَمِيعُ تَحْتَ لِحَافٍ وَاحِدٍ لِأَنَّ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ الْمُتَلَاصِقُ، كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَتَلَاصَقُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ مَفْهُومَهُ الْجَوَازُ وَإِذَا كَانَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ ثَوْبُهُ، وَإِذَا كَانَ يَجُوزُ لِلْبَالِغِينَ التَّلَاصُقُ تَحْتَ اللِّحَافِ مَعَ سَتْرِ كُلٍّ بِثَوْبِهِ فَيَجُوزُ لِغَيْرِ الْبَالِغِينَ بِالْأَوْلَى، كَمَا تُنْدَبُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَبَعْضِهِمْ يَنْدُبُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ آبَائِهِمْ، وَحُكْمُهُ نَدْبُهَا مَخَافَةَ تَمْرِينِهِمْ عَلَى الِالْتِذَاذِ بِبَعْضِهِمْ فَيَرْتَكِبُونَهَا بَعْدَ الْبُلُوغِ لِسَابِقِ الْأُلْفَةِ، وَالْمَضَاجِعُ جَمْعُ مَضْجَعٍ وَهُوَ مَحَلُّ النَّوْمِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي جَاءَ خَبَرُ أَبِي دَاوُد: «مُرُوا أَوْلَادَكُمْ بِالصَّلَاةِ وَهُمْ أَبْنَاءُ سَبْعٍ، وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا وَهُمْ أَبْنَاءُ عَشْرٍ، وَفُرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ» . وَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْخِطَابَ مِنْ الشَّرْعِ لِلْوَلِيِّ لَا لِلصَّبِيِّ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِخِطَابِ الصَّبِيِّ مِنْ الشَّارِعِ، وَلَعَلَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ أَمْرٌ بِذَلِكَ الشَّيْءِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: الْحَدِيثُ قَاصِرٌ عَلَى الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الطَّهَارَةُ وَالصَّوْمُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ الْمَأْمُورَاتِ فَلَمْ يَأْتِ بِالْأَمْرِ بِهَا خَبَرٌ، وَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّ الْأَمْرَ بِالطَّهَارَةِ لِلصَّلَاةِ يَسْتَلْزِمُ الْأَمْرَ بِهَا لِأَنَّهَا شَرْطٌ لِصِحَّتِهَا وَوُجُوبِهَا أَيْضًا، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَلَا يُنْدَبُ بَلْ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 الْمَضَاجِعِ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوا مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، قَبْلَ بُلُوغِهِمْ، لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمْ الْبُلُوغُ، وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ مِنْ قُلُوبِهِمْ، وَسَكَنَتْ إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ، وَأَنِسَتْ بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ جَوَارِحُهُمْ. وَقَدْ فَرَضَ اللَّهُ   [الفواكه الدواني] يَجُوزُ عَلَى مَا يَظْهَرُ أَمْرُهُمْ بِهِ لِمَشَقَّتِهِ، وَالْوَلِيُّ لَا يَجُوزُ لَهُ إلْزَامُ الصَّبِيِّ مَا عَلَيْهِ فِي فِعْلِهِ مَشَقَّةً وَلِذَا لَمْ يَأْمُرْ الشَّارِعُ الْوَلِيَّ بِهِ، وَإِذَا صَامَ الصَّبِيُّ لَا ثَوَابَ لَهُ لِأَنَّ الثَّوَابَ فِي فِعْلِ الْمَطْلُوبِ لَا فِي فِعْلِ الْمُبَاحِ وَلَا الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالصَّلَاةِ لِكَوْنِهَا أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهَا فِي فِعْلِهَا فَأَمَرَ بِهَا لِيَعْتَادَهَا، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَأْلَفْهَا قَبْلَ بُلُوغِهِ لَرُبَّمَا كَرِهَتْهَا نَفْسُهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ لِكَثْرَةِ شُرُوطِهَا وَتَكَرُّرِهَا فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، وَأَمَّا الْحَجُّ فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ أَمْرُ الْوَلَدِ بِالسَّفَرِ لِأَجْلِهِ، وَلَكِنْ إنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَاسْتَصْحَبَهُ إلَى مَحَلِّ الْإِحْرَامِ طُلِبَ مِنْهُ أَمْرُهُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَوْ نَوَى إدْخَالَهُ فِيهِ إنْ كَانَ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، هَذَا مَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا الزَّكَاةُ فَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّهِ إخْرَاجُهَا كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ صَدَقَةِ فِطْرِهِ، وَكَمَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ التَّضْحِيَةُ عَنْهُ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَحْتَجْ لَهُ فِي عَامِهِ، أَمَّا بَقِيَّةُ الْمَأْمُورَاتِ سِوَى مَا ذُكِرَ فَسَيَنُصُّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يُعَلَّمُوا إلَخْ. الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي أَجْرِ صَلَاةِ الصَّبِيِّ وَسَائِرِ مَا فَعَلَهُ مِمَّا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ ثَوَابٌ، فَقِيلَ لِلْأَبِ وَقِيلَ لِلْأُمِّ وَقِيلَ بَيْنَهُمَا. وَقَالَ الْعَلَّامَةُ مُحَمَّدُ الْحَطَّابُ فَفِي حَاشِيَتِهِ عَلَى خَلِيلٍ: الصَّحِيحُ أَنَّ أَجْرَ أَعْمَالِ الصَّبِيِّ لَهُ وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ السَّيِّئَاتُ، وَنَحْوُهُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ» نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْفُوعَ عَنْهُ إنَّمَا هُوَ مَا يَكُونُ عَلَيْهِ لَا مَا يَكُونُ لَهُ، وَأَجْرُ عَمَلِهِ لَهُ لَا لِغَيْرِهِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا قِيلَ لَهُ: «أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ وَلِحَامِلِهِ عَلَى الطَّاعَةِ أَجْرُ حَمْلِهِ» . وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: الْأَجْرُ كُلُّهُ لِأَبَوَيْهِ إمَّا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ أَوْ الثُّلُثَانِ لِلْأُمِّ غَلَطٌ سَبَبُهُ الْجَهْلُ بِالسُّنَّةِ. قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصِّغَارَ يَتَفَاوَتُونَ فِي مَنَازِلِ الْجَنَّةِ بِقَدْرِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا أَنَّ الْكُفَّارَ فِي جَهَنَّمَ كَذَلِكَ بِقَدْرِ كُفْرِهِمْ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُمْ يُضْرَبُونَ بَعْدَ الدُّخُولِ فِي الْعَشْرِ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ يُحَدُّ بِحَدٍّ أَمْ لَا؟ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قُلْت الصَّوَابُ اعْتِبَارُ حَالِ الصِّبْيَانِ فَقَدْ شَاهَدْت غَيْرَ وَاحِدٍ مِنْ الْمُعَلِّمِينَ الصُّلَحَاءِ يَضْرِبُ نَحْوَ الْعِشْرِينَ وَأَزِيدَ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَالضَّرْبُ الْمَأْمُورُ بِهِ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ بِدِرَّةٍ عَلَيْهَا سَوْطٌ لَيِّنٌ عَرِيضٌ عَلَى الظَّهْرِ فَوْقَ الثِّيَابِ أَوْ عَلَى بَاطِنِ الْقَدَمَيْنِ مُجَرَّدَيْنِ، فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ أَوْ خَرَجَ عَنْ الصِّفَةِ فَفِيهِ الْقِصَاصُ مِنْ غَيْرِ الْأَبَوَيْنِ، وَمَا تَوَلَّدَ عَنْ غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَفِيهِ الدِّيَةُ، وَمَا تَوَلَّدَ عَنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ. قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: وَيَضْرِبُ الرَّجُلُ يَتِيمَهُ عَلَى نَفْعِهِ وَكَذَا أَوْلَادَهُ وَأَهْلَهُ عَلَى نَفْعِهِ وَنَفْعِهِمْ، وَقَالَ مَالِكٌ: يَضْرِبُ الرَّجُلُ أَهْلَهُ عَلَى الصَّلَاةِ. الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حُكْمَ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ وَبَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَبَوَيْهِمْ فِي الْمَضَاجِعِ الِاسْتِحْبَابُ وَعَدَمَهَا مَكْرُوهٌ، وَالْكَرَاهَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْأَوْلِيَاءِ لِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَ بِهَا الْأَطْفَالَ، وَأَمَّا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْبَالِغِينَ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا وَاجِبَةٌ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا يَتَلَاصَقُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ، لَكِنَّ تَلَاصُقَ الْبَالِغِينَ بِالْعَوْرَةِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا كَبِهِ مَعَ قَصْدِ اللَّذَّةِ وَوِجْدَانِهَا وَإِلَّا كُرِهَ، وَأَمَّا تَلَاصُقُهُمَا بِغَيْرِ عَوْرَتَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ سَاتِرٍ فَمَكْرُوهٌ إلَّا أَنْ يَقْصِدَا أَوْ أَحَدُهُمَا اللَّذَّةَ أَوْ يَجِدَاهَا، وَأَمَّا تَلَاصُقُ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ فَمَكْرُوهٌ مِنْ حَقِّ وَلِيِّ الصَّبِيِّ، وَفِي حَقِّ الْبَالِغِ عَلَى الْأَسْبَقِ مِنْ الْحُرْمَةِ عَلَى الْبَالِغِ حَيْثُ لَا سَاتِرَ مُطْلَقًا كَبِهِ مَعَ قَصْدِ لَذَّةٍ أَوْ وِجْدَانِهَا أَوْ الْكَرَاهَةِ مِنْ عَدَمِهَا، وَالْإِنَاثُ كَالذُّكُورِ فِي التَّفْصِيلِ. 1 - وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الصِّبْيَانَ لَا تُؤْمَرُ إلَّا بِالصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَمْرُهُمْ وَتَعْلِيمُهُمْ كُلَّ مَا لَا يَشُقُّ مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ شَبَّهَ فِيمَا سَبَقَ فَقَالَ: (فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي) أَيْ يُسْتَحَبُّ (أَنْ يَعْلَمُوا) أَيْ الْأَوْلَادُ (مَا فَرَضَ اللَّهُ عَلَى الْعِبَادِ) الْمُكَلَّفِينَ (مِنْ قَوْلٍ) كَلَفْظِ الشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُمَا بِالنِّسْبَةِ لِلْقَادِرِ الَّذِي يُرِيدُ الدُّخُولَ فِي الْإِسْلَامِ، أَوْ الَّذِي يُرِيدُ أَدَاءَ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ، وَقِرَاءَةَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ (وَ) مِنْ (عَمَلٍ) بِبَقِيَّةِ جَوَارِحِهِمْ كَالْوُضُوءِ وَالصَّلَاةِ. وَلَفْظُ الْعِبَادِ شَامِلٌ لِلْكُفَّارِ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ خِطَابُهُمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَزَمَنُ اسْتِحْبَابِ التَّعْلِيمِ (قَبْلَ بُلُوغِهِمْ) فَقَبْلُ ظَرْفٌ لِيَعْلَمُوا مَنْصُوبٌ بِهِ، وَبُلُوغُهُمْ يَكُونُ بِثَمَانِ عَشْرَةَ سَنَةٍ أَوْ الْحُلُمِ أَوْ الْحَيْضِ أَوْ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ تَعْلِيمُهُمْ قَبْلَ بُلُوغِهِمْ (لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمْ الْبُلُوغُ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ) الَّذِي تَعْلَمُوهُ مِمَّا هُوَ مَفْرُوضٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ (فِي قُلُوبِهِمْ وَسَكَنَتْ) أَيْ مَالَتْ (إلَيْهِ أَنْفُسُهُمْ) بِحَيْثُ لَا يَمَلُّونَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 سُبْحَانَهُ عَلَى الْقُلُوبِ: عَمَلًا مِنْ الِاعْتِقَادَاتِ وَعَلَى الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ: عَمَلًا مِنْ الطَّاعَاتِ. وَسَأُفَصِّلُ لَك مَا   [الفواكه الدواني] فِعْلِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا يَنْبَغِي بِيُسْتَحَبُّ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ أَمْرَ الشَّارِعِ لِلْوَلِيِّ بِتَعْلِيمِهِمْ أَمْرَ نَدْبٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إلَى مَا فِي فَرْضِ اللَّهِ وَالضَّمِيرُ فِي قُلُوبِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ إلَى الْأَوْلَادِ، وَمَعْنَى تَمَكَّنَ فِي قُلُوبِهِمْ ثَبَتَ وَرَسَخَ فِيهَا، وَمَعْنَى سَكَنَتْ مَالَتْ إلَيْهِ بِحَيْثُ صَارَ مَأْلُوفَهَا فَلَا تَمَلُّ مِنْهُ، وَالنَّفْسُ يُرَادُ بِهَا الرُّوحُ عَلَى الصَّحِيحِ. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ: وَحَقِيقَةُ الرُّوحِ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَيْهَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَنُمْسِكُ عَنْهَا وَلَا نُعَبِّرُ عَنْهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أَيْ مِمَّا اسْتَأْثَرَ بِهِ أَيْ اخْتَصَّ بِعِلْمِهِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ، خِلَافًا لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ كُلَّ جَسَدٍ لَهُ رُوحَانِ: أَحَدُهُمَا رُوحُ الْيَقَظَةِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ عَادَتَهُ بِأَنَّهَا إذَا كَانَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَ مُسْتَيْقِظًا فَإِذَا خَرَجَتْ مِنْهُ نَامَ وَرَأَتْ تِلْكَ الرُّوحُ الْمَنَامَاتِ، وَالْأُخْرَى رُوحُ الْحَيَاةِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ بِأَنَّهَا مَا دَامَتْ فِي الْجَسَدِ كَانَ حَيًّا وَإِذَا فَارَقَتْهُ مَاتَ، وَهَاتَانِ الرُّوحَانِ فِي بَاطِنِ الْجَسَدِ لَا يَعْلَمُ مَقَرَّهُمَا إلَّا اللَّهُ أَوْ مَنْ أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَهُمَا كَجَنِينٍ فِي بَطْنِ امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْضٌ خَاضَ فِي حَقِيقَةِ النَّفْسِ وَذَلِكَ الْبَعْضُ الْخَائِضُ عَلَى ثَلَاثِ فِرَقٍ: إحْدَاهَا تَقُولُ: إنَّهَا جِسْمٌ بِدَلِيلِ وَصْفِهَا بِالْعُرُوجِ وَالْخُرُوجِ. وَثَانِيَتُهَا تَقُولُ: إنَّهَا عَرَضٌ وَهِيَ الْحَيَاةُ الَّتِي يَصِيرُ الْبَدَنُ بِوُجُودِهَا حَيًّا. وَثَالِثَتُهَا تَقُولُ: إنَّهَا لَيْسَتْ بِجِسْمٍ وَلَا عَرَضٍ وَإِنَّمَا هِيَ جَوْهَرٌ مُجَرَّدٌ قَائِمٌ بِنَفْسِهِ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْبَدَنِ يُدَبِّرُهُ لَيْسَ دَاخِلًا فِيهِ وَلَا خَارِجًا عَنْهُ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ تَرْكُ الْخَوْضِ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَلَا تَخُضْ فِي الرُّوحِ إذْ مَا وَرَدَا ... نَصٌّ عَنْ الشَّارِعِ لَكِنْ وُجِدَا لِمَالِكٍ هِيَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ ... فَحَسْبُك النَّصُّ بِهَذَا السَّنَدِ (وَأَنِسَتْ) أَيْ اسْتَأْنَسَتْ (بِمَا يَعْمَلُونَ بِهِ مِنْ ذَلِكَ) الْمَفْرُوضِ (جَوَارِحُهُمْ) بِحَيْثُ صَارَتْ لَا تَتَأَلَّمُ عِنْدَ الْفِعْلِ، وَجَوَارِحُهُمْ فَاعِلُ أَنِسَتْ بِمَعْنَى عَدَمِ تَأَلُّمِهَا مِنْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ التَّأَنُّسُ فِي الْأَصْلِ ضِدُّ التَّوَحُّشِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَالَ الْفَاكِهِيُّ: الْعِبَادُ أَصْنَافُ مَلَائِكَةٍ وَأَنْبِيَاءٍ وَإِنْسٍ وَجِنٍّ، فَالْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ مِنْهُمْ مُطِيعٌ وَمِنْهُمْ عَاصٍ، وَالْخَلَائِقُ الْحَيَوَانِيَّةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَهُ عَقْلٌ وَلَا شَهْوَةَ لَهُ وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ، وَقِسْمٌ لَهُ شَهْوَةٌ وَلَا عَقْلَ لَهُ وَهُمْ الدَّوَابُّ، وَقِسْمٌ لَهُ عَقْلٌ وَشَهْوَةٌ وَهُمْ بَنُو آدَمَ، فَمَنْ غَلَبَ عَقْلُهُ عَلَى شَهْوَتِهِ كَانَ مَعَ الْمَلَائِكَةِ، وَمَنْ غَلَبَتْ شَهْوَتُهُ عَلَى عَقْلِهِ كَانَ مَعَ الدَّوَابِّ. الثَّانِي: الْعُقَلَاءُ بِالنِّسْبَةِ لِلتَّكْلِيفِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: كُلِّفَ مِنْ أَوَّلِ الْفِطْرَةِ قَطْعًا وَهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَآدَمُ وَحَوَّاءُ وَقِسْمٌ لَمْ يُكَلَّفْ مِنْ أَوَّلِ الْفِطْرَةِ قَطْعًا وَهُمْ أَوْلَادُ آدَمَ، وَقِسْمٌ فِيهِ نِزَاعٌ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مِنْ أَوَّلِ الْفِطْرَةِ وَهُمْ الْجِنُّ ذَكَرَهُ ابْنُ جَمَاعَةَ. (وَقَدْ فَرَضَ) وَيُرَادِفُهُ أَوْجَبَ وَحَتَّمَ وَكَتَبَ (اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى الْقُلُوبِ) عَلَى أَصْحَابِهَا أَيْ بَعْدَ تَكْلِيفِهِمْ (عَمَلًا مِنْ) جِنْسِ (الِاعْتِقَادَاتِ) كَالْإِيمَانِ بِاَللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ لَهَا. (وَ) فَرَضَ أَيْضًا (عَلَى الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ عَمَلًا مِنْ) جِنْسِ (الطَّاعَاتِ) كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَشَبَهُ ذَلِكَ مِمَّا يَتَوَقَّفُ صُدُورُهُ عَلَى أَعْمَالِ الْجَارِحَةِ وَإِنْ حَصَلَتْ مُشَارَكَةٌ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْقَلْبِ فِي بَعْضِهَا كَالنِّيَّةِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَأَقُولُ: هَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا عَلَى الرَّاجِحِ فَالنِّيَّةُ مِمَّا هُوَ فَرْضٌ عَلَى الْقَلْبِ، وَيُفْهَمُ مِنْ مُقَابَلَةِ الْأَعْمَالِ مَا يَشْمَلُ الْأَقْوَالَ كَمَا فِي خَبَرِ: إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ: وَقَدْ فَرَضَ إلَخْ بَعْدَ مَا سَبَقَ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْعِلَّةِ لِلْعِلَّةِ السَّابِقَةِ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ: لِيَأْتِيَ عَلَيْهِمْ الْبُلُوغُ وَقَدْ تَمَكَّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِهِمْ قِيلَ لَهُ: وَلِمَ طَلَبُ تَمَكُّنِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فِي قُلُوبِهِمْ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ؟ قَالَ: لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ فَرَضَ عَلَى قُلُوبِهِمْ الِاعْتِقَادَاتِ وَعَلَى جَوَارِحِهِمْ الطَّاعَاتِ. الثَّانِي كَثِيرًا مَا تَتَشَوَّفُ النَّفْسُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا يَخْطُرُ بِقَلْبِ الْمُكَلَّفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 شَرَطْت لَك ذِكْرَهُ: بَابًا: بَابًا: لِيَقْرَبَ مِنْ فَهْمِ مُتَعَلِّمِيهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَإِيَّاهُ نَسْتَخِيرُ، وَبِهِ نَسْتَعِينُ. ، وَلَا حَوْلَ   [الفواكه الدواني] هَلْ يُؤَاخَذُ بِهِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ: {وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} [البقرة: 284] أَوْ لَا؟ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: الَّذِي عَلَيْهِ الْعَمَلُ أَنَّ مَا خَطَرَ بِقَلْبِ الْمُكَلَّفِ مِنْ الْمَعَاصِي وَالْآثَامِ إنْ كَانَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ فَهُوَ يُحَاسَبُ بِهِ وَلَا كَلَامَ، لَكِنْ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ لَا بِمُجَرَّدِ خُطُورِهِ فِي الْقَلْبِ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَذَلِكَ كَالرِّيَاءِ وَالشِّرْكِ وَالْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَبُغْضِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّةِ الْكَافِرِينَ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ مِمَّا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَخْتَصُّ بِالْقَلْبِ بَلْ يُشَارِكُهُ فِيهِ بَعْضُ الْجَوَارِحِ كَالسَّرِقَةِ وَالْغَصْبِ وَمَا شَابَهَهُمَا فَإِنْ خَطَرَ وَانْصَرَفَ مِنْ غَيْرِ عَزْمٍ فَلَا يُؤَاخَذُ بِهِ أَيْضًا بَلْ قِيلَ: يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ، وَإِنْ خَطَرَ بِبَالِهِ وَوَارَاهُ فِي ضَمِيرِهِ وَعَقَدَتْ عَزِيمَتُهُ عَلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الَّذِي يُكْتَبُ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: كَثِيرًا مَا يُسْأَلُ عَنْ مَحَلِّ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ قَالَ الرَّسُولُ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِأَتَمِّ بَيَانٍ إنْ شَاءَ اللَّهَ تَعَالَى رَأْفَةً بِالطَّالِبِ فَنَقُولُ: أَمَّا سُبْحَانَ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمُلَازِمَةِ لِلنَّصْبِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وُجُوبًا تَقْدِيرُهُ أُسَبِّحُ أَوْ سَبَحَ بِتَخْفِيفِ الْبَاءِ عَلَى الْخِلَافِ فِي سُبْحَانَ اللَّهِ هَلْ هُوَ مَصْدَرٌ أَوْ اسْمُ مَصْدَرٍ فَيَكُونُ جُمْلَةً مُعْتَرِضَةً بَيْنَ فَرَضَ وَصِلَتِهِ وَهِيَ قَوْلُهُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَنُكْتَةُ الِاعْتِرَاضِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّنْزِيهِ لِأَنَّ سُبْحَانَ عَلَمٌ عَلَى التَّسْبِيحِ الَّذِي هُوَ التَّنْزِيهُ تَقُولُ: سَبَّحْت اللَّهَ بِمَعْنَى نَزَّهْته تَنْزِيهًا بَلِيغًا مِنْ سَبَحَ إذَا ذَهَبَ وَبَعُدَ لِأَنَّك بَعُدْت مِنْ سُبْحَتِهِ عَمَّا نَزَّهْته عَنْهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْجُمْلَةَ الْمُعْتَرِضَةَ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنْ الْإِعْرَابِ، وَكَذَلِكَ جُمْلَةُ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَوْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُعْتَرِضَةٌ لِإِنْشَاءِ الثَّنَاءِ أَوْ الدُّعَاءِ وَهِيَ لَا تَصْلُحُ حَالًا وَلَا نَعْتًا، فَاحْرِصْ عَلَيْهَا فَقَلَّمَا تَجِدُهَا عَلَى هَذَا الْبَيَانِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ ذِكْرِهِ لِلْمَسَائِلِ هَلْ هِيَ مُفَصَّلَةٌ فِي أَبْوَابٍ أَوْ مُجْمَلَةٍ فَقَالَ: (وَسَأُفَصِّلُ) أَيْ أُفَرِّقُ (لَك) يَا مُخَاطَبُ لِأَنَّك السَّائِلُ فِي كِتَابَتِهَا (مَا شَرَطْت) أَيْ الْتَزَمْت (لَك ذِكْرَهُ) بِإِجَابَتِي لَك حِينَ سَأَلْتنِي، لِأَنَّ الْإِجَابَةَ فِي مَعْنَى الْتِزَامِ الْوَفَاءِ بِمَطْلُوبِ السَّائِلِ حَالَةَ كَوْنِهِ مُفَصَّلًا (بَابًا بَابًا) فَبَابًا حَالٌ مِنْ مَا الْمَفْعُولُ، وَيَصِحُّ جَعْلُهُ حَالًا مِنْ فَاعِلِ أُفَصِّلُ، وَالْمَعْنَى: وَسَأُفَصِّلُ لَك الَّذِي الْتَزَمْته بِإِجَابَتِي لَك حَالَ كَوْنِهِ أَوْ حَالَ كَوْنِي مُفَصِّلًا بَابًا بَعْدَ بَابٍ وَصَحَّ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ مَعَ جُمُودِهِ لِتَأَوُّلِهِ بِمُفَصَّلًا كَمَا ذَكَرْنَا. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَيَكْثُرُ الْجُمُودُ فِي سِعْرٍ وَفِي ... مُبْدِي تَأَوَّلَ بِلَا تَكَلُّفٍ فَهُوَ مِثْلُ: اُدْخُلُوا رَجُلًا رَجُلًا. قَالَ الْمُرَادِيُّ فِيهِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ وَمَا قَبْلَهُ مَنْصُوبَانِ بِالْعَامِلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ مَجْمُوعَهُمَا هُوَ الْحَالُ، وَنَظِيرُهُ فِي الْخَبَرِ الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ فِي أَنَّ كُلًّا مِنْ حُلْوٍ وَحَامِضٍ خَبَرٌ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ بَابِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي مَنْصُوبًا عَلَى الْحَالِيَّةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمُشَابَهَةِ بَيْنَ بَابًا بَابًا وَحُلْوٍ حَامِضٍ فِي أَنَّ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ هُوَ الْحَالُ فِي الْأَوَّلِ وَخَبَرٌ فِي الثَّانِي فَلَا يُنَافِي أَنَّ بَابًا الثَّانِيَ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا حُلْوٌ حَامِضٌ فَالِاثْنَانِ فِي مَعْنَى شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُزٌّ لِمَا يَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ وَالْوِجْدَانُ، وَعِدَّةُ أَبْوَابِهَا أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ بَابًا بَعْضُهَا مَلْفُوظٌ بِهِ وَبَعْضُهَا مُقَدَّرٌ، وَعِدَّةُ مَسَائِلِهَا أَرْبَعَةُ آلَافِ مَسْأَلَةٍ مَأْخُوذَةٍ مِنْ أَرْبَعَةِ آلَافِ حَدِيثٍ وَقِيلَ أَرْبَعُمِائَةِ حَدِيثٍ بَدَلَ أَرْبَعَةِ آلَافٍ وَإِنَّمَا فَصَّلَهَا أَبْوَابًا (لِيَقْرُبَ) أَيْ مَا ذَكَرْته أَيْ مَعْنَاهُ (مِنْ فَهْمِ مُتَعَلِّمِيهِ) وَلِيَسْهُلَ عَلَيْهِمْ حِفْظُهُ وَالرُّجُوعُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى الْكَشْفِ عَنْ شَيْءٍ مِنْ الْمَسَائِلِ وَلِأَنَّهُ أَنْشَطُ لِلطَّالِبِ (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) رَاجِعٌ إلَى قَوْلِهِ أُفَصِّلُ وَمَا بَعْدَهُ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ وَإِنْ كَانَ أَوْفَرَ عَقْلًا لَا يَهْتَدِي بِنَفْسِهِ إلَى مَا هُوَ أَكْثَرُ ثَوَابًا قَالَ: (وَإِيَّاهُ) أَيْ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا غَيْرُهُ، وَعَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ (نَسْتَخِيرُ) أَيْ نَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يُقَدِّرَ لَنَا ارْتِكَابَ مَا هُوَ خَيْرٌ فِي كَيْفِيَّةِ الْإِتْيَانِ بِأَلْفَاظِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ، وَعَلَى أَيِّ وَجْهٍ نَأْتِي بِهَا هَلْ هِيَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْمُبَالَغَةِ فِي الِاخْتِصَارِ أَوْ بَيْنَ بَيْنَ، وَلَيْسَتْ الِاسْتِخَارَةُ فِي أَصْلِ الْكِتَابَةِ وَعَدَمِهَا لِأَنَّهَا خَيْرٌ يُقَدَّمُ فِعْلُهُ عَلَى تَرْكِهِ، وَأَيْضًا الِاسْتِخَارَةُ فِي الشُّرُوعِ تَقَدَّمَتْ قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَإِنَّمَا الِاسْتِخَارَةُ الْمَطْلُوبَةُ الْآنَ فِي صِفَةِ الْإِتْيَانِ فَسَقَطَ مَا قَدْ يُقَالُ: الْإِنْسَانُ إنَّمَا يَسْتَخِيرُ قَبْلَ شُرُوعِهِ وَالْمُصَنِّفُ شَرَعَ فَكَيْفَ يَسْتَخِيرُ الْآنَ؟ وَحُكْمُ الِاسْتِخَارَةِ النَّدْبُ فِي كُلِّ أَمْرٍ تُجْهَلُ عَاقِبَتُهُ، فَإِنَّ فِيهَا تَسْلِيمَ الْأَمْرِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِيَخْتَارَ لَهُ تَعَالَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ، وَتَكُونُ الِاسْتِخَارَةُ بِالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي جَمِيعِ الْأُمُورِ، ثُمَّ يَمْضِي لِمَا انْشَرَحَ لَهُ صَدْرُهُ، فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُنَا الِاسْتِخَارَةَ فِي الْأُمُورِ كُلِّهَا كَمَا يُعَلِّمُنَا السُّورَةَ مِنْ الْقُرْآنِ يَقُولُ: إذَا هَمَّ أَحَدُكُمْ بِأَمْرٍ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ ثُمَّ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْتَخِيرُك بِعِلْمِك وَأَسْتَقْدِرُك بِقُدْرَتِك وَأَسْأَلُك مِنْ فَضْلِك الْعَظِيمِ فَإِنَّك تَقْدِرُ وَلَا أَقْدِرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ. وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ، وَآلِهِ وَصَحْبِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.   [الفواكه الدواني] وَتَعْلَمُ وَلَا أَعْلَمُ وَأَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، اللَّهُمَّ إنْ كُنْت تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي فِي دِينِي وَمَعَاشِي وَعَاقِبَةِ أَمْرِي أَوْ قَالَ عَاجِلِ أَمْرِي وَآجِلِهِ فَاصْرِفْهُ عَنِّي وَاصْرِفْنِي عَنْهُ وَاقْدُرْ لِي الْخَيْرَ حَيْثُ كَانَ ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ» وَيُسَمِّي حَاجَتَهُ. وَرَوَى ابْنُ السُّنِّيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَا أَنَسُ إذَا هَمَمْت بِأَمْرٍ فَاسْتَخِرْ رَبَّك سَبْعَ مَرَّاتٍ ثُمَّ اُنْظُرْ إلَى الَّذِي سَبَقَ إلَى قَلْبِك فَإِنَّ الْخَيْرَ فِيهِ» . قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَقْرَأُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى بَعْدَ الْفَاتِحَةِ سُورَةَ الْكَافِرُونَ، وَفِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، وَإِذَا تَعَذَّرَتْ الِاسْتِخَارَةُ بِالصَّلَاةِ اسْتَخَارَ بِالدُّعَاءِ، وَالدَّالُ فِي قَوْلِهِ: وَاقْدُرْهُ لِي مَضْمُومَةٌ، وَالْهَمْزَةُ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ أَرْضِنِي بِهِ مَقْطُوعَةٌ، وَقَوْلُهُ: إنْ كُنْت تَعْلَمُ فِيهِ إشْكَالٌ لَا يَخْفَى وَجَوَابُهُ أَنَّ إنْ بِمَعْنَى إذْ التَّعْلِيلِيَّةُ أَوْ الْمُرَادُ تَفْوِيضُ الْعِلْمِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ أَنَّ مَعْنَى إنْ كُنْت تَعْلَمُ إنْ كَانَ تَعَلَّقَ عِلْمُك فِي الْأَزَلِ بِأَنَّ هَذَا الْأَمْرَ خَيْرٌ لِي لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِكُلِّ شَيْءٍ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا قَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: وَلَا تَسْتَخِرْ فِي الْمَنْدُوبَاتِ هَلْ تَفْعَلُهَا أَمْ لَا؟ بَلْ فِي فِعْلِ أَحَدِهَا إذَا ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ فِعْلِ الْجَمِيعِ أَوْ عِنْدَ إرَادَةِ الِاقْتِصَارِ عَلَى فِعْلِ بَعْضِهَا، وَالِاسْتِشَارَةُ كَالِاسْتِخَارَةِ فِي أَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ فِي تَقْدِيمِ بَعْضِ الْمَنْدُوبَاتِ عَلَى بَعْضٍ، لَا فِي فِعْلٍ وَتَرْكِهِ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَالِاسْتِشَارَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الِاسْتِخَارَةِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الَّذِي يُرَاعَى عِنْدَ التَّعَارُضِ مَا انْشَرَحَ لَهُ الصَّدْرُ عَلَى مَا أُشِيرَ بِهِ لِاحْتِمَالِ خَطَأِ الْمُسْتَشَارِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، كَمَا يَظْهَرُ جَوَازُ الِاسْتِخَارَةِ لِلْغَيْرِ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ. (وَبِهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (نَسْتَعِينُ) أَيْ نَطْلُبُ مِنْهُ الْإِعَانَةَ عَلَى مَا أَمَلْنَاهُ، وَالْإِقْدَارُ عَلَى فِعْلِ مَا قَصَدْنَاهُ، إذْ الْإِعَانَةُ التَّقَوِّي عَلَى فِعْلِ الْخَيْرِ أَوْ مَا يُؤَدِّي إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ، وَقَدَّمَ الْمَعْمُولَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِإِفَادَةِ الْحَصْرِ لِأَنَّ الْمَعْنَى: لَا نَسْتَخِيرُ إلَّا اللَّهَ وَلَا نَطْلُبُ الْإِعَانَةَ إلَّا مِنْ اللَّهِ. ثُمَّ تَدَلَّى لِلتَّبَرِّي مِنْ حَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا حَوْلَ) لَنَا أَيْ لَا تَحَوُّلَ لَنَا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَّا بِعِصْمَةِ اللَّهِ وَحِفْظِهِ تَعَالَى (وَلَا قُوَّةَ) لَنَا وَإِنْ كُنَّا عَلَى غَايَةٍ مِنْ الْعَظَمَةِ وَالشِّدَّةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. (إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ) الَّذِي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ ذِكْرِ صِفَاتِهِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى مُحَاوَلَةِ شَيْءٍ مِمَّا يُرِيدُهُ إلَّا بِحَوْلِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ. قَالَ «ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: سَمِعَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَا أَقُولُهَا فَقَالَ: أَلَا أُخْبِرُك بِتَفْسِيرِهَا؟ قُلْت: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: لَا تَحَوُّلَ عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ إلَّا بِعِصْمَتِهِ وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِهِ إلَّا بِإِعَانَتِهِ وَفِي رِوَايَةٍ: كَذَا أَخْبَرَنِي جِبْرِيلُ عَنْ اللَّهِ» فَيَكُونُ تَفْسِيرُهَا عَنْ اللَّهِ تَعَالَى وَعَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَكْثِرُوا مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَإِنَّهُ يَدْفَعُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ دَاءً أَدْنَاهَا اللَّمَمُ وَهُوَ طَرَفٌ مِنْ الْجُنُونِ» . وَرُوِيَ مِنْ طَرِيقٍ أُخْرَى: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَإِنَّهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ» . وَرُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِنِعْمَةٍ وَأَرَادَ بَقَاءَهَا فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ» . وَقَالَ عَوْفُ بْنُ مَالِكٍ: لَمَّا أَسَرَنِي الْعَدُوُّ أَكْثَرْت مِنْ قَوْلِهَا فَانْقَطَعَ الْقَيْدُ الَّذِي كَانُوا يَشُدُّونِي بِهِ وَسَقَطَ فَخَرَجْت مِنْ دِيَارِهِمْ وَسُقْت إبِلَهُمْ إلَى أَنْ دَخَلْت بِهَا بَلَدِي. وَعَنْ مَكْحُولٍ: مَنْ قَالَهَا كَشَفَ اللَّهُ عَنْهُ سَبْعِينَ بَابًا مِنْ الضُّرِّ أَدْنَاهَا الْفَقْرُ. وَأَجَازَ النَّحْوِيُّونَ فِي لَفْظِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ فَتْحَهُمَا بِغَيْرِ تَنْوِينٍ وَرَفْعَهُمَا مَعَ التَّنْوِينِ وَفَتْحَ الْأَوَّلِ غَيْرَ مُنَوَّنٍ وَرَفْعَ الثَّانِي مُنَوَّنًا أَوْ عَكْسَهُ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ مُشِيرًا إلَيْهَا: وَرَكِّبْ الْمُفْرَدَ فَاتِحًا كَلَا ... حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ وَالثَّانِي اجْعَلَا مَرْفُوعًا أَوْ مَنْصُوبًا أَوْ مُرَكَّبَا ... وَإِنْ رَفَعْت أَوَّلًا لَا تَنْصِبَا. (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ) وَفِي نُسْخَةٍ زِيَادَةُ نَبِيِّهِ. (وَ) عَلَى (آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ) ذَكَرَهَا بَعْدَ مَا سَبَقَ تَبَرُّكًا بِهَا وَقَصْدًا إلَى حُصُولِ مَا قَصَدَهُ، وَالصَّلَاةُ اسْمُ مَصْدَرٍ يُسْتَعْمَلُ مَكَانَ مَصْدَرِ صَلَّى الَّذِي هُوَ التَّصْلِيَةُ لِأَنَّهُ مَهْجُورٌ فِي الِاسْتِعْمَالِ لِعَدَمِ صِحَّةِ مَعْنَاهُ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ بِخَيْرٍ، وَلِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى الْعَطْفِ عَدَّاهَا بِعَلَى، وَالْعَطْفُ بِالنِّسْبَةِ إلَى اللَّهِ رَحْمَتُهُ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَلَائِكَةِ الِاسْتِغْفَارُ، وَبِالنِّسْبَةِ إلَى الْآدَمِيِّينَ دُعَاءُ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ، وَالسَّيِّدُ هُوَ الْكَامِلُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاسْتَعْمَلَهُ فِي غَيْرِ اللَّهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَازِ كَ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» . وَقَوْلِهِ «فِي الْحَسَنِ: إنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ» . «وَفِي سَعْدٍ: قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» . وَحَكَى ابْنُ النَّيِّرِ قَوْلًا بِمَنْعِهِ فِي غَيْرِ اللَّهِ وَاسْتِغْرَابِ جَوَازِهِ فِي غَيْرِ اللَّهِ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ، وَحَكَى فِي مَنْعِ إطْلَاقِهِ عَلَى اللَّهِ وَكَرَاهَتِهِ قَوْلَيْنِ عَنْ مَالِكٍ، وَتَقَدَّمَ فِي صَدْرِ الْخُطْبَةِ مَا يُغْنِي عَنْ الزِّيَادَةِ، وَمُحَمَّدٌ عَلَمٌ نَبِيُّنَا عَلَيْهِ أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ، وَآلِهِ الْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا أَتْقِيَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] أُمَّتِهِ لِأَنَّهُ مَقَامُ دُعَاءٍ يُطْلَبُ فِيهِ التَّعْمِيمُ وَيَكُونُ عَطْفُ الْأَصْحَابِ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَقَالَ: وَآلِهِ إشَارَةً إلَى جَوَازِ إضَافَتِهِ إلَى الضَّمِيرِ، وَإِشَارَةً إلَى جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا، وَاَلَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بِالْمَنْعِ وَالْكَرَاهِيَةِ وَالْمَعْرُوفُ الْكَرَاهَةُ عَلَى وَجْهِ الِاسْتِقْلَالِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجِبَةٌ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً كَالسَّلَامِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُسْتَحَبُّ وَتَتَأَكَّدُ عَلَى قَدْرِ الشَّوْقِ وَالْمَحَبَّةِ، وَفِي الْمَسَائِلِ الْمَلْقُوطَةِ يُكْرَهُ إفْرَادُ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ فِي شَرْحِ الْوَغْلِيسِيَّةِ: كَرِهَ جُمْهُورُ الْمُحَدِّثِينَ إفْرَادَ الصَّلَاةِ عَنْ السَّلَامِ وَعَكْسَهُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ عَقِبَهُ: وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ مَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ إفْرَادُ السَّلَامِ، فَقَدْ شَاعَ عَنْهُمْ الْإِتْيَانُ بِالسَّلَامِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الصَّلَاةِ وَوَقَعَ لِلْأَجِلَّاءِ ذَلِكَ فِي خُطُوطِهِمْ وَلَوْلَا الْجَوَازُ لَمَا ارْتَكَبُوهُ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْخُطْبَةِ وَمِنْ بَيَانِ سَبَبِ التَّأْلِيفِ وَهُوَ سُؤَالُ الشَّيْخِ مُحْرَزٍ، شَرَعَ فِي الْمَقْصُودِ مُقَدِّمًا مَبْحَثَ مَا يَجِبُ عَلَى الْقُلُوبِ أَنْ تَعْتَقِدَهُ وَهُوَ فَنُّ التَّوْحِيدِ؛ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ أَنْوَاعِ الْعُلُومِ وَلِذَلِكَ يُلَقَّبُ بِعِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ. وَأَوَّلُ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 بَابُ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ، وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ: مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ   [الفواكه الدواني] [بَاب مَا تَنْطِق بِهِ الْأَلْسِنَة وَتَعْتَقِدهُ الْأَفْئِدَة مِنْ وَاجِب أُمُور الديانات] (بَابٌ) بِالرَّفْعِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هَذَا بَابٌ، وَهَذَا أَوْلَى مَا يُقَالُ فِي جَمِيعِ التَّرَاجِمِ مِنْ نَحْوِ: كِتَابٌ أَوْ فَصْلٌ أَوْ تَنْبِيهٌ أَوْ فَرْعٌ، وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ إلَى الشَّيْءِ، وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَامِ كَبَابِ الدَّارِ مَجَازٌ فِي الْمَعَانِي كَبَابِ الطَّهَارَةِ، وَلَا يَصِحُّ إرَادَةُ هَذَا الْمَعْنَى هُنَا لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ مَسَائِلِ الْعِلْمِ الْمَقْصُودِ، وَيُسَمُّونَ أَنْوَاعَهُ فُصُولًا، وَيُسَمُّونَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْفَصْلُ مَسَائِلَ جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَطْلُوبٌ خَبَرِيٌّ يُبَرْهِنُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ، وَلَا تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ إلَّا كَسْبِيَّةً أَيْ مُكْتَسَبَةً مِنْ الدَّلِيلِ، وَلِذَلِكَ لَا تُعَدُّ ضَرُورِيَّاتُ الْعُلُومِ مِنْ مَسَائِلِهِ نَحْوُ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسِ فَرْضٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَالْحَجُّ فَرْضٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، وَالصَّوْمُ فَرْضٌ عَلَى الْبَالِغِ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِلْمَ بِهَذِهِ ضَرُورِيٌّ لَيْسَ مَأْخُوذًا بِاجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ، وَيَجُوزُ فِي نَحْوِ: بَابُ الْجِهَادِ فَرِيضَةٌ التَّنْوِينُ وَيَكُونُ مَا بَعْدَهُ بَدَلًا مِنْهُ بَدَلَ مُطَابِقٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْبَابَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَ لَفْظِ بَابٍ، وَيَجُوزُ تَرْكُ التَّنْوِينِ لِإِضَافَتِهِ إلَى مَا بَعْدَهُ مِنْ إضَافَةِ الدَّالِّ إلَى مَدْلُولِهِ أَوْ الِاسْمِ إلَى الْمُسَمَّى، وَأَمَّا فِي نَحْوِ: هَذَا مِنْ كُلِّ مَوْضِعٍ لَمْ يَلِ لَفْظَ بَابٍ جُمْلَةٌ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْإِضَافَةُ إلَى لَفْظِ مَا بَعْدَهُ. وَفِي الْحَقِيقَةِ إلَى مَحْذُوفٍ مُضَافٍ إلَى (مَا) الْمَوْصُولَةِ وَالتَّقْدِيرُ بَابُ بَيَانِ الَّذِي وَصِلَتِهِ (تَنْطِقُ) أَيْ تُصَوِّتُ؛ لِأَنَّ النُّطْقَ وَالْمَنْطِقَ مَا يُصَوِّتُ بِهِ مِنْ مُفْرَدٍ وَمُؤَلَّفٍ مُفِيدًا وَغَيْرَهُ وَيَكُونُ لِلْعُقَلَاءِ وَغَيْرِهِمْ. قَالَتْ الْعَرَبُ: نَطَقَتْ الْحَمَامَةُ، وَقَالَ تَعَالَى: {عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ} [النمل: 16] فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْكَلَامِ، وَالضَّمِيرُ فِي (بِهِ) رَاجِعٌ إلَى مَا الْمَوْصُولَةِ؛ لِأَنَّهَا بِمَعْنَى الَّذِي، وَفَاعِلُ تَنْطِقُ (الْأَلْسِنَةُ) جَمْعُ لِسَانٍ يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ وَهُوَ تُرْجُمَانُ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ آلَةُ النُّطْقِ فَذَكَرَهُ لِبَيَانِ الْوَاقِعِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَنْطِقُ هُوَ صَاحِبُ اللِّسَانِ، وَكَذَا يُقَالُ فِيمَا بَعْدَهُ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ وَهُوَ إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ. (وَ) بَابُ بَيَانِ الَّذِي (تَعْتَقِدُهُ) الْمُرَادُ تَعْلَمُهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ فَإِنَّهُ قَالَ: الِاعْتِقَادُ هُوَ الذِّكْرُ النَّفْسِيُّ الَّذِي لَا يَحْتَمِلُ مُتَعَلِّقُهُ النَّقِيضَ عِنْدَ الذَّاكِرِ، فَالْمُرَادُ بِالِاعْتِقَادِ الْعِلْمُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ بِهِ هُنَا حَقِيقَتُهُ وَهُوَ حُكْمُ الذِّهْنِ الْجَازِمِ الْقَابِلِ لِلتَّغْيِيرِ، وَقَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ أَيْضًا: وَجَازِمُهُ الَّذِي لَا يَقْبَلُ التَّغْيِيرَ عِلْمٌ، وَقَابَلَهُ اعْتِقَادٌ صَحِيحٌ إنْ طَابَقَ الْوَاقِعَ كَاعْتِقَادِ الْمُقَلِّدِ سُنِّيَّةَ الضُّحَى، وَفَاسِدٌ إنْ لَمْ يُطَابِقْ كَاعْتِقَادِ الْفَلْسَفِيِّ قَدِمَ الْعَالَمِ، وَفَاعِلُ تَعْتَقِدُهُ (الْأَفْئِدَةُ) جَمْعُ فُؤَادٍ وَهُوَ مُرَادِفٌ، لِلْقَلْبِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، وَقِيلَ: الْفُؤَادُ دَاخِلُ الْقَلْبِ، وَقِيلَ: الْفُؤَادُ الْغِشَاءُ الَّذِي عَلَى الْقَلْبِ، فَالْأَقْوَالُ ثَلَاثَةٌ. وَقَالَ الْغَزَالِيُّ: الْقَلْبُ لَطِيفَةٌ رَبَّانِيَّةٌ هِيَ الْمُخَاطَبَةُ وَهِيَ الَّتِي تُثَابُ وَتَعَاقُبُ، وَلَهَا تَعَلُّقٌ بِالْقَلْبِ الْجُسْمَانِيِّ الصَّنَوْبَرِيِّ الشَّكْلِ تَعَلُّقُ الْعَرَضِ بِالْجَوْهَرِ، وَيُسَمَّى رُوحًا وَنَفْسًا، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُذْكَرُ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْهُ مَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ مُطْلَقًا وَهُوَ الشَّهَادَتَانِ وَمِنْهُ مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَلَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ إلَّا إذَا سُئِلَ عَنْهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَنْطِقَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى اعْتِقَادِهِ ذَلِكَ وَذَلِكَ سَائِرُ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، فَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ وَاعْتِقَادُهُ، ثُمَّ بَيَّنَ عُمُومَ مَا يَقُولُهُ (مِنْ وَاجِبِ أُمُورٍ) أَيْ أَحْوَالٍ وَشُؤُون (الدِّيَانَاتِ) جَمْعُ دِينٍ وَهُوَ وَاحِدٌ عِنْدَ اللَّهِ، وَجُمِعَ بِاعْتِبَارِ أَنْوَاعِ الْعِبَادَاتِ أَوْ بِاعْتِبَارِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَوْلُهُ: وَاجِبُ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ إنْ حُمِلَ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ فَمِنْ لِبَيَانِ جِنْسِ الْوَاجِبِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِمَا تَنْطِقُ بِهِ الْأَلْسِنَةُ وَتَعْتَقِدُهُ الْأَفْئِدَةُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى أَعَمَّ مِنْ أَنْ تَكُونَ نُطْقًا فَقَطْ أَوْ اعْتِقَادًا فَقَطْ فَهِيَ لِلتَّبْعِيضِ، وَهَذَا الْبَابُ عَقَدَهُ الْمُصَنِّفُ لِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ عِلْمِ التَّوْحِيدِ وَقَدَّمَهُ عَلَى فَنِّ الْفِقْهِ لِتَقَدُّمِهِ فِي الْوُجُوبِ، وَقَدْ اشْتَمَلَ عَلَى أَزِيدَ مِنْ مِائَةِ عَقِيدَةٍ وَمَرْجِعُهَا إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: مَا يَجِبُ لِلَّهِ، وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وَمَا يَجُوزُ، فَأَشَارَ إلَى مَا يَجِبُ لِلَّهِ بِقَوْلِهِ: الْعَالِمُ الْخَبِيرُ إلَى قَوْلِهِ الْبَاعِثُ الرُّسُلَ، وَأَشَارَ إلَى الْمُسْتَحِيلِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ غَيْرَهُ إلَى قَوْلِهِ الْعَالِمُ الْخَبِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 مِنْ ذَلِكَ: الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ، وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ، لَا إلَهَ غَيْرُهُ. وَلَا شَبِيهَ لَهُ، وَلَا نَظِيرَ لَهُ، وَلَا   [الفواكه الدواني] بِإِخْرَاجِ الْغَايَةِ، وَأَشَارَ إلَى الْجَائِزِ بِقَوْلِ: الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَخْ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ أَوَّلَ الْوَاجِبَاتِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْوُجُودَ الْمَفْهُومَ مِنْ قَوْلِهِ إلَهٌ وَاحِدٌ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا لَهُ تَعَالَى. (مُقَدِّمَةٌ) : مِنْ الْوَاجِبِ عَلَى كُلِّ طَالِبِ عِلْمٍ أَنْ يَتَصَوَّرَهُ وَلَوْ بِرَسْمِهِ لِيَكُونَ عَلَى بَصِيرَةٍ فِي طَلَبِهِ، وَأَنْ يَعْرِفَ مَوْضُوعَهُ لِيَتَمَيَّزَ عِنْدَهُ عَنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَعْرِفَ غَايَتَهُ لِئَلَّا يَكُونَ اشْتِغَالُهُ بِهِ عَبَثًا، وَأَنْ يَعْرِفَ اسْتِمْدَادَهُ وَمَنْفَعَتَهُ وَحُكْمَهُ وَوَاضِعَهُ. فَحَدُّهُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: عِلْمٌ يُقْتَدَرُ مَعَهُ عَلَى إثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَلَى الْغَيْرِ وَإِلْزَامِهَا إيَّاهُ بِإِيرَادِ الْحُجَجِ وَرَدِّ الشُّبَهِ، وَقَالَ السَّعْدُ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ عَنْ الْأَدِلَّةِ الْيَقِينِيَّةِ أَوْ الْعِلْمُ بِالْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ الِاعْتِقَادِيَّةِ الْمُكْتَسِبِ مِنْ أَدِلَّتِهَا الْيَقِينِيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالدِّينِيَّةِ الْمَنْسُوبَةُ إلَى دِينِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَاعْتُبِرَ فِي أَدِلَّتِهَا الْيَقِينُ؛ لِأَنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِالظَّنِّ فِي الِاعْتِقَادِيَّاتِ بَلْ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَخَرَجَ عَنْ التَّعْرِيفِ الْعِلْمُ بِغَيْرِ الشَّرْعِيَّاتِ وَبِالشَّرْعِيَّاتِ الْفَرْعِيَّةِ وَعِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمُلْكِ وَعِلْمُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ، وَكَذَا اعْتِقَادُ الْمُقَلِّدِ فِيمَنْ يُسَمِّيه عِلْمًا؛ لِأَنَّ هَذِهِ كُلَّهَا لَيْسَتْ عَنْ أَدِلَّةٍ، وَدَخَلَ فِي التَّعْرِيفِ عِلْمُ عُلَمَاءِ الصَّحَابَةِ بِالِاعْتِقَادِيَّاتِ فَإِنَّهَا كَلَامٌ وَأُصُولٌ وَعَقَائِدُ وَإِنْ كَانُوا لَا يُسَمُّونَهُ بِعِلْمِ التَّوْحِيدِ فِي زَمَنِهِمْ. وَمَوْضُوعُهُ الْمَعْلُومُ مِنْ حَيْثُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ إثْبَاتُ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ، إذْ مَوْضُوعُ كُلِّ عِلْمٍ مَا يُبْحَثُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمِ عَنْ عَوَارِضِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يُبْحَثُ فِي هَذَا الْعِلْمِ عَنْ أَحْوَالِ الصَّانِعِ مِنْ الْقَدَمِ وَالْوَحْدَةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا هُوَ عَقِيدَةٌ إسْلَامِيَّةٌ لِيَعْتَقِدَ ثُبُوتَهَا لَهُ، وَعَنْ أَحْوَالِ الْجِسْمِ وَالْعَرَضِ مِنْ الْحُدُوثِ وَالِافْتِقَارِ وَالتَّرْكِيبِ مِنْ الْأَجْزَاءِ وَقَبُولِ الْفَنَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ وَسِيلَةٌ إلَى عَقِيدَةٍ إسْلَامِيَّةٍ، فَإِنَّ تَرْكِيبَ الْجِسْمِ وَقَبُولَهُ لِلْفَنَاءِ دَلِيلٌ عَلَى افْتِقَارِهِ إلَى الْمُوجِدِ لَهُ، وَكُلُّ هَذَا بَحْثٌ عَنْ أَحْوَالِ الْمَعْلُومِ لِإِثْبَاتِ الْعَقَائِدِ الدِّينِيَّةِ وَهُوَ كَالْمَوْجُودِ، إلَّا أَنَّهُ أَوْثَرُ عَلَى الْمَوْجُودِ لِيَصِحَّ عَلَى رَأْيِ، مَنْ لَا يَقُولُ بِالْوُجُودِ الذِّهْنِيِّ وَلَا يَعْرِفُ الْعِلْمَ بِحُصُولِ الصُّورَةِ فِي الْعَقْلِ وَيَرَى مَبَاحِثَ الْمَعْدُومِ وَالْحَالَّ مِنْ مَبَاحِثِ الْكَلَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذَا الْعِلْمَ يُبْحَثُ فِيهِ عَنْ ذَاتِ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ وَأَحْوَالِ الْمُمْكِنَاتِ فِي الْمَبْدَإِ وَالْمَعَادِ عَلَى قَانُونِ الْإِسْلَامِ. وَغَايَتُهُ أَنْ يَصِيرَ الْإِيمَانُ وَالتَّصْدِيقُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مُتْقَنًا مُحْكَمًا لَا تُزَلْزِلُهُ شُبْهَةُ الْمُبْطِلِينَ، وَمَنْفَعَتُهُ فِي الدُّنْيَا انْتِظَامُ أَمْرِ الْمَعَاشِ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الْعَدْلِ وَالْمُعَامَلَةِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي بَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ وَعَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إلَى الْفَسَادِ، وَمَنْفَعَتُهُ فِي الْآخِرَةِ النَّجَاةُ مِنْ الْعَذَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْكُفْرِ وَسُوءِ الِاعْتِقَادِ، وَمَسَائِلُهُ الْقَضَايَا النَّظَرِيَّةُ الشَّرْعِيَّةُ الِاعْتِقَادِيَّةُ وَالِاحْتِرَازُ بِالْقَضَايَا النَّظَرِيَّةِ مِنْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ خِلَافٌ فِي أَنَّ الْبَدِيهِيَّ لَا يَكُونُ مِنْ الْمَسَائِلِ وَالْمَطَالِبِ الْعِلْمِيَّةِ، بَلْ لَا مَعْنَى لِلْمَسْأَلَةِ إلَّا مَا يُسْأَلُ عَنْهُ وَيَطْلُبُ بِالدَّلِيلِ، وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْوُجُوبِ وَالْجَوَازِ وَالِامْتِنَاعِ، وَقَالَ بَعْضٌ: اسْتِمْدَادُهُ مِنْ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالْإِجْمَاعِ وَنَظْرِ الْعَقْلِ، وَلَعَلَّ الْخَلْفَ فِي التَّعْبِيرِ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ وَالْوُجُوبَ وَالِامْتِنَاعَ إنَّمَا تُؤْخَذُ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ مِمَّا يَرْجِعُ لِلدَّلِيلِ الْجُمَلِيِّ فَفَرْضُ عَيْنٍ عَلَى طَرِيقِ الْجُمْهُورِ، وَأَمَّا مَا يَرْجِعُ لِلدَّلِيلِ التَّفْصِيلِيِّ فَمُخْتَلَفٌ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَنَقَلَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ أَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَظَاهِرُ أَسْئِلَةِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَأَمَّا حُكْمُهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَهُوَ الْوُجُوبُ فَمُجْمَعٌ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، وَوَاضِعُهُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ وَإِلَيْهِ تُنْسَبُ أَهْلُ السُّنَّةِ حَتَّى لُقِّبُوا بِالْأَشَاعِرَةِ. (مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ (الْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِالْقَلْبِ) الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْفُؤَادِ. (وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ) وَمَعْمُولُ الْإِيمَانِ وَالنُّطْقِ عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ (أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَهَ غَيْرُهُ) تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ. وَفِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ: وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَا يُوجَدُ إلَّا إذَا حَصَلَ التَّصْدِيقُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنَّمَا حَذَفَ تِلْكَ الْجُمْلَةَ هُنَا؛ لِأَنَّهُ يُشِيرُ لَهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ إلَخْ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا كَالصَّرِيحِ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ مُرَكَّبٌ مِنْ التَّصْدِيقِ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقِ بِاللِّسَانِ، وَيُعَيِّنُ هَذَا قَوْلُهُ الْآتِي: وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ، وَأَمَّا الْعَمَلُ بِالْجَوَارِحِ فَشَرْطٌ فِي كَمَالِهِ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَقَدَّمْنَا قَبْلَ الْبَابِ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَآمَنُوا بِاَللَّهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ نَاطِقِينَ وَبِقُلُوبِهِمْ مُخْلِصِينَ وَبِمَا أَتَتْهُمْ بِهِ رُسُلُهُ وَكُتُبُهُ عَامِلِينَ، أَنَّ هَذَا مَذْهَبَ السَّلَفِ وَهُوَ مُوَافِقٌ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا: مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ وَالنُّطْقُ بِاللِّسَانِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ لَا إلَه غَيْرُهُ، وَسَكَتَ عَنْ الْأَعْمَالِ إشَارَةً إلَى أَنَّهَا غَيْرُ رُكْنٍ مِنْهُ وَإِنَّمَا هِيَ شَرْطُ كَمَالٍ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ آخِرَ الْبَابِ: وَإِنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ الْمُوهِمِ أَنَّهُ مُرَكَّبٌ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَنُسِبَ لِجُمْهُورِ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ وَالْفُقَهَاءِ مِنْهُمْ ابْنُ حَبِيبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَلِلْمُعْتَزِلَةِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ الْأَعْمَالِ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ لَا أَنَّهَا رُكْنٌ مِنْهُ بِدَلِيلِ تَصْرِيحِهِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، لِلْقَاعِدَةِ مِنْ رَدِّ الْمُحْتَمِلِ لِغَيْرِهِ فَيَصِيرُ كَلَامُهُ فِي الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ فَيَجْعَلُونَ الْأَعْمَالَ رُكْنًا حَقِيقِيًّا لِلْإِيمَانِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْأَعْمَالُ عِنْدَ السَّلَفِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ. وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ رُكْنٌ فِيهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي فَهْمُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ لَا مَا يُوهِمُهُ كَلَامُ التَّحْقِيقِ مِنْ نِسْبَةِ الْآتِي لِلْمُعْتَزِلَةِ وَالْمُحَدِّثِينَ؛ لِأَنَّ الْأَمَاكِنَ الْمُتَخَالِفَةَ إذَا أَمْكَنَ رَدُّهَا لِشَيْءٍ وَاحِدٍ يُصَارُ إلَيْهِ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَمَا يُعَيَّنُ ذَلِكَ كَمَا هُنَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ شَاهِدُ صِدْقٍ فِيمَا قُلْنَا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة عَدَمُ تَرَكُّبِهِ، وَإِنَّمَا هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ التَّصْدِيقِ الْقَلْبِيِّ بِكُلِّ مَا عُلِمَ مَجِيءُ الرَّسُولِ بِهِ وَاشْتَهَرَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَصَارَ الْعِلْمُ بِهِ يُشَابِهُ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالضَّرُورَةِ بِحَيْثُ يَعْلَمُهُ الْعَامَّةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ نَظَرِيًّا كَوَحْدَةِ الصَّانِعِ وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، وَالْمُرَادُ مِنْ تَصْدِيقِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبُولُ مَا جَاءَ بِهِ مَعَ الرِّضَا بِتَرْكِ التَّكَبُّرِ وَالْعِنَادِ وَالِامْتِثَالِ لِبِنَاءِ الْأَعْمَالِ عَلَيْهِ، لَا مُجَرَّدَ نِسْبَةِ الصِّدْقِ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ إذْعَانٍ، حَتَّى يَلْزَمَ عَلَيْهِ إيمَانُ كَثِيرٍ مِنْ الْكُفَّارِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْلَمُونَ بِحَقِيقَةِ نُبُوَّتِهِ وَلَكِنْ لَمْ يُذْعِنُوا لِذَلِكَ كَأَبِي طَالِبٍ وَمَنْ شَابَهَهُ، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ عِنْدَهُمْ أَنَّهُ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُهُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ أَوْ شَطْرًا مِنْهُ. وَاقْتَصَرَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ عَلَى مَذْهَبِهِمْ حَيْثُ قَالَ وَفَسَّرَ الْإِيمَانَ بِالتَّصْدِيقِ ... وَالنُّطْقَ فِيهِ الْخُلْفَ بِالتَّحْقِيقِ فَقِيلَ شَرْطٌ كَالْعَمَلِ وَقِيلَ بَلْ ... شَطْرٌ وَالْإِسْلَامُ اشْرَحَنَّ بِالْعَمَلِ وَأَمَّا أَعْمَالُ الْجَوَارِحِ فَهِيَ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ، فَالتَّارِكُ لَهَا أَوْ لِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ وَلَا عِنَادٍ، وَلَا شَكٍّ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا مُؤْمِنٌ مُفَوِّتٌ عَلَى نَفْسِهِ الْكَمَالَ وَالْآتِي بِهَا مُمْتَثِلًا مُحَصِّلًا لِأَكْمَلِ الْخِصَالِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ فَهُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ فَهِيَ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ، وَعَلَيْهِ فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَلَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ لَا لِعُذْرٍ وَلَا لِإِبَاءٍ فَهُوَ مُؤْمِنٌ نَاجٍ عِنْدَ اللَّهِ غَيْرُ مُؤْمِنٍ فِي أَحْكَامِ الشَّرْعِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ، وَمَنْ أَقَرَّ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُصَدِّقْ بِقَلْبِهِ فَبِالْعَكْسِ وَيُقَالُ لَهُ مُنَافِقٌ وَزِنْدِيقٌ، وَأَمَّا الْآبِي مِنْ النُّطْقِ فَكَافِرٌ فِي الدَّارَيْنِ، وَالْمَعْذُورُ مُؤْمِنٌ فِيهِمَا؛ فَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا ثَلَاثُ مَذَاهِبَ: مَذْهَبُ السَّلَفِ وَهُوَ مَا جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، وَمَذْهَبُ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة وَهُوَ مَا صَدَّرَ بِهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ، وَمَذْهَبُ الْمُحَدِّثِينَ وَالْمُعْتَزِلَةُ وَقَدْ وَضَّحْنَا جَمِيعَهَا. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: الظَّاهِرُ مِنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَشْتَرِطُ النُّطْقَ بِخُصُوصِ أَشْهَدُ بَلْ الْإِتْيَانُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْوَحْدَانِيَّةِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ خُصُوصُ لَفْظِ أَشْهَدُ فِي الْإِقْرَارِ بِالرِّسَالَةِ، وَاعْتَمَدَ هَذَا الْأَبِيُّ وَمَنْ تَبِعَهُ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ أَشْهَدُ عَلَى الْقَادِرِ بِهَا؛ لِأَنَّهَا كَلِمَةٌ تَعَبَّدَنَا الشَّارِعُ بِهَا فَلَا يَدْخُلُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا بِهَا، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَوْ أَتَى بِمَا يَجِبُ النُّطْقُ بِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ وَهُوَ يُحْسِنُ الْعَرَبِيَّةَ فَالْأَصَحُّ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ لِوُجُودِ الْإِقْرَارِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَمَّا مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْعَرَبِيَّةِ فَيُكْتَفَى مِنْهُ بِمَا أَتَى بِهِ بِلُغَتِهِ اتِّفَاقًا. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْإِيمَانِ حَيْثُ قَالَ: مِنْ ذَلِكَ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ إلَخْ وَسَكَتَ عَنْ الْإِسْلَامِ فَلَعَلَّهُ مَشَى عَلَى طَرِيقِ جُمْهُورِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ وَبَعْضِ مُحَقِّقِينَ مِنْ الْأَشَاعِرَةِ بِاتِّحَادِ مَفْهُومِيهِمَا بِمَعْنَى وَحْدَةِ مَا يُرَادُ مِنْهُمَا شَرْعًا وَتَلَازُمُهُمَا فِي الْخَارِجِ، وَأَمَّا طَرِيقُ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ فَالْإِيمَانُ يُغَايِرُ الْإِسْلَامَ فِي الْحَقِيقَةِ وَفِي الْخَارِجِ، وَإِنْ تَلَازَمَا شَرْعًا فَالْإِيمَانُ حَقِيقَتُهُ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ وَالْإِسْلَامُ حَقِيقَتُهُ الِانْقِيَادُ الظَّاهِرِيُّ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَيَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِهِمَا ذَاتًا وَمَفْهُومًا آيَةُ {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَحَدِيثُ جِبْرِيلَ بِأَنَّهُ فَسَّرَ الْإِيمَانَ بِمَا يُغَايِرُ الْإِسْلَامَ، وَاخْتِلَافُهُمْ فِي خَلْقِ الْإِيمَانِ وَعَدَمِ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ الرَّاجِحُ أَنَّهُ مَخْلُوقٌ؛ لِأَنَّهُ التَّصْدِيقُ وَهُوَ مَخْلُوقٌ بِخِلَافِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى خَلْقِهِ؛ لِأَنَّهُ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ إلَى آخَرِ الْحَدِيثِ. الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى وَاحِدٌ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْعَقْلُ، فَالْكِتَابُ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وَالسُّنَّةُ أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ إلَخْ، وَالْإِجْمَاعُ قَوْلُ الْأُمَّةِ بِلِسَانٍ وَاحِدٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْأَحَدُ، وَالْعَقْلُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِبُرْهَانِ التَّمَانُعِ وَيُقَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 وَلَدَ لَهُ، وَلَا وَالِدَ لَهُ، وَلَا صَاحِبَةَ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ، لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ، وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ. ، لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ   [الفواكه الدواني] لَهُ بُرْهَانُ التَّطَارُدِ وَتَقْرِيرُهُ لَوْ وُجِدَ عَلَى جِهَةِ الْمُفْرِضِ فَرْدَانِ مُتَّصِفَانِ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ لَأَمْكَنَ التَّمَانُعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُرِيدَ أَحَدُهُمَا صِحَّةَ زَيْدٍ وَالْآخَرُ سَقْمَهُ، وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ يَحْصُلَ مُرَادُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اجْتِمَاعَ الضِّدَّيْنِ، أَوْ لَا يَقَعَ مُرَادُهُمَا وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ عَجْزَهُمَا مَعَ اتِّصَافِهِمَا بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، أَوْ يَقَعَ مُرَادُ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ وَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ التَّرْجِيحَ بِلَا مُرَجِّحٍ وَاسْتِلْزَامِهِ عَجْزَ مَنْ فُرِضَ قَادِرًا وَيَلْزَمُ مِنْهُ عَجْزُ الْآخَرُ بِانْعِقَادِ الْمُمَاثَلَةِ، وَإِلَى هَذَا الْبُرْهَانِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أَيْ وَلَمْ تَفْسُدَا فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ الْعَقْلِيَّةِ بُرْهَانُ التَّوَارُدِ أَيْضًا وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: لَوْ وُجِدَ إلَهَانِ مُتَّصِفَانِ بِصِفَاتِ الْأُلُوهِيَّةِ، فَإِذَا قَصَدَا إيجَادَ مَقْدُورٍ مُعَيَّنٍ فَوُقُوعُهُ إمَّا بِكُلٍّ مِنْهُمَا فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ مُؤَثِّرَيْنِ عَلَى أَثَرٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ؛ لِأَنَّ الْجَوْهَرَ الْفَرْدَ مَخْلُوقٌ قَطْعًا، وَلَوْ تَوَارَدَ عَلَيْهِ قُدْرَتَانِ وَارِدَتَانِ صَارَ أَثَرَيْنِ فَيَلْزَمُ انْقِسَامُ مَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ إنْ قُدِّرَ أَنَّ الَّذِي أَوْجَدَهُ أَحَدُهُمَا غَيْرُ الَّذِي أَوْجَدَهُ الْآخَرُ وَهُوَ لَا يُعْقَلُ،؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ أَنَّهُ شَيْءٌ لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا وُجُودٌ وَاحِدٌ لَا يُمْكِنُ انْقِسَامُهُ، وَأَمَّا تَحْصِيلُ الْحَاصِلِ إنْ قُدِّرَ الَّذِي أَوْجَدَهُ كُلَّ وَاحِدٍ هُوَ مَا أَوْجَدَهُ الْآخَرُ فَهُوَ مُحَالٌ أَيْضًا وَأَنَّ الْإِيجَادَ بِأَحَدِهِمَا فَيَلْزَمُ التَّرْجِيحُ بِلَا مُرَجِّحٍ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَضَى لِلْقَادِرِيَّةِ ذَاتُ الْإِلَهِ وللمقدورية إمْكَانُ الْمُمْكِنِ، فَنِسْبَةُ الْمُمْكِنَاتِ إلَى الْإِلَهَيْنِ الْمَفْرُوضَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ مِنْ غَيْرِ رُجْحَانٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى. ، وَأَشَارَ إلَى صِفَاتِ السُّلُوبِ وَهِيَ الْمُخَالِفَةُ لِلْحَوَادِثِ بِقَوْلِهِ: (وَ) مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَاتِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا نَظِيرَ لَهُ) فِي ذَاتِهِ وَلَا فِي صِفَاتِهِ وَلَا فِي أَفْعَالِهِ، وَالنَّظِيرُ بِمَعْنَى الشَّبِيهِ فَهُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَنَزُّهُهُ عَنْ الشَّبِيهِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ أَشْبَهَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ لَكَانَ مُشْبِهًا لَهُ وَجَائِزًا عَلَيْهِ الْفَنَاءُ الْجَائِزُ عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَزِمَ كَوْنُهُ خَالِقًا وَمَخْلُوقًا وَقَدِيمًا وَحَادِثًا وَكُلُّ ذَلِكَ مُحَالٌ. قَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةِ تَنْزِيهٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُجَسِّمَةِ وَآخِرُهَا إثْبَاتٌ، فَفِيهِ رَدٌّ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ النَّافِينَ لِزِيَادَةِ جَمِيعِ الصِّفَاتِ، وَقَدَّمَ فِيهَا النَّفْيَ عَلَى الْإِثْبَاتِ. وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى الْعَكْسُ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ الْإِثْبَاتَ فِيهَا لَأَوْهَمَ التَّشْبِيهَ بِالْمَخْلُوقِ الَّذِي سَمْعُهُ بِأُذُنٍ وَبَصَرَهُ بِحَدَقَةٍ، فَقَدَّمَ التَّنْزِيهَ لَيَعْرِفَ السَّامِعُ ابْتِدَاءً أَنَّهُ لَيْسَ مُشَابِهًا لِشَيْءٍ مِنْ الْحَوَادِثِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى مُخَالَفَتِهِ تَعَالَى لِسَائِرِ الْحَوَادِثِ وَهِيَ أَقْمَعُ آيَةٍ لِلشَّيْطَانِ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِلْإِنْسَانِ فِي مَقَامِ الْبَحْثِ عَنْ ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَيْضًا أَنَّهُ تَعَالَى (لَا وَلَدَ لَهُ) قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} [مريم: 92] وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] (وَ) كَذَا (وَلَا وَالِدَ لَهُ) فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْهُ أَحَدٌ وَلَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ أَحَدٍ، وَالْوَلَدُ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، وَالْوَالِدُ الْمُرَادُ بِهِ مَا يَشْمَلُ الْأُمَّ أَيْضًا. (وَ) كَذَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ (لَا صَاحِبَةَ) أَيْ لَا زَوْجَةَ (لَهُ) وَلَا صَدِيقَ وَلَا ضِدَّ وَلَا وَزِيرَ لَهُ. (وَ) كَذَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (لَا شَرِيكَ لَهُ) لَا فِي الذَّاتِ وَلَا فِي الصِّفَاتِ وَلَا فِي الْأَفْعَالِ، وَسُورَةُ الْإِخْلَاصِ نَفَتْ جَمِيعَ ذَلِكَ حَتَّى نَفَتْ أُصُولَ الْكُفْرِ مِنْ الْعَدَدِ وَالنَّقْصِ الَّذِي هُوَ الِاحْتِيَاجُ، وَالتَّقْلِيلُ بِالْقَافِ الَّذِي هُوَ الْبَسَاطَةُ وَالْعِلَّةُ وَالْمَعْلُولُ وَالشَّبِيهُ وَالنَّظِيرُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: {اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] نَفْيُ الْكَثْرَةِ بِمَعْنَى التَّرْكِيبِ وَالْعَدَدِ، وَ {اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 2] نَفْيُ النَّقْصِ الَّذِي هُوَ الِاحْتِيَاجُ وَالتَّقْلِيلِ الَّذِي هُوَ الْبَسَاطَةُ، وَ {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] نَفْيُ الْعِلَّةِ وَالْمَعْلُولِ، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] نَفْيُ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَنَزُّهُهُ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الْمَخْلُوقَاتِ وَهُوَ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ مُشَابَهَةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَسُئِلَ سَيِّدِي أَحْمَدُ بْنُ زَكَرِيَّا إذَا رَأَتْ الْخَلَائِقُ رَبَّهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَحُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ هَلْ يَتَخَيَّلُونَهُ بَعْدَ ذَلِكَ؟ فَأَجَابَ بِعَدَمِ جَوَازِ التَّخَيُّلِ؛ لِأَنَّ مَا فِي الْخَيَالِ مَثَلٌ وَاَللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَثَلٌ أَوْ يُدْرَكُ بِالْوَهْمِ أَوْ الْخَيَالِ، هَذَا مَا تَقْتَضِيه ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ خِلَافًا لِبَحْثِ بَعْضِ الشُّيُوخِ. فَإِنْ قُلْت: لَهُ التَّنْزِيهُ عَنْ الْمِثْلِ نَفْيَ الْمِثْلِ لَهُ تَعَالَى وَهُوَ مُعَارِضٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [الروم: 27] قُلْت: الْمَثَلُ الْمُثْبَتُ لَهُ تَعَالَى غَيْرُ الْمَثَلِ الْمَنْفِيِّ، فَالْمَثَلُ الْمَنْفِيُّ بِمَعْنَى الْمُمَاثِلِ وَالْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَالْمُثْبَتُ بِمَعْنَى الصِّفَةِ بِدَلِيلِ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ} [النحل: 60] أَيْ لَهُمْ صِفَةُ النَّقْصِ وَهِيَ الْحَاجَةُ إلَى الْوَلَدِ، وَبِدَلِيلِ {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] أَيْ الْوَصْفُ وَهُوَ الْوُجُوبُ الذَّاتِيُّ وَالْغِنَى الْمُطْلَقِ وَالْجُودُ الْفَائِقُ وَالنَّزَاهَةُ عَنْ صِفَاتِ الْمَخْلُوقَاتِ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ. قَالَهُ السَّنُوسِيُّ فِي شَرْحِ الْجَزَائِرِيَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا قَدَّمَ بَعْضَ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ وَهِيَ الْوَحْدَانِيَّةُ الْمَدْلُولُ عَلَيْهَا بِوَاحِدٍ مِمَّا تَقَدَّمَ، وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِنَفْيِ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ، ذَكَرَ هُنَا صِفَتَيْنِ وَهُمَا الْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ مُعَبِّرًا عَنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ) أَيْ لِوُجُودِهِ (ابْتِدَاءٌ) ؛ لِأَنَّهُ قَدِيمٌ بِالذَّاتِ وَهُوَ مَوْجُودٌ لَا ابْتِدَاءَ لِوُجُودِهِ لِامْتِنَاعِ أَنْ يَسْبِقَ وُجُودَهُ عَدَمٌ، لِأَنَّ الْقِدَمَ عِبَارَةٌ عَنْ عَدَمِ الْأَوَّلِيَّةِ لِلْوُجُودِ لِئَلَّا يَلْزَمَ حُدُوثُهُ، وَمِنْ لَازَمَ الْحُدُوثِ الِافْتِقَارُ إلَى مُحْدِثٍ وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ وَهُوَ مُحَالٌ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدِيمٌ لَمْ يُسْبَقْ بِعَدَمٍ، وَقَيَّدْنَا الْقِدَمَ بِالذَّاتِيِّ؛ لِأَنَّهُ الْمُخْتَصُّ بِهِ تَعَالَى لِرُجُوعِهِ إلَى وُجُوبِ الْوُجُودِ فَهُوَ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْقِدَمِ الزَّمَانِيِّ بِمَعْنَى مُرُورِ الْأَزْمِنَةِ عَلَى الشَّيْءِ مَعَ بَقَائِهِ فَهَذَا مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى. وَمِنْهُ: {كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} [يس: 39] وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقِدَمَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: ذَاتِيٌّ كَقِدَمِ الْوَاجِبِ الْوُجُودِ، وَزَمَانِيٌّ كَقِدَمِ زَمَانِ الْهِجْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَوْمِ، وَإِضَافِيٌّ كَقِدَمِ الْأَبِ بِالنِّسْبَةِ لِلِابْنِ، وَسَلْبِيٌّ كَقِدَمِ وُجُودِهِ تَعَالَى بِمَعْنَى سَلْبِ سَبْقِ الْعَدَمِ لِوُجُودِهِ تَعَالَى. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (لِآخِرِيَّتِهِ) أَيْ بَقَائِهِ (انْقِضَاءٌ) أَيْ فَرَاغٌ لِامْتِنَاعِ لُحُوقِ الْعَدَمِ لِمَا ثَبَتَ لَهُ تَعَالَى مِنْ وُجُوبِ الْقِدَمِ؛ لِأَنَّهُ تَقَرَّرَ أَنَّ كُلَّ مَا ثَبَتَ قِدَمُهُ اسْتَحَالَ عَدَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قُدِّرَ لُحُوقُ الْعَدَمِ لَهُ تَعَالَى لَكَانَتْ نِسْبَةُ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ إلَى ذَاتِهِ تَعَالَى سَوَاءً، فَيَلْزَمُ افْتِقَارُ وُجُودِهِ إلَى مُوجِدٍ يَخْتَرِعُهُ بَدَلًا عَنْ الْعَدَمِ الْجَائِزِ عَلَيْهِ فَيَكُونُ حَادِثًا وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَكَذَا الْمَلْزُومُ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ وُجُوبِ الْوُجُودِ لَهُ تَعَالَى، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ بَاقٍ لَا يَلْحَقُهُ عَدَمٌ؛ لِأَنَّ الْبَقَاءَ عَدَمُ انْتِهَاءِ الْوُجُودِ أَوْ نَفْيُ الْعَدَمِ اللَّاحِقِ لِلْوُجُودِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ كَنَّى عَنْ الْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ بِلَفْظِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ إشَارَةً إلَى قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ} [الحديد: 3] لَكِنْ لَمَّا كَانَ لَفْظُ الْآيَةِ يُوهِمُ ابْتِدَاءَ الْأَوَّلِيَّةِ وَانْقِضَاءَ الْآخِرِيَّةِ عَلَى مَا هُوَ مَعْهُودٌ فِي كُلِّ أَوَّلٍ وَفِي كُلِّ آخِرٍ بَيَّنَ الْمُؤَلِّفُ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ: لَيْسَ لِأَوَّلِيَّتِهِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ، وَقَوْلُ صَاحِبِ الْأَسْمَاءِ: أَوَّلٌ بِلَا ابْتِدَاءٍ وَآخِرٌ بِلَا انْتِهَاءٍ مِثْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: لَيْسَ لِسَبْقِهِ عَلَى جَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ ابْتِدَاءٌ وَلَا لِبَقَائِهِ بَعْدَ فَنَاءِ الْخَلْقِ انْتِهَاءٌ، وَتَقْرِيرُ كَلَامِ صَاحِبِ الْأَسْمَاءِ: لَيْسَ لِكَوْنِهِ أَوَّلًا ابْتِدَاءٌ وَلَا لِكَوْنِهِ آخِرًا انْتِهَاءٌ، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ وَهَذَا بِخِلَافِ أَوَّلِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ. فَإِنَّ كُلَّ أَوَّلٍ مِنْهَا لَهُ آخِرٌ إلَّا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ وَأَهْلُهُمَا، فَإِنَّ هَذِهِ لَهَا أَوَّلٌ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ اللَّهِ إيَّاهَا وَلَيْسَ لَهَا آخِرٌ؛ لِأَنَّهَا لَا تَفْنَى، وَمَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هَذَا الْكَلَامُ يُفِيدُ أَنَّ لَهُ أَوَّلِيَّةٌ لَكِنْ لَا ابْتِدَاءَ لَهَا وَأَنَّ لَهُ آخِرِيَّةً لَكِنْ لَا انْقِضَاءَ لَهَا، وَأَجَابَ بِأَنَّهُ كَنَّى بِنَفْيِ ابْتِدَاءِ الْأَوَّلِيَّةِ وَانْتِهَاءِ الْآخِرِيَّةِ عَنْ نَفْيِ الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ، أَوْ يُقَالُ: إذَا انْتَفَتْ الِابْتِدَائِيَّةُ عَنْ الْأَوَّلِيَّةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْأَوَّلِيَّةُ إذْ لَا تَكُونُ أَوَّلِيَّةً مِنْ غَيْرِ ابْتِدَاءٍ، وَإِذَا انْتَفَتْ الِانْتِهَائِيَّةُ عَنْ الْآخِرِيَّةِ لَمْ تَتَحَقَّقْ الْآيَةُ إذْ كَيْفَ تَكُونُ آخِرِيَّةً مِنْ غَيْرِ انْتِهَاءٍ؟ وَأَجَابَ بَعْضٌ آخَرَ بِأَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ أَنَّ النَّفْيَ مُنْصَبٌّ عَلَى الْأَوَّلِيَّةِ وَالْآخِرِيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ أَوَّلِيَّةٌ فَيَكُونُ لَهَا ابْتِدَاءٌ وَلَا آخِرِيَّةٌ فَيَكُونُ لَهَا انْقِضَاءٌ كَقَوْلِهِ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ. أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ فَيُهْتَدَى بِهِ، فَيَكُونُ أَطْلَقَ نَفْيَ الصِّفَةِ وَأَرَادَ بِهَا نَفْيَ الْمَوْصُوفِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ الْكِنَايَةِ عَلَى طَرِيقِ السَّكَّاكِيِّ إذْ هِيَ عِنْدَهُ الِانْتِقَالُ مِنْ الْمَلْزُومِ وَإِرَادَةُ اللَّازِمِ كَمَا هُنَا، وَاللَّاحِبُ الطَّرِيقُ وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ، وَالثَّانِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِيَّةِ الْأَسْبَقِيَّةُ وَبِالْآخِرِيَّةِ الْبَقَاءُ، وَالنَّفْيُ مُنْصَبٌّ عَلَى ابْتِدَاءِ تِلْكَ الْأَسْبَقِيَّةِ وَعَلَى انْتِهَاءِ تِلْكَ الْآخِرِيَّةِ الَّتِي بِمَعْنَى الْبَقَاءِ أَيْ أَنَّهُ قَدِيمٌ أَيْ لَمْ يَسْبِقْ وُجُودَهُ عَدَمٌ، وَبَاقٍ لَمْ يَطْرَأْ عَلَيْهِ عَدَمٌ إذْ الْقِدَمُ سَلْبُ الْعَدَمِ السَّابِقِ عَلَى الْوُجُودِ وَالْبَقَاءُ سَلْبُ الْعَدَمِ اللَّاحِقِ لِلْوُجُودِ، وَإِنَّمَا كَانَ حَمْلُنَا أَظْهَرَ لِسَلَامَتِهِ مِنْ الْإِشْكَالِ الْمُحْوِجِ إلَى الْجَوَابِ بِمَا تَقَدَّمَ وَلِسَلَامَتِهِ مِنْ إيهَامِ التَّنَاقُضِ لِإِثْبَاتِهِ الْأَوَّلِيَّةَ وَالْآخِرِيَّةَ ثُمَّ نَفِيهِمَا عَنْهُ وَهُوَ تَنَاقُضٌ وَلَا كَلَامَ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلِيَّةَ هِيَ الِابْتِدَاءُ وَالْآخِرِيَّةَ الِانْقِضَاءُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمَا خِلَافُ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ غَيْرُهُ إلَى قَوْلِهِ وَلَا لِآخِرِيَّتِهِ انْقِضَاءٌ إلَى صِفَاتٍ لِلسُّلُوبِ، وَأَشَارَ إلَيْهِمَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مَعَ الْإِشَارَةِ لِلصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ بِقَوْلِهِ: فَوَاجِبٌ لَهُ الْوُجُودُ وَالْقِدَمُ ... كَذَا بَقَاءٌ لَا يُشَابُ بِالْعَدَمِ وَإِنَّهُ لِمَا يَنَالُ الْعَدَمُ ... مُخَالِفٌ بُرْهَانَ هَذَا الْقِدَمِ قِيَامُهُ بِالنَّفْسِ وَحْدَانِيَّةٌ ... مُنَزَّهٌ أَوْصَافُهُ سَنِيَّةٌ عَنْ ضِدٍّ أَوْ شِبْهِ شَرِيكٍ مُطْلَقًا ... وَوَالِدٍ كَذَا الْوَلَدُ وَالْأَصْدِقَا فَالْوُجُودُ صِفَةٌ نَفْسِيَّةٌ وَمَا بَعْدَهَا خَمْسٌ سَلْبِيَّةٌ وَهِيَ أُمَّهَاتُ الصِّفَاتِ السَّلْبِيَّةِ، فَلَا يُنَافِي عَدَمَ حَصْرِهَا. وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 الْوَاصِفُونَ، وَلَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ، وَيَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ، وَلَا يَتَفَكَّرُونَ فِي مَاهِيَّةِ ذَاتِهِ، وَلَا يُحِيطُونَ   [الفواكه الدواني] أَنَّهُ (لَا يَبْلُغُ) أَيْ لَا يُدْرِكُ (كُنْهَ) أَيْ حَقِيقَةَ (صِفَتِهِ) تَعَالَى (الْوَاصِفُونَ) أَيْ الْعَارِفُونَ بِطَرِيقِ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ، وَالصِّفَةُ لَا بِقَيْدٍ صِفَةُ اللَّهِ تَعَالَى هِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ، وَتَفْسِيرُ الْكُنْهِ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ الظَّاهِرُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْكُنْهِ الْغَايَةُ؛ لِأَنَّ كُنْهَ الشَّيْءِ غَايَتُهُ، وَعَلَى الِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ الَّذِي هُوَ الظَّاهِرُ يَكُونُ عَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَأَمَّا عَلَى الثَّانِي أَنَّ الصِّفَةَ غَايَةٌ لَا تُدْرَكَ وَهَذَا لَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُقَالَ هُوَ عَلَى حَدٍّ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، وَاللَّاحِبُ الطَّرِيقُ، وَالْمَنَارُ الْعَلَامَةُ أَيْ لَيْسَ لَهُ مَنَارٌ حَتَّى يُهْتَدَى بِهِ، وَمَثَلُهُ: وَلَا تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرُ، أَيْ لَا ضَبَّ لَهَا حَتَّى يَنْجَحِرُ أَيْ لَا يَدْخُلُ الْجُحْرَ، وَبِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا أَيْ لَا عِمَادَ لَهَا حَتَّى تَرَوْهَا، فَالْمَذْكُورَاتُ مِنْ بَابِ نَفْي اللَّازِمِ وَإِرَادَةِ نَفْيِ الْمَلْزُومِ، إذْ مَعْنَاهُ. لَا مَنَارَ لَهُ فَيَهْتَدِي بِهِ، وَالْمَعْنَى هُنَا: لَا غَايَةَ لِصِفَتِهِ حَتَّى تُدْرَكَ فَيَكُونُ كَنَّى بِعَدَمِ إدْرَاكِ غَايَةِ الصِّفَةِ عَنْ عَدَمِ إدْرَاكِ الصِّفَةِ، فَيَرْجِعُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ وَهُوَ عَدَمُ إدْرَاكِ صِفَتِهِ تَعَالَى. فَإِنْ قُلْت: تَعْرِيفُهُمْ لِكُلِّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى كَتَعْرِيفِهِمْ الْعِلْمَ بِأَنَّهُ صِفَةٌ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالشَّيْءِ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ بِهِ يَقْتَضِي إدْرَاكَ كُنْهِ الصِّفَاتِ قُلْت: لَا يَخْفَى أَنَّ التَّعْرِيفَ كَمَا يُفِيدُ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ الْمُعَرَّفِ يُفِيدُ تَمْيِيزَهَا عَمَّا عَدَاهَا، وَإِنْ لَمْ يُفِدْ مَعْرِفَةَ حَقِيقَتِهِ كَالتَّعْرِيفِ بِبَعْضِ الْخَوَاصِّ مِمَّا هُوَ رَسْمٌ، وَتَعْرِيفُ الصِّفَاتِ تَعْرِيفٌ لَهَا بِحَسَبِ مَا وَصَلَ إلَيْهِ عِلْمُ خَلْقِهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ الْوَاصِفُونَ عَنْ الْبَارِي تَعَالَى فَإِنَّهُ يَعْلَمُ ذَاتَهُ وَصِفَاتَهُ لِأَنَّ عِلْمَهُ مُحِيطٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ كَمَا يَأْتِي. تَنْبِيهٌ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ حَقِيقَةَ ذَاتِهِ لَا تُدْرَكُ مِنْ بَابِ أَوْلَى عَدَمُ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الصِّفَةِ، قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِيهِ هُوَ الْأَصَحُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا تُعْرَفُ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ عَلَى الْأَصَحِّ خِلَافًا لِلْجُمْهُورِ، وَأَطْلَقَ الْجُنَيْدُ الْقَوْلَ فِي عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ وَلَمْ يُقَيِّدْ بِالصِّفَةِ وَقَالَ: لَا يَعْرِفُ اللَّهَ إلَّا اللَّهُ، وَمُقَابِلُ الْأَصَحِّ قَوْلُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ وَمَنْ تَبِعَهُ: إنَّ الذَّاتَ يُمْكِنُ بُلُوغُ حَقِيقَتِهَا، وَرُبَّمَا يَكُونُ الْمُصَنِّفُ أَرَادَ هَذَا حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الصِّفَةِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ فِي بُلُوغِ الذَّاتِ قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا الصِّفَةُ فَلَا يُمْكِنُ إدْرَاكُهَا بِاتِّفَاقِ الْقَوْلَيْنِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ التَّتَّائِيِّ: أَفْهَمَ اقْتِصَارُهُ عَلَى الصِّفَةِ أَنَّ الذَّاتَ يُمْكِنُ بُلُوغُ حَقِيقَتِهَا وَهُوَ قَوْلُ الْقَاضِي إلَخْ، وَبَعْضُهُمْ جَعَلَ الْخِلَافَ فِي عِلْمِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ غَيْرَ حَقِيقِيٍّ بَلْ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ الْمُعَلِّمُ بِالْحَقِيقَةِ مُعْتَرِفٌ بِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يُحَاطُ بِهِ وَلَا يَلْحَقُهُ وَهْمٌ وَلَا يُقَدِّرُهُ فَهْمٌ، وَأَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَاجِزَةٌ عَنْ إدْرَاكِ جَلَالِهِ، وَمَنْ نَفَى الْعِلْمَ بِالْحَقِيقَةِ مُقِرٌّ بِأَنَّهُ عَرَفَهُ الْعَارِفُونَ بِدَلَالَةِ الْآيَاتِ وَنَزَّهُوهُ عَنْ سَائِرِ النَّقَائِصِ وَأَثْبَتُوا لَهُ جَمِيعَ الْكَمَالَاتِ، فَاتَّفَقَ الْقَوْلَانِ عَلَى عَدَمِ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ وَإِنْ كَانَتْ تُعْلَمُ؛ لِأَنَّ إدْرَاكَهَا أَخَصُّ مِنْ عِلْمِهَا لِاقْتِضَاءِ الْإِدْرَاكِ الْإِحَاطَةَ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ رُؤْيَةِ ذَاتِهِ فِي الْآخِرَةِ إدْرَاكُ حَقِيقَتِهِ إذْ يُرَى مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] أَيْ لَا تُحِيطُ بِهِ، وَالْإِدْرَاكُ أَخَصُّ مِنْ الرُّؤْيَةِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ الَّذِي هُوَ الرُّؤْيَةُ. تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مِنْ لَفْظِيَّةِ الْخِلَافِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ مَعْرِفَةِ الذَّاتِ إدْرَاكُ حَقِيقَتِهَا وَأَنَّ هَذَا الْخِلَافَ فِي غَيْرِ الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا رُؤْيَةُ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ فَلَمْ تَقَعْ فِي الدُّنْيَا يَقَظَةً لِأَحَدٍ وَإِنْ كَانَتْ مُمْكِنَةً لِسُؤَالِ مُوسَى إيَّاهَا سِوَى نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَلَا شَكَّ فِيهَا بِنَصِّ الْقُرْآنِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ بِشَهَادَةٍ {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] حَيْثُ لَمْ يَقُلْ لَمْ تَرَهُ الْأَبْصَارُ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ وَهُوَ الْإِدْرَاكُ بَلْ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى لِاقْتِضَائِهِ الِانْحِصَارَ نَفْيَ الْأَعَمِّ الَّتِي هِيَ الرُّؤْيَةُ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ (لَا يُحِيطُ) أَيْ لَا يَعْلَمُ (بِأَمْرِهِ) أَيْ شَأْنِهِ (الْمُتَفَكِّرُونَ) جَمْعُ مُتَفَكِّرٍ وَهُوَ مَنْ قَامَ بِهِ الْفِكْرُ، وَهُوَ عِنْدَ أَهْلِ الْمِيزَانِ تَرْتِيبُ أُمُورٍ مَعْلُومَةٍ لَلتَّأَدِّي إلَى مَجْهُولٍ كَتَرْتِيبِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى لِيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ النَّتِيجَةِ الَّتِي كَانَتْ مَجْهُولَةً، وَهَذَا لَيْسَ بِمُرَادٍ هُنَا وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْمُتَفَكَّرِينَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُتَأَمِّلُونَ؛ لِأَنَّ الْفِكْرَ يُطْلَقُ عَلَى التَّأَمُّلِ. وَإِنَّمَا لَمْ يُحِيطُوا بِشَأْنِهِ تَعَالَى لِكَثْرَةِ اخْتِلَافِهِ، إذْ كُلُّ يَوْمٍ أَيْ زَمَنٍ هُوَ فِي شَأْنٍ أَيْ أَمْرٍ يُظْهِرُهُ عَلَى وَفْقِ مَا قَدَّرَهُ فِي الْأَزَلِ مِنْ إحْيَاءٍ وَإِمَاتَةٍ وَإِعْزَازٍ وَإِذْلَالٍ وَإِغْنَاءٍ وَإِفْقَارٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْأَمْرِ ضِدَّ النَّهْيِ؛ لِأَنَّ الْخَلْقَ مُكَلَّفُونَ بِهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ إحَاطَتِهِمْ وَعِلْمِهِمْ بِهِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: إنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ دَلِيلٌ لِمَا قَبْلَهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ الْمُتَفَكِّرُونَ أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَمَا لَا يُحِيطُ بِأَمْرِهِ فَكَيْفَ يُتَوَصَّلُ إلَى إدْرَاكِ كُنْهِ صِفَتِهِ؟ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْمُتَفَكِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُمْ الْإِحَاطَةُ. وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ ابْنَ الْجَوْزِيِّ جَلَسَ يَوْمًا عَلَى كُرْسِيِّ وَعْظِهِ يُقَرِّرُ فِي تَفْسِيرِ {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] فَوَقَفَ رَجُلٌ عَلَى رَأْسِهِ وَقَالَ لَهُ: فَمَا يَفْعَلُ رَبُّك الْآنَ؟ فَسَكَتَ وَبَاتَ مَهْمُومًا، فَرَأَى الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ فَقَالَ لَهُ: إنَّ السَّائِلَ هُوَ الْخَضِرُ وَإِنَّهُ سَيَعُودُ إلَيْك فَقُلْ لَهُ: شُئُونٌ يُبْدِيهَا وَلَا يَبْتَدِيهَا يَخْفِضُ أَقْوَامًا وَيَرْفَعُ آخَرِينَ، فَأَتَاهُ فَأَجَابَهُ فَقَالَ لَهُ: صَلِّ عَلَى مَنْ عَلَّمَك. وَذَكَرَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ طَاهِرٍ سَأَلَ الْحُسَيْنَ بْنَ الْفَضْلِ وَقَالَ لَهُ: أُشْكِلَ عَلَيَّ قَوْله تَعَالَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] وَقَدْ صَحَّ أَنَّ الْقَلَمَ جَفَّ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَقَالَ الْحُسَيْنُ فِي الْجَوَابِ إنَّ مَعْنَى: {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [الرحمن: 29] شُؤُونٌ يُبْدِيهَا أَيْ يُظْهِرُهَا لَا شُؤُونٌ يَبْتَدِيهَا أَيْ يُقَدِّرُهَا أَيْ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَقَبَّلَ رَأْسَهُ. (وَ) لَمَّا بَيَّنَ عَجْزَ الْخَلْقِ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ صِفَتِهِ وَذَاتِهِ تَعَالَى، ذَكَرَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ فِي شَأْنِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (يَعْتَبِرُ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِهِ) هَذَا خَبَرٌ بِمَعْنَى الطَّلَبِ أَيْ وَلْيَتَّعِظْ وَيَسْتَدِلَّ الْمُتَفَكِّرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَمَخْلُوقَاتِهِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى مَوْجُودٌ لَا مُشَارِكَ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَأَنَّهُ الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ الضَّارُّ النَّافِعُ، وَالْعَبْدُ لَا صُنْعَ لَهُ فِي أَمْرٍ فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَفْوِيضُ أَمْرِهِ إلَى خَالِقِهِ مُمْتَثِلًا أَوَامِرَهُ مُجْتَنِبًا نَوَاهِيَهُ، فَالْآيَاتُ جَمْعُ آيَةٍ وَهِيَ الْعَالَمُ الَّذِي هُوَ مَا سِوَى اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ يُوصِلُ إلَى الْمَطْلُوبِ. وَاعْلَمْ أَنَّ آيَاتِ اللَّهِ عَقْلِيَّةٌ وَشَرْعِيَّةٌ، فَالْعَقْلِيَّةُ أَدِلَّةُ مَخْلُوقَاتِهِ وَعَجَائِبُ مَصْنُوعَاتِهِ، وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِإِيجَادِ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ وَالشَّرْعِيَّةُ آيَاتُ كِتَابِهِ وَأَدِلَّةُ خِطَابِهِ وَجُمْلَةُ مَعَانِيه وَأَسْرَارِهِ وَبِهِمَا تُسْتَفَادُ الْأَحْكَامُ الشَّرْعِيَّةِ أَصْلًا أَوْ قِيَاسًا، وَبِهِمَا يَتَذَكَّرُ وَيَتَّعِظُ الْإِنْسَانُ. (وَلَا يَتَفَكَّرُونَ) أَيْ وَلَا يَتَأَمَّلُونَ لِلِاعْتِبَارِ وَلَا لِغَيْرِهِ (فِي مَاهِيَّةِ) أَيْ حَقِيقَةِ (ذَاتِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَجْزِ عَنْ الْوُصُولِ إلَى عِلْمِ حَقِيقَتِهَا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَنْ يَعْتَبِرُ وَيَنْظُرُ فِي الْآيَاتِ أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ وَيَنْظُرَ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى، فَقَوْلُهُ: وَلَا يَتَفَكَّرُونَ خَبَرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ لِمَا وَرَدَ تَفَكَّرُوا فِي مَخْلُوقَاتِهِ وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي ذَاتِهِ، وَوَرَدَ: إنَّ الشَّيْطَانَ يَقُولُ لِأَحَدِكُمْ: مَنْ خَلَقَ كَذَا؟ فَيَقُولُ: اللَّهُ، فَيَقُولُ: مَنْ خَلَقَ اللَّهَ؟ فَدَوَاءُ ذَلِكَ أَنْ يَقُولَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَإِنَّهُ شِفَاءُ هَذَا الدَّاءِ، وَالْمَائِيَّةُ بِيَاءٍ مُشَدَّدَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَلْفِ هَمْزَةٌ وَقَدْ تُبْدَلُ هَاءٌ فَيُقَالُ مَاهِيَّةُ وَمَعْنَاهَا الْحَقِيقَةُ كَمَا بَيَّنَّا وَهِيَ مَنْسُوبَةٌ إلَى لَفْظَةِ مَا الَّتِي يُسْأَلُ بِهَا نَحْوُ: مَا الْإِنْسَانُ وَالْمَائِيَّةُ وَالْمَاهِيَّةُ وَالْحَقِيقَةُ وَالطَّبِيعَةُ أَلْفَاظٌ مُتَرَادِفَةٌ مَا بِهِ الشَّيْءُ هُوَ كَالْحَيَوَانِ النَّاطِقِ بِالنِّسْبَةِ لِلسُّؤَالِ عَنْ الْإِنْسَانِ بِمَا هُوَ، فَالْمَائِيَّةُ كَمَا هِيَ نِسْبَةٌ إلَى مَا؛ لِأَنَّهُ يُجَابُ بِهَا عَنْ السُّؤَالِ بِمَا، كَذَلِكَ الْمَاهِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى مَا هُوَ، وَأَرَادَ الْمُصَنِّفُ بِالنَّهْيِ فِي الْمَعْنَى عَنْ النَّظَرِ فِي ذَاتِهِ الْإِشَارَةَ إلَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الْعُقُولَ قَاصِرَةٌ عَنْ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ ذَاتِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ، وَأَنَّهُ لَا يُحَاطُ بِجَلَالِهِ وَكُنْهِ عَظَمَتِهِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ حَقِيقَةُ ذَاتِهِ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ لَنَا؛ لِأَنَّ الْعِلْمَ إمَّا بِالْبَدَاهَةِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ، وَإِمَّا بِالنَّظَرِ، وَبُطْلَانُ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ لِأَنَّ ذَاتَهُ غَيْرُ مُتَصَوَّرَةٍ بِالْبَدَاهَةِ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِالنَّظَرِ إمَّا بِالْحَدِّ وَإِمَّا بِالرَّسْمِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا بَاطِلٌ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ التَّعْرِيفَ بِالْحَدِّ إنَّمَا يَكُونُ لِمَا تَقْبَلُ ذَاتُهُ التَّحْدِيدَ وَهُوَ الْمُرَكَّبُ، وَالتَّرْكِيبُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى ذَاتِهِ وَمُنْتَفٍ عَنْهَا إذْ لَا مِثْلَ لَهُ تَعَالَى، وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ سَبِيلٌ لِلْخَلْقِ إلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ تَعَالَى وَإِنَّمَا يَعْرِفُونَهُ بِصِفَاتِهِ، أَعْرَضَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سَأَلَهُ فِرْعَوْنُ عَنْ الْحَقِيقَةِ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 23] الَّذِي قُلْت إنَّك رَسُولُهُ؟ أَيْ أَيُّ شَيْءٍ هُوَ؟ وَأَجَابَ بِالصِّفَةِ قَائِلًا: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} [الشعراء: 24] وَقَصَدَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْإِجَابَةِ بِالصِّفَةِ وَتَرَكَ الْإِجَابَةَ عَنْ الْحَقِيقَةِ، مَعَ أَنَّ فِرْعَوْنَ إنَّمَا سَأَلَ عَنْ بَيَانِهَا، التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ ذَاتَه تَعَالَى لَا تُعْلَمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ وَلَا يُحَدُّ إلَّا مَا لَهُ جِنْسٌ وَفَصْلٌ مِمَّا هُوَ مُرَكَّبٌ وَالتَّرْكِيبُ مُسْتَحِيلٌ عَلَيْهِ تَعَالَى، وَلَمَّا لَمْ يُدْرِك فِرْعَوْنُ هَذِهِ النُّكْتَةَ اعْتَرَضَ عَلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَقَالَ لِأَشْرَافِ أَتْبَاعِهِ مِمَّنْ حَوْلَهُ: أَلَا تَسْتَمِعُونَ جَوَابَ مُوسَى الَّذِي لَمْ يُطَابِقْ السُّؤَالَ؟ سَأَلْته عَنْ حَقِيقَتِهِ تَعَالَى فَأَجَابَ بِصِفَاتِهِ فَهُوَ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلسُّؤَالِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مُوسَى جَهْلَ فِرْعَوْنَ وَغَلَطَهُ بَلْ ذَكَرَ صِفَاتٍ أَبْلَغَ مِنْ الْأُوَلِ مُشِيرًا إلَى أَنَّ السُّؤَالَ عَنْ الْحَقِيقَةِ لَيْسَ مِنْ دَأْبِ الْعُقَلَاءِ فَقَالَ: {رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] فَتَسْتَدِلُّونَ بِمَا أَقُولُ فَتَعْرِفُونَ رَبَّكُمْ وَهَذَا غَايَةُ الْإِرْشَادِ؛ لِأَنَّهُ نَبَّهَ أَوَّلًا عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِالْعَامِ وَهُوَ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ بِمَا هُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِمْ وَهُوَ أَنْفُسُهُمْ وَآبَاؤُهُمْ، ثُمَّ بِالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ وَالتَّدْرِيجِ فِي الِاسْتِدْلَالِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ دَلِيلًا عَلَى وَحْدَانِيِّتِهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الرَّسْمَ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إلَّا بِمَا شَاءَ، وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ. وَلَا يَؤُدُهُ حِفْظُهُمَا، وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، الْعَالَمُ الْخَبِيرُ،   [الفواكه الدواني] يُفِيدُ الْحَقِيقَةَ كَمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَمَنْ وَافَقَهُ وَالْحُكَمَاءُ وَنَازَعَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَجَوَّزُوا مَعْرِفَةَ الذَّاتِ وَمَنَعُوا حَصْرَهَا فِي طَرِيقِ الْبَدَاهَةِ وَالنَّظَرِ لِجَوَازِ مَعْرِفَتِهَا بِالْإِلْهَامِ وَتَصْفِيَةِ النَّفْسِ وَتَزْكِيَتِهَا عَنْ الصِّفَاتِ الذَّمِيمَةِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي الْحَقِيقَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى امْتِنَاعِ إدْرَاكِ حَقِيقَةِ الذَّاتِ، وَمَنْ قَالَ بِعِلْمِهَا مُرَادُهُ عِلْمُهَا بِالصِّفَةِ الدَّالَّةِ عَلَى جَلَالِ عَظَمَتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ بَعْضِهِمْ فِي شَرْحِ قَوْلِهِ: لَا يُدْرِكُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: رَدُّوا عَلَى الْمُؤَلِّفِ فِي إطْلَاقِ لَفْظِ الْمَائِيَّةِ عَلَى ذَاتِهِ، بَلْ كَانَ الْوَاجِبُ نَفْيَ الْمَائِيَّةِ عَنْ ذَاتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ السَّمْعُ بِذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْمَائِيَّةَ لَا تَكُونُ إلَّا لِلَّذِي لَهُ جِنْسٌ وَنَوْعٌ وَلِمَا لَهُ مِثَالٌ وَالْبَارِي لَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِي كَلَامِهِ إطْلَاقُ الْمُوهَمِ عَلَى اللَّهِ مَعَ اتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى مَنْعِهِ، وَأُجِيبَ عَلَى ذَلِكَ بِجَوَابَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ إطْلَاقَهَا عَلَى الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ ضَرْبٌ مِنْ الْمَجَازِ وَالِاتِّسَاعِ فِي التَّلَفُّظِ وَهَذَا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ، بَلْ ذَاتُهُ تَعَالَى مَوْجُودَةٌ عَلَى مَا يَلِيقُ بِهَا بِشَهَادَةِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . وَالثَّانِي أَنَّهُ عَلَى حَدِّ: عَلَى لَاحِبٍ لَا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ، أَيْ لَيْسَ لِلَّاحِبِ أَيْ الطَّرِيقِ مَنَارٌ فَيُهْتَدَى بِمَنَارِهِ أَيْ عَلَامَتِهِ، وَلَا مَائِيَّةَ لَهُ تَعَالَى فَيَفْتَكِرُ فِيهَا الْمُتَفَكِّرُونَ، وَاسْتَعْمِلْ هَذَا فِي كُلِّ مَا أُشْكِلَ عَلَيْك مِنْ كَلَامِهِ فَإِنَّهُ أَصْلٌ جَيِّدٌ، وَمَا يُرْوَى عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّ لِلَّهِ مَاهِيَّةً لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ فَلَمْ يَصِحَّ عَنْهُ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ عَنْهُ فَمَعْنَاهُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى اسْمًا لَا يَعْلَمُهُ غَيْرُهُ، أَوْ الْمُرَادُ بِهَا الذَّاتُ لَا الْمَاهِيَّةُ الْمُرَكَّبَةُ مِنْ جِنْسٍ وَفَصْلٍ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمَاهِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ لِمَا لَهُ جِنْسٌ وَنَوْعٌ، وَالْبَارِي لَا مُمَاثِلَ لَهُ فِي أَمْرٍ مَا قَالَ الْأَشْعَرِيُّ إمَامُ هَذَا الْفَنِّ: لَا يُسْأَلُ عَنْهُ تَعَالَى بِكَيْفٍ؛ لِأَنَّهُ لَا مَثِيلَ لَهُ، وَلَا بِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا جِنْسَ لَهُ، وَلَا بِمَتَى؛ لِأَنَّهُ لَا زَمَانَ لَهُ، وَلَا بِأَيْنَ؛ لِأَنَّهُ لَا مَكَانَ لَهُ. الثَّانِي: الذَّاتُ عِنْدَ الْمُتَكَلِّمِينَ الْحَقِيقَةُ، فَإِضَافَةُ مَائِيَّةٍ إلَى ذَاتِهِ فِي كَلَامِهِ بَيَانِيَّةٌ أَيْ مَائِيَّةٌ هِيَ ذَاتُهُ، وَقَالَ ابْنُ الْخَشَّابِ: الْمَعْرُوفُ لِأَهْلِ اللُّغَةِ أَنَّهَا بِمَعْنَى الشَّيْءِ. الثَّالِثُ: اُخْتُلِفَ هَلْ التَّفَكُّرُ أَفْضَلُ مِنْ نَحْوِ: الصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ النَّفْلِ أَوْ هُمَا أَفْضَلُ؟ فَذَهَبَ الْفُقَهَاءُ إلَى أَنَّهُمَا أَفْضَلُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ، فَمَنْ كَانَ عَقْلُهُ سَالِمًا ثَابِتًا بِحَيْثُ يَأْمَنُ صَاحِبُهُ مِنْ التَّشْبِيهِ فَالتَّفَكُّرُ فِي حَقِّهِ أَفْضَلُ وَإِلَّا فَالصِّيَامُ وَالصَّلَاةُ أَفْضَلُ قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ، وَقَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: مَا نَفَعَ الْقَلْبَ شَيْءٌ مِثْلُ عُزْلَةٍ يَدْخُلُ بِهَا مَيْدَانَ فِكْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّفَكُّرُ أَعْلَى الدَّرَجَاتِ مِنْ فِعْلِ الْعِبَادَاتِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الْقَلْبِ أَعْلَى مِنْ فِعْلِ النَّفْسِ، وَحَدِيثُ: «تَفَكُّرُ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَبْعٍ أَوْ سَبْعِينَ أَوْ سَبْعِمِائَةِ سَنَةٍ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: هُوَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ لَا أَصْلَ لَهُ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ الْعِبَادَ الْعَارِفِينَ بِطُرُقِ مَعْرِفَةِ الصِّفَاتِ الْمَشْغُولِينَ بِالتَّفَكُّرِ فِي الْمَصْنُوعَاتِ (لَا يُحِيطُونَ) بِمَعْنَى لَا يَعْمَلُونَ إلَى الْعِلْمِ (بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) أَيْ مَعْلُومَاتِهِ تَعَالَى (إلَّا بِمَا شَاءَ) أَنْ يُعْلِمَهُمْ بِهِ فَيَعْلَمُونَ بِهِ، وَذَلِكَ كَإِخْبَارِهِ تَعَالَى رُسُلَهُ الْكِرَامَ، فَالْمَجْرُورُ بَدَلٌ مِنْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى إلَّا بِالْمَعْلُومِ الَّذِي أَرَادَ إعْلَامَهُمْ بِهِ. تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْعِلْمِ بِالْمَعْلُومَاتِ الْجَوَابُ عَنْ الْإِشْكَالِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ بِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَقْتَضِي أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى يَتَبَعَّضُ وَأَنَّهُ يُحَاطُ بِهِ إذَا شَاءَ اللَّهُ، وَالثَّانِي يُخَالِفُ قَوْلَهُ فِيمَا سَبَقَ: لَا يَبْلُغُ كُنْهَ صِفَتِهِ الْوَاصِفُونَ، وَالْأَوَّلُ مُخَالِفٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ بَلْ وَكُلَّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ وَاحِدَةٌ لَا تَقْبَلُ التَّبْعِيضَ وَإِنْ تَعَدَّدَ مُتَعَلِّقُهَا، وَكَثِيرًا مَا يُطْلَقُ لَفْظُ الْمَصْدَرِ وَيُرَادُ بِهِ الْمَفْعُولُ: أَيْ أَنَّ الْعِبَادَ لَا قُدْرَةَ لَهُمْ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِشَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِإِرَادَةِ اللَّهِ أَيْ مَشِيئَتِهِ، فَمَا فِي قَوْلِهِ: إلَّا بِمَا شَاءَ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ مَصْدَرِيَّةً أَيْ لَا قُدْرَةَ لِأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْبَصَائِرِ الْمُتَفَكِّرِينَ فِي مَصْنُوعَاتِ اللَّهِ عَلَى مَعْرِفَةِ شَيْءٍ مِنْ مَعْلُومَاتِ اللَّهِ إلَّا بِمَشِيئَتِهِ تَعَالَى. قَالَ ابْنُ نَاجِي: قِيلَ إنَّ الْمَعْلُومَاتِ خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ لَا يَعْلَمُهُ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كَذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ اللَّوْحُ وَالْقَلَمُ وَهُوَ مَعْرِفَةُ مَا جَرَى بِهِ الْقَلَمُ فِي اللَّوْحِ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْمَلَائِكَةُ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، وَقِسْمٌ عَلِمَهُ الْأَوْلِيَاءُ كَالْمُكَاشَفَاتِ، وَعِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ. وَمِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لِعَظَمَتِهِ وَجَلَالَةِ قَدْرِهِ {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] وَمَعْنَى وُسْعِهِ لِتِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ أَنَّهُ لَمْ يَضِقْ عَنْهُنَّ إذْ فَضْلُهُ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ كَفَضْلِ الْفَلَاةِ عَلَى الْحَلْقَةِ، وَالْكُرْسِيُّ فِي الْأَصْلِ وَاحِدُ الْكَرَاسِيِّ الَّذِي يُجْلَسُ عَلَيْهِ وَهَذَا مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، وَلِذَا قَالَ بَعْضٌ: وَهَذَا تَصْوِيرٌ لِعَظَمَتِهِ وَتَمْثِيلٌ حِسِّيٌّ؛ لِأَنَّ النُّفُوسَ الْبَشَرِيَّةَ أَبَدًا تَجِدُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ عَدَمِ سَمَاعِ ذَلِكَ، فَالْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ الْكُرْسِيِّ وَمِثْلُهُ الْعَرْشُ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ لِإِحَاطَتِهِ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ اسْتِشْعَارُ النُّفُوسِ عِنْدَ سَمَاعِهَا بِعَظَمَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا كُرْسِيَّ وَلَا قُعُودَ وَلَا قَاعِدَ نَظِيرَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] مِنْ غَيْرِ قَبْضٍ وَطَيٍّ وَيَمِينٍ بَلْ هُوَ تَخْيِيلٌ لِعَظَمَتِهِ، وَقِيلَ كُرْسِيٌّ حَقِيقَةٌ وَهُوَ جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ بَيْنَ يَدَيْ الْعَرْشِ مُلْتَصِقٌ بِهِ لَا قَطْعَ لَنَا بِحَقِيقَتِهِ، وَالْمَاءُ كُلُّهُ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ، وَالْكُرْسِيُّ غَيْرُ الْعَرْشِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، خَلَقَهُ اللَّهُ تَعَالَى لِحِكْمَةٍ يَعْلَمُهَا لَا لِاحْتِيَاجٍ إلَيْهِ، وَقِيلَ: مَعْنَى وَسِعَ أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ يُسَمَّى كُرْسِيًّا وَجَمَعَ السَّمَوَاتِ وَأَفْرَادَ الْأَرْضَ، مَعَ أَنَّهَا سَبْعٌ كَالسَّمَوَاتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ السَّمَوَاتُ مِنْ الْأُمُورِ الظَّاهِرَةِ مِنْ نُجُومٍ وَأَقْمَارٍ وَغَيْرِهِمَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَنَا مِنْ الْأَرْضِ إلَّا وَاحِدَةٌ، وَسَائِرُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ فِي جَوْفِ الْكُرْسِيِّ كَحَلْقَةٍ مُلْقَاةٍ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْعَرْشِ كَحَلْقَةٍ فِي فَلَاةٍ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: جَرَى خِلَافٌ فِي الْمَخْلُوقِ أَوْ لِأَهْلِ الْأَرْضِ أَوْ السَّمَاءِ كَمَا جَرَى خِلَافٌ فِي الْأَفْضَلِ، فَفِي كَشْفِ الْأَسْرَارِ: الْأَرْضُ أَفْضَلُ مِنْ السَّمَاءِ وَأَفْضَلُ السَّمَوَاتِ أَعْلَاهَا وَأَفْضَلُ الْأَرَضِينَ الَّتِي نَحْنُ عَلَيْهَا، وَقَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَفْضَلُ السَّمَوَاتِ السَّمَاءُ الَّتِي فِيهَا الْعَرْشُ، وَأَفْضَلُ الْأَرَضِينَ الَّتِي أَنْتُمْ عَلَيْهَا، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْبُقْعَةِ الَّتِي ضَمَّتْ أَعْضَاءَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا أَفْضَلُ حَتَّى مِنْ الْعَرْشِ وَالْكَعْبَةِ، الثَّانِي: أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ الْأَرْضِ بُقْعَةُ الْكَعْبَةِ وَهِيَ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ الْمُجِيبَةُ لِلَّهِ تَعَالَى حِينَ قَوْلِهِ لَهَا وَلِلسَّمَاءِ: {ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} [فصلت: 11] وَلَا يُقَالُ: حَيْثُ خُلِقَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ بُقْعَةِ الْكَعْبَةِ فَكَيْفَ دُفِنَ بِالْمَدِينَةِ؟ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْقِطْعَةُ الَّتِي خُلِقَ مِنْهَا الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَقَلَهَا الطُّوفَانُ إلَى الْمَدِينَةِ لِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَا يُدْفَنُ إلَّا بِهَا. فَائِدَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا خُلِقَتْ مِنْهُ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ وَمَا بَيْنَ كُلِّ وَاحِدَةٍ وَالْأُخْرَى فَعَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: أَنَّ السَّمَاءَ الْأُولَى مَوْجٌ مَكْفُوفٌ، وَالثَّانِيَةَ مَرْمَرَةٌ بَيْضَاءُ، وَالثَّالِثَةَ حَدِيدٌ، وَالرَّابِعَةَ نُحَاسٌ، وَالْخَامِسَةَ فِضَّةٌ، وَالسَّادِسَةَ ذَهَبٌ، وَالسَّابِعَةَ يَاقُوتَةٌ حَمْرَاءُ. وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ: لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَخْلُقَ الْأَشْيَاءَ إذْ كَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَإِذْ لَا أَرْضَ وَلَا سَمَاءَ خَلَقَ الرِّيحَ فَسَلَّطَهَا عَلَى الْمَاءِ حَتَّى اضْطَرَبَتْ أَمْوَاجُهُ فَأَخْرَجَ مِنْ الْمَاءِ دُخَانًا وَطِينًا وَزَبَدًا فَأَمَرَ الدُّخَانَ فَعَلَى وَسَمَا فَخَلَقَ اللَّهُ مِنْهُ السَّمَوَاتِ وَخَلَقَ مِنْ الطِّينِ الْأَرَضِينَ وَخَلَقَ مِنْ الزَّبَدِ الْجِبَالَ، وَالْأَرْضُ خُلِقَتْ قَبْلَ السَّمَاءِ، وَقِيلَ السَّمَاءُ قَبْلَ الْأَرْضِ، وَقِيلَ كَانَتْ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُونَ مُلْتَزِقَتَيْنِ فَرَفَعَ السَّمَاءَ وَفَتَقَهَا مِنْ الْأَرْضِ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، وَبَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ وَاَلَّتِي تَلِيهَا خَمْسُمِائَةِ عَامٍ أَيْضًا إلَى السَّابِعَةِ، وَالْأَرْضُ مِثْلُ ذَلِكَ، وَبَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْعَرْشِ مِثْلُ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَكِثَفُ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ. وَفَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ بَحْرٌ بَيْنَ أَعْلَاهُ وَأَسْفَلِهِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، ثُمَّ إنَّ اللَّهَ فَوْقَ ذَلِكَ، وَقَعَ خِلَافٌ فِي مُدَّةِ عِمَارَةِ الدُّنْيَا، وَالصَّوَابُ عِنْدِي تَفْوِيضُ ذَلِكَ إلَى الْبَارِي؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ فِي قَدْرِهَا قُرْآنٌ وَلَا حَدِيثٌ، وَحَكَى جَمَاعَةٌ أَنَّ مُدَّتَهَا سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ فِي شَرْحِ هَذِهِ الْعَقِيدَةِ الْكُبْرَى. (وَ) مَعَ كَوْنِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ مُشْتَمِلَةً عَلَى مَا لَا يُحْصَى مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ (لَا يَؤُدُهُ) أَيْ لَا يُثْقِلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ (حِفْظُهُمَا) أَيْ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَلَا حِفْظُ مَا فِيهِمَا إذْ لَوْ شَقَّ عَلَيْهِ حِفْظُ شَيْءٍ لَكَانَ عَاجِزًا وَالْعَجْزُ مُحَالٌ عَلَيْهِ تَعَالَى إذْ كُلُّ مُمْكِنٍ تَحْتَ قُدْرَتِهِ. (وَهُوَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الْعَلِيُّ) أَيْ الْمُتَعَالِي بِالْمَنْزِلَةِ عَنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ وَصْفُ وَاصِفٍ أَوْ مَعْرِفَةُ عَارِفٍ. (الْعَظِيمُ) وَخُتِمَتْ الْآيَةُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ لِدَلَالَةِ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ عَلَى تَنْزِيهِ الْحَقِّ جَلَّ وَعَلَا عَنْ الْمَكَانِ وَالْجِهَةِ وَعَلَى إثْبَاتِ الْعُلُوِّ بِالْمَنْزِلَةِ وَالْعَظَمَةِ فِي الْمِقْدَارِ، وَهَذَا إشَارَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ إلَى بَيَانِ بَعْضِ أَسْمَائِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى الْمُتَضَمِّنِ لِبَيَانِ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَأَسْمَاؤُهُ تَعَالَى كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْعَلِيِّ وَالْعَظِيمِ، وَمِنْهَا: (الْعَالِمُ) أَيْ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْعَالِمُ وَكَذَا الْعَلَّامُ وَالْعَلِيمُ لِوُرُودِهَا؛ لِأَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى وَكَذَا صِفَاتُهُ تَوْقِيفِيَّةٌ عَلَى الْمُخْتَارِ مِنْ الْخِلَافِ، بِخِلَافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الْمُدَبِّرُ الْقَدِيرُ، السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ. ، وَأَنَّهُ فَوْقَ عَرْشِهِ الْمَجِيدِ بِذَاتِهِ. ، وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ، خَلَقَ   [الفواكه الدواني] أَسْمَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ اتِّفَاقًا لِمُشَاحَّةِ الْآدَمِيِّ فِي حَقِّهِ وَمُسَامَحَةِ خَالِقِهِ؛ وَلِأَنَّ تَنَزُّهَ الْبَارِي عَنْ النَّقَائِصِ قَطْعِيٌّ، بِخِلَافِ النَّبِيِّ فَإِنَّهُ بَشَرٌ يُمْكِنُ تَطَرُّقُ الْأَلْسِنَةِ إلَيْهِ بِمَا لَا يَلِيقُ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَاخْتِيرَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَوْقِيفِيَّةٌ ... كَذَا الصِّفَاتُ فَاحْفَظْ السَّمْعِيَّةَ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَّا بِمَا وَرَدَ بِهِ كِتَابٌ أَوْ سُنَّةٌ صَحِيحَةٌ أَوْ حَسَنَةٌ أَوْ انْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ عَارِفٌ أَوْ فَطِنٌ أَوْ عَاقِلٌ أَوْ دَارٍ، وَإِنْ وَرَدَ إطْلَاقُ مَا رَادَفَهَا عَلَيْهِ، فَعِنْدَ الْوُرُودِ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ الْإِطْلَاقِ إلَّا إذَا كَانَ اللَّفْظُ مُوهِمًا مَا لَا يَلِيقُ كَالزَّارِعِ وَالْمُنْشِئِ وَنَحْوِ ذَلِكَ كَالْمَاكِرِ وَالْمُسْتَهْزِئِ وَالْمُنْزِلِ وَالرَّامِي؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الِاجْتِزَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ مُجَرَّدُ وُقُوعِهَا فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ بِحَسَبِ اقْتِضَاءِ الْمَقَامِ، بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلُوَ عَنْ نَوْعِ تَعْظِيمٍ وَرِعَايَةِ أَدَبٍ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ السَّعْدُ وَغَيْرُهُ، وَعِنْدَ وُرُودِ مَنْعِ الْإِطْلَاقِ لَا نِزَاعَ فِي عَدَمِ الْجَوَازِ، اخْتَلَفُوا حَيْثُ لَا إذْنَ وَلَا مَنْعَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِ مَا كَانَ تَعَالَى مُتَّصِلًا بِمَعْنَاهُ، وَلَمْ يَكُنْ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْأَعْلَامُ الْمَوْضُوعَةُ فِي سَائِرِ اللُّغَاتِ، إذْ لَيْسَ فِي جَوَازِ إطْلَاقِهَا عَلَيْهِ مَحَلُّ نِزَاعٍ لِأَحَدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إطْلَاقُهَا مُوهِمًا نَقْصًا بَلْ كَانَ مُشْعِرًا بِالْمَدْحِ، فَمَنَعَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الْحَقِّ مُطْلَقًا اسْمًا أَوْ صِفَةً، وَجَوَّزَهُ الْمُعْتَزِلَةُ مُطْلَقًا، وَفَصَّلَ الْغَزَالِيُّ فَجَوَّزَ إطْلَاقَ الصِّفَةِ وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَى مَعْنًى زَائِدٍ عَلَى الذَّاتِ وَمَنَعَ إطْلَاقَ الِاسْمِ وَهُوَ مَا يَدُلُّ عَلَى نَفْس الذَّاتِ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ عَلَى مَا اخْتَارُوهُ بِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُسَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا لَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ، بَلْ لَوْ سُمِّيَ وَاحِدٌ مِنْ أَفْرَادِ النَّاسِ بِمَا لَمْ يُسَمِّهِ بِهِ أَبَوَاهُ لَمَا ارْتَضَاهُ فَالْبَارِئُ أَوْلَى، فَيَجُوزُ إطْلَاقُ السَّمْعِيِّ سَوَاءٌ أَوْهَمَ كَالصَّبُورِ وَالْحَلِيمِ وَالشَّكُورِ، أَوْ لَمْ يُوهِمْ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، أَوْ وَرَدَ بِهِ إجْمَاعٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ السَّمْعِيِّ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَالْأَظْهَرُ مَنْعُهُ لِإِبْهَامِ أَحَدِ الْمُتَرَادِفَيْنِ دُونَ الْآخَرِ كَالْخَالِقِ وَخَالِقِ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَالْعَالِمِ وَالْعَارِفِ وَالْجَوَادِ وَالسَّخِيِّ وَالْحَلِيمِ وَالْعَاقِلِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، كَمَا أَنَّهُ يَمْتَنِعُ إطْلَاقُ مَا وَرَدَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَاكَلَةِ أَوْ الْمَجَازِ، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُدْعَى بِمَا يَقْتَضِي الِاشْتِرَاكَ كَلَفْظِ السَّيِّدِ، وَمِنْ الثَّابِتِ بِالْإِجْمَاعِ الصَّانِعُ وَالْمَوْجُودُ وَالْوَاجِبُ وَالْقَدِيمُ، بَلْ قِيلَ: إنَّ الصَّانِعَ وَالْقَدِيمَ مَسْمُوعَانِ كَالْحَنَّانِ وَالْمَنَّانِ، وَلَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ مُجَرَّدُ التَّعْبِيرِ بِالْفِعْلِ أَوْ الْمَصْدَرِ كَصِفَةِ اللَّهِ فَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ صَانِعٌ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: حَذَفَ الْمُصَنِّفُ صِلَةَ الْعَالِمِ إشَارَةً إلَى التَّعْمِيمِ تَقْدِيرُهُ الْعَالِمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَى عُمُومِ تَعَلُّقِهِ عِنْدَ قَوْمٍ وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان يَعْلَمُهُ إلَخْ مَا يَأْتِي، فَعِلْمُهُ صِفَةٌ قَدِيمَةٌ وَاحِدَةٌ تَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلَا يَصِحُّ فِيهِ الصُّلُوحِيُّ؛ لِأَنَّ الصَّالِحَ لِلتَّعَلُّقِ غَيْرُ مُتَعَلِّقٍ، فَيُوهِمُ خُلُوَّ شَيْءٍ عَنْ عِلْمِهِ وَهُوَ بَاطِلٌ، إذْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا لَمْ يَكُنْ وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَنْ لَوْ كَانَ، وَلَا يُوصَفُ بِالضَّرُورِيِّ وَلَا بِالْكَسْبِيِّ. الثَّانِي: وَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي حَدِّ عِلْمِهِ تَعَالَى، وَالْأَوْلَى كَمَا قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنْ يُحَدَّ بِأَنَّهُ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ عَلَى وَجْهِ الْإِحَاطَةِ بِهَا دُونَ سَبْقِ خَفَاءٍ، وَتَعْرِيفُ بَعْضِهِمْ لَهُ بِأَنَّهُ صِفَةٌ تَنْكَشِفُ بِهَا الْأَشْيَاءُ أَوْ تَنْجَلِي بِهَا فَفِيهِ مُسَامَحَةٌ بِذِكْرِ قَيْدِ الِانْكِشَافِ أَوْ التَّجَلِّي لِإِيهَامِهِ سَبْقَ الْخُلَفَاءِ، وَمِنْ آدَابِ مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ أَنْ يَسْتَحِي مِنْ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ} [النساء: 108] . (الْخَبِيرُ) أَيْ إنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْخَبِيرُ الْمُخْتَبِرُ الْمُطَّلِعُ عَلَى جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ، فَالْخَبِيرُ هُوَ الَّذِي يَعْلَمُ عَوَاقِبَ الْأُمُورِ وَبَوَاطِنَهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ ذِكْرِهِ بَعْدَ الْعَالِمِ مُجَرَّدُ بَيَانٍ أَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْخَبِيرُ يَدُلُّ عَلَيْهِ الْعَالِمُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ تَعَالَى شَيْءٌ، هَذَا مَا يَنْبَغِي اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (الْمُدَبِّرُ) أَيْ إنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الْمُدَبِّرُ بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ الْمُبْرِمُ لِلْأُمُورِ وَالْمُنَفِّذُ لَهَا، عَبَّرَ عَنْهُ بِذَلِكَ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَتَصْوِيرًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِعَوَاقِبِ الْأُمُورِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ وَلَا فِكْرٍ، وَأَمَّا التَّدْبِيرُ فِي حَقِّ الْبَشَرِ فَهُوَ النَّظَرُ فِيمَا تَئُولُ إلَيْهِ عَاقِبَةُ الْأَمْرِ، وَالتَّدَبُّرُ التَّفَكُّرُ فِيهِ قَالَهُ الْجَوْهَرِيُّ، وَلَفْظُ الْمُدَبِّرِ مِنْ أَسْمَائِهِ لَمْ يَرِدْ فِي الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَلَا فِي الْقُرْآنِ، وَإِنَّمَا وَرَدَ فِيهِ بِلَفْظِ الْفِعْلِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ وُرُودُ الْفِعْلِ وَلَا الْمَصْدَرِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ وَرَدَ فِي السُّنَّةِ لِاسْمِ الْمُدَبَّرِ كَمَا فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا وَرَدَ مِنْ الْأَسْمَاءِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ، فَمَنَعَهُ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] عَمَلًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] أَوْ خَبَرُ الْوَاحِدِ لَا يُحَصِّلُ عِلْمًا، وَأَجَازَهُ الْجُمْهُورُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ يَكْفِي فِيهِ خَبَرُ الْوَاحِدِ. (الْقَدِيرُ) أَيْ أَنَّ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى الْقَدِيرُ عَلَى وَزْنِ فَعِيلٍ مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ وَهِيَ صِفَةٌ تُؤَثِّرُ فِي الْمُمْكِنِ عِنْدَ تَعَلُّقِهَا بِهِ عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمُمْكِنِ حَسْبَمَا فِي عِلْمِهِ تَعَالَى، وَقَوْلُنَا مُبَالَغَةً فِي الْقُدْرَةِ الْمُرَادُ بِهَا هُنَا الْكَثْرَةُ لَا الْمُبَالَغَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ النُّحَاةِ مِنْ أَنَّهَا إثْبَاتُك لِلشَّيْءِ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّ صِفَاتِ الْبَارِي الَّتِي عَلَى صِفَةِ الْمُبَالَغَةِ كُلِّهَا مَجَازَاتٌ لِأَنَّهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا مُبَالَغَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّ الْمُبَالَغَةَ فِيمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَصِفَاتُهُ تَعَالَى مُنَزَّهَةٌ عَنْ ذَلِكَ، فَالصِّيغَةُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي غَيْرِ مَا وُضِعَتْ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمَجَازِ، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَادِرٌ عَلَى تَغْيِيرِ كُلِّ مُمْكِنٍ يَحْصُلُ لَهُ الْخَشْيَةُ مِنْ سَطْوَتِهِ وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ (السَّمِيعُ) مُشْتَقٌّ مِنْ السَّمْعِ وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ الْمَسْمُوعَاتِ، وَ (الْبَصِيرُ) مُشْتَقٌّ مِنْ الْبَصَرِ وَهُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى زَائِدَةٌ عَلَيْهَا تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَقِيلَ بِالْمُبْصَرَاتِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] وَوَرَدَ بِهِمَا الْخَبَرُ وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِمَا، وَتَعَلُّقُهُمَا مُغَايِرٌ لِتَعَلُّقِ الْعِلْمِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِزِيَادَتِهِمَا عَلَى صِفَةِ الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الزِّيَادَةُ فِي الِانْكِشَافِ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ إذْ عِلْمُهُ مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَوْجُودِ الَّذِي يَتَعَلَّقَانِ بِهِ بَيْنَ كَوْنِهِ وَاجِبًا أَوْ مُمْكِنًا مَعْنًى أَوْ ذَاتًا كُلِّيًّا أَوْ جُزْئِيًّا، وَلَا يَحْجُبُهُمَا شَيْءٌ عَنْ شَيْءٍ، فَيَسْمَعُ تَعَالَى السِّرَّ. وَالنَّجْوَى، وَيُبْصِرُ مَا تَحْت الثَّرَى مِنْ جَلِيلٍ أَوْ حَقِيرٍ، فَيَسْمَعُ فِي الْأَزَلِ وَفِيمَا لَا يَزَالُ ذَاتُهُ الْعَلِيَّةُ وَجَمِيعُ صِفَاتِهِ الْوُجُودِيَّةِ الَّتِي قَامَتْ بِهَا، وَكَذَا يَسْمَعُ ذَوَاتِنَا بَعْدَ وُجُودِهَا، وَيَسْمَعُ مَا قَامَ بِهَا مِنْ الصِّفَاتِ الْوُجُودِيَّةِ مِنْ عُلُومِنَا وَأَلْوَانِنَا وَقُدْرَتِنَا، وَكَذَا يُبْصِرُ عَلَى هَذَا النَّحْوِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ اتِّحَادِ الْمُتَعَلِّقِ لِلسَّلْبِيَّةِ اتِّحَادُ الصِّفَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْعِلْمَ وَالْكَلَامَ مُتَعَلِّقُهُمَا وَاحِدٌ وَهُوَ سَائِرُ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَجِهَةُ التَّعَلُّقِ مُخْتَلِفَةٌ؟ إذْ تَعَلُّقُ الْعِلْمِ تَعَلُّقَ إحَاطَةٍ وَتَعَلُّقُ الْكَلَامِ تَعَلُّقَ دَلَالَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَعَلُّقِ السَّمْعِ بِالْمَوْجُودِ غَيْرِ الْمَسْمُوعِ أَنَّ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ الْأَزَلِيَّ بِلَا صَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ وَسَمْعُ مُوسَى حَادِثٌ فَكَيْفَ بِالسَّمِيعِ الْقَدِيمِ، وَأَيْضًا تَرَى ذَاتَهُ تَعَالَى بِلَا كَمٍّ وَلَا كَيْفٍ وَلَا يَتَعَلَّقَانِ بِمُسْتَحِيلٍ، فَمَنْ عَرَفَ أَنَّ رَبَّهُ سَمِيعٌ وَبَصِيرٌ دَاوَمَ الْمُرَاقَبَةَ وَمُطَالَبَةَ النَّفْسِ بِدَقِيقِ الْمُحَاسِبَةِ. وَمِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى الَّتِي وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ (الْعَلِيُّ) عَلَى عِبَادِهِ وَ (الْكَبِيرُ) قَالَ تَعَالَى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} [غافر: 12] وَانْعَقَدَ عَلَيْهِمَا إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، لَيْسَ عُلُوُّهُ بِجِهَةٍ وَلَا اخْتِصَاصٍ بِبُقْعَةٍ وَلَا كَبِيرٌ بِعِظَمِ جُثَّةٍ، بَلْ الْعَلِيُّ وَصَفَهُ بِمَعْنَى أَنَّ ذَاتَهُ مَوْصُوفَةٌ بِأَوْصَافِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ وَالْكِبْرِيَاءِ، نَعْتُهُ بِصِفَاتِ الْجَمَالِ، وَمِنْ حَقِّ مَنْ عَرَفَ لِرَبِّهِ الْعَظَمَةَ وَالْكِبْرِيَاءَ أَنْ يَذِلَّ وَيَتَوَاضَعَ بَيْنَ خَلْقِهِ، فَإِنَّ مَنْ تَذَلَّلَ لِلَّهِ فِي نَفْسِهِ يَرْفَعُ اللَّهُ قَدْرَهُ عَلَى أَبْنَاءِ جِنْسِهِ، وَعَلَامَةُ التَّوَاضُعِ قَبُولُ الْحَقِّ مِمَّنْ قَالَ، وَالتَّكَبُّرِ جَحْدُ الْحَقِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ} [البقرة: 206] . (وَ) كَمَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِأَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ (أَنَّهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (فَوْقَ عَرْشِهِ) وَهُوَ جِسْمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى الْأَصَحِّ، وَفَوْقَ السَّمَوَاتِ وَالْكُرْسِيُّ مِنْ تَحْتِهِ بَيْنَ قَوَائِمِهِ، وَمَعْنَاهُ لُغَةً كُلُّ مَا عَلَا، وَالظَّرْفُ خَبَرُ إنَّ، وَ (الْمَجِيدُ) يَصِحُّ جَرُّهُ نَعْتًا لِلْعَرْشِ، وَرَفْعُهُ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ هُوَ الْعَائِدُ عَلَى الْعَرْشِ أَوْ عَلَى اللَّهِ. (بِذَاتِهِ) مُتَعَلِّقٌ بِالْمَجِيدِ، وَالْبَاءُ بِمَعْنَى فِي مِثْلُ أَقَمْت بِمَكَّةَ أَيْ فِيهَا، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْعَرْشِ أَيْ الْعَظِيمِ فِي ذَاتِهِ، وَقِيلَ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ هَذِهِ الْفَوْقِيَّةَ الْمَعْنَوِيَّةَ لَهُ تَعَالَى مُسْتَحَقُّهَا بِالذَّاتِ لَا بِالْغَيْرِ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالٍ أَوْ جُنُودٍ كَفَوْقِيَّةِ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا يَصِحُّ تَعَلُّقٌ بِذَاتِهِ بِفَوْقٍ لِفَسَادِ الْمَعْنَى؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى حِينَئِذٍ وَهُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ بِذَاتِهِ وَهُوَ مُمْتَنِعٌ؛ لِأَنَّ فِيهِ اسْتِعْمَالُ الْمُوهِمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْفَوْقِيَّةِ الْغَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِلَفْظِ الذَّاتِ عَلَى اللَّهِ، فَيَجُوزُ قَوْلُ الْقَائِلِ فَوْقَ سَمَائِهِ أَوْ فَوْقَ عَرْشِهِ، وَتُحْمَلُ عَلَى فَوْقِيَّةِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالِ وَالسَّلْطَنَةِ وَالْقَهْرِ لَا فَوْقِيَّةِ حَيِّزٍ وَمَكَانٍ؛ لِاسْتِحَالَةِ الْفَوْقِيَّةِ الْحِسِّيَّةِ عَلَيْهِ تَعَالَى لِاسْتِلْزَامِهَا الْجُرُمِيَّةَ وَالْحُدُوثَ الْمُوجِبَيْنِ لِلِافْتِقَارِ الْمُنَزَّهِ عَنْهُ الْخَالِقُ جَلَّ وَعَلَا، وَإِنَّمَا اسْتَعْمَلَهَا الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -؛ لِمَا مَرَّ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] مِنْ أَنَّ النُّفُوسَ تَجِدُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الدَّالَّةِ عَلَى الْكِبْرِيَاءِ مَا لَمْ تَجِدْهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ؛ وَلِقِيَامِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ عَلَى نَفْيِ مُشَابَهَتِهِ لِلْحَوَادِثِ فِي قَوْلِهِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِمِثْلِ ذَلِكَ مَعَ وُرُودِهِ فِي الْقُرْآنِ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَقَالَ: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7] وَلِذَلِكَ لَمَّا بَلَغَ الْعَلَّامَةَ يُوسُفَ بْنَ عُمَرَ تَعَقُّبَ بَعْضِ الشُّيُوخِ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ أَثْبَتَ لِلَّهِ مَكَانًا، رَدَّ هَذَا التَّعَقُّبَ بِوُرُودِ الْفَوْقِيَّةِ فِي الْقُرْآنِ قَالَ تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] مَعْنَاهُ يَخَافُونَ عَذَابَهُ مِنْ فَوْقِهِمْ إنْ عَصَوْهُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَقَالَ: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ هَذِهِ اللَّفْظَةَ دُسَّتْ عَلَى الْمُؤَلِّفِ رَدَّهُ ابْنُ نَاجِي قَائِلًا: لَيْسَ هَذَا مِنْ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ إطْلَاقِ السَّلَفِ الصَّالِحِ وَالصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَيُمْكِنُ رَدُّ ابْنِ نَاجِي بِأَنَّ الَّذِي أَطْلَقَهُ عَلَيْهِ السَّلَفُ هُوَ لَفْظُ الْفَوْقِيَّةِ الْغَيْرِ الْمُقَيَّدَةِ بِذَاتِهِ، وَالْإِيهَامُ إنَّمَا عَظُمَ مِنْ التَّقْيِيدِ بِذَاتِهِ. قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: أُخِذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي قَوْلِهِ بِذَاتِهِ، وَقِيلَ هِيَ دَسِيسَةٌ عَلَيْهِ، فَإِنْ صَحَّ هَذَا فَلَا إشْكَالَ فِي سُقُوطِ الِاعْتِرَاضِ عَنْهُ، وَلَا اعْتَرَضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرِدْ بِهَا سَمْعٌ، وَسُئِلَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ عَنْ هَذَا هَلْ يُفْهَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ أَمْ لَا؟ وَهَلْ يَكْفُرُ مُعْتَقِدُهَا أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ وَالْأَصَحُّ أَنَّ مُعْتَقِدَهَا لَا يَكْفُرُ، وَمَا قَالَهُ عِزُّ الدِّينِ مِنْ أَنَّ ظَاهِرَهُ الْقَوْلُ بِالْجِهَةِ يَرُدُّهُ قَوْلُ الْإِمَامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدِ بْنِ مُجَاهِدٍ فِي رِسَالَتِهِ مِمَّا أَجْمَعُوا عَلَى إطْلَاقِهِ أَنَّهُ تَعَالَى فَوْقَ سَمَوَاتِهِ عَلَى عَرْشِهِ دُونَ أَرْضِهِ إطْلَاقًا شَرْعِيًّا، وَلَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ أَنَّهُ فِي الْأَرْضِ فَلِذَلِكَ قَالَ دُونَ أَرْضِهِ، وَهَذَا مَعَ ثُبُوتِ عِلْمِهِمْ بِاسْتِحَالَةِ الْجِهَةِ عَلَيْهِ تَعَالَى، فَلَيْسَ هَذَا عِنْدَهُمْ مُشْكِلًا لِعِلْمِهِمْ بِفَصَاحَةِ الْعَرَبِ وَاتِّسَاعِهِمْ فِي الِاسْتِعَارَةِ، وَنَقَلَ هَذَا الْكَلَامَ بِعَيْنِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيَّرَ لَفْظَهُ هُنَا قَصْدًا لِلتَّقْرِيبِ عَلَى الْمُبْتَدِئِ، وَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا فَالنَّاسُ عَالَةٌ عَلَى الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، فَإِذَا كَانَ إطْلَاقُهُمْ هَذَا فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْنَا تَفَهُّمُهُ بِالتَّمْثِيلِ وَالْبَسْطِ إذْ قَدْ غَلَبَتْ الْعُجْمَةُ عَلَى الْقُلُوبِ حَتَّى ظَنَّتْ أَنَّ هَذَا الْإِطْلَاقَ يَلْزَمُ مِنْهُ إثْبَاتُ الْجِهَةِ فِي حَقِّ الْمُنَزَّهِ؛ عَنْهَا تَقَدَّسَ وَتَعَالَى، وَاعْلَمْ أَنَّ الْفَوْقِيَّةَ عِبَارَةٌ عَنْ كَوْنِ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ غَيْرِهِ وَتَكُونُ حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً كَزَيْدٍ فَوْقَ الْفَرَسِ، وَالسُّلْطَانِ فَوْقَ الْوَزِيرِ، وَأَنَّ الَّذِي يَجُوزُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فَوْقِيَّتُهُ حِسِّيَّةً وَمَعْنَوِيَّةً، وَاَلَّذِي يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ الْمَكَانُ وَالْجِسْمِيَّةُ لَا تَكُونُ فَوْقِيَّتُهُ إلَّا مَعْنَوِيَّةً، فَفَوْقِيَّةُ اللَّهِ عَلَى عَرْشِهِ الْمُرَادُ بِهَا فَوْقِيَّةٌ مَعْنَوِيَّةٌ لِمَا قَدَّمْنَا، وَحَمْلُ الْفَوْقِيَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى عَلَى الْمَعْنَوِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى طَرِيقَةِ الْخَلَفِ وَهِيَ الْمُؤَوَّلَةُ، وَعَلَيْهَا إمَامُ الْحَرَمَيْنِ وَجَمَاعَةٌ كَتَأْوِيلِ الْيَدِ بِالْقُدْرَةِ، وَأَمَّا السَّلَفُ فَيَقِفُونَ عَنْ الْخَوْضِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ وَيُفَوِّضُونَ عِلْمَ ذَلِكَ إلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَإِلَى هَاتَيْنِ الطَّرِيقَتَيْنِ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهًا وَالْأُولَى أَعْلَمُ وَالثَّانِيَةُ أَسْلَمُ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُوصَفُ بِالْعُلُوِّ حَقِيقَةً وَبِالْفَوْقِيَّةِ مَجَازًا وَإِنْ كَانَ مَعْنَاهُمَا الْعَظَمَةُ، وَلَا يُوصَفُ سُبْحَانَهُ بِالسُّفْلِ وَلَا بِالتَّحْتِيَّةِ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا. الثَّانِي: مِنْ الصِّفَاتِ مَا يَصِحُّ أَنْ يُوصَفَ بِهِ الْخَالِقُ وَالْمَخْلُوقُ عَلَى وَجْهِ الْحَقِيقَةِ كَالْعِلْمِ بِوَحْدَانِيَّةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَاَللَّهُ يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاحِدٌ، وَالْعَبْدُ الْمُوَحِّدُ أَيْضًا يَعْلَمُ ذَلِكَ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ فِيهِمَا، وَكَالْعِلْمِ بِحَرَارَةِ النَّارِ، وَإِنْ كَانَ عِلْمُ اللَّهِ قَدِيمًا وَعِلْمُ الْعَبْدِ حَادِثًا، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مَجَازًا كَالْمُعْطِي وَالرَّازِقُ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إذَا أَعْطَى غَيْرَهُ شَيْئًا يُقَال لَهُ مُعْطٍ مَجَازًا لِحُصُولِ صُورَةِ الْعَطَاءِ مِنْهُ، كَمَا يُقَالُ لِصُورَةِ الْفَرَسِ فَرَسٌ، وَمِنْ ثَمَّ أَجَابَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنْ خَيْرِ الرَّازِقِينَ وَأَحْسَنِ الْخَالِقِينَ مَعَ أَنَّهُ لَا رَازِقَ وَلَا خَالِقَ إلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِأَنَّ الرَّازِقَ يُطْلَقُ عَلَى اللَّهِ حَقِيقَةً وَعَلَى الْمَخْلُوقِ مَجَازًا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ خَيْرُ مَنْ تَزْعُمُونَهُمْ رَازِقِينَ، وَيَجْرِي نَحْوُ هَذَيْنِ الْجَوَابَيْنِ فِي أَحْسَنِ الْخَالِقِينَ، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْبَارِي بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ وَلَا يُوصَفُ بِهِ الْمَخْلُوقُ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا كَالْأَزَلِيِّ، وَمِنْهَا مَا يُوصَفُ بِهِ الْعَبْدُ حَقِيقَةً وَيُوصَفُ بِهِ الْبَارِي مَجَازًا كَالِاسْتِوَاءِ وَالنُّزُولِ وَالْمَعِيَّةِ وَالْفَوْقِيَّةِ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى وَكَذَا صِفَاتِهِ تَوْقِيفِيَّةٌ أَيْ تَعْلِيمِيَّةٌ، وَأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِمُجَرَّدِ الْوُرُودِ فِي السَّمْعِ فِي صِحَّةِ الْإِطْلَاقِ بَلْ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْلُو عَنْ نَوْعِ تَعْظِيمٍ، فَلَا يَجُوزُ إطْلَاقُ نَحْوِ الْمَاكِرِ وَالْحَارِثِ وَالْمُسْتَهْزِئِ وَإِنْ وَرَدَ بِهَا السَّمْعُ، وَلِذَلِكَ يَمْتَنِعُ قَوْلُ الْعَامَّةِ الَّذِي يَخُونُ الْفَاتِحَةَ يَخُونُهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَشْتَهِرَ فِي الْعُرْفِ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى يُجَازِيه اللَّهُ أَوْ يُعَاقِبُهُ فَلَا إثْمَ عَلَى قَائِلِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً قَدِيمَةً عَامَّةَ التَّعَلُّقِ قَالَ: (وَهُوَ) أَيْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ) بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى مُحِيطٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ. قَالَ تَعَالَى: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ، وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إلَّا يَعْلَمُهَا، وَلَا حَبَّةٍ فِي   [الفواكه الدواني] فِي أَمْكِنَتِهَا وَأَزْمِنَتِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ زَائِدَةٌ عَلَيْهَا مُحِيطَةٌ بِالْوَاجِبَاتِ وَالْجَائِزَاتِ وَالْمُسْتَحِيلَاتِ، وَلَا يُوصَفُ عِلْمُهُ بِالضَّرُورَةِ وَلَا الِاكْتِسَابِ وَهُوَ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ وَإِنْ تَعَدَّدَتْ مُتَعَلِّقُهَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ إلَى بَيَانِ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلا هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقَوْله تَعَالَى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] فَإِنَّ الْمُرَادَ الْإِشَارَةُ إلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ. وَالْمُرَادُ بِالْمَعِيَّةِ الْمُصَاحَبَةُ بِالْعِلْمِ لَا الْمُصَاحَبَةُ فِي الْمَكَانِ لِتَنَزُّهِهِ عَنْ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، وَمَعْنَى قَوْلِهِ: إلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا عِلْمًا وَحُكْمًا لَا نَفْسًا وَذَاتًا، وَبِالْحَمْلِ الْمَذْكُورِ عَلِمْت الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: أُخِذَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي اسْتِعْمَالِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ وَجْهَيْنِ: إيهَامُهُ الْجِهَةِ وَأَنَّ عِلْمَهُ يَتَجَزَّأُ مَعَ تَنَزُّهِهِ عَنْ الْجِهَةِ وَعَنْ التَّجَزُّؤِ لِعِلْمِهِ الْمُوهِمِ مُفَارِقَتَهُ لِذَاتِهِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَعِلْمُهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ حَتَّى بِحَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ بِشَهَادَةِ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ} [الطلاق: 12] وَ {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وَالدَّلِيلُ عَلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِجَمِيعِ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ وَمَا فِيهَا مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْآيَاتِ أَنَّهُ (خَلَقَ) أَيْ أَوْجَدَ (الْإِنْسَانَ) وَكَذَا غَيْرَهُ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْإِنْسَانِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ) أَيْ تُحَدِّثُ (بِهِ نَفْسُهُ) أَيْ مَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيَخْطِرُ بِبَالِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَسْوَسَةُ النَّفْسِ مَا يَخْطِرُ بِبَالِ الْإِنْسَانِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَإِنْ غَلَبَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ، وَفَسَّرْنَا حَدِيثَ النَّفْسِ بِمَا يَقُولُهُ فِي نَفْسِهِ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ} [المجادلة: 8] فَأَطْلَقَ عَلَى حَدِيثِ النَّفْسِ قَوْلًا، وَالْوَسْوَسَةُ تُطْلَقُ عَلَى الصَّوْتِ الْخَفِيِّ وَعَلَى كُلِّ مَا يَخْطُرُ بِالْبَالِ وَيَهْجِسُ فِي ضَمِيرِ الْإِنْسَانِ، فَالْوَسْوَسَةُ وَالْوَسْوَاسُ حَدِيثُ النَّفْسِ وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِخَفَائِهِ أَوْ لِاشْتِغَالِ الْمُتَّصِفِ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ وَالْغَالِبُ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ. وَلِذَا أُضِيفَتْ لِلنَّفْسِ، وَعُمُومُ الْإِنْسَانِ مُتَنَاوِلٌ لِلْأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مَعْصُومِينَ مِنْ خَوَاطِرِ النَّفْسِ وَلَا مِنْ وَسْوَسَةِ الشَّيْطَانِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [فصلت: 36] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى} [الحج: 52] أَيْ قَرَأَ {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أَيْ قِرَاءَتِهِ مَا لَيْسَ مِنْ الْقُرْآنِ. ثُمَّ يَنْسَخُ اللَّهُ جَمِيعَ مَا يُلْقِيه الشَّيْطَانُ وَيُبْطِلُهُ وَيُثْبِتُ آيَاتِهِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَفِي الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ يَجُوزُ عَلَيْهِمْ السَّهْوُ وَالنِّسْيَانُ وَالْغَلَطُ بِوَسْوَاسِ الشَّيْطَانِ أَوْ عِنْدَ شُغْلِ الْقَلْبِ حَتَّى يَغْلَطَ ثُمَّ يُنَبِّهَ وَيَرْجِعَ إلَى الصَّحِيحِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْله تَعَالَى: {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} [الحج: 52] وَحِينَئِذٍ فَالْعِصْمَةُ الْوَاجِبَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ مِنْ الشَّيْطَانِ عِصْمَتُهُمْ مِنْ إغْوَائِهِ وَأَذِيَّتِهِ لَا مِنْ مُجَرَّدِ وَسْوَسَتِهِ وَتَفَلَتِهِ الْمُجَرَّدِينَ مِنْ الْإِيذَاءِ. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: النَّفْسُ تُطْلَقُ عَلَى ذَاتِ الشَّيْءِ وَحَقِيقَتِهِ وَعَلَى الرُّوحِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ: أَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ لِلْجَاهِلِ، وَلَوَّامَةٌ لِلتَّائِبِ، وَمُطْمَئِنَّةٌ لِلْعَارِفِ، وَإِسْنَادُ الْوَسْوَسَةِ إلَيْهَا مَجَازٌ كَنِسْبَةِ الْإِنْسَاءِ لِلشَّيْطَانِ فِي قَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى: {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وَالشَّيْطَانُ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى إيجَادِ شَيْءٍ وَلَا إعْدَامِهِ، وَوَجْهُ الْمَجَازِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَسْوَسَةِ مَا يَقُولُهُ الْإِنْسَانُ وَيُجْرِيه عَلَى قَلْبِهِ، فَالْمُوَسْوِسُ بِمَعْنَى الْمُتَحَدَّثِ فِي قَلْبِهِ هُوَ الشَّخْصُ، الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّفْسَ مُرَادِفَةٌ لِلرُّوحِ وَأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَتَهَا إلَّا الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فَيُكْرَهُ الْخَوْضُ فِي حَقِيقَتِهَا. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَلَا تَخُضْ فِي الرُّوحِ إذْ مَا وَرَدَا ... نَصٌّ عَنْ الشَّارِعِ لَكِنْ وُجِدَا لِمَالِكٍ هِيَ صُورَةٌ كَالْجَسَدِ ... فَحَسْبُك النَّصُّ بِهَذَا السَّنَدِ وَهِيَ وَاحِدَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِلْعِزِّ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ: إنَّ فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَيْنِ: رُوحُ الْيَقِظَةِ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُهَا غَيْرَ نَائِمٍ عِنْدَ وُجُودِهَا وَيَنَامُ عِنْدَ مُفَارِقَتِهَا، وَرُوحُ الْحَيَاةِ الَّتِي يَمُوتُ الْحَيَوَانُ بِخُرُوجِهَا وَيَحْيَا بِوُجُودِهَا وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ. (وَ) كَمَا يَعْلَمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُ الْإِنْسَانِ (هُوَ) أَيْ اللَّهُ (أَقْرَبُ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) وَالْقَصْدُ التَّمْثِيلُ لِلتَّقْرِيبِ؛ لِأَنَّ قُرْبَ اللَّهَ مَعْنَوِيٌّ وَقُرْبَ حَبْلِ الْوَرِيدِ حِسِّيٌّ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِحَالِ الْإِنْسَانِ مِمَّنْ يَكُونُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ، عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى، وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى. ، وَلَهُ الْأَسْمَاءُ   [الفواكه الدواني] فِي الْقُرْبِ مِنْهُ كَحَبْلِ الْوَرِيدِ، وَيَصِحُّ عَوْدُ الضَّمِيرِ الْمُنْفَصِلِ عَلَى الْمَصْدَرِ الْمَفْهُومِ مِنْ يَعْلَمُ وَهُوَ الْعِلْمُ عَلَى حَدِّ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} [المائدة: 8] وَحَبْلُ الْوَرِيدِ الْمُرَادُ بِهِ عِلْمُ صَاحِبِ وَسْوَسَةِ النَّفْسِ بِهَا، أَيْ وَعِلْمُ اللَّهِ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ النَّفْسُ أَقْرَبُ مِنْ عِلْمِ صَاحِبِهِ، فَالْمُرَادُ بِالْقُرْبِ هُنَا قُرْبُ عِلْمٍ لَا قُرْبَ مَسَافَةٍ، فَهُوَ مَثَلٌ فِي فَرْطِ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا كَانَ مُطَّلِعًا عَلَى مَعْلُومَاتِ الْعِبَادِ وَسَرَائِرِهِمْ وَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فَكَأَنَّ ذَاتَه قَرِيبَةٌ مِنْهُ كَمَا يُقَالُ: اللَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان، وَقَدْ جَلَّ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ الْأَمْكِنَةِ وَالْأَزْمِنَةِ، وَالْوَرِيدُ عِرْقٌ بِبَاطِنِ الْعُنُقِ، وَكُلُّ إنْسَانٍ لَهُ وَرِيدَانِ مُكْتَنِفَانِ بِصَفْحَتَيْ الْعُنُقِ مِنْ الْمُقَدِّمِ وَمُتَّصِلَانِ بِالْوَتِينِ يَرِدَانِ مِنْ الرَّأْسِ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْوَتِينِ وَهُوَ نِيَاطُ الْقَلْبِ وَهُوَ عِرْقٌ مُتَّصِلٌ بِهِ إذَا انْقَطَعَ مَاتَ صَاحِبُهُ، وَالْحَبْلُ الْعِرْقُ شُبِّهَ بِالْحَبْلِ وَاسْتُعِيرَ لَهُ لَفْظُ الْحَبْلِ مِنْ حَيْثُ اشْتِدَادِ اللَّحْمِ بِالْعِرْقِ مِثْلُ الْحَبْلِ، وَتِلْكَ الِاسْتِعَارَةُ تُسَمَّى تَصْرِيحِيَّةً لِلتَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ، وَإِضَافَةُ الْحَبْلِ إلَى الْوَرِيدِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَى مُرَادِفِهِ، وَيُقَالُ لَهَا الْإِضَافَةُ الْبَيَانِيَّةُ؛ لِأَنَّ الْحَبْلَ بِمَعْنَى الْعِرْقِ هُوَ الْوَرِيدُ، وَقِيلَ مِنْ إضَافَةِ الْجِنْسِ إلَى نَوْعِهِ كَقَوْلِهِمْ: حَيُّ الطَّيْرِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِلَحْمِهِ. تَنْبِيهٌ: فِي إتْيَانِهِ بِضَمِيرِ الْغَيْبَةِ دُونَ ضَمِيرِ الْحَاضِرِ تَغْيِيرٌ لِلَفْظِ الْقُرْآنِ، إذْ لَفْظُ الْقُرْآنِ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16] وَهَذَا التَّغْيِيرُ يُسَمَّى عِنْدَ أَهْلِ الْبَيَانِ بِالِاقْتِبَاسِ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يُذْكَرَ شَيْءٌ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ الْحَدِيثِ فِي كَلَامٍ لَا بِلَفْظِ: قَالَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ، بَلْ عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُ قُرْآنٍ أَوْ حَدِيثٍ، وَيُغْتَفَرُ فِيهِ التَّغْيِيرُ الْيَسِيرُ لِنَحْوِ تَفْقِيهٍ أَوْ إبْهَامٍ مَا لَا يَصِحُّ كَمَا هُنَا، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ فَعَزَا بَعْضُ الشُّيُوخِ لِمَالِكٍ التَّشْدِيدَ فِي مَنْعِهِ وَهُوَ السُّيُوطِيّ حَيْثُ قَالَ: وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ ... فَمَالِكٌ مُشَدِّدٌ فِي الْمَنْعِ وَنُسِبَ لِابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَالْقَاضِي عِيَاضٍ وَابْنِ الْمُنِيرِ تَجْوِيزُهُ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ رَأْيُهُ مُوَافِقٌ لِرَأْيِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ الْقَائِلِينَ بِجَوَازِ الِاقْتِبَاسِ، وَلَيْسَ مِنْ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِهِ، وَقَوْلُنَا فِي حَدِّ الِاقْتِبَاسِ عَلَى وَجْهٍ يُتَوَهَّمُ مَعَهُ أَنَّهُ غَيْرُ الْقُرْآنِ إشَارَةٌ إلَى شَرْطِ جَوَازِهِ عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُهُ؛ لِأَنَّ مَا تَغَيَّرَ بَعْضُ لَفْظِهِ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ قُرْآنٌ أَوْ حَدِيثٌ مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا شَدَّدَ مَالِكٌ فِي مَنْعِ الِاقْتِبَاسِ وَإِنْ خَلَا مِنْ التَّغْيِيرِ لِإِيهَامِ السَّامِعِ عَدَمَ كَوْنِهِ قُرْآنًا أَوْ حَدِيثًا، وَإِنَّمَا حَرُمَ نَقْلُ الْمُغَيَّرِ عَلَى أَنَّهُ قُرْآنٌ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْكَذِبِ؛ لِأَنَّ الْمُغَيَّرَ لَيْسَ كَلَامَ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ، وَالْإِيهَامُ الْمُقْتَضِي لِتَغْيِيرِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إيهَامُ عَوْدِ الضَّمِيرِ إلَى الْمُصَنِّفِ لَوْ قَالَ: وَنَحْنُ كَمَا فِي التِّلَاوَةِ. وَهُوَ لَا يَصِحُّ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ وَهُوَ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي رُجُوعِهِ لِلَّهِ هُوَ فَاعِلُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ وَيَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ، وَلَيْسَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مِنْ نَقْلِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى مَنْعِهِ، بِخِلَافِ نَقْلِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى فَفِيهِ خِلَافٌ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَالْحَدِيثَ كَلَامُ رَسُولِهِ، وَأَمَّا نَقْلُ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي نَحْوِ الدُّعَاءِ أَوْ الثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ أَوْ الْخُطَبِ مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ لَفْظِهِ عَلَى وَجْهٍ لَا يُتَوَهَّمُ مَعَهُ عَدَمُ الْقُرْآنِيَّةِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، فَقَدْ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا فَقَالَ: « {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام: 79] الْآيَةُ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ فَالِقَ الْإِصْبَاحِ وَجَاعِلَ اللَّيْلِ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا اقْضِ عَنِّي دَيْنِي وَأَمِّنِّي مِنْ الْفَقْرِ» وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ اسْتِعْمَالِ الصَّحَابَةِ، فَقَوْلُ بَعْضِ النَّاسِ: إنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ لَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِ التِّلَاوَةِ مُطْلَقًا غَيْرُ صَرِيحٍ. (وَ) إذَا عَلِمْت أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ أَنَّهُ تَعَالَى فِي كُلِّ مَكَان بِعِلْمِهِ فَيَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ (مَا تَسْقُطُ) أَيْ تَقَعُ (مِنْ) زَائِدَةً قِيَاسًا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْعُمُومِ وَفَاعِلُ تَسْقُطُ (وَرَقَةٍ) فَمَحَلُّهَا رَفْعٌ وَالْمَعْنَى: مَا تَسْقُطُ سَاقِطَةٌ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ لَا خُصُوصَ الْوَرَقَةِ (إلَّا يَعْلَمُهَا) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا. (وَلَا حَبَّةٍ) عُطِفَ عَلَى لَفْظِ وَرَقَةٍ عَلَى قِرَاءَةِ الْجَرِّ أَوْ عَلَى مَحَلِّهَا عَلَى رَفْعِ حَبَّةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَبَّةِ أَقَلُّ قَلِيلٍ عَبَّرَ عَنْهُ بِالْحَبَّةِ تَقْرِيبًا لِلْأَفْهَامِ وَصِلَةُ تَسْقُطُ (فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ) ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَسْقُطُ تَغِيبُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ أَيْ بُطُونِهَا. (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) الْمُرَادُ بِهِ عِلْمُ اللَّهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ فَأَخْبَرَ تَعَالَى أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى سُقُوطِ الْحَبَّةِ وَالْوَرَقَةِ وَالرَّطْبِ وَالْيَابِسِ وَهُمَا مَعْرُوفَانِ، وَقِيلَ: الرَّطْبُ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ وَالْيَابِسُ قَلْبُ الْكَافِرِ، وَالْقَصْدُ مِنْ ذِكْرِ الْآيَةِ وَالتَّنْصِيصِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ مَزْبُورٌ فِيهِ كُلُّ شَيْءٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّوْحَ الْمَحْفُوظَ فِيهِ عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ مَا دَقَّ وَمَا جَلَّ حَتَّى سُقُوطِ الْوَرَقَةِ وَالْحَبَّةِ وَهِيَ لَا تَكْلِيفَ عَلَيْهَا. فَمَا بَالُك بِالْأَعْمَالِ الْمُجَازَى عَلَيْهَا بِالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ إنَّهُ جَوَّادٌ كَرِيمٌ. وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْكِتَابَ الْمُبِينَ هُوَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] كَالتَّأْكِيدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا يَعْلَمُهَا} [الأنعام: 59] ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ، وَلِذَا قَالَ أَبُو حَيَّانَ: وَهَذَا الِاسْتِثْنَاءُ جَارٍ مَجْرَى التَّوْكِيدِ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا حَبَّةٍ وَمَا بَعْدَهَا مَعْطُوفَانِ عَلَى وَرَقَةٍ، فَالِاسْتِثْنَاءُ الْأَوَّلُ مُنْسَحِبٌ عَلَيْهَا كَمَا تَقُولُ: مَا جَاءَنِي مِنْ رَجُلٍ إلَّا أَكْرَمْته وَلَا امْرَأَةٍ إلَّا أَكْرَمْتهَا، وَلَكِنَّهُ لَمَّا طَالَ الْكَلَامُ أُعِيدَ الِاسْتِثْنَاءُ عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ الثَّانِيَ أَعْنِي قَوْلَهُ: إلَّا فِي كِتَابٍ بَدَلٌ مِنْ الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أَعْنِي قَوْلَهُ: إلَّا يَعْلَمُهَا بَدَلٌ مُطَابِقٌ إنْ فُسِّرَ الْكِتَابُ بِعِلْمِهِ تَعَالَى، وَاشْتِمَالٌ إنْ فُسِّرَ الْكِتَابُ بِاللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لِاشْتِمَالِ الْعِلْمِ عَلَى اللَّوْحِ كَنَفَعَنِي زَيْدٌ عِلْمُهُ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى عَطْفِ رَطْبٍ وَيَابِسٍ عَلَى لَفْظِ حَبَّةٍ بِنَاءً عَلَى جَرِّهِمَا أَوْ عَلَى مَحَلِّهِمَا عَلَى رَفْعِهِمَا، وَأَمَّا عَلَى رَفْعِهِمَا بِالِابْتِدَاءِ فَيَكُونُ قَوْله تَعَالَى: {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] خَبَرًا لَا بَدَلًا. هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِ أَبِي السُّعُودِ فِي تَفْسِيرِهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِمَا كَانَ وَبِمَا يَكُونُ وَبِمَا لَا يَكُونُ أَنْ لَوْ كَانَ كَيْفَ يَكُونُ، ذَكَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَحُكْمِهِ فَقَالَ: (عَلَى الْعَرْشِ) وَهُوَ لُغَةً كُلُّ مَا عَلَا، وَشَرْعًا جِسْمٌ عَظِيمٌ نُورَانِيٌّ عُلْوِيٌّ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ الْأَجْسَامِ لَا قَطْعَ لَنَا بِتَعْيِينِ حَقِيقَتِهِ وَهُوَ غَيْرُ الْكُرْسِيِّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (اسْتَوَى) أَيْ اسْتَوْلَى بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ اسْتِيلَاءَ مَلِكٍ قَاهِرٍ وَإِلَهٍ قَادِرٍ، وَيَلْزَمُ مِنْ اسْتِيلَائِهِ تَعَالَى عَلَى أَعْظَمِ الْأَشْيَاءِ وَأَعْلَاهَا اسْتِيلَاؤُهُ عَلَى مَا دُونَهُ، وَلَفْظُ الِاسْتِوَاءِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَشَابِهِ كَالْيَدِ وَالْوَجْهِ وَالْعَيْنِ وَالْأَصَابِعِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا ظَاهِرُهُ مُسْتَحِيلٌ عَلَى الْبَارِي سُبْحَانَهُ، وَلَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى الْقَطْعِ إلَّا اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَأَمَّا الْعُلَمَاءُ فَقَدْ اتَّفَقَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ حَقِيقَةِ وُرُودِهِ عَلَى وُجُوبِ تَنْزِيهِ الْبَارِي عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْتَحِيلِ وَاخْتَلَفُوا بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى ثَلَاثِ طُرُقٍ: طَرِيقُ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ إمَامُ هَذَا الْفَنِّ أَنَّهَا أَسْمَاءٌ لِصِفَاتٍ قَائِمَةٍ بِذَاتِهِ تَعَالَى زَائِدَةٍ عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي الثَّمَانِيَةِ أَوْ السَّبْعَةِ الَّتِي هِيَ الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِدْرَاكُ عَلَى الْقَوْلِ بِهِ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّتِهَا، وَالدَّلِيلُ عِنْدَهُ عَلَى ثُبُوتِهَا السَّمْعُ لِوُرُودِهَا إمَّا فِي الْقُرْآنِ أَوْ السُّنَّةِ لِذَلِكَ تُسَمَّى عَلَى مَذْهَبِهِ صِفَاتٌ سَمْعِيَّةٌ. وَطَرِيقُ السَّلَفِ كَابْنِ شِهَابٍ وَمَالِكٍ الْإِمَامِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا مِنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ تَمْنَعُ تَأْوِيلَهَا عَنْ التَّفْصِيلِ وَالتَّعْيِينِ وَقَالَ أَهْلُهَا انْقَطَعَ بِأَنَّ الْمُسْتَحِيلَ غَيْرُ مُرَادٍ، وَنَعْتَقِدُ أَنَّ لَهُ تَعَالَى اسْتِوَاءً وَيَدًا وَغَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ بِهِ الشَّرْعُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَاهُ عَلَى التَّفْصِيلِ إلَّا اللَّهُ. وَكَذَلِكَ تُسَمَّى الْمَعْنَوِيَّةُ، وَطَرِيقُ الْخَلَفِ تُؤَوِّلُ الْمُتَشَابِهَ عَلَى وَجْهِ التَّفْصِيلِ قَصْدًا لِلْإِيضَاحِ وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْمُؤَوِّلَةُ، فَأَوَّلُوا الِاسْتِوَاءَ بِالِاسْتِيلَاءِ وَالْيَدَ بِالْقُدْرَةِ وَالْعَيْنَ بِالْبَصَرِ وَالْأَصَابِعَ بِإِرَادَاتِ الْقَلْبِ وَإِلَى طَرِيقِ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا ... أَوِّلْهُ أَوْ فَوِّضْ وَرُمْ تَنْزِيهَا فَعُلِمَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ كُلًّا مِنْ أَهْلِ الطَّرِيقَتَيْنِ تُؤَوِّلُ الْمُتَشَابِهَ بِصَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ، وَافْتَرَقَا بَعْدَ صَرْفِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ الْمُسْتَحِيلِ فِي بَيَانِ مَعْنَاهُ عَلَى التَّعْيِينِ وَالتَّفْصِيلِ، فَالسَّلَفُ يُفَوِّضُونَ عِلْمَ ذَلِكَ لِلَّهِ تَعَالَى، وَالْخَلَفُ تُؤَوِّلُهُ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا بِحَمْلِ كُلِّ لَفْظٍ عَلَى شَيْءٍ مُعَيَّنٍ خَاصٍّ كَمَا قَدَّمْنَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ أَبِي شَرِيفٍ: وَمَذْهَبُ السَّلَفِ أَسْلَمُ فَهُوَ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ، وَيَكْفِيَك فِي الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهُ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ ذَهَابُ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ إلَيْهِ، فَإِنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ الِاسْتِوَاءِ قَالَ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: اسْتَوَى بِلَا تَشْبِيهٍ وَصَدَّقْت بِلَا تَمْثِيلٍ وَاتَّهَمْت نَفْسِي فِي الْإِدْرَاكِ وَأُمْسِكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي ذَلِكَ كُلَّ الْإِمْسَاكِ. وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ قَالَ: اسْتَوَى كَمَا أَخْبَرَ لَا كَمَا يَخْطُرُ لِلْبَشَرِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: مَنْ قَالَ لَا أَعْرِفُ اللَّهَ فِي السَّمَاءِ أَمْ فِي الْأَرْضِ كَفَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَوْلَ يُوهِمُ أَنَّ لِلْحَقِّ مَكَانًا، وَمَنْ تَوَهَّمَ أَنَّ لِلْحَقِّ مَكَانًا فَهُوَ مُشَبِّهٌ. وَمَعْنَى قَوْلِ مَالِكٍ: الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ أَنَّ عُقُولَنَا دَلَّتْنَا عَلَى أَنَّ الِاسْتِوَاءَ اللَّائِقَ بِاَللَّهِ هُوَ الِاسْتِيلَاءُ دُونَ الِاسْتِقْرَارِ وَالْجُلُوسِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ صِفَاتِ الْأَجْسَامِ، وَقَوْلُهُ: وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ مَعْنَاهُ أَنَّ ذَاتَ اللَّهِ لَا تُوصَفُ بِالْأَحْوَالِ الْمُتَعَقِّلَةِ وَالْهَيْئَاتِ الْحِسِّيَّةِ مِنْ التَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ، وَالْإِيمَانُ بِهِ وَاجِبٌ لِوُرُودِهِ فِي الْكِتَابِ، وَالسُّؤَالُ عَنْهُ بِدْعَةٌ لِأَنَّهُ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ بِالسُّؤَالِ عَنْهُ مِنْ السَّلَفِ بَلْ يُفَوِّضُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 الْحُسْنَى، وَالصِّفَاتُ الْعُلَى، لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ تَعَالَى أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ مَخْلُوقَةً وَأَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً، كَلَّمَ   [الفواكه الدواني] مَعْرِفَتَهُ عَلَى التَّحْقِيقِ إلَى اللَّهِ، وَأَمَّا طَرِيقُ الْخَلَفِ فَهِيَ أَحْكُمُ بِمَعْنَى أَكْثَرُ إحْكَامًا بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إثْبَاتًا لِمَا فِيهَا مِنْ إزَالَةِ الشُّبَهِ عَنْ الْأَفْهَامِ، وَبَعْضُهُمْ عَبَّرَ بِأَعْلَمَ بَدَلَ أَحْكَمَ بِمَعْنَى أَنَّ مَعَهَا زِيَادَةُ عِلْمٍ بِبَيَانِ الْمَعْنَى التَّفْصِيلِيِّ، وَمَالَ إلَى تَرْجِيحِهَا الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: هِيَ أَقْرَبُ الطَّرِيقَيْنِ إلَى الْحَقِّ، وَإِمَامُ الْحَرَمَيْنِ مَالَ مَرَّةً إلَى طَرِيقِ الْخَلَفِ وَمَرَّةً إلَى طَرِيقِ السَّلَفِ، وَهَذَا الْخِلَافُ حَيْثُ لَا تَدْعُو ضَرُورَةٌ إلَى التَّأْوِيلِ، وَإِلَّا اتَّفَقَ عَلَى وُجُوبِ التَّأْوِيلِ التَّفْصِيلِيِّ وَذَلِكَ بِأَنْ تَحْصُلَ شُبْهَةٌ لَا تَرْتَفِعُ إلَّا بِهِ. وَالْخِلَافُ بَيْنَ الْخَلَفِ وَالسَّلَفِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْوَقْفِ فِي الْآيَةِ هَلْ عَلَى قَوْلِهِ: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى قَوْلِهِ: إلَّا اللَّهُ؟ فَمَنْ جَعَلَ الْوَقْفَ عَلَى إلَّا اللَّهُ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ بِأَنَّهُ الَّذِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ كَمُدَّةِ بَقَاءِ الدُّنْيَا وَوَقْتِ قِيَامِ السَّاعَةِ، وَمَنْ قَدَّرَ الْوَقْفَ عَلَى وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَسَّرَ الْمُتَشَابِهَ وَأَوَّلَهُ تَأْوِيلًا تَفْصِيلِيًّا، وَجُمْلَةُ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ اسْتِئْنَافٌ مُوَضِّحٌ لِحَالِ الرَّاسِخِينَ أَوْ حَالٌ مِنْهُمْ أَوْ خَبَرٌ إنْ جَعَلْته مُبْتَدَأً. (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (عَلَى الْمُلْكِ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْمَمْلُوكِ (احْتَوَى) أَيْ أَحَاطَتْ قُدْرَتُهُ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ وَمُلْكِهِ بِجَمِيعِ الْكَائِنَاتِ، فَلَا مُلْكَ وَلَا مَلِكَ فِي الْحَقِيقَةِ إلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِاسْتِغْنَائِهِ تَعَالَى عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ وَافْتِقَارِ كُلِّ مَا عَدَاهُ إلَيْهِ لَا رَبَّ سِوَاهُ، وَتَفْسِيرُ الْمُلْكِ بِالْمَمْلُوكِ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْمُسْتَغْنِي، وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: حَقِيقَةُ الْمُلْكِ بِالضَّمِّ تَصَرُّفُ الْمُوجِدِ فِيمَا أَوْجَدَهُ مَعَ رَبْطِهِ بِالْمَصْلَحَةِ وَضَبْطِهِ عَنْ الْفَسَادِ، وَيَقْرَبُ مِنْهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْمُلْكُ بِالضَّمِّ عِبَارَةٌ عَنْ تَصَرُّفِهِ فِي الْمَخْلُوقَاتِ بِالْقَضَاءِ وَالتَّدْبِيرِ، وَأَمَّا الْمِلْكُ بِالْكَسْرِ فَهُوَ كَسْبٌ عَارٍ عَنْ الِانْتِزَاعِ أَوْ تَقُولُ هُوَ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي الشَّيْءِ بِسَبَبٍ شَرْعِيٍّ لَا بِنِيَابَةٍ، وَأَمَّا الْمَلَكُوتُ فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ بَاطِنِ الْمِلْكِ وَالْمُلْكُ هُوَ الظَّاهِرُ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الِاحْتِوَاءَ بِالْإِحَاطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَفْسِيرُهُ بِمَعْنَاهُ اللُّغَوِيِّ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، إذْ هُوَ الِاسْتِدَارَةُ بِالشَّيْءِ وَهِيَ مُسْتَحِيلَةٌ عَلَيْهِ تَعَالَى. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا ذَكَرَ جُمْلَتَيْ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى وَعَلَى الْمُلْكِ احْتَوَى مَعَ كَوْنِهِمَا مِنْ الْمُتَشَابِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255] مِنْ أَنَّ النُّفُوسَ تَجِدُ مِنْ التَّعْظِيمِ وَالْهَيْبَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الْأَشْيَاءِ الْمَحْسُوسَةِ الْمَأْلُوفَةِ لَهَا الدَّالَّةِ عَلَى التَّعْظِيمِ مَا لَا تَجِدُهُ عِنْدَ عَدَمِ ذَلِكَ، وَإِلَّا فَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فَلَا يَنْبَغِي الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِذَكَرِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَيْضًا أَنَّ (لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) وَالْأَسْمَاءُ جَمْعُ اسْمٍ وَهُوَ لُغَةً مَا لَهُ مُسَمًّى، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا مَا دَلَّ عَلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ تَعَالَى كَلَفْظِ اللَّهِ، أَوْ عَلَى الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَكُلُّهَا تُوصَفُ وَصْفًا كَاشِفًا بِالْحُسْنَى تَأْنِيثُ الْأَحْسَنِ، وَصَحَّ جَعْلُهُ وَصْفًا مَعَ إفْرَادِهِ وَجَمْعُ الْأَسْمَاءِ؛ لِأَنَّ حُسْنَى جَمْعٌ فِي الْمَعْنَى إذْ هُوَ مَصْدَرٌ لِحَسُنَ حُسْنًا ضِدُّ قَبُحَ، فَإِذَا قَصَدْت الْمُبَالَغَةَ فِي الْحُسْنِ قُلْت حُسْنَى عَلَى وَزْنِ فُعْلَى وَمُذَكَّرُهُ حَسَنٌ عَلَى وَزْنِ فَعَلٌ، وَوَصْفُ أَسْمَائِهِ تَعَالَى بِالْحُسْنَى بِاعْتِبَارِ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صِفَاتِ الْجَلَالِ وَالْعَظَمَةِ إذْ لَا حُسْنَ يُوَازِيهَا وَلَا جَمَالَ يُدَانِيهَا. تَنْبِيهَانِ الْأَوَّلُ: قَدْ اشْتَهَرَ الْخِلَافُ فِي كَوْنِ الِاسْمِ عَيْنَ الْمُسَمَّى أَوْ غَيْرَهُ أَوْ لَا، وَاَلَّذِي حَقَّقَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ اسْمِ اللَّهِ الْمَدْلُولُ وَمِنْ مُسَمَّاهُ الذَّاتُ، فَالِاسْمُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْقَائِلُ بِأَنَّهُ غَيْرُهُ أَرَادَ بِالِاسْمِ اللَّفْظَ وَبِالْمُسَمَّى الذَّاتَ، وَأَنْتَ خَبِيرٌ بِأَنَّ الْخِلَافَ حِينَئِذٍ لَفْظِيٌّ، وَيَقْرَبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْبِسَاطِيِّ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ: الذَّاتُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهَا هُوَ الِاسْمُ، فَإِذَا قُلْت: عَالِمٌ فَهُنَاكَ أَمْرَانِ ذَاتٌ وَعِلْمٌ فَالذَّاتُ هُوَ الْمُسَمَّى وَالْعِلْمُ هُوَ الِاسْمُ، وَإِذَا عَلِمْت ذَلِكَ فَالْأَسْمَاءُ مِنْهَا مَا هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، وَمِنْهَا مَا هُوَ غَيْرُهُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُقَالُ فِيهِ عَيْنٌ وَلَا غَيْرٌ، فَالْأَوَّلُ كَمَوْجُودٍ وَقَدِيمٍ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ وَالْقَدِيمَ عَيْنُ الذَّاتِ، وَالثَّانِي مِثْلُ خَالِقٍ وَرَازِقٍ وَكُلُّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْفِعْلَ الَّذِي هُوَ الِاسْمَ غَيْرُ الذَّاتِ، وَالثَّالِثُ مِثْلُ الْعَالِمِ وَالْقَادِرِ وَالْمُرِيدِ فَالْعِلْمُ مَثَلًا الَّذِي هُوَ الِاسْمُ لَا يُقَالُ فِيهِ إنَّهُ عَيْنٌ وَلَا غَيْرٌ، هَذَا تَحْقِيقُ مَا قَالَهُ الْأَشْعَرِيُّ. الثَّانِي: الَّذِي يَظْهَرُ إبْقَاءُ الْأَسْمَاءِ عَلَى ظَاهِرِهَا مِنْ غَيْرِ تَأْوِيلِهَا بِالْمُسَمَّيَاتِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ إنَّمَا يَكُونُ بِالِاسْمِ لَا بِالْمُسَمَّى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَسَبَبُ نُزُولِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} [الأعراف: 180] يَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكُفَّارَ لَمَّا سَمِعُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] تَارَةً يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى وَتَارَةً يَذْكُرُونَ الرَّحْمَنَ قَالُوا: يَزْعُمُ مُحَمَّدٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ إلَهًا وَاحِدًا وَإِذَا هُمْ يَعْبُدُونَ آلِهَةً فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ} [الأعراف: 180] أَيْ اُتْرُكُوا تَسْمِيَةَ الَّذِينَ يَمِيلُونَ عَنْ الْحَقِّ وَيُسَمُّونَهُ بِغَيْرِ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ كَيَا أَبْيَضَ الْوَجْهِ وَيَا أَبَا الْمَكَارِمِ، وَلِذَلِكَ نَصَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُدْعَى سُبْحَانَهُ إلَّا بِالْأَسْمَاءِ الَّتِي سَمَّى بِهَا نَفْسَهُ فِي كِتَابِهِ أَوْ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ أَوْ اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ؛ لِأَنَّهَا تَوْقِيفِيَّةٌ، وَمِنْ الْوَارِدِ الْحَنَّانُ الْمَنَّانُ، وَالْمُرَادُ بِالْحَنَّانِ الَّذِي يُقْبِلُ عَلَى مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ، وَالْمَنَّانُ الَّذِي يَبْدَأُ بِالنَّوَالِ قَبْلَ السُّؤَالِ وَهِيَ غَيْرُ مَحْصُورَةٍ فِي التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ. (وَ) لَهُ أَيْضًا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الصِّفَاتُ) جَمْعُ صِفَةٍ وَهِيَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِالْمَوْصُوفِ، (الْعُلَى) أَيْ الْمُرْتَفِعَةُ عَنْ كُلِّ نَقْصٍ وَالْفَائِقَةُ لِكُلِّ شَيْءٍ فِي الْعَظَمَةِ وَالْكَمَالِ، وَلَفْظُ الْعُلَى مَصْدَرُ عَلَى يَعْلَى عُلًا إذَا شَرُفَ وَتَنَاهَى فِي الْمَكَارِمِ، وَعَلَى يَعْلُو عُلُوًّا إذَا ارْتَفَعَ، وَلِكَوْنِهِ مَصْدَرًا صَحَّ جَعْلُهُ وَصْفًا لِلْجَمِيعِ وَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ لَا مُخَصِّصٌ، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ لَهُ تَعَالَى الْأَسْمَاءَ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى شَرَعَ فِي بَيَانِ أَنَّهَا قَدِيمَةٌ بِقَوْلِهِ: (لَمْ يَزَلْ) سُبْحَانَهُ يُرِيدُ الْمُصَنِّفُ وَلَا يَزَالُ مَوْجُودًا قَدِيمًا بَاقِيًا مَوْصُوفًا (بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ) النَّفْسِيَّةِ وَالسَّلْبِيَّةِ وَالْمَعَانِي وَالْمَعْنَوِيَّةِ. (وَ) لَمْ يَزَلْ وَلَا يَزَالُ أَيْضًا مُسَمًّى بِجَمِيعِ (أَسْمَائِهِ) تَعَالَى وَمُرَادُهُ بِلَمْ يَزَلْ الْقِدَمُ وَبِلَا يَزَالُ الْبَقَاءُ، وَالْمُرَادُ بِقِدَمِ أَسْمَائِهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ وَالِاتِّصَافِ بِهَا كَمَا سَنُوَضِّحُهُ عِنْدَ ذِكْرِنَا لِكَلَامِ الْجَوْهَرَةِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ خَبَرَ لَمْ يَزَلْ مُتَعَلِّقٌ بِجَمِيعِ وَقَدَّرْنَاهُ قَدِيمًا بَاقِيًا لِدَلَالَةِ الْمَقَامِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مَقَامُ رَدٍّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ كَمَا سَيُبَيِّنُهُ (تَعَالَى) سُبْحَانَهُ وَتَنَزَّهَ عَنْ (أَنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ) الذَّاتِيَّةُ (مَخْلُوقَةً وَ) تَعَالَى أَيْضًا عَنْ أَنْ تَكُونَ (أَسْمَاؤُهُ مُحْدَثَةً) بِمَعْنَى مَخْلُوقَةٍ وَأَشَارَ فِي الْجَوْهَرَةِ إلَى بَيَانِ قِدَمِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ بِقَوْلِهِ: وَعِنْدَنَا أَسْمَاؤُهُ الْعَظِيمَةُ ... كَذَا صِفَاتُ ذَاتِهِ قَدِيمَةٌ وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَسْمَاءَ اللَّهِ تَعَالَى وَصِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةَ قَدِيمَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ. وَالْمُرَادُ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى مَا دَلَّ عَلَى مُجَرَّدِ ذَاتِهِ كَ " اللَّهِ "، أَوْ بِاعْتِبَارِ الصِّفَةِ كَالْعَالِمِ وَالْقَادِرِ، وَقَدَّمَهَا إمَّا بِاعْتِبَارِ قِدَمِ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنْ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى كَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالْإِرَادَةِ، وَإِمَّا بِاعْتِبَارِ التَّسْمِيَةِ بِهَا وَهَذَا أَحْسَنُ خُصُوصًا، وَالرَّاجِحُ أَنَّ وَاضِعَ اللُّغَةِ هُوَ اللَّهُ فَهُوَ الَّذِي سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا أَزَلًا، وَمَعْنَى سَمَّى نَفْسَهُ بِهَا أَظْهَرَ تَسْمِيَتَهُ بِهَا إذْ الْعَقْلُ لَا يَتَصَوَّرُهُ إلَّا مُسَمًّى وَمُتَّصِفًا بِهَا، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ - بِالتَّصْرِيحِ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَزَلْ بِجَمِيعِ صِفَاتِهِ. . . إلَخْ وَبِمَا قَبْلَهُ - الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ كَانَ فِي الْأَزَلِ بِلَا اسْمٍ وَلَا صِفَةٍ فَلَمَّا أَوْجَدَ الْخَلْقَ وَصَفُوا لَهُ الْأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ، وَفِيهِ أَيْضًا رَدٌّ عَلَى النُّفَاتِ لِزِيَادَةِ الصِّفَاتِ الَّذِينَ يَقُولُونَ إنَّهُ تَعَالَى عَالِمٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ زَعْمًا مِنْهُمْ أَنَّ صِفَاتِهِ عَيْنُ ذَاتِهِ، وَهُنَاكَ صِفَةٌ زَائِدَةٌ عَلَى الذَّاتِ، بَلْ ذَاتُهُ تُسَمَّى بِاعْتِبَارِ التَّعَلُّقِ بِالْمَعْلُومَاتِ عَالِمًا وَبِالْمَقْدَرَاتِ قَادِرًا هُرُوبًا مِنْ تَعَدُّدِ الْقُدَمَاءِ وَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، إذْ التَّعَدُّدُ الْمَمْنُوعُ تَعَدُّدُ الْآلِهَةِ. وَنَحْنُ لَا نَقُولُ بِذَلِكَ وَإِنَّمَا نَقُولُ: الْمَعْبُودُ ذَاتٌ وَاحِدَةٌ وَلَهَا صِفَاتٌ قَدِيمَةٌ بِقِدَمِهَا وَلَا حَظْرَ فِي ذَلِكَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ صِفَاتِ الذَّاتِ لَا تَنْفَكُّ عَنْهَا وَلَيْسَتْ عَيْنَ الذَّاتِ حَتَّى يَكُونَا إلَهَيْنِ وَلَا غَيْرَهَا حَتَّى تَكُونَ مُحْدَثَةً فَهِيَ كَالْوَاحِدَةِ مِنْ الْعَشَرَةِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: ثُمَّ صِفَاتُ الذَّاتِ لَيْسَتْ بِغَيْرٍ أَوْ بِعَيْنِ الذَّاتِ وَقُيِّدَتْ الصِّفَاتُ بِالذَّاتِيَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَادِثَةٌ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ. قَالَ الْمَحَلِّيُّ: أَمَّا صِفَاتُ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ فَلَيْسَتْ أَزَلِيَّةٌ وَإِنَّمَا هِيَ حَادِثَةٌ مُتَجَدِّدَةٌ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ تَعْرِضُ لِلْقُدْرَةِ وَهِيَ تَعَلُّقَاتُهَا بِوُجُودِ ذَاتِ الْمَقْدُورَاتِ لِأَوْقَاتِ وِجْدَانِهَا، وَلَا مَحْظُورَةَ فِي اتِّصَافِ الْبَارِي بِالْإِضَافَاتِ كَكَوْنِهِ قَبْلَ الْعَالَمِ وَمَعَهُ وَبَعْدَهُ، وَأَزَلِيَّةٌ أَسْمَائِهِ الرَّاجِعَةُ إلَى صِفَاتِ الْأَفْعَالِ مِنْ حَيْثُ رُجُوعِهَا إلَى الْقُدْرَةِ لَا الْفِعْلِ، فَالْخَالِقُ مَثَلًا مِنْ شَأْنِهِ الْخَلْقُ وَهُوَ الْمُتَّصِفُ بِالصِّفَةِ الَّتِي بِهَا يَصِحُّ الْخَلْقُ وَهِيَ الْقُدْرَةُ وَالْقُدْرَةُ قَدِيمَةٌ وَصُدُورُ الْخَلْقِ لَيْسَ أَزَلِيًّا، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَتَّصِفُ الْبَارِي بِصِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَهِيَ حَادِثَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأَشْعَرِيِّ وَقِيَامُ الْحَادِثِ بِالْقَدِيمِ مُحَالٌ؟ قُلْت: اتِّصَافُهُ بِهَا لَا يَقْتَضِي قِيَامَهَا بِهِ؛ لِأَنَّهَا إضَافَاتٌ وَهِيَ مِنْ الْأُمُورِ الِاعْتِبَارِيَّةِ الَّتِي لَا وُجُودَ لَهَا، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ لَيْسَتْ بِصِفَاتٍ حَقِيقِيَّةٍ بِحَيْثُ تَكُونُ مَوْجُودَةً بِالْوُجُودِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 مُوسَى بِكَلَامِهِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَتَجَلَّى لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا مِنْ جَلَالِهِ. ، وَأَنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ:   [الفواكه الدواني] الْخَارِجِيِّ وَإِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَعَلُّقِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لَهُ مِثْلُ قَوْلِنَا: شَرِيكُ الْبَارِي مَعْدُومٌ فَإِنَّ الْعَدَمَ مُتَعَلِّقٌ بِالشَّرِيكِ وَلَيْسَ صِفَةً لَهُ إذْ لَوْ كَانَ صِفَةً لَهُ لَكَانَ مَوْجُودًا؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اتَّصَفَ بِصِفَةٍ وُجُودِيَّةٍ فَهُوَ مَوْجُودٌ. (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: الصِّفَاتُ عِنْدَ مَنْ يُثْبِتُ الْأَحْوَالَ أَرْبَعٌ: نَفْسِيَّةٌ وَسَلْبِيَّةٌ وَمَعَانٍ وَمَعْنَوِيَّةٌ. فَالنَّفْسِيَّةُ كَالْوُجُودِ وَحَقِيقَتُهَا الْحَالُ الْوَاجِبَةُ لِلذَّاتِ مَا دَامَتْ الذَّاتُ غَيْرَ مُعَلَّلَةٍ بِعِلَةٍ، بِخِلَافِ الْحَالِ الْمَعْنَوِيَّةِ كَكَوْنِ الذَّاتِ عَالِمَةً وَقَادِرَةً وَمُرِيدَةً فَإِنَّهَا مُعَلَّلَةٌ بِقِيَامِ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ بِالذَّاتِ. وَالسَّلْبِيَّةُ وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى نَفْيِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهِيَ خَمْسَةٌ: الْقِدَمُ وَالْبَقَاءُ وَالْمُخَالَفَةُ لِلْحَوَادِثِ وَقِيَامُهُ بِنَفْسِهِ وَالْوَحْدَانِيَّة. وَصِفَاتُ الْمَعَانِي وَهِيَ الدَّالَّةُ عَلَى مَعْنًى قَائِمٍ بِالذَّاتِ زَائِدٍ عَلَيْهَا وَهِيَ سَبْعٌ: الْعِلْمُ وَالْقُدْرَةُ وَالْإِرَادَةُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْكَلَامُ وَالْحَيَاةُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ الْإِدْرَاكَ فَتَكُونُ ثَمَانِيَةً. وَالْمَعْنَوِيَّةُ وَهِيَ فَرْعُ صِفَاتِ الْمَعَانِي كَكَوْنِهِ قَادِرًا وَمُرِيدًا وَهِيَ قَدِيمَةٌ كَأَصْلِهَا وَضَابِطُهَا أَنَّهَا الْحَالُ الْوَاجِبَةُ لِلذَّاتِ مَا دَامَتْ الذَّاتُ مُعَلَّلَةً بِعِلَةٍ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا لَيْسَتْ زَائِدَةً عَلَى صِفَاتِ الْمَعَانِي لِأَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا حَالَ، وَالشَّيْءُ إمَّا مَوْجُودٌ وَإِمَّا غَيْرُ مَوْجُودٍ خِلَافًا لِمَنْ أَثْبَتَ الْحَالَ وَهُوَ كَوْنُ الشَّيْءِ لَا مَوْجُودًا وَلَا مَعْدُومًا، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهَا الْقَوْمُ لِلدَّلَالَةِ عَلَى قِيَامِ صِفَةِ الْمَعْنَى بِالذَّاتِ لَا أَنَّهَا زَائِدَةٌ عَلَيْهَا الثَّانِيَةُ: الَّذِي يَتَعَلَّقُ مِنْ الصِّفَاتِ كُلُّ مَا اقْتَضَى أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ، وَذَلِكَ كَالْقُدْرَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالسَّمْعِ وَبَقِيَّةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي سِوَى الْحَيَاةِ، فَالْقُدْرَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُمْكِنِ تُوجِدُهُ أَوْ تُعْدِمُهُ، وَالْإِرَادَةُ تَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَى وَجْهِ التَّخْصِيصِ، وَالْعِلْمُ وَالْكَلَامُ يَتَعَلَّقَانِ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا، لَكِنَّ تَعَلُّقَ الْعِلْمِ تَعَلُّقُ إحَاطَةٍ، وَتَعَلُّقَ الْكَلَامِ تَعَلُّقُ دَلَالَةٍ، وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ يَتَعَلَّقَانِ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَقِيلَ: السَّمْعُ بِالْمُسْمَعِ وَالْبَصِيرُ بِالْمُبْصَرِ فَقَطْ، وَالْإِدْرَاكُ بِالْمَشْمُومَاتِ وَالْمَذُوقَاتِ وَالْمَلْمُوسَاتِ، وَالْحَيَاةُ لَا تَتَعَلَّقُ بِشَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَقْتَضِي أَمْرًا زَائِدًا عَلَى الذَّاتِ وَإِنَّمَا تُصَحِّحُ لِلذَّاتِ الِاتِّصَافَ بِالْعِلْمِ فَهِيَ شَرْطٌ فِيهِ، وَمِثْلُهَا فِي عَدَمِ التَّعَلُّقِ صِفَاتُ السُّلُوبِ. الثَّالِثَةُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ صِفَاتِ الْمَعَانِي وَفُرُوعَهَا قَدِيمَةٌ، وَصِفَاتِ الْأَفْعَالِ حَادِثَةٌ عَلَى طَرِيقِ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَمَّا صِفَاتُ السُّلُوبِ فَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّف قِدَمُهَا أَيْضًا وَلِذَلِكَ قَالَ السُّكْتَانِيُّ: فَإِنْ قُلْت: هَلْ يَجِبُ الْقِدَمُ لِأَوْصَافِهِ التَّنْزِيهِيَّةِ الْوَاجِبَةِ لَهُ تَعَالَى كَالْقِدَمِ وَالْبَقَاءِ وَمَا مَعَهُمَا مِنْ صِفَاتِ السُّلُوبِ أَوْ لَا؟ قُلْت: نَعَمْ؛ لِأَنَّ الْقِدَمَ مَثَلًا أَمْرٌ يَجِبُ لَهُ عَقْلًا. فَلَا يَصِحُّ سَلْبُهُ عَنْهُ بِحَالٍ لَا فِي الْأَزَلِ وَلَا فِيمَا لَا يَزَالُ، وَعَلَيْهِ فَقِسْ بَقِيَّةَ صِفَاتِ السُّلُوبِ. الرَّابِعَةُ: كَثْرَةُ السُّؤَالِ عَنْ الِاسْمِ وَالْمُسَمَّى، وَالْمَعْنَى: هَلْ هِيَ مُتَّحِدَةٌ أَوْ مُتَغَايِرَةٌ؟ وَهَلْ الْمَعْبُودُ الِاسْمُ أَوْ الْمُسَمَّى أَوْ الْمَعْنَى؟ وَتَحْقِيقُ الْجَوَابِ أَنْ تَقُولَ: اسْمُ الْبَارِي عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ دَالٌ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ فَقَطْ كَلَفْظِ اللَّهِ فَإِنَّهُ كَزَيْدٍ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى مُجَرَّدِ الذَّاتِ وَإِنْ اسْتَلْزَمَتْ أَوْصَافًا لَكِنْ لَا بِطَرِيقِ الْوَضْعِ، فَهُنَا الِاسْمُ الْحُرُوفُ وَالْمُسَمَّى الذَّاتُ الْعَلِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي تُعْبَدُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْمَعْنَى لَا الِاسْمِ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ وَاللَّفْظُ لَا يُعْبَدُ، فَحِينَئِذٍ الْحَدُّ الْمُسَمَّى وَالْمَعْنَى مَا صَدَقَا وَإِنْ اخْتَلَفَا بِالِاعْتِبَارِ، فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَدْلُولُ اللَّفْظِ مُسَمًّى وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَقْصُودٌ بِاللَّفْظِ مَعْنًى. وَقِسْمٌ دَالٌّ عَلَى الذَّاتِ مَعَ الصِّفَةِ. وَالْمَقْصُودُ ذِكْرُ الصِّفَةِ فَإِذَا قُلْت: عَالِمٌ قَصْدُك الصِّفَةَ لَا الذَّاتَ وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ مِنْهَا لِإِشْعَارِ اللَّفْظِ بِهَا. وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مَقْصُودَةً فَهُنَا الِاسْمُ عَالِمٌ أَعْنِي حَرْفَهُ وَالْمُسَمَّى الذَّاتُ وَالْمَعْنَى الصِّفَةُ؛ لِأَنَّهَا الْمَقْصُودَةُ، فَلَيْسَ الْمَعْبُودُ الِاسْمَ وَلَا الْمَعْنَى وَإِنَّمَا الْمَعْبُودُ الْمُسَمَّى، هَذَا عَلَى سَبِيلِ التَّحْقِيقِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ صِفَاتِ الْمَعَانِي الْقَائِمَةِ بِذَاتِهِ تَعَالَى صِفَةُ الْكَلَامِ، وَكَانَ تَصَوُّرُهُ مِنْهُ خَفِيًّا بِسَبَبِ أَنَّ الْمَعْرُوفَ لَنَا أَنَّهُ بِآلَةٍ وَصَوْتٍ وَهُمَا مُسْتَحِيلَانِ فِي حَقِّهِ، نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ فِيهَا حَتَّى سُمِّيَ هَذَا الْفَنُّ بِهَا فَقِيلَ عِلْمُ الْكَلَامِ فَقَالَ (كَلَّمَ) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى نَبِيَّهُ وَرَسُولَهُ (مُوسَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (بِكَلَامِهِ الْقَدِيمِ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لَا) هُوَ (خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ) وَإِنَّمَا هُوَ صِفَةٌ أَزَلِيَّةٌ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ تَعَالَى مُنَافِيَةٌ لِلسُّكُوتِ وَالْآفَةِ هُوَ بِهَا آمِرٌ نَاهٍ مُخْبِرٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، يَدُلُّ عَلَيْهَا بِالْعِبَارَةِ وَالْكِتَابَةِ وَالْإِشَارَةِ. وَالدَّالُّ يُسَمَّى قُرْآنًا وَتَوْرَاةً وَزَبُورًا بِاعْتِبَارِ النَّازِلِ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مُوسَى كَلَّمَهُ رَبُّهُ وَسَمِعَ كَلَامَهُ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِلَا وَاسِطَةٍ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ أَرْبَابِ الْمِلَلِ وَالْمَذَاهِبِ قَالَ تَعَالَى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] اخْتَلَفُوا فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ إلَى سَمْعِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ أَهْلُ السُّنَّةِ: خَلَقَ لَهُ فَهْمًا فِي قَلْبِهِ وَسَمْعًا فِي أُذُنَيْهِ سَمِعَ بِهِ كَلَامًا لَيْسَ بِحَرْفٍ وَلَا صَوْتٍ كَمَا نَرَى ذَاتَه تَعَالَى فِي الْآخِرَةِ مِنْ غَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا انْحِصَارٍ، وَلِلَّهِ تَعَالَى فِي قُدْرَتِهِ مَا يَفُوقُ خَرْقَ الْعَادَةِ. فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَلَامُهُ تَعَالَى صِفَةً ذَاتِيَّةً لَهُ أَيْضًا لَازِمَةً لِذَاتِهِ لَا تُفَارِقُهَا فَمَا بَالُ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَسْمَعْهُ قَبْلَ التَّكْلِيمِ وَلَا بَعْدَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَرَادَ إسْمَاعَهُ كَلَامَهُ أَزَالَ الْحِجَابَ الْمَانِعَ مِنْ الِاسْتِمَاعِ فَسَمِعَ، ثُمَّ لَمَّا سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ تَعَالَى وَذَاقَ لَذَّتَهُ أَعَادَ الْحِجَابَ، فَإِنْ قِيلَ: نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ كَلَامَ رَبِّهِ تَعَالَى بِكَلَامِهِ لَهُ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فَلِمَاذَا خَصَّ مُوسَى بِالْكَلِيمِ دُونَ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ: أَحْسَنُهَا طَرِيقُ الْأَشْعَرِيِّ وَحُجَّةِ الْإِسْلَامِ الْغَزَالِيِّ أَنَّهُ سَمِعَ كَلَامَ اللَّهِ الْأَزَلِيَّ بِلَا صَوْتٍ وَلَا حَرْفٍ كَمَا تُرَى ذَاتُهُ فِي الْآخِرَةِ بِلَا كَمٍّ وَلَا كَيْفٍ، وَقِيلَ: سَمِعَهُ بِصَوْتٍ مِنْ جَمِيعِ الْجِهَاتِ عَلَى خِلَافِ مَا هُوَ الْعَادَةُ، وَقِيلَ: أَنَّهُ سَمِعَهُ مِنْ جِهَةٍ لَكِنْ بِصَوْتٍ غَيْرِ مُكْتَسَبٍ لِلْعِبَادِ عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ سَمَاعِنَا بِخِلَافِ سَمَاعِ نَبِيِّنَا بِكَلَامِ رَبِّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ كَانَ عَلَى وَجْهٍ مُخَالِفٍ لِذَلِكَ، وَالْأَظْهَرُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ: إنَّ مُوسَى كَانَ حِينَ سَمَاعِ كَلَامِ رَبِّهِ فِي الْأَرْضِ وَنَبِيَّنَا كَانَ فِي السَّمَاءِ، وَسَمَاعُ مَنْ فِي الْأَرْضِ لِمَنْ فِي السَّمَاءِ لَمْ يُعْهَدْ لِأَحَدٍ سِوَى مُوسَى، بِخِلَافِ سَمَاعِ مَنْ فِي السَّمَاءِ لِكَلَامِ رَبِّهِ فَإِنَّهُ مَعْهُودٌ أَوْ لِسَمَاعِ مُوسَى مِنْ كُلِّ جِهَةٍ بِلَا وَاسِطَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَلَامُ اللَّهِ عِبَارَةً عَنْ الْمَعْنَى النَّفْسِيِّ الْقَائِمِ بِذَاتِهِ الْمُنَزَّهِ عَنْ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فَبِأَيِّ طَرِيقٍ عَلِمَ مُوسَى أَنَّ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ اللَّهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: عَلِمَهُ مُوسَى إمَّا بِوَحْيٍ أَوْ بِخَلْقِ عِلْمٍ ضَرُورِيٍّ لَهُ عَلِمَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ الْمَسْمُوعَ كَلَامُ رَبِّهِ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ الَّذِي كَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى بِهِ وَلَمْ أَرَهُ سِوَى هَامِشٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ الثَّعْلَبِيُّ إنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَلَّمَ مُوسَى فِي تِلْكَ الْمَرَّةِ مِائَةَ أَلْفِ كَلِمَةٍ وَأَرْبَعَةَ عَشْرَ أَلْفَ كَلِمَةٍ وَفِي كُلِّ كَلِمَةٍ يَقُولُ لِمُوسَى: قَتَلْت نَفْسًا بِغَيْرِ حَقٍّ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ الْمَعْنَى النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ هُوَ مَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ، خِلَافًا لِمَا ادَّعَاهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ وَاخْتَارَهُ أَبُو مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيُّ مِنْ أَنَّ الْمَسْمُوعَ هُوَ صَوْتٌ دَالٌ عَلَى الْكَلَامِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ سَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِ وَاسِطَةٍ خُصَّ بِاسْمِ الْكَلِيمِ. الثَّانِي: سَمَاعُ مُوسَى كَلَامَ رَبِّهِ جَلَّ وَعَلَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ رُؤْيَا مِنْ مُوسَى لِرَبِّهِ؛ لِأَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الْيَقِظَةِ لَمْ تَقَعْ بِالْفِعْلِ لِأَحَدٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا سِوَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. الثَّالِثُ: إنَّمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ لِلرَّدِّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى لَيْسَ بِصِفَةٍ ذَاتِيَّةٍ لَهُ بَلْ كَلَامُهُ قَائِمٌ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ صِفَةُ ذَاتِهِ لِلرَّدِّ عَلَى طَائِفَةٍ سَمَّتْ أَنْفُسَهَا بِالْحَنَابِلَةِ فِي قَوْلِهَا: إنَّ كَلَامَهُ بِأَصْوَاتٍ وَحُرُوفٍ خَلَقَهَا وَهَذَا وَاضِحُ الْبُطْلَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ صِفَةُ الْمُتَكَلِّمِ وَالْأَصْوَاتَ وَالْحُرُوفَ حَادِثَةٌ لَا تَقُومُ بِالْقَدِيمِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِكَلَامِهِ مَعَ اسْتِفَادَتِهِ مِنْ كَلَامِ مُوسَى إمَّا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ: الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ، أَوْ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ لَمَّا كَانَ يُطْلَقُ عَلَى الْإِشَارَةِ وَعَلَى الْكِتَابَةِ وَعَلَى النُّطْقِ خَصَّهُ مِنْ هَذِهِ الْإِطْلَاقَاتِ بِقَوْلِهِ: الَّذِي هُوَ صِفَةُ ذَاتِهِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ فِي الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ التَّكْلِيمَ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤَكَّدُ بِالْمَصْدَرِ إلَّا الْحَقِيقَةُ لَا الْمَجَازُ. الرَّابِعُ: عُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ قَوْلَهُ: لَا خَلْقٌ إلَخْ مَرْفُوعٌ بِالْعِطْفِ عَلَى صِفَةِ ذَاتِهِ فَهُوَ صِفَةٌ لِكَلَامِهِ. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى الضَّمِيرِ فِي كَلَّمَ الْعَائِدِ عَلَى اللَّهِ، أَيْ أَنَّ الَّذِي كَلَّمَ مُوسَى هُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا خَلْقٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الَّذِي سَمِعَ الْكَلَامَ هُوَ مُوسَى وَحْدَهُ، وَقِيلَ بَلْ سَمِعَهُ السَّبْعُونَ الَّذِينَ اخْتَارَهُمْ مُوسَى، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ اخْتِصَاصِ الْكَلِيمِ بِمُوسَى فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ سَمَاعِهِمْ كَلَامَهُ، وَشَهَادَتِهِمْ بِذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ كَلَّمَهُمْ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَسْمَعُ كَلَامَ مَنْ لَمْ يُكَلِّمْهُ. الْخَامِسُ: إنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا لِقَصْدِ تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَلِبَيَانِ أَنَّهَا مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ، وَوَجْهُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا أَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِذِكْرِهَا إثْبَاتَ صِفَةِ الْكَلَامِ فَهِيَ دَاخِلَةٌ فِي قَوْلِهِ لَهُ: الصِّفَاتُ الْعُلَى، وَإِنْ أَرَادَ بِذِكْرِهَا التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا مِنْ الْقُرْآنِ فَالْقُرْآنُ سَيَأْتِي قَرِيبًا. (وَ) لَمَّا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى مُوسَى بِإِسْمَاعِهِ كَلَامَهُ طَمِعَ فِي رُؤْيَةِ ذَاتِهِ كَمَا هُوَ شَأْنُ الْمُحِبِّ فَسَأَلَهُ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ بِقَوْلِهِ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] (تَجَلَّى) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْ أَظْهَرَ بَعْضَ جَلَالِهِ (لِلْجَبَلِ فَصَارَ دَكًّا) أَيْ نَازِلًا فِي الْأَرْضِ حَتَّى قِيلَ إلَى الْآنِ خَشْيَةً (مِنْ جَلَالِهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَلَا اسْتِبْعَادَ فِي خَوْفِ الْجَبَلِ وَخَشْيَتِهِ لِجَوَازِ خَلْقِ اللَّهِ لَهُ عِلْمًا وَحَيَاةً وَبَصَرًا لِتَوَقُّفِ الْخَوْفِ عَلَيْهَا، وَقَالَ مِنْ جَلَالِهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ تَجَلِّيَهُ تَعَالَى لِلْجَبَلِ مِنْ غَيْرِ تَشْبِيهٍ وَلَا تَكْلِيفٍ وَالْمُرَادُ بِالْجَبَلِ طُورُ سَيْنَاءَ. تَنْبِيهٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ فَيَبِيدُ، وَلَا صِفَةً لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدُ. ، وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ: خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، وَحُلْوِهِ وَمُرِّهِ، وَكُلِّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ   [الفواكه الدواني] دُعَاءُ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّهُ وَطَلَبُهُ مِنْهُ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِهَا فِي دَارِ الدُّنْيَا وَإِمْكَانِهَا، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مُمْتَنِعَةٌ مَا طَلَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَعْصُومُونَ مِنْ فِعْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إمْكَانِهَا تَعْلِيقُهَا عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ وَهُوَ أَمْرٌ مُمْكِنٌ، وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ فِي دَارِ الدُّنْيَا يَقَظَةً إلَّا لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ فَيَرَاهُ الْمُؤْمِنُونَ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ عَطْفًا عَلَى الْجَائِزِ الْعَقْلِيِّ الْوَاجِبِ السَّمْعِيِّ بِقَوْلِهِ: وَمِنْهُ أَنْ يُنْظَرَ بِالْأَبْصَارِ ... لَكِنْ بِلَا كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ لِلْمُؤْمِنِينَ إذْ بِجَائِزٍ عُلِّقَتْ ... هَذَا وَلِلْمُخْتَارِ دُنْيَا ثَبَتَتْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ تَرْجَمَهَا أَصْحَابُ الْكَلَامِ بِمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ فَقَالَ: (وَإِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ) الَّذِي هُوَ الْمَعْنَى الْقَائِمُ بِذَاتِهِ لَا اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ (لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ) خَبَرُ إنَّ؛ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ بَيَانٌ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْقُرْآنِ (فَيَبِيدَ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالنَّصْبِ بِإِنَّ الْمُضْمَرَةِ فِي جَوَابِ النَّفْيِ بِمَعْنَى يَهْلِكُ. (وَلَا صِفَةً) بِالنَّصْبِ لِعَطْفِهِ عَلَى مَخْلُوقٍ؛ لِأَنَّهُ مَنْصُوبٌ تَقْدِيرًا؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ لَيْسَ وَالْبَاءُ تُزَادُ فِي خَبَرِهَا كَثِيرًا (لِمَخْلُوقٍ فَيَنْفَدَ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى يَفْرُغُ، وَهُوَ مَنْصُوبٌ أَيْضًا بِأَنَّ الْمُضْمَرَةِ فِي جَوَابِ النَّفْي، وَإِنَّمَا غَايَرَ بَيْنَ لَفْظِ يَبِيدُ وَيَنْفَدُ مَعَ اتِّحَادِ مَعْنَاهُمَا وَهُوَ الذَّهَابُ لِلْمُنَاسَبَةِ؛ لِأَنَّ الْأَجْسَامَ تَفْنَى أَصَالَةً فَنَاسَبَهَا لَفْظُ " يَبِيدُ "، وَالْأَعْرَاضَ يَخْلُفُ بَعْضُهَا بَعْضًا فَنَاسَبَهَا لَفْظُ " يَنْفَدُ "، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ بِالْقُرْآنِ صِفَةُ ذَاتِهِ الْقَدِيمَةِ، فَلَا تَنْفَكُّ عَنْهَا كَسَائِرِ صِفَاتِ الذَّاتِ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِخَلْقِ الْكَلَامِ مُسْتَدِلِّينَ عَلَى ذَلِكَ بِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عُلِمَ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ وَالْعَوَامِّ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ الْمُنْتَظِمُ مِنْ الْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ الْمُفْتَتَحُ بِالتَّحْمِيدِ الْمَخْتُومُ بِالِاسْتِعَاذَةِ، وَعَلَيْهِ انْعَقَدَ إجْمَاعُ السَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا حَادِثٌ وَمَخْلُوقٌ. وَالْأَمْرُ الثَّانِي أَنَّهُ قَدْ اشْتَهَرَ وَصْفُهُ بِخَوَاصَّ كَالْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ وَالتَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ، وَهَذَا أَيْضًا مِنْ عَوَارِضِ الْحَوَادِثِ، وَأَجَابَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَمَّا تَمَسَّكَتْ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ كُلَّ مَا دَلَّ عَلَى الْحُدُوثِ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى اللَّفْظِ الدَّالِ عَلَى الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِالنَّفْسِ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ قَدِيمٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَنَزِّهْ الْقُرْآنَ أَيْ كَلَامَهُ ... عَنْ الْحُدُوثِ وَاحْذَرْ انْتِقَامَهُ وَكُلُّ نَصٍّ لِلْحُدُوثِ دَلَّا ... احْمِلْ عَلَى اللَّفْظِ الَّذِي قَدْ دَلَّا وَإِنَّمَا فَسَّرَ الْمُصَنِّفُ الْقُرْآنَ بِكَلَامِ اللَّهِ خَوْفًا مِنْ تَبَادُرِ الذِّهْنِ إلَى اللَّفْظِ لِشُهْرَةِ اسْتِعْمَالِ لَفْظِ الْقُرْآنِ فِي اللَّفْظِ كَمَا اشْتَهَرَ لَفْظُ الْكَلَامِ فِي الْمَعْنَى، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّزَاعَ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ فِي إثْبَاتِ الْكَلَامِ النَّفْسِيِّ وَنَفْيِهِ، فَأَهْلُ السُّنَّةِ تُثْبِتُهُ وَالْمُعْتَزِلَةُ تَنْفِيه، دَلِيلُنَا أَنَّهُ ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ تَعَالَى مُتَكَلِّمٌ، وَلَا مَعْنَى لَهُ سِوَى أَنَّهُ مُتَّصِفٌ بِالْكَلَامِ، وَيَمْتَنِعُ قِيَامُ اللَّفْظِ الْحَادِثِ بِذَاتِهِ تَعَالَى فَيَتَعَيَّنُ النَّفْسِيُّ الْقَدِيمُ، وَالْمُعْتَزِلَةُ لَمَّا لَمْ يُمْكِنْهُمْ إنْكَارُ كَوْنِهِ تَعَالَى مُتَكَلِّمًا ذَهَبُوا إلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ مُتَكَلِّمًا أَنَّهُ مُوجِدٌ لِلْحُرُوفِ وَالْأَصْوَاتِ فِي غَيْرِهِ، وَكَلَامُهُمْ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الْمُتَكَلِّمَ مَنْ قَامَ بِهِ صِفَةُ الْكَلَامِ لَا مَنْ أَوْجَدَهُ فِي غَيْرِهِ، كَمَا أَنَّ الْقَائِمَ مَنْ قَامَ بِهِ الْقِيَامُ وَوُجِدَ مِنْهُ لَا مَنْ أَحْدَثَهُ فِي غَيْرِهِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: الْقُرْآنُ وَزْنُهُ فُعْلَانُ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ مِنْ قَرَأْت الشَّيْءَ قُرْآنًا جَمَعْته، أَوْ مِنْ قَرَأْت الْكِتَابَ قِرَاءَةً وَقُرْآنًا تَلَوْته؛ لِأَنَّهُ مَجْمُوعٌ وَمَتْلُوٌّ، وَحَقِيقَتُهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ وَالْعَامَّةِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِعْجَازِ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ الْمُحْتَجُّ بِأَبْعَاضِهِ، فَخَرَجَ بِقَيْدِ اللَّفْظِ الْمُنَزَّلِ الْأَحَادِيثُ غَيْرُ الْقُدْسِيَّةِ، فَالْحَقُّ أَنَّ النَّازِلَ فِيهَا الْمَعْنَى دُونَ اللَّفْظِ وَبِقَيْدِ عَلَى مُحَمَّدٍ التَّوْرَاةُ فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلُ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى عِيسَى، وَالزَّبُورُ فَإِنَّهُ أُنْزِلَ عَلَى دَاوُد، وَيُفِيدُ الْإِعْجَازُ الَّذِي هُوَ صِدْقُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دَعْوَاهُ الرِّسَالَةَ مَجَازًا عَنْ إظْهَارِ عَجْزِ الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ عَنْ مُعَارِضَةِ الْأَحَادِيثِ الرَّبَّانِيَّةِ وَيُقَالُ لَهَا الْقُدْسِيَّةُ كَحَدِيثِ: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي» فَإِنَّهَا أُنْزِلَتْ لِلْعَمَلِ وَالِاحْتِجَاجُ بِمَعَانِيهَا لَا لِلْإِعْجَازِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْإِعْجَازِ، مَعَ أَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِغَيْرِهِ مَعَ أَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي التَّعْجِيزِ، وَمَعْنَى كَوْنِ هَذَا اللَّفْظِ كَلَامَ اللَّهِ مَعَ أَنَّهُ مُحْدَثٌ وَمَخْلُوقٌ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَوَلَّى تَأْلِيفَهُ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ رَتَّبَهُ وَجَمَعَهُ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ تَرْتِيبَ السُّوَرِ مِنْ جِبْرِيلَ كَمَا وَرَدَ، وَتَرْتِيبُ الْآيَاتِ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَتَرْتِيبُ سُوَرِهِ وَآيَاتِهِ تَوْقِيفِيٌّ، وَاَلَّذِي جَمَعَهُ هُوَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مُفَرَّقًا فِي صُدُورِ الرِّجَالِ زَمَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْفَظْهُ مِنْ الصَّحَابَةِ سِوَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَكَتَبَهُ النَّاسُ فِي صُحُفٍ وَجَرِيدٍ وَخِرَقٍ وَأَقْتَابٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَمَّا حَصَلَ الْقَتْلُ فِي أَهْلِ الْيَمَامَةِ قُتِلَ مِنْ حَمَلَةِ الْقُرْآنِ خَلْقٌ كَثِيرٌ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ أَنْ يَتَتَبَّعَ الْقُرْآنَ وَيَجْمَعَهُ، فَقَالَ زَيْدٌ: وَاَللَّهِ لَوْ كَلَّفَانِي بِنَقْلِ جَبَلٍ لَنَقَلْته وَكَانَ أَهْوَنَ عَلَيَّ مِمَّا أَمَرَانِي بِهِ فَجَمَعَ الْقُرْآنَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْقُرَّاءُ مِنْ الصَّحَابَةِ سَبْعَةٌ: عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَبُو هُرَيْرَةَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَكُلُّهُمْ أَخَذُوا الْقُرْآنَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيّ بْنُ كَعْبٍ. وَالْمُفَسِّرُونَ لِلْقُرْآنِ خَمْسَةٌ: عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالتَّفْسِيرِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ، وَالْجَمِيعُ أَخَذُوا التَّفْسِيرَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّالِثُ: كَلَامُ اللَّهِ مُتَّحِدٌ وَاخْتِلَافُ أَسْمَائِهِ بِاخْتِلَافِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ نَزَلَ عَلَى بَعْضِ الرُّسُلِ، فَالنَّازِلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَةِ الْعَرَبِ فَيُسَمَّى قُرْآنًا وَفُرْقَانًا وَذِكْرًا، وَالنَّازِلُ عَلَى مُوسَى عَبَّرَ عَنْهُ بِالْعِبْرَانِيَّةِ لُغَتُهُ فَيُسَمَّى تَوْرَاةً، وَالنَّازِلُ عَلَى عِيسَى عَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَتِهِ وَيُسَمَّى إنْجِيلًا، وَالنَّازِلُ عَلَى دَاوُد وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلُغَتِهِ يُسَمَّى زَبُورًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُسَمَّى وَاحِدٌ، وَاخْتِلَافُ الِاسْمِ بِاخْتِلَافِ الْعِبَارَةِ وَالتَّفَاصِيلِ بِاعْتِبَارِ الْمُنَزَّلِ عَلَيْهِ وَيُوصَفُ بِالْخَيْرِ وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ صِفَةً قَائِمَةً بِذَاتِهِ إنْ تَعَلَّقَتْ بِطَلَبِ فِعْلِ الْمُكَلَّفِ تَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ أَمْرًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ فِعْلِهِ تَكُونُ نَهْيًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْإِعْلَامِ تَكُونُ خَبَرًا وَهَكَذَا، فَكَلَامُهُ صِفَةٌ وَاحِدَةٌ لَهَا تَعَلُّقَانِ. الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِي كَيْفِيَّةِ وُصُولِهِ إلَى جِبْرِيلَ وَمِنْهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَرْضِ، فَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: إنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَهِمَ الْكَلَامَ مِنْ الْعُلُوِّ وَأَدَّاهُ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ نَقَلَ ذَلِكَ مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَنَزَلَ بِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ: الْمَلَائِكَةُ الْمُكَرَّمُونَ تَلَقَّنَتْهُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَقَّنَتْهُ لِجِبْرِيلَ فِي عِشْرِينَ لَيْلَةً وَلَقَّنَهُ جِبْرِيلُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عِشْرِينَ سَنَةً عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ بِمَا سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ وَهِيَ النُّجُومُ الَّتِي أَقْسَمَ اللَّهُ بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِلَفْظِهِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ بِالْمَعْنَى فَقِيلَ: إنَّ جِبْرِيلَ عَبَّرَ عَنْهُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِاللَّفْظِ الْخَاصِّ، وَقِيلَ: أَلْقَى جِبْرِيلُ الْمَعْنَى عَلَى قَلْبِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَبَّرَ عَنْهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ النَّازِلَ فِيهِ خِلَافٌ عَلَى قَوْلَيْنِ: قِيلَ اللَّفْظُ وَقِيلَ الْمَعْنَى، وَعَلَى الثَّانِي اخْتَلَفَ فِي الْمُعَبِّرِ هَلْ جِبْرِيلُ أَوْ النَّبِيُّ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ الْخَامِسُ: قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: يَمْتَنِعُ أَنْ يُقَالَ الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ مُرَادًا بِهِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاتِّفَاقِ السَّلَفِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ بِغَيْرِ مَقَامِ الْبَيَانِ وَالتَّعْلِيمِ، وَهَذَا بِخِلَافِ قَوْلِي أَوْ نُطْقِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، فَمَذْهَبُ الْبُخَارِيِّ وَالْمُتَأَخِّرِينَ جَوَازُهُ وَهُوَ الرَّاجِحُ. السَّادِسُ: هَلْ يَقَعُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ أَوْ لَا؟ ذَهَبَ الْأَشْعَرِيُّ وَالْبَاقِلَّانِيّ إلَى عَدَمِ التَّفَاضُلِ بَيْنَ سُوَرِ الْقُرْآنِ وَبَيْنَ آيَاتِهِ، وَالْأَحَادِيثُ الْمُصَرِّحَةُ بِالتَّفْضِيلِ إنْ صَحَّتْ تُحْمَلُ عَلَى زِيَادَةِ الْأَجْرِ وَكَثْرَةِ النَّفْعِ. السَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ مِنْ عُلَمَاءِ الْأُصُولِ فِي زَمَانِنَا يَعْتَقِدُونَ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مُحْدَثَةٌ وَمَدْلُولَهَا قَدِيمٌ مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْحَقُّ أَنَّ فِي ذَلِكَ تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّ مَدْلُولَ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ قِسْمَانِ: مُفْرَدٌ وَهُوَ قِسْمَانِ: أَيْضًا مَا يَرْجِعُ إلَى ذَاتِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَصِفَاتِهِ كَمَدْلُولِ اللَّهِ وَالسَّمِيعِ الْبَصِيرِ وَهَذَا قَدِيمٌ، وَمَا لَمْ يَرْجِعْ إلَى ذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَهُوَ مُحْدَثٌ كَمَدْلُولِ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَالسَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ. وَإِسْنَادَاتٌ وَهِيَ قِسْمَانِ أَيْضًا: حِكَايَاتٌ وَإِنْشَاءَاتٌ، فَالْإِسْنَادَاتُ الَّتِي هِيَ الْإِنْشَاءَاتُ كُلُّهَا قَدِيمَةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْلُولَةً لِلَفْظِ الْخَبَرِ أَوْ لِلَفْظِ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ إذْ هِيَ قَائِمَةٌ بِذَاتِهِ وَهِيَ نَفْسُهَا صِفَةٌ وَاحِدَةٌ تَرْجِعُ إلَى الْكَلَامِ، وَتَعَدُّدُهَا إنَّمَا هُوَ بِحَسَبِ تَعَلُّقَاتِهَا، وَالْمَدْلُولَاتُ الَّتِي هِيَ حِكَايَاتٌ قِسْمَانِ: حِكَايَةٌ عَنْ اللَّهِ وَحِكَايَةٌ عَنْ غَيْرِهِ، فَالْأَوَّلُ نَحْوُ: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [البقرة: 34] فَالْحِكَايَةُ وَالْمَحْكِيُّ فِي هَذَا قَدِيمَانِ أَيْ الْإِسْنَادُ الْوَاقِعُ فِيهِمَا قَدِيمٌ، وَالثَّانِي نَحْوُ قَوْلِهِ: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ} [نوح: 21] الْآيَةُ، وَالْحِكَايَةُ فِي هَذَا قَدِيمَةٌ أَيْ الْإِسْنَادُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 اللَّهُ رَبُّنَا، وَمَقَادِيرُ الْأُمُورِ بِيَدِهِ وَمَصْدَرُهَا عَنْ قَضَائِهِ. ، عَلِمَ كُلَّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ، فَجَرَى عَلَى قَدَرِهِ لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ   [الفواكه الدواني] الْوَاقِعُ فِيهَا قَدِيمٌ؛ لِأَنَّهَا خَبَرُ اللَّهِ عَنْ الْمَحْكِيِّ، وَأَمَّا الْمَحْكِيُّ فَهُوَ الْمُحْدَثُ أَيْ الْإِسْنَادُ الْوَاقِعُ فِيهِ مُحْدَثٌ فَإِنَّهُ إسْنَادٌ مُحْدَثٌ، وَإِسْنَادُ الْمُحْدَثِ مُحْدَثٌ بِخِلَافِ الْإِسْنَادِ الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ وَقَعَ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ قَدِيمٌ، فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ أَلْفَاظَ الْقُرْآنِ مُحْدَثَةٌ وَمَدْلُولَاتِهَا فِيهَا التَّفْضِيلُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَى مَا ذَكَرْنَا. (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَيْك أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (الْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِالْقَدَرِ) بِتَحْرِيكِ الدَّالِ وَحُكِيَ تَسْكِينُهَا وَهُوَ مَصْدَرُ قَدَرْت الشَّيْءَ بِفَتْحِ الدَّالِ مُخَفَّفَةً إذَا أَحَطْت بِمِقْدَارِهِ، وَأَلْ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ أَيْ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ الْأُمُورَ وَإِحَاطَتِهِ بِهَا، وَوُجُوبُ الْإِيمَانِ بِهِ يَسْتَدْعِي الرِّضَا بِهِ، وَالْقَدَرُ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ تَحْدِيدُهُ تَعَالَى أَزَلًا كُلَّ مَخْلُوقٍ بِحَدِّهِ الَّذِي يُوجَدُ بِهِ مِنْ حُسْنٍ وَقُبْحٍ وَنَفْعٍ وَضَرٍّ، وَمَا يَحْوِيه مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ، وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ طَاعَةٍ وَعِصْيَانٍ، وَثَوَابٍ وَعِقَابٍ وَغُفْرَانٍ، وَعِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ إيجَادُ اللَّهِ الْأَشْيَاءَ عَلَى قَدْرٍ مَخْصُوصٍ، وَتَقْدِيرٍ مُعَيَّنٍ فِي ذَوَاتِهَا وَأَحْوَالِهَا طِبْقَ مَا سَبَقَ بِهِ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ وَالْمَالُ وَاحِدٌ وَلِذَا قَالَ بَعْضُهُمْ: الْمُرَادُ مِنْ الْقَدَرِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلِمَ مَقَادِيرَ الْأَشْيَاءِ وَأَزْمَانَهَا قَبْلَ إيجَادِهَا، ثُمَّ أَوْجَدَ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ أَنَّهُ يُوجَدُ، فَكُلُّ مُحْدَثٍ صَادِرٌ عَنْ عِلْمِهِ وَقُدْرَتِهِ وَإِرَادَتِهِ، هَذَا هُوَ الْمَعْلُومُ مِنْ الدِّينِ بِقَوَاطِعِ الْبَرَاهِينِ، وَعَلَيْهِ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَخِيَارُ التَّابِعِينَ قَبْلَ حُدُوثِ الْقَدَرِيَّةِ الْمُخَالِفِينَ أَوْ بَدَلٌ مِنْ الْقَدَرِ. (خَيْرِهِ) وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ. (وَشَرِّهِ) وَهُوَ مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي. (حُلْوِهِ) وَهُوَ لَذَّةُ الطَّاعَةِ وَثَوَابُهَا. (وَمُرِّهِ) وَهُوَ مَشَقَّةُ الْمَعْصِيَةِ وَعُقُوبَتُهَا. تَنْبِيهٌ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الضَّمَائِرَ عَائِدَةٌ عَلَى الْقَدَرِ لِتَأَوُّلِهِ بِالْمَقْدُورِ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَكَذَا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ كَالْمُبَاحَاتِ فَإِنَّ الْجَمِيعَ بِتَقْدِيرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْخَيْرِ وَالشَّرِّ لِفَهْمِ غَيْرِهِمَا مِنْ النَّصِّ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ التَّعْمِيمُ كَمَا تَقُولُ لِغَيْرِك: أَعْلَمُ مَا أَنْتَ عَلَيْهِ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ وَقَصْدُك جَمِيعَ مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْك أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ (كُلَّ ذَلِكَ) الَّذِي مَرَّ مِنْ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَمَا يَسْتَتْبِعُهُمَا (قَدْ قَدَّرَهُ) أَيْ حَدَّهُ وَخَصَّهُ بِزَمَانٍ وَمَكَانٍ (اللَّهُ رَبُّنَا) إذْ لَا مُوجِدَ وَلَا مُعْدِمَ لِشَيْءٍ مِنْ الْكَائِنَاتِ سِوَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْعَبْدَ خَالِقٌ لِأَفْعَالِ نَفْسِهِ، وَالْقَدَرِيَّةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّهُ خَالِقٌ لِلْقَبِيحِ، وَدَلِيلُنَا مَعَاشِرَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَوْ كَانَ الْعَبْدُ خَالِقًا لِأَفْعَالِهِ لَكَانَ يَعْلَمُ تَفَاصِيلَهَا ضَرُورَةً، إذْ إيجَادُ الشَّيْءِ بِالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ، وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَإِنَّ الْمَشْيَ مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ قَدْ يَشْتَمِلُ عَلَى سَكَنَاتٍ مُتَخَلِّلَةٍ، وَعَلَى حَرَكَاتٍ بَعْضُهَا أَسْرَعُ مِنْ بَعْضٍ وَبَعْضُهَا أَبْطَأُ وَلَا شُعُورَ لِلْمَاشِي بِذَلِكَ، وَلَيْسَ هَذَا ذُهُولًا عَنْ الْعِلْمِ بَلْ لَوْ سَأَلَ لَمْ يَعْلَمْ وَهَذَا فِي أَظْهَرْ أَفْعَالِهِ فَمَا بَالُك بِغَيْرِ الظَّاهِرِ. (وَ) بِالْجُمْلَةِ فَيَجِبُ عَلَيْك اعْتِقَادُ أَنَّ (مَقَادِيرَ) جَمْعُ مِقْدَارٍ بِمَعْنَى مَقْدُورَاتٍ (الْأُمُورِ بِيَدِهِ) تَعَالَى أَيْ قُدْرَتِهِ. (وَمَصْدَرُهَا) أَيْ صُدُورُهَا وَإِخْرَاجُهَا مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ، وَكَوْنُهَا عَلَى الشَّكْلِ الَّذِي وُجِدَتْ عَلَيْهِ، وَفِي هَذَا الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَائِنٌ. (عَنْ قَضَائِهِ) أَيْ إرَادَتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ وَالْإِرَادَةَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَقَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: الْقَضَاءُ عِبَارَةٌ عَنْ الْفِعْلِ مَعَ زِيَادَةِ إحْكَامٍ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إتْقَانٍ، هَذَا حَقِيقَتُهُ عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَشَاعِرَةِ: الْقَضَاءُ إرَادَةُ اللَّهِ الْأَزَلِيَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْأَشْيَاءِ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا يَزَالُ، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِذِكْرِ الْإِيمَانِ بِالْقَدَرِ وَاَلَّذِي بَعْدَهُ بَيَانَ وُجُوبِ اعْتِقَادِ عُمُومِ إرَادَةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ لِسَائِرِ الْمُمْكِنَاتِ وَإِحَاطَةِ عِلْمِهِ تَعَالَى بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ، وَالرَّدَّ عَلَى الْمُعْتَزِلَةِ الْمَعْرُوفِينَ بِالْقَدَرِيَّةِ وَهُمْ فِرْقَتَانِ: أُولَى وَهِيَ تُنْكِرُ سَبْقَ عِلْمِهِ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا وَتَزْعُمُ أَنَّهُ لَمْ يُقَدِّرْ الْأُمُورَ وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا أَزَلًا، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا حَالَ وُقُوعِهَا وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ قَرَضَهَا اللَّه. وَالثَّانِيَةُ يَعْتَرِفُونَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ الْعَمَلَ بِقُدْرَةِ الْعَبْدِ بِوَاسِطَةِ أَقْدَارِ اللَّهِ لَهُ وَتَمْكِينِهِ، وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ الْفِرْقَةِ الْأُولَى بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ وَإِنْ كَانَ اعْتِقَادُهَا بَاطِلًا، وَأَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَوَاجِبٌ إيمَانُنَا بِالْقَدَرِ ... وَبِالْقَضَا كَمَا أَتَى فِي الْخَبَرِ لَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبًا لَوَجَبَ الرِّضَا بِالْكُفْرِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ كُفْرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْكُفْرُ مَقْضِيٌّ لَا قَضَاءٌ، وَالرِّضَا إنَّمَا يَجِبُ بِالْقَضَاءِ دُونَ الْمَقْضِيِّ، فَمَنْ قَضَى اللَّهُ عَلَيْهِ بِالزِّنَا أَوْ الْكُفْرِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُلَاحِظَ جِهَةَ الْمَعْصِيَةِ فَيَكْرَهَهَا، وَأَمَّا قَدَرُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِهِمَا فَاللَّازِمُ لَهُ الرِّضَا بِهِ، فَإِنْ سَخِطَ أَيْ لَمْ يَرْضَ كَانَ ذَلِكَ مَعْصِيَةً، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ كَمَا أَتَى فِي الْخَبَرِ إلَى أَنَّ دَلِيلَ ذَلِكَ سَمْعِيٌّ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرٍ حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ» . قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ؛ إلَّا وَقَدْ قَضَاهُ وَسَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ فَيَخْذُلُهُ   [الفواكه الدواني] فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ: قَالَ الْقَاضِي رَوَيْنَاهُ بِرَفْعِ الْعَجْزِ وَالْكَيْسِ عَطْفًا عَلَى كُلٍّ وَبِجَرِّهِمَا عَطْفًا عَلَى شَيْءٍ قَالَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْعَجْزَ هَذَا عَلَى ظَاهِرِهِ وَهُوَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ، وَقِيلَ هُوَ تَرْكُ مَا يَجِبُ فِعْلُهُ وَالتَّسْوِيفُ بِهِ وَتَأْخِيرُهُ عَنْ وَقْتِهِ. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ الْعَجْزُ عَنْ الطَّاعَاتِ وَيَحْتَمِلُ الْعُمُومَ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْعَجْزِ وَهُوَ النَّشَاطُ وَالْحِذْقُ فِي الْأُمُورِ وَمَعْنَاهُ: أَنَّ الْعَاجِزَ قُدِّرَ عَجْزُهُ وَالْكَيِّسُ قُدِّرَ كَيْسُهُ. وَفِي حَاشِيَةِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ عَلِيِّ بْنِ النَّاظِمِ: وَالْكَيْسُ ضِدُّ الْحُمْقِ، وَفَسَّرَهُ الْبُخَارِيُّ بِالْوَلَدِ وَطَلَبِ النَّسْلِ. قَالَهُ الشَّنَوَانِيُّ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى نَظْمِ ابْنِ هِشَامٍ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: يَجِبُ الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ وَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، فَمَنْ وَقَعَ فِي جَرِيمَةٍ عَمْدًا قُضِيَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِهَا شَرْعًا مِنْ حَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ، وَلَا يَكُونُ قَوْلُهُ قَدَّرَ اللَّهُ عَلَيَّ حُجَّةً وَعُذْرًا لَهُ يَدْفَعُ عَنْهُ الْمُؤَاخَذَةَ بِمُقْتَضَاهَا بَلْ هُوَ نَازِلٌ مَنْزِلَةَ الْإِخْبَارِ بِمَا لَا يُفِيدُ، الثَّانِي: إنْ قِيلَ إذَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عَدَمُ جَوَازِ الِاحْتِجَاجِ بِالْقَدَرِ فَكَيْفَ نَفْعَلُ فِيمَا وَقَعَ مِنْ مُحَاجَّةِ آدَمَ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -؟ فَقَدْ احْتَجَّ آدَم بِالْقَدَرِ وَلَامَهُ مُوسَى - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ -، وَقَدْ أَشَارَ الْعَارِفُ بِاَللَّهِ تَعَالَى الشَّعْرَانِيُّ فِي الْقَوَاعِدِ الْكَشْفِيَّةِ لِذَلِكَ وَجَوَابُهُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ: «حَاجَّ آدَم بِالرَّفْعِ مُوسَى حِينَ اجْتِمَاعِهِمَا فِي السَّمَاءِ فَقَالَ مُوسَى: يَا آدَم أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ الَّذِي خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ وَأَسْجَدَ مَلَائِكَتَهُ لَك كَيْفَ أَكَلْت مِنْ الشَّجَرَةِ الَّتِي نَهَاك اللَّهُ عَنْهَا وَأَخْرَجْتَنَا مِنْ الْجَنَّةِ؟ فَقَالَ آدَم: وَأَنْتَ يَا مُوسَى الَّذِي اصْطَفَاكَ اللَّهُ لِكَلَامِهِ وَكَتَبَ لَك التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ أَتَلُومُنِي عَلَى أَمْرٍ قَدْ قَدَّرَهُ عَلَيَّ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَنِي بِأَرْبَعِينَ سَنَةً» وَسَاغَ لِآدَمَ أَنْ يُعَبِّرَ بِقَدَرِ اللَّهِ الْقَدِيمِ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَالْجَوَابُ أَنَّ مُرَادَ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرْبَعُونَ فَأَكْثَرُ أَوْ أَنَّ مُرَادَهُ بِالْأَرْبَعِينَ سَنَةً الْمُدَّةُ الَّتِي ظَهَرَ فِيهَا التَّقْدِيرُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ لَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ الَّذِي هُوَ مَكْنُونُ عِلْمِ اللَّهِ، وَمَا وَقَعَ مِنْهُ فِي جَوَابِ مُوسَى لَمْ يَكُنْ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ؛ لِأَنَّ مِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُحَاجَّةَ إنَّمَا كَانَتْ بَعْدَ مَوْتِ آدَمَ وَمُوسَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنْ مَحَلَّ اجْتِمَاعِهِمَا كَانَ بِالسَّمَاءِ، فَلَا يَجُوزُ ارْتِكَابُ مِثْلِهِ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ، الثَّالِثُ: الرِّضَا وَالْمَحَبَّةُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَحَقِيقَتُهُمَا إرَادَةُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَاضٍ عَلَى فَاعِلِهِ وَهُمَا مِنْ اللَّهِ غَيْرِ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ الْمُتَرَادِفَيْنِ أَيْضًا، بِدَلِيلِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُرِيدُ سَائِرَ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي مِنْ كُفْرٍ وَغَيْرِهِ وَلَا يَرْضَى بِهَا مَعَ تَوَعُّدِ فَاعِلِهَا بِالْعُقُوبَةِ، هَذَا هُوَ مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَلَا يَصِحُّ غَيْرُهُ. الرَّابِعُ: الظَّاهِرُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِهِ: وَكُلُّ ذَلِكَ قَدْ قَدَّرَهُ اللَّهُ رَبُّنَا إلَخْ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ إلَخْ زِيَادَةُ إيضَاحٍ لِفَهْمِهِ مِمَّا قَبْلَهُ. وَلَمَّا كَانَ عِلْمُهُ تَعَالَى مُتَعَلِّقًا بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا قَالَ (عَلِمَ) تَعَالَى بِمَعْنَى تَعَلُّقِ عِلْمِهِ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا (كُلُّ شَيْءٍ قَبْلَ كَوْنِهِ) أَيْ وُجُودِهِ (فَجَرَى) أَيْ وَقَعَ وَحَصَلَ ذَلِكَ الْمَقْدُورُ (عَلَى قَدَرِهِ) بِفَتْحِ الدَّالِ أَيْ عَلَى حَسَبِ مَا قَدَّرَهُ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ تَعَلُّقَ الْقُدْرَةِ التَّنْجِيزَيَّ تَابِعٌ لِتَعَلُّقِ الْإِرَادَةِ التَّنْجِيزِيِّ وَتَعَلُّقَ الْإِرَادَةِ عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ، فَلَا يَقَعُ مَقْدُورٌ إلَّا عَلَى وَفْقِ عِلْمِهِ؛ فَلِذَلِكَ أَتَى بِفَاءِ السَّبَبِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عُمُومِ عِلْمِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] فَمَنْ أَنْكَرَ عِلْمَهُ تَعَالَى بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ الْكُلِّيَّاتِ وَالْجُزْئِيَّاتِ الْمُرَكَّبَاتِ وَالْبَسَائِطِ فَهُوَ كَافِرٌ، فَالْوَاجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّهُ (لَا يَكُونُ) أَيْ لَا يُوجَدُ (مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ) وَقَعَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (إلَّا) وَالْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ قَضَاهُ) أَيْ قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَرَادَهُ. (وَسَبَقَ عِلْمُهُ) تَعَالَى (بِهِ) أَيْ بِالْمَذْكُورِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَإِنَّمَا أَتَى بِهَذِهِ الْجُمْلَةِ مَعَ عِلْمِ مَعْنَاهَا مِنْ قَوْلِهِ قَبْلَهَا: عِلْمُ كُلِّ شَيْءٍ إلَخْ زِيَادَةٌ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ يُنْكِرُ عِلْمَهُ تَعَالَى بِتَفَاصِيلِ الْأَشْيَاءِ، تَعَالَى اللَّهُ عَنْ أَنْ يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ أَوْ فِي السَّمَاءِ. وَفِي قَوْلِهِ: سَبَقَ عِلْمُهُ بِهِ الرَّدُّ عَلَى الْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى الَّذِينَ يُنْكِرُونَ عِلْمَ الْبَارِئِ بِأَعْمَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يَعْلَمُهَا بَعْدَ وُجُودِهَا مِنْهُمْ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَهَؤُلَاءِ قَدْ انْقَرَضُوا، وَالْفِرْقَةُ الْأُخْرَى الْمَوْجُودَةُ الْيَوْمَ مُطْبِقَةٌ عَلَى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ بِأَفْعَالِ الْعِبَادِ قَبْلَ وُقُوعِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفُوا السَّلَفَ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ أَفْعَالَ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ لَهُمْ وَوَاقِعَةٌ مِنْهُمْ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ أَيْضًا إلَّا أَنَّهُ أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلِ لِكُفْرِ أَصْحَابِ الْأَوَّلِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَاجِبٌ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْمَقْضِيُّ فَالرِّضَا بِهِ بِحَسَبِ حُكْمِهِ، فَالرِّضَا بِالْوَاجِبِ كَالْإِيمَانِ وَاجِبٌ، وَالرِّضَا بِالْمَنْدُوبِ مَنْدُوبٌ، وَبِالْحَرَامِ حَرَامٌ، وَبِالْمُبَاحِ مُبَاحٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرِّضَا بِالْكُفْرِ إنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] يَكُونُ كُفْرًا إذَا رَضِيَ بِهِ مِنْ حَيْثُ ذَاتِهِ لَا مِنْ حَيْثُ إنَّ اللَّهَ قَضَاهُ. قَالَهُ الْغَزَالِيُّ وَوَضَّحَهُ السَّيِّدُ بِقَوْلِهِ: إنَّ لِلْكُفْرِ نِسْبَةً إلَى اللَّهِ بِاعْتِبَارِ إيجَادِهِ لَهُ، وَنِسْبَةً إلَى الْمَخْلُوقِ بِاعْتِبَارِ تَحْلِيَتِهِ بِهِ، وَإِنْكَارُهُ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الثَّانِيَةِ دُونَ الْأُولَى، وَالرِّضَا بِهِ إنَّمَا يَجِبُ بِاعْتِبَارِ النِّسْبَةِ الْأُولَى دُونَ الثَّانِيَةِ، فَإِذَا ابْتَلَى اللَّهُ الْإِنْسَانَ بِالْمَرَضِ فَتَأَلَّمَ مِنْهُ بِمُقْتَضَى طَبْعِهِ مَعَ كَوْنِهِ لَمْ يَنْسِبْ لِلْبَارِئِ جَوْرًا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْمَقْضِيِّ لَا بِالْقَضَاءِ، وَإِنْ قَالَ: لَمْ أَفْعَلْ شَيْئًا حَتَّى أَسْتَوْجِبَ هَذَا فَهَذَا عَدَمُ رِضًا بِالْقَضَاءِ، فَنَحْنُ مَأْمُورُونَ بِالرِّضَا بِالْقَضَاءِ وَلَا نَتَعَرَّضُ لِجِهَةِ رَبِّنَا إلَّا بِالْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ، وَلَا نَتَعَرَّضُ لِمَا هُوَ مِنْ سَلْطَنَتِهِ وَقَهْرِهِ؛ لِأَنَّهُ خَالِقُنَا وَمَالِكُنَا، فَفِعْلُهُ الْمُخَالِفُ لِطَبَائِعِنَا وَمُشْتَهَانَا لَا يُعَدُّ ظُلْمًا؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ تَصَرُّفُ الْفَاعِلِ فِي غَيْرِ مَمْلُوكِهِ، وَأَمَّا خِطَابُنَا وَأَمْرُنَا بِأَنْ تَطِيبَ لَنَا الْبَلَايَا وَالرَّزَايَا وَمُؤْلِمَاتُ الْحَوَادِثِ فَلَمْ تَرِدْ الشَّرِيعَةُ بِذَلِكَ، إذْ الْوَارِدُ تَكْلِيفُ الْإِنْسَانِ بِمَا فِي وُسْعِهِ مِنْ الطَّاعَاتِ، فَلَا يَجِبُ عَلَى نَحْوِ: الْأَرْمَدِ وَالْمُجْزَمِ أَنْ يَسْتَطِيبَ مَرَضَهُ، بَلْ ذَمَّ اللَّهُ قَوْمًا لَا يَتَأَلَّمُونَ بِذَلِكَ، بَلْ الْمَطْلُوبُ التَّأَلُّمُ لِيَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ رَفْعَ ذَلِكَ وَيَلْجَأَ إلَيْهِ، تَقَدَّمَ ذَمُّ اللَّهِ مَنْ لَمْ يُبَالِ بِالشَّدَائِدِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} [المؤمنون: 76] فَمَنْ لَمْ يَسْتَكِنْ وَيُظْهِرْ الْجَزَعَ وَيَسْأَلُ رَبَّهُ الْإِقَالَةَ مِنْ الشِّدَّةِ فَهُوَ جَبَّارٌ عَنِيدٌ، هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِ السَّيِّدِ، وَلَا يَضُرُّ فِي هَذَا مَا وَقَعَ مِنْ بَعْضِ الْأَكَابِرِ فِي حَالِ اشْتِدَادِ مَرَضِهِ مِنْ طَلَبِ الزِّيَادَةِ حَيْثُ قَالَ: اللَّهُمَّ يَا رَبُّ إنْ كَانَ فِي هَذَا رِضَاك فَزِدْنَا مِنْهُ، لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى نَحْوِ الْأَنْبِيَاءِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: الْمَقْضِيُّ أَثَرُ الْقَضَاءِ، وَالْمَقْدُورُ أَثَرُ الْقُدْرَةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَى بَيَانِهِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى عُمُومِ تَعَلُّقِ عِلْمِهِ بِسَائِرِ الْكَائِنَاتِ بِقَوْلِهِ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] مَعْنَى هَذَا التَّرْكِيبِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَعْلَمُ سَائِرَ الْمَخْلُوقَاتِ وَمَا يَصْدُرُ مِنْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ؛ لِأَنَّ الصَّانِعَ لِشَيْءٍ يَعْلَمُ مَا أَوْقَعَ صَنْعَتُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَلَا هَذِهِ مُرَكَّبَةٌ مِنْ هَمْزَةِ الِاسْتِفْهَامِ الْإِنْكَارِيِّ وَلَا النَّافِيَةِ وَمَعْنَاهَا تَحْقِيقُ مَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الِاسْتِفْهَامَ إذَا دَخَلَ عَلَى نَفْيٍ أَبْطَلَهُ وَأَفَادَ الْإِثْبَاتَ وَالتَّقْدِيرُ هُوَ الْمَقْصُودُ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ الِاسْتِفْهَامُ عَلَى بَابِهِ لِاسْتِحَالَتِهِ عَلَى اللَّهِ، وَمَنْ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ لِيَعْلَمَ وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ} [الملك: 14] أَيْ الَّذِي خَلَقَ مَخْلُوقَهُ، فَيَكُونُ الْمَفْعُولُ مَحْذُوفًا لِلْعُمُومِ الْمُتَنَاوِلِ لِلْعَاقِلِ وَغَيْرِهِ فَيَشْمَلُ أَعْمَالَ الْعِبَادِ، هَذَا قَوْلُ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَقَالَتْ الْمُعْتَزِلَةُ: مَنْ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِيَعْلَمَ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَلَا يَعْلَمُ اللَّهُ مَنْ خَلَقَ وَمَنْ لِلْعَاقِلِ، فَاَللَّهُ يَعْلَمُ عِبَادَهُ دُونَ أَفْعَالِهِمْ، وَهَذَا مَذْهَبٌ بَاطِلٌ بِشَهَادَةِ قَوْله تَعَالَى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} [الأنعام: 73] وقَوْله تَعَالَى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ - لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 282 - 3] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى إحَاطَةِ عِلْمِهِ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى حَقِيقَةِ ذَاتِهِ وَصِفَاتِهِ، وَلَا يُعَارِضُ هَذَا الْإِتْيَانُ بِمَنْ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ كَوْنِهَا لِمَنْ يَعْقِلُ أَنَّهَا لَا تُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا، لِئَلَّا يُخَالِفَ مَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فِي غَيْرِهِ، إمَّا لِلتَّغْلِيبِ نَحْوُ: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} [النحل: 49] أَوْ لِاقْتِرَانِهِ بِغَيْرِ الْعَاقِلِ فِي عُمُومِ فَصْلٍ بِمَنْ نَحْوُ: {وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} [النور: 45] أَوْ لِأَجْلِ التَّشْبِيهِ نَحْوُ: أَسِرْبُ الْقَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ... لَعَلِّي إلَى مَنْ قَدْ هَوَيْت أَطِيرُ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَبْسُوطٌ فِي كُتِبَ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ. وَحَاصِلُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَخْلُوقَاتِ وَبِأَفْعَالِهَا بَعْدَ خَلْقِهَا وَقَبْلَ خَلْقِهَا، خِلَافًا لِلْقَدَرِيَّةِ الْأُولَى مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ اللَّهَ لَمْ يَسْبِقْ عِلْمُهُ بِالْأَشْيَاءِ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَيَزْعُمُونَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يُقَدِّرْ الْأُمُورَ أَزَلًا وَلَمْ يَتَقَدَّمْ عِلْمُهُ بِهَا وَإِنَّمَا يَأْتَنِفُهَا حَالَ وُقُوعِهَا، وَلَا شَكَّ فِي كُفْرِ هَؤُلَاءِ وَلِذَلِكَ قَرَضَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى وَلَمْ يَبْقَ الْآنَ مِنْهُمْ أَحَدٌ. (وَهُوَ) أَيْ اللَّهُ تَعَالَى مَعَ كَوْنِهِ خَالِقًا لِسَائِرِ الْعِبَادِ وَعَالِمًا بِمَا أَكَنَّتْهُ صُدُورُهُمْ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (اللَّطِيفُ) بِهِمْ فِي سَائِرِ تَقَلُّبَاتِهِمْ، فَلَطِيفٌ بِمَعْنَى مُلْطِفٍ أَيْ مُحْسِنٍ وَمُوصِلٍ لِعِبَادِهِ النِّعَمَ بِرِفْقٍ، وَمِنْ لُطْفِهِ أَنْ أَعْطَاهُمْ فَوْقَ الْكِفَايَةِ وَكَلَّفَهُمْ دُونَ الطَّاقَةِ، وَقِيلَ بِمَعْنَى الْبَاطِنِ وَهُوَ الَّذِي لَا يُتَصَوَّرُ فِي الْأَوْهَامِ وَلَا يُتَخَيَّلُ فِي الضَّمَائِرِ فَهُوَ اسْمُ تَنْزِيهٍ، وَقِيلَ مَعْنَى اللَّطِيفِ الْعَالِمُ بِخَفِيَّاتِ الْأُمُورِ وَغَوَامِضِهَا وَالْمُرَادُ الْخَفَاءُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، وَأَمَّا اللَّهُ تَعَالَى فَنِسْبَةُ جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ إلَيْهِ سَوَاءٌ وَهُوَ أَيْضًا (الْخَبِيرُ) أَيْ الْعَلِيمُ بِهِمْ وَالْمُطَّلِعُ عَلَى أَفْعَالِهِمْ الْمُشَاهِدُ لَهَا، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْ سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يَكُونُ مِنْ عِبَادِهِ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ إلَّا قَدْ قَضَاهُ إلَخْ بِقَوْلِهِ: (يُضِلُّ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (مَنْ يَشَاءُ) إضْلَالَهُ (فَيَخْذُلُهُ) أَيْ يُصَيِّرُهُ مَخْذُولًا ضَالًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 بِعَدْلِهِ، وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَيُوَفِّقُهُ بِفَضْلِهِ، فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ بِتَيْسِيرِهِ: إلَى مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ وَإِرَادَتِهِ مِنْ شَقِيٍّ، أَوْ سَعِيدٍ، تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، أَوْ يَكُونَ لِأَحَدٍ عَنْهُ غِنًى، أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ: رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ   [الفواكه الدواني] (بِعَدْلِهِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ) هِدَايَتَهُ (فَيُوَفِّقُهُ) أَيْ يُصَيِّرُهُ مُوَفَّقًا مَهْدِيًّا (بِفَضْلِهِ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الضَّلَالَ وَالْخِذْلَانَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ خَلْقُ قُدْرَةِ الْمَعْصِيَةِ فِي الْعَبْدِ، وَالْهِدَايَةُ وَالتَّوْفِيقُ بِمَعْنًى أَيْضًا وَهُوَ خَلْقُ الْقُدْرَةِ عَلَى الطَّاعَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْقُدْرَةِ الْعَرَضُ الْمُقَارِنُ لِلْفِعْلِ لَا مُجَرَّدُ سَلَامَةِ الْآلَاتِ، فَلَا يَرِدْ الْكَافِرُ وَإِنَّمَا لَمْ يَقُلْ فَيُضِلُّهُ فِي الْأَوَّلِ وَيَهْدِيه فِي الثَّانِي لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، وَلِرَكَاكَةِ تَكْرَارِ اللَّفْظِ وَالْعَدْلُ تَصَرُّفُ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ مِنْ غَيْرِ حَجْرٍ عَلَيْهِ، وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ انْتِظَارِ عِوَضٍ عَلَيْهِ فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَآلِ، وَيَخْذُلُ عَلَى وَزْنِ يَنْصُرُ فَهُوَ بِضَمِّ الذَّالِ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ} [آل عمران: 160] . ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ يُضِلُّ. . . إلَخْ قَوْلَهُ: (فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ) بِالتَّنْوِينِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَالتَّنْوِينُ عِوَضٌ عَنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ فَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْهِدَايَةِ وَالْإِضْلَالِ وَالتَّوْفِيقِ وَالْخِذْلَانِ مُهَوَّنٌ وَمُسَهَّلٌ (بِتَيْسِيرِهِ) وَتَسْهِيلِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَصِحُّ إضَافَةُ كُلٌّ الْمُبْتَدَأُ إلَى مُيَسَّرٌ وَالْخَبَرُ بِتَيْسِيرِهِ (إلَى) نَيْلِ (مَا سَبَقَ مِنْ عِلْمِهِ) أَيْ فِي عِلْمِهِ (وَإِرَادَتِهِ) ثُمَّ بَيَّنَ عُمُومَ مَا يَقُولُهُ (مِنْ) شَقَاوَةِ (شَقِيٍّ أَوْ) سَعَادَةِ (سَعِيدٍ) وَحَقِيقَةُ الشَّقَاوَةِ الْمَضَرَّةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى، فَمَنْ أَرَادَ لَهُ فِي الْأَزَلِ الشَّقَاوَةَ سَهَّلَ عَلَيْهِ عَمَلَ أَهْلِهَا، وَحَقِيقَةُ السَّعَادَةِ الْمَنْفَعَةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى، فَمَنْ أَرَادَ لَهُ تَعَالَى فِي سَابِقِ عِلْمِهِ السَّعَادَةَ تَسَهَّلَ عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِهَا، وَكُلُّ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ وَتَعَلَّقَتْ بِهِ إرَادَتُهُ لَا مَحَالَةَ فِي وُقُوعِهِ، إذْ لَا تَغْيِيرَ وَلَا تَبْدِيلَ فِيمَا تَعَلَّقَ عِلْمُهُ بِوُقُوعِهِ، بِخِلَافِ مَا فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يَمْحُوا اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد: 39] وَهُوَ أَصْلُهُ الَّذِي لَا تَغْيِيرَ فِيهِ وَلَا تَبْدِيلَ، وَالسَّعِيدُ شَرْعًا عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا، وَالشَّقِيُّ مَنْ يَمُوتُ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ كَانَ مُؤْمِنًا، فَهُمَا أَزَلِيَّتَانِ أَيْ مُقَدَّرَتَانِ فِي الْأَزَلِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: فَوْزُ السَّعِيدِ عِنْدَهُ فِي الْأَزَلِ ... كَذَا الشَّقِيُّ ثُمَّ لَمْ يَنْتَقِلْ فَالسَّعَادَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَالشَّقَاوَةُ الْمَوْتُ عَلَى الْكُفْرِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى السَّعَادَةِ الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ وَتَوَابِعُهُ، وَعَلَى الشَّقَاوَةِ الْخُلُودُ فِي النَّارِ وَتَوَابِعُهُ، وَلِهَذَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ: أَنَا مُؤْمِنٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ نَظَرًا إلَى الْمَآلِ، خِلَافًا لِلْمَاتُرِيدِيَّة فِي عَدَمِ الْجَوَازِ نَظَرًا إلَى الْحَالِ وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: السَّعِيدُ الْمُؤْمِنُ وَالشَّقِيُّ الْكَافِرُ، وَمَنْ تَأَمَّلَ وَجَدَ الْخِلَافَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ لَفْظِيًّا. تَنْبِيهٌ: إنَّمَا أَتَى الْمُصَنِّفُ بِهَذَا التَّفْرِيعِ إشَارَةً إلَى حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَلَفْظُهُ: «لَيْسَ مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَقَدْ فُرِغَ مِنْ مَقْعَدِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، قَالُوا: أَفَلَا نَتَّكِلُ؟ قَالَ: لَا اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى} [الليل: 5] {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} [الليل: 6] {فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى} [الليل: 7] » وَفُرِغَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ أَيْ حُكِمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ وَقُضِيَ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْأَزَلِ، أَفَلَا نَتَّكِلُ عَلَيْهِ أَيْ نَعْتَمِدُ عَلَيْهِ وَنُهْمِلُ الْعِلْمَ، إذْ الْمُقَدَّرُ كَائِنٌ سَوَاءٌ عَمِلْنَا أَوْ لَا؟ فَقَالَ: لَا بَلْ عَلَيْكُمْ بِالْأَعْمَالِ فَإِنَّ الَّذِي قُدِّرَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُسَهِّلُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَمَلَ الصَّالِحِينَ، وَمَنْ قُدِّرَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَسَّرَ عَلَيْهِ عَمَلَ الضَّالِّينَ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى الْكُلِّيَّةِ السَّابِقَةِ الْمَفْهُومُ مِنْهَا أَنَّ جَمِيعَ الْكَائِنَاتِ بِتَيْسِيرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ سَوَاءٌ كَانَتْ خَيْرًا أَوْ شَرًّا بِقَوْلِهِ: (تَعَالَى) أَيْ تَنَزَّهَ وَتَقَدَّسَ سُبْحَانَهُ عَنْ (أَنْ يَكُونَ) أَيْ يُوجَدَ (فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ) إيجَادَهُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ (أَوْ) أَيْ وَتَعَالَى أَيْضًا عَنْ أَنْ (يَكُونَ لِأَحَدٍ) مِنْ الْخَلْقِ وَلَوْ أَفْضَلَهُمْ (عَنْهُ غِنًى) قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15] وَعَدَمُ اسْتِغْنَاءِ غَيْرِهِمْ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ. (فَائِدَةٌ) : وَقَعَ الْكَلَامُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْغِنَى وَالْفَقْرِ وَالْكَفَافِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِنَى أَفْضَلُ مِنْ الْفَقْرِ لِمَنْ يُصْلِحُهُ الْغِنَى، وَأَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ لِمَنْ يُصْلِحُهُ الْفَقْرُ، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَنْ يَصْلُحُ حَالُهُ مَعَ كُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْأَصَحُّ قَوْلُ مَنْ فَضَّلَ الْغِنَى قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ فِي فَتَاوِيهِ، وَذَكَرَ ابْنُ رُشْدٍ أَيْضًا فِي الْبَيَانِ أَنَّ الْفَقْرَ أَفْضَلُ مِنْ الْكَفَافِ، وَوَجَّهَ ذَلِكَ بِأَنَّ مَنْ عِنْدَهُ الْكَفَافُ إنَّمَا يُؤْجَرُ مِنْ وَجْهٍ وَهُوَ شُكْرُ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى مَا أَعْطَاهُ مِنْ الْمَالِ وَالْفَقِيرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: الصَّبْرُ عَلَى الْفَقْرِ مَعَ الرِّضَا بِهِ وَالشُّكْرُ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُفَضَّلُ الْغَنِيُّ الشَّاكِرُ عَلَى الْفَقِيرِ الصَّابِرِ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ: «ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالْأُجُورِ» وَبَعْضٌ قَالَ بِالْعَكْسِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ الْأَوَّلُ، وَالْمُرَادُ بِالْغَنِيِّ الشَّاكِرِ الَّذِي يَكْتَسِبُ الْمَالَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أَعْمَالِهِمْ، وَالْمُقَدِّرُ لِحَرَكَاتِهِمْ وَآجَالِهِمْ. ، الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ: لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ. ، ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ   [الفواكه الدواني] الْحَلَالِ وَيَصْرِفُهُ فِي مَصَالِحِهِ وَلَا يَحْبِسُ مِنْهُ إلَّا مَا احْتَاجَ إلَيْهِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ يَحْتَاجُ لَهُ لَا مَنْ يَجْمَعُ الْمَالَ وَيُمْسِكُهُ، وَالْفَقِيرُ الصَّابِرُ الْقَائِمُ بِوَظِيفَةِ الْفَقْرِ مِنْ الرِّضَا بِحَالَتِهِ وَعَدَمِ شَكْوَاهُ، وَمَعْنَى فَضْلُ الْغِنَى كَثْرَةُ الثَّوَابِ الْحَاصِلَةُ بِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ مَعَ بَعْضِ تَصَرُّفٍ. (أَوْ) أَيْ وَتَعَالَى سُبْحَانَهُ عَنْ أَنْ (يَكُونَ) أَيْ يُوجَدَ (خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ) بَدَلٌ مِنْ خَالِقٍ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ نَفْيُ الْخَلْقِ عَنْ غَيْرِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102] مِنْ الْحَوَادِثِ، فَلَا يَرِدُ ذَاتُهُ وَصِفَاتُهُ وَأَسْمَاؤُهُ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ سَبْقِ الْعَدَمِ لَهَا، بَلْ لَا يَتَصَوَّرُهَا الْعَقْلُ إلَّا قَدِيمَةً لَمْ تُسْبَقْ بِعَدَمٍ حَتَّى يَتَوَهَّمَ دُخُولُهَا فِي عُمُومِ شَيْءٍ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ) أَيْ الْخَالِقُ لِلْعِبَادِ وَلِأَعْمَالِهِمْ. قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 96] تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: اُسْتُفِيدَ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا: تَعَالَى أَنْ يَكُونَ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يُرِيدُ، عُمُومُ تَعَلُّقِ إرَادَتِهِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إنَّهُ لَا يُرِيدُ الشُّرُورَ وَإِنَّهَا تَقَعُ عَلَى خِلَافِ مُرَادِهِ وَهُوَ اعْتِقَادٌ بَاطِلٌ، لِأَنَّ كَبِيرَ الْقَرْيَةِ لَا يَرْضَى أَنْ يَقَعَ فِي قَرْيَتِهِ مَا لَيْسَ عَلَى مُرَادِهِ، فَكُفْرُ الْكُفَّارِ بِإِرَادَتِهِ وَإِنْ كَانَ يُعَاقِبُهُمْ عَلَيْهِ وَلَا يُعَدُّ ذَلِكَ ظُلْمًا مِنْهُ؛ لِأَنَّ الظُّلْمَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ وَهُوَ مَالِكُ سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ. وَإِلَى هَذَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَجَائِزٌ عَلَيْهِ خَلْقُ الشَّرِّ ... وَالْخَيْرِ كَالْإِسْلَامِ وَجَهْلِ الْكُفْرِ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشَّرَّ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْقَبِيحِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ عَاجِلًا وَيَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ آجِلًا مَخْلُوقٌ بِإِرَادَتِهِ تَعَالَى، وَلَكِنْ لَمْ يَأْمُرْ بِهِ تَعَالَى وَلَا يَرْضَاهُ، وَالْخَيْرُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْحَسَنِ وَهُوَ كُلُّ مَا يُمْدَحُ فَاعِلُهُ فِي الْعَاجِلِ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى فِعْلِهِ الثَّوَابُ فِي الْآجِلِ مَخْلُوقٌ بِإِرَادَتِهِ وَأَمْرِهِ مَعَ رِضَاهُ تَعَالَى بِهِ، وَلَا يُقَالُ: إذَا كَانَتْ الشُّرُورُ وَجَمِيعُ الْمُؤْذِيَاتِ مَخْلُوقَةً بِإِرَادَتِهِ لَا يَمْتَنِعُ قَوْلُ الْقَائِلِ: اللَّهُ خَالِقٌ لِلْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ وَسَائِرِ الْقَبَائِحِ فِي غَيْرِ مَقَامِ الْبَيَانِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ، وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ: أَنْتَ الَّذِي تَزْعُمُ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُرِيدُ أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَقَالَ الرَّجُلُ: مَا أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُعْصَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَك فَمَا أَرَادَ اللَّهُ؟ فَقَالَ: أَرَادَ أَنْ يُطَاعَ وَلَا يُعْصَى، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: وَيْحَك فَمَنْ حَالَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَ مَا أَرَادَ؟ وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَا وَقَعَ لِلْأُسْتَاذِ ابْنِ إِسْحَاقَ الْإسْفَرايِينِيّ مِنْ عُظَمَاءِ الْأَشَاعِرَةِ مَعَ عَبْدِ الْجَبَّارِ الْمُعْتَزِلِيِّ حِينَ قَوْلِ عَبْدِ الْجَبَّارِ: سُبْحَانَهُ مَنْ تَنَزَّهَ عَنْ الْفَحْشَاءِ، وَفَهِمَ مِنْهُ الْأُسْتَاذُ أَنَّهُ إنْ أَرَادَ الْمَعْنَى تَنَزَّهَ اللَّهُ عَنْ خَلْقِهَا، فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: سُبْحَانَ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي مُلْكِهِ إلَّا مَا يَشَاءُ، فَالْتَفَتَ إلَيْهِ عَبْدُ الْجَبَّارِ وَعَرَفَ أَنَّهُ فَهِمَ فَقَالَ: أَيُرِيدُ رَبُّنَا أَنْ يُعْصَى؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: أَفَيُعْصَى رَبُّنَا قَهْرًا؟ فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ: أَرَأَيْت إنْ مَنَعَنِي الْهُدَى وَقَضَى عَلَيَّ بِالرَّدَى أَحْسَنَ لِي أَمْ أَسَاءَ؟ فَقَالَ الْأُسْتَاذُ: إنْ مَنَعَك مَا هُوَ لَك فَقَدْ أَسَاءَ، وَإِنْ مَنَعَك مَا هُوَ لَهُ فَيَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، فَانْصَرَفَ الْحَاضِرُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ: وَاَللَّهِ لَيْسَ عَنْ هَذَا جَوَابُ الثَّانِي، إنَّمَا أَتَى بِقَوْلِهِ: أَوْ يَكُونَ خَالِقٌ لِشَيْءٍ إلَّا هُوَ، وَإِنْ عَلِمَ مِمَّا قَبْلَهُ لِلرَّدِّ صَرِيحًا عَلَى مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ الْعَبْدَ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ إمَّا بِغَيْرِ وَاسِطَةِ الْأَقْدَارِ وَهُوَ مَذْهَبٌ بَاطِلٌ إذْ الْعَبْدُ كَاسِبٌ وَالْخَالِقُ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى. (وَ) كَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَقَعُ فِي مُلْكِهِ خَيْرٌ أَوْ شَرٌّ إلَّا بِإِرَادَتِهِ، وَأَنَّهُ لَا غِنَى لِأَحَدٍ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ رَبُّ الْعِبَادِ وَرَبُّ أَعْمَالِهِمْ، يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُ تَعَالَى (الْمُقَدِّرُ) بِكَسْرِ الدَّالِ بِمَعْنَى الْمُحَدِّدُ وَالْمُعَيِّنُ (لِحَرَكَاتِهِمْ) وَسَكَنَاتِهِمْ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى الْحَرَكَةِ؛ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ فِي الْوُجُودِ، وَحَقِيقَةُ الْحَرَكَةِ الِانْتِقَالُ مِنْ حَيِّزٍ إلَى حَيِّزٍ، وَقِيلَ: الْحَرَكَةُ حُصُولُ الْجَوْهَرِ فِي مَكَانَيْنِ بِخِلَافِ السُّكُونِ فَإِنَّهُ حُصُولُ ذَلِكَ فِي مَكَان وَاحِدٍ. (وَ) الْمُقَدِّرُ لِ (آجَالِهِمْ) جَمْعُ أَجَلٍ وَهُوَ زَمَنُ الْحَيَوَانِ وَوَقْتُهُ الَّذِي كَتَبَ اللَّه فِي الْأَزَلِ مَوْتَهُ بِانْقِضَائِهِ، سَوَاءٌ مَاتَ بِقَتْلٍ أَوْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ إنَّمَا مَاتَ بِانْقِضَاءِ أَجَلِهِ، خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَاتِلَ قَطَعَ عَلَى الْمَقْتُولِ أَجَلَهُ وَإِنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَعَاشَ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَمَيِّتٌ بِعُمْرِهِ لَمْ يُقْتَلْ ... وَغَيْرُ هَذَا بَاطِلٌ لَا يُقْبَلْ دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] وقَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَمَعْنَى لَا يَسْتَقْدِمُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَأْخِرُونَ أَنَّهُمْ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَغْيِيرَهُ، وَتَكُونُ جُمْلَةُ وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ لَا يَسْتَأْخِرُونَ، فَمَجْمُوعُ الْجُمْلَتَيْنِ هُوَ جَوَابُ الشَّرْطِ عَلَى حَدِّ: الرُّمَّانُ حُلْوٌ حَامِضٌ، فَإِنَّ مَجْمُوعَ حُلْوٍ حَامِضٍ هُوَ الْخَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مُزٌّ أَيْ أَخَذَ طَرَفًا مِنْ الْحَلَاوَةِ وَطَرَفًا مِنْ الْحُمُوضَةِ، وَكَذَلِكَ هُنَا إذَا جَاءَ الْأَجَلُ لَا يَسْتَطِيعُونَ تَغْيِيرَهُ، وَاحْتَجَّ الْمُعْتَزِلَةُ عَلَى قَبُولِ الْعُمُرِ الزِّيَادَةَ وَالنُّقْصَانَ بِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الصَّدَقَةَ وَالصِّلَةَ يَعْمُرَانِ الدِّيَارَ وَيَزِيدَانِ فِي الْعُمُرِ» . وَبِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} [فاطر: 11] وَبِوُجُوبِ الدِّيَةِ أَوْ الْقِصَاصِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْفَاعِلِ الذَّمَّ وَالْعِقَابَ فِي الْجِنَايَةِ، وَأُجِيبَ عَنْ ذَلِكَ بِمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ: إنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْبَرَكَةِ أَوْ عَلَى حَقِيقَتِهَا، لَكِنْ بِالنَّظَرِ إلَى مَا يَظْهَرُ لِلْمَلَائِكَةِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ فَإِنَّهُ قَدْ يَكُونُ مَكْتُوبًا فِيهِ الْعُمُرُ لِفُلَانٍ عِشْرُونَ سَنَةً وَيَكُونُ فِي عِلْمِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً بِسَبَبِ صِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ صَدَقَةٍ، وَعَلَى هَذَا الْجَوَابِ يَتَّجِهُ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِطُولِ الْعُمُرِ؛ لِأَنَّ مُرَادَ الدَّاعِي طَلَبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمَدْعُوُّ لَهُ بِمَنْ قَدَّرَ اللَّهُ لَهُ زِيَادَةً عَلَى عُمُرِ أَمْثَالِهِ بِسَبَبِ صَدَقَةٍ أَوْ صِلَةِ رَحِمٍ، وَأُجِيبَ عَنْ وُجُوهِ الْعِقَابِ أَوْ الدِّيَةِ أَوْ الْقِصَاصِ: بِأَنَّهُ بِسَبَبِ ارْتِكَابِهِ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ بِكَسْبِهِ الَّذِي يَخْلُقُ اللَّهُ عَقِبَهُ الْمَوْتَ بِطَرِيقِ الْعَادَةِ وَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ لَا تَأْثِيرَ لَهُ؛ لِأَنَّ الْأَفْعَالَ تُنْسَبُ إلَيْهِ كَسْبًا وَإِلَى اللَّهِ خَلْقًا وَإِيجَادًا، وَالْحُدُودُ وَالدِّيَاتُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْمُكَلَّفِ بِحَسَبِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ مِنْ الْمَيْلِ وَصُورَةُ الْفِعْلِ الْوَاقِعَةُ مِنْهُ الَّتِي تُسَمَّى كَسْبًا وَالْأَحْكَامُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ الْخَالِقُ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ هُوَ الْبَارِئُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْأَحْكَامَ مَنُوطَةٌ بِالْأَفْعَالِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِأَصْحَابِهَا تَأْثِيرٌ، فَسُبْحَانَ مَنْ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَأَمَّا حَدِيثُ: «إنَّ الْمَقْتُولَ يَتَعَلَّقُ بِقَاتِلِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ رَبِّ قَتَلَنِي فُلَانٌ وَظَلَمَنِي وَقَطَعَ أَجَلِي» فَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَتَكَلَّمَ فِيهِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ فَيُحْتَمَلُ عَلَى مَقْتُولٍ سَبَقَ فِي عِلْمِ اللَّهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُقْتَلْ لَكَانَ يُعْطَى أَجَلًا زَائِدًا، هَذَا هُوَ الِاعْتِقَادُ الصَّحِيحُ الْمُعْتَمَدُ، وَحَاصِلُ مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ أَوْجَدَ سَائِرَ الْكَائِنَاتِ بِقُدْرَتِهِ، وَتَخْصِيصُ إرَادَتِهِ عَلَى حَسَبِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ، وَلَا خَالِقَ سِوَاهُ فَهُوَ الْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، وَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، شَرَعَ فِيمَا يَجُوزُ عَلَيْهِ عَقْلًا وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا شَرْعًا وَهُوَ إرْسَالُ رُسُلِ الْبَشَرِ إلَى خَلْقِهِ فَقَالَ: (الْبَاعِثُ الرُّسُلَ إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الْعِبَادِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِإِرْسَالِ رُسُلِ الْبَشَرِ مِنْ آدَمَ إلَى مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إلَى خَلْقِهِ لِيُبْلِغُوهُمْ عَنْهُ نَهْيَهُ وَأَمْرَهُ وَوَعْدَهُ وَوَعِيدَهُ، وَيُبَيِّنُوا لَهُمْ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا مِمَّا جَاءُوا بِهِ مِنْ شَرَائِعِهِمْ الَّتِي أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي كُتُبِهِ عَلَيْهِمْ، وَإِنَّمَا بَعَثَ تَعَالَى رُسُلَهُ إلَيْهِمْ (لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْمُكَلَّفِينَ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَوْ لَمْ يُرْسِلْ لَهُمْ لَقَالُوا: " هَلَّا أَرْسَلْت إلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِك؟ " وَقَدْ تَفَضَّلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذَ إلَّا مَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ حَيْثُ قَالَ: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَاَلَّذِي تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الَّذِي بَلَغَتْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ، فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ غَيْرُ مُؤَاخَذٍ فَلَا تُقَامُ عَلَيْهِ حُجَّةٌ، بِخِلَافِ مَنْ بَلَغَتْهُ دَعْوَةٌ تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الرَّسُولِ مَحْضُ صِدْقٍ لِتَأْيِيدِهِ بِالْمُعْجِزَةِ النَّازِلَةِ مَنْزِلَةَ قَوْلِ اللَّهِ: «صَدَقَ عَبْدِي فِي كُلِّ مَا يُبَلِّغُ عَنِّي» ، وَأَعْظَمُ مُعْجِزَاتِ نَبِيِّنَا الْقُرْآنُ، وَاخْتُلِفَ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ هَلْ فِي الْمَشِيئَةِ أَوْ فِي النَّارِ أَوْ مَعْذُورُونَ أَقْوَالٌ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَأَعْذَرُ إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، وَمِنْ قَوْلِهِ هُنَا: الْبَاعِثُ الرُّسُلَ عَلَى مَا بَيَّنَّا مِنْ أَنَّ الْإِرْسَالَ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْوَاجِبَاتِ السَّمْعِيَّةِ الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَوْجَبَهُ كَالْمُعْتَزِلَةِ، وَعَلَى مَنْ أَحَالَهُ كَالسُّمَنِيَّةِ، وَعَلَى مَنْ عَدَّهُ عَبَثًا كَالْبَرَاهِمَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ طَرِيقُ الْأَشَاعِرَةِ، وَفِيهِ رَدٌّ أَيْضًا عَلَى مَنْ قَصَرَ الرِّسَالَةَ عَلَى آدَمَ فَقَطْ أَوْ عَلَى آدَمَ وَإِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى مَنْ قَصَرَهَا عَلَى مُوسَى وَعِيسَى كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى. الثَّانِي: ذَكَرَ الرُّسُلَ بِصِيغَةِ جَمْعِ الْكَثْرَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى كَثْرَتِهِمْ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ فِي عِدَّتِهِمْ فَقِيلَ: ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْأَوْلَى أَنْ لَا يُقْتَصَرَ فِيهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ عَلَى عَدَدٍ لِآيَةِ: {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] . وَالْحَدِيثُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى بَيَانِ عَدَدِ الْأَنْبِيَاءِ مُتَكَلَّمٌ فِيهِ، كَمَا أَنَّ الْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى حَدٍّ فِي عَدَدِ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ. الثَّالِثُ: كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَةُ مَا يَجِبُ لِلَّهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ، يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ مَعْرِفَةُ الْوَاجِبِ لِلْأَنْبِيَاءِ وَالْجَائِزِ وَالْمُسْتَحِيلِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا، فَالْوَاجِبُ فِي حَقِّهِمْ الصِّدْقُ وَالْأَمَانَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 وَالنُّبُوَّةَ بِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَجَعَلَهُ آخِرَ الْمُرْسَلِينَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا، وَأَنْزَلَ   [الفواكه الدواني] وَالتَّبْلِيغُ كَمَا أُمِرُوا بِتَبْلِيغِهِ، وَيَسْتَحِيلُ فِي حَقِّهِمْ أَضْدَادُهَا، وَيَجُوزُ فِي حَقِّهِمْ كَالْأَكْلِ وَالنِّكَاحِ وَسَائِرِ الْأَعْرَاضِ الْبَشَرِيَّةِ الَّتِي لَا تَنْقُصُ مِنْ مَرَاتِبِهِمْ الْعَلِيَّةِ. الرَّابِعُ: سَائِرُ الْأَنْبِيَاءِ وَإِنْ لَمْ يَكُونُوا رُسُلًا مَعْصُومُونَ مِنْ جَمِيعِ الذُّنُوبِ لَا يَصْدُرُ عَنْهُمْ ذَنْبٌ وَلَوْ صَغِيرَةً لَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا لِكَرَامَتِهِمْ عَلَى اللَّهِ. قَالَهُ ابْنُ السُّبْكِيّ وَتَبِعَهُ الْجَلَالُ الْمَحَلِّيُّ. وَجَوَّزَ الْأَكْثَرُونَ وُقُوعَ الصَّغِيرَةِ مِنْهُمْ سَهْوًا وَلَكِنْ يُنَبَّهُونَ عَلَيْهَا إلَّا الدَّالَّةَ عَلَى الْخِسَّةِ كَتَطْفِيفِ حَبَّةٍ فَلَا تَصْدُرُ عَنْهُمْ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ صُدُورِ الذَّنْبِ عَنْهُمْ مُطْلَقًا يَحْمِلُ مَا وَرَدَ عَنْهُمْ مِمَّا يَقْتَضِي الصُّدُورَ عَنْهُمْ عَلَى صُدُورِهِ عَلَى جِهَةِ التَّأْوِيلِ. قَالَ بَعْضٌ: وَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ يَجِبُ اعْتِقَادُهَا وَطَرْحُ مَا عَدَاهُ. وَفِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ لِلْعَلَّامَةِ اللَّقَانِيِّ: يَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ النِّسْيَانُ فِي الْبَلَاغِيَّاتِ قَبْلَ تَبْلِيغِهَا قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً، وَأَمَّا بَعْدَ التَّبْلِيغِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْغَيْرَ حَفِظَهَا وَضَبَطَهَا وَيُبَلِّغُهَا، وَأَمَّا السَّهْوُ فَيَمْتَنِعُ عَلَيْهِمْ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْأَخْبَارِ مُطْلَقًا بَلَاغِيَّةً كَانَتْ كَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ أَوْ لَا، وَفِي الْأَقْوَالِ الدِّينِيَّةِ الْإِنْشَائِيَّةِ، وَيَجُوزُ عَلَيْهِمْ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ وَغَيْرِهَا خِلَافًا لِقَوْمٍ، وَالسَّهْوُ فِي السَّلَامِ وَهُوَ قَوْلٌ بَلَاغِيٌّ فِي فِعْلِهِ وَإِيقَاعِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ لَا فِي لَفْظِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ أَنَّ السَّهْوَ زَوَالُ الصُّورَةِ مِنْ الْقُوَّةِ الْمُدْرِكَةِ لَا مِنْ الْقُوَّةِ الْحَافِظَةِ، وَالنِّسْيَانَ زَوَالُهُ مِنْهُمَا فَيَكُونُ النِّسْيَانُ أَخَصَّ، وَقِيلَ: النِّسْيَانُ يَكُونُ فِيمَا تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ وَالسَّهْوُ أَعَمُّ، فَقَدْ اتَّضَحَ لَك جَوَازُ السَّهْوِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ فِي الْأَفْعَالِ الْبَلَاغِيَّةِ، كَمَا وَقَعَ الْقِيَامُ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَتَرَكَ الْجُلُوسَ وَقَامَ أَيْضًا لِخَامِسَةٍ وَسَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ بِخِلَافِ السَّهْوِ فِي الْأَخْبَارِ مُطْلَقًا. الْخَامِسُ: كَمَا تَجِبُ لِلْأَنْبِيَاءِ الْعِصْمَةُ تَجِبُ لِلْمَلَائِكَةِ أَيْضًا، فَلَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ الذَّنْبُ فِي حَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وَمَنْ قَالَ فِي أَعْرَاضِهِمْ شَيْئًا وَلَوْ بِالتَّعْرِيضِ فَقَدْ كَفَرَ كَالْأَنْبِيَاءِ. 1 - ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي هَارُوتَ وَمَارُوتَ فَقِيلَ: مَلَكَانِ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا السِّحْرَ ابْتِلَاءً لِلنَّاسِ، فَمَنْ تَعَلَّمَهُ وَعَمِلَ بِهِ فَقَدْ كَفَرَ، وَمَنْ تَجَنَّبَهُ أَوْ تَعَلَّمَهُ لِيَتَوَقَّاهُ وَلَا يَضُرُّ بِهِ أَحَدًا فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَهُمَا كَانَا يَعِظَانِ النَّاسَ وَيَقُولَانِ: إنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ وَابْتِلَاءٌ فَلَا تَكْفُرْ أَيْ لَا تَعْتَقِدْ وَلَا تَعْمَلْ فَإِنَّ ذَلِكَ كُفْرٌ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ بِبَابِلَ لِارْتِكَابِهِمَا السِّحْرَ فَهُوَ خِلَافُ الصَّوَابِ، بَلْ الْحَقُّ حُرْمَةُ اعْتِقَادِ ارْتِكَابِهِمَا الْعَمَلَ بِالسِّحْرِ أَوْ اعْتِقَادِ تَأْثِيرِهِ، وَتَعْذِيبُهُمَا إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاتَبَةِ كَمَا تُعَاتَبُ الْأَنْبِيَاءُ عَلَى السَّهْوِ وَالزَّلَّةِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابٍ مِنْهُمَا لِكَبِيرَةٍ فَضْلًا عَنْ كُفْرٍ وَاعْتِقَادِ سِحْرٍ أَوْ عَمِلَ بِهِ، وَقِيلَ: هُمَا رَجُلَانِ عِلْجَانِ مِنْ أَهْلِ بَابِلَ، وَقِيلَ: رَجُلَانِ مِنْ بَنِي إسْرَائِيل. وَمُحَصَّلُ قِصَّةِ هَارُوتَ وَمَارُوتَ عَلَى مَا قَالَهُ السُّيُوطِيّ أَنَّهُمَا مَلَكَانِ مِنْ جُمْلَةِ الْمَلَائِكَةِ رَكَّبَ اللَّهُ فِيهِمَا الشَّهْوَةَ اخْتِيَارًا لَهُمَا وَأَمَرَهُمَا أَنْ يَحْكُمَا فِي الْأَرْضِ، فَنَزَلَا عَلَى صُورَةِ الْبَشَرِ وَحَكَمَا بِالْعَدْلِ مَرَّةً، ثُمَّ افْتَتَنَا بِامْرَأَةٍ جَمِيلَةٍ فَعُوقِبَا بِسَبَبِ ذَلِكَ بِأَنْ حُبِسَا فِي بِئْرِ بَابِلَ مُنَكَّسَيْنِ وَابْتُلِيَا بِالنُّطْقِ بِتَعْلِيمِ السِّحْرِ فَصَارَ يَقْصِدُهُمَا مَنْ طَلَبَ ذَلِكَ لِيَتَعَلَّمَ مِنْهُمَا ذَلِكَ وَهُمَا قَدْ عَرَفَا ذَلِكَ، وَلَا يَنْطِقَانِ بِحَضْرَةِ أَحَدٍ حَتَّى يُحَذِّرَاهُ، وَإِذَا ثَبَتَ الْخِلَافُ فِي مَلَكِيَّتِهِمَا فَلَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُمَا وَلَوْ مَعَ اعْتِقَادِ مَلَكِيَّتِهِمَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ شُرَّاحِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِيمَنْ يُشَدَّدُ فِي أَدَبِهِ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ، أَوْ سَبَّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى مَلَكِيَّتِهِ، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ وَلَوْ مَعَ اعْتِقَادِ نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكِيَّتِهِ. وَلَمَّا أَخْبَرَ بِكَثْرَةِ الرُّسُلِ شَرَعَ فِي بَيَانِ بَعْضِ مَا خُصَّ بِهِ الْمُصْطَفَى دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ خَتَمَ الرِّسَالَةَ وَالنِّذَارَةَ وَالنُّبُوَّةَ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدِ) بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيِّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مُرَّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نَزَارِ بْنِ مَعْدِ بْنِ عَدْنَانَ، هَذَا هُوَ نَسَبُ الْمُصْطَفَى الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ، حَتَّى كَانَ إذَا بَلَغَهُ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) يُمْسِكُ وَيَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ، وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عُمَرَ مِنْ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - آخِرُ الْأَنْبِيَاءِ، فَمَنْ كَذَّبَ بِذَلِكَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْخَتْمُ الطَّبْعُ، وَخِتَامُ الشَّيْءِ آخِرُهُ، وَمِنْهُ قَوْله تَعَالَى: {خِتَامُهُ مِسْكٌ} [المطففين: 26] أَيْ آخِرُهُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ:؛ لِأَنَّ آخِرَ مَا يَجِدُونَهُ رَائِحَةُ الْمِسْكِ، وَلَمَّا كَانَتْ رِسَالَةُ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَانِعَةً مِنْ ابْتِدَاءِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ بَعْدَهُ شُبِّهَتْ بِالْخَتْمِ الْمَانِعِ مِنْ ظُهُورِ مَا خُتِمَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْخَتْمِ هُنَا التَّمَامُ أَيْ تَمَّمَ الرِّسَالَةَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا الْعَاقِبُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي» . وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ بِذَلِكَ وَهُوَ الْجَاهِلُ وَيَظْهَرُ عَدَمُ كُفْرِهِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ ابْتِدَاءِ نُبُوَّةٍ وَرِسَالَةٍ انْدَفَعَ إيرَادُهُ نُبُوَّةَ وَرِسَالَةَ عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِتَقَدُّمِهِمَا؛ لِأَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يُعْزَلْ عَنْهُمَا، لَكِنْ لَا يُتَعَبَّدُ بَعْدَ نُزُولِهِ بِشَرِيعَتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لِنَسْخِهَا فِي حَقِّهِ وَحَقِّ غَيْرِهِ وَتَكْلِيفِهِ بِأَحْكَامِ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ أَصْلًا وَفَرْعًا، فَلَا يَكُونُ إلَيْهِ وَحْيٌ وَلَا نَصْبُ أَحْكَامٍ، بَلْ يَنْزِلُ خِلْفَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَاكِمًا مِنْ حُكَّامِ مِلَّتِهِ بَيْنَ أُمَّتِهِ بِمَا عَلِمَهُ فِي السَّمَاءِ قَبْلَ نُزُولِهِ مِنْ شَرِيعَتِهِ كَمَا فِي بَعْضِ الْآثَارِ، أَوْ يَنْظُرُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَصِّرُ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُؤَدِّي إلَى اسْتِنْبَاطِ الْأَحْكَامِ الَّتِي يَحْتَاجُ إلَيْهَا أَيَّامَ مُكْثِهِ فِي الْأَرْضِ، فَكَسْرُهُ لِلصَّلِيبِ وَعَدَمُ قَبُولِهِ الْجِزْيَةَ مِنْ شَرِيعَتِنَا لَا نَسْخَ لَهَا؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَشْرُوعِيَّةِ جَوَازِ أَخْذِ الْجِزْيَةِ نُزُولُ سَيِّدِنَا عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَالرِّسَالَةُ فِعَالَةٌ مِنْ أَرْسَلَ وَهِيَ اخْتِصَاصُ النَّبِيِّ بِخِطَابِ التَّبْلِيغِ، وَالنِّذَارَةُ بِكَسْرِ النُّونِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ التَّخْوِيفُ مِنْ عِقَابِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالنُّبُوَّةُ مِنْ النَّبَأِ وَهُوَ الْخَبَرُ، أَوْ مِنْ النُّبُوَّةِ وَهِيَ الرِّفْعَةُ وَالْعُلُوُّ، وَشَرْعًا إيحَاءُ اللَّهِ تَعَالَى لِإِنْسَانٍ عَاقِلٍ حُرٍّ ذَكَرٍ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ تَكْلِيفِيٍّ سَوَاءٌ أَمَرَهُ بِتَبْلِيغِهِ أَمْ لَا فَهِيَ أَعَمُّ مِنْ الرِّسَالَةِ، وَمَنْ قَالَ إنْ النُّبُوَّةَ مُجَرَّدُ الْوَحْيِ وَمُكَالَمَةُ الْمَلَكِ فَقَدْ خَرَجَ عَنْ طَرِيقِ الصَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ كَلَّمَتْ نَحْوَ مَرْيَمَ وَأُمَّ مُوسَى وَالْأُنْثَى لَمْ تَكُنْ نَبِيَّةً عَلَى الصَّحِيحِ، وَقَدَّمَ الرِّسَالَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ لِمَا أَنَّ الرِّسَالَةَ أَفْضَلُ مِنْ النُّبُوَّةِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَزَعَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَكْسَ ذَلِكَ، وَقَدَّمَ النِّذَارَةَ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ لَوَازِمِ الرِّسَالَةِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى النِّذَارَةِ وَلَمْ يَقُلْ وَالْبِشَارَةِ كَمَا جَمَعَ اللَّهُ بَيْنَهُمَا فِي الْقُرْآنِ حَيْثُ قَالَ: {شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب: 45] قَالَ الْحَطَّابُ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النِّذَارَةَ تَسْتَلْزِمُ الْمُبَاشَرَةَ؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْذَرَك بِالْعُقُوبَةِ عَلَى فِعْلِ شَيْءٍ فَقَدْ بَشَّرَك بِالسَّلَامَةِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ التَّرْكِ لِذَلِكَ الشَّيْءِ. ثَانِيهِمَا أَنَّهُ مُرَاعَاةٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ذَهَبَتْ النُّبُوَّةُ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدِي مِنْهَا إلَّا الْبِشَارَةُ» . وَفِي رِوَايَةٍ «إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الرَّجُلُ الصَّالِحُ أَوْ تُرَى لَهُ» . الثَّانِي: لَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى خَتْمِ الرِّسَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَخَصُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ خَتْمِ الْأَخَصِّ خَتْمُ الْأَعَمِّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَمَا قِيلَ خِلَافُ ذَلِكَ فَفِيهِ نَظَرٌ الثَّالِثُ: قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ فَضْلَ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ هِدَايَةُ الْأُمَّةِ فَنَفْعُهَا مُتَعَدٍّ وَالنُّبُوَّةَ قَاصِرَةٌ عَلَى النَّبِيِّ فَهُمَا كَالْعِلْمِ وَالْعِبَادَةِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ هَذَا عِنْدَ اتِّحَادِ مَحَلِّهِمَا، وَأَمَّا رِسَالَةُ رَسُولٍ مَعَ نُبُوَّةِ آخَرَ فَلَا خِلَافَ فِي أَفْضَلِيَّةِ الرِّسَالَةِ عَلَى النُّبُوَّةِ وَحْدَهَا ضَرُورَةَ جَمْعِ الرِّسَالَةِ لَهَا مَعَ زِيَادَةٍ الرَّابِعُ: وَقَعَ التَّرَدُّدُ مِنْ الْعُلَمَاءِ فِي نُبُوَّةِ النَّبِيِّ مَعَ وِلَايَتِهِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ نُبُوَّتَهُ عَلَى وِلَايَتِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ عَكَسَ بِخِلَافِ وِلَايَةِ وَلِيٍّ وَنُبُوَّةِ آخَرَ، فَلَا شَكَّ فِي أَفْضَلِيَّةِ النُّبُوَّةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ فَضْلِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ. قَالَ صَاحِبُ الْإِسْعَادِ: لَا يَصِلُ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ دَرَجَةَ أَحَدٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، بَلْ أَعْلَى دَرَجَاتِ أَعْظَمِ الْأَوْلِيَاءِ دُونَ دَرَجَاتِ سَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ ثُمَّ فَسَّرَ خَتْمَ الرِّسَالَةِ بِقَوْلِهِ: (فَجَعَلَهُ) أَيْ صَيَّرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا (آخِرَ الْمُرْسَلِينَ) حَالَ كَوْنِهِ (بَشِيرًا) أَيْ مُخْبِرًا لِلطَّائِعِينَ بِالْخَيْرِ. (وَ) حَالَ كَوْنِهِ (نَذِيرًا) أَيْ مُخَوِّفًا لِلْعَاصِينَ بِالْعَذَابِ، وَالْبِشَارَةُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ تَنْصَرِفُ لِلْخَيْرِ وَإِنْ قُيِّدَتْ جَازَ اسْتِعْمَالُهَا فِي الشَّرِّ. قَالَ تَعَالَى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وَهَذَا الِاسْتِعْمَالُ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ الْبِشَارَةِ وَالنِّذَارَةِ مُطْلَقُ التَّغَيُّرُ وَالتَّأَثُّرِ؛ لِأَنَّ الْمُبَشَّرَ يَحْمَرُّ وَجْهُهُ وَالْمُنْذَرَ يَصْفَرُّ وَجْهُهُ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: فِي كَلَامِهِ هُنَا حَذْفٌ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلُ وَالنُّبُوَّةُ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلَهُ أَيْضًا آخِرَ النَّبِيِّينَ، وَمِثْلُ هَذَا يُسَمَّى مِنْ بَابِ الِاكْتِفَاءِ وَهُوَ الِاسْتِغْنَاءُ بِأَحَدِ الْأَمْرَيْنِ عَنْ الْآخَرِ نَحْوُ: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] فَإِنَّ التَّقْدِيرَ أَوْ شَرٍّ، وَنَحْوُ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ وَالْبَرْدَ. الثَّانِي: جَعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آخِرَ النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَرَامَاتِ الَّتِي خَصَّهُ رَبُّهُ تَعَالَى بِهَا، وَمِنْهَا أَنَّ أُمَّتَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَفْضَلُ الْأُمَمِ أَيْ أَكْثَرُهَا ثَوَابًا وَمَفَاخِرَ وَمَنَاقِبَ، وَمِنْهَا أَنَّ أُمَّتَهُ آخِرُ الْأُمَمِ حَتَّى لَا يَطُولَ مُكْثُهَا تَحْتَ الْأَرْضِ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ شَهِيدًا عَلَى الْخَلْقِ، وَمِنْهَا تَكْلِيمُهُ بِغَيْرِ وَاسِطَةٍ، وَمِنْهَا عُرُوجُهُ بِهِ حَتَّى سَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَمِنْهَا انْزِوَاءُ الْأَرْضِ لَهُ حَتَّى اطَّلَعَ عَلَى مَشَارِقِهَا وَمَغَارِبِهَا، وَمِنْهَا إعْطَاؤُهُ كَنْزَيْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِنْهَا نُصْرَتُهُ بِالرُّعْبِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وَمِنْهَا جَعْلُ الْأَرْضِ لَهُ مَسْجِدًا وَطَهُورًا، وَمِنْهَا إحْلَالُ الْغَنَائِمِ لَهُ، وَمِنْهَا كَوْنُهُ أَوَّلَ شَافِعٍ، وَمِنْهَا أَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَمِنْهَا غَيْرُ ذَلِكَ. (وَ) مِنْهَا أَنْ جَعَلَهُ دُونَ غَيْرِهِ (دَاعِيًا) جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ الْكَلِمِ (إلَى) فِعْلِ مَا يُقَرِّبُ إلَى (اللَّهِ) مِنْ الْإِيمَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الرُّسُلِ إنَّمَا كَانَ يُرْسَلُ إلَى قَوْمِهِ وَلَمْ يُرْسَلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ إلَى الْجِنِّ، فَضْلًا عَنْ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ أُرْسِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 عَلَيْهِ كِتَابَهُ الْحَكِيمَ وَشَرَحَ بِهِ دِينَهُ الْقَوِيمَ وَهَدَى بِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا ، وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ   [الفواكه الدواني] إلَيْهِمْ عَلَى الصَّحِيحِ بَلْ قِيلَ إلَى الْجَمَادَاتِ فَبَعَثَهُ عَامَّةً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّ تَبْلِيغَهُ الشَّرَائِعَ لِلْمُكَلَّفِينَ وَدَعْوَتَهُمْ إلَيْهَا (بِإِذْنِهِ) أَيْ بِأَمْرِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ} [النحل: 125] (وَ) مِنْ الْكَرَامَاتِ أَيْضًا أَنْ جَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (سِرَاجًا مُنِيرًا) يُسْتَضَاءُ بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْجَهْلِ كَالِاسْتِضَاءَةِ بِالسِّرَاجِ مِنْ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَيُقْتَبَسُ مِنْ نُورِهِ نُورُ الْبَصَائِرِ كَاقْتِبَاسِ نُورِ الْبَصَرِ مِنْ نُورِ السِّرَاجِ، وَعَلَى هَذَا فَالسِّرَاجُ هُوَ النَّبِيُّ، فَيَكُونُ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِعَارَةِ التَّصْرِيحِيَّةِ وَمُنِيرًا قَرِينَتُهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ أَيْ مِثْلُ سِرَاجٍ فِي وُضُوحِ الطَّرِيقِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ شَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالسِّرَاجِ مَعَ أَنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ أَعْظَمُ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ نُورَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى الْأَخْذِ مِنْهُمَا إلَّا بِتَكَلُّفٍ بِخِلَافِ نُورِ السِّرَاجِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسِّرَاجِ الْقُرْآنُ وَالْمَعْنَى ذَا سِرَاجٍ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ كَدَعْوَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ فِيهِ تَشْبِيهٌ، وَإِنَّ النُّورَ وَالسِّرَاجَ اسْمَانِ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ} [المائدة: 15] قِيلَ هُوَ مُحَمَّدٌ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي ذِكْرِ أَوْصَافِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا فِي ذِكْرِ أَسْمَائِهِ. (خَاتِمَةٌ) : قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: الْأُمُورُ الْمُنْتَفَعُ بِهَا فِي الدُّنْيَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَزِيدُ عِنْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ الْعِلْمُ تَعْلِيمًا وَعَمَلًا، وَقِسْمٌ يَذْهَبُ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ وَهُوَ الْمَالُ، وَقِسْمٌ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ وَهُوَ السِّرَاجُ. (وَ) مِمَّا أَكْرَمَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ تَعَالَى (أَنْزَلَ عَلَيْهِ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (كِتَابَهُ) الْحَكِيمَ وَالْمُرَادُ الْقُرْآنُ وَهُوَ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِعْجَازِ بِأَقْصَرِ سُورَةٍ مِنْهُ الْمُتَعَبَّدُ بِتِلَاوَتِهِ الْمُحْتَجُّ بِأَبْعَاضِهِ، هَذَا مَعْنَاهُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ، وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ عَلَى مُحْتَرَزَاتِ تِلْكَ الْقُيُودِ، وَإِنْزَالُهُ مِنْ السَّمَاءِ مُحْدَثٌ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] وَالذِّكْرُ الْمُرَادُ بِهِ الْقُرْآنُ، وَصِفَةُ إنْزَالِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ صَوْتًا فَأَسْمَعَهُ لِجِبْرِيلَ بِذَلِكَ الصَّوْتِ وَالْحُرُوفِ فَحَفِظَهُ جِبْرِيلُ وَوَعَاهُ وَنَقَلَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَالْإِنْزَالُ إنْزَالُ الْوَحْيِ وَالرِّسَالَةِ لَا إنْزَالُ الشَّخْصِ وَالصُّورَةِ، فَلَمَّا تَلَاهُ جِبْرِيلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَفِظَهُ وَوَعَاهُ وَتَلَاهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَحَفِظُوهُ وَتَلَوْهُ عَلَى التَّابِعِينَ وَتَلَاهُ التَّابِعُونَ عَلَى مَنْ بَعْدَهُمْ وَهَكَذَا حَتَّى وَصَلَ لَنَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكِتَابَ بِهَذَا الْمَعْنَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ عَرَبِيٌّ وَمُرَتَّبٌ وَفَصِيحٌ وَمَقْرُوءٌ بِالْأَلْسِنَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مِنْ أَوْصَافِ الْحَادِثِ، وَمَا يُقَالُ مِنْ أَنَّ كَلَامَ اللَّهِ لَيْسَ قَائِمًا بِلِسَانٍ وَلَا حَالًّا فِي مُصْحَفٍ فَالْمُرَادُ بِهِ الْمَعْنَى الْقَائِمِ بِذَاتِهِ تَعَالَى، وَالْحَكِيمُ نَعْتٌ لِلْكِتَابِ مَعْنَاهُ الْمُحْكَمُ الْآيَاتِ فَلَا يَقَعُ فِي آيَاتِهِ نَسْخٌ، وَقِيلَ مَعْنَى الْحَكِيمِ الْمُحْكَمُ الْجَامِعُ لِعُلُومِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ أَوْ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِيهِ اخْتِلَافٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا} [النساء: 82] . تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أُنْزِلَ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا جُمْلَةً وَاحِدَةً ثُمَّ صَارَ يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ فَكَانَ أَمَدُ نُزُولِهِ عِشْرِينَ سَنَةً بِقَدْرِ زَمَنِ نُبُوَّتِهِ. وَصُحِّحَ فَقِيلَ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً مُدَّةُ الْوَحْيِ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً وَبِالْمَدِينَةِ عَشْرُ سِنِينَ. الثَّانِي: تَرْتِيبُ الْآيَاتِ تَوْقِيفِيٌّ اتِّفَاقًا، وَأَمَّا تَرْتِيبُ السُّوَرِ فَقِيلَ تَوْقِيفِيٌّ وَقِيلَ بِاجْتِهَادِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ وَبِهِ جَزَمَ ابْنُ فَارِسٍ، وَأَمَّا أَسْمَاءُ السُّوَرِ فَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ السُّيُوطِيّ أَنَّهُ تَوْقِيفِيٌّ مِنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ. (وَشَرَحَ) أَيْ فَهَّمَ وَبَيَّنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّبِيِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وَقَالَ فِي شَأْنِ الْكِتَابِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَمَفْعُولُ شَرَحَ (دِينَهُ) أَيْ دِينَ اللَّهِ وَالْمُرَادُ دِينُ الْإِسْلَامِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران: 19] وَوَصَفَ الدِّينَ بِقَوْلِهِ: (الْقَوِيمَ) أَيْ الْمُسْتَقِيمَ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. (وَهَدَى) أَيْ أَظْهَرَ (بِهِ) أَيْ بِالْكِتَابِ أَوْ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) أَيْ الطَّرِيقَ الْقَيِّمَ الْمُوَصِّلَ إلَى الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ، وَالْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا اعْوِجَاجَ فِيهِ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنِ الطَّيِّبِ: الصِّرَاطُ عَلَى قِسْمَيْنِ حِسِّيٌّ وَمَعْنَوِيٌّ، فَالْمَعْنَوِيُّ فِي الدُّنْيَا وَالْحِسِّيُّ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَمَنْ مَشَى عَلَى الْمَعْنَوِيِّ هُنَا وُفِّقَ لِلْمَشْيِ عَلَى الْحِسِّيِّ هُنَالِكَ. الثَّانِي: فِي الصِّرَاطِ ثَلَاثُ لُغَاتٍ بِالسِّينِ وَالصَّادِ، وَالْمُضَارَعَةِ بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ، وَغَلِطَ مِنْ قَالَ بِالزَّايِ، وَالصِّرَاطُ يُرَادِفُهُ الطَّرِيقُ، وَالسَّبِيلُ مَعْنَاهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْأَصْلِ الطَّرِيقُ الْوَاسِعُ مَأْخُوذٌ مِنْ سَرِطْت الشَّيْءَ بِكَسْرِ الرَّاءِ ابْتَلَعْته كَأَنَّهُ يَبْتَلِعُ الْمَارَّةَ وَيُجْمَعُ عَلَى سُرُطٍ كَكُتُبٍ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ كَالطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا طَرِيقُ الْخَيْرِ كَمَا بَيَّنَّا. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مِنْ وَاجِبِ أُمُورِ الدِّيَانَةِ الْإِيمَانُ بِالْقَلْبِ أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ. . . إلَخْ عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَأَنَّ السَّاعَةَ) أَيْ الْقِيَامَةَ وَيُسَمَّى يَوْمُهَا الْيَوْمُ الْآخِرُ وَهُوَ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: مِنْ وَقْتِ الْحَشْرِ إلَى مَا لَا يَتَنَاهَى، أَوْ إلَى أَنْ يَدْخُلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ وَأَهْلُ النَّارِ النَّارَ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ الْأَوْقَاتِ الْمَحْدُودَةِ، وَقِيلَ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، وَقِيلَ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَآخِرُ أَيَّامِهَا، وَيُسَمَّى أَيْضًا بِيَوْمِ الْحَسْرَةِ وَيَوْمِ النَّدَامَةِ وَيَوْمِ الْحَاقَّةِ وَيَوْمِ الْمُحَاسَبَةِ وَيَوْمِ الْمُنَاقَشَةِ وَيَوْمِ الزَّلْزَلَةِ وَيَوْمِ الْمُنَافَسَةِ وَيَوْمِ التَّلَاقِي وَيَوْمِ الدَّمْدَمَةِ أَيْ إطْبَاقِ الْعَذَابِ وَيَوْمِ الصَّاعِقَةِ وَيَوْمِ الْوَاقِعَةِ وَيَوْمِ الْقِصَاصِ وَيَوْمِ الْقَارِعَةِ وَيَوْمِ الرَّادِفَةِ وَيَوْمِ الرَّاجِفَةِ وَيَوْمِ الْمَآبِ وَيَوْمِ الْحِسَابِ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: الْقِيَامَةُ لَمَّا عَظُمَتْ أَحْوَالُهَا وَجَلَّتْ أَهْوَالُهَا سَمَّاهَا اللَّهُ بِأَسْمَاءٍ كَثِيرَةٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي بِحَسَبِ اخْتِلَافِ أَهْوَالِهَا. (آتِيَةٌ) أَيْ جَائِيَةٌ قَطْعًا، وَوَصَفَهَا بِالْإِتْيَانِ عَلَى صِيغَةِ الْمَجَازِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْرَامِ، فَالْمُرَادُ بِإِتْيَانِهَا انْقِرَاضُ الدُّنْيَا وَهَذَا أَمْرٌ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَا رَيْبَ فِيهَا) أَيْ لَا شَكَّ وَلَا تَرَدُّدَ فِي إتْيَانِهَا وَإِنْ عُمِّيَ عَلَيْنَا وَقْتُ إتْيَانِهَا، فَإِنْ قِيلَ: الرَّيْبُ وَقَعَ فِي إتْيَانِهَا فَمَا مَعْنَى إخْبَارُ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ أَوْجُهٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ هَذَا خَبَرٌ مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَشُكُّوا فِي إتْيَانِهَا. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ قَدْ نَزَلَ ارْتِيَابُ الْمُرْتَابِينَ فِيهَا بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ عَلَى وَجْهٍ بَاطِلٍ يَنْزِلُ عِنْدَ عُلَمَاءِ الْبَيَانِ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْله تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْأَخْبَارَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فِي عِلْمِ اللَّهِ، فَالْمُرَادُ لَا رَيْبَ فِيهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لِقِيَامِ الْأَدِلَّةِ عَلَى إتْيَانِهَا، وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ انْقِرَاضَ الدُّنْيَا وَحُصُولَ الْفَظَائِعِ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّتِي تُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَتُوجِبُ ذُهُولَ الْمَرَاضِعِ عَنْ الْأَوْلَادِ حَقٌّ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ - يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا} [الحج: 1 - 2] الْآيَةُ {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10] أَيْ شَدِيدًا، يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ - وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ - وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34 - 36] {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . وَفِي الْحَدِيثِ: «خَوَّفَنِي جِبْرِيلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى أَبْكَانِي فَقُلْت: يَا جِبْرِيلُ أَلَمْ يَغْفِرْ لِي رَبِّي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ لَتُشَاهِدَنَّ مِنْ أَهْوَالِ ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا يُنْسِيكَ الْمَغْفِرَةَ» أَخْرَجَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ. قَالَ السَّعْدُ: وَالْحَقُّ اخْتِلَافُهُ بِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، فَيُشَدَّدُ عَلَى الْكَافِرِينَ حَتَّى يَجِدُوا مِنْ طُولِهِ الْغَايَةَ، وَيَتَوَسَّطُ عَلَى فَسَقَةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَيَخِفُّ عَلَى الصَّالِحِينَ حَتَّى يَكُونَ كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ السَّعْدُ: وَهَلْ يَظْهَرُ أَثَرُ هَذِهِ الْأَهْوَالِ فِي الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ فِيهِ تَرَدُّدٌ وَالظَّاهِرُ السَّلَامَةُ. قَالَ تَعَالَى: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ} [فصلت: 30] وَقَالَ: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ} [الأنبياء: 103] وَنَقَلَ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَالنَّوَوِيُّ عَنْ الْمُحَاسِبِيِّ وَارْتَضَاهُ أَنَّ خَوْفَ الْأَنْبِيَاءِ خَوْفُ إعْظَامٍ وَإِجْلَالٍ وَإِنْ كَانُوا آمَنِينَ مِنْ الْعَذَابِ، وَبِهِ يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الْمُتَعَارِضَةِ الظَّوَاهِرِ فَعَلَيْهِ شُدَّ يَدَك. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: السَّاعَةُ اسْمٌ لِحِصَّةٍ مِنْ الزَّمَانِ أَقَلُّهَا طَرْفَةُ عَيْنٍ فَهِيَ نَكِرَةٌ تَقْبَلُ التَّعْرِيفَ وَالتَّنْكِيرَ إلَّا هَذِهِ فَلَا يَجُوزُ حَذْفُ أَلْ مِنْهَا، فَإِنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامَ قَدْ لَزِمَتْهَا عَلَى وَجْهِ التَّغْلِيبِ كَالثُّرَيَّا وَنَحْوِهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا يَوْمُ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالسَّاعَةُ الْقِيَامَةُ وَهِيَ آخِرُ سَاعَاتِ الدُّنْيَا، وَزَمَنُ انْقِرَاضِهَا سُمِّيَتْ بِالسَّاعَةِ مَعَ طُولِ زَمَنِهَا بِالنِّسْبَةِ لِكَمَالِ قُدْرَتِهِ كَسَاعَةٍ وَاحِدَةٍ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا طَوِيلَةٌ عَلَى غَيْرِ الْأَخْبَارِ، وَأَوَّلُ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَالنَّفْخَةُ الْأُولَى هِيَ نَفْخَةُ الصَّعْقِ أَيْ الْمَوْتِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ} [الزمر: 68] أَيْ مَاتَ {مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] مِنْ الْحُورِ وَالْوِلْدَانِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ} [المزمل: 14] وَقَوْلِهِ: {تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ} [النازعات: 7] هِيَ النَّفْخَةُ الثَّانِيَةُ وَتُسَمَّى نَفْخَةُ الْإِحْيَاءِ وَالْبَعْثِ وَقِيَامِ الْخَلْقِ لِلْحِسَابِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} [الزمر: 68] وَالضَّمِيرُ فِي إذَا هُمْ لِجَمِيعِ الْخَلَائِقِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ أَرْبَعُونَ سَنَةً، وَبَعْدَ قِيَامِهِمْ يَنْظُرُونَ مَا يُفْعَلُ بِهِمْ عِنْدَ الْقِيَامِ بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِمْ وَعَرْضِهِمْ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَحِسَابِهِمْ، وَقِيلَ النَّفَخَاتُ ثَلَاثٌ: الْأُولَى نَفْخَةُ الْفَزَعِ أَيْ فِي الدُّنْيَا لَا الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَهِيَ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي النَّمْلِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87] وَفِي ص: {وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} [ص: 15] وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ وَتَرْتَجُّ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا كَالسَّفِينَةِ وَتَهْرُبُ الشَّيَاطِينُ إلَى أَقْطَارِ الْأَرْضِ فَتَرُدُّهُمْ الْمَلَائِكَةُ وَيُوَلِّي النَّاسُ مُدْبِرِينَ يُنَادِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَهُوَ يَوْمُ التَّنَادِ وَتَنْصَدِعُ الْأَرْضُ، وَأَجَابَ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّ النَّفْخَتَيْنِ يَرْجِعَانِ إلَى نَفْخَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ مَعْنَى آيَةِ النَّمْلِ أَنَّهُمْ يُلْقَى عَلَيْهِمْ الْفَزَعُ إلَى أَنْ يُصْعَقُوا هَذَا مُلَخَّصُ الْأُجْهُورِيِّ. الثَّانِي: لِلسَّاعَةِ أَشْرَاطٌ وَعَلَامَاتٌ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: كُبْرَى وَصُغْرَى، فَالْكُبْرَى عَشَرَةٌ خَمْسٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا: خُرُوجُ الدَّجَّالِ وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مِنْ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ وَيَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَطُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، وَخَمْسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا: خَسْفٌ بِالْمَشْرِقِ وَخَسْفٌ بِالْمَغْرِبِ وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ وَدُخَانٌ بِالْيَمَنِ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَرُوحُ مَعَ النَّاسِ حَيْثُ رَاحُوا وَتَمِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ مَالُوا حَتَّى تَسُوقَهُمْ إلَى الْمَحْشَرِ. وَالصُّغْرَى بَعْثُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْلِهِ: «بُعِثْت أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» وَأَشَارَ إلَى السَّبَّابَةِ وَالْوُسْطَى، وَقَبْضُ الْعِلْمِ وَرَفْعُ الْقُرْآنِ وَظُهُورُ الْجَهْلِ وَكَثْرَةُ الْفِتَنِ وَكَثْرَةُ الزِّنَا وَمُعَامَلَةُ النَّاسِ بِالرِّبَا وَظُهُورُ الدَّجَّالِينَ وَكَثْرَةُ الزَّلَازِلِ وَظُهُورُ الْمَهْدِيِّ وَانْشِقَاقُ الْقَمَرِ وَرَجْمُ الشَّيَاطِينِ مِنْ السَّمَاءِ وَتَأْمِينُ الْخَائِنِ وَخِيَانَةُ الْأَمِينِ وَكَثْرَةُ الْعُقُوقِ وَإِمَارَةُ الصِّبْيَانِ وَالتَّطَاوُلُ فِي الْبُنْيَانِ وَفَسَادُ الْبُلْدَانِ وَخَرَابُ مَكَّةَ وَنَقْلُ حِجَارَتِهَا إلَى الْبَحْرِ، وَإِذَا حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْعَلَامَاتِ تَتَابَعَتْ حَتَّى تَتَّصِلَ بِالسَّاعَةِ، وَقَدْ وُجِدَ أَكْثَرُهَا لَكِنْ وَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي السَّابِقِ مِنْهَا فَقِيلَ فَسَادُ مُعْظَمِ الْبُلْدَانِ وَقِيلَ غَيْرُهُ. الثَّالِثُ: تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ أَشْرَاطِهَا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا عَلَى مَا فِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد، وَقَدْ اُخْتُلِفَ هَلْ ذَلِكَ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ أَوْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، ثُمَّ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ كَعَادَتِهَا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَعِنْدَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا تَغْرُبُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ؛ لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُطْلِعَهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يُدِيرُهَا بِالْقُطْبِ فَيَجْعَلُ مَشْرِقَهَا مَغْرِبَهَا وَمَغْرِبَهَا مَشْرِقَهَا وَعِنْدَ ذَلِكَ يُغْلَقُ بَابُ التَّوْبَةِ عَلَى مَا قَالَ اللَّهُ: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا} [الأنعام: 158] الْآيَةُ. وَوَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي مُدَّةِ عَدَمِ قَبُولِ تَوْبَةِ الْكَافِرِ بَعْدَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا وَفِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي، وَهَلْ ذَلِكَ خَاصٌّ بِالْمُكَلَّفِ أَوْ عَامٌّ؟ فَنَقَلَ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ الْجَوْهَرَةِ مَا نَصُّهُ: وَالْحَقُّ أَنَّ مِنْ يَوْمِ الطُّلُوعِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ اهـ. وَظَاهِرُ كَلَامِهِ عُمُومُهُ فِي الْكَافِرِ. وَفِي حَاشِيَةِ الْأُجْهُورِيِّ: وَاخْتُلِفَ فِي عَدَمِ قَبُولِ التَّوْبَةِ مِنْ الذَّنْبِ وَالْإِيمَانِ مِنْ الْكَافِرِ فَقِيلَ لَا يُقْبَلَانِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ عَدَمُ قَبُولِهِمَا مُخْتَصٌّ بِمَنْ شَاهَدَ هَذَا الطُّلُوعَ وَهُوَ مُمَيِّزٌ بَعْدَ ذَلِكَ، فَأَمَّا مَنْ يُولَدُ بَعْدَهُ أَوْ قَبْلَهُ وَلَمْ يَكُنْ مُمَيِّزًا كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ وَمَيَّزَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ إيمَانُهُ وَتَوْبَتُهُ وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ مَنْ رَأَى طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ بَلَغَهُ الْخَبَرُ وَحَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِذَلِكَ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَلَا إيمَانُهُ، وَمَنْ لَمْ يَرَ وَمَنْ بَلَغَهُ مَعَ الْيَقِينِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَإِيمَانُهُ، وَقَالَ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا طَلَعَتْ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا لَا يُقْبَلُ مِمَّنْ كَانَ كَافِرًا عَمَلٌ وَلَا تَوْبَةٌ حِينَ يَرَاهَا إلَّا مَنْ كَانَ صَغِيرًا حِينَئِذٍ فَإِنَّهُ لَوْ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ قُبِلَ مِنْهُ وَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا مُذْنِبًا فَتَابَ مِنْ الذُّنُوبِ قُبِلَ مِنْهُ. وَوَرَدَ: أَنَّ الْقَمَرَ حِينَ طُلُوعِهَا مِنْ مَغْرِبِهَا يَطْلُعُ مِنْ الْمَغْرِبِ أَيْضًا. 1 - فَوَائِدُ حِسَانٌ تَتَشَوَّفُ النَّفْسُ إلَى مَعْرِفَتِهَا فَأَحْبَبْنَا ذِكْرَهَا: الْفَائِدَةُ الْأُولَى: فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالدَّابَّةِ مِنْ صِفَةِ خُرُوجِهَا وَمَكَانِهَا وَكَلَامِهَا وَصِفَاتِهَا قَالَ تَعَالَى: {وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} [النمل: 82] أَيْ إذَا قَرُبَ وُقُوعُ مَعْنَاهُ وَهُوَ مَا وُعِدُوا بِهِ مِنْ الْبَعْثِ وَالْعَذَابِ {أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الأَرْضِ} [النمل: 82] رُوِيَ أَنَّ طُولَهَا سِتُّونَ ذِرَاعًا وَلَهَا قَوَائِمُ وَزَغَبٌ وَرِيشٌ وَجَنَاحَانِ لَا يَفُوتُهَا هَارِبٌ وَلَا يُدْرِكُهَا طَالِبٌ. وَرُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «سُئِلَ عَنْ مَخْرَجِهَا فَقَالَ: مِنْ أَعْظَمِ الْمَسَاجِدِ حُرْمَةً عَلَى اللَّهِ تَعَالَى» ؟ يَعْنِي الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ. وَرُوِيَ مَرْفُوعًا: «تَخْرُجُ دَابَّةُ الْأَرْضِ مِنْ أَجْيَادَ فَبَلَغَ صَدْرُهَا الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ وَلَمْ يَخْرُجْ ذَنَبُهَا بَعْدُ» . وَقَالَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: تَمُرُّ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَالنَّاسُ يَنْظُرُونَ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا ثُلُثُهَا. وَقَالَ كَعْبٌ: صُورَتُهَا صُورَةُ حِمَارٍ. وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: تَخْرُجُ الدَّابَّةُ لَيْلَةَ جَمْعٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَالنَّاسُ يَسِيرُونَ إلَى مِنًى فَتَخْرُجُ عَلَى النَّاسِ بِذَنَبِهَا وَعَجُزِهَا فَلَا يَبْقَى مُنَافِقٌ إلَّا خَطَمَتْهُ وَلَا مُؤْمِنٌ إلَّا مَسَحَتْهُ وَتَجْزَعُ النَّاسَ وَهُوَ الْمُرَادُ بِتَكْلُمُهُمْ بِفَتْحِ التَّاءِ وَتَخْفِيفِ اللَّام مِنْ الْكَلْمِ وَهُوَ الْجُرْحُ وَقُرِئَ تُكَلِّمُهُمْ مِنْ الْكَلَامِ، وَاخْتُلِفَ فِي كَلَامِهَا فَقِيلَ بِبُطْلَانِ الْأَدْيَانِ إلَّا دِينَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ تَقُولُ: يَا فُلَانٌ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَيَا فُلَانٌ أَنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَقِيلَ تَقُولُ: {أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ} [النمل: 82] بِخُرُوجِي وَتَخْرُجُ وَمَعَهَا عَصَى مُوسَى وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَتَجْلُو وَجْهَ الْمُؤْمِنِ بِالْعَصَا وَتَخْطِمُ وَجْهَ الْكَافِرِ بِالْخَاتَمِ، وَخُرُوجُهَا عَلَى النَّاسِ يَكُونُ ضُحًى، وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّ لَهَا ثَلَاثَ خَرَجَاتٍ: خَرْجَةٌ بِأَقْصَى الْيَمَنِ فَيَفْشُو ذِكْرُهَا فِي الْبَادِيَةِ وَلَا يَدْخُلُ ذِكْرُهَا مَكَّةَ ثُمَّ تَمْكُثُ زَمَانًا طَوِيلًا، وَخَرْجَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ مَكَّةَ فَيَفْشُو ذِكْرُهَا فِي الْبَادِيَةِ وَبِمَكَّةَ، وَخَرْجَةٌ بَيْنَمَا عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَمَعَهُ الْمُسْلِمُونَ إذْ تَهْتَزُّ الْأَرْضُ تَحْتَهُمْ وَيَنْشَقُّ الصَّفَا مِمَّا يَلِي الْمَشْعَرَ فَيَخْرُجُ رَأْسُ الدَّابَّةِ مِنْ الصَّفَا تَجْرِي الْفَرَسُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَا خَرَجَ ثُلُثُهَا وَبَعْدَ تَكَامُلِ خُرُوجِهَا تَمَسُّ رَأْسُهَا السَّحَابَ وَرِجْلَاهَا فِي الْأَرْضِ» فَسُبْحَانَ الْقَادِرِ الْحَكِيمِ. 1 - الْفَائِدَةُ الثَّانِيَةُ: فِي صِفَةِ الدَّجَّالِ وَبَيَانِ الْمَوْضِعِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ وَأَتْبَاعِهِ مِنْ النَّاسِ وَعَلَامَةِ خُرُوجِهِ، وَفِي بَيَانِ جَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَمَسِيرِهِ فِي الْأَرْضِ وَخَبَرِ دَابَّتِهِ الْجَسَّاسَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَدْخُلُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَبَيَانِ قَتْلِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الدَّجَّالِ: هُوَ أَعْوَرُ وَإِنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ مَرْفُوعًا: «الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى جُفَالُ الشَّعْرِ، بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْفَاءِ أَيْ كَثِيرُ الشَّعْرِ، مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ، وَالْمُرَادُ أَنَّ مَعَهُ مِثْلَ الْجَنَّةِ وَمِثْلَ النَّارِ، وَيَسِيرَانِ مَعَهُ أَيْنَمَا يَسِيرُ، وَاسْمُ الدَّجَّالِ عِنْدَ الْيَهُودِ الْمَسِيحُ بْنُ دَاوُد، يَخْرُجُ فِي آخِرِ الزَّمَانِ فَيَبْلُغُ سُلْطَانُهُ الْبَرَّ وَالْبَحْرَ وَتَسِيرُ مَعَهُ الْأَنْهَارُ» . وَفِي الْحَدِيثِ: «قَبْلَ خُرُوجِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ أَوَّلُ سَنَةٍ تُمْسِكُ السَّمَاءُ ثُلُثَ قَطْرِهَا وَالْأَرْضُ ثُلُثَ نَبَاتِهَا. وَالسَّنَةُ الثَّانِيَةُ تُمْسِكُ ثُلُثَيْ قَطْرِهَا وَالْأَرْضُ ثُلُثَيْ نَبَاتِهَا، وَالسَّنَةُ الثَّالِثَةُ تُمْسِكُ الْأَرْضُ مَا فِيهَا وَتُمْسِكُ السَّمَاءُ مَا فِيهَا وَيَهْلِكُ كُلُّ ذِي ضِرْسٍ وَظِلْفٍ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الدَّجَّالُ خَارِجٌ مِنْ خَلَّةٍ بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ» . وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَخْرُجُ مِنْ أَرْضٍ بِالْمَشْرِقِ يُقَالُ لَهَا خُرَاسَانُ يَتْبَعُهُ قَوْمٌ وُجُوهُهُمْ الْمِجَانُ الْمُطَرَّقَةُ» إسْنَادُهُ صَحِيحٌ، وَالْمِجَانُ جَمْعُ مُجْنِ التُّرْسُ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَالْمِجَانُ الْأَتْرَاسُ الَّتِي أُلْبِسَتْ الْعَصَبَ شَيْئًا فَوْقَ شَيْءٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ يَتْبَعُ الدَّجَّالَ مِنْ يَهُودِ أَصْبَهَانَ سَبْعُونَ أَلْفًا عَلَيْهِمْ الطَّيَالِسَةُ. وَفِيهِ أَيْضًا مَرْفُوعًا: «يَنْفِرُ النَّاسُ مِنْ الدَّجَّالِ فِي الْجِبَالِ وَخُرُوجُ الدَّجَّالِ فِي سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَعَلَامَةُ خُرُوجِهِ فَتْحُ الْقُسْطَنْطِينِيَّة فَفَتْحُهَا مُقَدَّمٌ عَلَى خُرُوجِهِ» . وَرُوِيَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يَلْبَثُ الدَّجَّالُ فِي الْأَرْضِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا بَعْضُ الْأَيَّامِ كَسَنَةٍ وَبَعْضُهَا كَشَهْرٍ وَبَعْضُهَا كَجُمُعَةٍ وَسَائِرُ أَيَّامِهِ كَأَيَّامِكُمْ، قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا إسْرَاعُهُ فِي الْأَرْضِ؟ قَالَ: كَالْغَيْثِ اسْتَذْرَتْهُ الرِّيحُ فَيَأْتِي عَلَى قَوْمٍ فَيَدْعُوهُمْ فَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَجِيبُونَ لَهُ فَيَأْمُرُ السَّمَاءَ فَتُمْطِرُ وَيَأْمُرُ الْأَرْضَ فَتُنْبِتُ، ثُمَّ يَأْتِي الْقَوْمَ فَيَدْعُوهُمْ فَيَرُدُّونَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ فَيَنْصَرِفُ عَنْهُمْ فَيُصْبِحُونَ مُمْحِلِينَ لَيْسَ بِأَيْدِيهِمْ شَيْءٌ مِنْ أَمْوَالِهِمْ، وَيَمُرُّ بِالْخَرِبَةِ فَيَقُولُ لَهَا: أَخْرِجِي كُنُوزَك فَتَتْبَعُهُ كُنُوزُهَا كَيَعَاسِيبِ النَّحْلِ، ثُمَّ يَدْعُو رَجُلًا مُمْتَلِئًا شَبَابًا فَيَضْرِبُهُ بِالسَّيْفِ فَيَقْطَعُهُ جِزْلَتَيْنِ رَمْيَةَ الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ يَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ وَهُوَ يَضْحَكُ» . وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا «فَيَأْتِي وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ الْمَدِينَةِ فَيَنْتَهِيَ إلَى بَعْضِ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي الْمَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ خَيْرِ النَّاسِ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّك الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا عَنْك رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إنْ قَتَلْت هَذَا ثُمَّ أَحْيَيْته أَتَشُكُّونَ فِي أَمْرِي؟ فَيَقُولُونَ لَا. فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيه، فَيَقُولُ حِينَ يُحْيِيه: وَاَللَّهِ مَا كُنْت فِيك قَطُّ أَشَدُّ بَصِيرَةً مِنِّي الْآنَ، قَالَ: فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلَا يُسَلَّطُ عَلَيْهِ» . وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُد قُلْت لِأَبِي سَلَمَةَ: وَمَا الْجَسَّاسَةُ؟ قَالَ: امْرَأَةٌ تَجُرُّ شَعْرَهَا، جِلْدُهَا وَرَاءَهَا. وَفِي حَدِيثِ قَاسِمِ بْنِ أَصْبَغَ: «إنَّ لِلدَّجَّالِ حِمَارًا يَرْكَبُهُ عَرْضُ مَا بَيْنَ أُذُنَيْهِ أَرْبَعُونَ ذِرَاعًا، وَحِمَارُهُ أَعْوَرُ كَمَا هُوَ أَعْوَرُ، فَلَمْ يَكُنْ فِي قُدْرَتِهِ أَنْ يُحْسِنَ خَلْقَهُ وَلَا خَلْقَ مَرْكُوبِهِ، ثُمَّ يَنْزِلُ عِيسَى فَيَقْتُلُهُ بِحَرْبَتِهِ حَتَّى يَرَى دَمَهُ فِي الْحَرْبَةِ» . فَلَوْ كَانَ إلَهًا لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ، وَالْمُنَافِقُ يُشْبِهُهُ. وَفِي مُسْلِمٍ مَرْفُوعًا: «لَيْسَ مَنْ بَلَدٍ إلَّا سَيَطَأُ الدَّجَّالُ إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ» . وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «فَلَا يَبْقَى مَوْضِعٌ إلَّا وَيَدْخُلُهُ غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَبَلِ الطُّورِ فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ يَطْرُدُونَهُ عَنْ هَذِهِ الْمَوَاضِعِ» . وَفِي مُسْلِمٍ أَيْضًا عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: «أَنَّ عِيسَى يُدْرِك الدَّجَّالَ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ» وَلُدٌّ بِضَمِّ اللَّامِ وَشَدَّ الدَّالِ مُنْصَرِفٌ قَرْيَةٌ قَرِيبَةٌ مِنْ الْقُدْسِ. وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ الدَّجَّالَ إذَا رَأَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ فَلَوْ تَلَوَّكُهُ لَذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يُبْعَثَ كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. الْفَائِدَةُ الثَّالِثَةُ: فِي نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إلَى الْأَرْضِ وَأَنَّ نُزُولَهُ حَقٌّ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أَيْ لَيُؤْمِنَنَّ بِعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِ وَذَلِكَ عِنْدَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ آخِرَ الزَّمَانِ، وَالضَّمِيرُ فِي مَوْتِهِ قِيلَ لِلْكِتَابِ الْمَفْهُومِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَقِيلَ لِعِيسَى؛ لِأَنَّهُ يَنْزِلُ قُرْبَ السَّاعَةِ فَإِنَّهُ وَرَدَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيَنْزِلَنَّ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا عَدْلًا فَيَكْسِرُ الصَّلِيبَ وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ وَيَأْمُرُ بِتَرْكِ الْقِلَاصِ فَلَا يُسْعَى عَلَيْهَا وَتُتْرَكُ الشَّحْنَاءُ وَالتَّحَاسُدُ وَالتَّبَاغُضُ وَيَدْعُو إلَى الْمَالِ فَلَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءَ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ إذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ كَبَّرَ وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ» وَمَعْنَى كَوْنِهِ بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ أَنَّهُ لَابِسٌ ثَوْبَيْنِ مَصْبُوغَيْنِ بِوَرْسٍ ثُمَّ بِزَعْفَرَانٍ، وَمَهْرُودَتَانِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ، وَالْجُمَانُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ حَبَّاتٌ مِنْ الْفِضَّةِ تُصْنَعُ عَلَى هَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ، وَالْمُرَادُ يَتَحَدَّرُ مِنْهُ الْمَاءُ عَلَى هَيْئَةِ اللُّؤْلُؤِ فِي صَفَائِهِ، وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُتَّبِعٌ لِهَذِهِ الشَّرِيعَةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ لَيْسَ بِصَاحِبِ شَرِيعَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ عِنْدَ نُزُولِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَحْكُمُ بِشَرِيعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ كَانُوا يَعْلَمُونَ فِي أَزْمَانِهِمْ بِجَمِيعِ شَرَائِعِ مَنْ قَبْلَهُمْ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالْوَحْيِ وَبِالْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ عَلَيْهِمْ، لِمَا وَرَدَ فِي الْأَحَادِيثِ مِنْ أَنَّ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَشَّرَ أُمَّتَهُ بِمَجِيءِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ وَأَخْبَرَهُ بِجُمْلَةٍ مِنْ شَرِيعَتِهِ يَأْتِي بِهَا تُخَالِفُ شَرِيعَتَهُ، وَأَيْضًا عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَا يُقَصِّرُ عَنْ رُتْبَةِ الِاجْتِهَادِ الْمُطْلَقِ وَاسْتِنْبَاطِ أَحْكَامٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَمِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ وَيُولَدُ لَهُ وَيَحُجُّ لِتَحْقِيقِ التَّبَعِيَّةِ ثُمَّ يَمُوتُ وَيُدْفَنُ فِي رَوْضَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصَاحِبَيْهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَالنَّاسُ فِي زَمَانِهِ فِي أَمْنٍ وَخَصْبٍ. وَرَوَى مُسْلِمٌ «أَنَّهُ يُقَالُ لِلْأَرْضِ: أَنَبْتِي ثَمَرَتَكِ فَيَوْمَئِذٍ تَأْكُلُ الْعِصَابَةُ مِنْ الرُّمَّانَةِ وَيَسْتَظِلُّونَ بِقِحْفِهَا بِكَسْرِ الْقَافِ وَهُوَ قِشْرُهَا الشَّبِيهُ بِقِحْفِ الرَّأْسِ، وَيُبَارَكُ فِي اللَّبَنِ حَتَّى أَنَّ النَّاقَةَ لَتَكْفِي الْجَمَاعَةَ الْكَثِيرَةَ مِنْ النَّاسِ، وَيَقَعُ الْأَمْنُ فِي زَمَنِهِ فِي الْأَرْضِ، يَرْعَى الْأَسَدُ مَعَ الْإِبِلِ، وَالنَّمِرُ مَعَ الْبَقَرِ، وَالذِّئْبُ مَعَ الْغَنَمِ، وَيَلْعَبُ الصِّبْيَانُ بِالْحَيَّاتِ وَلَا يُصَابُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، وَيَتَسَلَّمُ الْأَمْرَ مِنْ الْمَهْدِيِّ، وَيَكُونُ الْمَهْدِيُّ مَعَ أَصْحَابِ الْكَهْفِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْمَهْدِيِّ مِنْ جُمْلَةِ أَتْبَاعِهِ، وَيُصَلِّي عِيسَى وَرَاءَ الْمَهْدِيِّ صَلَاةَ الصُّبْحِ وَذَلِكَ لَا يَقْدَحُ فِي قَدْرِ نُبُوَّتِهِ، وَيُسَلِّمُ الْمَهْدِيُّ لِعِيسَى الْأَمْرَ، وَيُقْتَلُ الدَّجَّالُ، وَيَمُوتُ الْمَهْدِيُّ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَنْتَظِمُ الْأَمْرُ كُلُّهُ لِعِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ بَعْدَ نُزُولِهِ أَرْبَعِينَ سَنَةً ثُمَّ يَمُوتُ وَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، وَقِيلَ يَمْكُثُ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ نُزُولِهِ لَيْسَ يَبْقَى بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ الرِّيحَ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ» . وَسُئِلَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - عَنْ حَيَاةِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَقَرِّهِ وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ فَقَالَ: فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ بَلْ هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَسَبَبُ رَفْعِهِ إلَى السَّمَاءِ أَنَّ الْيَهُودَ كَذَّبَتْهُ وَآذَتْهُ وَهَمَّتْ بِقَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللَّهُ تَعَالَى، وَاجْتَمَعَ بِالْمُصْطَفَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَاسْتَمَرَّ فِيهَا حَتَّى يَنْزِلَ آخِرَ الزَّمَانِ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيِّ دِمَشْقَ وَاضِعًا يَدَيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ وَيَكُونُ نُزُولُهُ عِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَيَقُولُ لَهُ أَمِيرُ النَّاسِ وَهُوَ الْمَهْدِيُّ: تَقَدَّمْ يَا رُوحَ اللَّهِ فَصَلِّ بِنَا، فَيَقُولُ: إنَّكُمْ مَعْشَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ أُمَرَاءُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ تَقَدَّمْ فَصَلِّ بِنَا، فَيُصَلِّي بِهِمْ الْمَهْدِيُّ؟ فَإِذَا انْصَرَفَ يَأْخُذُ عِيسَى حَرْبَتَهُ وَيَتْبَعُ الدَّجَّالَ فَيَقْتُلُهُ عِنْدَ بَابِ لُدٍّ الشَّرْقِيِّ وَيَحْكُمُ بِشَرِيعَتِنَا، وَيُقِيمُ سَبْعَ سِنِينَ وَقِيلَ أَرْبَعِينَ سَنَةً وَجُمِعَ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْأَرْبَعِينَ مَجْمُوعُ لُبْثِهِ فِي الْأَرْضِ قَبْلَ الرَّفْعِ وَبَعْدَهُ فَإِنَّهُ رُفِعَ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ سَنَةً. وَسُئِلَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ هَلْ يَنْزِلُ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ بَعْدَ نُزُولِهِ مِنْ السَّمَاءِ أَمْ لَا؟ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ: «فَأَوْحَى اللَّهُ إلَى عِيسَى أَنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا» . . . إلَخْ فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي نُزُولِ جِبْرِيلَ إلَيْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 مَنْ يَمُوتُ، كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ. ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ ضَاعَفَ لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ الْحَسَنَاتِ. ، وَصَفَحَ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كِبَارِ   [الفواكه الدواني] وَأَمَّا حَدِيثُ الْوَفَاةِ مِنْ قَوْلِهِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: هَذَا آخِرُ وَطْأَتِي فِي الْأَرْضِ فَضَعِيفٌ، وَنَقَلَ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ أَنَّ عِيسَى نَزَلَ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ الرَّفْعِ فِي حَيَاةِ أُمِّهِ وَخَالَتِهِ فَسَكَّنَ أَلَمَهُمَا بِإِخْبَارِهِمَا بِحَالِهِ ثُمَّ رُفِعَ حَتَّى يَنْزِلَ آخِرَ الزَّمَانِ. وَسُئِلْت عَنْ حَالِهِ فِي السَّمَاءِ هَلْ كَانَ مُكَلَّفًا أَمْ لَا؟ فَأَجَبْت بِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ السُّيُوطِيّ: هُوَ مُلَازِمٌ لِلتَّسْبِيحِ كَالْمَلَائِكَةِ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَالْحِكْمَةُ فِي نُزُولِ عِيسَى دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الرَّدُّ عَلَى الْيَهُودِ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ قَتَلُوهُ فَبَيَّنَ اللَّهُ كَذِبَهُمْ، وَقِيلَ لِأَجْلِ أَنْ يُدْفَنَ فِي الْأَرْضِ؛ لِأَنَّ مَا خُلِقَ مِنْ الْأَرْضِ لَا يُدْفَنُ فِي السَّمَاءِ. 1 - الْفَائِدَةُ الرَّابِعَةُ: فِي خُرُوجِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ بِالْهَمْزِ وَدُونِهِ فِيهِمَا وَهُمَا قَبِيلَتَانِ مِنْ وَلَدِ يَافِثِ بْنِ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَهُمَا مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. رَوَى مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ: «أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُوحِي إلَى عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ قَتْلِهِ الدَّجَّالَ أَنِّي قَدْ أَخْرَجْت عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ يُقَاتِلُهُمْ فَحَرِّزْ عِبَادِي إلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ أَيْ مِنْ كُلِّ نَشْرٍ يَمْشُونَ مُسْرِعِينَ، فَيَمُرُّ أَوَائِلُهُمْ عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَاءَهَا وَهِيَ بِالشَّامِ طُولُهَا عَشَرَةُ أَمْيَالٍ، وَيَمُرُّ آخِرُهُمْ فَيَقُولُ: لَقَدْ كَانَ بِهَذِهِ أَثَرُ مَاءٍ، وَيَحْصُرُونَ عِيسَى وَأَصْحَابَهُ حَتَّى يَكُونَ رَأْسُ الثَّوْرِ لِأَحَدِهِمْ خَيْرًا مِنْ مِائَةِ دِينَارٍ لِأَحَدِكُمْ، فَيَرْغَبُ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَيُرْسِلُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ النَّغَفَ فِي رِقَابِهِمْ فَيُصْبِحُونَ فَرْسَى كَمَوْتِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، ثُمَّ يَهْبِطُ نَبِيُّ اللَّهِ عِيسَى وَأَصْحَابُهُ إلَى الْأَرْضِ فَلَا يَجِدُونَ فِي الْأَرْضِ مَوْضِعَ شِبْرٍ إلَّا مَلَأَتْهُ زَهَمَتُهُمْ، فَيَرْغَبُ إلَى اللَّهِ نَبِيُّ اللَّهِ وَأَصْحَابُهُ فَيُرْسِلُ اللَّهُ طَيْرًا كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ فَتَحْمِلُهُمْ فَتَطْرَحُهُمْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ تَعَالَى مَطَرًا لَا يَكُنُّ مِنْهُ بَيْتُ مَدَرٍ وَلَا وَبَرٍ فَيَغْسِلُ الْأَرْضَ حَتَّى يَتْرُكَهَا كَالزَّلَفَةِ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ أَنْبِتِي ثَمَرَتَك. . .» الْحَدِيثُ. وَقَوْلُهُ: لَا يَدَانِ لِأَحَدٍ تَثْنِيَةُ يَدِهِ وَمَعْنَاهُ لَا قُدْرَةَ وَلَا طَاقَةَ، وَمَعْنَى حَرِّزْهُمْ إلَى الطُّورِ ضُمَّهُمْ إلَيْهِ وَاجْعَلْ لَهُمْ حِرْزًا. وَقَوْلُهُ: النَّغَفُ هُوَ بِتَحْرِيكِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الدُّودُ الَّذِي يَكُونُ فِي أُنُوفِ الْإِبِلِ وَالْغَنَمِ، وَقَوْلُهُ: فَرْسَى كَقَتْلَى وَزْنًا وَمَعْنًى وَوَاحِدُهُ فَرِيسٌ. وَفِي الثَّعْلَبِيِّ مِنْ حَدِيثِ حُذَيْفَةَ «قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ؟ قَالَ: أُمَمٌ كُلُّ أُمَّةٍ أَرْبَعُمِائَةِ أَلْفٍ لَا يَمُوتُ الرَّجُلُ حَتَّى يَرَى أَلْفَ عَيْنٍ تَطُوفُ بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ صُلْبِهِ وَهُمْ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، فَيَسِيرُونَ إلَى خَرَابِ الدُّنْيَا فَيَشْرَبُونَ الْفُرَاتَ وَالدَّجْلَةَ وَبُحَيْرَةَ طَبَرِيَّةَ وَبَيْتَ الْمَقْدِسِ فَيَقُولُونَ: قَدْ قَتَلْنَا أَهْلَ الدُّنْيَا فَقَاتِلُوا مَنْ فِي السَّمَاءِ فَيَرْمُونَ بِنُشَّابِهِمْ إلَى السَّمَاءِ فَيَرُدُّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ نُشَّابَهُمْ مُحْمَرًّا دَمًا» . وَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ الدَّجَّالَ يَقْتُلُهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ فَيَخْرُجُ بَعْدَهُ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ فَيَقْتُلُونَ مِنْ اتَّبَعَ الدَّجَّالَ الَّذِي قَتَلَهُ عِيسَى وَيَتَحَصَّنُ عِيسَى وَمَنْ مَعَهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ فَيُسَلِّطُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ دَاءً فِي أَعْنَاقِهِمْ فَيَمُوتُونَ كَمَوْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ» . 1 - الْفَائِدَةُ الْخَامِسَةُ: فِي الدُّخَانِ وَالرِّيحِ الَّتِي تَقْبِضُ أَرْوَاحَ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا تَقُومُ إلَّا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ} [الدخان: 10] الْآيَةُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: هُوَ دُخَانٌ قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ يَدْخُلُ فِي أَسْمَاعِ الْكُفَّارِ وَالْمُنَافِقِينَ وَيَعْتَرِي الْمُؤْمِنِينَ كَهَيْئَةِ الزُّكَامِ وَتَكُونُ الْأَرْضُ كُلُّهَا كَبَيْتٍ أُوقِدَ فِيهِ لَيْسَ فِيهِ خُصَاصٌ. وَفِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلَّ مُسْلِمٍ وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ» . وَفِيهِ أَيْضًا: «تَقُومُ السَّاعَةُ وَالرَّجُلُ يَحْلُبُ اللِّقْحَةَ فَلَا يَصِلُ الْإِنَاءُ إلَى فِيهِ، وَالرَّجُلَانِ يَتَبَايَعَانِ الثَّوْبَ فَلَا يَتَبَايَعَانِهِ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، وَالرَّجُلُ يَلِيطُ حَوْضَهُ فَلَا يَصْدُرُ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ» . وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّاعَةَ بِمَعْنَى الْقِيَامَةِ وَانْقِرَاضُ الدُّنْيَا وَفَنَائِهَا حَقٌّ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الَّذِي يَمُوتُ لَا يَعُودُ قَالَ: (وَأَنَّ اللَّهَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِتَمَامِ قُدْرَتِهِ (يَبْعَثُ) أَيْ يُحْيِي كُلَّ (مَنْ يَمُوتُ) وَلَوْ حُرِّقَ وَذُرِّيَ فِي الْهَوَاءِ؛ لِأَنَّ الْبَعْثَ إعَادَةُ مَا عَدِمِ بَعْدَ وُجُودِهِ مِثْلُ مَا كَانَ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ حَقِيقَةِ إعَادَةِ جَمِيعِ الْعِبَادِ بَعْدَ إحْيَائِهِمْ بِأَجْزَائِهِمْ الْأَصْلِيَّةِ الَّتِي مِنْ شَأْنِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْبَقَاءُ مِنْ أَوَّلِ الْعُمُرِ إلَى آخِرِهِ كَالْعِظَامِ وَالْأَعْصَابِ وَسَوْقِهِمْ إلَى مَحْشَرِهِمْ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَهُمْ لِثُبُوتِ ذَلِكَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ السَّلَفِ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُمْكِنَاتِ الَّتِي أَخْبَرَ بِهَا الشَّارِعُ، أَمَّا الْإِمْكَانُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَلِمَا تَوَاتَرَ مِنْ الْأَخْبَارِ بِهِ، وَأَمَّا الْكِتَابُ فَقَدْ وَرَدَ فِي أَخْبَارٍ كَثِيرَةٍ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْوِيلَ مِثْلُ: {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] . {فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ} [يس: 51] {فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] ، {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] ، {يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا} [ق: 44] ، {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] ، {كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] : {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] . (وَالْحَاصِلُ) أَنَّ الْبَعْثَ مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الدِّينِ، فَإِنْكَارُهُ كُفْرٌ وَهُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ مَنْ يُحَاسَبُ وَغَيْرِهِ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ، وَصَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِمَنْ يُجَازَى، وَالْبَعْثُ وَالنُّشُورُ عِبَارَةٌ عَنْ شَيْءٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْقُبُورِ بَعْدَ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ الْأَصْلِيَّةِ وَإِعَادَةِ الْأَرْوَاحِ إلَيْهَا، وَأُطْلِقَ عَلَى إحْيَاءِ الْأَمْوَاتِ نُشُورًا لِانْتِشَارِهَا مِنْ قُبُورِهَا يَوْمَ حَشْرِهَا، وَبِتَقَيُّدِ الْأَجْزَاءِ بِالْأَصْلِيَّةِ سَقَطَ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى ذَلِكَ لَوْ أَكَلَ إنْسَانٌ إنْسَانًا وَصَارَ جُزْءًا مِنْ أَجْزَائِهِ أَنَّهُ يَعُودُ بِغَيْرِ جَسَدِهِ الْأَوَّلِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْمُعَادَ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ لَا الْفَضْلِيَّةُ، فَالْمُعَادُ فِي الْآكِلِ وَالْمَأْكُولِ الْأَجْزَاءُ الْأَصْلِيَّةُ هَكَذَا قَالُوا، وَأَقُولُ: لَا حَاجَةَ إلَى هَذَا كُلِّهِ لِاسْتِحَالَةِ نَقْلِ جُزْءٍ مِنْ جِسْمٍ إلَى غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا الْحَاصِلُ لِلْأَكْلِ بَعْدَ الْأَكْلِ لِأَجْزَاءِ غَيْرِهِ النَّمَاءُ فِي جَسَدِهِ بِسَبَبِ الْأَكْلِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ صَيْرُورَةُ أَجْزَاءِ الْمَأْكُولِ أَجْزَاءَ الْآكِلِ. أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّخْصَ يَأْكُلُ الثَّمَرَ وَالْخُبْزَ وَلَا يَصِيرُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا جُزْءًا لَهُ، فَتَدَبَّرْهُ يَدْفَعُ عَنْك الْإِشْكَالَ الْمَذْكُورَ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِنَا بَعْدَ جَمْعِ الْأَجْزَاءِ وَإِعَادَةِ الرُّوحِ إلَيْهَا الرَّدُّ عَلَى الْفَلَاسِفَةِ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّمَا تُعَادُ الْأَرْوَاحُ دُونَ الْأَجْسَادِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَادَ بِمَعْنَى الْعَوْدِ الْجُسْمَانِيِّ وَالرُّوحَانِيِّ مِمَّا أَجْمَعَ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ، فَيُعْدِمُ اللَّهُ الذَّوَاتَ ثُمَّ يُعِيدُهَا لِلْجَزَاءِ، وَلَكِنْ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِالْمَعَادِ الْجُسْمَانِيِّ فِي مَعْنَاهُ فَالصَّحِيحُ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ أَنَّ اللَّهَ يُعْدِمُ الذَّوَاتَ بِالْكُلِّيَّةِ ثُمَّ يُعِيدُهَا، وَقِيلَ: يُفَرِّقُ الْأَجْزَاءَ الْأَصْلِيَّةَ ثُمَّ يُرَكِّبُهَا مَرَّةً أُخْرَى، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَيْنِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ: وَقُلْ يُعَادُ الْجِسْمُ بِالتَّحْقِيقِ ... عَنْ عَدَمٍ وَقِيلَ عَنْ تَفْرِيقٍ ، وَالْجِسْمَانُ بِكَسْرِ الْجِيمِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ نِسْبَةٌ إلَى الْجِسْمِ الَّذِي هُوَ الْبَدَنُ وَأَنْكَرَهُمَا الْمُلْحِدَةُ وَالدَّهْرِيَّةُ، وَتَقَدَّمَ مَا يَدُلُّ عَلَى حَقِّيَّتِهِ مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّأْوِيلَ. وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَدِلَّتِهِ قِيَاسَ الْإِعَادَةِ عَلَى الِابْتِدَاءِ بِقَوْلِهِ: (كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ) يَعْنِي كَمَا أَنْشَأَهُمْ مِنْ الْعَدَمِ إلَى الْوُجُودِ كَذَلِكَ يُنْشِئُهُمْ بَعْدَ مَوْتِهِمْ إلَى الْحَشْرِ لِلْجَزَاءِ، إذْ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْإِعَادَةِ وَالِابْتِدَاءِ بَلْ الْإِعَادَةُ أَهْوَنُ مِنْ الِابْتِدَاءِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أَيْ هَيِّنٌ، وَالتِّلَاوَةُ: {كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ} [الأعراف: 29] فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُشَابِهٌ لِلْآيَةِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْ الْمُصَنِّفِ لِرِوَايَةِ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلِاتِّفَاقِ عَلَى حُرْمَتِهِ، وَشَبَّهَ الْإِعَادَةَ بِالِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّ الِابْتِدَاءَ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ أَحَدٌ، وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} [يس: 81] . وَمِنْ الْأَدِلَّةِ أَيْضًا قِيَاسُ الْإِعَادَةِ عَلَى إحْيَاءِ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْمَطَرِ، الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُحْيِي الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19] وَمِنْهَا إخْرَاجُ النَّارِ مِنْ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ، الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] إلَى قَوْلِهِ: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80] . تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى إعَادَةِ الذَّوَاتِ وَسَكَتَ عَنْ إعَادَةِ أَعْرَاضِهَا وَأَزْمَانِهَا وَفِيهِ خِلَافٌ، رَجَّحَ جَمَاعَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إعَادَةَ أَعْيَانِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي كَانَتْ قَائِمَةً بِالْأَجْسَادِ فِي حَالَةِ حَيَاتِهَا تُعَادُ بِأَشْخَاصِهَا، لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ مَا يَطُولُ بَقَاءُ نَوْعِهِ كَالْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ، وَمَا لَا يَطُولُ كَالْأَصْوَاتِ، كَمَا لَا فَرْقَ بَيْنَ مَا كَانَ مَقْدُورًا لِلشَّخْصِ كَالضَّرْبِ وَالْقِيَامِ وَغَيْرِهِ كَالْعِلْمِ وَالْجَهْلِ وَالطُّولِ وَالْقِصَرِ، وَرَجَّحُوا أَيْضًا إعَادَةَ جَمِيعِ أَزْمِنَتِهَا الَّتِي مَرَّتْ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا تَبَعًا لِلذَّوَاتِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُعِيدُ الْأَجْسَامَ بِأَزْمِنَتِهَا وَأَوْقَاتِهَا كَمَا تُعَادُ بِأَكْوَانِهَا وَهَيْئَتِهَا، لِوُرُودِ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا} [النساء: 56] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَيْرِيَّةِ بِحَسَبِ الزَّمَانِ، وَإِلَّا فَالْجُلُودُ هِيَ الْأُولَى بِأَعْيَانِهَا إذْ هِيَ الَّتِي عَصَتْ، فَيُعَادُ تَأْلِيفُهَا إذَا تَفَرَّقَتْ وَأَعْيَانُهَا إذَا عَدِمَتْ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَعَا بِرَدِّ الشَّمْسِ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَرُدَّتْ» فَلَوْلَا أَنَّ الْوَقْتَ يُعَادُ لَمْ تَكُنْ صَلَاتُهُ بَعْدَ رَدِّ الشَّمْسِ أَدَاءً وَلَمْ يَكُنْ لِلرَّدِّ فَائِدَةٌ. عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لِحَبْسِهِ نَفْسَهُ فِي حَاجَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعَصْرِ فَصَلَّاهَا بَعْدَ رَدِّهَا أَدَاءً، وَالْقَوْلُ الثَّانِي يَمْنَعُ إعَادَتَهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْمُنَافِيَاتِ كَالْمَاضِي وَالْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَأَجَابَ صَاحِبُ الرَّاجِحِ بِأَنَّ الْإِعَادَةَ عَلَى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ حَسْبَمَا مَرَّتْ فِي الدُّنْيَا لَا دَفْعِيَّةٌ، وَنَظِيرُ هَذَا الْإِشْكَالِ يَأْتِي فِي إعَادَةِ الْأَعْرَاضِ؛ لِأَنَّ مِنْهَا الطُّولُ وَالْقِصَرُ وَالصِّغَرُ وَالْكِبَرُ وَالْعِلْمُ وَالْجَهْلُ وَالصِّحَّةُ وَالْمَرَضُ، وَجَوَابُ مَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ إعَادَتَهَا تَدْرِيجِيَّةٌ عَلَى حُكْمِ مَا قَامَتْ بِهِ فِي الدُّنْيَا. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: كَمَا بَدَأَهُمْ يَعُودُونَ أَنَّ الْعَبْدَ يُبْعَثُ وَيَخْسَرُ كَمَا نَزَلَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، وَجَمِيعَ مَا قُطِعَ مِنْهُ يَرْجِعُ لَهُ فِي الْقِيَامَةِ حَتَّى الْخِتَانُ، وَلَا يُقَالُ: الْمُمَاثَلَةُ لِمَا وُلِدَ يَقْتَضِي أَنْ يُبْعَثَ بِلَا أَسْنَانٍ وَلَا لِحْيَةٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ لَا يَنْقُصُ مِنْهُ شَيْءٌ مِمَّا وُلِدَ فَلَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ عَمَّا وُلِدَ بِهِ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: وَسُئِلَ بَعْضٌ عَمَّنْ قُطِعَتْ يَدُهُ فِي حَالِ إسْلَامِهِ وَارْتَدَّ وَمَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ أَتُبْعَثُ يَدُهُ أَمْ لَا؟ فَإِنْ قُلْتُمْ بِالْأَوَّلِ فَيَلْزَمُ أَنَّ الْيَدَ تَدْخُلُ النَّارَ وَلَمْ تُذْنِبْ، وَإِنْ قُلْتُمْ بِالثَّانِي فَيُخَالِفُ قَوْلَكُمْ يُبْعَثُ كَمَا وُلِدَ، فَالْجَوَابُ: إنَّا نَخْتَارُ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الْيَدَ تَابِعَةٌ لِلْبَدَنِ، وَالْعِبْرَةُ فِي الْجُزْءِ إنَّمَا هُوَ بِمَجْمُوعِ الْهَيْكَلِ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّحِيحَ عُمُومُ الْبَعْثِ حَتَّى مَنْ لَا عِقَابَ عَلَيْهِ مِنْ بَنِي آدَمَ وَلَوْ سِقْطًا حَيْثُ أُلْقِيَ بَعْدَ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي غَيْرِ الْإِنْسَانِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالصَّحِيحُ بَعْثُهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْقُرْطُبِيُّ فِي قَوْله تَعَالَى: {ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ} [الأنعام: 38] . أَيْ الْجَزَاءُ. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَتُؤَدُّنَّ الْحُقُوقَ إلَى أَهْلِهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُقَادَ لِلشَّاةِ الْجَلْحَاءِ مِنْ الشَّاةِ الْقَرْنَاءِ» فَدَلَّ بِهَذَا عَلَى أَنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا قَالَ بِهِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَأَبُو ذَرٍّ وَالْحَسَنُ وَغَيْرُهُمْ وَفِي التَّنْزِيلِ: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5] وَفِي رِوَايَةِ جَعْفَرِ بْنِ بُرْقَانَ: «يَحْشُرُ اللَّهُ الْخَلْقَ كُلَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْبَهَائِمَ وَالدَّوَابَّ وَالطَّيْرَ وَكُلَّ شَيْءٍ، مِنْ عَدْلِ اللَّهِ يَوْمِئِذٍ أَنْ يَأْخُذَ لِلْجَمَّاءِ مِنْ الْقُرَنَاءِ» ، وَسِوَى هَذَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ. لَا يُقَالُ: غَيْرُ الْإِنْسَانِ مِنْ ذَوِي الرُّوحِ لَا يَجْرِي عَلَيْهِ الْقَلَمُ فَلَا يُؤَاخَذُ. قُلْنَا: بَلْ يُؤَاخَذُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ نَظِيرِهِ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ لَا لِارْتِكَابِ ذَنْبٍ، وَجَرْيُ الْقَلَمُ إنَّمَا هُوَ لِإِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ، فَالصَّحِيحُ الْقَوْلُ بِحَشْرِ كُلِّ ذِي رُوحٍ غَيْرِ الْآدَمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْجَمَادَاتُ وَسَائِرُ مَا تَحِلُّ فِيهِ رُوحٌ فَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: لَا تُبْعَثُ اتِّفَاقًا، وَقَالَ اللَّقَانِيُّ: وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «بَعْثُ اللَّيَالِي وَالْأَيَّامِ وَالْأَشْهُرِ وَالْأَعْوَامِ لِلشَّهَادَةِ لِلْإِنْسَانِ وَعَلَيْهِ بِالطَّاعَةِ وَالْآثَامِ» فَلَعَلَّ مَا نَقَلَهُ الْأُجْهُورِيُّ مِنْ نَفْيِ الْبَعْثِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تُبْعَثُ لِلْجَزَاءِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُبْعَثُ لِلشَّهَادَةِ أَوْ لِلْقِصَاصِ فِيمَا بَيْنَهَا لِمَا رُوِيَ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ: وَيُقَادُ لِلْحَجَرِ الَّذِي رَكِبَهُ حَجَرٌ مِثْلُهُ وَمِنْ الْعُودِ الَّذِي خَدَشَ غَيْرَهُ. الرَّابِعُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ عُمُومِ الْبَعْثِ لِسَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ أَوْ الْحَيَوَانَاتِ فَقَطْ دُخُولُ الْجَنَّةِ أَوْ النَّارِ؛ لِأَنَّ دُخُولَهُمَا مِنْ خَوَاصِّ مَنْ شَأْنُهُ التَّكْلِيفُ، بَلْ بَعْدَ تَمَامِ الْقِصَاصِ عَلَى مَا مَرَّ، يَصِيرُ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمِيُّ تُرَابًا سِوَى عَشْرٌ مِنْهُ فَإِنَّهَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ: بُرَاقُ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَنَاقَةُ صَالِحٍ، وَكَبْشُ إسْمَاعِيلَ، وَعِجْلُ إبْرَاهِيمَ، وَهُدْهُدُ بِلْقِيسَ، وَنَمْلَةُ سُلَيْمَانَ، وَحِمَارُ الْعُزَيْرِ، وَكَلْبُ الْكَهْفِ، وَحُوتُ ابْنِ مَتَّى، وَبَقَرَةُ مَنْ بَرَّ أُمَّهُ فِي الرَّخَاءِ وَالْمَحَلِّ. الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ الْبَعْثِ وَبَيَّنَهَا الْعُلَمَاءُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «بِأَنَّهُ إذَا صَارَ الْعَظْمُ رَمِيمًا وَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ وَهُوَ آخِرُ سِلْسِلَةِ صُلْبِهِ فَيَأْمُرُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَطَرٍ يَنْزِلُ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ يُحْيِي اللَّهُ الْخَلَائِقَ مِنْ ذَلِكَ كَمَا كَانُوا أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَيَجْمَعُ اللَّهُ الْأَرْوَاحَ فِي قَرْنٍ مِنْ نُورٍ فِيهِ ثَقْبٌ عَلَى عَدَدِ الْخَلَائِقِ، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ إسْرَافِيلَ بِالنَّفْخِ فِي الصُّورِ مَرَّةً ثَانِيَةً وَتُسَمَّى نَفْخَةُ الْبَعْثِ فَتَخْرُجُ كُلَّ رُوحٍ مَزْعُوجَةً مِنْ قَبْرِهَا فَيُحْيِيهِمْ اللَّهُ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «مَا بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ عَامًا، الْأُولَى يُمِيتُ اللَّهُ بِهَا كُلَّ حَيٍّ، وَالْأُخْرَى يُحْيِي بِهَا اللَّهُ كُلَّ مَيِّتٍ، ثُمَّ يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ مَاءٌ وَفِي بَعْضِهَا مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ بَعْدَ فَنَائِهِمْ وَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ يُرَكَّبُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَجْزَاءِ الْجَسَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] بِقُدْرَةِ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا» . وَذَكَرَ الْقُرْطُبِيُّ: «أَنَّ النَّفْخَ فِي الصُّورِ ثَانِيًا إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ أَنْ يُرْسِلَ اللَّهُ مَاءً يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ كَمَنِيِّ الرِّجَالِ حَتَّى يَصِيرَ فَوْقَهُمْ اثْنَا عَشَرَ ذِرَاعًا، ثُمَّ يَأْمُرُ اللَّهُ الْأَجْسَادَ فَتَنْبُتُ كَنَبَاتِ الْبَقْلِ حَتَّى تَصِيرَ كَمَا كَانَتْ، يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: لِتَحْيَا حَمَلَةُ الْعَرْشِ فَيَحْيَوْنَ، ثُمَّ يَقُولُ: لِيَحْيَ جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ وَإِسْرَافِيلُ فَيَأْمُرُ اللَّهُ إسْرَافِيلَ فَيَأْخُذُ الصُّورَ ثُمَّ يَدْعُو الْأَرْوَاحَ فَيُؤْتِي بِهَا تَتَوَهَّجُ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ نُورًا وَالْأُخْرَى ظُلْمَةً فَيَأْخُذُهَا اللَّهُ تَعَالَى فَيُلْقِيَهَا فِي الصُّورِ ثُمَّ يَقُولُ لِإِسْرَافِيلَ: اُنْفُخْ نَفْخَةَ الْبَعْثِ فَتَخْرُجُ الْأَرْوَاحُ كَأَمْثَالِ النَّحْلِ قَدْ مَلَأَتْ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَيَقُولُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ -: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَتَرْجِعَنَّ كُلُّ رُوحٍ إلَى جَسَدِهَا فَتَدْخُلُ فِي الْخَيَاشِيمِ فَتَمْشِي فِي الْأَجْسَادِ كَمَشْيِ السُّمِّ فِي اللَّدِيغِ ثُمَّ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ عَنْ الْأَجْسَادِ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ رُءُوسِهِمْ كَمَا تَنْشَقُّ عَنْ رَأْسِ الْكَمْأَةِ فَتَطْرَحُهُمْ عَلَى ظَهْرِهَا، ثُمَّ يَقُومُونَ فَيُجِيبُونَ إجَابَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ قِيَامًا لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَحِينَ النَّفْخِ يَكُونُ إسْرَافِيلُ وَاقِفًا عَلَى صَخْرَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ فَيَنْفُخُ وَيَقُولُ: يَا أَيَّتُهَا الْعِظَامُ النَّخِرَةُ وَالْجُلُودُ الْمُتَمَزِّقَةُ وَالْأَشْعَارُ الْمُتَمَعِّطَةُ أَيْ السَّاقِطَةُ إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُك أَنْ تَجْتَمِعِي لِفَصْلِ الْقَضَاءِ، وَعِنْدَ انْفِلَاقِ الْأَرْضِ عَنْهُمْ وَقِيَامِهِمْ يَقُولُ الْكَافِرُ: {يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا} [يس: 52] وَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} [يس: 52] فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 53] » . السَّادِسُ: أَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَلَيْهِ الْأَرْضُ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ يُبْعَثُ وَأَوَّلُ وَارِدٍ الْمَحْشَرَ وَأَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَمَرَاتِبُ النَّاسِ فِي الْحَشْرِ مُتَفَاوِتَةٌ لِتَفَاوُتِ الْأَعْمَالِ، فَمِنْهُمْ الرَّاكِبُ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي عَلَى رِجْلَيْهِ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي عَلَى وَجْهِهِ، وَصِفَةُ كُلِّ إنْسَانٍ فِي الْمَوْقِفِ كَصِفَتِهِ الَّتِي مَاتَ عَلَيْهَا كَمَا أَجَابَ بِهِ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ حِين سُئِلَ عَنْ طُولِهِمْ فِي الْمَوْقِفِ فَأَجَابَ: بِأَنَّهُ يُحْشَرُ كُلُّ أَحَدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ثُمَّ يَكُونُونَ عِنْدَ دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ عَلَى طُولٍ وَاحِدٍ، فَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ» وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فِي صِفَةِ أَهْلِ الْجَنَّةِ «إنَّهُمْ عَلَى صُورَةِ آدَمَ وَطُولُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ سِتُّونَ ذِرَاعًا» وَفِي رِوَايَةِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ «وَفِي عَرْضِ سَبْعَةِ أَذْرُعٍ وَهُمْ أَبْنَاءُ. ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً» . (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَخُصَّتْ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةُ دُونَ غَيْرِهَا (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى (ضَاعَفَ) أَيْ كَثَّرَ إذْ التَّضْعِيفُ الزِّيَادَةُ عَلَى أَصْلِ الشَّيْءِ بِمِثْلِهِ أَوْ أَمْثَلِهِ (لِعِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ) مِنْ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ الْمُكَلَّفِ بِالْفِعْلِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ كَتْبُ حَسَنَاتِ الصَّبِيِّ بِدَلِيلِ «أَلِهَذَا حَجٌّ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا تُضَاعَفُ لَهُمْ حَسَنَاتٌ بَلْ اُخْتُلِفَ هَلْ يُكْتَبُ لَهُمْ حَسَنَاتٌ أَمْ لَا؟ وَعَلَى الْأَوَّلِ فَقِيلَ: يُجَازَوْنَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا فَقَطْ بِالْمَالِ وَصِحَّةِ الْبَدَنِ. وَقِيلَ: يُجَازَوْنَ عَلَيْهَا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمْ الْعِقَابُ الَّذِي اسْتَوْجَبُوهُ بِجِنَايَتِهِمْ غَيْرِ الْكُفْرِ؛ لِأَنَّ عَذَابَ الْكُفْرِ لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا يُفَتَّرُ وَلَا يُغْفَرُ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي ثَوَابِ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْكُفَّارِ عَلَى أَعْمَالِ الْبِرِّ الَّتِي عَمِلَهَا قَبْلَ إسْلَامِهِ هَلْ يُجَازَى عَلَيْهَا مُضَاعَفَةً أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ الْأَوَّلُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ الْمُؤْمِنِينَ شُمُولُهُ لِلْعُصَاةِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ إنَّمَا يُقَابِلُهُ الْكَافِرُ وَمَفْعُولُ ضَاعَفَ (الْحَسَنَاتِ) جَمْعُ حَسَنَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِحُسْنِ وَجْهِ صَاحِبِهَا عِنْدَ رُؤْيَتِهَا، وَالسَّيِّئَةُ كُلُّ مَا يُذَمُّ فَاعِلُهُ شَرْعًا. وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ جَزَاءُ الْحَسَنَاتِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُضَاعَفُ وَمَفْهُوم الْحَسَنَاتِ أَنَّ السَّيِّئَاتِ لَا تُضَاعَفُ بَلْ جَزَاؤُهَا بِالْمِثْلِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: فَالسَّيِّئَاتُ عِنْدَهُ بِالْمِثْلِ ... وَالْحَسَنَاتُ ضُوعِفَتْ بِالْفَضْلِ كَمَا وَرَدَ بِهِ الْقُرْآنُ وَجَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ، فَمِنْ الْقُرْآنِ قَوْله تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً} [البقرة: 245] . وَمِنْ الْأَخْبَارِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرُ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِينَ وَفِي رِوَايَةٍ إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ» . وَفِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ: «أَنَّهُ تَعَالَى فَرَضَ عَلَى الْعِبَادِ خَمْسِينَ صَلَاةً فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَرَدَّدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ وَمُوسَى حَتَّى وَقَفَ الْفَرْضُ عَلَى خَمْسٍ فَسَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: يَا مُحَمَّدُ إنِّي يَوْمَ خَلَقْت السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ فَرَضْت عَلَيْك وَعَلَى أُمَّتِك خَمْسِينَ صَلَاةً وَلَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ هِيَ خَمْسٌ بِخَمْسِينَ فَقُمْ بِهَا أَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَأُمَّتُك إنِّي قَدْ أَمْضَيْت فَرِيضَتِي وَخَفَّفْت عَنْ عِبَادِي وَأَجْزِي بِالْحَسَنَةِ عَشْرَ أَمْثَالِهَا لِكُلِّ صَلَاةٍ عَشْرُ صَلَوَاتٍ» وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ: «إنَّ اللَّهَ يُضَاعِفُ الْحَسَنَةَ إلَى أَلْفِ أَلْفِ حَسَنَةٍ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَثْرَةَ الْمُضَاعَفَةِ وَقِلَّتَهَا بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: التَّضْعِيفُ إنَّمَا هُوَ فِي الْحَسَنَاتِ الْمَفْعُولَةِ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ. فَلَوْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لِمَانِعٍ كُتِبَتْ لَهُ وَاحِدَةٌ وَجُوزِيَ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَضْعِيفٍ كَمَا لَا يَكُونُ إلَّا الْإِجْزَاءِ عِبَادَةٍ تَمَّتْ، فَلَا تَضْعِيفَ لِتَسْبِيحٍ وَخُشُوعٍ وَتَكْبِيرٍ وَقِرَاءَةٍ مِنْ رَكْعَةٍ مِنْ صَلَاةٍ قَطَعَهَا الْمُصَلِّي كَمَا حَكَى عَلَيْهِ بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي قَطْعِهَا، وَبِقَوْلِنَا: الْمَفْعُولَةُ خَرَجَتْ الْمَأْخُوذَةُ فِي نَظِيرِ الظُّلَامَةِ فَلَا تُضَاعَفُ بَلْ لَهُ ثَوَابُهَا مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ كَالْحَسَنَاتِ الْفَرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْمُضَاعَفَةَ لِلْأَصْلِيَّةِ الْمَقْبُولَةِ لِذَا قَالَ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ} [الأنعام: 160] وَلَمْ يَقُلْ مَنْ عَمِلَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْإِثَابَةَ مَعَ التَّضْعِيفِ إنَّمَا تَكُونُ مَعَ الْقَبُولِ. الثَّانِي: أَقَلُّ مَرَاتِبِ الْمُضَاعَفَةِ عَشْرَةٌ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَنَّ لَهُ إحْدَى عَشْرَةَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنَّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ لَهُ بِكُلِّ حَسَنَةٍ عَشْرَةً فَقَطْ لِأَنَّهُ جَعَلَ الْخَمْسَ صَلَوَاتٍ بِخَمْسِينَ صَلَاةً، وَقَدْ تَكُونُ الْمُضَاعَفَةُ بِخَمْسِينَ لِخَبَرٍ «مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ بِإِعْرَابِهِ. وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ فَاعْتَبَرَ بِهِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، لَا أَقُولُ أَلَمْ حَرْفٌ وَلَكِنْ أَلْفٌ حَرْفٌ وَلَامٌ حَرْفٌ وَمِيمٌ حَرْفٌ» قَالَهُ الْغَزَالِيُّ، وَالْمُرَادُ بِإِعْرَابِهِ مَعْرِفَةُ مَعَانِي أَلْفَاظِهِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْقِرَاءَةَ مَعَ اللَّحْنِ لَا تُعَدُّ قِرَاءَةً وَلَا ثَوَابَ عَلَيْهَا. وَرُوِيَ «مَنْ قَرَأَهُ بِوُضُوءٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ قَرَأَهُ فِي الصَّلَاةِ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ» ، وَلَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِ الْقِرَاءَةِ مَعَ الِاعْتِبَارِ كَالْقِرَاءَةِ عَلَى وُضُوءٍ، فَلَا مُخَالَفَةَ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ مِمَّا لَهُ الثَّوَابُ مِنْ غَيْرِ نِهَايَةٍ فِي الْمُضَاعَفَةِ، الصَّائِمُ احْتِسَابًا وَالصَّابِرُ عَلَى مَا أَصَابَهُ وَعَلَى طَاعَتِهِ وَعَلَى تَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. الثَّالِثُ: الْحِكْمَةُ فِي تَضْعِيفِ الْحَسَنَاتِ لِئَلَّا يَصِيرَ الْعَبْدُ مُفْلِسًا إذَا اجْتَمَعَ مَعَ خُصَمَائِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَتُدْفَعُ لَهُ وَاحِدَةٌ مِنْ حَسَنَاتِهِ وَتَبْقَى لَهُ تِسْعَةٌ، فَمَظَالِمُ الْعِبَادِ تُوَفَّى مِنْ أُصُولِ حَسَنَاتِهِ وَلَا تُوَفَّى مِنْ التَّضْعِيفَاتِ؛ لِأَنَّهَا فَضْلُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَتَعَلَّقُ بِهَا الْعِبَادُ بَلْ يَدَّخِرُهَا إذَا أَدْخَلَهُ الْجَنَّةَ أَثَابَهُ بِهَا. وَمِثْلَهُ حَدِيثُ: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ لَهُ إلَّا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» فَإِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ فِي مَظَالِمِ الْعِبَادِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْمَالِ، بَلْ إذَا لَمْ يَبْقَ إلَّا الصَّوْمُ يَتَحَمَّلُ اللَّهُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ، وَمِمَّا يَبْقَى لِصَاحِبِهِ كَثَوَابِ الصَّوْمِ مَا فِي عِدَّةِ الْحِصْنِ الْحَصِينِ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ لِلرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ مَنْ قَالَهَا مَعَ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ كُتِبَتْ لَهُ كَمَا قَالَهَا ثُمَّ عُلِّقَتْ بِالْعَرْشِ لَا يَمْحُوهَا ذَنْبٌ عَمِلَهُ صَاحِبُهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَخْتُومَةً كَمَا قَالَهَا» ، الرَّابِعُ: الثَّوَابُ الْمُجَازَى بِهِ عَلَى الْحَسَنَةِ يَجُوزُ أَنْ تُضَاعَفَ أَفْرَادُهُ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ فِي حَدِيثِ: «مَنْ قَالَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ كَانَتْ لَهُ عَدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ وَكُتِبَ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ وَمُحِيَ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنْ الشَّيْطَانِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ ثُمَّ تُضَاعَفُ كُلُّ حَسَنَةٍ مِنْ الْمِائَةِ بِعَشْرٍ» وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا ذَكَرْنَا، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى مَا قَالَهُ الْحَطَّابُ: إنَّ الصَّلَاةَ فِي جَمَاعَةٍ بِمِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ حَسَنَةً، فَإِنْ كَانَتْ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَبِمِائَتِي أَلْفٍ وَخَمْسِينَ أَلْفًا، وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ. الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ التَّضْعِيفَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَيْسَتْ لَهُ غَايَةٌ وَإِنْ كَانَ لَهُ أَقَلُّ. (وَ) مِمَّا مَنَّ اللَّهُ بِهِ وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُهُ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (صَفَحَ) أَيْ عَفَا عَلَى جِهَةِ التَّفَضُّلِ وَالْكَرَمِ (لَهُمْ) أَيْ عَنْهُمْ أَيْ جَمِيعِ عِبَادِهِ وَلَوْ كُفَّارًا، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ كَلَامِهِ مِنْ قَصْرِهِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (بِالتَّوْبَةِ) وَهِيَ لُغَةً الرُّجُوعُ مِنْ تَابَ يَتُوبُ إذَا رَجَعَ يُسْتَعْمَلُ فِعْلَهَا بِالتَّاءِ الْمُثَنَّاةِ فَوْقَ وَبِالْمُثَلَّثَةِ وَبِالنُّونِ وَبِالْهَمْزِ مِنْ أَوَّلِهِ فَيُقَالُ: تَابَ وَثَابَ وَنَابَ وَأَنَابَ وَآبَ إذَا رَجَعَ وَيُسْنَدُ إلَى اللَّهِ وَإِلَى الْعَبْدِ. قَالَ تَعَالَى: {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه: 122] ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا. فَإِذَا أُسْنِدَ إلَى الْعَبْدِ أُرِيدَ بِهِ رُجُوعُهُ عَنْ الزَّلَّةِ إلَى النَّدَمِ، وَإِذَا أُسْنِدَ إلَى اللَّهِ أُرِيدَ بِهِ رُجُوعُ لُطْفِهِ وَنِعْمَتِهِ إلَى عَبْدِهِ، وَحَقِيقَتُهَا اصْطِلَاحًا وَشَرْعًا النَّدَمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ مِنْ حَيْثُ هِيَ مَعْصِيَةٌ مَعَ عَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ إلَيْهَا إذَا قَدَرَ، فَمَنْ نَدِمَ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ الصُّدَاعِ أَوْ لِإِضَاعَةِ الْمَالِ لَمْ يَكُنْ تَائِبًا، وَقَوْلُنَا مَعَ عَزْمِ أَنْ لَا يَعُودَ زِيَادَةُ تَقْرِيرٍ؛ لِأَنَّ النَّادِمَ عَلَى الْأَمْرِ لَا يَكُونُ إلَّا كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «النَّدَمُ تَوْبَةٌ» وَقَوْلُنَا إذَا قَدَرَ لِأَنَّ مَنْ سُلِبَ الْقُدْرَةَ عَلَى الزِّنَا مَثَلًا وَانْقَطَعَ طَمَعُهُ مِنْ عَوْدِ الْقُدْرَةِ إلَيْهِ فَيَكْفِي فِي تَوْبَتِهِ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَتَصِحُّ تَوْبَتُهُ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْآمِدِيِّ، وَأَمَّا النَّدَمُ لِخَوْفِ النَّارِ أَوْ لِلطَّمَعِ فِي الْجَنَّةِ فَهَلْ يَكُونُ تَوْبَةً فِيهِ تَرَدُّدٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ هَلْ يَكُونُ نَدَمًا عَلَيْهَا لِقُبْحِهَا مَعَ غَرَضٍ آخَرَ، وَالْحَقُّ أَنَّ جِهَةَ الْقُبْحِ إنْ كَانَتْ بِحَيْثُ لَوْ انْفَرَدَتْ لَتَحَقَّقَ النَّدَمِ فَتَوْبَةٌ وَإِلَّا فَلَا تَكُونُ تَوْبَةً، كَمَا إذَا كَانَ الْغَرَضُ مَجْمُوعَ الْأَمْرَيْنِ، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي قَبُولِ التَّوْبَةِ عِنْدَ الْمَرَضِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبُولُهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ عَلَامَاتُ الْمَوْتِ. وَحَقِيقَةُ النَّدَمِ تَحَزُّنٌ وَتَوَجُّعٌ عَلَى الْفِعْلِ وَتَمَّنِي كَوْنَهُ لَمْ يَقَعْ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ: التَّوْبَةُ مَا اسْتَجْمَعَ ثَلَاثَةَ شُرُوطٍ: أَنْ يُقْلِعَ عَنْ الْمَعْصِيَةِ وَأَنْ يَنْدَمَ عَلَى فِعْلِهَا وَأَنْ يَعْزِمَ عَزْمًا جَازِمًا أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مِثْلِهَا أَبَدًا ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَعْصِيَةُ تَتَعَلَّقُ بِآدَمِيٍّ فَلَهَا شَرْطٌ رَابِعٌ وَهُوَ رَدُّ الْمَظَالِمِ إلَى أَهْلِهَا أَوْ تَحْصِيلُ الْبَرَاءَةِ مِنْهُ وَأَصْلُهَا النَّدَمُ وَهُوَ رُكْنُهَا الْأَعْظَمُ، وَإِذَا لَمْ يَرُدَّ الْمَظَالِمَ مَعَ الْإِمْكَانِ فَصَحَّحَ الْإِمَامُ تَوْبَتَهُ مَعَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ إنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَدِّ الْمَظَالِمِ إلَى أَهْلِهَا، فَإِنْ عَجَزَ لِفَقْدِهِ أَوْ لِغَيْبَةِ صَاحِبِهَا أَوْ مَوْتِهِ يَبْرَأُ بِتَصَدُّقِهِ بِهِ عَنْهُ إنْ أَمْكَنَهُ وَإِلَّا فَعَلَيْهِ بِتَكْثِيرِ حَسَنَاتِهِ وَالتَّضَرُّعِ إلَيْهِ أَنْ يُرْضِيَ عَنْهُ خَصْمَهُ، وَمِنْ الْقَتْلِ بِتَمْكِينِهِ نَفْسَهُ مِنْ الْقِصَاصِ. وَفِي الْغِيبَةِ وَالشَّتْمِ وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّبْدِيعِ بِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ عِنْدَهُ إنْ لَمْ يَخْشَ فِتْنَةً، وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يُشْتَرَطُ، وَعَنْ الْإِسْنَوِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ وَكَذَلِكَ السَّنُوسِيُّ فِي بَعْضِ مُؤَلَّفَاتِهِ: التَّوْبَةُ مِنْ الْغَصْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحِرَابَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَغْصُوبِ الْمَوْجُودِ الَّذِي لَمْ يَتَعَلَّقْ بِالذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لِاسْتِهْلَاكِهِ فَرَدُّ عِوَضِهِ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ مِنْ الْغَصْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَإِنَّمَا هُوَ وَاجِبٌ آخَرُ مُسْتَقِلٌّ بِنَفْسِهِ يَحْتَاجُ لِتَوْبَةٍ، وَيُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ الْإِمَامِ الْمُتَقَدِّمِ الَّذِي نَسَبَهُ لِلْجُمْهُورِ عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ قَدْ ذَهَبَتْ وَتَعَلَّقَتْ بِالذِّمَّةِ، وَأَمَّا مَعَ بَقَائِهَا فَلَا تَصِحُّ التَّوْبَةُ إلَّا بِرَدِّهَا، وَيُرَجِّحُ هَذَا مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ مِنْ تَقْرِيرِهِ إلَّا فِي شَرْحِهِ. وَلَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّتِهَا رَدُّ الْمَظَالِمِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي تَابَ مِنْهَا مِنْ الْمَظَالِمِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا مَعَ الْقُدْرَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا يَأْتِي عَنْ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ بَلْ هُوَ عَيْنُهُ وَهُوَ مَا إذَا تَابَ الْغَاصِبُ مِنْ الْغَصْبِ فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ، وَأَيْضًا لَوْ لَمْ يَرُدَّ الْأَعْيَانَ مَعَ قِيَامِهَا لَمْ يَصْدُقُ عَلَيْهِ الْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ الَّذِي هُوَ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِهَا. قَالَ فِي شَرْحِ الْمَقَاصِدِ: ثُمَّ الْمَعْصِيَةُ الَّذِي يَتُوبُ مِنْهَا إنْ كَانَتْ فِي خَالِصِ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَقَدْ يَكْفِي النَّدَمُ كَمَا فِي ارْتِكَابِ الْفِرَارِ عِنْدَ الزَّحْفِ وَتَرْكِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَقَدْ يَفْتَقِرُ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ كَتَسْلِيمِ النَّفْسِ فِي الشُّرْبِ وَتَسْلِيمِ مَا وَجَبَ فِي تَرْكِ الزَّكَاةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ لَزِمَ مَعَ النَّدَمِ رِضَا الْعَبْدُ أَوْ بَذْلُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ الذَّنْبُ ظُلْمًا كَمَا فِي الْغَصْبِ وَقَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَزِمَ إرْشَادُهُ إنْ كَانَ الذَّنْبُ إضْلَالًا لَهُ وَاعْتِذَارُهُ إلَيْهِ إنْ كَانَ إيذَاءً كَمَا فِي الْغِيبَةِ، وَلَا يَلْزَمُ تَفْصِيلُ مَا اغْتَابَهُ بِهِ إلَّا إذَا بَلَغَهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ، وَلَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ هَذَا الزَّائِدَ وَاجِبٌ آخَرُ عَنْ التَّوْبَةِ لِقَوْلِ إمَامِ الْحَرَمَيْنِ: إنَّ الْقَاتِلَ إذَا نَدِمَ مِنْ غَيْرِ تَسْلِيمِ نَفْسِهِ لِلْقِصَاصِ صَحَّتْ تَوْبَتُهُ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى، وَكَانَ مَنْعُ نَفْسِهِ مِنْ مُسْتَحِقِّ الْقِصَاصِ مَعْصِيَةً مُتَجَدِّدَةً تَسْتَدْعِي تَوْبَةً وَلَا تَقْدَحُ فِي التَّوْبَةِ مِنْ الْقَتْلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَوْبَةِ الْغَاصِبِ مِنْ غَصْبِهِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إلَّا بِرَدِّ الْمَغْصُوبِ الْمَوْجُودِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ النَّدَمُ عَلَيْهِ مَعَ إدَامَةِ الْيَدِ عَلَى الْمَغْصُوبِ فَفَرَّقَ بَيْنَ الْقَتْلِ وَالْغَصْبِ، قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: التَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ شَرْعًا عَلَى الْفَوْرِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ مُؤْمِنًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، وَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا وَلَوْ كَانَ الذَّنْبُ صَغِيرَةً، فَمَنْ أَخَّرَهَا عَصَى فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَوْبَتَانِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِمَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَتُقْبَلُ تَوْبَةُ الْكَافِرِ قَطْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ» أَيْ يَقْطَعُهُ، وَهَلْ يُشْتَرَطُ مَعَ الْإِيمَانِ النَّدَمُ عَلَى الْكُفْرِ، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ أَوَّلًا وَبِهِ قَالَ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ كُفْرَهُ مَمْحُوٌّ بِإِيمَانِهِ وَإِقْلَاعِهِ. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَأَمَّا تَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي فَقِيلَ تُقْبَلُ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا، مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى قَبُولِهَا شَرْعًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى: 25] . الثَّانِي: إذَا أَذْنَبَ التَّائِبُ هَلْ تَعُودُ عَلَيْهِ ذُنُوبُهُ أَمْ لَا؟ الصَّحِيحُ لَا تَعُودُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ عَادَ بِمَجْلِسِ التَّوْبَةِ وَلَكِنْ يُجَدِّدُ تَوْبَةً لِمَا اقْتَرَفَ، وَإِذَا تَابَ مِنْ بَعْضِ الذُّنُوبِ دُونَ بَعْضِهَا فَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَبُولَ تَوْبَتِهِ مَعَ الْإِصْرَارِ عَلَى الْبَعْضِ الْآخَرِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ إيمَانِ الْكَافِرِ مَعَ إدَامَتِهِ شُرْبَ الْخَمْرِ أَوْ الزِّنَا. الثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ تَعْيِينُ الذَّنْبِ إذَا تَابَ مِنْ الْبَعْضِ، وَتَصِحُّ التَّوْبَةُ مِنْ الذُّنُوبِ إجْمَالًا وَلَوْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ التَّعْيِينُ خِلَافًا لِبَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ تَعْيِينِ مَا اغْتَابَهُ بِهِ إذَا بَلَغَهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ مِنْهُ، وَإِنْ ذَكَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ لَيْسَ مَذْهَبًا لِلْمَالِكِيَّةِ بَلْ عِنْدَهُمْ لَا يَجِبُ التَّفْصِيلُ مَعَ الْإِبْرَاءِ مُطْلَقًا، كَمَا أَنَّ مَذْهَبَهُمْ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تُسْقِطُ الْحُدُودَ وَلَا التَّعَازِيرَ إلَّا حَدَّ الْحِرَابَةِ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَدُّهَا، وَيُسْتَحَبُّ التَّفْصِيلُ لِلْمُغْتَابِ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَحْلِيلُ حَرَامٍ بَلْ إسْقَاطٌ لِحَقِّ الْمُبْرِئِ. الرَّابِعُ: إذَا اُقْتُصَّ مِنْ الْقَاتِلِ هَلْ يَكُونُ الْقِصَاصُ بِمُجَرَّدِهِ كَفَّارَةً أَوْ لَا بُدَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 السَّيِّئَاتِ وَغَفَرَ لَهُمْ الصَّغَائِرَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ صَائِرًا إلَى مَشِيئَتِهِ   [الفواكه الدواني] مَعَهُ مِنْ التَّوْبَةِ؟ قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ أَنَّ إقَامَةَ الْحَدِّ كَفَّارَةٌ لِلذَّنْبِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ الْمَحْدُودُ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ التَّوْبَةِ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الْقِصَاصَ كَفَّارَةٌ وَمُسْقِطٌ لِحَقِّ الْمَقْتُولِ فِي الْآخِرَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: السَّاقِطُ حَقُّ الْوَلِيِّ وَحَقُّ الْمَقْتُولِ بَاقٍ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: بَلْ حَقُّهُ وَصَلَ إلَيْهِ، وَأَيُّ حَقٍّ فَإِنَّ الْمَقْتُولَ ظُلْمًا تُكَفَّرُ عَنْهُ ذُنُوبُهُ بِالْقَتْلِ بِدَلِيلِ الْحَدِيثِ الَّذِي صَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ: «السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلْخَطَايَا» وَفِي آخَرَ: «لَا يَمُرُّ الْقَتْلُ بِذَنْبٍ إلَّا مَحَاهُ وَلَوْلَا الْقَتْلُ مَا كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ» . الْخَامِسُ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ التَّوْبَةِ صُدُورُهَا قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِنَّ الْحَقَّ إنَّ مِنْ يَوْمِ الطُّلُوعُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا تُقْبَلُ تَوْبَةُ أَحَدٍ مِنْ الْكُفَّارِ إلَّا لِعُذْرٍ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «فَمِنْ يَوْمِئِذٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ» أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَهُوَ نَصٌّ فِي مَحْمَلِ النِّزَاعِ. قَالَهُ الْحَافِظُ، وَبَحْثُ الْقُرْطُبِيِّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَشَاعِرَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَاتُرِيدِيَّةِ فَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ عَدَمُ الْغَرْغَرَةِ فِي الْكَافِرِ دُونَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي فَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ وَلَوْ غَيْرَ مَعْذُورٍ، وَقَوْلُنَا فِي الْكَافِرِ إلَّا لِعُذْرٍ؛ لِأَنَّ الْمَعْذُورَ لِجُنُونٍ أَوْ صِبًا يَصِحُّ إسْلَامُهُ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ أَبْدَلَ مِنْ لَهُمْ قَوْلَهُ: (عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ) لِاشْتِمَالِهِمْ عَلَيْهَا وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ وَالْأَصْلُ عَنْ السَّيِّئَاتِ الْكَبَائِرُ وَسَيَأْتِي بَيَانُهَا، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ جَمِيعِ عِبَادِهِ بِتَرْكِ مُؤَاخَذَتِهِمْ بِذُنُوبِهِمْ بِسَبَبِ تَوْبَتِهِمْ مِنْهَا عَلَى وَجْهِ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَبَائِرَ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ، وَالْحَقُّ أَنَّ التَّكْفِيرَ لَا يَنْحَصِرُ فِي التَّوْبَةِ بَلْ يَجُوزُ عَقْلًا وَشَرْعًا أَنْ يَصْفَحَ عَنْهَا وَيُكَفِّرَهَا عَنْ عَبْدِهِ بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَلَوْ لَمْ يَتُبْ، وَإِذَا كَانَ يَصْفَحُ بِالتَّوْبَةِ عَنْ كَبَائِرِ السَّيِّئَاتِ فَصَغَائِرُهَا بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ مُكَفِّرَاتِهَا كَثِيرَةٌ وَلِذَا قَالَ: (وَغَفَرَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (لَهُمْ) الذُّنُوبَ (الصَّغَائِرَ) أَيْ سَتَرَهَا وَأَخْفَاهَا عَنْ مَلَائِكَتِهِ وَتَرَكَ مُؤَاخَذَةَ فَاعِلِهَا (بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ) قَالَ تَعَالَى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] أَيْ الصَّغَائِرَ، وَالْمُرَادُ بِاجْتِنَابِهَا مَا تَشْمَلُ التَّوْبَةَ مِنْهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا لَا مَا يَخُصُّ عَدَمَ مُقَارَفَتِهَا أَصْلًا، وَأَمَّا اجْتِنَابُهَا بَعْدَ ارْتِكَابِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ فَلَا تُغْفَرُ بِهِ الصَّغَائِرُ، فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَالْمُصَنِّفِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّغَائِرُ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ وَمُتَعَلِّقَةً بِهَا أَمْ لَا، فَمَنْ قَبَّلَ فَمًا مُحَرَّمًا عَلَيْهِ وَتَجَنَّبَ شُرْبَ الْخَمْرِ مَثَلًا غُفِرَتْ قُبْلَتُهُ خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ كَوْنَ الصَّغَائِرِ مُقَدِّمَاتٍ لِلْكَبَائِرِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا تُغْفَرُ الصَّغَائِرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ تُغْفَرُ بِنَحْوِ الصَّوْمِ وَالْوُضُوءِ وَبِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ وَالْجُمُعَةُ إلَى الْجُمُعَةِ وَرَمَضَانُ إلَى رَمَضَانَ مُكَفِّرَاتٌ لِمَا بَيْنَهُنَّ إذَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ، وَأَمَّا إذَا لَمْ تُجْتَنَبْ الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفَّرُ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا الصَّغَائِرُ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ الْمَفْعُولَةُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ» وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ عِنْدَ عَدَمِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ لَا تُكَفِّرُ الْمَذْكُورَاتُ شَيْئًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِمَا ذُكِرَ حَيْثُ لَمْ يُصِرَّ عَلَيْهَا اُجْتُنِبَتْ الْكَبَائِرُ أَمْ لَا، خِلَافًا لِمَا نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنْ جُمْهُورِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِنْ أَنَّ تَكْفِيرَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ لِلصَّغَائِرِ مَشْرُوطٌ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، فَإِنْ لَمْ تُجْتَنَبْ لَمْ تُكَفِّرْ شَيْئًا، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْحُذَّاقُ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ، وَقَدْ عَلِمْت تَأْوِيلَ الْحَدِيثِ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ كَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ فَضْلُ اللَّهِ لَا الْوُضُوءُ وَالصَّلَاةُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ مَعَ الْكَبَائِرِ لَا يُكَفَّرُ شَيْءٌ كَمَا حَرَّرَهُ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هَكَذَا قَالَهُ اللَّقَانِيُّ، وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ فِعْلُ الْحَسَنَاتِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} [هود: 114] . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا» . وَمِنْ الْمُكَفِّرَاتِ حُصُولُ الْمَصَائِبِ لِلْإِنْسَانِ، وَالْمُؤْلِمَاتِ لِمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ: «مَا مِنْ مُسْلِمٌ يُشَاكُ بِشَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً وَحَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً» . وَفِي رِوَايَةٍ: «لَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ وَصَبٌّ وَلَا نَصَبٌ حَتَّى الشَّوْكَةَ يُشَاكُهَا إلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» . فَفِي الْأَحَادِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى تَكْفِيرِ الْخَطَايَا بِالْأَمْرَاضِ وَالْأَسْقَامِ وَمَصَائِبِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا وَمَا ثَقُلَ عَلَى الْإِنْسَانِ مَشَقَّتُهُ، وَبِهَا يَحْصُلُ لِلْإِنْسَانِ رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَزِيَادَةُ حَسَنَاتٍ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ الَّذِي عَلَيْهِ جَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ، وَمُقَابِلُهُ لِبَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ تُكَفِّرُ الْخَطَايَا فَقَطْ وَلَا يَحْصُلُ بِهَا رَفْعُ دَرَجَاتٍ وَلَا كِتَابَةُ حَسَنَاتٍ، وَلَعَلَّ هَذَا الْقَائِلَ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ جَمِيعِ ذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَكْفِيرِ الْمَذْكُورَاتِ لِصَغَائِرِ الذُّنُوبِ عَامٌّ فِيمَنْ صَبَرَ عَلَيْهَا وَمَنْ لَمْ يَصْبِرْ، لَكِنَّ الصَّابِرَ يَجْتَمِعُ لَهُ التَّكْفِيرُ وَالْأَجْرُ، وَغَيْرَ الصَّابِرِ وَهُوَ الْمُتَسَخِّطُ الَّذِي لَمْ يَرْضَ بِالْقَضَاءِ قَدْ يَعُودُ عَلَيْهِ الَّذِي كُفِّرَ بِالْمُصِيبَةِ أَوْ الْمَرَضِ، وَبِمَا قَرَّرْنَا عُلِمَ أَنَّ الْحَقَّ جَوَازُ الدُّعَاءِ لِلْمَرِيضِ، وَلِكُلِّ مُصَابٍ بِنَحْوِ: جَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ لَك كَفَّارَةً لِجَوَازِ الدُّعَاءِ بِمَا عَلِمْت السَّلَامَةَ مِنْهُ، وَأَيْضًا؛ لِأَنَّ قَصْدَ الدَّاعِي أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الْمُصَابِ مَا يُخِلُّ بِثَوَابِ الْمُصِيبَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِمُجَرَّدِ اجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قَصْدِ الِامْتِثَالِ، وَإِنْ كَانَ قَصْدُ الِامْتِثَالِ يَحْصُلُ بِهِ الْخَلَاصُ مِنْ عُهْدَةِ الْكَبِيرَةِ، وَالثَّوَابُ بِخِلَافِ التَّرْكِ الْمُجَرَّدِ عَنْ قَصْدِ الِامْتِثَالِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ بِهِ الْمُكَلَّفُ مِنْ عُهْدَةِ الْكَبِيرَةِ فَقَطْ دُونَ ثَوَابِ الِامْتِثَالِ، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي تَكْفِيرِ الصَّغَائِرِ بِالِاجْتِنَابِ قَصْدَ الِامْتِثَالِ. الثَّانِي: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي انْقِسَامِ الذُّنُوبِ إلَى صَغَائِرَ وَكَبَائِرَ وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ كُلُّهَا كَبَائِرُ وَمَا سُمِّيَ مِنْهَا صَغِيرًا فَبِالنِّسْبَةِ لِمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: ثُمَّ الذُّنُوبُ عِنْدَنَا قِسْمَانِ ... صَغِيرَةٌ كَبِيرَةٌ فَالثَّانِي مِنْهُ الْمَتَابُ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ ... وَلَا انْتِقَاضَ إنْ يَعُدْ لِلْحَالِ. 1 - وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي عَدِّ الْكَبَائِرِ، وَالْحَقُّ عَدَمُ حَصْرِ الْكَبَائِرِ فِي عَدَدٍ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الِاقْتِصَارُ عَلَى السَّمْعِ فِي رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ مُسْلِمٍ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْحَشِ الْكَبَائِرِ مَعَ كَثْرَةِ وُقُوعِهَا وَمَيْلِ النَّفْسِ إلَيْهَا وَارْتِكَابِ الْمُكَلَّفِ لَهَا، وَكَمَا أَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ حَصْرِهَا بِالْعَدِّ فَالصَّحِيحُ عَدَمُ ضَبْطِهَا بِالْحَدِّ بَلْ يُعْتَمَدُ فِي ذَلِكَ عَلَى نَصِّ الْعُلَمَاءِ عَلَى التَّعْيِينِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَنُصَّ اللَّهُ عَلَى أَعْيَانِهَا لِيَكُونَ الْعَبْدُ مُمْتَنِعًا مِنْ جَمِيعِهَا مَخَافَةَ أَنْ تَكُونَ مِنْ الْكَبَائِرِ، كَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ تَرْغِيبًا لَهُ فِي انْتِظَارِهَا وَسَاعَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاسْمَ اللَّهِ الْأَعْظَمَ وَالْوَلِيَّ مِنْ النَّاسِ لِلْحِرْصِ عَلَى الدُّعَاءِ فِي كُلِّ الْيَوْمِ وَبِكُلِّ اسْمٍ مِنْ أَسْمَائِهِ، وَعَلَى الِاعْتِقَادِ فِي كُلِّ النَّاسِ. الثَّالِثُ: أَعْظَمُ الْكَبَائِرِ الْكُفْرُ وَيَلِيه قَتْلُ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، وَقِيلَ تَعَمُّدُ الْكَذِبِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِنَاءً عَلَى مَا قَالَهُ إمَامُ الْحَرَمَيْنِ مِنْ كُفْرِهِ بِالْكَذِبِ عَلَيْهِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ تَخْتَلِفُ مَرَاتِبُهُ بِحَسَبِ الْمَفَاسِدِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَيْهِ كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ فِي الْكَيْلِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَرْكِ الصَّلَاةِ جُمْلَةً وَكَذَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تَقْدِيمُهَا مِنْ غَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ، وَكَضَرْبِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ، وَسَبِّ مَنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكِيَّتِهِ مِثْلُ الْخَضِرِ وَهَارُوتَ وَمَارُوتَ، وَكِتْمَانِ الشَّهَادَةِ وَقَبُولِ الرِّشْوَةِ. وَالصَّغِيرَةُ أَفْرَادُهَا كَثِيرَةٌ وَلْنُنَبِّهْ مِنْهَا عَلَى مَا يُتَوَهَّمُ كَوْنُهُ كَبِيرَةً مَعَ كَوْنِهِ صَغِيرَةً، كَقُبْلَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَلَوْ بَهِيمَةً وَكَذِبٍ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ بِمَا لَا حَدَّ فِيهِ وَلَا إفْسَادُ بَدَنٍ وَلَا مَالٍ وَلَا ضَرُورَةَ وَهَجْرِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ تَعْرِيضًا وَهَجْرِ الْمُسْلِمِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَالنَّوْحِ وَالْجُلُوسِ مَعَ الْفَاسِقِ الَّذِي لَا يُنَاسِبُ وَالنَّجْشِ وَالِاحْتِكَارِ الْمُضِرِّ وَبَيْعِ مَا عَلِمَهُ مَعِيبًا كَاتِمًا عَيْبَهُ وَالْغِشِّ وَالْخَدِيعَةِ. وَالصَّغِيرَةُ تَنْقَلِبُ كَبِيرَةً بِالْإِصْرَارِ عَلَيْهَا وَالتَّهَاوُنِ بِهَا وَالْفَرَحِ بِهَا وَصُدُورِهَا مِنْ عَالِمٍ فَيُقْتَدَى بِهِ فِيهَا، وَحَقِيقَةُ الْإِصْرَارِ عَلَى الذَّنْبِ الْإِقَامَةُ عَلَيْهِ وَالْعَزْمُ عَلَى الْعَوْدِ إلَيْهِ. الرَّابِعُ: غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ بِالِاجْتِنَابِ الْمَذْكُورِ قَطْعِيٌّ وَقِيلَ ظَنِّيٌّ، وَعَلَى الْأَوَّلِ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُحَدِّثِينَ، وَعَلَى الثَّانِي أَئِمَّةُ الْكَلَامِ وَلِكُلٍّ دَلِيلٌ، وَيَحْصُلُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ وَلَوْ بِاجْتِنَابِ كَبِيرَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الظَّاهِرِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَرُبَّمَا يُعَارِضُهُ تَفْسِيرُ الِاجْتِنَابِ بِأَنَّهُ عَدَمُ مُفَارَقَةِ الْكَبِيرَةِ أَوْ بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْهَا إنْ صَدَرَتْ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إنْ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً وَتَابَ مِنْهَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ الِاجْتِنَابُ إنْ ارْتَكَبَ أُخْرَى وَلَمْ يَتُبْ، بَلْ الظَّاهِرُ مِنْ الْآيَةِ عَدَمُ الْإِصْرَارِ عَلَى الْكَبِيرَةِ وَلَوْ وَاحِدَةً وَحَرَّرَهُ. الْخَامِسُ: نَشَأَ سُؤَالٌ مِمَّا قَدَّمْنَا وَمِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُحَصِّلُهُ: إذَا كَانَتْ الصَّغَائِرُ تُكَفَّرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ وَالْكَبَائِرُ لَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ فَمَاذَا يُكَفِّرُهُ نَحْوُ الْوُضُوءِ؟ وَأَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ مَا قَالَهُ السَّيِّدُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ أَنَّ الذُّنُوبَ كَالْأَمْرَاضِ وَالْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ كَالْأَدْوِيَةِ، فَكَمَا أَنَّ لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَدْوِيَةِ لَا يَنْفَعُ فِي غَيْرِهِ كَذَلِكَ الْمُكَفِّرَاتُ مَعَ الذُّنُوبِ وَتَوْزِيعُ ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلَى عِلْمِ اللَّهِ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا حَدِيثُ: «إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ ذُنُوبًا لَا يُكَفِّرُهَا صَوْمٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا جِهَادٌ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهَا السَّعْيُ عَلَى الْعِيَالِ» وَأَمَّا مَنْ لَا صَغَائِرَ لَهُ وَلَا كَبَائِرَ فَيَحْصُلُ لَهُ بِهَا رَفْعُ دَرَجَاتٍ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ مَحْضُ كَبَائِرَ وَفَعَلَ بَعْضَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: فَتَنْشَطِرُ كَبَائِرُهُ، وَبَحَثَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ قَائِلًا: لَا بُدَّ لِكَبَائِرِهِ مِنْ التَّوْبَةِ إلَّا أَنْ يَتَفَضَّلَ اللَّهُ عَنْهُ بِالْعَفْوِ، وَالْقَوْلُ بِالتَّشْطِيرِ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ وَهَذَا لَا مَجَالَ لِلرَّأْيِ فِيهِ. 1 - السَّادِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّغَائِرَ تُكَفَّرُ بِالْحَسَنَاتِ وَبِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ كَالصَّلَوَاتِ وَالْحَجِّ وَهَذَا مَعَ بَقَاءِ ثَوَابِهَا الْمُرَتَّبِ عَلَيْهَا، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ التَّائِبَ عَنْ كَبَائِرِهِ يَعْفُو اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَّ الْمُجْتَنِبَ لِلْكَبَائِرِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى صَغَائِرِهِ ذَكَرَ حُكْمَ مَنْ عَمِلَ الْكَبَائِرَ غَيْرَ الْمُكَفَّرَةِ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهَا وَمَاتَ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ، وَتُعْرَفُ مَسْأَلَتُهُ بِمَسْأَلَةِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ فَقَالَ: (وَجَعَلَ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (مَنْ لَمْ يَتُبْ) مِنْ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ (مِنْ الْكَبَائِرِ صَائِرًا) أَيْ رَاجِعًا (إلَى مَشِيئَتِهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] . وَمَنْ عَاقَبَهُ بِنَارِهِ: أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهُ {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7]   [الفواكه الدواني] أَيْ إرَادَتِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَلَا يُقْطَعُ لَهُ بِعَفْوٍ وَلَا عِقَابٍ بَلْ هُوَ تَحْتَ مَشِيئَةِ اللَّهِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عُقُوبَتِهِ يُقْطَعُ لَهُ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَبِعَدَمِ الْخُلُودِ فِي النَّارِ، هَذَا مَذْهَبُ أَهْلِ الْحَقِّ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَمَنْ يَمُتْ وَلَمْ يَتُبْ مِنْ ذَنْبِهِ ... فَأَمْرُهُ مُفَوَّضٌ لِرَبِّهِ خِلَافًا لِلْمُعْتَزِلَةِ الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ لِظَاهِرِ: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 14] وَخِلَافًا لِلْمُرْجِئَةِ الْقَائِلِينَ بِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ مَعْصِيَةٌ، وَخِلَافًا لِلْخَوَارِجِ الْقَائِلِينَ بِتَخْلِيدِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَالصَّغِيرَةِ فِي النَّارِ وَلَا إيمَانَ لَهُ، وَأُجِيبَ عَمَّا تَمَسَّك بِهِ الْمُعْتَزِلَةُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْخُلُودِ طُولُ الْإِقَامَةِ لَا الدَّوَامُ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى كَوْنِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ الَّذِي لَمْ يَتُبْ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ} [النساء: 48] أَيْ لَا يَسْتُرُ الْإِشْرَاكَ (بِهِ) ؛ لِأَنَّهُ بَتَّ الْحُكْمَ عَلَى خُلُودِ عَذَابِ الْكُفْرِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ. (وَيَغْفِرُ) كَرَمًا وَفَضْلًا (مَا دُونَ ذَلِكَ) أَيْ مَا دُونَ الْكُفْرِ مِنْ الذُّنُوبِ وَلَوْ الْكَبَائِرِ (لِمَنْ يَشَاءُ) وَمَنْ أَرَادَ تَعْذِيبَهُ عَلَى مَعْصِيَةٍ فَقَرَارُهُ الْجَنَّةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ إلَّا الْكُفَّارُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَقْطَعْ لَهُ بِالْعَفْوِ لِئَلَّا تَكُونَ الذُّنُوبُ فِي حُكْمِ الْمُبَاحِ وَلَا بِالْعُقُوبَةِ لِقَوْلِهِ: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء: 48] لَكِنْ يَجِبُ اعْتِقَادُ تَعْذِيبِهِ بَعْضًا غَيْرَ مُعَيَّنٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ تَنْفِيذًا لِلْوَعِيدِ لِوُجُوبِ صِدْقِ إيعَادِهِ تَعَالَى، وَيَكْفِي تَعَوُّذُهُ وَلَوْ فِي وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الزِّنَا وَوَاحِدٍ مِنْ الْمُحَارِبِينَ، وَيَجِبُ اعْتِقَادُ إخْرَاجِهِ وَإِدْخَالِهِ الْجَنَّةَ بَعْدَ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَوَاجِبٌ تَعْذِيبُ بَعْضٍ ارْتَكَبَ ... كَبِيرَةً ثُمَّ الْخُلُودُ مُجْتَنَبْ فَالْآيَةُ مُفِيدَةٌ لِأَمْرَيْنِ: كَوْنِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ، وَالثَّانِي: عَدَمِ غُفْرَانِ الْكُفْرِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى الْغُفْرَانِ تَخَلُّفُ الْوَعِيدِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47] وَلَا شَكَّ أَنَّهُ أَوْعَدَ الْعَاصِيَ بِالْعُقُوبَةِ؛ لِأَنَّ الْعَفْوَ بَعْدَ الْإِيعَادِ بِالْعُقُوبَةِ مَحْضُ كَرْمٍ، بِخِلَافِ عَدَمِ الْوَفَاءِ بِمَا وَعَدَ بِهِ الطَّائِعَ مِنْ الثَّوَابِ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَنَزُّهُ الْبَارِي عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ بُخْلٌ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ تُكَفَّرْ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ كَالْحَدِّ وَالْحَجِّ الْمَبْرُورِ، فَإِنَّ الصَّحِيحَ فِي الْحَدِّ أَنَّهُ جَابِرٌ وَالْحَجُّ مُكَفِّرٌ حَتَّى الْكَبَائِرَ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَارَ بِلَا ذَنْبٍ، وَهَذَا كَالصَّرِيحِ فِي غَفْرِ الْكَبَائِرِ سِوَى مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ مِنْ زِنًا وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ لَا يُسْقِطُهَا حَجٌّ وَلَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْمُكَفِّرَاتِ إنَّمَا تُسْقِطُ إثْمَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَلَعَلَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ: وَجَعَلَ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مُكَفِّرٌ لَهَا أَوْ لَمْ يُسْلِمْ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْحُدُودَ جَوَابِرُ وَلَا الْقَوْلَ بِتَكْفِيرِ الْحَجِّ لِلْكَبَائِرِ، فَلَا يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ بِإِهْمَالِ هَذَا الْقَيْدِ، الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ صَغَائِرَ وَمَاتَ قَبْلَ تَكْفِيرِهَا بِتَوْبَةٍ أَوْ بِغَيْرِهَا لَيْسَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، إذْ نَقَلَ الشَّاذِلِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ أَنَّ الْكَافِرَ فِي النَّارِ بِإِجْمَاعٍ وَكَذَا الْمُسْتَحِلَّ لِلْمَعَاصِي. وَالْمُؤْمِنَ الطَّائِعَ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَالْعَاصِيَ بِالصَّغَائِرِ يُسْأَلُ وَلَا يُعَاقَبُ، وَالْعَاصِيَ بِالْكَبَائِرِ التَّائِبَ فِي الْجَنَّةِ بِإِجْمَاعٍ، وَغَيْرَ التَّائِبِ فِي الْمَشِيئَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. الثَّالِثُ: جَرَى خِلَافٌ فِيمَنْ مَاتَ زَمَنَ الْفَتْرَةِ أَوْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةُ نَبِيٍّ أَوْ بَلَغَ مَجْنُونًا وَدَامَ عَلَى جُنُونِهِ وَكَذَا أَوْلَادُ الْكُفَّارِ فَقِيلَ الْجَمِيعُ فِي الْمَشِيئَةِ، بِخِلَافِ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَفِي الْجَنَّةِ اتِّفَاقًا، وَأَهْلُ الْفَتْرَةِ هُمْ الْأُمَمُ الْكَائِنَةُ بَيْنَ أَزْمِنَةِ الرُّسُلِ وَلَمْ يُرْسَلْ إلَيْهِمْ الْأَوَّلُ وَلَا أَدْرَكَهُمْ الثَّانِي يَشْمَلُ مَا بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَعِيسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، إلَّا أَنَّ هَؤُلَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَنْ عَرَفَ اللَّهَ بِالْعَقْلِ دَخَلَ فِي شَرِيعَةٍ كَوَرَقَةِ بْنِ نَوْفَلٍ، أَمْ لَا كَقُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ الْأَيَادِي وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ مِمَّنْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ أَنَّ أَصْحَابَهُ نَاجُونَ عَلَى الصَّحِيحِ وَمُثَابُونَ كَمَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الشَّرْعِ، وَثَانِي الْأَقْسَامِ: مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ وَلَمْ يُوَحِّدْ وَشَرَّعَ أَحْكَامًا، كَعَمْرِو بْنِ لُحَيٍّ سَنَّ لِلْعَرَبِ عِبَادَةَ الْأَصْنَامِ وَسَيَّبَ السَّوَائِبَ وَبَحَّرَ الْبَحَائِرَ وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ اسْتِحْقَاقُ الْعِقَابِ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ. وَثَالِثُ الْأَقْسَامِ: مَنْ لَمْ يُشْرِكْ وَلَمْ يُوَحِّدْ وَلَا دَخَلَ فِي شَرِيعَةٍ بَلْ فَنِيَ عُمْرُهُ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ وَهَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ الْفَتْرَةِ حَقِيقَةً وَحُكْمُهُمْ عَدَمُ اسْتِحْقَاقِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَهُمْ فِي الْمَشِيئَةِ وَلَا يُوصَفُونَ بِإِيمَانٍ وَلَا كُفْرٍ. وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ صَرَّحَ فِي الْفِقْهِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ أَبَوَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَا عَلَى الْكُفْرِ هُوَ مَبْنِيٌّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَفَعَ لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِهِ. ، وَأَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ قَدْ   [الفواكه الدواني] عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ بِالْعَقْلِ، نَعَمْ إنْ وَرَدَ نَصٌّ صَحِيحٌ أَنَّ اللَّهَ أَحْيَاهُمَا وَآمَنَا بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَبَ الْقَوْلُ بِهِ، وَقَدْ وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّ أَبَا إبْرَاهِيمَ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ كَانَ عَمَّهُ عُدُولٌ عَنْ الظَّاهِرِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَاحْتَجَّ بَعْضُ مَشَايِخِنَا إلَى تَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِأَنَّ أَهْلَ الْفَتْرَةِ نَاجُونَ فَيَكُونُونَ فِي الْجَنَّةِ، وَكَذَلِكَ أَبَوَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَاجِيَانِ وَلَيْسَا فِي النَّارِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْبَعْثَةِ وَلَا تَعْذِيبَ قَبْلَهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولا} [الإسراء: 15] وَدُخُولُ الْجَنَّةِ لَا يُنَالُ بِعَمَلٍ وَإِنَّمَا هُوَ بِمَحْضِ الْفَضْلِ، وَالنَّارُ إنَّمَا تَكُونُ لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي، وَمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْبَعْثَةِ لَمْ يُتَصَوَّرْ عِصْيَانُهُ، وَأَيْضًا أَطْبَقَتْ الْأَئِمَّةُ الْأَشَاعِرَةُ مِنْ أَهْلِ الْكَلَامِ وَالْأُصُولِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ وَلَمْ تَبْلُغْهُ الدَّعْوَةُ يَمُوتُ نَاجِيًا لَا عِقَابَ عَلَيْهِ وَلَا ثَوَابَ لَهُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتُبْ مِنْ الْكَبَائِرِ تَحْتَ مَشِيئَتِهِ تَعَالَى وَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ مَنْ شَاءَ عُقُوبَتَهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ النَّارِ قَالَ: (وَمَنْ عَاقَبَهُ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ فَأَدْخَلَهُ بِهِ جَنَّتَهُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنَّ اللَّهَ إذَا أَدْخَلَ الْمُؤْمِنَ النَّارَ لِعِصْيَانِهِ لَا بُدَّ وَأَنْ يُخْرِجَهُ مِنْهَا بِسَبَبِ إيمَانِهِ وَيَجْعَلَ قَرَارَهُ الْجَنَّةَ، وَالنَّارُ مُؤَنَّثَةٌ وَهِيَ جِسْمٌ لَطِيفٌ مُحْرِقٌ بِحُكْمِ الْعَادَةِ لَا بِقُوَّةٍ وَلَا بِطَبِيعَةٍ. وَإِضَافَتُهَا إلَى الضَّمِيرِ مِنْ إضَافَةِ الْمَخْلُوقِ لِلْخَالِقِ، وَخَصَّ الْعِقَابَ بِهَا وَإِنْ كَانَ يَجُوزُ عِقَابُهُ بِغَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْعِقَابَ بِهَا أَعْظَمُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عِقَابَ أَهْلِ النَّارِ مُتَفَاوِتٌ بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَعَاصِي، فَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ لَحْظَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَاعَةً، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُعَذَّبُ سَبْعَةَ آلَافِ سَنَةٍ وَهُوَ آخِرُ مَنْ يَبْقَى فِي النَّارِ، وَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ هَنَّادٌ وَقِيلَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُهَيْنَةُ، وَالْجَنَّةُ فِي اللُّغَةِ الْبُسْتَانُ. وَفِي الشَّرْعِ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ وَيُقَالُ لَهَا الدَّارُ الْآخِرَةُ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْإِيمَانَ سَبَبًا لِدُخُولِ الْجَنَّةِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ، قِيلَ: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا أَنَا إلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ بِرَحْمَتِهِ» . فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: السَّبَبُ إيمَانُهُ مَعَ رَحْمَةِ اللَّهِ، أَوْ نَقُولَ: الْإِيمَانُ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ عَمَلٍ إلَّا عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ، وَالْغَالِبُ إطْلَاقُهُ عَلَى أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْبَاءَ فِي إيمَانِهِ لِلْبَدَلِ أَيْ بَدَلَ إيمَانِهِ، وَهَذَا لَا يُفِيدُ كَوْنَ الْإِيمَانِ سَبَبًا فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ فَلَا يُخَالِفُ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ أَحَدٌ بِعَمَلِهِ» وَهَذَا نَحْوُ مَا أَجَابَ بِهِ فِي الْمَعْنَى عَنْ مُعَارَضَةِ الْحَدِيثِ لِقَوْلِهِ: {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [النحل: 32] قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -، وَلِي وَقْفَةٌ فِي هَذَا الْجَوَابِ؛ لِأَنَّ الْبَدَلَ مَعْنَاهُ الْعِوَضُ وَهُوَ مُنَافٍ لِكَوْنِ الدُّخُولِ بِمَحْضِ الْفَضْلِ فَلَعَلَّ الصَّوَابَ جَعْلُ الْبَاءِ لِلْمُصَاحَبَةِ، وَقِيلَ: إنَّمَا ذَكَرَ الْإِيمَانَ لِدَفْعِ تَوَهُّمِ دُخُولِ الْكَافِرِ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ عَاقَبَهُ بِنَارِهِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا فَأَدْخَلَهُ جَنَّتَهُ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مَنْ عَامٌّ فَلَمَّا زَادَ لَفْظَ بِإِيمَانِهِ دَلَّ عَلَى أَنَّ الْمُخْرَجَ مِنْ النَّارِ إنَّمَا هُوَ الْمُؤْمِنُ، وَيَدْخُلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كُلُّ صَاحِبِ كَبِيرَةٍ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: سَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَمَحَلِّهِمَا وَأَنْوَاعِهِمَا، الثَّانِي: الضَّمَائِرُ الْمُسْتَتِرَةُ فِي عَاقَبَ وَأَخْرَجَ وَأَدْخَلَ عَائِدَةٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا الضَّمَائِرُ الْمَنْصُوبَةُ وَالْمَجْرُورَةُ بِإِيمَانٍ فَهِيَ عَائِدَةٌ عَلَى مَنْ؛ لِأَنَّ لَفْظَهَا مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ وَمَعْنَاهَا مُخْتَلِفٌ ثُمَّ ذَكَرَ الدَّلِيلَ عَلَى خُرُوجِ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ النَّارِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ وَشَرْطُهَا (يَعْمَلْ) مِنْ الْمُؤْمِنِينَ بِقَلْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْجَوَارِحِ (مِثْقَالَ) أَيْ زِنَةَ (ذَرَّةٍ خَيْرًا) أَيْ مِنْ خَيْرٍ فَهُوَ مَنْصُوبٌ عَلَى التَّمْيِيزِ وَالْخَيْرُ كُلُّ مَا يُحْمَدُ فَاعِلُهُ شَرْعًا، وَالشَّرُّ عَكْسُهُ وَجَوَابُ الشَّرْطِ (يَرَهُ) أَيْ يَرَ جَزَاءَهُ وَالْإِيمَانُ عَمَلُ خَيْرٍ وَعَدَ اللَّهُ بِجَزَائِهِ وَوَعْدُهُ حَقٌّ لَا بُدَّ مِنْ إنْجَازِهِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ جَزَاءَ الْخَيْرِ إنَّمَا يَكُونُ فِي دَارِ الْجَزَاءِ وَهِيَ الْجَنَّةُ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ لِمَنْ دَخَلَهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُرَى جَزَاءُ الْخَيْرِ قَبْلَ دُخُولِ النَّارِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَدْخُلُ الْجَنَّةَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] . تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَيَّدْنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِيَتِمَّ الِاسْتِدْلَال عَلَى دُخُولِ الْجَنَّةِ بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يُتَصَوَّرُ خُرُوجُهُ مِنْ النَّارِ بَلْ وَلَا دُخُولُهُ جَنَّةً، وَمَا عَمِلَهُ مِنْ الْخَيْرِ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ فَقِيلَ يُجَازَى عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا بِالتَّنْعِيمِ وَمُعَافَاةِ الْبَدَنِ وَكَثْرَةِ الْوَلَدِ، وَقِيلَ فِي دَارِ الْعَذَابِ بِتَخْفِيفِ عَذَابِ غَيْرِ الْكُفْرِ عَنْهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْكُفَّارَ مُخَاطَبُونَ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ بِدَلِيلِ {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] الْآيَةُ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ فَمُخَاطَبُونَ بِهِ اتِّفَاقًا، وَقِيلَ: لَا يُجَازَى مِنْهُمْ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْآخِرَةِ عَلَى عَمَلِ الْخَيْرِ إلَّا جَمَاعَةٌ مَخْصُوصَةٌ جَاءَ فِيهَا النَّصُّ مِنْهُمْ حَاتِمُ الطَّائِيُّ لِكَرْمِهِ لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ «لَمَّا أَسْلَمَ وَلَدُهُ عَدِيٌّ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ قَدْ رَفَعَ عَنْ أَبِيك الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ سَخَائِهِ» . وَمِنْهُمْ أَبُو لَهَبٍ لِأَنَّهُ لَمَّا بَشَّرَتْهُ أَمَتُهُ ثُوَيْبَةُ بِوِلَادَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْتَقَهَا. وَمِنْهُمْ «أَبُو طَالِبٍ فَإِنَّهُ لَمَّا مَاتَ قَالَ الْعَبَّاسُ: يَا ابْنَ أَخِي إنَّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَعُولُك وَيَكْفِيك أَيَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ إنِّي وَجَدْته فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ وَلَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي أَسْفَلِ الدِّرْكَاتِ مِنْ النَّارِ» ، وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّهِمْ: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23] وَغَيْرَ ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَالْحَقُّ أَنَّ التَّخْفِيفَ عَنْ أَبِي طَالِبٍ إنَّمَا هُوَ بِالشَّفَاعَةِ، وَلَعَلَّ التَّخْفِيفَ الْحَاصِلَ لِهَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ إنَّمَا هُوَ فِيمَا يَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الْعَذَابِ بِجِنَايَتِهِمْ الَّتِي ارْتَكَبُوهَا سِوَى الْكُفْرِ، وَأَمَّا عَذَابُ الْكُفْرِ فَلَا يُخَفَّفُ وَلَا يُفَتَّرُ وَلَا يُغْفَرُ كَمَا قَدَّمْنَا. الثَّانِي: جَعَلْنَا صِلَةَ يَعْمَلُ بِقَلْبِهِ أَوْ غَيْرِهِ لِيَشْمَلَ عَمَلَ الْقَلْبِ الْهَمَّ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «مَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً. وَإِنْ هَمَّ بِهَا وَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إلَى سَبْعِمِائَةٍ إلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ بِحَسَبِ مَرَاتِبِ الْإِخْلَاصِ» ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ النَّفْسِ عَلَى قَصْدِ الْمَعْصِيَةِ فَهُوَ عَلَى خَمْسِ مَرَاتِبَ: الْهَاجِسُ وَهُوَ مَا يُلْقَى فِيهَا وَالْخَاطِرُ وَهُوَ مَا يَجْرِي فِيهَا، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَهُوَ التَّرَدُّدُ هَلْ يَفْعَلُ أَوْ يَتْرُكُ، وَالْهَمُّ وَهُوَ أَنْ يَتَرَجَّحَ عِنْدَهُ قَصْدُ الْفِعْلِ، وَالْعَزْمُ وَهُوَ قُوَّةُ الْقَصْدِ وَالْجَزْمُ بِهِ، فَالْهَاجِسُ لَا يُؤْخَذُ بِهِ إجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ يَطْرُقُهُ قَهْرًا عَلَيْهِ وَكَذَا مَا بَعْدَهُ مِنْ الْخَاطِرِ، وَحَدِيثُ النَّفْسِ وَإِنْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِمَا لَا يُؤْخَذُ بِهِمَا لِحَدِيثٍ: «إنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ لِأُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» وَإِذَا تَجَاوَزَ عَنْ حَدِيثِ النَّفْسِ فَمَا قَبْلَهُ أَوْلَى، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّلَاثَةَ مَرْفُوعَةٌ إلَى جَانِبِ الْمَعْصِيَةِ وَلَا أَجْرَ فِيهَا فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ لِعَدَمِ الْقَصْدِ، وَأَمَّا الْهَمُّ فَتَفْتَرِقُ فِيهِ الْحَسَنَةُ مِنْ السَّيِّئَةِ، فَقَدْ بَيَّنَ فِي الْحَدِيثِ: أَنَّهُ بِالْحَسَنَةِ يُكْتَبُ لَهُ حَسَنَةٌ وَبِالسَّيِّئَةِ لَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ، وَلَا يُنْظَرُ فِي التَّرْكِ إنْ كَانَ تَرَكَ السَّيِّئَةَ لِلَّهِ كُتِبَ لَهُ حَسَنَةٌ وَلَا يُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ بِالْهَمِّ. وَأَمَّا الْعَزْمُ عَلَى الْمَعْصِيَةِ فَالْمُحَقِّقُونَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِهِ لَكِنْ تُكْتَبُ عَلَيْهِ سَيِّئَةٌ مُطْلَقَةٌ حَيْثُ تَرَكَهَا لِغَيْرِ خَوْفِ اللَّهِ، وَلَا تُكْتَبُ عَلَيْهِ الْمَعْصِيَةُ الَّتِي عَزَمَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَ يُعْتَبَرُ الْعَزْمُ فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ فَيُعْتَبَرُ فِي جَانِبِ الْحَسَنَةِ بِالْأَوْلَى، وَيَظْهَرُ لِي عَلَى مُقْتَضَى كَرَمِهِ تَعَالَى فِي جَانِبِ السَّيِّئَةِ أَنْ يَكْتُبَ لَهُ ثَوَابَ الْحَسَنَةِ الْمَعْزُومِ عَلَيْهَا لَا حَسَنَةً مُطْلَقَةً وَحَرَّرَهُ، الثَّالِثُ: قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ دَقِيقَةٌ وَهِيَ أَنَّ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِحَدِيثِ النَّفْسِ وَالْهَمِّ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ التَّكَلُّمِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا لَوْ انْضَمَّ لَهُمَا فِعْلٌ فَإِنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْهَمِّ وَالْعَمَلِ وَلَا تُفْهَمُ أَنَّهُ يُؤَاخَذُ بِالْعَمَلِ فَقَطْ اهـ. وَأَقُولُ: الَّذِي تَدُلُّ عَلَيْهِ الْآيَاتُ أَنَّ الْمُؤَاخَذَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ فَقَطْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الطور: 16] . وَقَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، وَهَلْ يُوجَدُ عَمَلٌ بِلَا تَقَدُّمِ هَمٍّ؟ وَيَلْزَمُ عَلَى كَلَامِهِ أَنْ يُؤَاخَذَ بِالْعَزْمِ وَبِالْعَمَلِ وَلَا تَظُنُّ صِحَّةَ هَذَا، وَمُقَدَّمَاتُ الزِّنَا تُدْرَجُ فِي حَدِّ الزِّنَا، وَالْأَطْرَافُ تُدْرَجُ فِي الْقَتْلِ وَحَرَّرَهُ. الرَّابِعُ: الْمُصَنِّفُ لَمْ يَقْصِدْ لَفْظَ التِّلَاوَةِ وَإِلَّا لَقَالَ: فَمَنْ يَعْمَلْ بِالْفَاءِ وَلَا قَصَدَ رِوَايَةَ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِعَدَمِ جَوَازِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمْ يُحَاكِ كُلَّ مَا فِي التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ التَّدْلِيلِ وَإِلَّا لَقَالَ: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وَمِثْلُ هَذَا التَّغْيِيرِ يُغْتَفَرُ فِي الِاقْتِبَاسِ كَمَا هُنَا، وَالذَّرَّةُ النَّمْلَةُ الصَّغِيرَةُ وَقِيلَ أَدَقُّ الْأَشْيَاءِ وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا مِنْ بَابِ التَّنْبِيهِ بِالْأَدْنَى عَلَى الْأَعْلَى. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُخْرِجُ مَنْ أَدْخَلَهُ النَّارَ مِنْ الْعُصَاةِ بِسَبَبِ إيمَانِهِ مِنْ غَيْرِ شَفَاعَةِ أَحَدٍ، ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ بِشَفَاعَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ عَاطِفًا عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ: (وَيُخْرِجُ) أَيْضًا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (مِنْهَا) أَيْ مِنْ النَّارِ (بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَمَفْعُولُ يَخْرُجُ (مَنْ شَفِعَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (لَهُ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ) الْكَائِنِ (مِنْ أَمَتِهِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ اعْتِقَادُ أَنَّ نَبِيَّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَشْفَعُ فِي بَعْضِ الْعُصَاةِ حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْ النَّارِ فَيَقْبَلُ اللَّهُ شَفَاعَتَهُ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَوَاجِبٌ شَفَاعَةُ الْمُشَفَّعِ ... مُحَمَّدٌ مُقَدَّمًا لَا تُمْنَعْ وَغَيْرُهُ مِنْ مُرْتَضَى الْأَخْيَارِ ... يَشْفَعُ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ وَحَقِيقَةُ الشَّفَاعَةِ لُغَةً: الْوَسِيلَةُ وَالطَّلَبُ. وَعُرْفًا سُؤَالٌ لِلْغَيْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَشْفَعُ قَوْله تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} [الإسراء: 79] . وقَوْله تَعَالَى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] فَقِيلَ: إنَّ مَعْنَاهُمَا الشَّفَاعَةُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 خَلَقَ الْجَنَّةَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِأَوْلِيَائِهِ وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَهِيَ الَّتِي أَهْبَطَ مِنْهَا آدَمَ نَبِيَّهُ وَخَلِيفَتَهُ   [الفواكه الدواني] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ادَّخَرْت شَفَاعَتِي لِأَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» ؛ وَلِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ غُفْرَانُ غَيْرِ الْكُفْرِ مِنْ الذُّنُوبِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَلَا شَفَاعَةٍ فَبِالشَّفَاعَةِ أَوْلَى، وَلِذَا أَجْمَع أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى ثُبُوتِهَا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِسَائِرِ الْمُرْسَلِينَ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْعُلَمَاءِ وَالشُّهَدَاءِ، يَشْفَعُ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ جَاهِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَا أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَوَّلُ مُشَفَّعٍ» . وَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَفَاعَاتٌ أَعْظَمُهَا وَأَهَمُّهَا شَفَاعَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَهْلِ الْمَوْقِفِ بَعْدَ أَنْ يَتَكَلَّمَ الْأَنْبِيَاءُ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ يُعَايِنُونَ مِنْ شَدَائِدِ الْمَوْقِفِ وَأَهْوَالِهِ وَطُولِ الْقِيَامِ فِيهِ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ، وَزِيَادَةِ الْقَلَقِ وَتَصَاعُدِ الْعَرَقِ مَا يُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَيُنْسِي الْأَوْلَادَ مُدَّةَ ثَلَاثَةِ آلَافِ سَنَةٍ، فَيَتَرَادُّونَهَا مِنْ آدَمَ إلَى عِيسَى فِي خَمْسَةِ آلَافِ سَنَةٍ، إذْ بَيْنَ سُؤَالِ نَبِيٍّ وَآخَرَ أَلْفُ سَنَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ وَالْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُمَا، فَإِذَا انْتَهَوْا إلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: أَنَا لَهَا أَنَا لَهَا أُمَّتِي أُمَّتِي، وَكُلُّ مَنْ قَبْلَهُ لَا يَقُولُ إلَّا نَفْسِي نَفْسِي اذْهَبُوا إلَى غَيْرِي فَيَشْفَعُ فَيُشَفَّعُ، وَهَذِهِ مُخْتَصَّةٌ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَتُسَمَّى الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى وَهِيَ أَوَّلُ الْمَقَامِ الْمَحْمُودِ، خَاصَّةً بِهِ وَعَامَّةً فِي جَمِيعِ الْخَلْقِ يَوْمَ الْوُقُوفِ لِلْحِسَابِ، وَهَذِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ لِلْإِرَاحَةِ مِنْ طُولِ الْوُقُوفِ حَيْثُ يَتَمَنَّوْا الِانْصِرَافَ مِنْ مَوْقِفِهِمْ وَلَوْ إلَى النَّارِ، وَمِنْ شَفَاعَاتِهِ أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي إدْخَالِ جَمَاعَةٍ الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ، وَيَشْفَعُ فِي قَوْمٍ اسْتَوْجِبُوا النَّارَ فَلَا يَدْخُلُونَهَا، وَفِي جَمَاعَةٍ دَخَلُوهَا فَيَخْرُجُونَ مِنْهَا وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَيَشْفَعُ لِجَمَاعَاتٍ فِي رَفْعِ دَرَجَاتٍ، وَيَشْفَعُ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ عَنْهُ بِأَنْ نُقِلَ مِنْ غَمَرَاتٍ إلَى ضَحْضَاحٍ كَمَا فِي الْحَدِيثِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ شَفَاعَاتٌ كَثِيرَةٌ، وَأَنَّهُ أَوَّلُ شَافِعٍ وَأَنَّهُ مَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ قَطْعًا، كَمَا أَنَّهُ أَوَّلُ وَارِدٍ الْجَنَّةَ، وَأَوَّلُ وَارِدٍ الْمَحْشَرَ، وَأَوَّلُ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَ الشَّفَاعَةَ بَعْضُ الْمُعْتَزِلَةِ مُتَمَسِّكِينَ بِظَوَاهِرِ آيَاتٍ مِنْهَا: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] ، وَمِنْهَا: {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ، وَمِنْهَا: «لَا يَنَالُ شَفَاعَتِي أَهْلُ الْكَبَائِرِ مِنْ أُمَّتِي» . وَأَجَابَ أَهْلُ الْحَقِّ بِأَنَّ مَعْنَى {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] . أَيْ ارْتَضَاهُ لِلشَّفَاعَةِ لَهُ وَهُمْ الْمُوَحِّدُونَ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِ الْكَافِرُ، وَالْحَدِيثُ مَوْضُوعٌ بِاتِّفَاقِ النَّقَلَةِ وَعَلَى تَسْلِيمِهِ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا: وَحَقِيقٌ عَلَى مَنْ أَنْكَرَهَا أَنْ لَا يَنَالَهَا. الثَّانِي: يَجُوزُ لِلْعَبْدِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ تَنَالُهُ شَفَاعَةُ الْمُصْطَفَى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُذْنِبًا، لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهَا تَكُونُ لِرَفْعِ الدَّرَجَاتِ وَلِدُخُولِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ عَذَابٍ، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا لِلْمُذْنِبِينَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يَأْنَفُ أَحَدٌ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِمَّنْ تَنَالُهُ شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِسُؤَالِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهَا؛ وَلِأَنَّ كُلَّ عَاقِلٍ مُعْتَرِفٌ بِالتَّقْصِيرِ وَمُسْتَحِقٌّ لِلْعَفْوِ لِعَدَمِ اعْتِدَادِهِ بِعَمَلِهِ، وَأَيْضًا الْخَاتِمَةُ مُغَيَّبَةٌ عَنَّا لَا يَعْلَمُهَا إلَّا هُوَ، فَكُلٌّ مِنَّا لَا يَدْرِي أَيْنَ يَصِيرُ وَمِنْ أَيْ فَرِيقٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ. الثَّالِثُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا تَنَافِي بَيْنَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوَّلًا أَخْرَجَهُ مِنْهَا بِإِيمَانِهِ، وَقَوْلِهِ ثَانِيًا يَخْرُجُ مِنْهَا بِشَفَاعَةِ نَبِيِّهِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ سَبَبٌ لِلشَّفَاعَةِ لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ وَسَبَبُ السَّبَبِ سَبَبٌ، وَيَصِحُّ إسْنَادُ الْإِخْرَاجِ إلَى كُلٍّ مِنْ السَّبَبَيْنِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الْإِيمَانُ سَبَبًا لِأَصْلِ الْخُرُوجِ، وَالشَّفَاعَةُ لِتَعْجِيلِ الْخُرُوجِ مِنْ النَّارِ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي وُجُودِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ الْآنَ وَعَدَمِ وُجُودِهِمَا بَيَّنَ الْحَقَّ فَقَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ (أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى (قَدْ خَلَقَ) أَيْ أَوْجَدَ (الْجَنَّةَ) فَهِيَ مَوْجُودَةٌ الْآنَ فَقَدْ فِي كَلَامِهِ لِلتَّحْقِيقِ. (فَأَعَدَّهَا) أَيْ هَيَّأَهَا وَصَيَّرَهَا (دَارَ خُلُودٍ) أَيْ مَنْزِلَ إقَامَةٍ عَلَى التَّأْبِيدِ. (لِأَوْلِيَائِهِ) جَمْعُ وَلِيٍّ وَالْمُرَادُ بِهِمْ هُنَا الْمُؤْمِنُونَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ بِنَاءً عَلَى دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَالْمَأْثُورُ عَنْ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ عَدَمُ دُخُولِهِمْ وَإِنَّمَا يَكُونُونَ فِي رَبَضِهَا، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْأَوْلِيَاءَ الْمُتَعَارَفَيْنِ وَهُمْ الْعَارِفُونَ بِرَبِّهِمْ حَسَبَ الْإِمْكَانِ الْمُوَاظِبُونَ عَلَى الطَّاعَاتِ الْمُجْتَنِبُونَ لِلْمَعَاصِي الْمُعْرِضُونَ عَنْ الِانْهِمَاكِ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ؛ لِأَنَّ الْوِلَايَةَ عَامَّةٌ وَهِيَ وِلَايَةُ الْإِيمَانِ وَخَاصَّةً وَهِيَ وِلَايَةُ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ، وَالْجَنَّةُ لُغَةً الْبُسْتَانُ وَالْمُرَادُ بِهَا دَارُ الثَّوَابِ، وَهَلْ هِيَ سَبْعُ جَنَّاتٍ مُتَجَاوِرَاتٍ أَوْسَطُهَا وَأَفْضَلُهَا الْفِرْدَوْسُ وَهِيَ أَعْلَاهَا وَفَوْقَهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ وَمِنْهَا تَتَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَجَنَّةُ الْمَأْوَى، وَجَنَّةُ الْخُلْدِ، وَجَنَّةُ النَّعِيمِ، وَجَنَّةُ عَدْنٍ، وَدَارُ السَّلَامِ، وَدَارُ الْخُلْدِ، أَوْ أَرْبَعَةٌ وَرَجَّحَهُ جَمَاعَةٌ أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] . ثُمَّ قَالَ: وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ وَقِيلَ وَاحِدَةٌ، وَالْأَسْمَاءُ وَالصِّفَاتُ جَارِيَةٌ عَلَيْهَا لِتَحَقُّقِ مَعَانِيهَا كُلِّهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى حَقِيقَةِ وُجُودِ الْجَنَّةِ الْآنَ مِنْ ثَمَّ إخْرَاجُهُمَا مِنْهُمَا بِالْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ وَكَوْنُهُمَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قِصَّةُ آدَمَ وَحَوَّاءَ وَإِسْكَانُهُمَا الْجَنَّةِ عَلَى مَا نَطَقَ بِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَحَمْلُ الْجَنَّةِ فِي قِصَّةِ آدَمَ عَلَى بُسْتَانٍ مِنْ بَسَاتِينِ الدُّنْيَا، وَآدَمُ عَلَى رَجُلٍ يُسَمَّى بِذَلِكَ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ لَهُ عَلَى رَبْوَةٍ أَيْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ فَعَصَى فِيهَا فَأُهْبِطَ مِنْهَا إلَى بَطْنِ الْوَادِي تَلَاعُبٌ بِالدِّينِ، كَمَا سَيُشِيرُ إلَى رَدِّهِ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم. . . إلَخْ وَثَانِيهِمَا خَيْرُ حَمْلِ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى} [النجم: 15] وَ: {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وَمِنْ السُّنَّةِ: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ فَتَنَاوَلْت مِنْهَا عُنْقُودًا» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ فَإِنَّهَا صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِهَا دَارُ الثَّوَابِ، وَأَنَّ آدَمَ الْمُرَادُ بِهِ أَبُو الْبَشَرِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيفَتُهُ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إنْكَارُ وُجُودِ الْجَنَّةِ الْآنَ، فَمَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا الْآنَ وَفِي الْمُسْتَقْبَلِ فَهُوَ كَافِرٌ كَالْفَلَاسِفَةِ، وَأَمَّا مَنْ أَنْكَرَ وُجُودَهَا الْآنَ وَيَعْتَرِفُ بِوُجُودِهَا فِيمَا يُسْتَقْبَلُ كَأَبِي هَاشِمٍ وَعَبْدِ الْجَبَّارِ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ فَهُمْ مُبْتَدِعَةٌ، وَتَمَسُّكُهُمْ بِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً لَهَلَكَتْ لِعُمُومِ: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} [القصص: 88] مَرْدُودٌ بِأَنَّهَا مِنْ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الَّتِي لَا تَهْلِكُ كَالنَّارِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ وَالْقَلَمِ وَاللَّوْحِ. الثَّانِي: وَقَعَ خِلَافٌ فِي مَحَلِّهَا كَالنَّارِ فَقَالَ بَعْضٌ: لَا يَعْلَمُ مَحَلَّهُمَا إلَّا مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَلَعَلَّ هَذَا أَحْسَنُ الْأَقْوَالِ لِعَدَمِ وُرُودِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ بِتَعْيِينِ مَحَلِّهِمَا، وَقَالَ بَعْضٌ: الْجَنَّةُ فَوْقَ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، وَالنَّارُ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ، وَقِيلَ: جَهَنَّمُ مُحِيطَةٌ بِالدُّنْيَا وَالْجَنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا، فَلِذَلِكَ ضُرِبَ الصِّرَاطُ عَلَى جَهَنَّمَ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّ «هِرَقْلَ كَتَبَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: تَدْعُونِي إلَى جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ فَأَيْنَ النَّارُ؟ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: سُبْحَانَ اللَّهِ أَيْنَ اللَّيْلُ إذَا جَاءَ النَّهَارُ» ، وَكَمَا مَنَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِخَلْقِ الْجَنَّةِ خَصَّهُمْ بِهَا (وَأَكْرَمَهُمْ فِيهَا بِالنَّظَرِ) بِأَبْصَارِهِمْ (إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ) الْمُرَادُ بِالْوَجْهِ الذَّاتُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَضَمِيرُ الْجَمْعِ لِأَوْلِيَائِهِ، وَالْمُفْرَدِ الْمُؤَنَّثِ لِلْجَنَّةِ، وَالْمُذَكَّرِ لِلَّهِ تَعَالَى. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَمِنْهُ أَنْ يُنْظَرَ بِالْأَبْصَارِ ... لَكِنْ بِلَا كَيْفٍ وَلَا انْحِصَارٍ فَيَنْكَشِفُ لَهُمْ انْكِشَافًا تَامًّا مُنَزَّهًا عَنْ الْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ؛ لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ عِنْدَ أَهْلِ الْحَقِّ قُوَّةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ يَجْعَلُهَا اللَّهُ فِي خَلْقِهِ يَنْكَشِفُ لَهُمْ بِهَا الْمَرْئِيُّ وَلَا تَسْتَدْعِي جِرْمِيَّةً وَلَا جِهَةً وَلَا مُقَابَلَةً، وَإِنَّمَا تَسْتَدْعِي مُطْلَقَ مَحَلٍّ تَقُومُ بِهِ، وَإِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْمُقَابَلَةِ وَالْمُوَاجَهَةِ فِي رُؤْيَةِ بَعْضِنَا فَإِنَّمَا ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاتِّفَاقِ لَا الشَّرْطِيَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّا نَعْلَمُهُ سُبْحَانَهُ لَا فِي جِهَةٍ وَلَا مَكَان؟ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي إثْبَاتِ الرُّؤْيَةِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} [القيامة: 22] {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 23] وَآيَةُ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] فَلَوْلَا أَنَّهَا جَائِزَةٌ مَا طَلَبَهَا مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى عَلَّقَ رُؤْيَةَ ذَاتِهِ عَلَى اسْتِقْرَارِ الْجَبَلِ وَهُوَ مُمْكِنٌ فَتَكُونُ رُؤْيَةُ ذَاتِهِ مُمْكِنَةً. وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَوْلَا أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَمَا عَيَّرَ سُبْحَانَهُ الْكُفَّارَ بِالْحَجْبِ عَنْ رُؤْيَتِهِ بِقَوْلِهِ: {كَلا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: لَوْ لَمْ يُوقِنْ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ بِأَنَّهُ يَرَى رَبَّهُ فِي الْمَعَادِ لَمَا عَبَدَهُ فِي الدُّنْيَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ كَمَا تَرَوْنَ الْقَمَرَ لَيْلَةَ الْبَدْرِ» ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَهُوَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا مُجْمِعِينَ عَلَى رُؤْيَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَإِنَّمَا أَنْكَرَهَا الْمُعْتَزِلَةُ مُتَمَسِّكِينَ بِشُبْهَةِ الْمُقَابَلَةِ الَّتِي تَقْرِيرُهَا: لَوْ كَانَ مَرْئِيًّا لَكَانَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي بِالضَّرُورَةِ فَيَكُونُ فِي جِهَةٍ وَحَيِّزٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَجَوَابُهَا الْمُقَابَلَةُ إنَّمَا هِيَ شَرْطٌ فِي رُؤْيَةِ الْمَخْلُوقِ، وَقِيَاسُ الْغَائِبِ عَلَى الشَّاهِدِ غَيْرُ صَحِيحٍ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ حَقِيقَةِ الْغَائِبِ وَصِفَتِهِ وَهِيَ غَيْرُ مُمْكِنَةٍ لَنَا، وَتَمَسَّكُوا أَيْضًا بِشُبْهَةٍ سَمْعِيَّةٍ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَجَوَابُهَا أَنَّ الْإِدْرَاكَ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الرُّؤْيَةِ، إذْ الْإِدْرَاكُ الْإِحَاطَةُ بِالْمُدْرَكِ وَهِيَ مَحَالَةٌ عَلَى اللَّهِ، وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ} [الأنعام: 103] وَلَمْ يَقُلْ لَا تَرَاهُ، وَإِلَى الْجَوَابِ عَنْ الشُّبْهَةِ الْأُولَى أَشَارَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: بِلَا كَيْفٍ، وَعَنْ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا انْحِصَارٍ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْإِكْرَامِ بِالنَّظَرِ فِي الْجَنَّةِ قَصْرُ الرُّؤْيَا فِيهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَظَاهِرُهُ تَنَاوُلُ النِّسَاءَ؛ لِأَنَّهُنَّ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَأَمَّا الْكُفَّارُ فَلَا يَرَوْنَهُ لِعَدَمِ دُخُولِهِمْ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَقِيلَ عَامَّةٌ وَقِيلَ خَاصَّةٌ بِالْمُؤْمِنِينَ وَسَيَأْتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] مَا فِيهِ، وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الَّتِي لَا عَقْلَ لَهَا فَلَا تَرَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لَا فِي الْجَنَّةِ وَلَا فِي الْمَوْقِفِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ الَّتِي تَدْخُلُ الْجَنَّةَ؛ لِأَنَّ الْوَارِدَ فِي النُّصُوصِ فِي رُؤْيَةِ الْعُقَلَاءِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. الثَّانِي: يَدْخُلُ فِيمَنْ يَرَاهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كُلُّ مَنْ يُحْكَمُ لَهُ بِالْإِيمَانِ وَلَوْ غَيْرَ مُكَلَّفٍ، حَتَّى يَتَنَاوَلَ الصِّبْيَانَ وَالْمَلَائِكَةَ وَمُؤْمِنَ الْجِنِّ وَالْأُمَمَ السَّابِقَةِ وَالْبُلْهَ وَالْمَجَانِينَ الَّذِينَ أَدْرَكَهُمْ الْبُلُوغُ عَلَى الْجُنُونِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ، وَمَنْ اتَّصَفَ بِالتَّوْحِيدِ مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ؛ لِأَنَّ إيمَانَهُمْ صَحِيحٌ، إذْ هُوَ فِي حُكْمِ مَا جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ فِي الْجُمْلَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَرَوْنَهُ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ مَحَلُّ الرُّؤْيَةِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَخَالَفَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فَقَالَ: رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الْجَنَّةِ مُخْتَصَّةٌ بِمُؤْمِنِ الْإِنْسِ. وَأَمَّا الْمَلَائِكَةُ وَمُؤْمِنُوا الْجِنِّ فَلَا يَرَوْنَهُ إلَّا جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَإِنَّهُ يَرَاهُ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهَا حَاصِلَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ وَقَالَ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُؤْمِنِ، وَقِيلَ: يَرَاهُ الْكَافِرُ أَوَّلًا ثُمَّ يُحْجَبُ عَنْهُ لِتَكُونَ الْحَجْبَةُ حَسْرَةً لَهُ الثَّالِثُ: الرُّؤْيَةُ فِي الْجَنَّةِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الرَّائِي، فَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي الْجَنَّةِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا كَالْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرَاهُ فِي الْعِيدِ أَوْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، الرَّابِعُ: الْكَلَامُ السَّابِقُ فِي رُؤْيَتِهِ تَعَالَى فِي غَيْرِ الدُّنْيَا لَكِنْ فِي الْمَوْقِفِ الصَّحِيحِ اخْتِصَاصُهَا بِالْمُؤْمِنِ كَمَا مَرَّ، وَمُقَابِلُهُ يَرَاهُ حَتَّى الْكَافِرُ مُطْلَقًا، وَقِيلَ: خُصُوصُ الْمُنَافِقِ ثُمَّ يُحْجَبُ، وَأَمَّا فِي الْجَنَّةِ فَالِاخْتِصَاصُ بِالْمُؤْمِنِ ظَاهِرٌ لِحُرْمَةِ الْجَنَّةِ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا فَهِيَ مِنْ الْجَائِزَاتِ الْعَقْلِيَّةِ بِدَلِيلِ طَلَبِ سَيِّدِنَا مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَهَا مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنْ لَمْ تَقَعْ لَهُ عَلَى الْأَصَحِّ وَلَا لِغَيْرِهِ فِي الدُّنْيَا يَقِظَةً إلَّا لِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ. قَالَ النَّوَوِيُّ: " وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ ". وَأَمَّا مُوسَى فَفِي رُؤْيَتِهِ خِلَافٌ الْأَصَحُّ أَنَّهُ لَمْ يَرَهُ، فَمَنْ ادَّعَاهَا مِنْ آحَادِ النَّاسِ غَيْرُهُمَا فِي الدُّنْيَا يَقِظَةً فَهُوَ ضَالٌّ بِإِطْبَاقِ الْمَشَايِخِ. وَفِي كُفْرِهِ قَوْلَانِ: فَفِي الْحَدِيثِ: «وَاعْلَمُوا أَنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَرَى رَبَّهُ حَتَّى يَمُوتَ وَهُوَ قَاطِعٌ لِلنِّزَاعِ» . وَمَا يَقَعُ لِبَعْضِ الْمَشْهُورِينَ بِالْوِلَايَةِ مِنْ دَعْوَى رُؤْيَتِهِ تَعَالَى يَقِظَةً فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ لَا الرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ، وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ تَعَالَى فِي الْمَنَامِ فَلَا خِلَافَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَتَمَثَّلُ بِهِ تَعَالَى. الْخَامِسُ: وَقَعَ خِلَافٌ فِي كُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ الرُّؤْيَةَ، فَنَقَلَ شُرَّاحُ هَذَا الْكِتَابِ كَالْجَزُولِيِّ وَالْأَقْفَهْسِيِّ وَالشَّاذِلِيِّ التَّكْفِيرَ، وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْأَفْعَالِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَالتَّوَلُّدِ وَشِبْهِهَا مِنْ الدَّقَائِقِ فَالْمَنْعُ مِنْ إكْفَارِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا أَوْضَحُ، إذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ شَيْءٌ مِنْهَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ، وَلَا أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى تَكْفِيرِ مَنْ جَهِلَ شَيْئًا مِنْهَا، نَعَمْ يُؤَدَّبُ وَيُفَسَّقُ إنْ لَمْ يَتُبْ، وَأَمَّا مَنْ لَا تَأْوِيلَ عِنْدَهُ أَصْلًا وَهُوَ الْعَابِدُ، وَالْجَاهِلُ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى شُبْهَةٍ فَيَكْفُرُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي الْجَنَّةِ الَّتِي يَحْصُلُ فِيهَا النَّظَرُ هَلْ هِيَ فِي الدُّنْيَا أَوْ هِيَ دَارُ الثَّوَابِ؟ بَيَّنَ الصَّحِيحَ مِنْ الْخِلَافِ بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ) أَيْ الْجَنَّةُ بِمَعْنَى دَارٍ حَدِيثًا وَأَيَّدَهَا دَارَ خُلُودٍ وَأَكْرَمَ اللَّهُ فِيهَا أَوْلِيَاءَهُ (الَّتِي أُهْبِطَ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ لِبِنَائِهِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى أُنْزِلَ (مِنْهَا آدَم) بِالرَّفْعِ عَلَى النِّيَابَةِ عَنْ الْفَاعِلِ وَمَنَعَ الصَّرْفَ الْعَلَمِيَّةُ وَالْعُجْمَةُ، وَلَوْ قَرَأَ أَهْبَطَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَالْفَاعِلُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَلَى اللَّهِ لَصَحَّ نَصْبُ آدَمَ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ، وَآدَمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأُدْمَةِ لَوْنِهِ وَهِيَ حُمْرَةٌ تَمِيلُ إلَى سَوَادٍ، وَكُنْيَتُهُ إلَى الْجَنَّةِ أَبُو مُحَمَّدٍ، كَانَ هُبُوطُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، كَمَا كَانَ خَلْقُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَمِنْهَا أُخْرِجَ وَأُنْزِلَ إلَى الْأَرْضِ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَقِيلَ بِمَا خُلِقَ فِي الْأَرْضِ وَرُدَّ إلَيْهَا، وَعَاشَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَتْ وَفَاتُهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَدَفَنَهُ وَلَدُهُ شِيثٌ، بِغَارِ أَبِي قَيْسٍ: وَكَانَ طُولُهُ يَوْمَ خَلَقَهُ اللَّهُ مِنْ الطِّينِ خَمْسَمِائَةِ ذِرَاعٍ، وَمَاتَ وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، وَعَرْضُهُ سَبْعَةُ أَذْرُعٍ، وَكَانَ بَيْنَ خَلْقِهِ وَنَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ أَرْبَعُ جُمَعٍ مِنْ جُمَعِ الْآخِرَةِ، وَكَانَ بَيْنَ دُخُولِهِ الْجَنَّةَ وَخُرُوجِهِ سِتَّةُ أَيَّامٍ، وَسَبَبُ هُبُوطِهِ أَنَّهُ نُهِيَ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ فَأَكَلَ مِنْهَا، قِيلَ نَاسِيًا، وَقِيلَ مُتَأَوِّلًا ظَنًّا مِنْهُ أَنَّهَا غَيْرُ الَّتِي نُهِيَ عَنْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي تِلْكَ الشَّجَرَةِ فَقِيلَ شَجَرَةُ التِّينِ، وَقِيلَ الْحِنْطَةُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَصَدَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا. . . إلَخْ، الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ: إنَّ الَّتِي أُهْبِطَ مِنْهَا آدَم جَنَّةٌ فِي الدُّنْيَا بِأَرْضِ عَدَنَ مُحْتَجًّا عَلَى ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى وَصَفَ جَنَّةَ أَوْلِيَائِهِ بِدَارِ الْخُلْدِ وَالْقَرَارِ وَالْمُقَامَةِ وَالسَّلَامِ وَالْجَزَاءِ، وَلَا خَوْفَ فِيهَا وَلَا نَصَبَ وَلَا لَغْوَ وَلَا تَأْثِيمَ وَلَا كَدَرَ وَلَا حَسَدَ، وَمَنْ دَخَلَهَا لَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَهَذِهِ الصِّفَاتُ مَنْفِيَّةٌ عَنْ جَنَّةِ آدَمَ لِأَنَّهُ أُخْرِجَ مِنْهَا وَكَذَبَ فِيهَا إبْلِيسُ وَأَثِمَ وَتَكَبَّرَ وَحَسَدَ، وَيَسْتَحِيلُ وَصْفُ اللَّهِ لَهَا بِصِفَةٍ هِيَ عَلَامَةٌ عَلَى خِلَافِهَا، وَأُجِيبَ عَمَّا اُسْتُدِلَّ بِهِ بِأَنَّ صِفَاتِ الْجَنَّةِ لَيْسَتْ ذَاتِيَّةً لَهَا، بَلْ يَجُوزُ وَصْفُهَا بِذَلِكَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، أَوْ يَكُونُ وَصْفُهَا بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ مَوْقُوفًا عَلَى شَرْطٍ فَلَا تُوصَفُ بِهِ قَبْلَ ذَلِكَ الشَّرْطَ، وَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بِالْجَنَّةِ فِي كَلَامِهِ دَارَ الثَّوَابِ عَلَى الصَّحِيحِ، وَكَانَ الْمُرَادُ بِآدَمَ فِي كَلَامِهِ أَيْضًا أَبَا الْبَشَرِ وَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: (نَبِيُّهُ وَخَلِيفَتُهُ) أَيْ اللَّهِ تَعَالَى فِي حُكْمِهِ بِأَمْرِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 إلَى أَرْضِهِ: بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ. ، وَأَنَّ اللَّهَ خَلَقَ النَّارَ فَأَعَدَّهَا دَارَ خُلُودٍ لِمَنْ كَفَرَ بِهِ، وَأَلْحَدَ فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ   [الفواكه الدواني] لِأَنَّ كُلَّ نَبِيٍّ خَلِيفَتُهُ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِخَلَفِهِ مَنْ كَانَ قَبْلَهُ أَيْ مِنْ الْإِنْسِ؛ لِأَنَّ آدَمَ أَبُو الْبَشَرِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، فَقَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ: كَانَ قَبْلَ آدَمَ سَبْعُ أُمَمٍ يَتَعَيَّنُ فَهْمُهُ عَلَى ذَلِكَ رَاجِعٌ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] . فَإِنَّهُمْ بَنُو الْجَانِّ فَإِنَّهُمْ كَانُوا فِي الْأَرْضِ فَلَمَّا أَفْسَدُوا أَرْسَلَ إلَيْهِمْ الْمَلَائِكَةَ فَطَرَدُوهُمْ إلَى الْجَزَائِرِ وَالْجِبَالِ رَاجِعِ التَّفْسِيرَ، وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُوُفِّيَ سَبْعُونَ أُمَّةً قَبْلهَا هِيَ آخِرُهَا» فَيَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أُمَمِ الْأَنْبِيَاءِ السَّابِقِينَ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّ آدَمَ الَّذِي أُهْبِطَ مِنْ الْجَنَّةِ لَيْسَ هُوَ نَبِيٌّ لِلَّهِ وَإِنَّمَا هُوَ رَجُلٌ لَيْسَ بِنَبِيٍّ كَانَ فِي حَدِيقَةٍ لَهُ عَلَى رَبْوَةٍ أَيْ مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ فَعَصَى فِيهَا فَأُهْبِطَ مِنْهَا، فَنَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْجَنَّةُ الَّتِي هِيَ دَارُ الثَّوَابِ، وَآدَمُ هُوَ أَبُو الْبَشَرِ، فَيَجُوزُ فِي نَبِيِّهِ وَخَلِيفَتِهِ الرَّفْعُ وَالنَّصْبُ عَلَى حُكْمِ مَا سَبَقَ فِي آدَمَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ وَصِلَةُ أُهْبِطَ (إلَى أَرْضِهِ) وَكَذَا قَوْلُهُ: (بِمَا سَبَقَ فِي سَابِقِ عِلْمِهِ) فَإِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِأُهْبِطَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَنْزَلَ آدَمَ مِنْ الْجَنَّةِ إلَى الْأَرْضِ بِسَبَبِ حُصُولِ مَا سَبَقَ فِي عِلْمِهِ الْقَدِيمِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِي الْأَكْلِ مِنْ الشَّجَرَةِ. فَقَوْلُهُ: فِي سَابِقِ عِلْمِهِ صِلَةٌ لَسَبَقَ وَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ عِلْمُهُ السَّابِقُ، وَهَذَا سَبْقُ حُكْمٍ وَمَرْتَبَةٍ لَا سَبْقُ زَمَانٍ؛ لِأَنَّ عِلْمَهُ قَدِيمٌ لَا يَتَقَيَّدُ بِزَمَانٍ وَلَا تَرْتِيبَ فِي تَعَلُّقِ عِلْمِهِ، بَلْ عِلْمُهُ مُتَعَلِّقٌ بِسَائِرِ أَقْسَامِ الْحُكْمِ الْعَقْلِيِّ تَعَلُّقًا تَنْجِيزِيًّا قَدِيمًا، وَالْهُبُوطُ يَكُونُ مَعْنَوِيًّا وَحِسِّيًّا، فَالْحِسِّيُّ يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَعْنَوِيُّ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ الِانْحِطَاطُ فِي الرُّتْبَةِ، وَهُبُوطُ آدَمَ حِسِّيٌّ وَهُوَ رُقِيٌّ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ؛ لِأَنَّهُ ازْدَادَ بِهِ قَدْرُهُ بِسَبَبِ النُّبُوَّةِ وَحُصُولِ الذُّرِّيَّةِ وَإِنْزَالِ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ عَلَى مَا وُجِدَ مِنْ تِلْكَ الذُّرِّيَّةِ وَهُوَ الْأَنْبِيَاءُ وَالْمُرْسَلُونَ وَسَائِرُ الصَّالِحِينَ، فَإِهْبَاطُهُ مِنْهَا لَيْسَ طَرْدًا بَلْ لِقَضَاءِ أَوْطَارِهِ ثُمَّ يَعُودُ إلَيْهَا، قَالَ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ: فَكَانَ مُرَادُ الْحَقِّ مِنْ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الْأَكْلَ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ لِيُنْزِلَهُ إلَى الْأَرْضِ وَيَسْتَخْلِفَهُ فِيهَا، فَكَانَ هُبُوطًا فِي الصُّورَةِ رُقِيًّا فِي الْمَعْنَى. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَاَللَّهِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ آدَمَ إلَى الْأَرْضِ وَاسْتَخْلَفَهُ فِيهَا لِتَنْقِيصِهِ وَإِنَّمَا أَنْزَلَهُ لِيَجْعَلَ لَهُ الْمَزِيَّةَ حَتَّى عَلَى الْمَلَائِكَةِ بِتَعْلِيمِهِمْ وَالْقِيَامِ بِوَظَائِفِ التَّكْلِيفِ، فَكَمَّلَ فِي آدَمَ الْعُبُودِيَّتَانِ: عُبُودِيَّةَ التَّعْرِيفِ وَعُبُودِيَّةَ التَّكْلِيفِ، فَعَظُمَتْ مِنَّةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَتَوَفَّرَ إحْسَانُهُ إلَيْهِ. تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ جَمِيعَ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ إنْسٍ وَجِنٍّ مِنْ شَخْصَيْنِ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَإِبْلِيسُ لَعَنْهُ اللَّهُ، فَجَمِيعُ الْبَشَرِ مِنْ آدَمَ وَجَمِيعُ الْجِنِّ مِنْ إبْلِيسَ، وَكَانَ لَإِبْلِيسَ سَبْعَةُ أَوْلَادٍ لِكُلِّ وَاحِدٍ حِرْفَةٌ مِنْ حِرَفِ السُّوءِ لَا يَنْفَكُّ عَنْهَا كَالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ وَكَالدُّخُولِ بَيْنَ الزَّوْجِ وَزَوْجَتِهِ بِالرَّمْيِ بِالْمَكَارِهِ، وَلَمْ أَطَّلِعْ عَلَى مَا مِنْهُ وِلَادَةُ إبْلِيسَ هَلْ مِنْ زَوْجِهِ أَوْ مِنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَقِيلَ وُلِدَ لَهُ مِنْ حَوَّاءَ أَرْبَعُونَ بَطْنًا فِي كُلِّ بَطْنٍ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، وَكَانَ يُزَوِّجُ ذَكَرَ هَذَا الْبَطْنِ لِأُنْثَى الْأُخْرَى، فَمَا مَاتَ حَتَّى بَلَغَتْ ذُرِّيَّتُهُ مِائَةَ أَلْفٍ مَاتُوا جَمِيعًا إلَّا شِيثًا، وَخَرَجَ مِنْ شِيثٍ ذُرِّيَّةٌ كَثِيرَةٌ إلَّا نُوحًا، وَخَرَجَ مِنْ نُوحٍ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ سَامٌ وَحَامٌ وَيَافِثُ وَهُمْ الَّذِينَ أَعْقَبُوا، فَسَامٌ أَبُو الْعَرَبِ وَالْفُرْسِ وَالرُّومِ، وَحَامٌ أَبُو السُّودَانِ، وَيَافِثُ أَبُو التُّرْكِ وَالْخَزْرَجِ وَيَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ وَمَا هُنَالِكَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا هَبَطَ نُوحٌ مِنْ السَّفِينَةِ لِعِمَارَةِ الْأَرْضِ نَامَ ذَاتَ يَوْمٍ فَبَدَتْ عَوْرَتُهُ فَنَظَرَ إلَيْهَا حَامٌ فَضَحِكَ وَلَمْ يَسْتُرْ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَأَى ذَلِكَ سَامٌ فَأَعْرَضَ بِوَجْهِهِ وَغَطَّى عَوْرَةَ أَبِيهِ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ أُخْبِرَ بِذَلِكَ، فَدَعَا وَلَدَهُ حَامًا فَقَالَ لَهُ: يَا بُنَيَّ غَيَّرَ اللَّهُ مَاءَ صُلْبِك فَلَا يَلِدُ غَيْرَ السُّودَانِ السِّنْدِ وَالْهِنْدِ وَالنُّوبَةِ، وَقَوْلُنَا إلَّا شَيْئًا الْمُرَادُ وَزَوْجُهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ يُقَالُ فِي نُوحٍ. الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ حَمْلِ حَوَّاءَ فَقِيلَ كَغَيْرِهَا وَقِيلَ كَانَتْ أَقَلَّ، كَمَا اُخْتُلِفَ فِي الْوَطْءِ فَقِيلَ مَا حَصَلَ مِنْ آدَمَ إلَّا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ هُبُوطِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَالْمُعَلِّمُ لَهُ جِبْرِيلُ وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ. الثَّالِثُ: شَارَكَ آدَم - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي الْهُبُوطِ مِنْ الْجَنَّةِ حَوَّاءُ وَإِبْلِيسُ وَالْحَيَّةُ، فَإِنَّ إبْلِيسَ كَانَ مِنْ خَزَنَةِ الْجَنَّةِ وَلَيْسَ مِنْ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّهُ أَبُو الْجِنِّ كَمَا مَرَّ، وَكَذَا عَصَا مُوسَى فَإِنَّهَا كَانَتْ مَعَ آدَمَ فَهَبَطَتْ مَعَهُ فَتَنَاوَلَتْهَا ذُرِّيَّتُهُ حَتَّى وَصَلَتْ مُوسَى وَهِيَ مِنْ آسِ الْجَنَّةِ، وَخَاتَمُ سُلَيْمَانَ فَإِنَّهُ كَانَ مَعَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَخَرَجَ بِهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَتَنَاوَلَتْهُ ذُرِّيَّتُهُ حَتَّى وَصَلَ لِسُلَيْمَانَ، وَالْحَجَرُ الْأَسْوَدُ كَانَ مِنْ جَوَاهِرِ الْجِنَانِ فَأَخَذَهُ آدَم فَصَارَ حَجَرًا وَهَبَطَ مَعَهُ وَصَارَ فِي أَرْكَانِ الْكَعْبَةِ، وَالْعُودُ الَّذِي مِنْهُ الطِّيبُ، وَوَرَقُ التِّينِ الَّذِي سَتَرَ سَوْأَتَيْهِمَا حِين بَدَتَا فَنَزَلَ مَعَهُمَا. (وَ) لَمَّا قَدَّمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الْجَنَّةَ دَارَ إقَامَةٍ لِأَوْلِيَائِهِ ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ خَلَقَ أَيْضًا النَّارَ دَارَ خُلُودٍ لِأَعْدَائِهِ فَقَالَ: (إنَّ اللَّهَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وَرُسُلِهِ، وَجَعَلَهُمْ مَحْجُوبِينَ عَنْ رُؤْيَتِهِ. وَأَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَجِيءُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا: لِعَرْضِ   [الفواكه الدواني] تَعَالَى (خَلَقَ النَّارَ) الْمُرَادُ دَارُ الْعَذَابِ بِجَمِيعِ طِبَاقِهَا السَّبْعِ الَّتِي أَعْلَاهَا جَهَنَّمُ وَتَحْتَهَا لَظًى، ثُمَّ الْحُطَمَةُ ثُمَّ السَّعِيرُ ثُمَّ سَقَرُ ثُمَّ الْجَحِيمُ ثُمَّ الْهَاوِيَةُ، وَبَابُ كُلٍّ مِنْ دَاخِلِ الْأُخْرَى عَلَى الِاسْتِوَاءِ، وَبَيْنَ أَعْلَى جَهَنَّمَ وَأَسْفَلِهَا سَبْعُمِائَةِ سَنَةٍ، وَحَرُّهَا هَوَاهُ مُحْرِقٌ وَلَا جَمْرَ لَهَا سِوَى بَنِي آدَمَ وَالْأَحْجَارُ الْمُتَّخَذَةُ آلِهَةً مِنْ دُونِ اللَّهِ، وَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ هَذِهِ النَّارَ الَّتِي فِي الدُّنْيَا مَا أَخْرَجَهَا اللَّهُ إلَى النَّاسِ مِنْ جَهَنَّمَ حَتَّى غُسِلَتْ فِي الْبَحْرِ مَرَّتَيْنِ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمْ يُنْتَفَعْ بِهَا مِنْ حَرِّهَا وَكَفَى بِهَذَا زَاجِرًا. (فَأَعَدَّهَا) أَيْ هَيَّأَهَا (دَارَ خُلُودٍ) عَلَى التَّأْبِيدِ (لِمَنْ كَفَرَ بِهِ) أَيْ لَمْ يُصَدِّقْ بِهِ. (وَ) لِمَنْ (أَلْحَدَ) أَيْ ارْتَابَ (فِي آيَاتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ) وَمَلَائِكَتِهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ، وَالْمُرَادُ بِآيَاتِهِ الْمَخْلُوقَاتُ الدَّالَّةُ عَلَى وُجُودِهِ تَعَالَى وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَتَمَامِ قُدْرَتُهُ وَالْإِلْحَادُ وَالْكُفْرُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ عَدَمُ التَّصْدِيقِ بِمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِآيَاتِهِ آيَاتُ كُتُبِهِ، وَالْإِلْحَادُ فِيهَا تَأْوِيلُهَا عَلَى خِلَافِ مَا تَأَوَّلَهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ، وَبِالْجُمْلَةِ فَعَطْفُ أَلْحَدَ عَلَى مَا قَبْلَهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ. (وَجَعَلَهُمْ) أَيْ وَصَيَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ كَفَرَ بِهِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ كُتُبِهِ أَوْ رُسُلِهِ (مَحْجُوبِينَ) أَيْ مَمْنُوعِينَ وَمَطْرُودِينَ (عَنْ رُؤْيَتِهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ نَزْعٍ قِيلَ وَكَذَا فِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ يَرَوْنَهُ فِيهَا ثُمَّ يُحْجَبُونَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا حُجِبُوا عَنْ الرُّؤْيَةِ لِمَا أَنَّهَا إكْرَامٌ وَهُمْ لَيْسُوا مِنْ أَهْلِهِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عَبَّرَ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي هُنَا وَفِي قَوْلِهِ سَابِقًا خَلَقَ الْجَنَّةَ إشَارَةً إلَى وُجُودِهِمَا الْآنَ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَأَنَّهُمَا لَا يَفْنَيَانِ فَهُمَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَالنَّارُ حَقٌّ أُوجِدَتْ كَالْجَنَّهْ ... فَلَا تَمِلْ لِجَاحِدٍ ذِي جِنَّهْ دَارُ خُلُودٍ لِلسَّعِيدِ وَالشَّقِيّ ... مُعَذَّبٌ مُنَعَّمٌ مَهْمَا بَقِيَ قَالَ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ - خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود: 106 - 107] {وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ، وَالْمُرَادُ بِالسَّعِيدِ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا، وَبِالشَّقِيِّ مَنْ اسْتَوْجَبَ النَّارَ وَإِنْ كَانَ مُسْلِمًا، وَمَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ الْأَوَّلِ أَنَّ بَعْضَ الْأَشْقِيَاءِ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ كَالْعُصَاةِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ شَقُوا بِالْعِصْيَانِ، فَقَوْلُهُ: {إِلا مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107] أَيْ عَدَمَ خُلُودِهِ فَيُخْرِجُهُ مِنْهَا. وَمَعْنَى الثَّانِي أَنَّ بَعْضَ السُّعَدَاءِ لَا يُخَلَّدُ فِي الْجَنَّةِ بَلْ يُفَارِقُهَا ابْتِدَاءً يَعْنِي أَيَّامَ عَذَابِهِ كَالْفُسَّاقِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ سُعِدُوا بِالْإِيمَانِ وَالتَّأْبِيدُ مِنْ مَبْدَأٍ مُعَيَّنٍ كَمَا يَنْتَقِضُ بِاعْتِبَارِ الِانْتِهَاءِ فَكَذَلِكَ بِاعْتِبَارِ الِابْتِدَاءِ، الثَّانِي: تَدْخُلُ فِيمَنْ كَفَرَ مِنْ الْجِنِّ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: اتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْجِنَّ مُعَذَّبُونَ فِي الْآخِرَةِ عَلَى الْمَعَاصِي. قَالَ تَعَالَى: {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [هود: 119] وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمْ يَدْخُلُونَهَا وَيُثَابُونَ فَيُنَعَّمُونَ فِيهَا بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَغَيْرِهِمَا كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ حَقٌّ أَنَّهُمَا لَا يُدْخَلَانِ إلَّا بَعْدَ الْحِسَابِ ذَكَرَهُ عَقِبَهُمَا وَإِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ تَأْخِيرُهُمَا عَنْهُ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ حَقِيقَةً (أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) أَيْ تَزَايَدَ وَتَكَاثَرَ خَيْرُهُ وَتَعَاظَمَ وَارْتَفَعَ قَدْرُهُ عَمَّا يَقُولُ الْجَاهِلُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (يَجِيءُ) الْمُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ حَامِلُ أَمْرِهِ أَوْ الْمُرَادُ ظُهُورُ آثَارِ قُدْرَتِهِ وَقَهْرِهِ لِاسْتِحَالَةِ الْحَرَكَةِ وَالِانْتِقَالِ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَالْقَصْدُ مِنْ ذَلِكَ التَّمْثِيلُ بِمَا يَظْهَرُ عِنْدَ حُضُورِ السُّلْطَانِ مِنْ تَعْظِيمِ هَيْبَتِهِ وَإِتْقَانِ سِيَاسَتِهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ خَلْقِهِ. (يَوْمَ الْقِيَامَةِ) وَهُوَ زَمَنُ انْقِرَاضِ الدُّنْيَا وَلِذَا يُقَالُ لَهُ الْيَوْمُ الْآخِرُ؛ لِأَنَّهُ آخِرُ أَيَّامِ الدُّنْيَا، وَأَوَّلُهُ مِنْ النَّفْخَةِ الثَّانِيَةِ إلَى اسْتِقْرَارِ الْخَلْقِ فِي الدَّارَيْنِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِقِيَامِ الْخَلْقِ كُلِّهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ فِيهِ، وَقِيَامِهِمْ بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِمْ، وَقِيَامِ الْحُجَّةِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ وَهِيَ مَصْدَرُ قَامَ، وَدَخَلَتْهَا التَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي نَحْوِ عَلَّامَةٌ وَنَسَّابَةٌ (وَ) يَجِيءُ (الْمَلَكُ) أَيْضًا حَالَةَ كَوْنِهِ (صَفًّا صَفًّا) أَيْ صَفًّا بَعْدَ صَفٍّ فَهُوَ حَالٌ مِنْ الْمَلَكِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْجِنْسُ؛ لِأَنَّ الِاصْطِفَافَ إنَّمَا يَحْصُلُ مِنْ الْمُتَعَدِّدِ وَصَفًّا مَصْدَرٌ لَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى ذِي الْحَالِ، فَهُوَ إمَّا عَلَى التَّأْوِيلِ بِالْمُشْتَقِّ أَيْ مُصْطَفِّينَ، أَوْ عَلَى حَذْفِ الْمُضَافِ أَيْ ذَوِي صُفُوفٍ وَتِلْكَ الْحَالُ مَنْوِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الِاصْطِفَافَ لَيْسَ مُقَارِنًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الْأُمَمِ وَحِسَابِهَا، وَعُقُوبَتِهَا، وَثَوَابِهَا. ، وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ؛ فَأُولَئِكَ هُمْ.   [الفواكه الدواني] لِلْمَجِيءِ بَلْ بَعْدَهُ وَلَيْسَ صَفًّا الثَّانِي تَأْكِيدًا لِلْأَوَّلِ؛ لِأَنَّ الصُّفُوفَ مُتَعَدِّدَةٌ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ، وَتَكُونُ الْخَلْقُ إذْ ذَاكَ عَلَى الصِّرَاطِ يَأْمُرُهَا اللَّهُ تَعَالَى أَنْ تَمْتَدَّ كَالْأَدِيمِ مَسِيرَةَ خَمْسِمِائَةِ عَامٍ، فَيَنْزِلُ الْخَلَائِقُ مِنْ فَوْقِ الصِّرَاطِ وَتَجْتَمِعُ فِيهَا فَعِنْدَ ذَلِكَ تَنْزِلُ مَلَائِكَةُ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيَصْطَفُّونَ وَيَحْتَاطُونَ بِالْخَلَائِقِ صَفًّا أَوَّلًا ثُمَّ مَلَائِكَةُ السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ وَهَكَذَا بِعَدَدِ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ، ثُمَّ بَعْدَ تَنَاهِي الصُّفُوفِ السَّبْعِ يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33] أَيْ بِحَجَّةٍ، وَخَالَفَ لَفْظَ الْقُرْآنِ فِي تَعْبِيرِهِ بِيَجِيءُ لِمُطَابَقَةِ الْوَاقِعِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمَاضِي فِي الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى الْمُضَارِعِ فَهُوَ مِنْ بَابِ الِاقْتِبَاسِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِهِ وَهُوَ يُغْتَفَرُ فِيهِ التَّغْيِيرُ الْيَسِيرُ الْمُنَاسِبُ لِلْمَقَامِ، وَالْمَلَكُ مُفْرَدُ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ عِنْدَ الْجُمْهُورِ أَجْسَامٌ لَطِيفَةٌ نُورَانِيَّةٌ أَعْطَاهَا اللَّهُ قُدْرَةَ التَّشَكُّلِ بِأَشْكَالٍ مُخْتَلِفَةٍ كَامِلَةٍ فِي الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ، شَأْنُهَا الطَّاعَاتُ وَمَسْكَنُهَا السَّمَوَاتُ رُسُلُ اللَّهِ إلَى أَنْبِيَائِهِ وَأُمَنَاؤُهُ عَلَى وَحْيِهِ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ، وَكَثِيرًا مَا يُعِينُونَ النَّاسَ عَلَى الْأَفْعَالِ الشَّاقَّةِ كَالْغَلَبَةِ عَلَى الْأَعْدَاءِ وَكَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَالْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ، بِخِلَافِ الشَّيَاطِينِ مِنْ الْجِنِّ فَإِنَّهُمْ مِنْ النَّارِ أَوْ الْهَوَاءِ وَإِنَّمَا يُعِينُونَ عَلَى الشَّرِّ، وَصِلَةُ يَجِيءُ قَوْلُهُ: (لِعَرْضِ الْأُمَمِ) عَلَيْهِ تَعَالَى لِيَنْظُرَ فِي أَحْوَالِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ فِي يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثَلَاثُ عَرْضَاتٍ: عَرْضَتَانِ لِلِاعْتِذَارِ وَالِاحْتِجَاجِ وَالتَّوْبِيخِ وَالثَّالِثَةُ فِيهَا نَشْرُ الْكُتُبِ، فَيَأْخُذُ الْفَائِزُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ وَالْهَالِكُ يَأْخُذُهُ بِشِمَالِهِ، وَالْأُمَمُ جَمْعُ أُمَّةٍ وَهِيَ طَوَائِفُ الْمَخْلُوقِينَ بِنَاءً عَلَى بَعْثِ كُلِّ مَخْلُوقٍ أَوْ خُصُوصِ مَنْ يُحَاسَبُ مِنْ الثَّقَلَيْنِ. (وَحِسَابِهَا وَعُقُوبَتِهَا وَثَوَابِهَا) فَإِنَّ بَعْضَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَهُوَ الثَّوَابُ يَخْتَصُّ بِالثَّقَلَيْنِ، وَاخْتَصَّ الْحِسَابُ بِتِلْكَ الْحَالَةِ؛ لِأَنَّهَا أَضْيَقُ الْأَحْوَالِ بِاحْتِيَاطِ الْمَلَائِكَةِ بِهِمْ سَبْعَ صُفُوفٍ لَا يَسْتَطِيعُ ذُو الْبَطْشِ مِنْهُمْ الْهُرُوبَ نَسْأَلُهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - الْإِعَانَةَ عَلَيْهِ، وَعَطْفُ الْحِسَابِ وَمَا بَعْدُهُ عَلَى الْعَرْضِ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؛ لِأَنَّ الْعَرْضَ إنَّمَا هُوَ لِأَجْلِ الْحِسَابِ وَمَا بَعْدَهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّ مُحَاسَبَةَ الرَّبِّ لِعَبْدِهِ لَيْسَتْ لِلْإِحَاطَةِ بِجَرَائِمِهِ الَّتِي يُعَاقَبُ عَلَيْهَا وَالْحَسَنَاتِ الَّتِي يُثَابُ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ بَلْ {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} [الطلاق: 12] إنَّمَا ذَلِكَ لِلتَّخْوِيفِ بِإِفْشَاءِ الْحَالِ بِإِظْهَارِ تَفَاوُتِ مَرَاتِبِ أَرْبَابِ الْكَمَالَاتِ وَفَضِيحَةِ أَرْبَابِ الضَّلَالِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْعُقُوبَةَ وَالْإِثَابَةَ نَاشِئَتَانِ عَنْ الْحِسَابِ وَمُرَتَّبَتَانِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ مِنْ بَابِ اللَّفِّ وَالنَّشْرِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ وَعَظَائِمُ الْعَرْضِ عَلَى الرَّبِّ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ فَإِنَّهُ الْيَوْمُ الَّذِي يُذِيبُ الْأَكْبَادَ وَيَفِرُّ فِيهِ الْوَالِدُ مِنْ بَنِيهِ وَالْأَخُ مِنْ أَخِيهِ وَيَشْتَدُّ فِيهِ الْقَلَقُ وَيَكْثُرُ فِيهِ الْعَرَقُ حَتَّى يَغُوصَ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَأَمَّا عَلَى ظَهْرِهَا فَيَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَتَفَاوُتِهِمْ فِي الْمَرَاتِبِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجَمُ بِعَرَقِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَغُوصُ بِنِصْفِهِ فِي عَرَقِهِ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ، يَوْمٌ تَشْهَدُ فِيهِ الْأَلْسُنُ وَالْأَيْدِي وَالْأَرْجُلُ وَالسَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَالْجُلُودُ وَالْأَرْضُ وَاللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالْحَفَظَةُ الْكِرَامُ وَتَتَغَيَّرُ فِيهِ الْأَلْوَانُ، يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ، وَبِالْجُمْلَةِ الْعَرْضُ وَالْحِسَابُ وَشَدَائِدُهُمَا مَعْلُومَةٌ لَا يُنْكِرُهَا إلَّا مُلْحِدٌ، فَيَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يُحَافَظَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمَنْهِيَّاتِ لَعَلَّ أَنْ يَنْجُوَ مِنْ الْمُهْلِكَاتِ. 1 - تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اخْتِصَاصُ الْحِسَابِ بِالْمُكَلَّفِ لِقَوْلِهِ وَعُقُوبَتُهَا، وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ: وَلَمْ أَقِفْ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِي حِسَابِ الْأَطْفَالِ وَالْبُلْهِ وَالْمَجَانِينِ وَأَهْلِ الْفَتْرَةِ وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي الْعَرْضِ هَلْ هُوَ عَامٌّ فِي الْكَافِرِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يُحَاسَبُ كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا أَوْ لَا يُعْرَضُ إلَّا مَنْ يُحَاسَبُ؟ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا وَالْعَرْضُ أَخَصُّ مِنْ الْحَشْرِ، فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ إنَّ الْبَهَائِمَ تُحْشَرُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِيمَا يُدْعَى بِهِ الشَّخْصُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُدْعَى بِأَبِيهِ وَلَوْ مِنْ زِنًى، وَقِيلَ يُدْعَى بِأُمِّهِ بِأَنْ يُقَالَ لَهُ: يَا فُلَانُ ابْنَ فُلَانَةَ سَتْرًا لِوَلَدِ الزِّنَا. 1 - الثَّانِي: الْحِسَابُ لُغَةً الْعَدَدُ وَاصْطِلَاحًا تَوْقِيفُ اللَّهِ عِبَادَهُ قَبْلَ الِانْصِرَافِ مِنْ الْمَحْشَرِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ خَيْرًا كَانَتْ أَوْ شَرًّا، تَفْصِيلًا لَا بِالْوَزْنِ إلَّا مَنْ اسْتَثْنَى مِنْهُمْ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى مُحَاسَبَتِهِ تَعَالَى عِبَادَهُ عَلَى أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ فِيهِمْ عِلْمًا ضَرُورِيًّا بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِهِمْ، وَثَانِيهَا أَنْ يُوقِفَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ وَيُؤْتِيَهُمْ كُتُبَ أَعْمَالِهِمْ، وَثَالِثُهَا أَنْ يُكَلِّمَ اللَّهُ عِبَادَهُ فِي شَأْنِ أَعْمَالِهِمْ بِأَنْ يُسْمِعَهُمْ صَوْتًا يَخْلُقُهُ يَسْمَعُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَيْثُ يَفْهَمُ مِنْهُ جَمِيعَ مَا لَهُ وَعَلَيْهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْحِسَابِ مُخْتَلِفَةٌ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الْمُفْلِحُونَ. وَيُؤْتَوْنَ صَحَائِفَهُمْ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ: فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا، وَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ   [الفواكه الدواني] فَمِنْهُ الْيَسِيرُ وَمِنْهُ الْعَسِيرُ وَمِنْهُ الْجَهْرُ وَمِنْهُ السِّرُّ، وَيَكُونُ لِلْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ وَالْإِنْسِيِّ وَالْجِنِّيِّ إلَّا مَنْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِاسْتِثْنَائِهِ فَفِي حَدِيثِ حُذَيْفَةَ: «أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِمْ حِسَابٌ» . وَإِذَا كَانَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يَكُونُ أَدْنَى إلَى رَحْمَةٍ فَلَا يُحَاسَبُ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْكَافِرِينَ مَنْ هُوَ أَدْنَى إلَى غَضَبِ اللَّهِ فَيَدْخُلُ النَّارَ وَلَا يُحَاسَبُ أَيْضًا. (فَائِدَةٌ) : مِنْ أَسْبَابِ النَّجَاةِ مِنْ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ قَضَاءُ حَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَتَفْرِيجُ الْكُرَبِ عَنْهُمْ وَالتَّجَاوُزُ لَهُمْ فِي مُعَامَلَاتِهِمْ أَخْذًا وَعَطَاءً، وَكَذَا إشْبَاعُ الْجَائِعِ وَكُسْوَةُ الْعُرْيَانِ وَإِيوَاءُ ابْنِ السَّبِيلِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا فِيهِ رِفْقٌ بِالْمُسْلِمِينَ، وَلَمَّا كَانَتْ أَحْوَالُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُتَرَتِّبَةً، أَوَّلُهَا: الْبَعْثُ وَهُوَ إخْرَاجُهُمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَإِعَادَتُهُمْ لِمَا كَانُوا عَلَيْهِ وَيُقَالُ لَهُ النُّشُورُ؛ لِأَنَّهُمْ يَنْتَشِرُونَ حِينَ خُرُوجِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ وَثَانِيهَا: الْحَشْرُ وَالْجَمْعُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47] ثَالِثُهَا: الْقِيَامُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ. رَابِعُهَا: الْعَرْضُ عَلَى الرَّبِّ. خَامِسُهَا: تَطَايُرُ الصُّحُفِ وَأَخْذُهَا بِالْأَيْمَانِ وَالشَّمَائِلِ الَّتِي يَقُولُونَ عِنْدَ أَخْذِهَا: {يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] . سَادِسُهَا: السُّؤَالُ وَالْحِسَابُ. وَسَابِعُهَا: الْمِيزَانُ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَتُوضَعُ الْمَوَازِينُ لِوَزْنِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَزْنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الَّذِينَ يُحَاسَبُونَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء: 47] . وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ} [الأعراف: 8] (فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) أَيْ مَوْزُونَاتُهُ (فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) أَيْ النَّاجُونَ، وَقَدْ بَلَغَتْ أَحَادِيثُهُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ إجْمَاعُ أَهْلِ الْحَقِّ، وَأَنَّهُ مِيزَانٌ حِسِّيٌّ لَهُ كِفَّتَانِ وَلِسَانٌ تُوضَعُ فِيهِ صُحُفُ الْأَعْمَالِ أَوْ أَعْيَانُهَا بَعْدَ تَجْسِيمِهَا لِيَظْهَرَ الرَّاجِحُ وَالْخَاسِرُ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَمِثْلُ هَذَا الْوَزْنُ وَالْمِيزَانُ ... فَتُوزَنُ الْكُتُبُ أَوْ الْأَعْيَانُ تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا بِاَلَّذِينَ يُحَاسَبُونَ لِمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ بِأَنَّ الْمِيزَانَ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ فِيهِ: «يُقَالُ يَا مُحَمَّدُ أُدْخِلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِك مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنْ الْبَابِ الْأَيْمَنِ» وَأُجْزِي الْأَنْبِيَاءَ فَاَلَّذِي لَا يُحَاسَبُ لَا تُوزَنُ أَعْمَالُهُ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: أَهْلُ الصَّبْرِ أَيْضًا لَا تُوزَنُ أَعْمَالُهُمْ وَإِنَّمَا يُصَبُّ لَهُمْ الْأَجْرُ صَبًّا. الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: الْعِبَادُ شُمُولُ الْكُفَّارِ وَفِيهِمْ قَوْلَانِ. فَمَنْ قَالَ بِدُخُولِهِمْ نَظَرَ لِعُمُومِ الْآيَاتِ، وَمَنْ قَالَ بِعَدَمِ دُخُولِهِمْ فَقَدْ نَظَرَ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا} [الكهف: 105] وَأَوَّلُهَا مَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ بِأَنَّهُ عَلَى حَذْفِ الصِّفَةِ أَيْ نَافِعًا، وَالْإِنْسُ وَالْجِنُّ فِي كُلِّ ذَلِكَ سَوَاءٌ. الثَّالِثُ: وَقْتُ الْوَزْنِ بَعْدَ الْحِسَابِ كَمَا ذَكَرْنَا وَمَكَانُهُ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِحْدَى كِفَّتَيْهِ عَلَى الْجَنَّةِ وَالْأُخْرَى عَلَى النَّارِ، وَالْمُنْتَصِبُ لِذَلِكَ جِبْرِيلُ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْخُذُ بِعَمُودِهِ مُسْتَقْبِلًا بِهِ الْعَرْشَ وَمِيكَائِيلُ أَمِينٌ عَلَيْهِ وَهُوَ مِيزَانٌ وَاحِدٌ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ، وَقِيلَ مُتَعَدِّدٌ بِتَعَدُّدِ الْأُمَمِ، وَقِيلَ بِعَدَدِ الْمُكَلَّفِينَ. الرَّابِعُ: ظَوَاهِرُ الْأَحَادِيثِ وَأَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ أَنَّ كَيْفِيَّةَ الْوَزْنِ خِفَّةً وَثِقَلًا فِي الْآخِرَةِ مِثْلُ كَيْفِيَّتِهِ فِي الدُّنْيَا مَا ثَقُلَ وَرَجَحَ نَزَلَ إلَى أَسْفَلَ ثُمَّ يُرْفَعُ إلَى عِلِّيِّينَ، وَمَا خَفَّ طَاشَ إلَى أَعْلَى ثُمَّ نَزَلَ إلَى سِجِّينٍ، وَعَلَامَةُ الرُّجْحَانِ ظُهُورُ نُورٍ وَعَلَامَةُ عَدَمِهِ ظُهُورُ ظُلْمَةٍ، وَقِيلَ: يَخْلُقُ اللَّهُ لِصَاحِبِ الْعَمَلِ عِلْمًا ضَرُورِيًّا يَعْرِفُ بِهِ الرَّاجِحَ مِنْ الْحَسَنَاتِ أَوْ السَّيِّئَاتِ. الْخَامِسُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ مُقَابِلِ: {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} [الأعراف: 8] وَهُوَ {مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} [القارعة: 8] ، فَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ فَأُولَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ وَيُحْمَلُ عَلَى الْكَافِرِ وَهُوَ الظَّاهِرُ، وَسَكَتَ أَيْضًا عَمَّنْ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُ وَسَيِّئَاتُهُ قِيلَ: وَهُمْ أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ وَهُوَ سُوَرٌ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ. قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ فَمَنَعَتْهُمْ الْحَسَنَاتُ مِنْ النَّارِ وَالسَّيِّئَاتُ مِنْ الْجَنَّةِ فَيَقُومُونَ فِي سُوَرِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يُدْخِلُهُمْ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِهِ وَهُمْ آخِرُ مَنْ يَدْخُلُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وَرَاءَ ظَهْرِهِ: فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا. وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ، يَجُوزُهُ الْعِبَادُ بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ   [الفواكه الدواني] السَّادِسُ: سَكَتَ عَنْ الصِّنَجِ الَّتِي يُوزَنُ بِهَا، فَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَمَثَاقِيلِ الذَّرِّ تَحْقِيقًا لِلْعَدْلِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِمْ: تُوضَعُ الْحَسَنَةُ فِي كِفَّةٍ وَالسَّيِّئَاتُ فِي كِفَّةٍ أَنَّ الصِّنَجَ إنَّمَا يُحْتَاجُ إلَيْهَا فِيمَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ فَقَطْ أَوْ سَيِّئَاتٌ فَقَطْ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ حَسَنَاتٌ وَسَيِّئَاتٌ فَإِنَّهَا تُوضَعُ حَسَنَاتُهُ فِي مُقَابَلَةِ سَيِّئَاتِهِ حَرَّرَهُ. السَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: إذَا وَقَعَ الْوَزْنُ بَيْنَ الْعِبَادِ فِي الْمَظَالِمِ وَالْحُقُوقِ وَتَعَدَّتْ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ بِمَعْنَى فَرَغَتْ حَسَنَاتُ الظَّالِمِ قَبْلَ فَرَاغِ مَا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْ سَيِّئَاتِ الْمَظْلُومِ وَتُطْرَحُ عَلَى الظَّالِمِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أَيْ لَا تَحْمِلُ نَفْسٌ ذَنْبَ أُخْرَى لِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ مِنْ أَنَّ الْآيَةَ فِي شَخْصَيْنِ لَا حَقَّ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ، فَأَمَّا هَذِهِ فَبِذَنْبِهِ أُخِذَ وَبِكَسْبِهِ غُفِرَتْ، وَمَحَلُّ الطَّرْحِ الْمَذْكُورِ إذَا مَاتَ الظَّالِمُ وَهُوَ قَادِرٌ عَلَى الْقَضَاءِ، وَأَمَّا إذَا مَاتَ عَاجِزًا فَلَا يُطْرَحُ عَلَيْهِ مِنْ سَيِّئَاتِ مَظْلُومِهِ شَيْءٌ. قَالَ الشَّيْخُ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ الْكَلَامِ السَّابِقِ: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَظْلُومِ سَيِّئَةٌ كَالْأَنْبِيَاءِ وَلَا لِلظَّالِمِ حَسَنَةٌ كَالْكُفَّارِ فَيُعْطَى الْمَظْلُومُ مِنْ الثَّوَابِ بِقَدْرِ مَا يَسْتَحِقُّهُ عَلَى الظَّالِمِ، وَيُزَادُ فِي عُقُوبَةِ الظَّالِمِ بِقَدْرِ مَا كَانَ يَأْخُذُ مِنْهُ الْمَظْلُومُ أَنْ لَوْ كَانَ ثُمَّ مَا يُؤْخَذُ، ثُمَّ قَالَ: وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ إذَا كَانَ الْمَظْلُومُ ذِمِّيًّا وَالظَّالِمُ مُسْلِمًا فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْقُطُ حَقُّهُ كَالْحَرْبِيِّ، وَقَالَ آخَرُونَ: صَارَ حَقًّا لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْلُبُ بِهِ الظَّالِمَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إلَّا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ انْتَقَصَهُ أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَالْحَدِيثُ بَلَغَتْ رُوَاتُهُ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ. الثَّامِنُ: لَيْسَ وَزْنُ أَعْمَالِ الْعِبَادِ لِلْوُصُولِ لِلْإِحَاطَةِ بِمَقَادِيرِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَإِنَّمَا حِكْمَةُ ذَلِكَ امْتِحَانُ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِيمَانِ بِذَلِكَ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَتَخْوِيفُهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ السَّيِّئَاتِ وَتَرْغِيبُهُمْ فِي فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ تَعَالَى مُحِيطٌ بِكُلِّ شَيْءٍ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسَى} [طه: 52] . (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ أَنَّ الْمُكَلَّفِينَ الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ حِسَابَهُمْ (يُؤْتَوْنَ) أَيْ يُعْطُونَ (صَحَائِفَهُمْ) جَمْعُ صَحِيفَةٍ وَهِيَ الْكُتُبُ الْمَشْحُونَةُ (بِأَعْمَالِهِمْ) الَّتِي كَتَبَهَا عَلَيْهِمْ الْحَفَظَةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ أَخْذَ الصُّحُفِ بَعْدَ الْعَرْضِ وَقَبْلَ السُّؤَالِ وَالْحِسَابِ، فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُقَدِّمَ أَخْذَ الصُّحُفِ عَلَى الْوَزْنِ؛ لِأَنَّ الْوَزْنَ بَعْدَ الْحِسَابِ وَالْحِسَابَ بَعْدَ أَخْذِ الصُّحُفِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَحَقِّيَّةِ أَخْذِ الصُّحُفِ الْكِتَابُ وَالْأَحَادِيثُ وَالْإِجْمَاعُ. قَالَ تَعَالَى: {وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلا أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّحَائِفِ كُتُبُ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي كُتِبَتْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا هُوَ الصَّحِيحُ، وَلَمْ يُذْكَرْ مَنْ يُؤْتِي لَهُمْ الْكُتُبَ وَيَدْفَعُهَا لَهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْخِلَافِ. فَقِيلَ إنَّ الرِّيحَ تُطَيِّرُهَا مِنْ خِزَانَةٍ تَحْتَ الْعَرْشِ فَلَا تُخْطِئُ صَحِيفَةٌ عُنُقَ صَاحِبِهَا، وَقِيلَ إنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُدْعَى فَيُعْطَى كِتَابَهُ، فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ فَيَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَالْكَافِرُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ، وَمُقَابَلَةُ الْمُؤْمِنِ بِالْكَافِرِ تَدُلُّ عَلَى الْمَشْهُورِ. (فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ) وَلَوْ عَاصِيًا (فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا) أَيْ سَهْلًا هَيِّنًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ آيَةُ {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلا} [الإسراء: 71] أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ ثَوَابِهِمْ مِقْدَارَ فَتِيلٍ وَهُوَ الْقِشْرُ الَّذِي فِي شِقِّ النَّوَاةِ، سُمِّيَ بِهَذَا؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَرَادَ اسْتِخْرَاجَهُ يَنْفَتِلُ وَهُوَ ضَرْبُ مَثَلٍ لِلشَّيْءِ الْحَقِيرِ وَمِثْلُهُ النَّقِيرُ وَالْقِطْمِيرُ. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ) وَهُوَ الْكَافِرُ إجْمَاعًا. (فَأُولَئِكَ يَصْلَوْنَ سَعِيرًا) وَالتِّلَاوَةُ {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا - وَيَصْلَى سَعِيرًا} [الانشقاق: 11 - 12] قَالَ الْمُفَسِّرُ: أَيْ يَتَمَنَّى الثُّبُورَ بِقَوْلِهِ يَا ثُبُورَاهُ وَهُوَ الْهَلَاكُ، وَالصَّلَى الِاحْتِرَاقُ أَيْ يَذُوقُونَ حَرَّهَا، وَالسَّعِيرُ اسْمٌ لِطَبَقَةٍ مِنْ طِبَاقِ النَّارِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَطْلَقَهُ هُنَا عَلَى النَّارِ، وَقَوْلُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ هُوَ لَفْظُ الْقُرْآنِ فِي آيَةٍ وَفِي أُخْرَى بِشِمَالِهِ، وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ الْكَافِرَ يُدْخِلُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 النَّجَاةِ عَلَيْهِ مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ، وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ فِيهَا أَعْمَالُهُمْ. وَالْإِيمَانُ بِحَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، تَرِدُهُ   [الفواكه الدواني] يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ صَدْرِهِ وَتَخْرُجُ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ وَتَكُونُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَيُجْمَعُ أَيْضًا بِأَنَّ شِمَالَهُ تُجْعَلُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَيُعْطَى كِتَابَهُ بِهَا. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ إنَّمَا قُلْنَا: الَّذِينَ أَرَادَ اللَّهُ حِسَابَهُمْ لِإِخْرَاجِ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ فَإِنَّهُمْ لَا يَأْخُذُونَ صُحُفًا وَكَذَا الْمَلَائِكَةُ وَالْأَنْبِيَاءُ، نَعَمْ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ عَدَمُ اخْتِصَاصِ أَخْذِ الصُّحُفِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِنْ تَرَدَّدَ فِيهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَعَدَمُ اخْتِصَاصِهِ أَيْضًا بِالْإِنْسِ بَلْ الْجِنُّ كَذَلِكَ الْمُؤْمِنُ وَالْكَافِرُ. الثَّانِي: أَوَّلُ مَنْ يُعْطَى كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ مُطْلَقًا وَلَهُ شُعَاعٌ كَشُعَاعِ الشَّمْسِ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَقِيلَ عِنْدَ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَبُو بَكْرٍ؟ قَالَ: هَيْهَاتَ زَفَّتْ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إلَى الْجَنَّةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَبَعْدَهُ أَبُو سَلَمَةَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، وَأَوَّلُ مَنْ يَأْخُذُ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ أَخُوهُ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ الْأَسَدِ، وَتَأَمَّلْ هَذَا الْعَجَبَ فِي هَذَيْنِ الْأَخَوَيْنِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ لَيْسَ مِنْ السَّبْعِينَ أَلْفًا الَّذِينَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ حِسَابٍ. الثَّالِثُ: ظَوَاهِرُ النُّصُوصِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ حَقِيقِيَّةٌ وَقِيلَ مَجَازِيَّةٌ عَبَّرَ بِهَا عَنْ عِلْمِ كُلِّ أَحَدٍ بِمَا لَهُ وَمَا عَلَيْهِ، وَلَفْظُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ يَقْرَأُ كُلُّ إنْسَانٍ كِتَابَهُ أُمِّيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ وَالْحِسَابِ وَالْوَزْنِ. شَرَعَ فِي الطَّرِيقِ الْمُوَصِّلِ لِكُلٍّ مِنْ الدَّارَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ) أَيْ أَنَّ مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهِ وُجُودُ الصِّرَاطِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَرِدُهُ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ حَتَّى مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَهُوَ بِالصَّادِ وَبِالسِّينِ الْمُهْمَلَتَيْنِ وَبِالزَّايِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى نِزَاعٍ فِي إخْلَاصِهَا وَمُضَارَعَتِهَا بَيْنَ الصَّادِ وَالزَّايِ مِنْ صَرِت الشَّيْءَ بِكَسْرِ الرَّاءِ إذَا ابْتَلَعْته؛ لِأَنَّهُ يَبْتَلِعُ الْمَارَّةَ، كَمَا أَنَّ الطَّرِيقَ كَذَلِكَ وَحَقِيقَتُهُ فِي اللُّغَةِ الطَّرِيقُ الْوَاضِحُ وَشَرْعًا قَالَ السَّعْدُ: هُوَ جِسْرٌ مَمْدُودٌ عَلَى مَتْنِ أَيْ ظَهْرِ جَهَنَّمَ أَرَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ، دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْكَلِمَةُ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} [يس: 66] وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يُنْصَبُ الصِّرَاطُ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُهُ أَنَا وَأُمَّتِي» . (تَجُوزُهُ الْعِبَادُ) جَمِيعًا لَكِنَّ جَوَازَهُمْ عَلَيْهِ مُخْتَلِفٌ إذْ هُوَ (بِقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ) الَّتِي عَمِلُوهَا فِي الدُّنْيَا، وَأَلْ فِي الْعِبَادِ لِلِاسْتِغْرَاقِ فَيَشْمَلُ مَنْ يُحَاسَبُ وَمَنْ لَمْ يُحَاسَبْ كَالسَّبْعِينَ أَلْفًا وَنَازَعَ بَعْضٌ فِي الْكُفَّارِ قَائِلًا: لَا يَمُرُّونَ عَلَيْهِ وَحَمَلَ كَلَامَهُ عَلَى أَثْنَاءِ الْمُرُورِ لَا عَلَى ابْتِدَائِهِ فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْكَافِرِ. (فَنَاجُونَ مُتَفَاوِتُونَ فِي سُرْعَةِ النَّجَاةِ عَلَيْهِ) وَالْمَعْنَى: فَقَوْمٌ مِمَّنْ يَمُرُّ عَلَيْهِ نَاجُونَ (مِنْ نَارِ جَهَنَّمَ) أَيْ مِنْ السُّقُوطِ فِيهَا وَهُمْ الْمُؤْمِنُونَ إذْ هِيَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ وَالصِّرَاطُ عَلَى ظَهْرِهَا فَلَا يَدْخُلُ أَحَدٌ الْجَنَّةَ حَتَّى يَمُرَّ عَلَى جَهَنَّمَ، وَلَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ حِينَئِذٍ إلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلُ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ تَخْتَطِفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَفِي الْحَدِيثِ: «يَمُرُّ الْمُؤْمِنُونَ كَطَرْفِ الْعَيْنِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَمِنْهُمْ الْمَاشِي وَمِنْهُمْ الْحَابِي» . (وَقَوْمٌ أَوْبَقَتْهُمْ) أَيْ أَوْقَعَتْهُمْ (فِيهَا) أَيْ فِي جَهَنَّمَ (أَعْمَالُهُمْ) وَهُمْ مُتَفَاوِتُونَ أَيْضًا فَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ وَلَا يَخْرُجُ وَهُوَ الْكَافِرُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْقُطُ وَيَمْكُثُ فِيهَا مُدَّةً ثُمَّ يَخْرُجُ مِنْهَا كَعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ. قَالَ الْحَلِيمِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَبْقَى إلَى خُرُوجِ الْمُوَحِّدِينَ مِنْ النَّارِ لِيَجُوزُوا عَلَيْهِ إلَى الْجَنَّةِ أَوْ يُزَالُ ثُمَّ يُعَادُ لَهُمْ أَوْ لَا يُعَادُ أَوْ تَصْعَدُ بِهِ الْمَلَائِكَةُ إلَى السُّورِ الَّذِي هُوَ الْأَعْرَافُ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ أَرَقُّ أَوْ أَدَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنْ السَّيْفِ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ عَلَى الصَّوَابِ خِلَافًا لِلْقَرَافِيِّ فِي قَوْلِهِ الصَّحِيحِ: إنَّهُ عَرِيضٌ، وَخِلَافًا لِمَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ الْوَاضِحَةِ لِوُجُوبِ حَمْلِ النُّصُوصِ عَلَى ظَوَاهِرِهَا إلَّا مَا خَالَفَ الْقَوَاطِعَ، وَالْعُبُورُ عَلَيْهِ لَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْ الْمَشْيِ عَلَى الْمَاءِ وَالطَّيَرَانِ فِي الْهَوَاءِ وَرَفْعِ السَّمَاءِ بِغَيْرِ عَمَدٍ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى الصَّوَابِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ فِيهِ كَلَالِيبَ تَأْخُذُ مَنْ أُمِرَتْ بِأَخْذِهِ؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ أَرَقُّ مِنْ الشَّعْرَةِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ. الثَّانِي: إنَّمَا قَيَّدْنَا وُجُودَ الصِّرَاطِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِأَنَّهُ جَرَى خِلَافٌ فِي وُجُودِهِ الْآنَ وَعَدَمِ وُجُودِهِ، كَمَا جَرَى خِلَافٌ فِيمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 أُمَّتُهُ، لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ وَيُذَادُ عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ. ، وَأَنَّ الْإِيمَانَ: قَوْلٌ بِاللِّسَانِ، وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ، وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ: يَزِيدُ بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ، وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا، فَيَكُونُ فِيهَا النَّقْصُ، وَبِهَا الزِّيَادَةُ، وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا   [الفواكه الدواني] مِنْهُ الصِّرَاطُ، فَاَلَّذِي نُقِلَ عَنْ الْبُرْهَانِ الْحَلِيمِيِّ أَنَّ الصِّرَاطَ شَعْرَةٌ مِنْ شَعْرِ جَفْنِ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ. وَفِي كَلَامِ الشِّهَابِ مَا يَرُدُّ قَوْلَ الْبُرْهَانِ: وَأَنَّ الْحَقَّ تَفْوِيضُ مَعْرِفَةِ حَقِيقَتِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. الثَّالِثُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ جَهَنَّمَ بَيْنَ الْخَلَائِقِ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ يُعَيِّنُ أَنَّ الْجَنَّةَ مُجَاوِرَةٌ لِلنَّارِ، وَيُشْكِلُ عَلَى قَوْلِ الْقَائِلِ: إنَّ الْجَنَّةَ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالنَّارَ تَحْتَ الْأَرْضِ السَّابِعَةِ الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْحِسَابِ. وَفِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ أَنَّ مَسِيرَتَهُ ثَلَاثَةُ آلَافِ سَنَةٍ، وَأَلْفٌ صُعُودٌ وَأَلْفٌ اسْتِوَاءٌ وَأَلْفٌ هُبُوطٌ، وَحِكْمَتُهُ ظُهُورُ عَظِيمِ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْمُؤْمِنِينَ فِي النَّجَاةِ مِنْ النَّارِ، وَلِيَتَحَسَّرَ الْكَافِرُ بِفَوْزِ الْمُؤْمِنِ وَسُقُوطِهِ هُوَ فِي جَهَنَّمَ مَعَ اشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي أَصْلِ الْمُرُورِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْسَانُ يَغْلِبُ عَطَشُهُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ قَبْرِهِ ذَكَرَ الْحَوْضَ فَقَالَ: (وَالْإِيمَانُ) أَيْ التَّصْدِيقُ (بِحَوْضِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَاجِبٌ وَيُبَدَّعُ مُنْكِرُهُ دَلَّ عَلَى حَقِّيَّتِهِ: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1] بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ الْحَوْضُ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ زَوَايَاهُ سَوَاءٌ وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنْ اللَّبَنِ وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنْ الْمِسْكِ وَكِيزَانُهُ عَدَدُ نُجُومِ السَّمَاءِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَا يَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَدًا، وَيَشْخَبُ فِيهِ مِيزَابَانِ مِنْ الْجَنَّةِ وَهُوَ فِي الْأَرْضِ الْمُبَدَّلَةِ وَهِيَ أَرْضٌ بَيْضَاءُ كَالْفِضَّةِ لَمْ يُسْفَكْ فِيهَا دَمٌ وَلَا ظَلَمَ عَلَى ظَهْرِهَا أَحَدٌ وَسَأَلَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ؟ فَقَالَ: عَلَى الصِّرَاطِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَرِدُهُ أُمَّتُهُ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (لَا يَظْمَأُ مَنْ شَرِبَ مِنْهُ) بَعْدَ ذَلِكَ أَبَدًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ وُرُودَهُ قَبْلَ الْوَزْنِ وَقَبْلَ الْحِسَابِ وَقَبْلَ الصِّرَاطِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: جَهْلُ التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْمِيزَانِ وَالْحَوْضِ وَالصِّرَاطِ غَيْرُ قَادِحٍ فِي الْعَقِيدَةِ وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ اعْتِقَادُ ثُبُوتِهَا. (وَيُذَادُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةُ وَبَعْدَهَا مُهْمَلَةٌ يُبْعَدُ (عَنْهُ مَنْ بَدَّلَ وَغَيَّرَ) مُرَادِفٌ لِمَا قَبْلَهُ. إلَّا أَنَّ الَّذِي غَيَّرَ بِكُفْرٍ وَمَاتَ عَلَيْهِ يُطْرَدُ أَبَدًا وَأَمَّا مَنْ غَيَّرَ بِعِصْيَانٍ دُونَ كُفْرٍ فَهُوَ فِي الْمَشِيئَةِ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ قَوْلِ أُمَّتِهِ يَقْتَضِي أَنَّ أُمَّةَ غَيْرِهِ لَا تَرِدُهُ وَإِنَّمَا تَرِدُ حَوْضَ أَنْبِيَائِهَا لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ أَنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَأَنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أَيُّهُمْ أَكْثَرُ وَارِدَةً وَأَنَا أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ وَارِدَةً» ، وَهَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ. فَإِنْ قِيلَ: إنْ كَانَ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضٌ فَلِأَيِّ شَيْءٍ خَصَّ وُجُوبَ الْإِيمَانِ بِحَوْضِ الْمُصْطَفَى - عَلَى الْجَمِيعِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؟ قُلْت: لِاتِّفَاقِ الْأَحَادِيثِ عَلَى وُجُودِهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَيَقْتَضِي مَفْهُومُ أُمَّتِهِ أَيْضًا أَنَّ الشُّرْبَ مِنْهُ مُخْتَصٌّ بِمُؤْمِنِي هَذِهِ الْأُمَّةِ فَغَيْرُ أُمَّتِهِ يُطْرَدُ عَنْهُ. وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَمِنْ الْمَطْرُودِينَ عَنْ حَوْضِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا لَيْسَ مِنْهُ كَالْخَوَارِجِ وَالرَّوَافِضِ وَسَائِرِ أَصْحَابِ الْأَهْوَاءِ، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَكَذَا الظَّلَمَةُ الْمُسْرِفُونَ فِي الْجَوْرِ وَطَمْسِ الْحَقِّ وَالْمُعْلِنُونَ بِالْكَبَائِرِ. الثَّانِي: مَاءُ الْحَوْضِ مِنْ نَهْرٍ فِي الْجَنَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا. وَحَصَلَ التَّوَقُّفُ هَلْ فِي الْمَوْقِفِ مَاءٌ أَمْ لَا؟ رَوَى ابْنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - قَالَ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ مَكَانِ الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعَالَمِينَ هَلْ فِيهِ مَاءٌ؟ فَقَالَ: أَيْ وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ فِيهِ لَمَاءً وَإِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَيَرِدُونَ حَوْضَ الْأَنْبِيَاءِ وَيَبْعَثُ اللَّهُ سَبْعِينَ أَلْفَ مَلَكٍ بِأَيْدِيهِمْ عَصًى مِنْ نَارٍ يَذُودُونَ الْكُفَّارَ عَنْ حِيَاضِ الْأَنْبِيَاءِ» . وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: نَعَمْ لَكُمْ سِيمَى أَيْ عَلَامَةٌ لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأُمَمِ تَرِدُونَ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنْ آثَارِ الْوُضُوءِ» . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ السَّمْعِيَّاتِ الَّتِي يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ فَقَالَ: (وَإِنَّ الْأَيْمَانَ) عَلَى طَرِيقَةِ السَّلَفِ الَّتِي جَرَى عَلَيْهَا الْمُصَنِّفُ (قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ) أَيْ تَصْدِيقٌ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ، لِأَنَّ هَذَا هُوَ الْمُعْتَبَرُ فِي الْإِيمَانِ لَا الْإِخْلَاصُ الْمُقَابِلُ لِلرِّيَاءِ. (وَعَمَلٌ بِالْجَوَارِحِ) لَكِنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِهِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَأَمَّا حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة فَهُوَ التَّصْدِيقُ الْقَلْبِيُّ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَأَمَّا النُّطْقُ بِاللِّسَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بِالْعَمَلِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَلَا قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَنِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ. ، وَأَنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَحَدٌ بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ   [الفواكه الدواني] فَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ لِإِجْرَاءِ أَحْكَامِ الدُّنْيَا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْخِلَافِ، كَمَا أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ أَعْمَالَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ عَلَى كَلَامِ السَّلَفِ وَجُمْهُورِ الْأَشَاعِرَةِ وَالْمَاتُرِيدِيَّة، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ شِفَاءُ الْعَلِيلِ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي قَبُولِ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ وَكَانَ الرَّاجِحُ الْقَبُولَ قَالَ: (يَزِيدُ) أَيْ الْإِيمَانُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَحَلِّهِ (بِزِيَادَةِ الْأَعْمَالِ وَيَنْقُصُ بِنَقْصِهَا) وَفَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلَهُ: (فَيَكُونُ فِيهَا) أَيْ الْأَعْمَالِ أَيْ بِسَبَبِهَا عَلَى حَدِّ: دَخَلَتْ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ أَيْ بِسَبَبِهَا (النَّقْصُ) فِي الْإِيمَانِ (وَبِهَا الزِّيَادَةُ) دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْعَقْلُ وَالنَّقْلُ، أَمَّا الْعَقْلُ فَلِأَنَّهُ لَوْ لَمْ تَتَفَاوَتْ حَقِيقَةُ الْإِيمَانِ لَكَانَ إيمَانُ الْفَسَقَةِ مُسَاوِيًا لِإِيمَانِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ فَمَلْزُومُهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا النَّقْلُ فَلِكَثْرَةِ النُّصُوصِ نَحْوُ {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} [الأنفال: 2] {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا} [الأحزاب: 22] وَقَوْلُ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ وُزِنَ إيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ هَذِهِ الْأُمَّةِ لَرَجَحَ عَلَيْهَا» وَكُلَّمَا يَقْبَلُ الزِّيَادَةَ يَقْبَلُ النَّقْصَ فَتَمَّ الدَّلِيلُ، وَهَذَا وَاضِحٌ عَلَى تَفْسِيرِ الْإِيمَانِ بِالتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِهِ بِنَفْسِ التَّصْدِيقِ فَكَذَلِكَ يَزِيدُ بِزِيَادَةِ النَّظَرِ فِي الدَّلِيلِ وَيَنْقُصُ بِعَدَمِهَا. وَعَلَى هَذَا الرَّاجِحِ جُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ وَالْفُقَهَاءُ، وَالْمُحَدِّثُونَ وَالْمُعْتَزِلَةُ، وَنَقَلَهُ الشَّافِعِيُّ وَالْإِمَامُ مَالِكٌ وَالْإِمَامُ الْبُخَارِيُّ، وَمُقَابِلُهُ لِجَمَاعَةٍ أَعْظَمُهُمْ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ وَتَبِعَهُ أَصْحَابُهُ وَطَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ لِأَنَّهُ اسْمُ التَّصْدِيقِ الْبَالِغِ حَدَّ الْجَزْمِ وَهُوَ لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ زِيَادَةٌ وَلَا نُقْصَانٌ، وَأَجَابُوا عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ الْأَوَّلُونَ مِنْ الْآيَاتِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالزِّيَادَةِ بِحَسَبِ الدَّوَامِ وَكَثْرَةِ الزَّمَانِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ زِيَادَةُ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَا تَتَجَدَّدُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ كَانَ يَتَجَدَّدُ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَالْمُرَادُ زِيَادَةُ مُتَعَلِّقَاتِهِ وَهُوَ مَا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ، وَأَشَارَ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَرُجِّحَتْ زِيَادَةُ الْإِيمَانِ ... بِمَا تَزِيدُ طَاعَةُ الْإِنْسَانِ وَنَقْصُهُ بِنَقْصِهَا وَقِيلَ لَا ... وَقِيلَ لَا خَلْفٌ كَذَا قَدْ نُقِلَا وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَقِيلَ لَا خَلْفٌ إلَى قَوْلِ الْفَخْرِ الرَّازِيِّ مَعَ جَمَاعَةٍ: إنَّ الْخِلَافَ لَفْظِيٌّ؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولَ بِقَوْلِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُفَسِّرُهُ بِالتَّصْدِيقِ وَالْأَعْمَالِ، وَمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ قَبُولِهِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ يُفَسِّرُهُ بِالتَّصْدِيقِ فَقَطْ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: كَذَا قَدْ نُقِلَا إلَى التَّبَرِّي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ وَأَنَّ الْخِلَافَ حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّ الْأَصَحَّ أَنَّ التَّصْدِيقَ الْقَلْبِيَّ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَوُضُوحِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ ذَلِكَ، وَلِهَذَا كَانَ إيمَانُ الصِّدِّيقِينَ أَقْوَى مِنْ إيمَانِ غَيْرِهِمْ بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيه الشُّبَهُ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَلُ حَتَّى يَكُونَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ أَعْظَمَ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا، فَكَذَلِكَ التَّصْدِيقُ وَالْمَعْرِفَةُ بِحَسَبِ ظُهُورِ الْبَرَاهِينِ وَكَثْرَتِهَا، وَلَا يُقَالُ: إنْ قَبِلَ التَّصْدِيقُ النَّقْصَ وَالزِّيَادَةَ كَانَ شَكًّا.؛ لِأَنَّا نَقُولُ: مَرَاتِبُ الْيَقِينِ مُتَفَاوِتَةٌ إلَى عِلْمِ الْيَقِينِ وَعَيْنِ الْيَقِينِ وَحَقِّ الْيَقِينِ، فَالْأَوَّلُ هُوَ الْعِلْمُ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْخَبَرِ، وَالثَّانِي هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْمُشَاهَدِ، وَالثَّالِثُ هُوَ الْمُسْتَفَادُ مِنْ الْمُعَايَنَةِ وَالْمُبَاشَرَةِ مَعًا. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْخِلَافِ فِي إيمَانِ غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لِمَا قَالَهُ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ مِنْ أَنَّ إيمَانَ أَهْلِ الِاخْتِصَاصِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النَّقْصُ وَإِيمَانَ غَيْرِهِمْ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إيمَانَ الْأَنْبِيَاءِ دَائِمًا فِي زِيَادَةٍ عَلَى تَوَالِي الزَّمَانِ، وَإِيمَانَ الْمَلَائِكَةِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمُرَادَفَةِ الْإِيمَانِ لِلْإِسْلَامِ أَوْ مُخَالَفَتِهِمَا وَأَنَّهُمَا بَاقِيَانِ بَعْدَ مَوْتِ صَاحِبِهِمَا حُكْمًا كَبَقَائِهِمَا حَالَ النَّوْمِ وَالْغَفْلَةِ؛ لِأَنَّ الْوَصْفَ الثَّابِتَ الَّذِي لَمْ يَحْصُلْ مَا يُضَادُّهُ يُحْكَمُ بِبَقَائِهِ وَأَنَّهُمَا مَخْلُوقَانِ، وَمَنْ قَالَ الْإِيمَانُ قَدِيمٌ فَبِاعْتِبَارِ أَصْلِهِ وَهُوَ التَّوْفِيقُ فَإِنَّهُ فِعْلُ اللَّهِ قَدْ بَنَاهُ عَلَى مَذْهَبِ الْمَاتُرِيدِيَّةِ الْقَائِلِينَ بِقِدَمِ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ وَمَذْهَبُ الْأَشْعَرِيِّ حُدُوثُهَا، فَيَكُونُ التَّوْفِيقُ مَخْلُوقًا أَيْضًا. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَإِخْلَاصٌ بِالْقَلْبِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ تَوَقَّفَ صِحَّةُ الْإِيمَانِ عَلَى عَمَلِ الْجَوَارِحِ وَإِنْ قِيلَ بِهِ، نَبَّهَ هُنَا عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ شَرْطُ كَمَالٍ فَقَطْ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ) مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ الْإِيمَانِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْقَوْلُ الدَّالُّ عَلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ. وَالْمُرَادُ بِالْعَمَلِ الطَّاعَاتُ، وَأَشَارَ بِهَذَا الْمُصَنِّفُ إلَى دَفْعِ مَا يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْأَعْمَالَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ عَمَلَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ فِي كَمَالِ الْإِيمَانِ عَلَى كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالْمُصَنِّفُ جَرَى عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلُ الْإِيمَانِ إلَّا بِالْعَمَلِ فَمَنْ صَدَّقَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَتَرَكَ الْأَعْمَالَ الْوَاجِبَةَ كَسَلًا كَانَ إيمَانُهُ صَحِيحًا إلَّا أَنَّهُ نَاقِصٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَعْمَالَ جُزْءٌ مِنْ الْإِيمَانِ الْكَامِلِ. قَالَ الْقَسْطَلَّانِيُّ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ: وَالْإِيمَانُ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ كَابْنِ عُيَيْنَةَ وَالثَّوْرِيِّ وَابْنِ جُرَيْجٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ مِنْ سَلَفِ الْأُمَّةِ وَخَلَفِهَا مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ وَالْمُحَدِّثِينَ قَوْلٌ بِاللِّسَانِ وَهُوَ النُّطْقُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَعَمَلٌ بِالْقَلْبِ وَالْجَوَارِحِ فَتَدْخُلُ الِاعْتِقَادَاتُ وَالْعِبَادَاتُ، وَمَا نُسِبَ لِأَكْثَرِ السَّلَفِ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ اسْمٌ لِلتَّصْدِيقِ وَالْعَمَلِ فَهُوَ مُؤَوَّلٌ بِالْإِيمَانِ الْكَامِلِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ إدْخَالُ الْفَاسِقِ تَحْتَ الْإِيمَانِ، وَلَوْلَا التَّأْوِيلُ لَكَانَ فِي غَايَةِ الصُّعُوبَةِ لِبُطْلَانِ الْمَاهِيَّةِ الْمُرَكَّبَةِ بِبُطْلَانِ جُزْئِهَا، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ الْأَعْمَالَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْإِيمَانِ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَهُوَ ضَعِيفٌ كَقَوْلِ الْكَرَّامِيَّةِ: إنَّ الْإِيمَانَ النُّطْقُ بِكَلِمَتَيْ الشَّهَادَتَيْنِ فَقَطْ، وَكَقَوْلِ قَوْمٍ: إنَّهُ الْعَمَلُ فَقَطْ. (وَلَا) يَكْمُلُ (قَوْلٌ وَ) لَا (عَمَلٌ إلَّا بِالنِّيَّةِ) أَيْ عَمَلٌ يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ فَهُوَ عَامٌّ أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَهَذَا إنْ أُرِيدَ بِالنِّيَّةِ حَقِيقَتُهَا، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا الْإِخْلَاصُ فَيَصِحُّ بَقَاؤُهُ عَلَى عُمُومِهِ فِي الْأَعْمَالِ الَّتِي يَدْخُلُهَا الرِّيَاءُ ثُمَّ إنْ فُسِّرَتْ النِّيَّةُ بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُرَادُ بِلَا يَكْمُلُ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ، وَإِنْ أُرِيدَ بِهَا حَقِيقَتُهَا فَمَعْنَاهُ لَا يَصِحُّ، وَمِثَالُ الْأَقْوَالِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ كَالْأَذَانِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِهِ مِمَّا يَجِبُ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً كَالشَّهَادَتَيْنِ وَالْحَمْدِ وَالتَّسْبِيحِ فَإِنَّهَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ، هَذَا مُحَصَّلُ مَعْنَى كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ وَلِي وَقْفَةٌ فِي قَوْلِهِ ثُمَّ إنْ فُسِّرَتْ النِّيَّةُ بِالْإِخْلَاصِ فَالْمُرَادُ بِلَا يَكْمُلُ لَا يَحْصُلُ ثَوَابُهُ بِمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ حِكَايَةِ الْإِجْمَاعِ بِبُطْلَانِ الْعِبَادَةِ بِالرِّيَاءِ إنْ شَمِلَهَا مِنْ أَوَّلِهَا إلَى آخِرِهَا، وَإِنْ شَمِلَ بَعْضَهَا وَتَوَقَّفَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَفِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ قَالَهُ اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ عَقِيدَتِهِ، وَيَكْمُلُ صِحَّةُ كَلَامِ الشَّيْخِ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْإِخْلَاصِ عَدَمُ مُلَاحَظَةِ كَوْنِ الْعَمَلِ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا لَا يَقْتَضِي الْفَسَادَ، وَإِنَّمَا يَفُوتُ الْكَمَالُ وَعَدَمُ الْإِخْلَاصِ الْمُقْتَضِي لِلْفَسَادِ هُوَ فِعْلُ الْعِبَادَةِ لِقَصْدِ غَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَهَذَا هُوَ الرِّيَاءُ الَّذِي يُفْسِدُ الْعَمَلَ، وَاسْتَظْهَرَ الْفَاكِهَانِيُّ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّيَّةِ هُنَا الْإِخْلَاصُ وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَمَلَ لِلَّهِ خَالِصًا بِأَنْ يُفْرِدَهُ بِالْعِبَادَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] فَإِذَا ابْتَدَأَ الْعَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ فَسَدَ اتِّفَاقًا. وَإِنْ ابْتَدَأَ لِلَّهِ وَأَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يُحْمَدَ عَلَيْهِ فَلَا يَضُرُّ ذَلِكَ، وَإِنْ ابْتَدَأَهُ وَاطُّلِعَ عَلَيْهِ فِي أَثْنَائِهِ وَأَحَبَّ بِقَلْبِهِ أَنْ يُحْمَدَ وَاسْتَمَرَّ عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ يَدْفَعْهُ بِقَلْبِهِ فَمَا بَعْدَ ذَلِكَ يَبْطُلُ اتِّفَاقًا وَمَا قَبْلَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ يَصِحُّ وَإِنْ أَبَى ذَلِكَ بِقَلْبِهِ وَدَفَعَهُ فَلَا يَبْطُلُ اتِّفَاقًا. (وَلَا) يَكْمُلُ (قَوْلٌ) وَهُوَ مَا يَصْدُرُ مِنْ اللِّسَانِ كَالْأَذَانِ وَالْحَمْدِ. (وَ) لَا (عَمَلٌ وَ) لَا (نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ) أَيْ طَرِيقَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ الْمُقَابِلَةِ لِلْكِتَابِ بَلْ الْمُرَادُ شَرِيعَتُهُ، وَهِيَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ كَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ، وَمِمَّا دَلَّتْ عَلَيْهِ شَرِيعَتُهُ الْإِخْلَاصُ فِي الْعَمَلِ، فَمَنْ عَمِلَ عَلَى شَرِيعَةٍ غَيْرِ شَرِيعَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَنْتَفِعْ بِعَمَلِهِ، فَثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْقَوْلَ وَالْعَمَلَ يَجِبُ عَلَى الْآتِي بِهِمَا عَرْضُهُمَا عَلَى شَرِيعَتِهِ، فَمَا وَافَقَهَا كَانَ صَحِيحًا وَمَا خَالَفَهَا لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مَعْصِيَةٌ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهَا، وَالْمُوَافِقُ لَهَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ أَوْ أُضِيفَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمَا خَرَجَ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ فَهُوَ بِدْعَةٌ وَإِنْ اعْتَقَدَ قُرْبَتَهُ وَصَحَّتْ فِيهِ نِيَّتُهُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: هَذَا الْفَصْلُ الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ يَشْتَمِلُ عَلَى خَمْسِ قَوَاعِدَ: الْأَوَّلُ أَنَّ مَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ بِنِيَّةٍ وَكَانَ عَمَلُهُ مُوَافِقًا لِلسُّنَّةِ فَهَذَا هُوَ الْمُؤْمِنُ الْكَامِلُ، فَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِلِسَانِهِ وَلَا صَدَّقَ بِقَلْبِهِ فَهَذَا هُوَ الْكَافِرُ، وَمَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَعْمَلْ بِجَوَارِحِهِ كَانَ فَاسِقًا. وَمَنْ نَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ وَلَمْ يُخْلِصْ بِقَلْبِهِ كَانَ مُنَافِقًا، وَمَنْ آمَنَ بِقَلْبِهِ وَنَطَقَ بِلِسَانِهِ وَعَمِلَ بِجَوَارِحِهِ بِنِيَّةٍ غَيْرِ مُوَافَقَةٍ لِلسُّنَّةِ كَانَ مُبْتَدِعًا، وَمَنْ عَمِلَ بِغَيْرِ نِيَّةٍ شَرْعِيَّةٍ بِأَنْ قَصَدَ بِفِعْلِهِ النَّاسَ كَانَ مُرَائِيًا فَيَكُونُ عَمَلُهُ بَاطِلًا وَيُسَمَّى الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَإِنَّمَا بَطَلَ عَمَلُ الْمُرَائِي؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بِالْعِبَادَةِ مُتَلَبِّسَةً بِالْإِخْلَاصِ حَيْثُ قَالَ: {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} [الزمر: 2] وَمَنْ عَمِلَ الْعِبَادَةَ لِغَيْرِهِ تَعَالَى لَمْ يَأْتِ بِشَرْطِهَا، وَلَيْسَ مِنْ الرِّيَاءِ مَحَبَّةُ رُؤْيَةِ النَّاسِ لَهُ حَيْثُ ابْتَدَأَ الْعَمَلَ لِلَّهِ تَعَالَى. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: اشْتَمَلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَرْبَعَةِ مَسَائِلَ: الْأُولَى: بَيَانُ كَمَالِ الْإِيمَانِ بِالْإِقْرَارِ وَالنُّطْقِ وَعَمَلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْجَوَارِحِ. وَالثَّانِيَةُ: قَبُولُ الْإِيمَانِ الزِّيَادَةَ وَالنَّقْصَ. وَالثَّالِثَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّ عَمَلَ الْجَوَارِحِ شَرْطٌ لِكَمَالِ الْإِيمَانِ. وَالرَّابِعَةُ: بَيَانُ أَنَّ صِحَّةَ الْأَعْمَالِ وَالْأَقْوَالِ وَالنِّيَّاتِ بِمُوَافَقَةِ شَرْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. الثَّانِي: رُبَّمَا أَشْعَرَ سُكُوتُهُ عَنْ الْإِسْلَامِ بِاتِّحَادِهِ مَعَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ هُوَ الْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ بِمَعْنَى قَبُولِ الْحَقِّ وَالْإِذْعَانِ لَهُ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّصْدِيقِ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الذاريات: 35] {فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ} [الذاريات: 36] . قَالَ التَّفْتَازَانِيُّ: وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَصِحُّ فِي الشَّرْعِ أَنْ يُحْكَمَ عَلَى أَحَدٍ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ وَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ، أَوْ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَلَا يَعْنِي بِوَحْدَتِهِمَا سِوَى هَذَا يَعْنِي أَنَّهُمَا غَيْرُ مُتَعَدِّدَيْنِ فِي الْخَارِجِ شَرْعًا وَإِنْ اخْتَلَفَ مَفْهُومُهُمَا، وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِذَلِكَ فَقَالَ: الْمُرَادُ بِوَحْدَتِهِمَا أَنَّ أَحَدَهُمَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْآخَرِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْمَفْهُومِ فَهُمَا مُخْتَلِفَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ حَدِيثُ جِبْرِيلَ وَآيَةُ: {قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] وَالْحَدِيثُ وَالْآيَةُ صَرِيحَانِ فِي مُغَايَرَةِ الْإِسْلَامِ لِلْإِيمَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ قَالَ بِالتَّغَايُرِ أَرَادَ الْمَفْهُومَ. وَمَنْ قَالَ بِالِاتِّحَادِ نَظَرَ بِاللُّزُومِ الْخَارِجِيِّ الْمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ فَافْهَمْ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي كُفْرِ صَاحِبِ الْكَبِيرَةِ وَكَانَ الصَّحِيحُ عَدَمَ كُفْرِهِ نَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَنَّهُ) أَيْ وَالْحَالُ وَالشَّأْنُ (لَا يُكَفَّرُ أَحَدٌ) مِمَّنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ (بِذَنْبٍ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ) أَيْ الصَّلَاةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَقَرَّرَ بِالْإِيمَانِ الْجَازِمِ إيمَانُهُ وَتَحَقَّقَ بِالْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ إسْلَامُهُ إذَا ارْتَكَبَ ذَنْبًا لَيْسَ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَكَانَ غَيْرَ مُسْتَحِلٍّ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ عِنْدَنَا بِارْتِكَابِهِ، وَلَا يَخْرُجُ بِهِ عِنْدَنَا عَنْ الْإِيمَانِ صَغِيرًا كَانَ الذَّنْبُ أَوْ كَبِيرًا، خِلَافًا لِلْخَوَارِجِ فِي التَّكْفِيرِ بِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ وَلَوْ صَغَائِرَ، وَلِلْمُعْتَزِلَةِ فِي إخْرَاجِهِمْ الْعَبْدَ بِالْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِيمَانِ وَإِنْ لَمْ تُدْخِلْهُ فِي الْكُفْرِ إلَّا بِاسْتِحْلَالٍ، وَهَذِهِ الْقَاعِدَةُ قَالَ بِهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ ابْتَدَعَ بِإِنْكَارِهِ صِفَةَ الْبَارِي، وَكَمُنْكِرِ خَلْقِ اللَّهِ لِأَفْعَالِ الْعِبَادِ أَوْ رُؤْيَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَكَذَلِكَ سَائِرُ أَهْلِ الْبِدَعِ كَالْقَدَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَكْثَرُ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ عَدَمُ تَكْفِيرِهِمْ بَلْ يُؤَدَّبُونَ، أَمَّا مَنْ خَرَجَ بِبِدْعَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ كَمُنْكَرِي حُدُوثَ الْعَالَمِ وَالْبَعْثَ وَالْحَشْرَ لِلْأَجْسَامِ وَالْعِلْمَ لِلْجُزْئِيَّاتِ فَلَا نِزَاعَ فِي كُفْرِهِمْ لِإِنْكَارِهِمْ بَعْضَ مَا عُلِمَ بِمَجِيءِ الرَّسُولِ بِهِ ضَرُورَةً، وَوَقَعَ نِزَاعٌ فِي تَكْفِيرِ الْمُجَسِّمِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْأَقْرَبُ كُفْرُهُ، وَاخْتِيَارُ الْعِزِّ عَدَمُ كُفْرِهِ لِعُسْرِ فَهْمِ الْعَوَامّ بُرْهَانَ نَفْيِ الْجِسْمِيَّةِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: فَإِنْ نَفَى شَخْصٌ صِفَةً مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ الذَّاتِيَّةِ أَوْ جَحَدَهَا مُسْتَبْصِرًا فِي ذَلِكَ أَيْ حَالَ كَوْنِهِ عَلَى بَصِيرَةٍ مِنْ جَحْدِهَا وَنَفْيِهَا مُتَعَمِّدًا لِذَلِكَ كَقَوْلِهِ: لَيْسَ عَالِمًا وَلَا قَادِرًا وَلَا مُرِيدًا وَلَا مُتَكَلِّمًا وَشِبْهَ ذَلِكَ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ الْوَاجِبَةِ لَهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَقَدْ نَصَّ أَئِمَّتُنَا عَلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى كُفْرِ مَنْ نَفَى عَنْهُ الْوَصْفَ بِهَا. وَعَلَى هَذَا حُمِلَ قَوْلُ سَحْنُونٍ مَنْ قَالَ لَيْسَ لِلَّهِ كَلَامٌ فَهُوَ كَافِرٌ وَهَؤُلَاءِ يُكَفِّرُونَ الْمُتَأَوِّلِينَ، وَأَمَّا مَنْ جَهِلَ صِفَةً مِنْ هَذِهِ الصِّفَاتِ فَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي كُفْرِهِ، وَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ الْأَشْعَرِيُّ أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْتَقِدْ مَقَالَتَهُ حَقًّا وَلَمْ يَتَّخِذْهَا دِينًا، وَأَمَّا مَنْ أَثْبَتَ الْوَصْفَ وَنَفَى الصِّفَةَ فَقَالَ: اللَّهُ عَالِمٌ وَلَا عِلْمَ لَهُ وَمُتَكَلِّمٌ وَلَا كَلَامَ لَهُ وَهَكَذَا فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَمَنْ أَخَذَ بِالْحَالِ لَمْ يُكَفِّرْهُ، وَمَنْ أَخَذَ بِالْمَآلِ كَفَّرَهُ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ كُفْرِهِ، كَمَنْ نَفَى الصِّفَاتَ الْمَعْنَوِيَّةَ فَإِنَّهُ لَا يَكْفُرُ أَيْضًا، بِخِلَافِ مَنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ قَدِيمٍ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ، كَمَا يَكْفُرُ مَنْ اعْتَرَفَ بِأُلُوهِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَلَكِنْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ غَيْرُ حَيٍّ أَوْ ادَّعَى أَنَّ لَهُ وَلَدًا أَوْ صَاحِبَةً أَوْ أَنَّهُ مُتَوَلِّدٌ مِنْ شَيْءٍ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ هُنَاكَ صَانِعًا لِلْعَالَمِ سِوَاهُ، وَكُلُّ ذَلِكَ كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَنْ نَفَى صِفَةَ الْبَقَاءِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ أَرَادَ بِالنَّفْيِ صِفَةً زَائِدَةً عَلَى الذَّاتِ فَلَا يَكْفُرُ بِخِلَافِ مَنْ أَرَادَ بِنَفْيِهِ طَرَيَانَ الْعَدَمِ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّ اللَّهَ يَجِبُ عَلَيْهِ كَذَا فَإِنْ أَرَادَ بِالْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ فَلَا يَكْفُرُ، وَإِنْ أَرَادَ الْوُجُوبَ الذَّاتِيَّ أَيْ بِالْقَهْرِ وَعَدَمِ الْإِرَادَةِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ لِنَفْيِهِ الْإِرَادَةَ، وَالِاخْتِيَارَ، وَأَمَّا مَسَائِلُ الْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَالرُّؤْيَةِ وَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَالْأَفْعَالِ وَبَقَاءِ الْأَعْرَاضِ وَشِبْهِهَا مِنْ الدَّقَائِقِ فَالْأَوْلَى عَدَمُ تَكْفِيرِ الْمُتَأَوِّلِينَ فِيهَا. إذْ لَيْسَ فِي الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْهَا جَهْلٌ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَدَلِيلُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى عَدَمِ الْكُفْرِ بِالذَّنْبِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ النَّاطِقَةُ بِإِطْلَاقِ لَفْظِ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْعَاصِي كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ} [البقرة: 178] الْآيَةُ، وَ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} [التحريم: 8] وَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْكَبَائِرِ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ وَبِمَشْرُوعِيَّةِ الْحُدُودِ لِصَاحِبِ الْمَعْصِيَةِ كَالسَّارِقِ وَالزَّانِي وَلَوْ كَفَرَ لَاسْتَحَقَّ الْقَتْلَ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ الْمُكَفِّرُ مِنْ نَحْوِ حَدِيثِ: «مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ فَقَدْ كَفَرَ» فَمُؤَوَّلٌ عَلَى أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 وَأَنَّ الشُّهَدَاءَ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ. ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ بَاقِيَةٌ نَاعِمَةٌ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ، وَأَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ   [الفواكه الدواني] مَعْنَاهُ أَنَّهُ يُعَامِلُهُ مُعَامَلَةَ الْكَافِرِ بِالِارْتِدَادِ مِنْ قَتْلِهِ إنْ تَرَكَهَا كَسَلًا وَعِنَادًا أَوْ أَخَّرْنَاهُ لَآخِرِ الْوَقْتِ وَلَمْ يَفْعَلْ وَإِنْ كَانَ هَذَا يُقْتَلُ حَدًّا، بِخِلَافِ الْجَاحِدِ فَإِنَّهُ يَكْفُرُ. 1 - (تَتِمَّةٌ: أَهْلُ الْبِدَعِ عَلَى أَصْنَافٍ) مِنْهُمْ مُعْتَزِلَةٌ وَهُمْ أَتْبَاعُ وَاصِلِ بْنِ عَطَاءِ اللَّهِ الَّذِي قَالَ: إنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ وَلَا كَافِرٍ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِقَوْلِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ شَيْخِ وَاصِلٍ حِينَ سُئِلَ عَنْ جَمَاعَةٍ يُكَفِّرُونَ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ وَأَطْرَقَ رَأْسَهُ مُفَكِّرًا فِي الْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ الْحَقِّ فَبَادَرَهُ وَاعْتَزَلَ مَجْلِسَ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ وَأَخَذَ بِقَوْلِهِ النَّاسُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مُؤْمِنٌ وَكَافِرٌ وَلَا وَلَا وَهُوَ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ، وَأَرَادَ إثْبَاتَ الْمَنْزِلَةِ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَهِيَ كَوْنُ الشَّخْصِ لَا مُؤْمِنًا وَلَا كَافِرًا اعْتَزَلَ عَنَّا وَاصِلٌ فَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَسَّسَ قَوَاعِدَ الِابْتِدَاعِ، وَسَمُّوا أَنْفُسَهُمْ أَصْحَابَ الْعَدْلِ وَالتَّوْحِيدِ لِقَوْلِهِمْ بِوُجُوبِ ثَوَابِ الْمُطِيعِ وَعُقُوبَةِ الْعَاصِي وَهُوَ فِعْلُ الصَّلَاحِ وَالْأَصْلَحِ، وَيَنْفُونَ زِيَادَةَ الصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ يَقُولُونَ: اللَّهُ عَالَمٌ بِلَا عِلْمٍ وَقَادِرٌ بِلَا قُدْرَةٍ. وَمِنْهُمْ الْقَدَرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُونَ: الْعَبْدُ يَخْلُقُ أَفْعَالَ نَفْسِهِ. وَمِنْهُمْ الْجَبْرِيَّةُ الَّذِينَ يَنْفُونَ الْكَسْبَ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ الْعَبْدَ كَالْخَيْطِ الْمُعَلَّقِ فِي الْهَوَاءِ، وَمِنْهُمْ الْخَوَارِجُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ عَنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَلَا يَمْتَثِلُونَ أَمْرَهُ. وَمِنْهُمْ الْجَهْمِيَّةُ الْمُتَّبِعُونَ إلَى رَأْي أَبِي جُهَيْمٍ الْمُنْفَرِدِ بِمَقَالَةٍ بَاطِلَةٍ كَخَلْقِ الْقُرْآنِ وَإِنْكَارِ رُؤْيَةِ الْبَارِي وَالصِّفَاتِ الْقَدِيمَةِ. وَمَنْ لَمْ نُكَفِّرْهُ مِنْ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَلَوْ بَعْدَ دُخُولِ النَّارِ؛ لِأَنَّهُ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِحَقِيقَتِهِ (أَنَّ) أَجْسَامَ (الشُّهَدَاءِ) جَمْعُ شَهِيدٍ وَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ (أَحْيَاءٌ) حَقِيقَةً (عِنْدَ رَبِّهِمْ) أَيْ فِي جَنَّةِ رَبِّهِمْ (يُرْزَقُونَ) مِنْ مُشْتَهَى الْجَنَّاتِ مِثْلُ مَا يُرْزَقُ الْأَحْيَاءُ فِي الدُّنْيَا. قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] نَزَلَتْ فِي قَتْلَى بَدْرٍ لَمَّا قَالَ النَّاسُ فِي حَقِّ مَنْ قُتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ: مَاتَ فُلَانٌ وَذَهَبَ عَنْهُ نَعِيمُ الدُّنْيَا وَلَذَّتُهَا، فَكَرِهَ سُبْحَانَهُ أَنْ يَحُطَّ مَنْزِلَتَهُمْ فَأَنْزَلَ هَذِهِ الْآيَةَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْجُزُولِيُّ: حَيَاةُ الشُّهَدَاءِ حَيَاةٌ غَيْرُ مُكَيَّفَةٍ وَلَا مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهَا عَلَى مَا جَاءَ بِهِ ظَاهِرُ الشَّرْعِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُمْ فِي الْجَنَّةِ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ «قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمِّ حَارِثَةَ: إنَّهُ فِي الْفِرْدَوْسِ» وَفِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْوَاحِدِيِّ «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلصَّحَابَةِ لَمَّا أُصِيبَ إخْوَانُهُمْ بِأُحُدٍ: جَعَلَ اللَّهُ أَرْوَاحَهُمْ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ فَلَمَّا وَجَدُوا طِيبَ مَأْكَلَهُمْ وَمَشْرَبَهُمْ قَالُوا مَنْ يُبَلِّغُ إخْوَانَنَا عَنَّا أَنَّنَا أَحْيَاءٌ فِي الْجَنَّةِ نُرْزَقُ لِئَلَّا يَزْهَدُوا فِي الْجِهَادِ وَيَتَأَخَّرُوا عَنْ الْحَرْبِ؟ فَقَالَ اللَّهُ: أَنَا أُبَلِّغُهُمْ عَنْكُمْ فَأَنْزَلَ اللَّهُ: {وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [آل عمران: 169] الْآيَةُ» . تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُتَّصِفَ بِالْحَيَاةِ أَجْسَادُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَّ أَجْسَادَهُمْ حَقِيقَةٌ ظَاهِرُ الْآيَةِ الشَّرِيفَةِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ، لَكِنَّ حَيَاتَهُمْ لَيْسَتْ كَحَيَاتِهِمْ فِي الدُّنْيَا لِمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْإِجْمَاعَ عَلَى أَنَّ أَجْسَادَهُمْ لَا تَعُودُ إلَيْهَا الْحَيَاةُ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا فَالْحَاصِلُ أَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَا تَمْنَعُ إطْلَاقَ اسْمِ الْمَيِّتِ عَلَيْهِ بَلْ حَيَاةٌ غَيْرُ مَعْقُولَةٍ لِلْبَشَرِ. الثَّانِي: حَمَلْنَا الشُّهَدَاءَ عَلَى شُهَدَاءِ الْحَرْبِ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مُؤْثِمٍ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُجَاهِدُونَ شَرْعًا، وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ بِهِمْ مَنْ قَاتَلَ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ ذَاهِبًا إلَى إرَادَةِ الْغَنِيمَةِ أَوْ الْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَةٍ لَا تُنَافِي حُصُولَ الشَّهَادَةِ. نَعَمْ اخْتَارَ جَمْعٌ التَّفْصِيلَ بَيْنَ الْقَصْدِ الْأُخْرَوِيِّ فَيُؤْجَرُ بِقَدْرِهِ وَبَيْنَ الْقَصْدِ الدُّنْيَوِيِّ فَلَا يُؤْجَرُ كَمَا إذَا قُصِدَا مَعًا، وَأَلْحَقَ الْقُرْطُبِيُّ بِالْمُجَاهِدِ كُلَّ مَقْتُولٍ عَلَى الْحَقِّ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَهَذَا الْفَضْلُ وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ فِي قِتَالِ الْكُفَّارِ فَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ خَرَجَ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ وَقُطَّاعِ الطَّرِيقِ وَفِي إقَامَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَنْ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا سُمُّوا شُهَدَاءَ؛ لِأَنَّهُمْ شُهِدَ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ أَوْ؛ لِأَنَّ أَرْوَاحَهُمْ شَهِدَتْ دَارَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمْ لَا تَشْهَدُهَا إلَّا عِنْدَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ دَمَهُ يَشْهَدُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَوْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ شَهِدَ لَهُ بِاللُّطْفِ وَالرَّحْمَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِلشَّهِيدِ كَرَامَتَانِ غَيْرَ هَذِهِ، كَالْأَمْنِ مِنْ الْفَزَعِ الْأَكْبَرِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَكَالْغُفْرَانِ بِأَوَّلِ الْمُلَاقَاةِ وَأَنَّهُ يُتَوَّجُ بِتَاجِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَشْفَعُ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ مِنْ أَقَارِبِهِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ يَتَزَوَّجُ بِسَبْعِينَ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، وَمِنْهَا أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ فِي قَبْرِهِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْأَرْضَ لَا تَأْكُلُ جَسَدَهُ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ وَالْمُؤَذِّنِينَ احْتِسَابًا فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ ابْنِ آدَمَ تَأْكُلُهُ الْأَرْضُ إلَّا عَجْبُ الذَّنَبِ» وَهُوَ عَظْمٌ صَغِيرٌ فِي مَغْرِزِ الذَّنَبِ لِلدَّابَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 مُعَذَّبَةٌ إلَى يَوْمِ الدِّينِ. ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ، وَيُسْأَلُونَ، {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] .   [الفواكه الدواني] الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ تَخْصِيصِ الْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ بِشَهِيدِ الْحَرْبِ أَوْ مَنْ مَعَهُ أَنَّ شَهِيدَ الْآخِرَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْمَيِّتِ بِالطَّاعُونِ أَوْ بِالْإِحْرَاقِ أَوْ بِالْإِسْهَالِ، أَوْ كَالْمَقْتُولِ دُونَ أَهْلِهِ أَوْ دِينِهِ أَوْ مَاتَ غَرِيبًا أَوْ مُتَلَبِّسًا بِطَلَبِ الْعِلْمِ وَغَيْرِهِمْ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ لَيْسَ مِثْلَهُ فِي الْحَيَاةِ وَالرِّزْقِ وَإِنْ أُلْحِقَ بِهِ فِي مُطْلَقِ الْأَجْرِ. الرَّابِعُ: قَالَ أَبُو مَنْصُورٍ الْبَغْدَادِيُّ: قَالَ الْمُتَكَلِّمُونَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا: إنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيٌّ بَعْدَ وَفَاتِهِ وَإِنَّهُ يُسَرُّ بِطَاعَةِ أُمَّتِهِ، وَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا يَبْلَوْنَ مَعَ أَنَّا نَعْتَقِدُ ثُبُوتَ الْإِدْرَاكَاتِ كَالْعِلْمِ وَالسَّمَاعِ لِسَائِرِ الْمَوْتَى وَنَقْطَعُ بِعَوْدِ حَيَاةِ كُلِّ مَيِّتٍ فِي قَبْرِهِ وَبِنَعِيمِ الْقَبْرِ وَعَذَابِهِ وَهُمَا مِنْ الْأَعْرَاضِ الْمَشْرُوطَةِ بِالْحَيَاةِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى بِنْيَةٍ، وَأَمَّا أَدِلَّةُ الْحَيَاةِ فِي الْأَنْبِيَاءِ فَمُقْتَضَاهَا أَنَّهَا مَعَ الْبِنْيَةِ فَقَدْ قَالَ الْعَلَّامَةُ الرَّمْلِيُّ: الْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ وَالْعُلَمَاءُ لَا يَبْلَوْنَ وَالْأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ يَأْكُلُونَ فِي قُبُورِهِمْ وَيَشْرَبُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ وَيَحُجُّونَ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي نِكَاحِهِمْ نِسَاءَهُمْ، وَلِلشَّاذِلِيِّ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ: إنَّ الشُّهَدَاءَ يَنْكِحُونَ حَقِيقَةً كَمَا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ، وَقَائِلُ غَيْرِ هَذَا مُخَالِفٌ لِلْآيَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَصِفْ شَهِيدَ الْحَرْبِ بِالْحَيَاةِ ... وَرِزْقِهِ مِنْ مُشْتَهَى الْجَنَّاتِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا حَقِيقَةَ الرِّزْقِ فِيمَا سَبَقَ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرُّوحِ مِنْ حَيْثُ نَعِيمِهَا وَعَذَابِهَا وَمَحَلِّهَا وَحَقِيقَتِهَا فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يُطْلَبُ الْجَزْمُ بِهِ أَنَّ (أَرْوَاحَ) جَمْعُ رُوحٍ وَيُرَادِفُهَا النَّفْسُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (أَهْلِ السَّعَادَةِ) وَهُمْ كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَلَوْ كَانَ كَافِرًا قَبْلَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّعَادَةَ هِيَ الْمَنْفَعَةُ اللَّاحِقَةُ فِي الْعُقْبَى وَهِيَ الْمَوْتُ عَلَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (بَاقِيَةٌ) لَا تَفْنَى عِنْدَ مَوْتِ صَاحِبِهَا وَلَا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى الَّتِي يَهْلِكُ عِنْدَهَا كُلُّ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ، وَكَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهَا (نَاعِمَةٌ) أَيْ مُنَعَّمَةٌ بِرُؤْيَةِ مَقْعَدِهَا فِي الْجَنَّةِ وَيَسْتَمِرُّ لَهَا ذَلِكَ (إلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أَيْ يَقُومُونَ أَحْيَاءً مِنْ قُبُورِهِمْ وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ. (وَ) يَجِبُ أَنْ يُعْتَقَدَ (أَرْوَاحَ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ) وَهُمْ كُلُّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ وَلَوْ كَانَ مُسْلِمًا طُولَ عُمْرِهِ (مُعَذَّبَةٌ) بِرُؤْيَةِ مَقْعَدِهَا مِنْ النَّارِ وَيَسْتَمِرُّ لَهَا ذَلِكَ (إلَى يَوْمِ الدِّينِ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَإِذَا جَاءَ يَوْمُ الدِّينِ يَحْصُلُ النَّعِيمُ الْحَقِيقِيُّ وَالْعَذَابُ الْحَقِيقِيُّ الْأَبَدِيُّ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُمَا بَعْدَ الْقِيَامَةِ يَنْقَطِعَانِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي مُدَّةِ الْبَرْزَخِ وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ فَيُقَالُ هَذَا مَقْعَدُك إلَى أَنْ يَبْعَثَك اللَّهُ» . وَالتَّنْعِيمُ وَالتَّعْذِيبُ إمَّا لِلْجَسَدِ كُلِّهِ أَوْ لِجُزْئِهِ بَعْدَ إعَادَةِ الرُّوحِ فِيهِ عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَأَرْوَاحُ أَهْلِ السَّعَادَةِ. . . إلَخْ تَبِعَ فِيهِ مَذْهَبَ ابْنِ حَزْمٍ وَابْنَ هُبَيْرَةَ الْقَائِلِينَ بِأَنَّ التَّنْعِيمَ وَالتَّعْذِيبَ لِلرُّوحِ فَقَطْ. قَالَ الْجَلَالُ تَبَعًا لِشَيْخِهِ الْحَافِظِ ابْنِ حَجَرٍ قَالَ الْعُلَمَاءُ: عَذَابُ الْقَبْرِ وَهُوَ عَذَابُ الْبَرْزَخِ أُضِيفَ إلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ إلَى أَنْ قَالَ: وَمَحَلُّهُ الرُّوحُ وَالْبَدَنُ جَمِيعًا بِاتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي النَّعِيمِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ إنَّمَا أَسْنَدَ النَّعِيمَ وَالْعَذَابَ لِلْأَرْوَاحِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْأَجْسَادِ، فَيَلْزَمُ مِنْ تَعْذِيبِ أَوْ تَنْعِيمِ الْأَرْوَاحِ تَنْعِيمُ أَوْ تَعْذِيبُ الْأَجْسَادِ، فَلَمْ يَخْرُجْ الْمُصَنِّفُ عَنْ كَلَامِ أَهْلِ السُّنَّةِ. 1 - تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: عَذَابُ الْقَبْرِ قِسْمَانِ: دَائِمٌ وَهُوَ عَذَابُ الْكُفَّارِ وَبَعْضُ عُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمُنْقَطِعٌ وَهُوَ عَذَابُ مَنْ خَفَّتْ جَرَائِمُهُمْ فَإِنَّهُمْ يُعَذَّبُونَ وَيُرْفَعُ عَنْهُمْ بِدُعَاءٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. وَقَالَ الْيَافِعِيُّ: بَلَغَنَا أَنَّ الْمَوْتَى لَا يُعَذَّبُونَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ تَشْرِيفًا لَهَا قَالَ: وَيَحْتَمِلُ اخْتِصَاصَ ذَلِكَ بِعُصَاةِ الْمُسْلِمِينَ دُونَ الْكُفَّارِ، وَعَمَّمَهُ فِي بَحْرِ الْكَلَامِ فِي الْكَافِرِ أَيْضًا قَالَ: إنَّ الْكَافِرَ يُرْفَعُ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتَهَا وَجَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ الْعَاصِي فَإِنْ مَاتَ فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَتِهَا عُذِّبَ إلَيْهَا ثُمَّ يَنْقَطِعُ فَلَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ مَاتَ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا عُذِّبَ سَاعَةً وَاحِدَةً ثُمَّ لَا يَعُودُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «مَا مِنْ مُسْلَمٍ أَوْ مُسْلِمَةٍ يَمُوتُ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ أَوْ يَوْمَهَا إلَّا وُقِيَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَلَقِيَ اللَّهَ وَلَا حِسَابَ عَلَيْهِ» قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: ظَاهِرُ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ فِي عَدَمِ سُؤَالِ الْمَيِّتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْجُمُعَةِ عَدَمُ إعَادَةِ السُّؤَالِ وَالْعَذَابِ بَعْدَ مُضِيِّ اللَّيْلَةِ وَالْيَوْمِ لِفَضْلِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَا يُوهِمُ الْإِعَادَةَ لَيْسَ بِصَحِيحٍ. الثَّانِي: مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ضَغْطَتُهُ وَهِيَ الْتِقَاءُ حَافَّتَيْهِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا يَنْجُو مِنْهَا صَالِحٌ وَلَا طَالِحٌ، وَلَوْ نَجَا مِنْهَا غَيْرُ الْأَنْبِيَاءِ لَنَجَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ عَرْشُ الرَّحْمَنِ لِمَوْتِهِ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ أَعْيَانِ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَوْ أَفْلَتَ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَأَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ، وَلَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ. ، وَأَنَّ   [الفواكه الدواني] أَحَدٌ لَأَفْلَتَ مِنْهَا هَذَا الصَّبِيُّ» . وَوَرَدَ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتِ أَسَدٍ أُمَّ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ بِهِ يَسْلَمَانِ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ كَمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -» . 1 - الثَّالِثُ: مِنْ نَعِيمِ الْقَبْرِ وَتَوْسِيعِهِ وَجَعْلِ قِنْدِيلَ فِيهِ وَفَتْحِ طَاقَةٍ فِيهِ مِنْ الْجَنَّةِ وَإِمْلَائِهِ خَضِرًا أَيْ نَعِيمًا وَجَعْلِهِ رَوْضَةً مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ، وَكُلُّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى حَقِيقَتِهِ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ، وَلَا يَخْتَصُّ نَعِيمُ الْقَبْرِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ وَلَا بِالْمُكَلَّفِينَ وَيَدْخُلُ فِيهِمْ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ، وَقَوْلُ الْمَلَكِ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ النَّعِيمِ خَاصٌّ بِالطَّائِعِ وَمَنْ أَرَادَ بِهِ الْمَغْفِرَةَ يَوْمَ الدِّينِ. الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الْخَوْضِ فِي حَقِيقَةِ الرُّوحِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُسْتَحَبَّ الْإِمْسَاكُ عَنْ الْخَوْضِ فِي حَقِيقَتِهَا بِالْجِنْسِ وَالنَّوْعِ؛ لِأَنَّهَا مِمَّا اسْتَأْثَرَ اللَّهُ بِعِلْمِهِ فَلَا يَنْبَغِي لَنَا التَّكَلُّمُ فِيهَا بِأَكْثَرَ مِنْ أَنَّهَا مَوْجُودَةٌ لِعِلْمِ الْعَبْدِ عَجْزَ نَفْسِهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ حَقِيقَةَ مَا احْتَوَى عَلَيْهِ جَسَدُهُ وَبَيْنَ جَنْبَيْهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] أَيْ مِمَّا انْفَرَدَ بِعِلْمِهِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ كَمَا عَلَيْهِ جَمْعٌ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَقْبِضْ نَبِيَّهُ حَتَّى أَطْلَعَهُ عَلَى حَقِيقَتِهَا وَعَلَى غَيْرِهَا مِمَّا أَخْفَاهُ كَالسَّاعَةِ إلَّا أَنَّهُ أَمَرَهُ بِكَتْمِهِ، كَمَا اُخْتُلِفَ فِي مَقَرِّهَا مِنْ الشَّخْصِ حَالَ الْحَيَاةِ، وَالصَّوَابُ عَدَمُ الْجَزْمِ بِكَوْنِهَا فِي مَحَلٍّ مَخْصُوصٍ مِنْ الْبَدَنِ، وَإِنْ جَزَمَ الْغَزَالِيُّ بِأَنَّ مَحَلَّهَا الْقَلْبُ. كَمَا أَنَّ الصَّوَابَ مُرَادَفَةُ الرُّوحِ لِلنَّفْسِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: النَّفْسُ جَسَدٌ عَلَى صُورَةِ الْآدَمِيِّ وَالرُّوحُ النَّفَسُ الْمُتَرَدِّدُ فِي الْإِنْسَانِ، وَكَمَا اُخْتُلِفَ فِي تَعَدُّدِهَا وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهَا وَاحِدَةٌ، وَخَالَفَ الْعِزُّ وَادَّعَى أَنَّ فِي كُلِّ جَسَدٍ رُوحَيْنِ: رُوحَ الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي إذَا خَرَجَتْ مِنْ الْجَسَدِ مَاتَ، وَرُوحَ الْيَقَظَةِ وَهِيَ الَّتِي يَكُونُ صَاحِبُ الْجَسَدِ بِبَقَائِهَا مُسْتَيْقِظًا وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْهُ نَامَ. الْخَامِسُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّ الرُّوحِ مِنْ الْجَسَدِ فِي حَالِ الْحَيَاةِ غَيْرُ مَعْلُومٍ عَلَى الصَّوَابِ، وَأَمَّا مَقَرُّهَا بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ الْقِيَامَةِ فَمُخْتَلَفٌ، فَمَقَرُّ أَرْوَاحِ الْأَنْبِيَاءِ الْجَنَّةُ وَمَقَرُّ أَرْوَاحِ الشُّهَدَاءِ فِي أَجْوَافِ طُيُورٍ خُضْرٍ تَرِدُ أَنْهَارَ الْجَنَّةِ وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا وَتَأْوِي إلَى قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ مُعَلَّقَةٍ فِي ظِلِّ الْعَرْشِ، وَمَقَرُّ أَرْوَاحِ غَيْرِهِمَا الْبَرْزَخُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الْحَاجِزُ بَيْنَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُ زَمَانٌ وَحَالٌ وَمَكَانٌ، فَزَمَانُهُ فِي حِينِ الْمَوْتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَحَالُهُ الْأَرْوَاحُ وَمَكَانُهُ مِنْ الْقَبْرِ إلَى عِلِّيِّينَ لِأَرْوَاحِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَرْوَاحُ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَلَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ بَلْ هِيَ فِي سِجِّينٍ مَسْجُونَةً وَبِلَعْنَةِ اللَّهِ فِيهِ مَوْصُوفَةٌ، وَالْمُرَادُ بِسِجِّينٍ الْأَرْضُ السَّابِعَةُ السُّفْلَى، وَقِيلَ: أَرْوَاحُ السُّعَدَاءِ عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ لَكِنْ لَا عَلَى سَبِيلِ الدَّوَامِ تَسْرَحُ حَيْثُ شَاءَتْ كَمَا قَالَ مَالِكٌ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلِكُلِّ رُوحٍ بِجَسَدِهَا اتِّصَالٌ مَعْنَوِيٌّ لِيَحِلَّ لَهَا مِنْ التَّنْعِيمِ وَالتَّعْذِيبِ مَا كُتِبَ لَهَا، وَبِقَوْلِنَا لَهَا اتِّصَالٌ يَحْصُلُ بِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلِ مَنْ قَالَ إنَّهَا عَلَى أَفْنِيَةِ الْقُبُورِ وَمَنْ قَالَ إنَّهَا فِي عِلِّيِّينَ، وَيَدُلُّ عَلَى الِاتِّصَالِ مَا وَرَدَ: «أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى قَبْرِ شَخْصٍ كَانَ يَعْرِفُهُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَعْرِفُهُ وَيَرُدُّ عَلَيْهِ السَّلَامَ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ» . 1 - السَّادِسُ: أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ عَلَى أَنَّ الْأَرْوَاحَ مُحْدَثَةٌ خِلَافًا لِلزَّنَادِقَةِ، نَعَمْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي خَلْقِهَا قَبْلَ الْجَسَدِ وَتَأَخُّرِهَا عَنْهُ عَلَى قَوْلَيْنِ: فَقِيلَ خُلِقَتْ قَبْلَهُ بِأَلْفَيْ عَامٍ وَقِيلَ بَعْدَهُ؛ وَاسْتَدَلَّ لَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] قِيلَ: إنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَبْلَ أَنْ يُنْفَخَ فِيهِ الرُّوحُ، وَأُجِيبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ نَفْخِ الرُّوحِ وَخَلْقِهِ فَلَا دَلِيلَ فِي الْآيَةِ عَلَى التَّأْخِيرِ. 1 - السَّابِعُ: وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي فَنَائِهَا عِنْدَ النَّفْخَةِ الْأُولَى وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا لَا تَفْنَى كَمَا لَا يَفْنَى عَجْبُ الذَّنَبِ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ (أَنَّ الْمُؤْمِنِينَ يُفْتَنُونَ) أَيْ يُمْتَحَنُونَ وَيُخْتَبَرُونَ (فِي قُبُورِهِمْ وَ) مَعْنَى يُفْتَنُونَ فِي قُبُورِهِمْ (يُسْأَلُونَ) لِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ سُؤَالُ الْمَلَكَيْنِ مُنْكَرٌ بِفَتْحِ الْكَافِ وَنَكِيرٌ بِكَسْرِهَا بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِرْزَبَّةٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ وُضِعَتْ عَلَى جِبَالِ الدُّنْيَا لَذَوَّبَتْهَا جَعَلَهَا اللَّهُ تَكْرِمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لِتَثْبِيتِهِمْ وَهَتْكًا لِسِتْرِ الْمُنَافِقِينَ فِي الْبَرْزَخِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُبْعَثُوا، وَاسْتَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27] وَهُوَ قَوْلُ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَ ذَلِكَ، فَإِذَا ثَبَّتَهُمْ لَا يَزُولُونَ إذَا فُتِنُوا فِي دِينِهِمْ (فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) أَيْ عِنْدَ الْمَوْتِ (وَفِي الْآخِرَةِ) عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ لَهُ فِي قَبْرِهِ فَإِنَّ الْقَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلَةٍ مِنْ مَنَازِلِ الْآخِرَةِ فَلَا يَتَلَعْثَمُونَ إذَا سُئِلُوا عَنْ مُعْتَقَدِهِمْ وَلَا مَفْهُومَ لِلْمَقْبُورِ بَلْ كُلُّ مَيِّتٍ يُسْأَلُ قُبِرَ أَوْ لَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] يُقْبَرْ إلَّا مَا وَرَدَ النَّصُّ بَعْدَ سُؤَالِهِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ يُثَبِّتُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَلَى قَوْلِ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِهِ. وَقِيلَ: عِنْدَ حُضُورِ الشَّيَاطِينِ لِلْفِتْنَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ احْتِضَارِهِ تَحْضُرُ لَهُ شَيَاطِينُ عَلَى صُورَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ الَّذِينَ هُمْ أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ وَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ سَبَقْنَاك إلَى الْآخِرَةِ فَوَجَدْنَا أَحْسَنَ الْأَدْيَانِ دِينَ كَذَا إشَارَةً إلَى دِينٍ غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ يُلَقِّنُهُ حُجَّتَهُ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ بِالشَّرْعِ اعْتِقَادُ أَنَّ الْمَوْتَى تُسْأَلُ فِي قُبُورِهَا لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تَحْيَا بِرَدِّ الرُّوحِ إلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ وَرُجِّحَ وَقِيلَ إلَى النِّصْفِ الْأَعْلَى وَيُرَدُّ إلَيْهَا مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ فَهْمُ الْخِطَابِ وَيَتَأَتَّى مَعَهُ رَدُّ الْجَوَابِ مِنْ الْعَقْلِ وَالْعِلْمِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الْحَيَاةَ لَيْسَتْ كَالْحَيَاةِ الْمَعْهُودَةِ ثُمَّ تُسْأَلُ، وَالدَّلِيلُ مِنْ السُّنَّةِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْعَبْدَ إذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ لِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَأَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيَقُولُ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَيُقَالُ لَهُ: اُنْظُرْ إلَى مَقْعَدِك مِنْ النَّارِ قَدْ أَبْدَلَك بِهِ مَقْعَدًا مِنْ الْجَنَّةِ فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا، وَأَمَّا الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: مَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي كُنْت أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ، فَيُقَالُ لَهُ: لَا دَرَيْت وَلَا تَلَيْتَ وَيُضْرَبُ بِمِطْرَاقٍ مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيه غَيْرَ الثَّقَلَيْنِ» . وَأَخْرَجَهُ أَيْ الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ فِي الْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ بِنَحْوِهِ وَزَادَ: «وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا وَيُمْلَأُ عَلَيْهِ خُضَرًا أَيْ شَيْئًا يَتَلَذَّذُ بِهِ إلَى يَوْمِ يُبْعَثُ» . تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: الْمُؤْمِنِينَ شُمُولُهُ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ وَلَوْ مِنْ الْجِنِّ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَيَخْرُجُ الْكَافِرُ وَلَوْ مُنَافِقًا، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ وَالتِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ اخْتِصَاصُ السُّؤَالِ بِهَذِهِ الْأُمَّةِ لِحَدِيثِ: «أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تُبْتَلَى فِي قُبُورِهَا» وَخَالَفَ ابْنُ الْقَيِّمِ فَقَالَ: كُلُّ نَبِيٍّ مَعَ أُمَّتِهِ كَذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ خُرُوجِ الْكَافِرِ خَالَفَ فِيهِ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ الْجَوْزِيِّ وَقَالَا: إنَّ ظَوَاهِرَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ الْكَافِرَ وَالْمُنَافِقَ يُسْأَلَانِ، بَلْ صَرِيحُ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ السَّابِقِ سُؤَالُ الْكَافِرِ وَحَصَلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى سُؤَالِ الْمُنَافِقِ، فَلَعَلَّ الرَّاجِحَ الْقَوْلُ بِسُؤَالِ الْكُفَّارِ فَلَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِي سُؤَالِهِمْ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ فِتْنَةٌ وَعَذَابٌ وَهُمْ بِذَلِكَ أَحْرَى مِنْ الْمُسْلِمِ. الثَّانِي: قَالَ الْمَشَذَّالِيُّ وَابْنُ نَاجِي: الْأَخْبَارُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْفِتْنَةَ وَهِيَ السُّؤَالُ مَرَّةً وَفِي حَدِيثِ أَسْمَاءَ أَنَّهُ يُسْأَلُ ثَلَاثًا، وَفَصَّلَ الْجَلَالُ بَيْنَ الْمُؤْمِنِ فَيُسْأَلُ سَبْعَةَ أَيَّامٍ وَالْكَافِرِ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمَسْئُولَ عَنْهُ وَصَرَّحَ الْبَعْضُ بِهِ فَقَالَ: السُّؤَالُ فِي الْقَبْرِ عَنْ الْعَقَائِدِ فَقَطْ، يَقُولُ الْمَلِكُ لِلْمَيِّتِ: مَنْ رَبُّك وَمَا دِينُك وَمَا كُنْت تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ مَنْ أَبُوك وَمَا قِبْلَتُك، وَفِي أُخْرَى الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَجُمِعَ بِاخْتِلَافِ الْمَسْئُولِينَ وَبِأَنَّ بَعْضَ الرُّوَاةِ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضٍ وَبَعْضُهُمْ أَتَمَّ فَتَوَهَّمَ الِاخْتِلَافَ. الرَّابِعُ: جَوَّزَ الْعُلَمَاءُ أَنْ يَسْأَلَا الْمَيِّتَ مَعًا كَمَا فِي رِوَايَةٍ، وَكَتَبَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ عَلَى ذَلِكَ يَكُونُ أَحَدُهُمَا تَحْتَ رِجْلَيْهِ وَالْآخَرُ عَلَى رَأْسِهِ، وَاَلَّذِي يُبَاشِرُ السُّؤَالَ الْوَاقِفُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ لِأَنَّهُ الَّذِي قُبَالَةَ وَجْهِهِ وَأَنْ يَسْأَلَهُ أَحَدُهُمَا كَمَا فِي أُخْرَى، وَقِيلَ: اخْتِلَافُ الرُّوَاةِ بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَسْئُولِينَ وَهُوَ الْمُخْتَارُ، وَوَقْتُ السُّؤَالِ أَوَّلُ يَوْمٍ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ وَعِنْدَ الِانْصِرَافِ عَنْهُ، وَتَوَقَّفَ الْجَلَالُ فِي تَعْيِينِ وَقْتِ السُّؤَالِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِنَاءً عَلَى تَعَدُّدِ السُّؤَالِ وَجَزَمَ بِأَنَّهُمَا يَأْتِيَانِ الْمَيِّتَ مَعًا وَلَا يَتَوَلَّى السُّؤَالَ إلَّا أَحَدُهُمَا، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى كَوْنِ السُّؤَالِ أَوَّلَ يَوْمٍ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ وَعِنْدَ انْصِرَافِ النَّاسِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ لَوْ مَاتَ جَمَاعَةٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَبَاعِدَةٍ وَدُفِنُوا فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَكَيْفَ يُمْكِنُ مِنْ الْمَلَكَيْنِ الْمُعَيَّنَيْنِ مُبَاشَرَةُ سُؤَالِ الْجَمِيعِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: يَجُوزُ عَقْلًا أَنْ يُعَظِّمَ اللَّهُ جُثَّتَيْهِمَا حَتَّى يُخَاطِبَا الْخَلْقَ الْكَثِيرَ فِي زَمَانٍ مُتَّحِدٍ فِي مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَيُخَيَّلُ لِكُلٍّ أَنَّهُ الْمَسْئُولُ دُونَ غَيْرِهِ، وَيُحْجَبُ سَمْعُ كُلٍّ عَنْ سَمَاعِ كَلَامِ غَيْرِهِ عَلَى نَظِيرِ مُحَاسَبَةِ اللَّهِ خَلْقَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَإِنَّهُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَخْصِيصِ الْمَلَكَيْنِ، وَأَمَّا تَعَدُّدُ مَلَائِكَةِ السُّؤَالِ بِتَعَدُّدِ الْمَسْئُولِينَ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى هَذَا الْجَوَابِ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَأَقُولُ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ تَعْيِينُهُمَا بِأَنَّهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ. الْخَامِسُ: صِفَةُ الْمَلَكَيْنِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنَّهُمَا أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ أَعْيُنُهُمَا كَقُدُورِ النُّحَاسِ. وَفِي رِوَايَةٍ: كَالْبَرْقِ وَأَصْوَاتُهُمَا كَالرَّعْدِ إذَا تَكَلَّمَا يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمَا كَالنَّارِ بِيَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِطْرَاقٌ مِنْ حَدِيدٍ لَوْ ضَرَبَ بِهِ الْجِبَالَ ضَرْبَةً لَذَابَتْ. وَفِي رِوَايَةٍ: بِيَدِ أَحَدِهِمَا مِرْزَبَّةٌ لَوْ اجْتَمَعَ أَهْلُ مِنًى لَمْ يَسْتَطِيعُوا حَمْلَهَا وَاسْمُهُمَا مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُشْبِهَانِ خَلْقَ الْآدَمِيِّينَ وَلَا خَلْقَ الْمَلَائِكَةِ وَلَا خَلْقَ الطَّيْرِ وَلَا الْبَهَائِمِ وَلَا الْهَوَامِّ بَلْ هُمَا خَلْقٌ بَدِيعٌ وَلَيْسَ فِي خَلْقِهِمَا أُنْسٌ لِلنَّاظِرِينَ جَعَلَهُمَا اللَّهُ تَذْكِرَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَهَتْكًا لِسِتْرِ الْمُنَافِقِينَ وَهُمَا لِلْمُؤْمِنِ الطَّائِعِ وَغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ وَقِيلَ هُمَا لِلْكَافِرِ وَالْعَاصِي وَأَمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْمُؤْمِنُ الْمُوَفَّقُ فَلَهُ مَلَكَانِ اسْمُ أَحَدِهِمَا بَشِيرٌ وَالْآخَرُ مُبَشِّرٌ، قِيلَ وَمَعَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ يُقَالُ لَهُ نَاكُورٌ، وَقِيلَ وَيَجِيءُ قَبْلَهُمَا مَلَكٌ يُقَالُ لَهُ رُمَّانُ، وَحَدِيثُهُ قِيلَ مَوْضُوعٌ وَقِيلَ فِيهِ لِينٌ، وَمَا وَرَدَ مِنْ انْتِهَاءِ الْمَلَكَيْنِ لِلْمَيِّتِ وَإِزْعَاجِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الْمُؤْمِنِ الصَّالِحِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُ الطَّائِعُ وَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ لَهُ الْعَفْوَ وَالْغُفْرَانَ فَيَقُولَانِ لَهُ: نَمْ نَوْمَةَ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إلَّا أَحَبُّ النَّاسِ إلَيْهِ، وَالْحَقُّ كَمَا قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ: أَنَّ كُلَّ مَنْ خُتِمَ لَهُ بِالسَّعَادَةِ يُوَفَّقُ لِجَوَابِ الْمَلَكَيْنِ. السَّادِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا كَذَلِكَ كَيْفَ يَدْخُلَانِ الْقَبْرَ عَلَى الْمَيِّتِ بَعْدَ تَمَامِ الدَّفْنِ، وَقَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا اللَّقَانِيُّ: إنَّهُ وَرَدَ فِي حَدِيثٍ أَنَّهُمَا يَبْحَثَانِ الْأَرْضَ بِأَنْيَابِهِمَا وَأَنَّهُمَا كَصَيَاصِي الْبَقَرِ أَيْ قُرُونِهِمَا. وَفِي آخَرَ أَنَّهُمَا يَمْشِيَانِ فِي الْأَرْضِ كَمَا يَمْشِي أَحَدُكُمْ فِي الضَّبَابِ وَهُمَا رَافِعَانِ لِلِاحْتِمَالَاتِ الَّتِي أَبَدَاهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ. السَّابِعُ: رُبَّمَا يَقَعُ السُّؤَالُ فِي حُضُورِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَحَدٍ فِي قَبْرِهِ وَقْتَ سُؤَالِهِ، وَقَالَ فِيهِ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ يَحْضُرُ لِأَحَدٍ وَإِنَّمَا ثَبَتَ حُضُورُ إبْلِيسَ فِي زَاوِيَةٍ مِنْ زَوَايَا الْقَبْرِ مُشِيرًا إلَى نَفْسِهِ عِنْدَ قَوْلِ الْمَلَكِ: مَنْ رَبُّكَ مُسْتَدْعِيًا مِنْ جَوَابِهِ بِهَذَا رَبِّي، فَنَسْأَلُ اللَّهَ التَّوْفِيقَ لِلْجَوَابِ. الثَّامِنُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: الْمُؤْمِنِينَ عَامٌّ فِي كُلِّ مُؤْمِنٍ إلَّا مَنْ وَرَدَ عَدَمُ سُؤَالِهِ كَالْأَنْبِيَاءِ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ - وَلَوْ شَهِدَ آخِرَةً فَقَطْ - وَالْمُرَابِطِ وَالْمَيِّتِ لَيْلَةَ الْجُمُعَةِ وَتَدْخُلُ بِزَوَالِ شَمْسِ الْخَمِيسِ، أَوْ يَوْمَهَا وَالْمَلَائِكَةِ؛ لِأَنَّ السُّؤَالَ لِمَنْ شَأْنُهُ أَنْ يُقْبَرَ، وَتَوَقَّفَ ابْنُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي أَهْلِ الْفَتْرَةِ وَالْمَجَانِينِ وَالْبُلْهِ. قَالَ الْجَلَالُ: وَمُقْتَضَى الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يُسْأَلُ إلَّا الْمُكَلَّفُ فَلَا تُسْأَلُ الْأَطْفَالُ، وَجَزَمَ الْقُرْطُبِيُّ بِسُؤَالِهِمْ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي فِي بَابِ الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ، وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ، وَأَحَادِيثَ كَثِيرَةٍ، وَتَلَخَّصَ أَنَّ فِي سُؤَالِ الْأَطْفَالِ قَوْلَيْنِ، وَمِمَّنْ لَا يُسْأَلُ الْمُوَاظِبُ عَلَى قِرَاءَةِ السَّجْدَةِ وَالْمُلْكِ كُلَّ لَيْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فِي مَرَضِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ وَجَمِيعُ مَنْ نَصَّ عَلَى شَهَادَتِهِ. التَّاسِعُ: مَنْ أَنْكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ وَسُؤَالَ الْمَلَكَيْنِ مُبْتَدِعٌ وَيُؤَدَّبُ، فَإِنْ أَصَرَّ عَلَى إنْكَارِهِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ وَيُضْرَبُ أَدَبًا كَمَا فَعَلَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِبَعْضِ النَّاسِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالشَّخْصِ بَعْدَ مَوْتِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حَالِهِ فِي حَيَاتِهِ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْجَزْمُ بِهِ وَيَكْفُرُ بِجَحْدِهِ اعْتِقَادُ (أَنَّ عَلَى الْعِبَادِ حَفَظَةً يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ) الَّتِي تَصْدُرُ مِنْهُمْ فِي الدُّنْيَا يَكْتُبُونَهَا فِي دِيوَانٍ مِنْ وَرَقٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ} [الطور: 3] عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، لَا يُهْمِلُونَ مِنْ عَمَلِ الْعَبْدِ شَيْئًا قَوْلًا أَوْ اعْتِقَادًا، هَمًّا أَوْ عَزْمًا، خَيْرًا أَوْ شَرًّا، أَوْ الصَّغَائِرَ الْمَغْفُورَةَ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ صَدَرَ مِنْهُمْ عَلَى وَجْهِ الْقَصْدِ أَوْ الذُّهُولِ فِي حَالَةِ الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ كَمَا رَوَاهُ عُلَمَاءُ النَّقْلِ. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: يَكْتُبُونَ عَلَى الْعِبَادِ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى أَنِينَهُمْ فِي مَرَضِهِمْ مُحْتَجًّا بِظَاهِرِ {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وَالرَّقِيبُ الْحَافِظُ وَالْعَتِيدُ الْحَاضِرُ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: بِكُلِّ عَبْدٍ حَافِظُونَ وُكِّلُوا ... وَكَاتِبُونَ خِيرَةً لَنْ يُهْمِلُوا مِنْ أَمْرِهِ شَيْئًا فَعَلَ وَلَوْ ذَهَلَ ... حَتَّى الْأَنِينَ فِي الْمَرَضِ كَمَا نُقِلَ فَحَاسِبِ النَّفْسَ وَقِلِّ الْأَمَلَا ... فَرُبَّ مَنْ جَدَّ لِأَمْرٍ وَصَلَا وَحِينَئِذٍ يَدْخُلُ فِي الْعَبْدِ الْكَافِرُ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَالصَّوَابُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ بَلْ نَقَلَ عَنْ بَعْضِهِمْ فِيهِ الْإِجْمَاعَ أَنَّ الْكَافِرَ إذَا فَعَلَ أَفْعَالًا جَمِيلَةً كَالصَّدَقَةِ وَصِلَةِ الرَّحِمِ أَيْ نَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ ثُمَّ أَسْلَمَ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ أَنَّ ثَوَابَ ذَلِكَ يُكْتَبُ لَهُ، وَمِمَّنْ نَصَّ عَلَى أَنَّ عَلَى الْكَافِرِ حَفَظَةً يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ قَالَ بَعْضٌ: وَهُوَ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى تَكْلِيفِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَاتِبِينَ هُمْ الْحَفَظَةُ، وَكَلَامُ الْجَوْهَرَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُمْ غَيْرُ الْحَفَظَةِ، وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ خِلَافٍ، وَاَللَّهُ يَعْلَمُ الْحَقَّ مِنْهُ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: إطْلَاقُهُ الْعِبَادَ يَتَنَاوَلُ الْمُكَلَّفَ وَغَيْرَهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ كَتْبُهُمْ حَسَنَاتِ الصَّبِيِّ وَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ بِإِذْنِ رَبِّهِ. ، وَأَنَّ خَيْرَ الْقُرُونِ: الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنُوا بِهِ، ثُمَّ الَّذِينَ   [الفواكه الدواني] حَفَظَةَ عَلَيْهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ حَالَ الْمَجْنُونِ لَيْسَ مُتَوَجِّهًا لِلتَّكْلِيفِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ، وَأَمَّا غَيْرُ الْحَسَنَاتِ فَلَا يُكْتَبُ عَلَى الصِّبْيَانِ وَرُبَّمَا يَتَنَاوَلُ الْمَلَائِكَةَ أَيْضًا، وَقَدْ تَرَدَّدَ الْجُزُولِيُّ فِيهِمْ وَفِي الْجِنِّ هَلْ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ أَمْ لَا؟ ثُمَّ جَزَمَ بِأَنَّ عَلَى الْجِنِّ الْحَفَظَةَ دُونَ الْمَلَائِكَةِ فَإِنَّهُ اسْتَبْعَدَ كَوْنَ عَلَيْهِمْ حَفَظَةٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّسَلْسُلِ الثَّانِي: مَحَلُّ الْحَفَظَةِ مِنْ الْإِنْسَانِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ شَفَةُ الْإِنْسَانِ، وَقِيلَ مَحَلُّ كَاتِبِ الْحَسَنَاتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْمَنِ، وَكَاتِبِ السَّيِّئَاتِ عَلَى عَاتِقِهِ الْأَيْسَرَ، وَقَلَمُهُمْ لِسَانُهُ وَمِدَادُهُمْ رِيقُهُ لَا يُفَارِقُونَهُ إلَّا عِنْدَ الْخَلَاءِ وَالْجِمَاعِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنْ ذَلِكَ كَتْبُهُمَا عَلَيْهِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ، وَيَجْعَلُ اللَّهُ لَهُمَا عَلَامَةً وَعَلَى نَوْعِ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ فِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، وَكَاتِبُ الْحَسَنَاتِ أَمِينٌ عَلَى كَاتِبِ السَّيِّئَاتِ لَا يُمَكِّنُهُ مِنْ كَتْبِ السَّيِّئَةِ إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ سِتِّ سَاعَاتٍ مِنْ غَيْرِ تَوْبَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَيُبَادِرُ لِكَتْبِ الْحَسَنَاتِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُمَكِّنْهُ كَاتِبُ الْحَسَنَاتِ مِنْ كَتْبِ السَّيِّئَةِ لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ، فَإِنْ اسْتَغْفَرَ فِي دَاخِلِ السَّاعَاتِ كَتَبَهَا كَاتِبُ الْيَمِينِ حَسَنَةً، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ اسْتِغْفَارٌ وَلَا تَوْبَةٌ كَتَبَهَا صَاحِبُ الشِّمَالِ سَيِّئَةً وَاحِدَةً، وَأَمَّا الْمُبَاحَاتُ فَيَكْتُبُهَا كَاتِبُ السَّيِّئَاتِ عَلَى الْقَوْلِ بِكَتْبِهَا، وَأَمَّا مَحَلُّهُمَا بَعْدَ الْمَوْتِ فَقَبْرُ الْمَيِّتِ يُسَبِّحَانِ وَيُهَلِّلَانِ وَيُكَبِّرَانِ وَيُكْتَبُ ثَوَابُهُ لِلْمَيِّتِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ كَانَ مُؤْمِنًا وَيَلْعَنَانِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إنْ كَانَ كَافِرًا. الثَّالِثُ: اُخْتُلِفَ هَلْ عَلَى الْعَبْدِ غَيْرُ الْمَلَكَيْنِ؟ فَقِيلَ عَلَيْهِ عَشْرَةٌ، وَعَنْ عُثْمَانَ أَنَّ عَلَيْهِ عِشْرِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اعْتِقَادِ حَقِيقَةِ الْحَفَظَةِ قَوْله تَعَالَى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ وَفِي صَلَاةِ الْعَصْرِ» وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى الْحَفَظَةِ فَمَنْ جَحَدَ أَوْ كَذَّبَ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ وَكَذَلِكَ مَنْ جَهِلَهُ، وَسُمُّوا حَفَظَةً لِحِفْظِهِمْ مَا يَصْدُرُ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ لِحِفْظِهِمْ الْآدَمِيِّينَ مِنْ الْجِنِّ. الرَّابِعُ: وَقَعَ تَرَدُّدُ الشُّيُوخِ فِيمَنْ يَصْعَدُ بِالْمَكْتُوبِ هَلْ هُوَ الْكَاتِبُ لَهُ أَوْ غَيْرُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلَائِكَةٌ بِاللَّيْلِ وَمَلَائِكَةٌ بِالنَّهَارِ فَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الصُّبْحِ» هَلْ هُمْ الْحَفَظَةُ فَيَكُونُونَ أَرْبَعَةً اثْنَانِ بِاللَّيْلِ وَاثْنَانِ بِالنَّهَارِ، كَمَا وَقَعَ خِلَافٌ هَلْ الْكَتَبَةُ هُمْ الْحَفَظَةُ أَوْ غَيْرُهُمْ؟ فَالْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: حَفَظَةٌ يَكْتُبُونَ أَعْمَالَهُمْ أَنَّ الْكَتَبَةَ هُمْ الْحَفَظَةُ وَقِيلَ غَيْرُهُمْ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ وَضْعِ الْحَفَظَةِ عَلَى الْعِبَادِ خَفَاءُ شَيْءٍ مِنْ أَعْمَالِهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ. قَالَ كَالْمُسْتَدْرِكِ عَلَى مَا سَبَقَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنْ (لَا يَسْقُطَ) أَيْ يَغِيبَ (شَيْءٌ) مِمَّا ضَبَطُوهُ عَلَى الْعِبَادِ (عَنْ عِلْمِ رَبِّهِمْ) لِإِحَاطَةِ عِلْمِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِمَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ وَضْعَ الْحَفَظَةِ لَا لِخَوْفِ نِسْيَانٍ أَوْ غَفْلَةٍ لِاسْتِحَالَةِ ذَلِكَ عَلَى الْبَارِي - تَعَالَى - وَإِنَّمَا فَائِدَةُ ذَلِكَ تَرْجِعُ لِلْعَبْدِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَلِمَ أَنَّ عَلَيْهِ مَنْ يُحْصِي عَمَلَهُ وَيَضْبِطُهُ لِيَشْهَدَ بِهِ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ يَحْصُلُ مِنْهُ انْزِجَارٌ عَنْ الْإِقْدَامِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي وَلِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ عَلَى قَدْرِ جَحْدِهِمْ. (وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَعْتَقِدَ (أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ) وَهُوَ عِزْرَائِيلُ وَقِيلَ اسْمُهُ عَبْدُ الْجَبَّارِ (يَقْبِضُ) جَمِيعَ (الْأَرْوَاحِ) مِنْ مَقَرِّهَا أَوْ مِنْ يَدِ أَعْوَانِهِ الْمُعَالِجِينَ لِنَزْعِهَا مِنْهُ لَكِنْ (بِإِذْنِ رَبِّهِ) لِمَا فِي الْخَبَرِ: «وَاَللَّهِ لَوْ أَرَدْت قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدَرْت عَلَى ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ اللَّهُ أَذِنَ بِقَبْضِهَا» ، وَأَشَارَ إلَى هَذَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَوَاجِبٌ إيمَانُنَا بِالْمَوْتِ ... وَيَقْبِضُ الرُّوحَ رَسُولُ الْمَوْتِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَوْتَ حَقٌّ ابْتَلَى اللَّهُ بِهِ كُلَّ ذِي رُوحٍ وَلَوْ أَعَزُّ خَلْقِهِ كَمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ أَعْظَمُ مُصِيبَةً يُصَابِهَا الْآدَمِيُّ، وَلَيْسَ ثَمَّ مُصِيبَةٌ أَعْظَمُ مِنْهُ سِوَى الْغَفْلَةِ عَنْهُ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلا} [الملك: 2] وَحَقِيقَتُهُ عَلَى مَذْهَبِ الْأَشَاعِرَةِ كَيْفِيَّةٌ وُجُودِيَّةٌ تُضَادُّ الْحَيَاةَ أَوْ عَدَمُ الْحَيَاةِ عَمَّا مَنْ شَأْنُهُ أَنْ يَكُون حَيًّا وَجَاحِدُهُ كَافِرٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ يَقْبِضُ كُلَّ رُوحٍ يَشْمَلُ أَرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ وَلَوْ شَهِيدَ بَحْرٍ، وَيَشْمَلُ أَرْوَاحَ الْبَهَائِمِ وَلَوْ بَرَاغِيثَ، بَلْ قِيلَ إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ نَفْسِهِ، وَقِيلَ إنَّمَا يَقْبِضُهَا اللَّهُ تَعَالَى كَمَا قِيلَ إنَّهُ يَقْبِضُ رُوحَ شَهِيدِ الْبَحْرِ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ الْمُتَوَلِّي لِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ جَمِيعًا مَلَكُ الْمَوْتِ فَكَيْفَ إذَا مَاتَ خَلْقٌ كَثِيرٌ فِي أَمَاكِنَ مُتَعَدِّدَةٍ مُتَبَاعِدَةٍ فِي زَمَنٍ مُتَّحِدٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَلَكَ الْمَوْتِ الدُّنْيَا بَيْنَ يَدَيْهِ كَالْقَصْعَةِ بَيْنَ يَدَيْ الْآكِلِ وَرِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى وَوَجْهُهُ فِي اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «كَانَ مَلَكُ الْمَوْتِ يَأْتِي النَّاسَ عِيَانًا فَأَتَى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَطَمَهُ فَفَقَأَ عَيْنَهُ فَأَتَى رَبَّهُ فَقَالَ: يَا رَبِّ عَبْدُك مُوسَى فَقَأَ عَيْنِي وَلَوْلَا كَرَامَتُهُ عَلَيْك لَشَقَقْت عَلَيْهِ. قَالَ: اذْهَبْ إلَى عَبْدِي فَقُلْ لَهُ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى جِلْدِ ثَوْرٍ وَلَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ وَارَتْهَا يَدُهُ سَنَةٌ، فَأَتَاهُ فَقَالَ: مَا بَعْدَ هَذَا؟ قَالَ: الْمَوْتُ، قَالَ: فَالْآنَ فَشَمَّهُ شَمَّةً فَقَبَضَ رُوحَهُ وَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى عَيْنَهُ إلَيْهِ، فَكَانَ بَعْدُ يَأْتِي النَّاسَ خُفْيَةً» . وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا وَأَبُو الشَّيْخِ عَنْ جَابِرِ بْنِ زَيْدَانَ: «مَلَكُ الْمَوْتِ كَانَ يَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ بِغَيْرِ وَجَعٍ فَسَبَّهُ النَّاسُ وَلَعَنُوهُ فَشَكَا إلَى رَبِّهِ فَوَضَعَ اللَّهُ الْأَوْجَاعَ وَنُسِيَ مَلَكُ الْمَوْتِ، يُقَالُ: مَاتَ فُلَانٌ مِنْ مَرَضِ كَذَا» . الثَّانِي: إنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَيَقْبِضُ الْأَرْوَاحَ إشَارَةً إلَى أَنَّ الرُّوحَ بَاقِيَةٌ عَلَى حَيَاتِهَا، لَكِنَّ إسْنَادَ الْقَبْضِ إلَى مَلَكِ الْمَوْتِ يُعَارِضُهُ آيَةُ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42] وَآيَةُ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] فَمَا وَجْهُ الْجَمْعِ؟ فَالْجَوَابُ: إنَّ إسْنَادَ التَّوَفِّي إلَى اللَّهِ فِي آيَةِ: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ} [الزمر: 42] عَلَى طَرِيقِ الْخَلْقِ، وَإِسْنَادَهُ إلَى مَلَكِ الْمَوْتِ فِي آيَةِ {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ} [السجدة: 11] كَمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّهُ الْمُبَاشِرُ لِنَزْعِهَا، وَإِسْنَادَهُ إلَى الرُّسُلِ فِي آيَةِ {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ؛ لِأَنَّهُمْ الْمُعَالِجُونَ فِي نَزْعِهَا وَإِخْرَاجِهَا مِنْ الْأَعْصَابِ. الثَّالِثُ: وَقَعَ الْخِلَافُ فِي قَدْرِ مُدَّةِ الدُّنْيَا فَقِيلَ سَبْعَةُ آلَافِ سَنَةٍ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالصَّوَابُ تَفْوِيضُ عِلْمُ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَأَمَّا قَدْرُ مُدَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَقَالَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْكَشْفِ: الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآثَارُ أَنَّ مُدَّةَ هَذِهِ الْأُمَّةِ تَزِيدُ عَلَى أَلْفِ سَنَةٍ وَلَا تَبْلُغُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَلْفِ وَخَمْسِمِائَةِ سَنَةٍ، وَقَالَ أَيْضًا: كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورِ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَمْكُثُ فِي قَبْرِهِ أَلْفَ سَنَةٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ فَضْلِ الصَّحَابَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ وَعَلَى بَعْضِهِمْ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يَجِبُ الْجَزْمُ بِهِ (أَنَّ خَيْرَ) أَيْ أَفْضَلَ (الْقُرُونِ) الَّتِي تُوجَدُ بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (الْقَرْنُ الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنُوا بِهِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالْمُرَادُ بِهِمْ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَصَحِبُوهُ وَلَوْ قَلِيلًا فَإِنَّهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْقُرُونِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَأَوْلَى الْمُتَقَدِّمَةِ لِلْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي فَوَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ أَنْفَقَ مِلْءَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ» . وَلِحَدِيثٍ: «إنَّ اللَّهَ اخْتَارَ أَصْحَابِي عَلَى الْعَالَمِينَ سِوَى النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» . وَفِي الْقُرْآنِ: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ} [الفتح: 18] {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَفْضَلُ أُمَّتِي، وَمَعْنَى لَا يَبْلُغُ مُدَّ أَحَدِهِمْ أَنَّ ثَوَابَ الصَّدَقَةِ بِمِلْءِ أُحُدٍ مِنْ الذَّهَبِ مِنْ غَيْرِهِمْ لَا يَبْلُغُ ثَوَابَ إنْفَاقِ الْمُدِّ وَلَا نَصِيفِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ إنْفَاقَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانَ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ وَضِيقِ الْحَالِ، وَكَانَ فِي حَضْرَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحِمَايَتِهِ مَعَ صِدْقِ نِيَّتِهِمْ وَخُلُوصِ طَوِيَّتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالنَّصِيفُ عَلَى وَزْنِ رَغِيفٍ فَهُوَ بِكَسْرِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ قَبْلَهَا نُونٌ مَفْتُوحَةٌ لُغَةً فِي النِّصْفِ، قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي حَاشِيَتِهِ عَلَى الْعَقَائِدِ، وَزَادَ غَيْرُهُ: أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى مَا يُوضَعُ عَلَى الرَّأْسِ الْمُسَمَّى بِالْحَبْرَةِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْنَى الْأَوَّلِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِرَأَوْا إشَارَةً إلَى تَعْرِيفِ الصَّحَابِيِّ كَمَا قَالَ الْعِرَاقِيُّ: رَأَى النَّبِيُّ مُسْلِمًا ذُو صُحْبَةٍ وَقِيلَ إنْ طَالَتْ وَلَمْ تَثْبُتْ وَقِيلَ مَنْ أَقَامَ عَامًا وَغَزَا وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ كَالْعِرَاقِيِّ وَلَوْ رَآهُ عَلَى بُعْدٍ وَلَوْ لَمْ يَعْرِفْهُ، وَالْأَوْلَى تَعْرِيفُهُ بِمَنْ لَقِيَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُؤْمِنًا بِهِ وَمَاتَ عَلَى الْإِسْلَامِ لِيَشْمَلَ الْأَعْمَى، وَيَشْمَلَ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَائِمًا أَوْ أَحْضَرَهُ أَبُوهُ مَعَهُ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ، وَاعْتَبَرَ بَعْضُهُمْ التَّمْيِيزَ كَمَا اعْتَبَرَ التَّعَارُفَ وَأَلْغَاهُ آخَرُونَ، وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَنْ كَلَّمَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُ حَائِطٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي ثُبُوتِ الصُّحْبَةِ طُولُ زَمَانِ الرُّؤْيَا بِخِلَافِ اجْتِمَاعِ التَّابِعِيِّ بِالصَّحَابِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْ طُولِهِ حَتَّى يَكُونَ تَابِعِيًّا عَلَى مَا ارْتَضَاهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَكَذَلِكَ تَابِعُ التَّابِعِيِّ، وَالْمُرَادُ مِنْ الطُّولِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الصُّحْبَةُ عُرْفًا. الثَّانِي: الْمُفَضَّلُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ أَفْرَادِ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ صُحْبَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرُونِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ حَيْثُ الصُّحْبَةِ لَا يُرَدُّ أَنَّهُ قَدْ يُوجَدُ فِي قَرْنِ التَّابِعِينَ مَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ حَيْثُ الْعِلْمِ أَوْ الصَّلَاحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ، وَمَعْنَى التَّفْضِيلِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ وَرَفْعُ الدَّرَجَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ الصَّحَابَةُ أَفْضَلُ الْقُرُونِ؛ لِأَنَّهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - آوَوْهُ وَنَصَرُوهُ وَجَاهَدُوا مَعَهُ وَتَصَدَّقُوا بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ مَعَ الْحَاجَةِ وَبَاعُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ. ، وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ: أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ ثُمَّ عَلِيٌّ   [الفواكه الدواني] النُّفُوسَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ. الثَّالِثُ: كَمَا يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ أَفْضَلُ الْقُرُونِ يَجِبُ اعْتِقَادُ أَنَّهُمْ مُتَفَاوِتُونَ فِي الْفَضْلِ فِيمَا بَيْنَهُمْ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - بِكَثْرَةِ الْمُلَازَمَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْمُجَاهِدَةِ مَعَهُ وَالْقُرْبِ مِنْهُ، إذْ لَيْسَ مَنْ رَآهُ وَفَارَقَهُ كَمَنْ جَاهَدَ مَعَهُ وَإِنْ كَانَ شَرَفُ الصُّحْبَةِ حَاصِلًا لِلْجَمِيعِ. الرَّابِعُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا تَثْبُتُ بِهِ الصُّحْبَةُ وَنَصَّ عَلَيْهِ غَيْرُهُ قَائِلًا: وَتُعْرَفُ الصُّحْبَةُ بِالتَّوَاتُرِ وَالِاسْتِفَاضَةِ وَبِالشُّهْرَةِ أَوْ بِإِخْبَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ أَوْ بَعْضِ ثِقَاتِ التَّابِعِينَ أَوْ بِإِخْبَارِهِ عَنْ نَفْسِهِ بِأَنَّهُ صَحَابِيٌّ إذَا دَخَلَتْ دَعْوَاهُ تِلْكَ تَحْتَ الْإِمْكَانِ قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ. (ثُمَّ) يَلِي قَرْنَ الصَّحَابَةِ فِي الْفَضْلِ أَهْلُ الْقَرْنِ (الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وَهُمْ التَّابِعِينَ جَمْعُ تَابِعِيٍّ وَهُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ وَطَالَ اجْتِمَاعُهُ بِهِ حَتَّى صَارَ صَاحِبًا لَهُ عُرْفًا كَمَا قَالَهُ الْخَطِيبُ، وَقَالَهُ ابْنُ الصَّلَاحِ وَالنَّوَوِيُّ: هُوَ مَنْ لَقِيَ الصَّحَابِيَّ فَجَعَلَ الْكَلَامَ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الصَّحَابِيِّ، وَالْفَرْقُ عَلَى كَلَامِ الْخَطِيبِ مَزِيَّةُ لِقَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى لِقَاءِ غَيْرِهِ مِنْ صُلَحَاءِ أُمَّتِهِ وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّمْيِيزُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الصَّحَابِيِّ، وَلَا شَكَّ فِي تَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ وَأَفْضَلُهُمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ أُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ عَلَى الْأَصَحِّ، كَمَا أَنَّ أَفْضَلَ التَّابِعِيَّاتِ حَفْصَةُ بِنْتُ سِيرِينَ عَلَى خِلَافٍ. (ثُمَّ) يَلِي قَرْنَ التَّابِعِينَ قَرْنُ (الَّذِينَ يَلُونَهُمْ) وَهُمْ تَابَعُوا التَّابِعِينَ الَّذِينَ اجْتَمَعُوا بِالتَّابِعِينَ اجْتِمَاعًا طَوِيلًا، وَالْأَصْلُ فِي التَّرْتِيبِ الْمَذْكُورِ مَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ أُمَّتِي الْقَرْنُ الَّذِينَ يَلُونِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «سُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» فَلَا أَدْرِي فِي الثَّالِثَةِ أَوْ فِي الرَّابِعَةِ قَالَ: «ثُمَّ يَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ تَسْبِقُ شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ» . قَالَ الْحَافِظُ الْعَسْقَلَانِيُّ: اقْتَضَى هَذَا الْحَدِيثُ أَنَّ الصَّحَابَةَ أَفْضَلُ مِنْ التَّابِعِينَ وَأَنَّ التَّابِعِينَ أَفْضَلُ مِنْ أَتْبَاعِ التَّابِعِينَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَجْمُوعِ أَوْ الْأَفْرَادِ؟ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الثَّانِي، فَيَكُونُ كُلُّ فَرْدٍ مِنْ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ مِنْ حَيْثُ كَوْنِهِ صَحَابِيًّا أَوْ تَابِعِيًّا وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا أَفْضَلَ مِنْ كُلِّ الْقَرْنِ الثَّانِي وَإِنْ كَانَ عَامِلًا كَمَا تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَرْنِ الصَّحَابَةِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: اُخْتُلِفَ فِيمَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ هَلْ بَيْنَهُمْ تَفَاضُلٌ بِالسَّبْقِيَّةِ كَالْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ أَمْ لَا؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى الْأَوَّلِ، وَأَنَّ كُلَّ قَرْنٍ أَفْضَلُ مِنْ الَّذِي بَعْدَهُ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لِخَبَرِ: «مَا مِنْ يَوْمٍ إلَّا وَاَلَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ وَإِنَّمَا يُسْرَعُ بِخِيَارِكُمْ» وَبِهَذَا الْقَوْلِ قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ، وَذَهَبَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ بْنُ رُشْدٍ الْمَالِكِيُّ إلَى أَنَّ مَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءٌ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهَا عَلَى الْآخَرِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَالْأَقْرَبُ التَّفَاضُلُ بِالِاسْتِقَامَةِ وَالسَّدَادِ فِي الدِّينِ لَا بِالسَّبْقِيَّةِ فِي الزَّمَانِ، وَهَذَا اخْتِيَارٌ لِأَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِيمَا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ، وَقَوْلُنَا بِالسَّبْقِيَّةِ احْتِرَازًا عَنْ التَّفَاضُلِ بِغَيْرِ السَّبْقِيَّةِ فَإِنَّهُ يُمْكِنُ التَّفَاوُتُ وَالتَّفَاضُلُ بِهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَنَّهُ قَالَ لِلصَّحَابَةِ: أَتَدْرُونَ أَيَّ الْخَلْقِ أَفْضَلُ إيمَانًا؟ فَقِيلَ لَهُ: الْمَلَائِكَةُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، فَقِيلَ لَهُ: الْأَنْبِيَاءُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، فَقِيلَ: الشُّهَدَاءُ، فَقَالَ: بَلْ غَيْرُهُمْ، ثُمَّ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَفْضَلُ الْخَلْقِ إيمَانًا قَوْمٌ فِي أَصْلَابِ الرِّجَالِ يُؤْمِنُونَ بِي وَلَمْ يَرَوْنِي وَيُصَدِّقُونَ بِمَا جِئْت بِهِ وَيَعْمَلُونَ بِهِ فَهُمْ خَيْرٌ مِنْكُمْ» . وَلَمَّا رَأَى الْفَاكِهَانِيُّ وَغَيْرُهُ مُعَارَضَةَ هَذَا لِمَا مَرَّ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ عَلَى سَائِرِ الْقُرُونِ قَالَ: وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْضِيلِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ عَلَى غَيْرِهِمْ مِنْ جِهَةِ إيمَانِهِمْ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ غَيْرِ رُؤْيَتِهِ تَفْضِيلُهُمْ مُطْلَقًا. الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى الْقَرْنِ فَقِيلَ هُمْ أَهْلُ زَمَانٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ اسْمٌ لِلزَّمَانِ، وَقِيلَ الْمُرَادُ بِالْقَرْنِ الْجِيلِ، وَالْأَصَحُّ أَنَّهُ اسْمٌ لِمِائَةِ سَنَةٍ، وَالظَّاهِرُ أَوْ الْمُتَعَيِّنُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَرَادَ بِالْقَرْنِ الْجِيلَ وَأَهْلَ الزَّمَانِ الْوَاحِدِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: الَّذِينَ رَأَوْا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ الزَّمَانَ لَا يُرَى وَإِنَّمَا الَّذِي يُرَى هُوَ أَهْلُهُ. الثَّالِثُ: التَّفْضِيلُ بَيْنَ تِلْكَ الْقُرُونِ قَطْعِيٌّ عِنْدَ الْأَشْعَرِيِّ وَظَنِّيٌّ عِنْدَ الْبَاقِلَّانِيِّ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ، وَبِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ عَلَى الْقَطْعِ، وَفِي الظَّاهِرِ فَقَطْ عَلَى أَنَّهُ ظَنِّيٌّ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - أَفْضَلُ الْقُرُونِ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنَّا، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَأَفْضَلُ الصَّحَابَةِ الْخُلَفَاءُ) الْأَرْبَعَةُ (الرَّاشِدُونَ الْمَهْدِيُّونَ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ أَنَّ أَفْضَلَ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ وُلُّوا الْخِلَافَةَ بَعْدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ النِّيَابَةُ عَنْهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ إقَامَةِ الدِّينِ وَصِيَانَةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَى كَافَّةِ الْخَلْقِ الِاتِّبَاعُ لَهُمْ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مُخَالَفَتُهُمْ، وَبَيَّنَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُدَّتَهَا بِقَوْلِهِ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَصِيرُ مُلْكًا عَضُوضًا» وَهَذِهِ الْمُدَّةُ هِيَ دُورُ وِلَايَتِهِمْ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -، وَالْخُلَفَاءُ جَمْعُ خَلِيفَةٍ وَهُوَ كُلُّ مَنْ قَامَ مَقَامَ غَيْرِهِ فِي خَيْرٍ، وَسُمُّوا خُلَفَاءَ لِأَنَّهُمْ خَلَفُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْأَحْكَامِ، وَالرَّاشِدُونَ جَمْعُ رَاشِدٍ وَهُوَ الْمُسَدَّدُ فِي نَفْسِهِ الْمُوَثَّقُ فِي أَمْرِهِ وَحَالِهِ، وَالْمَهْدِيُّونَ أَيْ الْمُتَّصِفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِكَمَالِ الْهُدَى فَهُمَا مُتَقَارِبَانِ أَوْ مُتَرَادِفَانِ؛ لِأَنَّك تَقُولُ: أَرْشَدَك اللَّهُ بِمَعْنَى هَدَاك وَهَدَاك بِمَعْنَى أَرْشَدَك، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِلَافَةِ وَالْمُلْكِ أَنَّ النَّظَرَ فِي الْخِلَافَةِ إلَى الْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْمَيِّتِ عَنْ رِضًا مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ، وَالنَّظَرَ فِي الْمُلْكِ إلَى الْقِيَامِ فِي مَقَامِ الْغَيْرِ مُطْلَقًا، مَعَ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ لِمَنْ قَامَ عَلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ بِالْقُوَّةِ كَقِيَامِهِ عَنْ رِضًى مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ، أَوْ بِالْفِعْلِ كَقِيَامِهِ عَنْ كُرْهٍ مِمَّنْ قَامَ عَلَيْهِ قَالَهُ الْبِقَاعِيُّ، وَمِنْهُ تُعْرَفُ حِكْمَةُ تَوْصِيفِ الْمُلْكِ فِي الْحَدِيثِ بِالْعَضُوضِ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَصَحْبُهُ خَيْرُ الْقُرُونِ فَاسْتَمِعْ ... فَتَابِعِيٌّ فَتَابِعٌ لِمَنْ تَبِعَ وَخَيْرُهُمْ مَنْ وَلِيَ الْخِلَافَةَ ... وَأَمْرُهُمْ فِي الْعَضَلِ كَالْخِلَافَةِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَأْنَ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ فِي التَّفَاوُتِ فِي الْفَضْلِ عَلَى حَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي الْخِلَافَةِ، فَالْأَسْبَقُ فِيهَا أَكْثَرُهُمْ فَضْلًا، ثُمَّ التَّالِي فَالتَّالِي، كَذَلِكَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ وَإِمَامِهِمْ أَبِي الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ وَأَبِي مَنْصُورٍ الْمَاتُرِيدِيِّ فَالْأَفْضَلُ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ (أَبُو بَكْرٍ) الصِّدِّيقُ الَّذِي صَدَّقَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النُّبُوَّةِ بِغَيْرِ تَلَعْثُمٍ، وَصَدَّقَهُ فِي الْمِعْرَاجِ بِلَا تَرَدُّدٍ، وُلِّيَ الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ سَنَتَانِ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَعَشَرَةُ أَيَّامٍ، وَمَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَيْلَةَ الثُّلَاثَاءِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِثَمَانٍ بَلَغَتْ مِنْ جُمَادَى الْآخِرَةِ سَنَةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ مِنْ الْهِجْرَةِ وَلَهُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ سَنَةً كَسِنِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَكَانَ سَبَبُ مَوْتِهِ شِدَّةُ حِقْدِهِ وَحُزْنِهِ عَلَى الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقِيلَ غَيْرَ ذَلِكَ، وَدُفِنَ فِي حُجْرَةِ عَائِشَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (ثُمَّ) يَلِي أَبَا بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ (عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ الْفَارُوقُ لِفَرْقِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ فِي الْقَضَاءِ وَالْخُصُومَاتِ، وَلِي الْخِلَافَةَ بِاسْتِخْلَافِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَأَجْمَعَتْ الصَّحَابَةُ عَلَى خِلَافَتِهِ، وَمُدَّةُ خِلَافَتِهِ عَشْرُ سِنِينَ وَسِتَّةُ أَشْهُرٍ وَثَمَانِيَةُ أَيَّامٍ، وَقُتِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي سَنَةِ ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ، قَتَلَهُ أَبُو لُؤْلُؤَةَ غُلَامُ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ وَاسْمُهُ فَيْرُوزُ، وَكَانَ الْمُغِيرَةُ اسْتَغَلَّهُ بِأَنْ جَعَلَ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ أَرْبَعَةَ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّهُ يَصْنَعُ الرَّحَى، فَلَقِيَ عُمَرَ وَكَلَّمَهُ فَقَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إنَّ الْمُغِيرَةَ قَدْ ثَقَّلَ عَلَيَّ عَمَلِي فَكَلِّمْهُ لِي بِالتَّخْفِيفِ عَنِّي، فَقَالَ عُمَرُ: اتَّقِ اللَّهَ وَأَحْسِنْ إلَى مَوْلَاك، فَغَضِبَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ وَقَالَ: وَاعَجَبَاهُ قَدْ وَسِعَ النَّاسَ عَدْلُهُ غَيْرِي وَأَضْمَرَ عَلَى قَتْلِ عُمَرَ وَاصْطَنَعَ لَهُ - لَعَنَهُ اللَّهُ - خَنْجَرًا لِقَتْلِ عُمَرَ لَهُ رَأْسَانِ وَسَمَّهُ فَجَاءَهُ صَلَاةَ الْغَدَاةِ. قَالَ عُمَرُ بْنُ مَيْمُونٍ: إنِّي لَقَائِمٌ فِي الصَّلَاةِ وَمَا بَيْنِي وَبَيْنَ عُمَرَ إلَّا ابْنُ عَبَّاسٍ فَمَا هُوَ إلَّا أَنْ كَبَّرَ فَسَمِعْته يَقُولُ: قَتَلَنِي الْكَلْبُ حِينَ طَعَنَهُ وَطَارَ الْعِلْجُ بِسِكِّينٍ ذَاتِ طَرَفَيْنِ لَا يَمُرُّ عَلَى أَحَدٍ يَمِينًا وَشِمَالًا إلَّا طَعَنَهُ حَتَّى طَعَنَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا مَاتَ سَبْعَةٌ وَقِيلَ سِتَّةٌ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ رَجُلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ طَرَحَ عَلَيْهِ بُرْنُسًا فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُ مَأْخُوذٌ نَحْوَ نَفْسِهِ فَقَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: قَاتَلَهُ اللَّهُ لَقَدْ أَمَرْت بِهِ مَعْرُوفًا ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَجْعَلْ مَنِيَّتِي عَلَى يَدِ رَجُلٍ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ بَلْ كَانَ رَقِيقًا مَجُوسِيًّا، وَقِيلَ: كَانَ نَصْرَانِيًّا، تُوُفِّيَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي ذِي الْحَجَّةِ لِأَرْبَعَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْهُ فِي السَّنَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَمَاتَ وَسِنُّهُ كَسِنِّ أَبِي بَكْرٍ، دُفِنَ أَبُو بَكْرٍ عِنْدَ رِجْلَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ خَلْفَهُ، وَبَقِيَ هُنَاكَ مَوْضِعُ قَبْرٍ يُدْفَنُ فِيهِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَمَنَاقِبُهُمَا كَثِيرَةُ مِنْهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِي حَدِيثِ عَلِيٍّ: «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ سَيِّدَا كُهُولِ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ إلَّا النَّبِيِّينَ وَالْمُرْسَلِينَ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ: «أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ السَّمْعِ وَالْبَصَرِ مِنْ الرَّأْسِ» . وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَأَرَانِي بَابَ الْجَنَّةِ الَّذِي تَدْخُلُ مِنْهُ أُمَّتِي قَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَدِدْت أَنِّي كُنْت مَعَكَ حَتَّى أَنْظُرَ إلَيْهِ. قَالَ: أَمَا إنَّك يَا أَبَا بَكْرٍ أَوَّلُ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي» . وَمِنْهَا مَا نَقَلَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ الْعَقِيدَةِ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مِنْ تَحْتِ الْعَرْشِ أَيْنَ مَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ، قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَنْ لَهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ؟ قَالَ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَنُقِلَ أَيْضًا أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «أَتَانِي جِبْرِيلُ آنِفًا فَقُلْت لَهُ: يَا جِبْرِيلُ حَدِّثْنِي بِفَضَائِلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي السَّمَاءِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ لَوْ حَدَّثْتُك بِفَضَائِلِ عُمَرَ فِي السَّمَاءِ مَا لَبِثَ نُوحٌ فِي قَوْمِهِ أَلْفَ سَنَةٍ إلَّا خَمْسِينَ عَامًا مَا نَفِدَتْ فَضَائِلُ عُمَرَ، وَإِنَّ عُمَرَ حَسَنَةٌ مِنْ حَسَنَاتِ أَبِي بَكْرٍ» . (ثُمَّ) يَلِي عُمَرَ فِي الْفَضْلِ (عُثْمَانُ) بْنُ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْمُلَقَّبُ بِذِي النُّورَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَوَّجَهُ رُقَيَّةَ وَلَمَّا مَاتَتْ رُقَيَّةُ زَوَّجَهُ أُمَّ كُلْثُومٍ وَلَمَّا مَاتَتْ قَالَ: لَوْ كَانَ عِنْدنَا ثَالِثَةٌ لَزَوَّجْتُكهَا، وَلِيَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْخِلَافَةَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ إحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً وَإِحْدَى عَشَرَ شَهْرًا وَتِسْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ قُتِلَ ظُلْمًا، وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ لِيَقْتُلُوهُ قَالَتْ زَوْجَتُهُ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إنْ شِئْتُمْ فَاقْتُلُوهُ وَإِنْ شِئْتُمْ فَاتْرُكُوهُ فَإِنَّهُ مَكَثَ أَرْبَعِينَ سَنَةً يُصَلِّي الصُّبْحَ بِوُضُوءِ الْعَتَمَةِ، وَيُرْوَى أَنَّهُ مَكْتُوبٌ فِي الْعَرْشِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ عُمَرُ الْفَارُوقُ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ يُقْتَلُ ظُلْمًا. وَسَبَبُ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَمَّا فُتِحَتْ فِي أَيَّامِهِ الْفُتُوحَاتُ كَالْإِسْكَنْدَرِيَّةِ وَإِفْرِيقِيَّةَ وَفَارِسَ وَسَوَاحِلِ الرُّومِ وَغَيْرِ ذَلِكَ وَعُمِّرَتْ الْمَدِينَةُ وَصَارَتْ قُبَّةَ الْإِسْلَامِ وَكَثُرَتْ فِيهَا الْخَيْرَاتُ وَالْأَمْوَالُ، بَطِرَتْ الرَّعِيَّةُ بِكَثْرَةِ الْأَمْوَالِ وَالْخَيْرِ وَالنِّعَمِ وَفَتَحُوا أَقَالِيمَ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا وَتَفَرَّغُوا، أَخَذُوا يَنْقِمُونَ عَلَى خَلِيفَتِهِمْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ ذَوِي الشَّأْنِ الْعِظَامِ حَتَّى صَارَ لَهُ أَلْفُ مَمْلُوكٍ، وَيُعْطِي الْأَمْوَالَ لِأَقَارِبِهِ وَيُوَلِّيهِمْ الْوِلَايَاتِ الْجَلِيلَةَ، فَتَكَلَّمُوا فِيهِ إلَى أَنْ قَالُوا: هَذَا مَا يَصْلُحُ لِلْخِلَافَةِ وَهَمُّوا بِعَزْلِهِ وَصَارُوا لِمُحَاصَرَتِهِ فَحَاصَرُوهُ فِي دَارِهِ أَيَّامًا وَكَانُوا أَهْلَ جَفَاءٍ، وَوَثَبَ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ فَذَبَحُوهُ وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ شَيْخٌ كَبِيرٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: وَفَتَحُوا عَلَيْهِ دَارِهِ وَالْمُصْحَفُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَأَخَذَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ بِلِحْيَتِهِ فَقَالَ لَهُ عُثْمَانُ: أَرْسِلْ لِحْيَتِي يَا ابْنَ أَخِي فَوَاَللَّهِ لَوْ رَأَى أَبُوك مَقَامَك هَذَا لَسَاءَهُ فَأَرْسَلَ لِحْيَتَهُ وَوَلَّى، وَضَرَبَهُ تَبَارُ بْنُ عِيَاضٍ وَسَوْدَانُ بْنُ حُمْرَانَ بِسَيْفِهِمَا فَنَضَحَ الدَّمُ عَلَى قَوْلِهِ: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 137] وَجَلَسَ عَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ عَلَى صَدْرِهِ وَضَرَبَهُ حَتَّى مَاتَ، وَوَطِئَ عُمَرُ بْنُ صَابِئٍ عَلَى بَطْنِهِ فَكَسَرَ لَهُ ضِلْعَيْنِ مِنْ أَضْلَاعِهِ، وَقُتِلَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِينَ سَنَةً. وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ قُتِلَ يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَدُفِنَ يَوْمَ السَّبْتِ قَبْلَ الظُّهْرِ وَقِيلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ لِثَمَانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ. (ثُمَّ) يَلِي عُثْمَانَ فِي الْفَضْلِ (عَلِيُّ) بْنُ أَبِي طَالِبٍ الْمُرْتَضَى مِنْ عِبَادِ اللَّهِ وَخَوَاصِّ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يُقَالُ لَهُ كَمَا يُقَالُ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ الْأَكْبَرِ وَكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَلْتَبِسْ بِكُفْرٍ قَطُّ وَلَا سَجَدَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَعَ صِغَرِهِ وَكَوْنِ أَبِيهِ عَلَى غَيْرِ الْمِلَّةِ وَلِذَا خُصَّ بِكَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ، وَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ عُثْمَانَ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَتِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَرْبَعَ سِنِينَ وَتِسْعَةَ أَشْهُرٍ وَسَبْعَةَ أَيَّامٍ، تُوُفِّيَ بِالْكُوفَةِ طَعَنَهُ الْكَلْبُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجَمٍ فِي لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ لَيْلَةَ السَّابِعَ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَثَبَ عَلَيْهِ فَضَرَبَهُ بِخَنْجَرٍ عَلَى دِمَاغِهِ فَمَاتَ بَعْدَ يَوْمَيْنِ، فَأَخَذُوا ابْنَ مُلْجِمٍ وَعَذَّبُوهُ وَقَطَّعُوهُ إرَبًا إرَبًا بَعْدَ مَوْتِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَدُفِنَ فِي مِحْرَابِ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ بِقَصْرِ الْأُمَرَاءِ، وَقِيلَ قَبْرُهُ بِرَحْبَةِ الْكُوفَةِ، وَقِيلَ لَا يُعْلَمُ قَبْرُهُ، وَقَدْ أَشَارَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى مُدَّةِ خِلَافَتِهِمْ بِقَوْلِهِ: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُون مُلْكَا عَضُوضًا» وَلِهَذَا قَالَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا وَلِيَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الثَّلَاثِينَ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكُ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: هَذَا التَّرْتِيبُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الْخُلَفَاءِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ فِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَمُخْتَلَفٌ فِيهِ فِي عُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ بَعْدَ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَفْضِيلِ عُثْمَانَ عَلَى عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ. الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَوَّلًا أَنَّ فَضْلَ الْخُلَفَاءِ عَلَى بَقِيَّةِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يَجِبُ اعْتِقَادُهُ تَبَعًا لِشَيْخِهِ اللَّقَانِيِّ فِي شَرْحِ جَوْهَرَتِهِ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: التَّفْضِيلُ الْوَاقِعُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ لَيْسَ مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ اكْتِسَابُهُ وَاعْتِقَادُهُ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ، بَلْ لَوْ غَفَلَ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مُطْلَقًا لَمْ يَقْدَحْ فِي دِينِهِ، نَعَمْ لَوْ خَطَرَتْ بِالْبَالِ أَوْ تَحَدَّثَ فِيهَا بِاللِّسَانِ وَجَبَ الْإِنْصَافُ وَتَوْفِيَةُ كُلِّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ وَلَوْ جَحَدَ التَّفْضِيلَ لَا يَكْفُرُ، وَإِنْ قِيلَ بِأَنَّهُ قَطْعِيٌّ نَظَرًا إلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ ظَنِّيٌّ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الِاقْتِصَارِ فِي الْخُلَفَاءِ عَلَى الْأَرْبَعَةِ يُفِيدُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ لَيْسَ بِخَلِيفَةٍ بَلْ مَلِكٌ وَهُوَ الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْخِلَافَةُ بَعْدِي ثَلَاثُونَ سَنَةً» وَقِيلَ: إنَّمَا تَتِمُّ بِمُدَّةِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيٍّ وَذَلِكَ أَنَّ النَّاسَ بَايَعُوهُ بَعْدَ أَبِيهِ فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ سَنَةَ أَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، ثُمَّ إنَّ الْحَسَنَ سَلَّمَ الْأَمْرَ إلَى مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ فِي النِّصْفِ مِنْ جُمَادَى الْأُولَى سَنَةَ إحْدَى وَأَرْبَعِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، فَتَكُونُ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْحَسَنِ سَبْعَةَ أَشْهُرٍ وَنِصْفًا وَأَيَّامًا، فَبِخِلَافَتِهِ تَتِمُّ مُدَّةُ الثَّلَاثِينَ سَنَةً كَمَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي وَمَنْ وَافَقَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْمُدَّةِ، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ مُدَّتَهَا ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا. الرَّابِعُ: إنَّمَا سُمُّوا بِالْخُلَفَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْرُجُوا عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا حَافَظُوا عَلَى مُتَابَعَتِهِ سُمُّوا خُلَفَاءَ، وَأَمَّا الَّذِينَ خَالَفُوا سُنَّتَهُ وَبَدَّلُوا سِيرَتَهُ فَهُمْ مُلُوكٌ، وَقَوْلُ الرَّسُولِ: مُلْكًا عَضُوضًا الْمُلْكُ مُثَلَّثُ الْمِيمِ، وَالْعَضُوضُ بِفَتْحِ الْعَيْنِ مِنْ عَضَّ وَمَعْنَاهُ أَنَّهُمْ يَضُرُّونَ الرَّعِيَّةَ وَيَتَعَسَّفُونَ عَلَيْهِمْ فَكَأَنَّهُمْ يَعَضُّونَهُمْ بِالْأَسْنَانِ، وَمَعْنَى مُلْكًا خِلَافَةً نَاقِصَةً لِشَوْبِهَا بِالزَّلَلِ وَعَدَمِ خُلُوصِهَا مِنْ الْخَلَلِ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ النِّهَايَةِ: وَمُلْكًا عَضُوضًا أَيْ يُصِيبُ الرَّعِيَّةَ فِيهِ غَضَبٌ وَظُلْمٌ كَأَنَّهُمْ يُعَضُّونَ عَضَّا، وَمُلُوكٌ عُضُوضٌ جَمْعُ عَضُدٍ بِالْكَسْرِ وَهُوَ الْخَبِيثُ الشِّرِّيرُ، وَأَوَّلُ الْمُلُوكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ وَأَنْ لَا يُذْكَرَ أَحَدٌ مِنْ صَحَابَةِ الرَّسُولِ إلَّا بِأَحْسَنِ ذِكْرٍ، وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ، وَيُظَنَّ بِهِمْ أَحْسَنُ الْمَذَاهِبِ. ، وَالطَّاعَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ وُلَاةِ   [الفواكه الدواني] مُعَاوِيَةُ وَلَمَّا تَوَلَّى قَالَ: أَنَا أَوَّلُ الْمُلُوكِ بَعْدَ الْخُلَفَاءِ، وَلَمَّا دَخَلَ عُمَرُ الشَّامَ رَأَى جَمْعًا كَثِيرًا وَجَيْشًا عَظِيمًا قَدْ سَالَتْ الْأَوْدِيَةُ بِهِ وَنَقَعَ غُبَارُ الْخَيْلِ فَقَالَ عُمَرُ: مَا هَذَا؟ فَقَالُوا: هَذَا نَائِبُك مُعَاوِيَةُ، فَقَالَ: هَذَا كِسْرَى الْعَرَبِ. وَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ أَجْمَعِينَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنَّا فِي حَقِّهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَ) مِنْ الْمَطْلُوبِ مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ (أَنْ لَا يُذْكَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ نَائِبُهُ (أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا بِأَحْسَنَ ذِكْرٍ) لِخَبَرِ: «إذَا ذُكِرَ أَصْحَابِي فَأَمْسِكُوا» قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ: مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُذْكَرُوا إلَّا بِخَيْرٍ؛ لِأَنَّهُ الْوَاجِبُ لَهُمْ؛ لِأَنَّ اللَّهَ عَظَّمَهُمْ، وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تُؤْذُونِي فِي أَصْحَابِي» . وَقَالَ أَيْضًا: «لَا تَسُبُّوا أَصْحَابِي» . وَفِي رِوَايَةٍ: «مَنْ سَبَّ أَصْحَابِي فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلَا عَدْلًا» أَيْ لَا فَرْضًا وَلَا نَفْلًا وَقِيلَ لَا صَدَقَةً وَلَا قُرْبَةً. وَقَالَ أَيُّوبُ السِّخْتِيَانِيُّ: مَنْ أَحَبَّ أَبَا بَكْرٍ فَقَدْ أَقَامَ الدِّينَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُمَرَ فَقَدْ أَوْضَحَ السَّبِيلَ، وَمَنْ أَحَبَّ عُثْمَانَ فَقَدْ اسْتَضَاءَ بِنُورِ اللَّهِ، وَمَنْ أَحَبَّ عَلِيًّا فَقَدْ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى، وَغَيْرَ ذَلِكَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا احْتِرَامُهُمْ وَتَعْظِيمُهُمْ، وَمِنْ هُنَا قَالَ الْقَاضِي: مَنْ سَبَّ غَيْرَ الزَّوْجَاتِ فَقَدْ أَتَى كَبِيرَةً وَيُؤَدَّبُ حَيْثُ اشْتَمَلَ سَبُّهُ عَلَى قَذْفٍ. قَالَ: وَمَنْ قَالَ إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ وَكُفْرٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ، وَعَنْ سَحْنُونٍ مِثْلُهُ فِيمَنْ قَالَ ذَلِكَ فِي الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَيُنَكَّلُ فِي غَيْرِهِمْ، وَذُكِرَ فِي الشِّفَاءِ خِلَافًا فِيمَنْ كَفَّرَ عُثْمَانَ أَوْ عَلِيًّا. وَجَزَمَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ الشَّافِعِيُّ بِعَدَمِ التَّكْفِيرِ، وَلَفْظُ الْقُرْطُبِيِّ لَمْ يَخْتَلِفْ فِي كُفْرِ مَنْ قَالَ: إنَّهُمْ كَانُوا عَلَى ضَلَالَةٍ؛ لِأَنَّهُ أَنْكَرَ مَا عُلِمَ مِنْ الدِّينِ ضَرُورَةً وَكَذَّبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فِيمَا أَخْبَرَ بِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُسْتَتَابُ وَتُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَالْمُرْتَدِّ أَوْ لَا يُسْتَتَابُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ كَالزِّنْدِيقِ إنْ ظُهِرَ عَلَيْهِ وَإِنْ سَبَّهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ، فَإِنْ سَبَّهُمْ بِمَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْقَذْفِ حُدَّ لِلْقَذْفِ ثُمَّ يُنَكَّلُ النَّكَالَ الشَّدِيدَ، وَإِنْ سَبَّهُمْ بِغَيْرِ ذَلِكَ جُلِدَ الْجَلْدَ الشَّدِيدَ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَيَخْلُدُ فِي السِّجْنِ إلَى أَنْ يَمُوتَ، وَأَمَّا أَذِيَّةُ الزَّوْجَاتِ فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَنْ سَبَّ وَاحِدَةً فَلَا تَوْبَةَ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ عَائِشَةَ أَوْ غَيْرَهَا، وَقَالَ الْأَبِيُّ فِي غَيْرِ عَائِشَةَ الْحَدُّ فِي الْقَذْفِ وَالْعُقُوبَةُ فِي غَيْرِهِ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا: قُلْت وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ عَائِشَةَ فِي الْقَذْفِ بِغَيْرِ مَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ فَلَا شَكَّ فِي كُفْرِهِ فَيُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ. وَلَمَّا حَكَمَ عَلَى الصَّحَابَةِ الْمُكَرَّمِينَ بِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ وَكَانَ قَدْ حَصَلَ بَيْنَهُمْ بَعْضُ مُنَازَعَاتٍ وَمُحَارَبَاتٍ لَوْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِهِمْ لَمْ تَنْقُصْ عَنْ التَّفْسِيقِ، خَشِيَ مِنْ إسَاءَةِ الظَّنِّ بِهِمْ بِسَبَبِ ذَلِكَ فَقَالَ: (وَ) مِمَّا يُطْلَبُ مِنَّا فِي حَقِّهِمْ أَيْضًا (الْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ) أَيْ وَقَعَ (بَيْنَهُمْ) أَيْ الصَّحَابَةِ مِنْ الْمُحَارَبَاتِ وَالْمُخَاصَمَاتِ. (وَ) إنْ احْتَجْنَا إلَى الْخَوْضِ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ فَيَجِبُ عَلَيْنَا أَنْ نَعْتَقِدَ (أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ) وَفَسَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَنْ (يَظُنَّ) أَيْ يَسْلُكَ (بِهِمْ أَحْسَنَ الْمَذَاهِبِ) أَيْ الْمَسَالِكِ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَأَوِّلْ التَّشَاجُرَ الَّذِي وَرَدَ ... إنْ خُضْت فِيهِ وَاجْتَنِبْ دَاءَ الْحَسَدَ فَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَطْلُبَ لَهُمْ أَحْسَنَ التَّأْوِيلَاتِ فِيمَا نَقَلَ عَنْهُمْ نَقْلًا صَحِيحًا مِنْ الْقِتَالِ وَغَيْرِهِ، وَيَعْتَقِدَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُتَشَاجِرَيْنِ لَمْ يَصْدُرْ ذَلِكَ مِنْهُ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَعْتَقِدُ فِيهِ الصَّوَابَ، فَمِنْ ذَلِكَ وَقْعَةُ صِفِّينَ اسْمُ مَوْضِعٍ أَوْ مَاءٍ بِالشَّامِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، وَلَمْ يُقَاتِلْ عَلِيٌّ فِيهَا حَتَّى قُتِلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ فَجَرَّدَ ذَا الْفَقَارِ وَقَتَلَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ أَلْفًا وَسِتِّمِائَةٍ، وَكَمَا فِي وَقْعَةِ الْجَمَلِ بِالْعِرَاقِ بَيْنَ عَلِيٍّ وَالزُّبَيْرِ وَطَلْحَةَ فَتَأَوَّلْ مَا وَقَعَ بَيْنَ عَلِيٍّ وَمُعَاوِيَةَ، عَلَى أَنَّ عَلِيًّا طَلَبَ انْعِقَادَ الْبَيْعَةِ أَوَّلًا بَعْدَ عُثْمَانَ قَبْلَ الْقِصَاصِ مِنْ الَّذِينَ قَتَلُوهُ لِيَحْصُلَ التَّمَكُّنُ مِمَّا يُرِيدُهُ، إذْ لَا تُقَامُ الْحُدُودُ وَلَا يَسْتَقِيمُ أَمْرُ النَّاسِ إلَّا بِالْإِمَامِ، وَتَأَوَّلْ مَا وَقَعَ مِنْ مُعَاوِيَةَ عَلَى أَنَّهُ طَلَبَ الْقِصَاصَ مِنْ الَّذِينَ قَتَلُوا عُثْمَانَ، فَكُلٌّ قَصَدَ مَقْصِدًا حَسَنًا فَوَقَعَ بَيْنَهُمْ مَا وَقَعَ، وَتَعْتَقِدَ أَنَّ وُقُوفَ عَلِيٍّ عَنْ مُبَايَعَةِ أَبِي بَكْرٍ إنَّمَا كَانَتْ عَتَبًا، ثُمَّ لَمَّا أَعْتَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بَايَعَهُ عَلَى رُءُوسِ الْأَشْهَادِ. كَمَا أَنَّ مُنَازَعَتَهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ وَوُقُوفَهُ عَنْ الْقِصَاصِ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ إنَّمَا ذَلِكَ لِطَلَبِ انْعِقَادِ الْبَيْعَةِ لِيَسْتَقِيمَ الْأَمْرُ وَيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاقْتِصَاصِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْحُدُودَ وَسَائِرَ مَصَالِحِ الْعِبَادِ لَا يُتَمَكَّنُ مِنْهَا إلَّا مَعَ نَصْبِ الْإِمَامِ، وَاَلَّذِي اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ أَنَّ عَلِيًّا اجْتَهَدَ وَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَمُعَاوِيَةَ اجْتَهَدَ وَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصِيبَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ كَمَا قَالَ السَّعْدُ وَعَلَيْهِ أَهْلُ الْحَقِّ عَلِيٌّ، وَالْمُخْطِئَ مُعَاوِيَةُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أُمُورِهِمْ، وَعُلَمَائِهِمْ وَاتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمْ. وَتَرْكُ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ فِي الدِّينِ.   [الفواكه الدواني] وَلَكِنَّ الْجَمِيعَ مَا بَيْنَ مُجْتَهِدٍ وَمُقَلِّدٍ عَلَى هُدًى وَخَيْرٍ فَهُوَ مَأْجُورٌ، وَسَبَبُ تِلْكَ الْحُرُوبِ مَعَ عَدَالَتِهِمْ اخْتِلَافُ اجْتِهَادِهِمْ، وَالْحَالُ أَنَّ الْقَضَايَا كَانَتْ مُشْتَبِهَةً. فَإِنْ قِيلَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ نَوْعُ تَنَاقُضٍ؛ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَالْإِمْسَاكُ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ، ثُمَّ قَالَ: وَأَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ. . . إلَخْ وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ الْإِمْسَاكِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ ابْتِدَاءُ الْإِمْسَاكِ مِنْ الْمُكَلَّفِ، فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَتَكَلَّمَ فَالْوَاجِبُ أَنْ يَلْتَمِسَ لَهُمْ أَحْسَنَ الْمَخَارِجِ، أَوْ أَنَّ الْإِمْسَاكَ إنَّمَا هُوَ مَطْلُوبٌ فِي حَقِّ الْعَوَامّ أَوْ بِحَضْرَةِ الْعَوَامّ أَوْ الْمُبْتَدِعَةِ، وَأَمَّا الْخَوْضُ لِلْعَالِمِ بِحَضْرَةِ غَيْرِ الْعَامِّيِّ فَلَا حَرَجَ وَيَلْتَمِسُ لَهُمْ أَحْسَنَ الْمَحَامِلِ. تَنْبِيهَاتٌ: الْأَوَّلُ: قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ وَعَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لَيْسَ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَلَا مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الدِّينِ بَلْ رُبَّمَا أَضَرَّ بِالْيَقِينِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْقَوْمُ بَعْضَ شَيْءٍ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا صَوْنًا لِلْقَاصِرِينَ عَنْ اعْتِقَادِ ظَوَاهِرِ حِكَايَاتِ الرَّافِضَةِ. الثَّانِي: مَفْهُومُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ غَيْرَ قَرْنِ الصَّحَابَةِ وَلَوْ قَرْنَ التَّابِعِينَ لَا يَجِبُ أَنْ يُلْتَمَسَ لَهُمْ أَحْسَنُ الْمَخَارِجِ، بَلْ كُلُّ مَنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ قَادِحٌ حُكِمَ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَاهُ وَوُسِمَ بِمَا يَسْتَلْزِمُهُ مِنْ كُفْرٍ أَوْ فِسْقٍ أَوْ بِدْعَةٍ، وَكَانَ مِنْ يَزِيدَ فِي حَقِّ أَهْلِ الْبَيْتِ مِنْ الظُّلْمِ وَالْجَوْرِ وَالْإِهَانَةِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَعَنَهُ، وَلَا يَقْتَصِرُ عَنْ الْكَبِيرَةِ عِنْدَ مَنْ طَعَنَهُ، وَأَمَّا نَحْنُ فَلَا نُنَجِّسُ أَلْسِنَتَنَا بِذَكَرِهِ. قَالَ السَّعْدُ التَّفْتَازَانِيُّ: وَالْحَقُّ أَنَّ رَضِيَ يَزِيدَ بِقَتْلِ الْحُسَيْنِ وَإِهَانَتَهُ أَهْلَ بَيْتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِمَّا تَوَاتَرَ مَعْنَاهُ وَإِنْ كَانَتْ تَفَاصِيلُهُ آحَادًا فَنَحْنُ لَا نَتَوَقَّفُ فِي شَأْنِهِ بَلْ فِي إيمَانِهِ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَعَلَى أَنْصَارِهِ وَعَلَى أَعْوَانِهِ، وَخَالَفَ فِي جَوَازِ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ الْجُمْهُورُ، وَأَمَّا عَلَى وَجْهِ الْعُمُومِ كَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ فَيَجُوزُ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الصَّوَاعِقِ: وَيَحْرُمُ عَلَى الْوُعَّاظِ حِكَايَةُ قَتْلِ الْحُسَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنُوا مَا يَنْدَفِعُ بِهِ سُوءُ الِاعْتِقَادِ فِيهِمْ، وَأَنَّ فِعْلَهُمْ ذَلِكَ كَانَ لِغَرَضٍ مَذْمُومٍ يُؤَدِّي إلَى تَنْقِيصِ الصَّحَابَةِ، فَلَا يُنَافِي مَا قَالُوهُ مِنْ جَوَازِ ذِكْرِ مَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ لِبَيَانِ الْحَقِّ الَّذِي يَجِبُ اعْتِقَادُهُ مِنْ تَعْظِيمِ الصَّحَابَةِ وَبَرَاءَتِهِمْ مِنْ كُلِّ نَقْصٍ. الثَّالِثُ: قَاتِلُ الْحُسَيْنِ سِنَانُ بْنُ أَنَسٍ الْأَشْجَعِيُّ وَكَانَ قَتَلَهُ بِكَرْبِلَاءَ مِنْ أَرْضِ الْعِرَاقِ بِنَاحِيَةِ الْكُوفَةِ، وَلَمَّا حَمَلَ رَأْسَهُ لِيَزِيدَ بْنِ مُعَاوِيَةَ جَعَلَهُ فِي طَشْتٍ وَجَعَلَ يَضْرِبُ ثَنَايَاهُ بِقَضِيبٍ وَكَانَ أَنَسُ حَاضِرًا فَبَكَى وَقَالَ: كَانَ أَشْبَهَ بِرَسُولِ اللَّهِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ إخْوَتِهِ، وَرَوَى ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا أَنَّهُ كَانَ عِنْدَهُ زَيْدُ بْنُ أَرْقَمَ فَقَالَ: ارْفَعْ قَضِيبَك فَوَاَللَّهِ لَطَالَمَا رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُ مَا بَيْنَ هَاتَيْنِ الشَّفَتَيْنِ، ثُمَّ جَعَلَ زَيْدٌ يَبْكِي، فَقَالَ ابْنُ زِيَادٍ: أَبْكَى اللَّهُ عَيْنَيْك لَوْلَا أَنْتَ شَيْخٌ قَدْ خَرِفْت لَضَرَبْت عُنُقَك. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي حَقِّ الصَّحَابَةِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَقِّ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (الطَّاعَةُ) أَيْ الِامْتِثَالُ وَالِانْقِيَادُ (لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ) بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ مَا أُمِرُوا بِهِ سِوَى الْمَعْصِيَةِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ، فَأَمَّا فِي الْمَعْصِيَةِ فَتَحْرُمُ طَاعَتُهُمْ لِخَبَرٍ: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» وَغَيْرُ الْمَعْصِيَةِ يَشْمَلُ الْمَكْرُوهُ، وَفِي وُجُوبِ إطَاعَتِهِمْ فِيهِ خِلَافٌ الْوُجُوبُ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ الْكَرَاهَةُ مُجْمَعًا عَلَيْهَا وَعَدَمُهُ عِنْدَ الْقُرْطُبِيِّ فَإِنْ أَطَاعَهُمْ بِظَاهِرِهِ دُونَ بَاطِنِهِ فَهُوَ عَاصٍ، وَالْأَئِمَّةُ جَمْعُ إمَامٍ مَأْخُوذٌ مِنْ الْإِمَامَةِ وَهِيَ لُغَةً التَّقَدُّمُ، وَاصْطِلَاحًا صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا تَقْدِيمَهُ عَلَى غَيْرِهِ مَعْنًى وَمُتَابَعَةَ غَيْرِهِ لَهُ حِسًّا. وَتَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: إمَامَةُ وَحْيٍ وَهِيَ النُّبُوَّةُ، وَإِمَامَةُ وِرَاثَةٍ كَالْعِلْمِ، وَإِمَامَةُ عِبَادَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ، وَإِمَامَةُ مَصْلَحَةٍ وَهِيَ الْخِلَافَةُ الْعُظْمَى لِمَصْلَحَةِ جَمِيعِ الْأُمَّةِ، وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَحَيْثُ أُطْلِقَتْ فِي لِسَانِ أَهْلِ الْكَلَامِ انْصَرَفَتْ إلَى الْمَعْنَى الْأَخِيرِ عُرْفًا وَهِيَ بِهَذَا الْمَعْنَى رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا نِيَابَةً عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنْ لَا تَجِبُ طَاعَةُ الْإِمَامِ إلَّا بِشُرُوطٍ الْإِسْلَامُ وَالتَّكْلِيفُ وَالذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْعَدَالَةُ وَالْعِلْمُ وَالْكِفَايَةُ وَكَوْنِهِ قُرَشِيًّا وَاحِدًا عَلَى خِلَافٍ فِيهِمَا، فَإِنْ اجْتَمَعَ عَدَدٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَالْإِمَامُ مَنْ انْعَقَدَتْ لَهُ الْبَيْعَةُ بِأَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ، فَإِنْ انْعَقَدَتْ لِاثْنَيْنِ بِبَلَدَيْنِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ فَقِيلَ هِيَ لِلَّذِي عُقِدَتْ لَهُ بِبَلَدِ الْإِمَامِ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَجُوزُ الْعَدَدُ فِي الْعَصْرِ الْوَاحِدِ وَالْبَلَدِ إجْمَاعًا إلَّا أَنْ تَتَبَاعَدَ الْأَمَاكِنُ بِحَيْثُ لَا يَصِلُ حُكْمُ الْإِمَامِ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ كَالْأَنْدَلُسِ وَخُرَاسَانَ فَيَجُوزُ التَّعَدُّدُ لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ حُقُوقُ النَّاسِ وَأَحْكَامُهُمْ. ثُمَّ بَيَّنَ الْأَئِمَّةَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ وُلَاةِ) أَيْ حُكَّامِ (أُمُورِهِمْ، وَ) مِنْ (عُلَمَائِهِمْ) وَالضَّمِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِأَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ السُّنَّةِ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] إذْ هُمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ الْعَالِمُونَ الْعَامِلُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي» وَالْمُؤَلِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - جَمَعَ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] فَإِنَّهُ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهِمْ أُمَرَاءُ الْحَقِّ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي بَيَّنَّا، وَقِيلَ: الْعُلَمَاءُ الْعَامِلُونَ بِعِلْمِهِمْ، فَالْمُجْتَهِدُ مِنْهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَا غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ وَلَا يُقَلِّدُ، وَالْمُقَلِّدُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْلِيدُ أَهْلِ الْعِلْمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] إلَّا عَقَائِدَ الْإِيمَانِ فَيَحْرُمُ التَّقْلِيدُ فِيهَا مِنْ الْقَادِرِ عَلَى النَّظَرِ الْمُوصِلِ لِلْمَعْرِفَةِ مَعَ صِحَّةِ إيمَانِهِ وَإِنْ كَانَ عَاصِيًا كَمَا تَقَدَّمَ. 1 - تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: مَنْ ثَبَتَتْ إمَامَتُهُ لَا يَنْعَزِلُ مِنْهَا عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ حَيْثُ نُصِّبَ عَدْلًا، وَإِنَّمَا يَنْحَلُّ عَقْدُ الْإِمَامَةِ بِمَا يَزُولُ بِهِ مَقْصُودُ الْإِمَامَةِ كَالرِّدَّةِ وَالْجُنُونِ الْمُطْبِقِ وَصَيْرُورَةِ الْإِمَامِ أَسِيرًا لَا يُرْجَى خَلَاصُهُ، وَكَذَا بِالْمَرَضِ الَّذِي يُنْسِيه الْعُلُومَ، وَبِالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَالْخَرَسِ، وَكَذَا بِخَلْعِهِ نَفْسِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ الْمَرَضُ إنَّمَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْإِمَامَةِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ خَلْعُ الْحَسَنِ نَفْسَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْأَكْثَرِ مِنْ عَدَمِ عَزْلِهِ بِالْفِسْقِ وَالْجَوْرِ يُعَارِضُهُ قَوْلُ الْقُرْطُبِيِّ: إذَا نُصِبَ الْإِمَامُ عَدْلًا ثُمَّ فَسَقَ بَعْدَ إبْرَامِ الْعَقْدِ، فَقَالَ الْجُمْهُورُ: وَتَنْفَسِخُ إمَامَتُهُ وَيَنْخَلِعُ بِالْفِسْقِ الظَّاهِرِ الْمَعْلُومِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْإِمَامَ إنَّمَا يُقَامُ لِإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ وَحِفْظِ أَمْوَالِ الْأَيْتَامِ وَالْمَجَانِينِ وَالنَّظَرِ فِي أُمُورِهِمْ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَمَا فِيهِ مِنْ الْفِسْقِ يُقْعِدُهُ عَنْ الْقِيَامِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ، فَلَوْ جَوَّزْنَا أَنْ يَكُونَ فَاسِقًا أَدَّى إلَى إبْطَالِ مَا أُقِيمَ لِأَجْلِهِ اهـ. وَقَوْلٌ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَشْتَدَّ الضَّرَرُ بِبَقَائِهِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَزْلِهِ، وَأَمَّا نَائِبُ الْإِمَامِ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَيْسَ كَالْإِمَامِ فَيُعْزَلُ بِمَا ذُكِرَ اتِّفَاقًا وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَأَمَّا خَلْعُهُ لِنَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ لِضَابِطِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِي تَوْضِيحِهِ: كُلُّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ لَا يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَيَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ كَالْخَلِيفَةِ وَالْوَصِيِّ وَالْمُجْبَرِ فِي النِّكَاحِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَإِمَامِ الصَّلَاةِ وَكُلِّ مَنْ مَلَكَ حَقًّا عَلَى وَجْهٍ يَمْلِكُ مَعَهُ عَزْلَ نَفْسِهِ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُوصِيَ بِهِ وَلَا يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ كَالْقَاضِي وَالْوَكِيلِ وَلَوْ مُفَوَّضًا، وَإِذَا خُلِعَ بِلَا سَبَبٍ لَمْ تَنْعَقِدْ الْإِمَامَةُ لِمَنْ وَلِيَ بَعْدَهُ. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْجَوْرِ أَيْضًا، وَلَكِنْ يُنْهَى عَنْ الْجَوْرِ بِلُطْفٍ وَيُنْصَحُ وَيُرْشَدُ إلَى الْحَقِّ وُجُوبًا عَلَى مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ ذَلِكَ وَظَنَّ إفَادَتَهُ أَوْ تَوَهَّمَهَا، وَلَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ عَلَى الْأُمَرَاءِ جَهْرًا لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْفِتَنِ كَمَا لَا يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُمْ، بَلْ الْمَطْلُوبُ الدُّعَاءُ لَهُمْ بِالْإِصْلَاحِ، وَالِاسْتِغْفَارُ. (وَ) مِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَفِيمَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتَنْبَطُوهُ. قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَتَابِعِ الصَّالِحَ مِمَّنْ سَلَفَا ... وَجَانِبِ الْبِدْعَةَ مِمَّنْ خَلَفَا وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الِاتِّبَاعِ لِلسَّلَفِ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمُجْتَهِدِ وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَمَنْ تَبِعَهُ، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ كَالْفَاكِهَانِيِّ: وَهَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ الِاجْتِهَادِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فَلَا يَتَّبِعُهُمْ فِيمَا اسْتَنْبَطُوهُ بِاجْتِهَادِهِمْ لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ، وَأَمَّا أَقْوَالُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالشَّرَائِعِ الَّتِي لَمْ يُحَصِّلُوهَا بِاجْتِهَادِهِمْ وَإِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا خِلَافَ فِي اتِّبَاعِهِمْ فِيهَا، فَلَعَلَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا يُخَالِفُ هَذَا، ثُمَّ أَكَّدَ الْكَلَامَ السَّابِقَ بِقَوْلِهِ: (وَاقْتِفَاءُ آثَارِهِمْ) ؛ لِأَنَّ الِاقْتِفَاءَ هُوَ الِاتِّبَاعُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْمُكَلَّفِ اتِّبَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِي عَقَائِدِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهَيْئَاتِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْتَدُوا بِاَلَّذِينَ مِنْ بَعْدِي أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ» . وَقَالَ أَيْضًا: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي عَضْوًا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» . وَقَالَ أَيْضًا: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» وَالْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، وَلِأَنَّ فِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ النَّجَاةَ مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَفِيهِ الْفَوْزُ بِكُلِّ كَمَالٍ؛ لِأَنَّهُمْ أَشَدُّ مُحَافَظَةً عَلَى طَرِيقَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (وَ) لِحُصُولِ النَّجَاةِ لَنَا وَالْفَوْزِ بِاتِّبَاعِهِمْ يَجِبُ عَلَيْنَا مَعَاشِرَ الْمُكَلَّفِينَ (الِاسْتِغْفَارُ) أَيْ طَلَبُ الْمَغْفِرَةِ (لَهُمْ) أَيْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، لَكِنْ لَا بِقَيْدِ الصَّحَابَةِ بَلْ الْأَعَمُّ لِمَا يَسْتَوْجِبُهُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ الْمُتَأَخِّرِ مِنْ حُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالدُّعَاءِ لَهُ. فَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاسْتِخْدَامُ الَّذِي هُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ بِمَعْنًى وَإِعَادَةُ الضَّمِيرِ عَلَيْهِ بِمَعْنًى آخَرَ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} [محمد: 19] وَقَالَ تَعَالَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} [الحشر: 10] وَإِنَّمَا طَلَبَ الِاسْتِغْفَارَ لَهُمْ لِمَا سَبَقَ؛ وَلِأَنَّهُمْ وَضَّحُوا السَّبِيلَ. قَالَ بَعْضٌ: وَهَذَا يُفِيدُ وُجُوبُ الِاسْتِغْفَارِ لِمَنْ سَبَقَ بِالْإِيمَانِ، وَيَحْصُلُ أَدَاءُ الْوَاجِبِ بِمَرَّةٍ كَالشَّهَادَتَيْنِ وَقَوْلِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَلَا يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَةِ الْوَاجِبِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ إلَّا إذَا أَتَى بِهَا مَعَ قَصْدِ أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَإِلَّا كَانَ عَاصِيًا حَيْثُ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَ مَحْكُومًا لَهُ بِالْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمُؤْمِنِ. تَنْبِيهٌ: تَفْسِيرُنَا لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ بِالصَّحَابَةِ هُوَ تَفْسِيرٌ مُرَادٌ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ السَّلَفَ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مُتَقَدِّمٍ وَسَلَفُ الرَّجُلِ آبَاؤُهُ، وَالصَّالِحُ عُرْفًا وَشَرْعًا هُوَ الْقَائِمُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ عِبَادِهِ وَيُطْلَقُ عَلَى النَّبِيِّ وَعَلَى الْوَلِيِّ. قَالَ تَعَالَى: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} [الأنبياء: 85] ، إلَى قَوْلِهِ: {إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} [الأنبياء: 86] وَقَالَ فِي يَحْيَى: {وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 39] وَقَالَ: {فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] . وَلَمَّا كَانَتْ الشَّرَائِعُ لَا تَتَّضِحُ غَالِبًا إلَّا بَعْدَ الْجِدَالِ وَكَانَ مِنْهُ الْجَائِزُ وَهُوَ مَا كَانَ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ أَوْ لِإِبْطَالِ الْبَاطِلِ وَالْحَرَامُ وَهُوَ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ الْمِرَاءِ) فِي الدِّينِ وَهُوَ بِالْمَدِّ لُغَةً الِاسْتِخْرَاجُ، تَقُولُ: مَرَيْت الْفَرَسَ إذَا اسْتَخْرَجْت جَرْيَهُ، وَالْمُمَارِي يَسْتَخْرِجُ مَا عِنْدَ صَاحِبِهِ، وَعُرْفًا مُنَازَعَةُ الْغَيْرِ مِمَّا يَدَّعِي صَوَابَهُ وَلَوْ ظَنًّا. قَالَ تَعَالَى: {فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا} [الكهف: 22] قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالْمَذْمُومُ مِنْهُ طَعْنُك فِي كَلَامِ الْغَيْرِ لِإِظْهَارِ خَلَلٍ فِيهِ لِغَيْرِ غَرَضٍ سِوَى تَحْقِيرِ قَائِلِهِ وَإِظْهَارِ مَزِيَّتِكَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ (وَ) يَجِبُ أَيْضًا تَرْكُ (الْجِدَالِ) مَصْدَرُ جَادَلَ إذَا خَاصَمَ وَحَقِيقَتُهُ الْحُجَّةُ بِالْحُجَّةِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: هُوَ تَعَارُضٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا لِتَحْقِيقِ حَقٍّ أَوْ إبْطَالِهِ وَالْمُحَرَّمُ هُوَ الثَّانِي، وَقَالَ بَعْضٌ الْمِرَاءُ: وَالْجِدَالُ لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْجِدَالُ لَيْسَ مِنْ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَا ذَاكَرْت أَحَدًا وَقَصَدْت إفْحَامَهُ وَإِنَّمَا أُذَاكِرُهُ لِإِظْهَارِ الْحَقِّ مِنْ حَيْثُ هُوَ حَقٌّ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَامِدٍ: أَكْثَرُ مَا يُوجَدُ الْمِرَاءُ وَالْجِدَالُ فِي عُلَمَاءِ زَمَانِنَا فَلَا تُجَالِسْهُمْ وَفِرَّ مِنْهُمْ فِرَارَك مِنْ الْأَسَدِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ تَرَكَ الْجِدَالَ وَهُوَ مُحِقٌّ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ، وَمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَهُوَ مُبْطِلٌ بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ» . وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَا ذَاكَرْت حَلِيمًا إلَّا وَحَقَّرَنِي وَلَا سَفِيهًا إلَّا وَأَخْزَانِي، وَقَالَ: مَا اسْتَكْمَلَ أَحَدٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يَدَعَ الْمِرَاءَ وَالْجِدَالَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَقَوْلُهُ (فِي الدِّينِ) يَتَنَازَعُهُ الْمِرَاءُ، وَالْجِدَالُ فِي الدِّينِ هُوَ جِدَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْوُقُوعِ فِي الشُّبُهَاتِ، وَقَدْ أَوْجَبَ الشَّارِعُ هِجْرَانَ ذِي الْبِدَعِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الدِّينِ أَنَّ الْجِدَالَ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا جَائِزٌ بَيْنَ أَهْلِهَا مَعَ مُرَاعَاةِ الْحَقِّ وَالْتِزَامِ الصِّدْقِ وَتَرْكِ اللَّدَدِ وَالْإِيذَاءِ. تَنْبِيهَانِ: الْأَوَّلُ: لِلْمُنَاظَرَةِ الْجَائِزَةِ - وَيُقَالُ لَهَا الْمُذَاكَرَاتُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ - شُرُوطٌ وَآدَابٌ، فَأَمَّا شُرُوطُهَا فَهِيَ ضَبْطُ قَوَانِينِ الْمُنَاظَرَةِ مِنْ كَيْفِيَّةِ إيرَادِ الْأَسْئِلَةِ وَالْأَجْوِبَةِ وَالِاعْتِرَاضَاتِ وَكَيْفِيَّةِ تَرْتِيبِهَا وَكَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَنَاظِرَيْنِ عَالِمًا بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي وَقَعَتْ فِيهَا الْمُنَاظَرَاتُ، وَصَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ كَلَامَهُ مِنْ الْفُحْشِ وَالْخَطَأِ عَلَى صَاحِبِهِ، وَالصِّدْقِ فِيمَا يَنْسُبُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ أَقْوَالِهِ مُطَابِقَةً لِاعْتِقَادِهِ، وَأَمَّا آدَابُهَا فَهِيَ تَجَنُّبُ اضْطِرَابِ مَا عَدَا اللِّسَانِ مِنْ الْجَوَارِحِ، وَالِاعْتِدَالُ فِي رَفْعِ الصَّوْتِ وَخَفْضِهِ، وَحُسْنُ الْإِصْغَاءِ لِكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَجَعْلُ الْكَلَامِ مُنَاوَبَةً، وَالثَّبَاتُ عَلَى الدَّعْوَةِ إنْ كَانَ مُجِيبًا، وَالْإِصْرَارُ عَلَى السُّؤَالِ إنْ كَانَ سَائِلًا، وَالِاحْتِرَازُ عَنْ التَّعَنُّتِ وَالتَّعَصُّبِ وَقَصْدِ الِانْتِقَامِ، وَأَنْ لَا يَتَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْلَمُهُ وَلَا فِي مَوْضِعِ مَهَانَةٍ وَلَا عِنْدَ جَمَاعَةٍ تَشْهَدُ بِالزُّورِ لِخَصْمِهِ وَيَرُدُّونَ كَلَامَهُ، وَيَجْتَنِبُ الرِّيَاءَ وَالْمُبَاهَاةَ وَالضَّحِكَ، فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الْآدَابُ أَفَادَتْ الْمُنَاظَرَةُ خَمْسَ خِصَالٍ: إيضَاحَ الْحُجَّةِ، وَإِبْطَالَ الشُّبْهَةِ، وَرَدَّ الْمُخْطِئِ لِلصَّوَابِ وَالضَّالِّ إلَى الرَّشَادِ، وَالزَّائِغِ إلَى صِحَّةِ الِاعْتِقَادِ مَعَ الذَّهَابِ إلَى التَّعْلِيمِ، وَطَلَبِ التَّحْقِيقِ. الثَّانِي: بَقِيَ بَعْدَ الْمِرَاءِ وَالْجِدَالِ أَلْفَاظٌ يَقَعُ الِالْتِبَاسُ بَيْنَ مَعَانِيهَا فَيَنْبَغِي لِلطَّالِبِ مَعْرِفَتُهَا وَهِيَ: الْمُكَابَرَةُ وَالْمُعَانَدَةُ وَالْمُجَادَلَةُ وَالْمُنَاكَرَةُ وَالْمُنَاظَرَةُ وَالْمُشَاغَبَةُ وَالْمُغَالَطَةُ، فَالْمُكَابَرَةُ هِيَ الْإِقَامَةُ عَلَى إنْكَارِ الشَّيْءِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِهِ، وَالْمُعَانَدَةُ هِيَ النِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْعِلْمِيَّةِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِكَلَامِهِ وَكَلَامِ صَاحِبِهِ، وَالْمُجَادَلَةُ هِيَ الْفِكْرُ فِي النِّسْبَةِ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ، كَمَا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْمُنَاظَرَةَ قَدْ تَكُونُ مَعَ نَفْسِهِ دُونَ الْمُجَادَلَةِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا مَعَ الْغَيْرِ، وَالْمُنَاكَرَةُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وَتَرْكُ كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ. ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَزْوَاجِهِ وَذُرِّيَّتِهِ، وَسَلِّمْ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.   [الفواكه الدواني] تَكُونُ إلَّا مَعَ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ، وَالْمُشَاغَبَةُ هِيَ الْمُنَازَعَةُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَا لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ وَلَا لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ، وَالْمُخَالَطَةُ لِإِلْزَامِ الْخَصْمِ لَا لِإِظْهَارِ الصَّوَابِ. وَلَمَّا كَانَ كُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفَ وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفَ قَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ (تَرْكُ) فِعْلِ (كُلِّ مَا أَحْدَثَهُ الْمُحْدِثُونَ) مِنْ الِابْتِدَاعَاتِ الْمُخَالِفَةِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «إيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ» وَهِيَ ابْتِدَاعَاتُ الْخَلَفِ السَّيِّئِ الَّذِينَ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَمُتْ حَتَّى مَهَّدَ الدِّينَ وَأَسَّسَ قَوَاعِدَهُ وَأَوْضَحَ كُلَّ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ثُمَّ أَحَالَ بَعْدَهُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقَالَ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ مِنْ بَعْدِي» الْحَدِيثُ، فَكُلُّ مَا كَانَ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ أُجْمِعَ عَلَيْهِ أَوْ اسْتَنَدَ إلَى قِيَاسٍ أَوْ إلَى عَمَلِ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ فَهُوَ دِينُ اللَّهِ، وَمَا خَالَفَ ذَلِكَ فَبِدْعَةٌ وَضَلَالَةٌ فَلَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ، وَبِهَذَا لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ مَا يَأْتِي فِي الْأَقْضِيَةِ يَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ فَإِنَّهُ جَعَلَهَا مِنْ الشَّرْعِ وَلَمْ يَجْعَلْهَا ضَلَالَةً؛ لِأَنَّ مَا يَأْتِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا اسْتَنَدَ إلَى كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ قِيَاسٍ، وَمَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى وَاحِدٍ مِنْهَا، وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ بِإِيضَاحِ أَنَّ مَا يَأْتِي مَحْمُولٌ عَلَى مَا تَقْتَضِيه قَوَاعِدُ الشَّرْعِ وَلَوْ وُجِدَ سَبَبُهُ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِفِعْلِهِ، وَالْبِدْعَةُ الَّتِي هِيَ فِي ضَلَالَةٍ مَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ هِيَ الْأَمْرُ الَّذِي لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوَاءٌ دَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ أَوْ كَرَاهَتِهِ أَوْ وُجُوبِهِ أَوْ نَدْبِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَنْ قَالَ: إنَّ الْبِدْعَةَ تَعْتَرِيهَا الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ كَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَالْقَرَافِيِّ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا أَقْرَبُ لِمَعْنَاهَا لُغَةً مِنْ أَنَّهَا مَا فُعِلَ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ مِثَالٍ، وَقِيلَ: هِيَ مَا لَمْ تَقَعْ فِي زَمَنِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَدَلَّ الشَّرْعُ عَلَى حُرْمَتِهِ وَهَذَا مَعْنَاهَا شَرْعًا، وَعَلَيْهِ جَاءَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «خَيْرُ الْكَلَامِ كَلَامُ اللَّهِ، وَخَيْرُ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرُّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ» . فَإِخْرَاجُ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ بِدْعَةٌ عَلَى الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقَعْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ وَقَعَ مِنْهُ الْأَمْرُ بِهِ، وَكَذَلِكَ جَمْعُ الْقُرْآنِ فِي الْمَصَاحِفِ، وَالِاجْتِمَاعُ عَلَى قِيَامِ رَمَضَانَ، وَالتَّوَسُّعُ فِي لَذِيذِ الْمَآكِلِ، وَأَذَانُ جَمَاعَةٍ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ، وَكَانَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: الْمُحْدَثَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا أُحْدِثَ مِمَّا يُخَالِفُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْإِجْمَاعَ فَهَذَا هُوَ الْبِدْعَةُ الضَّلَالَةُ. وَثَانِيهِمَا مَا أُحْدِثَ مِنْ الْخَيْرِ وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هِيَ يَعْنِي أَنَّهَا مُحْدَثَةٌ لَمْ تَكُنْ عَلَى هَذِهِ الْكَيْفِيَّةِ وَإِذَا كَانَتْ فَلَيْسَ فِيهَا رَدٌّ لِمَا مَضَى، وَالْمُخْتَارُ أَنَّ لُبْسَ الطَّيْلَسَانِ سُنَّةٌ، وَأَلَّفَ السُّيُوطِيّ فِي اسْتِحْبَابِ لُبْسِهِ كِتَابًا وَقَالَ: مَنْ أَنْكَرَ سَنَدَهُ فَهُوَ جَاهِلٌ. 1 - (خَاتِمَةٌ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْأَصْحَابُ مُتَّفِقُونَ عَلَى إنْكَارِ الْبِدَعِ نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ، وَالْحَقُّ أَنَّهَا خَمْسَةُ أَقْسَامٍ: الْأَوَّلُ: مِنْ الْخَمْسَةِ بِدْعَةٌ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْوُجُوبِ وَأَدِلَّتُهُ مِنْ الشَّرْعِ كَتَدْوِينِ الْقُرْآنِ وَالشَّرَائِعِ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الضَّيَاعُ فَإِنَّ تَبْلِيغَهَا لِمَنْ بَعْدَنَا وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَإِهْمَالَهُ حَرَامٌ إجْمَاعًا، الثَّانِي: بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ إجْمَاعًا وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ أَدِلَّةُ التَّحْرِيمِ وَقَوَاعِدُهُ كَالْمُكُوسِ وَتَقْدِيمِ الْجُهَلَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ وَتَوْلِيَةِ الْمَنَاصِبِ الشَّرْعِيَّةِ بِالتَّوَارُثِ لِمَنْ لَا يَصْلُحُ لَهَا، الثَّالِثُ: بِدْعَةٌ مَنْدُوبَةٌ كَصَلَاةِ التَّرَاوِيحِ وَإِقَامَةِ صُوَرِ الْأَئِمَّةِ وَالْقُضَاةِ وَوُلَاةِ الْأُمُورِ، عَلَى خِلَافِ مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، فَإِنَّ التَّعْظِيمَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ كَانَ بِالدِّينِ فَلَمَّا اخْتَلَّ النِّظَامُ وَصَارَ النَّاسُ لَا يُعَظِّمُونَ إلَّا بِالصُّوَرِ كَانَ مَنْدُوبًا حِفْظُهَا لِظُلْمِ الْخَلْقِ، الرَّابِعُ: بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ وَهِيَ مَا تَنَاوَلَتْهَا قَوَاعِدُ الْكَرَاهَةِ كَتَخْصِيصِ الْأَيَّامِ الْفَاضِلَةِ بِنَوْعٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ، وَمِنْهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْقُرَبِ الْمَنْدُوبَةِ كَالصَّاعِ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَكَالتَّسْبِيحِ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّهْلِيلِ فَيَفْعَلُ أَكْثَرَ مِمَّا حَدَّهُ الشَّارِعُ فَهُوَ مَكْرُوهٌ حَيْثُ أَتَى بِهِ لَا لِشَكٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاسْتِظْهَارِ عَلَى الشَّارِعِ، فَإِنَّ الْعُظَمَاءَ إذَا حَدَثَ شَيْئًا تُعِدُّ الزِّيَادَةَ عَلَيْهِ قِلَّةَ أَدَبٍ، وَمِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ أَذَانُ جَمَاعَةٍ بِصَوْتٍ وَاحِدٍ الْخَامِسُ: بِدْعَةٌ مُبَاحَةٌ وَهِيَ كُلُّ مَا تَنَاوَلَتْهُ قَوَاعِدُ الْإِبَاحَةِ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ لِإِصْلَاحِ الْأَقْوَاتِ وَاللِّبَاسِ الْحَسَنِ وَالْمَسْكَنِ الْحَسَنِ وَكَالتَّوْسِعَةِ فِي لَذِيذِ الْمَأْكُولِ وَالْمَشْرُوبِ عَلَى مَا قَالَهُ الْعِزُّ، وَمِنْ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ اتِّخَاذُ الْمَلَاعِقِ وَالضَّابِطُ لِمَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِمَّا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَرْضُهُ عَلَى قَوَاعِدِ الشَّرْعِ فَأَيَّ الْقَوَاعِدِ اقْتَضَتْهُ أُلْحِقَ بِهَا، فَعُلِمَ مِنْ هَذَا التَّقْسِيمِ أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ» مَحْمُولٌ عَلَى الْبِدْعَةِ الْمُحَرَّمَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْبَابُ كَالْكِتَابِ وَالْفَرَاغُ مِنْهُ كَالْفَرَاغِ مِنْ الْكِتَابِ خَتَمَهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ) وَرَسُولِهِ وَأَفْضَلِ خَلْقِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى السَّيِّدِ الْكَامِلُ الْمُحْتَاجُ إلَيْهِ، وَاسْتُعْمِلَ فِي غَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] اللَّهِ إشَارَةً إلَى الْجَوَازِ كَ «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَكَ «قُومُوا لِسَيِّدِكُمْ» وَهُوَ سَعْدٌ، وَأَمَّا اسْتِعْمَالُ السَّيِّدِ فِي اللَّهِ فَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ قَوْلَانِ بِالْمَنْعِ وَالْكَرَاهَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ التَّتَّائِيِّ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ كَلَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَبْنِيٌّ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ مَنْعِ إطْلَاقِ مَا لَمْ يَرِدْ أَوْ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ تَعَالَى، (وَعَلَى آلِهِ) أَيْ أَتْقِيَاءِ أُمَّتِهِ فَتَنَاوَلَ الصَّحَابَةَ، (وَأَزْوَاجِهِ) الطَّاهِرَاتِ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ فَضْلًا عَنْ خَدِيجَةَ وَقِيلَ عَائِشَةُ، (وَذُرِّيَّتِهِ وَسَلَّمَ) بِلَفْظِ الْمَاضِي لِعَطْفِهِ عَلَى صَلَّى الَّذِي هُوَ كَذَلِكَ (تَسْلِيمًا كَثِيرًا) قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: هَذِهِ الرِّوَايَة الْمَشْهُورَةُ وَرُوِيَ: وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ فَقَطْ، وَيُؤْخَذُ مِنْهَا أَنَّ الْإِنْسَانَ يُؤْجَرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنْ لَمْ يُكْمِلْهَا عَلَى الصِّفَةِ الْوَارِدَةِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَوْلُنَا خَتَمَهُ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ إشَارَةً إلَى أَنَّ مَحَلَّ نَدْبِهِ الْإِتْيَانُ بِهِمَا إذَا كَانَ الرَّجَاءُ حُصُولَ بَرَكَتِهَا بِحَيْثُ يُقْبَلُ الْفِعْلُ الْمَبْدُوءُ وَالْمَخْتُومُ بِهِمَا لَا لِمُجَرَّدِ قَصْدِ الْإِخْبَارِ بِتَمَامِ الْبَابِ أَوْ الْكِتَابِ عَلَى حَدِّ مَا قِيلَ فِي الْإِتْيَانِ بِلَفْظِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ فَإِنَّهُ لَا يُنْدَبُ إلَّا وَقَدْ قَصَدَ تَفْوِيضَ الْعِلْمِ عَلَى الْحَقِيقَةِ لِلَّهِ تَعَالَى أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ لَا لِقَصْدِ الْإِعْلَامِ بِالْفَرَاغِ؛ لِأَنَّ الْأَلْفَاظَ الْمَوْضُوعَةَ لِتُسْتَعْمَلَ فِي مَعْنًى لَا يَنْبَغِي اسْتِعْمَالُهَا فِي غَيْرِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا تَجِبُ فِي الْعُمُرِ مَرَّةٌ وَتُسَنُّ أَوْ تُنْدَبُ فِي الصَّلَاةِ وَتُسْتَحَبُّ خَارِجُهَا؛ لِأَنَّهَا تُفَرِّجُ الْكُرَبَ وَتُحِلُّ الْعُقَدَ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَعْتَقِدُهُ الْقُلُوبُ، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا تَعْمَلُهُ الْجَوَارِحُ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 بَابُ مَا يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ وَالْغُسْلُ الْوُضُوءُ يَجِبُ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ أَوْ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ مِنْ مَذْيٍ مَعَ   [الفواكه الدواني] [بَاب مَا يَجِب مِنْهُ الْوُضُوء وَالْغُسْل] (بَابٌ) هُوَ لُغَةً مَا يُتَوَصَّلُ مِنْهُ إلَى غَيْرِهِ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي الْأَجْسَادِ كَبَابِ الْمَسْجِدِ وَمَجَازٌ فِي الْمَعَانِي، وَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ هُنَا بِهَذَا الْمَعْنَى لِأَنَّهُ فِي الِاصْطِلَاحِ اسْمٌ لِجُمْلَةٍ مَخْصُوصَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ مُشْتَمِلَةٍ عَلَى فُصُولٍ، وَالْفَصْلُ يَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ جَمْعُ مَسْأَلَةٍ وَهِيَ مَطْلُوبٌ خَبَرِيٌّ يُقَامُ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ، وَلِذَلِكَ لَا يُسَمَّى مَسْأَلَةً إلَّا مَا أُقِيمَ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ وَاكْتُسِبَ بِهِ، لَا الْأَمْرُ الضَّرُورِيُّ كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ فَرْضٌ وَكَالزَّكَاةِ فَرْضٌ فَلَا تُعَدُّ مِنْ مَسَائِلِ الْعِلْمِ. (مَا) أَيْ الْمُوجِبُ الَّذِي (يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ، وَ) الْمُوجِبُ الَّذِي يَجِبُ مِنْهُ (الْغُسْلُ) وَالضَّمِيرُ فِي مِنْهُ عَائِدٌ عَلَى مَا الْمَوْصُولَةِ وَمِنْ تَعْلِيلِيَّةٌ لِأَنَّ هَذَا شُرُوعٌ فِي مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَالْمُوجِبُ مَا يَلْزَمُ بِسَبَبِهِ الْوُضُوءُ أَوْ الْغُسْلُ، وَالْوُضُوءُ لُغَةً النَّظَافَةُ وَاصْطِلَاحًا طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى غَسْلِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَمَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْغُسْلُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى جَمِيعِ الْجَسَدِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الدَّلْكِ، وَسَيُذْكَرُ كُلُّ وَاحِدٍ فِي بَابِهِ، وَمُوجِبَاتُ الْوُضُوءِ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِنَوَاقِضِهِ وَمُبْطِلَاتِهِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحْدَاثٌ وَأَسْبَابٌ وَمَا لَيْسَ بِحَدَثٍ وَلَا سَبَبٍ وَهُوَ مَا لَا يَدْخُلُ تَحْتَ حَدِّهِمَا كَالرِّدَّةِ وَالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ وَلَيْسَ مِنْهَا رَفْضُهُ لِأَنَّهُ لَا يَبْطُلُ بِالرَّفْضِ بَعْدَ الْفَرَاغِ وَلَا بِالْعَزْمِ عَلَى النَّقْضِ، كَمَا لَا يَبْطُلُ الصَّوْمُ بِالْعَزْمِ عَلَى الْفِطْرِ، وَبَدَأَ بِأَوَّلِ الْأَقْسَامِ فَقَالَ: (الْوُضُوءُ) وَقَدْ قَدَّمْنَا تَعْرِيفَهُ وَسَتَأْتِي صِفَتُهُ فِي بَابِهِ (يَجِبُ لِمَا يَخْرُجُ) عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ (مِنْ أَحَدِ الْمَخْرَجَيْنِ) الْمُعْتَادَيْنِ وَهُمَا الْقُبُلُ وَالدُّبُرُ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، فَلَا يَنْتَقِضُ بِالدَّاخِلِ بِالْحُقْنَةِ وَلَا بِالْقَرْقَرَةِ الشَّدِيدَةِ وَلَا بِالْحَقْنِ بِالرِّيحِ أَوْ الْبَوْلِ أَوْ غَيْرِهِمَا لِعَدَمِ صِدْقِ الْحَدَثِ عَلَيْهِمَا. وَبَيْنَ الْخَارِجِ الْمُعْتَادِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَائِطٍ أَوْ رِيحٍ) مِنْ الدُّبُرِ لَا إنْ خَرَجَ مِنْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ أَوْ ذَكَرِ الرَّجُلِ فَلَا يَنْتَقِضُ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ مَحَلِّهِ الْمُعْتَادِ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا عَلَى وَفْقِ الْعَادَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْحَصَى وَالدُّودِ الْمُتَخَلِّقَيْنِ فِي الْمَعِدَةِ فَلَا يَنْقُضَانِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِمَا عُذْرَةٌ كَثِيرَةٌ، وَيُعْفَى عَنْ الْخَارِجِ عَلَيْهِمَا فَلَا يَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لَهُمَا وَهُمَا غَيْرُ نَاقِضَيْنِ فَتَابِعُهُمَا كَذَلِكَ، وَلَا يَجِبُ غَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْهُ وَلَوْ كَثُرَ حَيْثُ كَانَ خُرُوجُ الْحَصَى وَالدُّودِ مُسْتَنْكَحًا بِأَنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ يَوْمٍ مَرَّةً فَأَكْثَرَ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَعُفِيَ عَمَّا يَعْسُرُ، أَوْ كَانَ خُرُوجُهُمَا غَيْرَ مُسْتَنْكَحٍ لَكِنْ قَلَّ الْخَارِجُ عَلَيْهِمَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَلِيلِ مَا يَسْتَحِيلُ خُرُوجُهُمَا بِدُونِهِ لَا إنْ كَانَ كَثِيرًا فَيَجِبُ إزَالَتُهُ عَنْ الْمَحَلِّ لِعَدَمِ الْعَفْوِ عَنْهُ. وَإِنْ خَرَجَ شَيْءٌ مِمَّا لَا يُعْفَى عَنْهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ بَطَلَتْ كَسُقُوطِ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ الَّتِي لَمْ يُعْفَ عَنْهَا، وَمِثْلُ الْحَصَى وَالدُّودِ فِي عَدَمِ نَقْضِ الْوُضُوءِ الدَّمُ وَالْقَيْحُ لَكِنْ بِشَرْطٍ يَخْرُجَا خَالِصَيْنِ مِنْ الْحَدَثِ وَإِلَّا نَقَضَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْحَصَى وَالدُّودِ غَلَبَةُ مُخَالَطَةِ الْحَصَى وَالدُّودِ لِلْعُذْرَةِ وَنُدْرَةُ مُخَالَطَةِ الْقَيْحِ وَالدَّمِ لَهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْحَصَى وَالدُّودَ وَالدَّمَ وَالْقَيْحَ لَيْسَتْ مِنْ الْحَدَثِ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِمَا، وَتُوقَفَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي ذَاتِ الْحَصَى وَالدُّودِ ثُمَّ اسْتَظْهَرَ أَنَّهُمَا ظَاهِرُ الذَّاتِ وَمُتَنَجِّسَانِ، رَاجَعَ الْأُجْهُورِيَّ عَلَى خَلِيلٍ، وَأَمَّا الْحَصَى وَالدُّودُ غَيْرُ الْمُتَخَلِّقَيْنِ بِأَنْ ابْتَلَعَهُمَا وَخَرَجَا مِنْ مَحَلِّ الْحَدَثِ فَإِنَّهُمَا يَنْقُضَانِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الْحَدَثِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَمَا لَوْ شَرِبَ مَاءً حَارًّا وَابْتَلَعَ دِرْهَمًا أَوْ غَيْرَهُ فَخَرَجَ مِنْهُ سَرِيعًا فَلَا شَكَّ فِي نَقْضِ مَا ذَكَرَ لِلْوُضُوءِ. وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ الْقُبُلِ أَوْ الدُّبُرِ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ الْمُلَازِمِ لِصَاحِبِهِ وَلَوْ نِصْفَ الزَّمَنِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ مِنْهُ الْوُضُوءُ إنْ لَازَمَ جُلَّ الزَّمَنِ أَوْ نِصْفَهُ إلَّا أَنْ يَشُقَّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُفَارِقُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ، فَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ لَا يُنْقَضُ فِي ثَلَاثٍ، وَالنَّقْضُ فِي صُورَةٍ وَمَحَلُّهَا فِي الْمَعْجُوزِ عَنْ رَفْعِهِ وَإِلَّا نَقَضَ فِي الْجَمِيعِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُعْتَادَيْنِ وَهُمَا الْقَبْلُ وَالدُّبْرُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَارِجِ مِنْ غَيْرِهِمَا بِأَنْ خَرَجَ بَوْلُهُ أَوْ فَضْلَتَهُ مِنْ عَيْنِهِ أَوْ أُذُنِهِ أَوْ مِنْ حَلْقِهِ فَلَا نَقْضَ، أَوْ خَرَجَ حَدَثُهُ مِنْ ثُقْبَةٍ فِي جَسَدِهِ إلَّا أَنْ تَكُونَ تَحْتَ الْمَعِدَةِ مَعَ انْسِدَادِ مَخْرَجَيْهِ فَإِنَّ الْخَارِجَ مِنْهَا يَنْقُضُ اتِّفَاقًا، أَوْ انْقَطَعَ خُرُوجُهُ مِنْ مَحَلِّهِ وَصَارَ مَوْضِعُ الْقَيْءِ مَوْضِعًا لَهُ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ أَيْضًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَيَظْهَرُ لِي الْجَزْمُ بِالنَّقْضِ بِالْخَارِجِ مِنْ ثُقْبَةٍ وَلَوْ فَوْقَ الْمَعِدَةِ حَيْثُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 غَسْلِ الذَّكَرِ كُلِّهِ مِنْهُ وَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ اللَّذَّةِ بِالْإِنْعَاظِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوْ التَّذْكَارِ وَأَمَّا الْوَدْيُ فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ خَاثِرٌ يَخْرُجُ بِأَثَرِ الْبَوْلِ يَجِبُ مِنْهُ مَا يَجِبُ مِنْ الْبَوْلِ ، وَأَمَّا الْمَنِيُّ فَهُوَ الْمَاءُ الدَّافِقُ الَّذِي يَخْرُجُ عِنْدَ اللَّذَّةِ   [الفواكه الدواني] انْسَدَّ الْمَخْرَجَانِ بِالْأَوَّلِ مِنْ مَحَلِّ الْقَيْءِ وَإِنْ حَاوَلُوا الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا، وَيَدُلُّ لِمَا قُلْته مَا تَقَرَّرَ مِنْ نَقْضِ الْوُضُوءِ عِنْدَنَا بِالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ وَتَأَمَّلْهُ بِإِنْصَافٍ (أَوْ) أَيْ وَكَذَا يَجِبُ الْوُضُوءُ (لِمَا يَخْرُجُ مِنْ الذَّكَرِ مِنْ مَذْيٍ مَعَ) وُجُوبِ (غَسْلِ الذَّكَرِ كُلِّهِ مِنْهُ) بِنِيَّةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ قَوْلَيْنِ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَخْرُجَ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْآتِي فِي تَعْرِيفِ الْمَذْيِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَمَرَ الْمِقْدَادَ أَنْ يَسْأَلَ لَهُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الرَّجُلِ إذَا دَنَا مِنْ امْرَأَتِهِ فَخَرَجَ مِنْهُ الْمَذْيُ مَاذَا عَلَيْهِ؟ فَقَالَ الْمِقْدَادُ: فَسَأَلْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَقَالَ: إذَا وَجَدَ أَحَدُكُمْ ذَلِكَ فَلِيَنْضَحْ فَرْجَهُ وَلْيَتَوَضَّأْ وُضُوءَ الصَّلَاةِ» وَلَفْظُ الْفَرْجِ فِي الْحَدِيثِ ظَاهِرٌ فِي جُمْلَةِ الذَّكَرِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّضْحِ فِيهِ الْغَسْلُ، وَبَيْنَ ذَلِكَ مَا وَقَعَ فِي مُسْلِمٍ صَرِيحًا: «يَغْسِلُ ذَكَرَهُ وَيَتَوَضَّأُ» وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يَكْفِي غَسْلُ مَوْضِعِ الْأَذَى وَلَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ غَسْلَهُ غَيْرُ تَعَبُّدِيٍّ، وَفِيهِ صُوَرٌ أَرْبَعٌ أَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: فَفِي النِّيَّةِ وَبُطْلَانِ صَلَاةِ تَارِكِهَا أَوْ تَارِكِ كُلِّهِ قَوْلَانِ: الرَّاجِحُ مِنْ قَوْلِ النِّيَّةِ الْوُجُوبُ كَمَا أَنَّ الرَّاجِحَ مِنْ قَوْلَيْ الصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا مَعَ تَرْكِ النِّيَّةِ الصِّحَّةُ مَعَ غَسْلِ جَمِيعِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ الِاقْتِصَارِ عَلَى بَعْضِهِ فَالْقَوْلَانِ فِي الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ عَلَى السَّوَاءِ وَلَوْ مَعَ تَرْكِ النِّيَّةِ عَلَى التَّحْقِيقِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْحَدِيثِ فِي مَذْيِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا مَذْيُ الْمَرْأَةِ فَيَكْفِيهَا غَسْلُ مَحَلِّ الْأَذَى فَقَطْ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي النِّيَّةِ أَوْ اسْتَظْهَرَ افْتِقَارَهَا إلَى نِيَّةٍ كَالرَّجُلِ، قُلْت: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ لِأَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ. الثَّانِي: الْمَذْيُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَفِيهِ حِينَئِذٍ ثَلَاثُ لُغَاتٍ: تَسْكِينُ الذَّالِ مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَكَسْرُ الذَّالِ مَعَ شَدِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِهَا سَاكِنَةً، وَيُرْوَى بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ وَلَعَلَّهُ فِي اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ. الثَّالِثُ: نَاقَشَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي تَقْدِيمِ الْمُصَنِّفِ مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ عَلَى الْوُضُوءِ بِأَنَّ فِيهِ تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ وَهُوَ الْحُكْمُ عَلَى التَّصَوُّرِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْوُضُوءِ بِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ تَقْدِيمُ التَّصَوُّرِ عَلَى التَّصْدِيقِ حُكْمًا وَالْحُكْمُ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ الْمُنَاقَشَةِ أَنْ يُقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ الْحُكْمِ عَلَى التَّصَوُّرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى التَّصْوِيرِ لِلْغَيْرِ، وَحُكْمُ الشَّخْصِ عَلَى شَيْءٍ مُتَصَوَّرٍ فِي ذِهْنِهِ قَبْلَ تَصْوِيرِهِ فِي الْخَارِجِ لِغَيْرِهِ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ مُتَصَوِّرًا لِلْوُضُوءِ حِينَ حَكَمَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَجِبُ لِمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ وَهَذَا أَحْسَنُ الْأَجْوِبَةِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ. ثُمَّ عَرَّفَ الْمَذْيَ بِبَيَانِ صِفَتِهِ عِنْدَ اعْتِدَالِ الطَّبِيعَةِ وَصِفَةِ خُرُوجِهِ فَقَالَ: (وَهُوَ) أَيْ الْمَذْيُ (مَاءٌ أَبْيَضُ رَقِيقٌ يَخْرُجُ عِنْدَ اللَّذَّةِ) الْمُعْتَادَةِ وَهِيَ الْمَيْلُ إلَى الشَّيْءِ وَإِيثَارُهُ عَلَى غَيْرِهِ (بِالْإِنْعَاظِ) أَيْ قِيَامِ الذَّكَرِ (عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ أَوْ التَّذْكَارِ) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ التَّذَكُّرِ وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ لَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ لَا يَجِبُ غَسْلُ جَمِيعِ الذَّكَرِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يُغْسَلُ مَحَلُّ الْأَذَى، وَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ إنْ لَمْ يَخْرُجْ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ وَإِلَّا فَلَا يَنْقُضَ إلَّا أَنْ يُفَارِقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَوْ يَقْدِرَ عَلَى رَفْعِهِ، وَالنَّاقِضُ لِلْوُضُوءِ يَتَعَيَّنُ فِيهِ الْمَاءُ وَلَا يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ بِخِلَافِ غَيْرِ النَّاقِضِ فَيَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ مِثْلِ الْمَنِيِّ الَّذِي لَمْ يُوجِبْ غُسْلًا، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مُجَرَّدَ الْإِنْعَاظِ لَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ وَلَوْ كَانَ مَعَ التَّلَذُّذِ وَإِدَامَةِ تَفَكُّرٍ أَوْ نَظَرٍ، وَقَوْلُنَا عِنْدَ اعْتِدَالِ الْمِزَاجِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ عَدَمِ اعْتِدَالِهِ فَقَدْ يَخْرُجُ مَذْيُهُ أَصْفَرَ فَلَا يَخْتَلُّ الْحُكْمُ بَلْ يَجِبُ مِنْهُ غَسْلُ جَمِيعِ الذَّكَرِ لِأَنَّ الْحُكْمَ دَائِرٌ مَعَ خُرُوجِهِ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ عِنْدَ الْمُلَاعَبَةِ جَوَازُ الْمُلَاعَبَةِ لِلزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، وَقَدْ رَغَّبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ حِينَ تَزَوَّجَ ثَيِّبًا: «فَهَلَّا بِكْرًا تُلَاعِبُهَا وَتُلَاعِبُك» اهـ. قُلْت: الْحُكْمُ مُسَلَّمٌ وَلَكِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ الْأَخْذِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْتَرِطْ أَحَدٌ كَوْنَ الْمُلَاعَبَةِ الَّتِي يَنْشَأُ عَنْهَا الْمَذْيُ جَائِزَةً أَوْ مُحَرَّمَةً وَتَأَمَّلْهُ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ حَيْثُ حَضَّ عَلَى مُلَاعَبَةِ الْبِكْرِ (وَأَمَّا الْوَدْيُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَحَكَى الْجَوْهَرِيُّ كَسْرَهَا وَتَشْدِيدَ الْيَاءِ وَرُوِيَ بِالْمُعْجَمَةِ (فَهُوَ مَاءٌ أَبْيَضُ خَاثِرٌ) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ ثَخِينٌ (يَخْرُجُ بِإِثْرِ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحِهِمَا أَيْ عَقِبَ (الْبَوْلِ) غَالِبًا وَقَدْ يَخْرُجُ وَحْدَهُ وَحُكْمُهُ أَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الْكُبْرَى بِالْجِمَاعِ، رَائِحَتُهُ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ، وَمَاءُ الْمَرْأَةِ مَاءٌ رَقِيقٌ أَصْفَرُ يَجِبُ مِنْهُ الطُّهْرُ فَيَجِبُ مِنْ هَذَا طُهْرُ جَمِيعِ الْجَسَدِ كَمَا يَجِبُ مِنْ طُهْرِ الْحَيْضَةِ وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ فَيَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ وَيُسْتَحَبُّ لَهَا وَلِسَلَسِ الْبَوْلِ أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَيَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ بِنَوْمٍ مُسْتَثْقَلٍ أَوْ إغْمَاء أَوْ سُكْرٍ أَوْ تَخَبُّطِ جُنُونٍ وَيَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ   [الفواكه الدواني] (يَجِبُ مِنْهُ مَا يَجِبُ مِنْ الْبَوْلِ) فَيَنْقُضُ الْوُضُوءَ وَإِنَّمَا يُغْسَلُ مِنْهُ مَحَلُّ الْأَذَى فَقَطْ، وَيُجْزِي فِيهِ الِاسْتِجْمَارُ بِالْحَجَرِ كَالْبَوْلِ، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُهُ مُغَايِرًا لِحُكْمِ الْمَذْيِ أَتَى الْمُصَنِّفُ بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ لِحُكْمِ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا. وَلَمَّا كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ اسْتِيفَاءُ أَحْكَامِ الْخَارِجِ مِنْ الْقُبُلِ ذَكَرَ الْمَنِيَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ قَبْلَ تَتْمِيمِ الْكَلَامِ عَلَى مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ فَقَالَ: (وَأَمَّا الْمَنِيُّ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ (فَهُوَ) مِنْ الرَّجُلِ (الْمَاءُ الدَّافِقُ) يَعْنِي الْمَدْفُوقَ الثَّخِينَ (الَّذِي يَخْرُجُ) دَفْعَةً بَعْدَ دَفْعَةٍ (عِنْدَ اللَّذَّةِ الْكُبْرَى) وَهِيَ الْحَاصِلَةُ (بِالْجِمَاعِ) بِخِلَافِ الَّتِي يَخْرُجُ بِهَا الْمَذْيُ فَهِيَ صُغْرَى وَالتَّقْيِيدُ بِالْجِمَاعِ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ وَإِلَّا فَقَدْ يَخْرُجُ بِغَيْرِهِ وَصِفَةُ (رَائِحَتِهِ) إذَا كَانَ رَطْبًا مِنْ صَحِيحِ الْمِزَاجِ (كَرَائِحَةِ) غُبَارِ (الطَّلْعِ) مِنْ فَحْلِ النَّخْلِ وَهُوَ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَفِيهِ لُغَةٌ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ، وَقَيَّدْنَا بِ رَطْبًا لِأَنَّهُ إذَا يَبِسَ تُشْبِهُ رَائِحَتُهُ رَائِحَةَ الْبَيْضِ عِنْدَ يُبْسِهِ وَبِصَحِيحِ الْمِزَاجِ لِأَنَّهُ قَدْ يَتَغَيَّرُ مِنْ الْمَرِيضِ وَتَخْتَلِفُ رَائِحَتُهُ، وَإِنَّمَا نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى لَوْنِهِ وَرَائِحَتِهِ لِيُرْجَعَ إلَيْهَا عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ إذَا قَامَ مِنْ نَوْمٍ مَثَلًا فَوَجَدَ بَلَلًا أَوْ شَيْئًا جَافًّا رَائِحَتُهُ كَرَائِحَةِ الطَّلْعِ أَوْ الْبَيْضِ عِنْدَ يُبْسِهِ يَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ مَنِيٌّ، كَمَا يَعْلَمُ كَوْنَهُ مَنِيًّا يَجْعَلُ نُقْطَةَ مَاءٍ حَارٍّ عَلَيْهِ عِنْدَ يُبْسِهِ وَيَشْرَبُهَا سَرِيعًا، وَإِنَّمَا يُشَبَّهُ بِالطَّلْعِ دُونَ غَيْرِهِ مِمَّا يُشْبِهُ لِأَنَّهُ الَّذِي كَانَ مَوْجُودًا فِي بِلَادِهِمْ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (وَ) أَمَّا صِفَةُ (الْمَرْأَةِ) أَيْ مِنْهَا فَهُوَ (مَاءٌ رَقِيقٌ) ضِدُّ مَاءِ الرَّجُلِ (أَصْفَرُ) غَالِبًا بِخِلَافِ مَاءِ الرَّجُلِ فَإِنَّهُ أَبْيَضُ غَالِبًا، وَأَمَّا طَعْمُهُ فَهُوَ مِنْ الرَّجُلِ مُرٌّ وَمِنْ الْمَرْأَةِ مَالِحٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَ الْمَاءَانِ فِي الرَّحِمِ كَانَ الْوَلَدُ بَيْنَهُمَا، وَأَيُّهُمَا سَبَقَ أَوْ عَلَا أَشْبَهَ الْوَلَدُ صَاحِبَهُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُوجِبُهُ الْمَنِيُّ بِقَوْلِهِ: (يَجِبُ مِنْهُ) أَيْ يَجِبُ مِنْ أَجْلِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ مِنْ الرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَةِ (الطُّهْرُ) أَيْ غَسْلُ جَمِيعِ الْجَسَدِ حَيْثُ خَرَجَ فِي نَوْمٍ مُطْلَقًا أَوْ فِي يَقِظَةٍ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ؛ كَمَا يُعْلَمُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُصَنِّفِ لَهُ بِأَنَّهُ الْخَارِجُ عِنْدَ اللَّذَّةِ الْكُبْرَى، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَلَا يُوجِبُ إلَّا الْوُضُوءَ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى دَفْعِهِ، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ طُهْرٌ إلَّا بِخُرُوجِ مَنِيِّهَا وَلَا يَكْفِي إحْسَاسُهَا خِلَافًا لِلْقَاضِيَّ سَنَدٍ وَقَوْلُهُ: (فَيَجِبُ مِنْ هَذَا طُهْرُ جَمِيعِ الْجَسَدِ) تَكْرَارٌ وَلَعَلَّهُ ارْتَكَبَهُ لِأَجْلِ التَّشْبِيهِ بِقَوْلِهِ: (كَمَا يَجِبُ مِنْ طُهْرِ الْحَيْضَةِ) وَإِنَّمَا شَبَّهَ الْغُسْلَ مِنْ الْجَنَابَةِ بِالْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ لِأَنَّ الْحَيْضَ أَقْوَى الْمَوَانِعِ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مَا لَا تَمْنَعُهُ الْجَنَابَةُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّشْبِيهِ الْمَذْكُورِ أَنَّ الدَّمَ الْخَارِجَ مِنْ الْمَرْأَةِ يُوجِبُ عَلَيْهَا غَسْلَ جَمِيعِ جَسَدِهَا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ قَالَ: (وَأَمَّا دَمُ الِاسْتِحَاضَةِ) وَهُوَ خَارِجٌ مِنْ الْمَرْأَةِ زِيَادَةً عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا أَوْ اسْتِظْهَارِهَا (فَيَجِبُ مِنْهُ الْوُضُوءُ) فَقَطْ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ إذَا كَانَ نَاقِضًا لِوُضُوئِهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَخْرُجَ مِنْهَا لَا عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ بِأَنْ يُفَارِقَهَا أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَوْ قَدَرَتْ عَلَى رَفْعِهِ، وَأَمَّا لَوْ لَازَمَهَا وَلَوْ نِصْفَ الزَّمَنِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا مِنْهُ الْوُضُوءُ. (وَ) إنَّمَا (يُسْتَحَبُّ لَهَا وَلِسَلِسِ الْبَوْلِ) بِكَسْرِ اللَّامِ أَيْ لِلشَّخْصِ الَّذِي قَهَرَهُ الْبَوْلُ فَسَلِسٌ اسْمُ فَاعِلٍ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ لَهَا (أَنْ يَتَوَضَّأَ لِكُلِّ صَلَاةٍ) وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ: أَنْ يُلَازِمَهُمَا جُلَّ الزَّمَنِ أَوْ نِصْفَهُ، وَمَحَلُّ الِاسْتِحْبَابِ إلَّا أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِمَا. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ وُجُوبِ الْوُضُوءِ عَلَى مَا فَارَقَ أَكْثَرَهُ أَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ، وَالِاسْتِحْبَابُ عَلَى مَا لَازَمَ جُلَّ أَوْ نِصْفَ الزَّمَنِ انْدِفَاعُ التَّنَاقُضِ الَّذِي ادَّعَاهُ بَعْضُهُمْ فِي كَلَامِهِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِسَلِسِ الْبَوْلِ كَانَ الْأَوْلَى وَلِصَاحِبِ السَّلَسِ لِيَشْمَلَ سَائِرَ الْأَحْدَاثِ بَوْلًا أَوْ رِيحًا أَوْ مَذْيًا أَوْ مَنِيًّا، فَإِنَّ الْجَمِيعَ سَوَاءٌ فِي عَدَمِ النَّقْضِ الَّذِي خَرَجَ مِنْهَا وَلَازِمٌ وَلَوْ نِصْفَ الزَّمَنِ حَيْثُ عَجَزَ عَنْ رَفْعِهِ، وَأَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ بِتَدَاوٍ أَوْ سِتْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاقِضًا إلَّا فِي مُدَّةِ تُدَاوِيه وَمُدَّةِ اسْتِبْرَاءِ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَاةِ، وَالتَّفْصِيلُ فِي السَّلَسِ طَرِيقَةُ الْمَغَارِبَةِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهَا خَلِيلٌ فَهِيَ الْمَشْهُورَةُ فِي الْمَذْهَبِ، خِلَافًا لِطَرِيقِ الْعِرَاقِيِّينَ فِي اسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ فِي كُلِّ صُورَةٍ. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَأَهْلِ الْمَذْهَبِ عُمُومُ هَذَا الْحُكْمِ فِي السَّلَسِ وَلَوْ تَسَبَّبَ فِيهِ الشَّخْصُ، لَكِنْ جَرَى خِلَافٌ فِي اعْتِبَارِ الْمُلَازَمَةِ هَلْ فِي خُصُوصِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ الزَّوَالِ وَمُنْتَهَاهَا طُلُوعُ، الشَّمْسِ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ مُطْلَقًا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا الْمُلَازَمَةُ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا فَرَضْنَا أَنَّ أَوْقَاتَ الصَّلَاةِ مِائَتَانِ وَسِتُّونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] دَرَجَةً وَغَيْرُ وَقْتِهَا مِائَةُ دَرَجَةٍ فَأَتَاهُ فِيهَا وَفِي مِائَةٍ مِنْ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَعَلَى الْمَشْهُورِ يَنْقُضُ لِمُفَارِقَتِهِ أَكْثَرَ الزَّمَنِ لَا عَلَى مُقَابَلَةٍ لِمُلَازَمَةِ أَكْثَرِهِ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي كَبِيرِهِ. الرَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ عَنْ شَيْخِهِ الْمَنُوفِيِّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ تُفْهَمَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى إطْلَاقِهَا، وَإِنَّمَا تُقَيَّدُ بِمَا إذَا كَانَ إتْيَانُ السَّلَسِ غَيْرَ مُنْضَبِطٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُنْضَبِطًا فَإِنَّهُ يَعْمَلُ عَلَيْهِ، فَإِذَا كَانَ يَعْلَمُ بِالْعَادَةِ أَنَّهُ يَأْتِيه إذَا دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ مَثَلًا وَيُلَازِمُهُ لِلْغُرُوبِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الْعَصْرَ فِي آخِرِ الْقَامَةِ الْأُولَى وَكَذَا يُقَالُ فِي الْعِشَاءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَسْتَغْرِقُ وَقْتَ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ فَإِنَّهُ يَفْعَلُهَا فِي وَقْتِ الْأُخْرَى تَقْدِيمًا أَوْ تَأْخِيرًا، لِأَنَّ الضَّرُورِيَّ قَدْ يَكُونُ قَبْلَ الِاخْتِيَارِيِّ فِي مِثْلِ هَذِهِ. الْخَامِسُ: يُنْظَرُ فِي النُّقْطَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مِنْ الشَّخْصِ بَعْدَ وُضُوئِهِ فَإِنْ كَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ كُلَّ يَوْمٍ مَرَّةً فَأَكْثَرَ فَإِنَّهُ يُعْفَى عَنْهَا وَلَا يَلْزَمُهُ غَسْلُ مَا أَصَابَ مِنْهَا وَإِنْ نَقَضَتْ الْوُضُوءَ وَتَبْطُلُ بِهَا الصَّلَاةُ، وَإِذَا تَحَقَّقَ نُزُولُهَا وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ يَتَمَادَى عَلَى صَلَاتِهِ وَلَوْ كَانَ إمَامًا وَيَتْبَعُهُ مَأْمُومُهُ. وَبَعْدَ ذَلِكَ إذَا تَحَقَّقَ نُزُولَهَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ وُجُوبًا وَلَا يُعِيدُ مَأْمُومُهُ، بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى بِالْحَدَثِ نَاسِيًا وَهُوَ إمَامٌ فَيُعِيدُ أَبَدًا دُونَ مَأْمُومِهِ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْعَفْوِ عَنْ النُّقْطَةِ وَبُطْلَانِ الصَّلَاةِ لِأَنَّ الْعَفْوَ عَنْ كُلِّ مَا يَعْسَرُ، وَالنَّقْضُ يَكُونُ بِمَا يُفَارِقُ أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَوْ يَقْدِرَ عَلَى رَفْعِهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ خِفَّةُ النَّجَاسَةِ بِخِلَافِ طَهَارَةِ الْحَدَثِ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِهَا وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَهُوَ الْحَدَثُ شَرَعَ فِي ثَانِي الْأَقْسَامِ وَهُوَ الْأَسْبَابُ جَمْعُ سَبَبٍ وَهُوَ لُغَةً الْحَبْلُ وَاصْطِلَاحًا مَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ وَمِنْ وُجُودِهِ الْوُجُودُ لِذَاتِهِ، وَيَنْحَصِرُ فِي ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: زَوَالُ الْعَقْلِ وَاللَّمْسُ بِشَرْطِهِ وَمَسُّ الذَّكَرِ لِلْبَالِغِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَدَثِ الَّذِي هُوَ الْخَارِجُ الْمُعْتَادُ مِنْ الْمَخْرَجِ الْمُعْتَادِ عَلَى طَرِيقِ الصِّحَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْحَدَثَ نَاقِضٌ بِنَفْسِهِ، وَالسَّبَبُ إنَّمَا يَنْقُضُ بِوَاسِطَةٍ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى الْحَدَثِ فَقَالَ: (وَيَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ زَوَالِ) أَيْ اسْتِتَارِ (الْعَقْلِ) وَهُوَ آلَةُ التَّمْيِيزِ (بِنَوْمٍ مُسْتَثْقَلٍ) وَهُوَ الَّذِي لَا يَشْعُرُ صَاحِبُهُ بِسُقُوطِ لُعَابِهِ أَوْ حَبْوَتِهِ أَوْ الْكُرَّاسِ مِنْ يَدِهِ وَلَا بِمَنْ يَذْهَبُ مِنْ عِنْدِهِ وَلَا بِمَنْ يَأْتِي وَلَا بِالْأَصْوَاتِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ طَوِيلِهِ وَقَصِيرِهِ لَا إنْ خَفَّ فَلَا يَنْقُضُ، وَلَوْ طَالَ فَصُوَرُهُ أَرْبَعٌ وَيَشْمَلُهَا قَوْلُ خَلِيلٍ: وَبِسَبَبِهِ وَهُوَ زَوَالُ عَقْلٍ وَإِنْ بِنَوْمٍ ثَقُلَ وَلَوْ قَصُرَ لَا خَفَّ وَنُدِبَ إنْ طَالَ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْوُضُوءُ مِنْ خَفِيفِهِ إنْ طَالَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ نَقْضِ الْخَفِيفِ مَا فِي مُسْلِمٍ: كَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَنَامُونَ ثُمَّ يُصَلُّونَ وَلَا يَتَوَضَّئُونَ. قَالَ عِيَاضٌ: فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ النَّوْمَ لَيْسَ بِحَدَثٍ فِي نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ الثَّقِيلُ الَّذِي يَذْهَبُ مَعَهُ حِسُّ الْمَرْءِ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ بِالْحَدَثِ إذَا خَرَجَ مِنْهُ، وَأَمَّا الْخَفِيفُ الَّذِي يُحِسُّ مَعَهُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ فَلَا يَنْقُضُ، وَيُحْمَلُ عَلَى هَذَا نَوْمُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُمْ كَانُوا جُلُوسًا يَنْتَظِرُونَ الصَّلَاةَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: هَذَا التَّفْصِيلُ فِي النَّائِمِ جَالِسًا، وَأَمَّا الْقَائِمُ الَّذِي لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى شَيْءٍ فِي حَالِ قِيَامِهِ فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ إلَّا بِسُقُوطِهِ، وَأَمَّا الْمُسْتَنِدُ فَإِنْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ الْمُسْتَنَدُ إلَيْهِ لَسَقَطَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْجَالِسِ، وَأُمًّا لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ مَا اسْتَنَدَ إلَيْهِ لَمْ يَسْقُطْ فَإِنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ إلَّا بِسُقُوطِهِ بِالْفِعْلِ، لِأَنَّ عَدَمَ سُقُوطِهِ عَلَامَةٌ عَلَى خِفَّةِ نَوْمِهِ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ النَّقْضُ بِالنَّوْمِ الثَّقِيلِ وَلَوْ كَانَ النَّائِمُ الْجَالِسُ مُتَمَكِّنًا وَمُسْتَقَرًّا وَهُوَ الَّذِي يَتَرَجَّحُ اعْتِمَادُهُ عِنْدِي لِمَا عُلِمَ مِنْ أَنَّ النَّائِمَ تَرْتَخِي أَعْصَابُهُ فَلَا يَشْعُرُ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ، فَمُقْتَضَى الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ النَّقْضَ بِالشَّكِّ فِي الْحَدَثِ نَقْضُ وُضُوئِهِ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِسْفَارِ سَدُّ الدُّبُرِ (أَوْ) أَيْ وَيَجِبُ الْوُضُوءُ أَيْضًا مِنْ زَوَالِ الْعَقْلِ مِنْ حُصُولِ مُطْلَقِ (إغْمَاءٍ) وَهُوَ مَرَضٌ فِي الرَّأْسِ. قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ بِالْوُضُوءِ وَهُوَ قَوْلُ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. (أَوْ) أَيْ وَيَجِبُ الْوُضُوءُ أَيْضًا بِزَوَالِ الْعَقْلِ بِسَبَبِ (سُكْرٍ) وَلَوْ بِحَلَالٍ (أَوْ) بِسَبَبِ (تَخَبُّطِ جُنُونٍ) بِأَنْ يَتَخَبَّطَهُ الْجِنُّ ثُمَّ يَعُودُ لِحَالِهِ، وَإِنَّمَا انْتَقَضَ وُضُوءُهُ بِهَذِهِ لِأَنَّهَا أَشَدُّ مِنْ النَّوْمِ وَلِذَلِكَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ طَوِيلِهَا وَقَصِيرِهَا وَلَا بَيْنَ ثَقِيلِهَا وَخَفِيفِهَا لِأَنَّ هَذِهِ يَزُولُ مَعَهَا التَّكْلِيفُ، بِخِلَافِ النَّوْمِ صَاحِبُهُ مُخَاطَبٌ وَإِنْ رُفِعَ عَنْهُ الْإِثْمُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ لَوْ زَالَ عَقْلُهُ بِتَرَادُفِ الْهُمُومِ عَلَيْهِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا وُضُوءَ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وُجُوبُ الْوُضُوءِ وَقَالَ بِهِ ابْنُ نَافِعٍ، وَقِيلَ لِمَالِكٍ: أَهْوَ قَاعِدٌ؟ قَالَ: أَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَوَضَّأَ وَمِمَّا لَا يَنْقُضُ زَوَالُهُ بِالِاسْتِغْرَاقِ فِي حُبِّ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى غَابَ عَنْ إحْسَاسِهِ. قَالَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، وَلِي فِي ذَلِكَ وَقْفَةٌ مَعَ نَقْضِ الْوُضُوءِ بِزَوَالِهِ بِالنَّوْمِ. الثَّانِي: فَسَّرْنَا زَوَالَ الْعَقْلِ بِالِاسْتِتَارِ لِمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ الْفَاكِهَانِيُّ: الْعَقْلُ لَا يُزِيلُهُ النَّوْمُ وَلَا الْإِغْمَاءُ وَلَا السُّكْرُ وَإِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الْمُلَامَسَةِ لِلَّذَّةِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِالْجَسَدِ لِلَّذَّةِ وَالْقُبْلَةِ لِلَّذَّةِ وَمِنْ مَسِّ الذَّكَرِ وَاخْتُلِفَ فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا فِي إيجَابِ   [الفواكه الدواني] تَسْتُرُهُ فَقَطْ، وَكَذَلِكَ الْمَجْنُونُ الْمُنْقَطِعُ بِخِلَافِ الْمُطْبَقِ فَإِنَّهُ يُزِيلُهُ لَا مَحَالَةَ، وَحِينَئِذٍ فَيَكُونُ التَّعْبِيرُ فِي الْمَذْكُورَاتِ بِلَفْظِ زَوَالٍ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ وَمِنْ الْأَسْبَابِ اللَّمْسُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيَجِبُ الْوُضُوءُ مِنْ) أَجْلِ (الْمُلَامَسَةِ) الْمُرَادُ اللَّمْسُ وَهُوَ مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ عَلَى جِهَةِ الِاخْتِبَارِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُهُ: (لِلَّذَّةِ) أَيْ لِقَصْدِهَا أَوْ وُجُودِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْسٌ يَلْتَذُّ بِهِ صَاحِبُهُ عَادَةً وَلَوْ لِظُفْرٍ أَوْ شَعْرٍ أَوْ حَائِلٍ وَأُوِّلَ بِالْخَفِيفِ وَبِالْإِطْلَاقِ وَهَذَا حَيْثُ لَا ضَمَّ، وَأَمَّا لَوْ ضَمَّ اللَّذَّاتِ الْمَلْمُوسَةَ أَوْ قَبَضَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا فَإِنَّ وُضُوءَهُ يَنْتَقِضُ اتِّفَاقًا وَلَوْ كَانَ الْحَائِلُ كَثِيفًا قَصَدَ لَذَّةً أَوْ وَجَدَهَا. قَالَهُ الْأَجْهُورِيُّ نَقْلًا عَنْ الْحَطَّابِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي اللَّامِسِ الْبُلُوغُ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ وَلَوْ جَامَعَ زَوْجَتَهُ وَكَذَلِكَ الْمَلْمُوسُ فَإِنْ بَلَغَ وَالْتَذَّ أَوْ قَصَدَ اللَّذَّةَ انْتَقَضَ وُضُوءُهُ كَاللَّامِسِ وَبِقَيْدِ الْعَادَةِ يَخْرُجُ الِالْتِذَاذُ بِالصَّغِيرَةِ غَيْرِ الْمُطِيقَةِ أَوْ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُضُ الْوُضُوءَ إلَّا الِالْتِذَاذُ، أَوْ بِمَسِّ فَرْجِ الصَّغِيرَةِ أَوْ الدَّابَّةِ فَإِنَّهُ يَنْقُضُ لِاخْتِلَافِ عَادَةِ النَّاسِ بِالِالْتِذَاذِ بِفَرْجِهِمَا، وَلِذَلِكَ نَصُّوا عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ بِالِالْتِذَاذِ بِالْمُحَرَّمِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ قَصْرُ الْمُلَامَسَةِ عَلَى مَا كَانَ بِالْيَدِ فَقَطْ دَفَعَ ذَلِكَ التَّوَهُّمَ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ الْوُضُوءُ أَيْضًا مِنْ (الْمُبَاشَرَةِ بِالْجَسَدِ لِلَّذَّةِ) وَفُهِمَ مِنْ اشْتِرَاطِ الْمُلَامَسَةِ أَنَّ الِالْتِذَاذَ بِالنَّظَرِ مِنْ غَيْرِ لَمْسٍ لَا يَنْقُضُ وَلَوْ أَنْعَظَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا لَذَّةَ بِنَظَرٍ كَإِنْعَاظٍ حَيْثُ لَا مَذْيَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: كَمَا لَا يُعْتَبَرُ فِي اللَّمْسِ كَوْنُهُ بِعُضْوٍ خَاصٍّ لَا يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ أَصْلِيًّا بَلْ وَلَوْ كَانَ اللَّمْسُ بِعُضْوٍ زَائِدٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُسَاوَاتُهُ لِغَيْرِهِ فِي الْإِحْسَاسِ بَلْ الشَّرْطُ قَصْدُ وُجُودِ اللَّذَّةِ حَالَ اللَّمْسِ وَلَوْ بِأَمْرَدَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَا سِيَّمَا مَعَ فَسَادِ الزَّمَانِ وَالْقَصْدُ كَالْوِجْدَانِ. وَفِي الْأَجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ: لَا يُعْتَبَرُ فِي اللَّمْسِ هُنَا كَوْنُهُ بِعُضْوٍ أَصْلِيٍّ أَوْ زَائِدٍ لَهُ إحْسَاسٌ كَمَا فِي مَسِّ الذَّكَرِ، فَمَتَى حَصَلَ اللَّمْسُ هُنَا بِعُضْوٍ وَلَوْ زَائِدًا لَا إحْسَاسَ لَهُ وَانْضَمَّ لِذَلِكَ قَصْدُهُ لِلَّذَّةِ أَوْ وِجْدَانُهَا نَقَضَ، هَذَا ظَاهِرُ إطْلَاقِهِمْ انْتَهَى. الثَّانِي: إذَا قَصَدَ لَمْسَ امْرَأَةٍ يُعْتَقَدُ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا مَحْرَمٌ فَإِنَّهُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، وَأَمَّا لَوْ لَمَسَّ مِنْ يَعْتَقِدُهَا مَحْرَمًا فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ فَلَا نَقْضَ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَلَعَلَّهُ بَنَاهُ عَلَى عَدَمِ النَّقْضِ بِلَمْسِ الْمَحْرَمِ وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الْمَحْرَمَ كَغَيْرِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ: قَصْدُهَا لِلْفَاسِقِ فِي الْمَحْرَمِ نَاقِضٌ. قَالَ بَعْضٌ الْمُرَادُ بِالْفَاسِقِ مَنْ مِثْلُهُ يَلْتَذُّ بِمَحْرَمِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ صُوَرَ اللَّمْسِ أَرْبَعٌ: قَصْدٌ فَقَطْ، وِجْدَانٌ فَقَطْ، قَصْدٌ وَوِجْدَانٌ، انْتِفَاءُ الْأَمْرَيْنِ. يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالثَّلَاثِ الْأُوَلِ وَلَا نَقْضَ بِانْتِفَائِهِمَا، وَكَثِيرًا مَا يَتَوَضَّأُ الْإِنْسَانُ وَيَلْمِسُ زَوْجَتَهُ عَقِبَ وُضُوئِهِ أَوْ أَجْنَبِيَّةً فَلَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ وَلَا وُضُوءُهَا إلَّا مَعَ الْقَصْدِ وَالْوِجْدَانِ (وَ) يَجِبُ الْوُضُوءُ أَيْضًا مِنْ (الْقُبْلَةِ) بِضَمِّ الْقَافِ وَهِيَ وَضْعُ الْفَمِ عَلَى الْفَمِ (لِلَّذَّةِ) حَيْثُ كَانَتْ عَلَى فَمِ مَنْ يُلْتَذُّ بِهِ عَادَةً وَلَوْ بِامْرَأَةٍ بِمِثْلِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُبْلَةِ طَوْعٌ وَلَا عِلْمٌ وَلَا قَصْدٌ وَلَا وِجْدَانٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِلْمُصَنِّفِ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى أَنَّ الْقُبْلَةَ فِي غَيْرِ الْفَمِ لِأَنَّهَا فِي غَيْرِهِ تَجْرِي عَلَى حُكْمِ الْمُلَامَسَةِ، بِخِلَافِهَا عَلَى الْفَمِ فَتَنْقُضُ مُطْلَقًا لِعَدَمِ انْفِكَاكِهَا عَنْ اللَّذَّةِ عَادَةً، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا الْقُبْلَةَ بِفَمٍ وَإِنْ بِكُرْهٍ أَوْ اسْتِغْفَالٍ لَا لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ إلَّا أَنْ يَجِدَ اللَّذَّةَ، وَلَا إنْ كَانَتْ عَلَى حَائِلٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ خَفِيفًا أَوْ كَانَتْ عَلَى فَمِ صَغِيرَةٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُقَبِّلُ بِكَسْرِ الْبَاءِ صَبِيًّا أَوْ كَانَتْ الْمُقَبَّلَةُ صَغِيرَةً لَا تُشْتَهَى فَلَا نَقْضَ بِتَقْبِيلِهَا وَلَوْ الْتَذَّ الْبَالِغُ بِتَقْبِيلِهَا، وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: قُبْلَةُ تَرَحُّمِ الصَّغِيرَةِ وَوَدَاعِ الْكَبِيرَةِ وَلَا لَذَّةُ لَغْوٍ يَقْتَضِي بِحَسَبِ مَفْهُومِهِ أَنَّهُ يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ بِالِالْتِذَاذِ حَتَّى بِقُبْلَةِ الصَّغِيرَةِ وَحَرَّرَهُ، وَعَدَمُ النَّقْضِ صَرَّحَ بِهِ الْأَجْهُورِيُّ، وَكَذَا لَوْ قَبَّلَ شَابٌّ شَيْخًا أَوْ شَيْخٌ شَيْخًا فَلَا نَقْضَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَبَّلَ الذَّكَرُ الْبَالِغُ أُنْثَى فَالنَّقْضُ وَلَوْ كَانَ شَابًّا وَهِيَ كَبِيرَةٌ لِأَنَّ شَأْنَ الذَّكَرِ الِالْتِذَاذُ بِالْأُنْثَى وَلَوْ كَانَتْ كَبِيرَةً وَإِذَا كَانَ الْوُضُوءُ يَنْتَقِضُ بِالتَّقْبِيلِ مِنْ الْبَالِغِ عَلَى فَمِ مَنْ يُلْتَذُّ بِمِثْلِهِ مُطْلَقًا مِنْ بَابِ أَوْلَى تَنْتَقِضُ بِالتَّقْبِيلِ عَلَى فَرْجِ مَنْ يُوطَأُ مِثْلُهُ، لِأَنَّ عُلَمَاءَنَا نَصَّتْ عَلَى أَنَّ نَظَرَ الْفَرْجِ أَوْ مَسَّهُ إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى قَصْدِ اللَّذَّةِ خِلَافًا لِبَحْثِ بَعْضِ شُيُوخِ شُيُوخِنَا رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَمِنْ الْأَسْبَابِ الْمَسُّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ الْوُضُوءُ أَيْضًا (مِنْ مَسِّ الذَّكَرِ) الْمُتَّصِلِ الْمُرَادُ ذَكَرُ نَفْسِهِ، فَأَلْ عِوَضٌ عَنْ الضَّمِيرِ سَوَاءٌ مَسَّهُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، لِأَنَّ مَا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَمْدُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ لَذَّةٌ وَلَا قَصْدُهَا، وَلَوْ كَانَ الْمَاسُّ شَيْخًا أَوْ عِنِّينًا لَكِنْ بِشَرْطِ الْبُلُوغِ وَعَدَمِ الْحَائِلِ إلَّا مَا خَفَّ جِدًّا وَبِشَرْطِ اتِّصَالِ الذَّكَرِ، وَكَوْنِ الْمَسِّ بِبَاطِنِ الْكَفِّ أَوْ الْأَصَابِعِ أَوْ بِجَنْبِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 الْوُضُوءِ بِذَلِكَ. وَيَجِبُ الطُّهْرُ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ خُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ لِلَّذَّةِ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ. [مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ] أَوْ انْقِطَاعِ دَمِ   [الفواكه الدواني] وَالزَّائِدُ الَّذِي فِيهِ إحْسَاسٌ كَغَيْرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُسَاوِ غَيْرَهُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ جَزْمِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ بِنَقْضِ وُضُوءِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ بِمَسِّ ذَكَرِهِ وَنَقْضِ وُضُوءِ الشَّاكِّ فِي حَدَثِهِ، وَمَا أَدْرِي مِنْ أَيْنَ أَخَذُوا اشْتِرَاطَ مُسَاوَاةِ الزَّائِدِ لِغَيْرِهِ فِي الْإِحْسَاسِ وَالتَّصَرُّفِ مَعَ مَا ذَكَرْنَا وَمَعَ وُجُوبِ الِاحْتِيَاطِ فِي جَانِبِ الْعِبَادَاتِ، وَمَا فِي الْأَجْهُورِيِّ مِنْ أَنَّ الْأَصْلِيَّ لَا يُعْتَبَرُ فِيهِ إحْسَاسٌ بِنَا فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْمَسَّ بِالْيَدِ الشَّلَّاءِ لَا يَنْقُضُ، وَأَيْضًا صَرَّحَ الْأَجْهُورِيُّ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِحْسَاسِ فِي الْأَصَابِعِ الْأَصْلِيَّةِ، وَأَيْضًا اشْتِرَاطُهُمْ فِي الزَّائِدِ مُسَاوَاتَهُ لِغَيْرِهِ فِي الْإِحْسَاسِ شَاهِدُ صِدْقٍ عَلَى اشْتِرَاطِ الْإِحْسَاسِ فِي الْأَصَابِعِ الْأَصْلِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْوُضُوءِ بِمَسِّ الذَّكَرِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَأَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ عَنْ سَبْرَةَ بِنْتِ صَفْوَانَ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا مَسَّ أَحَدُكُمْ ذَكَرَهُ فَلْيَتَوَضَّأْ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: هُوَ أَصَحُّ شَيْءٍ سَمِعَتْهُ فِي هَذَا الْبَابِ وَمَا يُخَالِفُهُ ضَعِيفٌ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِنَا الْمُتَّصِلِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِضُ بِمَسِّهِ بَعْدَ قَطْعِهِ وَلَا بِمَوْضِعِ الْجَبِّ وَلَوْ الْتَذَّ وَلَا بِمَسِّ ذَكَرِ غَيْرِهِ إلَّا لِقَصْدٍ أَوْ الْتِذَاذٍ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اللَّمْسِ وَالْمَسِّ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ اللَّمْسَ مُلَاقَاةُ جِسْمٍ لِجِسْمٍ آخَرَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْقَصْدُ بِاللَّمْسِ وَالْمَسُّ مُلَاقَاةُ جِسْمٍ آخَرَ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِبَارِ، وَلِذَا عَبَّرَ فِي جَانِبِ الذَّكَرِ بِالْمَسِّ لِأَنَّ النَّقْضَ يَحْصُلُ بِمَسِّهِ وَلَوْ سَهْوًا، وَمَفْهُومُ الذَّكَرِ أَنَّهُ لَوْ مَسَّ شَيْئًا مِنْ جَسَدِهِ سَوَاءٌ لَا يَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ كَالدُّبْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِمَسِّ دُبُرٍ وَلَا أُنْثَيَيْنِ وَلَا فَرْجِ صَغِيرَةٍ وَلَا دَابَّةٍ إلَّا أَنْ يَلْتَذَّ بِمَسِّ فَرْجِهِمَا فَيَنْتَقِضُ وُضُوءُهُ، بِخِلَافِ جَسَدِهِمَا فَلَا نَقْضَ وَلَوْ الْتَذَّ بِهِ. (وَاخْتُلِفَ فِي مَسِّ الْمَرْأَةِ فَرْجَهَا فِي إيجَابِ الْوُضُوءِ) عَلَيْهَا (بِذَلِكَ) وَعَدَمِهِ عَلَى عِدَّةِ رِوَايَاتٍ: أَحَدُهَا عَدَمُ النَّقْضِ مُطْلَقًا وَهِيَ الصَّحِيحَةُ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهَا فِي الْمَذْهَبِ وَمَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَصَدَّرَ بِهَا الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَلْطَفَتْ أَمْ لَا؟ وَالتَّفْصِيلُ بَيْنَ الْإِلْطَافِ بِأَنْ تُدْخِلَ أُصْبُعَهَا بَيْنَ شَفْرَيْهَا فَيَجِبُ عَلَيْهَا الْوُضُوءُ وَعَدَمُهُ، وَرِوَايَةٌ بِاسْتِحْبَابِ الْوُضُوءِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ أَرْجَحَهَا أَوَّلُهَا. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْقِسْمَ الثَّالِثَ مِنْ مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ وَهُوَ الرِّدَّةُ وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِرِدَّةٍ وَبِشَكٍّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ إلَّا لِمُسْتَنْكِحٍ وَبِشَكٍّ فِي سَابِقِهِمَا، وَالْمُرَادُ الشَّكُّ فِي النَّاقِضِ مُطْلَقًا سَوَاءٌ كَانَ فِي حَدَثٍ أَوْ سَبَبٍ إلَّا الرِّدَّةَ فَلَا يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ بِالشَّكِّ فِيهِمَا، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَرْتَدُّ بِالشَّكِّ فِي الِارْتِدَادِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الِارْتِدَادِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ شَرَعَ فِي مُوجِبَاتِ الْغُسْلِ وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: خُرُوجُ الْمَنِيِّ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ، وَانْقِطَاعُ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالْمَوْتُ. وَقَدَّمَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا خُرُوجَ الْمَنِيِّ فَقَالَ: (وَيَجِبُ الطُّهْرُ) أَيْ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى جَمْعِ الْجَسَدِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الدَّلْكِ (مِمَّا ذَكَرْنَا) أَوَّلَ الْبَابِ وَأَعَادَهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ خُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ لِلَّذَّةِ) الْمُعْتَادَةِ فَلَا يَجِبُ الْغُسْلُ لِخُرُوجِهِ بِلَا لَذَّةٍ بِأَنْ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ، أَوْ لَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ كَمَنْ لَدَغَتْهُ عَقْرَبٌ فَأَمْنَى أَوْ ضُرِبَ فَأَمْنَى أَوْ هَزَّتْهُ دَابَّةٌ أَوْ نَزَلَ فِي مَاءٍ حَارٍّ أَوْ حَكَّ جَسَدَهُ لِنَحْوِ جَرَبٍ فَأَمْنَى فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يُحِسَّ بِمَبَادِئِ اللَّذَّةِ وَيَسْتَدِيمُهَا بِهَزِّ الدَّابَّةِ أَوْ بِمَا بَعْدَهَا فَيُمْنِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، وَمَا لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ قَدْ يُوجِبُ الْوُضُوءَ سَوَاءٌ حَصَلَ (فِي نَوْمٍ أَوْ يَقِظَةٍ) وَسَوَاءٌ خَرَجَ (مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ) وَلَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الْخُرُوجِ لِلَّذَّةِ، فَلَوْ الْتَذَّ بِتَفَكُّرٍ أَوْ نَظَرٍ ثُمَّ ذَهَبَتْ لَذَّتُهُ وَأَمْنَى بَعْدَ ذَهَابِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَلَوْ كَانَ اغْتَسَلَ بَعْدَ اللَّذَّةِ لِأَنَّ غُسْلَهُ لَمْ يَقَعْ فِي مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ فِي مُطِيقَةٍ وَلَمْ يُنْزِلْ ثُمَّ اغْتَسَلَ بَعْدَ اغْتِسَالِهِ أَمْنَى فَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الْغُسْلِ لِأَنَّ غُسْلَهُ الْأَوَّلَ وَقَعَ فِي مَحَلِّهِ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ إعَادَةُ الْوُضُوءِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَدْ عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْغُسْلُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ إلَّا إذَا كَانَ خُرُوجُهُ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ، وَظَاهِرَةٍ وَلَوْ خَرَجَ فِي نَوْمٍ كَمَا يُوهِمُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي نَوْمٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ اشْتِرَاطُ اللَّذَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْخَارِجِ يَقَظَةً، وَأَمَّا مَا خَرَجَ فِي النَّوْمِ فَالشَّرْطُ وُجُودُ الْبَلَلِ، وَلَوْ ظَنَّ أَوْ شَكَّ أَنَّهُ مَنِيٌّ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ شَكَّ أَمَذْيٌ أَمْ مَنِيٌّ اغْتَسَلَ، وَلِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: شَكُّ الْجَنَابَةِ كَتَحَقُّقِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 الْحَيْضَةِ أَوْ الِاسْتِحَاضَةِ أَوْ دَمِ النِّفَاسِ أَوْ بِمَغِيبِ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ. وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ يُوجِبُ   [الفواكه الدواني] وَأَحْرَى لَوْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ مَنِيٌّ، وَلَوْ رَأَى فِي نَوْمِهِ أَنَّهُ يُضْرَبُ فَخَرَجَ مَنِيُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ. الثَّانِي: مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَيَجِبُ الطُّهْرُ مِنْ خُرُوجِ الْمَاءِ الدَّافِقِ لِلَّذَّةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ غُسْلٌ بِدُخُولِ مَنِيٍّ فِي فَرْجِهَا مِنْ غَيْرِ خُرُوجِ مَنِيِّهَا وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِمَنِيٍّ وَصَلَ لِلْفَرْجِ وَلَوْ الْتَذَّتْ، أَيْ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ تُنْزِلَ أَوْ تَحْمِلَ حَيْثُ كَانَ خُرُوجُهُ لِجِمَاعِهَا فِي غَيْرِ فَرْجِهَا، وَأَمَّا لَوْ أَخَذَتْهُ مِنْ الْأَرْضِ وَوَضَعَتْهُ فِي فَرْجِهَا أَوْ جَلَسَتْ عَلَيْهِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا بِدُخُولِهِ وَلَوْ حَمَلَتْ. قَالَ الْأَجْهُورِيُّ: لِأَنَّ اللَّذَّةَ هُنَا غَيْرُ مُعْتَادَةٍ وَيَلْحَقُ الْوَلَدُ بِزَوْجِهَا وَلَوْ عُلِمَ أَنَّ الْمَنِيَّ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّ وَجْهُهُ أَنَّ خُرُوجَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ سَاحَقَتْ امْرَأَةٌ غَيْرَهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْغُسْلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ بِخُرُوجِ مَنِيِّهَا لِأَنَّ خُرُوجَ مَنِيِّ كُلٍّ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ (أَوْ) أَيْ يَجِبُ الطُّهْرُ مِنْ (انْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ) وَهُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ بِنَفْسِهِ مِنْ قُبُلِ مَنْ تَحْمِلُ عَادَةً وَإِنْ دَفْعَةً وَمِثْلُهُ الصُّفْرَةُ وَالْكُدْرَةُ كَمَا يَأْتِي. (أَوْ) انْقِطَاعِ دَمِ (الِاسْتِحَاضَةِ) وَهُوَ الْخَارِجُ زِيَادَةً عَلَى أَيَّامِ عَادَتِهَا أَيْ وَاسْتِطْهَارِهَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ مِنْ انْقِطَاعِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إذَا لَمْ تَكُنْ اغْتَسَلَتْ عِنْدَ تَمَامِ عَادَتِهَا أَوْ وَاسْتِطْهَارِهَا، وَإِلَّا كَانَ اغْتِسَالُهَا لِانْقِطَاعِ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ مُسْتَحَبًّا فَقَطْ عَلَى مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: لَا بِالِاسْتِحَاضَةِ وَنَدَبَ لِانْقِطَاعِهِ وَهَذَا أَوْلَى مَا يُقَرَّرُ بِهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ عَلَى الرَّاجِحِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَاجِبٌ صِنَاعَةً (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا، وَلَوْ كَانَتْ اسْتَعْجَلَتْ خُرُوجَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ خَرَجَ مِمَّنْ تَحْمِلُ عَادَةً وَإِنْ لَمْ تُنْقَضْ بِهِ الْعِدَّةُ كَمَا قَالَ الْمَنُوفِيُّ لِأَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ بِنَفْسِهِ، وَتَوَقَّفَ فِي بَابِ الْعِبَادَاتِ وَاسْتَظْهَرَ تِلْمِيذُهُ خَلِيلٌ عَدَمَ تَرْكِهَا الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ، وَقَالَ الْأَجْهُورِيُّ: الْأَظْهَرُ أَنَّهَا تَتْرُكُهُمَا مُدَّةَ الدَّمِ وَتَقْضِيهِمَا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ، وَيُكْرَهُ لَهَا الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ بِخِلَافِ مَا لَوْ تَأَخَّرَ عَنْ عَادَتِهِ فَعَالَجَتْهُ لِيَخْرُجَ فِي زَمَنِهِ فَلَا شَكَّ فِي كَوْنِهِ حَيْضًا فِي بَابِ الْعِدَّةِ وَالْعِبَادَةِ وَجَوَازِ إقْدَامِهَا عَلَى ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ اسْتَعْمَلَتْ دَوَاءً لِقَطْعِهِ أَصْلًا فَلَا يَجُوزُ لَهَا حَيْثُ كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ قَطْعُ النَّسْلِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ اسْتِعْمَالُ مَا يَقْطَعُ نَسْلَهُ أَوْ يُقَلِّلَهُ (أَوْ) أَيْ وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ الطُّهْرُ مِنْ انْقِطَاعِ (دَمِ النِّفَاس) بِكَسْرِ النُّونِ وَهُوَ لُغَةً وِلَادَةُ الْمَرْأَةِ، وَاصْطِلَاحًا دَمٌ خَرَجَ لِلْوِلَادَةِ بَعْدَهَا اتِّفَاقًا أَوْ مَعَهَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ أَوْ قَبْلَهَا لِأَجْلِهَا عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ وَالرَّاجِحُ أَنَّهُ حَيْضٌ. (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ نَفْسَ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لَيْسَا بِمُوجِبَيْنِ لِلْغُسْلِ، وَإِنَّمَا الْمُوجِبُ انْقِطَاعُهُمَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُمَا مُوجِبَانِ وَانْقِطَاعُهُمَا شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْغُسْلِ. (أَوْ) أَيْ وَيَجِبُ الْغُسْلُ (بِمَغِيبِ) جَمِيعِ (الْحَشَفَةِ) مِنْ بَالِغٍ وَلَوْ غَيْرَ مُنْتَشِرَةٍ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ كَثِيفٍ، وَالْمُرَادُ بِالْحَشَفَةِ الْكَمَرَةُ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَهِيَ رَأْسُ الذَّكَرِ عَلَى صَاحِبِهَا حَيْثُ غَيَّبَهَا (فِي الْفَرْجِ) لَا فِي هَوَاهُ وَلَوْ كَانَ فَرْجَ آدَمِيَّةٍ أَوْ بَهِيمَةٍ مُطِيقَةٍ وَسَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتُ الْفَرْجِ حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً، وَمِثْلُ الْفَرْجِ الدُّبُرُ بِجَامِعِ اسْتِطْلَاقِ الْمَنِيِّ، وَتَغَيُّبُ قَدْرِ الْحَشَفَةِ مِنْ مَقْطُوعِهَا كَالْحَشَفَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ لَا مَا دُونَهَا إلَّا أَنْ يُنْزِلَ فَيَجِبُ لِلْإِنْزَالِ، وَالْغُسْلُ يَجِبُ عَلَى الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ أَيْضًا حَيْثُ كَانَا بَالِغَيْنِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الْغُسْلُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ فِي دُبُرِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى الْفَاعِلِ فِي الْحَدِّ وَالْغُسْلُ أَحْرَى وَإِنْ كَانَا صَبِيَّيْنِ لَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا، وَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ بَالِغًا وَجَبَ عَلَيْهِ دُونَ الْمَفْعُولِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنْ يُنْزِلَ الْمَفْعُولُ فَالْغُسْلُ عَلَيْهِ لِلْإِنْزَالِ، وَكَذَا لَوْ غَيَّبَ بَعْضَهَا وَلَوْ الثُّلُثَيْنِ فَلَا غُسْلَ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ إنْزَالٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ كَانَتْ الْحَشَفَةُ مِنْ خُنْثَى مُشْكِلٍ بَلَغَ بِالسِّنِّ أَوْ الْإِنْبَاتِ كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ وَلَوْ كَانَ فَرْجَ خُنْثَى مُشْكِلٍ أَيْضًا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَوْلُنَا مِنْ بَالِغٍ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ كَانَ الْمُغَيِّبُ حَشَفَتَهُ صَبِيًّا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْغُسْلُ فَقَطْ حَيْثُ بَلَغَ سَنَّ مِنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَأَوْلَى الْمُرَاهِقُ حَيْثُ وَطِئَ مُطِيقَةً، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ فَإِنْ أُمِرَتْ بِالصَّلَاةِ وَوَطِئَهَا بَالِغٌ اُسْتُحِبَّ الْغُسْلُ وَإِلَّا فَلَا، كَمَا لَا يَجِبُ وَلَا يُسْتَحَبُّ الْغُسْلُ لِكَبِيرَةٍ وَطِئَهَا غَيْرُ الْبَالِغِ وَلَمْ تُنْزِلْ وَلَوْ مُرَاهِقًا عَلَى مَا بَحَثَهُ الْأَجْهُورِيُّ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُنْدَبُ لَهَا، وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ مِنْ نَدْبِ غُسْلِ الصَّغِيرَةِ مِنْ وَطْءِ الْبَالِغِ وَحَرَّرَهُ، وَقَوْلُنَا: وَلَوْ كَانَتْ صَاحِبَةُ الْفَرْجِ مَيِّتَةً صَحِيحٌ بِخِلَافِ الْحَشَفَةِ مِنْ مَيِّتٍ فَلَا غُسْلَ عَلَى مَنْ غَيَّبَتْ، فَإِذَا غَيَّبَتْ امْرَأَةٌ حَشَفَةَ دَابَّةٍ مَيِّتَةٍ فِي فَرْجِهَا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهَا إلَّا أَنْ تُنْزِلَ الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْآدَمِيِّ إذَا غَيَّبَ حَشَفَتَهُ فِي إنْسِيَّةٍ أَوْ دَابَّةٍ وَسَكَتَ عَنْ الْجِنِّيِّ إذَا غَيَّبَ حَشَفَتَهُ فِي إنْسِيَّةٍ أَوْ دَابَّةٍ وَالْإِنْسِيُّ إذَا غَيَّبَ حَشَفَتَهُ فِي جِنِّيَّةٍ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَكْلِيفِ الْجِنِّ أَنَّ الْجِنِّيَّ إذَا غَيَّبَ حَشَفَتَهُ وَلَوْ فِي إنْسِيَّةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْغُسْلُ، بِخِلَافِ الْإِنْسِيِّ يَرَى نَفْسَهُ يَطَأُ جِنِّيَّةً أَوْ تَرَى الْإِنْسِيَّةُ جِنِّيًّا يَطَؤُهَا فَلَا غُسْلَ عَلَى كُلٍّ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 الْغُسْلَ وَيُوجِبُ الْحَدَّ وَيُوجِبُ الصَّدَاقَ وَيُحْصِنُ الزَّوْجَيْنِ وَيُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا لِلَّذِي طَلَّقَهَا وَيُفْسِدُ الْحَجَّ وَيُفْسِدُ الصَّوْمَ. وَإِذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ الْقَصَّةَ الْبَيْضَاءَ تَطَهَّرَتْ وَكَذَلِكَ إذَا رَأَتْ الْجُفُوفَ تَطَهَّرَتْ مَكَانَهَا رَأَتْهُ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ   [الفواكه الدواني] وَاسْتَظْهَرَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ وُجُوبَ الْغُسْلِ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا قِيَاسًا عَلَى الشَّكِّ فِي الْحَدَثِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا إنْزَالَ أَوْ تَكُونُ الْجِنِّيَّةُ زَوْجَةً لِلْإِنْسِيِّ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ الْغُسْلِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ الثَّالِثُ: قَدْ شَرَطْنَا فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ عَلَى مَنْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ إطَاقَةَ الْمَفْعُولِ الْآدَمِيِّ، وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي الدَّابَّةِ وَاسْتَظْهَرَ عَدَمَ الِاعْتِبَارِ مِنْ إطْلَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ اعْتِبَارُهُ بِالْأَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِهِ فِي الْآدَمِيِّ لِأَنَّ الشَّأْنَ فِي الْبَهِيمَةِ عَدَمُ مِيلِ النُّفُوسِ إلَيْهَا بِخِلَافِ الْآدَمِيِّ وَهَذَا مِمَّا لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، وَصَرَّحَ الْأَجْهُورِيُّ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ حَشَفَةَ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لَا يُعْتَبَرُ فِيهَا الْبُلُوغُ، وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ الْمُدْخَلَ فِيهِ مُطِيقًا وَلَوْ آدَمِيًّا، وَأَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ بُلُوغِ صَاحِبِ الْحَشَفَةِ مِنْ غَيْرِ الْآدَمِيِّ شِدَّةُ الْمِيلِ إلَيْهَا لِكِبَرِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، بِخِلَافِ الْمَفْعُولِ بِهَا لَا يُمْكِنُ الِالْتِذَاذُ بِهَا إلَّا عِنْدَ إطَاقَتِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْمُوجِبُ لِلْغُسْلِ مُجَرَّدَ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ بِشَرْطِهِ قَالَ: (وَإِنْ لَمْ يُنْزِلْ) لِحَدِيثِ: «إذَا الْتَقَى الْخِتَانَانِ فَقَدْ وَجَبَ الْغُسْلُ» وَحَدِيثُ: «إنَّمَا الْمَاءُ مِنْ الْمَاءِ» مَحْمُولٌ عَلَى النَّوْمِ فَمَنْ رَأَى فِي نَوْمِهِ أَنَّهُ غَيَّبَ ثُمَّ انْتَبَهَ فَلَمْ يَجِدْ بَلَلًا فَلَا غُسْلَ عَلَيْهِ إجْمَاعًا، ثُمَّ أَعَادَ قَوْلَهُ: (وَمَغِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْفَرْجِ يُوجِبُ الْغُسْلَ) لِيَتَرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَيُوجِبُ الْحَدَّ) عَلَى الزَّانِي الطَّائِعِ اتِّفَاقًا وَالْمُكْرَهِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَيُوجِبُ حَدَّ اللِّوَاطِ عَلَى اللَّائِطِ بِشُرُوطِهِ الْآتِيَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللِّوَاطَ هُوَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي دُبُرِ الذَّكَرِ وَحَدُّهُ الرَّجْمُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي دُبُرِ الْأُنْثَى غَيْرِ زَوْجَتِهِ فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ الزِّنَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُحْصَنًا فَيُرْجَمُ، وَأَمَّا فِي دُبُرِ زَوْجَتِهِ فَيُؤَدَّبُ (وَيُوجِبُ الصَّدَاقَ) عَلَى الزَّوْجِ الْبَالِغِ فِي زَوْجَتِهِ الْمُطِيقَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ انْتِشَارٍ وَلَوْ فِي دُبُرِهَا أَوْ فِي زَمَنِ حَيْضِهَا. قَالَ خَلِيلٌ وَتَقَرَّرَ بِوَطْءٍ وَإِنْ حُرِّمَ وَكَذَا أَيْ يُوجِبُ الصَّدَاقَ عَلَى الْوَاطِئِ الْغَالِطِ بِغَيْرِ الْعَالِمَةِ، وَكَذَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِوَطْءِ أَجْنَبِيَّةٍ حَيْثُ لَا عِلْمَ عِنْدَهَا أَوْ أَكْرَهَهَا، وَأَمَّا لَوْ وَطِئَ عَالِمَةً طَائِعَةً فَهِيَ زَانِيَةٌ لَا صَدَاقَ لَهَا. (وَ) مِمَّا يُوجِبُهُ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ أَنَّهُ (يُحْصِنُ الزَّوْجَيْنِ) الْحُرَّيْنِ الْمُسْلِمَيْنِ الْعَاقِلَيْنِ الْبَالِغَيْنِ إنْ صَحَّ نِكَاحُهُمَا اللَّازِمُ حَيْثُ كَانَ وَطْؤُهُمَا مُبَاحًا مَعَ انْتِشَارٍ. (وَيُحِلُّ الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا) أَوْ اثْنَتَيْنِ (لِلَّذِي طَلَّقَهَا) حُرًّا فِي الْأُولَى أَوْ رَقِيقًا فِي الثَّانِيَةِ بِشَرْطِ الِانْتِشَارِ مَعَ بَقِيَّةِ شُرُوطِ التَّحْلِيلِ الْآتِيَةِ فِي مَحَلِّهَا. (وَيُفْسِدُ) عَلَى الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ عُمْرَتَهُ الَّتِي لَمْ يَسْتَكْمِلْ أَرْكَانَهَا، وَكَذَا (الْحَجُّ) إنْ وَقَعَ الْوَطْءُ قَبْلَ الْوُقُوفِ مُطْلَقًا أَوْ بَعْدَهُ إنْ وَقَعَ بَعْدَ إفَاضَةٍ وَعَقَبَةِ يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُ. (وَيُفْسِدُ) مَغِيبُ الْحَشَفَةِ سَائِرَ أَنْوَاعِ (الصَّوْمِ) مِنْ فَرْضٍ أَوْ تَطَوُّعٍ وَلَوْ وَقَعَ عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ فِي عَمْدِهِ بِرَمَضَانَ الْحَاضِرِ أَوْ الْقَضَاءُ فَقَطْ فِي غَيْرِهِ وَلَوْ تَطَوُّعًا هَذَا مَعَ الْعَمْدِ، وَأَمَّا مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا قَضَاءَ إلَّا فِي الْفَرْضِ عَلَى طَرِيقِ خَلِيلٍ وَلَفْظُهُ: وَقَضَاءٌ فِي الْفَرْضِ مُطْلَقًا وَفِي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الْحَرَامِ وَلَوْ بِطَلَاقٍ بَتٍّ إلَّا لِوَجْهٍ كَوَالِدٍ وَشَيْخٍ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْحَيْضَ وَالنِّفَاسَ يُوجِبَانِ الْغُسْلَ وَلَكِنْ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ انْقِطَاعِهِمَا، شَرَعَ فِي بَيَانِ عَلَامَةِ الِانْقِطَاعِ فَقَالَ: (وَإِذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ) الْحَائِضُ (الْقَصَّةَ) بِفَتْحِ الْقَافِ (الْبَيْضَاءَ) أَيْ الْمَاءَ الْأَبْيَضَ الَّذِي يَخْرُجُ آخِرَ الْحَيْضِ كَالْجِيرِ، لِأَنَّ الْقَصَّةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْقَصِّ وَهُوَ الْجِيرُ، وَقِيلَ الْقَصَّةَ مَا يُشْبِهُ الْعَجِينَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ (تَطَهَّرَتْ) جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ إنْ رَأَتْ الْقَصَّةَ عِنْدَ وَقْتِ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ. (وَكَذَا إذَا رَأَتْ الْجُفُوفَ) وَهُوَ عَلَامَةٌ ثَانِيَةٌ لِلطُّهْرِ وَمَعْنَاهُ: أَنْ تُدْخِلَ الْمَرْأَةُ خِرْقَةً فِي فَرْجِهَا فَتَخْرُجُ جَافَّةً لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّمِ، وَلَا يَضُرُّ بَلَلُهَا بِغَيْرِ الدَّمِ كَرُطُوبَةِ الْفَرْجِ إذْ لَا يَخْلُو عَنْهَا غَالِبًا. (تَطَهَّرَتْ) أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا الِاغْتِسَالُ (مَكَانَهَا) إنْ ضَاقَ وَقْتُ الصَّلَاةِ الَّتِي رَأَتْ عَلَامَاتِ الطُّهْرِ فِي وَقْتِهَا أَوْ طَلَبَ زَوْجُهَا مُوَاقَعَتَهَا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَلَوْ دَعَاهَا أَبَوَاهَا أَوْ أَحَدُهُمَا إلَى مَا يُوجِبُ تَأْخِيرَ غُسْلِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا بِرُّ زَوْجَهَا قَبْلَ بِرِّ أَبَوَيْهَا، لِأَنَّ حَقَّ زَوْجِهَا أَوْكَدُ عَلَيْهَا فَتُقَدِّمُهُ عَلَى حَقِّهِمَا لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، كَمَا تُقَدِّمُ الْغُسْلَ عَلَى سَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا فِعْلُهُ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ كَقَضَاءِ الدَّيْنِ وَرَدِّ الْوَدِيعَةِ مَثَلًا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِوَاءُ الْعَلَامَتَيْنِ فِي حَقِّ الْمُعْتَادَةِ وَالْمُبْتَدَأَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْقَصَّةُ أَبْلَغُ، فَكُلُّ مَنْ رَأَتْهَا تَتَطَهَّرُ سَرِيعًا وَلَا تَنْتَظِرُ الْجُفُوفَ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا وَلَوْ اعْتَادَتْهُ، وَأَمَّا مَنْ رَأَتْ الْجُفُوفَ أَوَّلًا فَإِنْ كَانَتْ مُعْتَادَةَ الْقَصَّةِ أَوْ هِيَ وَالْجُفُوفِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهَا انْتِظَارُ الْقَصَّةِ لِآخِرِ الْمُخْتَارِ، وَأَمَّا مُعْتَادَةُ الْجُفُوفِ فَقَطْ إذَا أَتَاهَا فَلَا يُنْدَبُ لَهَا انْتِظَارُهَا، وَأَمَّا الْمُبْتَدَأَةُ فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تَطْهُرُ بِكُلٍّ مِنْهُمَا. الثَّانِي: لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَبْحَثَ عَنْ عَلَامَةِ الطُّهْرِ إذَا تَوَهَّمَتْ انْقِطَاعَ حَيْضِهَا إلَّا عِنْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 سَاعَةٍ ثُمَّ إنْ عَاوَدَهَا دَمٌ أَوْ رَأَتْ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً تَرَكَتْ الصَّلَاةَ ثُمَّ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ لِدَمٍ وَاحِدٍ فِي الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ حَتَّى يَبْعُدَ مَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ مِثْلُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشَرَةٍ فَيَكُونُ حَيْضًا مُؤْتَنَفًا ، وَمَنْ تَمَادَى بِهَا   [الفواكه الدواني] نَوْمِهَا وَعِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ بِرُؤْيَتِهَا عِنْدَ النَّوْمِ تَعْرِفُ حُكْمَ صَلَاةِ اللَّيْلِ، وَعِنْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ تَعْرِفُ حُكْمَ صَلَاةِ النَّهَارِ، وَإِذَا رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ غُدْوَةً وَشَكَّتْ هَلْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاءُ صَلَاةِ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَحَقَّقَ أَنَّهُ انْقَطَعَ قَبْلَ الْفَجْرِ بِحَيْثُ يَبْقَى مَا يَسَعُ الطُّهْرَ وَجَمِيعَ الْأُولَى وَرَكْعَةً مِنْ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنْ تَصُومُ يَوْمَهَا إذَا كَانَ رَمَضَانَ وَتَقْضِيه، وَأَمَّا صَلَاةُ الصُّبْحِ فَإِنْ كَانَتْ رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ بِحَيْثُ تُدْرِكَ الْغُسْلَ وَرَكْعَةً قَبْلَ الطُّلُوعِ وَجَبَتْ عَلَيْهَا وَإِلَّا سَقَطَتْ، كَمَا لَوْ شَكَّتْ هَلْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ بَعْدَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَحَيْثُ وَجَبَ قَضَاءُ الصَّوْمِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الِانْقِطَاعِ فِي وَقْتِ نِيَّتِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَسُقُوطُ الصَّلَاةِ أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ الصَّلَاةَ أَدَاءً وَقَضَاءً، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَإِنَّمَا يَمْنَعُ أَدَاءً لَا قَضَاءً. وَلَمَّا كَانَتْ الْحَائِضُ تُخَاطَبُ بِالْغُسْلِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا عَلَامَةَ الطُّهْرِ قَالَ: (رَأَتْهُ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الْقَصَّةِ أَوْ الْجُفُوفِ (بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَةٍ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَائِضَ مَتَى رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ وَحَضَرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، سَوَاءٌ انْقَطَعَ الدَّمُ بَعْدَ اسْتِمْرَارِهِ نَازِلًا يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ أَوْ سَاعَةً لِأَنَّ الْحَيْضَ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ مِنْهُ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهِ فَحَدُّهُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لِمَنْ تَمَادَى بِهَا، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ فَلَهُ حَدٌّ بِاعْتِبَارِ أَقَلِّهِ وَهُوَ الْقَطْرَةُ وَلَا حَدَّ لَهُ بِاعْتِبَارِ أَكْثَرِهِ. (تَنْبِيهٌ) : هَذَا الْحُكْمُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ فَيُرْجَعُ فِي أَقَلِّهِ لِلنِّسَاءِ الْعَارِفَاتِ هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ؟ وَلَا يُكْتَفَى فِي بَابِ الْعِدَّةِ الِاسْتِبْرَاءُ بِالْقَطْرَةِ لِلْأَنْسَابِ بِخِلَافِ الْعِبَادَةِ فَإِنَّهَا لِمَحْضِ حَقِّ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ تَقَطَّعَ حَيْضُهَا: (ثُمَّ إنْ عَاوَدَهَا) أَيْ الْمَرْأَةَ الَّتِي رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ قَبْلَ تَمَامِ عَادَتِهَا (دَمٌ) وَلَوْ قَطْرَةً (أَوْ رَأَتْ صُفْرَةً أَوْ كُدْرَةً تَرَكَتْ الصَّلَاةَ) وَالصَّوْمَ وَالطَّوَافَ لِأَنَّ ذَلِكَ حَيْضٌ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَائِضَ إذَا انْقَطَعَ عَنْهَا الْحَيْضُ وَاغْتَسَلَتْ ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَ طُهْرِهَا فَإِنَّهَا تَجْعَلُهُ حَيْضًا وَتَضُمُّهُ لِمَا قَبْلَهُ سَوَاءً، لِأَنَّ النَّازِلَ فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ دَمًا خَالِصًا أَوْ صُفْرَةً وَهُوَ الدَّمُ الَّذِي يُشْبِهُ الصَّدِيدَ وَتَعْلُوهُ صُفْرَةٌ أَوْ كُدْرَةٌ بِضَمِّ الْكَافِ وَهُوَ الدَّمُ الْكُدْرِيُّ الَّذِي يُشْبِهُ غُسَالَةَ اللَّحْمِ، وَتَتْرُكُ سَائِرَ الْعِبَادَاتِ لِأَنَّهَا حَائِضٌ حَقِيقَةً (ثُمَّ انْقَطَعَ عَنْهَا) مَرَّةً ثَانِيَةً بَعْدَ مُعَاوَدَتِهِ (اغْتَسَلَتْ) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَتَغْتَسِلُ كُلَّمَا انْقَطَعَ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَأْخِيرُ الْغُسْلِ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ تَعْلَمَ بِنَحْوِ أَمَارَةٍ أَنَّهُ يُعَاوِدُهَا فِي وَقْتِهَا الَّذِي رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ فِيهِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّتِي عَاوَدَهَا الدَّمُ بَعْدَ انْقِطَاعِهِ عَلَيْهَا فِي حُكْمِ أَيَّامِ نُزُولِ الدَّمِ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ غُسْلٌ وَلَا صَلَاةٌ وَلَا صَوْمٌ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِ الْعِبَادَةِ فَهِيَ فِي حُكْمِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ) أَيْ الدَّمُ الْأَوَّلُ وَاَلَّذِي عَاوَدَهَا بَعْدَ الِانْقِطَاعِ أَقَلُّ مِنْ مُدَّةِ الطُّهْرِ تَكُونُ زَمَنَ الطُّهْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِبَادَةِ طَاهِرًا حَقِيقَةً يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ وَسَائِرُ الْعِبَادَاتِ فَلَيْسَتْ أَيَّامُ الِانْقِطَاعِ (كَدَمٍ وَاحِدٍ) مُتَّصِلٍ (فِي الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ) وَلَا نَظَرَ لِزَمَنِ الِانْقِطَاعِ بَلْ يَنْزِلُ الْفِعْلُ الْوَاقِعُ فِيهِ مَنْزِلَةَ الْوَاقِعِ فِي زَمَنِ نُزُولِ الدَّمِ، مِثَالُهُ فِي الْعِدَّةِ أَنْ تَحِيضَ الْمَرْأَةُ يَوْمًا أَوْ يَوْمَيْنِ ثُمَّ يَنْقَطِعُ وَتَغْتَسِلُ ثُمَّ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا دُونَ الثَّلَاثِ ثُمَّ يُعَاوِدُهَا الدَّمُ بِالْقُرْبِ فَيُجْبَرُ مُطَلِّقُهَا عَلَى رَجْعَتِهَا لِأَنَّهُ كَالْمُطَلِّقِ زَمَنَ سَيْلَانِ الدَّمِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَكِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ كَدَمٍ وَاحِدٍ فِي الْعِدَّةِ، وَقَالَ خَلِيلٌ فِي بَابِ طَلَاقِ السُّنَّةِ: وَمَنَعَ فِيهِ وَوَقَعَ وَأُجْبِرَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَلَوْ لِمُعَاوَدَةِ الدَّمِ لِمَا يُضَافُ فِيهِ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْأَرْجَحِ وَالضَّمِيرُ فِي فِيهِ لِلْحَيْضِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلِاسْتِبْرَاءِ فَفِيهِ إشْكَالٌ عَوِيصٌ، لِأَنَّ الْأَمَةَ الْمُسْتَبْرَأَةَ أَوْ الْمُتَوَاضِعَةَ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَتِهَا الدَّمَ تَدْخُلُ فِي ضَمَانِ مُشْتَرِيهَا، وَإِذَا طَهُرَتْ الْمُسْتَبْرَأَةُ أَوْ الْمُتَوَاضِعَةُ وَلَوْ بَعْدَ يَوْمٍ حَلَّتْ لِمُشْتَرِيهَا، وَلَوْ كَانَ الدَّمُ الثَّانِي كَجُزْءِ الْأَوَّلِ لَمْ تَحِلَّ لِمُشْتَرِيهَا بَعْدَ طُهْرِهَا مِنْ الْأَوَّلِ، وَيُجَابُ: بِأَنَّ فَائِدَةَ ذَلِكَ تَظْهَرُ فِي السَّيِّدِ إذَا أَرَادَ بَيْعَهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ إذَا انْقَطَعَ قَبْلَ حُصُولِ مَا يَكْفِي فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَهُوَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ، بَلْ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا حَتَّى يُعَاوِدَهَا وَيَمْضِيَ مَا هُوَ كَافٍ فِي الِاسْتِبْرَاءِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْعَوِيصُ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ الشَّدِيدُ الْقَوِيُّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ فِي بَابِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَعَ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ: عَوِصَ الْكَلَامُ اشْتَدَّ، وَالْعَوِيصُ مِنْ الشَّعْرِ مَا يَصْعُبُ، وَأَمَّا الْغَوِيصُ بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ فَهُوَ النَّازِلُ يُقَالُ: غَاصَ فِي الْأَرْضِ نَزَلَ فِيهَا. وَلَمَّا كَانَ جَعْلُ الدَّمِ الثَّانِي مِنْ جُمْلَةِ الْأَوَّلِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِ انْقِطَاعِ الْأَوَّلِ قَبْلَ مُضِيِّ طُهْرٍ قَالَ: (حَتَّى يَبْعُدَ مَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الدَّمُ بَلَغَتْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا ثُمَّ هِيَ مُسْتَحَاضَةٌ تَتَطَهَّرُ وَتَصُومُ وَتُصَلِّي وَيَأْتِيهَا زَوْجُهَا وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ النُّفَسَاءِ وَإِنْ كَانَ قُرْبَ الْوِلَادَةِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ وَإِنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ جَلَسَتْ سِتِّينَ لَيْلَةً ثُمَّ اغْتَسَلَتْ وَكَانَتْ مُسْتَحَاضَةً تُصَلِّي وَتَصُومُ وَتُوطَأُ.   [الفواكه الدواني] بِمُضِيِّ مُدَّةِ أَقَلِّ الطُّهْرِ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِهَا فَعِنْدَ سَحْنُونٍ (مِثْلُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أَوْ) مِثْلُ (عَشَرَةِ أَيَّامٍ) عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ، وَقِيلَ: أَقَلُّ مُدَّةِ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ، فَأَوْفَى كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لِتَنْوِيعِ الْخِلَافِ فَإِنْ بَعُدَ مَا بَيْنَ الدَّمَيْنِ (فَيَكُونُ) الثَّانِي (حَيْضًا مُؤْتَنَفًا) وَلَا يُضَمُّ لِلْأَوَّلِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْحَائِضَ يَجِبُ عَلَيْهَا الْغُسْلُ عَقِبَ انْقِطَاعِ حَيْضِهَا وَلَوْ رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ بَعْدَ خُرُوجِ الْحَيْضِ بِالْقُرْبِ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ انْقِطَاعِهِ فَقَالَ: (وَمَنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ) أَيْ اسْتَمَرَّ نَازِلًا عَلَيْهَا أَوْ انْقَطَعَ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الطُّهْرِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا أَوْ بَعْدَ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ أَوْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ عَلَى مُقَابِلِهِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ ثُمَّ عَاوَدَهَا وَهِيَ غَيْرُ حَامِلٍ (بَلَغَتْ) جَوَابُ الشَّرْطِ أَيْ مَكَثَتْ تَارِكَةً لِلْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ حَيْثُ اسْتَمَرَّ نَازِلًا (خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) حَيْثُ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا. (ثُمَّ هِيَ) أَيْ الَّتِي اسْتَمَرَّ الدَّمُ نَازِلًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى الْخَمْسَةِ عَشَرَ يَوْمًا (مُسْتَحَاضَةٌ) أَيْ لَا تَعُدُّ الْخَارِجَ مِنْهَا حَيْضًا لِأَنَّ أَكْثَرَ الْحَيْضِ زَمَنًا خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، وَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تَتَطَهَّرَ) عِنْدَ تَمَامِ الْخَمْسَةِ عَشَرَ يَوْمًا (وَتَصُومَ وَتُصَلِّيَ وَيَأْتِيهَا) أَيْ يَسْتَمْتِعُ بِهَا (زَوْجُهَا) وَلَوْ بِالْوَطْءِ لِأَنَّ الْمُسْتَحَاضَةَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ حَقِيقَةً عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيَصِيرُ هَذَا الدَّمُ كَالسَّلَسِ لَا يُوجِبُ الْغُسْلَ وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَقَطْ إنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَوْ قَدَرَتْ عَلَى رَفْعِهِ إلَّا أَنْ تُمَيِّزَ بَعْدَ مُدَّةِ الطُّهْرِ وَإِلَّا كَانَ حَيْضًا. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَالْمُمَيِّزَةِ بَعْدَ طُهْرٍ ثُمَّ حَيْضٍ: وَلَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا أَنْ يَدُومَ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي مَيَّزَتْهَا وَيَزِيدَ عَلَى عَادَتِهَا فَتَسْتَظْهِرُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَفَرَضْنَا الْكَلَامَ فِي الْمُبْتَدَأَةِ أَوْ مُعْتَادَةِ الْخَمْسَةَ عَشَرَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مُعْتَادَةِ أَقَلَّ مِنْهَا يَسْتَمِرُّ الدَّمُ نَازِلًا عَلَيْهَا زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمُعْتَادَةِ ثَلَاثَةً اسْتِظْهَارٌ عَلَى أَكْثَرِ عَادَتِهَا مَا لَمْ تُجَاوِزْهُ ثُمَّ هِيَ طَاهِرٌ، فَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَمَرَّ نَازِلًا فَإِنَّهَا تَغْتَسِلُ بَعْدَ سِتَّةِ أَيَّامٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهُ اثْنَيْ عَشَرَ يَوْمًا اسْتَظْهَرَتْ بِثَلَاثَةٍ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ عَادَتُهَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ اسْتَظْهَرَتْ بِيَوْمٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ عَادَتُهَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ ثُمَّ زَادَ فَإِنَّهَا تَسْتَظْهِرُ عَلَى الْأَكْثَرِ مِنْ الْعَادَتَيْنِ زَمَنًا لَا وُقُوعًا، سَوَاءٌ كَانَ الْأَكْثَرُ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، وَمُدَّةُ الِاسْتِظْهَارِ تَصِيرُ مِنْ جُمْلَةِ الْعَادَةِ لِأَنَّ الْعَادَةَ تَثْبُتُ بِمَرَّةٍ (تَنْبِيهٌ) : قَيَّدْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِغَيْرِ الْحَامِلِ، لِأَنَّ الْحَامِلَ تَحِيضُ وَتَزِيدُ أَيَّامُ حَيْضُهَا عَلَى ذَلِكَ بِحَسَبِ كِبَرِ الْحَمْلِ وَصِغَرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي السَّابِعِ فَمَا بَعْدَهُ إلَى غَايَةِ حَمْلِهَا فَإِنَّهُ إنْ اسْتَمَرَّ نَازِلًا عَلَيْهَا تَمْكُثُ عَشْر يَوْمًا وَنَحْوَهَا كَالثَّلَاثِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الثَّالِثِ أَوْ السَّادِسِ وَمَا بَيْنَهُمَا تَمْكُثُ عِشْرِينَ، وَإِنْ كَانَتْ فِي الشَّهْرِ الْأَوَّلِ أَوْ الثَّانِي فَقَوْلَانِ الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا أَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْحَامِلِ، وَلَا تَسْتَظْهِرُ الْحَامِلُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْأُجْهُورِيُّ . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الْحَيْضِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ النِّفَاسِ وَهُوَ لُغَةً وِلَادَةُ الْمَرْأَةِ وَشَرْعًا دَمٌ أَوْ صُفْرَةٌ أَوْ كُدْرَةٌ يَخْرُجُ لِلْوِلَادَةِ بَعْدَهَا أَوْ مَعَهَا أَوْ قَبْلَهَا عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ فَقَالَ: (وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ النُّفَسَاءِ) بِالْمَدِّ وَهِيَ الْمَرْأَةُ الَّتِي وَلَدَتْ ثُمَّ رَأَتْ الْقَصَّةَ أَوْ الْجُفُوفَ عَقِبَ الدَّمِ (وَإِنْ كَانَ) انْقِطَاعُهُ (قُرْبَ الْوِلَادَةِ اغْتَسَلَتْ وَصَلَّتْ) لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّ زَمَنِهِ كَالْحَيْضِ، وَإِنْ كَانَ لِأَقَلِّهِ حَدٌّ بِاعْتِبَارِ الْخَارِجِ وَهُوَ قَطْرَةٌ كَالْحَيْضِ أَيْضًا. (وَ) مَفْهُومُ انْقَطَعَ (إنْ تَمَادَى بِهَا الدَّمُ حَسَبَتْ سِتِّينَ لَيْلَةً) بِأَيَّامِهَا لِأَنَّهَا أَكْثَرُ مُدَّةِ النِّفَاسِ. (ثُمَّ) إنْ اسْتَمَرَّ نَازِلًا عَلَيْهَا (اغْتَسَلَتْ وَكَانَتْ) أَيْ وَصَارَتْ (مُسْتَحَاضَةً تَصُومُ وَتُصَلِّي وَتُوطَأُ) وَلَا تُبَالِي بِهَذَا الْخَارِجِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ كَالسَّلَسِ وَلَا تَسْتَظْهِرُ النُّفَسَاءُ، وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ النِّفَاسِ فَإِنَّهَا تُلَفِّقُ السِّتِّينَ يَوْمًا سَوَاءٌ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً أَوْ مُعْتَادَةً، بِخِلَافِ الْحَائِضِ إنَّمَا تُلَفِّقُ عَادَتِهَا فَقَطْ وَتَسْتَظْهِرُ وَإِنْ كَانَتْ مُبْتَدَأَةً تُلَفِّقُ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، وَإِذَا وَلَدَتْ وَلَدَيْنِ فَإِنْ وَضَعَتْ الثَّانِيَ دَاخِلَ السِّتِّينَ وَقَبْلَ تَمَامِ طُهْرٍ فَلَهُمَا نِفَاسٌ وَاحِدٌ تَغْتَسِلُ بَعْدَ السِّتِّينَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ وَضَعَ الثَّانِيَ عَنْ السِّتِّينَ أَوْ مَضَتْ مُدَّةُ الطُّهْرِ فَلِكُلِّ نِفَاسٍ مُسْتَقِلٍّ، وَمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ إذَا تَقَطَّعَ نِفَاسُهَا تُلَفِّقُ سِتِّينَ يَوْمًا كَمَا تُلَفِّق الْحَائِضُ الْمُبْتَدَأَةُ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا وَالْمُعْتَادَةُ عَادَتَهَا فَمُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونُ بَيْنَ الدَّمَيْنِ طُهْرٌ تَامٌّ وَإِلَّا كَانَ الثَّانِي نِفَاسًا مُؤْتَنَفًا (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِذَا انْقَطَعَ دَمُ النُّفَسَاءِ إلَخْ أَنَّ مَا يَحْصُلُ مِنْ النُّفَسَاءِ مِنْ تَأْخِيرِ الْغُسْلِ مَعَ انْقِطَاعِ الدَّمِ لِتَمَامِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا. مُخَالِفٌ لِلشَّرْعِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: وَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُنَّ فَلْيُعَلَّمْنَ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِنَّ هَذَا التَّأْخِيرُ، وَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ قَضَاءُ الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ الِانْقِطَاعِ الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: لَوْ وَلَدَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ غَيْرِ دَمٍ لَا غُسْلَ، عَلَيْهَا لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] شَرَطَ فِي غُسْلِ النُّفَسَاءِ انْقِطَاعَ دَمِهَا فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا وَلَدَتْ بِدَمٍ وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ قَوْلَيْنِ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا وُجُوبُ الْغُسْلِ وَتَنْوِي الطُّهْرَ مِنْ الْوِلَادَةِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) : الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ يَمْنَعَانِ مَسَّ الْمُصْحَفِ وَدُخُولَ الْمَسْجِدِ وَرَفْعَ الْحَدَثِ وَالصَّوْمَ وَالصَّلَاةَ وَوُجُوبَهُمَا وَقَضَاءَ الصَّوْمِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ، وَيَمْنَعَانِ الطَّلَاقَ وَإِنْ وَقَعَ، وَيَمْنَعَانِ إبَاحَةَ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَرْأَةِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ الْوَطْءِ وَلَوْ بِحَائِلٍ، وَأَمَّا بِالرُّكْبَةِ فَمَا تَحْتَهَا أَوْ السُّرَّةِ وَمَا فَوْقَهَا فَلَا حُرْمَةَ وَلَوْ بِالْوَطْءِ، وَأَمَّا بِالنَّظَرِ فَجَائِزٌ وَلَوْ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَغَايَةُ الْحُرْمَةِ حَتَّى تَطْهُرَ بِالْمَاءِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ فَلَا يَمْنَعَانِهَا مُدَّةَ السَّيْلَانِ مُطْلَقًا وَكَذَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا جَنَابَةٌ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مُوجِبَاتِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى وَالْكُبْرَى: شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَحْصُلُ بِهِ الطَّهَارَةُ وَمَا يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 [أَحْكَامِ النِّفَاسِ] بَابُ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَالْبُقْعَةِ وَمَا يُجْزِئُ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ وَالْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَهَّبَ لِذَلِكَ بِالْوُضُوءِ أَوْ الطُّهْرِ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطُّهْرُ وَيَكُونُ ذَلِكَ بِمَاءٍ طَاهِرٍ   [الفواكه الدواني] [بَاب طَهَارَة الْمَاء وَالثَّوْب وَالْبُقْعَة وَمَا يُجْزِئ مِنْ اللِّبَاس فِي الصَّلَاة] بَابٌ فِي بَيَانِ طَهَارَةِ الْمَاءِ هَذَا مِنْ إضَافَةِ الصِّفَةِ إلَى الْمَوْصُوفِ أَيْ الْمَاءِ الطَّاهِرِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ الطَّهُورِيَّةُ بَدَلَ طَهَارَةِ، لِأَنَّ مَقْصُودَهُ بَيَانُ مَا يُرْفَعُ بِهِ الْحَدَثُ وَحُكْمُ الْخَبَثِ وَهُوَ الطَّهُورُ وَيُرَادِفُهُ الْمُطْلَقُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الطَّهُورِ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا عَبَّرَ بِطَهَارَةِ لِأَجْلِ الْمَعَاطِيفِ، لِأَنَّ الثَّوْبَ وَالْمَكَانَ إنَّمَا يُوصَفَانِ بِالطَّهَارَةِ، لِأَنَّ الطَّهُورِيَّةَ مِنْ أَوْصَافِ الْمَاءِ فَقَطْ، وَحَقِيقَةُ الْمُطْلَقِ مَا صَدَقَ عَلَيْهِ اسْمُ مَاءٍ بِلَا قَيْدٍ أَوْ تَقَوُّلٍ هُوَ الْبَاقِي عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ غَيْرُ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا حَيَوَانٍ. (وَ) فِي بَيَانِ طَهَارَةِ (الثَّوْبِ) وَهُوَ مَحْمُولُ الْمُصَلِّي (وَ) فِي بَيَانِ طَهَارَةِ (الْبُقْعَةِ) وَهِيَ مَحَلُّ قِيَامِ الْمُصَلِّي وَسُجُودِهِ أَوْ مَا تَمَاسُّهُ أَعْضَاؤُهُ. (وَ) فِي بَيَانِ (مَا يُجْزِئُ) مُرِيدَ الصَّلَاةِ (مِنْ اللِّبَاسِ) وَقَوْلُهُ: (فِي الصَّلَاةِ) رَاجِعٌ لِجَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ، وَجَمَعَ مَعَ طَهَارَةِ الْمَاءِ الثَّوْبَ وَالْبُقْعَةَ لِاحْتِيَاجِ الْمُصَلِّي إلَى الْجَمِيعِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ بَدَنَ الْمُصَلِّي وَلَعَلَّهُ إنَّمَا تَرَكَهُ لِفَهْمِهِ مِنْ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الثَّوْبِ وَالْبُقْعَةِ وَالتَّرْجَمَةُ لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا تُنَافِي الزِّيَادَةَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: وَقِلَّةُ الْمَاءِ مَعَ أَحْكَامِ الْغُسْلِ فَإِنَّهُ زَائِدَةٌ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَالطَّهَارَةُ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ طَهُرَ بِضَمِّ الْهَاءِ أَوْ فَتْحِهَا لُغَةً النَّظَافَةُ وَالنَّزَاهَةُ مِنْ الْأَدْنَاسِ، وَتُسْتَعْمَلُ مَجَازًا فِي التَّنْزِيهِ مِنْ الْعُيُوبِ وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ أَوْ لَهُ، فَالْأُولَيَانِ مِنْ خَبَثٍ وَالْأَخِيرَةُ مِنْ حَدَثٍ، وَمَعْنَى حُكْمِيَّةٌ أَنَّهَا يُحْكَمُ بِهَا وَيُقَدَّرُ قِيَامُهَا بِمَحَلِّهَا، وَلَيْسَتْ مَعْنًى وُجُودِيًّا قَائِمًا بِمَحَلِّهِ، لَا مَعْنَوِيًّا كَالْعِلْمِ وَلَا حِسِّيًّا كَالسَّوَادِ وَالْبَيَاضِ. وَقَوْلُهُ بِهِ أَيْ بِمَلَابِسِهِ فَيَشْمَلُ الثَّوْبَ وَالْبَدَنَ وَالْمَاءَ وَكُلَّ مَا يَجُوزُ لِلْمُصَلِّي مُلَابَسَتُهُ، وَقَوْلُهُ فِيهِ يُرِيدُ بِهِ الْمَكَانَ، وَقَوْلُهُ لَهُ يُرِيدُ بِهِ الْمُصَلِّي وَهُوَ شَامِلٌ لِطَهَارَتِهِ مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ، إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ بَعْدُ وَالْأَخِيرَةُ مِنْ حَدَثٍ يَخُصُّهُ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي بِهِ وَفِيهِ وَلَهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَوْصُوفِ مِنْ قَوْلِهِ لِمَوْصُوفِهَا. وَمَعْنَى تُوجِبُ تُصَحِّحُ وَتُسَبِّبُ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ أَحَدَ الْأَحْكَامِ، وَمَعْنَى جَوَازِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ جَوَازُ طَلَبِ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ شَرْعًا، لِأَنَّ طَلَبَ إبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الْمَانِعِ غَيْرُ جَائِزٍ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ مِفْتَاحُ الصَّلَاةِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ طَلَبُ دُخُولِ مَحَلٍّ بِغَيْرِ مِفْتَاحِهِ، فَإِذَا وَجَدَ مِفْتَاحَهُ جَازَ لَهُ طَلَبُ دُخُولِهِ، وَلَا يَرِدُ طَهَارَةُ الْمَيِّتِ وَطَهَارَةُ الذِّمِّيَّةِ مِنْ حَيْضِهَا لِيَجُوزَ لِزَوْجِهَا وَطْؤُهَا، وَالطَّهَارَةُ لِنَحْوِ زِيَارَةِ وَلِيٍّ، فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَمْ تُوجِبْ لِمَوْصُوفِهَا جَوَازَ الصَّلَاةِ لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ طَهَارَةٌ شَرْعِيَّةٌ لَوْلَا مُقَارَنَةُ الْمَانِعِ لَهَا فِي الْأُولَيَيْنِ وَهُوَ الْمَوْتُ وَالْكُفْرُ وَلِعَدَمِ نِيَّةٍ وَقَعَ الْحَدَثُ فِي الْأَخِيرَةِ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِمَنْ يَتَوَضَّأُ لِفِعْلِ أَمْرٍ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ لِيُبَاحَ بِوُضُوئِهِ الصَّلَاةُ وَغَيْرُهَا. وَأَمَّا الطُّهَارَةُ بِضَمِّ الطَّاءِ فَهِيَ فَضْلَةُ مَا يَتَطَهَّرُ بِهِ الْإِنْسَانُ ، وَأَمَّا الطَّهُورِيَّةُ وَهِيَ مِنْ خَوَاصِّ الْمَاءِ فَهِيَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا كَوْنَهُ بِحَيْثُ يَصِيرُ الْمُزَالُ بِهِ نَجَاسَتُهُ طَاهِرًا، وَأَمَّا الطَّاهِرِيَّةُ فَهِيَ مُقَابَلَةُ النَّجَسِيَّةِ وَهِيَ أَعَمُّ لِصِدْقِهَا بِالطَّهُورِيَّةِ وَعَدَمِهَا وَهُوَ الطَّاهِرُ فَقَطْ، وَأَمَّا التَّطْهِيرُ فَهُوَ إزَالَةُ النَّجَسِ أَوْ رَفْعُ مَانِعِ الصَّلَاةِ، وَالْمُتَطَهِّرُ الْمَوْصُوفُ بِالطَّهَارَةِ الَّتِي هِيَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ، وَالطَّاهِرُ ضِدُّ النَّجِسِ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى النَّجَاسَةِ. وَافْتَتَحَ الْمُصَنِّفُ هَذَا الْبَابَ بِبَعْضِ حَدِيثٍ تَبَرُّكًا بِهِ فَقَالَ: (وَالْمُصَلِّي يُنَاجِي) أَيْ يُسَارِرُ (رَبَّهُ فَعَلَيْهِ أَنْ يَتَأَهَّبَ) أَيْ يَتَهَيَّأَ (لِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْمُنَاجَاةِ وَالصَّلَاةِ (بِالْوُضُوءِ) إنْ كَانَ حَدَثُهُ أَصْغَرَ. (أَوْ الطُّهْرِ إنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الطُّهْرُ) بِأَنْ كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ عَلَى النَّاسِ وَهُمْ يُصَلُّونَ وَقَدْ عَلَتْ أَصْوَاتُهُمْ بِالْقِرَاءَةِ فَقَالَ: إنَّ الْمُصَلِّيَ يُنَاجِي رَبَّهُ فَلْيَنْظُرْ بِمَا يُنَاجِيه وَلَا يَجْهَرُ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ» . وَقَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: مُنَاجَاةُ الْمُصَلِّي رَبَّهُ عِبَارَةٌ عَنْ إحْضَارِ الْقَلْبِ وَالْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الْمُنَاجَاةُ مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِعَبْدِهِ فَهِيَ إقْبَالُهُ عَلَى عَبْدِهِ بِالرَّحْمَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 غَيْرِ مَشُوبٍ بِنَجَاسَةٍ وَلَا بِمَاءٍ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ لِشَيْءٍ خَالَطَهُ مِنْ شَيْءٍ نَجِسٍ أَوْ طَاهِرٍ إلَّا مَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ الْأَرْضُ الَّتِي هُوَ   [الفواكه الدواني] وَالرِّضْوَانِ وَمَا يَفْتَحُهُ عَلَيْهِ مِنْ الْعُلُومِ وَالْأَسْرَارِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ، فَاَلَّذِي نَقَلَهُ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ عَنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَنْ اسْتَكْمَلَ صَلَاتَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَمْ يَخْشَعْ فِيهَا أَنَّ صَلَاتَهُ تَجْزِيه وَإِنَّمَا فَاتَهُ الْأَفْضَلُ، وَنَقَلَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ أَنَّ حُضُورَ الْقَلْبِ فِي جُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ وَاجِبٌ إجْمَاعًا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ الْمَشْهُورَ فِقْهًا صِحَّةُ الصَّلَاةِ بِدُونِهِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَجْعَلُوا مِنْ أَرْكَانِهَا الْخُشُوعَ وَلَا بُدَّ مِنْ مُبْطِلَاتِهَا تَرْكُهُ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا صِحَّةَ صَلَاةِ مَنْ تَفَكَّرَ بِدُنْيَوِيٍّ مَعَ كَرَاهَةِ ذَلِكَ مِنْهُ، وَلَوْ كَانَ حُضُورُ الْقَلْبِ وَاجِبًا لَحُرِّمَ عَلَيْهِ التَّفَكُّرُ وَعَلَى الْوُجُوبِ فَهُوَ فَرْضٌ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ كَمَا قَالَ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ مُرِيدِ الصَّلَاةِ الْإِنْصَافَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ لِأَنَّ حَالَةَ الصَّلَاةِ أَعْظَمُ الْحَالَاتِ لِأَنَّهُ مُتَمَثِّلٌ بَيْنَ يَدَيْ خَالِقِهِ وَمُتَلَبِّسٌ بِعِبَادَتِهِ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَلَى أَشْرَفِ الْأَوْصَافِ. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: اقْتَصَرَ عَلَى الطَّهَارَةِ الظَّاهِرَةِ وَسَكَتَ عَنْ الْبَاطِنَةِ وَهِيَ النَّزَاهَةُ عَنْ الْحَسَدِ وَالْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْحِقْدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآفَاتِ مَعَ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ أَيْضًا، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَطَهَّرَ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَلَا يَكُونُ كَمَنْ بَنَى دَارًا وَحَسَّنَ ظَاهِرَهَا وَتَرَكَ بَاطِنَهَا مَمْلُوءًا بِالنَّجَاسَاتِ وَالْقَاذُورَاتِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَهْدَى جَارِيَةً مُزَيَّنَةً لِمَلِكٍ وَهِيَ مَيِّتَةٌ لَا يَقْبَلُهَا، فَالْمُتَطَهِّرُ ظَاهِرُهُ دُونَ بَاطِنِهِ كَذَلِكَ اهـ. وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى طَهَارَةِ الظَّاهِرِ لِأَنَّهَا الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا صِحَّةُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ الْمُصَلِّي دَرَجَةَ الْكَمَالِ إلَّا بِطَهَارَةِ جَسَدِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَاءِ الطَّهُورِ بِقَوْلِهِ. (وَيَكُونُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْوُضُوءِ أَوْ الطُّهْرِ (بِمَاءٍ طَاهِرٍ) أَيْ طَهُورٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (غَيْرِ مَشُوبٍ) أَيْ غَيْرِ مَخْلُوطٍ (بِنَجَاسَةٍ) فَلَا يَصِحُّ بِمَا شَابَتْهُ نَجَاسَةٌ غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِهِ الثَّلَاثِ: اللَّوْنُ وَالطَّعْمُ وَالرِّيحُ (وَلَا بِمَاءٍ) بِالْمَدِّ (قَدْ تَغَيَّرَ) تَحْقِيقًا أَوْ ظَنَّا وَإِنْ لَمْ يَقْوَ (لَوْنُهُ) أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ (بِشَيْءٍ خَالَطَهُ) أَوْ اتَّصَلَ بِهِ مِنْ أَعْلَاهُ وَإِنْ لَمْ يُمَازِجْهُ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: كُلُّ تَغَيُّرٍ بِحَالٍ مُعْتَبَرٌ وَإِنْ لَمْ يُمَازِجْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمُغَيِّرُ مِمَّا يُفَارِقُ الْمَاءَ غَالِبًا. (مِنْ شَيْءٍ نَجِسٍ) كَبَوْلٍ وَعُذْرَةٍ (أَوْ طَاهِرٍ) كَلَبَنٍ وَعَسَلٍ، فَالْمُتَغَيِّرُ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا يَصِحُّ بِهِ وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِمُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا بِمَا يُفَارِقُهُ غَالِبًا مِنْ طَاهِرٍ أَوْ نَجِسٍ وَحُكْمُهُ كَغَيْرِهِ، فَالْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجِسِ يُقَالُ لَهُ مُتَنَجِّسٌ، وَاَلَّذِي غَيَّرَهُ طَاهِرٌ يَكُونُ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ، وَالْأَوَّلُ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ مَسْجِدِ وَآدَمِيٍّ، وَغَيْرُ الطَّهُورِ يُنْتَفَعُ بِهِ فِي الْعَادَاتِ مِنْ الطَّبْخِ وَالْعَجْنِ دُونَ الْعِبَادَاتِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَلَا بِمَاءٍ قَدْ تَغَيَّرَ إلَخْ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ عَطْفَ عَامٍّ عَلَى خَاصٍّ خِلَافًا لِمَنْ زَعَمَ تَكْرَارَهُ مَعَ مَا قَبْلِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَشَارَ الْمُصَنِّفُ بِاشْتِرَاطِ عَدَمِ التَّغَيُّرِ الْمَذْكُورِ إلَى بَيَانِ حَقِيقَةِ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ وَيُرَادِفُهُ الطَّهُورُ، وَعَرَّفَهُ خَلِيلٌ بِأَنَّهُ الَّذِي يَصِحُّ عُرْفًا إطْلَاقُ لَفْظِ الْمَاءِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قَيْدٍ لَازِمٍ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ الْبَاقِي عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ غَيْرَ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا حَيَوَانٍ، أَوْ تَقُولُ كَمَا قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ وَابْنُ عَسْكَرٍ: هُوَ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ أَوْصَافُهُ بِمَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَيَدْخُلُ فِيهِ مَاءُ آبَارِ ثَمُودَ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ مِنْ الْمُطْلَقِ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ، وَكَذَلِكَ مَاءُ سَائِرِ الْآبَارِ الْمَنْهِيِّ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا، فَإِنْ تَطَهَّرَ بِهَا وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ مَعَ النَّهْيِ وَلَوْ عَلَى جِهَةِ الْحُرْمَةِ وَيَدْخُلُ فِيهِ النَّابِعُ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ تَكْثِيرُ مَوْجُودٍ لَا عَلَى أَنَّهُ إيجَادُ مَعْدُومٍ، عَلَى قَوْلِ مَنْ يَشْتَرِطُ فِي حَدِّ الْمُطْلَقِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا حَيَوَانٍ. الثَّانِي: مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ خَالَطَهُ بِمَعْنَى لَاصَقَهُ يَقْتَضِي أَنَّ التَّغَيُّرَ بِالْمُفَارِقِ الْمُجَاوِرِ لِلْمَاءِ الْمُنْفَصِلِ عَنْهُ لَا يَضُرُّ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ وَلَوْ تَغَيَّرَ. الثَّالِثُ: يُسْتَثْنَى مِنْ الْمُفَارِقِ الْقَطْرَانُ فَإِنَّهُ يَكُونُ دِبَاغًا لِلْقِرْبَةِ فَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ مَائِهَا وَلَوْ طَعْمًا أَوْ لَوْنًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَيْرَ دِبَاغٍ فَإِنَّهُ لَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ رِيحِ الْمَاءِ بِخِلَافِ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مُسَافِرٍ وَغَيْرِهِ، وَلَا بَيْنَ كَوْنِ الْقَطْرَانِ فِي أَسْفَلِ الْمَاءِ وَأَعْلَاهُ. الرَّابِعُ: كُلُّ مَوْضِعٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ التَّغْيِيرُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُهُ بَيَّنَّا إلَّا فِي مَسْأَلَةِ تُغَيِّرْ مَاءِ الْبِئْرِ بِآلَةِ اسْتِقَائِهَا فَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ بَيَّنَّا بِحَيْثُ يَظْهَرُ وَلَوْ لِغَيْرِ الْمُتَأَمِّلِ، وَيَكْفِي ظَنُّ التَّغَيُّرِ مِنْ تَحَقُّقِ كَوْنِ الْمُغَيِّرِ مُفَارِقًا، لَا إنْ تَحَقَّقْنَا التَّغَيُّرَ وَشَكَكْنَا فِي الْمُغَيِّرِ هَلْ هُوَ مِنْ الْمُفَارِقِ أَوْ لَا، فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ شُكَّ فِي مُغَيِّرِهِ هَلْ يَضُرُّ أَوْ تَغَيَّرَ بِمُجَاوِرِهِ مِنْ غَيْرِ مُلَاصَقَةٍ أَوْ بِمَا جُمِعَ مِنْ عَلَيْهِ كَالنَّدَا الْمَجْمُوعِ مِنْ فَوْقِ الزَّرْعِ فَالْجَمِيعُ مُطْلَقٌ. وَلَمَّا كَانَ التَّغَيُّرُ السَّالِبُ لِلطَّهُورِيَّةِ إنَّمَا هُوَ بِالْمُفَارِقِ غَالِبًا اسْتَثْنَى عَلَى جِهَةِ الِانْقِطَاعِ مَا لَا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِهِ وَهُوَ الْمُلَازِمُ لِلْمَاءِ دَائِمًا أَوْ غَالِبًا كَحَيَوَانِ الْبَحْرِ فَقَالَ: (إلَّا مَا غَيَّرَتْ لَوْنَهُ) أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ أَوْ الثَّلَاثَ وَلَوْ تَحْقِيقًا (الْأَرْضُ الَّتِي هُوَ بِهَا) فَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 بِهَا مِنْ سَبِخَةٍ أَوْ حَمْأَةٍ أَوْ نَحْوِهِمَا، [بَابٌ فِي بَيَانِ طَهَارَةِ الْمَاءِ] وَمَاءُ السَّمَاءِ وَمَاءُ الْعُيُونِ وَمَاءُ الْآبَارِ وَمَاءُ الْبَحْرِ طَيِّبٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لِلنَّجَاسَاتِ ، وَمَاءٌ غُيِّرَ لَوْنُهُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ حَلَّ فِيهِ فَذَلِكَ الْمَاءُ طَاهِرٌ غَيْرُ مُطَهِّرٍ فِي وُضُوءٍ أَوْ طُهْرٍ أَوْ زَوَالِ نَجَاسَةٍ وَمَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ فَلَيْسَ بِطَاهِرٍ وَلَا مُطَهِّرٍ، وَقَلِيلُ الْمَاءِ يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ وَقِلَّةُ الْمَاءِ مَعَ إحْكَامِ الْغُسْلِ سُنَّةٌ وَالسَّرَفُ مِنْهُ   [الفواكه الدواني] يَصِحُّ التَّطَهُّرُ بِهِ (مِنْ سَبِخَةٍ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الْأَرْضِ ذَاتِ سِبَاخٍ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: رَوَيْنَاهُ بِفَتْحِ الْبَاءِ فَيَكُونُ بِفَتْحِ الثَّلَاثَةِ وَهِيَ أَرْضٌ ذَاتُ مِلْحٍ وَرَشْحٍ مُلَازِمٍ، وَالصَّوَابُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ جَعْلِ سَبِخَةٍ صِفَةً لِلْأَرْضِ فَتُكْسَرُ الْبَاءُ كَمَا قَرَّرَنَا وَبَيْنَ إرَادَةِ وَاحِدَةِ السِّبَاخِ فَتُفْتَحُ. (أَوْ) مِنْ (حَمْأَةٍ) بِفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الْمِيمِ مَهْمُوزٌ وَهُوَ طِينٌ أَسْوَدُ مُنْتِنٌ (أَوْ نَحْوُهُمَا) مِنْ كُلِّ مَا لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْمَاءِ، وَلَوْ أُخْرِجَتْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ مِنْ الْمَاءِ وَأُلْقِيَتْ فِيهِ قَصْدًا كَمَغْرَةٍ وَشَبٍ وَمِلْحٍ وَزِرْنِيخٍ مِمَّا هُوَ مِنْ قَرَارِهِ أَوْ مُتَوَلِّدٌ مِنْهُ كَالطُّحْلُبِ وَهِيَ الْخُضْرَةُ الَّتِي تَعْلُو الْمَاءَ وَتُسَمِّيهَا الْعَامَّةُ بِالرِّيمِ وَكَالسَّمَكِ الْحَيِّ فَلَا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَأَمَّا بَعْدَ مَوْتِهِ فَيَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِهِ وَيَصِيرُ الْمَاءُ طَاهِرًا غَيْرَ طَهُورٍ. وَأَمَّا تَغَيُّرُ الْمَاءِ بُرُوئِهِ فَيَضُرُّ وَلَوْ حَيًّا عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: وَلَا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِالسَّمَكِ وَلَا رَوْثِهِ احْتَاجَ إلَى ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ أَمْ لِأَنَّهُ إمَّا مُتَوَلِّدٌ مِنْ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا لَا يَنْفَكُّ عَنْهُ غَالِبًا، وَيَظْهَرُ لِي مُوَافَقَةُ كَلَامِ الْحَطَّابِ لِإِطْلَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ عِنْدَ قَوْل الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ أَوْ بِمُتَوَلِّدٍ مِنْهُ مَا لَمْ يُطْبَخْ فِيهِ: وَأَمَّا لَوْ طُبِخَ نَحْوُ الطُّحْلُبِ وَغَيَّرَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَسْلُبُ طَهُورِيَّتَهُ وَلَوْ مِلْحًا أَوْ كِبْرِيتًا عَلَى كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِمَا يَتَوَلَّدُ مِنْهُ، وَلَوْ أُخْرِجَ مِنْ مَاءٍ وَأُلْقِيَ فِي آخَرَ وَلَوْ تَغَيَّرَ تَغَيُّرًا بَيِّنًا، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ إنَاءً مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَوَضَعَ فِيهِ الْمَاءَ وَغَيَّرَهُ لَا يَضُرُّ، وَلَوْ أُحْرِقَتْ الْأَوَانَيْ بِالنَّارِ كَالْجِرَارِ الْحُمْرِ وَلَوْ حُرِقَتْ بِزِبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ رَمَادَ النَّجَسِ وَدُخَانَهُ طَاهِرَانِ، وَلَا يَضُرُّ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بِالْجِبْسِ وَلَا بِالْجِيرِ لِأَنَّهُ كَالْفَخَّارِ وَلَا بِالْمِلْحِ وَلَوْ طُرِحَ فِيهِ قَصْدًا وَلَوْ مَصْنُوعًا إلَّا مَا كَانَ مَصْنُوعًا مِنْ حَشِيشٍ فَإِنَّهُ إذَا أُلْقِيَ فِي الْمَاءِ وَغَيَّرَهُ يَسْلُبُ طَهُورِيَّتَهُ اتِّفَاقًا وَلَمَّا قَدَّمَ مَا هُوَ كَالْحَدِّ لِلْمُطْلَقِ نَصَّ عَلَى أَنْوَاعِهِ بِالْعَدِّ فَقَالَ: (وَمَاءُ السَّمَاءِ) مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ طَيِّبٌ طَاهِرٌ، وَهُوَ يَشْمَلُ الْمَطَرَ وَالنَّدَا وَالثَّلْجَ وَالْبَرَدَ وَالْجَلِيدَ ذَابَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَإِذَا وُجِدَ دَاخِلَهُ شَيْءٌ، فَإِنْ لَمْ يُغَيِّرْهُ فَالْمَاءُ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَإِنْ غَيَّرَ أَحَدَ أَوْصَافِهِ فَحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ، وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ مَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ حِيضَانِ الْأَخْلِيَةِ مِنْ الْعُذْرَةِ فَإِنْ غَيَّرَتْ أَحَدَ أَوْصَافِ الْمَاءِ سَلَبَتْ طَهُورِيَّتَهُ وَإِلَّا فَلَا، فَالْخَبَرُ: «خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» هَذَا هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (وَمَاءُ الْعُيُونِ) النَّابِعَةِ مِنْ الْأَرْضِ كَزَمْزَمَ طَيِّبٌ طَاهِرٌ خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ طَعَامٌ يَحْرُمُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ بِهِ وَتَغَسُّلُ الْمَيِّتِ بِهِ بِنَاءً عَلَى نَجَاسَتِهِ، وَأَمَّا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ دُخُولِهِ فِي الْمُطْلَقِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي رَفْعِ الْحَدَثِ وَإِزَالَةِ عَيْنِ أَوْ حُكْمِ الْخَبَثِ، وَأَمَّا تَغْسِيلُ الْمَيِّتِ بِهِ فَيُكْرَه عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاسَةِ مَيِّتِهِ وَيَجُوزُ عَلَى طَهَارَتِهِ. (وَمَاءُ الْآبَارِ) وَلَوْ آبَارَ ثَمُودَ وَإِنْ نُهِيَ عَنْ اسْتِعْمَالِهَا طَيِّبٌ طَاهِرٌ، وَتَقَدَّمَ صِحَّةُ صَلَاةِ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَائِهَا أَوْ تَيَمَّمَ عَلَى أَرْضِهَا لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَإِنْ أَمَرَهُمْ بِطَرْحِ مَا عُجِنَ مِنْ مَائِهَا لَمْ يَأْمُرْهُمْ بِغَسْلِ أَوَانِيهمْ، فَالْوُضُوءُ بِمَائِهَا كَالْوُضُوءِ بِمَاءِ الْمَغْصُوبِ. (وَمَاءُ الْبَحْرِ) وَلَوْ الْمِلْحَ وَلَوْ كَانَ مُتَغَيِّرَ اللَّوْنِ وَالطَّعْمِ وَالرِّيحِ (طَيِّبٌ طَاهِرٌ مُطَهِّرٌ لِلنَّجَاسَاتِ) وَرَافِعٌ لِلْأَحْدَاثِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» أَيْ مَاؤُهُ طَهُورٌ وَمَيْتَتُهُ حَلَالٌ. (تَنْبِيهٌ) : إفْرَادُ الْخَبَرِ وَهُوَ طَيِّبٌ طَاهِرٌ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ وَاحِدٌ وَإِنْ اخْتَلَفَ بِالْإِضَافَةِ أَوْ حُذِفَ لَفْظُ طَيِّبٍ طَاهِرٍ مِنْ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ لِدَلَالَةِ الرَّابِعِ عَلَيْهَا، وَالطَّاهِرُ مُرَادِفٌ لِلطَّيِّبِ فَهُوَ تَفْسِيرٌ لَهُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالْمُفَارِقِ لَا يَصِحُّ بِهِ وُضُوءٌ وَلَا غُسْلٌ بَيَّنَ هُنَا مَا يُفْعَلُ بِهِ فَقَالَ: (وَمَاءٌ غَيَّرَ لَوْنَهُ) أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ (شَيْءٌ طَاهِرُ حَلَّ فِيهِ) مِمَّا يُفَارِقُ الْمَاءَ غَالِبًا كَلَبَنٍ أَوْ عَسَلٍ وَلَوْ لَمْ يُمَازِجْ عَلَى الْمَشْهُورِ. (فَذَلِكَ الْمَاءُ طَاهِرٌ) فِي نَفْسِهِ غَيْرُ (مُطَهِّرٍ لِغَيْرِهِ) فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ (فِي وُضُوءٍ أَوْ طُهْرٍ) أَيْ غُسْلٍ. (أَوْ) فِي زَوَالِ حُكْمِ (نَجَاسَةٍ) لِزَوَالِ اسْمِ الْمُطْلَقِ عَنْهُ، فَيُسْتَعْمَلُ فِي الْعَادَاتِ كَالطَّبْخِ وَالْعَجْنِ وَإِزَالَةِ أَوْسَاخٍ طَاهِرَةٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ خَالَطَهُ طَاهِرٌ وَلَمْ يُغَيِّرْهُ يَكُونُ بَاقِيًا عَلَى إطْلَاقِهِ فَيَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْعِبَادَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ كَرَاهَةٍ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ طَاهِرٍ بِقَوْلِهِ: (وَمَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ) لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا تَحْقِيقًا أَوْ ظَنَّا (فَلَيْسَ بِطَاهِرٍ) وَلَوْ كَثِيرًا فَلَا يُسْتَعْمَلُ فِي طَبْخٍ وَلَا عَجْنٍ (وَلَا مُطَهِّرٍ) لِغَيْرِهِ فَلَا يَصِحُّ اسْتِعْمَالُهُ فِي وُضُوءٍ وَلَا غُسْلٍ وَإِنَّمَا يُنْتَفَعُ بِهِ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَآدَمِيٍّ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى جَمْعِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ أَيْ فَالْمُتَغَيِّرُ بِالطَّاهِرِ طَاهِرٌ غَيْرُ طَهُورٍ، وَالْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجَاسَةِ مُتَنَجِّسٌ، وَأَمَّا لَوْ أَخْبَرَك شَخْصٌ أَوْ اثْنَانِ بِنَجَاسَةِ مَاءٍ وَلَمْ تُشَاهِدْ فِيهِ تَغَيُّرًا لِفَقْدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 غُلُوٌّ وَبِدْعَةٌ وَقَدْ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُدٍّ» وَهُوَ وَزْنُ رِطْلٍ وَثُلُثٍ وَتَطَهَّرَ بِصَاعٍ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.   [الفواكه الدواني] بَصَرٍ أَوْ ظُلْمَةٍ، فَإِنْ كَانَ عَدْلَ رِوَايَةٍ وَهُوَ الْمُسْلِمُ الْبَالِغُ وَمُوَافِقًا لَك فِي الْمَذْهَبِ أَوْ مُخَالِفًا وَبَيَّنَ لَك وَجْهَ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْك قَبُولُ خَبَرِهِ، وَإِنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُخَالِفُ وَجْهَ النَّجَاسَةِ فَالْأَحْسَنُ تَرْكُ الْمَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُبِلَ خَبَرُ الْوَاحِدِ إنْ بَيَّنَ وَجْهَهَا وَاتَّفَقَا مَذْهَبًا وَإِلَّا فَقَالَ يُسْتَحْسَنُ تَرْكُهُ، وَمَا لَوْ أَخْبَرَك شَخْصٌ بِطَهَارَةِ مَاءٍ شَكَكْت فِي نَجَاسَتِهِ لَوَجَبَ عَلَيْك الرُّجُوعُ إلَى خَبَرِهِ وَلَوْ كَافِرًا أَوْ صَبِيًّا لِأَنَّهُ أَقَرَّ بِمَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْمَاءُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ فِي الْمَاءِ مَا يَقْتَضِي نَجَاسَتَهُ أَوْ يَسْلُبَ طَهُورِيَّتَهُ، وَإِلَّا عَمِلَ بِالتَّفْصِيلِ الْمُتَقَدِّمِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَوْ زَالَ تَغَيُّرُ الْمَاءِ بَعْدَ الْحُكْمِ بِنَجَاسَتِهِ مِنْ غَيْرِ صَبِّ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ كَبَعْضِ الْبِرَكِ الَّتِي تُلْقَى فِيهَا النَّجَاسَةُ وَكَمَاءِ الْمَحَلِّ الْمَعْرُوفِ بِالْحَرَارَةِ هَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى تَنْجِيسِهِ أَوْ يَنْقَلِبُ طَهُورًا؟ قَوْلَانِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى تَنْجِيسِهِ، وَأَمَّا لَوْ زَالَ تَغَيُّرُهُ بِصَبِّ مُطْلَقٍ عَلَيْهِ وَلَوْ يَسِيرًا أَوْ تُرَابٍ وَلَمْ يَظْهَرْ أَثَرُ التُّرَابِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ طَهُورًا، وَأَمَّا لَوْ ظَهَرَ أَثَرُ التُّرَابِ فِي الْمَاءِ فَإِنَّهُ يَسْتَصْحِبُ تَنْجِيسَهُ، وَأَمَّا لَوْ زَالَ تَغَيُّرُ الطَّاهِرِ الْمُفَارِقِ بِنَفْسِهِ وَأَوْلَى بِوَاسِطَةِ شَيْءٍ فَإِنَّهُ يَصِيرُ طَهُورًا قَطَعَا. الثَّانِي: لَوْ تَحَقَّقْنَا تَغَيُّرَ الْمَاءِ وَشَكَكْنَا فِي الْمُغَيِّرِ لَهُ هَلْ هُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَضُرُّ أَمْ لَا؟ فَهُوَ طَهُورٌ حَيْثُ اسْتَوَى طَرَفَا الشَّكِّ وَإِلَّا عُمِلَ عَلَى الظَّنِّ، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَحَقَّقْنَا التَّغَيُّرَ وَعَلِمْنَا أَنَّ الْمُغَيِّرَ مِمَّا يَضُرُّ التَّغَيُّرُ بِهِ وَشَكَكْنَا فِي طَهَارَتِهِ وَنَجَاسَتِهِ فَلَا يَكُونُ طَهُورًا بَلْ هُوَ طَاهِرٌ فَقَطْ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَسْأَلَةٍ وَقَعَ فِيهَا نِزَاعٌ بَيْنَ الْإِمَامِ وَبَعْضِ أَصْحَابِهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَلِيلُ الْمَاءِ) وَهُوَ قَدْرُ آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ وَلَوْ لِلْمُتَوَضِّئِ (يُنَجِّسُهُ قَلِيلُ النَّجَاسَةِ) الْحَالَّةِ فِيهِ (وَإِنْ لَمْ تُغَيِّرْهُ) هَذَا مَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا بَلَغَ الْمَاءُ قُلَّتَيْنِ لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا» وَفِي رِوَايَةٍ: فَإِنَّهُ لَا يَنْجَسُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا أَيْ يَدْفَعُ النَّجَسَ وَلَا يَقْبَلُهُ. قَالَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَبْلُغْهُمَا يَحْمِلُ الْخَبَثَ أَيْ يَتَنَجَّسُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ وَلَوْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَالْمَشْهُورُ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ لَا يَتَنَجَّسُ إلَّا بِالتَّغْيِيرِ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ قُلَّتَيْنِ مُسْتَدِلًّا بِخَبَرِ بِئْرِ بُضَاعَةَ وَهِيَ بِئْرٌ تُلْقَى فِيهَا خِرَقُ الْحَيْضِ وَلُحُومُ الْكِلَابِ، إذْ سُئِلَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» وَلَا يُعَارِضُ هَذَا حَدِيثُ الْقُلَّتَيْنِ لِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِتَضْعِيفِ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ لَهُ، وَعَلَى تَسْلِيمِ صِحَّتِهِ إنَّمَا يَدُلُّ بِالْمَفْهُومِ، وَدَلَالَةُ الْمَنْطُوقِ تُقَدَّمُ عَلَى دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ، وَأَيْضًا قَوْلُهُ: لَمْ يَحْمِلْ خَبَثًا مَعْنَاهُ يَضْعُفُ عَنْ حَمْلِ النَّجَاسَةِ فَتَظْهَرُ فِيهِ فَتَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، فَيَكُونُ فِيهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ التَّنَجُّسَ بِسَبَبِ التَّغَيُّرِ وَالشَّيْءُ يَنْعَدِمُ بِانْعِدَامِ سَبَبِهِ، وَحُكْمُ هَذَا الْقَلِيلِ عَلَى الْمَشْهُورِ وُجُوبُ اسْتِعْمَالِهِ عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ وَالْكَرَاهَةُ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَقَدْ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِ الْمِيَاهِ الْمَكْرُوهَةِ: وَكُرِهَ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي حَدَثٍ وَفِي غَيْرِهِ تَرَدُّدٌ وَيَسِيرٌ كَآنِيَةِ وُضُوءٍ وَغُسْلٍ بِنَجِسٍ لَمْ يُغَيَّرْ أَوْ وَلَغَ فِيهِ كَلْبٌ وَرَاكِدٌ يُغْتَسَلُ فِيهِ إلَخْ، وَإِذَا تَوَضَّأَ بِالْمَاءِ الْقَلِيلِ الْمَذْكُورِ وَصَلَّى فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَصْلًا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا عَلَى الضَّعِيفِ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ: لَوْ صَلَّى بِهِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ أَبَدًا مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ قَلِيلٍ أَنَّ الْكَثِيرَ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى آنِيَةِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ بِالْفِعْلِ اتِّفَاقًا، وَمَفْهُومُ النَّجَاسَةِ أَنَّ الْقَلِيلَ إذَا خَالَطَهُ طَاهِرٌ مُفَارِقٌ وَلَمْ يَتَغَيَّرْ بَاقٍ عَلَى إطْلَاقِهِ مِنْ غَيْرِ نَزَعٍ. الثَّانِي: تَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْمَاءَ الْمَخْلُوطَ بِالْمُفَارِقِ عَلَى أَقْسَامٍ: قِسْمٌ طَاهِرٍ طَهُورٌ وَهُوَ الْكَثِيرُ الَّذِي لَمْ يَتَغَيَّرْ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَقِسْمٌ غَيْرُ طَهُورٍ وَهُوَ الَّذِي تَغَيَّرَ أَحَدُ أَوْصَافِهِ، وَلَا فَرْق مَعَ التَّغَيُّرِ بَيْنَ الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ وَحُكْمُهُ كَمُغَيِّرِهِ، وَقِسْمٌ فِيهِ خِلَافٌ وَهُوَ الْقَلِيلُ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ مُتَنَجِّسٌ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ مَكْرُوهُ الِاسْتِعْمَالِ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ. ثُمَّ لَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَصِحُّ التَّطْهِيرُ بِهِ مِنْ الْمَاءِ وَمَا لَا يَصِحُّ، شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا تُرْجِمَ لَهُ فَقَالَ: (وَقِلَّةُ الْمَاءِ) أَيْ وَتَقْلِيلُ الْمَاءِ فِي حَالِ الِاسْتِعْمَالِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ (مَعَ إحْكَامٍ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَيْ إتْقَانِ (الْغُسْلِ) أَوْ الْوُضُوءِ (سُنَّةٌ) بِمَعْنَى مُسْتَحَبَّةٌ، وَعَبَّرَ بِالسُّنَّةِ جَرَيَا عَلَى طَرِيقِ الْبَغْدَادِيِّينَ لِأَنَّهُمْ يُعَبِّرُونَ عَنْ الْمُسْتَحَبِّ بِالسُّنَّةِ لِأَنَّ الْكُلَّ فَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ مُرَادُهُ بِالسُّنَّةِ مُقَابِلُ الْبِدْعَةِ. (وَالسَّرَفُ) أَيْ الْإِكْثَارُ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمَاءِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَدِّ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا فِي الْأَعْضَاءِ أَوْ الْغَسَلَاتِ (غُلُوٌّ وَبِدْعَةٌ) وَمَعْنَى الْغُلُوِّ الزِّيَادَةُ عَلَى مَا يُطْلَبُ شَرْعًا، وَالْبِدْعَةُ كُلُّ مَا خَرَجَ عَنْ الشَّرْعِ وَهِيَ هُنَا بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ لِقَوْلِهِ فِي النَّوَادِرِ: وَالْقَصْدُ فِي الْمَاءِ مُسْتَحَبٌّ وَالسَّرَفُ مِنْهُ مَكْرُوهٌ مَخَافَةَ أَنْ يَتَّكِلَ عَلَى صَبِّ الْمَاءِ وَيَتْرُكَ التَّدَلُّكَ، وَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِتَغْيِيرِهِ بِلَفْظِ الْبِدْعَةِ لِإِيهَامِهِ الْحُرْمَةَ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، وَلَا فَرْقَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ بَيْنَ الْوَاجِبَيْنِ أَوْ الْمَنْدُوبَيْنِ، وَأَمَّا السَّرَفُ فِي غَيْرِ الْوُضُوءِ كَغَسْلِ الثَّوْبِ أَوْ الْإِنَاءِ لِزِيَادَةِ التَّنْظِيفِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ، كَزِيَادَةِ الْغَسَلَاتِ فِي الْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَطَهَارَةُ الْبُقْعَةِ لِلصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ فَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ فِيهِمَا وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ وَقِيلَ وُجُوبَ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ وَيُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ وَمَحَجَّةِ الطَّرِيقِ وَظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ وَالْحَمَّامِ حَيْثُ   [الفواكه الدواني] لِنَحْوِ تَبَرُّدٍ أَوْ تَدَفٍّ، وَأَمَّا طَرْحُ الْمَاءِ فَإِنْ كَانَ لِسَبَبٍ كَأَنْ يَكُونَ شَرِبَ مِنْهُ مَا عَادَتُهُ اسْتِعْمَالُ النَّجَاسَاتِ فَلَا إشْكَالَ فِي الْجَوَازِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَبَثًا فَإِنْ كَانَ الْمَاءُ مَوْقُوفًا أَوْ مَمْلُوكًا وَهُوَ فِي مَحَلٍّ لِلْمَاءِ فِيهِ ثَمَنٌ عَظِيمٌ فَلَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ هَكَذَا يَنْبَغِي. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ تَقْلِيلِ الْمَاءِ فِي الطَّهَارَةِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمُدٍّ» وَلَا حَاجَةَ إلَى زِيَادَةٍ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ لِأَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْوُضُوءِ كَمَا قَرَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ إلَّا عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ الْعَامَّةُ مِنْ دُخُولِهِ فِي الْوُضُوءِ، وَلَعَلَّ هَذَا مُلْحَظٌ مِنْ قَدْرِ ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. (وَهُوَ وَزْنُ رِطْلٍ وَثُلُثٍ) وَالرِّطْلُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْأَجْوَدِ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً، وَالْأُوقِيَّةُ عَشَرَةُ دَرَاهِمِ وَقِيلَ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا، وَالدِّرْهَمُ خَمْسُونَ وَخُمُسَا حَبَّةً مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ الْمَقْطُوعِ الطَّرَفَيْنِ. (وَتَطَهَّرَ) أَيْ غَسَلَ جَمِيعَ جَسَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ غَسْلِ مَا هُنَاكَ مِنْ الْأَذَى (بِصَاعٍ وَهُوَ) أَيْ الصَّاعُ بِمَعْنَى وَزْنِهِ (أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُدَّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، فَيَكُونُ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثٌ، وَهَذَا كُلُّهُ مِصْدَاقُ حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَوَضَّأُ بِالْمُدِّ وَيَغْتَسِلُ بِالصَّاعِ إلَى خَمْسَةِ أَمْدَادٍ» فَفِيهِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْبَابِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْقَدْرِ الْكَافِي لَا لِلتَّحْدِيدِ خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّيُوخِ، وَسَيَنُصُّ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَنَّ الْحَدِيثَ لَيْسَ الْقَصْدُ مِنْهُ التَّحْدِيدُ بِقَوْلِهِ: وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ فِي أَحْكَامِ ذَلِكَ سَوَاءٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ «تَوَضَّأَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمُدٍّ» ، أَنَّ الْمُرَادَ تَوَضَّأَ مِنْ وَزْنِ مُدٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُرَادُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّهُ تَوَضَّأَ مِنْ كَيْلِ مُدٍّ لَا بِوَزْنِ مُدٍّ. قَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ: بِمِقْدَارِ مَا يَبْلُغُهُ وَزْنُ مُدٍّ مِنْ الطَّعَامِ لَا بِمِقْدَارِ وَزْنِ مُدٍّ مِنْ الْمَاءِ، إذْ مَا يَبْلُغُهُ وَزْنُ مُدٍّ مِنْ الطَّعَامِ، فَإِذَا وُزِنَ مُدٌّ مِنْ الطَّعَامِ وَوُضِعَ فِي آنِيَةٍ فَإِنَّهُ يَشْغَلُ مِنْهَا أَكْثَرَ مَا يَشْغَلُهُ وَزْنُ الْمُدِّ مِنْ الْمَاءِ إذَا وُضِعَ فِي الْآنِيَةِ الْمَذْكُورَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ الْقَدْرُ مِنْ الْمَاءِ الَّذِي يَبْلُغُ مِنْ الْآنِيَةِ مَبْلَغَ الْمُدِّ مِنْ الطَّعَامِ، وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي الصَّاعِ. الثَّانِي: وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي بَعْضِ الشُّيُوخِ فِي صُورَةِ وُضُوئِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمَدِّ هَلْ هُوَ الْوُضُوءُ الَّذِي اقْتَصَرَ فِيهِ عَلَى مَرَّةٍ أَوْ اثْنَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ؟ قَالَ الْجُزُولِيُّ: لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصَّا، وَهَذَا لَا يُنَافِيَ طَلَبَ الِاقْتِصَارِ فِي الْمَاءِ سَوَاءٌ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ عَلَى وَجْهِ الْكَمَالِ مِنْ شَفْعِ غُسْلِهِ وَتَثْلِيثِهِ أَوْ أَرَادَ الِاقْتِصَارَ عَلَى مَرَّةٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ، وَمَا لَا يَصِحُّ بِهِ وَهُوَ الْمُتَغَيِّرُ بِالْمُفَارِقِ غَالِبًا، وَمِنْ بَيَانِ الْقَدْرِ الْمُسْتَحَبِّ مِنْهُ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُضَادَّةِ لِلطَّهَارَةِ وَهِيَ النَّجَاسَةُ الْمُصْطَلَحُ عَلَيْهَا وَهِيَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا مَنْعَ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ بِهِ أَوْ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَطَهَارَةُ الْبُقْعَةِ) وَهِيَ مَكَانُ الْمُصَلِّي (لِلصَّلَاةِ) وَلَوْ نَافِلَةً (وَاجِبَةٌ) وَفَسَّرْنَا الْبُقْعَةَ بِمَكَانِ الْمُصَلِّي الَّذِي تَمَسُّهُ أَعْضَاؤُهُ لِأَنَّ الْمُومِئَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ طَهَارَةُ مَوْضِعِ قَدَمَيْهِ لَا طَهَارَةُ مَا يُومِئُ إلَيْهِ وَإِنْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهِ حَسْرَ عِمَامَتِهِ حَالَ الْإِيمَاءِ، لِأَنَّ الْحَائِلَ مَانِعٌ مِنْ فَرْضٍ مُجْمَعٍ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الطَّهَارَةِ فَإِنَّ أَمْرَهَا خَفِيفٌ، وَأَيْضًا أَسْقَطُوا عَنْ الْمُومِئِ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فَكَيْفَ يَشْتَرِطُونَ عَلَيْهِ طَهَارَةً أَزْيَدَ مِنْ مَحَلِّ قَدَمَيْهِ؟ (وَكَذَلِكَ طَهَارَةُ الثَّوْبِ) أَيْ مَحْمُولُ الْمُصَلِّي وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَتِهِ الْمُلْقَى بِالْأَرْضِ، سَوَاءٌ تَحَرَّكَ بِحَرَكَتِهِ أَمْ لَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُصَنِّفُ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُ الْوَاجِبَ عَلَى الطَّلَبِ الْمُتَأَكَّدِ قَالَ: (فَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ) أَيْ الْوُجُوبُ (فِيهِمَا) أَيْ الْبُقْعَةِ وَالثَّوْبِ (وَاجِبٌ) مِثْلُ (وُجُوبِ الْفَرَائِضِ) عَلَى الْمُكَلَّفِ يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ وَيُطْلَبُ مِنْ الصَّبِيِّ، لِأَنَّ الطَّلَبَ بِالشُّرُوطِ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ يَسْتَوِي فِي الطَّلَبِ بِهِ الْبَالِغُ وَغَيْرُهُ، لَكِنْ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالذِّكْرِ لَا مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ، وَعَلَيْهِ فَإِنْ صَلَّى بِثَوْبٍ نَجِسٍ أَوْ فِي بُقْعَةٍ مُتَنَجِّسَةٍ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيُعِيدُهَا أَبَدًا مَعَ الْعَمْدِ وَلَوْ جَاهِلًا وَفِي الْوَقْتِ مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَصَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ وَصَرَّحَ غَيْرُ وَاحِدٍ بِمَشْهُورِيَّتِهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَصَّارِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ السَّلَامِ وَهُوَ كَرِشُ الْبَعِيرِ الَّذِي أُلْقِيَ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يَقْطَعْ الصَّلَاةَ لِإِمْكَانِ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ أَوْ عَلِمَ بِهِ وَكَانَ مِنْ مُزَكًّى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِشْكَالَ. (وَقِيلَ) الْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ فِيهِمَا (وُجُوبُ السُّنَنِ الْمُؤَكَّدَةِ) أَيْ الطَّلَبُ الْمُتَأَكِّدُ لَا أَنَّهُ يَأْثَمُ بِتَرْكِهِ، وَيَكُونُ عَبَّرَ بِالْوُجُوبِ مَجَازًا لِاشْتِرَاكِ الْفَرْضِ وَالسُّنَّةِ فِي مُطْلَقِ الطَّلَبِ، وَهَذَا الْقَوْلُ شَهَّرَهُ ابْنُ رُشْدٍ لِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَرَوَاهُ عَنْ مَالِكٍ وَلَفْظُهُ: رَفْعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] النَّجَاسَاتِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْأَبَدَانِ سُنَّةٌ لَا فَرِيضَةٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَعَلَيْهِ فَمَنْ صَلَّى بِثَوْبٍ نَجِسٍ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ عَمْدًا الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ وَالْعِشَاءَيْنِ لِلْفَجْرِ وَالصُّبْحَ لِلطُّلُوعِ وَالْجُمُعَةَ كَالظُّهْرَيْنِ، وَعَلَى هَذَا فَالْخِلَافُ حَقِيقِيٌّ لِقَوْلِ الْقُرْطُبِيِّ: لَمْ يَذْكُرْ عَنْ أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالْإِعَادَةِ أَبَدًا عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ، وَعَلَى فَرْضِ صِحَّتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُ الْأَبَدِيَّةِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ بِخِلَافِهِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ إنَّهُ لَفْظِيٌّ، وَهَذَا مُحَصِّلُ قَوْلِ خَلِيلٍ: هَلْ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ عَنْ ثَوْبِ مُصَلٍّ وَلَوْ طَرَفَ عِمَامَتِهِ وَبَدَنِهِ وَمَكَانِهِ لَا طَرَفَ حَصِيرِهِ سُنَّةٌ أَوْ وَاجِبَةٌ؟ إنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ وَإِلَّا أَعَادَ الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ. خِلَافٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ الْوُجُوبَ مُقَيَّدٌ بِالذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ دُونَ الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ، إذْ لَا فَائِدَةَ فِيهِ لِأَنَّهُ لَا يَنْحَطُّ عَنْ مَرْتَبَةِ السُّنِّيَّةِ مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ، لِأَنَّ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ مُرَتَّبَةٌ عَلَى تَرْكِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا وَمِنْ بَابِ أَوْلَى مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ. الثَّانِي: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ طَهَارَةِ الْبَدَنِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ أَنَّ الظَّاهِرَ وَمِنْهُ دَاخِلُ الْفَمِ وَالْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ حُكْمُهُ حُكْمُ الْبُقْعَةِ، وَالثَّوْبُ لِلصَّلَاةِ وَفِيهِ الْخِلَافُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَكَمَا تَقَدَّمَ فِي عِبَارَةِ خَلِيلٍ، وَأَمَّا الْبَاطِنُ فَمَا دَخَلَ فِي الْمَعِدَةِ طَاهِرًا فَلَا حُكْمَ لَهُ إلَّا بَعْدَ انْفِصَالِهِ وَخُرُوجِهِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَا دَخَلَ فِيهَا غَيْرَ طَاهِرٍ فَالرَّاجِحُ وُجُوبُ تقايئه مَعَ الْقُدْرَةِ وَالذِّكْرِ، وَإِلَّا أَعَادَ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ أَبَدًا وُجُوبًا عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ وَنَدْبًا فِي الْوَقْتِ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ وَتُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ شَامِلٌ لِمَنْ اسْتَعْمَلَ النَّجَاسَةَ مُخْتَارًا أَوْ مُضْطَرًّا، وَسَوَاءٌ تَابَ أَمْ لَا عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ الْأُجْهُورِيُّ. الثَّالِثُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ طَهَارَةِ الْبَدَنِ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ وَفِيهِ خِلَافٌ، الْمَشْهُورُ مِنْهُ الِاسْتِحْبَابُ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: وَيُكْرَهُ لُبْسُ الثَّوْبِ النَّجِسِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعْرَقُ فِيهِ فَإِنَّهُ يُفِيدُ أَنَّ التَّضَمُّخَ بِالنَّجَاسَةِ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ سَيِّدِي زَرُّوقٌ وَسَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عِمْرَانَ: أَنَّهُ حَرَامٌ وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ الْخَمْرِ وَأَمَّا هُوَ فَيَحْرُمُ التَّضَمُّخُ بِهِ اتِّفَاقًا وَفِي غَيْرِ النَّجَاسَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ الطَّهَارَةِ بِقِسْمَيْهَا، وَإِلَّا فَلَا نِزَاعَ فِي إزَالَةِ الْمَانِعِ مِنْهَا حَيْثُ إنَّهُ حَائِلٌ. الرَّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالثَّوْبِ مَحْمُولُ الْمُصَلِّي وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ مَنْ صَلَّى بِجَنْبِ مَنْ بِثَوْبِهِ نَجَاسَةٌ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ إذَا سَقَطَ عَلَيْهِ مَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِغَيْرِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَسْجُدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ، وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ غَيْرُ طَاهِرِ الثِّيَابِ يَتَّصِلُ بِأَبِيهِ فِي الصَّلَاةِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إلَّا إذَا سَجَدَ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا، أَوْ حَمَلَ لَابِسَ الثِّيَابِ الْمُتَنَجِّسَةِ مِثْلُ أَنْ يَرْكَبَ الصَّغِيرُ أَبَاهُ أَوْ يَتَعَلَّقَ بِرَقَبَتِهِ وَيَقُومُ بِهِ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ فَتَبْطُلُ لِحَمْلِهِ النَّجَاسَةَ، لِأَنَّ حَمْلَ ذِي الثِّيَابِ الْمُتَنَجِّسَةِ أَشَدُّ مِنْ سُقُوطِ ثِيَابِهِ دُونَ حَمْلِهِ. 1 - وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ طَهَارَةِ الْبُقْعَةِ لِلصَّلَاةِ نَاسَبَ ذِكْرَ الْأَمَاكِنِ السَّبْعَةِ الَّتِي يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَيُنْهَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ عَلَى مُرِيدِ الصَّلَاةِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ. (عَنْ الصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ) وَالْمَعَاطِنُ جَمْعُ مَعْطِنٍ وَهُوَ مَوْضِعُ بُرُوكِهَا عِنْدَ الْمَاءِ لِشُرْبِهَا عِلَلًا وَهُوَ الشُّرْبُ الثَّانِي بَعْدَ نَهَلٍ وَهُوَ الشُّرْبُ الْأَوَّلُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَتَكَرَّرْ ذَلِكَ مِنْهَا وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّعَبُّدِ وَهُوَ الْقَوْلُ الْمُخْتَارُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِمَعْطِنِ إبِلٍ وَلَوْ أَمِنَ مِنْ النَّجَاسَةِ وَلَوْ فَرَشَ شَيْئًا طَاهِرًا فِيهِ، وَعَلَى أَنَّ الْكَرَاهَةَ لِلتَّعَبُّدِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهِ مَوْضِعُ مَبِيتِهَا لَا عَلَى مُقَابِلِهِ مِنْ أَنَّهُ مُعَلَّلٌ بِكَثْرَةِ إنْزَالِهَا فِيهِ فَنَكْرَهُ فِي مَبِيتِهَا بِالْأَوْلَى، وَإِذَا وَقَعَ وَنَزَلَ وَصَلَّى فَفِي كَيْفِيَّةِ الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ مُطْلَقًا، وَثَانِيهِمَا يُعِيدُ النَّاسِي فِي الْوَقْتِ، وَالْجَاهِلُ وَالْعَامِدُ يُعِيدَانِ أَبَدًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ لِأَنَّهُ إنَّمَا ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: هَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْإِعَادَةَ الْأَبَدِيَّةَ تَكُونُ فِيمَا يُعَادُ اسْتِحْبَابًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِمَعْطِنِ الْإِبِلِ وَلَوْ أَمِنَ، وَفِي الْإِعَادَةِ قَوْلَانِ، وَمَفْهُومُ الْإِبِلِ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَرَابِضِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ جَائِزَةٌ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَنْصُوصِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَجَازَتْ بِمَرْبِضِ بَقَرٍ وَغَنَمٍ. (وَ) ثَانِيهَا الصَّلَاةُ فِي (مَحَجَّةِ الطَّرِيقِ) وَالْإِضَافَةُ بَيَانِيَّةٌ لِأَنَّ الْمَحَجَّةُ هِيَ الطَّرِيقُ وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ حَيْثُ شُكَّ فِي إصَابَتِهَا بِأَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا وَيُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا لَوْ تُيُقِّنَتْ طَهَارَتُهَا فَلَا كَرَاهَةَ وَلَا إعَادَةَ، وَإِنْ تَحَقَّقْت نَجَاسَتُهَا فَلَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ أَبَدًا مَعَ الْعَمْدِ أَوْ الْجَهْلِ وَمَعَ النِّسْيَانِ أَوْ الْعَجْزِ فِي الْوَقْتِ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ صَلَّى فِيهَا اخْتِيَارًا، وَأَمَّا اضْطِرَارًا لِضَيِّقِ الْمَسْجِدِ مَثَلًا فَلَا كَرَاهَةَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: كُلّ مَوْضِعٍ كُرِهَتْ فِيهِ الصَّلَاةُ لِغَلَبَةِ النَّجَاسَةِ حُكِمَ لَهُ بِالْأَصْلِ وَهُوَ الطَّهَارَةُ عِنْدَ الضَّرُورَةِ. (وَ) ثَالِثُهَا: الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ عَلَى (ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ) أَيْ الْكَعْبَةِ لَكِنَّ النَّهْيَ هُنَا لِلتَّحْرِيمِ وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ فَرْضٌ عَلَى ظَهْرِهَا وَتُعَادُ أَبَدًا، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ قِطْعَةٌ مِنْ حِيطَانِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمَأْمُورَ بِاسْتِقْبَالِهِ جُمْلَةُ الْبِنَاءِ لَا بَعْضُهُ وَلَا الْهَوَاءِ، وَلَا تَرِدُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى أَبُو قُبَيْسٍ مَعَ كَوْنِ الْمُصَلِّي عَلَيْهِ مُسْتَقْبِلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 لَا يُوقَنُ مِنْهُ بِطَهَارَةٍ وَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَمَقْبَرَةِ الْمُشْرِكِينَ وَكَنَائِسِهِمْ [حُكْمِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ الْمُضَادَّةِ لِلطَّهَارَةِ] وَأَقَلُّ مَا يُصَلِّي فِيهِ الرَّجُلُ مِنْ اللِّبَاسِ ثَوْبٌ   [الفواكه الدواني] لِهَوَاءِ الْكَعْبَةِ لَا لِجُمْلَةِ الْبُنْيَانِ لِمَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ الْإِنْسَانَ كُلَّمَا بَعُدَ عَنْ الْبَيْتِ يَرْتَفِعُ لَهُ، وَكَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ تَبْطُلُ فِي حُفْرَةٍ تَحْتَهُ أَوْ جَنْبَهُ وَلَوْ نَافِلَةً، وَحَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ دَاخِلَ الْكَعْبَةِ أَوْ خَارِجَهَا أَنَّ الصَّلَاةَ دَاخِلَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إنْ كَانَتْ مَنْدُوبَةً تُسْتَحَبُّ، وَإِنْ كَانَتْ رَغْبِيَّةً أَوْ سُنَّةً تُمْنَعُ ابْتِدَاءً وَتَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَلَا تُعَادُ، وَإِنْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً تُمْنَعُ وَتُعَادُ فِي الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَأُوِّلَ بِالنِّسْيَانِ وَبِالْإِطْلَاقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَتْ سُنَّةٌ فِيهَا وَفِي الْحَجَرِ لِأَيِّ جِهَةٍ لَا فَرْضٌ فَيُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَأُوِّلَ بِالنِّسْيَانِ وَبِالْإِطْلَاقِ. قَالَ مُحَقِّقُوا شُرَّاحِهِ: مَعْنَى جَازَتْ سُنَّةٌ مَضَتْ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ خَارِجَهَا فَإِنْ كَانَتْ تَحْتَهَا فَهِيَ بَاطِلَةٌ وَلَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ جَمِيعُ جِدَارِهَا وَالْفَرْضُ وَالنَّفَلُ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَهَا فَالْفَرْضُ بَاطِلٌ، وَأَمَّا صَلَاةُ النَّفْلِ عَلَى ظَهْرِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ بِالصِّحَّةِ وَعَدَمِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْعَمَلُ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا وَمِمَّا سَنَذْكُرُهُ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ فِي جَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إلَّا الصَّلَاةَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ فَإِنَّهُ لِلْحُرْمَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) رَابِعُهَا الصَّلَاةُ فِي جَوْفِ (الْحَمَّامِ) وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ (حَيْثُ لَمْ يُوقَنْ مِنْهُ بِطَهَارَةٍ) وَلَا نَجَاسَةٍ وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْأَوَّلِ وَيُمْنَعُ فِي الثَّانِي، وَقَوْلُنَا فِي جَوْفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ خَارِجِهِ وَهُوَ مَوْضِعُ نَزْعِ الثِّيَابِ فَتَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يُتَيَقَّنْ نَجَاسَتُهُ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى خَارِجِهِ الطَّهَارَةُ. (فَائِدَةٌ) : الْحَمَّامُ هُوَ الْمَحَلُّ الْمَعْرُوفُ وَهُوَ مُذَكِّرٌ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ اللُّغَةِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْحَمِيمِ وَهُوَ الْمَاءُ الْحَارُّ. قَالَ الْأَزْهَرِيُّ: يُقَالُ لِلْخَارِجِ مِنْ الْحَمَّامِ طَابَ حَمِيمُك أَيْ طَابَ عَرَقُك. (وَ) خَامِسُهَا (الْمَزْبَلَةُ) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَهِيَ مَوْضِعُ طَرْحِ الزُّبَالَةِ. (وَ) سَادِسُهَا (الْمَجْزَرَةُ) وَهِيَ الْمَحَلُّ الْمُعَدُّ لِلتَّذْكِيَةِ وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ فِي الْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَقَارِعَةِ الطَّرِيقِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الطَّهَارَةِ، وَتُعَادُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ صَلَّى عَامِدًا، وَيَأْتِي أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِلَّا فَلَا إعَادَةَ عَلَى الْأَحْسَنِ أَيْ أَبَدِيَّةً، وَأَمَّا لَوْ تَحَقَّقْت فَلَا كَرَاهَةَ. (وَ) سَابِعُهَا (مَقْبَرَةُ) مُثَلَّثَةُ الْبَاءِ (الْمُشْرِكِينَ) وَكَذَا الْمُسْلِمِينَ وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ حَيْثُ شُكَّ فِي طَهَارَتِهَا، وَأَمَّا لَوْ تَحَقَّقَتْ نَجَاسَتُهَا فَتُمْنَعُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَتَجُوزُ الْأَمْنُ مِنْ نَجَاسَتِهَا، وَلِذَلِكَ شَهَّرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ جَوَازَ الصَّلَاةِ فِي الْمَحَجَّةِ وَالْمَقْبَرَةِ وَالْمَزْبَلَةِ إنْ أَمِنَتْ تِلْكَ الْبِقَاعُ مِنْ النَّجَسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَقْبَرَةِ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ: وَجَازَتْ بِمَرْبِضِ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ كَمَقْبَرَةٍ وَلَوْ لِمُشْرِكٍ وَمَزْبَلَةٍ وَمَحَجَّةٍ وَمَجْزَرَةٍ إنْ أُمِنَتْ مِنْ النَّجَسِ وَإِلَّا فَلَا إعَادَةَ أَيْ أَبَدِيَّةَ عَلَى الْأَحْسَنِ إذْ لَمْ تُحَقَّقْ، فَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ فِي الْجَمِيعِ إنْ لَمْ تُوقَنْ طَهَارَةُ تِلْكَ الْبِقَاعِ سِوَى الصَّلَاةِ عَلَى الْكَعْبَةِ فَإِنَّ النَّهْيَ لِعَدَمِ الِاسْتِقْبَالِ وَإِلَّا فَلَا نَهْيَ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْمَقْبَرَةَ بِالْمُشْرِكِينَ وَإِنْ كَانَ مَفْهُومُهُ غَيْرَ مُعْتَبَرٍ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (وَ) كَذَا يُنْهَى عَنْ الصَّلَاةِ فِي (كَنَائِسِهِمْ) أَيْ الْمُشْرِكِينَ وَالْمُرَادُ مَحَلُّ عِبَادَتِهِمْ لِيَشْمَلَ الْكَنِيسَةَ وَالْبِيعَةَ وَبَيْتَ النَّارِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَتْ بِكَنِيسَةٍ وَلَمْ تُعَدْ، وَلَا فَرْقَ فِي الْكَرَاهَةِ بَيْنَ الْعَامِرَةِ وَالْخَارِبَةِ، وَلَا بَيْنَ أَنْ يُصَلَّى عَلَى فِرَاشِهَا أَوْ غَيْرِهِ حَيْثُ صَلَّى فِيهَا اخْتِيَارًا، أَمَّا الْإِعَادَةُ فَمَشْرُوطَةٌ بِأَنْ يُصَلِّي بِهَا اخْتِيَارًا وَكَانَتْ عَامِرَةً وَصَلَّى عَلَى فُرُشِهَا فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى عَلَى نَجَاسَةٍ نَاسِيًا، وَأَمَّا لَوْ تَرَكَهَا مُكْرَهًا أَوْ كَانَتْ خَارِبَةً وَلَوْ صَلَّى عَلَى فُرُشِهَا أَوْ عَامِرَةً وَصَلَّى عَلَى شَيْءٍ طَاهِرٍ فَلَا إعَادَةَ، فَالْكَرَاهَةُ مُعَلَّقَةٌ بِالصَّلَاةِ فِيهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ، وَلَوْ صَلَّى عَلَى فُرُشٍ طَاهِرٍ، وَالْإِعَادَةُ مُقَيَّدَةٌ بِثَلَاثَةِ قُيُودٍ، وَيَلْزَمُ مِنْهَا الْكَرَاهَةُ بِخِلَافِ الْكَرَاهَةِ لَا يَلْزَمُ مِنْهَا الْإِعَادَةُ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النَّهْيَ فِي جَمِيعِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ إلَّا الصَّلَاةَ عَلَى ظَهْرِ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ فَعَلَى الْحُرْمَةِ، وَأَنَّ النَّهْيَ فِي بَعْضِهَا عِنْدَ عَدَمِ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ، وَفِي بَعْضِهَا وَلَوْ عِنْدَ الْأَمْنِ مِنْ النَّجَاسَةِ كَالصَّلَاةِ فِي مَعَاطِنِ الْإِبِلِ فَافْهَمْ. (خَاتِمَةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى أَمَاكِنَ تُكْرَهُ الصَّلَاةُ فِيهَا سِوَى مَا نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، مِنْهَا: الْبُقْعَةُ الْمُعْوَجَّةُ الَّتِي لَا يَتَمَكَّنُ الْمُصَلَّيْ مِنْ الْجُلُوسِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِنْهَا: الْبُقْعَةُ الَّتِي فِيهَا تَصَاوِيرُ وَتَمَاثِيلُ وَمِنْهَا: الْبُقْعَةُ الَّتِي بِهَا نَائِمٌ أَوْ جَمَاعَةٌ أَوْ مُتَيَقِّظٌ وَيُصَلِّي إلَى وَجْهِهِ كُلٌّ لِاشْتِغَالِهِ. وَمِنْهَا: الْبُقْعَةُ الَّتِي بِهَا جِدَارٌ يَرْشَحُ وَيُصَلِّي إلَيْهِ لِأَنَّ الْمُصَلِّي يُنَاجِي رَبَّهُ فَيَنْبَغِي اسْتِقْبَالُهُ لِأَفْضَلِ الْجِهَاتِ، وَمِنْهَا: الْبُقْعَةُ الَّتِي لَا يَتَوَقَّى أَصْحَابُهَا النَّجَاسَاتِ كَبَيْتِ النَّصْرَانِيِّ أَوْ الْمُسْلِمِ الَّذِي لَمْ يَتَنَزَّهْ عَنْ النَّجَاسَاتِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْفَرْشُ الَّذِي يَمْشِي عَلَيْهِ الصِّبْيَانُ، وَمَنْ لَا يَتَحَفَّظُ مِنْ النَّجَاسَاتِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْكَرَاهَةِ الْإِعَادَةُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْإِعَادَةِ تَيَقُّنُ النَّجَاسَةِ أَوْ عَدَمُ تَيَقُّنِ الطَّهَارَةِ فِي مَا الْغَالِبُ فِيهِ النَّجَاسَةُ كَالْمَزْبَلَةِ وَالْمَجْزَرَةِ وَنَحْوِهِمَا، وَأَمَّا الْبُقْعَةُ الَّتِي يُصَلِّي فِيهَا عَلَى الثَّلْجِ الشَّدِيدِ الْبُرُودَةِ فَكَرِهَهَا فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ السُّجُودِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَالدَّارُ الْمَغْصُوبُ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ فِيهَا وَلَكِنْ لَا إعَادَةَ مَعَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَسَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ فِي مَسَاجِدِ الْأَفْنِيَةِ يَدْخُلُهَا الدَّجَاجُ وَالْكِلَابُ ابْنُ رُشْدٍ مَا لَمْ يَكْثُرْ دُخُولُهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 سَاتِرٌ مِنْ دِرْعٍ أَوْ رِدَاءٍ، وَالدِّرْعُ الْقَمِيصُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى أَكْتَافِهِ مِنْهُ شَيْءٌ فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يَعُدْ وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ الدِّرْعُ الْخَصِيفُ السَّابِغُ الَّذِي يَسْتُرُ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا وَخِمَارٌ تَتَقَنَّعُ بِهِ وَتُبَاشِرُ   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالْبُقْعَةِ وَالثَّوْبِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُجْزِئُ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: (وَأَقَلُّ مَا يُصَلِّي فِيهِ الرَّجُلُ) عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ (مِنْ لِبَاسٍ ثَوْبٌ سَاتِرٌ) جَمِيعَ جَسَدِهِ سِوَى رَأْسِهِ وَيَدَيْهِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ دِرْعٍ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (وَالدِّرْعُ الْقَمِيصُ) الَّذِي يُلْبَسُ فِي الْعُنُقِ وَشَرْطُهُ كَوْنُهُ كَثِيفًا لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ (أَمَّا رِدَاءٍ) عَطْفٌ عَلَى دِرْعٍ، وَالرِّدَاءُ بِالْمَدِّ مَا يَلْتَحِفُ بِهِ الْإِنْسَانُ كَحِرَامٍ أَوْ بُرْدَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الَّذِي يُلْبَسُ فَوْقَ الثِّيَابِ عَلَى عَاتِقَيْ الْمُصَلِّي، لِأَنَّ هَذَا مُسْتَحَبٌّ أَوْ سُنَّةٌ زِيَادَةٌ عَلَى السِّتْرِ الْمَطْلُوبِ فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ، وَيَتَأَكَّدُ فِي حَقِّ أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ، وَفِي حَقِّ الْمَأْمُومِ فِي الْجَامِعِ بِأَكْثَرَ مِنْ الْمَأْمُومِ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا السِّتْرُ بِغَيْرِ الْكَثِيفِ وَهُوَ مَا يَصِفُ الْعَوْرَةَ أَيْ يُحَدِّدُهَا مِنْ كَوْنِهَا صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً أَوْ يَشِفُّ وَيُرَى مِنْ لَوْنِهَا فَهُوَ مَكْرُوهٌ، وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بَلْ كَرَاهَةُ لُبْسِ الْوَاصِفِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَبَيَّنَ مُحْتَرَزَ مَا يُجْزِئُ عَلَى جِهَةِ الْكَمَالِ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ) الرَّجُلُ (بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى أَكْتَافِهِ مِنْهُ شَيْءٌ) لِخَبَرِ: «لَا يُصَلِّيَنَّ أَحَدُكُمْ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى عَاتِقِهِ مِنْهُ شَيْءٌ» أَيْ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ. (فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ) الْمَكْرُوهَ (لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ) لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ لِأَنَّ النَّهْيَ لِلتَّنْزِيهِ. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ مَا إذَا اقْتَصَرَ الْمُصَلِّي عَلَى سَتْرِ أَقَلَّ مِمَّا ذَكَرَ، كَمَا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ السَّتْرُ وَاجِبُ شَرْطٍ أَوْ لَا؟ وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّهُ جَرَى خِلَافٌ فِي سَتْرِ الْعَوْرَةِ فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ: وَاجِبٌ شَرْطٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ. وَقِيلَ: وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ أَيْضًا، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا لَوْ صَلَّى مَكْشُوفَ الْعَوْرَةِ عَامِدًا قَادِرًا عَلَى السَّتْرِ فَعَلَى الشَّرْطِيَّةِ يُعِيدُ الْفَرْضَ لِبُطْلَانِهِ، وَعَلَى نَفْيِ الشَّرْطِيَّةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ، لَكِنْ يَأْثَمُ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ دُونَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: هَلْ سَتْرُ عَوْرَتِهِ بِكَثِيفٍ وَإِنْ بِإِعَادَةٍ أَوْ طَلَبٍ أَوْ نَجِسٍ وَحْدَهُ كَحَرِيرٍ وَهُوَ مُقَدَّمُ شَرْطٍ إنْ ذَكَرَ وَقَدَرَ وَإِنْ بِخَلْوَةٍ لِلصَّلَاةِ خِلَافٌ، وَمُقَابِلُ الشَّرْطِيَّةِ الْوُجُوبُ الْغَيْرُ الشَّرْطِيِّ كَمَا قَرَّرْنَا لَا السُّنَّةُ وَلَا الِاسْتِحْبَابُ وَإِنْ قِيلَ بِهِمَا لِضَعْفِهِمَا، وَالْخِلَافُ فِي الْعَوْرَةِ الْمُغَلَّظَةِ وَهِيَ مِنْ الرَّجُلِ السَّوْأَتَانِ وَهُمَا مِنْ الْمُقَدَّمِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَيَانِ وَمِنْ الْمُؤَخَّرِ مَا بَيْنَ الْأَلْيَتَيْنِ، وَأَمَّا عَوْرَتُهُ الْمُخَفَّفَةُ فَهُوَ مِنْ الْمُؤَخَّرِ الْأَلْيَتَانِ وَمِنْ الْمُقَدَّمِ الْعَانَةُ وَمَا فَوْقَهَا لِلسُّرَّةِ عَلَى بِحَثٍّ فِيهِ، وَالْمُغَلَّظَةُ يُعِيدُ لِكَشْفِهَا عَمْدًا أَوْ جَهْلًا أَبَدًا عَلَى الشَّرْطِيَّةِ، وَالْمُخَفَّفَةُ يُعِيدُ لِكَشْفِهَا فِي الْوَقْتِ فَقَطْ وَلَوْ عَمْدًا لِلِاتِّفَاقِ عَلَى عَدَمِ شَرْطِيَّةِ سَتْرِهَا وَإِنْ وَجَبَ وَكَشْفُ بَعْضِ كُلٍّ مِنْهُمَا كَكَشْفِ كُلٍّ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ صَلَاةِ الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ لِأَنَّ السَّتْرَ لِلصَّلَاةِ مَطْلُوبٌ فِي الْحَالَتَيْنِ، وَمَا عَدَا الْمُغَلَّظَةَ وَالْمُخَفَّفَةَ مِنْ جَسَدِ الرَّجُلِ يُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ وَيُكْرَهُ كَشْفُهُ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ فَمَنْ صَلَّى مِنْ الرِّجَالِ مَكْشُوفَ الْفَخِذِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، هَذَا بَيَانُ عَوْرَةِ الرَّجُلِ فِي الصَّلَاةِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْكَلَامِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ (وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ) الْحُرَّةَ (مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ) فِي خَلْوَةٍ أَوْ جَلْوَةٍ (الدِّرْعُ الْحَصِيفُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْكَثِيفُ الَّذِي لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ (السَّابِغُ) بَالِغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ بَعْدَ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ (الَّذِي يَسْتُرُ) جَمِيعَ جَسَدِهَا حَتَّى (ظُهُورَ قَدَمَيْهَا) حَالَ وُقُوفِهَا فِي الصَّلَاةِ لِأَنَّ بُطُونَهُمَا فِي هَذِهِ الْحَالَةِ مَسْتُورَاتٌ فَإِذَا سَجَدَتْ أَوْ جَلَسَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ سَتْرِهِمَا لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبْدِيَ فِي الصَّلَاة إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا لِأَنَّ جَمِيعَ أَجْزَائِهَا فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ عَوْرَةٌ وَلَوْ شَعْرَهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ بِالْعِطْفِ عَلَى الدِّرْعِ (وَخِمَارٌ) بِالْخَاءِ الْمَكْسُورَةِ (تَتَقَنَّعُ بِهِ) أَيْ تُغَطِّي بِهِ رَأْسَهَا وَشَعْرَهَا وَعُنُقَهَا وَعَقْصَهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تَجْعَلَ الْوِقَايَةَ فَوْقَ رَأْسِهَا وَتَتْرُكَ ذَقَنَهَا وَعُنُقَهَا مَكْشُوفِينَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْخِمَارِ مِنْ الْكَثَافَةِ مَا يُشْتَرَطُ فِي الدِّرْعِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ جَمِيعَ جَسَدِ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ سِوَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يُنَصَّ عَلَى سَتْرِهِمَا إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ الْمُغَلَّظَ وَالْمُخَفَّفَ مِنْ جَسَدِهَا وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ عَدَا الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ مِنْ الْمَرْأَةِ عَوْرَةٌ فِي الصَّلَاةِ يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ إلَّا أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: مُغَلَّظَةٌ وَمُخَفَّفَةٌ فَالْمُغَلَّظَةُ مَا عَدَا صَدْرَهَا وَأَطْرَافَهَا كَبَطْنِهَا وَظَهْرِهَا وَلَوْ الْمُحَاذِي لِصَدْرِهَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ وَتُعِيدُ صَلَاتَهَا بِكَشْفِ جُزْءٍ مِنْهَا أَبَدًا عِنْدَ الْعَمْدِ أَوْ الْجَهْلِ، وَفِي الْوَقْتِ عِنْدَ النِّسْيَانِ وَالْعَجْزِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ سَتْرَهَا وَاجِبٌ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ وَالْمُخَفَّفَةُ نَحْوَ الصَّدْرِ وَالْأَطْرَافِ. قَالَ خَلِيلٌ وَأَعَادَتْ لِصَدْرِهَا وَأَطْرَافِهَا بِوَقْتٍ كَكَشْفِ أَمَةٍ فَخْذًا لَا رِجْلًا، وَقَالَ مَالِكٌ: إنْ بَدَا صَدْرُهَا أَوْ شَعْرُهَا أَوْ ظَهَرَ قَدَمَيْهَا أَعَادَتْ فِي الْوَقْتِ وَإِلَّا أَبَدًا، وَقَيَّدْنَا الْمَرْأَةَ بِالْحُرَّةِ احْتِرَازًا عَنْ الْأَمَةِ وَإِنْ بِشَائِبَةٍ فَإِنَّ عَوْرَتَهَا بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ مُخَالِفَةٌ لِعَوْرَةِ الْحُرَّةِ، إذْ الْمُغَلَّظَةُ مِنْهَا الْأَلْيَتَانِ وَمَا حَاذَاهُمَا مِنْ الْقَدَمِ وَتُعِيدُ لِكَشْفِهَا أَبَدًا، وَالْمُخَفَّفَةُ مِنْهَا الْفَخِذَانِ تُعِيدُ لِكَشْفِهِمَا أَوْ جُزْءٍ مِنْهُمَا فِي الْوَقْتِ، وَإِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَا يُعِيدُ لِكَشْفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بِكَفَّيْهَا الْأَرْضَ فِي السُّجُودِ مِثْلُ الرَّجُلِ.   [الفواكه الدواني] الْفَخِذِ لِأَنَّهُ مِنْ الْأُنْثَى أَقْبَحُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَوْرَةَ الْأَمَةِ فِي الصَّلَاةِ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ بَيَانُ عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ، وَأَنَّهَا مِنْ الرَّجُلِ وَالْأَمَةِ مُنْحَصِرَةٌ فِيمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَمِنْ الْمَرْأَةِ الْحُرَّةِ جَمِيعُ جَسَدِهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَا تُعَادُ الصَّلَاةُ لِكَشْفِهِ مِنْهَا أَبَدًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلرُّؤْيَةِ فَلَمْ يُبَيِّنْهُ الْمُصَنِّفُ وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُهَا عَنْ النَّاسِ خَلَا زَوْجَتَهُ وَأَمَتَهُ مَا بَيْنَ الرُّكْبَةِ وَالسُّرَّةِ مَعَ رَجُلٍ مِثْلِهِ أَوْ امْرَأَةٍ مَحْرَمٍ لَهُ، وَالسُّرَّةُ وَالرُّكْبَةُ خَارِجَتَانِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْفَخِذَ مِنْ الرَّجُلِ عَوْرَةٌ فَيَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كَشْفُهُ وَالنَّظَرُ إلَيْهِ وَهُوَ مَا اخْتَارَهُ ابْنُ الْقَطَّانِ، كَمَا يَحْرُمُ تَمْكِينُ الدَّلَّاكِ مِنْهُ وَلَوْ عَلَى رَأْيِ مَنْ يَقُولُ بِكَرَاهَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ لِأَنَّ الْمُبَاشَرَةَ أَشَدُّ مِنْ النَّظَرِ، وَسَيَأْتِي فِي الْمُصَنِّفِ: وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ وَلَيْسَ كَالْعَوْرَةِ نَفْسِهَا. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْفَخِذُ عَوْرَةٌ حَقِيقَةً يَجُوزُ كَشْفُهَا مَعَ الْخَاصَّةِ وَلَا يَجُوزُ كَشْفُهَا مَعَ غَيْرِهَا، وَأَمَّا عَوْرَتُهُ مَعَ الْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّةِ وَلَوْ أَمَةً فَهِيَ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ، وَأَمَّا عَوْرَةُ الْأَمَةِ مَعَهُ فَهِيَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لِأَنَّهُ يُنْظَرُ مِنْهَا مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَهِيَ تَرَى مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ، وَالْفَرْقُ قُوَّةُ دَاعِيَتِهَا لِلرَّجُلِ وَخَفِيفُ دَاعِيَتِهِ لَهَا، وَأَمَّا عَوْرَةُ الْحُرَّةِ مَعَ امْرَأَةٍ مِثْلِهَا فَكَعَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ مِثْلِهِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ كَافِرَةً فَعَوْرَتُهَا مَعَهَا جَمِيعُ جَسَدِهَا إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، إلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَرْأَةُ أَمَتَهَا وَإِلَّا كَانَتْ عَوْرَتُهَا مَعَهَا كَرَجُلٍ مَعَ مِثْلِهِ وَلَوْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَالْحَاصِلُ أَنَّ عَوْرَةَ الرَّجُلِ مَعَ مِثْلِهِ أَوْ مَعَ مَحْرَمِهِ، وَعَوْرَةَ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ مَعَ أُنْثَى غَيْرِ كَافِرَةٍ أَوْ كَافِرَةٍ وَهِيَ أَمَتُهَا، وَعَوْرَةُ الْأَمَةِ مَعَ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَأَنَّ عَوْرَةَ الْحُرَّةِ مَعَ الذُّكُورِ الْمُسْلِمِينَ الْأَجَانِبِ جَمِيعُ جَسَدِهَا إلَّا وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا، وَمِثْلُ الْأَجَانِبِ عَبْدُهَا إذَا كَانَ غَيْرَ وَغْدٍ سَوَاءٌ كَانَ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا فَلَا يَرَى مِنْهَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَأَمَّا مَعَ الْكَافِرِ غَيْرِ عَبْدِهَا فَجَمِيعُ جَسَدِهَا حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَأَمَّا عَوْرَتُهَا مَعَ الْمَحْرَمِ أَوْ مَعَ عَبْدِهَا الْمُسْلِمِ أَوْ الْكَافِرِ إذَا كَانَ وَغَدًا فَجَمِيعُ جَسَدِهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهَا مِنْهُمَا فَيَرَيَانِ مِنْهَا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ وَتَرَى مِنْهُمَا مَا تَرَاهُ مِنْ مَحْرَمِهَا. قَالَ شَيْخُنَا فِي شَرْحِهِ: وَالْعَبْدُ الْوَغْدُ مَعَ سَيِّدَتِهِ كَالْمَحْرَمِ وَأَطْرَافُهَا كَرَأْسِهَا وَذِرَاعَيْهَا وَمَا فَوْقَ مَنْحَرِهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الَّذِي يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ الرَّجُلِ أَكْثَرُ مِمَّا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْهَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَحْرَمًا أَوْ أَجْنَبِيَّةً لِأَنَّهُ يَرَى مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ وَهِيَ تَرَى مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ، وَيَرَى مِنْ مَحْرَمِهِ الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ وَتَرَى مِنْهُ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَهِيَ تَرَى مِنْهُ الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا شُهْرَةَ وَإِلَّا حُرِّمَ النَّظَرُ وَلَوْ لِأُمِّهِ أَوْ بِنْتِهِ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ السَّتْرَ بِالْكَثِيفِ فِي الصَّلَاةِ إنَّمَا يُطْلَبُ حَيْثُ الْقُدْرَةُ وَلَوْ بِالِاسْتِعَارَةِ وَأَوْلَى بِالشِّرَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُعْتَادِ حَيْثُ لَمْ يُحْتَجَّ لَهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ طَهَارَتُهُ إلَّا عِنْدَ الْقُدْرَةِ وَإِلَّا اسْتَتَرَ بِالنَّجِسِ وَأَوْلَى الْحَرِيرُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَيْئًا صَلَّى عُرْيَانًا، فَإِنْ وَجَدَ مَا يَسْتَتِرُ بِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ عُرْيَانًا نُدِبَ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ خِلَافًا لِ خَلِيلٍ، كَمَا تُنْدَبُ الْإِعَادَةُ لِمَنْ صَلَّى بِحَرِيرٍ أَوْ نَجِسٍ ثُمَّ وَجَدَ ثَوْبًا غَيْرَ حَرِيرٍ أَوْ وَجَدَ مَنْ صَلَّى بِالْمُتَنَجِّسِ ثَوْبًا طَاهِرًا أَوْ مَاءً يُطَهِّرُ بِهِ الثَّوْبَ وَيُعِيدُ الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ وَالْعِشَاءَيْنِ اللَّيْلَ كُلَّهُ وَالصُّبْحَ لِلطُّلُوعِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ ذَكَرَ مَا يَشْتَرِكَانِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ (تُبَاشِرَ بِكَفَّيْهَا الْأَرْضَ فِي السُّجُودِ مِثْلَ الرَّجُلِ) وَيُكْرَهُ لَهُمَا سَتْرُهُمَا وَلَوْ بِالْكُمَّيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَجِرَاحَاتٍ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَيْهِمَا فَسُنَّةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسُنَّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ كَيَدَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ، فَلَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ اُسْتُحِبَّ إعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ كَمَا قَالَ سَنَدٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تُعَادُ فِي الْوَقْتِ لِتَرْكِ السُّنَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَنْ سُنَّةٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَهُوَ فَرْضٌ، فَإِنْ قِيلَ: يُعَارِضُ الْمَشْهُورَ حَدِيثُ: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ» فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ السُّجُودِ عَلَى الْيَدَيْنِ لِأَنَّهُمَا مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ. فَالْجَوَابُ أَنَّ قَوْلَهُ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «وَلَا أَكُفُّ الشَّعْرَ وَالثِّيَابَ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ ضَمَّ ثِيَابَهُ أَوْ شَعْرَهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، فَكَذَلِكَ لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَى الْيَدَيْنِ، وَلَا يُقَالُ: مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ الْجَبْهَةُ لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ عَلَيْهَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ السُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ بِدَلِيلٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَعَلَى مَا يَحْصُلَانِ بِهِ مِنْ الْمَاءِ الْمُطْلَقِ، وَمَا يُطْلَبُ تَطْهِيرُهُ لِلصَّلَاةِ مِنْ ثَوْبٍ وَمَكَانٍ، شَرَعَ فِي بَيَانِ وَاجِبَاتِهِمَا وَصِفَاتِهِمَا مُقَدِّمًا الْكَلَامَ عَلَى الْوُضُوءِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 [مَا يُجْزِئُ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ] بَابُ صِفَةِ الْوُضُوءِ وَمَسْنُونِهِ وَمَفْرُوضِهِ وَذِكْرِ الِاسْتِنْجَاءِ وَالِاسْتِجْمَارِ وَلَيْسَ الِاسْتِنْجَاءُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ بِهِ الْوُضُوءُ لَا فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ وَلَا فِي فَرَائِضِهِ وَهُوَ مِنْ بَابِ إيجَابِ زَوَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ أَوْ بِالِاسْتِجْمَارِ لِئَلَّا يُصَلِّيَ بِهَا فِي جَسَدِهِ وَيُجْزِئُ فِعْلُهُ بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَكَذَلِكَ غَسْلُ الثَّوْبِ النَّجِسِ، [بَابٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ] وَصِفَةُ   [الفواكه الدواني] [بَاب صفة الْوُضُوء وَمَسْنُونه وَمَفْرُوضه وذكر الِاسْتِنْجَاء وَالِاسْتِجْمَار] (بَابٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ) وَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ بِنِيَّةٍ. (وَ) بَيَانُ (مَسْنُونِهِ) وَهُوَ مَا يَطْلُبُ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ فَيَشْمَلُ الْمَنْدُوبَ (وَ) بَيَانُ (مَفْرُوضِهِ) وَهُوَ مَا يُطْلَبُ طَلَبًا جَازِمًا. فَإِنْ قِيلَ: الْوُضُوءُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مَسْنُونِهِ وَمَفْرُوضِهِ فَكَيْف عَطَفَهُمَا عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْمُفَصَّلِ عَلَى الْمُجْمَلِ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ هَكَذَا قَرَّرَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ، وَأَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ مَسْنُونَهُ وَمَفْرُوضَهُ مَعْطُوفَانِ عَلَى لَفْظِ الْوُضُوءِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ تَمْيِيزِهِ السُّنَّةَ مِنْ الْفَرِيضَةِ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ إلَى الْكُوعَيْنِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ سُنَّةٌ وَبَاقِيه فَرِيضَةٌ، أَنَّ قَوْلَهُ: وَمَسْنُونِهِ وَمَفْرُوضِهِ مَعْطُوفَانِ عَلَى صِفَةِ الْوُضُوءِ لَا عَلَى الْوُضُوءِ، وَتَرْكِيبُهُ بَابٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ وَفِي بَيَانِ الْمَسْنُونِ مِنْ الْمَفْرُوضِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الْوُضُوءِ مَعْرِفَةُ مَا هُوَ سُنَّةٌ أَوْ فَرِيضَةٌ فَنَصَّ عَلَى الْأَمْرَيْنِ رِفْقًا بِالْمُتَعَلِّمِينَ. (وَ) فِي (ذِكْرِ) صِفَةِ (الِاسْتِنْجَاءِ) وَهُوَ عُرْفًا غَسْلُ مَوْضِعِ الْخَبَثِ بِالْمَاءِ (وَ) صِفَةِ (الِاسْتِجْمَارِ) وَهُوَ إزَالَةُ مَا عَلَى الْمَخْرَجَيْنِ مِنْ الْأَذَى بِحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَسُمِّيَ اسْتِعْمَالُ الْحِجَارَةِ اسْتِجْمَارًا لِأَنَّ الْجِمَارَ هِيَ الْحِجَارَةُ الصَّغِيرَةُ (تَنْبِيهٌ) : يُؤْخَذُ مِنْ تَعَرُّضِهِ لِبَيَانِ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصِ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ قَدْ اُخْتُلِفَ فِيمَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَا يَعْرِفُ فِيهِ فَرْضًا مِنْ سُنَّةٍ، وَالصَّحِيحُ صِحَّتُهُ إنْ أَخَذَ الْوَصْفَ عَنْ عَالِمٍ قَالَهُ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ. وَلَمَّا اعْتَادَ النَّاسُ تَقْدِيمَ الِاسْتِنْجَاءِ عَلَى الْوُضُوءِ وَكَانَ ذَلِكَ مَظِنَّةَ اعْتِقَادِ وُجُوبِ تَقْدِيمِهِ عَلَى الْوُضُوءِ قَالَ: (وَلَيْسَ) فِعْلُ (الِاسْتِنْجَاءِ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يُوصَلَ بِهِ الْوُضُوءُ) إذْ لَمْ يُعَدَّ (لَا فِي سُنَنِ الْوُضُوءِ) الْمَحَلُّ لِلْإِضْمَارِ فَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: لَا فِي سُنَنِهِ. (وَلَا فِي فَرَائِضِهِ) وَإِنَّمَا هُوَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُهَا عَلَى الْوُضُوءِ، عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: فَلَوْ تَوَضَّأَ قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ وَاسْتَنْجَى بَعْدَ تَمَامِ الْوُضُوءِ صَحَّ وُضُوءُهُ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَمَسّ ذَكَرَهُ عِنْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِأَنْ يَلُفَّ خِرْقَةً عَلَى يَدَيْهِ حِينَ فِعْلِهِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَخْرُجُ مِنْهُ حَدَثٌ عِنْدَ فِعْلِهِ. (وَ) إنَّمَا (هُوَ مِنْ بَابِ) أَيْ طَرِيقِ (إيجَابِ) أَيْ طَلَبِ (زَوَالِ النَّجَاسَةِ بِهِ) أَيْ بِالِاسْتِنْجَاءِ وَهُوَ تَطْهِيرُ الْمَحَلِّ بِالْمَاءِ (أَوْ بِالِاسْتِجْمَارِ) وَهُوَ إزَالَةُ مَا عَلَى الْمَحَلِّ بِالْأَحْجَارِ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (لِئَلَّا يُصَلِّيَ بِهَا) أَيْ النَّجَاسَةِ (فِي جَسَدِهِ) فَلَوْ صَلَّى قَبْلَ إزَالَةِ مَا عَلَى الْمَحَلِّ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا فَعَلَى الْقَوْلِ بِسُنِّيَّةِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ عَامِدًا، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فَيُعِيدُ أَبَدًا مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ وَفِي الْوَقْتِ مَعَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ. (تَنْبِيهٌ) : قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِهِ أَوْ بِالِاسْتِجْمَارِ يُوهِم أَنَّ مَرْتَبَتَهُمَا وَاحِدَةٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ أَفْضَلُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ بِفِعْلِ كُلٍّ مِنْ غَيْرِ إعَادَةٍ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّ الْمَاءَ أَفْضَلُ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَالْمَاءُ أَطْيَبُ. (وَ) لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ الْوُضُوءِ (يُجْزِئُ فِعْلُهُ) أَيْ مَا ذَكَرَ مِنْ الِاسْتِنْجَاءِ أَوْ الِاسْتِجْمَارِ (بِغَيْرِ نِيَّةٍ وَكَذَلِكَ غَسْلُ الثَّوْبِ النَّجِسِ) لِأَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ مِنْ بَابِ الْمَتْرُوكِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ لِظُهُورِ عِلَّةِ الْحُكْمِ فِيهِ وَهِيَ هُنَا النَّظَافَةُ، وَحَكَى بَعْضُهُمْ الْإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ كَتَرْكِ الْغَصْبِ وَنَحْوِهِ مِنْ الْمَنْهِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُكَلَّفَ يَخْرُجُ مِنْ عُهْدَتِهَا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهَا، وَإِنْ كَانَ لَا يُثَابُ عَلَى التَّرْكِ إلَّا بِنِيَّةِ الِامْتِثَالِ، وَالنِّيَّةُ إنَّمَا تَجِبُ فِي التَّعَبُّدَاتِ كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ سَائِرِ الْقُرَبِ كَالْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، وَلَا يُقَالُ: اشْتِرَاطُ الْمُطْلَقِ فِي إزَالَةِ النَّجَاسَةِ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ الْمَتْرُوكِ وَأَنَّهَا عِبَادَةٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا طَلَبُ الْمُطْلَقِ لِأَجْلِ فِعْلِ الْعِبَادَةِ بِمَا أُزِيلَتْ عَنْهُ النَّجَاسَةُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ مَكَان فَلَا يَرِدُ مَا قَالَهُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنَّ قَوْلَهُمْ لَا تَفْتَقِرُ إزَالَتُهَا إلَى نِيَّةٍ يَدُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 الِاسْتِنْجَاءِ أَنْ يَبْدَأ بَعْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ فَيَغْسِلَ مَخْرَجَ الْبَوْلِ ثُمَّ يَمْسَحَ مَا فِي الْمَخْرَجِ مِنْ الْأَذَى بِمَدَرٍ أَوْ غَيْرِهِ أَوْ بِيَدِهِ ثُمَّ يَحُكَّهَا بِالْأَرْضِ وَيَغْسِلَهَا ثُمَّ يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ وَيُوَاصِلَ صَبَّهُ وَيَسْتَرْخِيَ قَلِيلًا وَيُجِيدَ عَرْكَ ذَلِكَ بِيَدِهِ حَتَّى يَتَنَظَّفَ وَلَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا بَطَنَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ وَلَا يَسْتَنْجِي مِنْ رِيحٍ وَمَنْ اسْتَجْمَرَ بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ يَخْرُجُ آخِرُهُنَّ نَقِيًّا أَجْزَأَهُ   [الفواكه الدواني] عَلَى أَنَّهَا مَعْقُولَةُ الْمَعْنَى، وَقَوْلُهُمْ لَا تُزَالُ إلَّا بِالْمُطْلَقِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا تَعَبُّدِيَّةٌ فَهُوَ تَنَاقُضٌ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَمَا ذَكَرَهُ صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَأَوْرَدْته فِي دُرُوسِ كَثِيرٍ مِنْ الْمَشَايِخِ فَكُلُّهُمْ لَمْ يُجِبْ إلَّا بِمَا لَا يَصْلُحُ وَقَدْ عَلِمْت الْجَوَابَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ الِاسْتِنْجَاءِ مُقَدِّمًا لَهَا عَنْ الْوُضُوءِ لِنَدْبِ تَقَدُّمِهِ عَلَى الْوُضُوءِ كَمَا عَلِمْت بِقَوْلِهِ: (وَصِفَةُ الِاسْتِنْجَاءِ) الْكَامِلَةُ (أَنْ يَبْدَأَ بَعْدَ غَسْلِ) أَيْ بَلِّ (يَدَيْهِ) وَلَوْ بِغَيْرِ مُطْلَقٍ حَيْثُ لَمْ يُزِلْ مَا عَلَى الْمَحَلِّ بِحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ. (فَيَغْسِلَ مَخْرَجَ الْبَوْلِ) قَبْلَ غَسْلِ مَخْرَجِ الْغَائِطِ لِئَلَّا تَنْجَسَ يَدُهُ مِنْ الذَّكَرِ إذَا مَسَّ مَخْرَجَ الْغَائِطِ قَبْلَ مَخْرَجِ الْبَوْلِ، وَلِذَا لَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ قَطْرُ بَوْلِهِ عِنْدَ مَسِّ دُبُرِهِ بِالْمَاءِ يُؤَخِّرُ غَسْلَ قُبُلِهِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّقْدِيمِ حِينَئِذٍ. (ثُمَّ) بَعْدَ غَسْلِ مَخْرَجِ الْبَوْلِ (يَمْسَحَ مَا فِي الْمَخْرَجِ) الْمُرَادُ مَا عَلَيْهِ فَفِي بِمَعْنَى عَلَى أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ يَمْسَحَ مَا فِي فَمِ الْمَخْرَجِ (مِنْ الْأَذَى بِمَدَرٍ) أَيْ طِينٍ يَابِسٍ (أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ كُلِّ مَا يُزِيلُ النَّجَاسَةَ مِنْ الطَّاهِرِ الْمُنَقِّي الْغَيْرِ الْمُؤْذِي أَوْ غَيْرِ الْمُحْتَرَمِ. (أَوْ) يَمْسَحَهُ (بِ) شَيْءٍ مِنْ أَصَابِعِ (يَدِهِ) الْيُسْرَى إذَا لَمْ يَجِدْ غَيْرَهَا، وَاخْتُلِفَ فِي الْإِصْبَعِ الَّذِي يَسْتَجْمِرُ بِهِ فَقِيلَ الْوُسْطَى وَقِيلَ الْبِنْصِرُ، وَيَجْرِي مِثْلُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا، وَلَا يَنْبَغِي لَا الِاسْتِجْمَارُ وَلَا الِاسْتِنْجَاءُ بِالسَّبَّابَةِ (ثُمَّ) بَعْدَ مَسْحِ مَا عَلَى الْمَخْرَجِ بِإِصْبَعِ يَدِهِ (يَحُكَّهَا بِالْأَرْضِ) لِإِزَالَةِ الْعَيْنِ (وَيَغْسِلَهَا) بِمَا يُزِيلُ الرَّائِحَةَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِهَا مِنْ طَفْلٍ أَوْ صَابُونٍ أَوْ غَاسُولٍ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَبَلُّهَا قَبْلَ لَقِيَ الْأَذَى وَغَسْلُهَا بِكَتُرَابٍ بَعْدَهُ، فَأَشَارَ إلَى أَنْ بَلَّهَا وَغَسَلَهَا بَعْد الِاسْتِنْجَاء بِكَتُرَابٍ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَاقَى بِهَا الْأَذَى، لَا إنْ أَزَالَ مَا عَلَى الْمَحَلِّ ابْتِدَاءً بِحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ، فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُ بَعْدَ الِاسْتِنْجَاءِ بِالْمَاءِ غَسْلُهَا بِكَتُرَابٍ وَلَا بَلُّهَا قَبْلَ الِاسْتِنْجَاءِ بِهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ كُلِّ مَا تَقَدَّمَ (يَسْتَنْجِيَ بِالْمَاءِ) الْمُطْلَقِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ جَمْعُ مَاءٍ وَحَجَرٍ. (وَيُوَاصِلَ صَبَّهُ) حِينَ الْغَسْلِ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يَسْتَرْخِيَ قَلِيلًا) حَالَ الِاسْتِجْمَارِ وَحَالَ الِاسْتِنْجَاءِ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ إزَالَةِ مَا غَابَ فِي طَيَّاتِ الدُّبُرِ مِنْ الْأَذَى. (وَيُجِيدَ عَرْكَ ذَلِكَ) أَيْ الْمَخْرَجَ (بِيَدِهِ) الْيُسْرَى إنْ قَدَرَ حَتَّى (يَتَنَظَّفَ) بِأَنْ تَذْهَبَ النُّعُومَةُ وَتَظْهَرَ الْخُشُونَةُ، وَيَكْفِي غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي ذَلِكَ، وَقَوْلُنَا: إنْ قَدَرَ احْتِرَازٌ مِنْ عَدَمِ تَمَكُّنِهِ لِفَقْدِ يَدِهِ أَوْ قِصَرِهَا أَوْ كَوْنِهِ سَمِينًا فَإِنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ تَمْكِينُ مَنْ يَجُوزُ لَهُ مُبَاشَرَةُ ذَلِكَ الْمَحَلِّ كَزَوْجَتِهِ وَأَمَتِهِ، لَكِنَّ الزَّوْجَةَ لَا يَلْزَمُهَا ذَلِكَ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا فَقَطْ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَيُجْبِرُهَا عَلَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تَتَضَرَّرَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَمْكِينُ مَحْرَمٍ وَلَوْ رَضِيَتْ لِحُرْمَةِ كَشْفِ السَّوْأَتَيْنِ وَيَلْزَمُهُ شِرَاءُ أَمَةٍ لِتُزِيلَ أَذَاهُ بِمَاءٍ أَوْ حَجَرٍ إنْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ وَإِلَّا سَقَطَ عَنْهُ إزَالَةُ النَّجَاسَةِ لِأَنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ إذَا عَجَزَتْ عَنْ الِاسْتِنْجَاءِ بِنَفْسِهَا فَلَهَا أَنْ تُمَكِّنَ زَوْجَهَا إنْ طَاعَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا تَمْكِينُهُ وَلَوْ أَمَتَهَا لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهَا أَنْ تُمَكِّنَهَا مِنْ رُؤْيَةِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ، وَيَسْتَعْمِلُ الْمَاءَ فِي بَقِيَّةِ جَسَدِهِ وَلَا يَتَيَمَّمُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ بَلُّ يَدِهِ قَبْلَ غَسْلِ مَخْرَجِ الْبَوْلِ إلَّا حَيْثُ لَمْ يَسْتَجْمِرْ بِحَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ كَمَا أَنَّهُ لَا يُطْلَبُ حَكُّ يَدِهِ بِالْأَرْضِ إلَّا إذَا بَاشَرَ بِهَا إزَالَةَ النَّجَاسَةِ، وَأَمَّا لَوْ أَزَالَ النَّجَاسَةَ بِحَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ قَبْلَ صَبِّ الْمَاءِ فَإِنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ حَكُّهَا، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ أَيْضًا يُشْعِرُ بِذَلِكَ حَيْثُ قَالَ: وَبَلُّهَا قَبْلَ لُقَى الْأَذَى وَغَسْلُهَا بِكَتُرَابٍ بَعْدَهُ فَإِنَّ الضَّمِيرَ لِلَقْيِ الْأَذَى. الثَّانِي: لَوْ اسْتَنْجَى وَغَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ الْمَحَلَّ نُظِّفَ ثُمَّ تَوَضَّأَ وَصَلَّى وَبَعْدَ الصَّلَاةِ وَجَدَ فِي غُضُونِ الْمَحَلِّ حَبَّةَ تِينٍ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْأَذَى وَشَكَّ هَلْ خَرَجَ بَعْدَ الْوُضُوءِ أَوْ مِنْ الْحَدَثِ الَّذِي اسْتَنْجَى مِنْهُ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عِنْدَ السُّؤَالِ عَنْ ذَلِكَ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ وَيُعِدُّ ذَلِكَ خَارِجًا بَعْدَ الْوُضُوءِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِنَظَافَةِ الْمَحَلِّ عِنْدَ اسْتِنْجَائِهِ. وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ مِنْ بَابِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ وَلَا تُطْلَبُ إزَالَتُهَا إلَّا عَنْ الظَّاهِرِ مِنْ الْجَسَدِ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ) أَيْ مُرِيدِ الِاسْتِنْجَاءِ (غَسْلُ مَا بَطَنَ مِنْ الْمَخْرَجَيْنِ) حَالَ اسْتِنْجَائِهِ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا، بَلْ وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَكَلُّفُ ذَلِكَ بِأَنْ يُدْخِلَ الرَّجُلُ أُصْبُعَهُ فِي دُبُرِهِ وَتُدْخِلَ الْمَرْأَةُ أُصْبُعَهَا فِي قُبُلِهَا لِأَنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا، إذْ هُوَ مِنْ الرَّجُلِ كَاللِّوَاطِ، وَمِنْ الْمَرْأَةِ كَالْمُسَاحَقَةِ، بَلْ الْمَرْأَةُ تَغْسِلُ دُبُرَهَا كَالرَّجُلِ، وَتَغْسِلُ مَا يَظْهَرُ مِنْ قُبُلِهَا حَالَ جُلُوسِهَا لِقَضَاءِ الْحَاجَةِ كَغَسْلِ اللَّوْحِ وَالْمُرَادُ بِالْمَخْرَجَيْنِ الدُّبُرُ وَقُبُلُ الْمَرْأَةِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الِاسْتِنْجَاءَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ خُرُوجِ مَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ قَالَ: (وَلَا يَسْتَنْجِي مِنْ رِيحٍ) أَيْ يُكْرَهُ لِخَبَرِ: «لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَالْمَاءُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَأَحَبُّ إلَى الْعُلَمَاءِ، وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَوْلٌ وَلَا غَائِطٌ وَتَوَضَّأَ لِحَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا   [الفواكه الدواني] مِنَّا مَنْ اسْتَنْجَى مِنْ الرِّيحِ» وَصَرَّحَ الْبَاجِيُّ بِطَهَارَتِهِ. ، وَلَمَّا اشْتَهَرَ عِنْدَ الْعَامَّةِ أَنَّ الِاسْتِجْمَارَ لَا يَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِنْجَاءِ قَالَ: (وَمَنْ اسْتَجْمَرَ) مِنْ كُلِّ مُرِيدِ صَلَاةٍ أَوْ طَوَافٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ (بِثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ) أَوْ بِحَجَرٍ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْرُفٍ (يَخْرُجُ آخِرُهُنَّ نَقِيًّا أَجْزَأَهُ) أَيْ كَفَاهُ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ، وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ وَلَا غَيْرِهِ، لِأَنَّهُ إنَّمَا خَالَفَ الْأَفْضَلَ فَقَطْ وَهُوَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْإِجْزَاءِ أَنَّ مَحَلَّ الِاسْتِجْمَارِ لَوْ عَرِقَ وَأَصَابَ ثَوْبًا لَا يُنَجِّسُهُ، فَإِنْ قِيلَ: الْعِبْرَةُ بِنَقَاءِ الْمَحَلِّ لَا بِنَقَاءِ الْأَحْجَارِ فَكَيْفَ يَقُولُ الْمُصَنِّفُ أَجْزَأَهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ نَقَاءِ الْأَحْجَارِ نَقَاءُ الْمَحَلِّ، وَأُخِذَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْحَجَرِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ لِأَنَّ مَعْنَى الْإِجْزَاءِ فِي كَلَامِهِ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْمَاءِ، وَلَكِنْ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ غَيْرَ الْحَجَرِ لَا يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَا يُنَقِّي الْمَحَلَّ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فِي مَحَلِّ الِاسْتِنْجَاءِ فَقَطْ وَلَوْ يَدًا أَوْ نَجِسًا، فَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَجِبُ إزَالَةُ النَّجَاسَةُ عَنْهُ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْمَاءِ وَلَا يَكْفِي إزَالَتُهَا عَنْهُ إلَّا بِالْمَاءِ، كَمَا أَنَّهُ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا يُجْزِئُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمُعْتَمَدُ إجْزَاءُ الْوَاحِدِ حَيْثُ حَصَلَ بِهِ الْإِنْقَاءُ لِأَنَّ التَّثْلِيثَ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ لِحُصُولِ الْإِيتَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: فَإِنْ أَنْقَتْ أَجْزَأَتْ كَالْيَدِ دُونَ الثَّلَاثِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاسْتِنْجَاءُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الصَّلَوَاتِ. وَلَمَّا كَانَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْحَجَرِ مَفْضُولًا بِالنِّسْبَةِ لِلْمَاءِ قَالَ: (وَالْمَاءُ أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ وَأَحَبُّ إلَى الْعُلَمَاءِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ أَفْضَلُ مِنْ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْأَحْجَارِ قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ جَمْعُ مَاءٍ وَحَجَرٍ ثُمَّ مَا نَقُولُهُ أَظْهَرُ أَيْ أَبْلَغُ فِي التَّطْهِيرِ مِنْ الْحِجَارَةِ، لِأَنَّ الْمَاءَ يُزِيلُ الْعَيْنَ وَالْحُكْمَ وَالْأَحْجَارُ إنَّمَا تُزِيلُ الْعَيْنَ، وَمَعْنَى أَطْيَبُ أَيْ لِلنَّفْسِ لِأَنَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ يُذْهِبُ الشَّكَّ، وَقَوْلُهُ: أَحَبَّ الْعُلَمَاءُ الْمُرَادُ جُمْهُورُهُمْ لِأَنَّ ابْنَ الْمُسَيِّبِ مِنْ أَكَابِرِ الْعُلَمَاءِ ذَمَّ اسْتِعْمَالَ الْمَاءِ وَقَالَ: إنَّهُ مِنْ فِعْلِ النِّسَاءِ، وَمَعْنَى الْأَحَبِّيَّةِ الْأَفْضَلِيَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ إنَّ اللَّهَ قَدْ أَثْنَى عَلَيْكُمْ خَيْرًا فِي الطَّهُورِ فَمَا طَهُورُكُمْ؟ قَالُوا: نَسْتَنْجِي بِالْمَاءِ، فَقَالَ: هُوَ ذَاكَ فَعَلَيْكُمُوهُ» وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرَاتِبَ ثَلَاثَةٌ: أَعْلَاهَا الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَاءِ وَالْحَجَرِ، وَيَلِيهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَاءِ، وَأَدْنَاهَا الِاقْتِصَارُ عَلَى الْأَحْجَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ جَمْعُ مَاءٍ وَحَجَرٍ ثُمَّ مَاءٍ، وَلَكِنْ وَقَعَ خِلَافٌ فِي مَوْضِعِ الِاسْتِجْمَارِ فَقِيلَ: إنَّهُ صَارَ طَاهِرًا، وَقِيلَ: إنَّهُ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ إلَّا أَنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُرْفَعُ حُكْمُ الْخَبَثِ إلَّا بِالْمَاءِ الْمُطْلَقِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ صِفَةِ الِاسْتِبْرَاءِ وَحُكْمِهِ مَعَ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَى وُجُوبِهِ فَكَانَ الْأَوْلَى بِالذِّكْرِ، وَأَشَارَ لَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَوَجَبَ اسْتِبْرَاءٌ بِاسْتِفْرَاغِ أَخْبَثِيهِ وَهُمَا مَحَلُّ الْغَائِطِ وَالْبَوْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخَلِّيَهُمَا مِنْ الْأَذَى، وَذَلِكَ بِأَنْ يُحِسَّ مِنْ نَفْسِهِ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ بِسَبَبِ الْخُرُوجِ وَالْإِحْسَاسُ الْمَذْكُورُ إنَّمَا يَكْفِي فِي الْغَائِطِ، وَأَمَّا الْبَوْلُ فَلَا بُدَّ مِنْ مَسْكِ ذَكَرِهِ مِنْ أَصْلِهِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ مِنْ يَسَارِهِ وَيُمِرُّهُمَا إلَى رَأْسِهِ وَيَنْتُرُهُ نَتْرًا خَفِيفًا، فَإِنْ لَمْ يَبْقَ فِيهِ شَيْءٌ وَضَعَ رَأْسَهُ عَلَى حَجَرٍ أَوْ نَحْوِهِ حَتَّى أُصْبُعِ يَدِهِ الْيُسْرَى عِنْدَ عَدَمِ غَيْرِهِ، وَلَا يُكَلَّفُ إلَى قِيَامٍ أَوْ تَنَحْنُحٍ إلَّا إذَا كَانَتْ عَادَتُهُ أَنَّهُ لَا يَنْقَطِعُ حَدَثُهُ إلَّا بِقِيَامِهِ أَوْ تَنَحْنُحِهِ وَإِلَّا لَزِمَهُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الِاسْتِبْرَاءُ لِأَنَّ بِهِ يَحْصُلُ الْخُلُوصُ مِنْ الْحَدَثِ الْمُنَافِي لِلطَّهَارَةِ، فَلَوْ انْقَبَضَ عَلَى شَيْءٍ لَوْلَا قَبْضُهُ لَخَرَجَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ الِاسْتِجْمَارِ بِالْأَحْجَارِ الثَّلَاثَةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الرَّاجِحَ أَنَّهُ يَمْسَحُ جَمِيعَ الْمَحَلِّ بِكُلِّ حَجَرٍ حَتَّى يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَوْتَرَ، وَرُبَّمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: يَخْرُجُ آخِرُهُنَّ نَقِيًّا. الثَّالِثُ: مَحَلُّ الِاكْتِفَاءِ بِالِاسْتِجْمَارِ عِنْدَ الْمَاءِ إذَا كَانَ الْحَدَثُ بَوْلًا أَوْ غَائِطًا أَوْ مَذْيًا غَيْرَ نَاقِضٍ لِلْوُضُوءِ بِأَنْ خَرَجَ عَلَى وَجْهِ السَّلَسِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْحَدَثُ مَذْيًا خَرَجَ بِلَذَّةٍ أَوْ كَانَ حَيْضًا أَوْ نِفَاسًا أَوْ مَنِيًّا لِمَنْ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ فَيَتَعَيَّنُ الْمَاءُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ فِي مَنِيٍّ وَحَيْضٍ وَنِفَاسٍ وَبَوْلِ امْرَأَةٍ وَمُنْتَشِرٍ عَنْ مَخْرَجٍ كَثِيرٍ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ الْمَذْيُ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ بِلَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَقِضُ الْوُضُوءُ، فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ، وَأَمَّا لَوْ نُقِضَ الْوُضُوءُ بِأَنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ أَوْ قَدَرَ عَلَى رَفْعِهِ لَوَجَبَ فِيهِ الْمَاءُ وَيُقْتَصَرُ عَلَى مَحَلِّ الْأَذَى، لِأَنَّ وُجُوبَ غَسْلِ الْجَمِيعِ مَشْرُوطٌ بِاللَّذَّةِ الْمُعْتَادَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا عَفْوَ عَنْهُ بِأَنْ لَمْ يَأْتِ كُلَّ يَوْمٍ وَإِلَّا سَقَطَ وُجُوبُ غَسْلِهِ، وَلَوْ كَانَ يَنْقُضُ الْوُضُوءَ بِأَنْ فَارَقَ أَكْثَرَ الزَّمَنِ لِأَنَّ الْعَفْوَ شَيْءٌ وَنَقْضُ الْوُضُوءِ شَيْءٌ آخَرُ. فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَنْقُضْ الْوُضُوءَ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ وَلَا يَتَعَيَّنُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 يُوجِبُ الْوُضُوءَ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِ يَدَيْهِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ. [صِفَةِ الطَّهَارَة الْحَدَثِيَّةِ] وَمِنْ سُنَّةِ الْوُضُوءِ غَسْلُ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ سَنَةٌ وَبَاقِيهِ فَرِيضَةٌ. فَمَنْ قَامَ إلَى وُضُوءٍ مِنْ نَوْمٍ أَوْ غَيْرِهِ فَقَدْ قَالَ   [الفواكه الدواني] الْمَاءُ، سَوَاءٌ وَجَبَ غَسْلُ جَمِيعِهِ بِأَنْ خَرَجَ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ أَوْ وَجَبَ غَسْلُ مَحَلِّ الْأَذَى فَقَطْ بِأَنْ خَرَجَ بِلَا لَذَّةٍ أَوْ لَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ، وَكَمَا يَتَعَيَّنُ الْمَاءُ فِيمَنْ خَرَجَ مَنِيُّهُ وَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ يَتَعَيَّنُ عَلَى مَنْ خَرَجَ مَنِيُّهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْغُسْلُ لِخُرُوجِ مَنِيِّهِ بِلَا لَذَّةٍ غَيْرِ مُعْتَادَةٍ وَكَانَ مُوجِبًا لِلْوُضُوءِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُوجِبْ غُسْلًا وَلَا نَقَضَ وُضُوءًا فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ كَالْبَوْلِ وَالْحَصَى وَالدُّودِ الْخَارِجِينَ بِبِلَّةٍ كَثِيرَةٍ لِأَنَّ الْيَسِيرَةَ يُعْفَى عَنْهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمَاءَ يَتَعَيَّنُ فِي غَسْلِ الْمَنِيِّ فِي صُورَتَيْنِ: أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ أَوْ يَكُونُ غَيْرَ مُوجِبٍ الْغُسْلَ وَنَاقَضَا لِلْوُضُوءِ، وَيَكْفِي فِيهِ الْحَجَرُ فِي صُورَةٍ وَهِيَ أَنْ لَا يُوجِبَ وُضُوءًا وَلَا غُسْلًا. الرَّابِعُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: " ثَلَاثَةِ " بِالتَّاءِ مُطَابِقٌ لِأَحْجَارٍ وَغَيْرُ مُطَابِقٍ لِآخِرِهِنَّ لِأَنَّ التَّاءَ تُشْعِرُ بِالتَّذْكِيرِ وَالنُّونَ بِالتَّأْنِيثِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ أَنَّثَ عَلَى تَأْوِيلِ الْأَحْجَارِ بِالْجَمَاعَةِ وَإِنْ كَانَ غَرِيبًا نَظِيرَ قَوْلِ الشَّاعِرِ: يَمُرُّونَ بِالدَّهْنَا خِفَافًا عِيَابُهُمْ ... وَيَرْجِعْنَ مِنْ دَارِينَ بُجْرَ الْحَقَائِبِ وَفِي قَوْلِهِ أَطْيَبُ وَأَطْهَرُ إشْكَالٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ أَنَّ كُلًّا مِنْ أَطْيَبَ وَأَطْهَرَ اسْمُ تَفْضِيلٍ وَهُوَ لَا يُبْنَى غَالِبًا إلَّا مِنْ الثُّلَاثِيِّ وَهُوَ لَا يَصِحُّ هُنَا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَى أَخْذِهِ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى أَنَّ الطَّهَارَةَ الْقَائِمَةَ بِالْمَاءِ أَشَدُّ مِنْ الطَّهَارَةِ الْقَائِمَةِ بِالْحَجَرِ، لِأَنَّ الْفِعْلَ الْقَاصِرَ لَا يُجَاوِزُ حَدَثُهُ فَاعِلَهُ وَهَذَا غَيْرُ مُرَادٍ، لِأَنَّ الْقَصْدَ أَنَّ تَطْهِيرَ الْمَاءِ لِلْمَحَلِّ أَشَدُّ مِنْ تَطْهِيرِ الْحَجَرِ لَهُ وَيُقَالُ مِثْلُهُ فِي أَطْيَبَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى صَوْغِهِ مِنْ طَهَّرَ وَطَيَّبَ الْمُضَاعَفَيْنِ بَعْدَ حَذْفِ الزَّائِدِ عَلَى ثَلَاثَةٍ وَهُوَ ثَانِي الْمُضَعَّفِ فَيَكُونُ مَعْنَاهُ: أَنَّ الْمَاءَ أَشَدُّ تَطْهِيرًا لِلْمَحَلِّ مِنْ تَطْهِيرِ الْحَجَرِ لَهُ وَهَذَا شَأْنُ كُلِّ فِعْلٍ مُتَعَدٍّ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الطَّهَارَةِ الْخَبَثِيَّةِ شَرَعَ فِي صِفَةِ الْحَدَثِيَّةِ لِأَنَّ فِعْلَ الْأُولَى مِنْ بَابِ التَّخْلِيَةِ وَالثَّانِيَةُ مِنْ بَابِ التَّحْلِيَةِ، وَالتَّخْلِيَةُ مُقَدَّمَةٌ عَلَى التَّحْلِيَةِ فَقَالَ: (وَمَنْ لَمْ يَخْرُجْ مِنْهُ بَوْلٌ وَلَا غَائِطٌ) وَلَا غَيْرُهُمَا مِمَّا يُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءَ (وَتَوَضَّأَ) أَيْ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأ (لِحَدَثٍ أَوْ نَوْمٍ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُوجِبُ الْوُضُوءَ) وَلَا يُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءَ (فَلَا بُدَّ) لَهُ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (مِنْ غَسْلِ يَدَيْهِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ) الَّذِي يَتَوَضَّأُ مِنْهُ [سُنَن الْوُضُوءِ] وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ لَا بُدَّ وُجُوبُ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَالَ: (وَمِنْ سُنَّةِ الْوُضُوءِ) وَلَوْ مَنْدُوبًا (غَسْلُ الْيَدَيْنِ) إلَى الْكُوعَيْنِ بِمُطْلَقٍ وَنِيَّةٍ وَلَوْ نَظِيفَتَيْنِ لِأَنَّ غَسَلَهُمَا لِلتَّعَبُّدِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ (قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ) حَتَّى تَحْصُلَ السُّنَّةُ حَيْثُ كَانَ الْإِنَاءُ صَغِيرًا يُمْكِنُ الْإِفْرَاغُ مِنْهُ، لَا إنْ كَانَ كَبِيرًا أَوْ بَحْرًا أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْإِفْرَاغُ مِنْهُ فَيَغْسِلُهُمَا دَاخِلَهُ حَيْثُ كَانَتَا طَاهِرَتَيْنِ أَوْ مُتَنَجِّسَتَيْنِ لَا يُخْشَى تَغْيِيرُهُ بِغُسْلِهِمَا فِيهِ لِكَثْرَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَلَيْهِمَا مَا يَسْلُبُ طَهُورِيَّةَ الْمَاءِ وَكَانَ الْمَاءُ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَحَقَّقُ أَوْ يُظَنُّ تَغَيُّرُهُ بِإِدْخَالِهِمَا، فَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ التَّحَيُّلُ عَلَى إزَالَةِ مَا عَلَيْهِمَا قَبْلَ إدْخَالِهِمَا أَزَالَهُ وَغَسَلَهُمَا دَاخِلَهُ وَإِلَّا تَرَكَهُ وَتَيَمَّمَ كَعَادِمِ الْمَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلَا يَغْمِسْ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ حَتَّى يَغْسِلَهَا ثَلَاثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» وَلَكِنْ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ السَّنَةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى غَسْلِهَا ثَلَاثًا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَسُنَنُهُ غَسْلُ يَدَيْهِ أَوَّلًا ثَلَاثًا تَعَبُّدًا بِمُطْلَقٍ وَنِيَّةٍ، وَصَرَّحَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّثْلِيثِ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ: التَّثْلِيثُ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ «لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ وَغَسَلَ يَدَيْهِ تَارَةً مَرَّتَيْنِ وَتَارَةً مَرَّةً» كَمَا يُسْتَحَبُّ غَسْلُهُمَا مُفْتَرِقَتَيْنِ. (تَنْبِيهٌ) : كَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ أَنْ يَقُولَ: وَمِنْ سُنَنِ الْوُضُوءِ لِإِتْيَانِهِ بِمِنْ التَّبْعِيضِيَّةِ لِتَعَدُّدِ الْمُبَعَّضِ، وَلَا يُقَالُ: يُرَادُ بِسُنَّتِهِ الْجِنْسُ وَهُوَ يَقْبَلُ التَّبْعِيضَ، لِأَنَّا نَقُولُ: وُجُودُ التَّاءِ يُنَافِي ذَلِكَ لِاقْتِضَائِهَا الْوَحْدَةَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهَا لَيْسَتْ لِلْوَحِدَةِ بَلْ هِيَ كَتَاءِ فِضَّةٍ فَلَا يَمْنَعُ وُجُودُهَا مِنْ إرَادَةِ الْجِنْسِ. [فَرَائِض الْوُضُوء] وَلَمَّا قِيلَ بِوُجُوبِ بَعْضِ سُنَنٍ اسْتَأْنَفَ الْمُصَنِّفُ ذِكْرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ) فَلَفْظُ الْمَضْمَضَةِ مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: سُنَّةٌ خَبَرٌ عَنْهَا وَمَا عُطِفَ عَلَيْهَا مُقَدَّرٌ مَعَ كُلِّ وَاحِدَةٍ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ، وَالْمَضْمَضَةُ بِمُعْجَمَتَيْنِ أَوْ مُهْمَلَتَيْنِ لُغَةً التَّحْرِيكُ وَشَرْعًا خَضْخَضَةُ الْمَاءِ فِي الْفَمِ ثُمَّ مَجُّهُ، فَلَوْ لَمْ يَمُجَّهُ أَوْ لَمْ يُخَضْخِضْهُ لَمْ يَكُنْ آتَيَا بِالسُّنَّةِ، وَالِاسْتِنْشَاقُ مَأْخُوذٌ مِنْ التَّنَشُّقِ وَهُوَ لُغَةً الشَّمُّ وَشَرْعًا جَذْبُ الْمَاءِ بِنَفَسِهِ إلَى دَاخِلِ أَنْفِهِ وَالِاسْتِنْثَارُ عَكْسُهُ وَهُوَ طَرْحُ الْمَاءِ بِنَفَسِهِ إلَى خَارِجِ أَنْفِهِ مَعَ وَضْعِ أُصْبُعَيْهِ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى أَنْفِهِ، وَصِفَةُ مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ أَنْ يَجْعَلَ بَاطِنَ الْإِبْهَامَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّحْمَتَيْنِ وَآخِرَ السَّبَّابَتَيْنِ فِي الصِّمَاخَيْنِ وَوَسَطَهُمَا مُقَابِلًا لِلْبَاطِنِ دَائِرَيْنِ مَعَ الْإِبْهَامَيْنِ لِلْآخِرَةِ وَكَرِهَ ابْنُ حَبِيبٍ تَتَبُّعَ غُضُونِهِمَا، وَسَيُعِيدُ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ عَلَى تِلْكَ السُّنَنِ فِي ذِكْرِ صِفَةِ الْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَبْدَأُ فَيُسَمِّي اللَّهَ وَلَمْ يَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ وَكَوْنُ الْإِنَاءِ عَلَى يَمِينِهِ أَمْكَنُ لَهُ فِي تَنَاوُلِهِ وَيَبْدَأُ فَيَغْسِلُ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا فَإِنْ كَانَ قَدْ بَالَ أَوْ تَغَوَّطَ غَسَلَ ذَلِكَ مِنْهُ ثُمَّ تَوَضَّأَ ثُمَّ يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ الْوُضُوءِ قَالَ: (وَبَاقِيه فَرِيضَةٌ) بِمَعْنَى مَفْرُوضَةٌ وَهِيَ مَا يُثَابُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِهِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدِّ فَرَائِضِهِ وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ أَنَّهَا سَبْعَةٌ: أَرْبَعٌ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَهِيَ الْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ وَثَلَاثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا، وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ فَرْضِيَّتُهَا وَهِيَ: النِّيَّةُ وَالدَّلْكُ وَالْفَوْرُ وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْأَشْيَاخِ قَوْلَهُ: وَبَاقِيه فَرِيضَةٌ بِأَنَّ بَعْضَ غَيْرِ مَا قَدَّمَهُ سُنَّةٌ، كَرَدِّ مَسْحِ الرَّأْسِ وَتَجْدِيدِ الْمَاءِ لِلْأُذُنَيْنِ وَالتَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَرَائِضِ، وَمِنْهُ فَضِيلَةٌ كَشَفْعِ غَسْلِهِ وَتَثْلِيثِهِ وَبَقِيَّةِ الْمُسْتَحَبَّاتِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِبَاقِيهِ مَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي آيَةِ {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ} [المائدة: 6] الْآيَةَ، فَإِنَّهَا سِيقَتْ لِبَيَانِ فُرُوضِهِ الْمَذْكُورَةِ فِيهَا وَهِيَ: الْوَجْهُ وَالْيَدَانِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ لِلْكَعْبَيْنِ فَهَذِهِ أَرْبَعُ فَرَائِضَ، وَأَعْضَاءُ السُّنَنِ أَرْبَعٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّ هُنَاكَ مَفْعُولَاتِهِ مِمَّا لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا هُوَ فَرْضٌ كَالنِّيَّةِ وَالدَّلْكِ وَالْمُوَالَاةِ، وَمَا هُوَ سُنَّةٌ كَالتَّرْتِيبِ وَالتَّجْدِيدِ لِلْأُذُنَيْنِ وَرَدِّ مَسْحِ الرَّأْسِ وَمَا هُوَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سُنَنَ الْوُضُوءِ الْمُتَّفَقَ عَلَيْهَا ثَمَانِيَةٌ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَتَجْدِيدُ الْمَاءِ لَهُمَا وَرَدُّ مَسْحِ الرَّأْسِ وَتَرْتِيبُ فَرَائِضِهِ، وَزَادَ اللَّخْمِيُّ: مَسْحَ الصِّمَاخَيْنِ، وَابْنُ عَرَفَةَ: السِّوَاكَ، وَابْنُ رُشْدٍ: الْمُوَالَاةَ، فَتَصِيرُ جُمْلَةُ السُّنَنِ إحْدَى عَشْرَةَ سُنَّةً. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا يَفْتَقِرُ مِنْ السُّنَنِ إلَى نِيَّةٍ وَمَا لَا يَفْتَقِرُ، وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَا تَقَدَّمَ مِنْهَا عَلَى مَحَلِّ الْفَرْضِ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ وَذَلِكَ كَغَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَالِاسْتِنْثَارِ، وَمَا تَأَخَّرَ عَنْ الشُّرُوعِ فِي الْفَرَائِضِ فَنِيَّةُ الْفَرْضِ تَشْمَلُهُ كَالْفَضَائِلِ وَصِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ عِنْدَ شُرُوعِهِ فِي غَسْلِ يَدَيْهِ الْإِتْيَانَ بِسُنَنِ الْوُضُوءِ السَّابِقَةِ عَلَى نِيَّةِ الْفَرْضِ الثَّانِي: لَمْ يُنَبِّهْ أَيْضًا عَلَى شُرُوطِ الْوُضُوءِ وَكَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهُ لِتَوَقُّفِ الْمَشْرُوطِ عَلَى شَرْطِهِ وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: مَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ، وَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ، وَمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَطْ، فَالْأَوَّلُ خَمْسَةُ أَشْيَاءَ: الْعَقْلُ وَبُلُوغُ دَعْوَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَطْعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَوُجُودُ الْكَافِي مِنْ الْمُطْلَقِ. وَالثَّانِي سِتَّةُ أَشْيَاءَ: دُخُولُ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ أَوْ تَذَكُّرُ الْفَائِتَةِ وَالْبُلُوغُ وَعَدَمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى تَرْكِهِ وَعَدَمُ النَّوْمِ وَعَدَمُ السَّهْوِ عَنْ الْعِبَادَةِ الْمَطْلُوبِ لَهَا الْوُضُوءُ وَالشَّكُّ فِي الْحَدَثِ. وَالثَّالِثُ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْإِسْلَامُ وَلَوْ حُكْمًا كَوُضُوءِ مَنْ أَجْمَعَ بِقَلْبِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ ثُمَّ أَسْلَمَ بَعْدَ ذَلِكَ وَعَدَمُ الْحَائِلِ عَلَى مَحَلِّ الطَّهَارَةِ وَعَدَمُ التَّلَبُّسِ بِالْمُنَافِي حَالَ فِعْلِ الطَّهَارَةِ، وَالْمُرَادُ بِشَرْطِ الْوُجُوبِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْوُجُوبُ، وَبِشَرْطِ الصِّحَّةِ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ، وَلَا يَصِحُّ تَفْسِيرُ شَرْطِ الْوُجُوبِ بِمَا لَا يُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصِ تَحْصِيلُهُ وَشَرْطُ الصِّحَّةِ بِمَا يُطْلَبُ مِنْهُ تَحْصِيلُهُ لِئَلَّا يُشْكِلَ اجْتِمَاعُهُمَا، وَالْأَوْلَى فِي التَّعْبِيرِ إبْدَالُ الْوُجُوبِ بِالطَّلَبِ لِيَتَنَاوَلَ وُضُوءَ الصَّبِيِّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا هُوَ سُنَّةٌ وَمَا هُوَ فَرِيضَةٌ مِنْ الْوُضُوءِ، شَرَعَ فِي صِفَتِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى السُّنَنِ وَالْفَضَائِلِ فَقَالَ: (فَمَنْ قَامَ إلَى وُضُوءٍ مِنْ نَوْمٍ) مُوجِبٍ لِلْوُضُوءِ (أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ مُوجِبَاتِهِ (فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ وَالْأَبْهَرِيُّ وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا: إنَّهُ (يَبْدَأُ فَيُسَمِّي اللَّهَ) بِأَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللَّهِ، وَزَادَ بَعْضُهُمْ: الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ. (وَلَمْ يَرَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ الْأَمْرِ الْمَعْرُوفِ) عِنْدَ السَّلَفِ بَلْ جَعَلَهُ مِنْ الْفِعْلِ الْمُنْكَرِ أَيْ مَكْرُوهٌ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ عَنْ الْإِمَامِ أَشْهُرُهَا مَا صَدَّرَ بِهِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ فِي فَضَائِلِ الْوُضُوءِ: وَتَسْمِيَةٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِهَا مَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ» بَلْ قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الْوُجُوبُ (وَ) مِنْ فَضَائِلِ الْوُضُوءِ أَيْضًا (كَوْنُ الْإِنَاءِ) مَوْضُوعًا (عَلَى يَمِينِهِ) إنْ كَانَ مَفْتُوحًا؛ لِأَنَّهُ (أَمْكَنُ) أَيْ أَسْهَلُ (لَهُ فِي تَنَاوُلِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَيَمُّنُ أَعْضَاءٍ وَإِنَاءٍ إنْ فَتَحَ (وَ) بَعْدَ وَضْعِ الْإِنَاءِ عَلَى مَا هُوَ أَمْكَنُ لَهُ يُسَنُّ لَهُ أَنْ (يَبْدَأَ فَيَغْسِلَ يَدَيْهِ) إلَى كُوعَيْهِ (قَبْلَ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فَيَأْخُذُ الْمَاءَ فَيُمَضْمِضُ فَاهُ ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ شَاءَ أَوْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ وَإِنْ اسْتَاكَ بِأُصْبُعِهِ فَحَسَنٌ، ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ بِأَنْفِهِ الْمَاءَ وَيَسْتَنْثِرُهُ ثَلَاثًا يَجْعَلُ يَدَهُ عَلَى أَنْفِهِ كَامْتِخَاطِهِ وَيُجْزِئُهُ أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَلَهُ جَمْعُ ذَلِكَ فِي غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ وَالنِّهَايَةُ أَحْسَنُ. ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ إنْ شَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيَجْعَلُهُ فِي يَدَيْهِ جَمِيعًا ثُمَّ   [الفواكه الدواني] يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ) حَيْثُ كَانَ يُمْكِنُ الْإِفْرَاغُ مِنْهُ عَلَى مَا بَيَّنَّا سَابِقًا (ثَلَاثًا) تَعَبُّدًا بِمُطْلَقٍ وَنِيَّةٍ وَلَوْ نَظِيفَتَيْنِ، وَيُسْتَحَبُّ غَسْلُ كُلِّ يَدٍ عَلَى حِدَتِهَا وَيَدْلُكُهَا وَيُخَلِّلُهَا كَغَسْلِ الْفَرْضِ، وَهَذَا الَّذِي يَبْدَأُ بِغَسْلِ يَدَيْهِ هُوَ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الِاسْتِنْجَاءَ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَأَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانَ قَدْ بَال أَوْ تَغَوَّطَ) أَوْ أَمَذْي (غَسَلَ ذَلِكَ) الْمَخْرَجَ (مِنْهُ) قَبْلَ غَسْلِ يَدَيْهِ (ثُمَّ) بَعْدَ غَسْلِ الْأَذَى الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ (تَوَضَّأَ) أَيْ يَغْسِلُ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ قَبْلَ إدْخَالَهُمَا فِي الْإِنَاءِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّا سَابِقًا، فَالْمُرَادُ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ يَشْرَعُ يَتَوَضَّأُ. (ثُمَّ) بَعْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ (يُدْخِلُ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ لِيَأْخُذَ الْمَاءَ فَيُمَضْمِضُ فَاهُ) بِهِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ. (ثَلَاثًا مِنْ غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ إنْ شَاءَ أَوْ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ الصِّفَتَيْنِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الرَّاجِحُ أَنَّ الثَّانِيَةَ أَفْضَلُ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ وَالنِّهَايَةُ أَحْسَنُ، وَالْغَرْفَةُ بِالْفَتْحِ الْمَرَّةُ وَبِالضَّمِّ اسْمٌ لِلْمَغْرُوفِ مِنْهُ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ وَلَمَّا كَانَ يُسْتَحَبُّ أَوْ يُسَنُّ الِاسْتِيَاكُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ قَالَ: (وَإِنْ اسْتَاك بِأُصْبُعِهِ فَحَسَنٌ مُرَغَّبٌ فِيهِ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ وَإِنَّمَا قُلْنَا مَعَ عَدَمِ وُجُودِ شَيْءٍ إلَخْ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ الِاسْتِيَاكُ بِغَيْرِ الْأُصْبُعِ عِنْدَ وُجُودِ الْغَيْرِ، وَاسْتَظْهَرَ الْإِمَامُ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّهُ سُنَّةٌ لِحَثِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتُهُمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَيَسْتَاكُ عِنْدَ الْمَرَّةِ الْأُولَى أَوْ غَيْرِهَا، وَكَمَا يُطْلَبُ عِنْدَ الْوُضُوءِ يُطْلَبُ عِنْدَ الصَّلَاةِ وَعِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَعِنْدَ الِانْتِبَاهِ مِنْ النَّوْمِ وَعِنْدَ كَثْرَةِ الْكَلَامِ، بَلْ يَتَأَكَّدُ طَلَبُهُ وَصِفَتُهُ أَنْ يَكُونَ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ أَوَّلًا طُولًا فِي اللِّسَانِ وَعَرْضًا فِي الْأَسْنَانِ، وَأَحْسَنُ مَا يُسْتَاكُ بِهِ الْأَرَاكُ كَانَ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا إلَّا فِي حَقِّ الصَّائِمِ فَيُكْرَهُ لَهُ الْأَخْضَرُ وَلَا يَسْتَاكُ بِعُودِ الرُّمَّانِ وَالرَّيْحَانِ لِتَحْرِيكِهِمَا عِرْقَ الْجُذَامِ، وَلَا بِالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْأَكْلَةَ وَالْبَرَصَ، وَلَا بِعُودِ الشَّعِيرِ وَالْحَلْفَاءِ وَلَا بِالْمَجْهُولِ مَخَافَةَ كَوْنِهِ مِنْ الْمُحَذَّرِ مِنْهُ، وَيَسْتَاكُ لَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ وَلَا فِي مَسْجِدٍ خِيفَةَ خُرُوجِ شَيْءٍ مِنْ أَسْنَانِهِ وَقَدْرُهُ شِبْرٌ لَا أَزْيَدُ فَإِنَّ الزَّائِدَ يَرْكَبُ عَلَيْهِ الشَّيْطَانُ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ تَطْيِيبُ رَائِحَةِ الْفَمِ لِلْمَلَكِ لِأَنَّهُ يَدْنُو مِنْ فَمِ الشَّخْصِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ، وَلِأَنَّهُ يُذْهِبُ حُفَرَ الْأَسْنَانِ وَيَجْلُو الْبَصَرَ وَيَشُدُّ اللَّثَةَ وَيُنَقِّي بِالْبَلْغَمِ وَيُرْضِي الرَّبَّ وَيَزِيدُ فِي حَسَنَاتِ الصَّلَاةِ وَيَصِحُّ بِهِ الْجَسَدُ وَيُذَكِّرُ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ عَكْسَ الْحَشِيشَةِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ حُكْمَهُ الْأَصْلِيَّ النَّدْبُ أَوْ السُّنَّةُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَإِزَالَةِ مَا يُوجِبُ بَقَاؤُهُ التَّخَلُّفَ عَنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ لَوْلَاهُ، وَقَدْ تَعْرِضْ حُرْمَتُهُ كَالِاسْتِيَاكِ بِالْجَوْزِ فِي زَمَنِ الصَّوْمِ، وَقَدْ تَعْرِضُ كَرَاهَتُهُ كَالِاسْتِيَاكِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ لِلصَّائِمِ، وَيَكُونُ مُبَاحًا بَعْدَ الزَّوَالِ لِلصَّائِمِ عَلَى مَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ عَنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَازَ سِوَاكٌ كُلَّ النَّهَارِ (ثُمَّ) بَعْدَ الْمَضْمَضَةِ يُسَنُّ أَنْ (يَسْتَنْشِقَ بِأَنْفِهِ الْمَاءَ) أَيْ يُدْخِلُهُ فِيهِ وَيَجْذِبُهُ بِنَفَسِهِ إلَى دَاخِلِ أَنْفِهِ (وَ) يُسَنُّ أَنْ (يَسْتَنْثِرَهُ) أَيْ يَطْرَحَهُ بِنَفَسِهِ إلَى خَارِجِ أَنْفِهِ (ثَلَاثًا) رَاجِعٌ لِلِاسْتِنْشَاقِ وَيَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّ الِاسْتِنْثَارَ كَذَلِكَ. (وَ) يُسْتَحَبُّ فِي حَالِ الِاسْتِنْثَارِ أَنْ (يَجْعَلَ يَدَهُ) أَيْ إبْهَامَهُ وَسَبَّابَتَهُ مِنْ يُسْرَاهُ (عَلَى أَنْفِهِ كَامْتِخَاطِهِ) أَيْ كَمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ مَسْكُ أَنْفِهِ بِيُسْرَاهُ فِي حَالِّ امْتِخَاطِهِ، فَالتَّشْبِيهُ فِي الْحُكْمِ وَالصِّفَةِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَنْثِرَ أَوْ يَمْتَخِطَ مِنْ غَيْرِ وَضْعِ يَدِهِ أَوْ مَعَ وَضْعِ يُمْنَاهُ مَعَ وُجُودِ يُسْرَاهُ لِأَنَّهُ كَامْتِخَاطِ الْحِمَارِ، وَقِيلَ: إنَّ الْوَضْعَ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ يَكُونَانِ ثَلَاثًا ثَلَاثًا خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ لَا تَحْصُلُ بِهِ السُّنَّةُ فَقَالَ: (وَيُجْزِئُهُ) فِي حُصُولِ السُّنَّةِ (أَقَلُّ مِنْ ثَلَاثٍ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ) وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ أَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ لَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ فِيهِمَا إلَّا بِالثَّلَاثِ وَهُوَ ظَاهِرُ خَلِيلٍ وَالْحَدِيثِ وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ مَعَ مَا قَدَّمْنَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى حُصُولِ السُّنَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ مَرَّتَيْنِ وَثَلَاثًا ثَلَاثًا» ، وَيُؤْخَذُ مِنْ تَعْبِيرِهِ الْإِجْزَاءُ فِيمَا دُونَ الثَّلَاثِ أَنَّ الْأَفْضَلَ الثَّلَاثُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ ثَلَاثٌ وَالْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ حَتَّى بِمَرَّةٍ وَالتَّثْلِيثُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ الثَّلَاثَ أَفْضَلُ، بَيَّنَ هُنَا كَوْنَ الْأَفْضَلِ فِعْلَ الثَّلَاثِ مِنْ غَرْفَةٍ أَوْ مِنْ ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ جَمْعُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ (فِي غَرْفَةٍ وَاحِدَةٍ) يَتَمَضْمَضُ مِنْهَا ثَلَاثًا عَلَى الْوَلَاءِ ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ ثَلَاثًا عَلَى الْوَلَاءِ، وَيَصِحُّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ مِنْهَا مَرَّةً ثُمَّ يَسْتَنْشِقُ مَرَّةً وَهَكَذَا، وَلَكِنَّ الصِّفَةَ الْأُولَى أَفْضَلُ لِلسَّلَامَةِ مِنْ التَّنْكِيسِ. (وَ) لَكِنَّ (النِّهَايَةَ أَحْسَنُ) أَيْ أَفْضَلُ وَهِيَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ مِنْ ثَلَاثٍ وَيَسْتَنْشِقَ مِنْ ثَلَاثٍ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 يَنْقُلُهُ إلَى وَجْهِهِ فَيُفْرِغُهُ عَلَيْهِ غَاسِلًا لَهُ بِيَدَيْهِ مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ وَحَدُّهُ مَنَابِتُ شَعْرِ رَأْسِهِ إلَى طَرَفِ ذَقَنِهِ وَدَوْرُ وَجْهِهِ كُلِّهِ   [الفواكه الدواني] قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفِعْلُهُمَا بِسِتٍّ أَفْضَلُ وَجَازَ أَوْ أَحَدُهُمَا بِغَرْفَةٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ بِمَرَّةٍ وَلَكِنْ يُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَنَّ الْأَحْسَنِيَّةَ الْمُشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ وَالنِّهَايَةُ أَحْسَنُ بَيْنَ الثَّلَاثِ وَالِاثْنَتَيْنِ لِأَنَّ الْمَرَّةَ الْوَاحِدَةَ لَا حُسْنَ فِيهَا الْكَرَاهَةُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ الْمُبَالَغَةُ فِي الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَالَغَ مُفْطِرٌ وَحَقِيقَتُهَا إدَارَةُ الْمَاءِ فِي أَقْصَى الْحَلْقِ فِي الْمَضْمَضَةِ وَفِي الِاسْتِنْشَاقِ جَذْبُ الْمَاءِ لِأَقْصَى الْأَنْفِ، وَلِذَلِكَ كُرِهَتْ لِلصَّائِمِ خِيفَةَ أَنْ يَسْبِقَهُ شَيْءٌ إلَى حَلْقِهِ. الثَّانِي: لَا يُقَالُ كَانَ مُقْتَضَى قُوَّةِ الْفَرَائِضِ عَلَى السُّنَنِ تَقْدِيمَهَا عَلَى السُّنَنِ فَلِمَاذَا قُدِّمَتْ السُّنَنُ عَلَى الْفَرَائِضِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا قُدِّمَتْ تِلْكَ السُّنَنُ عَلَى الْفَرَائِضِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِاخْتِبَارِ حَالِ الْمَاءِ لِأَنَّ بِتَقْدِيمِ الْيَدَيْنِ يُعْرَفُ لَوْنُ الْمَاءِ، وَبِالْمَضْمَضَةِ يُعْرَفُ حَالُ طَعْمِ الْمَاءِ، وَبِالِاسْتِنْشَاقِ يُعْرَفُ رِيحُ الْمَاءِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ فِعْلِ الْفَرَائِضِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) بَعْدَ الِاسْتِنْثَارِ (يَأْخُذُ الْمَاءَ إنْ شَاءَ بِيَدَيْهِ جَمِيعًا وَإِنْ شَاءَ) يَأْخُذُهُ (بِيَدِهِ الْيُمْنَى) لِأَنَّ الْأَخْذَ بِهَا أَسْهَلُ (فَيَجْعَلُهُ) أَيْ يُصَيِّرُهُ (فِي يَدَيْهِ جَمِيعًا ثُمَّ) بَعْدَ تَفْرِيغِهِ فِي يَدَيْهِ (يَنْقُلُهُ إلَى وَجْهِهِ فَيُفْرِغُهُ عَلَيْهِ) حَالَةَ كَوْنِهِ (غَاسِلًا لَهُ) أَيْ لِوَجْهِهِ أَيْ دَالِكًا لَهُ (بِيَدَيْهِ) إنْ قَدَرَ وَإِلَّا اسْتَنَابَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ فِي الْغَسْلِ، وَهَذِهِ هِيَ الْفَرِيضَةُ الْأُولَى مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ وَهِيَ غَسْلُ الْوَجْهِ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَةُ الدَّلْكِ لِلصَّبِّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ الْأَكْمَلُ الْمُقَارَنَةُ، وَالْمُرَادُ بِيَدَيْهِ بَاطِنُ كَفَّيْهِ لِأَنَّ الدَّلْكَ فِي الْوُضُوءِ إنَّمَا يَكُونُ بِهِمَا، فَلَا يُجْزِي الدَّلْكُ بِظَاهِرِ كَفِّهِ وَلَا بِمِرْفَقِهِ مَعَ إمْكَانِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ، وَأَحْرَى غَيْرُهُمَا إلَّا فِي دَلْكِ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ بِالْأُخْرَى فَإِنَّهُ يُجْزِئُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَيَّدْنَا بِالْوُضُوءِ لِأَنَّ الْغُسْلَ يَجُوزُ فِيهِ دَلْكُ الْأَعْضَاءِ بِبَعْضِهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: يَنْقُلُهُ إلَى وَجْهِهِ شَرْطِيَّةُ نَقْلِ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إنَّمَا الشَّرْطُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْعُضْوِ، وَلِذَا لَوْ غَسَلَ عُضْوًا مِنْ الْمَطَرِ عِنْدَ نُزُولِهِ أَوْ مِنْ مَاءِ الْمِيزَابِ لَكَفَى، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ النَّقْلُ فِي مَسْحِ الرَّأْسِ إذَا أُرِيدَ مَسْحُهُ، وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ غَسْلَهُ نِيَابَةً عَنْ مَسْحِهِ لَكَانَ كَبَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ نَقْلِ الْمَاءِ إلَى مَسْحِ الرَّأْسِ، فَلَوْ نَزَلَ عَلَى رَأْسِهِ مَطَرٌ يَسِيرٌ وَمَسَحَ بِهِ لَا يُجْزِئُهُ، وَأَمَّا لَوْ غَسَلَ رَأْسَهُ فَلَا يَجِبُ نَقْلُ الْمَاءِ إلَى الْغَسْلِ، بَلْ لَوْ نَزَلَ عَلَى رَأْسِهِ مَطَرٌ كَثِيرٌ فَغَسَلَ رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ لِأَنَّ النَّقْلَ لِلْمَسْحِ لَا لِلْغَسْلِ، وَمِنْ النَّقْلِ مُلَاقَاةُ الْمَطَرِ بِيَدِهِ ثُمَّ يَمْسَحُ رَأْسَهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: يُفْرِغُهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ أَرْسَلَ الْمَاءَ مِنْ يَدِهِ وَمَسَحَ وَجْهَهُ بِبَلَلِ يَدَيْهِ لَمْ يُجْزِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَيُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ يُفْرِغُهُ أَنَّهُ لَا يَلْطِمُ وَجْهَهُ بِالْمَاءِ بِقُوَّةٍ كَمَا يَفْعَلُهُ النِّسَاءُ فَإِنَّهُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ أَجْزَأَ حَيْثُ عَمَّ، وَفَسَّرْنَا الْغُسْلَ بِالدَّلْكِ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الدَّلْكَ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ حَتَّى يُسَمَّى الْفِعْلُ غَسْلًا لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي حَقِيقَةِ الْغَسْلِ عِنْدَ مَالِكٍ أَخَذًا مِنْ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: وَادْلُكِي جَسَدَكِ بِيَدِك» وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ، وَلَا فَرْقَ عَلَى الْمَذْهَبِ بَيْنَ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ. الثَّانِي: أَفْهَمَ قَوْلُهُ بِيَدَيْهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ يُوَضِّئَ نَفْسَهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ عَلَى الدَّلْكِ فَقَطْ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ فَيَجُوزُ، بَلْ يَجِبُ عَلَى نَحْوِ الْأَقْطَعِ اسْتِنَابَةُ مَنْ يُوَضِّئُهُ أَوْ يَدْلُكُ لَهُ إنْ قَدَرَ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ وَالنِّيَّةُ مِنْ الْمُسْتَنِيبِ، فَلَوْ اسْتَنَابَ عَلَى الْوُضُوءِ أَوْ عَلَى الدَّلْكِ اخْتِيَارًا فَقَوْلَانِ: الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا عَدَمُ إجْزَاءِ الِاسْتِنَابَةِ عَلَى صَبِّ الْمَاءِ فَيَجُوزُ. الثَّالِثُ: لَوْ أُكْرِهَ شَخْصٌ عَلَى فِعْلِ الْوُضُوءِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الدَّفْعَ عَنْ نَفْسِهِ لَا يُجْزِئُهُ هَذَا الْوُضُوءُ لِعَقْدِ النِّيَّةِ، وَأَمَّا إنْ اسْتَطَاعَ الْمُخَالَفَةَ وَفَعَلَهُ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَجْزَأَهُ حَيْثُ وُجِدَتْ النِّيَّةُ، كَمَا أَنَّهُ يُجْزِئُهُ إذَا نَوَى فِعْلَهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْمُخَالَفَةِ فِيمَا يَظْهَرُ إذَا كَانَ الدَّلْكُ وَاقِعًا مِنْ الْمُكْرَهِ بِالْفَتْحِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الدَّلْكُ وَاقِعًا مِنْ الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ فَلَا يَصِحُّ الْوُضُوءُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الِاسْتِنَابَةَ فِيهِ لَا تَصِحُّ إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ كَكَوْنِهِ ذَا آفَةٍ أَوْ عَلِيلًا كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ، وَبَقِيَ مَا لَوْ أَكْرَهَ شَخْصٌ شَخْصًا عَلَى تَرْكِ الدَّلْكِ وَمَكَّنَهُ مِنْ فِعْلِ الْوُضُوءِ، وَالظَّاهِرُ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ صِحَّةُ وُضُوئِهِ لِأَنَّ الدَّلْكَ إنَّمَا يَجِبُ عِنْدَ الْقُدْرَةِ. الرَّابِعُ: لَوْ وَكَّلَ جَمَاعَةً لِعُذْرٍ فَوُضُوءُهُ جُمْلَةً وَاحِدَةً لَصَحَّ وُضُوءُهُ حَيْثُ نَوَاهُ لِعَدَمِ فَرْضِيَّةِ التَّرْتِيبِ عِنْدَنَا عَلَى الْمَذْهَبِ، إلَّا أَنَّهُ تَنْكِيسٌ حُكْمًا فَيُسَنُّ إعَادَةُ الْمُنَكَّسِ مَعَ مَا بَعْدَهُ بِالْقُرْبِ وَحْدَهُ مَعَ الْبُعْدِ لِأَجْلِ سُنِّيَّةِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَرْتِيبُ سُنَنِهِ أَوْ مَعَ فَرَائِضِهِ فَيُعَادُ الْمُنَكَّسُ وَحْدَهُ إنْ بَعُدَ بِجَفَافٍ وَإِلَّا مَعَ تَابِعِهِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ تَفْرِيغُ الْمَاءِ وَالْغَسْلُ (مِنْ أَعْلَى جَبْهَتِهِ) لِيَسِيلَ الْمَاءُ عَلَى جَمِيعِ الْوَجْهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 مِنْ حَدِّ عَظْمَاتِ لَحْيَيْهِ إلَى صُدْغَيْهِ وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى مَا غَارَ مِنْ ظَاهِرِ أَجْفَانِهِ وَأَسَارِيرِ جَبْهَتِهِ وَمَا تَحْتَ مَارِنِهِ مِنْ ظَاهِرِ أَنْفِهِ يَغْسِلُ وَجْهَهُ هَكَذَا ثَلَاثًا يَنْقُلُ الْمَاءَ إلَيْهِ وَيُحَرِّكُ لِحْيَتَهُ فِي غَسْلِ وَجْهِهِ بِكَفَّيْهِ لِيُدَاخِلَهَا الْمَاءُ لِدَفْعِ الشَّعْرِ لِمَا يُلَاقِيه مِنْ الْمَاءِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ تَخْلِيلُهَا فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِ مَالِكٍ وَيُجْرِي عَلَيْهَا يَدَيْهِ إلَى آخِرِهَا ، ثُمَّ يَغْسِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى   [الفواكه الدواني] وَلِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ فِي الطَّهَارَةِ الِابْتِدَاءُ بِأَوَّلِ الْأَعْضَاءِ، فَإِنْ ابْتَدَأَ مِنْ أَسْفَلِهَا أَجْزَأَهُ وَبِئْسَ مَا صَنَعَ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا عَلَّمَ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا عُلِّمَ، وَالْجَبْهَةُ مَا ارْتَفَعَ عَنْ الْحَاجِبَيْنِ إلَى مَبْدَإِ الرَّأْسِ مِمَّا يُصِيبُ الْأَرْضَ فِي حَالِ السُّجُودِ، وَالْجَبِينَانِ مَا أَحَاطَ بِهَا يَمِينًا وَشِمَالًا، وَالْعَارِضَانِ صَفْحَتَا الْخَدِّ وَالْعُذْرَانِ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَارِضَيْنِ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: الْجَبْهَةُ وَالْجَبِينَانِ وَالْعَارِضَانِ وَالْعَنْفَقَةُ وَأَهْدَابُ الْعَيْنِ وَالشَّارِبُ كُلُّ ذَلِكَ مِنْ الْوَجْهِ، فَالشَّعْرُ الْكَثِيفُ يُغْسَلُ ظَاهِرُهُ وَلَا يَجِبُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ وَقِيلَ يَجِبُ، وَمَا كَانَ خَفِيفًا يَجِبُ فِيهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّخْلِيلِ (وَ) أَعْلَى الْجَبْهَةِ هُوَ (حَدُّ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ) الْمُعْتَادُ وَيَنْتَهِي الْغَسْلُ (إلَى طَرَفِ ذَقَنِهِ) وَالذَّقَنُ مَجْمَعُ اللَّحْيَيْنِ بِفَتْحِ اللَّامِ وَسُكُونِ الْحَاءِ وَهُوَ مَا تَحْتَ الْعَنْفَقَةِ وَهَذَا فِيمَنْ لَا لِحْيَةَ لَهُ، وَأَمَّا مَنْ لَهُ لِحْيَةٌ فَيُنْهِي غَسْلَهُ إلَى آخِرِ لِحْيَتِهِ وَلَوْ طَالَتْ (وَ) إلَى مُنْتَهَى (دَوَرِ وَجْهِهِ كُلِّهِ مِنْ حَدِّ عَظْمَاتِ لَحْيَيْهِ) وَهُوَ مَا تَحْتَ الْأَضْرَاسِ (إلَى) أَيْ مَعَ (صُدْغَيْهِ) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَجْهَ حَدُّهُ طُولًا مِنْ مَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ إلَى مُنْتَهَى الذَّقَنِ أَوْ اللِّحْيَةِ، وَحَدُّهُ عَرْضًا مِنْ وَتَدِ الْأُذُنِ إلَى وَتَدِ الْأُذُنِ الْأُخْرَى، وَالْمُصَنِّفُ بَيَّنَ حَدِّهِ طُولًا بِقَوْلِهِ: مِنْ أَعْلَى الْجَبْهَةِ، إلَى طَرَفِ ذَقَنِهِ، وَعَرْضًا بِقَوْلِهِ: مِنْ حَدِّ عَظْمَاتِ لِحَيَّيْهِ إلَى صُدْغَيْهِ، فَهُوَ كَقَوْلِ خَلِيلٍ مَا بَيْنَ الْأُذُنَيْنِ وَمَنَابِتِ شَعْرِ الرَّأْسِ الْمُعْتَادِ وَالذَّقَنِ، وَالصُّدْغَانِ تَثْنِيَةُ صُدْغٍ بِضَمِّ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ السَّاكِنَةِ وَالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِلَى فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى مَعَ كَمَا بَيَّنَّا، وَبِشَرْطِ الْمُعْتَادِ يَدْخُلُ الْأَغَمُّ وَيَخْرُجُ الْأَصْلَعُ، فَيَجِبُ عَلَى الْأَغَمِّ وَهُوَ مَا نَزَلَ شَعْرُ رَأْسَهُ عَنْ الْمَنْبَتِ الْمُعْتَادِ لِغَالِبِ النَّاسِ غَسَلَ مَا نَزَلَ عَنْ الْمَبْدَأِ الْمُعْتَادِ، وَيَسْقُطُ عَنْ الْأَصْلَعِ وَهُوَ مَنْ انْحَسَرَ شَعْرُ رَأْسِهِ خَارِجًا عَنْ الْمَحَلِّ الْمُعْتَادِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ إدْخَالُ جُزْءٍ مِنْ الرَّأْسِ لِيَتَحَقَّقَ اسْتِيعَابُ الْوَجْهِ، لِأَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (تَنْبِيهٌ) : قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْعِذَارَ وَهُوَ الشَّعْرُ النَّابِتُ عَلَى الْعَارِضِ وَهُوَ صَفْحَةُ الْخَدِّ يَجِبُ غَسْلُهُ وَلَوْ لَمْ يُعْلَمْ حُكْمُ مَا بَيْنَ الْعِذَارِ وَالْأُذُنِ مِنْ الْبَيَاضِ الْكَائِنِ فَوْقَ وَتَدِ الْأُذُنِ وَفِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: وُجُوبُ غَسْلِهِ مُطْلَقًا، عَدَمُ وُجُوبِهِ مُطْلَقًا، الْوُجُوبُ عَلَى الْأَمْرِ وَعَدَمُهُ لِصَاحِبِ اللِّحْيَةِ، وَالرَّابِعُ سُنِّيَّةِ غَسْلِهِ، وَالْمَشْهُورُ الْأَوَّلُ وَهُوَ وُجُوبُ غَسْلِهِ مُطْلَقًا. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصُّدْغِ بَعْضُهُ مِنْ الرَّأْسِ وَهُوَ مَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ فَفَرْضُهُ الْمَسْحُ وَبَعْضُهُ مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فَأَسْفَلَ فَيَجِبُ غَسْلُهُ، هَذَا حُكْمُ الْمَحَلِّ الْمَشْغُولِ بِالشَّعْرِ، وَأَمَّا الْبَيَاضُ الْكَائِنُ فِيهِ فَمَا بَيْنَ الشَّعْرِ وَالْأُذُنِ مِمَّا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ وَفَوْقَ وَتَدِ الْأُذُنِ فَذَكَرَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ أَنَّ غَسْلَهُ سَنَةٌ وَهُوَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ الْأَرْبَعَةِ السَّابِقَةِ. وَأَمَّا مَا نَزَلَ عَنْ الْعَظْمِ النَّاتِئِ مِمَّا تَحْتَ وَتَدِ الْأُذُنِ فَهَذَا يَجِبُ غَسْلُهُ كَمَا يَجِبُ غَسْلُ الْوَتَدَيْنِ لِتَحَقُّقِ الِاسْتِيعَابِ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حَدِّ الْوَجْهِ طُولًا وَعَرْضًا نَبَّهَ هُنَا عَلَى وُجُوبِ تَتَبُّعِ أَمَاكِنِ يَبْعُدُ عَنْهَا الْمَاءُ غَالِبًا بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُمِرَّ يَدَيْهِ عَلَى مَا غَار) أَيْ غَابَ (مِنْ ظَاهِرِ أَجْفَانِهِ) حَتَّى يَعُمَّهُ الْمَاءُ لَا دَاخِلَ الْعَيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ الْبَاطِنِ (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُمِرَّهُمَا عَلَى (أَسَارِيرِ جَبْهَتِهِ) وَهِيَ التَّكَامِيشُ الَّتِي تَكُونُ فِيهَا عِنْدَ كِبَرِهِ غَالِبًا، وَهَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ فِي ذَلِكَ مَا ذَكَرَ، وَإِلَّا وَجَبَ إيصَالُ الْمَاءِ وَيَسْقُطُ الدَّلْكُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ فِي وَجْهِهِ مَحَلٌّ غَائِرٌ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ وَدَلْكُهُ إنْ أَمْكَنَ وَإِلَّا فِي إيصَالِ الْمَاءِ إلَيْهِ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ يُمِرَّهُمَا عَلَى مَا (تَحْتَ مَارِنِهِ مِنْ ظَاهِرِ أَنْفِهٍ) وَالْمَارِنُ مَا لَانَ مِنْ الْأَنْفِ وَاَلَّذِي تَحْتُهُ هُوَ مَا بَيْنَ الْمَنْخِرَيْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْوَتْرَةِ لِأَنَّ الْمَاءَ يَنْحَدِرُ عَنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَدْلُكْهَا بِيَدِهِ تَصِيرُ لُمْعَةً. قَالَ خَلِيلٌ: فَيَضِلُّ الْوَتْرَةَ وَأَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ وَظَاهِرَ شَفَتَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْغَسْلِ إيصَالُ الْمَاءِ مَعَ الدَّلْكِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَسْلُ الْفَرْضُ يَحْصُلُ بِالْمَرَّةِ بَيَّنَ مَا هُوَ الْأَكْمَلُ بِقَوْلِهِ: (يَغْسِلُ وَجْهَهُ هَكَذَا) أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ تَعْمِيمِ الْوَجْهِ بِالْمَاءِ وَإِمْرَارِ الْيَدِ عَلَى الْعُضْوِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ بَعْدَهُ (ثَلَاثًا) لَكِنْ الَّتِي تَعُمُّ الْعُضْوَ هِيَ الْفَرْضُ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِمَّا بَعْدَهَا فَضِيلَةٌ فَيَعُمُّ اعْتِقَادُهُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْمُسْبِغَةِ فَضِيلَةٌ وَلَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُحَقِّقَاتِ، وَأَمَّا لَوْ شَكَّ فِي غَسْلَةٍ هَلْ هِيَ رَابِعَةٌ أَوْ ثَالِثَةٌ؟ فَفِي كَرَاهَتِهَا وَنَدْبِهَا قَوْلَانِ بِخِلَافِ الرَّابِعَةِ الْمُحَقِّقَةِ فَفِي مَنْعِهَا وَكَرَاهَتِهَا قَوْلَانِ إلَّا لِنَحْوِ تَدَفٍّ أَوْ تَنَظُّفٍ، وَمَعْنَى (يَنْقُلُ الْمَاءَ إلَيْهِ) أَنَّهُ يُوَصِّلُهُ إلَيْهِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ النَّقْلَ لَا يُشْتَرَطُ إلَّا فِي الْمَسْحِ وَهَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: يَغْسِلُ وَجْهَهُ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُحَرِّكَ لِحْيَتَهُ) الْكَثِيفَةَ (فِي) حَالِ (غَسْلِ وَجْهِهِ بِكَفَّيْهِ لِيُدَاخِلَهَا الْمَاءَ) إذْ لَوْ لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ لَمْ يَعُمَّهَا الْمَاءُ (لِدَفْعِ الشَّعْرِ لِمَا يُلَاقِيه مِنْ الْمَاءِ) وَلَمَّا كَانَ التَّحْرِيكُ غَيْرَ التَّخْلِيلِ قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ يُفِيضُ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَيَعْرُكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ ثُمَّ يَغْسِلُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ وَيَبْلُغُ فِيهَا بِالْغَسْلِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ يُدَخِّلُهُمَا فِي غَسْلِهِ، وَقَدْ قِيلَ إلَيْهِمَا حَدُّ الْغَسْلِ فَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إدْخَالُهُمَا فِيهِ وَإِدْخَالُهُمَا فِيهِ أَحْوَطُ لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ، ثُمَّ يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى فَيُفْرِغُهُ عَلَى بَاطِنِ يَدِهِ   [الفواكه الدواني] وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا (تَخْلِيلُهَا فِي الْوُضُوءِ فِي) مَشْهُورِ (قَوْلِ مَالِكٍ) بَلْ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ كَرَاهَةُ تَخْلِيلِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى سُقُوطِ تَخْلِيلِهَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَكَانَتْ لِحْيَتُهُ كَثِيفَةً وَلَا يَصِلُ الْمَاءُ إلَى بَشَرَتِهِ بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ» ، وَعَنْ مَالِكٍ: وُجُوبُ تَخْلِيلِهَا، وَعَنْ ابْنِ حَبِيبٍ وَأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: اسْتِحْبَابُ تَخْلِيلِهَا، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّهُ إنَّمَا نَفَى الْوُجُوبَ، قَالَ فِي الْبَيَانِ: وَالْقَوْلُ بِالِاسْتِحْبَابِ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ. (وَ) إذَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ تَخْلِيلُ الْكَثِيفَةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ (أَنْ يُجْرِي عَلَيْهَا يَدَيْهِ بِالْمَاءِ) (مُنْتَهَيَا إلَى آخِرِهَا) وَإِنْ طَالَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ فِي الْوُضُوءِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيلُهَا فِي الْغَسْلِ قَوْلًا وَاحِدًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلِّلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةٌ» وَقَيَّدَ الْكَثِيفَةَ لِأَنَّ الْخَفِيفَةَ يَجِبُ تَخْلِيلُهَا حَتَّى فِي الْوُضُوءِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا الْفَرْقُ بَيْنَ التَّحْرِيكِ وَالتَّخْلِيلِ إذْ التَّحْرِيكُ ضَمُّ الشَّعْرِ بَعْضِهِ إلَى بَعْضٍ مَعَ تَحْرِيكِهِ لِيُدَاخِلَهُ الْمَاءُ وَهَذَا عَامٌّ فِي الْكَثِيفَةِ وَالْخَفِيفَةِ، وَالتَّخْلِيلُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ. وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ فِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ الْخَفِيفَةِ وَالِاكْتِفَاءِ بِتَحْرِيكِ الْكَثِيفَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِأَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا حَلْقُ لِحْيَتِهَا لِأَنَّهَا يَجِبُ عَلَيْهَا التَّزَيُّنُ لِلرَّجُلِ، وَيُقَاسُ عَلَى شَعْرِ اللِّحْيَةِ الْحَاجِبُ وَالْهُدْبُ وَالشَّارِبُ، وَأَفْهَمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ يُجْرِي عَلَيْهَا يَدَيْهِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا تَحْتَهَا. قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ دُخُولِ مَا تَحْتَ الذَّقَنِ فِي الْخِطَابِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِوَجْهٍ وَرَأَيْت شَيْخَ الْمَالِكِيَّةِ نُورَ الدِّينِ السَّنْهُورِيَّ وَهُوَ مِنْ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ يَفْعَلُهُ فَلَا أَدْرِيه لِوَرَعٍ أَوْ غَيْرِهِ انْتَهَى. قَالَ الشَّاذِلِيُّ: قُلْت: وَرَدَ فِي حَدِيثٍ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا تَوَضَّأَ أَخَذَ كَفًّا مِنْ مَاءٍ فَأَدْخَلَهُ تَحْتَ حَنَكِهِ فَخَلَّلَ بِهِ لِحْيَتَهُ» قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَمَا وَرَدَ مِنْ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ مَحْمُولٌ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى وُضُوءِ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ مُطْلَقًا بِحَسَبِ اللَّفْظِ لَا يَعُمُّ كُلَّ وُضُوءٍ وَأَقُولُ: التَّخْصِيصُ يَحْتَاجُ إلَى دَلِيلٍ فَإِنْ ثَبَتَ عَنْ الشَّارِعِ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا جَازَ. (خَاتِمَةٌ) : قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ غَسْلِ وَجْهِهِ: اللَّهُمَّ بَيِّضْ وَجْهِي بِنُورِك يَوْمَ تُبَيِّضُ وُجُوهَ أَوْلِيَائِك، وَلَا تُسَوِّدْ وَجْهِي بِظُلُمَاتِك يَوْمَ تُسَوِّدُ وُجُوهَ أَعْدَائِك، إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْلِ الْوَجْهِ وَهُوَ أَوَّلُ الْفَرَائِضِ الْقُرْآنِيَّةِ يَنْتَقِلُ إلَى ثَانِيهَا وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ (يَغْسِلُ يَدَهُ الْيُمْنَى ثَلَاثًا أَوْ اثْنَتَيْنِ) وَصِفَةُ غَسْلِهَا أَنْ (يُفِيضَ عَلَيْهَا الْمَاءَ وَيَعْرُكَهَا) أَيْ يَدْلُكَهَا (بِيَدِهِ الْيُسْرَى) أَيْ بِبَاطِنِ كَفِّهَا مُبْتَدِئًا مِنْ أَوَّلِهَا كَمَا هُوَ الْمَطْلُوبُ فِي غَسْلِ كُلِّ عُضْوٍ (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُخَلِّلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ) بِأَنْ يُدْخِلَ أَصَابِعَ إحْدَاهُمَا بَيْنَ أَصَابِعِ الْأُخْرَى سَوَاءٌ أَدْخَلَ مِنْ الظَّاهِرِ أَوْ الْبَاطِنِ. وَلَا يُقَالُ: الْإِدْخَالُ مِنْ الْبَاطِنِ تَشْبِيكٌ وَهُوَ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْكَرَاهَةُ فِي الصَّلَاةِ لَا فِي غَيْرِهَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حَتَّى فِي الْوُضُوءِ وَاسْتَدَلَّ بِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِهِ» فَهَذَا تَصْرِيحٌ بِالنَّهْيِ فِي الْوُضُوءِ، وَمَا أَدْرِي مَا رَدَّ بِهِ الشَّيْخُ عَلَى مَنْ قَالَ بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حَتَّى فِي الْوُضُوءِ مَعَ وُجُودِ هَذَا الْحَدِيثِ. (ثُمَّ) بَعْدَ غَسْلِ الْيُمْنَى (يَغْسِلُ يَدَهُ الْيُسْرَى كَذَلِكَ) أَيْ كَالصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي غَسْلِ الْيُمْنَى (وَيَبْلُغُ فِيهِمَا) وُجُوبًا (بِالْغَسْلِ إلَى الْمَرْفِقَيْنِ) بِفَتْحِ الْمِيمِ وَكَسْرِ الْفَاءِ وَبِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْفَاءِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُغَيَّا بِإِلَى أَصْلُهُ الْخُرُوجُ وَهُوَ هُنَا دَاخِلٌ قَالَ: (يُدْخِلُهُمَا فِي غَسْلِهِ) وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ اللُّغَوِيِّينَ مِنْ أَنَّ الْغَايَةَ إذَا كَانَتْ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُغَيَّا تَدْخُلُ فِيهِ كَبِعْت الثَّوْبَ مِنْ طَرَفِهِ إلَى طَرَفِهِ فَيَدْخُلُ الطَّرَفَانِ بِخِلَافِ {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] لِأَنَّ اللَّيْلَ لَيْسَ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ جَعَلَ قَوْلَهُ فِي الْآيَةِ {إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] غَايَةً إلَى الْمَغْسُولِ. وَأَمَّا لَوْ جُعِلَ غَايَةً لِلْمَتْرُوكِ لَاسْتَقَامَ الْخُرُوجُ، وَلِتَقْدِيرِ: وَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَاتْرُكُوا مِنْ آبَاطِكُمْ إلَى الْمَرَافِقِ، وَمَا قَدَّمَهُ مِنْ وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَمُقَابِلُهُ لِابْنِ نَافِعٍ وَأَشْهَبَ لَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ يَنْتَهِي إلَيْهِمَا) أَيْ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ (حَدُّ الْغَسْلِ) الْفَرْضُ (وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ إدْخَالُهُمَا فِيهِ) أَيْ فِي الْغَسْلِ (وَ) إنَّمَا (إدْخَالُهُمَا فِيهِ) أَيْ الْغَسْلِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ (أَحْوَطُ لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِدْخَالُهُمَا إلَخْ مِنْ جُمْلَةِ الْقِيلِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ: لِزَوَالِ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ عِلَّةً لِسُقُوطِ وُجُوبِ غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ لَا عِلَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 الْيُسْرَى ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ يَبْدَأُ مِنْ مُقَدَّمِهِ مِنْ أَوَّلِ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ وَقَدْ قَرَنَ أَطْرَافَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ بَعْضَهَا بِبَعْضٍ عَلَى رَأْسِهِ وَجَعَلَ إبْهَامَيْهِ عَلَى صُدْغَيْهِ ثُمَّ يَذْهَبُ بِيَدَيْهِ مَاسِحًا إلَى طَرَفِ شَعْرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إلَى حَيْثُ بَدَأَ ، وَيَأْخُذُ بِإِبْهَامَيْهِ خَلْفَ أُذُنَيْهِ إلَى صُدْغَيْهِ وَكَيْفَمَا مَسَحَ أَجْزَأَهُ إذَا أَوَعَبَ رَأْسَهُ وَالْأَوَّلُ أَحْسَنُ وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ   [الفواكه الدواني] لِلِاحْتِيَاطِ، لِأَنَّ طَلَبَ الِاحْتِيَاطِ تَشْدِيدٌ لَا تَخْفِيفٌ فَلَا يُنَاسِبُ قَوْلَهُ لِزَوَالِ إلَخْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ تَمَامِ الْقِيلِ وَإِنَّمَا هُوَ قَوْلٌ ثَالِثٌ يَجْعَلُ غَسْلَهُمَا مِنْ بَابِ مَا لَا يَتِمُّ غَسْلُ الْوَاجِبِ إلَّا بِهِ حَيْثُ يُخَالِفُ الْأَوَّلَ. فَيَتَخَلَّصُ أَنَّ فِي غَسْلِ الْمِرْفَقَيْنِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَوَّلُهَا مَا صَدَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْفَرْضِ، ثَانِيهمَا سُقُوطُهُ مِنْ الْفَرْضِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ غَسَلَهُ، ثَالِثُهَا أَنَّهُ وَاجِبٌ لِغَيْرِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ شُرَّاحِهِ، وَسَبَبُ تَكَلُّفِ التَّحْدِيدِ عَدَمُ مَعْرِفَةِ غَايَةِ الْغَسْلِ فِي الْيَدَيْنِ بِسَبَبِ الْإِتْيَانِ فِي الْآيَةِ بِإِلَى الْمُحْتَمِلَةِ فِي الْجُمْلَةِ دُخُولَ الْغَايَةِ فِي الْمُغَيَّا وَعَدَمَ دُخُولِهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إتْيَانُ الْمُصَنِّفِ بِثُمَّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ غَسْلَ الْيَدَيْنِ مُرَتَّبٌ مَعَ غَسْلِ الْوَجْهِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ وَأَمَّا تَقْدِيمُ الْيَدِ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى فَهُوَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ وَقَالَ: يَغْسِلُ يَدَيْهِ ثَلَاثًا أَوْ اثْنَيْنِ، إشَارَةً إلَى أَنَّ الْفَرْضَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بَلْ يَحْصُلُ بِمَرَّةٍ حَيْثُ عَمَّتْ الْعُضْوَ، وَإِنَّمَا خَيَّرَ فِي جَانِبِ الْيَدَيْنِ وَجَزَمَ بِالتَّثْلِيثِ فِي الرِّجْلَيْنِ وَالْوَجْهِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ يَغْسِلُ الْوَجْهَ ثَلَاثًا وَالْيَدَيْنِ مَرَّتَيْنِ، وَوَجْهُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ فِي الْوَجْهِ مَغَابِنُ وَجَوَانِبُ وَالرِّجْلَانِ مَحَلُّ الْأَقْذَارِ، وَبِالْجُمْلَةِ الزَّائِدُ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْفَضَائِلِ وَشُفِعَ غَسْلُهُ وَتَثْلِيثُهُ. الثَّانِي: لَوْ قُطِعَتْ يَدُهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَا بَقِيَ مِنْهَا مِنْ الْفَرْضِ، وَمِثْلُهُ لَوْ خُلِقَتْ نَاقِصَةً وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ إلَّا كَفٌّ بِمَنْكِبِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ غَسْلُ الزَّائِدَةِ حَيْثُ كَانَتْ بِمِرْفَقٍ مُطْلَقًا أَوْ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ لَا إنْ كَانَتْ بِغَيْرِهِ وَلَا مِرْفَقَ لَهَا فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُمَا وَلَوْ اتَّصَلَتْ بِمَحَلِّ الْفَرْضِ عَلَى بِحَثِّ الْأُجْهُورِيِّ، وَقَالَ السَّنْهُورِيُّ: إنْ وَصَلَتْ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ وَجَبَ غَسْلُ الْمُحَاذِي لِلْفَرْضِ مِنْهَا لَا إنْ لَمْ تَصِلْ إلَيْهِ، وَمَا جَرَى فِي الْيَدَيْنِ يَجْرِي فِي الرِّجْلَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ شَخْصُ مِنْ النِّصْفِ الْأَعْلَى عَلَى صُورَةِ رَجُلَيْنِ وَالْأَسْفَلِ صُورَةُ وَاحِدٍ لَوَجَبَ غَسْلُ وَجْهَيْهِ وَالْأَرْبَعَةِ أَيْدٍ عَلَى جِهَةِ الْفَرْضِيَّةِ، لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْبَعْضِ تَحَكُّمٌ وَلِدُخُولِ الْوَجْهَيْنِ وَالْأَيْدِي فِي عُمُومِ: {فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ} [المائدة: 6] . الثَّالِثُ: لَوْ كُشِطَ جِلْدُ الْوَجْهِ أَوْ الذِّرَاعِ بَعْدَ الْوُضُوءِ لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْجِلْدِ لِأَنَّهُ لَيْسَ كَالْجَبِيرَةِ، وَأَمَّا لَوْ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهُ بَعْدَ ذَلِكَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ غَسْلُ مَوْضِعِ الْجِلْدِ، وَكَذَا الْجِلْدُ إنْ كَانَ مُعَلَّقًا فِي مَحَلِّ الْفَرْضِ لَا إنْ خَرَجَ عَنْهُ فَلَا يَجِبُ غَسْلُهُ وَإِنَّمَا يُغْسَلُ مَحَلُّهُ وَيَجْرِي مِثْلُ ذَلِكَ فِي الرِّجْلَيْنِ. الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ بِالْيَدِ خَاتَمٌ أَوْ سِوَارٌ لَا يَجِبُ نَزْعُهُ إنْ كَانَ لِأُنْثَى مُطْلَقًا وَإِنْ كَانَ ضَيِّقًا أَوْ ذَهَبَا، وَإِنْ كَانَ لِذَكَرٍ وَجَبَ نَزْعُهُ إنْ كَانَ مُجَرَّمًا كَخَاتَمِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَزْيَدَ مِنْ دِرْهَمَيْنِ أَوْ تَعَدَّدَ أَوْ لَبِسَهُ لِزِينَةٍ، وَظَاهِرُ بَحْثِ الْأُجْهُورِيِّ وُجُوبُ نَزْعِهِ وَلَوْ اتَّسَعَ، وَمُقْتَضَى بَحْثِ السَّنْهُورِيِّ الِاكْتِفَاءُ بِتَحْرِيكِ الْوَاسِعِ، وَأَمَّا الْمُبَاحُ أَوْ الْمَكْرُوهُ كَخَاتَمِ الْحَدِيدِ وَالرَّصَاصِ أَوْ الْخَشَبِ أَوْ الْعَظْمِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَزْعِهِ إنْ كَانَ ضَيِّقًا وَيَكْفِي تَحْرِيكُهُ إنْ كَانَ وَاسِعًا. الْخَامِسُ: يَجِبُ عَلَى الْمُتَوَضِّئِ تَتَبُّعُ عُقَدِ أَصَابِعِهِ وَرُءُوسِهَا كَمَا يَتَتَبَّعُ أَسَارِيرَ جَبْهَتِهِ بِالْمَاءِ وَالدَّلْكِ، وَأَنْ يَحْنِيَ كَفَّهُ وَيَغْسِلَ ظَاهِرَهُ بِالْأُخْرَى وَيَجْمَعَ رُءُوسَ أَصَابِعِهِ وَيَحُكَّهَا عَلَى كَفِّهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ إزَالَةُ مَا تَحْتَ أَظَافِرِهِ مِنْ الْأَوْسَاخِ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ الْمُعْتَادِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَتُهُ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ قَلْمُ ظُفْرِهِ السَّاتِرِ لِمَحَلِّ الْفَرْضِ. (خَاتِمَةٌ) قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ غَسْلِهِ يَدَهُ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كِتَابِي بِيَمِينِي وَحَاسِبْنِي حِسَابًا يَسِيرًا، وَعِنْدَ غَسْلِ الْيُسْرَى: وَأَعُوذُ بِك أَنْ تُعْطِيَنِي كِتَابِي بِشِمَالِي أَوْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْلِ الْيَدَيْنِ يَنْتَقِلُ إلَى الْفَرْضِ الثَّالِثِ وَهُوَ مَسْحُ الرَّأْسِ (يَأْخُذُ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى) إنْ شَاءَ (فَيُفْرِغُهُ عَلَى بَاطِنِ يَدِهِ الْيُسْرَى ثُمَّ) بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ فِي يُسْرَاهُ وَإِرْسَالِهِ مِنْهَا (يَمْسَحُ بِهِمَا رَأْسَهُ) وَقَوْلُنَا إنْ شَاءَ لِأَنَّ مَالِكًا أَجَازَ أَخْذَهُ بِيَدَيْهِ مَعًا وَصِفَةُ الْمَسْحِ الْكَامِلَةُ أَنْ (يَبْدَأَ مِنْ مُقَدَّمِهِ مِنْ أَوَّلِ مَنَابِتِ شَعْرِ رَأْسِهِ) الْمُعْتَادِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ قَرَنَ) أَيْ جَمَعَ (أَطْرَافَ أَصَابِعِ يَدَيْهِ) سِوَى إبْهَامَيْهِ (بَعْضَهَا بِبَعْضٍ عَلَى رَأْسِهِ وَجَعَلَ إبْهَامَهُ فِي صُدْغَيْهِ ثُمَّ) بَعْدَ تِلْكَ الْهَيْئَةِ (يَذْهَبُ بِيَدَيْهِ مَاسِحًا) بِهِمَا جَمِيعَ الرَّأْسِ مُنْتَهَيَا (إلَى طَرَفِ شَعْرِ رَأْسِهِ مِمَّا يَلِي قَفَاهُ ثُمَّ يَرُدُّهُمَا إلَى حَيْثُ بَدَأَ) (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَأْخُذَ بِإِبْهَامَيْهِ) أَيْ يَمُرَّ بِهِمَا (خَلْفَ أُذُنَيْهِ إلَى صُدْغَيْهِ) أَيْ مَعَ صُدْغَيْهِ لِأَنَّهُمَا مِنْ الرَّأْسِ وَهُمَا مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ مِمَّا فَوْقَ الْعَظْمِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: الصُّدْغُ مَا فَوْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا مَبْلُولَتَيْنِ وَمَسَحَ بِهِمَا رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ، ثُمَّ يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى سَبَّابَتَيْهِ وَإِبْهَامَيْهِ وَإِنْ شَاءَ غَمَسَ ذَلِكَ فِي الْمَاءِ، ثُمَّ يَمْسَحُ أُذُنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وَبَاطِنَهُمَا وَتَمْسَحُ الْمَرْأَةُ كَمَا ذَكَرْنَا وَتَمْسَحُ عَلَى دَلَالَيْهَا وَلَا تَمْسَحُ عَلَى الْوِقَايَةِ وَتُدْخِلُ يَدَيْهَا مِنْ تَحْتِ عِقَاصِ شَعْرِهَا فِي رُجُوعِ يَدَيْهَا فِي الْمَسْحِ ، ثُمَّ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ يَصُبُّ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى   [الفواكه الدواني] الْعَظْمِ بِحَلْقِهِ الْمُحَرَّمَ وَمَا دُونَ الْعِذَارِ، وَقَدَّمْنَا عِنْدَ بَيَانِ حَدِّ الْوَجْهِ أَنَّ مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالصُّدْغِ بَعْضُهُ مِنْ الرَّأْسِ يُمْسَحُ هُوَ مَا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ وَبَعْضُهُ مِنْ الْوَجْهِ وَهُوَ الْعَظْمُ النَّاتِئُ فَأَسْفَلُ فَيَجِبُ غَسْلُهُ، هَذَا حُكْمُ الْمَحَلِّ الْمَشْغُولِ بِالشَّعْرِ، وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ مِنْ الْبَيَاضِ فَاَلَّذِي فَوْقَ وَتَدِ الْأُذُنِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ، وَاَلَّذِي تَحْتَهُ يَجِبُ غَسْلُهُ كَمَا يَجِبُ غَسْلُ الْوَتَدِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ لَك وَجْهُ كَوْنِ إلَى بِمَعْنَى مَعَ، وَلَا يَصِحُّ بَقَاؤُهَا عَلَى بَابِهَا لِأَنَّ الْمُغَيَّا بِهَا خَارِجٌ، وَمُنْتَهَى الْمَسْحُ فِي الصُّدْغِ مَنْبَتُ شَعْرِ الْعَظْمِ النَّاتِئِ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ الْمُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ الْعَظْمِ يُمْسَحُ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَمَسْحُ مَا عَلَى الْجُمْجُمَةِ بِعَظْمِ صُدْغَيْهِ مَعَ الْمُسْتَرْخِي، وَالْمُرَادُ بِالْمُسْتَرْخِي مَا طَالَ مِنْ الشَّعْرِ وَلَوْ نَزَلَ إلَى الْقَدَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ تِلْكَ الصِّفَةُ غَيْرَ مُتَعَيِّنَةٍ قَالَ: (وَكَيْفَمَا مَسَحَ أَجْزَأَهُ إذَا أَوْعَبَ) أَيْ عَمَّ (رَأْسَهُ وَ) لَكِنَّ الْفِعْلَ (الْأَوَّلَ أَحْسَنُ) لِأَنَّهُ صِفَةُ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ ثُمَّ أَدْبَرَ، وَالْمُرَادُ أَقْبَلَ بِيَدَيْهِ إلَى جِهَةِ قَفَاهُ. وَلَمَّا بَيَّنَ الصِّفَةَ الْكَامِلَةَ فِي أَخْذِ الْمَاءِ ذَكَرَ صِفَةً أُخْرَى بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ أَدْخَلَ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ رَفَعَهُمَا) حَالَةَ كَوْنِهِمَا (مَبْلُولَتَيْنِ وَمَسَحَ بِهِمَا رَأْسَهُ أَجْزَأَهُ) وَإِنَّمَا أَجْزَأَ لِأَنَّ الْفَرْضَ تَعْمِيمُ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْفَرْضَ مِنْ ذَلِكَ وَالْمَسْنُونَ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْبَدْءَ مِنْ الْمُقَدَّمِ مَنْدُوبٌ وَأَنَّ تَعْمِيمَهُ بِالْمَسْحِ فَرْضٌ وَالرَّدَّ سُنَّةٌ، حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَعْرٌ أَوْ لَهُ شَعْرٌ قَصِيرٌ وَإِلَّا وَجَبَ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ مَا لَوْ جَفَّتْ يَدُهُ فِي أَثْنَاءِ الْمَسْحِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَجْدِيدُ الْمَاءِ إنْ جَفَّتْ إلَّا قَبْلَ تَمَامِ الْمَسْحِ الْوَاجِبِ وَإِلَّا كُرِهَ التَّجْدِيدُ، لِأَنَّ الرَّدَّ إنَّمَا يُسَنُّ حَيْثُ بَقِيَ بَعْدَ مَسْحِ الْفَرْضِ بَلَلٌ وَإِلَّا سَقَطَتْ سُنَّةُ الرَّدِّ، وَلِذَا وَقَعَ مِنْ عَلَّامَةِ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيِّ التَّرَدُّدُ فِيمَا إذَا بَقِيَ بَعْضُ بَلَلٍ لَا يَمْسَحُ جَمِيعَ الرَّأْسِ فِي الرَّدِّ، ثُمَّ اسْتَظْهَرَ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِمَا بَقِيَ مِنْ الْبَلَلِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ (يُفْرِغُ الْمَاءَ عَلَى سَبَّابَتَيْهِ وَإِبْهَامَيْهِ) بِأَنْ يَأْخُذَ الْمَاءَ بِيَمِينِهِ وَيُفْرِغَهُ عَلَى سَبَّابَتِهِ الْيُسْرَى مَعَ إبْهَامِهَا، وَمَا اجْتَمَعَ فِي كَفِّ الْيُسْرَى يُفْرِغُهُ عَلَى سَبَّابَةِ الْيُمْنَى مَعَ إبْهَامِهَا (وَإِنْ شَاءَ غَمَسَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ السَّبَّابَتَيْنِ وَالْإِبْهَامَيْنِ (فِي الْمَاءِ ثُمَّ) بَعْدَ إحْدَى الصِّفَتَيْنِ (يَمْسَحُ أُذُنِيهِ) عَلَّ جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (ظَاهِرَهُمَا) وَهُوَ مَا يَلِي الرَّأْسَ عَلَى الْأَصَحِّ (وَبَاطِنَهُمَا) وَهُوَ مَا تَقَعُ بِهِ الْمُوَاجَهَةُ، وَيُكْرَهُ تَتْبَعُ غُضُونِهِمَا لِأَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَالتَّتَبُّعُ مُنَافٍ لَهُ، وَصِفَةُ الْمَسْحِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنْ يَجْعَلَ بَاطِنَ الْإِبْهَامَيْنِ عَلَى ظَاهِرِ الشَّحْمَتَيْنِ وَيُمِرَّهُمَا وَيَجْعَلَ آخِرَ السَّبَّابَتَيْنِ فِي الصِّمَاخَيْنِ وَوَسَطَهُمَا مُلَاقِيًا لِلْبَاطِنِ دَائِرَيْنِ مَعَ الْإِبْهَامَيْنِ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ مَسْحَ الصِّمَاخَيْنِ دَاخِلٌ فِي مَسْحِ الْأُذُنَيْنِ وَالْكُلُّ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: إنَّ مَسْحَ الصِّمَاخِ سُنَّةٌ اتِّفَاقًا فَلَعَلَّهُ مُخَالِفٌ لِهَذَا. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَسْحَ الْأُذُنَيْنِ سُنَّةٌ وَهَذَا لَا نِزَاعَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي تَجْدِيدِ الْمَاءِ لَهُمَا فَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَاَلَّذِي نَقَلَهُ فِي تَوْضِيحِهِ وَعَزَاهُ لِلْأَكْثَرِ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ السُّنَّةِ. وَلَمَّا كَانَتْ النِّسَاءُ شَقَائِقَ الرِّجَالِ قَالَ: (وَتَمْسَحُ الْمَرْأَةُ رَأْسَهَا) وَأُذُنَيْهَا (كَمَا ذَكَرْنَا) فِي مَسْحِ الرَّأْسِ مِقْدَارًا وَصِفَةً (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ (تَمْسَحَ عَلَى دَلَالَيْهَا) بِفَتْحِ الدَّالِ وَهُوَ مَا اسْتَرْسَلَ مِنْ شَعْرِهَا عَلَى وَجْهِهَا وَعَلَى صُدْغَيْهَا وَلَوْ طَالَ: كَمَا يَمْسَحُ الرَّجُلُ شَعْرَ الصُّدْغَيْنِ مِمَّا فَوْقَ الْعَظْمِ النَّاتِئِ وَلَوْ طَالَ إلَى الْقَدَمِ. (وَ) لَوْ كَانَ عَلَى شَعْرِهَا وِقَايَةٌ (لَا تَمْسَحُ عَلَى الْوِقَايَةِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَهِيَ الْخِرْقَةُ الَّتِي تَجْعَلُهَا عَلَى شَعْرِهَا لِتَقِيهِ مِنْ الْغُبَارِ لِأَنَّهُ حَائِلٌ فَيَجِبُ عَلَيْهَا إزَالَتُهُ وَتَمْسَحُ عَلَى الشَّعْرِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ وَضَعَتْهَا لِضَرُورَةٍ كَصُدَاعٍ أَوْ جِرَاحٍ وَلَا تَسْتَطِيعُ الْمَسْحَ عَلَى مَا تَحْتَهَا فَيَجُوزُ لَهَا الْمَسْحُ عَلَى الْوِقَايَةِ، كَالرَّجُلِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ نَزْعَ عِمَامَتِهِ فَيَمْسَحُ عَلَيْهَا لِمَا فِي الصَّحِيحِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسَحَ عَلَى عِمَامَتِهِ» أَيْ لِضَرُورَةٍ كَانَتْ بِهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَائِلُ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ كَمَّلَ الْبَاقِيَ لِأَنَّ التَّعْمِيمَ وَاجِبٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ الْمَسْحُ عَلَى الْوِقَايَةِ الْمَلْبُوسَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ عَرُوسًا فَيَجِبُ عَلَيْهَا نَزْعُ مَا عَلَى شَعْرِهَا مِنْ زِينَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، خِلَافًا لِمَنْ رَخَّصَ لِلْعَرُوسِ فِي سَبْعَةِ أَيَّامٍ الْمَسْحَ عَلَى الْحَائِلِ. (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَالِ مَسْحِ رَأْسِهَا أَنْ (تُدْخِلَ يَدَيْهَا مِنْ تَحْتِ عِقَاصِ شَعْرِهَا فِي رُجُوعِ يَدَيْهَا فِي الْمَسْحِ) وَكُلٌّ مِنْ الْإِدْخَالِ وَالرَّدِّ فَرْضٌ لِتَوَقُّفِ التَّعْمِيمِ عَلَيْهِ، وَبَعْدَ تَعْمِيمِ رَأْسِهَا بِالْمَسْحِ يُسَنُّ فِي حَقِّهَا الرَّدُّ وَتُدْخِلُ يَدَيْهَا تَحْتَهُ فِي الرَّدِّ لِلسُّنَّةِ أَيْضًا حَيْثُ بَقِيَ بِيَدَيْهَا بَلَلٌ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ مِنْ تَحْتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 رِجْلِهِ الْيُمْنَى وَيَعْرُكُهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى قَلِيلًا قَلِيلًا يُوعِبهَا بِذَلِكَ ثَلَاثًا وَإِنْ شَاءَ خَلَّلَ أَصَابِعَهُ فِي ذَلِكَ وَإِنْ تَرَكَ فَلَا حَرَجَ وَالتَّخْلِيلُ أَطْيَبُ لِلنَّفْسِ وَيَعْرُكُ عَقِبَيْهِ وَعُرْقُوبَيْهِ وَمَا لَا يَكَادُ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ بِسُرْعَةٍ مِنْ جَسَاوَةٍ أَوْ شُقُوقٍ فَلِيُبَالِغْ بِالْعَرْكِ   [الفواكه الدواني] عِقَاصِ شَعْرِهَا أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهَا حَلُّ الْمَعْقُوصِ وَلَا فَكُّ الْمَضْفُورِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَنْقُضُ ضَفْرُ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ وَيُدْخِلَانِ يَدَيْهِمَا تَحْتَهُ فِي رَدِّ الْمَسْحِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ اشْتَدَّ ضَفْرُهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ وَإِلَّا وَجَبَ نَزْعُهَا لِأَنَّهَا حَائِلٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الرَّأْسِ بِالْمَسْحِ قَوْله تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6] فَإِنَّ الْبَاءَ لِلْإِلْصَاقِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي تَعْمِيمِ الظَّاهِرِ، وَفِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَإِنَّهُ «حِينَ مَسَحَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ أَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ» وَهَذَا صَرِيحٌ فِي التَّعْمِيمِ، وَأَيْضًا الْحُكْمُ إذَا عُلِّقَ بِاسْمٍ مُطْلَقٍ وَجَبَ اسْتِبْقَاؤُهُ وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الْإِمَامُ أَشْهَبُ: يَكْفِي مَسْحُ بَعْضِ الرَّأْسِ وَلَوْ النَّاصِيَةَ، وَقَالَ أَبُو الْفَرَجِ يَكْفِي قَدْرُ الثُّلُثِ، وَقَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ: يَكْفِي مَسْحُ الثُّلُثَيْنِ، وَاخْتِلَافُ الْأَئِمَّةِ رَحْمَةٌ، فَالْمَرْأَةُ الَّتِي تَتْرُكُ الصَّلَاةَ لِمَشَقَّةِ مَسْحِ جَمِيعِ الرَّأْسِ وَإِذَا أَمَرْنَاهَا بِمَسْحِ الْبَعْضِ تَفْعَلُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى زَوْجِهَا تَهْدِيدُهَا وَلَوْ بِالضَّرْبِ مَعَ ظَنِّ إفَادَتِهِ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ قَلَّدَتْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ الْأَشْيَاخِ، لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْعِبَادَةِ وَلَوْ عَلَى قَوْلٍ ضَعِيفٍ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهَا. 1 - الثَّانِي: لَوْ خَالَفَ الْمُتَوَضِّئُ الْوَاجِبَ فِي الرَّأْسِ وَغَسَلَهَا أَجْزَأَ وَإِنْ كُرِهَ أَوْ حُرِّمَ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا وَقَدَّمْنَا أَيْضًا أَنَّ نَقْلَ الْمَاءِ لَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا إلَّا فِي مَسْحِ الرَّأْسِ، وَالْمُرَادُ بِنَقْلِهِ تَجْدِيدُهُ وَلَوْ مِنْ بَلَلِ لِحْيَتِهِ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ وُجِدَ غَيْرُهُ لِأَنَّهُ مَاءٌ مُسْتَعْمَلٌ. 1 - الرَّابِعُ: لَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ بَعْدَ مَسْحِهَا لَا يُعِيدُ مَسْحَ مَوْضِعِهَا وَلَوْ كَانَ شَعْرُهَا طَوِيلًا قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُعِيدُ مَنْ قَلَّمَ ظُفْرَهُ أَوْ حَلَقَ رَأْسَهُ، وَفِي لِحْيَتِهِ قَوْلَانِ (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسْحِ الرَّأْسِ وَهُوَ الْفَرْضُ الثَّالِثُ (يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ) مَعَ كَعْبَيْهِ النَّاتِئَيْنِ بِمَفْصِلَيْ السَّاقَيْنِ لِأَنَّهُ الْفَرْضُ الرَّابِعُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] عَلَى الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ أَوْ النَّصْبَ عَطْفًا عَلَى وُجُوهِكُمْ وَلَا يُشْكِلُ قِرَاءَةُ الْجَرِّ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْمَسْحِ لِحَمْلِهِ عَلَى لَابِسِ الْخُفِّ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَسْحُ رِجْلَيْهِ إلَّا عَلَى الْخُفِّ، وَصِفَةُ غَسْلِهِمَا أَنَّهُ (يَصُبُّ الْمَاءَ بِيَدِهِ الْيُمْنَى عَلَى رِجْلِهِ الْيُمْنَى) وَيُنْدَبُ كَوْنُ الصَّبِّ مِنْ أَعْلَى الرِّجْلِ (وَيَعْرُكُهَا) أَيْ يَدْلُكُهَا (بِيَدِهِ الْيُسْرَى قَلِيلًا قَلِيلًا) أَيْ دَلْكًا رَفِيقًا فَلَا تَجِبُ عَلَيْهِ إزَالَةُ الْأَوْسَاخِ الْغُرِّ الْمُتَجَسِّدَةِ لِأَنَّهُ حَرَجٌ، وَإِنَّمَا أَكَّدَ الدَّلْكَ فِي الرِّجْلَيْنِ بِقَلِيلٍ دُونَ بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ لِأَنَّ الرِّجْلَيْنِ مَحَلُّ الْأَوْسَاخِ، فَرُبَّمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ فِيهِمَا الْمُبَالَغَةُ زِيَادَةً عَلَى غَيْرِهِمَا وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (يُوعِبَهُمَا بِذَلِكَ ثَلَاثًا) وَالْفَرْضُ مِنْ ذَلِكَ الْغَسْلَةُ الْأُولَى حَيْثُ عَمَّتْ، وَالثَّانِيَةُ مُسْتَحَبَّةٌ كَالثَّالِثَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَقِيَّةِ الْأَعْضَاءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِينَ مِنْ الْخِلَافِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَهَلْ الرِّجْلَانِ كَذَلِكَ؟ أَوْ الْمَطْلُوبُ الْإِنْقَاءُ. (تَنْبِيهٌ) : قَوْلُهُ: وَيَعْرُكُهَا بِيَدِهِ إلَخْ الْعَرْكُ بِالْيَدِ غَيْرُ شَرْطٍ بَلْ لَوْ دَلَكَ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى أَجْزَأَ بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا كَالْيَدَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ الدَّلْكِ بِبَاطِنِ الْكَفِّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ وَهَذَا حُكْمُ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا الْغُسْلُ فَيَجُوزُ دَلْكُ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ بِبَعْضِهَا مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ يَعْرُكُهَا فَرْضِيَّةَ الدَّلْكِ لِنَفْسِهِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَلِذَلِكَ لَوْ عَجَزَ عَنْهُ بِنَفْسِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ فَرْضِيَّةِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ مُسَاوَاتُهُمَا لِلْيَدَيْنِ فِي وُجُوبِ تَخْلِيلِ أَصَابِعِهِمَا قَالَ: (وَإِنْ شَاءَ خَلَّلَ) الْمُتَوَضِّئُ (أَصَابِعَهُ فِي ذَلِكَ) الْغَسْلِ (وَإِنْ شَاءَ تَرَكَ فَلَا حَرَجَ) لَا حَاجَةَ إلَى نَفْيِ الْحَرَجِ بَعْدَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَرَادَ التَّنْبِيهَ عَلَى نَفْيِ الْفَرِيضَةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَ) لَكِنْ (التَّخْلِيلُ أَطْيَبُ لِلنَّفْسِ) أَيْ أَفْضَلُ لِدَفْعِ الْوَسْوَسَةِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّعْمِيمِ، وَبِجَعْلِنَا فَاعِلَ خَلَّلَ الْمُتَوَضِّئَ يَخْرُجُ الْمُغْتَسَلُ لِنَحْوِ الْجَنَابَةِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَخْلِيلُهُمَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَأَصَابِعِ الْيَدَيْنِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ حَيْثُ وَجَبَ تَخْلِيلُهُمَا فِي الْوُضُوءِ شِدَّةُ اتِّصَالِ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ حَيْثُ اُسْتُحِبَّ تَخْلِيلُهَا فِيهِ شِدَّةُ اتِّصَالِ أَصَابِعِ الرِّجْلَيْنِ بِبَعْضِهَا فَأَشْبَهَ مَا بَيْنَهُمَا الْبَاطِنَ، وَافْتِرَاقُ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ فَأَشْبَهَتْ الْأَعْضَاءَ الْمُسْتَقِلَّةَ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا الْفَرْقِ وُجُوبُ تَخْلِيلِهَا فِي الْغُسْلِ لِأَنَّهُ يَتَأَكَّدُ فِيهِ الْمُبَالَغَةُ بِدَلِيلِ وُجُوبِ تَخْلِيلِ الشَّعْرِ الْكَثِيفِ فِيهِ، وَصِفَةُ تَخْلِيلِهَا أَنْ يَكُونَ مِنْ أَسْفَلِ الْأَصَابِعِ فَيَبْدَأُ مِنْ خِنْصَرِ الْيُمْنَى لِأَنَّهُ فِي الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَيَخْتِمُ بِخِنْصَرِ الْيُسْرَى، وَلَمَّا كَانَ فِي الرِّجْلَيْنِ بَعْضُ أَمَاكِنَ تُشْبِهُ الْبَاطِنَ نَبَّهَ عَلَى تَتَبُّعِهَا بِقَوْلِهِ: (وَيَعْرُكُ) أَيْ يَدْلُكُ الْمُتَوَضِّئُ وُجُوبًا (عَقِبَيْهِ) وَهُمَا مُؤَخِّرُ الْقَدَمِ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ (وَعُرْقُوبَيْهِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ وَهُمَا الْعَصَبُ الْغَلِيظُ الْمُوتِرُ فَوْقَ الْعَقِبِ. (وَ) كَذَلِكَ (مَا لَا يَكَادُ) أَيْ لَا يَقْرَبُ أَنْ (يُدَاخِلَهُ الْمَاءُ بِسُرْعَةٍ) إمَّا لِارْتِفَاعِهِ أَوْ لِخَفَائِهِ وَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ جَسَاوَةٍ) بِجِيمٍ وَسِينٍ مُهْمَلَةٍ مَفْتُوحَتَيْنِ غِلَظٌ فِي الْجِلْدِ يَنْشَأُ عَنْ قَشَفٍ (أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 مَعَ صَبِّ الْمَاءِ بِيَدَيْهِ فَإِنَّهُ جَاءَ الْأَثَرُ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَعَقِبُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ وَآخِرُهُ، ثُمَّ يَغْسِلُ الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ وَلَيْسَ تَحْدِيدُ غَسْلِ أَعْضَائِهِ ثَلَاثًا بِأَمْرٍ لَا يُجْزِئُ دُونَهُ، وَلَكِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَفْعَلُ وَمَنْ كَانَ يُوعِبُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ إذَا أَحْكَمَ ذَلِكَ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ فِي إحْكَامِ ذَلِكَ سَوَاءً وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ، ثُمَّ رَفَعَ طَرَفَهُ   [الفواكه الدواني] شُقُوقٍ) فِي الرِّجْلِ (فَلِيُبَالِغْ بِالْعَرْكِ) فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ (مَعَ صَبِّ الْمَاءِ بِيَدِهِ) عَلَيْهَا كَأَسَارِيرِ الْجَبْهَةِ، وَلَمَّا كَانَ فِي إيصَالِ الْمَاءِ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ مُعَالَجَةٌ أَتَى الْمُصَنِّفُ فِيهَا بِلَفْظِ يَكَادُ الدَّالُ عَلَى ذَلِكَ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: كُلُّ شَيْءٍ تُعَالِجُهُ فَأَنْتَ تَكِيدُهُ، فَدَعْوَى زِيَادَتُهَا غَيْرُ صَحِيحَةٍ لِأَنَّ الْمَعْنَى وَمَا لَا يَقْرُبُ مُدَاخَلَةُ الْمَاءِ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مُنْتَهَى غَسْلِهِمَا آخِرُ الْكَعْبَيْنِ فَهُمَا دَاخِلَانِ فِي الْمَغْسُولِ وَهُمَا الْعَظْمَاتُ النَّاتِئَانِ بِمَفْصِلَيْ السَّاقَيْنِ الْمَعْرُوفَانِ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِإِبْرَازِ الرِّجْلَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ الْمُبَالَغَةِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّهُ) أَيْ الْحَالُ وَالشَّأْنُ (جَاءَ الْأَثَرُ) أَيْ الْحَدِيثُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» وَوَيْلٌ كَلِمَةٌ تَقُولهَا الْعَرَبُ لِمَنْ اسْتَحَقَّ الْعَذَابَ وَوَقَعَ فِي الْهَلَاكِ، وَقِيلَ وَادٍ فِي جَهَنَّمَ وَلَا مَانِعَ مِنْ تَخْصِيصِ التَّعْذِيبِ بِالْأَعْقَابِ دُونَ غَيْرِهَا، وَيَجُوزُ أَنْ يَعُمَّ التَّعْذِيبُ جَمِيعَ الْبَدَنِ وَعَلَيْهِ فَيُقَدَّرُ مُضَافٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْ لِذَوِي الْأَعْقَابِ، وَنَسَبَ الْعَذَابَ لَهَا لِشِدَّتِهِ فِيهَا أَوْ لِأَنَّهَا أَوَّلُ مُعَذَّبٍ، ثُمَّ إنَّ هَذَا يَجْرِي فِي كُلِّ لُمْعَةٍ تَبْقَى فِي الْأَعْضَاءِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَعْقَابَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَهُ حِينَ رَأَى أَعْقَابَ النَّاسِ تَلُوحُ وَلَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ فِي الْوُضُوءِ. وَقَوْلُهُ مِنْ النَّارِ مُتَعَلِّقٌ بِوَيْلٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهَلَاكَ، لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهَا تُوَلْوِلُ تَقُولُ: يَا وَيْلَاه وَتَضِجُّ مِنْ عَذَابِ النَّارِ بِنَاءً عَلَى التَّجَوُّزِ فِي الْإِسْنَادِ لِأَنَّ الَّذِي يُوَلْوِلُ إنَّمَا هُمْ أَصْحَابُ الْأَعْقَابِ، فَمِنْ عَلَى هَذَا تَعْلِيلِيَّةٌ وَعَلَى أَنَّهُ اسْمٌ لِوَادٍ فِي جَهَنَّمَ تَكُونُ مِنْ الدَّاخِلَةُ عَلَى النَّارِ تَبْعِيضِيَّةٌ، وَفَسَّرْنَا الْأَثَرَ بِالْحَدِيثِ لِأَنَّهُ فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَقَدِّمِينَ يَقَعُ عَلَى الْمَرْفُوعِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هُنَا، وَعَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابِيِّ نَحْوِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ وَغَيْرُ الْمُتَقَدِّمِينَ يُطْلِقُ الْأَثَرَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَى الصَّحَابِيِّ وَيَخُصُّ الْخَبَرَ بِالْمَرْفُوعِ، قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَسَمِّ بِالْمَوْقُوفِ مَا قَصَّرْته بِصَاحِبٍ وَصَلْت أَوْ قَطَعْته وَبَعْضُ أَهْلِ الْفِقْهِ سَمَّاهُ الْأَثَرَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنْ الْمُصَنِّفَ اسْتَعْمَلَهُ هُنَا فِي الْمَرْفُوعِ وَفَسَّرَ الْعَقِبَ بِقَوْلِهِ: (وَعَقِبُ الشَّيْءِ طَرَفُهُ) بِفَتْحِ الرَّاءِ (وَ) هُوَ (آخِرُهُ) لِأَنَّهُ آخِرُ الْقَدَمِ وَهُوَ الَّذِي تُسَمِّيه الْعَامَّةُ بِالْكَعْبِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ غَسْلِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ (بِغَسْلِ) الرِّجْلِ (الْيُسْرَى مِثْلَ ذَلِكَ) مِنْ صَبِّ الْمَاءِ بِيَدِهِ الْيُمْنَى وَعَرْكِهَا بِيَدِهِ الْيُسْرَى عَرْكًا لَطِيفًا وَيُوعِبُهَا بِذَلِكَ ثَلَاثًا وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَهَا نَدْبًا (خَاتِمَةٌ) قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: يَقُولُ عِنْدَ غَسْلِ الْيُمْنَى: اللَّهُمَّ ثَبِّتْ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تُثَبِّت أَقْدَامَ الْمُؤْمِنِينَ، وَعِنْدَ غَسْلِ الْيُسْرَى: وَأَعُوذُ بِك أَنْ تَزِلَّ قَدَمِي عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ الْأَقْدَامُ. وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَعْضَاءَ فِي الْوُضُوءِ يُطْلَبُ فِيهَا غَسْلُ كُلِّ عُضْوٍ ثَلَاثًا خُشِيَ أَنْ يَتَوَهَّمَ الْوَاقِفُ عَلَى كَلَامِهِ وُجُوبَهَا قَالَ: (وَلَيْسَ تَحْدِيدُ غَسْلِ أَعْضَائِهِ) كَالْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ (ثَلَاثًا ثَلَاثًا بِأَمْرٍ) أَيْ شَأْنٍ (لَا يُجْزِئُ دُونَهُ وَلَكِنَّهُ) أَيْ التَّثْلِيثَ (أَكْثَرُ مَا يُفْعَلُ) فَلَا يُنَافِي فِي أَنَّ الْوَاجِبَ مَرَّةً وَاحِدَةً حَيْثُ أَسْبَغَتْ وَكُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ فَضِيلَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْفَضَائِلِ: وَشَفْعُ غَسْلِهِ وَتَثْلِيثُهُ وَالزَّائِدُ عَلَى الثَّلَاثِ الْمُحَقَّقَاتِ قِيلَ مَكْرُوهٌ وَقِيلَ مَمْنُوعٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا رُوِيَ، «أَنَّ أَعْرَابِيًّا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْوُضُوءِ فَأَرَاهُ ثَلَاثًا ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَظَلَمَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ» وَيَدْخُلُ فِي الزَّائِدِ الْمَنْهِيِّ عَنْ الْوُضُوءِ الْمُجَدَّدِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهَارَةٍ حَيْثُ كَانَ ثَلَاثًا. وَمَحَلُّ النَّهْيِ عَنْ الزِّيَادَةِ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهِ أَنَّهَا مَطْلُوبَةٌ فِي الْوُضُوءِ لَا إنْ فَعَلَهَا لِزِيَادَةِ تَنَظُّفٍ أَوْ تَبَرُّدٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ الزِّيَادَةِ عَنْ تَحَقُّقِ الزِّيَادَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ الشَّكِّ فِي الزِّيَادَةِ فَقَوْلَانِ: بِالْكَرَاهَةِ وَالنَّدْبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ شَكَّ فِي ثَالِثَةٍ فَفِي كَرَاهَتِهَا قَوْلَانِ، وَلَمَّا عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ التَّثْلِيثَ لَيْسَ بِفَرْضٍ قَالَ: (وَمَنْ كَانَ يُوعِبُ) أَيْ يَغْسِلُ جَمِيعَ الْعُضْوِ (بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ وَهُوَ الثَّلَاثُ (أَجْزَأَهُ) فِعْلُ ذَلِكَ فِي أَدَاءِ الْوَاجِبِ وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً (إذَا أَحْكَمَ) أَيْ أَوْعَبَ (ذَلِكَ) فَهُوَ تَأْكِيدٌ لِمَا قَبْلَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِمَا يَعُمُّ وَلَوْ غَسْلَةً وَاحِدَةٌ قَوْله تَعَالَى: اغْسِلُوا وَلَمْ يُقَيِّدْ بِعَدَدٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ غَسْلٌ، «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوَضَّأَ مَرَّةً مَرَّةً وَقَالَ: هَذَا وُضُوءٌ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلَاةَ إلَّا بِهِ» الْحَدِيثَ، وَأَخْبَرَ أَنَّ الْوَاحِدَةَ هِيَ الْفَرْضُ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: اُخْتُلِفَ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَاحِدَةِ الْمُسْبِغَةِ، فَعَنْ مَالِكٍ جَوَازُ ذَلِكَ. وَعَنْهُ الْكَرَاهَةُ إلَّا مِنْ الْعَالِمِ لِأَنَّ غَيْرَ الْعَالِمِ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ بَقَاءِ لُمْعَةٍ، وَعَنْهُ الْمَنْعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهَ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» ، وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنْ يَقُولَ بِأَثَرِ الْوُضُوءِ اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ التَّوَّابِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الْوُضُوءِ احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى لِمَا أَمَرَهُ بِهِ يَرْجُو تَقَبُّلَهُ وَثَوَابَهُ وَتَطْهِيرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ   [الفواكه الدواني] مُطْلَقًا احْتِيَاطِيًّا لِأَنَّ الْعَامِّيَّ إذَا رَأَى ذَلِكَ يَعْتَمِدُهُ وَالْغَالِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الْإِسْبَاغِ بِالْمَرَّةِ، وَكَذَلِكَ يُكْرَهُ النُّقْصَانُ عَنْ اثْنَتَيْنِ خِيفَةَ تَرْكِ لُمْعَةٍ مِنْ الْأُولَى، وَفِيهِ أَيْضًا تَرْكُ فَضِيلَةٍ وَحَاصِلُهُ أَنَّ الِاجْتِزَاءَ بِالْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ الْمُسْبِغَةِ لَا نَافِيَ كَرَاهَةِ تَرْكِ الْإِشْفَاعِ وَالتَّثْلِيثِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَكُونُ مَكْرُوهًا وَيَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ مَطْلُوبٌ بِفِعْلِهِ لِقَصْدِ التَّشْرِيعِ فَلَا إشْكَالَ. وَلَمَّا عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْوَاحِدَةَ تَكْفِي وَكَانَ التَّعْمِيمُ بِهَا قَدْ يَتَعَذَّرُ عَلَى بَعْضِ النَّاسِ قَالَ: (وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ فِي إحْكَامِ ذَلِكَ) أَيْ فِي الْإِتْقَانِ وَالتَّعْمِيمِ بِالْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ (سَوَاءً) بِالنَّصْبِ خَبَرُ لَيْسَ، وَسَوَاءٌ بِمَعْنَى مُسْتَوِيَيْنِ إذْ مِنْهُمْ السَّمِينُ الَّذِي لَا يَغْسِلُ وَجْهَهُ إلَّا أَكْثَرَ فَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ التَّعْمِيمُ وَلَوْ الثَّلَاثَ وَيَنْوِي بِهَا الْفَرْضَ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ كُلَّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْإِيعَابُ يُنْوَى بِهِ الْفَرْضُ. وَيُلَاحَظُ أَنَّ مَا زَادَ عَلَيْهِ هُوَ الْمَنْدُوبُ وَلِذَلِكَ قَالَ سَنَدٌ: لَوْ غَسَلَ وَجْهَهُ ثَلَاثًا وَتَرَكَ مِنْهُ مَوْضِعًا لَمْ يُصِبْهُ الْمَاءُ إلَّا فِي الْمَرَّةِ الثَّالِثَةِ فَإِنْ لَمْ يَخُصَّ الثَّالِثَةَ بِنِيَّةِ الْفَضِيلَةِ أَجْزَأَهُ ذَلِكَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمُتَوَضِّئِ أَنْ لَا يَنْوِيَ بِالزَّائِدِ عَلَى الْمَرَّةِ الْأُولَى الْفَضِيلَةَ [فِيمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ الْإِتْيَانُ بِهِ] ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُتَوَضِّئِ الْإِتْيَانُ بِهِ بَعْدَ تَمَامِ وُضُوئِهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ «قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ» أَيْ أَتَى بِفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ وَقِيلَ أَخْلَصَ فِيهِ نِيَّتَهُ «ثُمَّ رَفَعَ طَرْفَهُ» بِسُكُونِ الرَّاءِ أَيْ بَصَرَهُ، وَأَمَّا الطَّرَفُ الَّذِي هُوَ آخِرُ الشَّيْءِ فَبِالْفَتْحِ لَا غَيْرُ «إلَى السَّمَاءِ» أَيْ إلَى جِهَتِهَا وَإِنْ لَمْ يَرَهَا لِحَائِلٍ أَوْ عَمًى. وَفِي شَرْحِ الشَّيْخِ دَاوُد مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّظَرِ إلَى السَّمَاءِ بِالْفِعْلِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالسِّرُّ فِي رَفْعِ الطَّرْفِ إلَى السَّمَاءِ هُوَ شَغْلُ بَصَرِهِ بِأَعْظَمِ الْمَخْلُوقَاتِ الْمَرْئِيَّةِ لَنَا فِي الدُّنْيَا وَهِيَ السَّمَوَاتِ، وَالْإِعْرَاضُ بِقَلْبِهِ وَقَالَبِهِ عَنْ أَمْرِ الدُّنْيَا، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَدْعَى لِحُضُورِ قَلْبِهِ وَمُوَافَقَتِهِ لِلِسَانِهِ، وَأَمَّا سِرُّ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الدُّعَاءِ إلَيْهَا فَلِأَنَّهَا قِبْلَةُ الدُّعَاءِ، وَقَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ هَذِهِ زِيَادَةٌ فِي الْحَدِيثِ لَمْ يَذْكُرْهَا غَيْرُهُ فِيهِ نَظَرٌ إلَّا أَنَّ رِوَايَةَ أَحْمَدَ رَفَعَ بَصَرَهُ «فَقَالَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» وَفِي بَعْضِ طُرُقِهِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ زَادَهَا التِّرْمِذِيُّ «فُتِّحَتْ» بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ «لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ» وَفِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ «الثَّمَانِيَةُ يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» . وَوَرَدَ فِي رِوَايَةٍ أَنَّهُ يَقُولُ هَذَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَالْفَتْحُ قِيلَ مَعْنَاهُ تَسْهِيلُ أَبْوَابِ الطَّاعَاتِ الْمُوصِلَةِ لِلْجَنَّةِ، وَقِيلَ الْفَتْحُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ: «إنَّ فِي الْجَنَّةِ بَابًا يُقَالُ لَهُ الرَّيَّانُ لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إلَّا الصَّائِمُونَ فَإِذَا دَخَلَ آخِرُهُمْ أُغْلِقَ» لِأَنَّ التَّغْيِيرَ لَا يَسْتَلْزِمُ الدُّخُولَ مِنْهُ لِجَوَازِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُزَهِّدُهُ فِيهِ وَيُرَغِّبُهُ فِي الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِهِ، وَيُرَجِّحُ هَذَا الْقِيلَ قَوْلُهُ: «يَدْخُلُ مِنْ أَيُّهَا شَاءَ» ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ ثَمَانِيَةٌ، وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَحْصُلُ هَذَا الْفَضْلُ وَلَوْ بِإِحْسَانِ الْوُضُوءِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ اللَّائِقُ بِصَاحِبِ الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. (وَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ (أَنْ يَقُولَ بِإِثْرِ الْوُضُوءِ) بِكُثْرِ الْهَمْزَةِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ وَبِفَتْحِهَا وَبَعْدَ الذِّكْرِ السَّابِقِ كَمَا فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ «اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مَنْ التَّوَّابِينَ» أَيْ الَّذِينَ كُلَّمَا يُذْنِبُونَ يَتُوبُونَ «وَاجْعَلْنِي مِنْ الْمُتَطَهِّرِينَ» مِنْ صَغَائِرِ الذُّنُوبِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَهَذَا الْحَدِيثُ رُوِيَ مَرْفُوعًا وَمَوْقُوفًا وَمِنْهُمْ مَنْ زَادَ وَمِنْهُمْ مَنْ نَقَصَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَرْوِيَّ مِنْ وُجُوهٍ مُخْتَلِفَةٍ يُسَمَّى مُضْطَرِبًا. قَالَ الْعِرَاقِيُّ: مُضْطَرِبُ الْحَدِيثِ مَا قَدْ وَرَدَا مُخْتَلِفًا مِنْ وَاحِدٍ فَأَزْيَدَا إلَى أَنْ قَالَ: وَالِاضْطِرَابُ مُوجِبٌ لِلضَّعْفِ حَيْثُ لَمْ يَتَرَجَّحْ بَعْضُ الْوُجُوهِ وَإِلَّا زَالَ الِاضْطِرَابِ وَالْحُكْمُ لِلرَّاجِحِ، وَهُنَا لَمْ يَتَرَجَّحْ بَعْضُهَا فَهُوَ مُضْطَرِبٌ، لَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْحَدِيثَ الضَّعِيفَ يُعْمَلُ بِهِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَدَّ ضَعْفُهُ. وَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ الْإِخْلَاصَ فِي عِبَادَتِهِمْ وَقَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ عِبَادَةِ غَيْرِ اللَّهِ وَلَوْ مَعَ التَّشْرِيكِ أَشَارَ لِذَلِكَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَيَجِبُ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُكَلَّفِ الْمُرِيدِ لِلْوُضُوءِ (أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الْوُضُوءِ) أَيْ يَأْتِيَ بِالْمَطْلُوبِ فِيهِ (احْتِسَابًا لِلَّهِ تَعَالَى) أَيْ مُخْلِصًا فِيهِ وَمُمْتَثِلًا (لِمَا أَمَرَهُ بِهِ) فِي قَوْله تَعَالَى {وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ لَا لِرِيَاءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بِهِ وَيُشْعِرُ نَفْسَهُ أَنَّ ذَلِكَ تَأَهُّبٌ وَتَنَظُّفٌ لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ وَالْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَيَعْمَلُ عَلَى يَقِينٍ بِذَلِكَ وَتَحَفُّظٍ فِيهِ فَإِنَّ تَمَامَ كُلِّ عَمَلٍ بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ.   [الفواكه الدواني] وَلَا سُمْعَةٍ وَلَهُ مَرَاتِبُ ثَلَاثٍ: دُنْيَا، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ أَوْ خَوْفًا مِنْ نَارِهِ، وَوُسْطَى وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِكَوْنِهِ عَبْدًا مَمْلُوكًا لِلَّهِ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ مَوْلَاهُ كُلَّ شَيْءٍ وَلَا يَسْتَحِقُّ عَلَى مَوْلَاهُ شَيْئًا، وَعُلْيَا وَهِيَ أَنْ يَعْمَلَ لِأَجْلِ الذَّاتِ الْعَلِيَّةِ لَا طَمَعًا فِي جَنَّتِهِ وَلَا خَوْفًا مِنْ نَارِهِ. وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَمِلَ عَلَى الْمَرْتَبَةِ الْأُولَى مِنْ تِلْكَ الْمَرَاتِبِ لِتَقْيِيدِ قَوْلِهِ: يَعْمَلُ عَمَلَ الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ: (يَرْجُو تَقَبُّلَهُ) فَإِنَّهُ حَالٌ مِنْ ضَمِيرِ يَعْمَلُ أَيْ يَعْمَلُ عَمَلَ الْوُضُوءِ حَالَةَ كَوْنِهِ رَاجِيًا مِنْ اللَّهِ تَقَبُّلَهُ (وَ) رَاجِيًا (ثَوَابَهُ وَتَطْهِيرَهُ مِنْ الذُّنُوبِ بِهِ) أَيْ الْوُضُوءِ لِمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِمَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إلَى الْمَسَاجِدِ، وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ» وَالْخَبَرُ: «إذَا تَوَضَّأَ الْعَبْدُ الْمُسْلِمُ أَوْ الْمُؤْمِنُ فَغَسَلَ وَجْهَهُ خَرَجَ مِنْ وَجْهِهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ نَظَرَ إلَيْهَا بِعَيْنِهِ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ يَدَيْهِ خَرَجَ مِنْ يَدَيْهِ كُلُّ خَطِيئَةٍ بَطَشَتْهَا يَدَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخِرِ قَطْرِ الْمَاءِ، فَإِذَا غَسَلَ رِجْلَيْهِ خَرَجَ كُلُّ خَطِيئَةٍ مَشَتْهَا رِجْلَاهُ مَعَ الْمَاءِ أَوْ مَعَ آخَرِ قَطْرِ الْمَاءِ حَتَّى يَخْرُجَ تَقِيًّا مِنْ الذُّنُوبِ» . وَرَوَى مُسْلِمٌ: «مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ مِنْ جَسَدِهِ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ تَحْتِ أَظَافِرِهِ» . (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنْ (يُشْعِرَ نَفْسَهُ) أَيْ يَعِظُهَا وَيُعَلِّمُهَا (أَنَّ ذَلِكَ) الْوُضُوءَ (تَأَهُّبًا) أَيْ اسْتِعْدَادًا (وَتَنَظُّفًا) أَيْ تَطَهُّرًا مِنْ الْأَحْدَاثِ وَالذُّنُوبِ، وَمَا ذَكَرَ مِنْ نَصَبِ تَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا هُوَ الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ عَنْ الْمُصَنِّفِ، وَرُوِيَ تَأَهُّبٌ وَتَنَظُّفٌ بِالرَّفْعِ وَلَا إشْكَالَ فِيهَا وَإِنَّمَا الْإِشْكَالُ فِي رِوَايَةِ النَّصْبِ مَعَ وُجُوبِ رَفْعِ خَبَرِ أَنَّ، وَأُجِيبُ بِأَوْجُهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْخَبَرَ قَوْلُهُ: (لِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ) وَتَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا مَنْصُوبَانِ عَلَى الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي مُتَعَلَّقِ الْجَارِّ وَالْمَجْرُورِ الْوَاقِعِ خَبَرًا. ثَانِيهَا: أَنَّ نَصْبَهُمَا عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِكَانَ الْمَحْذُوفَةِ وَجُمْلَةُ كَانَ مَعَ مَعْمُولَيْهَا فِي مَوْضِعِ رَفْعِ خَبَرِ إنَّ وَلِمُنَاجَاةِ صِلَةُ تَأَهُّبًا. ثَالِثُهَا: أَنَّ نَصْبَهُمَا عَلَى طَرِيقَةِ مَنْ يَنْصِبُ بِأَنَّ الْجُزْأَيْنِ عَلَى حَدِّ: إنْ حُرَّاسَنَا أُسْدًا، وَلِمُنَاجَاةِ رَبِّهِ يَتَنَازَعُهُ تَأَهُّبًا وَتَنَظُّفًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، وَالْمُرَادُ بِمُنَاجَاةِ الْمُصَلِّي لِرَبِّهِ إخْلَاصُ قَلْبِهِ وَتَفْرِيغُ سِرِّهِ لِعِبَادَةِ رَبِّهِ. (وَ) لِأَجْلِ (الْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ تَعَالَى لِأَدَاءِ فَرَائِضِهِ وَالْخُضُوعِ لَهُ) تَعَالَى (بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) فَإِذَا اسْتَشْعَرَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ تَمَكَّنَ مِنْ قَلْبِهِ الْإِجْلَالُ وَتَعْظِيمُ خَالِقِهِ. (فَيَعْمَلُ) الْوُضُوءَ (عَلَى يَقِينٍ) أَيْ إخْلَاصٍ (بِذَلِكَ) الْوُضُوءِ. (وَ) يَعْمَلُهُ عَلَى (تَحَفُّظٍ فِيهِ) أَيْ الْوُضُوءِ بِأَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يَعْمَلَ الْوُضُوءَ عَلَى الْإِخْلَاصِ بَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ تَمَامَ) أَيْ صِحَّةَ (كُلِّ عَمَلٍ) يُشْتَرَطُ فِيهِ الْإِخْلَاصُ (بِحُسْنِ النِّيَّةِ فِيهِ) وَحُسْنُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِمُقَارَنَةٍ مِنْ الْإِخْلَاصِ لَا مُطْلَقِ الْقَصْدِ، لِأَنَّ النِّيَّةَ بِهَذَا الْمَعْنَى تَقَعُ مِنْ الْمُرَائِي وَالْكَافِرِ. وَمِنْ ثَمَّ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ، فَمَنْ قَالَ: إنَّهَا شَيْءٌ وَاحِدٌ أَرَادَ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ الْمُعْتَبَرَةَ شَرْعًا وَهِيَ الْمُقَارِنَةُ لِلْإِخْلَاصِ، وَمَنْ قَالَ: إنَّهَا شَيْئَانِ فَسَّرَ النِّيَّةَ بِمُطْلَقِ الْقَصْدِ، وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ، فَعَلَى وَحِدَتِهِمَا تَكُونُ النِّيَّةُ رُوحَ الْعَمَلِ وَالْإِخْلَاصُ رُوحَ النِّيَّةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُوَافَقَتِهِمَا لِلسُّنَّةِ لِقَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَا يَكْمُلُ قَوْلٌ وَلَا عَمَلٌ وَلَا نِيَّةٌ إلَّا بِمُوَافَقَةِ السُّنَّةِ 1 - (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ الْمُوَالَاةُ وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِأَفْعَالِ الْوُضُوءِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ مُتَفَاحِشٍ، لِأَنَّ الَّذِي عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ خَمْسُ فَرَائِضَ: غَسْلُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ وَمَسْحُ الرَّأْسِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ إلَى الْكَعْبَيْنِ وَالدَّلْكُ، وَلَعَلَّ عَدَمَ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ الْمُوَالَاةَ بِعَدَمِ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهَا، لِأَنَّهُ قِيلَ بِسُنِّيَّتِهَا وَقِيلَ بِوُجُوبِهَا مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، فَعَلَى الْوُجُوبِ إنْ فَرَّقَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بَنَى اسْتِنَانًا فِيهِمَا وَإِنْ طَالَ لَكِنْ بِنِيَّةٍ مَعَ النِّسْيَانِ وَمَعَ الْبِنَاءِ فَعَلَ الْمَنْسِيَّ مَعَ مَا بَعْدَهُ وَلَوْ كَانَ فِعْلُهُ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ، لِأَنَّ عَدَمَ الْمُوَالَاةِ يَصْدُقُ بِصُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَفْعَلَ بَعْضَ الْأَعْضَاءِ وَيُتْرَكَ جَمِيعَ مَا بَعْدَهُ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَغْسِلَ وَجْهَهُ مَثَلًا وَيَنْسَى الْيَدَيْنِ وَيَمْسَحَ الرَّأْسَ وَيَغْسِلَ الرِّجْلَيْنِ، فَيُطْلَبُ مِنْهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى تَكْمِيلُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَغْسِلُ الْيَدَيْنِ وَيُعِيدُ مَسْحَ الرَّأْسِ وَيَغْسِلُ الرِّجْلَيْنِ حَيْثُ كَانَ بِالْقُرْبِ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى فِعْل الْمَنْسِيِّ بَعْدَ الطُّولِ كَمَا يَفْعَلُ الْمُنَكِّسُ، وَإِنْ فَرَّقَ عَمْدًا أَوْ عَجْزًا بَنَى مَا لَمْ يَطُلْ، وَإِنْ طَالَ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَى الْبِنَاءِ الِاعْتِدَادُ بِمَا فَعَلَ وَالْإِتْيَانُ بَعْدُ بِالْمَتْرُوكِ، وَلَا يُقَالُ: الْعَاجِزُ لَا تَجِبُ الْمُوَالَاةُ فِي حَقِّهِ فَكَانَ مُقْتَضَاهُ الْبِنَاءُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْعَاجِزُ مُقَصِّرٌ بِخِلَافِ النَّاسِي لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَاجِزِ مَنْ أَعَدَّ مِنْ الْمَاءِ مَا يَعْتَقِدُ أَنَّهُ كَافٍ فَيَتَبَيَّنُ خِلَافُهُ، لِأَنَّهُ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاحْتِيَاطُ فِي الْمَاءِ أَوْ فِي التَّحَفُّظِ مِمَّنْ أَرَاقَهُ مِنْهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْعَاجِزِ ضَعِيفَ الْبِنْيَةِ الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لَا يَسْتَطِيعُ مُتَابَعَةَ غَسْلِ الْأَعْضَاءِ بِسُرْعَةٍ لِأَنَّ هَذَا أَوْلَى مِنْ النَّاسِي بِالْبِنَاءِ مُطْلَقًا فَافْهَمْ، وَالطُّولُ مُقَدَّرٌ بِجَفَافِ الْغَسْلَةِ الْأَخِيرَةِ مِنْ الْعُضْوِ الْأَخِيرِ مَعَ اعْتِدَالِ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ وَالشَّخْصِ، وَعَلَى السُّنِّيَّةِ إنْ فَرَّقَ نَاسِيًا أَوْ مُكْرَهًا بَنَى وَلَوْ طَالَ بِالْأُولَى مَعَ الْوُجُوبِ وَإِنْ فَرَّقَ عَامِدًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ إذَا حَصَلَ طُولٌ يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَالصَّلَاةَ أَبَدًا كَتَرْكِ سُنَّةٍ مِنْ سُنَنِهَا عَمْدًا. 1 - وَبَقِيَ عَلَيْهِ النِّيَّةُ أَيْضًا وَهِيَ الْفَرِيضَةُ السَّابِعَةُ وَادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلَ الْوُضُوءِ احْتِسَابًا، لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ الصَّحِيحَةِ، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا رُوحُ الْعَمَلِ وَحَقِيقَتُهَا قَصْدُ الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْ الشُّرُوعِ فِيهِ لَمْ تَجُزْ مُطْلَقًا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ فَبَاطِلَةٌ اتِّفَاقًا فِي التَّقَدُّمِ بِكَثِيرٍ وَفِي التَّقَدُّمِ بِيَسِيرٍ خِلَافٌ وَلَهَا ثَلَاثُ كَيْفِيَّاتٍ: إحْدَاهَا نِيَّةُ رَفْعِ الْحَدَثِ بِمَعْنَى الْمَنْعِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْأَعْضَاءِ عِنْدَ أَوَّلِ مَفْعُولٍ، ثَانِيَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ أَدَاءَ فَرْضِ الْوُضُوءِ أَيْ امْتِثَالَ أَمْرِ اللَّهِ، ثَالِثَتُهَا أَيْ يَنْوِيَ اسْتِبَاحَةَ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الطَّهَارَةِ وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت الْوُضُوءَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ صَحَّ، وَمَحَلُّ النِّيَّةِ الْقَلْبُ فَلَا يُشْتَرَطُ التَّلَفُّظُ بِهَا بَلْ الْأَفْضَلُ تَرْكُ التَّلَفُّظِ إلَّا أَنْ يُرَاعَى الْخِلَافُ، وَشَرْطُهَا عَدَمُ الْإِتْيَانِ بِمُنَافٍ لِلْمَنْوِيِّ وَكَوْنُ الْمَنْوِيِّ مُكْتَسَبًا لِلنَّاوِي، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَنْوِيَ شَخْصٌ فِعْلَ غَيْرِهِ وَأَنْ يَكُونَ الْمَنْوِيُّ مَعْلُومَ الْوُجُوبِ أَوْ مَظْنُونَهُ لَا إنْ كَانَ مَشْكُوكًا فِيهِ لِتَرَدُّدِهَا، فَلِذَا لَا يَصِحُّ وُضُوءُ مَنْ قَالَ: إنْ كُنْت أَحْدَثْت فَلَهُ، فَشُرُوطُهَا ثَلَاثَةٌ وَحُكْمُهَا الْوُجُوبُ فِي كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهَا وَالنَّدْبُ فِيمَا يَصِحُّ بِدُونِهَا وَحِكْمَتُهَا تَمْيِيزُ الْعِبَادَاتِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ لِلنِّيَّةِ حَقِيقَةً وَحُكْمًا وَمَحَلًّا وَزَمَنًا وَكَيْفِيَّةً وَشَرْطًا وَمَقْصُودًا حَسَنًا. قَالَ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ: سَبْعُ سُؤَالَاتٍ أَتَتْ فِي نِيَّةٍ ... تُلْفَى لِمَنْ حَاوَلَهَا بِلَا وَسَنْ حَقِيقَةٌ حُكْمٌ مَحَلٌّ وَزَمَنْ ... كَيْفِيَّةٌ شَرْطٌ وَمَقْصُودٌ حَسَنْ وَقَدْ وَضَّحْنَاهَا، وَالْوَسَنُ بِفَتْحَتَيْنِ النُّعَاسُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَمَقْصُودٌ حَسَنٌ إلَى أَنَّ الْمَنْوِيَّ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُعَيِّنًا لِلْفَاعِلِ وَزَمَنُهَا عِنْدَ أَوَّلِ الْفِعْلِ. الثَّانِيَةُ: سَيَأْتِي فِي بَابِ جَامِعِ التَّعَرُّضِ لِبَعْضِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْوُضُوءِ كَمَسْأَلَةِ مَنْ تَرَكَ امِنْ فَرَائِضِ وُضُوئِهِ أَوْ تَرَكَ لُمْعَةً حَتَّى صَلَّى وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا أَتَى بِهِ وَبِالصَّلَاةِ، وَسُنَّةُ فِعْلِهَا لِمَا يَسْتَقْبِلُ وَصِفَةُ الْإِتْيَانِ بِالْفَرْضِ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَ النِّسْيَانِ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ مَعَ الْعَجْزِ أَوْ الْعَمْدِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ طُولٌ، وَيَفْعَلُ الْمَتْرُوكُ عُضْوًا أَوْ لُمْعَةً ثَلَاثًا وَلَوْ مَعَ الْبُعْدِ وَمَا بَعْدَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً مَعَ الْقُرْبِ حَيْثُ غَسَلَهُ أَوَّلًا ثَلَاثَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَالْأَكْمَلُ الثَّلَاثُ، وَمَعَ الْبُعْدِ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَتْرُوكِ، وَصِفَةُ الْإِتْيَانِ بِالسُّنَّةِ أَنَّهُ يَفْعَلُهَا إنْ لَمْ يُنِبْ عَنْهَا غَيْرَهَا حَيْثُ لَمْ تَقَعْ إعَادَتُهَا فِي مَكْرُوهٍ، كَرَدِّ مَسْحِ الرَّأْسِ فَلَا يَرْجِعُ لَهُ بَعْدَ أَخْذِ الْمَاءِ لِرِجْلَيْهِ وَلَا لِغَسْلِ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ بَعْدَ غَسْلِ يَدَيْهِ لِمِرْفَقَيْهِ، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ نَحْوَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ وَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ، وَلَا يُعِيدُ مَا صَلَّى حَيْثُ كَانَ تَرَكَهَا سَهْوًا لَا فِي وَقْتٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا مَعَ الْعَمْدِ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ. 1 - الثَّالِثَةُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ التَّصْرِيحِ بِجَمِيعِ الْفَضَائِلِ وَأَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفَضَائِلُهُ مَوْضِعٌ طَاهِرٌ وَقِلَّةُ مَاءٍ بِلَا حَدٍّ وَتَيَمُّنُ أَعْضَاءٍ وَإِنَاءٌ إنْ فَتَحَ، وَبَدَأَ بِمُقَدَّمِ رَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْأَعْضَاءِ، وَشَفْعُ غَسْلِهِ وَتَثْلِيثُهُ وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ وَاسْتِحْضَارُ النِّيَّةِ فِي جَمِيعِ الْوُضُوءِ وَالْجُلُوسُ مَعَ التَّمَكُّنُ وَفِي مَحَلٍّ مُرْتَفِعٍ وَتَرْتِيبُ سُنَنِهِ أَوْ مَعَ فَرَائِضِهِ وَالتَّسْمِيَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِهِ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِهَا. [مَكْرُوهَات الْوُضُوء] 1 الرَّابِعَةُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَكْرُوهَاتِهِ وَعَدَّهَا بَعْضُهُمْ سِتَّةً: الْإِكْثَارُ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ، وَالْوُضُوءُ فِي الْخَلَاءِ، وَكَشْفُ الْعَوْرَةِ، وَالْكَلَامُ فِي أَثْنَائِهِ بِغَيْرِ ذِكْرِ اللَّهِ، وَالزِّيَادَةُ فِي الْمَغْسُولِ عَلَى ثَلَاثٍ وَعَلَى الْوَاحِدَةِ فِي الْمَمْسُوحِ، وَالِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِغَيْرِ الْعَالِمِ، وَحَكَى الْقَاضِي عِيَاضٌ تَخْلِيلَ اللِّحْيَةِ الْكَثِيفَةِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيَانِ صِفَةِ الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى شَرَعَ فِي بَيَانِ الْكُبْرَى فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 بَابٌ فِي الْغُسْلِ أَمَّا الطُّهْرُ فَهُوَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَمِنْ الْحَيْضَةِ وَالنِّفَاسِ سَوَاءٌ فَإِنْ اقْتَصَرَ الْمُتَطَهِّرُ عَلَى الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الْغُسْل] بَابٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ (الْغُسْلِ) بِالضَّمِّ الْفِعْلُ وَبِالْفَتْحِ اسْمٌ لِلْمَاءِ عَلَى الْأَشْهُرِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ الْعَكْسَ، لِأَنَّ مَصْدَرَ الثُّلَاثِيِّ الْمُتَعَدِّي فَعْلٌ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَأَمَّا بِالْكَسْرِ فَاسْمٌ لِمَا يُفْعَلُ بِهِ مِنْ صَابُونٍ وَنَحْوِهِ، وَتَقَدَّمَ تَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى جَمْعِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ مَعَ الدَّلْكِ، وَمِنْ الظَّاهِرِ التَّكَامِيشُ الَّتِي فِي الدُّبُرِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُغْتَسِلِ أَنْ يَسْتَرْخِيَ، بِخِلَافِ دَاخِلِ الْأَنْفِ وَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَالْفَمِ فَلَيْسَتْ مِنْ الظَّاهِرِ فِي هَذَا الْبَابِ، بِخِلَافِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ فَإِنَّهَا مِنْهُ وَفَرَائِضُهُ خَمْسَةٌ: تَعْمِيمُ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ وَالنِّيَّةُ وَالْمُوَالَاةُ كَالْوُضُوءِ وَالدَّلْكُ وَبِالِاسْتِنَابَةِ مَعَ الْعُذْرِ وَتَخْلِيلُ الشَّعْرِ وَلَوْ كَثِيفًا وَضَغْثُ الْمَضْفُورِ وَسُنَنُهُ خَمْسٌ: غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ أَوَّلًا وَالْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالِاسْتِنْثَارُ وَمَسْحُ الصِّمَاخَيْنِ فَقَطْ وَهُمَا الثُّقْبَانِ فَيَمْسَحُ مِنْهُمَا مَا لَا يُمْكِنُ غَسْلُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمَا مِمَّا يُمْكِنُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ فَيَجِبُ غَسْلُهُ وَذَلِكَ بِحَمْلِ الْمَاءِ فِي يَدَيْهِ وَإِمَالَةِ رَأْسِهِ حَتَّى يُصِيبَ الْمَاءُ ظَاهِرَ أُذُنَيْهِ وَبَاطِنَهُمَا. وَلَا يَصُبُّ الْمَاءَ فِي أُذُنَيْهِ صَبَّا لِأَنَّهُ يُورِثُ الضَّرَرَ، وَيَتَحَرَّى التَّجْعِيدَاتِ فِيهِمَا كَمَا يَتَحَرَّى ثُقْبَ الْحَلْقَةِ فِي أُذُنَيْهِ إنْ كَانَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ كَمَوْضِعِ الْجُرْحِ الَّذِي يَبْرَأُ غَائِرًا وَلَا يَلْزَمُهُ جَعْلُ نَحْوِ زَرْدَةٍ فِيهِ كَمَا يَقُولُهُ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ، وَفَضَائِلُهُ سَبْعٌ التَّسْمِيَةُ وَالْبَدْءُ بِإِزَالَةِ الْأَذَى عَنْ جَسَدِهِ وَغَسْلُ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ كُلِّهَا قَبْلَ الْغُسْلِ وَالْبَدْءُ بِغَسْلِ الْأَعَالِي قَبْلَ الْأَسَافِلِ وَالْمَيَامِنِ قَبْلَ الْمَيَاسِرِ وَتَثْلِيثُ الرَّأْسِ وَقِلَّةُ الْمَاءِ مَعَ إحْكَامِ الْغُسْلِ، وَمَكْرُوهَاتُهُ سِتَّةٌ: تَنْكِيسُ الْفِعْلِ وَالْإِكْثَارُ مِنْ صَبِّ الْمَاءِ وَتَكْرَارُ الْغَسْلِ بَعْدَ الْإِسْبَاغِ وَالْغُسْلُ فِي الْخَلَاءِ وَفِي مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمُصَنِّفُ اعْتَنَى بِبَيَانِ الصِّفَةِ اتِّبَاعًا لِمَا الْتَزَمَهُ مِنْ التَّعْلِيمِ وَهِيَ مُتَضَمِّنَةٌ لِذِكْرِ الْوَاجِبَاتِ فَقَالَ: وَ (أَمَّا الطُّهْرُ) الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْغُسْلِ (فَهُوَ مِنْ الْجَنَابَةِ) الشَّامِلَةِ لِمَغِيبِ الْحَشَفَةِ وَخُرُوجِ الْمَنِيِّ (وَمِنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ سَوَاءٌ) فِي الصِّفَةِ الْآتِي بَيَانُهَا مِنْ وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ وَدَلْكِهِ وَتَخْلِيلِ شَعْرِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَفِي الْحُكْمِ أَيْضًا: وَمِنْ ثَمَرَاتِ الْمُسَاوَاةِ فِي الْحُكْمِ أَنَّ مُرِيدَ الْغُسْلِ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ جَنَابَةٌ وَانْقَطَعَ عَنْهُ الْحَيْضُ وَالنِّفَاسُ أَوْ هُمَا وَاغْتَسَلَ لِأَحَدِهِمَا نَاسِيًا لِلْآخَرِ أَوْ ذَاكِرًا لَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ لَأَجْزَأَهُ عَنْ الْجَمْعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَوَتْ الْحَيْضَ وَالْجَنَابَةَ أَوْ أَحَدَهُمَا نَاسِيًا لِلْآخَرِ حَصَلَا فَقَدْ قَالَ شُرَّاحُهُ: لَا مَفْهُومَ لِنَاسِيَةٍ وَلَا مَفْهُومَ لِلْجَنَابَةِ وَمَا مَعَهَا بَلْ سَائِرُ الِاغْتِسَالَاتِ الْمَسْنُونَةِ وَالْمَنْدُوبَةِ فِي الصِّفَةِ عِنْدنَا سَوَاءٌ، فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنَّفِ أَنْ لَوْ قَالَ: وَأَمَّا الطُّهْرُ فَهُوَ مِنْ الْجَنَابَةِ وَغَيْرِهَا سَوَاءٌ لِيَشْمَلَ سَائِرَ الِاغْتِسَالَاتِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا ذَكَرَ اهْتِمَامًا بِشَأْنِهِ لِوُجُوبِهِ وَكَثْرَةِ وُقُوعِهِ، وَلِأَجْلِ قَوْلِهِ بَعْدُ: فَإِنْ اقْتَصَرَ الْمُتَطَهِّرُ عَلَى الْغُسْلِ دُونَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ فَإِنَّهُ خَاصٌّ بِالطُّهْرِ الْوَاجِبِ، وَلِذَا قُلْنَا: إنَّ غَيْرَ الْوَاجِبِ مِثْلُ الْوَاجِبِ فِي الصِّفَةِ فَقَطْ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ تِلْكَ الصِّفَةِ عَلَى الْحَالَتَيْنِ مَفْضُولَةٌ وَفَاضِلَةٌ، فَالْمَفْضُولَةُ أَنْ يَقْتَصِرَ عَلَى تَعْمِيمِ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ دُونَ تَقَدُّمِ وُضُوءٍ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ اقْتَصَرَ الْمُتَطَهِّرُ) مِنْ بَعْضِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ (عَلَى الْغُسْلِ) أَيْ تَعْمِيمِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ بِالْمَاءِ (دُونَ الْوُضُوءِ أَجْزَأَهُ) وَلَهُ الصَّلَاةُ بِهِ إذْ لَمْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ حَالَ دَلْكِهِ، وَصُورَةُ مَا يَفْعَلُ أَنْ يَغْسِلَ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ بِنِيَّةِ سُنَّةِ الْغُسْلِ وَيَغْسِلَهُمَا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا كَمَا فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ ثُمَّ يَغْسِلَ ذَكَرَهُ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ثُمَّ يَحُكَّ يَدَهُ فِي الْحَائِطِ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَتَمَضْمَضَ وَيَسْتَنْشِقَ وَيَسْتَنْثِرَ وَيَمْسَحَ قَعْرَ أُذُنَيْهِ وَيَنْغَمِسَ فِي الْمَاءِ أَوْ يَصُبَّ الْمَاءَ عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثًا اسْتِحْبَابًا وَيَعُمَّ سَائِرَ جَسَدِهِ وَيَخْتِمَ بِرِجْلَيْهِ وَقَدْ ارْتَفَعَ حَدَثُهُ، وَتَحِلَّ لَهُ الصَّلَاةُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى وُضُوءٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَتَوَضَّأُ بَعْدَ الْغُسْلِ» رَوَى ابْنُ مَاجَهْ «مِنْ الْجَنَابَةِ» . وَقَالَتْ عَائِشَةُ أَيْضًا: وَأَيُّ وُضُوءٍ أَعَمُّ مِنْ الْغُسْلِ مَا لَمْ يَمَسَّ فَرْجَهُ وَأَجْزَأَ الْغُسْلُ عَنْ الْوُضُوءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ تَبَيَّنَ عَدَمَ جَنَابَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيُجْزَى عَنْ الْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ بَعْدَ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ مَا بِفَرْجِهِ أَوْ جَسَدِهِ مِنْ الْأَذَى، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، فَإِنْ شَاءَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا إلَى آخِرِ غُسْلِهِ، ثُمَّ يَغْمِسُ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ وَيَرْفَعُهُمَا غَيْرَ قَابِضٍ بِهِمَا شَيْئًا فَيُخَلِّلُ بِهِمَا أُصُولَ شَعْرِ رَأْسِهِ، ثُمَّ يَغْرِفُ بِهِمَا عَلَى رَأْسِهِ ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ غَاسِلًا لَهُ بِهِنَّ [بَابٌ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْغُسْلِ] وَتَفْعَلُ ذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَتَضْغَثُ شَعْرَ رَأْسِهَا وَلَيْسَ عَلَيْهَا   [الفواكه الدواني] وَإِنْ تَبَيَّنَ عَدَمَ جَنَابَتِهِ، وَقَيَّدْنَا الطُّهْرَ بِكَوْنِهِ مِنْ بَعْضِ الْمَذْكُورَاتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ اغْتَسَلَ لِنَحْوِ الْإِحْرَامِ أَوْ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُهُ عَنْ الْوُضُوءِ. (تَنْبِيهٌ) : وَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي تِلْكَ السُّنَنِ فِي كَوْنِهَا لِلْغُسْلِ أَوْ الْوُضُوءِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وَسُنَنُهُ غَسْلُ يَدَيْهِ: أَنَّ السُّنَّةَ فِيهِمَا تَتَوَقَّفُ عَلَى التَّثْلِيثِ وَالْمُطْلَقِ وَالنِّيَّةِ وَكَوْنُ الْغُسْلِ قَبْلَ الْإِدْخَالِ فِي الْإِنَاءِ، وَأَنَّ غَسَلَهُمَا لِلْكُوعَيْنِ قَبْلَ غَسْلِ الْأَذَى مِنْ سُنَّةِ الْغُسْلِ قَطْعًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَذًى يَكُونُ غَسْلُهُمَا مِنْ سُنَّةِ الْوُضُوءِ أَيْضًا كَالْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ حَيْثُ تَوَضَّأَ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ، وَأَمَّا لَوْ تَوَضَّأَ نَاسِيًا لِلْجَنَابَةِ ثُمَّ بَعْدَ تَمَامِ وُضُوئِهِ تَذَكَّرَ الْجَنَابَةَ وَكَمَّلَ غَسْلَ جَسَدِهِ فَوْرًا فَإِنَّ السُّنَنَ تَكُونُ لِلْوُضُوءِ، وَتِلْكَ الصُّورَةُ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَغَسْلُ الْوُضُوءِ عَنْ غَسْلِ مَحَلِّهِ وَلَوْ نَاسِيًا لِجَنَابَتِهِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَتْ نِيَّةُ الْوُضُوءِ عَنْ نِيَّةِ الْغُسْلِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ قِيَامِ وَاجِبٍ مَقَامَ جُزْءٍ وَاجِبٍ لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الْوُجُوبِ، وَأَشَارَ إلَى الصِّفَةِ الْفَاضِلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَأُفَضِّلُ لَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ) وَلَوْ بِنِيَّةِ الْأَصْغَرِ لِأَنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الْأَكْبَرِ فِي مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ. (بَعْدَ أَنْ يَبْدَأَ بِغَسْلِ مَا بِفَرْجِهِ أَوْ جَسَدِهِ مِنْ الْأَذَى) بِنِيَّةِ رَفْعِ الْأَكْبَرِ لِيَسْتَغْنِيَ عَنْ الْوُضُوءِ بَعْدَ تَمَامِ غَسْلِهِ. وَقَوْلُهُ: (ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ) مُكَرَّرٌ مَعَ مَا قَبْلَهُ أَوْ الْأَوَّلُ الْوُضُوءُ اللُّغَوِيُّ وَهُوَ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى بِإِيضَاحٍ: أَنَّهُ يَغْسِلُ يَدَيْهِ أَوَّلًا لِكُوعَيْهِ بِنْيَةِ السُّنِّيَّةِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ ثُمَّ يُزِيلُ الْأَذَى عَنْ جَسَدِهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ثُمَّ يَتَوَضَّأُ وُضُوءَ الصَّلَاةِ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ بَعْدَ إزَالَةِ الْأَذَى لَا يُعِيدُ غَسْلَ يَدَيْهِ لِكُوعَيْهِ، وَغَالِبُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ قَائِلٌ بِإِعَادَةِ غَسْلِهِمَا، وَقَوْلُهُ: وُضُوءَ الصَّلَاةِ يُوهِمُ أَنَّهُ يُكَرِّرُ غَسْلَ الْأَعْضَاءِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَرَّةً مَرَّةً. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ أَعْضَاءُ وُضُوئِهِ كَامِلَةً مَرَّةً مَرَّةً حَتَّى مَسْحَ رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ وَغَسْلَ رِجْلَيْهِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ كَامِلَةً مَرَّةً. قَالَ شَارِحُهُ التَّتَّائِيُّ: مَسْحًا وَغَسْلًا فَلَا يُؤَخِّرُ غَسْلَ رِجْلَيْهِ لِفَرَاغِ غَسْلِهِ كَانَ الْمَوْضِعُ نَظِيفًا أَوْ وَسِخًا وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا كَانَ مَرَّةً فَقَطْ لِأَنَّهُ غُسْلٌ حَقِيقَةً وَصُورَةُ وُضُوءٍ، وَقَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِتَرْكِ مَسْحِ رَأْسِهِ وَأُذُنَيْهِ لِأَنَّهُمَا يُغْسَلَانِ فَلَا فَائِدَةَ فِي مَسْحِهِمَا، وَمَا قَالَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ يُقَوِّيه حَدِيثُ مَيْمُونَةَ وَهُوَ: «تَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وُضُوءَ الْجَنَابَةِ وَأَكْفَى بِيَمِينِهِ عَلَى يَسَارِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ غَسَلَ فَرْجَهُ ثُمَّ ضَرَبَ يَدَهُ فِي الْأَرْضِ أَوْ الْحَائِطِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثُمَّ تَمَضْمَضَ وَاسْتَنْشَقَ وَغَسَلَ وَجْهَهُ وَذِرَاعَيْهِ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسِهِ الْمَاءَ ثُمَّ غَسَلَ جَسَدَهُ ثُمَّ تَنَحَّى فَغَسَلَ رِجْلَيْهِ» الْحَدِيثَ، فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ لَا يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَلَا أُذُنَيْهِ فِي هَذَا الْوُضُوءِ وَلَمْ يَغْسِلْ فِيهِ رِجْلَيْهِ أَيْضًا، وَلَكِنَّ خَلِيلًا اعْتَمَدَ عَلَى مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ إذَا اغْتَسَلَ مِنْ الْجَنَابَةِ تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اغْتَسَلَ ثُمَّ يُخَلِّلُ شَعْرَهُ بِيَدَيْهِ» فَظَاهِرُ قَوْلِهَا تَوَضَّأَ وُضُوءَهُ لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ يُكَمِّلُهُ وَلَكِنْ فِي بَعْضِ طُرُقِهِ غَيْرُ رِجْلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْمَشْهُورَ التَّكْمِيلُ فَيُقَدَّمُ غَسْلُ رِجْلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَتَا طَاهِرَتَيْنِ أَوْ مُتَنَجِّسَتَيْنِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ خِلَافًا لِمَنْ فَصَلَ وَخِلَافًا لِمَنْ خَيَّرَ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ شَاءَ غَسَلَ رِجْلَيْهِ) فِي أَثْنَاءِ وُضُوئِهِ (وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَهُمَا إلَى آخَرِ غُسْلِهِ) وَهَذَا الْخِلَافُ فِي الْغُسْلِ الْوَاجِبِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ غَسْلِهِمَا لِإِخْلَالِهِ بِالْفَوْرِيَّةِ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ وَهُوَ وَاضِحٌ (تَنْبِيهٌ) : اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ إذَا أَخَّرَ غَسْلَ رِجْلَيْهِ هَلْ يَغْسِلُهُمَا بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ؟ وَاَلَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ: يَنْوِي بِغَسْلِهِمَا الْوُضُوءَ وَالْغُسْلَ، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: لَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَاتَّفَقَ الْجَمِيعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَنْوِي بِهِ إتْمَامَ وُضُوئِهِ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ ذَلِكَ الْوُضُوءِ يَغْسِلُ رِجْلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا ذَكَرْنَا (يَغْمِسُ يَدَيْهِ فِي الْإِنَاءِ) أَوْ يُفْرِغُهُ عَلَيْهِمَا إنْ لَمْ يَكُنْ مَفْتُوحًا (وَيَرْفَعُهُمَا غَيْرَ قَابِضٍ بِهِمَا شَيْئًا) مِنْ الْمَاءِ لِأَنَّ الْقَصْدَ الْبَلَلُ (فَيُخَلِّلُ بِهِمَا أُصُولَ شَعْرِ رَأْسَهُ) اسْتِحْبَابًا لِأَنَّ فِيهِ فَائِدَتَيْنِ: طِبِّيَّةٌ وَفِقْهِيَّةٌ، فَالطِّبِّيَّةُ انْسِدَادُ الْمَسَامِّ الَّتِي فِي الرَّأْسِ فَيَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ الزُّكَامِ وَمِنْ قُشَعْرِيرَةِ الْجَسَدِ عِنْدَ صَبِّ الْمَاءِ، وَالْفِقْهِيَّةُ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ وَإِلَى أُصُولِ الشَّعْرِ بِسُهُولَةٍ (ثُمَّ) بَعْدَ تَخْلِيلِ أُصُولِ شَعْرِ رَأْسِهِ بِيَدَيْهِ (يَغْرِفُ بِهِمَا) الْمَاءَ وَيَصُبُّهُ (عَلَى رَأْسِهِ) ثَلَاثَ مَرَّاتٍ بِ (ثَلَاثِ غَرَفَاتٍ) جَمْعُ غَرْفَةٍ بِالْفَتْحِ مِلْءُ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا حَالَةَ كَوْنِهِ (غَاسِلًا لَهُ) أَيْ دَالِكًا لِلرَّأْسِ (بِهِنَّ) قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا أُحِبُّ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ الثَّلَاثِ شَيْئًا وَلَوْ عَمَّ بِوَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَعُمُّ الرَّأْسَ بِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الثَّلَاثِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: إنَّهُ ظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَبِهِ الْفَتْوَى خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَى جَانِبٍ وَالثَّالِثَةُ فِي الْوَسَطِ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلْ بِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 حَلُّ عِقَاصِهَا ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، ثُمَّ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ وَيَتَدَلَّكُ بِيَدَيْهِ بِأَثَرِ صَبِّ الْمَاءِ حَتَّى يَعُمَّ جَسَدَهُ   [الفواكه الدواني] تَثْلِيثٌ لِأَنَّ الثَّلَاثَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الْغَسْلَةِ الْوَاحِدَةِ، وَيُخَالِفُ قَوْلَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الرَّأْسُ تَثْلِيثٌ دُونَ سَائِرِ أَعْضَاءِ الْغُسْلِ 1 - (فَائِدَةٌ) : مَنْ كَانَ يَخَافُ بِصَبِّ الْمَاءِ عَلَى رَأْسِهِ حُصُولَ النَّزْلَةِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَيَمْسَحُ عَلَيْهِ. قَالَ الْجُزُولِيُّ: وَسَمِعْتُهُ مِنْ شُيُوخٍ عِدَّةٍ حَتَّى وَقَعَ عِنْدِي مَوْقِعَ الْيَقِينِ بِحَيْثُ لَوْ احْتَجْت إلَيْهِ لَفَعَلْته، وَلَكِنْ لَا بُدَّ أَنْ يَسْتَنِدَ فِي ذَلِكَ إلَى تَجْرِبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ إخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ لَا بِمُجَرَّدِ الْخَوْفِ كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّرْخِيصِ فِي النَّقْلِ عَنْ الْأَصْلِ إلَى الْبَدَلِ، وَلَا يَنْتَقِلُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إلَى التَّيَمُّمِ لِأَنَّهَا طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ فِي الْجُمْلَةِ. (وَ) لَمَّا كَانَتْ النِّسَاءُ شَقَائِقَ الرِّجَالِ وَجَبَ أَنْ (تَفْعَلَ ذَلِكَ) الْمُتَقَدِّمَ (الْمَرْأَةُ) فَالْإِشَارَةُ لِلْبَدْءِ بِغَسْلِ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَبَعْدَهُ إزَالَةُ الْأَذَى ثُمَّ إكْمَالُ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ حَتَّى مَسْحُ الرَّأْسِ وَالْأُذُنَيْنِ وَغَسْلُ الرِّجْلَيْنِ عَلَى مَا سَبَقَ ثُمَّ صَبُّ الْمَاءِ عَلَى الرَّأْسِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ (وَ) يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تَضْغَثَ) أَيْ تَعْرُكَ وَتُحَرِّكَ (شَعْرَ رَأْسِهَا) لِيُدَاخِلَهُ الْمَاءُ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَا يَلْزَمُهَا نَقْضُ ضَفْرِهِ، وَتَقَدَّمَ فِي الْوُضُوءِ أَنَّ التَّخْلِيلَ إيصَالُ الْمَاءِ إلَى الْبَشَرَةِ بِخِلَافِ التَّحْرِيكِ وَالضَّغْثِ فَإِنَّهُ عَرْكُ الشَّعْرِ وَحَبْسُ الْمَاءِ عَلَيْهِ. (وَ) كَذَا (لَيْسَ عَلَيْهَا حَلُّ عِقَاصِهَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَخْلِيلُ شَعْرِهِ وَضَغْثُ مَضْفُورِهِ لَا نَقْضُهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ الِاكْتِفَاءِ بِالضَّغْثِ فِي الْمَضْفُورِ أَوْ الْمَعْقُوصِ حَيْثُ كَانَ مَرْخُوًّا بِحَيْثُ يُدَاخِلُهُ الْمَاءُ، وَإِلَّا وَجَبَ نَقْضُهُ وَتَخْلِيلُهُ لِيَصِلَ الْمَاءُ إلَى الْبَشَرَةِ كَغَيْرِ الْمَضْفُورِ. كَمَا يَجِبُ نَقْضُ الْمَضْفُورِ الْمُشْتَدِّ وَلَوْ بِنَفْسِهِ أَوْ بِخُيُوطٍ كَثِيرَةٍ وَلَوْ لَمْ يَشْتَدَّ لِأَنَّهَا حَائِلٌ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: أَنَّ الْمَضْفُورَ بِخَيْطٍ أَوْ خَيْطَيْنِ لَا يَجِبُ نَقْضُهُ، وَلَوْ تَحَقَّقَ عَدَمُ الْوُصُولِ إلَى مَا تَحْتَ الْخُيُوطِ وَقَاسَهُ عَلَى الْخَاتَمِ الضَّيِّقِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ تَحْرِيكُهُ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إلَى مَا تَحْتَهُ وَجَعَلَهُ كَالْجَبِيرَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَفِي هَذَا مُخَالَفَةٌ لِقَوْلِ ابْنِ نَاجِي فِي شَرْحِهِ: وَلَيْسَ عَلَيْهَا حَلُّ عِقَاصِهَا وَهَذَا إذَا كَانَ مَرْخُوًّا بِحَيْثُ يَدْخُلُ الْمَاءُ وَسَطَهُ، وَإِلَّا كَانَ غُسْلُهَا بَاطِلًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَ الْمَضْفُورِ وَالْمَعْقُوصِ يَجِبُ تَخْلِيلُهُ حَتَّى يَصِلَ الْمَاءُ إلَى الْبَشَرَةِ وَلَوْ كَثِيفًا، وَيَتَنَاوَلُ ذَلِكَ شَعْرَ الْحَاجِبِ وَاللِّحْيَةِ، وَمِثْلُهُ جَمِيعُ الْمَغَابِنِ الَّتِي فِي الْبَدَنِ كَشُقُوقِ الرِّجْلَيْنِ إلَّا مَا شَقَّ دَلْكُهُ فَيَكْفِي إيصَالُ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ حَلِّ عِقَاصِهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ إنِّي امْرَأَةٌ أَشَدُّ ضَفْرَ رَأْسِي أَفَأَنْقُضُهُ لِغُسْلِ الْجَنَابَةَ؟ فَقَالَ: لَا، أَمَّا يَكْفِيك أَنْ تَحُثِّي عَلَى رَأْسِك ثَلَاثَ حَثَيَاتٍ ثُمَّ تُفِيضِي عَلَيْهِ الْمَاءَ فَتَطْهُرِينَ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَفَأَنْقُضُهُ فِي الْحَيْضِ وَالْجَنَابَةِ؟ قَالَ: لَا» وَلَمَّا بَلَغَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - أَنَّ ابْنَ عُمَرَ يَأْمُرُ النِّسَاءَ إذَا اغْتَسَلْنَ أَنْ يَنْقُضْنَ شُعُورَهُنَّ قَالَتْ: أَفَلَا يَأْمُرُهُنَّ أَنْ يَحْلِقْنَ رُءُوسَهُنَّ؟ لَقَدْ كُنْت أَغْتَسِلُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ إنَاءٍ وَاحِدٍ وَمَا أَزِيدُ أَنْ أَغْرِفَ عَلَى رَأْسِي ثَلَاثَ غَرَفَاتٍ وَقَالَ أَبُو عِمْرَانَ الْفَاسِيُّ: أُرْخِصَ لِلْعَرُوسِ فِي السَّبْعَةِ أَيَّامٍ أَنْ تَمْسَحَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ عَلَى مَا فِي رَأْسِهَا مِنْ الطِّيبِ، وَإِنْ اسْتَعْمَلَتْهُ فِي سَائِرِ جَسَدِهَا تَيَمَّمَتْ لِأَنَّ إزَالَتَهُ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا. قَالَ الْحَطَّابُ عَقِبَ هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَأَقُولُ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ خِلَافُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُمْ لَمْ يُجَوِّزُوا فِي الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ الْمَسْحَ عَلَى الْحَائِلِ إلَّا فِي الضَّرُورَةِ، وَمَا كَانَ لِلزِّينَةِ فَلَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ الضَّرُورَةِ 1 - (تَنْبِيهٌ) : كَمَا لَا يَلْزَمُ الْمَرْأَةَ حَلُّ عِقَاصِهَا لَا يَلْزَمُهَا نَزْعُ خَاتَمِهَا وَلَا تَحْرِيكُهُ، وَكَذَا سَائِرُ أَسَاوِرِهَا وَلَوْ ذَهَبًا أَوْ زُجَاجًا وَلَوْ ضَيِّقَةً، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ نَزْعُ خَاتَمِهِ الْمَأْذُونِ فِيهِ وَلَوْ ضَيِّقًا خِلَافًا لِقَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ: وَحَرِّكْ الْخَاتَمَ فِي اغْتِسَالِكَ وَالْخَرْصُ وَالسِّوَارُ مِثْلُ ذَلِكَا فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ لِإِيهَامِهِ أَنَّ الضَّيِّقَ جِدًّا مِنْ خَاتَمٍ أَوْ سِوَارٍ يَجِبُ نَزْعُهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي عَدَمِ لُزُومِ إحَالَةِ الْخَاتَمِ وَلَوْ ضَيِّقًا بِحَيْثُ لَا يَصِلُ الْمَاءُ إلَى مَا تَحْتَهُ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ سَلِسًا فَالْمَاءُ يَصِلُ إلَى مَا تَحْتَهُ وَيَغْسِلُهُ، وَإِنْ كَانَ قَدْ عَضْنَ بِأُصْبُعِهِ صَارَ كَالْجَبِيرَةِ لِأَنَّ الشَّارِعَ أَبَاحَ لُبْسَهُ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (ثُمَّ) بَعْدَ غَسْلِ الرَّأْسِ (يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) مِنْ أَعْلَاهُ نَدْبًا فِيهِمَا (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ غَسْلِ الْأَيْمَنِ يُفِيضُهُ (عَلَى شِقِّهِ الْأَيْسَرِ) بَادِئًا لَهُ مِنْ أَعْلَاهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَمَامِ الْأَيْمَنِ قَبْلَ الْأَيْسَرِ تَبِعْنَا فِيهِ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِتَعْبِيرِهِ بِثُمَّ وَقَالَ: يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى الْأَيْمَنِ إلَى الرُّكْبَةِ ثُمَّ يُفِيضُهُ عَلَى الْأَيْسَرِ إلَى الرُّكْبَةِ ثُمَّ يُفِيضُهُ عَلَى أَسْفَلِ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ أَسْفَلِ الْأَيْسَرِ وَسَكَتَ عَنْ الظَّهْرِ وَالْبَطْنِ. قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: لِدُخُولِهِمَا فِي الشِّقَّيْنِ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ: وَيَخْتِمُ بِصَدْرِهِ وَبَطْنِهِ، (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ بَعْدَ إفَاضَةِ الْمَاءِ عَلَى جَسَدِهِ أَنْ (يَتَدَلَّكَ) مَعَ الْقُدْرَةِ (بِيَدَيْهِ) أَوْ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ سِوَاهُمَا وَلَوْ بِخِرْقَةٍ وَيَكُونُ الدَّلْكُ مُقَارِنًا لِلصَّبِّ أَوْ (بِأَثَرِ صَبِّ الْمَاءِ) عَلَى الْعُضْوِ الْمُدْلُوك وَهَكَذَا يَفْعَلُ. (حَتَّى يَعُمَّ جَسَدَهُ) بِالْمَاءِ وَالدَّلْكِ وَلَوْ تَحَقَّقَ وُصُولُ الْمَاءِ لِلْبَشَرَةِ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّ صَبَّ الْمَاءِ بِدُونِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 ، وَمَا شَكَّ أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ أَخَذَهُ مِنْ جَسَدِهِ عَاوَدَهُ بِالْمَاءِ وَدَلَكَهُ بِيَدِهِ حَتَّى يُوعِبَ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَيُتَابِعُ عُمْقَ سُرَّتِهِ وَتَحْتَ حَلْقِهِ وَيُخَلِّلُ شَعْرَ لِحْيَتِهِ وَتَحْتَ جَنَاحَيْهِ وَبَيْنَ أَلْيَتَيْهِ وَرُفْغَيْهِ وَتَحْتَ رُكْبَتَيْهِ وَأَسَافِلِ رِجْلَيْهِ وَيُخَلِّلُ أَصَابِعَ يَدَيْهِ وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ آخِرَ ذَلِكَ يَجْمَعُ ذَلِكَ فِيهِمَا لِتَمَامِ غَسْلِهِ وَلِتَمَامِ وُضُوئِهِ إنْ كَانَ أَخَرَّ غَسْلَهُمَا ، وَيَحْذَرُ أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ فِي   [الفواكه الدواني] الدَّلْكِ لَا يُسَمَّى غَسْلًا عِنْدَ مَالِكٍ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ وَإِنَّمَا يُسَمَّى انْغِمَاسًا. وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ مُقَارَنَتُهُ لِلصَّبِّ وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ حُصُولُهُ مَعَ بَقَاءِ الْمَاءِ عَلَى الْعُضْوِ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَصَلَ الْمَاءُ عَنْ الْعُضْوِ لَصَارَ مَسْحًا، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الدَّلْكِ بِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اسْتِنَابَةُ غَيْرِهِ فِيمَا يَصِحُّ لَهُ مُبَاشَرَتُهُ لَا فِي ذَلِكَ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَةً أَوْ أَمَةً، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِنَابَةِ سَقَطَ وَعَمَّمَ جَسَدَهُ بِالْمَاءِ، وَإِنْ اسْتَنَابَ غَيْرَهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهِ لَمْ يَصِحَّ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا يَصِحُّ الدَّلْكُ بِالتَّوْكِيلِ إلَّا لِذِي آفَةٍ أَوْ عَلِيلِ وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الِاسْتِنَابَةِ عَلَى الْعَاجِزِ وَلَا يَسْقُطُ إلَّا عِنْدَ التَّعَذُّرِ هُوَ مَذْهَبُ سَحْنُونٍ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ وَاسْتَظْهَرَهُ فِي تَوْضِيحِهِ وَمُقَابِلُهُ لِابْنِ حَبِيبٍ وَصَوَّبَهُ ابْنُ رُشْدٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاسْتِنَابَةُ. قَالَ الْمَوَّاقُ: قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَا عَجَزَ عَنْهُ سَاقِطٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَقَوْلُ ابْنِ حَبِيبٍ أَشْبَهُ بِيُسْرِ الدِّينِ فَيُوَالِي صَبَّ الْمَاءِ وَيُجْزِيه. وَلَمَّا كَانَتْ الطَّهَارَةُ لَا تَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ الْجَزْمِ بِالتَّعْمِيمِ لِجَمِيعِ الْجَسَدِ قَالَ: (وَمَا) أَيْ الْمَوْضِعُ الَّذِي (شَكَّ) الْمُغْتَسِلُ فِي (أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ أَخَذَهُ) أَيْ عَمَّهُ (مِنْ جَسَدِهِ) بَيَانٌ لِمَا سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا أَوْ لُمْعَةً، وَكَذَا لَوْ شَكَّ فِي مَوْضِعٍ هَلْ كُلُّهُ أَمْ لَا؟ وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ عَدَمُ الْيَقِينِ (عَاوَدَهُ بِالْمَاءِ) وُجُوبًا (وَدَلَكَهُ حَتَّى يُوعِبَ جَمِيعَ جَسَدِهِ) يَقِينًا وَلَا يَكْفِيه عَدَمُ تَيَقُّنِ وُصُولِ الْمَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكِحًا أَوْ ضَرِيرًا أَوْ فِي مَحَلٍّ مُظْلِمٍ لِقَوْلِ الْبُرْزُلِيِّ: مَنْ تَوَضَّأَ فِي ضِيَاءٍ أَوْ ظُلْمَةٍ يَكْفِيه غَلَبَةُ الظَّنِّ أَنَّ الْمَاءَ أَتَى عَلَى مَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ. وَفِي كَلَامِ الْفَاكِهَانِيِّ وَالشَّيْخِ دَاوُد أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ إيعَابِ جَمِيعِ الْجَسَدِ وَلَا يَكْفِيه غَلَبَةُ الظَّنِّ لِأَنَّ الذِّمَّةَ عَامِرَةٌ لَا تَبْرَأُ إلَّا بِيَقِينٍ مَا لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكِحًا فَيَكْفِيه غَلَبَةُ الظَّنِّ اهـ كَلَامُهُمَا. وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِهِمْ فِي الصَّلَاةِ وَفِي الْوُضُوءِ وَفِي مَوَاضِعَ مُتَعَدِّدَةٍ مِنْ وُجُوبِ بِنَاءِ الْمُسْتَنْكِحِ عَلَى الْأَكْثَرِ عِنْدَ الشَّكِّ أَيْ فِي الرَّكَعَاتِ أَوْ الْغَسَلَاتِ، وَمِنْ بِنَائِهِ عَلَى الْفِعْلِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي النِّيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَفِي مَسْحِ رَأْسِهِ هَلْ فَعَلَهُ أَمْ لَا أَنَّهُ يَكْتَفِي بِالظَّنِّ هُنَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ غَالِبًا وَحَرَّرَهُ، وَإِذَا أَخْبَرَهُ مُخْبِرٌ بِتَعْمِيمِ جَسَدِهِ فَلَا يُعَوِّلْ عَلَى خَبَرِهِ إلَّا إذَا حَصَلَ لَهُ الْيَقِينُ بِخَبَرِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْيَقِينِ الِاعْتِقَادُ الْجَازِمُ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: يُقْبَلُ إخْبَارُ الْغَيْرِ بِكَمَالِ الْوُضُوءِ وَالصَّوْمِ، اُنْظُرْ ابْنَ عَرَفَةَ فِي بِحَثِّ الشَّكِّ فِي الطَّوَافِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ وَاحِدًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِمَا إذَا كَانَ عَدْلَ رِوَايَةٍ وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: لَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَمْ لَا؟ فَأَخْبَرَتْهُ زَوْجَتُهُ وَهِيَ مَعَهُ أَوْ رَجُلٌ عَدْلٌ أَنَّهُ قَدْ صَلَّى لَمْ يَرْجِعْ إلَى قَوْلِ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِيَهُ ذَلِكَ كَثِيرًا وَمِثْلُ الشَّكِّ فِي أَصْلِ الصَّلَاةِ: وَلَوْ شَكَّ هَلْ صَلَّى أَرْبَعًا أَوْ ثَلَاثًا؟ وَيَدُلُّ لَهُ قَوْلُ خَلِيلٍ وَرَجَعَ إمَامٌ فَقَطْ لِعَدْلَيْنِ. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ هَلْ إعَادَةُ الْمَشْكُوكِ فِيهِ بِنِيَّةٍ أَمْ بِغَيْرِ نِيَّةٍ؟ وَبَيَّنَهُ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا لَمْ يَلْزَمْهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِذَلِكَ وَإِنْ بَعُدَ لَزِمَهُ تَجْدِيدُهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى بِهَذِهِ اللُّمْعَةِ أَعَادَ أَبَدًا وَسُمِّيَ غَسْلُ تِلْكَ اللَّمْعَةِ إعَادَةً إمَّا بِاعْتِبَارِ احْتِمَالِ فِعْلِهَا أَوْ لَا، أَوْ مُرَاعَاةً لِاسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ لَفْظَ الْعَوْدِ فِي الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ فِعْلُهُ نَحْوَ: عَادُوا حُمَمًا، أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا، وَالرُّسُلُ لَمْ يَعُودُوا فِي مِلَّتِهِمْ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُتَابِعَ عُمْقَ) بِالْمُهْمَلَةِ وَالْمُعْجَمَةِ (سُرَّتِهِ) أَيْ دَاخِلَهَا فَيُوصِلَ الْمَاءَ إلَيْهِ وَيَدْلُكَهُ مَعَ الْإِمْكَانِ وَإِلَّا كَفَى إيصَالُ الْمَاءِ إلَى دَاخِلِهَا. (وَ) كَذَا يُتَابِعُ (تَحْتَ حَلْقِهِ) الْمُرَادُ تَحْتَ ذَقَنِهِ. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُخَلِّلَ شَعْرَ لِحْيَتِهِ) وَلَوْ كَثِيفًا لِخَبَرِ: «خَلِّلُوا الشَّعْرَ وَأَنْقُوا الْبَشَرَةَ فَإِنَّ تَحْتَ كُلِّ شَعْرَةٍ جَنَابَةً» وَلَوْ كَانَ خَلَّلَهَا فِي الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْمَكْرُوهَ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْوَاجِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ خَفِيفَةً وَخَلَّلَهَا فِي الْوُضُوءِ فَيَكْفِيه عَنْ تَخْلِيلِهَا فِي الْغُسْلِ. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ مَا (تَحْتَ جَنَاحَيْهِ) أَيْ إبْطَيْهِ (وَ) مَا (بَيْنَ أَلْيَتَيْهِ) أَيْ مَقْعَدَتَيْهِ فَيُوصِلُ الْمَاءَ إلَيْهِ مَعَ اسْتِرْخَائِهِ حَتَّى يَتَمَكَّنَ مِنْ غَسْلِ تَكَافِيشِ الدُّبُرِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ كَانَ غُسْلُهُ بَاطِلًا. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتَابِعَ (رُفْغَيْهِ) وَهُمَا أُصُولُ فَخْذَيْهِ مِمَّا يَلِي الْجَوْفَ. (وَ) كَذَا مَا (تَحْتَ رُكْبَتَيْهِ) وَجَمِيعُ مَغَابِنِ جَسَدِهِ. (وَ) كَذَا (أَسَافِلُ رِجْلَيْهِ) كَعُرْقُوبَيْهِ وَعَقِبَيْهِ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُخَلِّلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ) فِي الْوُضُوءِ إنْ قَدَّمَهُ وَإِلَّا خَلَّلَهُمَا فِي الْغُسْلِ (وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ آخِرَ ذَلِكَ) أَيْ آخِرَ غُسْلِهِ (يَجْمَعُ ذَلِكَ) الْغُسْلُ (فِيهِمَا) أَيْ فِي الرِّجْلَيْنِ (لِتَمَامِ غُسْلِهِ وَلِتَمَامِ وُضُوئِهِ) الَّذِي قَدَّمَهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (وَإِنْ كَانَ أَخَّرَ غَسَلَهُمَا) عَلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ: وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّأْخِيرُ مُخِلًّا بِالْمُوَالَاةِ حَيْثُ كَانَ الْغُسْلُ وَاجِبًا، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ قَدَّمَ غَسْلَهُمَا عِنْدَ فِعْلِ الْوُضُوءِ لَا يَحْتَاجُ إلَى إعَادَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 تَدَلُّكِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَقَدْ أَوَعَبَ طُهْرَهُ أَعَادَ الْوُضُوءَ وَإِنْ مَسَّهُ فِي ابْتِدَاءِ غُسْلِهِ وَبَعْدَ أَنْ غَسَلَ مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مِنْهُ فَلِيَمُرَّ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَدَيْهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ عَلَى مَا يَنْبَغِي مِنْ ذَلِكَ وَيَنْوِيه.   [الفواكه الدواني] غَسْلِهِمَا حَيْثُ كَانَ خَلَّلَ أَصَابِعَهُمَا، لِأَنَّ غَسْلَ الْوُضُوءِ يُجْزِئُ عَنْ غَسْلِ مَحَلِّهِ، وَلَوْ كَانَ نَوَى بِوُضُوئِهِ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَصْغَرَ لِأَنَّ نِيَّةَ الْوُضُوءِ تُجْزَى عَنْ نِيَّةِ الْغُسْلِ فِي مَحَلِّ الْوُضُوءِ، وَأَمَّا مَسْحُ الْوُضُوءِ عَنْ مَسْحِ مَحَلِّهِ فَأَفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِالْإِجْزَاءِ وَصُورَتُهُ: أَنَّ مَنْ بِهِ نَزْلَةٌ فِي رَأْسِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى غَسْلِهِ فِي الْغُسْلِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُهُ، فَلَوْ مَسَحَهُ فِي الْوُضُوءِ وَوَجَبَ عَلَيْهِ الْغُسْلُ وَتَوَضَّأَ وَمَسَحَ فَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يُجْزِئُهُ مَسْحُ الْوُضُوءِ عَنْ مَسْحِ الْغُسْلِ، وَقَالَ أَشْيَاخُهُ: لَا يُجْزِئُهُ. (فَائِدَةٌ) : خَرَّجَ أَبُو دَاوُد: «فُرِضَتْ الصَّلَاةُ خَمْسِينَ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، وَغَسْلُ الثَّوْبِ مِنْ الْبَوْلِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ رَبَّهُ التَّخْفِيفَ حَتَّى جَعَلَ الصَّلَاةَ خَمْسًا، وَغُسْلَ الْجَنَابَةِ مَرَّةً، وَغَسْلَ الثَّوْبِ مَرَّةً» . (وَيُحَذَّرُ) الْمُغْتَسِلُ الَّذِي تَوَضَّأَ أَوَّلًا وَصَبَّ الْمَاءَ عَلَى بَقِيَّةِ جَسَدِهِ وَشَرَعَ يَتَدَلَّك (أَنْ يَمَسَّ ذَكَرَهُ فِي) حَالِ (تَدَلُّكِهِ بِبَاطِنِ كَفِّهِ) أَوْ بِبَاطِنِ الْأَصَابِعِ أَوْ بِجَنْبِ الْكَفِّ أَوْ جَنْبِ الْأَصَابِعِ أَوْ رُءُوسِهَا. (فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ) الْمَسَّ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ أَوْعَبَ) أَيْ أَكْمَلَ (طُهْرَهُ أَعَادَ الْوُضُوءَ) لِبُطْلَانِهِ بِالْمَسِّ إذَا أَرَادَ صَلَاةً أَوْ نَحْوَهَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهَارَةٍ، وَحُكْمُ الْإِقْدَامِ عَلَى نَقْضِ الْوُضُوءِ الْمَنْعُ أَوْ الْكَرَاهَةُ لِمَنْ لَا يَجِدُ مَا يَتَوَضَّأُ بِهِ، وَعَدَمُ الْكَرَاهَةِ إنْ كَانَ وَاجِدًا لِلْمَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ مَعَ عَدَمِ مَاءٍ تَقْبِيلُ مُتَوَضِّئٍ وَجِمَاعُ مُغْتَسِلٍ إلَّا لِطُولٍ، وَاحْتُرِزَ بِمَسِّ الذَّكَرِ عَنْ مَسِّ الْأُنْثَى فَرْجَهَا أَوْ الذَّكَرِ الدُّبُرَ أَوْ الْأُنْثَيَيْنِ فِي أَثْنَاءِ الْغُسْلِ فَلَا يُعَادُ الْوُضُوءُ. (وَ) مَفْهُومُ أَوْعَبَ طُهْرَهُ أَنَّهُ (إنْ مَسَّهُ فِي ابْتِدَاءِ غُسْلِهِ وَ) لَكِنْ (بَعْدَ أَنْ غَسَلَ مَوَاضِعَ الْوُضُوءِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمُغْتَسِلِ وَقِيلَ تَمَامِ الْغُسْلِ أَوْ حَصَلَ الْمَسُّ فِي أَثْنَاءِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ (فَلِيَمُرَّ بَعْدَ ذَلِكَ) أَيْ بَعْدَ الْمَسِّ أَوْ الْغُسْلِ (بِيَدَيْهِ عَلَى مَوَاضِعِ الْوُضُوءِ بِالْمَاءِ) الَّذِي يُجَدِّدُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ بِبَلَلِ جَسَدِهِ لَمْ يُجْزِئْ وَيَكُونُ ذَلِكَ الْإِمْرَارُ (عَلَى مَا يَنْبَغِي) أَيْ يُجْزِئُ (فِي ذَلِكَ) الْإِمْرَارُ بِأَنْ يَعُمَّ الْعُضْوَ وَيَدْلُكَهُ وَيَتَتَبَّعَ مَا فِيهِ مِنْ الْمَغَابِنِ وَيَدْلُكَهُ بِنَفْسِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا خَصَّ مَسَّ الذَّكَرِ لِأَنَّهُ الْغَالِبُ هُنَا فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ النَّوَاقِضِ كَذَلِكَ (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَنْوِيَهُ) أَيْ الْوُضُوءَ فَإِنْ نَوَى رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ لَمْ يُجْزِئْ بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا نَوَى الْمُتَوَضِّئُ غَيْرَ الْجُنُبِ رَفْعَ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ وُجُوبِ النِّيَّةِ خِلَافُهُ مَا قَالَهُ الْقَابِسِيُّ مِنْ عَدَمِ الِاحْتِيَاجِ لِلنِّيَّةِ وَيُوَافِقُهُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَمَّا إعَادَةُ مَا فَعَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بَعْدَ الْمَسِّ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. قَالَ عَبْدَ الْحَقِّ: إذَا مَسَّ الْمُغْتَسِلُ ذَكَرَهُ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٌ: أَحَدُهَا أَنْ يَمَسَّهُ قَبْلَ أَنْ يَغْسِلَ مِنْ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ شَيْئًا، فَهَذَا إذَا غَسَلَ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ بِنِيَّةِ الْغُسْلِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَقَدْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ. ثَانِيهَا: أَنْ يَمَسَّهُ بَعْدَ غَسْلِ جَمِيعِ جَسَدِهِ وَكَمَالِ طَهَارَتِهِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْوُضُوءُ بِنِيَّةِ الْوُضُوءِ وَلَا يَحْسُنُ الْخِلَافُ فِيهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَمَسَّهُ بَعْدَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَقَبْلَ كَمَالِ طَهَارَتِهِ أَوْ بَعْدَ غَسْلِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: لَا بُدَّ أَنْ يَمُرَّ بِيَدَيْهِ عَلَى أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ وَنِيَّةٍ، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: يَمُرُّ بِيَدَيْهِ عَلَى مَا فَعَلَهُ مِنْهَا وَلَا يَحْتَاجُ لِنِيَّةٍ. وَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ: إنْ مَسَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ لَزِمَتْهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا لِوُجُوبِ إعَادَتِهِ، وَإِنْ مَسَّهُ قَبْلَ فِعْلِ شَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِ الْوُضُوءِ لَا يَلْزَمُهُ نِيَّةُ الْوُضُوءِ اتِّفَاقًا لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ حَتَّى يُنْقَضَ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ إذَا مَسَّهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ بَعْدَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ وَقَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ فَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ: يَنْوِي الْوُضُوءَ، وَقَالَ الْقَابِسِيُّ: لَا يَنْوِي، فَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ اُتُّفِقَ عَلَى اثْنَيْنِ وَاخْتُلِفَ فِي اثْنَيْنِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ هَلْ الْحَدَثُ يُرْفَعُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ بِانْفِرَادِهِ وَعَلَيْهِ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فَيَلْزَمُهُ تَجْدِيدُ النِّيَّةِ لِذَهَابِ الطَّهَارَةِ عَنْ الْأَعْضَاءِ، أَوْ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِتَمَامِ الطَّهَارَةِ وَهُوَ مَلْحَظُ الْقَابِسِيِّ لِبَقَاءِ النِّيَّةِ ضِمْنًا فِي نِيَّةِ الطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَلَا يُقَالُ: إذَا كَانَ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِتَمَامِ الطَّهَارَةِ فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَةِ مَا فَعَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الْمَسِّ مَعَ أَنَّهُ يَجِبُ إعَادَةُ غَسْلِهِ بِاتِّفَاقِ الشَّيْخَيْنِ، لِأَنَّا نَقُولُ: مُرَادُ الْقَابِسِيِّ لَا يَتَحَقَّقُ رَفْعُهُ إلَّا بِتَمَامِ الطَّهَارَةِ، وَإِلَّا فَالرَّفْعُ حَصَلَ بِدَلِيلِ وُجُوبِ إعَادَةِ غَسْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: إذَا حَصَلَ رَفْعُهُ عَنْ كُلِّ عُضْوٍ يَجُوزُ أَنْ يَمَسَّ بِهِ الْمُصْحَفَ، لِأَنَّا نَقُولُ: جَوَازُ مَسِّهِ يَرْفَعُهُ عَنْ الْمَاسِّ لَا عَنْ الْعُضْوِ فَافْهَمْ. (خَاتِمَةٌ) : بَقِيَ شَيْءٌ يَجِبُ التَّنَبُّهُ لَهُ وَهُوَ إذَا حَصَلَ الْمَسُّ بَعْدَ إكْمَالِ الْغُسْلِ يَتَوَضَّأُ وَيُثَلِّثُ الْغُسْلَ كَوُضُوءِ غَيْرِ الْجُنُبِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ سَوَاءٌ كَانَ قَبْلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَتَوَضَّأُ مَرَّةً مَرَّةً لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ قَبْلَ تَمَامِ الْغُسْلِ اهـ أُجْهُورِيٌّ بِالْمَعْنَى. وَلَمَّا قَدَّمَ الطَّهَارَةَ الْأَصْلِيَّةَ بِقِسْمَيْهَا صُغْرَى وَكُبْرَى شَرَعَ يَتَقَدَّمُ عَنْ الْبَدَلِيَّةِ فَقَالَ:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 بَابٌ فِي مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ وَصِفَةِ التَّيَمُّمِ التَّيَمُّمُ يَجِبُ لِعَدَمِ الْمَاءِ فِي السَّفَرِ إذَا يَئِسَ أَنْ يَجِدَهُ فِي الْوَقْتِ وَقَدْ يَجِبُ مَعَ وُجُودِهِ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسِّهِ فِي   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي مِنْ لَمْ يَجِد الْمَاء وصفة التَّيَمُّم] (بَابٌ فِي أَحْكَامِ مَنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ) الْمُطْلَقَ لِطَهَارَتِهِ أَوْ وَجَدَهُ وَعَجَزَ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ (وَ) فِي (صِفَةِ التَّيَمُّمِ) . وَهُوَ لُغَةً الْقَصْدُ، وَشَرْعًا طَهَارَةٌ تُرَابِيَّةٌ تَشْمَلُ عَلَى مَسْحِ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ بِنِيَّةٍ تُسْتَعْمَلُ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، وَالتُّرَابِيَّةُ نِسْبَةٌ إلَى التُّرَابِ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا سَائِرُ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ وَلَوْ الْحَجَرَ الْأَمْلَسَ لِصِحَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَيْهِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ التُّرَابِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ إدْرَاكُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فُضِّلْنَا عَلَى النَّاسِ بِثَلَاثٍ: جُعِلَتْ صُفُوفُنَا كَصُفُوفِ الْمَلَائِكَةِ، وَجُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ كُلُّهَا مَسْجِدًا، وَجُعِلَتْ تُرْبَتُهَا طَهُورًا إذَا لَمْ نَجِدْ الْمَاءَ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: الْإِجْمَاعُ عَلَى أَنَّ التَّيَمُّمَ وَاجِبٌ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ أَوْ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ، فَمَنْ جَحَدَهُ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ رُخْصَةٌ لَا عَزِيمَةٌ، وَلَا يُقَالُ: الرُّخْصَةُ يَكُونُ الشَّخْصُ فِيهَا مُتَمَكِّنًا مِنْ فِعْلِ الْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ وَلَا كَذَلِكَ هُنَا فَإِنَّهُ قَدْ لَا يَتَمَكَّنُ كَمَنْ فَقَدَ الْمَاءَ، لِأَنَّا نَقُولُ: الرُّخْصَةُ قَدْ تَنْتَهِي إلَى الْوُجُوبِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ وَنَحْوِ ذَلِكَ، هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَنَازَعَ فِي ذَلِكَ ابْنُ جَمَاعَةَ قَائِلًا: إنَّ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَنْتَهِي لِلْوُجُوبِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لِأَنَّهَا إذَا انْتَهَتْ إلَى الْوُجُوبِ صَارَتْ عَزِيمَةً وَزَالَ عَنْهَا اسْمُ الرُّخْصَةِ، فَالْحَقُّ أَنَّهُ عَزِيمَةٌ فِي حَقِّ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ يَجِدُ الْمَاءَ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لِحُصُولِ مَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ تُسَوِّغُ لَهُ التَّيَمُّمَ فَإِنَّهُ رُخْصَةٌ فِي حَقِّهِ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ فِعْلِ الْأَصْلِ فِي الْجُمْلَةِ، وَبِهَذَا عُلِمَ الْفَرْقُ بَيْنَ الرُّخْصَةِ وَالْعَزِيمَةِ وَهُوَ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّ الْأُمَمَ السَّابِقَةَ لَا تُصَلِّي إلَّا بِالْوُضُوءِ، كَمَا أَنَّهَا كَانَتْ لَا تُصَلِّي إلَّا فِي أَمَاكِنَ مَخْصُوصَةٍ يُعَيِّنُونَهَا لِلصَّلَاةِ وَيُسَمُّونَهَا بِيَعًا وَكَنَائِسَ وَصَوَامِعَ، وَمَنْ عَدِمَ مِنْهُمْ الْمَاءَ أَوْ غَابَ عَنْ مَحَلِّ صَلَاتِهِ يَدَعْ الصَّلَاةَ حَتَّى يَجِدَ الْمَاءَ أَوْ يَعُودُ إلَى مُصَلَّاهُ، وَكَالصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ عَلَى الْهَيْئَةِ الْمَعْرُوفَةِ، وَقَسْمِ الْغَنَائِمِ، وَالْوَصِيَّةِ بِالثُّلُثِ، وَالسِّوَاكِ، وَالسَّحُورِ، وَتَعْجِيلِ الْفِطْرِ، وَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَالْوَطْءِ لَيْلًا وَلَوْ بَعْدَ النَّوْمِ، وَسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَالْغُسْلِ مِنْ الْجَنَابَةِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَفْعَلُ بَعْضُ الْمَذْكُورَاتِ الْأَنْبِيَاءُ لِأُمَمِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَهُ فَرَائِضُ وَسُنَنٌ وَفَضَائِلُ، وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - تَعَالَى إنَّمَا يَهْتَمُّ بِبَيَانِ الصِّفَةِ دُونَ مُتَعَلِّقَاتِهَا، وَنَحْنُ نَذْكُرُ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ فَنَقُولُ: فَأَمَّا فَرَائِضُهُ فَسِتَّةٌ: النِّيَّةُ وَتَكُونُ عِنْدَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنْ تَقَدَّمَتْ وَلَوْ يَسِيرًا أَوْ تَأَخَّرَتْ عَنْ الشُّرُوعِ فِيهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ، وَالصَّعِيدُ الطَّاهِرُ، وَالضَّرْبَةُ الْأُولَى، وَمَسْحُ الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَالْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَجْزَائِهِ وَمَا فَعَلَ لَهُ، وَتَخْلِيلُ الْأَصَابِعِ، وَنَزْعُ الْخَاتَمِ وَلَوْ وَاسِعًا مَأْذُونًا فِيهِ وَسِوَارُ امْرَأَةٍ. وَسُنَنُهُ أَرْبَعٌ: التَّرْتِيبُ، وَالضَّرْبَةُ الثَّانِيَةُ، وَمَسْحُ الْيَدَيْنِ لِلْمِرْفَقَيْنِ، وَنَقْلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْيَدَيْنِ مِنْ الْغُبَارِ إلَى الْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ وَالْمُرَادُ عَدَمُ مَسْحِهِمَا فَلَوْ مَسَحَهُمَا وَلَوْ قَوِيًّا وَتَيَمَّمَ صَحَّ تَيَمُّمُهُ مَعَ فَوَاتِ السُّنَّةِ. وَفَضَائِلُهُ: التَّسْمِيَةُ وَالسِّوَاكُ وَالصَّمْتُ إلَّا عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَالتَّيَمُّمُ عَلَى تُرَابٍ غَيْرِ مَنْقُولٍ وَالْبَدْءُ بِظَاهِرِ يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ إلَى آخِرِ مَا يَأْتِي، وَالْمُصَنِّفُ اعْتَنَى بِبَيَانِ سَبَبِهِ وَهُوَ فَقْدُ الْمَاءِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، وَبَيَانِ صِفَتِهِ، وَبَيَانِ حُكْمِهِ، وَابْتَدَأَ بِبَيَانِ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: (التَّيَمُّمُ يَجِبُ) وُجُوبَ الْفَرَائِضِ (لِعَدَمِ الْمَاءِ) الْكَافِي لِمَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ وَهُوَ جَمِيعُ الْجَسَدِ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّهَارَةِ الْكُبْرَى، وَالْأَعْضَاءُ الْأَرْبَعَةُ بِالنِّسْبَةِ لِلصُّغْرَى، وَلَا يُلْتَفَتُ إلَى غَسْلِ مَا لَا يَجِبُ غَسْلُهُ (فِي) حَالِ (السَّفَرِ) وَلَوْ غَيْرَ مُبَاحٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ عَلَى مَا رَجَّحَهُ سَنَدٌ وَالْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ مَرْزُوقٍ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ إذَا كَانَتْ تُفْعَلُ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إبَاحَةُ السَّفَرِ، بِخِلَافِ فِطْرِ الصَّائِمِ فِي رَمَضَانَ الْحَاضِرِ فَلَا يُبَاحُ لَهُ فِي السَّفَرِ إلَّا إذَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ لِمَرَضٍ مَانِعٍ أَوْ مَرِيضٍ يَقْدِرُ عَلَى مَسِّهِ وَلَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ، وَكَذَلِكَ مُسَافِرٌ يَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ وَيَمْنَعُهُ مِنْهُ خَوْفُ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ وَإِذَا أَيْقَنَ الْمُسَافِرُ بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ أَخَّرَ إلَى آخِرِهِ، وَإِنْ يَئِسَ مِنْهُ تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِهِ، وَإِنْ   [الفواكه الدواني] مُبَاحًا، وَأَرْبَعَةَ بُرُدٍ كَقَصْرِ الرُّبَاعِيَّةِ، وَلَعَلَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ يُوَافِقُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ الْأَشْيَاخِ وَهُوَ خِلَافُ كَلَامِ خَلِيلٍ فَإِنَّهُ شَرَطَ فِي جَوَازِ تَيَمُّمُهُ إبَاحَةَ السَّفَرِ حَيْثُ قَالَ: يَتَيَمَّمُ ذُو مَرَضٍ وَسَفَرٍ أُبِيحَ، وَشَرْطُ تَيَمُّمَهُ فِي السَّفَرِ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ بِقَيْدِ الْإِبَاحَةِ. (إذَا يَئِسَ) مِنْ (أَنْ يَجِدَهُ) أَيْ الْمَاءَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ وُجُودِهِ (فِي الْوَقْتِ) الَّذِي هُوَ فِيهِ اخْتِيَارِيًّا أَوْ ضَرُورِيًّا، وَمَفْهُومُ السَّفَرِ مُعَطَّلٌ إذْ الْحَاضِرُ كَذَلِكَ إذَا عَدِمَ الْمَاءَ تَحْقِيقًا أَوْ طَلَبَهُ بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ مِمَّنْ يَجْهَلُ بُخْلَهُمْ بِهِ فَلَمْ يَجِدْهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا بِهِ كَلَامَهُ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْيَأْسِ تَحَقُّقَ عَدَمِ الْمَاءِ بِلَا خَوْفِ خُرُوجِ الْوَقْتِ قَبْلَ وُجُودِ الْمَاءِ فَيَصْدُقُ بِالْآيِسِ وَالرَّاجِي وَالْمُتَرَدِّدِ فِي اللُّحُوقِ أَوْ الْوُجُودِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يَجُوزُ لَهُمْ التَّيَمُّمُ، وَلَكِنْ سَيَأْتِي أَنَّ وَقْتَ تَيَمُّمِهِمْ مُخْتَلِفٌ، فَالْآيِسُ أَوْ الْمُخْتَارُ وَالْمُتَرَدِّدُ وَسَطَهُ وَالرَّاجِي آخِرَهُ. الثَّانِي: تَعْبِيرُهُ بِالْوَقْتِ يَقْتَضِي أَنَّ التَّيَمُّمَ لِعَدَمِ الْمَاءِ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَهُ وَقْتٌ كَالْفَجْرِ، وَأَمَّا مَا لَا وَقْتَ لَهُ فَلَا يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ لَهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَذْهَبُ أَنَّ الْمُسَافِرَ كَالْمَرِيضِ يَصِحُّ لَهُمَا أَنْ يَتَيَمَّمَا لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَوْ نَفْلًا مُطْلَقًا، بِخِلَافِ الْحَاضِرِ الصَّحِيحِ فَإِنَّهُ لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا لِفَرْضٍ غَيْرِ الْجُمُعَةِ وَلِلْجِنَازَةِ الْمُتَعَيَّنَةِ، وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَلَا يَتَيَمَّمُ لَهَا اسْتِقْلَالًا وَإِنَّمَا يَفْعَلُهَا بِتَيَمُّمِ الْفَرْضِ تَبَعًا لِفِعْلِ الْفَرْضِ لَكِنْ بِشَرْطِ اتِّصَالِهَا بِفِعْلِ الْفَرْضِ وَلَا تَكْثُرُ جِدًّا سَوَاءٌ نَوَى فِعْلَهَا عِنْدَ تَيَمُّمُهُ لِلْفَرْضِ أَمْ لَا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَأَمَّا لَوْ قَدَّمَهَا عَلَى فِعْلِ الْفَرْضِ الَّذِي لَا يَتَيَمَّمُ لَهُ لَصَحَّتْ فِي نَفْسِهَا وَلَا يَصِحُّ لَهَا فِعْلُ الْفَرْضِ بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ، وَإِذَا كَانَ الْحَاضِرُ الصَّحِيحُ يُجَوِّزُ لَهُ ذَلِكَ فَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ أَوْلَى، إذْ لَا اخْتِلَافَ إلَّا فِي التَّيَمُّمِ ابْتِدَاءً لِغَيْرِ الْفَرْضِ فَيَجُوزُ لِلْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ وَلَا يَجُوزُ لِلْحَاضِرِ الصَّحِيحِ. قَالَ خَلِيلٌ: يَتَيَمَّمُ ذُو مَرَضٍ وَسَفَرٍ أُبِيحَ لِفَرْضٍ وَنَفْلٍ وَحَاضِرٍ صَحَّ لِجِنَازَةٍ إنْ تَعَيَّنَتْ، وَفَرْضٍ غَيْرِ جُمُعَةٍ إنْ عَدِمُوا مَاءً كَافِيًا أَوْ إنْ خَافُوا بِاسْتِعْمَالِهِ مَرَضًا أَوْ زِيَادَتَهُ، أَوْ تَأَخُّرَ بُرْءٍ أَوْ عَطَشٍ مُحْتَرَمٍ مَعَهُ أَوْ بِطَلَبِهِ تَلَفُ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ،. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ عَدَمَ الْمَاءِ يُوجِبُ التَّيَمُّمَ وَكَانَ عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ قَالَ: (وَقَدْ يَجِبُ) أَيْ التَّيَمُّمُ (مَعَ وُجُودِهِ) أَيْ الْمَاءِ الْكَافِي لِمَا يَجِبُ تَطَهُّرُهُ وَذَلِكَ فِيمَا (إذَا لَمْ يَقْدِرْ) مُرِيدُ الصَّلَاةِ (عَلَى مَسَّهُ) سَوَاءٌ كَانَ (فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ لِمَرَضٍ مَانِعٍ) لَهُ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ، كَخَوْفِهِ فَوَاتَ رُوحِهِ أَوْ زِيَادَةَ مَرَضِهِ أَوْ تَأَخُّرَ بُرْئِهِ، وَمِنْهُ الَّذِي يَعْرَقُ وَيَخْشَى مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ نُكْسًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وُجُوبُ تَيَمُّمِ الْمَرِيضِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَلَوْ كَانَ تَسَبَّبَ فِي الْمَرَضِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ قَدْ يَجِبُ التَّيَمُّمُ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ عَلَى صَحِيحٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّهِ لِتُوقَفْ مَرَضٍ بِاسْتِعْمَالِهِ بِتَجْرِبَةٍ أَوْ بِإِخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ (أَوْ) عَلَى (مَرِيضٍ يَقْدِرُ عَلَى مَسِّهِ) أَيْ الْمَاءِ دُونَ خِشْيَةِ مَرَضٍ أَوْ زِيَادَتِهِ (وَ) لَكِنْ (لَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ) وَلَوْ بِأُجْرَةٍ أَوْ لَا يَجِدُ آلَةً أَوْ وَجَدَ آلَةً مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى أُجْرَةِ الْمُنَاوِلِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّيَمُّمُ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ الْمُتَلَبِّسَ بِالْمَرَضِ الصَّحِيحُ إذَا كَانَ يَخْشَى حُدُوثَ مَرَضٍ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ كَحُمَّى أَوْ نَزْلَةٍ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، لَكِنْ لَا يَتَيَمَّمُ وَاحِدٌ مِنْ الْمَرِيضِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ بِمُجَرَّدِ خَوْفِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِنَادِهِ إلَى تَجْرِبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ إخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ وَلَوْ كَافِرًا مَعَ عَدَمِ الْمُسْلِمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْكَافِرُ أَعْرَفَ وَمِثْلُهُ إخْبَارُ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمِزَاجِ، وَلَا يَكْفِي فِي جَوَازِ التَّيَمُّمِ مُجَرَّدُ التَّأَلُّمِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ خَشْيَةَ مَرَضٍ أَوْ عِلَّةٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ هُنَا، فَالْآيِسُ أَوْ الْمُخْتَارُ وَالْمُتَرَدِّدُ وَسَطَهُ وَالرَّاجِي آخِرَهُ، وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ مَرِيضٌ مَعْطُوفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ لِعَدَمِ صِحَّةِ عَطْفِهِ عَلَى مَرَضٍ، لِأَنَّ الِاسْمَ الْمُشْبِهَ لِلْفِعْلِ لَا يُعْطَفُ إلَّا عَلَى فِعْلٍ وَعَكْسُهُ، وَأَيْضًا عَدَمُ الْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ إنَّمَا يُعَلَّلُ بِالْمَرَضِ أَوْ نَحْوِهِ لَا بِالْمَرِيضِ فَكَيْفَ يَصِحُّ عَطْفُهُ عَلَيْهِ. (وَكَذَلِكَ) يَجِبُ التَّيَمُّمُ عَلَى (مُسَافِرٍ يَقْرُبُ مِنْهُ الْمَاءُ) وَيَقْدِرُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ (وَ) لَكِنْ (يَمْنَعُهُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْوُصُولِ إلَيْهِ (خَوْفُ لُصُوصٍ) جَمْعُ لِصٍّ وَهُوَ السَّارِقُ (أَوْ سِبَاعٌ) حَيْثُ تَيَقَّنَ ذَلِكَ أَوْ ظَنَّ، وَأَمَّا لَوْ شَكَّ فِي وُجُودِ اللِّصِّ أَوْ السُّبْعِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ، وَمِمَّا يَجُوزُ لِأَجْلِهِ التَّيَمُّمُ خَوْفُ فَوَاتِ الرُّفْقَةِ إذَا طَلَبَ الْمَاءَ، وَأَحْرَى لَوْ خَافَ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ الْعَطَشَ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ وَلَوْ دَابَّةً وَكَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْقَوَافِلِ الَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ مَعَهُمْ مَنْ يَحْتَاجُ لِلْمَاءِ لِعَطَشِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى شِرَائِهِ وَلَا الْوُصُولِ إلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَيَسْقِيَ الْمَاءَ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ بِبَذْلِهِ تَوَضَّأَ بِهِ مَعَ عِصْيَانِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: عَلَّقُوا الْحُكْمَ بِالْخَوْفِ مِنْ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ وَلَيْسَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ خَوْفِ أَكْلِ السُّبْعِ لَهُ أَوْ أَخْذِ اللِّصِّ مَالَهُ مَثَلًا، وَأَمَّا لَوْ تَجَرَّدَ الْخَوْفُ عَنْ ذَلِكَ فَلَا اعْتِبَارَ بِهِ، وَمِثْلُ مَالِهِ مَالُ غَيْرِهِ حَيْثُ كَانَ مَعْصُومًا وَلَهُ مَالٌ وَهُوَ مَا يَتَضَرَّرُ بِضَيَاعِهِ وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ النَّاسِ 1 - الثَّانِي: مِمَّنْ يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ الْقَادِرُ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْهُ عِلْمٌ تَيَمَّمَ فِي وَسَطِهِ وَكَذَلِكَ إنْ خَافَ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ وَرَجَا أَنْ يُدْرِكَهُ فِيهِ وَمَنْ تَيَمَّمَ   [الفواكه الدواني] اسْتِعْمَالِهِ وَهُوَ حَاضِرٌ صَحِيحٌ لَكِنْ يَخْشَى خُرُوجَ الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ فِيهِ بِاسْتِعْمَالِهِ فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ الْخِلَافِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَهُوَ إنْ خَافَ فَوَاتَهُ بِاسْتِعْمَالِهِ خِلَافٌ وَلَوْ كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ، فَمَنْ لَمْ يَتَنَبَّهْ إلَّا قُرْبَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَعْتَقِدُ إدْرَاكَ الْوَقْتِ إنْ تَيَمَّمَ لَا إنْ اسْتَعْمَلَ الْمَاءَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَيَمَّمَ وَلَا تَلْزَمُهُ إعَادَةٌ وَلَا يَقْطَعُ إنْ تَبَيَّنَ لَهُ فِي أَثْنَائِهِ بَقَاءُ الْوَقْتِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُعِيدُهَا إنْ تَبَيَّنَ لَهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، بِخِلَافِ لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ لِبُطْلَانِ تَيَمُّمِهِ حَيْثُ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا. 1 - الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا فِي عَدِّ فَرَائِضِ التَّيَمُّمِ، وَمِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ الَّتِي يُرِيدُ فِعْلَهَا إنْ كَانَتْ حَاضِرَةً أَوْ ذَكَرَهَا إنْ كَانَتْ فَائِتَةً، وَإِذْ تَحَقَّقَ دُخُولَهُ صَحَّ لَكِنْ يَخْتَلِفُ الشُّرُوعُ فِيهِ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّ الْعَادِمَ لِلْمَاءِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا مُوقِنٌ بِوُجُودِ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ، أَوْ عِنْدَهُ يَأْسٌ مِنْ وُجُودِهِ آخِرَ الْوَقْتِ، أَوْ لَا دِرَايَةَ لَهُ أَوْ مُتَرَدِّدٌ أَوْ مُتَرَجٍّ لَهُ، فَالْأَوَّلُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ، وَالثَّانِي يُقَدِّمُهَا، وَالثَّالِثُ يُتَوَسَّطُ بِفِعْلِهَا. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا أَيْقَنَ) أَوْ ظَنَّ (الْمُسَافِرُ) وَكَذَلِكَ الْحَاضِرُ فَالْمَفْهُومُ مُعَطَّلٌ (بِوُجُودِ الْمَاءِ) الْكَافِي لِمَا يَجِبُ تَطْهِيرُهُ (فِي) أَثْنَاءِ (الْوَقْتِ) وَأَمَّا الْآنَ فَهُوَ عَادِمٌ لِلْمَاءِ (أَخَّرَ) التَّيَمُّمَ اسْتِحْبَابًا (إلَى آخِرِهِ) بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْهُ قَدْرُ فِعْلِهِ وَمَا يَسَعُ الصَّلَاةَ، وَالْمُرَادُ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ كَمَا سَنُبَيِّنُهُ، وَقَوْلُنَا اسْتِحْبَابًا عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَخَالَفَهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَقَالَ: التَّأْخِيرُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ أَنَّهُ حِينَ حَلَّتْ الصَّلَاةُ وَوَجَبَ الْقِيَامُ لَهَا غَيْرَ وَاجِدٍ لِلْمَاءِ فَدَخَلَ فِي قَوْله تَعَالَى {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] . وَإِنَّمَا أَمَرَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لِأَنَّهُ غَيْرُ تَامِّ الْعَدَمِ لِوُصُولِهِ الْمَاءَ وَالْوَقْتُ قَائِمٌ، وَوَجْهُ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: التَّيَمُّمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ إنَّمَا هُوَ لِحَوْزِ فَضِيلَتِهِ، وَإِذَا كَانَ مُوقِنًا بِوُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّأْخِيرُ إلَيْهِ لِيُصَلِّيَ بِالطَّهَارَةِ الْكَامِلَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَتَيَمَّمَ وَصَلَّى كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةً وَيُعِيدُهَا أَبَدًا، فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْمُسَافِرِ وَلَا لَأَيْقَنَ فِي كَلَامِهِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِأَيْقَنَ تَبَعًا لِلْمُدَوَّنَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ الظَّانَّ كَذَلِكَ، فَالْمُرَادُ بِأَيْقَنَ فِي كَلَامِهِ مَنْ لَمْ يَيْأَسْ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي آخِرِ الْوَقْتِ، وَمَنْ لَمْ يَتَرَدَّدْ فِي لُحُوقِهِ أَوْ وُجُودِهِ فَيَتَنَاوَلُ الرَّاجِيَ، خِلَافًا لِمَا يَقْتَضِيه كَلَامُهُ الْآتِي مِنْ أَنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَسَطَ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمَشْهُورِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالرَّاجِي آخِرَهُ فَإِنَّهُ قَالَ فَالْآيِسُ أَوْ الْمُخْتَارُ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي لُحُوقِهِ أَوْ وُجُودِهِ وَسَطَهُ وَالرَّاجِي آخِرَهُ. وَمِمَّنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّأْخِيرُ إلَى آخَرِ الْوَقْتِ الْفَاقِدُ لِلْقُدْرَةِ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ فِي أَوَّلِهِ وَيَرْجُو الْقُدْرَةَ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ آخِرَهُ، فَإِنْ تَيَمَّمَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا أَوَّلَهُ وَصَلَّى صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ إنْ كَانَ تَيَمَّمَ بَعْدَ طَلَبِ الْمَاءِ الَّذِي كَانَ يُطْمَحُ فِي وُجُودِهِ آخِرَ الْوَقْتِ. أَمَّا لَوْ تَيَمَّمَ أَوَّلَ الْوَقْتِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ فِي أَثْنَاءِ الْوَقْتِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا إنْ وَجَدَهُ فِي مَحَلٍّ كَانَ يَظُنُّ وُجُودَهُ فِيهِ إنْ طَلَبه وَلَوْ مِنْ رُفْقَةٍ كَثِيرَةٍ يَظُنُّ إعْطَاءَهُمْ لَهُ، وَأَمَّا إنْ وَجَدَهُ فِي مَحَلٍّ كَانَ يَشُكُّ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ فِيهِ إنْ طَلَبَهُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا إنْ تَرَكَ الطَّلَبَ مَعَ تَوَهُّمِ الْوُجُودِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا فِي الْوَقْتِ، وَبِقَوْلِنَا: الَّذِي كَانَ يَطْمَعُ فِي وُجُودِهِ يَعْلَمُ أَنَّهُ مُتَحَقِّقٌ عَدَمَ الْمَاءِ لَا يَلْزَمُهُ طَلَبُهُ كَمَا لَا يَلْزَمُ مُتَحَقِّقَ وُجُودِهِ تَحْصِيلُهُ إذَا كَانَ عَلَى نَحْوِ مِيلَيْنِ فَأَكْثَرَ وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ عَلَيْهِ كَأَنْ يَكُونَ عَلَى أَقَلَّ وَيَشُقُّ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الْأَقْسَامِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ يَئِسَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ وُجُودِ الْمَاءِ فِي الْوَقْتِ (تَيَمَّمَ فِي أَوَّلِهِ) اسْتِحْبَابًا لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ أَوَّلِ الْوَقْتِ، وَمِثْلُهُ الْآيِسُ مِنْ لُحُوقِهِ أَوْ مِنْ زَوَالِ مَانِعِ اسْتِعْمَالِهِ وَلَوْ بِغَلَبَةِ الظَّنِّ، وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَفْهُومُ الْأَوَّلَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مِنْ عِلْمٍ) أَيْ يَقِينٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ وَلَا يَأْسٍ بَلْ هُوَ جَاهِلٌ مُتَرَدِّدٌ فِي وُجُودِهِ وَيُلْحَقُ بِهِ الْعَالِمُ بِوُجُودِهِ الْمُتَرَدِّدِ فِي لُحُوقِهِ (تَيَمَّمَ فِي وَسَطِهِ) نَدْبًا، وَالْخَائِفُ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ وَالْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَجِدُ مُنَاوِلًا وَالْمَسْجُونُ، فَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ يُنْدَبُ لَهُمْ التَّيَمُّمُ فِي وَسَطِ الْوَقْتِ (وَكَذَلِكَ) الْعَادِمُ لِلْمَاءِ فِي الْحَالِ يُنْدَبُ لَهُ التَّيَمُّمُ وَسَطَ الْوَقْتِ (إنْ خَافَ) أَيْ تَوَهَّمَ (أَنْ لَا يُدْرِكَهُ) أَيْ الْمَاءُ (فِي الْوَقْتِ وَرَجَا) أَيْ طَمِعَ بِحَسَبِ ظَنِّهِ (أَنْ يُدْرِكَهُ فِيهِ) أَيْ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَيَمُّمِ الرَّاجِي وَسَطَ الْوَقْتِ ضَعِيفٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّ الرَّاجِيَ كَالْمُتَيَقِّنِ لِوُجُودِ الْمَاءِ آخِرَ الْوَقْتِ يُنْدَبُ لَهُ التَّأْخِيرُ كَمَا وَضَّحْنَاهُ فِيمَا سَبَقَ. وَإِنَّمَا فَسَرَّنَا خَافَ بِتَوَهَّمَ لِيُطَابِقَ قَوْلَهُ: وَرَجَا إلَخْ. قَالَ الْخَلِيلُ: وَلَزِمَ فِعْلُهُ فِي الْوَقْتِ، فَالْآيِسُ أَوَّلَ الْمُخْتَارِ، وَالْمُتَرَدِّدُ فِي لُحُوقِهِ أَوْ وُجُودِهِ وَسَطَهُ، وَالرَّاجِي آخِرَهُ، وَمِنْ بَاب أَوْلَى الْمُتَيَقِّنُ وَمَنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ، فَلَوْ أَبْدَلَ الْمُصَنِّفُ الْمُتَيَقِّنَ بِالرَّاجِي لَكَانَ مُوَافِقًا لِخَلِيلٍ وَيُعْلَمُ مِنْهُ تَأْخِيرُ الْمُتَيَقِّنِ وَالظَّانِّ بِالْأَوْلَى، فَخَلِيلٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - نَصَّ عَلَى الْمُتَوَهِّمِ. وَلَمَّا كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِالصَّلَاةِ بِالتَّيَمُّمِ عَدَمُ اسْتِحْبَابِ إعَادَتِهَا فِي الْوَقْتِ، أَشَارَ إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 مِنْ هَؤُلَاءِ ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ بَعْدَ أَنْ صَلَّى فَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ فَلْيُعِدْ وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ مِنْ سِبَاعٍ وَنَحْوِهَا وَكَذَلِكَ الْمُسَافِرُ الَّذِي يَخَافُ أَنْ لَا يُدْرِكَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ وَرَجَا أَنْ يُدْرِكَهُ فِيهِ وَلَا يُعِيدُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ، وَلَا يُصَلِّي صَلَاتَيْنِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ إلَّا مَرِيضٌ لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لِضَرَرٍ بِجِسْمِهِ مُقِيمٍ وَقَدْ قِيلَ   [الفواكه الدواني] بَيَانِ مَنْ يُنْدَبُ لَهُ الْإِعَادَةُ وَهُوَ الْمُقَصِّرُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ وَفِعْلُ الشَّرْطِ (تَيَمَّمَ مِنْ هَؤُلَاءِ) الْمَذْكُورِينَ وَهُوَ الْمَرِيضُ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ وَاَلَّذِي لَا يَجِدُ مُنَاوِلًا، وَلَا الْخَائِفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ سُبُعٍ وَالْآيِسُ وَالْمُتَيَقِّنُ وَمَنْ لَمْ يَدْرِ وَهُوَ الْمُتَرَدِّدُ وَالرَّاجِي (ثُمَّ أَصَابَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ) أَوْ أَصَابَ الْمَرِيضَ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ (بَعْدَ أَنْ صَلَّى) وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ إنْ قَصَّرَ، وَبَيَّنَ الْمُقَصِّرَ بِقَوْلِهِ: (فَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ فَلِيُعِدْ) صَلَاتَهُ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ إعْدَادِ الْمَاءِ وَذَلِكَ بِأَنْ كَانَ لَا يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُونَ، وَأَمَّا إذَا كَانَ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِ الدَّاخِلُونَ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا تَقْصِيرَ عِنْدَهُ حِينَئِذٍ. (وَكَذَلِكَ الْخَائِفُ مِنْ سِبَاعٍ وَنَحْوِهَا) يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ إذَا تَيَمَّمَ وَسَطَ الْوَقْتِ وَصَلَّى ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمَ مَا خَافَهُ لِتَقْصِيرِهِ وَمَا لَوْ تَبَيَّنَ مَا خَافَهُ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْئًا فَلَا إعَادَةَ. وَالْحَاصِلُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ أَنَّ إعَادَةَ الْخَائِفِ مِنْ اللُّصُوصِ أَوْ السِّبَاعِ مَشْرُوطَةٌ بِتَيَقُّنِ وُجُودِ الْمَاءِ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ الْخَوْفُ وَتَيَقُّنِ خَوْفِهِ لَوْلَا الْخَوْفُ، وَإِدْرَاكِ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ بِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَتَبَيُّنِ عَدَمِ مَا خَافَهُ، فَإِنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ الْمَاءَ وَلَا لُحُوقَهُ لَمْ يُعِدْ، وَكَذَا لَوْ تَبَيَّنَ مَا خَافَهُ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، وَكَذَا لَوْ وَجَدَ مَاءً غَيْرَ الَّذِي مَنَعَهُ مِنْهُ الْخَوْفُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّ تَيَمُّمَهُ الَّذِي صَلَّى بِهِ إنَّمَا كَانَ لِأَجْلِ الْخَوْفِ، وَأَمَّا لَوْ شَكَّ بَعْدَ زَوَالِ الْخَوْفِ وَحُصُولِ الْمَاءِ هَلْ كَانَ لِلْخَوْفِ أَوْ لِلْكَسَلِ؟ فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يُعَدُّ الْخَائِفُ مِنْ اللُّصُوصِ أَوْ السِّبَاعِ مُقَصِّرًا مَعَ وُجُوبِ الْفِرَارِ مِنْهُمَا لِحُرْمَةِ تَغْرِيرِ الشَّخْصِ بِنَفْسِهِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا تَبَيَّنَ عَدَمُ مَا خَافَهُ عُلِمَ أَنَّ خَوْفَهُ كَانَ لِمُجَرَّدِ جُبْنِهِ لَا لِشَيْءٍ رَآهُ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ فِي حَقِّ (الْمُسَافِرِ الَّذِي يَخَافُ) أَيْ يَتَوَهَّمُ (أَنْ لَا يُدْرِكَ الْمَاءَ فِي الْوَقْتِ وَرَجَا) أَيْ تَيَقَّنَ أَوْ ظَنَّ (أَنْ يُدْرِكَهُ فِيهِ) وَقُلْنَا: يُسْتَحَبُّ لَهُ تَأْخِيرُ الصَّلَاةِ لِآخِرِ الْوَقْتِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ إذَا خَالَفَ وَقَدَّمَ الصَّلَاةَ بِالتَّيَمُّمِ قَبْلَ آخِرِهِ وَوَجَدَ الْمَاءَ الَّذِي كَانَ يَرْجُوهُ، بِخِلَافِ لَوْ وَجَدَ غَيْرَهُ فَلَا تُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ، وَقَوْلُهُ الْمُسَافِرُ: كَانَ الْأَوْلَى إبْدَالُهُ بِمُرِيدِ الصَّلَاةِ لِيَشْمَلَ الْحَاضِرَ، ثُمَّ إنَّ تَقْرِيرَنَا هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَأْخِيرِ الرَّاجِي وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَيُمَكِّنُ تَمْشِيَتُهُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الرَّاجِحِ بِحَمْلِهِ عَلَى مَا إذَا قَدَّمَ عَنْ وَسَطِ الْوَقْتِ. (وَلَا يُعِيدُ) مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ (غَيْرُ هَؤُلَاءِ) الثَّلَاثَةِ الَّتِي نَصَّ عَلَى إعَادَتِهَا بِقَوْلِهِ: فَأَمَّا الْمَرِيضُ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مُنَاوِلًا وَالْخَائِفُ مِنْ السِّبَاعِ وَنَحْوِهَا وَالرَّاجِي، وَبِقَوْلِنَا مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ انْدَفَعَ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ هُنَاكَ مَنْ تُسْتَحَبَّ لَهُ الْإِعَادَةُ مِنْ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ الْوَاجِدُ لِلْمَاءِ بِقُرْبِهِ أَوْ رَحْلِهِ بَعْدَ الْمُبَالَغَةِ فِي طَلَبِهِ وَالْآيِسُ مِنْهُ وَتَيَمَّمَ أَوَّلَ الْوَقْتِ وَصَلَّى ثُمَّ وَجَدَ الْمَاءَ الَّذِي أَيِسَ مِنْهُ بِعَيْنِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَيُعِيدُ الْمُقَصِّرُ فِي الْوَقْتِ وَصَحَّتْ إنْ لَمْ يُعِدْ كَوَاجِدِهِ بِقُرْبِهِ أَوْ رَحْلِهِ، وَكَالْمُتَرَدَّدِ فِي وُجُودِهِ إذَا قَدَّمَ الصَّلَاةَ عَنْ وَسَطِ الْوَقْتِ، وَمِثْلُهُ الْمُتَرَدِّدُ فِي لُحُوقِهِ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ إذَا تَيَمَّمَ وَسَطَ الْوَقْتِ وَأَوْلَى لَوْ قَدَّمَ عَنْ الْوَسَطِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ تَحْرِيرِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ فِي الْمُتَرَدِّدِ، وَمِمَّنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ الْمُقْتَصِرُ عَلَى كُوعَيْهِ فِي التَّيَمُّمِ، وَالْمُتَيَمِّمُ عَنْ أَرْضٍ مُصَابَةٍ بِبَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ النَّجَاسَاتِ، وَالْمُصَلِّي نَاسِيًا لِلْمَاءِ وَيَذْكُرُهُ بَعْدَهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يُعِيدُ غَيْرُ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى ظَاهِرِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ مِمَّنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ، الْمُرَادُ بِالْوَقْتِ لَفِي حَقِّهِ الْمُخْتَارِ إلَّا مَنْ تَيَمَّمَ عَلَى مُصَابِ بَوْلٍ، وَالْمُتَيَمِّمُ لِإِعَادَةِ الْحَاضِرَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَلَى يَسِيرِ الْمَنْسِيَّاتِ وَلَوْ عَمْدًا، وَمَنْ قَدَّمَ إحْدَى الْحَاضِرَتَيْنِ عَلَى الْأُخْرَى نَسِيَانَا، وَالْمُعِيدُ لِصَلَاتِهِ بِنَجَاسَةٍ، فَإِنَّ الْوَقْتَ فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ الضَّرُورِيُّ. الثَّانِي: كُلُّ مَنْ صَلَّى بِالتَّيَمُّمِ وَأُمِرَ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ لَا يُعِيدُ إلَّا بِالْوُضُوءِ إلَّا الْمُقْتَصِرَ عَلَى كُوعَيْهِ وَالْمُتَيَمِّمُ عَلَى مُصَابِ الْبَوْلِ وَالْمُصَلِّي مُلَابِسًا لِنَجَاسَةٍ عَجْزًا أَوْ نِسْيَانًا، وَمَنْ يُعِدْ لِتَذَكُّرِ إحْدَى الْحَاضِرَتَيْنِ بَعْدَمَا صَلَّى الثَّانِيَةَ مِنْهُمَا فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ وَيُصَلِّي الْأُولَى وَيَتَيَمَّمُ لِإِعَادَةِ الثَّانِيَةِ، وَمِنْ يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ وَمِنْ يُقَدِّمُ الْحَاضِرَةَ عَلَى يَسِيرِ الْمَنْسِيَّاتِ وَمَنْ تَيَمَّمَ عَلَى حَشِيشٍ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِهِ وَيَتَيَمَّمُ قَبْلَ ضِيقِ الْوَقْتِ (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (يُصَلِّيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ (صَلَاتَيْنِ) وَاجِبَتَيْنِ (بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ السَّبْعَةِ) الَّذِينَ مَرَّ ذِكْرُهُمْ (إلَّا مَرِيضٌ) فَاعِلٌ يُصَلِّي (لَا يَقْدِرُ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لِضَرَرٍ بِجِسْمِهِ مُقِيمٍ) بِالْجَرِّ صِفَةٌ لِضَرَرٍ بِمَعْنَى لَازِمٍ لَا يَرْجُو زَوَالَهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 بِتَيَمُّمٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَوَاتٍ أَنْ يُصَلِّيَهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ. وَالتَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَهُوَ مَا صَعِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْهَا مِنْ تُرَابٍ أَوْ رَمْلٍ أَوْ حِجَارَةٍ أَوْ سَبَخَةٍ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِمَا شَيْءٌ   [الفواكه الدواني] الْأُخْرَى فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُصَلِّيَ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ أَكْثَرَ مِنْ فَرْضٍ، وَهَذَا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ فِي الْمَذْهَبِ وَالْمُعْتَمَدُ مَا ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قِيلَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا أَنْ (يَتَيَمَّمَ لِكُلِّ صَلَاةٍ) مَفْرُوضَةٍ وَلَوْ مَرِيضًا فَكَانَ الْأَوْلَى الِاقْتِصَارَ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: لَا فَرْضَ آخَرَ وَإِنْ قَصَدَ أَوْ بَطَلَ الثَّانِي وَلَوْ مُشْتَرَكَةً، وَسَوَاءٌ اتَّحَدَتْ جِهَةُ الْفَرِيضَةِ أَوْ اخْتَلَفَتْ كَفَرِيضَةٍ أَصْلِيَّةٍ وَمَنْذُورَةٍ، لِمَا رَوَى ابْنُ شِهَابٍ مِنْ أَنَّ السُّنَّةَ أَنْ لَا يُصَلَّى فَرْضَانِ بِتَيَمُّمٍ وَاحِدِ، وَلِأَنَّ التَّيَمُّمَ طَهَارَةٌ ضَعِيفَةٌ لِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ عَلَى الْمَشْهُورِ بَلْ مُبِيحٌ لِلْعِبَادَةِ فَلَا يُفْعَلُ بِهِ إلَّا أَقَلُّ مَا يُمْكِنُ، وَقِيلَ يَرْفَعُهُ رَفْعًا مُقَيَّدًا بِوُجُودِ الْمَاءِ، وَلَعَلَّ هَذَا أَصْوَبُ مِنْ الْقَوْلِ بِعَدَمِ رَفْعِهِ لِئَلَّا يَلْزَمُ اجْتِمَاعُ النَّقِيضَيْنِ وَهُمَا الْمَنْعُ وَالْإِبَاحَةُ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لَنَا الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتُهَا طَهُورًا» وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ يَرْفَعُ لَكَانَ يُبَاحُ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ فَرْضٍ كَالْوُضُوءِ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّيَمُّمُ فَرْعٌ وَالْوُضُوءُ أَصْلٌ. (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (فِيمَنْ ذَكَرَ صَلَوَاتٍ) مَفْرُوضَاتٍ تَرَكَهُنَّ نَسِيَانَا أَوْ نَامَ عَنْهُنَّ أَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُنَّ ثُمَّ تَابَ وَأَرَادَ قَضَاءَهُنَّ (أَنْ يُصَلِّيَهَا كُلَّهَا بِتَيَمُّمٍ وَاحِدٍ) وَهَذَا ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ الْمَذْهَبِ أَنَّ كُلَّ فَرْضٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ تَيَمُّمٍ وَهُوَ الْمَحْكِيُّ قَبْلَ هَذَا بِقَلِيلٍ. (تَنْبِيهٌ) : وَفُهِمَ مِنْ التَّقَيُّدِ بِالْفَرْضَيْنِ أَنَّ النَّفَلَ يَصِحُّ بِالتَّيَمُّمِ الْوَاحِدِ وَلَوْ تَعَدَّدَ كَعِيدٍ وَضُحًى أَوْ فَجْرٍ وَكُسُوفٍ وَلَوْ كَثُرَ النَّفَلُ كَمَا قَدَّمْنَا لَكِنْ بِشَرْطِ اتِّصَالِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَأَنْ لَا تَكْثُرَ جِدًّا وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى سَبَبِ التَّيَمُّمِ وَهُوَ فَقْدُ الْمَاءِ أَوْ الْعَجْزُ عَنْ اسْتِعْمَالِهِ شَرَعَ فِيمَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالتَّيَمُّمُ) إنَّمَا يَكُونُ (بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ وَهُوَ) أَيْ الصَّعِيدُ كَمَا قَالَ مَالِكٌ (مَا صَعِدَ) أَيْ ظَهَرَ (عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ) حَالَةَ كَوْنِهِ كَائِنًا (مِنْهَا) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ تُرَابٍ) وَهُوَ مَعْرُوفٌ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ وَلَوْ نُقِلَ عَلَى الْمَشْهُورِ (أَوْ رَمْلٍ) وَهِيَ الْحِجَارَةُ الصَّغِيرَةُ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا وَلَوْ نُقِلَتْ أَيْضًا. (أَوْ حِجَارَةٍ) كَبِيرَةٍ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا تُرَابٌ وَلَوْ نُحِتَتْ بِالْقَدُّومِ كَالْبَلَاطِ وَلَوْ نُقِلَ مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ لَكِنْ بِشَرْطِ عَدَمِ طَبْخِهَا، فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَى الْجِيرِ وَلَا عَلَى الطُّوبِ الْأَحْمَرِ الْمَعْرُوفِ بِالْآجُرِّ، وَأَمَّا الرُّخَامُ فَإِنْ كَانَ مَصْنُوعًا بِالنَّارِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّم عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَنْحُوتًا بِالْقَدُّومِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ كُلَّ مَا دَخَلَتْهُ صِفَةٌ غَيْرُ الطَّبْخِ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ، فَلِذَا يَصِحُّ عَلَى بَلَاطِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا كَالرَّحَى السُّفْلَى وَالْعُلْيَا كُسِرَتْ أَمْ لَا، كَمَا يَصِحُّ عَلَى تُرَابِ الْمَسْجِدِ وَإِنَّمَا مَنَعَهُ بَعْضُهُمْ لِأَدَائِهِ إلَى تَعْفِيرِهِ. (أَوْ سَبَخَةٍ) وَهِيَ الْأَرْضُ ذَاتُ الْمِلْحِ، وَكَذَلِكَ الثَّلْجُ وَالْخِضْخَاضُ لَكِنَّ الثَّلْجَ يُتَيَمَّمُ عَلَيْهِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ لَيْسَ مِنْ أَجْزَاءِ الْأَرْضِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لِمَا جَمَدَ عَلَيْهِ الْتَحَقَ بِأَجْزَائِهَا، وَأَمَّا الْخِضْخَاضُ إنَّمَا يَتَيَمَّمُ عَلَيْهِ مَعَ عَدَمِ وُجُودِ غَيْرِهِ. 1 - وَكَذَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَى نَحْوِ الشَّبِّ وَالْكِبْرِيتِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَسَائِرِ الْمَعَادِنِ فِي مَحَلِّهَا سِوَى مَعَادِنِ الْفِضَّةِ وَالْجَوْهَرِ، وَأَمَّا لَوْ نُقِلَتْ بِحَيْثُ صَارَتْ فِي أَيْدِي النَّاسِ كَالْعَقَاقِيرِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا، وَقَيَّدْنَا النَّقْلَ بِالْحَيْثِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَقْلِهَا لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِأَنْ نُقِلَتْ فِي مَحَلِّهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ أَوْ جُعِلَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَرْضِ حَائِلٌ فَلَا يُمْنَعُ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا مَعَادِنُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْجَوْهَرِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَقَعُ بِهِ تَوَاضُعٌ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا وَلَوْ فِي مَحَلِّهَا وَلَوْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهَا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَتَسْقُطُ الصَّلَاةُ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ لِلَّخْمِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهَا إذَا تَعَذَّرَ غَيْرُهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ، وَلَكِنْ وَقَعَ نِزَاعٌ بَيْنَ مَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ: لَا يَتَيَمَّمُ إلَّا عَلَى تُرَابِهَا، وَمِنْهُمْ مِنْ جَوَّزَ التَّيَمُّمُ عَلَى عَيْنِهَا، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ مِنْهَا عَنْ نَحْوِ الْحَصِيرِ وَالْخَشَبِ وَالْحَلْفَاءِ وَالنَّجِيلِ فَلَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ وَلَمْ يَجِدْ سِوَاهُ، وَأَمَّا عَلَى الْمُقَابِلِ فَيَجُوزُ إذَا عَدِمَ غَيْرَهَا وَتَعَذَّرَ قَلْعُهَا وَضَاقَ الْوَقْتُ وَعَلَى الْمَشْهُورِ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «جُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ مَسْجِدًا وَتُرْبَتَهَا طَهُورًا» وَفَسَّرَ الْعُلَمَاءُ الطَّيِّبَ بِالطَّاهِرِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ 1 - (تَتِمَّةٌ) : لَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ الصَّعِيدَ إلَّا بِالثَّمَنِ لَزِمَهُ شِرَاؤُهُ كَمَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ الْمَاءِ بِالثَّمَنِ الْمُعْتَادِ الَّذِي لَمْ يَحْتَجْ لَهُ، كَمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُهُ مِمَّنْ وَهَبَهُ لَهُ لَا قَبُولَ ثَمَنِهِ وَيَلْزَمُهُ طَلَبُهُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعِطْفِ عَلَى مَا يَلْزَمُهُ وَقَبُولُ هِبَةِ مَا لَا ثَمَنَ لَهُ وَقَرْضُهُ وَأَخْذُهُ بِثَمَنٍ اُعْتِيدَ لَمْ يَحْتَجْ لَهُ وَإِنْ بِذِمَّتِهِ وَطَلَبَ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَإِنْ تَوَهَّمَهُ لَا تَحَقَّقَ عَدَمَهُ طَلَبًا لَا يَشُقُّ بِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمُسَافِرِ وَلَا عَلَى نَحْوِ الْحَصَّادِ اسْتِصْحَابُ الْمَاءِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 نَفَضَهُمَا نَفْضًا خَفِيفًا، ثُمَّ يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ كُلَّهُ مَسْحًا، ثُمَّ يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ فَيَمْسَحُ يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ يَجْعَلُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يُمِرُّ أَصَابِعَهُ عَلَى ظَاهِرِ يَدِهِ وَذِرَاعِهِ وَقَدْ حَنَى عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْمِرْفَقَيْنِ، ثُمَّ يَجْعَلُ كَفَّ يَدِهِ الْيُسْرَى عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ مِنْ طَيِّ مِرْفَقِهِ قَابِضًا عَلَيْهِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكُوعَ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِ فَقَالَ: (يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ) جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا فَهِيَ وَاقِعَةٌ فِي جَوَابِ سُؤَالٍ نَشَأَ مِنْ قَوْلِهِ: وَالتَّيَمُّمُ بِالصَّعِيدِ الطَّاهِرِ تَقْدِيرُهُ كَيْفَ يَفْعَلُ؟ فَقَالَ: يَضْرِبُ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَدٌ تَيَمَّمَ بِغَيْرِهَا مِنْ أَعْضَائِهِ فَإِنْ عَجَزَ اسْتَنَابَ فَإِنْ لَمْ تُمْكِنُهُ الِاسْتِنَابَةُ مَرَّغَ وَجْهَهُ فَإِنْ عَجَزَ أَوْمَأَ إلَى الْأَرْضِ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ كَمَا قَالَ الْقَابِسِيُّ فِي الْمَرْبُوطِ الْمُعَلَّقِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَالْمُرَادُ بِالضَّرْبِ وَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى الصَّعِيدِ مُسَمِّيًا نَاوِيًا اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَهَذَا الْوَضْعُ فَرْضٌ فَلَوْ لَاقَى بِيَدَيْهِ الْغُبَارَ مِنْ غَيْرِ وَضْعٍ لَا يَكْفِي لِأَنَّ الْوَضْعَ مَقْصُودٌ لِذَاتِهِ وَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِيَدَيْهِ شَيْءٌ مِنْ التُّرَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ صِحَّةِ التَّيَمُّمِ عَلَى الصُّخُورِ وَالْحِجَارَةِ الَّتِي لَا غُبَارَ عَلَيْهَا. (فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِمَا شَيْءٌ) مِنْ غُبَارِ الْأَرْضِ (نَفَضَهُ) اسْتِحْبَابًا (نَفْضًا خَفِيفًا) لِئَلَّا يُؤْذِيَ الْمُتَعَلِّقُ وَجْهَ الْمُتَيَمِّمِ، وَلَا يُقَالُ: مِنْ سُنَنِ التَّيَمُّمِ نَقْلُ مَا تَعَلَّقَ بِالْيَدَيْنِ إلَى الْعُضْوِ فَكَيْفَ يُسْتَحَبُّ نَفْضُهُمَا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالنَّقْلِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ عَدَمُ مَسْحِهِمَا بِشَيْءٍ قَبْلَ مُلَاقَاةِ الْعُضْوِ، وَلِذَا لَوْ مَسَحَ بِهِمَا عَلَى شَيْءٍ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ صَحَّ تَيَمُّمُهُ وَإِنَّمَا فَاتَهُ السُّنَّةُ وَلَوْ كَانَ الْمَسْحُ قَوِيًّا، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ عِنْدَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَا فَلَوْ أَخَّرَهَا لِوَجْهِهِ لَمْ يَصِحَّ تَيَمُّمُهُ، وَنِيَّةُ الْوُضُوءِ عِنْدَ فِعْلِ أَوَّلِ وَاجِبٍ لَا عِنْدَ أَخْذِ الْمَاءِ وَلَعَلَّ الْفَرْقَ ضَعْفُ الْفَرْعِ، وَيَنْوِي فَرْضَ التَّيَمُّمِ أَوْ اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ مِنْ الْحَدَثِ وَيُلَاحَظُ الْأَكْبَرُ إنْ كَانَ، فَإِنْ نَوَى اسْتِبَاحَةَ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَتَعَرَّض لِلْأَكْبَرِ وَصَلَّى أَعَادَ صَلَاتَهُ أَبَدًا بَعْدَ تَيَمُّمِهِ بِنِيَّةِ رَفْعِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُ التَّعَرُّضِ سَهْوًا أَوْ نِسْيَانًا وَلَا يَنْوِي رَفْعَ الْحَدَثِ. وَظَاهِرُ إطْلَاقِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ عَلَى الْمُقَابِلِ فَكَيْفَ بِالْمَشْهُورِ الْقَائِلِ بِأَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لَا رَافِعٌ لِلْحَدَثِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُعَيِّنَ الصَّلَاةَ الَّتِي يُرِيدُ فِعْلَهَا مِنْ فَرْضٍ أَوْ نَفْلٍ أَوْ هُمَا عَلَى الْعُمُومِ لِاسْتِبَاحَةِ مُطْلَقِ صَلَاةِ الصَّادِقِ بِالْفَرْضِ وَحْدَهُ أَوْ النَّفْلِ وَحْدَهُ فَيُصَلِّي بِهِ النَّفَلَ لَا الْفَرْضَ، لِأَنَّ الْفَرْضَ يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهُ، فَيَكُونُ كَمَنْ نَوَى النَّفَلَ فَلَا يُصَلِّي بِهِ الْفَرْضَ. وَمِثْلُهُ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ صَلَاةَ فَرْضٍ مُطْلَقٍ ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً فَإِنَّهُ لَا يُصَلِّيهَا بِذَلِكَ التَّيَمُّمِ لِأَنَّهُ تَيَمَّمَ لَهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَكَمَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ فَرْضًا مُعَيَّنًا فَلَا يُصَلِّي بِهِ غَيْرَهُ بِخِلَافِ مَنْ نَوَى بِتَيَمُّمِهِ مُطْلَقَ فَرْضٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِهِ مَا حَضَرَ وَقْتُهُ مِنْ ظُهْرٍ أَوْ عَصْرٍ أَوْ الْمُتَقَدِّمِ مِنْهُمَا، وَقَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ وَاجِبَاتِهِ الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَفْعَالِهِ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا فَعَلَ لَهُ فَيَبْطُلُ بِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ وَلَوْ عَجْزًا أَوْ نِسْيَانًا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ فَرَّقَ تَيَمُّمَهُ وَكَانَ أَمَدًا قَرِيبًا أَجْزَأَهُ وَإِنْ تَبَاعَدَ ابْتَدَأَ تَيَمُّمَهُ، لِأَنَّ كُلَّ مَا يُطْلَبُ فِيهِ الْمُوَالَاةُ يُغْتَفَرُ فِيهِ التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ. (ثُمَّ) بَعْدَ نَفْضِ يَدَيْهِ مِنْ الْغُبَارِ (يَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ كُلَّهُ مَسْحًا) خَفِيفًا فَلَا يَتَتَبَّعُ أَسَارِيرَ الْجَبْهَةِ وَكَذَا سَائِرُ غُضُونِ الْوَجْهِ، وَإِنَّمَا يَتَتَبَّعُ الْوَتْرَةَ وَحُجَّاجَ الْعَيْنَيْنِ وَالْعُنْفُقَةَ مَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا شَعْرٌ، وَيُمِرُّ يَدَيْهِ عَلَى شَعْرِ لِحْيَتِهِ الطَّوِيلَةِ كَثِيفَةً أَوْ خَفِيفَةً وَلَا يُخَلِّلُهَا وَيَبْلُغُ بِهِمَا حَيْثُ يَبْلُغُ بِهِمَا فِي غَسْلِ الْوَجْهِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسْحِ وَجْهِهِ يُسَنُّ أَنْ (يَضْرِبَ بِيَدَيْهِ الْأَرْضَ) ضَرْبَةً ثَانِيَةً تُقَوِّي مَا بَقِيَ مِنْ أَثَرِ الضَّرْبَةِ الْأُولَى (فَيَمْسَحُ) وُجُوبًا وَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الْمَسْحِ أَنْ يَمْسَحَ (يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ (يَجْعَلَ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُسْرَى) غَيْرَ الْإِبْهَامِ (عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ الْيَدِ الْيُمْنَى) سِوَى الْإِبْهَامِ (ثُمَّ يُمِرُّ أَصَابِعَهُ عَلَى ظَاهِرِ يَدِهِ) يَعْنِيَ كَفَّهُ سِوَى الْإِبْهَامِ (وَ) عَلَى ظَاهِرِ (ذِرَاعِهِ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ حَنَى عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى ظَاهِرِ ذِرَاعِهِ دُونَ كَفِّهِ (أَصَابِعَهُ) وَيَسْتَمِرُّ يَمْسَحُ (حَتَّى يَبْلُغَ الْمِرْفَقَيْنِ) تَثْنِيَةُ مِرْفَقٍ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ بَيَانَ غَايَةِ الْمَسْحِ بِالنِّسْبَةِ لِلْيَدَيْنِ وَإِلَّا كَانَ يَقُولُ الْمِرْفَقُ بِلَفْظِ الْإِفْرَادِ لِأَنَّ كُلَّ يَدٍ لَهَا مِرْفَقٌ وَاحِدٌ وَهُوَ مَا يَتَّكِئُ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ. وَقَيَّدَ مُرُورَ الْأَصَابِعِ عَلَى الذِّرَاعِ بِالْإِنْحَاءِ لِيَتَحَقَّقَ مَسْحُ جَانِبَيْ ذِرَاعِهِ فِي حَالِ مَسْحِ ظَاهِرِهِ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْكَفِّ فَالْأَصَابِعُ فَوْقُهُ وَغَيَّا بِحَتَّى لِلْإِشَارَةِ إلَى دُخُولِ الْمِرْفَقَيْنِ فِي الْمَسْحِ، لِأَنَّ الْأَصَحَّ دُخُولُ الْغَايَةِ مَعَ حَتَّى بِخِلَافِ إلَى، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْحِ مِنْ الْكُوعِ إلَى الْمِرْفَقِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِهِ لِلْكُوعَيْنِ فَقِيلَ سُنَّةٌ وَقِيلَ وَاجِبٌ، وَعَلَى كُلٍّ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى كُوعَيْهِ فَصَلَّى فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ. وَيَجِبُ عَلَيْهِ فِي حَالِّ مَسْحِ يَدَيْهِ نَزْعُ خَاتَمِهِ الْمَأْذُونِ لَهُ فِي اتِّخَاذِهِ كَأَسَاوِرِ الْمَرْأَةِ وَلَوْ اتَّسَعَ مَا ذَكَرَ لِيَمْسَحَ مَا تَحْتَهُ وَيُخَلِّلَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ، وَيَكْفِي تَخْلِيلُ وَاحِدٍ بَعْدَ تَمَامِ التَّيَمُّمِ وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ تَخْلِيلَ كُلٍّ عِنْدَ مَسْحِهَا، وَيَكُونُ التَّخْلِيلُ بِبَاطِنِ الْأَصَابِعِ لَا بِأَجْنَابِهَا لِعَدَمِ مَسْحِهَا لِلتُّرَابِ، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَمْسَحُ بِيَدَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَالْعَاجِزُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَابَةُ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ ظَاهِرِ الْيَمِينِ بِتَمَامِ مِرْفَقِهَا (يَجْعَلُ كَفَّ يَدِهِ الْيُسْرَى) وَالْمُرَادُ كَفَّ الْيَدِ لَا أَصَابِعَهَا لِأَنَّهُ قَدْ مَسَحَ بِهَا الظَّاهِرَ، وَإِنَّمَا قَالَ يَجْعَلُ يَدَهُ وَلَمْ يُضْمِرْ بِأَنْ يَقُولَ ثُمَّ يَجْعَلَهَا كَمَا هُوَ الصِّنَاعَةُ الْعَرَبِيَّةُ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 يُجْرِي بَاطِنَ بُهْمِهِ عَلَى ظَاهِرِ بُهْمِ يَدِهِ الْيُمْنَى، ثُمَّ يَمْسَحُ الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى هَكَذَا، فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ مَسَحَ كَفَّهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى إلَى آخِرِ أَطْرَافِهِ وَلَوْ مَسَحَ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَالْيُسْرَى بِالْيُمْنَى كَيْفَ شَاءَ وَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَأَوْعَبَ الْمَسْحَ لَأَجْزَأَهُ، وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ الْمَاءَ لِلطُّهْرِ تَيَمَّمَا وَصَلَّيَا فَإِذَا وَجَدَا الْمَاءَ تَطَهَّرَا وَلَمْ يُعِيدَا مَا صَلَّيَا وَلَا يَطَأُ الرَّجُلُ   [الفواكه الدواني] لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَسْحِ بِالْيُسْرَى لِئَلَّا يَتَبَادَرَ إلَى الذِّهْنِ أَصَابِعُهَا لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: يَجْعَلُ أَصَابِعَ يَدَهُ الْيُسْرَى وَهُوَ غَيْرِ صَحِيحٍ كَمَا عَلِمْت. (عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ) الْأَيْمَنِ مُبْتَدِئًا لَهُ (مِنْ طَيِّ مِرْفَقِهِ) حَالَ كَوْنِهِ (قَابِضًا عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ وَيَكُونُ فِي حَالِ قَبْضِهِ فِي مَسْحِهِ رَافِعًا إبْطَهُ (حَتَّى يَبْلُغَ الْكُوعَ مِنْ يَدِهِ الْيُمْنَى) وَهُوَ رَأْسُ الْوَتَدِ لِمَا يَلِي الْإِبْهَامَ، وَلَوْلَا إرَادَتُهُ زِيَادَةَ الْإِيضَاحِ لَقَالَ مِنْهَا، وَيُعْلَمُ أَنَّ الضَّمِيرَ لِلْيُمْنَى لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ مَسْحِ بَاطِنِ ذِرَاعِهِ (يُجْرِي) أَيْ يُمِرُّ (بَاطِنَ بُهْمِهِ) أَيْ إبْهَامِهِ مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى (عَلَى ظَاهِرِ بُهْمِ يَدِهِ الْيُمْنَى) لِأَنَّهُ إنَّمَا مَسَحَ أَوَّلًا ظَاهِرَ كَفِّهِ سِوَاهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ تَرْكِ مَسْحِ الْإِبْهَامَ مَعَ مَسْحِ الْكَفِّ وَإِمْرَارِ الْبُهْمِ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ هُوَ لِابْنِ الطَّلَّاعِ وَظَاهِرُ الرِّوَايَاتِ خِلَافُهُ، وَأَنَّهُ يَمْسَحُ ظَاهِرَ إبْهَامِهِ الْيُمْنَى مَعَ مَسْحِ ظَاهِرِ أَصَابِعِهَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْكَفِّ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَوْ صَرِيحُهُ حَتَّى يَبْلُغَ الْكُوعَ أَنَّهُ لَا يُكَمِّلُ مَسْحَ الْيُمْنَى قَبْلَ الْيُسْرَى بَلْ يُبْقِي بَاطِنَ الْكَفِّ وَهُوَ قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ وَطَرِيقَةُ الْأَكْثَرِ أَنَّهُ لَا يَنْتَقِلُ إلَى الْيُسْرَى حَتَّى يَمْسَحَ بَاطِنَ الْكَفِّ مِنْ الْيُمْنَى إلَى آخِرِ الْأَصَابِعِ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ: وَبَدَأَ بِظَاهِرِ يُمْنَاهُ بِيُسْرَاهُ إلَى الْمِرْفَقِ ثُمَّ يَمْسَحُ الْبَاطِنَ لَآخِرِ الْأَصَابِعِ ثُمَّ يُسْرَاهُ كَذَلِكَ. وَفَسَّرْنَا الْبُهْمَ بِالْإِبْهَامِ لِمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالَ فِي الْأُصْبُعِ الْمَعْرُوفِ بَهْمًا وَإِنَّمَا يَقُولُونَ إبْهَامًا، وَإِنَّمَا الْبَهْمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْهَاءِ جَمْعُ بَهِيمَةٍ وَهِيَ أَوْلَادُ الضَّأْنِ، وَأَمَّا الْبُهْمُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ بَهْمَةٍ وَهِيَ الشُّجْعَانُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُصَنِّفُ أَكْثَرُ اطِّلَاعًا مِنْ الْفَاكِهَانِيِّ، وَالِاعْتِرَاضُ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْإِحَاطَةِ بِسَائِرِ اللُّغَةِ وَهَذَا مُتَعَسِّرٌ أَوْ مُتَعَذَّرٌ. (ثُمَّ) إذَا فَرَغَ مِنْ مَسْحِ الْيَدِ الْيُمْنَى إلَى آخِرِ الْأَصَابِعِ عَلَى طَرِيقِ الْأَكْثَرِ يَنْتَقِلُ (مَسْحُ) الْيَدِ (الْيُسْرَى بِالْيُمْنَى هَكَذَا) أَيْ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي مَسْحِ الْيُمْنَى، فَيَجْعَلُ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى أَطْرَافِ أَصَابِعِ يَدِهِ الْيُسْرَى غَيْرَ الْإِبْهَامِ ثُمَّ يُمِرُّ أَصَابِعَهُ عَلَى ظَاهِرِ كَفِّهِ وَذِرَاعِهِ وَقَدْ حَنَى عَلَيْهِ أَصَابِعَهُ حَتَّى الْمِرْفَقَيْنِ ثُمَّ يَجْعَلُ كَفَّهُ عَلَى بَاطِنِ ذِرَاعِهِ مِنْ طَيِّ مِرْفَقِهِ قَابِضًا عَلَيْهِ حَتَّى بَلَغَ الْكُوعَ وَيُجْزِئُ بَاطِنُ بُهْمِ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِرِ بُهْمِ الْيُسْرَى. (فَإِذَا بَلَغَ الْكُوعَ) مِنْ يَدِهِ الْيُسْرَى (مَسَحَ كَفَّهُ الْيُمْنَى بِكَفِّهِ الْيُسْرَى إلَى آخِرِ أَطْرَافِهِ) أَيْ أَطْرَافِ الْكَفِّ أَرَادَ بِهِ بَاطِنَ الْكَفِّ وَالْأَصَابِعَ، وَصَرِيحُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ بَاطِنَ كَفِّ الْيُمْنَى لَمْ يُمْسَحْ قَبْلَ الِانْتِقَالِ إلَى الْيُسْرَى، وَاسْتَحْسَنَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ لِيَبْقَى مَا عَلَيْهِ مِنْ التُّرَابِ، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ طَرِيقَةَ الْأَكْثَرِ وَقَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا اسْتَكْمَلَ الْيُمْنَى قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْيُسْرَى مُحَافَظَةً عَلَى التَّرْتِيبِ الْمَنْدُوبِ بَيْنَ الْمَيَامِنِ وَالْمَيَاسِرِ. (فَائِدَةٌ) الْكُوعُ آخِرُ السَّاعِدِ وَأَوَّلُ الْكَفِّ وَقِيلَ الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي الْإِبْهَامَ، وَأَمَّا الَّذِي يَلِي الْخِنْصَرُ فَهُوَ الْكُرْسُوعُ وَالْمُتَوَسِّطُ بَيْنَهَا رُسْغٌ وَهَذَا فِي الْيَدِ، وَأَمَّا الْعَظْمُ الَّذِي يَلِي إبْهَامَ الرَّجُلِ فَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْبُوعِ، وَلِبَعْضِ أَصْحَابِنَا: وَعَظْمٌ يَلِي الْإِبْهَامَ مِنْ طَرَفِ سَاعِدٍ ... هُوَ الْكُوعُ وَالْكُرْسُوعُ مِنْ خِنْصَرٍ تَلَا وَمَا بَيْنَ ذَيْنِ الرُّسْغِ وَالْبُوعِ مَا يَلِي ... لِإِبْهَامِ رَجُلٍ فِي الصَّحِيحِ الَّذِي انْجَلَا (وَلَوْ) خَالَفَ الصِّفَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ وَ (مَسَحَ الْيُمْنَى بِالْيُسْرَى وَالْيُسْرَى بِالْيُمْنَى كَيْفَ شَاءَ وَتَيَسَّرَ عَلَيْهِ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ قَدْ (أَوَعَبَ الْمَسْحَ) وَلَوْ بَدَأَ مِنْ الْمَرَافِقِ أَوْ قَدَّمَ مَسْحَ الْبَاطِنِ عَلَى الظَّاهِرِ (لَأَجْزَأَهُ) لِأَنَّ الصِّفَةَ الْمُتَقَدِّمَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فَقَطْ، وَالْفَرْضُ التَّعْمِيمُ لِلْوَجْهِ وَالْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَإِلَى الْمِرْفَقَيْنِ سُنَّةٌ، وَلَكِنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ أَوْعَبَ يُوهِمُ أَنَّهُ إذَا اقْتَصَرَ عَلَى الْكُوعَيْنِ لَا يُجْزِي، وَيُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْمُقْتَصِرَ عَلَى كُوعَيْهِ فِي الْمَسْحِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِجْزَاءِ الَّذِي لَا إعَادَةَ مَعَهُ فَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَاهُ. وَلَمَّا كَانَ الْمُحْدِثُ حَدَّثَا أَكْبَرَ لَا يَسْتَعْمِلُ مِنْ الْمَاءِ إلَّا مَا يَعُمُّ جَمِيعَ ظَاهِرِ جَسَدِهِ قَالَ: (وَإِذَا لَمْ يَجِدْ الْجُنُبُ أَوْ الْحَائِضُ الْمَاءَ لِلطُّهْرِ) لِجَمِيعِ ظَاهِرِ الْجَسَدِ (تَيَمَّمَا وَصَلَّيَا) وَلَوْ وَجَدَا مَا يَكْفِي مَوَاضِعَ الْأَصْغَرِ وَيَتَيَمَّمَانِ عَلَى التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، فَالْآيِسُ أَوْ الْمُخْتَارُ وَالْمُتَرَدِّدُ فِي لُحُوقِهِ أَوْ وُجُودِهِ وَسَطَهُ وَالرَّاجِي أَوْ الْمُتَيَقِّنُ آخِرَهُ. فَإِنْ قِيلَ: الْمُصَنِّفُ قَدَّمَ أَنَّ مِنْ لَمْ يَجِدْ الْمَاءَ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ كَمَا نَطَقَ بِهِ الْقُرْآنُ بِقَوْلِهِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فَلِأَيِّ شَيْءٍ نَصَّ عَلَى خُصُوصِ الْحَائِضِ وَالْجُنُبِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ قَصَدَ الرَّدَّ عَلَى الْقَائِلِ: إنَّ الَّذِي يَتَيَمَّمُ صَاحِبُ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَوْ الْأَكْبَرِ إنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ، وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ عُمُومُ {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [النساء: 43] فَإِنَّهُ لَمْ يُقَيَّدْ بِمَرِيضٍ وَلَا مُسَافِرٍ، وَخَبَرُ «عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ أَنَّهُ قَالَ: أَجْنَبْت فَتَمَعَّكْت أَيْ تَمَرَّغْت فِي التُّرَابِ كَمَا تَتَمَعَّكُ الدَّابَّةُ ثُمَّ أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ فَقَالَ: إنَّمَا يَكْفِيك لَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 امْرَأَتَهُ الَّتِي انْقَطَعَ عَنْهَا دَمُ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ بِالطُّهْرِ بِالتَّيَمُّمِ حَتَّى يَجِدَ مِنْ الْمَاءِ مَا تَتَطَهَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ، ثُمَّ مَا يَتَطَهَّرَانِ بِهِ جَمِيعًا وَفِي بَابِ جَامِعِ الصَّلَاةِ شَيْءٌ مِنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ.   [الفواكه الدواني] فَعَلْت بِيَدَيْك هَكَذَا» وَوَصَفَ لَهُ التَّيَمُّمَ، أَخْرَجَهُ الشَّيْخَانِ. وَأَمَّا الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ فَيَتَيَمَّمَانِ اتِّفَاقًا. (فَإِذَا وُجِدَ الْمَاءُ) الْكَافِي لَهُمَا (تَطَهَّرَا وَلَمْ يُعِيدَا مَا صَلَّيَا) بِالتَّيَمُّمِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ مِنْ الْعِبَادَةِ بِفِعْلِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهِمَا الطُّهْرُ لِبَقَاءِ حَدَثِهِمَا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ التَّيَمُّمَ مُبِيحٌ لِلْعِبَادَةِ فَقَطْ أَوْ رَافِعٌ رَفْعًا مُقَيَّدًا، وَمَحَلُّ عَدَمِ الْإِعَادَةِ لِمَا صَلَّيَاهُ بِالتَّيَمُّمِ مَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُمَا تَقْصِيرٌ فِي طَلَبِ الْمَاءِ كَوَاجِدِهِ بِقُرْبِهِ أَوْ رَحْلِهِ، أَوْ تَيَمَّمَا لِخَوْفِ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ وَتَبَيَّنَ عَدَمُهُمَا كَمَا مَرَّ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: وَلَمْ يُعِيدَا مَا صَلَّيَا أَنَّ وُجُودَ الْمَاءِ بَعْدَ صَلَاتَيْهِمَا بِالتَّيَمُّمِ، وَأَمَّا لَوْ وَجَدَا الْمَاءَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا لِلْغُسْلِ وَالصَّلَاةِ وَلَوْ رَكْعَةً فِي الْوَقْتِ الَّذِي هُمَا فِيهِ فَإِنَّ التَّيَمُّمَ يَبْطُلُ، وَأَمَّا إنْ وَجَدَاهُ بَعْدَ الدُّخُولِ فِيهَا وَقَبْلَ فَرَاغِهَا وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ أَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا وَلَكِنْ لَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ لِلْغُسْلِ وَإِدْرَاكِ رَكْعَةٍ فَإِنَّهُمَا يُصَلِّيَانِ بِالتَّيَمُّمِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ بِمُبْطِلِ الْوُضُوءِ وَبِوُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا فِيهَا إلَّا نَاسِيَهُ فَيَقْطَعُ إنْ كَانَ مُتَّسَعًا وَإِلَّا فَلَا. (فَائِدَةٌ) : لَوْ كَانَ الْمَاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ اثْنَيْنِ مَثَلًا وَلَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا فَإِنْ كَانَا مُوسِرَيْنِ وَاتَّحَدَ حَدَثُهُمَا فَإِنَّهُمَا يَتَقَاوَمَانِ الْمَاءَ حَيْثُ كَانَ يَكْفِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى انْفِرَادِهِ، فَمَنْ بَلَغَهُ الثَّمَنُ اللَّازِمُ شِرَاؤُهُ بِهِ وَهُوَ الثَّمَنُ الْمُعْتَادُ اخْتَصَّ بِهِ، وَإِنْ اخْتَلَفَ حَدَثَاهُمَا اخْتَصَّ بِهِ صَاحِبُ الْأَشَدِّ كَالْجُنُبِ عَلَى صَاحِبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ، وَكَالْحَائِضِ عَلَى الْجُنُبِ، وَكَالنُّفَسَاءِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَا مُعْدَمَيْنِ لَكَانَ لَهُمَا بَيْعُهُ وَالتَّسَاهُمُ عَلَيْهِ فَمَنْ خَرَجَ لَهُ اسْتَعْمَلَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُوسِرُ أَحَدَهُمَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ بَذْلُ ثَمَنِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ الْمُعْدَمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَحْتَاجُ لَهَا لِنَحْوِ شُرْبِهِ، كَمَا لَوْ كَانَ الْمَاءُ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا لِنَظَافَةِ أَعْضَائِهِ دُونَ شَرِيكِهِ فَيَخْتَصُّ بِهِ دُونَ شَرِيكِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَقُدِّمَ ذُو مَاءٍ مَاتَ وَمَعَهُ جُنُبٌ إلَّا لِخَوْفِ عَطَشٍ كَكَوْنِهِ لَهُمَا وَضَمِنَ قِيمَتَهُ. وَلَمَّا كَانَ التَّيَمُّمُ يَقُومُ مَقَامَ الْمَاءِ فِي نَحْوِ الْعِبَادَاتِ وَخَرَجَ عَنْ ذَلِكَ مَنْ انْقَطَعَ حَيْضُهَا وَكَانَ فَرْضُهَا التَّيَمُّمُ فَلَا تَحِلُّ لِزَوْجِهَا بِهِ دُونَ الْغُسْلِ قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَتَهُ) أَوْ أَمَتَهُ وَلَوْ كَافِرَةً (الَّتِي انْقَطَعَ عَنْهَا دَمُ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ بِالطُّهْرِ بِالتَّيَمُّمِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ بِالْمَاءِ {فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] الْآيَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: فِي الْحَيْضِ وَمِثْلُهُ النِّفَاسُ، وَمَنَعَ صِحَّةَ صَلَاةٍ وَصَوْمٍ وَوُجُوبَهُمَا وَطَلَاقًا وَبَدْءَ عِدَّةٍ وَوَطْءَ فَرْجٍ أَوْ تَحْتَ إزَارٍ وَلَوْ بَعْدَ نَقَاءٍ وَتَيَمُّمٍ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَضَرَّرَ الزَّوْجُ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ وَيَتَعَذَّرُ عَلَى الْمَرْأَةِ الطُّهْرُ بِالْمَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ مَنْ رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ بِالتَّيَمُّمِ الْجَائِزِ لَهَا. وَمَفْهُومُ الْوَطْءِ يَقْتَضِي أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا بِغَيْرِهِ يَجُوزُ وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ عَلَى تَفْصِيلٍ مُحَصَّلُهُ أَنَّ الِاسْتِمْتَاعَ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ حَرَامٌ، فَأَمَّا مَا خَرَجَ عَنْ ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَلَا حَرَجَ فِيهِ وَلَوْ وَطِئَ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَائِضُ تَشُدُّ إزَارَهَا وَشَأْنُك بِأَعْلَاهَا» قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: شَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا أَيْ يُجَامِعُهَا فِي أَعْكَانِهَا وَبَطْنِهَا أَوْ مَا شَاءَ مِمَّا هُوَ أَعْلَاهَا وَلَوْ جَبَرَهَا عَلَى الْغُسْلِ، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا عَقِبَهُ وَلَوْ مَعَ الْجَبْرِ وَلَوْ لَمْ تَنْوِ رَفْعَ الْحَدَثِ لِأَنَّهُ حَلَّ الْوَطْءُ لَا لِرَفْعِ حَدَثٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا وَلَوْ كَافِرَةً، وَالْغُسْلُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ هُوَ الْغُسْلُ الرَّافِعُ لِلْحَدَثِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَسْلَمَتْ الْكِتَابِيَّةُ بَعْدَ ذَلِكَ الْغُسْلِ أَوْ أَرَادَتْ الْمُسْلِمَةُ الَّتِي اغْتَسَلَتْ بِالْإِكْرَاهِ وَلَمْ تَنْوِ رَفْعَ حَدَثِهَا الصَّلَاةَ وَجَبَ عَلَيْهِمَا الْغُسْلُ لِرَفْعِ حَدَثِهَا، وَيَسْتَمِرُّ مَنْعُ وَطْءِ مَنْ كَانَتْ حَائِضًا (حَتَّى يَجِدَ) الزَّوْجُ وَفِي نُسْخَةٍ حَتَّى يَجِدَا (مِنْ الْمَاءِ مَا تَتَطَهَّرُ بِهِ الْمَرْأَةُ) مِنْ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا (ثُمَّ مَا يَتَطَهَّرَانِ بِهِ جَمِيعًا) لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّخْصِ أَنْ يُدْخِلَ عَلَى نَفْسِهِ الْحَدَثَ بِإِبْطَالِ طَهَارَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ مَعَ عَدَمِ مَاءٍ تَقْبِيلُ مُتَوَضِّئٍ وَجِمَاعُ مُغْتَسِلٍ إلَّا لِطُولٍ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: يُؤْخَذُ مِنْ نُسْخَةِ الْإِفْرَادِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الزَّوْجِ تَحْصِيلُ الْمَاءِ لِطَهَارَةِ زَوْجَتِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَقَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَدَثُ أَصْغَرَ أَوْ أَكْبَرَ وَلَوْ بِاحْتِلَامِهَا أَوْ وَطْءِ الْغَيْرِ لَهَا عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَحْصِيلُهُ لِشُرْبِهَا وَلَوْ بِالثَّمَنِ فِي الْجَمِيعِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَنْ عَلِمَ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنَّهُ إنْ وَطِئَ لَيْلًا لَا تَغْتَسِلُ زَوْجَتُهُ إلَّا نَهَارًا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْوَطْءُ إلَّا لَيْلًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْوَطْءُ وَيَأْمُرُهَا أَنْ تَغْتَسِلَ لَيْلًا فَإِنْ خَالَفَتْ فَقَدْ أَدَّى مَا عَلَيْهِ. 1 - وَمَنْ عَلِمَ مِنْ زَوْجَتِهِ أَنَّهَا لَا تَغْتَسِلُ إنْ جَامَعَهَا فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا أَوْ يَجِبُ طَلَاقُهَا؟ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا وَيَأْمُرُهَا بِالْغُسْلِ وَلَوْ بِالضَّرْبِ مَعَ ظَنِّ الْإِفَادَةِ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] عَصَتْ وَلَا يَجِبُ طَلَاقُهَا خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فِرَاقُهَا فَقَطْ كَاسْتِحْبَابِ فِرَاقِ الزَّانِيَةِ وَمَنْ كَانَتْ عَلَى بِدْعَةٍ مُحَرَّمَةٍ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ لَمْ يَجِدْ مَاءً وَلَا صَعِيدًا أَوْ وَجَدَ وَلَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِعْمَالَ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِنِيَابَةٍ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ فَقَالَ مَالِكٌ: تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ أَدَاءً وَقَضَاءً، وَقَالَ غَيْرُهُ: يُؤَدِّي وَلَا يَقْضِي، وَبَعْضُهُمْ عَكَسَهُ، وَلِبَعْضٍ يُؤَدِّي وَيَقْضِي، وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَتَسْقُطُ صَلَاةٌ وَقَضَاءٌ بِعَدَمِ مَاءٍ وَصَعِيدٍ، وَوَجْهُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ الطَّهَارَةَ عِنْدَهُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الْعِبَادَةِ وَوُجُوبِهَا مُطْلَقًا، وَأَمَّا لَوْ قَدَرَ عَلَى التَّيَمُّمِ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ لَوَجَبَ عَلَيْهِ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِنَا: أَوْ وَجَدَ وَلَا يَسْتَطِيعُ الِاسْتِعْمَالَ إلَخْ الْمَرِيضُ وَالْمُكْرَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ وَعَلَى تَرْكِ اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَالتُّرَابِ حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ الضَّرُورِيُّ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ فَقَطْ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إنْ كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ الطَّهَارَةِ وَلَوْ بِالتَّيَمُّمِ وَيُصَلِّي وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ أَوْ بِالْإِشَارَةِ، هَذَا هُوَ تَحْرِيرُ الْمَسْأَلَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَفِي بَابِ جَامِعِ الصَّلَاةِ) الْآتِي فِي كَلَامِهِ (شَيْءٌ مِنْ مَسَائِلِ التَّيَمُّمِ) كَمَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ الَّتِي أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِمَرِيضٍ حَائِطُ لَبِنٍ أَوْ حَجَرٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَكْسُوًّا بِالْجِيرِ وَلَا مَسْتُورًا بِنَحْوِ التِّبْنِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَجَرِ الْجَبَلِيُّ لَا الْآجُرُّ لِأَنَّهُ مَطْبُوخٌ بِالنَّارِ لَا يَصِحُّ التَّيَمُّمُ عَلَيْهِ. وَلَمَّا أَنْهَى الْكَلَامَ عَلَى الطَّهَارَةِ الْبَدَلِيَّةِ وَلَوْ عَنْ جَمِيعِ الْجَسَدِ، شَرَعَ فِي النَّائِبَةِ فِي بَعْضِ الْأَعْضَاءِ بِقَوْلِهِ:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 بَابٌ فِي الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَلَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ بَعْدَ مَا لَمْ يَنْزِعْهُمَا وَذَلِكَ إذَا أَدْخَلَ فِيهِمَا رِجْلَيْهِ بَعْدَ أَنْ غَسَلَهُمَا فِي وُضُوءٍ تَحِلُّ بِهِ الصَّلَاةُ فَهَذَا الَّذِي أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ مَسَحَ عَلَيْهِمَا وَإِلَّا فَلَا، وَصِفَةُ الْمَسْحِ أَنْ يَجْعَلَ يَدَهُ الْيُمْنَى مِنْ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ] (بَابٌ فِي) بَيَانِ صِفَةِ وَحُكْمِ (الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ) وَلَمْ يُعَرِّفْهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ حَدُّهُ بِأَنَّهُ إمْرَارُ الْيَدِ الْمَبْلُولَةِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى خُفَّيْنِ مَلْبُوسَيْنِ عَلَى طَهَارَةٍ مَائِيَّةٍ تَحِلُّ بِهَا الصَّلَاةُ بَدَلًا عَنْ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ وَمَسْحُ الْخُفَّيْنِ رُخْصَةٌ كَمَا سَيُصَرِّحُ بِهِ فِي بَابِ جُمَلٍ وَحَقِيقَةُ الرُّخْصَةِ مَا شُرِعَ عَلَى وَجْهِ التَّخْفِيفِ وَالتَّسْهِيلِ، وَعَرَّفَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُتَغَيِّرُ مِنْ صُعُوبَةٍ لِسُهُولَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، وَالْحُكْمُ خِطَابُ اللَّهِ الْمُتَعَلِّقُ بِأَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ عَلَى رَأْي الْأَكْثَرِ، فَلَا تُشْرَعُ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ عَلَى طَرِيقَةِ الْأَكْثَرِ، وَذَكَرَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّ الْمُخْتَصَّ بِالْمُكَلَّفِ مِنْ الْحُكْمِ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ، وَأَمَّا النَّدْبُ وَالْإِبَاحَةُ وَالْكَرَاهَةُ فَتَتَعَلَّقُ حَتَّى بِغَيْرِ الْمُكَلَّفِ، وَعَلَى هَذَا فَتَجْرِي هَذِهِ الرُّخْصَةُ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ نَحْوِ قَصْرِ الصَّلَاةِ حَتَّى فِي قَصْرِ الصَّبِيِّ لِأَنَّ الصَّلَاةَ فِي حَقِّهِ مَنْدُوبَةٌ، بَلْ قَدْ يُقَالُ: إنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِالتَّخْفِيفِ مِنْ غَيْرِهِ وَحُكْمُ هَذِهِ الرُّخْصَةِ الْإِبَاحَةُ، وَقَدْ تَغَيَّرَ الْحُكْمُ هُنَا مِنْ صُعُوبَةٍ وَهِيَ وُجُوبُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ لِسُهُولَةٍ وَهِيَ جَوَازُهُ وَالْعُذْرُ مَشَقَّةُ النَّزْعِ وَاللُّبْسِ، وَالسَّبَبُ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ كَوْنُ الْعُضْوِ قَابِلًا لِلْغَسْلِ وَمُمْكِنًا. وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ تَكُونُ الرُّخْصَةُ هُنَا مُبَاحَةٌ مَعَ وُجُوبِ الْمَسْحِ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: وُجُوبُ الْمَسْحِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ أَرَادَ عَدَمَ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَهُوَ جَائِزٌ إذْ لَهُ فِعْلُهُ وَفِعْلُ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ، وَهَكَذَا حُكْمُ كُلِّ فِعْلَيْنِ يَجِبُ أَحَدُهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، فَإِنَّهُ حَيْثُ لَمْ يُرِدْ وَاحِدًا بِعَيْنِهِ يَكُونُ كُلٌّ جَائِزًا وَعِنْدَ إرَادَةِ أَحَدِهِمَا لَا بِعَيْنِهِ يَكُونُ وَاجِبًا، وَالْمُرَادُ بِالْوُجُوبِ هُنَا مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الْعِبَادَةِ عَلَيْهِ حَتَّى يَشْمَلَ الصَّبِيَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قُلْنَا مِنْ إبَاحَةِ الْمَسْحِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: (وَلَهُ) أَيْ لِلَابِسِ الْخُفِّ عَلَى طَهَارَةٍ تَحِلُّ بِهَا الصَّلَاةُ وَانْتَقَضَتْ وَأَرَادَ الْوُضُوءَ (أَنْ يَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ) وَمِثْلُهُمَا الْجَوْرَبَانِ وَالْجَوْرَبُ مَا وُضِعَ عَلَى شَكْلِ الْخُفِّ مِنْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ وَجِلْدٍ ظَاهِرُهُ وَهُوَ مَا يَلِي السَّمَاءَ وَبَاطِنُهُ وَهُوَ مَا يَلِي الْأَرْضَ (فِي) زَمَنِ (الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ) الْمُبَاحِ وَغَيْرِهِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ الرُّخْصَةَ الَّتِي تُبَاحُ فِي الْحَضَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ فِعْلِهَا فِي السَّفَرِ إبَاحَةٌ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَلَا يَتَقَيَّدُ زَمَانُ الْمَسْحِ عَلَيْهِمَا بِزَمَنٍ خَاصٍّ بِحَيْثُ يَجِبُ نَزْعُهُمَا بِانْقِضَائِهِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا وَلَوْ طَالَ الزَّمَنُ وَلَمْ يَحْصُلْ لَهُ مُوجِبُ غَسْلٍ (مَا لَمْ يَنْزِعْهُمَا) أَوْ أَحَدَهُمَا مِنْ غَيْرِ مُبَادَرَةٍ إلَى غَسْلِ رِجْلِهِ عَلَى حُكْمِ الْمُوَالَاةِ فَتَبْطُلُ طَهَارَتُهُ، وَإِذَا تَوَضَّأَ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا فِي ذَلِكَ الْوُضُوءِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَزَعَهُمَا أَوْ أَحَدَهُمَا بَادَرَ لِلْأَسْفَلِ كَالْمُوَالَاةِ النَّاسِي يَبْنِي مُطْلَقًا وَالْعَاجِزُ وَالْعَامِدُ حَيْثُ لَا طُولَ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ الْمَسْحِ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: حَدَّثَنِي سَبْعُونَ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ لَا يَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ» وَإِنَّمَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَرَخَّصَ فِيهِ لِمَا يَلْحَقُ الشَّخْصَ مِنْ الْمَشَقَّةِ عِنْدَ خَلْعِهِ فِي كُلِّ طَهَارَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ تَجْدِيدِ مَسْحِهِ بِغَايَةٍ خَبَرُ: «إذَا أَدْخَلْت رِجْلَيْك فِي الْخُفَّيْنِ وَهُمَا طَاهِرَتَانِ فَامْسَحْ عَلَيْهِمَا مَا لَمْ تَنْزِعْهُمَا» وَهَذَا هُوَ الْمَحْفُوظُ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَهَذَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ نَزْعِهِمَا فِي كُلِّ جُمُعَةٍ لِغَسْلِهَا. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْخُفَّيْنِ بَلْ مِثْلُهُمَا الْجُرْمُوقَانِ وَهُمَا خُفَّانِ غَلِيظَانِ لَا سَاقَيْنِ لَهُمَا، وَالْجَوْرَبَانِ وَهُمَا عَلَى شَكْلِ الْخُفِّ إلَّا أَنَّهُمَا مِنْ نَحْوِ قُطْنٍ أَوْ غَيْرِهِ وَجِلْدٍ ظَاهِرُهُمَا وَبَاطِنُهُمَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا مَفْهُومَ لِمَا ذَكَرْنَا أَيْضًا مِنْ اتِّخَاذِ الْمَلْبُوسِ فِي كُلِّ رِجْلٍ بَلْ لَوْ لَبِسَ فِي كُلِّ رِجْلٍ خُفَّيْنِ أَوْ جَوْرَبَيْنِ أَوْ لَبِسَ صُحُفًا فَوْقَ جَوْرَبٍ أَوْ لَبِسَ فِي رِجْلٍ ثَلَاثَةً وَفِي رِجْلٍ أَقَلَّ حَيْثُ لَبِسَ الْأَعْلَى عَلَى طُهْرٍ كَالْأَسْفَلِ لَا إنْ لَبِسَ الْأَسْفَلَيْنِ عَلَى طُهْرٍ ثُمَّ أَحْدَثَ ثُمَّ لَبِسَ الْأَعْلَيَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَلَيْسَ لَهُ الْمَسْحُ عَلَى الْأَعْلَيَيْنِ (وَذَلِكَ) أَيْ جَوَازُ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ مَشْرُوطٌ بِمَا (إذَا أَدْخَلَ) الْمَاسِحُ (فِيهِمَا رِجْلَيْهِ بَعْدَ أَنْ غَسَلَهُمَا فِي وُضُوءٍ) أَوْ غُسْلٍ يَرْتَفِعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فَوْقِ الْخُفِّ مِنْ طَرَفِ الْأَصَابِعِ وَيَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ تَحْتِ ذَلِكَ، ثُمَّ يَذْهَبَ بِيَدَيْهِ إلَى حَدِّ الْكَعْبَيْنِ، وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِالْيُسْرَى وَيَجْعَلُ يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ فَوْقِهَا وَالْيُمْنَى مِنْ أَسْفَلِهَا وَلَا يَمْسَحُ عَلَى طِينٍ فِي أَسْفَلِ خُفِّهِ أَوْ رَوْثِ دَابَّةٍ حَتَّى يُزِيلَهُ بِمَسْحٍ أَوْ غَسْلٍ وَقِيلَ يَبْدَأُ فِي مَسْحِ أَسْفَلِهِ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ لِئَلَّا يَصِلَ إلَى عَقِبِ خُفِّهِ شَيْءٌ مِنْ رُطُوبَةِ   [الفواكه الدواني] بِهِ الْحَدَثُ الْأَكْبَرُ وَالْأَصْغَرُ بِحَيْثُ (تَحِلُّ بِهِ الصَّلَاةُ) وَتَعْبِيرُهُ بِالْغُسْلِ يُؤْخَذُ مِنْهُ اشْتِرَاطُ لُبْسِهِمَا عَلَى طَهَارَةٍ وَكَوْنِهَا مَائِيَّةً، وَيُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: تَحِلُّ بِهِ الصَّلَاةُ أَنَّهُ لَبِسَهُمَا بَعْدَ كَمَالِهِمَا، وَزِيدَ رَابِعٌ وَهُوَ أَنْ لَا يَكُونَ عَاصِيًا بِلُبْسِهِ كَالْمُحْرِمِ الَّذِي لَمْ يَضْطَرَّ، وَخَامِسٌ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لُبْسُهُمَا لِضَرُورَةِ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ خَوْفِ عَقَارِبَ أَوْ لِدَفْعِ مَشَقَّةِ النَّزْعِ عِنْدَ الْوُضُوءِ أَوْ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَوْ لِعَادَةٍ كَكَوْنِهِ مِنْ الْجُنْدِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنْ نَحْوِ الْقُضَاةِ لَا إنْ لَبِسَهُمَا لِلتَّرَفُّهِ وَالْعَظَمَةِ أَوْ فَعَلَ فِي رِجْلَيْهِ حِنَّاءَ مَثَلًا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَبِسَهُ لِيَمْسَحَ لِئَلَّا تَزُولَ بِالْغَسْلِ فَلَا يَمْسَحُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الشُّرُوطَ أَحَدَ عَشَرَ، خَمْسَةٌ فِي الْمَاسِحِ وَقَدْ عَلِمْتهَا وَأَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: بِطَهَارَةِ مَاءٍ كَمَّلْت بِلَا تَرَفُّهٍ وَعِصْيَانٍ بِلُبْسِهِ أَوْ سَفَرٍ عَلَى مُسَامَحَةٍ فِي السَّفَرِ، وَسِتَّةٌ فِي الْمَمْسُوحِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ جِلْدًا طَاهِرًا مَخْرُوزًا سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ فَلَوْ نَقَصَ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ مَخْرُوقًا قَدْرَ ثُلُثِ الْقَدَمِ لَا أَقَلَّ إنْ الْتَصَقَ وَأَنْ يُمْكِنَ تَتَابُعُ الْمَشْيِ بِهِ، وَالسَّادِسُ أَنْ لَا يَكُونَ عَلَى الْخُفِّ حَائِلٌ فَإِنْ مَسَحَ فَوْقَ الْحَائِلِ كَانَ كَمَنْ تَرَكَ مَسْحَهُ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ بِأَعْلَاهُ وَيُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ إنْ كَانَ بِأَسْفَلِهِ. (فَهَذَا) الَّذِي أَدْخَلَ رِجْلَيْهِ فِي الْخُفَّيْنِ الْمَوْصُوفَيْنِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ هُوَ (الَّذِي إذَا أَحْدَثَ) بَعْدَ تِلْكَ الطَّهَارَةِ حَدَثًا أَصْغَرَ (وَتَوَضَّأَ مَسَحَ عَلَيْهِمَا) وَمَعْنَى تَوَضَّأَ أَرَادَ أَنْ يَتَوَضَّأَ يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا (وَإِلَّا) بِأَنْ أَدْخَلَهُمَا عَلَى غَيْرِ طَهَارَةٍ أَوْ عَلَى طَهَارَةٍ تُرَابِيَّةٍ أَوْ مَائِيَّةٍ نَاقِصَةٍ بِأَنْ لَبِسَهُمَا بَعْدَ غَسْلِ رِجْلَيْهِ مُنَكِّسًا أَوْ كَانَ مُتَرَفِّهًا بِلُبْسِهِ أَوْ لَمْ يَكُنْ الْخُفُّ جِلْدًا (فَلَا) يَمْسَحُ عَلَيْهِمَا إذَا أَرَادَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ الْمَسْحِ فَقَالَ: (وَصِفَةُ الْمَسْحِ) عَلَى الْخُفَّيْنِ الْكَامِلَةُ (أَنْ يَجْعَلَ) الْمَاسِحُ (يَدَهُ الْيُمْنَى) حَالَ الْمَسْحِ عَلَى ظَهْرِ رِجْله الْيُمْنَى (مِنْ فَوْقِ الْخُفِّ) مُبْتَدِئًا (مِنْ طَرَفِ) بِتَحْرِيكِ الرَّاءِ (الْأَصَابِعِ) مِنْ رِجْلِهِ الْيُمْنَى (وَ) يَجْعَلُ (يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ تَحْتِ ذَلِكَ) الْمَوْضِعِ الَّذِي بَدَأَ مِنْهُ (ثُمَّ) بَعْدَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ (يَذْهَبُ) أَيْ يَمُرُّ (بِيَدَيْهِ) مَاسِحًا (إلَى حَدِّ) أَيْ مُنْتَهَى (الْكَعْبَيْنِ) أَيْ النَّاتِئَيْنِ بِطَرَفِ السَّاقَيْنِ وَيُدْخِلُهُمَا فِي الْمَسْحِ كَمَا يُدْخِلُهُمَا فِي غَسْلِ الْوُضُوءِ لِأَنَّ الْمَسْحَ بَدَلٌ عَنْ الْغَسْلِ، وَيُكْرَهُ تَتَبُّعُ غُضُونِهِ وَهِيَ تَجْعِيدَاتِهِ لِأَنَّ الْمَسْحَ مَبْنِيٌّ عَلَى التَّخْفِيفِ وَيَكُونُ الْمَسْحُ مَرَّةً وَاحِدَةً فَلَا يُكَرِّرُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ غَسْلُهُ وَتَكْرَارُهُ وَتَتَبُّعُ غُضُونِهِ. (وَكَذَلِكَ يَفْعَلُ بِ) رِجْلِهِ (الْيُسْرَى) مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْيُمْنَى مِنْ الْبُدَاءَةِ مِنْ طَرَفِ الْأَصَابِعِ وَالْمُرُورِ بِالْيَدَيْنِ إلَى آخِرِ الْكَعْبَيْنِ. (وَ) لَكِنْ هُنَا (يَجْعَلُ يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ فَوْقِهَا وَ) يَجْعَلُ (الْيُمْنَى مِنْ أَسْفَلِهَا) عَكْسُ وَضْعِهِمَا عِنْدَ مَسْحِ الْيُمْنَى لِأَنَّهُ أَمْكَنُ وَهَذَا قَوْلُ مُطَرِّفٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ، وَقَالَ ابْنُ شَبْلُونَ: الْوَضْعُ فِي مَسْحِ الْيُسْرَى كَالْوَضْعِ فِي مَسْحِ الْيُمْنَى عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَصَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَوَضَعَ يُمْنَاهُ عَلَى طَرَفِ أَصَابِعِهِ وَيُسْرَاهُ تَحْتَهَا وَيُمِرُّهُمَا لِكَعْبَيْهِ، وَهَلْ الْيُسْرَى كَذَلِكَ أَوْ الْيُسْرَى فَوْقَهَا تَأْوِيلَانِ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُؤَلِّفُ مِنْ طَلَبِ الْجَمْعِ بَيْنَ مَسْحِ أَعْلَى الْخُفِّ وَأَسْفَلِهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا عَلَى أَقْوَالٍ: مَشْهُورُهَا يَجِبُ مَسْحُ الْأَعْلَى وَيُسْتَحَبُّ مَسْحُ الْأَسْفَلِ، وَقِيلَ: مَسْحُ الْأَسْفَلِ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَبَطَلَتْ إنْ تَرَكَ أَعْلَاهُ لَا أَسْفَلَهُ فَفِي الْوَقْتِ وَتَرْكُ الْبَعْضِ كَتَرْكِ الْكُلِّ 1 - الثَّانِي: إذَا جَفَّتْ يَدُهُ فِي حَالِ الْمَسْحِ فِي أَثْنَاءِ الرِّجْلِ كَمَا مَسَحَهَا بِغَيْرِ تَجْدِيدٍ وَجَدَّدَ لِلرِّجْلِ الْأُخْرَى، وَلَيْسَ مَسْحُ الْخُفَّيْنِ كَمَسْحِ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ فِي وُجُوبِ التَّجْدِيدِ لَهُ وَلَوْ جَفَتْ يَدُهُ فِي أَثْنَائِهِ، لِأَنَّ الرَّأْسَ هُوَ الْمُطَهَّرُ فَيَحَبُّ أَنْ يُجَدِّدَ لَهُ الْمَاءَ، بِخِلَافِ الْخُفِّ فَإِنَّهُ لَيْسَ الْمُطَهَّرَ وَإِنَّمَا الْمُطَهَّرُ الرِّجْلُ فَلَا مَعْنَى لِإِيصَالِ الْمَاءِ إلَى مَحَلٍّ لَا يَتَطَهَّرُ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الشَّارِعُ نَقْلَ الْمَاءِ إلَيْهِ أَوْ أَنَّ تَجْدِيدَ الْمَاءِ لِلْخُفِّ يُؤَدِّي إلَى إتْلَافِهِ وَإِضَاعَةُ الْمَالِ مَنْهِيُّ عَنْهَا. الثَّالِثُ: قَالَ الْجُزُولِيُّ: يُطْلَبُ مِنْ الْمَاسِحِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ مَسْحِ يُمْنَاهُ غَسْلُ يَدِهِ الْيُسْرَى الَّتِي مَسَحَ بِهَا أَسْفَلَ خُفِّهِ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَنُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بِهَا مَا يُنَجِّسُ خُفَّ الْيُسْرَى وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ عَدَمُ الْحَائِلِ قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَمْسَحَ عَلَى طِينٍ فِي أَسْفَلِ) أَوْ أَعْلَى (خُفِّهِ أَوْ) أَيْ وَلَا عَلَى (رَوْثِ دَابَّةٍ) كَالْفَرَسِ وَالْحِمَارِ (حَتَّى يُزِيلَهُ بِمَسْحٍ) وَلَوْ بِطِينٍ أَوْ خِرْقَةٍ تُزِيلُ الْعَيْنَ. (أَوْ غَسْلٍ) لِيَقَعَ الْمَسْحُ عَلَى الْخُفِّ الطَّاهِرِ، وَإِنَّمَا اُكْتُفِيَ هُنَا بِالْمَسْحِ الْمُزِيلِ لِلْعَيْنِ رِفْقًا بِصَاحِبِ الْخُفِّ فَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُعْفَى عَنْهُ لِعُسْرِ الِاحْتِرَازِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْمَعْفُوَّاتِ: وَخُفٌّ وَنَعْلٌ مِنْ رَوْثِ دَوَابَّ وَبَوْلِهَا إنْ دَلْكًا لَا غَيْرَهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ تَكْثُرُ فِيهِ الدَّوَابُّ، وَأَفْهَمَ كَلَامُهُ أَنَّ غَيْرَ الطِّينِ وَالرَّوْثِ الْمَذْكُورِ كَبَوْلٍ أَوْ عُذْرَةِ الْآدَمِيِّ لَا يَكْفِي فِيهِ الْمَسْحُ، بَلْ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ غَسْلِهِ بِالْمَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 مَا مَسَحَ مِنْ خُفَّيْهِ مِنْ الْقَشَبِ، وَإِنْ كَانَ فِي أَسْفَلِهِ طِينٌ فَلَا يَمْسَحُ عَلَيْهِ حَتَّى يُزِيلَهُ.   [الفواكه الدواني] الْمُطْلَقِ حَيْثُ يَصِحُّ الْمَسْحُ عَلَيْهِ، فَإِنْ مَسَحَ عَلَى الطِّينِ أَوْ الرَّوْثِ فَإِنْ كَانَ بِأَعْلَى الْخُفِّ كَانَتْ صَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ وَلَوْ كَانَ الْحَائِلُ طَاهِرًا لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ أَعْلَاهُ، وَإِنْ كَانَ بِأَسْفَلِهِ فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إنْ كَانَ الْحَائِلُ طِينًا، وَإِنْ كَانَ رَوْثًا نَجِسًا أَعَادَ أَبَدًا مَعَ الْعَمْدِ وَفِي الْوَقْتِ مَعَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ، وَبِمَا ذَكَرْنَا عَلِمْت أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِأَسْفَلِ الْخُفِّ وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ نَحْوَ الطِّينِ وَالرَّوْثِ إنَّمَا يُصِيبَانِ الْأَسْفَلَ. وَأَشَارَ إلَى صِفَةٍ أُخْرَى لِلْمَسْحِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ يَبْدَأُ فِي مَسْحِ أَسْفَلِهِ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) مُنْتَهِيًا (إلَى أَطْرَافِ الْأَصَابِعِ) وَالْمَوْضُوعُ أَنَّهُ يَضَعُ يُمْنَاهُ عَلَى ظَهْرِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى وَالْيُسْرَى فِيهَا الْخِلَافُ السَّابِقُ، وَعِلَّةُ الِابْتِدَاءِ فِي مَسْحِ أَسْفَلِهِ مِنْ الْكَعْبَيْنِ (لِئَلَّا يَصِلَ إلَى عَقِبِ خُفِّهِ شَيْءٌ مِنْ رُطُوبَةِ مَا مَسَحَ مِنْ خُفَّيْهِ مِنْ الْقَشَبِ) إنْ ابْتَدَأَ مِنْ طَرَفِ الْأَصَابِعِ وَسَكَتَ عَنْ ابْتِدَاءِ الْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ مِنْ طَرَفِ الْأَصَابِعِ كَالصِّفَةِ الْأُولَى. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: فِي صِفَةِ الْمَسْحِ أَقْوَالٌ: إمَّا يَبْدَأُهُمَا مَعًا مِنْ الْأَصَابِعِ إلَى الْكَعْبَيْنِ أَوْ يَبْدَأهُمَا مَعًا مِنْ الْكَعْبَيْنِ إلَى الْأَصَابِعِ، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِأَعْلَى الْخُفِّ مِنْ الْأَصَابِعِ، وَأَسْفَلُهُ مِنْ الْكَعْبَيْنِ إلَى الْأَصَابِعِ، وَلَفْظُ ابْنِ عَرَفَةَ: وَفِي صِفَتِهِ بَعْدَ زَوَالِ طِينِهِ سِتٌّ الْكَافِي وَكَيْفَمَا مَسَحَ أَجْزَأَهُ فَلَا نُطِيلُ بِبَسْطِ بَاقِي الصِّفَاتِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَإِنْ كَانَ فِي أَسْفَلِهِ أَوْ أَعْلَاهُ طِينٌ) أَوْ نَحْوُهُ (فَلَا يَمْسَحُ) عَلَى الْخُفِّ (حَتَّى يُزِيلَهُ) فَهُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَمْسَحُ عَلَى طِينٍ فِي أَسْفَلِ خُفِّهِ حَتَّى يُزِيلَهُ بِمَسْحٍ أَوْ غَسْلٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ إنْ مَسَحَ عَلَيْهِ يَكُونُ كَتَرْكِ الْمَسْحِ فَيَبْطُلُ إنْ كَانَ بِأَعْلَاهُ وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إنْ كَانَ بِأَسْفَلِهِ 1 - (تَنْبِيهٌ) : يَنْتَهِي حُكْمُ الْمَسْحِ بِحُصُولِ مُوجِبِ غُسْلٍ كَحَيْضٍ أَوْ جَنَابَةٍ وَبِخَرْقٍ كَبِيرٍ وَهُوَ قَدْرُ ثُلُثِ الْقَدَمِ أَوْ دُونِهِ إنْ انْفَتِحْ بِحَيْثُ يَصِلُ الْبَلَلُ إلَى الرِّجْلِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نَزْعُ خُفَّيْهِ مَعًا وَيَغْسِلُ رِجْلَيْهِ وَلَا يُعِيدُ الْوُضُوءَ وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ بَطَلَتْ، وَمِثْلُ خَرْقٍ كَبِيرٍ نَزْعُ أَكْثَرِ قَدَمِ رِجْلِهِ عَلَى مَا قَالَ فِي الْجَلَّابِ وَالْإِرْشَادِ وَشَهَّرَهُ فِي الْمُعْتَمَدِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: وَبِنَزْعِ أَكْثَرِ رِجْلٍ لِسَاقِ خُفِّهِ لَا الْعَقِبِ وَإِنْ كَانَ الْمَفْهُومُ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافَهُ، وَإِنْ نَزَعَ أَكْثَرَ الرِّجْلَ لَا يَضُرُّ وَإِنَّمَا الْمُضِرُّ إخْرَاجُ كُلِّ الرِّجْلِ. قَالَ فِيهَا: وَإِنْ أَخْرَجَ جَمِيعَ قَدَمِهِ إلَى سَاقِ خُفِّهِ وَكَانَ قَدْ مَسَحَ عَلَيْهِمَا غَسَلَ مَكَانَهُ فَإِنْ أَخَّرَ ذَلِكَ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا يُفْهَمُ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ مُقَدَّمٌ عَلَى تَشْهِيرِ صَاحِبِ الْمُعْتَمَدِ اُنْظُرْ الْأُجْهُورِيَّ عَلَى خَلِيلٍ. 1 - (خَاتِمَةٌ) لِأَبْوَابِ الطَّهَارَةِ الْبَدَلِيَّةِ: لَمْ يَتَعَرَّضْ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فِي رِسَالَتِهِ إلَى مَسْحِ الْجَبَائِرِ مَعَ أَنَّ بَيَانَهَا أَهَمُّ مِنْ غَيْرِهَا. وَمُحَصَّلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَلَى وَجْهِ الِاخْتِصَارِ أَنَّ الْمَوْضِعَ الْمَجْرُوحَ أَوْ الَّذِي يَتَأَلَّمُ صَاحِبُهُ بِمَسِّهِ وَلَمْ يَكُنْ مَجْرُوحًا إنْ خَافَ بِغَسْلِهِ مَرَضًا أَوْ زِيَادَتَهُ أَوْ تَأَخُّرَ بُرْءٍ كَالْخَوْفِ الْمُجَوِّزِ لِلتَّيَمُّمِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ عَلَيْهِ وُجُوبًا إنْ خَافَ هَلَاكًا، أَوْ شَدِيدَ أَذًى وَنَدْبًا إنْ خَشِيَ دُونَ ذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مُبَاشَرَتَهُ بِالْمَسْحِ مَسَحَ عَلَى جَبِيرَتِهِ وَهُوَ الدَّوَاءُ الَّذِي يُجْعَلُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مَسَحَ عَلَى الْخِرْقَةِ وَلَوْ انْتَشَرَتْ وَخَرَجَتْ عَنْ مَحَلِّهِ حَيْثُ اُحْتِيجَ إلَى ذَلِكَ وَلَا يُشْتَرَطُ لُبْسُهَا عَلَى طَهَارَةٍ، وَمِثْلُ الْجُرْحِ الرَّمَدُ فَلَا يَتَيَمَّمُ الْأَرْمَدُ بِحَالٍ بَلْ يَمْسَحُ وَلَوْ عَلَى الرَّفْرَافِ، وَهَذَا كُلُّهُ إنْ صَحَّ جُلُّ جَمِيعِ جَسَدِهِ إنْ كَانَ حَدَثُهُ أَكْبَرَ أَوْ جُلُّ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ إنْ كَانَ أَصْغَرَ. وَالْمُرَادُ بِالْجُلِّ مَا فَوْقَ الْأَقَلِّ فَالنِّصْفِ مِنْ الْجُلِّ أَوْ أَقَلُّ الصَّحِيحِ وَهُوَ أَكْثَرُ مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، وَالْحَالُ أَنَّ غَسْلَ الصَّحِيحِ لَا يَضُرُّ الْجَرِيحَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَغْسِلُ الصَّحِيحَ وَيَمْسَحُ عَلَى الْجَرِيحِ، وَأَمَّا لَوْ عَمَّتْ الْجِرَاحَاتُ جَمِيعَ الْجَسَدِ أَوْ أَعْضَاءَ الْوُضُوءِ أَوْ كَانَ غَسْلُ الصَّحِيحِ يَضُرُّ الْجَرِيحَ أَوْ أَقَلَّ الصَّحِيحِ جِدًّا بِأَنْ كَانَ كَيَدٍ أَوْ رِجْلٍ وَلَوْ لَمْ يَضُرَّ غَسْلُ الصَّحِيحِ الْجَرِيحَ فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ. قَالَ خَلِيلٌ: إنْ خِيفَ غَسْلُ جُرْحٍ كَالتَّيَمُّمِ مَسَحَ ثُمَّ جَبِيرَتَهُ ثُمَّ عِصَابَتَهُ إنْ صَحَّ جُلُّ جَسَدِهِ أَوْ أَقَلُّهُ وَلَمْ يَضُرَّ غَسْلُهُ وَإِلَّا فَفَرْضُهُ التَّيَمُّمُ كَأَنْ قَلَّ جِدًّا كَيَدٍ فَلَوْ تَحَمَّلَ الْمَشَقَّةَ وَغَسَلَ الْجَمِيعَ أَجْزَأَ، بِخِلَافِ لَوْ غَسَلَ الصَّحِيحَ وَمَسَحَ عَلَى الْجَرِيحِ فَلَا يُجْزِئُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ وَلَا بِالْبَدَلِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ عِنْدَ إمْكَانِ مَسِّ الْجِرَاحَاتِ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ، وَأَمَّا لَوْ تَعَذَّرَ مَسُّهَا بِسَائِرِ الْوُجُوهِ بِأَنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَسَّهَا لَا بِالْمَاءِ وَلَا بِالتُّرَابِ لَا مُبَاشَرَةً وَلَا بِحَائِلٍ، فَإِنْ كَانَتْ بِأَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ سَقَطَ مَحَلُّهَا وَيَفْعَلُ مَا سِوَاهَا مِنْ غَسْلٍ أَوْ مَسْحٍ فِي الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بِغَيْرِ أَعْضَاءِ التَّيَمُّمِ فَأَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ: يَتَيَمَّمُ مُطْلَقًا، يَغْسِلُ الصَّحِيحَ مُطْلَقًا، ثَالِثُهَا: يَتَيَمَّمُ إنْ كَثُرَتْ الْجِرَاحَاتُ وَيَغْسِلُ مَا سِوَاهَا إنْ قَلَّتْ وَكَثُرَ الصَّحِيحُ؛ وَالرَّابِعُ: يَجْمَعُهَا وَيُقَدِّمُ الْغُسْلَ وَيُؤَخِّرُ التَّيَمُّمَ لِيَتَّصِلَ بِالصَّلَاةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْوَسِيلَةِ وَهِيَ الطَّهَارَةُ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهَا: أَصْلِيَّةٌ وَبَدَلِيَّةٌ عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَقْصِدِهَا وَهُوَ الصَّلَاةُ مُبْتَدِئًا بِأَوْقَاتِهَا لِأَنَّهَا سَبَبٌ لِوُجُوبِهَا وَالسَّبَبُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمُسَبَّبِ بِقَوْلِهِ:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 بَابٌ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَأَسْمَائِهَا أَمَّا صَلَاةُ الصُّبْحِ فَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ فَأَوَّلُ وَقْتِهَا انْصِدَاعُ الْفَجْرِ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي أَوْقَات الصَّلَاة وَأَسْمَائِهَا] بَابٌ فِي بَيَانِ مَعْرِفَةِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَالْأَوْقَاتُ جَمْعُ وَقْتٍ وَهُوَ الزَّمَانُ الْمُقَدَّرُ لِلْمُؤَدِّي شَرْعًا مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَ مُوَسَّعًا كَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ أَوْ مُضَيَّقًا كَأَوْقَاتِ الصَّوْمِ فَإِنَّهَا مُضَيَّقَةٌ بِاعْتِبَارِ الْفِعْلِ لِأَنَّهُ بِمَجِيءِ زَمَنِهِ لَا يَتَأَخَّرُ عَنْهُ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ يَجُوزُ تَأْخِيرُهَا إلَى أَثْنَاءِ الْوَقْتِ، وَالزَّمَانُ لُغَةً الْمُدَّةُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ، وَاصْطِلَاحًا مُقَارَنَةُ مُتَجَدِّدٍ مَوْهُومٍ لِمُتَجَدِّدٍ مَعْلُومٍ إزَالَةً لِلْإِبْهَامِ مِنْ الْأَوَّلِ بِمُقَارَنَتِهِ لِلثَّانِي كَمَا آتِيك عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَالَ الْمَازِرِيُّ: إذَا اقْتَرَنَ خَفِيٌّ بِجَلِيٍّ سُمِّيَ الْجَلِيُّ زَمَانًا نَحْوَ: جَاءَ زَيْدٌ طُلُوعَ الشَّمْسِ، فَطُلُوعُ الشَّمْسِ زَمَانُ الْمَجِيءِ إذَا كَانَ الطُّلُوعُ مَعْلُومًا، وَالْمَجِيءُ خَفِيَا وَلَوْ خَفِيَ الطُّلُوعُ عَلَى ضَرِيرٍ أَوْ مَسْجُونٍ مَثَلًا وَقُلْت لَهُ: تَطْلُعُ الشَّمْسُ عِنْدَ مَجِيءِ زَيْدٍ لَكَانَ الْمَجِيءُ زَمَنَ الطُّلُوعِ. وَالصَّلَاةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ الدُّعَاءِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَيْهِ، هَذَا مَا عَلَيْهِ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ وَالْفُقَهَاءُ، وَقِيلَ مِنْ الصَّلَوَيْنِ وَهُمَا عِرْقَانِ، وَقِيلَ هُمَا عَظْمَاتُ يَنْحَنِيَانِ فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَقِيلَ مِنْ الرَّحْمَةِ فَهِيَ فِي اللُّغَةِ الدُّعَاءُ، وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قُرْبَةٌ فِعْلِيَّةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَسَلَامٍ أَوْ سُجُودٍ فَقَطْ، فَتَدْخُلُ سَجْدَةٌ لِتِلَاوَةٍ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ. وَفُرِضَتْ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ فِي السَّمَاءِ وَذَلِكَ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِسَنَةٍ، بِخِلَافِ سَائِرِ الشَّرَائِعِ فَإِنَّهَا فُرِضَتْ بِالْأَرْضِ وَفَرَضَهَا عَلَيْهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَلَى أُمَّتِهِ، وَفِي السَّمَاءِ دَلِيلٌ عَلَى مَزِيَّتِهَا عَلَى غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ فُرِضَتْ رَكْعَتَيْنِ وَزِيدَتْ أَوْ أَرْبَعًا وَهُوَ الْمَشْهُورُ ثُمَّ قُصِرَتْ قَوْلَانِ، وَكَانَ الْفَرْضُ قَبْلَ ذَلِكَ رَكْعَتَيْنِ بِالْغَدَاةِ وَرَكْعَتَيْنِ بِالْعَشِيِّ. وَفِي بَعْضِ شُرَّاحِ مِنْهَاجِ الشَّافِعِيَّةِ مَعْزُوًّا لِلرَّافِعِيِّ: أَنَّ الصُّبْحَ صَلَاةُ آدَمَ، وَالظُّهْرَ صَلَاةُ دَاوُد، وَالْعَصْرَ صَلَاةُ سُلَيْمَانَ، وَالْمَغْرِبَ لِيَعْقُوبَ، وَالْعِشَاءَ لِيُونُسَ، وَأَوْرَدَ خَبَرًا فِي ذَلِكَ، وَمَعْرِفَةُ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ وَاجِبَةٌ إجْمَاعًا عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ الْقَرَافِيِّ فَيَجُوزُ التَّقْلِيدُ فِيهَا وَعَلَى الْعَيْنِيَّةِ عِنْدَ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ، وَوُفِّقَ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ كَلَامِ صَاحِبِ الْمَدْخَلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ الدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ حَتَّى يَتَحَقَّقَ دُخُولَ وَقْتِهَا لِأَنَّهُ يَحْرُمُ التَّقْلِيدُ فِيهِ، وَقَدْ وَرَدَتْ فِي الْقُرْآنِ مُبْهَمَةً وَبَيَّنَتْهَا السُّنَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء: 78] الْآيَةَ، فَقَدْ دَلَّتْ الْآيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْقَاتٍ: الظُّهْرِ بِدُلُوكِهَا وَهُوَ مَيْلُهَا عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ، وَعَلَى الْعِشَاءِ بِغَسَقِ اللَّيْلِ، وَعَلَى الصُّبْحِ بِقُرْآنِ الْفَجْرِ، وَقِيلَ: دَلَّتْ عَلَى الْخَمْسِ فَدُلُوكُهَا عَلَى الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَغَسَقِ اللَّيْلِ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَقُرْآنِ الْفَجْرِ عَلَى الصُّبْحِ، وَقَالَ: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] إلَى قَوْلِهِ: {وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18] فَتُمْسُونَ دَلَّتْ عَلَى الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَتُصْبِحُونَ عَلَى الصُّبْحِ، وَعَشِيًّا عَلَى الْعَصْرِ، وَتُظْهِرُونَ عَلَى الظُّهْرِ. (وَ) فِي بَيَانِ مَعْرِفَةِ (أَسْمَائِهَا) لِأَنَّ مَعْرِفَتَهَا وَاجِبَةٌ كَمَعْرِفَةِ أَوْقَاتِهَا لِأَنَّ بِهَا يَقَعُ التَّمْيِيزُ، لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يُعَيِّنْ الصَّلَاةَ فِي نِيَّتِهِ كَانَتْ بَاطِلَةً وَوُجُوبُ الصَّلَاةِ مَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، فَالِاسْتِدْلَالُ عَلَى وُجُوبِهَا مِنْ بَابِ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ، فَجَاحِدُ وُجُوبِهَا أَوْ رُكُوعِهَا أَوْ سُجُودِهَا كَافِرٌ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةً أَيَّامٍ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ كَبَاقِي أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ 1 - وَشُرُوطُهَا ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ شَرْطٌ فِي وُجُوبِهَا فَقَطْ، وَقِسْمٌ شَرْطٌ فِي صِحَّتهَا فَقَطْ، وَالثَّالِثُ شَرْطٌ فِيهِمَا، فَالْأَوَّلُ اثْنَانِ: عَدَمُ الْإِكْرَاهِ عَلَى تَرْكِهَا وَالْبُلُوغُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَخَمْسَةٌ: طَهَارَةُ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَالِاسْتِقْبَالُ وَتَرْكُ الْكَثِيرِ مِنْ الْأَفْعَالِ وَسَتْرُ الْعَوْرَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَهُوَ سِتَّةٌ: قَطْعُ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَالْعَقْلُ وَبُلُوغُ الدَّعْوَةِ وَوُجُودُ الْمَاءِ أَوْ الصَّعِيدِ وَعَدَمُ النَّوْمِ وَالسَّهْوِ وَدُخُولُ الْوَقْتِ عَلَى قَوْلِ غَيْرِ الْقَرَافِيِّ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِهِ فَهُوَ سَبَبٌ يَلْزَمُ مِنْ وُجُودِهِ وُجُودُ خِطَابِ الْمُكَلَّفِ بِالصَّلَاةِ وَيَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ عَدَمُ خِطَابِهِ بِهَا، وَكَلَامُ الْقَرَافِيِّ هُوَ الظَّاهِرُ. وَكُلُّ صَلَاةٍ لَهَا وَقْتَانِ: أَدَاءٌ وَقَضَاءٌ، وَوَقْتُ الْأَدَاءِ ضَرُورِيٌّ وَاخْتِيَارِيٌّ، وَالِاخْتِيَارِيُّ إمَّا وَقْتُ فَضِيلَةٍ وَإِمَّا وَقْتٌ تَوْسِعَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ كُلِّ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ، وَبَدَأَ بِبَيَانِ وَقْتِ الصُّبْحِ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاةِ النَّهَارِ فَقَالَ: (أَمَّا صَلَاةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الْمُعْتَرِضِ بِالضِّيَاءِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ ذَاهِبًا مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ حَتَّى يَرْتَفِعَ فَيَعُمَّ الْأُفُقَ وَآخِرُ الْوَقْتِ الْإِسْفَارُ الْبَيِّنُ الَّذِي إذَا سَلَّمَ مِنْهَا بَدَا حَاجِبُ الشَّمْسِ وَمَا بَيْنَ هَذَيْنِ وَقْتٌ وَاسِعٌ وَأَفْضَلُ ذَلِكَ أَوَّلُهُ. وَوَقْتُ الظُّهْرِ إذَا زَالَتْ   [الفواكه الدواني] الصُّبْحِ) بِالْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ أَيْ الَّتِي هِيَ الصُّبْحُ (فَهِيَ الصَّلَاةُ الْوُسْطَى عِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ (وَهِيَ صَلَاةُ الْفَجْرِ) وَصَلَاةُ الْغَدَاةِ فَلَهَا أَرْبَعَةُ أَسْمَاءٍ: الصُّبْحُ وَالْوُسْطَى وَالْفَجْرُ وَالْغَدَاةُ، وَحِينَئِذٍ فَإِضَافَةُ صَلَاةٍ إلَى تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمُسَمَّى إلَى اسْمِهِ، فَالصَّلَاةُ هِيَ الْمُسَمَّى وَمَا بَعْدَهَا الِاسْمُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُجُوبِهَا عِنْدَ الصُّبْحِ، وَالصُّبْحُ وَالصَّبَاحُ هُوَ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْغَدَاةُ لِوُجُوبِهَا أَوَّلَ النَّهَارِ وَهُوَ يُسَمَّى غُدْوَةً وَغَدَاةً، وَسُمِّيَتْ وُسْطَى إمَّا لِتَوَسُّطِهَا بَيْنَ أَرْبَعٍ مُشْتَرِكَاتٍ: الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَالْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَهِيَ مُسْتَقْبِلَةٌ، وَقِيلَ مَعْنَى الْوُسْطَى الْفُضْلَى وَلِذَلِكَ حَثَّ اللَّهُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى} [البقرة: 238] مُشْتَقٌّ مِنْ الصَّبَاحِ هُوَ الْبَيَانُ لِأَنَّهَا تَجِبُ بِأَوَّلِ النَّهَارِ، وَأَمَّا حَرْفٌ فِيهِ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَالْفَاءُ الدَّاخِلَةُ عَلَى ضَمِيرِ الْفَصْلِ زَائِدَةٌ لِأَنَّ جَوَابَ الشَّرْطِ هُوَ قَوْلُهُ: (فَأَوَّلُ وَقْتِهَا) الْمُخْتَارُ (انْصِدَاعُ) أَيْ انْشِقَاقُ (الْفَجْرِ الْمُعْتَرِضِ) أَيْ الْمُنْتَشِرِ (بِالضِّيَاءِ فِي أَقْصَى) أَيْ أَبْعَدِ (الْمَشْرِقِ) وَيُقَالُ لَهُ الْفَجْرُ الصَّادِقُ، وَأَقْصَى الْمَشْرِقِ مَوْضِعُ طُلُوعِ الشَّمْسِ، وَقَوْلُهُ فِي أَقْصَى يُحْتَمَلُ تَعَلُّقُهُ بِانْصِدَاعِ فَيُفِيدُ أَنَّهُ يَطْلُعُ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ دَائِمًا وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَهُوَ يَطْلُعُ فِي مَوْضِعِ طُلُوعِهَا وَهُوَ تَارَةً أَقْصَى الْمَشْرِقِ وَذَلِكَ فِي غَيْرِ زَمَنِ الشِّتَاءِ وَتَارَةً إنَّمَا يَطْلُعُ مِنْ الْقِبْلَةِ وَذَلِكَ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ، فَالْأَحْسَنُ تَعَلُّقُهُ بِالْمُعْتَرِضِ أَيْ الْمُنْتَشِرِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ، وَهَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْهُ أَنَّهُ يَطْلُعُ دَائِمًا فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ، بَلْ يُفِيدُ أَنَّهُ يَطْلُعُ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ أَقْصَاهُ. وَإِيضَاحُ هَذَا أَنَّ الْفَجْرَ هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ وَلَا شَكَّ أَنَّهُ تَابِعٌ لَهَا سَوَاءٌ طَلَعَتْ مِنْ أَقْصَى الْمَشْرِقِ أَوْ مِنْ الْقِبْلَةِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَذْهَبُ مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِهَا، وَخَرَّجَ بِالْمُعْتَرِضِ بِالضِّيَاءِ الْفَجْرَ الْكَاذِبَ وَهُوَ الْبَيَاضُ الَّذِي يَصْعَدُ كَذَنَبِ السِّرْحَانِ دَقِيقًا غَيْرَ مُنْتَشِرٍ فَهَذَا لَا حُكْمَ لَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَجْرَ مَعْنَاهُ الْبَيَاضُ وَيَتَنَوَّعُ إلَى كَاذِبٍ وَصَادِقٍ وَكِلَاهُمَا مِنْ نُورِ الشَّمْسِ، إلَّا أَنَّ الْكَاذِبَ لَا يَنْتَشِرُ لِدِقَّتِهِ وَيَنْقَطِعُ بِالْكُلِّيَّةِ إذَا قَرُبَ زَمَنُ الصَّادِقِ، وَالصَّادِقُ يَنْتَشِرُ لِقُرْبِهَا وَيَعُمُّ الْأُفُقَ، وَالسِّرْحَانُ هُوَ الذِّئْبُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: وَهَذَا بَيَانٌ شَافٍ لِصِفَةِ الْفَجْرِ فَكَانَ فِي غُنْيَةٍ عَنْ قَوْلِهِ: (ذَاهِبًا) أَيْ بَارِزًا وَجَائِيًا (مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ) أَيْ مُقَابِلِهَا (حَتَّى يَرْتَفِعَ فَيَعُمَّ) أَيْ يَسُدَّ (الْأُفُقَ) وَالْمُرَادُ بِدُبُرِ الْقِبْلَةِ مُقَابِلُهَا. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: دُبُرُ الْأَمْرِ آخِرُهُ وَالْأُفُقُ بِضَمِّ الْفَاءِ وَسُكُونِهَا هُوَ مَا وَالَى الْأَرْضَ مِنْ أَطْرَافِ السَّمَاءِ، وَقِيلَ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَالْمُرَادُ بِكَوْنِهِ يَعُمُّ الْأُفُقَ أَيْ يَمْلَؤُهُ وَيَسُدُّهُ كَمَا بَيَّنَّا، ثُمَّ إنَّ فِي جَمْعِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ قَوْلِهِ أَوَّلًا: الْمُعْتَرِضُ بِالضِّيَاءِ فِي أَقْصَى الْمَشْرِقِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: ذَاهِبًا مِنْ الْقِبْلَةِ تَنَاقُضًا بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْمُعْتَرِضُ إلَخْ يَقْتَضِي أَنَّ الْفَجْرَ يَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَقَوْلُهُ ذَاهِبًا مِنْ الْقِبْلَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يَطْلُعُ مِنْ الْقِبْلَةِ لَا مِنْ الْمَشْرِقِ، وَقَوْلُهُ أَيْضًا: إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ يَقْتَضِي أَنَّ لِلْقِبْلَةِ دُبُرًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَافْتَرَقَ النَّاسُ فِي الْجَوَابِ فَمِنْ قَائِلٍ: إنَّ الْمُصَنِّفَ أَخَذَ يُبَيِّنُ الْفَجْرَ لِأَهْلِ الْمَغْرِبِ بِقَوْلِهِ ذَاهِبًا مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ الْجَوْفُ، أَوْ نَقُولُ ذَاهِبًا إلَى الْقِبْلَةِ وَإِلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ، فَمِنْ بِمَعْنَى إلَى لِأَنَّ حُرُوفَ الْجَرِّ يَنُوبُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَيَنْتَشِرُ فِي الْمَشْرِقِ حَتَّى إلَى الْقِبْلَةِ وَحَتَّى إلَى الْجَوْفِ، وَمِنْ قَائِلٍ يَقُولُ ذَاهِبًا مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ، وَقَالَ بَعْضٌ: الْمَعْنَى ذَاهِبًا مِنْ قِبْلَةِ النَّاظِرِ إلَيْهِ إلَى دُبُرِ النَّاظِرِ إلَيْهِ، فَبِهَذِهِ ثَلَاثُ تَأْوِيلَاتٍ قَالَ بَعْضٌ: أَبْيَنُهَا أَوَّلُهَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ مِنْ الْقِبْلَةِ إلَى دُبُرِ الْقِبْلَةِ أَنَّهُ يَنْتَشِرُ مِنْ مَبْدَأِ طُلُوعِهِ إلَى مُنْتَهَاهُ، فَالْمُرَادُ بِالدُّبْرِ الْآخِرُ لِأَنَّ دُبُرَ كُلِّ شَيْءٍ آخِرُهُ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْمَشْرِقِ تَارَةً وَبِالْقِبْلَةِ تَارَةً لَعَلَّهُ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمَشْرِقِ وَالْقِبْلَةِ مَا قَابَلَ الْمَغْرِبَ، لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْقِبْلَةِ وَالْمَشْرِقِ يُقَابِلَانِهِ عَلَى أَنَّهُ قِيلَ فِي مَذْهَبِنَا أَنَّ الْقِبْلَةَ إذَا أُغْمِيَتْ عَلَى الْمُصَلِّي وَجُعِلَ الْمَشْرِقُ أَمَامَهُ أَوْ الْمَغْرِبُ خَلْفُهُ يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا، لِأَنَّهُ إنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ يَكُونُ انْحِرَافًا يَسِيرًا، قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ، وَلَمَّا بَيَّنَ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ بَيَّنَ آخِرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَآخِرُ الْوَقْتِ) الِاخْتِيَارِيُّ لِلصُّبْحِ (الْإِسْفَارُ الْبَيِّنُ) أَيْ الْوَاضِحُ (الَّذِي إذَا سَلَّمَ مِنْهَا) فِيهِ (بَدَا) بِغَيْرِ هَمْزٍ لِأَنَّ الْمُرَادَ ظَهَرَ (حَاجِبُ الشَّمْسِ) أَيْ طَرَفُ قُرْصِهَا فَلَا ضَرُورِيَّ لَهَا، وَعَزَا هَذَا الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ لِابْنِ حَبِيبٍ، وَعَزَاهُ ابْنُ نَاجِي لِرِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ وَعِيَاضٍ لِكَافَّةِ الْعُلَمَاءِ وَأَئِمَّةِ الْفَتْوَى وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ مَالِكٍ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: عَلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرٍ: هُوَ الصَّحِيحُ عَنْ مَالِكٍ، وَقِيلَ آخِرُ وَقْتِهَا الْمُخْتَارُ الْإِسْفَارُ الْأَعْلَى وَهُوَ الَّذِي يُمَيِّزُ فِيهِ الشَّخْصُ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى وَمَا بَعْدَهُ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقْتٌ ضَرُورِيٌّ لَهَا كَمَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ وَأَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤَخَّرَ فِي الصَّيْفِ إلَى أَنْ يَزِيدَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ رُبُعُهُ بَعْدَ الظِّلِّ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَقِيلَ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ لِيُدْرِكَ النَّاسُ الصَّلَاةَ وَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ   [الفواكه الدواني] الْمُدَوَّنَةِ، وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَلِلصُّبْحِ مِنْ الْفَجْرِ الصَّادِقِ إلَى الْإِسْفَارِ الْأَعْلَى، وَدَلِيلُ الْأَوَّلِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُنَا مَا فِي مُسْلِمٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «وَقْتُ صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ» وَدَلِيلُ مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ خَبَرُ أَبِي دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: «وَصَلَّى بِي الصُّبْحَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي فَأَسْفَرَ» (وَمَا بَيْنَ هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ) أَيْ الطُّلُوعِ وَالْإِسْفَارِ (وَقْتٌ وَاسِعٌ) أَيْ يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ إيقَاعُ الصَّلَاةِ فِي أَيْ جُزْءٍ مِنْهُ، لِأَنَّ الْوَقْتَ الْمُخْتَارَ أَوَّلُهُ وَآخِرُهُ سَوَاءٌ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ إلَّا أَنْ يَظُنَّ الْمَوْتَ قَبْلَ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مُضَيِّقًا فِي حَقِّهِ وَيَعْصَى بِالتَّأْخِيرِ اتِّفَاقًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ مَاتَ وَسَطَ الْوَقْتِ بِلَا أَدَاءً لَمْ يَعْصَ إلَّا أَنْ يَظُنَّ الْمَوْتَ، وَإِذَا أَرَادَ التَّأْخِيرَ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ حَيْثُ لَا يَظُنُّ الْمَوْتَ فَقَالَ الْبَاجِيُّ: لَا حَرَجَ عَلَيْهِ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى الْأَدَاءِ فِي الْوَقْتِ، وَلِبَعْضٍ: يَجِبُ عَلَيْهِ الْعَزْمُ عَلَى الْأَدَاءِ دَاخِلَ الْوَقْتِ، وَلَمَّا كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَوْنِ جَمِيعِ الْوَقْتِ اخْتِيَارِيًّا التَّسَاوِي فِي الْفَضْلِ. قَالَ: (وَأَفْضَلُ ذَلِكَ) الْوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ لِلصُّبْحِ (أَوَّلُهُ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» وَخَبَرِ «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ بَلْ كُلُّ صَلَاةٍ الْأَفْضَلُ لِلْفَذِّ تَقْدِيمُهَا فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» . قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْأَفْضَلُ لِفَذٍّ تَقْدِيمُهَا مُطْلَقًا صُبْحًا أَوْ ظُهْرًا أَوْ غَيْرَهُمَا فِي صَيْفٍ أَوْ شِتَاءٍ، وَمِثْلُ الْفَذِّ الْجَمَاعَةُ الَّتِي لَا تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا وَكَذَلِكَ الَّتِي تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا حَيْثُ كَانَتْ الصَّلَاةُ غَيْرَ ظُهْرٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِأَوَّلِهِ الْمُبَادَرَةُ جِدًّا بِحَيْثُ لَا تُؤَخَّرُ أَصْلًا فَإِنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْخَوَارِجِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ عَدَمُ تَأْخِيرِهَا عَمَّا يَصْدُقُ عَلَيْهِ أَوَّلُ الْوَقْتِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُنْدَبُ التَّنَفُّلُ قَبْلَهَا حَيْثُ كَانَ يُنْدَبُ التَّنَفُّلُ قَبْلَهَا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَأَمَّا الصُّبْحُ أَوْ الْمَغْرِبُ فَيُشْرَعُ فِيهِمَا بَعْدَ فَرَاغِ الْأَذَانِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخِرُ الْوَقْتِ فِي الصُّبْحِ أَفْضَلُ لِمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلْأَجْرِ» وَدَلِيلُ مَالِكٍ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي الصُّبْحَ فَتَنْصَرِفُ النِّسَاءُ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ مَا يُعْرَفْنَ مِنْ الْغَلَسِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «مُتَلَفِّفَاتٍ» وَلَفْظُ كَانَ يَقْتَضِي الدَّوَامَ وَالِاسْتِمْرَارَ، وَالْغَلَسُ اخْتِلَاطُ ضِيَاءِ الصُّبْحِ بِظُلْمَةِ اللَّيْلِ، وَعَلَى هَذَا وَاظَبَ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَأَجَابُوا عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنْ لَا يُصَلِّيَ الصُّبْحَ حَتَّى يَتَحَقَّقَ طُلُوعَ الْفَجْرِ لِأَنَّ مُدْرَكَ الْفَجْرِ خَفِيٌّ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَسْفِرُوا بِالْفَجْرِ» وَلَمْ يَقُلْ أَسْفِرُوا بِالصَّلَاةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصُّبْحِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَهِيَ أَوَّلُ صَلَاةٍ صَلَّاهَا جِبْرِيلُ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: (وَ) أَمَّا أَوَّلُ (وَقْتِ الظُّهْرِ) الْمُخْتَارُ فَهُوَ (إذَا زَالَتْ) أَيْ مَالَتْ (الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَكَسْرِ الْبَاءِ أَوْ كَسْرِ الْكَافِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَسَطُ (السَّمَاءِ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ قَدْ (أَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ) إنْ كَانَ هُنَاكَ لِلزَّوَالِ ظِلٌّ أَوْ حَدَثَ إنْ كَانَ ذَهَبَ. قَالَ خَلِيلٌ: الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ لِلظُّهْرِ مِنْ زَوَالِ الشَّمْسِ لِآخِرِ الْقَامَةِ بِغَيْرِ ظِلِّ الزَّوَالِ، وَيُعْرَفُ الزَّوَالُ بِأَنْ يُنْصَبَ عُودٌ مُسْتَقِيمٌ فِي أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَإِذَا تَنَاهَى الظِّلُّ فِي النُّقْصَانِ أَوْ ذَهَبَ جُمْلَةً ثُمَّ شَرَعَ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ حَدَثَ بَعْدَ ذَهَابِهِ فَهَذَا هُوَ وَقْتُ الزَّوَالِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّمْسَ إذَا طَلَعَتْ يَظْهَرُ لِكُلِّ شَاخِصٍ ظِلٌّ فِي جَانِبِ الْمَغْرِبِ وَكُلَّمَا ارْتَفَعَتْ يَنْقُصُ، وَإِذَا وَصَلَتْ وَسَطَ السَّمَاءِ وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِوَاءِ وَقَفَ عَنْ النُّقْصَانِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، وَعِنْدَ الزَّوَالِ قَدْ يَبْقَى لِلْعُودِ ظِلٌّ قَلِيلٌ وَقَدْ لَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ الظِّلِّ وَذَلِكَ بِمَكَّةَ وَزُبَيْدٍ مَرَّتَيْنِ فِي السَّنَةِ وَبِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ مَرَّةً فِي السَّنَةِ وَهُوَ أَطْوَلُ يَوْمٍ فِيهَا، فَإِذَا مَالَتْ الشَّمْسُ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ لِجَانِبِ الْمَغْرِبِ يَتَحَوَّلُ الظِّلُّ إلَى جَانِبِ الْمَشْرِقِ وَيَأْخُذُ فِي الزِّيَادَةِ، فَعِنْدَ شُرُوعِهِ فِي الزِّيَادَةِ أَوْ حُدُوثِهِ فِي جِهَةِ الْمَشْرِقِ تَجِبُ صَلَاةُ الظُّهْرِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَأَخَذَ الظِّلُّ فِي الزِّيَادَةِ تَفْسِيرٌ لِلزَّوَالِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَقْتَ الَّذِي لَا يَزِيدُ فِيهِ الظِّلُّ وَلَا يَنْقُصُ أَوْ يُعْدَمُ أَصْلًا يُسَمَّى وَقْتَ الِاسْتِوَاءِ وَهَذَا لَا تُصَلَّى فِيهِ الظُّهْرُ لِأَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ وَقْتُهَا وَتَحِلُّ فِيهِ النَّافِلَةُ، فَإِذَا مَالَتْ إلَى أَوَّلِ دَرَجَاتِ انْحِطَاطِهَا فِي الْغُرُوبِ يَمِيلُ الظِّلُّ إلَى جِهَةِ الْمَشْرِقِ فَذَلِكَ هُوَ الزَّوَالُ، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ وَلَا يُعْرَفُ لِلنَّاظِرِ إلَّا بَعْدَ حُدُوثِ الظِّلِّ أَوْ شُرُوعِ الظِّلِّ فِي الزِّيَادَةِ فَلَا تُصَلَّى الظُّهْرُ وَلَا يُؤَذَّنُ لَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الظُّهْرِ تَأْتِي فِي حَالِ اشْتِغَالِ الْمُكَلَّفِ فِي أَمْرِ مَعَاشِهِ نَدَبَ الشَّارِعُ لَهُ تَأْخِيرَهَا وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تُؤَخَّرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ (فِي الصَّيْفِ) وَكَذَا فِي الشِّتَاءِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِأَنَّ الْعِلَّةَ الِاشْتِغَالُ فِي وَقْتِهَا وَهِيَ مَوْجُودَةٌ حَتَّى فِي الشِّتَاءِ وَيَنْتَهِي التَّأْخِيرُ. (إلَى أَنْ يَزِيدَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ رُبْعُهُ) وَتُعْتَبَرُ الزِّيَادَةُ (بَعْدَ الظِّلِّ الَّذِي زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 نَفْسِهِ فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لَهُ وَقِيلَ أَمَّا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَالْأَفْضَلُ لَهُ أَنْ يُبْرِدَ بِهَا وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» وَآخِرُ الْوَقْتِ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ بَعْدَ ظِلِّ نِصْفِ النَّهَارِ. وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَآخِرُهُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ بَعْدَ ظِلِّ نِصْفِ النَّهَارِ وَقِيلَ إذْ اسْتَقْبَلْت   [الفواكه الدواني] وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِهَا، بَلْ حَتَّى الْمُنْفَرِدُ يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّأْخِيرُ لِلظُّهْرِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ. (وَقِيلَ إنَّمَا يُسْتَحَبُّ ذَلِكَ) أَيْ تَأْخِيرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ إلَى رُبْعِ الْقَامَةِ فِي زَمَنِ الصَّيْفِ (فِي) حَقِّ أَهْلِ (الْمَسَاجِدِ) وَكَذَا كُلُّ جَمَاعَةٍ تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا بِدَلِيلِ التَّعْلِيلِ بِقَوْلِهِ: (لَيُدْرِكَ النَّاسُ) فَضْلَ (الصَّلَاةِ) فِي جَمَاعَةٍ (وَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ) وَمِثْلُهُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي لَا تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا (فَأَوَّلُ الْوَقْتِ أَفْضَلُ لَهُ) لِخَبَرِ: «أَوَّلُ الْوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَوَسَطُهُ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَآخِرُهُ عَفْو اللَّهِ» وَلَوْلَا تَقْيِيدُ كَلَامِهِ بِالصَّيْفِ لَكَانَ هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمُوَافِقًا لِمَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: الْأَفْضَلُ لِفَذٍّ تَقْدِيمُهَا مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ ظُهْرًا ثُمَّ قَالَ: وَالْأَفْضَلُ لِلْجَمَاعَةِ تَقْدِيمُ غَيْرِ الظُّهْرِ وَتَأْخِيرُهَا لِرُبْعِ الْقَامَةِ وَيُزَادُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ. (وَقِيلَ أَمَّا فِي شِدَّةِ الْحَرِّ فَالْأَفْضَلُ لَهُ) أَيْ لِمُرِيدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ (أَنْ يُبْرِدَ بِهَا وَإِنْ كَانَ وَحْدَهُ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ» أَيْ لَهَبِ نَارِ «جَهَنَّمَ» وَهَذَا الْقِيلُ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ نَدْبُ التَّأْخِيرِ وَلَوْ لِلْمُنْفَرِدِ فِي الصَّيْفِ خَاصَّةً، الثَّانِي النَّدْبُ لِأَهْلِ الْمَسَاجِدِ دُونَ الْمُنْفَرِدِ، الثَّالِثُ نَدْبُ التَّأْخِيرِ وَلَوْ لِلْمُنْفَرِدِ، وَكُلُّهَا مُخَالِفَةٌ لِخَلِيلٍ لِتَقْيِيدِهَا بِالصَّيْفِ وَشُمُولِ أَوَّلِهَا لِلْمُنْفَرِدِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرَّاجِحَ الْقَوْلُ بِاخْتِصَاصِ نَدْبِ تَأْخِيرِهَا لِرُبْعِ الْقَامَةِ بِكُلِّ جَمَاعَةٍ تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا وَلَوْ فِي الشِّتَاءِ، وَالْمُخْتَصُّ بِالصَّيْفِ إنَّمَا هُوَ بِاسْتِحْبَابِ التَّأْخِيرِ زِيَادَةً عَلَى رُبْعِ الْقَامَةِ فِي شِدَّةِ الْحَرِّ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَلِلْجَمَاعَةِ تَقْدِيمُ غَيْرِ الظُّهْرِ وَتَأْخِيرُهَا لِرُبْعِ الْقَامَةِ وَيُزَادُ لِشِدَّةِ الْحَرِّ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ» فَلَا يُنَافِي أَنَّ التَّأْخِيرَ لِرُبْعِ الْقَامَةِ وَلَوْ فِي الشِّتَاءِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى حَدِيثِ الْإِبْرَادِ حَدِيثُ «خَبَّابٍ: شَكَوْنَا إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَرَّ الرَّمْضَاءِ فِي أَكُفِّنَا وَجِبَاهِنَا فَلَمْ يُشْكِنَا» أَيْ لَمْ يُزِلْ شَكَوَانَا، فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُمْ طَلَبُوا الزِّيَادَةَ فِي التَّأْخِيرِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِبْرَادُ، وَالْمُرَادُ بِالْجَمَاعَةِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ الَّتِي تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا، وَأَمَّا الَّتِي لَا تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا فَهِيَ كَالْمُنْفَرِدِ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ التَّقْدِيمُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَوْ لِلظُّهْرِ، وَلَوْلَا تَقْيِيدُ الْمُصَنِّفِ التَّأْخِيرَ بِالصَّيْفِ لَكَانَ الْقَوْلُ الثَّانِي فِي كَلَامِهِ مُوَافِقًا لِلرَّاجِحِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ. (وَآخِرُ الْوَقْتِ) الْمُخْتَارُ لِلظُّهْرِ (أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ) قَصِيرٍ أَوْ طَوِيلٍ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ فِي الْأَرْضِ الْمُسْتَوِيَةِ. (مِثْلَهُ بَعْدَ) مُجَاوَزَةِ (ظِلِّ نِصْفِ النَّهَارِ) الَّذِي أَوَّلُهُ طُلُوعُ الشَّمْسِ وَآخِرُهُ الْغُرُوبُ، بِخِلَافِ النَّهَارِ فِي الصَّوْمِ فَإِنَّهُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَظِلُّ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِظِلِّ الزَّوَالِ سُمِّيَ بِذَلِكَ لِزَوَالِ الشَّمْسِ عَنْ وَسَطِ السَّمَاءِ بَعْدَهُ (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مِقْدَارَ ظِلِّ نِصْفِ النَّهَارِ، وَهُوَ مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِ الْأَشْهُرِ الْقِبْطِيَّةِ الَّتِي أَوَّلُهَا تُوتٌ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْدَامٍ، ثُمَّ يَلِيه بَابَهُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ سِتَّةُ أَقْدَامٍ، ثُمَّ يَلِيه هَاتُورُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ ثَمَانِيَةُ أَقْدَامٍ، ثُمَّ يَلِيه كِيَهْكُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ عَشَرَةُ أَقْدَامٍ، ثُمَّ يَلِيه طُوبَهُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ تِسْعَةٌ، ثُمَّ يَلِيه أَمْشِيرُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ سَبْعَةٌ، ثُمَّ يَلِيه بَرَمْهَاتُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ خَمْسَةٌ، ثُمَّ يَلِيه بَرْمُودَةُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ ثَلَاثَةٌ، ثُمَّ يَلِيه بَشَنْسُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ اثْنَانِ، ثُمَّ يَلِيه بَؤُونَةُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ وَاحِدٌ، ثُمَّ يَلِيه أَبِيبُ وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ وَاحِدٌ أَيْضًا، ثُمَّ يَلِيه مِسْرَى وَظِلُّ الزَّوَالِ فِيهِ قَدَمَانِ، هَكَذَا حَرَّرَهُ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَحْرِيرِ الدِّيرِينِيِّ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الظُّهْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الْعَصْرِ فَقَالَ: (وَأَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ) الْمُخْتَارُ هُوَ (آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ) وَهُوَ آخِرُ الْقَامَةِ الْأُولَى، فَتَكُونُ الْعَصْرُ دَاخِلَةٌ عَلَى الظُّهْرِ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ صِحَّةُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي آخِرِ الْقَامَةِ الْأُولَى، وَأَثِمَ مُؤَخِّرُ صَلَاةِ الظُّهْرِ اخْتِيَارًا إلَى أَوَّلِ الْقَامَةِ الثَّانِيَةِ لِأَنَّ بَيْنَهُمَا اشْتِرَاكًا بِقَدْرِ فِعْلِ أَحَدِهِمَا، وَقِيلَ: إنَّ وَقْتَ الِاشْتِرَاكِ فِي أَوَّلِ الْقَامَةِ الثَّانِيَةِ فَتَكُونُ الظُّهْرُ دَاخِلَةً عَلَى الْعَصْرِ وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْعَصْرِ فِي آخِرِ الْقَامَةِ الْأُولَى، وَعَدَمُ إثْمِ مَنْ أَخَّرَ الظُّهْرَ إلَى أَوَّلِ الْقَامَةِ الثَّانِيَةِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ فِي وَقْتِ الِاشْتِرَاكِ الْخِلَافُ فِي فَهْمِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ «فَصَلَّى بِي الظُّهْرَ مِنْ الْغَدِ حِينَ صَارَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَهُ» فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَى صَلَّى شَرَعَ فَتَكُونُ الظُّهْرُ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الْعَصْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ مَعْنَاهُ فَرَغَ فَتَكُونُ الْعَصْرُ هِيَ الدَّاخِلَةُ عَلَى الظُّهْرِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ زَمَنَ الِاشْتِرَاكِ اخْتِيَارِيٌّ لِلصَّلَاتَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ فِي آخِرِ الْقَامَةِ الْأُولَى أَوْ أَوَّلِ الثَّانِيَةِ. (وَآخِرُهُ) أَيْ وَقْتِ الْعَصْرِ الِاخْتِيَارِيِّ (أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ بَعْدَ) مُجَاوَزَةِ الظِّلِّ (نِصْفَ النَّهَارِ) وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ فِي الْمَذْهَبِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الْعَصْرِ الْمُخْتَارَ هُوَ آخِرُ وَقْتِ الظُّهْرِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ ذَكَرَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ) فِي تَحْدِيدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الشَّمْسَ بِوَجْهِك وَأَنْتَ قَائِمٌ غَيْرُ مُنَكِّسٍ رَأْسَك وَلَا مُطَأْطِئٍ لَهُ فَإِنْ نَظَرْت إلَى الشَّمْسِ بِبَصَرِك فَقَدْ دَخَلَ الْوَقْتُ وَإِنْ لَمْ تَرَهَا بِبَصَرِك فَلَمْ يَدْخُلْ الْوَقْتُ وَإِنْ نَزَلَتْ عَنْ بَصَرِك فَقَدْ تَمَكَّنَ دُخُولُ الْوَقْتِ وَاَلَّذِي وَصَفَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ الْوَقْتَ فِيهَا مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ. وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَهِيَ صَلَاةُ الشَّاهِدِ يَعْنِي الْحَاضِرَ يَعْنِي أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَقْصُرُهَا وَيُصَلِّيهَا كَصَلَاةِ الْحَاضِرِ فَوَقْتُهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ فَإِذَا تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ لَا تُؤَخَّرُ وَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُ. وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهَا غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ وَالشَّفَقُ الْحُمْرَةُ   [الفواكه الدواني] أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ الْمُخْتَارِ أَنَّك إذَا (اسْتَقْبَلْت الشَّمْسَ بِوَجْهِك وَأَنْتَ قَائِمٌ) حَالَةَ كَوْنِك (غَيْرَ مُنَكِّسٍ رَأْسَك وَلَا مُطَأْطِئٍ لَهُ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ. (فَإِنْ نَظَّرْت إلَى الشَّمْسِ) أَيْ قَابَلَتْهَا (بِبَصَرِك) بِحَيْثُ صَارَتْ قُبَالَةَ بَصَرِك لَا مَرْفُوعَةً وَلَا مَخْفُوضَةً. (فَقَدْ دَخَلَ الْوَقْتُ) الْمُخْتَارُ لِلْعَصْرِ (وَإِنْ لَمْ تَرَهَا بِبَصَرِك) لِكَوْنِهَا عَلَى غَايَةٍ مِنْ الِارْتِفَاعِ (فَ) تَعْلَمُ أَنَّهُ (لَمْ يَدْخُلْ الْوَقْتُ) الْمُخْتَارُ لِلْعَصْرِ (وَإِنْ نَزَلَتْ عَنْ بَصَرِك فَ) تَحَقَّقَ أَنَّهُ (قَدْ تَمَكَّنَ دُخُولُ الْوَقْتِ) وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي كُلِّ الْأَزْمِنَةِ، لِأَنَّ الشَّمْسَ تَكُونُ فِي الصَّيْفِ مُرْتَفِعَةً وَفِي الشِّتَاءِ مُنْخَفِضَةً، حَتَّى قَالَ ابْنُ الْفَخَّارِ: لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ لَا يَصِحُّ بِنَاؤُهَا عَلَى مِثْلِ هَذَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ رَحْمَةً لِلضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لَا يُدْرِكُونَ مَعْرِفَةَ الْأَوْقَاتِ عَلَى الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ مُوقِعٌ لِلصَّلَاةِ فِي اخْتِيَارَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَ فِي صَيْفٍ أَوْ شِتَاءٍ، لِأَنَّهَا لَا تُقَابِلُ بَصَرَ النَّاظِرِ إلَّا وَقَدْ ظِلُّ كُلُّ شَيْءٍ مِثْلُهُ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَاَلَّذِي وَصَفَهُ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) فِي بَيَانِ آخِرِ الْمُخْتَارِ لِلْعَصْرِ (أَنَّ) أَوَّلَ (الْوَقْتِ فِيهَا) مِنْ آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَيَسْتَمِرُّ (مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ) فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الِاصْفِرَارِ صَارَ الْوَقْتُ ضَرُورِيًّا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَصَدَّرَ بِهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَرَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ أَوَّلُ وَقْتِ الْعَصْرِ لِلِاصْفِرَارِ، وَهَذَا غَيْرُ مُخَالِفٍ لِمَا صَدَّرَ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَآخِرُهُ أَنْ يَصِيرَ ظِلُّ كُلِّ شَيْءٍ مِثْلَيْهِ لِأَنَّ الِاصْفِرَارَ لَا يَحْصُلُ إلَّا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَمَّا قَبْلَ ذَلِكَ فَتَكُونُ الشَّمْسُ نَقِيَّةً. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ مَا مَعْنَاهُ: وَهَذَا وَاضِحٌ فِي زَمَانِ الصَّحْوِ، وَأَمَّا فِي زَمَانِ الْغَيْمِ الَّذِي لَا يَظْهَرُ فِيهِ ظِلٌّ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ إلَى قَوْلِ أَهْلِ الْأَوْرَادِ وَالصَّنَائِعِ مِمَّنْ لَهُ دِرَايَةٌ بِمَعْرِفَةِ الْأَوْقَاتِ وَالِاحْتِيَاطِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْعَصْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ بِقَوْلِهِ: (وَوَقْتُ الْمَغْرِبِ وَهِيَ صَلَاةُ الشَّاهِدِ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (يَعْنِي الْحَاضِرَ) وَلَمَّا اسْتَشْعَرَ سَائِلًا عَنْ مَعْنَى الْحَاضِرِ قَالَ: (يَعْنِي أَنَّ الْمُسَافِرَ لَا يَقْصُرُهَا) فِي سَفَرِهِ (وَيُصَلِّيهَا كَصَلَاةِ الْحَاضِرِ) وَنُقِضَ هَذَا التَّعْلِيلُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، فَالْأَوْلَى فِي التَّعْلِيلِ أَنَّهَا تَطْلُعُ عِنْدَ طُلُوعِ نَجْمٍ يُسَمَّى الشَّاهِدُ (فَوَقْتُهَا غُرُوبُ الشَّمْسِ) كَأَنَّ الصَّوَابَ إسْقَاطُ لَفْظِ فَوْقِهَا وَيَقْتَصِرُ عَلَى الْخَبَرِ وَهُوَ غُرُوبُ الشَّمْسِ وَلَا يُنْظَرُ لِلْحُمْرَةِ الْبَاقِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (فَإِذَا تَوَارَتْ) أَيْ غَابَ جَمِيعُ قُرْصِهَا فِي الْعَيْنِ الْحَمِئَةِ أَيْ ذَاتِ الْحَمْأَةِ وَهِيَ الطِّينُ الْأَسْوَدُ وَهِيَ الْمُرَادُ (بِالْحِجَابِ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُ وَلَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ لَا تُؤَخَّرُ عَنْهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ بِقَدْرِ فِعْلِهَا بَعْدَ شُرُوطِهَا فَوَقْتُهَا مُضَيَّقٌ، وَيَجُوزُ لِمَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ مُحَصِّلًا لِشُرُوطِهَا مِنْ طَهَارَةٍ وَسَتْرٍ وَاسْتِقْبَالٍ تَأْخِيرُ فِعْلِهَا بِمِقْدَارِ تَحْصِيلِهَا وَذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِعَادَةِ غَالِبِ النَّاسِ، فَلَا يُعْتَبَرُ حَالُ مُوَسْوِسٍ وَلَا مَنْ عَلَى غَايَةٍ مِنْ السُّرْعَةِ، وَيُرَاعَى زَمَنُ الِاسْتِبْرَاءِ الْمُعْتَادِ لِمَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: لَا يُؤَخَّرُ عَنْهُ لَوْ شَرَعَ فِيهَا وَطَوَّلَ بِحَيْثُ غَابَ الشَّفَقُ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَالشَّفَقُ بِالنِّسْبَةِ لِلشُّرُوعِ فِيهَا وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ وَمُقَابِلُهُ يَمْتَدُّ وَقْتُهَا لِغُرُوبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ الَّذِي هُوَ وَقْتُ الْعِشَاءِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِيهِ: إنَّهُ الصَّحِيحُ وَفِي أَحْكَامِهِ إنَّهُ الْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ، لَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الَّذِي بِهِ الْفَتْوَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَلَا سِيَّمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ غُرُوبُ الشَّمْسِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ يَكُونُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ أَوْ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَأَمَّا مَنْ يَكُونُ خَلْفَ الْجِبَالِ فَلَا يُعَوِّلُ عَلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَإِنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى إقْبَالِ الظُّلْمَةِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، فَإِذَا ظَهَرَتْ كَانَ دَلِيلًا عَلَى مَغِيبِهَا فَيُصَلِّي وَيُفْطِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: لَيْسَ لَهَا إلَّا وَقْتٌ وَاحِدٌ أَنَّهَا مَتَى أُخِّرَتْ عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ تَصِيرُ قَضَاءً وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُرَادُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ الشُّرُوعِ فِيهَا إلَّا بِمِقْدَارِ تَحْصِيلِ شُرُوطِهَا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ لَهَا وَقْتًا ضَرُورِيًّا كَالظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَنْفِيُّ إنَّمَا هُوَ وَقْتُ التَّوَسُّعَةِ الْمَوْجُودُ فِي نَحْوِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فَافْهَمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 الْبَاقِيَةُ فِي الْمَغْرِبِ مِنْ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي الْمَغْرِبِ صُفْرَةٌ وَلَا حُمْرَةٌ فَقَدْ وَجَبَ الْوَقْتُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى الْبَيَاضِ فِي الْمَغْرِبِ فَذَلِكَ لَهَا وَقْتٌ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ مِمَّنْ يُرِيدُ تَأْخِيرَهَا لِشُغْلٍ أَوْ عُذْرٍ وَالْمُبَادَرَةُ بِهَا أَوْلَى وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَخِّرَهَا أَهْلُ الْمَسَاجِدِ قَلِيلًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثُ لِغَيْرِ شُغْلٍ بَعْدَهَا.   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ الْمَغْرِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ وَقْتِ الْعِشَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَوَقْتُ صَلَاةِ الْعَتَمَةِ) الْمُخْتَارُ: وَلَمَّا كَانَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَتَمَةِ غَرِيبَةً قَالَ: (وَهِيَ صَلَاةُ الْعِشَاءِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَالْمَدِّ (وَهَذَا الِاسْمُ أَوْلَى بِهَا) وَأَفْضَلُ مِنْ لَفْظِ الْعَتَمَةِ لِأَنَّهُ الْمُصَرَّحُ بِهِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَخَبَرِ وَقْتِ (غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالشَّفَقُ) هُوَ (الْحُمْرَةُ الْبَاقِيَةُ فِي) جِهَةِ (الْمَغْرِبِ مِنْ بَقَايَا شُعَاعِ الشَّمْسِ) مِنْ ضَوْئِهَا كَالْقُضْبَانِ (فَإِذَا لَمْ يَبْقَ فِي) نَاحِيَةِ (الْمَغْرِبِ صُفْرَةٌ وَلَا حُمْرَةٌ فَقَدْ وَجَبَ) أَيْ دَخَلَ (الْوَقْتُ) الْمَذْكُورُ لِلْعِشَاءِ. (وَلَا يَنْظُرُ إلَى الْبَيَاضِ) الْبَاقِي (فِي الْمَغْرِبِ) خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، دَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الشَّفَقُ الْحُمْرَةُ فَإِذَا غَابَ الشَّفَقُ وَجَبَتْ الصَّلَاةُ» وَأَيْضًا «الْغَوَارِبُ ثَلَاثَةٌ: أَنْوَارُ الشَّمْسِ وَالشَّفَقَانِ، وَالطَّوَالِعُ ثَلَاثَةٌ: الْفَجْرَانِ وَالشَّمْسُ وَالْحُكْمُ لِلْوَسَطِ فِي الطَّوَالِعِ وَالْغَوَارِبِ» (فَذَلِكَ) أَيْ غَيْبُوبَةُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ (لَهَا وَقْتٌ) مُمْتَدٌّ (إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ) وَابْتِدَاؤُهُ مِنْ الْغُرُوبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْعِشَاءِ مِنْ غُرُوبِ حُمْرَةِ الشَّفَقِ لِلثُّلُثِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ وَيَكْرَهُ النَّوْمَ قَبْلَهَا» . وَحَدِيثُ عَائِشَةَ: «كَانُوا يُصَلُّونَ الْعَتَمَةَ فِيمَا بَيْنَ أَنْ يَغِيبَ الشَّفَقُ إلَى ثُلُثِ اللَّيْلِ» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَلَكِنْ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ تَأْخِيرُهَا إلَى أَثْنَاءِ الثُّلُثِ إلَّا (مِمَّنْ يُرِيدُ تَأْخِيرَهَا لِشُغْلٍ) مُهِمٍّ كَعَمَلِهِ فِي حِرْفَتِهِ الَّتِي لَا غِنَى لَهُ عَنْهَا. (أَوْ) لِأَجْلِ (عُذْرٍ) كَمَرَضٍ فَهُوَ مُغَايِرٌ لِمَا قَبْلَهُ. (وَ) أَمَّا مَنْ لَا شُغْلَ وَلَا عُذْرَ لَهُ فَقَدْ مَرَّ أَنَّ (الْمُبَادَرَةَ بِهَا) فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ (أَوْلَى) أَيْ أَفْضَلُ لِإِدْرَاكِ فَضِيلَةِ أَوَّلِ الْوَقْتِ وَهَذَا فِي حَقِّ الْمُنْفَرِدِ، وَمَا فِي حُكْمِهِ مِنْ الْجَمَاعَاتِ الَّتِي لَا تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا، وَأَمَّا الَّتِي تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا فَأَشَارَ لِحُكْمِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ) بِمَعْنَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ (أَنْ يُؤَخِّرُهَا أَهْلُ الْمَسَاجِدِ) وَالْحَرَسُ وَهُمْ الْمُرَابِطُونَ وَأَصْحَابُ الْمَدَارِسِ (قَلِيلًا لِاجْتِمَاعِ النَّاسِ) لِصَلَاتِهَا جَمَاعَةً، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ الَّتِي تَنْتَظِرُ غَيْرَهَا تَقْدِيمُ غَيْرِ الظُّهْرِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الْعِشَاءُ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ لَهُمْ تَأْخِيرُ الظُّهْرِ لِرُبْعِ الْقَامَةِ فِي كُلِّ الزَّمَنِ وَيُزَادُ عَلَيْهَا لِشِدَّةِ الْحَرِّ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَا تَقَدَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ مَسَاجِدِ أَهْلِ الْقَبَائِلِ، وَمَا هُنَا فِي حَقِّ أَهْلِ مَسَاجِدِ الْقَبَائِلِ، أَوْ أَنَّ التَّأْخِيرَ هُنَا فِي حُكْمِ التَّقْدِيمِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ قَلِيلًا فَلَيْسَ كَتَأْخِيرِ الظُّهْرِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِيهَا نَدْبُ تَأْخِيرِ الْعِشَاءِ قَلِيلًا. وَلَمَّا كَانَتْ الْعِشَاءُ تَأْتِي فِي زَمَنِ غَلَبَةِ النَّوْمِ فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ جَوَازُهُ قَبْلَهَا قَالَ: (وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا) أَيْ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا أَيْ الْعِشَاءِ (وَالْحَدِيثُ لِغَيْرِ شُغْلٍ بَعْدَهَا) وَهُوَ أَشَدُّ كَرَاهَةٍ مِنْ نَوْمِهِ قَبْلَهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ كَرَاهَةُ النَّوْمِ قَبْلَهَا وَلَوْ وَكَّلَ مَنْ يُوقِظُهُ وَهُوَ كَذَلِكَ لِاحْتِمَالِ نَوْمِ الْوَكِيلِ أَوْ نِسْيَانِهِ فَيُفَوِّتُ اخْتِيَارَيْهَا، وَإِنَّمَا كُرِهَ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَجَازَ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ غَيْرِهَا كَمَا يَأْتِي لِأَنَّ وَقْتَهَا زَمَنُ نَوْمٍ بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَكَرَاهَةُ الْحَدِيثِ بَعْدَهَا مَخَافَةَ نَوْمِهِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَمَفْهُومُ لِغَيْرِ شُغْلٍ أَنَّ الْحَدِيثَ بَعْدَهَا لِمَصْلَحَةٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَتْ دِينِيَّةً كَالْكَلَامِ فِي الْعِلْمِ أَوْ دُنْيَوِيَّةً كَالْمُنَاقَشَةِ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَكَالْكَلَامِ مَعَ الْقَادِمِ مِنْ السَّفَرِ لِيُؤْنِسَهُ أَوْ الْعَرُوسِ، وَاخْتُلِفَ فِي فَضْلِ النَّوْمِ عَلَى السَّهَرِ الْمُجَرَّدِ عَنْ الطَّاعَةِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ النَّوْمِ قَبْلَ صَلَاةٍ نَحْوَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَبَيَّنَهُ شَيْخُ شَيْخِنَا الْأُجْهُورِيُّ بِمَا مُحَصِّلُهُ: النَّوْمُ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ لَا حَرَجَ فِيهِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ جَوَّزَ نَوْمَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا بَعْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ يَسْتَيْقِظُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ أَوْ وَكَّلَ مَنْ يُوقِظُهُ 1 - (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ الْوَقْتَ الِاخْتِيَارِيَّ وَسَكَتَ عَنْ الضَّرُورِيِّ وَهُوَ غَالِبًا تِلْوُ الْمُخْتَارِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ لِلظُّهْرَيْنِ وَإِلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ فِي الْعِشَاءِ، وَأَمَّا الصُّبْحُ فَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ لَا ضَرُورِيَّ لَهَا، وَعَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ مِنْ الْإِسْفَارِ إلَى الطُّلُوعِ، وَقَيَّدْنَا بِغَالِبًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الضَّرُورِيِّ لِذِي قَبْلَ الْمُخْتَارِ، وَهُوَ إنَّمَا يَكُونُ فِي حَقِّ صَاحِبِ السَّلَسِ الَّذِي يُلَازِمُهُ فِي كُلِّ وَقْتٍ ثَانِيَةُ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُقَدِّمُهَا فِي وَقْتِ الْأَوَّلِ، وَفِي حَقِّ الْمُسَافِرِ الَّذِي يَكُونُ نَازِلًا بِالْمَنْهَلِ وَيَنْوِي الِارْتِحَالَ بَعْدَ الزَّوَالِ وَالنُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ بَعْدَ فِعْلِ الْأُولَى، وَكَذَلِكَ مَنْ يَجْمَعُ الْعِشَاءَ مَعَ الْمَغْرِبِ لِأَجْلٍ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ الظُّهْرُ مَعَ الْعَصْرِ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَإِنَّ الثَّانِيَةَ قُدِّمَتْ عَلَى اخْتِيَارَيْهَا، وَلَا يُتَصَوَّرُ لِلصُّبْحِ وَلَا لِلْأُولَى مِنْ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ فَافْهَمْ. الثَّانِيَةُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا مَا يُدْرَكُ بِهِ الْوَقْتُ بِحَيْثُ يَكُونُ الْمُصَلِّي مُؤَدَّيَا، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتُدْرَكُ فِيهِ الصُّبْحُ بِرَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مَعَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ وَالْكُلُّ أَدَاءٌ وَالظُّهْرَانِ وَالْعِشَاءُ أَنْ يَفْصِلَ رَكْعَةً عَنْ الْأُولَى وَهَذَا فِي الضَّرُورِيِّ، وَاخْتُلِفَ فِيمَا يُدْرَكُ بِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الِاخْتِيَارِيُّ، وَاَلَّذِي اخْتَارَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَنَّهُ كَذَلِكَ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِيهِ: إنَّهُ الرَّاجِحُ، وَفَائِدَةُ الْإِدْرَاكِ فِي الضَّرُورِيِّ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ أَدَاءٌ وَإِنْ كَانَ آثِمًا مَعَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ، وَفِي الْمُخْتَارِ: رَفْعُ الْإِثْمِ بِإِدْرَاكِهَا فِيهِ وَلَوْ أَخَّرَهَا اخْتِيَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْكُلَّ أَدَاءٌ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الصُّبْحِ قَبْلَ أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ فَقَدْ أَدْرَكَ الصُّبْحَ، وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ أَيْ قَبْلَ الْغُرُوبِ فَقَدْ أَدْرَكَ الْعَصْرَ» . الثَّالِثَةُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ الْوَلِيِّ يَطِيرُ مِنْ إقْلِيمٍ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِ صَلَاةٍ إلَى إقْلِيمٍ آخَرَ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ وَقْتُ تِلْكَ الصَّلَاةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَقْتُ الطُّلُوعِ عِنْدَ قَوْمٍ غَيْرَهُ عِنْدَ آخَرِينَ، وَالْحُكْمُ لِلْمَحَلِّ الَّذِي يُوقِعُ فِيهِ الصَّلَاةُ سَوَاءٌ كَانَ هُوَ الَّذِي طَارَ مِنْهُ أَوْ الَّذِي إلَيْهِ، فَإِذَا زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ فِي مَحَلٍّ وَصَلَّى فِيهِ لَمْ يُعِدْ صَلَاتَهُ، وَإِذَا طَارَ قَبْلَ فِعْلِهَا لَا يَجُوزُ لَهُ فِعْلُهَا فِي الَّذِي طَارَ إلَيْهِ قَبْلَ زَوَالِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْوَقْتِ الَّذِي هُوَ سَبَبٌ لِوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَشَرْطٌ فِي صِحَّتهَا، وَكَانَ كُلُّ أَحَدٍ لَا يَسْتَطِيعُ الْوُصُولَ إلَى مَعْرِفَتِهِ بِالزَّوَالِ وَالْغُرُوبِ، شَرَعَ فِيمَا يُعْلَمُ بِهِ دُخُولُهُ لِكُلِّ أَحَدٍ سَمِعَهُ وَهُوَ الْأَذَانُ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 بَابٌ فِي الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ   [الفواكه الدواني] [بَاب الْأَذَان وَالْإِقَامَة] (بَابٌ فِي) حُكْم ِ صِفَةِ (الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ) وَحَقِيقَةُ الْأَذَانِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ وَيُرَادِفُهُ الْأَذِينُ وَالتَّأْذِينُ بِالْمُعْجَمَةِ لُغَةً الْإِعْلَامُ بِأَيِّ شَيْءٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] أَيْ إعْلَامٌ. {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} [الحج: 27] أَيْ أَعْلِمْ وَشَرْعًا الْإِعْلَامُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ بِأَلْفَاظٍ مَخْصُوصَةٍ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ} [الجمعة: 9] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الْحَدِيثِ عَنْ أَبِي دَاوُد بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ رَبِّهِ قَالَ: «لَمَّا أَمَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالنَّاقُوسِ يُعْمَلُ لِيَضْرِبَ بِهِ النَّاسُ لِجَمْعِ الصَّلَاةِ طَافَ بِي وَأَنَا نَائِمٌ رَجُلٌ حَامِلٌ نَاقُوسًا فِي يَدِهِ فَقُلْت: يَا عَبْدَ اللَّهِ أَتَبِيعُ هَذَا النَّاقُوسَ؟ فَقَالَ: وَمَا تَصْنَعُ بِهِ؟ فَقُلْت: نَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ، فَقَالَ: أَوَ لَا أَدُلُّك عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقُلْت: بَلَى، فَقَالَ تَقُولُ: اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِر الْأَذَانِ، ثُمَّ اسْتَأْخَرَ عَنِّي غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ قَالَ: وَتَقُولُ إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ: اللَّهُ أَكْبَرُ إلَى آخِرِ الْإِقَامَةِ، فَلَمَّا أَصْبَحْت أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَتْهُ بِمَا رَأَيْت فَقَالَ: إنَّهَا رُؤْيَا حَقٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قُمْ مَعَ بِلَالٍ فَأَلْقِ عَلَيْهِ مَا رَأَيْت فَإِنَّهُ أَنْدَى مِنْك صَوْتًا، فَقُمْت مَعَ بِلَالٍ فَجَعَلَتْ أُلْقِي عَلَيْهِ فَيُؤَذِّنُ بِهِ، فَسَمِعَ ذَلِكَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَهُوَ فِي بَيْتِهِ فَخَرَجَ يَجُرُّ رِدَاءَهُ قَائِلًا: وَاَلَّذِي بَعَثَك بِالْحَقِّ نَبِيًّا يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ رَأَيْت مِثْلَ مَا رَأَى، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَلِلَّهِ الْحَمْدُ» وَيُرْوَى أَنَّهُ تَابَعَ عُمَرَ فِي الرُّؤْيَا مِنْ الصَّحَابَةِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا، وَلَا يَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ الْأَحْكَامَ لَا تَثْبُتُ بِالرُّؤْيَا لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ مُسْتَنَدُ الْأَذَانِ الرُّؤْيَا وَإِنَّمَا وَافَقَهَا نُزُولُ الْوَحْيِ فَالْحُكْمُ ثَبَتَ بِهِ لَا بِهَا، فَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيَ الْأَذَانَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ وَأُسْمِعَهُ مُشَاهَدَةً فَوْقَ سَبْعِ سَمَوَاتٍ ثُمَّ قَدَّمَهُ جِبْرِيلُ فَأَمَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَفِيهِمْ آدَم وَنُوحٌ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَأَكْمَلَ لَهُ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» وَأَقُولُ: يُشْكِلُ عَلَى مَا رَوَى التِّرْمِذِيُّ مَا رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ أَبِي دَاوُد الْمُتَقَدِّمِ مِنْ اهْتِمَامِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَا يَجْمَعُ بِهِ النَّاسَ إلَى الصَّلَاةِ حَتَّى قِيلَ لَهُ: تَنْصِبُ رَايَةً فَإِذَا رَأَوْهَا أَعْلَمَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَلَمْ يُعْجِبْهُ فَذَكَرُوا لَهُ الْبُوقَ فَلَمْ يُعْجِبْهُ وَقَالَ: هُوَ مِنْ فِعْلِ الْيَهُودِ، فَذَكَرُوا لَهُ النَّاقُوسَ فَقَالَ: هُوَ مِنْ أَمْرِ النَّصَارَى، فَإِنَّ الِاهْتِمَامَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، إذْ لَوْ عَلِمَهُ فِي السَّمَاءِ لَأَمَرَ بِفِعْلِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَجَابَ بَعْضٌ: بِأَنَّ اجْتِهَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَدَّاهُ إلَى ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافٍ عِنْدَ الْأُصُولِيِّينَ فِي حُكْمِهِ بِاجْتِهَادِهِ، وَفِي هَذَا الْجَوَابِ إشْكَالٌ، إذْ كَيْفَ يَجْتَهِدُ فِيمَا يَدْعُو بِهِ إلَى الصَّلَاةِ مَعَ مَعْرِفَةِ الْأَذَانِ وَيُمْكِنُ عَلَى بُعْدٍ أَنْ يَكُونَ سَمِعَهُ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى صِفَةِ الْإِتْيَانِ بِهِ أَوْ مَحَلِّهِ أَوْ أَنَّ الْحَدِيثَ غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ؟ وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِقَوْلِ الْقَرَافِيِّ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْأَذَانِ فَقَدْ وَرَدَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، فَمِمَّا وَرَدَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ أَدْبَرَ الشَّيْطَانُ لَهُ ضُرَاطٌ حَتَّى لَا يَسْمَعَ التَّأْذِينَ» وَلَهُ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: الْإِعْلَانُ بِدُخُولِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَهُوَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمُوجِبُ لِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَمِنْ فَوَائِدِهِ الْإِعْلَامُ بِأَنَّ الدَّارَ دَارُ الْإِسْلَامِ وَيُؤْنِسُ الْجِيرَانَ وَيُسْتَجَابُ عِنْدَهُ الدُّعَاءُ، وَذَكَرَ الْجَلَالُ السُّيُوطِيّ فِي الْخَصَائِصِ الصُّغْرَى أَنَّ الْأَذَانَ الشَّرْعِيَّ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَشُرِعَ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِنْ الْهِجْرَةِ. 1 - وَحَقِيقَةُ الْإِقَامَةِ شَرْعًا هِيَ أَلْفَاظٌ مَخْصُوصَةٌ تُذْكَرُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَسَتَأْتِي أَلْفَاظُهَا، وَقَوْلُنَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ أَيْ مِنْ كَوْنِهَا مُفْرَدَةَ الْأَلْفَاظِ سِوَى التَّكْبِيرِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي أَفْضَلِيَّتِهَا عَلَى الْأَذَانِ، فَمِنْ الشُّيُوخِ مَنْ فَضَلَّهَا لِاتِّصَالِهَا بِالصَّلَاةِ وَبُطْلَانِهَا عَلَى قَوْلٍ بِتَرْكِهَا عَمْدًا، وَمِنْهُمْ مَنْ فَضَّلَ الْأَذَانَ لِوُجُوبِهِ فِي الْمِصْرِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُخْتَارِ، وَفَضَّلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْإِمَامَةَ عَلَيْهِمَا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ وَاظَبُوا عَلَى الْإِمَامَةِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَركُمْ» وَجَرَى خِلَافٌ أَيْضًا فِي أَذَانِهِ وَالْمُعْتَمَدُ أَيْضًا أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَذَّنَ مَرَّةً فِي سَفَرِهِ وَهُوَ رَاكِبٌ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وَالْأَذَانُ وَاجِبٌ فِي الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ الرَّاتِبَةِ فَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ فَإِنْ أَذَّنَ فَحَسَنٌ وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْإِقَامَةِ وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ أَقَامَتْ فَحَسَنٌ وَإِلَّا فَلَا حَرَجَ وَلَا يُؤَذَّنُ لِصَلَاةٍ قَبْلَ وَقْتِهَا إلَّا الصُّبْحَ فَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا فِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، وَالْأَذَانُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا   [الفواكه الدواني] وَأَمَّا فِي تَشَهُّدِهِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ مَرَّةً يَقُولُ: أَشْهَدُ أَنِّي رَسُولَ اللَّهِ وَمَرَّةً أَشْهَد أَنِّي مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ الشَّافِعِيُّ فِي شَرْحِ الْمِنْهَاجِ. 1 - ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْأَذَانِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَذَانُ وَاجِبٌ) وُجُوبَ السُّنَنِ (فِي) حَقِّ أَهْلِ (الْمَسَاجِدِ) سَوَاءٌ كَانَتْ جَامِعَةً أَمْ لَا. (وَ) كَذَلِكَ يَجِبُ وُجُوبَ السُّنَنِ فِي حَقِّ (الْجَمَاعَاتِ الرَّاتِبَةِ) فِي مَحَلٍّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَسْجِدًا حَيْثُ كَانُوا يَطْلُبُونَ غَيْرَهُمْ، بَلْ كُلُّ جَمَاعَةٍ تَطْلُبُ غَيْرَهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ رَاتِبَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ الْأَذَانُ لِجَمَاعَةٍ تَطْلُبُ غَيْرَهَا فِي فَرْضٍ وَقْتِيٍّ، وَأَمَّا فِعْلُ الْأَذَانِ فِي الْأَمْصَارِ فَهُوَ وَاجِبٌ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ الْكِفَائِيَّةِ وَيُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَذَانَ تَعْتَرِيه أَحْكَامٌ خَمْسَةٌ سِوَى الْإِبَاحَةِ: الْوُجُوبُ كِفَايَةً فِي الْمِصْرِ، وَالسُّنِّيَّةُ كِفَايَةً فِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَجَمَاعَةٍ تَطْلُبُ غَيْرَهَا، وَالِاسْتِحْبَابُ لِمَنْ كَانَ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ سَوَاءٌ كَانَ وَاحِدًا أَوْ جَمَاعَةً لَمْ تَطْلُبْ غَيْرَهَا، وَحَرَامٌ قَبْلَ دُخُولِ الْوَقْتِ، وَمَكْرُوهٌ لِلسُّنَنِ وَلِلْجَمَاعَةِ الَّتِي لَمْ تَطْلُبْ غَيْرَهَا وَلَمْ تَكُنْ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ، كَمَا يُكْرَهُ لِلْفَائِتَةِ وَفِي الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ وَلِفَرْضِ الْكِفَايَةِ. وَإِذَا تَوَقَّفَتْ مَشْرُوعِيَّتُهُ عَلَى أُجْرَةٍ كَانَتْ عَلَى مَنْ لَهُ عَقَارٌ فِي الْبَلَدِ سَوَاءٌ كَانَ سَاكِنًا بِهِ أَوْ لَا، بِخِلَافِ أُجْرَةِ مُؤَدِّبِ الْأَطْفَالِ فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى مَنْ لَهُ وَلَدٌ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَيْهِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الصَّلَاةِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَأُجْرَةٌ عَلَيْهِ أَوْ مَعَ صَلَاةٍ وَكُرِهَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الصَّلَاةِ وَحْدَهَا إذَا كَانَتْ مِنْ الْمُصَلِّينَ لَا مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ وَقْفِ الْمَسْجِدِ فَلَا كَرَاهَةَ، لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ الْأَحْبَاسِ مِنْ بَابِ الْإِعَانَةِ لَا الْإِجَارَةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ: (فَأَمَّا الرَّجُلُ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ) يَكُونُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ (فَإِنْ أَذَّنَ فَحَسَنٌ) أَيْ مَنْدُوبٌ أَذَانُهُ، وَمِثْلُهُ الْجَمَاعَةُ الَّتِي لَا تَطْلُبُ غَيْرَهَا حَيْثُ كَانَتْ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ فِي زَمَنِ سَفَرٍ، وَأَمَّا قَوْلُ خَلِيلٍ: وَأَذَانُ فَذٍّ إنْ سَافَرَ فَهُوَ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ الْفَذُّ أَوْ الْجَمَاعَةُ فِي فَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ فَيُكْرَهُ لَهُمْ الْأَذَانُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مَا صَحَّ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «إذَا كُنْت فِي غَنَمِك أَوْ بَادِيَتِك فَأَذَّنْت بِالصَّلَاةِ فَارْفَعْ صَوْتَك بِالنِّدَاءِ فَإِنَّهُ لَا يَسْمَعُ مَدَى صَوْتِ الْمُؤَذِّنِ إنْسٌ وَلَا جِنٌّ وَلَا شَيْءٌ إلَّا شَهِدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ: سَمِعْته مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «مَنْ صَلَّى بِمَكَانٍ قَفْرٍ بَعْدَ أَذَانٍ صَلَّى وَرَاءَهُ أَمْثَالُ الْجِبَالِ» أَيْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، وَصَلَاةُ الْبَرِّيَّةِ بِسَبْعِينَ صَلَاةٍ لِمَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ إحْيَاءِ الذِّكْرِ فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ. وَلَمَّا كَانَ الْإِقَامَةُ تُطْلَبُ حَتَّى مِنْ الْمُنْفَرِدِ قَالَ: (وَلَا بُدَّ لَهُ) أَيْ لِلرَّجُلِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ (مِنْ الْإِقَامَةِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُسَنُّ إقَامَةٌ مُفْرَدَةٌ وَهِيَ آكَدُ مِنْ الْأَذَانِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِهَا بِالصَّلَاةِ فَإِنْ تَرَاخَى بِالْإِحْرَامِ أَعَادَهَا وَلَا تُسَنُّ إلَّا لِفَرْضٍ وَلَوْ فَائِتًا، وَاعْلَمْ أَنَّهَا سُنَّةُ عَيْنٍ فِي حَقِّ الذَّكَرِ الْمُنْفَرِدِ، أَوْ الْمُصَلِّي إمَامًا بِالنِّسَاءِ فَقَطْ، وَأَمَّا فِي حَقِّ الْجَمَاعَةِ مِنْ الذُّكُورِ أَوْ الْمُلَفَّقَةِ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَسُنَّةٌ كِفَائِيَّةٌ. (وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَإِنْ أَقَامَتْ فَحَسَنٌ) أَيْ فِعْلُهَا حَسَنٌ بِمَعْنَى مَنْدُوبٌ (وَإِلَّا) بِأَنْ تَرَكَتْ الْإِقَامَةَ (فَلَا حَرَجَ) أَيْ لَا إثْمَ وَهَذَا غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِقَامَةَ إنَّمَا تُسْتَحَبُّ مِنْ الْمَرْأَةِ إذَا صَلَّتْ مُنْفَرِدَةً أَوْ مَعَ مَحْضِ نِسَاءٍ وَأَمَّا إذَا صَلَّتْ مَعَ إمَامٍ فَتُنْهَى عَنْ الْإِقَامَةِ، وَكُلُّ مَنْ أُمِرَ بِالْإِقَامَةِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ يُسْتَحَبُّ لَهُ إسْرَارُهَا إلَّا الْمُؤَذِّنُ فَيَجْهَرُ لَهَا لِلْإِعْلَامِ بِالصَّلَاةِ، 1 - وَلَا بُدَّ مِنْ الطَّهَارَةِ فِي الْإِقَامَةِ بِخِلَافِ الْأَذَانِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يُؤَذِّنَ غَيْرُ مُتَوَضِّئٍ وَلَا يُقِيمُ إلَّا مُتَوَضِّئٌ،. 1 - وَمِمَّا يُسَنُّ عِنْدَ شُرُوعِ الْمُؤَذِّنِ فِي الْإِقَامَةِ تَرْكُهَا وَالِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ مِنْ الْإِمَامِ وَبَقِيَّةِ الْمَأْمُومِينَ لِفَتْحِ أَبْوَابِ السَّمَاءِ إذْ ذَاكَ وَقَلَّ دَاعٍ تُرَدُّ دَعَوْته. وَيَحْرُمُ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْإِقَامَةِ لِلْمُتَطَهِّرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ صَلَّى تِلْكَ الصَّلَاةَ وَهِيَ مِمَّا لَا تُعَادُ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ بَعْدَ الْأَذَانِ فَمَكْرُوهٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ الرُّجُوعَ إلَيْهِ، فَإِنْ خَرَجَ رَاغِبًا عَنْ الصَّلَاةِ جُمْلَةً فَهُوَ مُنَافِقٌ وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمُصِيبَةِ كَمَا وَقَعَ لِبَعْضِ النَّاسِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ قَلِيلًا بَعْدَ الْإِقَامَةِ حَتَّى تَعْتَدِلَ الصُّفُوفُ، وَلَا يَدْخُلُ الْمِحْرَابَ إلَّا بَعْدَ الْإِقَامَةِ وَهِيَ إحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي يُعْرَفُ بِهَا فِقْهُ الْإِمَامِ كَخَطْفِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وَتَقْصِيرِ الْجِلْسَةِ الْأُولَى. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْ يَحْرُمُ أَنْ (يُؤَذَّنَ لِصَلَاةٍ قَبْلَ) تَحَقُّقِ دُخُولِ (وَقْتِهَا) لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ لِلْإِعْلَامِ بِدُخُولِهِ فَيَحْرُمُ قَبْلَهُ (إلَّا الصُّبْحُ فَلَا بَأْسَ) أَيْ يُسَنُّ (أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا فِي السُّدُسِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ) قَالَ خَلِيلٌ: غَيْرُ مُقَدَّمٍ عَلَى الْوَقْتِ إلَّا الصُّبْحُ فَبِسُدُسِ اللَّيْلِ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ بِلَالًا يُنَادِي بِلَيْلٍ فَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يُنَادِيَ ابْنُ أُمِّ مَكْتُومٍ» وَأَيْضًا الصُّبْحُ تَأْتِي وَالنَّاسُ نِيَامٌ فَيَحْتَاجُونَ إلَى التَّأَهُّبِ لَهَا وَرُبَّمَا يَكُونُ فِيهِمْ الْجُنُبُ وَنَحْوُهُ، وَيُسَنُّ أَيْضًا أَنْ يُؤَذَّنَ لَهَا عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا فَلِذَا قَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ثُمَّ تُرَجِّعُ بِأَرْفَعَ مِنْ صَوْتِك أَوَّلَ مَرَّةٍ فَتُكَرِّرُ التَّشَهُّدَ فَتَقُولُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ، فَإِنْ كُنْت فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ زِدْت هَهُنَا الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ لَا تَقُلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ نِدَاءِ الصُّبْحِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مَرَّةً وَاحِدَةً [صفة الْأَذَان] وَالْإِقَامَةُ وِتْرٌ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ   [الفواكه الدواني] الْأُجْهُورِيُّ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُقَدَّمِ وَالْمَفْعُولِ عِنْدَ الْوَقْتِ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ كَأَذَانَيْ الْجُمُعَةِ لَا إنَّ مَجْمُوعَهُمَا سُنَّةٌ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الصِّفَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَذَانُ) صِفَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ أَنْ تَقُولَ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَكْبَرَ وَمَدِّ الْجَلَالَةِ مَدًّا طَبِيعِيًّا حَتَّى يَحْصُلَ الْإِسْمَاعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَبْطُلَ بِإِبْدَالِ هَمْزَةِ أَكْبَرَ وَاوًا، كَمَا لَا يَبْطُلُ جَمْعَهُ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْوَاوِ بِالْأُولَى مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِذَلِكَ، وَأَكْبَرُ بِمَعْنَى كَبِيرٌ عَلَى حَدِّ: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ بِمَعْنَى عَالِمٌ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَكْبَرُ مِنْ كُلِّ كَبِيرٍ بِحَسَبِ زَعْمِ الزَّاعِمِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) أَيْ أَتَحَقَّقُ وَأُذْعِنُ أَنْ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ سِوَاهُ، وَيُكَرِّرُهَا فَيَقُولُ أَيْضًا: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) ثُمَّ يَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ بِالرِّسَالَةِ مَرَّتَيْنِ أَيْضًا فَيَقُولُ: (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) وَلَا بُدَّ مِنْ رَفْعِ رَسُولُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ فَنَصْبُهُ يُصَيِّرُهُ بَدَلًا وَيَكُونُ سَاكِنَ الْكَلِمَاتِ لِقَوْلِ الْمَازِرِيِّ اخْتَارَ شُيُوخُ صِقِلِّيَّةَ جَزَمَ الْأَذَانِ وَشُيُوخُ الْقَيْرَوَانِ إعْرَابَهُ وَالْجَمْعُ جَائِزٌ فَيَتَخَلَّصُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ فِقْهًا أَنَّ عَدَمَ اللَّحْنِ فِي الْأَذَانِ مُسْتَحَبٌّ فَلَا يَبْطُلُ بِنَصَبِ الْمَرْفُوعِ وَلَا بِرَفْعِ الْمَنْصُوبِ، لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ صِحَّةُ الصَّلَاةِ بِاللَّحْنِ فِي الْفَاتِحَةِ فَكَيْفَ بِالْأَذَانِ؟ (ثُمَّ) بَعْدَ تَكْرِيرِ الشَّهَادَتَيْنِ يُسَنُّ أَنْ تَرْجِعَ مِنْ التَّرْجِيعِ بِأَنْ تُعِيدَ لَفْظَهُمَا فَتَقُولَ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) مَرَّتَيْنِ كَمَا فَعَلْت أَوَّلًا (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) مَرَّتَيْنِ أَيْضًا هَذَا قَوْلُ مَالِكٍ فِي تَكْرِيرِ التَّشَهُّدِ أَرْبَعًا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّرْجِيعَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، فَلَا يُرَجِّعُ الْأُولَى قَبْلَ الْإِتْيَانِ بِالثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا سُنَّ التَّرْجِيعُ لِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِ أَبَا مَحْذُورَةَ، وَحِكْمَةُ طَلَبِهِ إمَّا لِتَدَبُّرِ مَعْنَى كَلِمَتَيْ الْإِخْلَاصِ لِكَوْنِهِمَا الْمُنْجِيَتَيْنِ مِنْ الْكُفْرِ الْمُدْخِلَتَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ، وَإِمَّا إغَاظَةِ الْكُفَّارِ، أَوْ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ أَبَا مَحْذُورَةَ أَخْفَى صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ حَيَاءً مِنْ قَوْمِهِ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ تَوْفِيقِهِ لِلْإِسْلَامِ مِنْ شِدَّةِ بُغْضِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَدَعَاهُ وَعَرَكَ أُذُنَهُ وَأَمَرَهُ بِالتَّرْجِيعِ، وَإِذَا رَجَّعْت تَأْتِي بِالشَّهَادَتَيْنِ (بِأَرْفَعِ مِنْ صَوْتِك) بِهِمَا (أَوَّلَ مَرَّةٍ) قَالَ الْإِمَامُ أَشْهَبُ: يَرْفَعُ غَايَةَ صَوْتِهِ بِالتَّكْبِيرِ ثُمَّ يَتْرُكُ مِنْ غَايَتِهِ شَيْئًا فِي الشَّهَادَتَيْنِ، ثُمَّ إذَا رَجَّعَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ عِنْدَ التَّرْجِيعِ حَتَّى يُسَاوِيَ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَرْفَعُ صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ حَدَّ الْإِمْكَانِ وَيُخْفِضُهُ بِالشَّهَادَتَيْنِ قَبْلَ التَّرْجِيعِ بِحَيْثُ لَا يَتَجَاوَزُ إسْمَاعَ النَّاسِ وَيَرْفَعُ صَوْتَهُ بِهَا عِنْدَ التَّرْجِيعِ بِحَيْثُ يُسَاوِي صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَاخْتَارَهُ الْمَازِرِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: عَلَيْهِ عَمَلُ النَّاسِ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِسْمَاعِ قَبْلَ التَّرْجِيعِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ الْأَذَانُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ التَّرْجِيعَ سُنَّةٌ وَلَوْ كَثُرَ الْمُؤَذِّنُونَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَيُعْلَمُ مِنْ كَوْنِهِ سُنَّةً عَدَمُ بُطْلَانِ الْأَذَانِ بِتَرْكِهِ، ثُمَّ بَعْدَ التَّرْجِيعِ تَقُولُ بِصَوْتِك الَّذِي ابْتَدَأَتْ بِهِ: (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) تُكَرِّرُهَا مَرَّتَيْنِ، وَحَيَّ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ مَعْنَاهُ هَلُمُّوا وَأَقْبِلُوا عَلَى الصَّلَاةِ، ثُمَّ تَقُولُ: (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) مَرَّتَيْنِ أَيْضًا بِمَعْنَى هَلُمُّوا عَلَى الْفَلَاحِ أَيْ عَلَى مَا فِيهِ فَلَاحُكُمْ وَهُوَ الْفَوْزُ بِالنَّعِيمِ (فَإِنْ كُنْت فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ زِدْت هَا هُنَا) أَيْ بَعْدَ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ (الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ) مَرَّتَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ مُثَنًّى وَلَوْ الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ الْمَشْرُوعَةُ فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ خَاصَّةً، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَقُولُهَا وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ بِأَنْ كَانَ بِفَلَاةٍ مِنْ الْأَرْضِ وَهُوَ كَذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ رَفْعَ الصَّوْتِ بِالْأَذَانِ لَا بُدَّ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ أَحَدٌ؟ وَمَشْرُوعِيَّتُهَا فِي الصُّبْحِ صَادِرٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَقَوْلُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ لِمَنْ جَاءَ يُؤَذِّنُهُ بِالصَّلَاةِ فَوَجَدَهُ نَائِمًا فَقَالَ لَهُ: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ اجْعَلْهَا فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ إنْكَارٌ عَلَى الْمُؤَذِّنِ حَيْثُ اسْتَعْمَلَ أَلْفَاظَ الْأَذَانِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهَا، كَمَا كَرِهَ مَالِكٌ التَّلْبِيَةَ فِي غَيْرِ الْحَجِّ، وَمَعْنَى: الصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ أَنَّ التَّيَقُّظَ لِلصَّلَاةِ خَيْرٌ مِنْ الرَّاحَةِ الْحَاصِلَةِ بِالنَّوْمِ، وَالصَّلَاةُ خَيْرٌ مِنْ النَّوْمِ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ بِزِدْت لَتَأَوُّلِهَا بِمُفْرَدٍ وَهُوَ هَذَا اللَّفْظُ، وَقَوْلُهُ: (تَقُلْ ذَلِكَ فِي غَيْرِ نِدَاءِ الصُّبْحِ) لَا حَاجَةَ إلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ: فَإِنْ كُنْت فِي نِدَاءِ الصُّبْحِ، ثُمَّ تَخْتِمُ الْأَذَانَ بِقَوْلِك: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) تَقُولُهَا (مَرَّةً وَاحِدَةً) وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الَّتِي عَلَّمَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَبِي مَحْذُورَةَ وَعَلَيْهَا السَّلَفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ   [الفواكه الدواني] وَالْخَلَفُ، وَلَوْ غَيَّرَ هَذِهِ الصِّفَةَ بِأَنْ نَكَّسَهُ أَوْ أَوَتَرُهُ وَلَوْ جُلَّهُ أَعَادَهُ مَعَ الطُّولِ، وَيَبْنِي عَلَى أَوَّلِهِ فِي الْإِيتَارِ وَيُعِيدُ الْمُنَكَّسَ فِي التَّنْكِيسِ مَعَ عَدَمِ الطُّولِ لِأَنَّ تَكَرُّرَ كَلِمَاتِهِ مِنْ بَابِ التَّأْسِيسِ لَا مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ، وَهَذَا آخِرُ الْأَذَانِ الشَّرْعِيِّ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ مِمَّا يَقُولُهُ الْمُؤَذِّنُونَ مِنْ الدُّعَاءِ وَالتَّسْبِيحِ فَغَيْرُ مَشْرُوعٍ، بَلْ قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: إنَّهُ بِدْعَةٌ فَمَا كَانَ مِنْ ذِكْرٍ أَوْ تَسْبِيحٍ مِمَّا يَقُولُهُ آخِرَ اللَّيْلِ فَهُوَ بِدْعَةٌ حَسَنَةٌ وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمَكْرُوهٌ 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كَلِمَاتِهِ مَرْتَبَةٌ وَمُتَوَالِيَةٌ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفَصْلُ بَيْنَهَا وَلَوْ بِإِشَارَةٍ لِسَلَامٍ، فَإِنْ فَصَلَ وَلَوْ بِأَكْلٍ أَوْ كَلَامٍ وَلَوْ وَجَبَ لِكَإِنْقَاذِ أَعْمَى بَنَى إنْ لَمْ يُطِلْ فَإِنْ طَالَ ابْتَدَأَهُ لِبُطْلَانِهِ، كَمَا يَبْطُلُ لَوْ مَاتَ أَوْ جُنَّ أَوْ كَفَرَ فِي أَثْنَائِهِ، وَلَا يَبْنِي الثَّانِيَ عَلَى فِعْلِ الْأَوَّلِ وَلَوْ قَرُبَ، وَأَمَّا لَوْ نَسِيَ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ بِالْقُرْبِ أَعَادَ مِنْ مَوْضِعِ نَسِيَ إذَا كَانَ الْمَنْسِيُّ جُلَّهُ، وَإِنْ كَانَ نَحْوَ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ مَرَّةً فَلَا يُعِيدُ شَيْئًا، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَعَادَ الْأَذَانَ إنْ كَانَ الَّذِي أَتَى بِهِ لَا يَعُدُّهُ السَّامِعُ أَذَانًا وَإِلَّا لَمْ يُعِدُّهُ. . 1 - الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ شُرُوطَهُ وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: شُرُوطُ صِحَّةٍ وَشُرُوطُ كَمَالٍ، فَشُرُوطُ الصِّحَّةِ: النِّيَّةُ وَيَكْفِي نِيَّةُ الْفِعْلِ، وَالْإِسْلَامُ فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْكَافِرِ وَإِنْ حُكِمَ بِصِحَّةِ إسْلَامِهِ لِنُطْقِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ بَلْ حَكَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ يُؤْمِنُ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْخُصُوصِ فَيُحْمَلُ بِأَذَانِهِ عَلَى أَنَّهُ مُؤْمِنٌ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ بِحَيْثُ إذَا رُفِعَ لِحَاكِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحُكْمُ بِصِحَّةِ إيمَانِهِ، وَإِنْ ادَّعَى أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ لِعُذْرٍ قُبِلَ إنْ دَلَّ عَلَى عُذْرِهِ دَلِيلٌ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَقُبِلَ عُذْرُ مَنْ أَسْلَمَ وَقَالَ أَسْلَمْت عَنْ ضِيقٍ إنْ ظَهَرَ عَلَيْهِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ أَذَانُهُ بَاطِلٌ لِابْتِدَائِهِ قَبْلَ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِسْلَامُ، وَاخْتُلِفَ إنْ أَذَّنَ عَازِمًا عَلَى الْإِسْلَامِ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِيهِ، فَعَلَى مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ ابْنِ نَاجِي يَصِحُّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ كَغَيْرِهِ بُطْلَانُهُ وَلَوْ كَانَ عَازِمًا وَيَنْظُرُ مَا الْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الطَّهَارَة، وَأَمَّا لَوْ ارْتَدَّ بَعْدَ أَذَانِهِ مُسْلِمًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يَبْطُلُ أَذَانُهُ وَيُعَادُ إنْ كَانَ وَقْتُهُ بَاقِيًا، وَقَالَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّوَادِرِ: فَإِنْ أَعَادُوا فَحَسَنٌ وَإِنْ اجتزءوا بِهِ أَجْزَأَهُمْ، وَعَلَى كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ: لَوْ خَرَجَ الْوَقْتُ بَطَلَ ثَوَابُهُ كَمَنْ ارْتَدَّ بَعْدَ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ إنْ رَجَعَ لِلْإِسْلَامِ وَقْتَهَا أَعَادَهَا وَإِنْ رَجَعَ بَعْدَهَا لَمْ يُعِدْهَا وَيَبْطُلُ ثَوَابُهَا. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. وَالذُّكُورَةُ: فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الْمَرْأَةِ وَلَوْ لِنِسَاءِ، فَأَذَانُهَا بِحَضْرَةِ الرِّجَالِ حَرَامٌ، وَقِيلَ: مَكْرُوهٌ. وَالْبُلُوغُ: فَلَا يَصِحُّ أَذَانُ الصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ لِلْبَالِغِينَ وَلَا يَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَابِطًا تَابِعًا لِبَالِغٍ فَيَصِحُّ وَيَصِحُّ أَذَانُهُ لِصِبْيَانٍ مِثْلِهِ. وَالْعَقْلُ وَالْعِلْمُ بِالْوَقْتِ قَالَ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُ بِإِسْلَامٍ وَعَقْلٍ وَذُكُورَةٍ وَبُلُوغٍ، وَشُرُوطُ الْكَمَالِ الطَّهَارَةُ وَكَوْنُهُ صَيِّتًا حَسَنَ الصَّوْتِ مُرْتَفِعًا وَقَائِمًا إلَّا لِعُذْرٍ وَمُسْتَقْبِلًا إلَّا لِإِسْمَاعٍ. الثَّالِثُ: يُسْتَحَبُّ لِكُلِّ مَنْ سَمِعَ الْأَذَانَ أَنْ يَحْكِيَهُ لِمُنْتَهَى الشَّهَادَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَرْجِيحٍ، كَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُؤَذِّنِ وَالسَّامِعِ أَيْضًا أَنْ يُصَلِّيَ وَيُسَلِّمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ فَرَاغِهِ ثُمَّ يَقُولُ عَقِبَ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْته، وَالْمَقَامُ الْمَحْمُودُ هُوَ الشَّفَاعَةُ فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالدَّعْوَةُ التَّامَّةُ هِيَ دَعْوَةُ الْأَذَانِ، وَالْوَسِيلَةُ مَنْزِلَةٌ فِي الْجَنَّةِ [صِفَةِ الْإِقَامَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْإِقَامَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِقَامَةُ) مَصْدَرُ أَقَامَ وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَلْفَاظُ الْمَخْصُوصَةُ (وِتْرٌ) أَيْ غَيْرُ مُثَنَّاةٍ مَا عَدَا التَّكْبِيرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُسَنُّ إقَامَةٌ مُفْرَدَةٌ وَثُنِّيَ تَكْبِيرُهَا لِفَرْضٍ وَإِنْ قَضَاءً تَقُولُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ (أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) مَرَّةً (أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ) مَرَّةً (حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ) مَرَّةً (حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ) مَرَّةً (قَدْ قَامَتْ الصَّلَاةُ) مَرَّةً، وَمَعْنَى قَامَتْ اسْتَقَامَتْ عِبَادَتُهَا وَآنَ الدُّخُولُ فِيهَا. (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) مَرَّةً وَاحِدَةً، وَتَقَدَّمَ إنْ شَفَعَهَا وَلَوْ جُلَّهَا أَعَادَهَا لِبُطْلَانِهَا وَلَوْ نَاسِيًا، فَكَلِمَاتُهَا اثْنَانِ وَثَلَاثُونَ كَلِمَةٌ وَجُمَلُهَا عَشْرٌ، وَأَمَّا كَلِمَاتُ الْأَذَانِ فَثَمَانِيَةٌ وَسِتُّونَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، وَاثْنَتَانِ وَسَبْعُونَ فِي الصُّبْحِ، وَجُمَلُهُ سَبْعَ عَشْرَةَ فِي غَيْرِ الصُّبْحِ، وَتِسْعَ عَشْرَةَ فِي الصُّبْحِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إفْرَادِهَا وَشَفْعِ الْأَذَانِ خَبَرُ مُسْلِمٍ: «كَانَ الْأَذَانُ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّتَيْنِ وَالْإِقَامَةُ مَرَّةً مَرَّةً» ، وَفِيهِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِلَالًا أَنْ يُشْفِعَ الْأَذَانَ وَيُوتِرَ الْإِقَامَةَ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَلَوْ أَوْتَرَ الْأَذَانَ وَلَوْ نِصْفَهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ بَطَلَ وَلَوْ غَلَطًا أَوْ سَهْوًا، وَمِثْلُهُ شَفْعُ الْإِقَامَةِ فَلَوْ نَكَّسَ أَعَادَ الْمُنَكَّسُ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَلِي بَحْثٌ فِي بُطْلَانِ الْإِقَامَةِ بِشَفْعِهَا وَلَوْ الْجَمِيعَ (تَنْبِيهٌ) : وَالْإِقَامَةُ مِثْلُ الْأَذَانِ فِي شُرُوطِ الصِّحَّةِ مَا عَدَا الذُّكُورَةَ وَهِيَ مِنْ الصَّبِيِّ لِلْبَالِغِينَ صَحِيحَةٌ كَالْأَذَانِ حَيْثُ كَانَ ضَابِطًا أَوْ لَا يَفْعَلُهَا إلَّا تَبَعًا لِأَمْرِ غَيْرِهِ بَلْ عِنْدَ حُصُولِ تَحْقِيقِ الْأَذَانِ مِنْ غَيْرِهِ تَصِحُّ إقَامَتُهُ لِغَيْرِهِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ضَابِطًا وَلَا تَابِعًا لِغَيْرِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَحْصُلُ بِهِ الْعِلْمُ بِدُخُولِ الْوَقْتِ وَمَا يَفْعَلُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ بِالصَّلَاةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهَا فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 بَابُ صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ، وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ وَالْإِحْرَامُ فِي الصَّلَاةِ أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ لَا يُجْزِئُ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ وَتَرْفَعُ يَدَيْكَ حَذْوَ مَنْكِبَيْكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] [بَاب صفة الْعَمَل فِي الصَّلَوَات الْمَفْرُوضَة] ِ (وَ) صِفَةُ الْعَمَلِ فِي (مَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ النَّوَافِلِ وَالسُّنَنِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَا يَتَّصِلُ بِالْفَرْضِ مَا يَلِيهِ فِي الطَّلَبِ لِيَشْمَلَ مَا كَانَ مِنْ النَّوَافِلِ سَابِقًا عَلَى فِعْلِ الْفَرْضِ كَأَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ أَوْ قَبْلَ الْعَصْرِ، وَيَشْمَلُ مَا كَانَ مِنْ السُّنَنِ غَيْرَ مُتَّصِلٍ بِفِعْلِ فَرْضٍ كَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ، وَمُرَادُهُ بِالْعَمَلِ مُطْلَقُ الْفِعْلِ لِيَشْمَلَ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ لِاشْتِمَالِ الصَّلَاةِ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَاةِ سَبْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً: النِّيَّةُ وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْقِيَامُ لَهَا وَالْفَاتِحَةُ وَالْقِيَامُ لَهَا وَالرُّكُوعُ وَالْقِيَامُ لَهُ وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالسُّجُودُ، وَالرَّفْعُ مِنْهُ وَالْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَالْجُلُوسُ بِقَدْرِ السَّلَامِ وَالسَّلَامُ وَالطُّمَأْنِينَةُ وَالِاعْتِدَالُ وَتَرْتِيبُ الْأَدَاءِ وَنِيَّةُ اقْتِدَاءِ الْمَأْمُومِ، وَالْمُرَادُ بِالنِّيَّةِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً أَوْ سُنَّةً أَوْ رَغِيبَةً لِافْتِقَارِ الْجَمِيعِ إلَى نِيَّةٍ خَاصَّةٍ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ فَرِيضَةً وَلَا سُنَّةً وَلَا رَغِيبَةً فَيَكْفِي نِيَّةُ فِعْلِ مَا قَصَدَهُ، وَلَوْ لَمْ يُلَاحِظْ كَوْنَهَا صَلَاةَ ضُحًى أَوْ تَرَاوِيحَ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي نَحْوِ الصَّوْمِ وَالْحَجِّ. قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: فِي تَحْرِيرِهِ أَقْوَالَ الصَّلَاةِ كُلَّهَا لَيْسَتْ فَرْضًا إلَّا ثَلَاثَةً: تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَالْفَاتِحَةُ وَالسَّلَامُ، وَأَفْعَالُهَا كُلُّهَا فَرَائِضُ إلَّا ثَلَاثَةً: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَالْجِلْسَةُ الْوُسْطَى وَالتَّيَامُنُ عِنْدَ السَّلَامِ، زَادَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَالِاعْتِدَالُ فَإِنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ اهـ. وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا اهْتَمَّ بِبَيَانِ الصِّفَةِ الْمُتَضَمِّنَةِ لِلْأَرْكَانِ وَغَيْرِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: يُؤْخَذُ مِنْ اقْتِصَارِ الْمُصَنِّفِ عَلَى بَيَانِ الصِّفَةِ أَنَّ مَنْ أَتَى بِصَلَاةٍ عَلَى صِفَةِ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ تُجْزِيهِ، وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ فَرْضَهَا مِنْ سُنَّتِهَا، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ أَخَذَ وَصْفَهَا مِنْ فِعْلِ عَالِمٍ، وَلَمَّا كَانَ مِفْتَاحُهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ قَالَ: (وَالْإِحْرَامُ فِي الصَّلَاةِ) وَلَوْ نَافِلَةً رُكْنٌ وَصِفَتُهُ (أَنْ تَقُولَ اللَّهُ أَكْبَرُ) بِالْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ قَدْرَ أَلِفٍ فَإِنْ تَرَكَهُ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ، كَمَا أَنَّ الذَّاكِرَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَذَا اللَّفْظِ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَيُحْذَرُ مِنْ مَدِّ هَمْزَةِ اللَّهِ حَتَّى يَصِيرَ مُسْتَفْهِمًا، وَمِنْ مَدِّ بَاءِ أَكْبَرُ، وَمِنْ تَشْدِيدِ رَائِهِ، وَمِنْ الْفَصْلِ الطَّوِيلِ بَيْنَ اللَّهُ وَأَكْبَرُ، وَمِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ إشْبَاعِ الْهَاءِ مِنْ اللَّهِ، وَزِيَادَةِ وَاوٍ مَعَ هَمْزَةِ أَكْبَرُ، فَإِنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلتَّكْبِيرِ، كَمَا يُبْطِلُ مَا وَقَعَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِدُخُولِ وَقْتِ مَا أُحْرِمْ لَهُ مِنْ فَرْضٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَأَمَّا زِيَادَةُ وَاوٍ قَبْلَ هَمْزَةِ أَكْبَرُ أَوْ قَلْبُ الْهَمْزَةِ وَاوًا أَوْ إشْبَاعُ الْهَاءِ مِنْ اللَّهِ أَوْ وَقْفَةٌ يَسِيرَةٌ بَيْنَ اللَّهِ وَأَكْبَرُ، أَوْ تَحْرِيكُ الرَّاءِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ الْإِحْرَامُ، وَخَبَرُ التَّكْبِيرِ جَزْمٌ لَا أَصْلَ لَهُ وَعَلَى صِحَّتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَرَدُّدَ فِيهِ، فَلَوْ أَبْدَلَ اللَّهُ أَكْبَرُ بِالْعَظِيمِ أَوْ الْجَلِيلِ أَوْ أَبْدَلَ اللَّهُ بِالْعَزِيزِ لَا يَجْزِيهِ، وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، حَيْثُ قَدَّرَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَلِذَلِكَ قَالَ: (لَا يُجْزِئُ غَيْرُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ) بِشُرُوطِهَا الَّتِي مَرَّتْ، وَأَمَّا لَوْ عَجَزَ عَنْهَا أَوْ قَدَّرَ مِنْهَا عَلَى مَا لَا مَعْنَى لَهُ فَيَكْفِيهِ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا يُكَلَّفُ الدُّخُولَ بِغَيْرِهَا كَاَللَّهِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ مَا أَتَى بِهِ أَعْجَمِيًّا عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ اقْتِصَارِهِمْ عَلَى كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ دُونَ قَوْلِهِمْ بِالْبُطْلَانِ. وَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا مِنْ الْبُطْلَانِ فَمَبْنِيٌّ عَلَى كَلَامِ الْقَرَافِيِّ مِنْ بُطْلَانِهَا بِالدُّعَاءِ أَوْ التَّسْبِيحِ أَوْ التَّكْبِيرِ بِالْعَجَمِيَّةِ، وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي مَكْرُوهَاتِ الصَّلَاةِ أَوْ بِعَجَمِيَّةٍ لِقَادِرٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ الْعَمَلُ وَخَبَرُ الْمُسِيءِ صَلَاتَهُ، «إذَا قُمْت إلَى الصَّلَاةِ فَكَبِّرْ، ثُمَّ اقْرَأْ مَا تَيَسَّرَ مَعَك مِنْ الْقُرْآنِ، ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ جَالِسًا، ثُمَّ اُسْجُدْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ سَاجِدًا، ثُمَّ افْعَلْ ذَلِكَ فِي صَلَاتِكَ كُلِّهَا» ، رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. وَخَبَرُ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَتَجِبُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ عَلَى الْمَأْمُومِ كَمَا تَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ إلَّا الْقِيَامَ لَهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ وَالْمَأْمُومِ غَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 تَقْرَأُ فَإِنْ كُنْت فِي الصُّبْحِ قَرَأَتْ جَهْرًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، لَا تَسْتَفْتِحُ بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّورَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَإِذَا قُلْت وَلَا الضَّالِّينَ فَقُلْ آمِينَ إنْ كُنْت وَحْدَكَ أَوْ خَلْفَ إمَامٍ وَتُخْفِيهَا وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ   [الفواكه الدواني] الْمَسْبُوقِ، وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ وَهُوَ مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِالرُّكُوعِ فَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ تَأْوِيلَانِ فِي فَهْمِ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِذَا كَبَّرَ لِلرُّكُوعِ وَنَوَى بِهِ الْعَقْدَ أَجْزَأَهُ الْبَاجِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ التَّكْبِيرُ لَهُ إنَّمَا هُوَ فِي حَالِ الِانْحِنَاءِ قَالَا: وَهُوَ ظَاهِرُهَا، وَقَالَ غَيْرُهُمَا: مَعْنَاهَا كَبَّرَ قَائِمًا. ابْنُ الْمَوَّازِ: لَوْ كَبَّرَ مُنْحَنِيًا لَمْ تَصِحَّ لَهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ، وَشَهَرَهُ فِي التَّنْبِيهَاتِ عَلَى الْوُجُوبِ إذَا وَجَدَ إمَامَهُ رَاكِعًا، وَابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ قَائِمًا، وَأَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَ تَمَامِ انْحِطَاطِهِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَعَلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ يَعْتَدُّ بِهَا، وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ يَنْوِي بِتَكْبِيرَةِ الرُّكُوعِ وَالْإِحْرَامِ أَوْ الْإِحْرَامِ فَقَطْ أَوْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ يَنْصَرِفُ لِلْإِحْرَامِ، وَأَمَّا لَوْ ابْتَدَأَ التَّكْبِيرَ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ أَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، فَإِنَّ الرَّكْعَةَ تَبْطُلُ قَوْلًا وَاحِدًا، وَإِحْرَامُهُ صَحِيحٌ، وَمَا لَوْ فَصَلَ بَيْنَ أَجْزَاءِ التَّكْبِيرِ لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ سَوَاءٌ افْتَتَحَهُ مِنْ قِيَامٍ أَوْ مِنْ انْحِطَاطٍ، فَالصُّوَرُ سِتٌّ: صُورَتَانِ مَحَلُّ التَّأْوِيلَيْنِ، وَصُورَتَانِ تَبْطُلُ فِيهِمَا الرَّكْعَةُ فَقَطْ، وَصُورَتَانِ تَبْطُلُ فِيهِمَا الصَّلَاةُ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ التَّكْبِيرَ نَفْسُ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ نَفْسُ الْخَبَرِ مَعَ أَنَّ إضَافَةَ التَّكْبِيرِ لِلْإِحْرَامِ تَقْتَضِي الْمُغَايَرَةَ، وَأَجَابَ بَعْضٌ بِأَنَّ الْإِضَافَةَ بَيَانِيَّةٌ، وَهَذَا عَيْنُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: الْإِحْرَامُ النِّيَّةُ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْإِحْرَامَ مُرَكَّبٌ مِنْ عَقْدٍ هُوَ النِّيَّةُ، وَقَوْلٍ هُوَ التَّكْبِيرُ، وَفِعْلٍ هُوَ الِاسْتِقْبَالُ، فَإِضَافَةُ التَّكْبِيرِ إلَى الْإِحْرَامِ مِنْ إضَافَةِ الْجُزْءِ إلَى الْكُلِّ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: الْإِحْرَامُ ابْتِدَاؤُهَا بِالتَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لِنِيَّتِهَا. (فَرْعٌ) وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ ثُمَّ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَإِنْ كَانَ شَكُّهُ قَبْلَ أَنْ يَرْكَعَ كَبَّرَ بِغَيْرِ سَلَامٍ، ثُمَّ اسْتَأْنَفَ الْقِرَاءَةَ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ أَنْ رَكَعَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَقْطَعُ وَيَبْتَدِئُ، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ شَكِّهِ أَنَّهُ كَانَ أَحْرَمَ جَرَى عَلَى مَنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ، ثُمَّ بَانَ لَهُ الطُّهْرُ، وَلَوْ كَانَ الشَّاكُّ إمَامًا فَقَالَ سَحْنُونٌ: يَمْضِي فِي صَلَاتِهِ، وَإِذَا سَلَّمَ سَأَلَهُمْ فَإِنْ قَالُوا: أَحْرَمْت رَجَعَ قَوْلُهُمْ، وَإِنْ شَكُّوا أَعَادَ جَمِيعُهُمْ، اُنْظُرْ تَبْصِرَةَ اللَّخْمِيِّ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك فِي إحْرَامِكَ أَنْ (تَرْفَعَ يَدَيْك) حِينَ شُرُوعِكَ بِحَيْثُ تَجْعَلُهَا (حَذْوَ مَنْكِبَيْك) بِفَتْحِ الْمِيمِ تَثْنِيَةُ مَنْكِبٍ وَهُوَ مَجْمَعُ عَظْمِ الْعَضُدِ وَالْكَتِفِ. (أَوْ) تَجْعَلُهُمَا (دُونَ ذَلِكَ) أَيْ بِحَيْثُ يُحَاذِيَانِ الصَّدْرَ، وَبَقِيَ قَوْلٌ ثَالِثٌ يَرْفَعُهُمَا حَذْوَ الْأُذُنَيْنِ، وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ وَاخْتَارَهُ الْعِرَاقِيُّونَ، وَصِفَةُ رَفْعِهِمَا عَلَى كُلِّ قَوْلٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ أَنْ تَكُونَ الْيَدَانِ قَائِمَتَيْنِ بِحَيْثُ تُحَاذِي كَفَّاهُ مَنْكِبَيْهِ وَأَصَابِعُهُ أُذُنَيْهِ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ، وَهِيَ صِفَةُ الرَّاغِبِ؛ لِأَنَّ الرَّاغِبَ لِلشَّيْءِ يَبْسُطُ لَهُ يَدَيْهِ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ يَرْفَعُهُمَا صِفَةُ الرَّاهِبِ بِأَنْ يَجْعَلَ ظُهُورَهُمَا إلَى السَّمَاءِ وَبُطُونَهُمَا إلَى الْأَرْضِ، وَفِي تت نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا قَدَّمْنَا فَإِنَّهُ قَالَ: الرَّاغِبُ يَجْعَلُ بُطُونَ يَدَيْهِ لِلسَّمَاءِ، وَالرَّاهِبُ يَجْعَلُ بُطُونَهُمَا لِلْأَرْضِ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمُ قِيَامِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْيَدَيْنِ فِيمَا تَقَدَّمَ غَيْرُ الْكَفَّيْنِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى الْأَوَّلِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ حَذْوَ مَنْكِبِهِ إذَا افْتَتَحَ الصَّلَاةَ» وَدَلِيلُ الثَّالِثِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَفَعَ يَدَيْهِ حَتَّى حَاذَى بِهِمَا أُذُنَيْهِ» . وَدَلِيلُ الثَّانِي مَا فِي أَبِي دَاوُد وَقَالَ وَائِلُ بْنُ حُجْرٍ: " رَأَيْت أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْفَعُونَ أَيْدِيَهُمْ إلَى صُدُورِهِمْ فِي افْتِتَاحِ الصَّلَاةِ " وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ فِي رَفْعِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَدُونَ ذَلِكَ إجْمَاعًا، وَيُسْتَحَبُّ كَشْفُهُمَا عِنْدَ الْإِحْرَامِ كَمَا يُسْتَحَبُّ إرْسَالُهُمَا بَعْدَ التَّكْبِيرِ لِكَرَاهَةِ الْقَبْضِ فِي الْمَفْرُوضَةِ، وَيَكُونُ إرْسَالُهُمَا بِرِفْقٍ وَلَا يَرْفَعُهُمَا إلَى قُدَّامُ، وَحِكْمَةُ اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ إمَّا لِمُخَالَفَةِ الْمُنَافِقِينَ فِي ضَمِّ أَذْرُعِهِمْ إلَى أَجْنَابِهِمْ حِرْصًا عَلَى بَقَاءِ أَصْنَامِهِمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَأُمِرْنَا بِالرَّفْعِ لِمُخَالَفَتِهِمْ، وَلِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْمُصَلِّيَ قَدْ رَفَضَ الدُّنْيَا وَأَقْبَلَ عَلَى رَبِّهِ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ (تَقْرَأُ) مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِتَسْبِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ هُنَا، فَثُمَّ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى الْفَاءِ لِعَدَمِ تَأْخِيرِ الْقِرَاءَةِ عَنْ التَّكْبِيرِ. (فَإِنْ كُنْت فِي) صَلَاةِ (الصُّبْحِ) أَوْ الْجُمُعَةِ أَوْ الْمَغْرِبِ أَوْ الْعِشَاءِ (قَرَأْت جَهْرًا) بِحَيْثُ تُسْمِعُ مَنْ يَلِيكَ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَهِيَ فَاتِحَةُ الْكِتَابِ، وَسُمِّيَتْ بِأُمِّ الْقُرْآنِ لِجَمْعِهَا لِمَعَانِيهِ وَلَكِنْ (لَا تَسْتَفْتِحُ) قِرَاءَتَك (بِبِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ فِي أُمِّ الْقُرْآنِ وَلَا فِي السُّورَةِ) أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا تَقْرَؤُهُ (الَّتِي بَعْدَهَا) سِرًّا وَلَا جَهْرًا إمَامًا كُنْت أَوْ فَذًّا أَوْ مَأْمُومًا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ الْإِمَامِ أَحْمَدَ وَأَبِي حَنِيفَةَ لَيْسَتْ آيَةً مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ أَوَّلِ كُلِّ سُورَةٍ، فَيُنْهَى الْمُصَلِّي عَنْ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَرِيضَةِ نَهْيَ كَرَاهَةٍ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلِابْنِ نَافِعٍ قَوْلٌ بِوُجُوبِهَا كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ وَعِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ إبَاحَتُهَا وَعُزِيَ لِابْنِ مَسْلَمَةَ نَدْبُهَا، وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ حَدِيثُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ وَالْعَمَلُ، وَكَانَ الْمَازِرِيُّ يَأْتِي بِهَا سِرًّا فَكُلِّمَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: مَذْهَبُ مَالِكٍ كُلُّهُ عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ مَنْ يُبَسْمِلُ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِبُطْلَانِ صَلَاةِ تَارِكِهَا، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، وَقَدْ ذَكَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَيَقُولُهَا فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ، وَفِي قَوْلِهِ إيَّاهَا فِي الْجَهْرِ اخْتِلَافٌ، ثُمَّ تَقْرَأُ سُورَةً مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَإِنْ كَانَتْ أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] الْقَرَافِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَالْغَزَالِيُّ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ مِنْ الْوَرَعِ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ بِقِرَاءَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الصَّلَاةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قِرَاءَةُ الْفَاتِحَةِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ بَعْدَ إحْدَى التَّكْبِيرَاتِ، لَكِنْ مَعَ بَعْضِ دُعَاءٍ لِتَصِيرَ الصَّلَاةُ صَحِيحَةً بِاتِّفَاقٍ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ عِنْدَنَا رُكْنٌ وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ الْبَسْمَلَةِ فِي الْفَرِيضَةِ إذَا أَتَى بِهَا عَلَى وَجْهِ أَنَّهَا فَرْضٌ مِنْ غَيْرِ تَقْلِيدٍ لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا، وَأَمَّا إذَا أَتَى بِهَا مُقَلِّدًا لَهُ أَوْ بِقَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِفَرِيضَةٍ وَلَا نَفْلِيَّةٍ فَلَا كَرَاهَةَ، بَلْ وَاجِبَةٌ إذَا قَلَّدَ الْقَائِلُ بِالْوُجُوبِ وَمُسْتَحَبَّةٌ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَسْمَلَةُ وَالتَّعَوُّذُ فِي النَّافِلَةِ فَالْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: ثُمَّ تَقْرَأُ وُجُوبُ الْقِرَاءَةِ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنَّمَا تَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتِحَةٌ بِحَرَكَةِ لِسَانٍ عَلَى إمَامٍ وَفَذٍّ فَيَجِبُ تَعَلُّمُهَا إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا ائْتَمَّ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنَا فَالْمُخْتَارُ سُقُوطُهَا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَفْصِلَ بَيْنَ التَّكْبِيرِ وَالرُّكُوعِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَقِرَاءَةُ الْإِمَامِ قِرَاءَةٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ ضَامِنٌ لِقِرَاءَتِهِ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ تَجِبُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ الْجُلِّ خِلَافٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ أُمِّ الْقُرْآنِ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا صَلَاةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأْ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ» . وَخَبَرُ: «كُلُّ صَلَاةٍ لَا يُقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَهِيَ خِدَاجٌ خِدَاجٌ خِدَاجٌ قَالَهُ ثَلَاثًا» أَيْ غَيْرُ تَمَامٍ، وَهَذَا شَامِلٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ وَالنَّفَلِ فَلَا يَقُومُ غَيْرُ الْفَاتِحَةِ مَقَامَهَا. الثَّانِي: حُكْمُ الْجَهْرِ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ، وَحُكْمُ السِّرِّ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ السُّنِّيَّةِ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ حَقِيقَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا فِي آخِرِ هَذَا الْبَابِ، وَإِذَا قَرَأَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ جَهْرًا وَفِي مَحَلِّ الْجَهْرِ سِرًّا فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِي الْأُولَى بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِزِيَادَةٍ وَفِي الثَّانِي قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِنَقْصٍ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَتَذَكَّرْ الْمُخَالَفَةَ لَهُ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَإِلَّا أَعَادَ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَنِهَا، وَهَلْ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُخَالَفَةُ لَهُ بِأَلْ كَالْفَاتِحَةِ أَوْ جُلِّهَا، وَكَانَتْ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً وَإِلَّا فَلَا سُجُودَ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا وَقَعَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَأَمَّا لَوْ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ أَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ عَمْدًا فَقِيلَ: يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَقِيلَ: تَبْطُلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ أَوَّلًا وَلَا سُجُودَ خِلَافٌ. الثَّالِثُ: لَوْ قَرَأَ فِي الصُّبْحِ أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ سِرًّا، وَلَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ وَقُلْنَا لَا يَرْجِعْ فَلَوْ خَالَفَ رَجَعَ لِأَجْلِ الْجَهْرِ فَقِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِرُجُوعِهِ مِنْ فَرْضٍ إلَى سُنَّةٍ، وَقِيلَ: لَا تَبْطُلُ وَهُوَ الظَّاهِرُ كَمَا فِي تَارِكِ الْجُلُوسِ بَعْدَ اثْنَتَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ يَرْجِعُ لَهُ بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا تَبْطُلُ إنْ رَجَعَ وَلَوْ اسْتَقَلَّ. (فَإِذَا) قَرَأْت أُمَّ الْقُرْآنِ وَ (قُلْت وَلَا الضَّالِّينَ فَقُلْ) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (آمِينَ) بِالْمَدِّ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَاعِيلَ، وَبِالْقَصْرِ مَعَ تَخْفِيفِ الْمِيمِ عَلَى وَزْنِ فَعِيلَ، وَبِالْمَدِّ مَعَ تَشْدِيدِ الْمِيمِ وَالنُّونُ مَفْتُوحَةً عَلَى اللُّغَاتِ الثَّلَاثِ، وَالْمَشْهُورُ لُغَةُ وَسُنَّةُ الْمَدِّ مَعَ التَّخْفِيفِ، وَعَلَى هَذِهِ اللُّغَةِ فَقِيلَ: إنَّهُ عَجَمِيٌّ مُعَرَّبٌ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَاعِيلَ، وَقِيلَ: عَرَبِيٌّ: مَبْنِيٌّ عَلَى الْفَتْحِ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ لِطَلَبِ الْإِجَابَةِ مَعْنَاهُ اسْتَجِبْ وَاسْمَعْ وَأَمِّنَّا خَيْبَةَ دُعَائِنَا، وَقِيلَ: إنَّهُ اسْمٌ عَرَبِيٌّ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى فَتَكُونُ نُونُهُ مَبْنِيَّةً عَلَى الضَّمِّ؛ لِأَنَّهُ مَعْرِفَةٌ مُنَادًى وَالتَّقْدِيرُ: يَا آمِينْ اسْتَجِبْ دُعَاءَنَا، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ اسْمُ فِعْلِ أَمْرٍ، وَلَيْسَ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لِأَنَّ الْمُخْتَارَ أَنَّ أَسْمَاءَهُ تَعَالَى تَوْقِيفِيَّةٌ وَلَمْ يَرِدْ مِنْهَا آمِينَ، وَعَلَى هَذَا ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةُ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ فَقُلْ إنَّ آمِينَ لَيْسَتْ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَلَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَهُوَ كَذَلِكَ إجْمَاعًا وَمَحَلُّ نَدْبِ التَّأْمِينِ (إنْ كُنْت وَحْدَك) سَوَاءٌ كَانَتْ الصَّلَاةُ سِرِّيَّةً أَوْ جَهْرِيَّةً (أَوْ خَلْفَ إمَامٍ) فِي السِّرِّيَّةِ أَوْ الْجَهْرِيَّةِ إنْ سَمِعَ قَوْلَ الْإِمَامِ وَلَا الضَّالِّينَ (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تُخْفِيَهَا) أَيْ لَفْظَ آمِينَ؛ لِأَنَّهَا دُعَاءٌ وَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِخْفَاءُ. (وَلَا يَقُولُهَا) أَيْ لَفْظَةَ آمِينَ (الْإِمَامُ فِيمَا جَهَرَ فِيهِ وَيَقُولُهَا فِيمَا أَسَرَّ فِيهِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ إلَخْ الِاتِّفَاقَ عَلَى عَدَمِ قَوْلِهَا قَالَ: (وَفِي قَوْلِهِ) أَيْ الْإِمَامِ (إيَّاهَا فِي الْجَهْرِ اخْتِلَافٌ) وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأْمِينُ فَذٍّ مُطْلَقًا وَإِمَامٍ بِسِرٍّ وَمَأْمُومٍ بِسِرٍّ أَوْ جَهْرٍ إنْ سَمِعَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَإِسْرَارُهُمْ بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي سَمِعَهُ لِلْجَهْرِ بِآخِرِ الْفَاتِحَةِ وَهُوَ لَفْظُ وَلَا الضَّالِّينَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ مَا قَبْلَهَا لَا إنْ لَمْ يَسْمَعْ آخِرَهَا وَإِنْ سَمِعَ مَا قَبْلَهُ. (ثُمَّ) بَعْدَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ (تَقْرَأُ) بَعْدَهَا عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ وَلَوْ آيَةً قَصِيرَةً كَذَوَاتَا أَفْنَانٍ أَوْ {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] أَوْ بَعْضَ آيَةٍ طَوِيلَةٍ كَآيَةِ الدَّيْنِ، وَالْأَفْضَلُ (سُورَةٌ) كَامِلَةٌ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ) الَّذِي أَوَّلُهُ الْحُجُرَاتُ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَمُنْتَهَاهُ النَّازِعَاتُ، وَمِنْ عَبَسَ إلَى الضُّحَى وَسَطٌ، وَمِنْ الضُّحَى إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ قِصَارٌ، فَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ السُّنَّةَ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَى كَمَالِ السُّورَةِ إذْ كَمَالُهَا مُسْتَحَبٌّ، وَيُكْرَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى بَعْضِهَا، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: ثُمَّ تَقْرَأُ أَنَّ السُّورَةَ مُؤَخَّرَةٌ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ قِيلَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَقِيلَ إنَّهُ شَرْطٌ فِي حُصُولِ السُّنِّيَّةِ فَلَوْ قَرَأَهَا قَبْلَ الْفَاتِحَةِ أَعَادَهَا إلَّا أَنْ يَرْكَعَ وَيَضَعَ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَكَإِسْقَاطِهَا فَتَفُوتُ وَيَسْجُدُ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِذَا أَعَادَهَا فَإِنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فَحَسَنٌ بِقَدْرِ التَّغْلِيسِ وَتَجْهَرُ بِقِرَاءَتِهَا فَإِذَا تَمَّتْ السُّورَةُ كَبَّرْتَ فِي انْحِطَاطِكَ لِلرُّكُوعِ فَتُمَكِّنُ يَدَيْكَ مِنْ رُكْبَتَيْكَ وَتُسَوِّي ظَهْرَكَ مُسْتَوِيًا وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَكَ وَلَا تُطَأْطِئُهُ وَتُجَافِي بَضْعَيْكَ عَنْ جَنْبَيْكَ وَتَعْتَقِدُ الْخُضُوعَ بِذَلِكَ بِرُكُوعِكَ   [الفواكه الدواني] يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ بَعْدَ قِرَاءَةِ السُّورَةِ هَلْ قَرَأَ الْفَاتِحَةَ أَمْ لَا؟ فَقَرَأَ الْفَاتِحَةَ وَأَعَادَ السُّورَةَ فَإِنَّهُ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ. وَفَهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: سُورَةً أَنَّهُ لَا يَقْرَأُ سُورَتَيْنِ فِي الرَّكْعَةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي حَقِّ الْفَذِّ وَالْإِمَامِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فِي السِّرِّيَّةِ فَلَا بَأْسَ بِقِرَاءَتِهِ سُورَةً ثَانِيَةً إذَا طَوَّلَ إمَامُهُ. (تَنْبِيهٌ) : قَوْلُهُ: مِنْ طِوَالٍ، قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: رَوَيْنَاهُ طِوَالٌ بِإِثْبَاتِ الْأَلِفِ وَكَسْرِ الطَّاءِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ طُوَلٌ بِضَمِّ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْوَاوِ مِنْ غَيْرِ أَلِفٍ بَعْدَ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ جَمْع طُولَى كَأُولَى وَأُوَلٌ وَأُخْرَى وَأُخَرٌ وَقُرْبَى وَقُرَبٌ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «السَّبْعُ الطُّوَالُ» وَهُوَ جَمْعُ طَوِيلٍ كَقَصِيرٍ وَقِصَارٍ. قَالَ فِي الصِّحَاحِ: الطُّوَلُ بِضَمِّ الطَّاءِ الطَّوِيلُ يُقَالُ فِيهِ طَوِيلٌ وَطُوَلٌ فَإِذَا أَفْرَطَ فِي الطُّولِ قِيلَ طَوَّالٌ مُشَدَّدًا، وَالطِّوَالُ بِالْكَسْرِ جَمْعُ طَوِيلٍ، وَأَمَّا الطَّوَالُ بِالْفَتْحِ فَهُوَ الزَّمَنُ الطَّوِيلُ، يُقَالُ: لَا أُكَلِّمُهُ طُوَالَ الدَّهْرِ وَطُولَ الدَّهْرِ، أَيْ لَا أُكَلِّمُهُ أَبَدًا، فَطُوَالُ وَطُولُ الدَّهْرِ بِمَعْنًى. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ بَعْدَ قَوْلِ الْفَاكِهَانِيِّ: لِأَنَّهُ جَمْعُ طُولَى، قَدْ يُقَالُ إنَّهُ جَمْعُ طَوِيلٍ فَلَا إشْكَالَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَتَّى يَعْتَرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّ الْأَصْلَ طُولٌ، قُلْت: لَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ طِوَالٌ جَمْعُ طَوِيلٍ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي وَصْفِ الْمُؤَنَّثِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ وَصْفُ السُّوَرِ، وَوَصْفُ الْمُؤَنَّثِ طُولَى وَجَمْعُهَا طُوَلٌ وَطِوَالٌ جَمْعُ طَوِيلٍ وَصْفُ الْمُذَكَّرِ، فَكَلَامُ الْفَاكِهَانِيِّ فِي مَحَلِّهِ اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْأُجْهُورِيِّ كَالْمُصَنِّفِ طِوَالُ الْقُرْآنِ الْمُفَصَّلِ. (وَإِنْ كَانَتْ) السُّورَةُ الَّتِي تَقْرَؤُهَا فِي الصُّبْحِ (أَطْوَلَ مِنْ ذَلِكَ) بِأَنْ تَقْرَأَ سُورَةً قَرِيبَةً مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ (فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ (بِقَدْرِ) زَمَانِ (التَّغْلِيسِ) بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ إسْفَارٌ، وَالتَّغْلِيسُ اخْتِلَاطُ الظُّلْمَةِ بِالضِّيَاءِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي كِتَابِ عُمَرَ إلَى أَبِي مُوسَى - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: صَلِّ الصُّبْحَ وَالنُّجُومُ مُشْتَبِكَةٌ وَاقْرَأْ فِيهَا بِسُورَتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ مِنْ الْمُفَصَّلِ، وَإِنَّمَا نُدِبَ التَّطْوِيلُ فِي الصُّبْحِ لِإِدْرَاكِ النَّاسِ جَمَاعَتَهَا؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَلَى النَّاسِ عَدَمُ الِاجْتِمَاعِ قَبْلَ وَقْتِهَا، وَهَذَا التَّطْوِيلُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ إمَامٍ لِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ، أَوْ شَخْصٌ مُنْفَرِدٌ يَقْوَى عَلَى التَّطْوِيلِ، وَإِمَّا مُنْفَرِدٌ لَا يَقْوَى عَلَى التَّطْوِيلِ، أَوْ إمَامُ قَوْمٍ غَيْرِ مَحْصُورِينَ، فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِمْ عَدَمُ التَّطْوِيلِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ أَيْ إمَامًا لِلنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ فَإِنَّ فِيهِمْ السَّقِيمَ وَالضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ» . (وَ) يُسَنُّ أَنْ (نَجْهَرَ بِقِرَاءَتِهَا) كَمَا يُسَنُّ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ. (فَإِذَا تَمَّتْ السُّورَةُ) الْمُرَادُ مَا قَرَأْته بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ (كَبَّرْت) اسْتِنَانًا (فِي) حَالِ (انْحِطَاطِك لِلرُّكُوعِ) . قَالَ خَلِيلٌ: وَتَكْبِيرُهُ فِي الشُّرُوعِ إلَّا فِي قِيَامِهِ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَلِاسْتِقْلَالِهِ فَأُخِذَ مِنْ كَلَامِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: طَلَبُ التَّكْبِيرِ فِي حَالِ الرُّكُوعِ وَمُقَارَنَتُهُ لِلشُّرُوعِ فِيهِ وَالرُّكُوعُ، أَمَّا التَّكْبِيرُ فَسُنَّةٌ لَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ كُلُّ تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ خَلَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ أَوْ كُلُّ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ؟ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ: لَوْ تَرَكَ تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً غَيْرَ تَكْبِيرِ الْعِيدِ سَهْوًا لَا يَسْجُدُ، وَإِنْ سَجَدَ لَهَا قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ تَرَكَ أَكْثَرَ مِنْ سُنَّةٍ وَلَوْ جَمِيعَهُ يَسْجُدُ، فَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَطَالَ فَيَفْتَرِقُ الْقَوْلَانِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْجَمِيع سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ، وَعَلَى الْآخَرِ تَبْطُلُ بِتَرْكِ السُّجُودِ، لِثَلَاثٍ فَأَكْثَرَ لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى مَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ وَبِتَرْكِ قَبْلِي عَنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَطَالَ، وَأَمَّا مُقَارَنَتُهُ لِأَفْعَالِهَا فَمُسْتَحَبَّةٌ، وَأَمَّا الثَّالِثُ وَهُوَ الرُّكُوعُ فَفَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ الْمَجْمَعِ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ارْكَعُوا} [الحج: 77] وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ ثُمَّ ارْكَعْ حَتَّى تَطْمَئِنَّ رَاكِعًا» وَالرُّكُوعُ لُغَةً انْحِنَاءُ الظَّهْرِ، وَشَرْعًا فَأَقَلُّهُ الَّذِي لَا يُسَمَّى رُكُوعًا إلَّا بِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: انْحِنَاءٌ مَعَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى آخِرِ فَخِذَيْهِ بِحَيْثُ تَقْرُبُ بَطْنَا كَفَّيْهِ مِنْ رُكْبَتَيْهِ، فَلَوْ قَصُرَتَا لَمْ يَزِدْ عَلَى تَسْوِيَةِ ظَهْرِهِ. وَلَوْ قُطِعَتْ إحْدَاهُمَا وَضَعَ الْأُخْرَى عَلَى رُكْبَتِهَا، فَإِنْ لَمْ تَقْرُبْ رَاحَتَاهُ مِنْ رُكْبَتَيْهِ لَمْ يَكُنْ رُكُوعًا، وَوَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ سَدَّ لَهُمَا فِي حَالِ رُكُوعِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلِلْوَضْعِ ثَلَاثُ حَالَاتٍ أَشَارَ لِأَفْضَلِهَا بِقَوْلِهِ: (فَتُمَكِّنُ يَدَيْك) أَيْ كَفَّيْكَ مُفَرِّقًا أَصَابِعَهُمَا فِي حَالِ رُكُوعِك (مِنْ رُكْبَتَيْك) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (وَتُسَوِّي ظَهْرَكَ) حَالَ كَوْنِكَ (مُسْتَوِيًا) أَيْ مُعْتَدِلًا لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ «أَنَّهُ كَانَ إذَا رَكَعَ يُسَوِّي ظَهْرَهُ بِحَيْثُ لَوْ صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ وَوُضِعَ الْقَدَحُ عَلَيْهِ لَا يَذْهَبُ مِنْهُ شَيْءٌ» . (وَلَا تَرْفَعُ رَأْسَك وَلَا تُطَأْطِئُهُ) بِأَنْ تُخْفِضَهُ إلَى أَسْفَلَ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ. (وَ) إذَا مَكَّنْت يَدَيْك مِنْ رُكْبَتَيْك (تُجَافِي) أَيْ تَجْنَحُ وَتُبَاعِدُ مُتَوَسِّطًا (بَضْعَيْك) بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ (عَنْ جَنْبَيْك) فَأَطْلَقَ الْمُجَافَاةَ وَأَرَادَ بِهَا التَّجَنُّحَ الْمُتَوَسِّطَ كَمَا يَأْتِي، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَالْمَطْلُوبُ مِنْهَا الِانْضِمَامُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بِرُكُوعِهِ وَنَدْبُ تَمْكِينِهِمَا مِنْهُمَا وَنَصْبُهُمَا فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ وَضْعً الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مُسْتَحَبٌّ، فَلَوْ لَمْ يَضَعْهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ حَالَ رُكُوعِهِ بَلْ سَدَّ لَهُمَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ اسْتِحْبَابُ تَسْوِيَةِ الرُّكْبَتَيْنِ فَلَا يُبَالِغُ فِي الِانْحِنَاءِ فَيَجْعَلُهُمَا قَائِمَتَيْنِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ نَصْبُهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 وَسُجُودِكَ، وَلَا تَدْعُو فِي رُكُوعِكَ وَقُلْ إنْ شِئْت: سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمَ وَبِحَمْدِهِ، وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوْقِيتُ قَوْلٍ وَلَا حَدَّ فِي اللُّبْثِ ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَك وَأَنْتَ قَائِلٌ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ تَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ إنْ كُنْت وَحْدَكَ وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَيَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ وَتَسْتَوِي قَائِمًا مُطْمَئِنًّا مُتَرَسِّلًا ثُمَّ تَهْوِي   [الفواكه الدواني] تَسْوِيَةُ الْقَدَمَيْنِ فَلَا يَقْرِنُهُمَا وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الصِّفَةُ الْكَامِلَةُ فِي وَضْعِ الْيَدَيْنِ، وَبَقِيَ صِفَتَانِ إحْدَاهُمَا وَضْعُ الْيَدَيْنِ قُرْبَ الرُّكْبَتَيْنِ وَهَذِهِ أَدْنَى، وَيَلِيهَا صِفَةٌ أُخْرَى وَضْعُ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَمْكِينٍ فَ الْمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ عَلَى الْأَفْضَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الْوَضْعِ وَالتَّمْكِينِ وَالْمُجَافَاةِ الْمَذْكُورَةِ وَتَسْوِيَةَ الظَّهْرِ وَعَدَمَ رَفْعِ رَأْسِهِ وَعَدَمَ خَفْضِهِ الِاسْتِحْبَابُ، فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ شَيْءٍ مِنْهُ بَلْ يُكْرَهُ فَقَطْ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْك أَنْ (تَعْتَقِدَ) بِقَلْبِك (الْخُضُوعَ بِذَلِكَ) أَيْ (بِرُكُوعِك وَسُجُودِك) فَقَوْلُهُ بِرُكُوعِك بَيَانٌ لِاسْمِ الْإِشَارَةِ ، وَالْخُضُوعُ وَالتَّذَلُّلُ وَالْخُشُوعُ مُتَقَارِبَةُ الْمَعْنَى، وَهُوَ وُقُوعُ الْخَوْفِ فِي الْقَلْبِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ طَلَبِ الْخُشُوعِ فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ النَّدْبُ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ بِدَلِيلِ صِحَّةِ مَنْ تَفَكَّرَ بِدُنْيَوِيٍّ إذْ لَمْ يَقُولُوا بِبُطْلَانِهَا مَعَ ضَبْطِهِ أَفْعَالَهَا، وَإِنَّمَا ارْتَكَبَ مَكْرُوهًا، وَقِيلَ: إنَّهُ فَرْضٌ مِنْ فَرَائِضِ الصَّلَاةِ كَمَا عَدَّهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّهُ مِنْ فَرَائِضِهَا الَّتِي لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِهَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ فِي جُزْءٍ مِنْهَا وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، عَنْ الشَّيْخِ زَرُّوقٍ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَصْرِفَ اللَّهُ عَنْهُ الْخَوَاطِرَ الرَّدِيئَةَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى قَلْبِهِ وَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْخَلَّاقِ الْفَعَّالِ سَبْعَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ يَقُولُ: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} [إبراهيم: 20] (وَلَا نَدْعُو) بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرٌ أُرِيدَ بِهِ النَّهْيُ أَيْ يُكْرَهُ أَنْ تَدْعُوَ (فِي رُكُوعِك) وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّعْظِيمُ لِذَلِكَ قَالَ: (وَقُلْ) نَدْبًا فِي حَالِ رُكُوعِك (إنْ شِئْت سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ) وَإِنْ شِئْت سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى، فَقَوْلُهُ: إنْ شِئْت لَيْسَ الْمُرَادُ التَّخْيِيرَ فِي الْقَوْلِ وَعَدَمِهِ أَصْلًا؛ لِأَنَّ التَّسْبِيحَ وَنَحْوَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَقِيلَ سُنَّةٌ فَلَا يُكْرَهُ تَرْكُهُ سَوِيًّا لِفِعْلِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ وَنَدْبِ غَيْرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَادْعُوا فِيهِ بِمَا شِئْتُمْ أَوْ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ» فَقَمِنٌ أَيْ حَقِيقٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا صَحَّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ: سُبْحَانَك اللَّهُمَّ وَبِحَمْدِك اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي؛ لِأَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ فَعَلَهُ لِبَيَانِ جَوَازٍ، وَالْأَوَّلُ لِبَيَانِ الْأَوْلَى، وَأَتَمُّ مِنْ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ الدُّعَاءَ هُنَا وَهُوَ قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي تَبَعٌ لِلتَّسْبِيحِ الَّذِي قَبْلَهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا عَلَى اخْتِصَاصِ الرُّكُوعِ بِالتَّسْبِيحِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الواقعة: 74] قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوهَا فِي رُكُوعِكُمْ» . وَلَمَّا نَزَلَ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1] قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودِكُمْ» (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَرَاهَةُ الدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَهُوَ أَحَدُ مَوَاضِعِ الْكَرَاهَةِ، وَمِنْهَا الدُّعَاءُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْفَاتِحَةِ، وَمِنْهَا عَقِبَ التَّشَهُّدِ الْأَوَّلِ، وَمِنْهَا أَثْنَاءَ الْفَاتِحَةِ وَأَثْنَاءَ السُّورَةِ فِي الْفَرِيضَةِ دُونَ النَّافِلَةِ، وَمِنْهَا بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَقَبْلَ السُّورَةِ، وَمِنْهَا بَعْدَ الْجُلُوسِ وَقَبْلَ التَّشَهُّدِ، وَمِنْهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَقَبْلَ سَلَامِ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ مِنْهَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ إمَامُنَا يَفِرُّ مِنْ التَّحْدِيدِ فِي النَّوَافِلِ وَالْأَذْكَارِ قَالَ: (لَيْسَ فِي ذَلِكَ تَوْقِيتُ قَوْلٍ) أَيْ أَنَّ التَّسْبِيحَ لَا يَتَحَدَّدُ بِعَدَدٍ بِحَيْثُ إذَا نَقَضَ عَنْهُ يَفُوتُهُ الثَّوَابُ، بَلْ إذَا سَبَّحَ مَرَّةً يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ، وَإِنْ كَانَ يُزَادُ فِي الثَّوَابِ بِزِيَادَتِهِ. (وَلَا حَدَّ فِي اللُّبْثِ) أَيْ أَنَّ الرُّكُوعَ لَا حَدَّ لِزَمَنِ الْمُكْثِ فِيهِ زِيَادَةً عَلَى مَا يَطْلُبُ؛ لِأَنَّهُ يُحَصِّلُ فَرْضَهُ بِمُطْلَقِ الطُّمَأْنِينَةِ فِيهِ مَعَ الِاعْتِدَالِ، إذْ الطُّمَأْنِينَةُ فَرْضٌ فِي سَائِرِ الْأَرْكَانِ، وَأَمَّا الزَّائِدُ عَلَيْهَا فَهُوَ سُنَّةٌ وَلَا حَدَّ فِيهِ إلَّا أَنْ يَنْهَى عَنْ الطُّولِ الْمُفْرِطِ فِي الْفَرِيضَةِ بِخِلَافِ النَّافِلَةِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ الْفَذِّ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالْمَطْلُوبُ فِي حَقِّهِ التَّخْفِيفُ. (ثُمَّ) إذَا فَرَغْت مِنْ الرُّكُوعِ عَلَى النَّحْوِ الَّذِي قَالَهُ الْمُصَنِّفُ (تَرْفَعُ رَأْسَك) مِنْهُ وُجُوبًا حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا (وَأَنْتَ) أَيْ وَالْحَالُ (أَنَّك قَائِلٌ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ: (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) إنْ كُنْت إمَامًا أَوْ فَذًّا، (ثُمَّ تَقُولُ) مَعَ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ: (اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ) بِالْوَاوِ (إنْ كُنْت وَحْدَك وَلَا يَقُولُهَا الْإِمَامُ) بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ (وَلَا يَقُولُ الْمَأْمُومُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) ؛ لِأَنَّ هَذِهِ السُّنَّةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ. (وَإِنَّمَا يَقُولُ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ) ، وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْفَذَّ يَجْمَعُ بَيْنَ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ، وَالْإِمَامُ يَقْتَصِرُ عَلَى التَّسْمِيعِ وَالْمَأْمُومُ عَلَى التَّحْمِيدِ، وَإِنَّمَا الْفَذُّ بَيْنَهُمَا؛ لِأَنَّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 سَاجِدًا لَا تَجْلِسُ، ثُمَّ تَسْجُدُ وَتُكَبِّرُ فِي انْحِطَاطِكَ لِلسُّجُودِ فَتُمَكِّنُ جَبْهَتَكَ وَأَنْفَكَ مِنْ الْأَرْضِ وَتُبَاشِرُ بِكَفَّيْكَ الْأَرْضَ   [الفواكه الدواني] بِمَنْزِلَةِ الدُّعَاءِ، وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْمِينِ، وَفِي جَمْعِ الْمُصَنِّفِ بَيْنَ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ فِي رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ اتِّبَاعٌ لِمَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ مَعَهُمَا أَرْبَعُ جُمَلٍ، وَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: اللَّهُمَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَعَنْهُ رِوَايَةٌ ثَالِثَةٌ بِزِيَادَةِ الْوَاوِ فَقَطْ، وَرَابِعَةٌ بِنَقْصِ اللَّهُمَّ وَالْوَاوِ بِأَنْ يَقُولَ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ، وَالْكَلَامُ عَلَيْهَا جُمْلَتَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا قَالَ الْإِمَامُ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُولُوا: اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ قَوْلُهُ قَوْلَ الْمَلَائِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَمَعْنَى مُوَافَقَةِ الْمَلَائِكَةِ فِي النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ فَيُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْإِمَامَ يَقْتَصِرُ عَلَى سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَالْمَأْمُومُ إنَّمَا يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَأَمَّا الْفَذُّ فَيَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّةِ التَّسْمِيعِ وَالتَّحْمِيدِ «أَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ تَفُتْهُ صَلَاةٌ خَلْفَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَجَاءَ يَوْمًا وَقْتَ الْعَصْرِ فَظَنَّ أَنَّهَا فَاتَتْهُ مَعَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَاغْتَمَّ لِذَلِكَ وَهَرْوَلَ وَدَخَلَ الْمَسْجِدَ فَوَجَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُكَبِّرًا فِي الرُّكُوعِ فَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَكَبَّرَ خَلْفَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلَ جِبْرِيلُ وَالنَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الرُّكُوعِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقُلْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ فَقَالَهَا عِنْدَ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرْكَعُ بِالتَّكْبِيرِ، وَيَرْفَعُ بِهِ» فَصَارَتْ سُنَّةً مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ بِبَرَكَةِ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْهَرْوَلَةِ الْإِسْرَاعُ مِنْ غَيْرِ خَبَبٍ كَمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى السَّكِينَةِ مُقَدَّمَةٌ عَلَى إدْرَاكِ الْجَمَاعَةِ:. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ وَسَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مِنْ السُّنَنِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ جَمِيعُ التَّسْمِيعِ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كُلُّ مَرَّةٍ سُنَّةٌ؟ الْخِلَافُ فِي التَّكْبِيرِ يَأْتِي هُنَا وَمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى الْقَوْلَيْنِ مِنْ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ جَمِيعِهِ أَوْ ثَلَاثٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ سُنَّةٌ وَعَدَمُ الْبُطْلَانُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ سُنَّةٌ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْك بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ الرُّكُوعِ أَنْ (تَسْتَوِيَ) أَيْ تَعْتَدِلَ حَالَةَ كَوْنِك (قَائِمًا مُطْمَئِنًّا) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَطُمَأْنِينَةٌ وَاعْتِدَالٌ عَلَى الْأَصَحِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِلْمُسِيءِ صَلَاتَهُ «ثُمَّ ارْفَعْ حَتَّى تَعْتَدِلَ قَائِمًا» وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ أَنَّ الِاعْتِدَالَ نَصْبُ الْقَامَةِ وَالطُّمَأْنِينَةَ اسْتِقْرَارُ الْأَعْضَاءِ زَمَنًا مَا، وَيُطْلَبُ مِنْك زِيَادَةٌ عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ أَنْ تَكُونَ (مُتَرَسِّلًا) أَيْ مُتَمَهِّلًا زِيَادَةً عَلَى الطُّمَأْنِينَةِ؛ لِأَنَّ الزَّائِدَ عَلَيْهَا سُنَّةٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مُتَرَسِّلًا تَفْسِيرًا لِمُطْمَئِنًّا (ثُمَّ) بَعْدَ اعْتِدَالِك فِي رَفْعِك (تَهْوِي) بِفَتْحِ التَّاءِ أَيْ تَنْزِلُ إلَى الْأَرْضِ (سَاجِدًا لَا تَجْلِسُ) فِي هَوِيِّك (ثُمَّ تَسْجُدُ) فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ جَعَلَهُ سُنَّةً مُسْتَدِلًّا بِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَنَا مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - «أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا كَبِرَ سَنَةً وَثَقُلَتْ أَعْضَاؤُهُ» ، ثُمَّ إنْ خَالَفَ الْمَطْلُوبَ وَجَلَسَ ثُمَّ سَجَدَ فَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَلَا بُطْلَانَ إنْ لَمْ يَفْحُشْ، وَأَمَّا إنْ كَانَ سَهْوًا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُطَوِّلَ فَيَسْجُدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ. (وَ) يُسَنُّ أَنْ (تُكَبِّرَ فِي انْحِطَاطِك لِلسُّجُودِ) لِتَعُمَّ الرُّكْنَ بِالتَّكْبِيرِ وَتُقَدِّمَ يَدَيْك عَلَى رُكْبَتَيْك فِي هَوِيِّكَ لِلسُّجُودِ وَتُؤَخِّرَهُمَا عَنْ الرُّكْبَتَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ وَتَأْخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ: مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا سَجَدَ يَضَعُ رُكْبَتَيْهِ قَبْلَ يَدَيْهِ، وَإِذَا نَهَضَ يَرْفَعُ يَدَيْهِ قَبْلَ رُكْبَتَيْهِ» فَمُتَكَلَّمٌ فِيهِ بِالنَّسْخِ أَوْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ بَعْضُ الرُّوَاةِ، وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ السُّجُودِ (فَتُمَكِّنُ جَبْهَتَك) وَهِيَ مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إلَى النَّاصِيَةِ، وَالْفَرْضُ يَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِأَدْنَى جُزْءٍ مِنْهَا. (وَ) تُمَكِّنُ أَيْضًا (أَنْفَك مِنْ الْأَرْضِ) أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا وَهَذَا بَيَانٌ لِصِفَةِ السُّجُودِ الْكَامِلَةِ، وَأَمَّا أَصْلُ الْفَرْضِ فَيَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِالْجَبْهَةِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ تَمْكِينٍ، وَلِذَا قَالَ الْعُلَمَاءُ فِي تَعْرِيفِهِ: وَالسُّجُودُ شَرْعًا أَقَلُّهُ الْوَاجِبُ لُصُوقُ الْأَرْضِ أَوْ مَا اتَّصَلَ بِهَا مِنْ سَطْحِ غُرْفَةٍ أَوْ سَرِيرِ خَشَبٍ أَوْ شَرِيطٍ لِلْمَرِيضِ الْعَاجِزِ عَنْ النُّزُولِ إلَى الْأَرْضِ كَائِنًا ذَلِكَ، وَاللُّصُوقُ عَلَى أَدْنَى جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَهِيَ مُسْتَدِيرُ مَا بَيْنَ الْحَاجِبَيْنِ إلَى النَّاصِيَةِ، فَالْفَرْضُ يَحْصُلُ بِمَسِّ الْأَرْضِ بِأَدْنَى جُزْءٍ مِنْ جَبْهَتِهِ وَإِلْصَاقِ جَمِيعِهَا بِحَيْثُ تَسْتَقِرُّ مُنْبَسِطَةً مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، كَمَا يُسْتَحَبُّ السُّجُودُ عَلَى الْأَنْفِ، وَقِيلَ: يَجِبُ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ فَيُعِيدُ الصَّلَاةَ لِتَرْكِهِ فِي الْوَقْتِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَسُجُودٌ عَلَى جَبْهَتِهِ وَأَعَادَ لِتَرْكِ أَنْفِهِ بِوَقْتٍ، وَبِمَا قَرَّرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا اتَّصَلَ بِالْأَرْضِ كَالْأَرْضِ، وَأَنَّ الْفَرْضَ السُّجُودُ بِالْجَبْهَةِ لَا بِالْأَنْفِ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ كَلَامُهُ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى نَحْوِ الْقُطْنِ وَالصُّوفِ وَالْحَشِيشِ الَّذِي لَا يَسْتَقِرُّ تَحْتَ جَبْهَةِ السَّاجِدِ فَلَا يَصِحُّ كَالسُّجُودِ عَلَى الْعِمَامَةِ إلَّا مَا كَانَ قَدْرَ الطَّاقَةِ وَالطَّاقَتَيْنِ اللَّطِيفَتَيْنِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى السَّرِيرِ فَإِنْ كَانَ مِنْ الْخَشَبِ فَهُوَ كَسَقْفِ الْبَيْتِ يَصِحُّ السُّجُودُ عَلَيْهِ لِتَنَزُّلِهِ مَنْزِلَةَ الْأَرْضِ وَلَوْ لِلصَّحِيحِ، بِخِلَافِ مَا كَانَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بَاسِطًا يَدَيْكَ مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ تَجْعَلُهُمَا حَذْوَ أُذُنَيْكَ أَوْ دُونَ ذَلِكَ، وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ غَيْرُ أَنَّكَ لَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْكَ فِي الْأَرْضِ وَلَا تَضُمُّ عَضُدَيْكَ إلَى جَنْبَيْكَ، وَلَكِنْ تُجَنِّحُ بِهِمَا تَجْنِيحًا وَسَطًا، وَتَكُونُ رِجْلَاكَ فِي سُجُودِكَ قَائِمَتَيْنِ، وَبُطُونُ إبْهَامَيْهِمَا إلَى الْأَرْضِ وَتَقُولُ إنْ شِئْت فِي سُجُودِكَ سُبْحَانَكَ رَبِّي ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ إنْ شِئْت، وَتَدْعُو فِي السُّجُودِ إنْ شِئْت، وَلَيْسَ لِطُولِ ذَلِكَ وَقْتٌ وَأَقَلُّهُ أَنْ تُطَمْئِنَ مَفَاصِلُكَ مُتَمَكِّنًا ثُمَّ تَرْفَعُ رَأْسَك   [الفواكه الدواني] شَرِيطٍ أَوْ حَبْلٍ فَلَا يَصِحُّ السُّجُودُ عَلَيْهِ إلَّا لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ عَلَى الْأَرْضِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ وَلَوْ عَلَى سَرِيرٍ فَيَكْفِيهِ الْإِيمَاءُ، وَلَوْ كَانَ يَسْتَطِيعُ عَلَى أَنْفِهِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ إنَّمَا يُطْلَبُ تَبَعًا لِلسُّجُودِ عَلَى الْجَبْهَةِ فَحَيْثُ سَقَطَ فَرْضُهَا سَقَطَ تَابِعُهَا. (وَتُبَاشِرُ) نَدْبًا (بِكَفَّيْك الْأَرْضَ) فِي سُجُودِك وَكَذَا بِجَبْهَتِك؛ لِأَنَّهُ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَى حَصِيرٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ رَفَاهِيَةٌ إلَّا لِنَجَاسَةِ الْأَرْضِ أَوْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ لِكَوْنِهَا مَفْرُوشَةً فِي الْمَسْجِدِ فَلَا كَرَاهَةَ، وَتَكُونُ فِي حَالِ مُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ (بَاسِطًا يَدَيْك) أَيْ مَادًّا لَهُمَا حَالَةَ كَوْنِهِمَا (مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ) فَإِلَى الْقِبْلَةِ ظَرْفُ لَغْوٍ مُتَعَلِّقٌ بِبَاسِطًا، وَيُكْرَهُ السُّجُودُ عَلَيْهِمَا مَقْبُوضَتَيْنِ أَوْ مَادًّا لَهُمَا لِغَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَ (تَجْعَلُهُمَا) عِنْدَ وَضْعِهِمَا عَلَى الْأَرْضِ مَبْسُوطَتَيْنِ مُسْتَوِيَتَيْنِ إلَى الْقِبْلَةِ (حَذْوَ أُذُنَيْك أَوْ دُونَ ذَلِكَ) بِأَنْ تَضَعَهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْأُذُنَيْنِ، وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، فَلَوْ خَالَفَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لَك يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِعَمْدِهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ عَلَى الْيَدَيْنِ فَسُنَّةٌ كَالسُّجُودِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَالْقَدَمَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسُنَّ عَلَى أَطْرَافِ قَدَمَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ كَيَدَيْهِ عَلَى الْأَصَحِّ لِخَبَرِ: «أُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْظُمٍ» فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى السُّنِّيَّةِ بِدَلِيلِ آخِرِ الْحَدِيثِ وَهُوَ قَوْلُهُ: «وَلَا أَكْفِتَ الشَّعْرَ» فَإِنَّهُمْ نَصُّوا عَلَى عَدَمِ الْبُطْلَانِ بِكَفْتِهِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ لِلْوُجُوبِ، وَلَا يُقَالُ: إذًا لَا يَجِبُ السُّجُودُ عَلَى الْجَبْهَةِ فَإِنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: السُّجُودُ أُخِذَتْ فَرِيضَتُهُ مِنْ قَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: 77] وَحَقِيقَةُ السُّجُودِ وَضْعُ الْجَبْهَةِ بِالْأَرْضِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَضْعُ الْمَذْكُورُ لَا مَزِيَّةَ فِيهِ لِبَعْضِ الْوُجُوهِ قَالَ: (وَذَلِكَ) الْجَعْلُ (كُلُّهُ وَاسِعٌ) إذْ لَيْسَ مِنْ الْفَرَائِضِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ بِالْكَفَّيْنِ وَبَسْطِهِمَا وَمَا بَعْدَهُ وَهُوَ صَحِيحٌ (غَيْرُ أَنَّك لَا تَفْتَرِشُ ذِرَاعَيْك فِي الْأَرْضِ) بَلْ الْمُسْتَحَبُّ رَفْعُهُمَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا سَجَدَ أَحَدُكُمْ فَلَا يَفْتَرِشْ يَدَيْهِ كَافْتِرَاشِ الْكَلْبِ» ؛ لِأَنَّهُ مَكْرُوهٌ، كَمَا يُكْرَهُ افْتِرَاشُهُمَا عَلَى فَخِذَيْهِ. (وَلَا تَضُمَّ عَضُدَيْك) تَثْنِيَةُ عَضُدٍ وَهُوَ الْمِفْصَلُ مِنْ الْمِرْفَقِ إلَى الْكَتِفِ (إلَى جَنْبَيْك وَلَكِنْ تَجْنَحُ) أَيْ تَمِيلُ (بِهِمَا تَجْنِيحًا وَسَطًا) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ مَيْمُونَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَنَّهُ «كَانَ إذَا سَجَدَ جَنَحَ بِيَدَيْهِ حَتَّى يُرَى وَضَحُ إبْطَيْهِ أَيْ بَيَاضُ إبْطَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ» وَالْمَعْنَى كَمَا فِي رِوَايَةِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفَرِّجُ يَدَيْهِ عَنْ إبْطَيْهِ» قَالَ خَلِيلٌ: وَمُجَافَاةُ رِجْلٍ فِيهِ بَطْنَهُ عَنْ فَخِذَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِلسَّاجِدِ فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ الَّتِي لَمْ يُطَوِّلْ فِيهَا أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ بَطْنِهِ وَفَخِذَيْهِ، وَبَيْنَ مِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ، وَبَيْنَ ذِرَاعَيْهِ وَفَخِذَيْهِ، وَبَيْنَ رُكْبَتَيْهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَسَيَأْتِي أَنَّهَا تَكُونُ فِي سُجُودِهَا مُنْضَمَّةً. (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تَكُونَ رِجْلَاك) أَيْ صُدُورُ قَدَمَيْك (فِي) حَالِ (سُجُودِك قَائِمَتَيْنِ) بِأَنْ تَجْعَلَ كَعْبَيْك أَعْلَى (وَبُطُونُ إبْهَامَيْهِمَا إلَى الْأَرْضِ) وَكَذَا بُطُونُ سَائِرِ الْأَصَابِعِ، فَالنَّدْبُ مُتَعَلِّقٌ بِتِلْكَ الْهَيْئَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الْقَدَمَيْنِ سُنَّةٌ (وَتَقُولُ) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ (إنْ شِئْت فِي سُجُودِك سُبْحَانَك رَبِّي ظَلَمْت نَفْسِي وَعَمِلْت سُوءًا فَاغْفِرْ لِي) ؛ لِأَنَّهَا حَالَةٌ يَكُونُ الْعَبْدُ فِيهَا قَرِيبًا مِنْ رَبِّهِ، وَالتَّسْبِيحُ تَنْزِيهُ اللَّهِ تَعَالَى عَمَّا لَا يَلِيقُ بِهِ، وَمَعْنَى ظَلَمْت نَفْسِي أَطَعْتهَا فِي فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ شَرْعًا، وَمَعْنَى اغْفِرْ لِي اُسْتُرْ مَا وَقَعَ مِنِّي عَنْ الْمَلَائِكَةِ وَالْخَلْقِ يَوْمَ الْحِسَابِ وَلَا تُؤَاخِذُنِي بِهِ، وَسُبْحَانَ مِنْ الْمَصَادِرِ الْمُلَازِمَةِ لِلنَّصْبِ بِعَامِلٍ مُقَدَّرٍ تَقْدِيرُهُ سَبَّحْت أَوْ ذَكَرْت. (أَوْ) تَقُولُ (غَيْرَ ذَلِكَ) اللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ (إنْ شِئْت) ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَفِرُّ مِنْ التَّحْدِيدِ، وَإِنَّمَا اخْتَارَ الْمُصَنِّفُ التَّصْرِيحَ بِاللَّفْظِ الْمُتَقَدِّمِ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنْ آدَمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَهُ حِينَ أَكَلَ مِنْ الشَّجَرَةِ وَأُهْبِطَ إلَى الْأَرْضِ فَابْيَضَّ وَجْهُهُ بَعْدَ اسْوِدَادِهِ مِنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَلَمَّا كَانَ السُّجُودُ يَجُوزُ فِيهِ غَيْرُ التَّسْبِيحِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تَدْعُوَ فِي سُجُودِك) بَدَلَ التَّسْبِيحِ (بِمَا شِئْت) مِنْ الْأَدْعِيَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَدَعَا بِمَا أَحَبَّ وَإِنْ لِدُنْيَا، لَكِنْ لَا تَدْعُو إلَّا بِأَمْرٍ جَائِزٍ وَمُمْكِنٍ عَادَةً وَشَرْعًا، فَلَا تَدْعُو بِمُمْتَنِعٍ وَإِنْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ صَلَاتُك عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَإِنَّمَا قَالَ بِمَا شِئْت إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمَنْدُوبَ يَحْصُلُ بِمُطْلَقِ دُعَاءٍ. قَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ بِلَفْظٍ خَاصٍّ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} [الأعراف: 180] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 بِالتَّكْبِيرِ فَتَجْلِسُ فَتُثْنِي رِجْلَكَ الْيُسْرَى فِي جُلُوسِك بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَتَنْصِبُ الْيُمْنَى وَبُطُونُ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ. وَتَرْفَعُ يَدَيْك عَنْ الْأَرْضِ عَلَى رُكْبَتَيْك. ثُمَّ تَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَمَا فَعَلْت أَوَّلًا (ثُمَّ) تَقُومُ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا أَنْتَ مُعْتَمِدًا عَلَى   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا نَدْبُ الدُّعَاءِ بِكُلِّ مُمْكِنٍ، سَوَاءً كَانَ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ أَوْ الدُّنْيَا، سَوَاءً كَانَ فِي الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ، كَمَا وَرَدَ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -: إنِّي لِأَدْعُوَ اللَّهَ فِي حَوَائِجِي كُلِّهَا فِي الصَّلَاةِ حَتَّى بِالْمِلْحِ لَوْ سَمَّى الْمَدْعُوَّ عَلَيْهِ فِي صَلَاتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَوْ قَالَ: يَا فُلَانُ فَعَلَ اللَّهُ بِك كَذَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتَهُ حَيْثُ كَانَ غَائِبًا مُطْلَقًا أَوْ حَاضِرًا، وَلَمْ يَقْصِدْ مُخَاطَبَتَهُ وَإِلَّا بَطَلَتْ. الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ عَلَى الْمُسْلِمِ الْعَاصِي بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: أَفْتَى بَعْضُ شُيُوخِنَا بِالْجَوَازِ مُحْتَجًّا بِدُعَاءِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْهُ: {رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الْآيَةَ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ وَلَيْسَ فِي الْآيَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ؛ لِأَنَّهُ فَرَّقَ بَيْنَ الْكَافِرِ الْمَأْيُوسِ مِنْ إيمَانِهِ كَفِرْعَوْنَ وَبَيْنَ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي الْمَقْطُوعِ لَهُ بِالْجَنَّةِ إمَّا ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ عَذَابٍ، وَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ فِي حَدِيثِ: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ» إنَّهُ حُجَّةٌ لِلَعْنِ مَنْ لَمْ يُسَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَعْنٌ لِلْجِنْسِ وَلَعْنُ الْجِنْسِ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَوْعَدَهُمْ وَيُنَفِّذُ الْوَعِيدَ فِيمَنْ شَاءَ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْ لَعْنِ الْمُعَيَّنِ وَالدُّعَاءِ عَلَيْهِ بِالْإِبْعَادِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَهُوَ مَعْنَى اللَّعْنِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْقَرَافِيُّ: الدُّعَاءُ عَلَى الظَّالِمِ لَهُ أَحْوَالٌ: إمَّا بِعَزْلِهِ لِزَوَالِ ظُلْمِهِ فَقَطْ وَهَذَا حَسَنٌ، وَثَانِيهَا بِذَهَابِ أَوْلَادِهِ وَهَلَاكِ أَهْلِهِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ لَهُ تَعَلُّقٌ بِهِ، وَلَمْ يَحْصُلُ مِنْهُ جِنَايَةٌ عَلَيْهِ وَهَذَا يُنْهَى عَنْهُ لِأَذِيَّتِهِ مَنْ لَمْ يَمُنَّ عَلَيْهِ، وَثَالِثُهَا الدُّعَاءُ بِالْوُقُوعِ فِي مَعْصِيَةٍ كَابْتِلَائِهِ بِالشُّرْبِ أَوْ الْغِيبَةِ أَوْ الْقَذْفِ فَيُنْهَى عَنْهُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ إرَادَةَ الْمَعْصِيَةِ لِلْغَيْرِ مَعْصِيَةٌ، وَرَابِعُهَا الدُّعَاءُ عَلَيْهِ بِحُصُولِ مُؤْلِمَاتٍ فِي جِسْمِهِ أَعْظَمَ مِمَّا يَسْتَحِقُّهُ فِي عُقُوبَتِهِ، فَهَذَا لَا يُتَّجَهُ أَيْضًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] وَيَخُصُّ تَرْكُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [الشورى: 43] فَفِعْلُهُ جَائِزٌ وَتَرْكُهُ أَحْسَنُ. (وَلَيْسَ لِطُولِ ذَلِكَ) السُّجُودِ (وَقْتٌ) ؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَرِدْ عَنْهُ فِيهِ غَايَةٌ لِطُولِهِ إلَّا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَخْرُجَ عَنْ الْعُرْفِ. (وَ) أَمَّا (أَقَلُّهُ) الْوَاجِبُ الَّذِي لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ فَهُوَ (أَنْ تَطْمَئِنَّ مَفَاصِلُك) بِالْأَرْضِ حَالَةَ كَوْنِك (مُتَمَكِّنًا) أَيْ مُعْتَدِلًا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الطُّمَأْنِينَةَ فَرْضٌ وَكَذَا الِاعْتِدَالُ عَلَى الْأَصَحِّ (ثُمَّ) إذَا فَرَغْت مِنْ سُجُودِك وَتَسْبِيحِك أَوْ دُعَائِك (تَرْفَعُ رَأْسَك) مِنْ سُجُودِك عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِيَّةِ حَالَ كَوْنِك مُتَلَبِّسًا (بِالتَّكْبِيرِ فَتَجْلِسُ) وُجُوبًا حَتَّى تَعْتَدِلَ جَالِسًا مُطْمَئِنًّا؛ لِأَنَّ الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ فَرْضٌ (فَتُثْنِي رِجْلَك الْيُسْرَى) بِأَنْ تَجْعَلَهَا عَلَى الْأَرْضِ (فِي جُلُوسِك بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَتَنْصِبُ) أَيْ تُقِيمُ قَدَمَ (رِجْلَكَ الْيُمْنَى وَ) تَجْعَلُ (بُطُونَ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ) وَالْمُرَادُ بَطْنُ بَعْضِ أَصَابِعِهَا وَهُوَ الْإِبْهَامُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجُلُوسُ كُلُّهُ بِإِفْضَاءِ وَرِكِ الْيُسْرَى لِلْأَرْضِ وَالْيُمْنَى عَلَيْهَا وَإِبْهَامُهَا لِلْأَرْضِ، وَبِجَعْلِنَا الْيُسْرَى صِفَةً لِلْوَرِكِ يُسْتَفَادُ مِنْهُ أَنَّ أَلْيَتَهُ الْيُسْرَى مُبَاشِرَةٌ لِلْأَرْضِ، وَيَنْصِبُ جَانِبَ قَدَمِ الرِّجْلِ الْيُمْنَى عَلَيْهَا بِحَيْثُ يَصِيرُ الْوَرِكُ الْأَيْمَنُ مُرْتَفِعًا عَنْ الْأَرْضِ، وَيُفْضِي بِبَاطِنِ إبْهَامِ الْيُمْنَى وَبَعْضِ أَصَابِعِهَا لِلْأَرْضِ فَتَصِيرُ رِجْلَاهُ إلَى الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ وَقَاعِدًا عَلَى أَلْيَتِهِ الْيُسْرَى وَلَا يَقْعُدُ عَلَى رِجْلِهِ الْيُسْرَى كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَتِلْكَ الصِّفَةُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَنْ الْجُلُوسِ بَدَلَ الْقِيَامِ لِمَنْ يُصَلِّي جَالِسًا فَإِنَّ جُلُوسَهُ حَالَ الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ التَّرَبُّعُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَعِنْدَ السُّجُودِ بِغَيْرِ جِلْسَتِهِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ، وَتَرَبَّعَ كَالْمُتَنَفِّلِ وَغَيْرِ جَلْسِهِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ السُّجُودِ وَجُلُوسِك عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ أَنْ (تَرْفَعَ يَدَيْك عَنْ الْأَرْضِ) وَتَضَعَهُمَا (عَلَى رُكْبَتَيْك) وَهَذَا قَوْلُ خَلِيلٍ عَلَى مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، وَوَضْعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَيَكُونُ مِنْ تَتِمَّةِ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الْجُلُوسِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ عَلَى رُكْبَتَيْك وَضْعُهُمَا بِالْقُرْبِ مِنْ الرُّكْبَتَيْنِ فَيُوَافِقُ قَوْلَهُ بَعْدُ عَلَى فَخِذَيْك، وَقَوْلَ الْجَوَاهِرِ: وَيَضَعُ يَدَيْهِ قَرِيبًا مِنْ رُكْبَتَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ وَاسِعٌ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ رَفْعُهُمَا عَنْ الْأَرْضِ، سَوَاءٌ وَضَعَهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَوْ عَلَى الْفَخِذَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ وَلَا حُكْمَ الرَّفْعِ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: أَمَّا وَضْعُهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ فَلَا خِلَافَ أَنَّ ذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا رَفْعُهُمَا عَنْ الْأَرْضِ فَقَالَ سَحْنُونٌ: اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا إذَا لَمْ يَرْفَعْهُمَا فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بِبُطْلَانِهَا وَشُهِرَ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَلَكِنَّ الَّذِي صَحَّحَهُ سَنَدٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ الصِّحَّةُ، وَأَنَّ رَفْعَهُمَا عَنْ الْأَرْضِ مُسْتَحَبٌّ فَقَطْ، وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ: وَعَنْ سُنَّةِ الْجُلُوسِ أَنْ يَرْفَعَ يَدَيْهِ مِنْ الْأَرْضِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَإِنْ تَرَكَهُمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي النَّوَادِرِ: يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ سَنَدٌ: وَالْأَصَحُّ أَنَّ ذَلِكَ خَفِيفٌ لَا يَضُرُّ تَرْكُهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 يَدَيْك لَا تَرْجِعُ جَالِسًا لِتَقُومَ مِنْ جُلُوسٍ، وَلَكِنْ كَمَا ذَكَرْت لَك وَتُكَبِّرُ فِي حَالِ قِيَامِكَ ثُمَّ تَقْرَأُ كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَتَفْعَلُ مِثْلَ ذَلِكَ سَوَاءً غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَإِنْ شِئْت قَنَتَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ وَالْقُنُوتُ   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الدُّعَاءِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ هَلْ يُطْلَبُ أَمْ لَا؟ وَاقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ حَيْثُ قَالَ لَا بَيْنَ سَجْدَتَيْهِ. قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ فَلَا يُكْرَهُ الدُّعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ كَاسْتِحْبَابِهِ بَعْدَ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ، وَعَنْ ابْنِ أَبِي زَيْدٍ: لَا دُعَاءَ وَلَا تَسْبِيحَ وَمَنْ دَعَا فَلْيُخَفِّفْ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَارْحَمْنِي وَارْزُقْنِي وَاهْدِنِي وَعَافَنِي وَاعْفُ عَنِّي» . وَقَالَ ابْنُ نَاجِي: قِيلَ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ بِهَذَا الدُّعَاءِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ نَدْبُ فِعْلِهِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ شَرْحِ خَلِيلٍ لِلْحَدِيثِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ جَوَازِ الْعَمَلِ بِالْأَحَادِيثِ فِي فَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَإِنْ فُرِضَ ضَعْفُهَا. الثَّانِي: يُؤْخَذُ مِنْ نَدْبِ تِلْكَ الْهَيْئَةِ فِي الْجُلُوسِ كَرَاهَةُ مَا خَالَفَهَا كَالْإِقْعَاءِ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ لِمَا فِي أَبِي دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَلِيٍّ: «إنِّي أُحِبُّ لَك مَا أُحِبُّ لِنَفْسِي، وَأَكْرَهُ لَك مَا أَكْرَهُ لِنَفْسِي» لَا تُقْعِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَهُوَ الْجُلُوسُ بِأَلْيَتَيْهِ عَلَى عَقِيبِهِ أَوْ الرُّجُوعُ عَلَى صُدُورِ الْقَدَمَيْنِ، وَأَمَّا جُلُوسُ الرَّجُلِ عَلَى أَلْيَتَيْهِ مَعَ نَصْبِ فَخِذَيْهِ وَوَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى الْأَرْضِ كَإِقْعَاءِ الْكَلْبِ فَمَمْنُوعٌ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ تَفْسِيرُ أَبِي عُبَيْدَةَ. (ثُمَّ) بَعْدَ رَفْعِك مِنْ السَّجْدَةِ الْأُولَى (تَسْجُدُ الثَّانِيَةَ كَمَا فَعَلْت فِي) السَّجْدَةِ (الْأُولَى) مِنْ تَمْكِينِ الْجَبْهَةِ وَالْأَنْفِ وَقِيَامِ قَدَمَيْك وَمُبَاشَرَةِ الْأَرْضِ بِكَفَّيْك، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: كَمَا فَعَلْت فِي الْأُولَى أَنَّهُ لَا يُطَوِّلُ الثَّانِيَةَ عَنْ الْأُولَى. (ثُمَّ) بَعْدَ السَّجْدَةِ الثَّانِيَةِ (تَقُومُ مِنْ الْأَرْضِ كَمَا أَنْتَ مُعْتَمِدًا عَلَى يَدَيْك) عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْدِيمُ يَدَيْهِ فِي سُجُودِهِ وَتَأْخِيرُهُمَا عِنْدَ الْقِيَامِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ نُدِبَ عَكْسُهُ وَتَقَدَّمَ دَلِيلُنَا، وَالْجَوَابُ عَمَّا تَمَسَّكَ بِهِ، (وَلَا نَرْجِعُ) مِنْ سُجُودِك (جَالِسًا لِتَقُومَ) لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (مِنْ جُلُوسٍ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي رُجُوعِهِ جَالِسًا جِلْسَةَ الِاسْتِرَاحَةِ، فَلَوْ جَلَسَ غَيْرَ مُقَلِّدٍ لِلشَّافِعِيِّ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا اسْتَغْفَرَ اللَّهَ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا فَقِيلَ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ. (وَلَكِنَّ) الْمَنْدُوبَ الرُّجُوعُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الْقِيَامِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ. (كَمَا ذَكَرْت لَك) فِي الْهَوِيِّ مِنْ الْقِيَامِ إلَى السُّجُودِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، فَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّك كَمَا تَنْزِلُ إلَى السُّجُودِ مِنْ قِيَامٍ، وَلَا تَجْلِسُ تَقُومُ مِنْ السُّجُودِ إلَى الرَّكْعَةِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ. (وَتُكَبِّرُ) اسْتِنَانًا (فِي حَالِ قِيَامِك) اسْتِحْبَابًا لِشَغْلِ الرُّكْنِ بِالتَّكْبِيرِ إلَّا فِي قِيَامِك مِنْ اثْنَتَيْنِ فَتُؤَخِّرُهُ إلَى اسْتِقْلَالِك. (ثُمَّ) بَعْدَ انْتِهَاءِ قِيَامِك لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (تَقْرَأُ) فِي ثَانِيَةِ الصُّبْحِ (كَمَا قَرَأْت فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى) بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ (أَوْ دُونَ ذَلِكَ) أَيْ بِيَسِيرٍ إذْ تُكْرَهُ الْمُبَالَغَةُ فِي تَطْوِيلِ الْأُولَى، وَالْمُبَالَغَةُ فِي تَقْصِيرِ الثَّانِيَةِ بِأَنْ تَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِيُوسُفَ وَفِي الثَّانِيَةِ بِالْكَوْثَرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ عَلَى نَظْمِ الْقُرْآنِ فِي الْمُصْحَفِ فَلَا يُنَكِّسُهُ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالْمُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ تَقْصِيرُ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْصِيرُ ثَانِيَةٍ عَنْ أُولَى الْمُرَادُ زَمَنًا، قَالَ الْفَقِيهُ رَاشِدٌ: وَيُكْرَهُ كَوْنُ الثَّانِيَةِ أَطْوَلُ مِنْ الْأُولَى. قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَلَهُ أَنْ يُطَوِّلَ قِرَاءَةَ الثَّانِيَةِ فِي النَّافِلَةِ إذَا وَجَدَ الْحَلَاوَةَ، وَمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ وَخَلِيلٌ مِنْ نَدْبِ تَقْصِيرِ زَمَنِ الثَّانِيَةِ فِي الْفَرِيضَةِ عَنْ الْأُولَى نَسَبَهُ الْقَرَافِيُّ وَالْأَكْثَرُ لِلشَّافِعِيَّةِ وَدَلِيلُهُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ وَسُورَتَيْنِ، وَكَانَ يُطَوِّلُ فِي الْأُولَى فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَيُقَصِّرُ فِي الثَّانِيَةِ» فَقَوْلُهُ: أَوْ دُونَ ذَلِكَ إضْرَارٌ، فَأَوْ بِمَعْنَى عَلَى حَدِّ: {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أَيْ بَلْ يَزِيدُونَ، وَالْمَعْنَى: يُسْتَحَبُّ تَقْصِيرُ زَمَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الثَّانِيَةِ عَنْ زَمَنِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ حِينَئِذٍ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشْكَالٌ بَيَانُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَقْرَأُ كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى ظَاهِرُهُ الْمُسَاوَاةُ وَالْمَوْجُودُ فِي النَّصِّ لَا يُوَافِقُهُ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَبْدِ الْحَكَمِ قَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: لَا بَأْسَ بِطُولِ قِرَاءَةِ ثَانِيَةِ الْفَرِيضَةِ عَنْ الْأُولَى، وَفِي الْوَاضِحَةِ اسْتِحْبَابُ تَطْوِيلُ الْأُولَى وَتَقْصِيرُ الثَّانِيَةِ عَكْسُ مَا لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، قَوْلُهُ: كَمَا قَرَأْت فِي الْأُولَى لَا يُوَافِقُ قَوْلًا مِنْهُمَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ كَلَامُ الْوَاضِحَةِ فِي نَدْبِ تَقْصِيرِ الثَّانِيَةِ عَنْ الْأُولَى كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَحَمْلٌ لَا بَأْسَ فِي كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَلَى مَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَحَمْلُ التَّشْبِيهِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى كَوْنِ الْمَقْرُوءِ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعْبِيرِهِ مُسَاوَاةُ زَمَنِ الْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِلْأُولَى قَالَ: كَالْمُسْتَدْرِكِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الْإِضْرَابِ الْإِبْطَالِيِّ، وَحِينَئِذٍ لَمْ يُخَالِفْ الْمُصَنِّفُ الْمَنْصُوصَ وَرَجَعَ الْخِلَافُ لِقَوْلٍ وَاحِدٍ. (وَتَفْعَلُ) فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (مِثْلَ ذَلِكَ) الَّذِي فَعَلْته فِي الْأُولَى مِنْ جَهْرِ قِرَاءَتِهَا وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ فِي رُكُوعِهَا وَسُجُودِهَا وَالتَّعْظِيمِ فِي الرُّكُوعِ وَالتَّسْبِيحِ أَوْ الدُّعَاءِ فِي السُّجُودِ حَالَةَ كَوْنِهِمَا (سَوَاءً) أَيْ مُسْتَوِيَتَيْنِ: سِوَى نَدْبِ تَقْصِيرِ زَمَنِ قِرَاءَةِ الثَّانِيَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُك وَنُؤْمِنُ بِك وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك، وَنَخْشَعُ لَك وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجِدَّ إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ ثُمَّ تَفْعَلُ فِي   [الفواكه الدواني] عَنْ الْأُولَى كَمَا ذَكَرْنَا، وَسِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ) نَدْبًا فِي الثَّانِيَةِ (بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَإِنْ شِئْت قَنَتَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ) لَكِنْ (بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ) وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَفْضَلِيَّتُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ: مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أَهُوَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: قَبْلَ» . قِيلَ لِأَنَسٍ: إنَّ فُلَانًا يُحَدِّثُ عَنْك أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: كَذَبَ فُلَانٌ، وَلِمَا فِي كَوْنِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ مِنْ الرِّفْقِ بِالْمَسْبُوقِ فَإِذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُكَبِّرُ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ كَمَا لَا يَرْفَعُ فِي التَّأْمِينِ وَلَا فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُطْلَبُ إخْفَاؤُهُ. وَإِذَا نَسِيَ وَرَكَعَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُكَمِّلُ رُجُوعَهُ وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَبْطُلُ الرُّكُوعُ وَيَرْجِعُ لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ فَرْضٍ لِمَا هُوَ دُونَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ فَقِيلَ: يَقْنُتُ فِي رَكْعَةِ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: لَا يَقْنُتُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَقْنُتُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَقَضَى الْقَوْلَ وَبَنَى الْفِعْلَ الْمُوهِمَ عَدَمَ الْقُنُوتِ مِنْ قَوْلِهِ قَضَى الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ خُصُوصُ الْقِرَاءَةِ وَمَا عَدَا الْقِرَاءَةَ يَكُونُ بَانِيًا فِيهِ، فَيَنْدُبُ لَهُ الْقُنُوتُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ عِنْدَنَا فِي الصُّبْحِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَتْ فَائِتَةً لَا فِي وِتْرٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِوَى الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلٌ فَتُلَخَّصُ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ خَمْسُ مُسْتَحَبَّاتٍ: كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَكَوْنُهُ سِرًّا وَكَوْنُهُ فِي الصُّبْحِ وَمُطْلَقٌ مُسْتَحَبٌّ وَكَوْنُهُ بِخُصُوصِ اللَّفْظِ الْآتِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحِ فَقَطْ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَفْظُهُ، وَلَمَّا قَالَ غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ نَاسَبَ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْقُنُوتُ) لُغَةً الطَّاعَةُ وَالسُّكُوتُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاءُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ الْمَقْصُودُ مُطْلَقُ دُعَاءٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ خُصُوصُ هَذَا وَهُوَ: (اللَّهُمَّ) أَيْ يَا اللَّهُ فَحُذِفَتْ يَاءُ النِّدَاءِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ وَشُدِّدَتْ؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ يَاءٍ وَهِيَ حَرْفَانِ وَلِذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ. (إنَّا نَسْتَعِينُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَتِك أَوْ عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الْمُؤْذِنِ بِالْعُمُومِ عَلَى حَدِّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: 25] أَيْ جَمِيعَ عِبَادِهِ (وَنَسْتَغْفِرُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْمَغْفِرَةَ، وَهِيَ سِتْرُ ذُنُوبِنَا وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِنَا عَلَيْهَا. (وَنُؤْمِنُ بِك) أَيْ نُصَدِّقُ بِوُجُوبِ وُجُودِك وَجَمِيعِ مَا يَجِبُ لَك عَلَيْنَا. (وَنَتَوَكَّلُ) أَيْ نَعْتَمِدُ (عَلَيْك) فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا فَإِنَّا لَا حَوْلَ لَنَا وَلَا قُوَّةَ. قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَفْظَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك لَيْسَ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَرُبَّمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. (وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ) وَالصَّوَابُ عَدَمُ زِيَادَتِهَا (وَنَخْشَعُ) أَيْ وَنَخْضَعُ وَنَذِلُّ وَنَلْجَأُ (لَك) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْك (وَنَخْلَعُ) أَيْ وَنُزِيلُ رِبْقَةَ الْكُفْرِ مِنْ أَعْنَاقِنَا بِمَعْنَى نَتْرُكُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ لِاتِّبَاعِ دِينِك وَطَرِيقَةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَنَتْرُكُ) أَيْ نَطْرَحُ مَوَدَّةَ كُلِّ (مَنْ يَكْفُرُك) وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا عَدَمُ حُرْمَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ أَنَّ فِي نِكَاحِهَا مَوَدَّةً؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ عَدَمُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي مَعَهَا مَحَبَّةٌ لِدِينِهِمْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ، وَالنِّكَاحُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحَبَّةُ الدِّينِ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ كَرَاهَةِ دِينِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. (اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ) أَيْ نَخُصُّك بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِك كُفْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ نَحْوَ إيَّاكَ نَعْبُدُ (وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ) أَيْ لَا نُصَلِّي وَلَا نَسْجُدُ إلَّا لَك، وَذَكَرَهُمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِمَا. (وَإِلَيْك نَسْعَى) أَيْ لَا نَعْمَلُ طَاعَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إلَّا لَك (وَ) إلَيْك (نَحْفِدُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَالدَّالُ الْمُهْمَلَةُ أَيْ نَخْدِمُ وَنُسْرِعُ فِي طَاعَتِك، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْخِدْمَةِ حِفْدَةً لِسُرْعَتِهِمْ فِي خِدْمَةِ السَّادَاتِ. (نَرْجُو رَحْمَتَك) أَيْ نَطْلُبُ وَنَطْمَعُ فِي نَيْلِ إحْسَانِك، إذْ الرَّجَاءُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِمَرْغُوبٍ فِيهِ مَعَ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِهِ. (وَنَخَافُ عَذَابَك) فَنَتَجَنَّبُ جَمِيعَ مُنْهَيَاتِك (الْجِدَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْأَشْهُرِ أَيْ الثَّابِتَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْهَزْلِ وَيُرْوَى وَالْجَدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَدَّ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْقَادِرِ أَنْ يُرْجَى فَضْلُهُ وَيُخَافُ عَذَابُهُ وَهِيَ أَحْسَنُ الْحَالَاتِ إلَّا فِي حَالِ الْمَرَضِ فَتَغَلُّبُ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ أَفْضَلُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُوهُ وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ» إلَّا أَنَّهُ فِي حَالِ الشُّبُوبِيَّةِ وَالْكُهُولَةِ يَغْلِبُ الْخَوْفُ، وَفِي حَالِ الشُّيُوخَةِ وَالْمَرَضِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ (إنَّ عَذَابَك) الْجِدَّ (بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى لَاحِقٌ وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُلْحِقُهُ بِالْكَافِرِينَ، وَهَذَا الْقُنُوتُ اخْتَارَهُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ فَإِذَا جَلَسْت بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ نَصَبْت رِجْلَك الْيُمْنَى وَبُطُونُ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ وَثَنَيْت الْيُسْرَى وَأَفْضَيْت بِأَلْيَتِكَ إلَى الْأَرْضِ وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِك الْيُسْرَى، وَإِنْ شِئْت حَنَيْت الْيُمْنَى فِي انْتِصَابِهَا فَجَعَلْت جَنْبَ بُهْمِهَا إلَى الْأَرْضِ فَوَاسِعٌ ثُمَّ تَتَشَهَّدُ وَالتَّشَهُّدُ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ الطَّيِّبَاتُ الصَّلَوَاتُ   [الفواكه الدواني] الْمُدَوَّنَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَهُ فِي التَّلْقِينِ إلَى نَحْفِدُ وَزَادَ: اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْت، وَعَافِنَا فِيمَنْ عَافَيْت وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْت إنَّك تَقْضِي بِالْحَقِّ وَلَا يُقْضَى عَلَيْك، وَإِنَّهُ لَا يَذِلُّ مَنْ وَالَيْت وَلَا يَعِزُّ مَنْ عَادَيْت تَبَارَكْت رَبَّنَا وَتَعَالَيْت. وَاخْتَارَ ابْنُ شَعْبَانَ الْجَمْعَ بَيْنَهُمَا مَعَ زِيَادَةِ الدُّعَاءِ عَلَى الْكُفَّارِ وَالدُّعَاءِ لِلْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ: وَقِنَا شَرَّ مَا قَضَيْت مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ إلَّا بِالْمُمْكِنِ، وَالْمَقْضِيُّ لَا يَقَعُ غَيْرُهُ؟ فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ مِنْ أَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَدِّرُ الْمَكْرُوهَ بَعْدَ دُعَاءِ الْعَبْدِ الْمُسْتَجَابِ فَإِذَا اسْتَجَابَ دُعَاءَهُ لَمْ يَقَعْ الْمَقْضِيُّ لِفَوَاتِ شَرْطِهِ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّ الْمَقْضِيَّ قَدْ يَكُونُ رَفْعُهُ مُعَلَّقًا عَلَى دُعَاءٍ أَوْ نُزُولُهُ مُعَلَّقًا عَلَى دُعَاءٍ، وَلَيْسَ هَذَا رَدًّا لِلْقَضَاءِ الْمُبْرَمِ، وَمِنْ هَذَا صِلَةُ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ وَالرِّزْقِ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ الْحَطَّابُ قَالَ ابْنُ فَرْحُونٍ: فَإِنْ صَلَّى مَالِكِيٌّ خَلْفَ شَافِعِيٍّ يَجْهَرُ بِدُعَاءِ الْقُنُوتِ فَإِنَّهُ يُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ وَلَا يَقْنُتُ مَعَهُ وَالْقُنُوتُ مَعَهُ مِنْ فِعْلِ الْجُهَّالِ، اُنْظُرْ مُخْتَصَرَ الْوَاضِحَةِ فِي الْقُنُوتِ فِي رَمَضَانَ، وَمِنْ إمْلَاءِ الْأُجْهُورِيِّ لِبَعْضِ التَّلَامِذَةِ أَنَّ الصَّوَابَ أَنَّهُ إذَا كَانَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ يَقْنُتُ مَعَهُ مِنْ أَوَّلِ الْقُنُوتِ، وَادَّعَى أَنَّ كَلَامَ الْوَاضِحَةِ قَاصِرٌ عَلَى قُنُوتِ رَمَضَانَ وَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ عِنْدَنَا. (خَاتِمَةٌ) قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ فِي الْإِحْكَامِ: سَبَبُ الْقُنُوتِ خَبَرُ أَبِي دَاوُد: «بَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُو عَلَى مُضَرَ فِي صَلَاتِهِ إذْ جَاءَ جِبْرِيلُ فَأَوْمَأَ إلَيْهِ أَنْ اُسْكُتْ فَسَكَتَ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَبْعَثْك سَبَّابًا وَلَا لَعَّانًا وَإِنَّمَا بَعَثَك رَحْمَةً وَلَمْ يَبْعَثْك عَذَابًا، لَيْسَ لَك مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ» وَعَلَّمَهُ هَذَا الْقُنُوتَ السَّابِقَ ذِكْرُهُ، وَلِذَا اسْتَحَبَّهُ الْإِمَامُ دُونَ غَيْرِهِ، حَتَّى قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: أَنَّهُ كَانَ سُورَتَيْنِ فِي مُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ثُمَّ نُسِخَتَا. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقُنُوتِ وَالرُّكُوعِ تَهْوِي سَاجِدًا وَ (تَفْعَلُ فِي السُّجُودِ) مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (وَ) فِي (الْجُلُوسِ) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ (كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى (فَإِذَا جَلَسْت بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ) لِلتَّشَهُّدِ (نَصَبْت رِجْلَك الْيُمْنَى) أَيْ قَدَمَهَا (وَ) جَعَلْت (بُطُونَ أَصَابِعِهَا إلَى الْأَرْضِ وَثَنَيْت) أَيْ عَطَفْت رِجْلَك (الْيُسْرَى وَأَفْضَيْت) أَيْ دَنَوْت (بِأَلْيَتِك) بِالْإِفْرَادِ مَقْعَدَتُك الْيُسْرَى (إلَى الْأَرْضِ) وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ تَثْنِيَةِ أَلْيَتِك فَخَطَأٌ. قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: لِأَنَّهُ إذَا جَلَسَ عَلَيْهِمَا كَانَ إقْعَاءً وَهُوَ مَكْرُوهٌ. (وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِك الْيُسْرَى) هَذَا مَفْهُومٌ مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَلَسَ عَلَى وَرِكِهِ الْأَيْسَرِ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى قَدَمِهِ، وَإِذَا جَلَسَ عَلَى قَدَمِهِ لَمْ يَجْلِسْ عَلَى وَرِكِهِ، وَإِنَّمَا كَرَّرَهُ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّهُ يَجْلِسُ عَلَى قَدَمِهِ الْيُسْرَى، وَهَذِهِ الصِّفَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ فِي الْجُلُوسِ مِثْلُهَا فِي الْمُدَوَّنَةِ فِي جَمِيعِ جُلُوسِ الصَّلَاةِ وَنَصُّهَا عَلَى مَا قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ بَهْرَامُ فِي شَرْحِ مُخْتَصَرِ خَلِيلٍ قَالَ فِيهَا: وَالْجُلُوسُ كُلُّهُ سَوَاءٌ يُفْضِي بِأَلْيَتِهِ إلَى الْأَرْضِ وَيَنْصِبُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَظَاهِرَ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ وَيُثْنِي رِجْلَهُ الْيُسْرَى ثُمَّ قَالَ: قَالَ فِي الرِّسَالَةِ (إنْ شِئْت حَنَيْت الْيُمْنَى فِي انْتِصَابِهَا فَجَعَلْت جَنْبَ بُهْمِهَا إلَى الْأَرْضِ) وَتَرَكْت الْقَدَمَ قَائِمًا، وَحَنَيْت الْإِبْهَامَ فَقَطْ دُونَ سَائِرِ الْقَدَمِ (فَ) إنَّ ذَلِكَ (وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّخْيِيرِ فِي جَنْبِ الْبُهْمِ هُوَ خِلَافُ قَوْلِ الْبَاجِيِّ: يَكُونُ بَطْنُ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ لَا جَنْبُهَا اهـ، وَمِثْلُ قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَيُسْتَحَبُّ فِي جَمِيعِ الْجُلُوسِ جَعْلُ الْوَرِكِ الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَرْضِ وَرِجْلَاهُ مِنْ الْجَانِبِ الْأَيْمَنِ نَاصِبًا قَدَمَهُ الْيُمْنَى وَبَاطِنَ إبْهَامِهَا عَلَى الْأَرْضِ وَكَفَّاهُ مَفْرُوجَتَانِ عَلَى فَخِذَيْهِ اهـ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ وَجَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ أَنَّ ظَاهِرَ إبْهَامِهَا مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ لَا بَاطِنَ الْإِبْهَامِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْجُلُوسِ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ سُنَّةٌ، وَلَوْ تَعَدَّدَ فِي الصَّلَاةِ سِوَى مَا كَانَ مِنْهُ ظَرْفًا لِلسَّلَامِ الْمَفْرُوضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجُلُوسُ الْأَوَّلُ وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ السَّلَامِ مِنْ الثَّانِي، وَسِوَى مَا كَانَ طَرَفًا لِلدُّعَاءِ فَإِنَّ الظَّرْفَ يُعْطَى حُكْمَ مَظْرُوفِهِ. الثَّانِي: لَمْ يُؤْخَذْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَا مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَلَا مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ مَوْضِعُ جَعْلِ قَدَمِ الْيُسْرَى، وَاَلَّذِي فِي الْجَلَّابِ يَضَعُهُ تَحْتَ سَاقِ الْيُمْنَى فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْجُلُوسُ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا الْأَوَّلِ وَالْأَخِيرِ وَبَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى هَيْئَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ أَنْ يُفْضِيَ بِوَرِكِهِ الْأَيْسَرِ إلَى الْأَرْضِ، وَيَنْصِبَ قَدَمَهُ الْيُمْنَى عَلَى صَدْرِهَا، وَيَجْعَلَ قَدَمَهُ الْيُسْرَى تَحْتَ سَاقِهِ الْأَيْمَنِ اهـ، وَنَقَلَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ ثُمَّ قَالَ: وَقِيلَ يَجْعَلُهُ تَحْتَ فَخِذِهِ الْأَيْمَنِ قِيلَ بَيْنَ فَخِذَيْهِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: كَأَنَّ الشَّيْخَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِمَ فِي قَوْلِهِ بُهْمِهَا وَإِنَّمَا يُقَالُ إبْهَامٌ كَمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ. قَالَ الْجَوْهَرِيُّ: الْإِبْهَامُ الْأُصْبُعُ الْعُظْمَى وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَجَمْعُهَا الْإِبْهَامُ، وَأَمَّا الْبَهْمُ فَقَالَ ابْنُ الْعِمَادِ الْبَهْمُ بِفَتْحِ الْبَاءِ اسْمُ جِنْسٍ جَمْعِيٍّ وَاحِدَةُ بَهْمَةٍ بِالْفَتْحِ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ مِنْ أَوْلَادِ الضَّأْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَإِنْ سَلَّمْت بَعْدَ هَذَا أَجُزْأَك وَمِمَّا تَزِيدُهُ إنْ شِئْت وَأَشْهَدُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ   [الفواكه الدواني] وَأَمَّا الْبُهَمُ بِضَمِّ الْبَاءِ وَفَتْحِ الْهَاءِ جَمْعُ بُهْمَةٍ فَهُوَ الرَّجُلُ الشُّجَاعُ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ جُلُوسِك عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِك مِنْ سُجُودِ الثَّانِيَةِ مِنْ الصُّبْحِ (تَتَشَهَّدُ) أَيْ تَشْرَعُ فِي التَّشَهُّدِ عَلَى جِهَةِ السَّبَبِيَّةِ، وَتَحْصُلُ بِمُطْلَقِ تَشَهُّدٍ سَوَاءٌ الْوَارِدُ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ أَوْ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَوْ الْوَارِدُ عَنْ عُمَرَ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَ مَالِكٍ اللَّفْظُ الْوَارِدُ عَنْ عُمَرَ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي عَلَّمَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ يُعَلِّمُهُ النَّاسَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ بَلْ قُبِلَ خُصُوصِهِ سُنَّةً، وَلِذَا اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ (وَالتَّشَهُّدُ) الَّذِي ارْتَضَاهُ مَالِكٌ (التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ) جَمْعُ تَحِيَّةٍ وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ مَعْنَاهَا الْمُلْكُ وَقِيلَ الْعَظَمَةُ وَقِيلَ السَّلَامُ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى السَّلَامِ فَالتَّقْدِيرُ جَمِيعُ التَّحِيَّاتِ الَّتِي تُحَيَّا بِهَا الْمُلُوكُ مُسْتَحَقَّةٌ لِلَّهِ، وَعَلَى تَفْسِيرِهَا بِالْمُلْكِ فَيَكُونُ جَمْعُهَا بِاعْتِبَارِ تَعَلُّقِ الَّذِي هُوَ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ. (الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا الْأَعْمَالُ الصَّالِحَةُ الَّتِي تَزْكُو وَتَنْمُو بِكَثْرَةِ الْإِخْلَاصِ. (الطَّيِّبَاتُ) أَيْ الْكَلِمَاتُ الطَّيِّبَاتُ وَهِيَ ذِكْرُ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ. (الصَّلَوَاتُ) الْخَمْسُ وَقِيلَ كُلُّ الصَّلَوَاتِ، وَقِيلَ الْعِبَادَاتُ كُلُّهَا وَالْأَدْعِيَةُ وَهُوَ الْأَوْلَى. (لِلَّهِ السَّلَامُ عَلَيْك) أَيْ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْك؛ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى (أَيُّهَا النَّبِيُّ) أَيْ أَخُصُّ النَّبِيَّ وَهُوَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَوَّلِينَ وَالْآخَرِينَ. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَيَنْبَغِي إذَا قَالَهُ الْمُصَلِّي أَنْ يَقْصِدَ الرَّوْضَةَ الشَّرِيفَةَ. (وَرَحْمَةُ اللَّهِ) الْمُرَادُ بِهَا مَا تَجَدَّدَ مِنْ نَفَحَاتِ إحْسَانِهِ، وَلِهَذَا أَظْهَرَ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّحْمَةِ بِالْإِرَادَةِ، وَإِنْ صَحَّ لِأَنَّ الْإِرَادَةَ مِنْ صِفَاتِ الذَّاتِ. (وَبَرَكَاتُهُ) أَيْ خَيْرَاتُهُ الْمُتَزَايِدَةُ. (السَّلَامُ عَلَيْنَا) أَيْ اللَّهُ شَهِيدٌ وَمُطَّلِعٌ عَلَيْنَا أَوْ أَمَانُهُ وَحِفْظُهُ عَلَيْنَا. (وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) أَيْ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا قَالَهَا الْعَبْدُ أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ» قَالَ ابْنُ نَاجِي: أُقِيمُ مِنْ هَذَا الشَّخْصِ إذَا لَقِيَ آخَرَ فَقَالَ لَهُ فُلَانٌ يُسَلِّمُ عَلَيْك وَلَمْ يَكُنْ فُلَانٌ أَمَرَهُ بِذَلِكَ الْقَوْلِ أَنَّهُ غَيْرُ كَاذِبٍ لِقَوْلِ الْمُصَلِّي مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ، لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤْمِنُونَ، وَهَذِهِ إقَامَةٌ ظَاهِرَةٌ حَيْثُ كَانَ الْقَائِلُ لِذَلِكَ يَعْلَمُ أَنَّ الْمَنْقُولَ عَنْهُ يَعْلَمُ مَعْنَى مَا وَقَعَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ يَعْلَمُ مَدْلُولَ مَا هُوَ مُتَكَلَّمٌ بِهِ، وَأَمَّا إذَا عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَعْنَى مَا يَقُولُ أَوْ شَكَّ فِي عِلْمِهِ بِذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَاذِبًا. (أَشْهَدُ) أَيْ أَعْتَرِفُ (أَنْ لَا إلَهَ) أَيْ لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ (إلَّا اللَّهُ) زَادَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ عَنْ عُمَرَ (وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) بِالضَّمِيرِ وَفِي بَعْضِهَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. وَفِي بَعْضِ نُسَخِ ابْنِ الْحَاجِبِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ فَيُعْلَمُ مِنْ مَجْمُوعِ تِلْكَ الصِّيَغِ التَّوْسِعَةُ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ إلَيْنَا، وَأَمَّا نَبِيُّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا كَانَ يَتَشَهَّدُ فِي صَلَاتِهِ فَقَالَ الرَّافِعِيُّ مِنْ أَئِمَّةِ الشَّافِعِيَّةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنِّي رَسُولُ اللَّهِ. قَالَ ابْنُ حَجَرٍ: وَلَا أَصْلَ لِذَلِكَ بَلْ أَلْفَاظُ التَّشَهُّدِ مُتَوَاتِرَةٌ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ أَوْ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ» فَالْكَلَامُ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ حَجَرٍ مَا يُخَالِفُ هَذَا. (تَنْبِيهٌ) هَذَا آخِرُ التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ التَّشَهُّدِ عَلَمٌ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَقَدْ مَرَّ أَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ بِمُطْلَقِ تَشَهُّدٍ، وَاخْتُلِفَ فِي خُصُوصِ هَذَا فَقِيلَ فَضِيلَةٌ وَقِيلَ سُنَّةٌ، فَالْآتِي بِهَذَا اللَّفْظِ آتٍ بِسُنَّتَيْنِ وَقِيلَ سُنَّةٌ وَفَضِيلَةٌ، وَالْآتِي بِغَيْرِهِ آتٍ بِالسُّنَّةِ فَقَطْ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَيْسَ جَمِيعُهُ سُنَّةً بَلْ إتْمَامُهُ مُسْتَحَبٌّ وَالسُّنَّةُ تَحْصُلُ بِبَعْضِهِ قِيَاسًا عَلَى السُّورَةِ، فَإِذَا قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ فَقَدْ أَدَّى السُّنَّةَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْبَعْضِ مَا يَشْمَلُ نَحْوَ: التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ الزَّاكِيَاتُ لِلَّهِ فَإِنَّ هَذَا لَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ تَشَهُّدٌ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا، وَسُمِّيَ هَذَا اللَّفْظُ تَشَهُّدًا لِتَضَمُّنِهِ الشَّهَادَتَيْنِ، وَبَحَثَ بَعْضُ شُيُوخِنَا فِي ذَلِكَ الْقِيَاسِ قَائِلًا: الْمَسْنُونُ التَّشَهُّدُ وَهُوَ اسْمٌ لِهَذَا اللَّفْظِ، وَالْمَسْنُونُ قِرَاءَةُ مَا زَادَ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ يَصْدُقُ بِبَعْضِ سُورَةٍ، وَرُبَّمَا يُقَوِّي بَحْثَ بَعْضِ شُيُوخِنَا قَوْلُهُ: (فَإِنْ سَلَّمْت بَعْدَ هَذَا) أَيْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ (أَجْزَأَك) الْمُتَبَادَرُ مِنْهُ أَجْزَأَك فِي أَدَاءِ السُّنَّةِ وَلَا يَتَوَقَّفُ حُصُولُهَا عَلَى الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ فَظَاهِرُهُ أَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهِ لَمْ يَجْزِهِ فَيُخَالِفُ قِيَاسَهُ عَلَى السُّورَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: مُرَادُهُ بِالْإِجْزَاءِ الَّذِي لَا سُجُودَ مَعَهُ وَلَا إثْمَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْإِجْزَاءَ الَّذِي لَا يَصِحُّ غَيْرُهُ، فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فِي التَّشَهُّدِ أَجْزَأَهُ أَيْ لِصِدْقِ التَّشَهُّدِ عَلَيْهِ. (وَمِمَّا تَزِيدُهُ) بَعْدَ التَّشَهُّدِ (إنْ شِئْت) لِكَمَالِ الْمُوجِبِ لِكَثْرَةِ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنْتَ مُخَيَّرٌ فِي الزِّيَادَةِ وَعَدَمِهَا مَعَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْحُكْمِ فَإِنَّ هَذَا غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا لَا يَخْفَى، أَوْ أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: إنْ شِئْت الرَّدَّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ أَرَادَ التَّخْيِيرَ بَيْنَ هَذَا الدُّعَاءِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْأَدْعِيَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا عَلَّمَهُمْ التَّشَهُّدَ قَالَ: وَلْيَتَخَيَّرْ مِنْ الدُّعَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 مُحَمَّدٌ حَقٌّ، وَأَنَّ الْجَنَّةَ حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ وَعَلَى أَنْبِيَائِكَ   [الفواكه الدواني] مَا أَحَبَّ» وَأَمَّا التَّشَهُّدُ الْأَوَّلُ فَالْمَطْلُوبُ تَقْصِيرُهُ وَيُكْرَهُ الدُّعَاءُ فِيهِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دُعَاءٌ كَمَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجِلْسَةِ الْأُولَى، إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَشَارَ إلَى مَا يَزِيدُهُ مُشْتَمِلًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ وَشَيْءٍ مِنْ السُّنَّةِ وَشَيْءٍ مِنْ فِعْلِ السَّلَفِ الصَّالِحِ، إشَارَةً إلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ فِي الصَّلَاةِ بِمَا لَيْسَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: (وَأَشْهَدُ أَنَّ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (حَقٌّ) أَيْ ثَابِتٌ إذْ الْحَقُّ هُوَ الْحُكْمُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ يُطْلَقُ عَلَى الْأَقْوَالِ وَالْعَقَائِدِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمَذَاهِبِ وَيُقَابِلُهُ الْبَاطِلُ، وَأَمَّا الصِّدْقُ فَقَدْ شَاعَ فِي الْأَقْوَالِ خَاصَّةً وَيُقَابِلُهُ الْكَذِبُ وَحَقِيقَتُهُ مُطَابَقَةُ حُكْمِ الْخَبَرِ لِلْوَاقِعِ (وَأَنَّ الْجَنَّةَ) وَهِيَ دَارُ الثَّوَابِ (حَقٌّ وَأَنَّ النَّارَ) وَهِيَ دَارُ الْعَذَابِ (حَقٌّ) وَأَنَّهُمَا مَوْجُودَتَانِ الْيَوْمَ، وَأَنَّ الصِّرَاطَ حَقٌّ. (وَأَنَّ السَّاعَةَ) وَهِيَ الْقِيَامَةُ وَانْقِرَاضُ الدُّنْيَا (آتِيَةٌ) أَيْ جَائِيَةٌ (لَا رَيْبَ فِيهَا) الْخَبَرُ هُنَا مَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ لَا تَرْتَابُوا فِيهَا أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مَعْنَاهُ، وَنَزَلَ رَيْبُ الْمُرْتَابِينَ مَنْزِلَةَ عَدَمِهِ لَمَّا أَنَّ مَعَهُمْ مِنْ الْأَدِلَّةِ إنْ نَظَرُوا فِيهِ لَمْ يَرْتَابُوا، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ لَا رَيْبَ فِيهَا فِي عِلْمِ اللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَأَنْبِيَائِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ. (وَ) أَشْهَدُ (أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ) أَيْ يُحْيِي (مَنْ فِي الْقُبُورِ) وَكَذَا غَيْرُهُمْ مِنْ جَمِيعِ الْأَمْوَاتِ، فَذِكْرُ الْقُبُورِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا يُعْتَبَرُ مَفْهُومُهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ وَمَجِيءِ الْقِيَامَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ لِدُخُولِهَا فِيمَا جَاءَ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَعَادَهَا اهْتِمَامًا بِهَا. (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا) فِيهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ، وَلَا عِبْرَةَ بِرَدِّ تِلْمِيذِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ وَتَشْنِيعِهِ عَلَيْهِ حَيْثُ قَالَ: وُهِمَ شَيْخُنَا أَبُو مُحَمَّدٍ وَهْمًا قَبِيحًا خَفِيَ عَلَيْهِ عَلَى الْأَثَرِ وَالنَّظَرِ فَزَادَ: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَمِمَّا رَدَّ بِهِ عَلَى ابْنِ الْعَرَبِيِّ حَدِيثُ ابْنِ مَسْعُودٍ: «إذَا تَشَهَّدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا وَآلَ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت عَلَى إبْرَاهِيمَ» الْحَدِيثَ رَوَاهُ الْحَاكِمُ فِي الْمُسْتَدْرَكِ، وَمِنْهَا أَنَّ الْمُؤَلِّفَ مِنْ الْحُفَّاظِ، وَأَنَّ الَّذِي ذَكَرَهُ صَحَّ عِنْدَهُ، وَمِمَّا رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ أَيْضًا أَنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي بَعْضِ الطُّرُقِ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِمُحَمَّدٍ وَهُوَ بِمَعْنَى ارْحَمْهُ، وَمِنْهَا أَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَأَيْضًا قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ وَعَلَى جَوَازِ الدُّعَاءِ غَيْرُ وَاحِدٍ وَمِنْهُمْ الْمُصَنِّفُ، وَمِمَّا يَرُدُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُصَلِّي فِي التَّحِيَّاتِ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جَمِيعِ صَلَوَاتِهِ وَأَمَرَ بِهِ كُلَّ مُصَلٍّ، فَهُوَ اسْتِدْلَالٌ قَوِيٌّ عَلَى الْجَوَازِ، وَأَقْوَى مَا يُحْتَجُّ بِهِ مَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَال فِي الْمَسْجِدِ وَانْتَهَرَهُ النَّاسُ: اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي وَمُحَمَّدًا وَلَا تَرْحَمْ مَعَنَا أَحَدًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَقَدْ حَجَرْت، فَأَقَرَّهُ عَلَى مَا قَالَ مِنْ دُعَائِهِ لَهُ بِالرَّحْمَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يُقِرُّ عَلَى مُنْكِرٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ إقْرَارَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْجَوَازِ إذَا كَانَ الَّذِي أَقَرَّهُ مُسْلِمًا كَوَاقِعَةِ الْأَعْرَابِيِّ الْمَذْكُورَةِ، وَأَنَّ مَحَلَّ جَوَازِ الدُّعَاءِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّحْمَةِ إذَا كَانَتْ مَضْمُومَةً لِلصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا يُشْعِرُ بِالتَّعْظِيمِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ سَمِعَ ذِكْرَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَقُولَ ابْتِدَاءً رَحْمَةُ اللَّهِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضٌ وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ مَعَ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ (وَ) ارْحَمْ (آلَ مُحَمَّدٍ وَبَارِكْ) أَيْ وَانْشُرْ رَحْمَتَك (عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت) الصَّلَاةُ مِنْ اللَّهِ الرَّحْمَةُ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: (وَرَحِمْت) تَأْكِيدًا لَفْظِيًّا لِلِاعْتِنَاءِ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَبَارَكْت) أَيْ نَشَرْت رَحْمَتَك (عَلَى إبْرَاهِيمَ) تُنَازِعُهُ الْعَوَامِلُ الثَّلَاثَةُ، وَلَفْظُ إبْرَاهِيمَ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ مَعْنَاهُ أَبٌ رَحِيمٌ. (وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ) بِمَعْنَى مَحْمُودٍ (مَجِيدٌ) بِمَعْنَى كَرِيمٍ أَوْ شَرِيفٍ، وَقِيلَ وَاسِعُ الْكَرْمِ وَالْجَمِيعُ فِيهِ سُبْحَانَهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الصَّلَاةُ الَّتِي ذَكَرَهَا الْمُصَنِّفُ هِيَ الصَّلَاةُ الْكَامِلَةُ وَحُكْمُهَا أَنَّهَا وَاجِبَةٌ فِي الْعُمْرِ مَرَّةً فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَقِيلَ سُنَّةٌ وَقِيلَ فَضِيلَةٌ وَمَحَلُّهَا كَمَا قَدَّمْنَا فِي تَشَهُّدِ السَّلَامِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ. (تَتِمَّةٌ) إنْ قِيلَ: كَيْفَ يُشَبِّهُ الصَّلَاةَ عَلَى أَفْضَلِ الْخَلْقِ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ الَّذِي هُوَ مَفْضُولٌ بِقَوْلِهِ: كَمَا صَلَّيْت عَلَى إبْرَاهِيمَ مَعَ أَنَّ الْقَاعِدَةَ تَشْبِيهُ الضَّعِيفِ بِالْقَوِيِّ أَوْ النَّاقِصِ بِالْكَامِلِ عَكْسُ مَا هُنَا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ إنَّمَا شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ قَبْلَ عِلْمِهِ بِشَرَفِهِ وَعُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، وَقِيلَ: شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ تَوَاضُعًا مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حَدِّ مَا قِيلَ فِي حَدِيثِ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَقِيلَ: الْوَقْفُ عَلَى مُحَمَّدٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ وَالتَّشْبِيهُ بَيْنَ آلِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ، أَوْ أَنَّ الْمَقْصُودَ طَلَبُ زِيَادَةِ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ أَوْ شَبَّهَ بِالصَّلَاةِ عَلَى إبْرَاهِيمَ لِأَجْلِ مَا ذَكَرَ فِي الْآيَةِ وَهِيَ: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} [هود: 73] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وَالْمُرْسَلِينَ وَعَلَى أَهْلِ طَاعَتِكَ أَجْمَعِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِأَئِمَّتِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ مَغْفِرَةً عَزْمًا اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ سَأَلَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّكَ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ كُلِّ شَرٍّ اسْتَعَاذَكَ مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا وَمَا أَخَّرْنَا وَمَا أَسْرَرْنَا وَمَا أَعْلَنَّا، وَمَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ السَّلَامُ   [الفواكه الدواني] وَإِنَّمَا خُصَّ إبْرَاهِيمُ بِالذِّكْرِ فِي الصَّلَاةِ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ جَمِيعَ الْأَنْبِيَاءِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ كُلُّ نَبِيٍّ وَلَمْ يُسَلِّمْ وَاحِدٌ مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ غَيْرُ إبْرَاهِيمَ، فَأَمَرَنَا مَعَاشِرَ الْأُمَّةِ أَنْ نُصَلِّيَ عَلَيْهِ فِي آخِرِ كُلِّ صَلَاةٍ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مُجَازَاةً لِإِحْسَانِهِ. ثَانِيهِمَا: أَنَّ إبْرَاهِيمَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ جَلَسَ مَعَ أَهْلِهِ فَبَكَى وَدَعَا فَقَالَ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ شُيُوخِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ فَقَالَ أَهْلُ بَيْتِهِ: آمِينَ، ثُمَّ قَالَ إِسْحَاقُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ كُهُولِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، فَقَالَ إسْمَاعِيلُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ شَبَابِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، ثُمَّ قَالَتْ سَارَةُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ نِسَاءِ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، فَقَالُوا: آمِينَ، ثُمَّ قَالَتْ هَاجَرُ: اللَّهُمَّ مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ مِنْ الْمَوَالِي وَالْمُوَالِيَاتِ مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ فَهَبْهُ مِنِّي السَّلَامَ، لَمَّا سَبَقَ مِنْهُمْ السَّلَامُ قَابَلْنَاهُمْ فِي الصَّلَاةِ مُجَازَاةً عَلَى صَنِيعِهِمْ، وَالْحِكْمَةُ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَنَا أَنْ نَطْلُبَ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ نُصَلِّ نَحْنُ بِأَنْفُسِنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ الْمَخْلُوقَاتِ فَأَمَرَنَا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنْ نَطْلُبَ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَ عَلَى أَشْرَفِ خَلْقِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَقَعَ الصَّلَاةُ مِنْ كَامِلٍ عَلَى كَامِلٍ. (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مَلَائِكَتِك) جَمْعُ مَلَكٍ (وَ) صَلِّ عَلَى عِبَادِك (الْمُقَرَّبِينَ) كَذَا رُوِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ فَتَكُونُ شَامِلَةً لِغَيْرِ الْمَلَائِكَةِ. وَرُوِيَ بِحَذْفِ الْوَاوِ فَتَكُونُ الصَّلَاةُ خَاصَّةً بِالْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ تَشْرِيفًا لَهُمْ. (عَلَى أَنْبِيَائِك وَالْمُرْسَلِينَ) رُوِيَ بِإِثْبَاتِ الْوَاوِ وَحَذْفِهَا كَاَلَّذِي قَبْلَهُ. (وَعَلَى أَهْلِ طَاعَتِك أَجْمَعِينَ) الْمُرَادُ بِهِمْ الْمُؤْمِنُونَ وَإِنْ كَانُوا عُصَاةً لِأَنَّهُمْ لَمْ يَخْلُوا مِنْ طَاعَةٍ. (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي) أَيْ اُسْتُرْ ذُنُوبِي (وَ) اغْفِرْ (لِوَالِدَيَّ) يُرِيدُ الْمُؤْمِنِينَ يَصِحُّ بِفَتْحِ الدَّالِ فَيَكُونُ مُثَنًّى، وَيُحْتَمَلُ بِكَسْرِهَا فَيَكُونُ جَمْعًا قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَفِي كَلَامِهِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِمَّنْ أَرَادَ قَبُولَ دُعَائِهِ أَنْ يَبْدَأَ بِوَالِدَيْهِ ثُمَّ بِمَنْ قَرَأَ عَلَيْهِ، وَكَانَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَبْدَأُ بِمُعَلِّمِهِ قَبْلَ أَبَوَيْهِ مُحْتَجًّا بِأَنَّ الْمُعَلِّمَ تَسَبَّبَ لَهُ فِي الْحَيَاةِ الدَّائِمَةِ، وَلَكِنَّ الْحَقَّ الْأَوَّلَ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ دَلَّ عَلَى شَرَفِ الْوَالِدَيْنِ. (وَ) اغْفِرْ اللَّهُمَّ (لِأَئِمَّتِنَا) وَهُمْ الْعُلَمَاءُ وَالْأُمَرَاءُ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ النَّاهُونَ عَنْ الْمُنْكَرِ (وَ) اغْفِرْ (لِمَنْ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ) كَالصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَأَمَّا عَامَّةُ الْمُسْلِمِينَ فَقَدْ دَخَلُوا فِي أَهْلِ الطَّاعَةِ. (مَغْفِرَةً عَزْمًا) أَيْ عَاجِلَةً وَقِيلَ قَطْعًا؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ الْعَزْمُ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ اُرْزُقْنِي إنْ شِئْت لِإِيهَامِهِ الِاسْتِغْنَاءَ. (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ سَأَلَك مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) مِمَّا لَيْسَ مُخْتَصًّا بِهِ فَلَا تَرُدَّ الشَّفَاعَةَ الْعُظْمَى فَإِنَّهَا مُخْتَصَّةٌ بِهِ. (وَأَعُوذُ بِك) أَيْ أَتَحَصَّنُ بِك يَا اللَّهُ (مِنْ كُلِّ شَرٍّ اسْتَعَاذَك) أَيْ اسْتَعَاذَ بِك (مِنْهُ مُحَمَّدٌ نَبِيُّك) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَالدُّعَاءُ بِهِ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهُ تَعْمِيمٌ فِي الدُّعَاءِ، وَسَبَبُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - هَذَا الدُّعَاءَ أَنَّهُ سَمِعَ رَجُلًا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي كَذَا وَكَذَا، وَأَخَذَ يُكْثِرُ مِنْ الْمَسَائِلِ فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قُلْ اللَّهُمَّ إلَخْ، ثُمَّ قَالَ: وَيُكْرَهُ الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ وَرَفْعُ الصَّوْتِ بِهِ وَالدُّعَاءُ بِالْمُحَالِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَرُدُّ الدُّعَاءُ مِنْ الْقَدْرِ شَيْئًا أَوْ لَا يَرُدُّ وَهُوَ الصَّحِيحُ؟ قَالَ الشَّاذِلِيُّ: وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ الْإِلْحَاحُ فِي الدُّعَاءِ وَأَنَّهُ يَرُدُّ الْقَدْرَ، وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُلِحِّينَ فِي الدُّعَاءِ» . وَرَوَى الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ مَرْفُوعًا: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائِدِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ فِي الرَّخَاءِ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا مَرْفُوعًا: «وَأَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ، وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ فَعَلَيْكُمْ عِبَادَ اللَّهِ بِالدُّعَاءِ» وَفِي رِوَايَةِ الْحَاكِمِ وَغَيْرِهِ: «إنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَعْتَلِجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» أَيْ يَتَصَارَعَانِ وَيَتَدَافَعَانِ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا مَا قَدَّمْنَا) مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَخَّرْنَا) مِنْ الطَّاعَاتِ عَنْ أَوْقَاتِهَا. (وَ) اغْفِرْ لَنَا (مَا أَسْرَرْنَا) وَهُوَ مَا أَخْفَيْنَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي (وَمَا أَعْلَنَّا) أَيْ أَظْهَرْنَاهُ مِنْ الْمَعَاصِي. (وَ) اغْفِرْ لَنَا (مَا أَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ مِنَّا) وَهُوَ مَا أَقَرَفْنَاهُ عَمْدًا أَوْ نَسِينَاهُ؛ لِأَنَّ مَا وَقَعَ حَالَ النِّسْيَانِ لَا إثْمَ فِيهِ لِخَبَرِ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسُهَا مَا لَمْ تَقُلْ أَوْ تَفْعَلْ» قَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطَّيِّبِ: مَا لَمْ يَعْزِمْ عَلَى مَا خَطَرَ بِقَلْبِهِ فَيُؤَاخَذُ بِهِ حِينَئِذٍ، وَمِنْ الدُّعَاءِ بِمَا فِي الْقُرْآنِ: {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً} [البقرة: 201] قِيلَ الْعِلْمُ، وَقِيلَ الْمَالُ الْحَلَالُ، وَقِيلَ الزَّوْجَةُ الْحَسَنَةُ، وَقِيلَ الْعَافِيَةُ فِي الدُّنْيَا. {وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً} [البقرة: 201] وَهِيَ الْعَاقِبَةُ فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ الْجَنَّةُ، وَقِيلَ الْمَغْفِرَةُ {وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} [البقرة: 201] أَيْ اجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَهَا وِقَايَةً، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ وَالْفَاكِهَانِيُّ: عَذَابُ النَّارِ الْمَرْأَةُ السُّوءِ فِي الدُّنْيَا، وَمَعَ الْأَدْعِيَةِ بِمَا فِي السُّنَّةِ: (وَأَعُوذُ) أَيْ أَتَحَصَّنُ (بِك مِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا) قِيلَ الْكُفْرُ، وَقِيلَ الْعِصْيَانُ، وَقِيلَ الْمَالُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ ثُمَّ تَقُولُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً عَنْ يَمِينِكَ تَقْصِدُ بِهَا قُبَالَةَ وَجْهِكَ وَتَتَيَامَنُ بِرَأْسِك قَلِيلًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيُسَلِّمُ   [الفواكه الدواني] وَالْوَلَدُ، وَالْأَحْسَنُ كُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنْ اللَّهِ فِتْنَةُ الْمَحْيَا. (وَ) أَعُوذُ بِك مِنْ فِتْنَةِ (الْمَمَاتِ) وَهِيَ التَّبْدِيلُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ؛ لِأَنَّ الْأَعْمَالَ بِالْخَوَاتِيمِ، وَذَلِكَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي الْإِنْسَانَ عِنْدَ خُرُوجِ رَوْحِهِ بِصِفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتُهُ مِنْ أَقَارِبِهِ فَيَقُولُ لَهُ: قَدْ سَبَقْتُك إلَى الْآخِرَةِ فَأَحْسَنُ الْأَدْيَانِ دِينُ كَذَا لِغَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ فَمُتْ عَلَيْهِ وَيَكُونُ لَك مَا كَانَ لِي مِنْ الْخَيْرِ، فَيَتَحَيَّرُ الْمَيِّتُ فَمَنْ أَرَادَ اللَّهُ ثَبَاتَهُ بَعَثَ إلَيْهِ مَلَكًا يَطْرُدُهُ، اللَّهُمَّ نَجِّنَا مِنْ كَيَدِهِ. (وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ) وَهِيَ عَدَمُ الثَّبَاتِ عِنْدَ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ. (وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحُ الْقَدَمَيْنِ، وَقِيلَ لِمَسْحِهِ الْأَرْضَ أَيْ طَوَافِهِ فِيهَا فِي أَقَلِّ زَمَنٍ مِنْ فِتْنَةٍ عَظِيمَةٍ يُخَافُ مِنْهَا إذْ يَدَّعِي الرُّبُوبِيَّةَ وَتَتَبُّعَهُ الْأَرْزَاقَ فَمَنْ تَبِعَهُ كَفَرَ، وَيَسْلُكُ الدُّنْيَا كُلَّهَا إلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ وَيَمْكُثُ فِي الدُّنْيَا أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَيَضَعُ رِجْلَهُ حَيْثُ يَنْتَهِي بَصَرُهُ وَهُوَ مُقَيَّدٌ الْيَوْمَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُهُ أَطْلَقَهُ اللَّهُ وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ: (الدَّجَّالُ) ؛ لِأَنَّهُ يُغَطِّي الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِتَحْصُلَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ يُسَمَّى بِالْمَسِيحِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ بِالْبَرَكَةِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ مَا مَسَحَ عَلَى ذِي عَاهَةٍ إلَّا وَيَبْرَأُ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ لِسِيَاحَتِهِ فِي الْأَرْضِ، وَقِيلَ بِأَنَّهُ مَمْسُوحٌ بِالدُّهْنِ، فَعِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَسِيحُ الْهُدَى، وَالدَّجَّالُ مَسِيحُ الضَّلَالِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهُ، رُبَّمَا قِيلَ فِيهِ مَسِيخٌ بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ لَكِنْ تَكَلَّمَ فِي هَذَا الضَّبْطِ. (وَ) أَعُوذُ بِك (مِنْ عَذَابِ النَّارِ وَسُوءِ الْمَصِيرِ) وَنَاقَشَ ابْنُ نَاجِي الْمُصَنِّفَ قَائِلًا: إنْ أَرَادَ بِسُوءِ الْمَصِيرِ سُوءَ الْخَاتِمَةِ فَقَدْ قَدَّمَهُ فِي قَوْلِهِ وَالْمَمَاتِ، وَإِنْ أَرَادَ بِهِ سُوءَ الْمُنْقَلَبِ أَيْ الْعَذَابَ فِي الْآخِرَةِ فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمُمْكِنُ الْجَوَابِ بِأَنَّهُ مِنْ بَابِ التَّوْكِيدِ اللَّفْظِيِّ. (السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) أَيْ خَيْرَاتُهُ الْمُتَكَاثِرَةُ (السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى) سَائِرِ (عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ) أَيْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ زِيَادَةِ هَذَا بَعْدَ التَّشَهُّدِ خِلَافًا لِابْنِ عُمَرَ، وَعَلَى نَدْبِ زِيَادَتِهِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، هَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ حَيْثُ قَالَ: الْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ التَّسْلِيمَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ الدُّعَاةِ، وَعَنْ مَالِكٍ يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيُّ إلَخْ، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى ضَعْفِ تِلْكَ الزِّيَادَةِ مَا مَرَّ مِنْ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ التَّشَهُّدِ وَالدُّعَاءِ تُوقِعُ تَسْلِيمَةً بِأَنْ (تَقُولَ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّرْتِيبِ وَصِيغَةِ الْجَمْعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَلَامٌ عُرِّفَ بِأَلْ، فَلَوْ قَالَ: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ أَوْ سَلَامِي عَلَيْكُمْ أَوْ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أَوْ أَسْقَطَ أَلْ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ بِالتَّعْرِيفِ وَالتَّنْوِينِ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا الصِّحَّةُ تَخْرِيجًا عَلَى صِحَّةِ صَلَاةِ اللَّاحِنِ فِي الْفَاتِحَةِ عَجْزًا عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ لِعَدَمِ مُعَلِّمٍ أَوْ ضِيقِ وَقْتٍ مَعَ قَبُولِ التَّعَلُّمِ لَهُ وَإِلَّا اتَّفَقَ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ صَلَاتِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ عِنْدَ الْقُدْرَةِ، فَلَا يَكْفِي أَمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِلُغَةِ حِمْيَرَ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْعَجْزِ عَنْ بَعْضِهِ حَيْثُ كَانَ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ لَهُ مَعْنَى، وَمَنْ عَجَزَ عَنْهُ جُمْلَةً خَرَجَ مِنْ الصَّلَاةِ بِنِيَّتِهِ، وَيَنْبَغِي الْجَزْمُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِوُجُوبِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، فَلَوْ سَلَّمَ بِاللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ عَجْزًا عَنْ الْعَرَبِيَّةِ فَيَظْهَرُ لَنَا عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ، كَمَا لَوْ أَتَى بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ بِالْعَجَمِيَّةِ لِلْعَجْزِ عَنْهَا بِالْعَرَبِيَّةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمِمَّا لَا يَنْبَغِي الشَّكُّ فِيهِ عَدَمُ بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ لَحَنَ فِيهِ أَوْ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّ اللَّحْنَ فِيهِمَا عَجْزًا عَنْ الصَّوَابِ لَيْسَ بِأَقْبَحَ مِنْ اللَّحْنِ فِي الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الْعَجْزِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ قَالَ غَيْرَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ لِلْقَوْلِ لَا لِلْقَائِلِ، وَتَسْلِيمَةُ التَّحْلِيلِ فَرْضٌ عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ مَأْمُومًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ الْخُرُوجُ مِنْهَا بِكُلِّ مُنَافٍ حَتَّى عَمْدُ الْحَدَثِ دَلِيلُنَا حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ تَحْرِيمُهَا التَّكْبِيرَ وَتَحْلِيلُهَا التَّسْلِيمَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِزِيَادَةِ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ لِأَنَّهَا إنْ لَمْ تَكُنْ مِنْ حُسْنِ الدُّعَاءِ فَهِيَ خَارِجُ الصَّلَاةِ خِلَافًا لِمَنْ كَرِهَهَا، وَجَرَى خِلَافٌ فِي اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ عِنْدَ السَّلَامِ، شَهَرَ الْفَاكِهَانِيُّ وَابْنُ عَرَفَةَ عَدَمَ اشْتِرَاطِهَا وَعَلَيْهِ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَدِمِهَا وَتَبْطُلُ مُقَابِلُهُ، وَمِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى الِاشْتِرَاطِ أَنَّ الْمُسْلِمَ إذَا كَانَ إمَامًا يَقْصِدُ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَأْمُومِينَ وَالْمَلَائِكَةِ، وَالْمَأْمُومُ يَنْوِي بِالْأُولَى الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَبِالثَّانِيَةِ الرَّدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَالْفَذُّ يَنْوِي بِهَا التَّحْلِيلَ وَالسَّلَامَ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ عَدَمِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الْخُرُوجِ فَقِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ الَّتِي لَا بُدَّ مَعَهَا مِنْ نِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ قَوْلًا وَاحِدًا بَيْنَ سَلَامِ التَّحْلِيلِ مَعَ أَنَّهُ فَرْضٌ أَيْضًا؟ وَالْفَرْقُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ التَّكْبِيرَ فِي الصَّلَاةِ مُتَعَدِّدٌ يَقَعُ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ، فَاحْتَاجَتْ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ لِمُصَاحَبَتِهَا النِّيَّةَ وَرَفْعَ الْيَدَيْنِ مَعَهَا لَيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ، وَثَانِيهِمَا ضَعْفُ أَمْرِ التَّسْلِيمِ وَعِظَمُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْضَ الْأَئِمَّةِ يَكْتَفِي بِكُلِّ مُنَافٍ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ. وَأَيْضًا نِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةُ وَاجِبَةٌ لِتَمْيِيزِ الْعِبَادَاتِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ إيقَاعِ السَّلَامِ مُخْتَلِفَةً بِاخْتِلَافِ الْمُصَلِّينَ بَيْنَ مَفْعُولِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: (تَسْلِيمَةً وَاحِدَةً) عَلَى هَيْئَتِهَا السَّابِقَةِ (عَنْ يَمِينِك تَقْصِدُ بِهَا) أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وَاحِدَةً يَتَيَامَنُ بِهَا قَلِيلًا، وَيَرُدُّ أُخْرَى عَلَى الْإِمَامِ قُبَالَتَهُ يُشِيرُ بِهَا إلَيْهِ وَيَرُدُّ عَلَى مَنْ كَانَ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ لَمْ يَرُدَّ عَلَى يَسَارِهِ شَيْئًا وَيَجْعَلُ يَدَيْهِ فِي تَشَهُّدِهِ عَلَى فَخِذَيْهِ وَيَقْبِضُ أَصَابِعَ يَدِهِ الْيُمْنَى، وَيَبْسُطُ   [الفواكه الدواني] تَبْتَدِئُهَا (قُبَالَةَ وَجْهِك) أَيْ جِهَةَ الْقِبْلَةِ (وَتَتَيَامَنُ بِرَأْسِك قَلِيلًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ) قَالَ خَلِيلٌ فِي الْمُسْتَحَبَّاتِ وَتَيَامُنٌ بِالسَّلَامِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: سَلَامُ غَيْرِ الْمَأْمُومِ قُبَالَتُهُ مُتَيَامِنًا قَلِيلًا، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَبْتَدِئُهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَكِنْ يَلْتَفِتُ إلَى جِهَةِ الْيُمْنَى قَلِيلًا بِحَسَبِ الِانْتِهَاءِ، فَلَا إشْكَالَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ قَوْلِهِ: عَنْ يَمِينِك الْمُوهِمِ أَنَّهُ يُوقِعُ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى الْيَمِينِ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ: قُبَالَةَ وَجْهِك لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ بِهَا عِنْدَ الِابْتِدَاءِ وَالتَّيَامُنِ قَلِيلًا بِحَسَبِ الِانْتِهَاءِ، وَذَلِكَ عِنْدَ نُطْقِهِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ مِنْ الْإِمَامِ وَالْفَذِّ الِابْتِدَاءَ بِهَا إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهُمَا مَأْمُورَانِ بِالِاسْتِقْبَالِ فِي سَائِرِ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ، وَالسَّلَامُ مِنْ جُمْلَةِ أَرْكَانِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَمَّا كَانَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الصَّلَاةِ نُدِبَ انْحِرَافُهُ فِي أَثْنَائِهِ إلَى جِهَةِ يَمِينِهِ لِيَكُونَ ذَلِكَ الِانْحِرَافُ دَلِيلًا لِنَحْوِ الْأَصَمِّ أَوْ التَّنْبِيهُ عَلَى خُرُوجِهِ مِنْ الصَّلَاةِ فَالتَّيَامُنُ مُسْتَحَبٌّ، كَمَا أَنَّ ابْتِدَاءَهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ أَيْضًا مُسْتَحَبٌّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حَدَّ الْقَلِيلِ وَبَيَّنَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ، فَلَوْ أَوْقَعَ الْإِمَامُ أَوْ الْفَذُّ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى يَمِينِهِ أَجْزَأَتْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَكَذَا لَوْ أَوْقَعَهَا عَلَى جِهَةِ الْيَسَارِ، ثُمَّ تَكَلَّمَ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ ثُمَّ تَكَلَّمَ لَمْ تَبْطُلْ وَفَاعِلُ سَلَّمَ الْإِمَامُ وَالْفَذُّ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ السَّلَامُ عَلَى الْيَسَارِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَقَوْلُهُ: وَاحِدَةً هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ لِلْإِمَامِ وَالْفَذِّ مِنْ تَسْلِيمَتَيْنِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ يُسَلِّمُ تَسْلِيمَتَيْنِ؟ وَاَلَّذِي رَأَى مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَيْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدَةً، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ مِنْ الْوَرَعِ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ فَالْأَوْلَى الْإِتْيَانُ بِالتَّسْلِيمَتَيْنِ. (وَأَمَّا الْمَأْمُومُ) الَّذِي أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ (فَ) صِفَةُ سَلَامِهِ أَنْ (يُسَلِّمَ) تَسْلِيمَتَيْنِ (وَاحِدَةٌ) بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ مِنْ سَلَامِهِ وَلَوْ الثَّانِيَةُ كَأَنْ يَرَى الثَّانِيَةَ وَيَنْدُبُ لَهُ أَنْ (يَتَيَامَنَ بِهَا قَلِيلًا) أَيْ يَرْفَعَ جَمِيعَهَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ وَلَا يَسْتَقِلُّ بِهَا، وَهَذِهِ فَرِيضَةٌ لِأَنَّهَا تَسْلِيمَةُ التَّحْلِيلِ (وَ) يُسَنُّ أَنْ (يُزَادَ أُخْرَى) أَيْ يُسَلِّمُ الْأُخْرَى (عَلَى الْإِمَامِ قُبَالَتَهُ) أَيْ يُوقِعُهَا إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَلَا يَتَيَامَنُ وَلَا يَتَيَاسَرُ بِهَا حَالَةَ كَوْنِهِ (يُشِيرُ بِهَا إلَيْهِ) أَيْ إلَى الْإِمَامِ بِقَلْبِهِ لَا بِرَأْسِهِ، سَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ أَمَامَهُ أَوْ كَانَ خَلْفَهُ أَوْ عَلَى يَمِينِهِ أَوْ عَلَى يَسَارِهِ وَيُجْزِئُهُ فِي تَسْلِيمَةِ الرَّدِّ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَعَلَيْك السَّلَامُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَأْمُومَ يُوقِعُ جَمِيعَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى يَمِينِهِ هُوَ ظَاهِرُ رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ. (وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَرُدَّ عَلَى مَنْ كَانَ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى يَسَارِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ أَوْ كَانَ عَلَيْهِ أَحَدٌ إلَّا أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ لِكَوْنِهِ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً (لَمْ يَرُدَّ عَلَى يَسَارِهِ شَيْئًا) وَيَقْتَصِرُ عَلَى تَسْلِيمَتَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَأْمُومَ الَّذِي يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ لَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ مَسْبُوقٌ لَا يُسَنُّ رَدُّهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ ابْنُ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٌ مِنْ الْمَأْمُومِ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بِكَوْنِهِ سَلَّمَ عَلَيْهِ وَلَفْظُهُ بِالْعَطْفِ عَلَى السُّنَنِ وَرَدُّ مُقْتَدٍ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ يَسَارِهِ وَبِهِ أَحَدٌ، فَيَشْمَلُ كَلَامُهُ مَنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ سَوَاءٌ كَانَ بَاقِيًا حَتَّى أَتَمَّ هَذَا الْمُسْلِمُ صَلَاتَهُ، أَوْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ وَسَلَّمَ مَعَ إمَامِهِ وَذَهَبَ وَأَتَمَّ هَذَا صَلَاتَهُ بَعْدَهُ لِكَوْنِهِ مَسْبُوقًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْبُوقَ يَرُدُّ عَلَى إمَامِهِ وَلَوْ انْصَرَفَ قَبْلَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ، كَمَا أَنَّ الْمَأْمُومَ الَّذِي يُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَسْبُوقِ الَّذِي تَأَخَّرَ سَلَامُهُ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَلَى الْيَسَارِ كَوْنُهُ سَلَّمَ عَلَى هَذَا الرَّادِّ، خِلَافًا الظَّاهِرُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّ قَوْلَهُ مَرْجُوعٌ عَنْهُ، وَاَلَّذِي ذَكَرْنَا عَنْ خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ هُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ سَلَامِ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ وَلَا عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ حُكْمَهَا السُّنِّيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ فِي السُّنَنِ: وَرَدُّ مُقْتَدٍ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ يَسَارِهِ وَبِهِ أَحَدٌ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ " أَنَّهُ كَانَ يُسَلِّمُ عَلَى يَمِينِهِ ثُمَّ عَلَى إمَامِهِ ثُمَّ إنْ كَانَ عَلَى يَسَارِهِ أَحَدٌ رَدَّ عَلَيْهِ " وَفِي الْحَدِيثِ: «أُمِرْنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَرُدَّ عَلَى الْإِمَامِ، وَأَنْ يُسَلِّمَ بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ» . الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّدِّ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُومُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ، فَمَنْ لَمْ يُحَصِّلُ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ بِأَنْ أَدْرَكَ دُونَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ لَا يَرُدُّ عَلَى إمَامِهِ وَلَا عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَمَنْ عَلَى يَمِينِهِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ مُنْفَرِدٌ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَقْتَدِيَ بِهِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ لِرَدِّ الْمَأْمُومِ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ سَلَّمَ قَبْلَ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 السَّبَّابَةَ يُشِيرُ بِهَا، وَقَدْ نَصَبَ حَرْفَهَا إلَى وَجْهِهِ وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيكِهَا فَقِيلَ يَعْتَقِدُ بِالْإِشَارَةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ، وَيَتَأَوَّلُ مَنْ يُحَرِّكُهَا أَنَّهَا مُقْمِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَأَحْسِبُ تَأْوِيلَ ذَلِكَ أَنْ يَذْكُرَ بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ مَا يَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ السَّهْوِ فِيهَا وَالشَّغْلِ عَنْهَا، وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ وَلَا يُحَرِّكُهَا وَلَا يُشِيرُ بِهَا وَيُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ بِأَثَرِ الصَّلَوَاتِ   [الفواكه الدواني] السَّابِقُ بِالسَّلَامِ هُوَ الْمَأْمُومُ كَأَهْلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ عَلَى الْإِمَامِ، وَيُسَلِّمُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَيُلْغَزُ بِهَا فَيُقَالُ: لَنَا مَأْمُومٌ يُسَلِّمُ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ وَلَا يُسَلِّم عَلَى إمَامِهِ؛ لِأَنَّ إمَامَهُ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. قَالَهُ عَلَّامَةُ الْعَصْرِ الْأُجْهُورِيُّ وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ مَعَ الْمَسْبُوقِ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ مَنْ عَلَى يَمِينِهِ مَعَ كَوْنِ الْمَسْبُوقِ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَعْلَمْ حُكْمَ التَّرْتِيبِ بَيْنَ تَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ وَتَسْلِيمَةِ الرَّدِّ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَدَمُ الْوُجُوبِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَى يَسَارِهِ بِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ مَعَ نِيَّةِ الْإِتْيَانِ بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَأَتَى بِهَا عَنْ قُرْبٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ نَسِيَ السَّلَامَ عَلَى يَمِينِهِ حَتَّى انْصَرَفَ وَطَالَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا تَبْطُلُ مُطْلَقًا لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ لِقَصْدِ الرَّدِّ وَيَقْصِدُ السَّلَامَ عَلَى الْيَمِينِ لِلْفَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ عَلَى الْيَسَارِ مُعْتَقِدًا أَنَّهُ سَلَّمَ لِلتَّحْلِيلِ، ثُمَّ تَذَكَّرَ أَنَّهُ لَمْ يُسَلِّمْ فَإِنْ أَتَى بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ عَنْ قُرْبٍ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ. الرَّابِعُ: يُسَنُّ الْجَهْرُ بِسَلَامِ التَّحْلِيلِ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ فَذًّا أَوْ مَأْمُومًا وَلَوْ امْرَأَةً، وَأَمَّا مَا عَدَا تَسْلِيمَ التَّحْلِيلِ فَالْأَفْضَلُ فِيهِ الْإِسْرَارُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا التَّكْبِيرُ فَيَنْدُبُ الْجَهْرُ بِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَالْإِسْرَارُ بِمَا عَدَاهَا لِلْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالشَّأْنُ فِي حَقِّهِ الْجَهْرُ بِالتَّكْبِيرِ وَالتَّسْمِيعُ لِيَقْتَدِيَ بِهِ الْمَأْمُومُ. [صفة الْجُلُوس فِي التَّشَهُّد] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ السَّلَامِ مِنْ كُلِّ مُصَلٍّ ذَكَرَ صِفَةَ وَضْعِ يَدَيْهِ فِي حَالِ تَشَهُّدِهِ وَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا قَبْلَ السَّلَامِ بَلْ قَبْلَ التَّشَهُّدِ فَقَالَ: (وَ) يَنْدُبُ أَنْ (يَجْعَلَ يَدَيْهِ فِي) حَالِ (تَشَهُّدَيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ) تَثْنِيَةُ فَخِذٍ وَهُوَ مَا بَيْنَ الرُّكْبَةِ وَالْوَرِكِ أَوْ يَجْعَلَهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ لِقُرْبِهِمَا مِنْ فَخِذَيْهِ، وَقَوْلُهُ كَخَلِيلٍ فِي تَشَهُّدَيْهِ لَا مَفْهُومَ لِلتَّشَهُّدَيْنِ بَلْ مِثْلُهُمَا حَالَ الدُّعَاءِ أَيْضًا إلَى السَّلَامِ. (وَ) يَنْدُبُ أَنْ (يَقْبِضَ أَصَابِعَ يَدَيْهِ الْيُمْنَى) الْوُسْطَى وَالْبِنْصِرَ وَالْخِنْصَرَ (وَيَبْسُطَ) أَيْ يَمُدَّ (السَّبَّابَةَ) وَالْإِبْهَامَ يَمُدُّهَا أَيْضًا تَحْتَ السَّبَّابَةَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ عَقْدُهُ يُمْنَاهُ فِي تَشَهُّدَيْهِ الثَّلَاثَ مَادًّا السَّبَّابَةَ وَالْإِبْهَامَ وَفِي حَالِ بَسْطِ السَّبَّابَةِ (يُشِيرُ بِهَا) أَيْ يَنْصِبُهَا مُحَرِّكًا لَهَا يَمِينًا وَشِمَالًا أَوْ مِنْ أَسْفَلَ إلَى أَعْلَى وَعَكْسُهُ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ نَصَبَ حَرْفَهَا) أَيْ السَّبَّابَةِ وَالْمُرَادُ جَنْبُهَا (إلَى وَجْهِهِ) أَيْ قُبَالَةَ وَجْهِهِ (وَاخْتُلِفَ فِي تَحْرِيكِهَا) أَيْ فِي سَبَبِ تَحْرِيكِ السَّبَّابَةِ مَعَ نَصْبِهَا الَّذِي أَشَارَ لَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَحْرِيكُهَا دَائِمًا أَيْ إلَى آخِرِ التَّشَهُّدِ بَلْ الْمُوَافِقُ لِمَا ذَكَرُوهُ عِلَّةُ تَحْرِيكِهَا أَنَّهُ إلَى السَّلَامِ (فَقِيلَ يَعْتَقِدُ بِالْإِشَارَةِ بِهَا أَنَّ اللَّهَ إلَهٌ وَاحِدٌ وَ) قِيلَ (يَتَأَوَّلُ) أَيْ يَقْصِدُ (مِنْ تَحَرُّكِهَا أَنَّهَا مُقْمِعَةٌ لِلشَّيْطَانِ) لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَسْهُو أَحَدُكُمْ مَا دَامَ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ» . وَفِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «تَحْرِيكُ الْأُصْبُعِ فِي الصَّلَاةِ مُذْعِرَةٌ لِلشَّيْطَانِ وَمُقْمِعَةٌ» إنْ جُعِلَتْ مَحَلًّا لِلْقَمْعِ كَانَتْ بِفَتْحِ الْمِيمِ، وَإِنْ جُعِلَتْ آلَةً لَهُ كُسِرَتْ الْمِيمُ الثَّانِيَةُ وَضَمَّتْ الْأُولَى وَالْأَنْسَبُ الْمَعْنَى الثَّانِي. وَلَمَّا ذَكَرَ عِلَّةَ التَّحْرِيكِ عَنْ الشُّيُوخِ بَيَّنَ مَا اخْتَارَهُ هُوَ فِي الْعِلَّةِ فَقَالَ: (وَأَحْسِبُ) أَيْ أَعْتَقِدُ (تَأْوِيلَ ذَلِكَ) أَيْ عِلَّةَ التَّحْرِيكِ الْمَذْكُورِ (أَنْ يَذْكُرَ) الْمُصَلِّي (بِذَلِكَ مِنْ أَمْرِ الصَّلَاةِ مَا يَمْنَعُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَنْ السَّهْوِ فِيهَا وَالشَّغْلِ عَنْهَا) وَالْمَعْنَى: أَنَّ سَبَبَ تَحْرِيكِ السَّبَّابَةِ فِي التَّشَهُّدِ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ حُضُورُ الْقَلْبِ فِي الصَّلَاةِ وَالْخُشُوعُ، وَمَا دَامَ الْقَلْبُ حَاضِرًا يَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ السَّهْوِ وَغَيْرِهِ، وَاخْتُصَّتْ السَّبَّابَةُ بِذَلِكَ دُونَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ عُرُوقَهَا مُتَّصِلَةٌ بِالْقَلْبِ فَإِذَا حُرِّكَتْ يَنْزَعِجُ الْقَلْبُ فَيَنْتَبِهُ. قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَيَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَفْعَلَ فِي صَلَاتِهِ مَا يَمْنَعُهُ وَيَحْفَظُهُ عَنْ السَّهْوِ كَالْخَاتَمِ يَكُونُ فِي أُصْبُعٍ فَإِذَا صَلَّى رَكْعَةً يَنْزِعُهُ وَيَجْعَلُهُ فِي الْأُخْرَى، وَلَعَلَّ مَحَلَّ الْجَوَازِ حَيْثُ لَا يَكْثُرُ وَإِلَّا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَيْفِيَّةُ قَبْضِ الْأَصَابِعِ وَلَا كَيْفِيَّةُ حَالِ السَّبَّابَةِ مَعَ الْإِبْهَامِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ الْأَكْثَرُ إنَّهُ عَلَى هَيْئَةِ عَدَدِ التِّسْعَةِ وَالْعِشْرِينَ فَيَكُونُ الْخِنْصَرُ وَالْبِنْصِرُ وَالْوُسْطَى أَطْرَافُهُنَّ عَلَى اللَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَ الْإِبْهَامِ، وَيَبْسُطُ الْمُسَبِّحَةَ وَيَجْعَلُ جَنْبَهَا إلَى السَّمَاءِ وَيَمُدُّ الْإِبْهَامَ بِجَنْبِهَا عَلَى الْوُسْطَى، فَقَبْضُ الثَّلَاثَةِ وَوَضْعُ أَطْرَافِهِنَّ عَلَى اللَّحْمَةِ الَّتِي تَحْتَ الْإِبْهَامِ هُوَ قَبْضُ تِسْعَةً، وَمَدُّ السَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ هُوَ الْعِشْرُونَ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: فِي تَشَهُّدَيْهِ أَنَّهُ لَا يَعْقِدُ فِي رُكُوعِهِ وَلَا سُجُودِهِ بَلْ يَنْصِبُهُمَا عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ أَوْ قُرْبَهُمَا فِي الرُّكُوعِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ فِي السُّجُودِ مَبْسُوطَتَيْنِ. (وَيَبْسُطُ يَدَهُ الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ) أَوْ عَلَى رُكْبَتَيْهِ (وَلَا يُحَرِّكُهَا وَلَا يُشِيرُ بِهَا) وَلَوْ قُطِعَتْ يُمْنَاهُ. [مَا يُسْتَحَبُّ عَقِبَ الصَّلَاةِ] وَقَدْ انْتَهَى الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ الَّتِي ابْتَدَأَ بِهَا وَأَشَارَ إلَى مَا يُسْتَحَبُّ عَقِبَ الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ الذِّكْرُ بِأَثَرِ الصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِنَافِلَةٍ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد: «أَنَّ رَجُلًا صَلَّى الْفَرِيضَةَ فَقَامَ لِيَتَنَقَّلَ فَجَذَبَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَجْلَسَهُ وَقَالَ لَهُ: لَا تُصَلِّ النَّافِلَةَ بِأَثَرِ الْفَرِيضَةِ، فَقَالَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَيُسْتَحَبُّ بِإِثْرِ صَلَاةِ الصُّبْحِ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ   [الفواكه الدواني] النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ -: أَصَبْت يَا ابْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ اللَّهُ بِك» وَأَمَّا الْفَصْلُ بِآيَةِ الْكُرْسِيِّ فَلَا يُكْرَهُ، وَكَذَا تَكْبِيرُ أَيَّامِ الضَّحَايَا؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى التَّسْبِيحِ، وَالْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ كَثِيرَةٌ وَالْمُخْتَارُ لِلْمُصَنِّفِ مِنْهَا أَنْ (يُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) تَسْبِيحَةً بِلَفْظِ سُبْحَانَ اللَّهِ يَمُدُّ لَفْظَ الْجَلَالَةِ مَدًّا طَبِيعِيًّا وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ أَلِفٍ (وَيَحْمَدُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (اللَّهَ) بِأَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرُ اللَّهَ) بِأَنْ يَقُول: اللَّهُ أَكْبَرُ (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْمَوْجُودَاتِ (وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ الْمُمْكِنَاتِ (قَدِيرٌ) فَإِذَا قَالَ ذَلِكَ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَلَوْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ. فِي الصَّحِيحَيْنِ تَقْدِيمُ الْحَمْدِ عَلَى التَّكْبِيرِ كَمَا هُنَا، وَذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ آخِرَ الْكِتَابِ بِتَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّحْمِيدِ كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ، أَيْ فَيُؤْخَذُ مِنْ الرِّوَايَاتِ أَنَّهُ لَا ضَرَرَ فِي التَّقْدِيمِ وَالتَّأْخِيرِ، وَمِنْ الْأَذْكَارِ الْمَسْمُوعَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الْكُرْسِيِّ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إلَّا أَنْ يَمُوتَ» زَادَ الطَّبَرَانِيُّ: «وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» . وَمِنْهَا: «أَنَّ مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ غُفِرَ لَهُ وَإِنْ كَانَ فَرَّ مِنْ الزَّحْفِ» . وَمِنْهَا: «أَنَّ مَنْ قَالَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ} [الصافات: 181] {وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 182] فَقَدْ اكْتَالَ بِالْجَرِيبِ الْأَوْفَى» وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ مَكْتُوبَةٍ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، اللَّهُمَّ لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْت وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْت، وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْك الْجَدُّ» . وَمِنْهَا مَا وَرَدَ فِي الصُّبْحِ خَاصَّةً: «أَنَّ مَنْ قَالَ بَعْدَ الْفَجْرِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيمَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيَّ الْقَيُّومَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ كُفِّرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» . وَرَوَى أَحْمَدُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِبَعْضِ الصَّحَابَةِ: «إذَا صَلَّيْت الصُّبْحَ فَقُلْ ثَلَاثًا: سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ، تَعَافَى مِنْ الْعَمَى وَالْجُذَامِ وَالْفَالِجِ» . وَالْأَذْكَارُ كَثِيرَةٌ وَثَوَابُهَا مُخْتَلِفٌ بِاخْتِلَافِهَا لُطْفًا وَامْتِنَانًا مِنْ مَوْلَى الثَّوَابِ حَيْثُ لَمْ يَحْجُرْ عَلَى عَبْدِهِ فِي خُصُوصِ لَفْظٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ يُحْيِي وَيُمِيتُ عَقِبَ لَهُ الْمُلْكُ كَمَا يَزِيدُهَا بَعْضُ النَّاسِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ فِي الْحَدِيثِ، وَيُرْوَى زِيَادَتُهَا بَعْدَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ، نَعَمْ وَرَدَ فِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: وَأَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ تَكْبِيرَةً، فَالْأَحْوَطُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ فَيُسَبِّحُ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَيَحْمَدُ كَذَلِكَ وَيُكَبِّرُ أَرْبَعًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمُ بِقَوْلِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إلَخْ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالْوَاوِ دُونَ ثُمَّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَجْمُوعَةً، وَاخْتَارَ هَذَا ابْنُ عَرَفَةَ وَجَمَاعَةٌ، وَاخْتَارَ غَيْرُهُمْ الْإِتْيَانَ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى حِدَةٍ وَالتَّحْمِيدِ كَذَلِكَ وَالتَّكْبِيرِ كَذَلِكَ، وَأَقُولُ: فَيُسْتَفَادُ جَوَازُ الْأَمْرَيْنِ. الثَّالِثُ: الْأَذْكَارُ الْوَارِدَةُ عَنْ الشَّارِعِ مَضْبُوطَةٌ هَلْ تَجُوزُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا وَيُقْتَصَرُ عَلَيْهَا؟ قَالَ الْحَافِظُ الْعِرَاقِيُّ عَنْ بَعْضِ مَشَايِخِهِ: إنَّ الْأَعْدَادَ الْوَارِدَةَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ لِثَوَابٍ مَخْصُوصٍ، فَإِذَا زَادَ عَلَيْهَا أَوْ نَقَصَ لَا يَحْصُلُ لَهُ ذَلِكَ الثَّوَابُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ إنْ أَتَى بِالْمِقْدَارِ الْمُرَتَّبِ عَلَيْهِ الثَّوَابُ فَلَا تَكُونُ الزِّيَادَةُ مُزِيلَةً لَهُ، وَرُبَّمَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ قَوْلِ الْقَرَافِيِّ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ الزِّيَادَةُ عَلَى تَحْدِيدِ الشَّارِعِ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ الْمُوهِمَةِ أَنَّهُ لَا يُعْطِي الثَّوَابَ إلَّا بِتِلْكَ الزِّيَادَةِ. الرَّابِعُ: اُخْتُلِفَ هَلْ الْأَفْضَلُ فِي الْأَذْكَارِ الْوَارِدَةِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ السِّرُّ أَوْ الْجَهْرُ؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يُسْتَحَبُّ رَفْعُ الصَّوْتِ بِهَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «كُنْت أَعْرِفُ انْقِضَاءَ صَلَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّكْبِيرِ» وَفِي مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الزُّبَيْرِ. «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ قَالَ بِصَوْتِهِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَلَا نَعْبُدُ إلَّا إيَّاهُ لَهُ النِّعْمَةُ وَلَهُ الْفَضْلُ وَلَهُ الثَّنَاءُ الْحَسَنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ» . وَحَمَلَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْحَدِيثَ عَلَى أَنَّهُ جَهَرَ زَمَنًا يَسِيرًا حَتَّى عَلَّمَهُمْ صِفَةَ الذِّكْرِ لَا أَنَّهُ دَاوَمَ عَلَى الْجَهْرِ، فَاخْتَارَ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ إخْفَاءَ الذِّكْرِ، إلَّا أَنْ يُرِيدَ الْإِمَامُ بِرَفْعِ صَوْتِهِ تَعْلِيمَ الْجَمَاعَةِ أَوْ إعْلَامَهُمْ، قُلْت: وَفِي كَلَامِ أَئِمَّتِنَا فِي التَّكْبِيرِ الْمَطْلُوبِ فِي يَوْمِ الْعِيدِ مَا يُوَافِقُ مَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ؛ لِأَنَّهُمْ عَدُّوا رَفْعَ الصَّوْتِ بِالتَّكْبِيرِ بِدْعَةً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْخَامِسُ: سَبَبُ مَشْرُوعِيَّةِ هَذَا الذِّكْرِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ: «أَنَّ نَفَرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ. قَالَ: مَا ذَاكَ؟ قَالُوا: يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ كَمَا نَفْعَلُ وَلَهُمْ أَمْوَالٌ يَتَصَدَّقُونَ وَيَحُجُّونَ وَيَعْتَمِرُونَ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبِ طُلُوعِهَا وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ بَعْدَ الْفَجْرِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ يُسِرُّهَا وَالْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ مِنْ الطِّوَالِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ قَلِيلًا   [الفواكه الدواني] فَقَالَ: أَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ، وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ إلَّا مَنْ صَنَعَ مِثْلَ مَا صَنَعْتُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تُسَبِّحُونَ اللَّهَ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَتَحْمَدُونَهُ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ وَتُكَبِّرُونَهُ كَذَلِكَ وَتَخْتِمُونَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، ثُمَّ رَجَعُوا إلَيْهِ فَقَالُوا: سَمِعَ إخْوَانُنَا فَفَعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلْنَا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] » فَقَالَ الْفُقَهَاءُ: لَا خُصُوصِيَّةَ لِلْفُقَرَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] وَقَالَتْ الصُّوفِيَّةُ: بَلْ قَوْلُهُ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ إلَخْ يُرِيدُ هَذَا الْفَضْلُ مَخْصُوصٌ بِهِمْ لَا يَلْحَقُهُمْ غَيْرَهُمْ. (وَيُسْتَحَبُّ) زِيَادَةٌ عَلَى الذِّكْرِ الْمُتَقَدِّمِ أَوْ غَيْرِهِ (بِإِثْرِ صَلَاةِ الصُّبْحِ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبِ طُلُوعِهَا) لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ ثُمَّ قَعَدَ يَذْكُرُ اللَّهَ تَعَالَى حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، ثُمَّ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَتْ لَهُ كَأَجْرِ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ تَامَّةٍ» وَفِي الصَّحِيحِ: «مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ فِي جَمَاعَةٍ، وَجَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ يَذْكُرُ اللَّهَ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَانَ لَهُ ثَوَابُ حَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ تَامَّتَيْنِ قَالَهُ ثَلَاثًا» وَوَرَدَ أَيْضًا: «أَنَّ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَجَلَسَ فِي مُصَلَّاهُ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ إلَّا بِخَيْرٍ إلَى أَنْ رَكَعَ سَجْدَةَ الضُّحَى غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَعَلَى هَذَا مَضَى السَّلَفُ الصَّالِحُ كَانُوا يَحْرِصُونَ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِالذِّكْرِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَإِنَّمَا رَغَّبَ الشَّارِعُ فِي إحْيَاءِ هَذَا الْوَقْتِ وَكَثَّرَ الثَّوَابَ فِي إحْيَائِهِ؛ لِأَنَّهُ زَمَنُ خُلُوِّ قَلْبِ الْإِنْسَانِ وَتَفَرُّغِهِ مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا، حَتَّى كَانَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يُحَدِّثُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَإِذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ تَرَكَ الْكَلَامَ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَسَمِعْت مَنْ يَقُولُ: إنَّ زَمَانَ مَا بَيْنَ الْفَجْرِ وَطُلُوعِ الشَّمْسِ شَبِيهٌ بِزَمَنِ الْجَنَّةِ أَبَاحَهَا اللَّهُ لَنَا بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ. وَقَوْلُهُ: فِي الذِّكْرِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالتَّسْبِيحِ وَالدُّعَاءِ تَرَدَّدَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي فَهْمِهَا فَقَالَ بَعْضٌ: التَّسْبِيحُ خِلَافُ الِاسْتِغْفَارِ وَخِلَافُ الدُّعَاءِ، وَقَالَ بَعْضٌ: الْمُرَادُ بِالذِّكْرِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ وَمَا بَعْدَهُ تَفْسِيرٌ لَهُ، وَلِذَا قَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: الْقُرْآنُ أَفْضَلُ شَيْءٍ يَشْتَغِلُ بِهِ الْإِنْسَانُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ: يَدْعُو ابْتِدَاءً بِالدُّعَاءِ الْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ بِالذِّكْرِ بَعْدَهُ ثُمَّ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ثُمَّ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا الْعَالَمِ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: وَأَفْضَلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ. قَالَ التَّادَلِيُّ: وَبِأَفْضَلِيَّةِ الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ فِي هَذَا الْوَقْتِ عَلَى الِاسْتِغْفَارِ أَفْتَى بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ لَا سِيَّمَا فِي زَمَانِنَا لِقِلَّةِ الْحَامِلِينَ لَهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَبِهَذَا الْقَوْلِ أَقُولُ لِخَبَرِ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: إحْدَاهَا عِلْمٌ يُنْتَفَعُ بِهِ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ مِمَّا تَبْقَى فَائِدَتُهُ بَعْدَ الْمَوْتِ» وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا تَرْكُ مَالِكٍ لَهُ بَعْدَ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ زَمَنَهُ لَمْ يَقِلَّ فِيهِ حَامِلُ الْعِلْمِ. (تَنْبِيهٌ) : كَمَا يُسْتَحَبُّ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ وَالتَّسْبِيحِ بَعْدَ الصُّبْحِ يُسْتَحَبُّ كَذَلِكَ بَعْدَ الْعَصْرِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ أَوَّلَ صَحِيفَتِهِ حَسَنَاتٌ وَفِي آخِرِهَا حَسَنَاتٌ مَحَا اللَّهُ مَا بَيْنَهُمَا» وَلِمَا وَرَدَ: «أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ: يَا عَبْدِي اُذْكُرْنِي سَاعَةً بَعْدَ الصُّبْحِ وَسَاعَةً بَعْدَ الْعَصْرِ أَغْفِرْ لَك مَا بَيْنَهُمَا أَوْ أَكْفِك مَا بَيْنَهُمَا» فَالْحَاصِلُ كَمَا قَالَ صَاحِبُ هِدَايَةِ الْمُرِيدِ: أَنَّ فَضْلَ هَذَا الْوَقْتِ كَفَضْلِ مَا قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَلِمَا قَالَ بَعْضُ الظَّاهِرِيَّةِ بِوُجُوبِ التَّسْبِيحِ بَعْدَ الصُّبْحِ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} [طه: 130] رَدَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ) أَيْ التَّمَادِي فِي الذِّكْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ (بِوَاجِبٍ) وَلَوْلَا قَصْدُ الرَّدِّ لَاسْتَغْنَى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَيُسْتَحَبُّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَمَا يَفْعَلُ بَعْدَهَا شَرَعَ فِيمَا هُوَ دُونَ الصُّبْحِ فِي الرُّتْبَةِ وَقَبْلَهَا فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ وَفَاءً بِمَا وَعَدَ بِهِ مِنْ ذِكْرِ الْفَرَائِضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الرَّغَائِبِ وَالسُّنَنِ فَقَالَ: (وَيَرْكَعُ) أَيْ يُصَلِّي (رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ) لَكِنْ (بَعْدَ) تَحَقُّقِ طُلُوعِ (الْفَجْرِ) الصَّادِقِ الَّذِي هُوَ ضَوْءُ الشَّمْسِ فَإِنْ رَكَعَهُمَا قَبْلَهُ لَمْ يَصِحَّا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تُجْزِي إنْ تَبَيَّنَّ تَقَدُّمُ إحْرَامِهَا لِلْفَجْرِ وَلَمْ يَتَحَرَّ. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ أَنَّهَا تُجْزِي، وَهُوَ كَذَلِكَ مَعَ التَّحَرِّي، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا مَعَ الشَّكِّ فِي طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تُجْزِي وَلَوْ تَبَيَّنَّ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَقَعَ بَعْدَ دُخُولِهِ، فَ الْمُصَنِّفُ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ وَقْتُهَا وَلَمْ يَنُصَّ هُنَا عَلَى حُكْمِهَا لِمَا سَيَأْتِي فِي بَابٍ جَمَلَ فِي الْقَوْلَيْنِ بِالسُّنِّيَّةِ وَالرَّغِيبَةِ، وَاقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى الثَّانِي حَيْثُ قَالَ: وَهِيَ رَغِيبَةٌ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَفَاوُتُ الثَّوَابِ؛ لِأَنَّ ثَوَابَ السُّنَّةِ أَوْفَى مِنْ ثَوَابِ الرَّغِيبَةِ، وَفِعْلَ السُّنَّةِ فِي الْمَسْجِدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وَلَا يَجْهَرُ فِيهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَيَقْرَأُ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ سِرًّا وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا سِرًّا، وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجَلْسَةِ الْأُولَى إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَقُومُ فَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى   [الفواكه الدواني] أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ بِخِلَافِ الرَّغِيبَةِ، وَكُلٌّ مِنْ السُّنَّةِ وَالرَّغِيبَةِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ تَخُصُّهُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقْرَأَ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ) فَقَطْ (وَيُسِرُّهَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْفَاتِحَةِ سِرًّا لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فَيُخَفِّفُ فِيهِمَا حَتَّى أَقُولَ: هَلْ قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ أَمْ لَا؟» رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: يَقْرَأُ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ لِخَبَرِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَأَ فِيهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةِ قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَدَلِيلُ هَذَا أَظْهَرُ مِنْ الدَّلِيلِ الْأَوَّلِ الَّذِي قِيلَ فِيهِ: إنَّهُ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّ هَذَا نَصَّ فِيهِ عَلَى أَنَّهُ قَرَأَ سُورَةً بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ دَلِيلُهُ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّ قَائِلَهُ إنَّمَا اعْتَمَدَ عَلَى تَخْفِيفِ الصَّلَاةِ، وَالنَّصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الظَّاهِرِ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي الْإِسْرَاعُ بِقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ وَالسُّورَةِ عَمَلًا بِالرِّوَايَتَيْنِ (فَائِدَةٌ) ذَكَرَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ أَنَّهُ مِمَّا جَرَّبَ لِدَفْعِ الْمَكَارِهِ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ " بِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَك " وَ " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ". قَالَ الْغَزَالِيُّ فِي كِتَابِ وَسَائِلِ الْحَاجَاتِ وَآدَابِ الْمُنَاجَاةِ: وَقَدْ بَلَغَنَا عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ وَأَرْبَابِ الْقُلُوبِ أَنَّ مَنْ قَرَأَ فِي رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ بِ " أَلَمْ نَشْرَحْ " وَ " أَلَمْ تَرَ كَيْفَ " قَصُرَتْ عَنْهُ كُلُّ يَدٍ عَادِيَةٍ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُمْ إلَيْهِ سَبِيلًا. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لَا شَكَّ فِيهِ اهـ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْفِيلِ لِسَيِّدِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الثَّعَالِبِيِّ. (خَاتِمَةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِصَلَاةِ الْفَجْرِ، مِنْهَا: أَنَّهُ لَوْ صَلَّاهُمَا بِبَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى إلَى الْمَسْجِدِ لَا يُعِيدُهُمَا وَلَا يُصَلِّي تَحِيَّةً بَعْدَ الْفَجْرِ، وَإِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصُّبْحُ وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ قَبْلَ صَلَاتِهِمَا يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ، ثُمَّ يَقْضِيهِمَا بَعْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ وَلَا يَفْعَلُهُمَا بَعْدَ الْإِقَامَةِ، وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يُطَوِّلُ بِحَيْثُ يُحْرِمُ مَعَهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِخَبَرِ: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْرُجَ لَفِعْلِهِمَا، بِخِلَافِ الْوِتْرِ تُقَامُ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَى مَنْ هِيَ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ فَيَخْرُجُ لِيَرْكَعَهَا حَيْثُ لَمْ يَخْشَ فَوَاتَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ، وَمِثْلُ الْمَأْمُومِ الْإِمَامُ إذَا أُقِيمَتْ صَلَاةُ الصُّبْحِ عَلَيْهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ الْفَجْرَ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِالصُّبْحِ وَلَا يَسْكُتُ الْمُؤَذِّنُ بِخِلَافِ الْوِتْرِ فَإِنَّهُ يَسْكُتُ الْمُؤَذِّنُ حَتَّى يَفْعَلَهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ الْوِتْرِ أَنَّ الْفَجْرَ يُقْضَى بَعْدَ الصُّبْحِ بِخِلَافِ الْوِتْرِ، وَمِنْهَا: لَوْ أُقِيمَتْ الصُّبْحُ عَلَى مَنْ هُوَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ قَبْلَ فِعْلِهِمَا فَإِنَّهُ يَفْعَلُهُمَا خَارِجَهُ إنْ لَمْ يَخَفْ فَوَاتَ رَكْعَةٍ، وَمِنْهَا: لَوْ نَامَ عَنْ الصُّبْحِ حَتَّى طَلَعَتْ الشَّمْسُ صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ صَلَّاهُمَا بَعْدَ حَلِّ النَّافِلَةِ، هَذَا مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: يُصَلِّي الصُّبْحَ خَاصَّةً ثُمَّ يُصَلِّي الْفَجْرَ بَعْدَ ذَلِكَ إنْ شَاءَ، وَمُقَابِلُهُ لِأَشْهَبَ يُصَلِّي الْفَجْرَ ثُمَّ يُصَلِّي الصُّبْحَ. وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ لَا يُصَلِّيهِمَا مَعَ الصُّبْحِ قَائِلًا: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَضَاهُنَّ يَوْمَ الْوَادِي، وَقَالَ أَشْهَبُ: بَلَغَنِي وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ جَرَى خِلَافٌ فِي قَضَائِهِمَا يَوْمَ الْوَادِي، وَاَلَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ قَضَاهُمَا فَقَدْ قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى شَيْئًا مِنْ التَّطَوُّعَاتِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَقْضِي غَيْرَ فَرْضٍ إلَّا هِيَ فَلِلزَّوَالِ، وَمِثْلُ مَنْ نَامَ عَنْهُمَا مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ نَاسِيًا لَهُمَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْفَجْرِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (الْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ مِنْ) جِهَةِ (الطِّوَالِ) بِنَاءً عَلَى تُسَاوِيهِمَا فِي الْقِرَاءَةِ وَهَذَا قَوْلُ أَشْهَبَ (أَوْ) أَيْ وَقِيلَ الْمُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْقِرَاءَةُ فِي الظُّهْرِ (دُونَ ذَلِكَ) الْمَقْرُوءِ فِي الصُّبْحِ (قَلِيلًا) أَيْ قَرِيبًا مِنْهُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَتَطْوِيلُ قِرَاءَةِ صُبْحٍ وَالظُّهْرُ تَلِيهَا أَيْ تَقْرُبُ مِنْهَا فِي الطُّولِ، فَإِنْ قَرَأَ بِالْفَتْحِ مَثَلًا فِي الصُّبْحِ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ بِنَحْوِ الْجُمُعَةِ وَالصَّفِّ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَفْهَمَ أَنَّهُ يَقْرَأُ مِنْ أَوْسَاطِ الْمُفَصَّلِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ التَّطْوِيلُ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ لِقَوْمٍ مَحْصُورِينَ يَطْلُبُونَ مِنْهُ التَّطْوِيلَ لَا الْإِمَامُ لِغَيْرِ مَحْصُورِينَ أَوْ غَيْرِ مَحْصُورِينَ لَا يَرْضَوْنَ بِالتَّطْوِيلِ فَيُكْرَهُ لِخَبَرِ: «مَنْ أَمَّ بِالنَّاسِ فَلْيُخَفِّفْ» . (وَلَا يُجْهَرُ فِيهَا) أَيْ يُكْرَهُ أَنْ يُجْهَرَ بِصَلَاةِ الظُّهْرِ (بِشَيْءٍ مِنْ الْقِرَاءَةِ) لَا فِي الْفَاتِحَةِ وَلَا فِيمَا زَادَ عَلَيْهَا (وَ) إنَّمَا (يَقْرَأُ فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ سِرًّا وَ) كَذَا يَقْرَأُ (فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا سِرًّا) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الْإِسْرَارَ فِي الْفَاتِحَةِ وَحْدَهَا سُنَّةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَمِثْلُهَا السُّورَةُ إلَّا أَنَّهَا مُؤَكَّدَةٌ فِي الْفَاتِحَةِ وَسُنَّةٌ خَفِيفَةٌ فِي السُّورَةِ، فَلَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 يَسْتَوِيَ قَائِمًا هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ يَقُومُ الْمَأْمُومُ أَيْضًا فَإِذَا اسْتَوَى قَائِمًا كَبَّرَ، وَيَفْعَلُ فِي بَقِيَّةِ الصَّلَاةِ مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي الصُّبْحِ وَيَتَنَفَّلُ بَعْدَهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَيُسْتَحَبُّ مِثْلُ ذَلِكَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَيَفْعَلُ فِي الْعَصْرِ   [الفواكه الدواني] خَالَفَ وَأَبْدَلَ السِّرَّ بِأَعْلَى الْجَهْرِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ زِيَادَةٌ مَحْضَةٌ حَيْثُ فَعَلَ ذَلِكَ فِي الْفَاتِحَةِ وَلَوْ مِنْ رَكْعَةٍ أَوْ فِي السُّورَةِ لَكِنْ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَكَذَا عَكْسُهُ لَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلُ لَكِنْ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَا وَقَعَتْ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ كَالْآيَةِ وَالْآيَتَيْنِ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي السُّورَةِ فَقَطْ مِنْ رَكْعَةٍ فَلَا سُجُودَ، وَهَذَا حُكْمُ الْمُخَالَفَةِ سَهْوًا، وَفَاتَ التَّدَارُكُ بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ مِنْ رَكْعَةٍ أُخْرَى، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ أَوْ أَسَرَّ فِي مَحَلِّ الْجَهْرِ قَبْلَ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَّتِهَا وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ حَيْثُ حَصَلَ ذَلِكَ فِي سُورَةٍ، وَأَمَّا فِي الْفَاتِحَةِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَا لَوْ كَرَّرَ أُمَّ الْقُرْآنِ سَهْوًا، وَأَمَّا لَوْ خَالَفَ السُّنَّةَ عَمْدًا فَأَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: بُطْلَانُ الصَّلَاةِ وَعَدَمُ بُطْلَانِهَا وَيَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، وَالثَّالِثُ يُعِيدُهَا فِي الْوَقْتِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا قَالَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَحْدَهَا مَعَ عَدَمِ تَوَهُّمِهِ لِقَصْدِ الرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ السُّورَةَ تُزَادُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ كَالْأُولَيَيْنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِ الْأَصْحَابِ كَرَاهَةُ قِرَاءَةِ السُّورَةِ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ مَعَ الرُّبَاعِيَّة كَالثَّالِثَةِ مِنْ الثُّلَاثِيَّةِ، وَحُجَّةُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الظُّهْرِ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَتَيْنِ وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ» . (وَ) يُسَنُّ (أَنْ يَتَشَهَّدَ فِي الْجَلْسَةِ الْأُولَى) بِأَنْ يَقُولَ التَّحِيَّاتُ (إلَى قَوْلِهِ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ) وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ نَدْبِ التَّقْصِيرِ وَكَرَاهَةِ التَّطْوِيلِ فِي الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ. (ثُمَّ يَقُومُ) بَعْدَ فَرَاغِ التَّشَهُّدِ (فَلَا يُكَبِّرُ حَتَّى يَسْتَوِيَ قَائِمًا) ؛ لِأَنَّهُ فِي قِيَامِهِ مِنْ اثْنَتَيْنِ كَالْمُفْتَتِحِ لِصَلَاةٍ بِخِلَافِ الْقِيَامِ بَعْدَ الْأُولَى أَوْ الثَّالِثَةِ يُسْتَحَبُّ تَعْمِيرُ الرُّكْنِ بِالتَّكْبِيرِ، فَيُكَبِّرُ فِي الشُّرُوعِ كَمَا قَدَّمْنَا. (هَكَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ وَالرَّجُلُ) الْمُرَادُ الْمُصَلِّي (وَحْدَهُ وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَبَعْدَ أَنْ يُكَبِّرَ الْإِمَامُ) بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ (يَقُومُ الْمَأْمُومُ أَيْضًا) سَاكِتًا (فَإِذَا اسْتَوَى) أَيْ اسْتَقَلَّ (قَائِمًا كَبَّرَ) ؛ لِأَنَّهُ تَابِعٌ لِلْإِمَامِ وَلِذَا يَقُومُ بَعْدَ اسْتِقْلَالِ إمَامِهِ، وَلَوْ قَامَ فِي أَثْنَاءِ تَشَهُّدِهِ بِتَرْكِهِ، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: كَذَا يَفْعَلُ الْإِمَامُ إلَخْ رَاجِعٌ لِقَوْلِهِ: وَيَتَشَهَّدُ فِي الْجِلْسَةِ الْأُولَى إلَى قَوْلِهِ: وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. (وَيَفْعَلُ فِي بَقِيَّةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ صِفَةِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالْجُلُوسِ) بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَحَالَ تَشَهُّدِهِ وَالِاعْتِمَادِ عَلَى الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْقِيَامِ وَتَقْدِيمِهَا عِنْدَ هَوِيِّهِ لِلسُّجُودِ (نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي) صِفَةِ صَلَاةِ (الصُّبْحِ) وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» فَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ. ثُمَّ انْتَقَلَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَتَّصِلُ بِالظُّهْرِ مِنْ النَّوَافِلِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا) أَيْ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الْفَصْلِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَرَدَ التَّحْدِيدُ بِأَرْبَعٍ؛ لِأَنَّ إمَامَنَا فَرَضَهُ لِأَنَّ التَّحْدِيدَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الثَّوَابِ الْمَخْصُوصِ، وَأَمَّا مُطْلَقُ الصَّلَاةِ فَيُصَلِّ وَلَوْ بِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ فَلَا إشْكَالَ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي قَبْلَ الظُّهْرِ رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ وَبَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ، وَبَعْدَ صَلَاةِ الْعِشَاءِ رَكْعَتَيْنِ، وَكَانَ لَا يُصَلِّي بَعْدَ الْجُمُعَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ فَيَرْكَعُ رَكْعَتَيْنِ» . (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَنَفَّلَ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ) قَبْلَهَا أَيْ الظُّهْرِ وَبَعْدَ الزَّوَالِ (يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) لِمَا جَاءَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ قَوْلِهِ: «مَنْ حَافَظَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ قَبْلَ الظُّهْرِ وَأَرْبَعٍ بَعْدَهَا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «مَنْ صَلَّى قَبْلَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا غُفِرَ لَهُ ذُنُوبُ يَوْمِهِ ذَلِكَ» وَإِنَّمَا قَالَ: يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ عَدَمُ الْفَصْلِ بِالسَّلَامِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ وَاللَّفْظُ لِلْبُخَارِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ صَلَاةُ اللَّيْلِ؟ قَالَ: مَثْنَى مَثْنَى» وَلَفْظُ الْمُوَطَّإِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَقُولُ: صَلَاةُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مَثْنَى مَثْنَى يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ. قَالَ مَالِكٌ: وَهُوَ الْأَمْرُ عِنْدَنَا، وَأَمَّا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُصَلِّي أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يُسَلِّمُ إلَّا فِي آخِرِهِنَّ» الْحَدِيثُ ضَعَّفَهُ الْحُفَّاظُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ نَدْبِ السَّلَامِ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ لَوْ سَهَا وَقَامَ لِثَالِثَةٍ أَنَّهُ يَرْجِعُ قَبْلَ عَقْدِ الثَّالِثَةِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهَا، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ فَإِنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ عَقْدِهَا تَمَادَى وَصَلَّاهَا أَرْبَعًا كَانَتْ نَافِلَةَ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا مُنَاقَضَةَ بَيْنَ الْأَمْرِ بِالتَّمَادِي وَالسُّجُودِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: إنَّمَا ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ لِمَا فِي التَّمَادِي مِنْ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ وَالسُّجُودُ مُرَاعَاةٌ لِمَذْهَبِنَا، وَأَمَّا لَوْ قَامَ لِخَامِسَةٍ فِي النَّفْلِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَلَا يُقَالُ: الصَّلَاةُ تَبْطُلُ بِزِيَادَةِ مِثْلِهَا سَهْوًا فَكَيْفَ يَرْجِعُ مُطْلَقًا؟ لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِي الْفَرَائِضِ وَالنَّفَلِ الْمَحْدُودِ. (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ) أَيْ لِمُرِيدِ صَلَاةَ الْعَصْرِ أَنْ يَفْعَلَ (مِثْلَ ذَلِكَ) النَّفْلِ الْكَائِنِ بِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ (قَبْلَ صَلَاةِ الْعَصْرِ) لِخَبَرِ «رَحِمَ اللَّهُ امْرَأً صَلَّى قَبْلَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا» وَدُعَاؤُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ سَوَاءً، إلَّا أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ وَالتَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا فَكَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي   [الفواكه الدواني] مُسْتَجَابٌ، فَإِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَشْغُولٌ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَتَنْفِرُ نَفْسُهُ مِنْ الْعِبَادَةِ أَشَدَّ نُفُورٍ، فَأَمَرَ بِصَلَاةِ أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ لِتَتَأَنَّسَ نَفْسُهُ وَيَحْضُرَ قَلْبُهُ فَيَأْلَفَ الْعِبَادَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَائِضِ فَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ نَقَصَ مِنْهَا، وَمَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَفَّلَ الْإِنْسَانُ بِقَصْدِ إنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ يَكُونُ هَذَا جَابِرًا لَهُ لِكَرَاهَةِ تِلْكَ النِّيَّةِ. قَالَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ أَنْ يَتَنَفَّلَ وَيَقُولَ أَخَافُ أَنِّي نَقَصْت مِنْ الْفَرِيضَةِ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ يَفْعَلُهُ. (وَيَفْعَلُ فِي) صَلَاةِ (الْعَصْرِ كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ) حَالَةَ كَوْنِهِمَا (سَوَاءً) أَيْ مُسْتَوِيَتَيْنِ فِي الْإِسْرَارِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَكُلِّ مَا تَقَدَّمَ (إلَّا أَنَّهُ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) مَعَ الْعَصْرِ (مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ) الْمُشَارِ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا) إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ بِسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ تَرَكَهَا وَقَرَأَ قَصِيرَةً، وَسَكَتَ عَنْ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا لِكَرَاهَتِهِ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَحُرْمَتِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُخَالِفَةً لِصِفَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ أَتَى بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ فَقَالَ: (وَأَمَّا) صَلَاةُ (الْمَغْرِبِ فَيَجْهَرُ) اسْتِنَانًا (بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا) وَيُسِرُّ فِي الثَّالِثَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْأُولَيَيْنِ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ) لِضِيقِ وَقْتِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ يَقْرَأُ فِيهِمَا مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْصِيرُهَا بِمَغْرِبٍ وَعَصْرٍ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِآلِ عِمْرَانَ» فَقِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَرَفَ مِمَّنْ خَلْفَهُ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ التَّخْفِيفُ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: مِنْ أَنَّ التَّضْيِيقَ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلشُّرُوعِ فِيهَا فَقَطْ. (وَ) يَقْرَأُ (فِي الثَّالِثَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ) أَيْ فَحَسْبُ زَادَهُ لِلرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِزِيَادَةِ سُورَةٍ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الثَّالِثَةِ كَالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: 8] فَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ يُحْفَظُ وَلَا يُتَّبَعُ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: يُسَنُّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِارْتِدَادِ فِي زَمَنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْبَاجِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقِرَاءَةَ فَغَيْرُ صَوَابٍ لِكَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ (وَيَتَشَهَّدُ) وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَشَهُّدِ الصُّبْحِ (وَيُسَلِّمُ) عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى قُبَالَةِ وَجْهِهِ وَتَيَامُنِهِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا فَيُسَلِّمُهَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ. (وَ) إذَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ بَعْدَ سَلَامِهَا (يُسْتَحَبُّ) لَهُ (أَنْ) هـ (يَتَنَفَّلَهُ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ) لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ «أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ كُتِبَتَا فِي عِلِّيِّينَ» وَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ بِهِمَا لِمَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَرَزِينٌ فِي جَامِعِهِ: «تَعَجَّلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمَا يُرْفَعَانِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ» . (وَمَا زَادَ) عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ (فَهُوَ خَيْرٌ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، فَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (وَإِنْ تَنَفَّلَ) بَعْدَهَا (بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» قِيلَ مِنْ عِبَادَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَوَرَدَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَوَرَدَ: «مَنْ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ غُفِرَتْ لَهُ بِهَا ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً» . (تَنْبِيهٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْدُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ ذِكْرُ الْمَحْدُودِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ أَنَّ التَّحْدِيدَ غَيْرُ شَرْطٍ إلَّا فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ كَمَا قَدَّمْنَا. (وَ) بِالْجُمْلَةِ (التَّنَفُّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 غَيْرِهَا وَأَمَّا الْعِشَاءُ الْأَخِيرَةُ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَاسْمُ الْعِشَاءِ أَخَصُّ بِهَا وَأَوْلَى فَيَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَقِرَاءَتُهَا أَطْوَلُ قَلِيلًا مِنْ قِرَاءَةِ الْعَصْرِ وَفِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سِرًّا، ثُمَّ يَفْعَلُ فِي سَائِرِهَا كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا وَالْحَدِيثُ بَعْدَهَا لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي يُسِرُّ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا هِيَ   [الفواكه الدواني] بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُرَغَّبٌ فِيهِ) أَيْ حَضَّ عَلَيْهِ الشَّارِعُ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّهَا صَلَاةُ الْأَوَّابِينَ وَصَلَاةُ الْغَفْلَةِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِالصَّلَاةِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ فَإِنَّهَا تَذْهَبُ بِمُلَاغَاةِ النَّهَارِ وَتُهَذِّبُ آخِرَهُ» أَيْ تَطْرَحُ مَا عَلَى الْعَبْدِ مِنْ الْبَاطِلِ وَاللَّهْوِ وَتُصَفِّي آخِرَهُ، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: نَعَمْ سَاعَةُ الْغَفْلَةِ يَعْنِي الصَّلَاةَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، قَالَ حُذَيْفَةُ: «أَتَيْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَصَلَّيْت مَعَهُ الْمَغْرِبَ فَصَلَّى إلَى الْعِشَاءِ» رَوَاهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ. (وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْجَهْرِ وَالْقِرَاءَةِ مِنْ الْقِصَارِ وَيُحْتَمَلُ غَيْرُ التَّنَفُّلِ مِمَّا هُوَ (مِنْ شَأْنِهَا) أَيْ الْمَغْرِبِ كَالتَّكْبِيرِ وَالْجُلُوسِ وَرَفْعِ الْيَدَيْنِ حَذْوَ الْمَنْكِبَيْنِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَطْلُوبٌ فِيهَا (فَ) حُكْمُهَا فِيهِ (كَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي غَيْرِهَا) مِنْ بَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ فَلَا حَاجَةَ إلَى بَسْطِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْعِشَاءُ تُخَالِفُ الْمَغْرِبَ فِي الْقِرَاءَةِ زِيَادَةَ رَكْعَةٍ أَتَى بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ فَقَالَ: (وَأَمَّا الْعِشَاءُ) بِالْمَدِّ (الْأَخِيرَةُ) احْتِرَازٌ مِنْ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَيْهَا لَفْظُ الْعِشَاءِ عَلَى جِهَةِ التَّغْلِيبِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُسَمَّ بِهِ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا (وَهِيَ الْعَتَمَةِ) فَلَهَا اسْمَانِ (وَ) لَكِنْ (اسْمُ الْعِشَاءِ أَخَصُّ) وَفِي نُسْخَةٍ أَحَقُّ (بِهَا وَأَوْلَى) ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّاهَا بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ حَيْثُ قَالَ: وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ تَسْمِيَتِهَا بِالْعَتَمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالْكَرَاهَةُ وَالتَّحْرِيمُ وَهُمَا ضَعِيفَانِ بَلْ لَا وَجْهَ لِلْحُرْمَةِ، كَيْفَ وَقَدْ وَرَدَتْ تَسْمِيَتُهَا بِالْعَتَمَةِ فِي الْأَحَادِيثِ، وَعَلَى فَرْضِ وُرُودِ التَّسْمِيَةِ بِهَا أَيْ مَحْظُورٌ تَرَتَّبَ عَلَى تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ وَجُمْلَةٌ وَهِيَ الْعَتَمَةُ وَكَذَا جُمْلَةٌ وَاسْمُ الْعِشَاءِ أَحَقُّ بِهَا اعْتِرَاضٌ بَيِّنٌ، أَمَّا فِي قَوْلِهِ: وَأَمَّا الْعِشَاءُ وَجَوَابُهَا وَهُوَ قَوْلُهُ: (فَيَجْهَرُ فِي الْأُولَيَيْنِ) مِنْهَا (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُسْتَمِرِّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَسَرَّ أَعَادَ الْقِرَاءَةَ عَلَى سُنَّتِهَا إنْ لَمْ يَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ إنْ أَعَادَ الْفَاتِحَةَ لَا السُّورَةَ فَقَطْ إلَّا مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ فَاتَ التَّدَارُكُ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ إنْ كَانَ فِي الْفَاتِحَةِ كَمَا يَأْتِي فِي السَّهْوِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ (قِرَاءَتُهَا) أَيْ الْقِرَاءَةُ فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ بِسُورَةٍ (أَطْوَلُ) طُولًا (قَلِيلًا مِنْ قِرَاءَةِ الْعَصْرِ) فَتَكُونُ مُتَوَسِّطَةً بَيْنَ قِرَاءَةِ الظُّهْرِ وَقِرَاءَةِ الْمَغْرِبِ، فَيَقْرَأُ فِي الْعِشَاءِ بِ " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى " " وَالشَّمْسِ " وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَطْوَلَ الصَّلَاةِ قِرَاءَةً الصُّبْحُ وَالظُّهْرُ قَرِيبَةٌ مِنْهَا فِي الطُّولِ، وَأَقْصُرَهَا الْمَغْرِبُ وَيَقْرُبُ مِنْهَا فِي الْقِصَرِ الْعَصْرُ، وَأَمَّا الْعِشَاءُ فَمُتَوَسِّطَةٌ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْمَغْرِبِ فَيَقْرَأُ فِيهَا: بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى وَسُورَةِ وَالشَّمْسِ، هَذَا هُوَ التَّحْرِيرُ الَّذِي نَقَلَهُ الْأَئِمَّةُ، وَدَلَّ عَلَيْهِ كَلَامُ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَتَطْوِيلُ قِرَاءَةِ صُبْحٍ وَالظُّهْرُ تَلِيهَا وَتَقْصِيرُهَا لِمَغْرِبٍ وَعَصْرٍ كَتَوَسُّطٍ بِعِشَاءٍ، تَقَدَّمَ أَنَّ مَحَلَّ النَّدْبِ التَّطْوِيلُ لِلْفَذِّ وَالْإِمَامِ لِمَنْ يَرْضَى بِالتَّطْوِيلِ. (وَ) يَقْرَأُ (فِي الْأَخِيرَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ) وَحْدَهَا (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ) مِنْهَا (سِرًّا) وَلَا يَزِيدُ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ عَلَى مَا جَرَى بِهِ الْعَمَلُ، خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي زِيَادَةِ سُورَةٍ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ (ثُمَّ يَفْعَلُ فِي سَائِرِهَا) أَيْ فِي بَاقِي أَفْعَالِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ (كَمَا تَقَدَّمَ مِنْ الْوَصْفِ) فِي غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُنَبِّهُ عَلَى مَا تُخَالِفُ فِيهِ إحْدَى الصَّلَوَاتِ غَيْرَهَا، فَأَمَّا مَا تَتَوَافَقُ عَلَيْهِ الصَّلَوَاتُ فَقَدْ عُلِمَ بَيَانُهُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَرَحِمَهُ اللَّهُ مَا أَخْلَصَهُ، فَإِنَّهُ بَيَّنَ صِفَةَ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي لَا كَمَالَ بَعْدَهُ، وَلِذَا نَصَّ بَعْضُ شُرَّاحِهِ عَلَى أَنَّ مَنْ يَأْتِي بِالصَّلَاةِ عَلَى صِفَةِ مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ لَا نِزَاعَ فِي صِحَّتِهَا؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهَا عَلَى أَكْمَلِ الْهَيْئَاتِ، وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ فَرْضَهَا مِنْ سُنَّتِهَا، وَهَا هُنَا قَدْ تَمَّ الْكَلَامُ عَلَى صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَوَاتِ. (وَيُكْرَهُ النَّوْمُ قَبْلَهَا) أَيْ الْعِشَاءِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ إبَّانَ النَّوْمِ، فَإِذَا نَامَ قَبْلَ فِعْلِهَا رُبَّمَا يُخْرِجُهَا عَنْ وَقْتِهَا (وَ) يُكْرَهُ (الْحَدِيثُ) الْمُبَاحُ (بَعْدَهَا) أَيْ بَعْدَ صَلَاتِهَا (لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ) وَإِنَّمَا كُرِهَ الْحَدِيثُ بَعْدَهَا مَخَافَةَ النَّوْمِ عَنْ صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَمَّا الْكَلَامُ بَعْدَ دُخُولِ وَقْتِهَا وَقَبْلَ صَلَاتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُخْشَى مَعَهُ فَوَاتُهَا كَالنَّوْمِ قَبْلَهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بَعْدَهَا إذَا كَانَ لِضَرُورَةٍ دِينِيَّةٍ أَوْ دُنْيَوِيَّةٍ كَالْعِلْمِ أَوْ مَعَ الضَّيْفِ أَوْ الْعَرُوسِ، وَكَذَا كُلُّ مَا خَفَّ، وَكَذَا يُكْرَهُ السَّهَرُ بِلَا كَلَامٍ خَوْفَ تَفْوِيتِ الصُّبْحِ، وَقِيَامُ اللَّيْلِ كُلِّهِ لِمَنْ يُصَلِّي الصُّبْحَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ مَكْرُوهٌ اتِّفَاقًا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ النَّوْمِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: مَا أَعْلَمُهُ حَرَامًا، نَعَمْ وَرَدَ أَنَّ الْأَرْضَ عَجَّتْ مِنْ نَوْمِ الْعُلَمَاءِ بِالضُّحَى مَخَافَةَ الْغَفْلَةِ عَلَيْهِمْ، وَمَا وَرَدَ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الصُّبْحَةُ تَمْنَعُ بَعْضَ الرِّزْقِ» فَحَدِيثٌ ضَعَّفَهُ أَهْلُ الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يَصِحَّ عَنْ مَالِكٍ، وَقَدْ رُوِيَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالتَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْجَهْرُ فَأَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ إنْ كَانَ وَحْدَهُ، وَالْمَرْأَةُ دُونَ الرَّجُلِ فِي الْجَهْرِ وَهِيَ فِي هَيْئَةِ صَلَاتِهَا مِثْلُهُ غَيْرَ أَنَّهَا تَنْضَمُّ وَلَا تَفْرُجُ فَخِذَيْهَا وَلَا عَضُدَيْهَا وَتَكُونُ مُنْضَمَّةً مُنْزَوِيَةً فِي جُلُوسِهَا وَسُجُودِهَا وَأَمْرِهَا كُلِّهِ ثُمَّ يُصَلِّي الشَّفْعَ وَالْوِتْرَ جَهْرًا وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ فِي نَوَافِلِ اللَّيْلِ الْإِجْهَارُ وَفِي نَوَافِلِ النَّهَارِ   [الفواكه الدواني] عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: النَّوْمُ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: نَوْمُ خُرْقٍ وَنَوْمُ خُلْقٍ وَنَوْمُ حُمْقٍ، فَالْخُرْقُ نَوْمَةُ الصَّبْحَى يَقْضِي النَّاسُ حَوَائِجَهُمْ وَهُوَ نَائِمٌ، وَنَوْمَةُ خُلْقٍ نَوْمَةُ الْقَائِلَةِ، وَنَوْمَةُ حُمْقٍ النَّوْمُ حِينَ تَحْضُرُ الصَّلَاةُ، وَلَمَّا بَيَّنَ مَا يُقْرَأُ فِيهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِرًّا وَمَا يُقْرَأُ فِيهَا جَهْرًا بَيَّنَ حَقِيقَةَ كُلٍّ بِقَوْلِهِ: (وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي يُسِرُّ بِهَا فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا) بِالرَّفْعِ تَوْكِيدٌ لِلْقِرَاءَةِ الْوَاقِعَةِ مُبْتَدَأً (هِيَ بِتَحْرِيكِ اللِّسَانِ بِالتَّكَلُّمِ) أَيْ فِي التَّلَفُّظِ (بِالْقُرْآنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتِحَةٌ بِحَرَكَةِ لِسَانٍ وَهَذَا أَقَلُّ السِّرِّ وَأَعْلَاهُ أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ فَقَطْ، وَأَمَّا إجْرَاءُ الْقُرْآنِ عَلَى قَلْبِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ لِسَانِهِ فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الصَّلَاةِ إذْ لَا يُعَدُّ قِرَاءَةً، وَلَا يَحْرُمُ عَلَى الْجُنُبِ وَلَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ لَا يَقْرَأُ بِهِ كَمَا لَا يَبَرُّ الْحَالِفُ لَيَقْرَأَنَّ السُّورَةَ الْفُلَانِيَّةَ بِإِجْرَائِهَا عَلَى قَلْبِهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بِالتَّكَلُّمِ الْقُرْآنُ عَمَّا لَوْ قَرَأَ فِي صَلَاتِهِ بِنَحْوِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ فَلَا يَكْفِيهِ وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ لِنَسْخِهَا بِالْقُرْآنِ، أَوْ لِأَنَّهَا غُيِّرَتْ وَبُدِّلَتْ، أَوْ لِمُخَالَفَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَلَمْ يُصَلِّ إلَّا بِالْقُرْآنِ، لَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ بِالتَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ الْقُرْآنَ حَادِثٌ مَخْلُوقٌ، وَالْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ قَدِيمٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْقُرْآنِ اللَّفْظُ الْمُنَزَّلُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ مَخْلُوقٌ حَادِثٌ وَالْقَدِيمُ مَدْلُولُهُ، فَيَتَعَيَّنُ حَمْلُ الْقُرْآنِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْعِبَارَةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِفَةِ ذَاتِهِ. (تَنْبِيهٌ) : مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَالْقِرَاءَةُ إلَى قَوْلِهِ. هِيَ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ عِنْدَ التَّكَلُّمِ بِالْقُرْآنِ أَنَّ مَا يُطْلَبُ بِهِ الْإِسْرَارُ بِهِ فِي الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ كَتَسْلِيمِ الْمَأْمُومِ لِلرَّدِّ وَكَتَكْبِيرِ غَيْرِ الْإِمَامِ لِغَيْرِ الْإِحْرَامِ لَيْسَ كَالْقُرْآنِ اهـ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا بُدَّ فِي الْجَمِيعِ مِنْ حَرَكَةِ اللِّسَانِ عَلَى مَا يَظْهَرُ، إذْ مُجَرَّدُ الْإِجْرَاءِ عَلَى الْقَلْبِ لَا حُكْمَ لَهُ فِي قِرَاءَةٍ وَلَا ذِكْرٍ وَلَا أَدْعِيَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَأَمَّا الْجَهْرُ) أَيْ أَقَلُّهُ الَّذِي يُسَنُّ فِعْلُهُ فِي الْقِرَاءَةِ فِي الصُّبْحِ وَأُولَتَيْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (فَ) هُوَ (أَنْ يُسْمِعَ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيهِ) أَنْ لَوْ كَانَ (إنْ كَانَ) صَلَّى (وَحْدَهُ) وَأَمَّا أَعْلَاهُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فَالْمَطْلُوبُ فِي حَقِّهِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَقَلِّ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمَأْمُومِ لِإِسْمَاعِ الْمَأْمُومِينَ لَا خُصُوصَ مَنْ يَلِيهِ بِحَيْثُ يُسْتَغْنَى عَنْ الْمُسْمِعِ، وَإِنْ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَالِاقْتِدَاءُ بِهِ فَفِي الْمُوَطَّإِ: كَانَ ابْنُ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تُسْمَعُ قِرَاءَتُهُ فِي دَارِ أَبِي جَهْمٍ بِالْبَلَاطِ مَوْضِعٍ بِالْمَدِينَةِ، ثُمَّ إنْ طَلَبَ مَحَلَّ الْجَهْرِ حَيْثُ كَانَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تَخْلِيطٌ عَلَى الْغَيْرِ، وَإِلَّا نَهَى عَمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّخْلِيطُ وَلَوْ أَدَّى إلَى إسْقَاطِ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُرْتَكَبُ مُحَرَّمٌ لِتَحْصِيلِ سُنَّةٍ (وَ) أَمَّا (الْمَرْأَةُ) فَهِيَ (دُونَ الرَّجُلِ فِي الْجَهْرِ) بِالْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فَلَا تُسْمِعُ مَنْ يَلِيهَا فَيَكْفِيهَا حَرَكَةُ لِسَانِهَا، فَالْجَهْرُ فِي حَقِّهَا كَالسِّرِّ فَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهَا الْجَهْرُ بَلْ تُنْهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، وَالظَّاهِرُ اسْتِوَاءُ حَالَتِهَا فِي الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَأْمَنُ طُرُوَّ أَحَدٍ عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَذَانِهَا، وَإِنَّمَا جَازَ بَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لِلضَّرُورَةِ. (وَهِيَ فِي هَيْئَةِ) أَيْ صِفَةِ (صَلَاتِهَا) مِثْلُهُ أَيْ مِثْلُ الرَّجُلِ (غَيْرَ أَنَّهَا) يُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ (تَنْضَمَّ) أَيْ تَنْكَمِشَ (وَلَا تَفْرُجُ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَضَمِّ الرَّاءِ وَهُوَ تَفْسِيرٌ لِتَنْضَمَّ، فَكَانَ الْأَنْسَبُ إسْقَاطَ الْوَاوِ وَيَقُولُ بَعْدَ تَنْضَمُّ لَا تَفْرُجُ (فَخِذَيْهَا وَلَا عَضُدَيْهَا وَ) إنَّمَا (تَكُونُ مُنْضَمَّةً مُنْزَوِيَةً) تَوْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِمَا قَبْلَهُ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحَالَةَ الَّتِي تَنْضَمُّ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (فِي جُلُوسِهَا وَسُجُودِهَا وَأَمْرِهَا كُلِّهِ) يَدْخُلُ فِيهِ الرُّكُوعُ فَلَا تَجْنَحُ كَالرَّجُلِ، وَكَلَامُهُ هُنَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ السَّابِقَ: وَتُجَافِي ضَبْعَيْك عَنْ جَنْبَيْك فِي الرَّجُلِ دُونَ الْمَرْأَةِ، غَيْرَ أَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: وَأَمْرُهَا كُلُّهُ يَقْتَضِي أَنَّهَا تَجْلِسُ عَلَى وَرِكِهَا الْأَيْسَرِ وَفَخِذِهَا الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، تَضُمُّ بَعْضَهُمَا لِبَعْضٍ عَلَى قَدْرِ الطَّاقَةِ بِخِلَافِ الرَّجُلِ وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، خِلَافًا لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ جُلُوسُهَا كَالرَّجُلِ فَسَوَّى فِيهَا بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ فِي الْجُلُوسِ بِإِفْضَاءِ الْيُسْرَى لِلْأَرْضِ وَالْيُمْنَى عَلَيْهَا فَيَصِيرُ قُعُودُهَا عَلَى أَلْيَتِهَا الْيُسْرَى وَلَا تَقْعُدُ عَلَى رِجْلِهَا الْيُسْرَى كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعِشَاءِ وَشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ (يُصَلِّي الشَّفْعَ) وَأَقَلُّ مَا يَنْدُبُ مِنْهُ رَكْعَتَانِ (وَ) يُصَلِّي (الْوَتْرِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا وَهِيَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَهِيَ آكَدُ السُّنَنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوَتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ ثُمَّ عِيدٌ ثُمَّ كُسُوفٌ ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ وَوَقْتُهُ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ، إنَّمَا كَانَ آكَدَ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهِ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ مُسْتَدِلِّينَ بِظَوَاهِرِ الْأَحَادِيثِ، وَدَلِيلُنَا عَلَى السُّنِّيَّةِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِلسَّائِلِ عَنْ الْإِسْلَامِ: خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ، فَقَالَ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» فَنَفَى الْوُجُوبَ عَنْ غَيْرِ الْخَمْسِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَدِلَّةِ، وَالْمَنْدُوبُ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ شَفْعٍ مُنْفَصِلٍ عَنْهُ بِسَلَامٍ إلَّا لِاقْتِدَاءٍ بِوَاصِلٍ فَلَا كَرَاهَةَ، وَيَنْوِي الْمَأْمُومُ بِالرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ الشَّفْعَ وَبِالْأَخِيرَةِ الْوَتْرَ، وَإِنْ نَوَى الْإِمَامُ بِالْجَمِيعِ الْوَتْرَ وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ ابْتِدَاءً أَنَّهُ وَاصِلٌ فَإِنَّهُ يُحْدِثُ نِيَّةَ الْوِتْرِ عِنْدَ قِيَامِ الْإِمَامِ لَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 الْإِسْرَارُ إنْ جَهَرَ فِي النَّهَارِ فِي تَنَفُّلِهِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ وَأَقَلُّ الشَّفْعِ رَكْعَتَانِ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي الْأُولَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ، وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يُصَلِّي الْوِتْرَ رَكْعَةً يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ وَإِنْ زَادَ مِنْ الْإِشْفَاعِ جَعَلَ آخِرَ ذَلِكَ الْوِتْرَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ   [الفواكه الدواني] مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَإِذَا دَخَلَ مَعَ الْوَاصِلِ فِي الْآخِرَةِ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الشَّفْعَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَيْ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِسَلَامٍ وَلَا جُلُوسٍ بَيْنَهُمَا، وَيَقْرَأُ فِيهِمَا بِمَا يَقْرَأُ بِهِ فِيهِمَا لَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا، وَيُلْغَزُ بِهَا وَيُقَالُ شَخْصٌ صَلَّى الشَّفْعَ بَعْدَ الْوَتْرِ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ مَعَهُ فِي الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسَلِّمُ بِسَلَامِهِ بَلْ يَقُومُ لِلثَّالِثَةِ مِنْ غَيْرِ سَلَامٍ تَبَعًا لِوَصْلِ إمَامِهِ، نَعَمْ تَرَدَّدَ الْأُجْهُورِيُّ فِيمَا يَفْعَلُهُ بَعْدَ الثَّانِيَةِ هَلْ يَنْوِي بِهِ رَكْعَةَ الْقَضَاءِ أَوْ يَنْوِي بِهِ الْوِتْرَ مُحَاذَاةً لِلْإِمَامِ؟ هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) . الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ وَقْتِهِ عَنْ خَلِيلٍ أَنَّ مَنْ قَدَّمَ الْعِشَاءَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ لِضَرُورَةٍ كَالْجَمْعِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ أَوْ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ لَا يُصَلِّي الْوَتْرَ إلَّا بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ وَهُوَ وَقْتُهُ الْمُخْتَارُ لَهُ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ وَضَرُورِيُّهُ مِنْهُ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ أَوْ عَقْدِ رَكْعَةٍ مِنْهَا، وَأَمَّا قَبْلَ عَقْدِهَا فَيَنْدُبُ قَطْعُهَا لَهُ لِلْفَذِّ. وَفِي الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا يَقْطَعُ الصُّبْحَ لِلْوَتْرِ وَفِعْلُهُ فِي الضَّرُورِيِّ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ مَكْرُوهٌ 1 - الثَّانِي: مَنْ أَعَادَ الْعِشَاءَ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ يُعِيدُ الْوَتْرَ، وَمِثْلُهُ مَنْ صَلَّاهَا بِنَجَاسَةٍ وَأَعَادَهَا لِأَجْلِ صَلَاتِهَا بِنَجَاسَةٍ نَاسِيًا وَأَحْرَى مَنْ أَعَادَهَا لِظُهُورِ بُطْلَانِهَا يُعِيدُ الْوَتْرَ، بِخِلَافِ مُعِيدِ الْعِشَاءِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ جَهْلًا أَوْ عَمْدًا لَا يُعِيدُهُ، وَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ نِيَّةٍ تَخُصُّهُ كَالْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمَسْنُونَاتِ وَالرَّغَائِبَ لَا بُدَّ لَهُمَا مِنْ نِيَّةٍ تَخُصُّهَا، بِخِلَافِ مُطْلَقِ التَّطَوُّعَاتِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ فَيَكْفِي فِيهَا نِيَّةُ الْفِعْلِ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِنْ أَنَّ وَقْتَهُمَا بَعْدَ الْعِشَاءِ الصَّحِيحَةِ وَالشَّفَقِ الْأَحْمَرِ أَنَّ الْقِرَاءَةَ (جَهْرًا) لَكِنْ يَتَأَكَّدُ نَدْبُهُ فِي الْوِتْرِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأَكَّدَ بِوِتْرٍ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ كَمَا يُسْتَحَبُّ الْجَهْرُ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (يُسْتَحَبُّ فِي) بَاقِي (نَوَافِلِ اللَّيْلِ الْإِجْهَارُ) لَكِنَّ التَّشْبِيهَ غَيْرُ تَامٍّ لِمَا عَلِمْت مِنْ تَأَكُّدِهِ فِي الْوِتْرِ دُونَ غَيْرِهَا مِنْ نَوَافِلِ اللَّيْلِ، وَإِنَّمَا تُؤَكَّدُ فِيهَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَالصِّفَةُ تَشْرُفُ بِشَرَفِ مَوْصُوفِهَا. (وَ) أَمَّا الْقِرَاءَةُ (فِي نَوَافِلِ النَّهَارِ) فَالْمُسْتَحَبُّ فِيهَا (الْإِسْرَارُ) اتِّبَاعًا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: صَلَاةُ النَّهَارِ عَجْمَاءُ وَلَيْسَ بِحَدِيثٍ. (وَإِنْ) خَالَفَ الْمُسْتَحَبَّ بِأَنْ (جَهَرَ فِي النَّهَارِ فِي تَنَفُّلِهِ) أَوْ أَسَرَّ فِي اللَّيْلِ فِي تَنَفُّلِهِ (فَذَلِكَ وَاسِعٌ) أَيْ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَالْحِكْمَةُ فِي طَلَبِ الْجَهْرِ فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ وَالْإِسْرَارِ فِي صَلَاةِ النَّهَارِ أَنَّ صَلَاةَ اللَّيْلِ تَقَعُ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُظْلِمَةِ فَيُنَبِّهُ الْقَارِئُ بِجَهْرِهِ الْمَارَّةَ، وَلِلْأَمْنِ مِنْ لَغْوِ الْكَافِرِ عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ لِاشْتِغَالِهِ غَالِبًا فِي اللَّيْلِ بِالنَّوْمِ أَوْ غَيْرِهِ بِخِلَافِ النَّهَارِ، وَإِنَّمَا طَلَبَ الْجَهْرَ فِي الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لِحُضُورِ أَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى فَأَمَرَ الْقَارِئَ بِالْجَهْرِ لِيَسْمَعُوهُ فَيَحْصُلُ لَهُمْ الِاتِّعَاظُ بِسَمَاعِهِ. [وَأَقَلُّ الشَّفْعِ] (وَأَقَلُّ الشَّفْعِ رَكْعَتَانِ) وَلَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى) مِنْهُ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَ) يَقْرَأُ (فِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ) سُورَةِ {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} [الكافرون: 1] وَإِذَا فَرَغَ مِنْ سُجُودِهَا يَجْلِسُ (وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) ؛ لِأَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فَصْلُهُ عَنْ الْوِتْرِ، وَيُكْرَهُ وَصْلُهُ كَمَا قَدَّمْنَا. (ثُمَّ يُصَلِّي الْوِتْرَ رَكْعَةً) وَاحِدَةً وَيُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقْرَأَ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ وَفَتْحُهَا خَطَأٌ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ: «أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - سُئِلَتْ: بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ يُوتِرُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَتْ: يَقْرَأُ فِي الْأُولَى بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَفِي الثَّانِيَةِ: بِقُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ. وَفِي الثَّالِثَةِ: بِقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِحْبَابُ الْقِرَاءَةِ بِهَذِهِ السُّوَرِ كَانَ لَهُ حِزْبٌ أَمْ لَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِابْنِ الْعَرَبِيِّ وَخَلِيلٍ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: إلَّا لِمَنْ لَهُ حِزْبٌ فَمِنْهُ، وَبَحَثَ فِيهِ الْعَلَّامَةُ ابْنُ غَازِيٍّ قَائِلًا: تَبِعَ خَلِيلٌ فِي تَقْيِيدِهِ بَحْثَ الْمَازِرِيِّ وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ الْعُدُولُ عَنْ نَقْلِ الْأَئِمَّةِ مِنْ اسْتِحْبَابِ قِرَاءَةِ السُّوَرِ الْمَذْكُورَةِ فِي الشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَلَوْ لِمَنْ لَهُ حِزْبٌ، وَأَيْضًا هُوَ مُخَالِفٌ لِلْحَدِيثِ فَإِنَّهُ عَامٌّ فِيمَنْ لَهُ حِزْبٌ وَغَيْرُهُ، فَلِلَّهِ دُرُّ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ تَرَكَ التَّقْيِيدَ. (فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أَحَدُهَا: إنْ لَمْ يَدْرِ أَهُوَ فِي الْوَتْرِ أَوْ فِي ثَانِيَةِ الشَّفْعِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا ثَانِيَةَ الشَّفْعِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ كَمَنْ شَكَّ أَصَلَّى وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ وَيَأْتِي بِمَا شَكَّ فِيهِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ بَعْدَ ذَلِكَ. ثَانِيهَا: إنْ شَكَّ أَهُوَ فِي ثَانِيَةِ الشَّفْعِ أَوْ أُولَاهُ أَوْ فِي الْوَتْرِ؟ جَعَلَهَا أُولَى الشَّفْعِ وَأَتَى بِوَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ ثُمَّ يُصَلِّي الْوَتْرَ بَعْدَ ذَلِكَ. ثَالِثُهَا: مَنْ زَادَ رَكْعَةً فِي الْوِتْرِ سَهْوًا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ. رَابِعُهَا: مَنْ ذَكَرَ فِي تَشَهُّدِ وِتْرِهِ أَنَّهُ نَسِيَ سَجْدَةً مِنْ شَفْعِهِ فَإِنَّهُ يُشَفِّعُ وِتْرَهُ بِنِيَّةِ الشَّفْعِ، وَلَا يَضُرُّ إحْدَاثُ هَذِهِ النِّيَّةِ ثُمَّ يَسْجُدُ لِزِيَادَةِ الْجُلُوسِ الَّذِي كَانَ يُسَلِّمُ بَعْدَهُ ثُمَّ يُوتِرُ. خَامِسُهَا: إذَا شَكَّ هَلْ شَفَّعَ وِتْرَهُ؟ فَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: قِيلَ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ وَيُجْزَ بِهِ، وَقِيلَ يَسْجُدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَقِيلَ عَشْرَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ وَأَفْضَلُ اللَّيْلِ آخِرُهُ فِي الْقِيَامِ فَمَنْ أَخَّرَ تَنَفُّلَهُ وَوِتْرَهُ إلَى آخِرِهِ فَذَلِكَ أَفْضَلُ إلَّا مَنْ الْغَالِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَتَنَبَّهَ فَلْيُقَدِّمْ وِتْرَهُ مَعَ مَا يُرِيدُ مِنْ النَّوَافِلِ أَوَّلَ اللَّيْلِ، ثُمَّ إنْ شَاءَ إذَا اسْتَيْقَظَ فِي آخِرِهِ تَنَفَّلَ مَا شَاءَ مِنْهَا مَثْنَى مَثْنَى وَلَا يُعِيدُ الْوِتْرَ وَمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ عَنْ حِزْبِهِ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَوَّلِ الْإِسْفَارِ، ثُمَّ يُوتِرُ وَيُصَلِّي الصُّبْحَ وَلَا يَقْضِي الْوِتْرَ مَنْ ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ وَمَنْ دَخَلَ   [الفواكه الدواني] وَيَأْتِي بِوَتْرٍ آخَرَ وَهُوَ أَحَبُّ إلَيَّ. (وَإِنْ زَادَ) مُصَلِّي الشَّفْعِ (مِنْ الْإِشْفَاعِ) عَلَى أَقَلِّهِ وَهُوَ رَكْعَتَانِ (جَعَلَ) نَدْبًا (آخَرَ ذَلِكَ) الَّذِي صَلَّاهُ (الْوَتْرَ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ بِاللَّيْلِ وِتْرًا» . (وَ) لِمَا رُوِيَ «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ» أَيْ فِيهِ «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» ، وَقِيلَ كَمَا رُوِيَ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُصَلِّي «عَشْرَ رَكَعَاتٍ ثُمَّ يُوتِرُ بِوَاحِدَةٍ» قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ وَسَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: كِلَا الْحَدِيثَيْنِ صَحِيحٌ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا «أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ بَعْدَ الْوُضُوءِ» فَتَارَةً اعْتَبَرْتهمَا مِنْ الْوَرْدِ فَجَعَلْته اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً وَتَارَةً لَمْ تَعْتَبِرْهُمَا لِأَنَّهُمَا لِلْوُضُوءِ، وَلَحِلّ عُقْدَةِ الشَّيْطَانِ فَقَالَتْ: كَانَ يُصَلِّي عَشْرَ رَكَعَاتٍ، وَقِيلَ: كَانَ قِيَامُهُ مِنْ اللَّيْلِ خَمْسَ عَشْرَةَ رَكْعَةً، وَقِيلَ: سَبْعَ عَشْرَةَ، وَالصَّحِيحُ مَا سَبَقَ وُرُودُهُ فِي الصَّحِيحِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَحَلِّ الْوِتْرِ الْأَفْضَلِ بِقَوْلِهِ: (وَأَفْضَلُ اللَّيْلِ آخِرُهُ فِي الْقِيَامِ) وَالْمُرَادُ بِآخِرِهِ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ لِخَبَرِ الشَّيْخَيْنِ وَغَيْرِهِمَا: «يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا حَيْثُ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْأَخِيرُ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ» وَمَعْنَى يَنْزِلُ رَبُّنَا أَيْ أَمْرُهُ وَرَحْمَتُهُ. قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: اُخْتُلِفَ فِي قِيَامِ اللَّيْلِ هَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ وَهُوَ لِمَالِكٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ لَكِنَّ الِاسْتِحْبَابَ فِي حَقِّنَا، وَأَمَّا فِي حَقِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ وَاجِبٌ لِمَا فِي الْبَيْهَقِيّ: «ثَلَاثٌ هُنَّ عَلَيَّ فَرَائِضُ وَلَكُمْ تَطَوُّعٌ: التَّهَجُّدُ وَهُوَ قِيَامُ اللَّيْلِ وَالْوِتْرُ وَالضُّحَى» وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ أَقَلُّهُ وَهُوَ رَكْعَتَانِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِقِيَامِ اللَّيْلِ؛ لِأَنَّهُ دَأْبُ الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ وَقُرْبَةٌ إلَى رَبِّكُمْ» . ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ أَفْضَلُ اللَّيْلِ آخِرُهُ قَوْلَهُ: (فَمَنْ أَخَّرَ تَنَفُّلَهُ وَوِتْرَهُ إلَى آخِرِهِ) أَيْ اللَّيْلِ (فَذَلِكَ أَفْضَلُ لَهُ) مِنْ أَوَّلِ اللَّيْلِ (إلَّا مَنْ الْغَالِبِ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَنْتَبِهَ آخِرَهُ) بِأَنْ كَانَ غَالِبُ أَحْوَالِهِ النَّوْمَ إلَى الصُّبْحِ (فَلْيُقَدِّمْ وِتْرَهُ مَعَ مَا يُرِيدُ) صَلَاتَهُ (مِنْ النَّوَافِلِ أَوَّلَ اللَّيْلِ) احْتِيَاطًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَأْخِيرَ الْوِتْرِ مَنْدُوبٌ فِي صُورَتَيْنِ وَهُمَا أَنْ تَكُونَ عَادَتُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ وَتَسْتَوِي حَالَتَاهُ وَتَقْدِيمُهُ مُسْتَحَبٌّ فِي صُورَةٍ وَاحِدَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ النَّوْمَ إلَى الصُّبْحِ. (ثُمَّ إنْ شَاءَ) مَنْ يَغْلِبُ عَلَيْهِ عَدَمُ الِانْتِبَاهِ وَقَدَّمَ وِتْرَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ (إذَا اسْتَيْقَظَ فِي آخِرِهِ) عَلَى غَيْرِ عَادَتِهِ (تَنَفَّلَ) اسْتِحْبَابًا (مَا شَاءَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ النَّوَافِلِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ، وَلَا يَكُونُ تَقْدِيمُهُ لِلْوِتْرِ مَانِعًا لَهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمَحَلُّ نَدْبِ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ إذَا حَدَثَتْ لَهُ نِيَّةُ التَّنَفُّلِ بَعْدَ الْوِتْرِ، وَأَمَّا مَنْ نَوَى أَنْ يَجْعَلَ الْوِتْرَ أَثْنَاءَ نَفْلٍ فَمُخَالِفٌ لِلسَّنَةِ، وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَوْتَرَ فِي الْمَسْجِدِ وَأَرَادَ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهُ أَنْ يَتَرَبَّصَ قَلِيلًا، وَيُكْرَهُ أَنْ يُوقِعَ النَّفَلَ عَقِبَ الْوِتْرِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ، وَيَكْفِي الْفَصْلُ وَلَوْ بِالْمَجِيءِ إلَى الْبَيْتِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْوِتْرِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَيَكُونُ تَنَفُّلُهُ (مَثْنَى مَثْنَى) أَيْ رَكْعَتَيْنِ رَكْعَتَيْنِ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُصَلِّيَ أَرْبَعًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِسَلَامٍ، قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَإِذَا نَوَى شَخْصٌ النَّفَلَ أَرْبَعًا خَلْفَ مَنْ يُصَلِّي الظُّهْرَ، وَدَخَلَ مَعَهُ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ فَهَلْ لَهُ الِاقْتِصَارُ عَلَى رَكْعَتَيْنِ وَيُسَلِّمُ مَعَ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمَنْقُولُ بَلْ يُفِيدُ النَّقْلَ أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى رَكْعَتَيْنِ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي عَدَدِ رَكَعَاتِ النَّفْلِ، فَذَهَبَ مَالِكٌ أَنَّهُ مَثْنَى مَثْنَى بِلَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَإِنْ صَلَّى ثَلَاثًا أَتَمَّ أَرْبَعًا لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ، وَسَوَاءٌ عَلَى أَصْلِهِ نَوَاهُ أَرْبَعًا ابْتِدَاءً أَمْ لَا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِالسَّلَامِ مِنْ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ دَخَلَ عَلَى نِيَّةِ رَكْعَتَيْنِ فَصَلَّى ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ أَنْ يُتِمَّ أَرْبَعًا، وَمَنْ نَوَى رَكْعَتَيْنِ خَلْفَ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مُسَافِرٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُ مُقِيمٌ فَإِنَّهُ يُتِمُّ؛ لِأَنَّ الْإِتْمَامَ أَرْبَعًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَإِذَا تَنَفَّلَ بَعْدَ وِتْرِهِ الَّذِي قَدَّمَهُ أَوَّلَ اللَّيْلِ (لَا يُعِيدُ الْوِتْرَ) حَيْثُ وَقَعَ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ، بَلْ يَحْرُمُ لِخَبَرِ: «لَا وِتْرَانِ فِي لَيْلَةٍ» وَلَا يُعَارِضُهُ حَدِيثُ: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنْ اللَّيْلِ وِتْرًا» ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ تَقَدَّمَ عَلَى الْأَمْرِ عِنْدَ تَعَارُضِهِمَا، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ يُعِدْهُ مُقَدَّمٌ ثُمَّ صَلَّى وَجَازَ أَيْ جَوَازًا رَاجِحًا؛ لِأَنَّ النَّفَلَ مَنْدُوبٌ لَا مَا يُوهِمُهُ لَفْظٌ جَازَ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنْ شَاءَ أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ وَلَا مَكْرُوهٍ فَلَا يُنَافِي النَّدْبَ (وَمَنْ) أَخَّرَ وِرْدَهُ لِعَدَمِ انْتِبَاهِهِ آخِرَ اللَّيْلِ وَلَكِنْ (غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ عَنْ حِزْبِهِ) بِأَنْ اسْتَغْرَقَهُ النَّوْمُ حَتَّى ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ وِرْدِهِ الَّذِي كَانَ يُصَلِّيهِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ بِأَنْ انْتَبَهَ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ قَبْلَهُ بِحَيْثُ لَا يَسْعَهُ (فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ مَا بَيْنَهُ) أَيْ مَا بَيْنَ وَقْتِ انْتِبَاهِهِ (وَبَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَوَّلِ الْإِسْفَارِ) الْأَعْلَى الَّذِي يُمَيِّزُ فِيهِ الشَّخْصُ جَلِيسَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الصُّبْحَ لَا ضَرُورِيَّ لَهَا. وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ الِانْتِبَاهَ آخِرَ اللَّيْلِ وَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ أَوْ انْتَبَهَ قَبْلَهُ بِيَسِيرِ صَلَاةِ وِرْدِهِ وَوِتْرِهِ قَبْلَ الْإِسْفَارِ الْبَيِّنِ وَيُصَلِّي الصُّبْحَ، وَلَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الْمَسْجِدَ عَلَى وُضُوءٍ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ إنْ كَانَ وَقْتٌ يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ، وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَلَمْ يَرْكَعْ   [الفواكه الدواني] بَعْدَ الْإِسْفَارِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا ضَرُورِيَّ لَهَا، وَأَمَّا عَلَى أَنَّ لَهَا ضَرُورِيًّا فَلَا بُدَّ مِنْ صَلَاتِهَا مَعَ مَا يُقَدَّمُ عَلَيْهَا مِنْ فَجْرٍ وَوِتْرٍ قَبْلَ الْإِسْفَارِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا بَيْنَ انْتِبَاهِهِ وَالْإِسْفَارِ ظَرْفٌ لِفِعْلِ الْوَرْدِ وَالْوِتْرِ أَوْ الصُّبْحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ لَهَا ضَرُورِيًّا هَكَذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ التَّحْدِيدُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ لَا بِالْإِسْفَارِ وَنَصُّهَا: وَمَنْ فَاتَهُ حِزْبُهُ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ تَرَكَهُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ فَلَهُ أَنْ يُصَلِّيَهُ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ بَيْنَ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ تَخَالُفًا؛ لِأَنَّ الرِّسَالَةَ تَقْتَضِي أَنَّ الْحِزْبَ لَا يُصَلَّى بَعْدَ الْإِسْفَارِ، فَالْمُدَوَّنَةُ تَقْتَضِي أَنَّهُ يُصَلَّى بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: فَلْيُصَلِّهِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ، وَوَفَّقَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ بَيْنَهُمَا بِمَا مُحَصِّلُهُ: إنَّ الَّذِي قَالَهُ أَبُو مُحَمَّدٍ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ مَنْ انْتَبَهَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ لَكِنْ بِزَمَنٍ يَسَعُ الْوِرْدَ وَالشَّفْعَ وَالْوِتْرَ وَالْفَجْرَ وَالصُّبْحَ قَبْلَ الْإِسْفَارِ، وَاَلَّذِي قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَنْ انْتَبَهَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ وَأَوَّلِ الْإِسْفَارِ بِحَيْثُ يُصَلِّي الْحِزْبَ وَالْفَجْرَ وَالصُّبْحَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الصُّبْحَ لَا ضَرُورِيَّ لَهَا، أَوْ قَبْلَ الْإِسْفَارِ عَلَى أَنَّ لَهَا ضَرُورِيًّا، وَاَلَّذِي تَحْفَظُهُ عَنْ شُيُوخِنَا أَنَّ الرَّاجِحَ كَلَامُ الرِّسَالَةِ وَأَنَّ الْحِزْبَ لَا يُفْعَلُ بَعْدَ الْإِسْفَارِ خِلَافًا لِظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، فَإِنْ قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَى صَلَاتِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ مُخَالَفَةٌ لِحَدِيثِ: «لَا صَلَاةَ نَافِلَةَ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَيْنِ» فَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَمَّا اعْتَادَهُ صَاحِبُهُ صَارَ فِي حَقِّهِ كَالْمَنْذُورِ، وَأَيْضًا عَمَلُ الصَّحَابَةِ الْمُسْتَمِرُّ فَقَدْ فَعَلَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَزَّلَهُ مَنْزِلَةَ الْمُسْتَثْنَى مِنْ الْحَدِيثِ. (تَنْبِيهٌ) : فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ أَنَّهُ لَوْ تَعَمَّدَ تَأْخِيرَهُ حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ لَا يُصَلِّيهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَوْ كَانَ يُمْكِنُهُ فِعْلُهُ مَعَ الْفَجْرِ وَالصُّبْحِ قَبْلَ الْإِسْفَارِ خِلَافًا لِلْجَلَّابِ فَإِنَّهُ أَلْحَقَ الْعَامِدَ بِمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، وَلَعَلَّهُ تَبِعَ قَوْلَ الْمُدَوَّنَةِ أَوْ تَرَكَهُ وَهِيَ مُعْتَرِضَةٌ إذَا لَمْ يَقُلْهُ مَالِكٌ إلَّا فِيمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، وَاعْتَرَضُوا عَلَى أَبِي سَعِيدٍ الْبَرَادِعِيِّ فِي زِيَادَةِ أَوْ تَرَكَهُ نَعَمْ يَلْحَقُ بِمَنْ غَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ مَنْ حَصَلَ لَهُ إغْمَاءٌ أَوْ جُنُونٌ أَوْ حَيْضٌ وَزَالَ عَنْهُ عِنْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، نَعَمْ شَرْطُ فِعْلِهِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَنْ يُخْشَى فَوَاتُ الْجَمَاعَةِ، فَيَتَلَخَّصُ أَنَّ شَرْطَ فِعْلِهِ بَعْدَ الصُّبْحِ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنْ لَا يَخْشَى إسْفَارًا وَلَا فَوَاتَ الْجَمَاعَةِ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ، وَأَنْ يَكُونَ نَامَ عَنْهُ، فَإِنْ اخْتَلَّ شَرْطٌ تَرَكَهُ وَصَلَّى الصُّبْحَ بَعْدَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ؛ لِأَنَّهُمَا يُفْعَلَانِ بَعْدَ الْفَجْرِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حِزْبِهِ قَبْلَ الْإِسْفَارِ (يُوتِرُ) وَيُصَلِّي الْفَجْرَ (وَيُصَلِّي الصُّبْحَ) إذَا تَبَيَّنَّ اتِّسَاعُ الْوَقْتِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَدْرَ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ صَلَّى الْوِتْرَ وَالصُّبْحَ وَأَخَّرَ الْفَجْرَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ يَتَّسِعْ الْوَقْتُ أَيْ الضَّرُورِيُّ إلَّا لِرَكْعَتَيْنِ تَرَكَهُ أَيْ الْوِتْرَ لَا لِثَلَاثٍ وَلِخَمْسٍ صَلَّى الشَّفْعَ وَلَوْ قَدَّمَ وَلِسَبْعٍ زَادَ الْفَجْرَ، وَلَمَّا كَانَ ضَرُورِيُّ الْوِتْرِ يَنْقَضِي بِصَلَاةِ الصُّبْحِ أَشَارَ إلَى حُكْمِ مَنْ صَلَّى الصُّبْحَ نَاسِيًا لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَقْضِي الْوِتْرَ مَنْ ذَكَرَهُ) فَاعِلُ يَقْضِي، وَذَكَرَ الضَّمِيرُ الْعَائِدُ عَلَى الْوِتْرِ مَنْ ذَكَرَهُ نَظَرًا إلَى لَفْظِ الْوِتْرِ (بَعْدَ أَنْ صَلَّى الصُّبْحَ) لِانْقِضَاءِ ضَرُورِيِّهَا؛ لِأَنَّ السَّلَفَ كَانُوا يُوتِرُونَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَا لَمْ يُصَلُّوا الصُّبْحَ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ ذَكَرَهُ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَالْحُكْمُ إنْ كَانَ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً مِنْهَا اُسْتُحِبَّ لَهُ الْقَطْعُ إنْ كَانَ فَذًّا، ثُمَّ يُصَلِّي الْوِتْرَ، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا فَلَا يُنْدَبُ لَهُ الْقَطْعُ بَلْ يَتَمَادَى، وَإِنْ كَانَ إمَامًا فَفِي نَدْبِ قَطْعِهِ رِوَايَتَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ قَطْعُهَا لَهُ لِفَذٍّ لَا مُؤْتَمٍّ، وَفِي الْإِمَامِ رِوَايَتَانِ، وَعَلَى قَطْعِهِ فَهَلْ يَسْتَخْلِفُ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ، اقْتَصَرَ الْأُجْهُورِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَخْلِفُ. وَفِي الشَّيْخِ سَالِمٍ مَا يُخَالِفُهُ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ رَكْعَةٍ يَتَمَادَى وَلَوْ فَذًّا، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ لِلْوِتْرِ وَالصُّبْحِ، وَأَمَّا ضِيقُهُ فَيَجِبُ التَّمَادِي، وَلَوْ لَمْ يَعْقِدْ رَكْعَةً. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ تَمَادِي الْمَأْمُومِ أَنَّهُ مِنْ مَسَاجِينِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَسَاجِينَ الْإِمَامِ أَرْبَعَةٌ، عَدُّوا مِنْهَا مَنْ ذَكَرَ الْوِتْرَ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهِيَ مَسْأَلَتُنَا هُنَا، وَمِنْهَا مَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْكِ، وَمِنْهَا مَنْ لَمْ يُكَبِّرْ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ، وَإِنَّمَا كَبَّرَ قَاصِدًا بِتَكْبِيرِهِ الرُّكُوعَ، وَمِنْهَا مَنْ نَفَخَ فِي الصَّلَاةِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا خَلْفَ الْإِمَامِ، ذَكَرَ الْجَمِيعَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ، وَنَصَّ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَلَى أَنَّ مِنْ تَمَادِي الْمَأْمُومِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَلَعَلَّ فِيهِ مُصَادَمَةً لِعَدِّهِ مِنْ مَسَاجِينِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ مَسْجُونَ الْإِمَامِ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّبَاعُهُ وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ الْقَطْعُ وَتَأَمَّلْهُ. 1 - (فُرُوعٌ) الْأَوَّلُ: لَوْ صَلَّى شَخْصٌ الْفَجْرَ نَاسِيًا الْوِتْرَ ثُمَّ ذَكَرَهُ قَبْلَ صَلَاةِ الصُّبْحِ صَلَّى الْوِتْرَ ثُمَّ أَعَادَ الْفَجْرَ. 1 - الثَّانِي: إذَا صَلَّى الْفَجْرَ ثُمَّ ذَكَرَ صَلَاةَ فَرْضٍ تَقَدَّمَ عَلَى الصُّبْحِ لِكَوْنِهَا يَسِيرَةً فَإِنَّهُ بَعْدَ صَلَاةِ الْفَائِتَةِ يُعِيدُ الْفَجْرَ. الثَّالِثُ: لَوْ ذَكَرَ الْوِتْرَ وَهُوَ فِي صَلَاةِ الْفَجْرِ فَهَلْ يَقْطَعُهَا؟ لَهُ قَوْلَانِ لِابْنِ نَاجِي وَشَيْخِهِ الْبُرْزُلِيِّ (وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ) حَالَةَ كَوْنِهِ (عَلَى وُضُوءٍ) فَإِنْ كَانَ مَسْجِدٌ غَيْرَ مَكَّةَ (فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ) نَدْبًا (رَكْعَتَيْنِ) يَنْوِي بِهِمَا تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ وَالتَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى تَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ تَحِيَّةُ رَبِّ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ الدَّاخِلَ بَيْتَ مَلِكٍ إنَّمَا يُحَيَّى الْمَلِكَ. (إذَا كَانَ وَقْتُ) الدُّخُولِ (يَجُوزُ فِيهِ الرُّكُوعُ) لِلنَّافِلَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ لَهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَنْ يَدْخُلَ عَلَى طَهَارَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ الْجُلُوسَ فِي الْمَسْجِدِ، وَأَنْ يَكُونَ الْوَقْتُ وَقْتَ جَوَازٍ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 الْفَجْرَ أَجْزَأَهُ لِذَلِكَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَإِنْ رَكَعَ الْفَجْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فَقِيلَ يَرْكَعُ وَقِيلَ لَا يَرْكَعُ وَلَا صَلَاةَ نَافِلَةً بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ.   [الفواكه الدواني] يَجْلِسُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسْ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» رَوَاهُ مُسْلِمٌ. وَفِي رِوَايَةٍ: «إذَا دَخَلَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلْيَرْكَعْ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَجْلِسَ» وَالنَّهْيُ عَلَى الْأُولَى لِلْكَرَاهَةِ، وَالْأَمْرُ فِي الثَّانِيَةِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَوَرَدَ: «أَعْطُوا الْمَسَاجِدَ حَقَّهَا، قَالُوا: وَمَا حَقُّهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ الْجُلُوسِ» وَكَوْنُهُمَا قَبْلَ الْجُلُوسِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، فَلَوْ جَلَسَ لَا يَفُوتَانِ وَلَوْ طَالَ زَمَانُ الْجُلُوسِ، فَأَلْ فِي الْمَسْجِدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ يَتَنَاوَلُ مَسْجِدَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرَهَا، وَهَلْ يَتَنَاوَلُ مَسَاجِدَ الْبُيُوتِ أَوْ قَاصِرٌ عَلَى الْمَسَاجِدِ الْمُبَاحَةِ؟ وَأَقُولُ: الْمُتَبَادَرُ مِنْ الرِّوَايَاتِ الْعُمُومُ لِتَسْمِيَةِ الْجَمِيعِ مَسَاجِدَ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ مَسْجِدِ مَكَّةَ؛ لِأَنَّ تَحِيَّةَ مَسْجِدِ مَكَّةَ الطَّوَافُ لِلْقَادِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ إفَاضَةٍ أَوْ الْمُقِيمِ الَّذِي يُرِيدُ الطَّوَافَ، وَأَمَّا مَنْ دَخَلَهُ لِلصَّلَاةِ أَوْ لِلْمُشَاهَدَةِ فَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَغَيْرِهِ. قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَعِيَاضٌ وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَمَسْجِدُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَغَيْرِهِ يَبْدَأُ بِالتَّحِيَّةِ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ حَقُّ اللَّهِ وَالسَّلَامُ عَلَى الْمُصْطَفَى حَقُّ عَبْدِهِ، وَحَقُّ اللَّهِ أَوْكَدُ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمَارَّ أَوْ الدَّاخِلَ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ أَوْ فِي وَقْتِ نَهْيٍ لَا تُسْتَحَبُّ التَّحِيَّةُ فِي حَقِّهِ صَلَاةً، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَقُولَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ. قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: يَنْبَغِي أَنْ يَقُولَهَا فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ، قَالَ الْحَطَّابُ: وَهُوَ حَسَنٌ لِمَكَانِ الْخِلَافِ؛ لِأَنَّ التَّحِيَّةَ بِمَعْنَى الصَّلَاةِ وَإِنْ سَقَطَتْ لَا يَسْقُطُ بَدَلُهَا (وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَلَمْ يَرْكَعْ الْفَجْرَ) فِي بَيْتِهِ (أَجْزَأَهُ لِذَلِكَ) أَيْ لِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ (رَكْعَتَا الْفَجْرِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إيقَاعُهَا أَيْ الْفَجْرِ بِمَسْجِدِهِ وَنَابَتْ عَنْ التَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ شَغْلُ الْبُقْعَةِ وَقَدْ حَصَلَ كَمَا أَنَّهَا تَحْصُلُ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأَدَّتْ بِفَرْضٍ، وَمَعْنَى الْإِجْزَاءِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَتَأْدِيَتِهَا بِالْفَرْضِ عَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ سُقُوطُ طَلَبِهَا، وَأَمَّا حُصُولُ ثَوَابِهَا فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مُلَاحَظَتِهَا وَنِيَّتِهَا عِنْدَ فِعْلِ غَيْرِهَا مِمَّا تَتَأَدَّى بِهِ، وَنَازَعَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي إجْزَاءِ الْفَرْضِ وَغَيْرِهِ عَنْ التَّحِيَّةِ بِأَنَّهُ كَيْفَ تَقُومُ الْعِبَادَةُ الْوَاحِدَةُ مَقَامَ اثْنَيْنِ؟ وَأَجَابَ الشُّيُوخُ: بِأَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي ذَلِكَ إذْ قَصْدُ الشَّارِعِ افْتِتَاحَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ بِصَلَاةٍ بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ عَنْ دُخُولِ الْبَيْتِ. (تَنْبِيهٌ) : اسْتَشْكَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَجْزَأَهُ لِذَلِكَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ، كَمَا اسْتَشْكَلَ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَنَابَتْ عَنْ التَّحِيَّةِ، بِأَنَّ هَذَا الْوَقْتَ لَا يُطْلَبُ فِيهِ تَحِيَّةٌ، وَالْإِجْزَاءُ عَنْ الشَّيْءِ أَوْ تَأْدِيَتُهُ فَرْعُ الطَّلَبِ بِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِطَلَبِ التَّحِيَّةِ فِي هَذَا الْوَقْتِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ وَأَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بَعْدُ: وَمَنْ رَكَعَ الْفَجْرَ فِي بَيْتِهِ، إلَى قَوْلِهِ: فَاخْتُلِفَ فِيهِ، أَوْ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا كَانَ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَصَلَّى الْفَجْرَ بَعْدَ الشَّمْسِ قَضَاءً وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَنْ رَكَعَ) أَيْ صَلَّى (الْفَجْرَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ) لِصَلَاةِ الصُّبْحِ مَعَ الْإِمَامِ (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أَيْ هَلْ يُطْلَبُ مِنْهُ تَحِيَّةٌ (فَقِيلَ يَرْكَعُ) رَكْعَتَيْنِ لِخَبَرِ: «إذَا أَتَى أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ فَلَا يَجْلِسُ حَتَّى يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ» وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ هَلْ يَنْوِي بِهِمَا التَّحِيَّةَ أَوْ إعَادَةِ الْفَجْرِ قَوْلَانِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ. (وَقِيلَ لَا يَرْكَعُ) بَلْ يَجْلِسُ حَتَّى يَقُومَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ لِخَبَرِ: «لَا صَلَاةَ بَعْدِ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ» وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ فَعَلَهَا أَيْ الْفَجْرَ بِنِيَّتِهِ لَمْ يَرْكَعْ أَيْ لَمْ يَرْكَعْ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا غَيْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَمَنْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَلَمْ يَرْكَعْ الْفَجْرَ أَجْزَأَهُ لِذَلِكَ رَكْعَتَا الْفَجْرِ أَنَّ التَّحِيَّةَ تُطْلَبُ بَعْدَ الْفَجْرِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا صَلَاةَ نَافِلَةً) جَائِزَةٌ (بَعْدَ الْفَجْرِ إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ) وَالْوِرْدُ لِنَائِمٍ عَنْهُ، وَالشَّفْعُ وَالْوَتْرُ مُطْلَقًا، وَكَالْجِنَازَةِ وَسُجُودِ التِّلَاوَةِ قَبْلَ الْإِسْفَارِ فَإِنَّ هَذِهِ تُفْعَلُ، وَالنَّهْيُ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَيَنْتَهِي (إلَى طُلُوعِ الشَّمْسِ) فَإِنْ أَخَذَتْ فِي الطُّلُوعِ حُرِّمَتْ النَّافِلَةُ حَتَّى يَتَكَامَلَ طُلُوعُهَا فَتَعُودُ الْكَرَاهَةُ حَتَّى تَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْحٍ مِنْ أَرْمَاحِ الْعَرَبِ الَّذِي قَدْرُهُ اثْنَا عَشَرَ شِبْرًا بِالشِّبْرِ الْمُتَوَسِّطِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ نَفْلٌ وَقْتَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَغُرُوبِهَا وَخُطْبَةُ جُمُعَةٍ وَكُرِهَ بَعْدَ فَجْرٍ، وَفَرْضُ عَصْرٍ إلَى أَنْ تَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْحٍ وَتُصَلِّي الْمَغْرِبَ إلَّا رَكْعَتَا الْفَجْرِ، وَالْوِرْدُ قَبْلَ الْفَرْضِ لِنَائِمٍ عَنْهُ وَجِنَازَةٌ وَسُجُودُ تِلَاوَةٍ قَبْلَ الْإِسْفَارِ وَالِاصْفِرَارِ فَيَحْرُمُ وَقْتَ الطُّلُوعِ وَالْغُرُوبِ مَا عَدَا الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ. الْجِنَازَةُ الَّتِي لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُهَا، وَالنَّفَلُ الْمَنْذُورُ وَالْمُفْسِدُ رَعْيًا لِأَصِلْهُ، وَأَمَّا الْفَرَائِضُ الْخَمْسُ وَمِثْلُهَا الْجِنَازَةُ الَّتِي يُخْشَى عَلَيْهَا تَغَيُّرُهَا فَلَا يَحْرُمُ شَيْءٌ مِنْهَا وَقْتَ الطُّلُوعِ وَلَا وَقْتَ الْغُرُوبِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَا كَرَاهَةَ فِي فِعْلِ شَيْءٍ مِنْهَا قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: وَلَا صَلَاةَ نَافِلَةً إلَخْ، لَا نَافِيَةٌ لِلْجِنْسِ نَصْبًا بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِعْيَارُ الْعُمُومِ، وَنَافِلَةً نَعْتٌ مُفْرَدٌ تَابِعٌ لِمُفْرَدٍ فَيَجُوزُ فِيهِ الْفَتْحُ لِتَرَكُّبِهِ مَعَ اسْمِهَا، وَالنَّصْبُ بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ رَسْمِ الْمُصَنِّفِ تَبَعًا لِمَحَلِّ صَلَاةٍ، وَالرَّفْعُ تَبَعًا لِمَحَلِّ لَا مَعَ اسْمِهَا؛ لِأَنَّ مَحَلَّهُمَا رَفْعٌ بِالِابْتِدَاءِ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَمُفْرَدًا نَعْتًا لِمَبْنِيٍّ يَلِي ... فَافْتَحْ أَوْ انْصِبْنَ أَوْ ارْفَعْ تَعْدِلِي 1 - (خَاتِمَةٌ) قَدْ مَرَّ أَنَّ فَرَائِضَ الصَّلَاةِ سَبْعَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا أَوَّلَ الْبَابِ بِالْعَدِّ، وَأَمَّا سُنَنُهَا فَلَمْ يُفْصِحْ عَنْهَا الْمُصَنِّفُ؛ لِأَنَّ اهْتِمَامَهُ إنَّمَا هُوَ بِبَيَانِ صِفَةِ الْعَمَلِ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ الْفَرْضِ مِنْ السُّنَّةِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا رِفْقًا بِالطَّالِبِ فَنَقُولُ: هِيَ ثَمَانِ عَشْرَةَ: قِرَاءَةُ مَا زَادَ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ وَالْقِيَامُ لَهُ، وَالْجَهْرُ وَالسِّرُّ فِي صَلَاةِ الْفَرَائِضِ بِمَحَلِّهِمَا وَكُلُّ تَكْبِيرَةٍ أَوْ جَمِيعُ التَّكْبِيرِ سِوَى الْإِحْرَامِ لِكُلِّ مُصَلٍّ، وَكُلُّ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ أَوْ جَمِيعُهُ لِلْإِمَامِ وَالْفَذِّ، وَكُلُّ مُطْلَقِ تَشَهُّدٍ وَكُلُّ جُلُوسٍ سِوَى ظَرْفِ السَّلَامِ، وَالزَّائِدُ عَلَى قَدْرِ الطُّمَأْنِينَةِ، وَرَدُّ الْمُقْتَدِي عَلَى إمَامِهِ السَّلَامَ وَرَدُّهُ عَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَجَهْرٌ بِتَسْلِيمَةِ التَّحْلِيلِ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ مَأْمُومًا أَوْ فَذًّا، وَسُتْرَةٌ لِإِمَامٍ وَفَذٍّ يَخْشَيَانِ الْمُرُورَ بَيْنَ أَيْدِيهِمَا، وَإِنْصَاتُ مُقْتَدٍ لِقِرَاءَةِ إمَامِهِ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَاعْتِدَالٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ وَلَفْظُ التَّشَهُّدِ الْخَاصُّ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ. [مَنْدُوبَات الصَّلَاة] 1 وَأَمَّا مَنْدُوبَاتُهَا فَكَثِيرَةٌ مِنْهَا: رَفْعُ الْيَدَيْنِ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَمِنْهَا: قِرَاءَةُ الْمَأْمُومِ خَلْفَ الْإِمَامِ فِي السِّرِّيَّةِ، وَمِنْهَا: تَقْصِيرُ زَمَنِ ثَانِي الْفَرِيضَةِ عَنْ أُولَاهَا، وَمِنْهَا: تَقْصِيرُ غَيْرِ جُلُوسِ السَّلَامِ، وَمِنْهَا: قَوْلُ الْمُقْتَدِي وَالْفَذِّ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَمِنْهَا: التَّسْبِيحُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمِنْهَا: تَأْمِينُ الْفَذِّ عَلَى قِرَاءَتِهِ مُطْلَقًا وَالْإِمَامِ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ إنْ سَمِعَ قَوْلَ الْإِمَامِ: وَلَا الضَّالِّينَ، وَمِنْهَا: إسْرَارُ التَّأْمِينِ، وَغَالِبُ ذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. [مَكْرُوهَات الصَّلَاة] وَمَكْرُوهَاتُهَا كَثِيرَةٌ أَيْضًا مِنْهَا: الْبَسْمَلَةُ، وَالتَّعَوُّذُ فِي الْفَرِيضَةِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ خِلَافٍ، وَكَالْقَبْضِ بِإِحْدَى يَدَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى أَيِّ صِفَةٍ، وَكَالدُّعَاءِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقَبْلَ الْفَاتِحَةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ فِي أَثْنَائِهَا أَوْ أَثْنَاءِ السُّورَةِ فِي الْفَرْضِ، وَكَالدُّعَاءِ فِي الرُّكُوعِ وَكَالدُّعَاءِ قَبْلَ التَّشَهُّدِ وَكَالدُّعَاءِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ وَكَالدُّعَاءِ فِي التَّشَهُّدِ غَيْرِ الْأَخِيرِ، وَكَالسُّجُودِ عَلَى مَا فِيهِ رَفَاهِيَةٌ لِقَصْدِ الرَّفَاهِيَةِ، وَمِنْهَا الدُّعَاءُ الْخَاصُّ وَبِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، وَالتَّفَكُّرُ بِأَمْرِ الدُّنْيَا، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَنْصُوصٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ. [بَاب فِي الْإِمَامَة] [بَيَان حُكْم الْإِمَامَة فِي الصَّلَاة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ وَكَانَ يُسَنُّ فِعْلُهَا مَعَ إمَامٍ شَرَعَ فِي بَابِ الْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ:. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 بَابٌ فِي الْإِمَامَةِ وَحُكْمِ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَيَؤُمُّ النَّاسَ أَفْضَلُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ وَلَا تَؤُمُّ الْمَرْأَةُ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ لَا رِجَالًا وَلَا نِسَاءً وَيَقْرَأُ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانِ حُكْمِ (الْإِمَامَةِ) وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مُطْلَقُ التَّقَدُّمِ، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَتَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: إمَامَةُ وَحْيٍ أَيْ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْوَحْيِ وَهِيَ النُّبُوَّةُ، وَإِمَامَةُ وِرَاثَةٍ أَيْ حَصَلَتْ بِسَبَبِ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَهِيَ الْعِلْمُ، وَإِمَامَةُ مَصْلَحَةٍ وَهِيَ الْخِلَافَةُ الْعُظْمَى وَيُقَالُ لَهَا الْإِمَامَةُ الْكُبْرَى، وَإِمَامَةُ عِبَادَةٍ وَهِيَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا كَوْنَهُ مَتْبُوعًا لَا تَابِعًا وَكُلُّهَا تَحَقَّقَتْ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَعْرِيفِ إمَامَةِ الْعِبَادَةِ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: اتِّبَاعُ مُصَلٍّ آخَرَ فِي جُزْءٍ مِنْ صَلَاتِهِ غَيْرَ تَابِعٍ غَيْرَهُ، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ تَابِعٍ غَيْرَهُ صِفَةٌ لِآخَرَ. (وَ) فِي بَيَانِ (حُكْمِ الْإِمَامِ) مِنْ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ ذَكَرًا وَعَالِمًا بِمَا لَا تَصِحُّ الصَّلَاةُ إلَّا بِهِ، وَمِنْ جِهَةِ كَوْنِهِ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ إنْ صَلَّى وَحْدَهُ إنْ كَانَ رَاتِبًا وَصَلَّى فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَأْتِي. 1 - (وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (الْمَأْمُومِ) مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ الِاقْتِدَاءِ وَمُسَاوَاتِهِ لِإِمَامِهِ وَكَوْنِهِ يَقِفُ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ ذَكَرًا وَحْدَهُ، 1 - وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ مَنْ يَصْلُحُ لِلْإِمَامَةِ بِقَوْلِهِ: (وَيَؤُمُّ النَّاسَ أَفْضَلُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ) لِخَبَرِ: «أَئِمَّتُكُمْ شُفَعَاؤُكُمْ» وَخَبَرِ: «وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ» وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنْ سِرَّكُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْكُمْ صَلَاتُكُمْ فَلْيَؤُمَّكُمْ خِيَارُكُمْ فَإِنَّهُ وَفْدٌ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ رَبِّكُمْ فَلَا يَؤُمَّكُمْ إلَّا الذُّكُورُ» . (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (تَؤُمَّ الْمَرْأَةُ فِي فَرِيضَةٍ وَلَا نَافِلَةٍ لَا رِجَالًا وَلَا نِسَاءً) لِخَبَرِ «لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً» وَسَوَاءٌ عُدِمَتْ الرِّجَالُ أَوْ وُجِدَتْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَةَ خُطَّةٌ شَرِيفَةٌ فِي الدِّينِ وَمِنْ شَرَائِعِ الْمُسْلِمِينَ [شُرُوط صِحَّة الْإِمَامَة] وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِمَامَةَ لَهَا شُرُوطُ صِحَّةٍ وَشُرُوطُ كَمَالٍ، فَشُرُوطُ صِحَّتِهَا ثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوَّلُهَا الذُّكُورَةُ الْمُحَقَّقَةُ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَرْأَةِ وَلَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ دُونَ الْأُنْثَى الَّتِي صَلَّتْ إمَامًا. ثَانِيهَا: الْإِسْلَامُ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْكَافِرِ وَإِنْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ إنْ نَطَقَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. ثَالِثُهَا: الْعَقْلُ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمَجْنُونِ وَلَوْ مُتَقَطِّعًا وَأَمَّ فِي حَالَةِ صَحْوِهِ. رَابِعُهَا: بُلُوغُهُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَبِغَيْرِهِ تَصِحُّ وَإِنْ لَمْ يَجُزْ. خَامِسُهَا: عَدَمُ الْفِسْقِ الْمُتَعَلِّقِ بِالصَّلَاةِ، فَالْفَاسِقُ فِسْقًا مُتَعَلِّقًا بِهَا كَمَنْ يَقْصِدُ بِإِمَامَتِهِ الْكِبْرَ أَوْ يَقْرَأُ عَمْدًا بِالشَّاذِّ الْمُخَالِفِ لِلرَّسْمِ الْعُثْمَانِيِّ أَوْ بِالتَّوْرَاةِ أَوْ الْإِنْجِيلِ إمَامَتُهُ بَاطِلَةٌ، بِخِلَافِ فَاسِقِ الْجَارِحَةِ كَمَنْ يَشْرَبُ الْخَمْرَ أَوْ يَزْنِي فَتُكْرَهُ إمَامَتُهُ فَقَطْ وَهِيَ صَحِيحَةٌ، كَمَا تَصِحُّ خَلْفَ الْمُبْتَدِعِ الْمُخْتَلَفِ فِي تَكْفِيرِهِ بِبِدْعَتِهِ كَالْحَرُورِيِّ وَالْقَدَرِيِّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَا فِي خَلِيلٍ مِنْ بُطْلَانِهَا بِفَاسِقِ الْجَارِحَةِ فَهُوَ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ إذْ كَيْفَ تَصِحُّ إمَامَةُ مَنْ اُخْتُلِفَ فِي تَكْفِيرِهِ؟ وَتَبْطُلُ إمَامَةُ مَنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِكُفْرِهِ. سَادِسُهَا: عِلْمُ الْإِمَامِ بِمَا تَتَوَقَّفُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مِنْ قِرَاءَةٍ وَفِقْهٍ، فَالْجَاهِلُ بِالْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ لَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُقْتَدِي بِهِ، وَأَمَّا الْأُمِّيُّ الَّذِي لَمْ يَقْرَأْ بِمِثْلِهِ فَتَصِحُّ عِنْدَ فَقْدِ الْقَارِئِ وَعَدَمِ قَبُولِهِ التَّعْلِيمَ، وَالْمُرَادُ بِمَعْرِفَةِ مَا تَصِحُّ بِهِ الصَّلَاةُ مَعْرِفَةُ فَرَائِضِهَا وَسُنَنِهَا وَفَضَائِلِهَا وَمَا يُوجِبُ السُّجُودَ وَمَا لَا يُوجِبُهُ، وَيَكْفِي مَعْرِفَةُ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَلَوْ حُكْمًا، كَمَنْ أَخَذَ صِفَةَ الصَّلَاةِ مِنْ كَلَامِ مُصَنَّفٍ أَوْ مِنْ عَالِمٍ يَأْتِي بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ كَوَصْفِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهَا تَصِحُّ خَلْفَهُ وَلَوْ لَمْ يُمَيِّزْ فَرْضًا مِنْ سُنَّةٍ، بِخِلَافِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّ جَمِيعَ أَفْعَالِهَا فَرَائِضُ أَوْ سُنَنٌ أَوْ فَضَائِلُ، أَوْ يَعْتَقِدُ أَنَّ فِيهَا فَرَائِضَ وَغَيْرَهَا، وَلَا يُمَيِّزُ الْفَرْضَ مِنْ غَيْرِهِ، وَلَا أَخَذَ الْوَصْفَ مِنْ كَلَامِ مُصَنَّفٍ وَلَا مِنْ عَالِمٍ فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَا صَلَاتُهُ لِنَفْسِهِ أَيْضًا إلَّا لِمَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ فَرْضِيَّةَ جَمِيعِ أَفْعَالِهَا وَيَأْتِي بِهَا مِنْ غَيْرِ إخْلَالٍ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا، فَيَنْبَغِي صِحَّةُ صَلَاتِهِ فِي نَفْسِهِ لَا الِاقْتِدَاءُ بِهِ. سَابِعُهَا: الْقُدْرَةُ عَلَى الْأَرْكَانِ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْعَاجِزِ عَنْ بَعْضِهَا إلَّا كَالْقَاعِدِ بِمِثْلِهِ. ثَامِنُهَا: مُوَافَقَةُ مَذْهَبِ الْمَأْمُومِ لِلْإِمَامِ فِي الْوَاجِبَاتِ، فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ يُسْقِطُ الْقِرَاءَةَ فِي الْأَخِيرَتَيْنِ أَوْ يَتْرُكُ الرَّفْعَ مِنْ الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ مَثَلًا، ذُكِرَ هَذَا الشَّرْطُ فِي الذَّخِيرَةِ، وَفَرَّعَ عَلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ مَا سَبَقَ وَلَكِنَّ اشْتِرَاطَهُ يُنَافِي صِحَّةَ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُخَالِفِ فِي الْفُرُوعِ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّ مَحَلَّ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُخَالِفِ مُقَيَّدَةٌ بِأَنْ لَا يُسْقِطَ شَيْئًا مِنْ الْأَرْكَانِ بَلْ كَانَ يَأْتِي بِهَا، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَثَلًا يَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا، وَالْمَأْمُومُ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا، وَأَمَّا شُرُوطُ الِاقْتِدَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا كَالتَّسَاوِي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فِيهِ وَلَا يَقْرَأُ مَعَهُ فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ فَلْيَقْضِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مَا فَاتَهُ عَلَى نَحْوِ مَا   [الفواكه الدواني] شَخْصِ الصَّلَاةِ وَوَصْفِهَا وَالْمُعَاقَبَةِ فِي الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَوْفِيُّ: كُلُّ مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ لَا تَضُرُّ الْمُخَالَفَةُ فِيهِ وَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِمَذْهَبِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا مَا كَانَ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ فَالْعِبْرَةُ فِيهِ بِمَذْهَبِ الْمَأْمُومِ فَيَصِحُّ اقْتِدَاءُ مَنْ يُوجِبُ الدَّلْكَ بِمَنْ لَا يُوجِبُهُ، وَمَنْ يُوجِبُ مَسْحَ جَمِيعِ الرَّأْسِ بِمَنْ يَكْتَفِي بِمَسْحِ بَعْضِهِ، وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ مُفْتَرِضٍ بِمُتَنَفِّلٍ أَوْ بِمُعِيدٍ، وَأَمَّا اقْتِدَاءُ الْمَالِكِيِّ بِالْحَنَفِيِّ الَّذِي لَا يَعُدُّ الرَّفْعَ مِنْ فَرَائِضِهَا فَإِنْ كَانَ يَأْتِي بِهِ فَصَحِيحٌ وَإِلَّا فَلَا كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ الْمُتَقَدِّمِ عَنْ الذَّخِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْمَأْمُومَ الْمَالِكِيَّ تَرْكُهُ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ عِنْدَهُ وَإِنْ أَتَى بِهِ مَعَ تَرْكِ الْإِمَامِ لَهُ لَزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ أَتَى بِشَيْءٍ لَمْ يَأْتِ بِهِ إمَامُهُ، وَيَجِبُ التَّعْوِيلُ عَلَى كَلَامِ الْعَوْفِيِّ، خِلَافًا لِكَلَامِ سَنَدٍ فَإِنَّهُ مُخَالِفٌ عَلَيْهِ جُمْهُورُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ صِحَّةِ الِاقْتِدَاءِ بِالْمُخَالِفِ، وَلَوْ رَآهُ يَأْتِي بِمُنَافٍ أَيْ مُبْطِلٍ كَتَقْبِيلِ الْحَنَفِيِّ لِزَوْجَتِهِ، وَسَنَدٌ يَشْتَرِطُ عَدَمَ الْإِتْيَانِ بِالْمُنَافِي، رَاجِعْ شَرْحَ خَلِيلٍ لِلْأُجْهُورِيِّ، تَاسِعُهَا: الْإِقَامَةُ فِي الْجُمُعَةِ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمُسَافِرِ إلَّا الْخَلِيفَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَافِرِ الْخَارِجُ عَنْ بَلَدِ الْجُمُعَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَفَرْسَخٍ لَا يَصِحُّ أَنْ يَخْطُبَ فِيهَا إلَّا إذَا نَوَى إقَامَةً تَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ. وَعَاشِرُهَا: الْحُرِّيَّةُ فِي الْجُمُعَةِ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْعَبْدِ فِيهَا وَتُعَادُ جُمُعَةٌ إنْ أَمْكَنَ، وَإِنَّمَا لَمْ تَصِحَّ إمَامَةُ الْمُسَافِرِ وَالْعَبْدِ فِي الْجُمُعَةِ لِسُقُوطِهِمَا عَنْهُمَا فَالِاقْتِدَاءُ بِهِمَا يُشْبِهُ اقْتِدَاءَ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْجُمُعَةِ فَيَصِحُّ. حَادِي عَاشِرَهَا: الْمُسَاوَاةُ فِي الصَّلَاةِ شَخْصًا، وَصْفًا وَزَمَانًا، فَلَا تَصِحُّ ظُهْرٌ خَلْفَ عَصْرٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا أَدَاءً خَلْفَ قَضَاءٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَا ظُهْرُ سَبْتٍ خَلْفَ ظُهْرِ أَحَدٍ وَلَا عَكْسُهُ، وَلَوْ كَانَ عَدَمُ التَّسَاوِي عَلَى الِاحْتِمَالِ فَلَا يَقْتَدِي أَحَدُ شَخْصَيْنِ بِصَاحِبِهِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا شَاكٌّ فِي ظُهْرِ الْخَمِيسِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ كُلٍّ تَحْتَمِلُ الْفَرْضِيَّةَ وَالنَّفْلِيَّةَ. وَثَانِيَ عَشْرَهَا: عِمَارَةُ ذِمَّتِهِ بِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ فَلَا تَصِحُّ إمَامَةُ الْمُعِيدِ. ثَالِثَ عَشْرَهَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَأْمُومًا فَلَا يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِالْمَسْبُوقِ الَّذِي أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُومٌ فِيهِ حُكْمًا، وَالْمَأْمُومُ لَا يَكُونُ إمَامًا بِخِلَافِ مَنْ أَدْرَكَ دُونَ رَكْعَةٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ فِيهِ خِلَافٌ وَهُوَ الْبَشَرِيَّةُ فَإِنَّ الْمَشَذَّالِيَّ قَالَ: قُوَّةُ كَلَامِهِمْ تَقْتَضِي اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ بَشَرًا، وَلَكِنَّ الَّذِي قَالَهُ صَاحِبُ حُكَّامِ الْجَانِّ صِحَّةُ إمَامَةِ الْجِنِّيِّ؛ لِأَنَّ الْجِنَّ مُكَلَّفُونَ، بَلْ مَالَ ابْنُ عَرَفَةَ إلَى صِحَّةِ إمَامَةِ الْمَلَكِ لِلْبَشَرِ بِدَلِيلِ إمَامَةِ جِبْرِيلَ لِنَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلِي بَحْثٌ فِيمَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا لَمْ تَكُنْ إمَامَةً حَقِيقِيَّةً، وَإِنَّمَا كَانَتْ مُجَرَّدَ مُتَابَعَةٍ فَقَطْ لِلتَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُ صِفَةَ الصَّلَاةِ حِينَ فَرَضَهَا عَلَيْهِ حَتَّى عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ، وَأَيْضًا النَّبِيُّ مُفْتَرِضٌ وَجِبْرِيلُ مُتَنَفِّلٌ وَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاءُ الْمُفْتَرِضِ بِالْمُتَنَفِّلِ، بِخِلَافِ الْجِنِّيِّ يَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ مُفْتَرِضٌ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ هَذَا الْإِيضَاحَ، 1 - وَأَمَّا شُرُوطُ الْكَمَالِ فَهِيَ السَّلَامَةُ مِنْ النَّقْصِ الْحِسِّيِّ وَالْمَعْنَوِيِّ، فَتُكْرَهُ إمَامَةُ الْأَقْطَعِ وَالْأَشَلِّ وَالْأَعْرَابِيِّ وَصَاحِبِ السَّلَسِ لِلصَّحِيحِ وَالْفَاسِقِ بِالْجَارِحَةِ، وَمَنْ تَكْرَهُهُ كُلُّ الْمَأْمُومِينَ أَوْ مُعْظَمُهُمْ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ رُومًا لِإِفَادَةِ الطَّالِبِ. [بَيَان حُكْم الْمَأْمُوم فِي الصَّلَاة] (وَ) مِنْ أَحْكَامِ الْمَأْمُومِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَقْرَأَ مَعَ الْإِمَامِ فِيمَا يُسِرُّ فِيهِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَتْ إنْ أَسَرَّ (وَلَا يَقْرَأُ مَعَهُ) أَيْ الْمَأْمُومُ (فِيمَا يَجْهَرُ فِيهِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ بَلْ يُسَنُّ لَهُ الْإِنْصَاتُ. قَالَ خَلِيلٌ فِي عَدَّ السُّنَنِ وَإِنْصَاتِ مُقْتَدٍ وَلَوْ سَكَتَ إمَامُهُ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ لَا يَسْمَعُ قِرَاءَةَ الْإِمَامِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فَتُكْرَهُ الْقِرَاءَةُ خَلْفَهُ فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: وَعَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الصَّلَاةِ فَسَمِعَ قِرَاءَةَ فَتًى مِنْ الْأَنْصَارِ فَنَزَلَ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] » الْآيَةَ، وَهَذَا مَا لَمْ يُرَاعِ الْمَأْمُومُ الْخِلَافَ، وَإِلَّا اُسْتُحِبَّ لَهُ الْقِرَاءَةُ لِمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ: مِنْ أَنَّ مِنْ الْوَرَعِ الْقِرَاءَةَ فِي الْجَهْرِيَّةِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَالْإِتْيَانَ بِالْبَسْمَلَةِ فِي الْفَاتِحَةِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى صِحَّةِ الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ يُوجِبُ الْقِرَاءَةَ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ حَرَامٌ فِي السِّرِّيَّةِ وَالْجَهْرِيَّةِ، بَلْ قِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ بِالْقِرَاءَةِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ أَسَرَّ الْإِمَامُ فِيمَا يُسَنُّ فِيهِ الْجَهْرُ فَإِنَّهُ لَا يُسْتَحَبُّ لِلْمَأْمُومِ الْقِرَاءَةُ خَلْفَهُ، وَعَمَّا لَوْ جَهَرَ فِي مَحَلِّ السِّرِّ فَلَا يُسَنُّ الْإِنْصَاتُ خَلْفَهُ بَلْ الْمُسْتَحَبُّ الْقِرَاءَةُ ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْمَأْمُومِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ) مَعَ الْإِمَامِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ لِأَنَّهَا الَّتِي تُسَنُّ فِيهَا الْجَمَاعَةُ (فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ) كَذَا فِي الْمُوَطَّإِ لَكِنْ بِلَفْظِ: فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ بَدَلَ الْجَمَاعَةِ، وَمَعْنَى أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ أَوْ الصَّلَاةَ أَدْرَكَ فَضْلَهَا وَحُكْمَهَا، وَالْمُرَادُ بِفَضْلِهَا التَّضْعِيفُ الْوَارِدُ فِي خَبَرِ: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 فَعَلَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ وَأَمَّا فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فَفِعْلُهُ كَفِعْلِ الْبَانِي الْمُصَلِّي وَحْدَهُ وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي   [الفواكه الدواني] دَرَجَةً» أَيْ صَلَاةً وَحُكْمُهَا فَلَا يَقْتَدِي بِهِ غَيْرُهُ وَلَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ، وَيَلْزَمُهُ السُّجُودُ الْقَبْلِيُّ وَالْبَعْدِيُّ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى إمَامِهِ، وَيُسَلِّمُ عَلَى إمَامِهِ وَعَلَى مَنْ عَلَى يَسَارِهِ، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً لَا يَحْصُلُ لَهُ حُكْمُهَا فَيُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى إمَامِهِ وَلَا عَلَى يَسَارِهِ وَيَصِحُّ الِاقْتِدَاءُ بِهِ، وَلَا يَحْصُلُ لَهُ فَضْلُهَا الْمُتَقَدِّمُ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ مَا أَدْرَكَ مِنْ تَشَهُّدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا هُوَ دُونَ رَكْعَةٍ، وَإِدْرَاكُ الرَّكْعَةِ هُنَا يَكُونُ بِتَحَقُّقِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهَا وَلَوْ لَمْ يَطْمَئِنَّ إلَّا بَعْدَ رَفْعِ الْإِمَامِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يُدْرِكَ سَجْدَتَيْهَا قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ، فَإِنْ زُوحِمَ عَنْهُمَا أَوْ نَعَسَ حَتَّى سَلَّمَ الْإِمَامُ فَيَأْتِي بِهِمَا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ أَمْ لَا؟ قَوْلَانِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. وَأَقُولُ: الْأَظْهَرُ مِنْهُمَا الْحُصُولُ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ الْحَدِيثُ السَّابِقُ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا حُصُولُ الْفَضْلِ، وَلَوْ فَاتَتْهُ بَقِيَّةُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ اخْتِيَارًا خِلَافًا لِتَقْيِيدِ حَفِيدِ بْنِ رُشْدٍ بِمَا إذَا فَاتَهُ وَبَاقِي الصَّلَاةِ اضْطِرَارًا، وَيَدُلُّ لِمَا قُلْنَاهُ أَنَّ إدْرَاكَ رَكْعَةٍ مِنْ الِاخْتِيَارِيِّ بِمَنْزِلَةِ إدْرَاكِ جَمِيعِ الصَّلَاةِ فِي نَفْيِ الْإِثْمِ، وَلَوْ أَخَّرَ اخْتِيَارًا، وَأَيْضًا لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ أَنَّ مَنْ فَاتَهُ بَعْضُ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِمَامِ اخْتِيَارًا يُعِيدُ لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا، وَقَوْلُنَا بِتَحَقُّقِ وَضْعِ الْيَدَيْنِ إلَخْ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ شَكَّ هَلْ وَضَعَهُمَا قَبْلَ رَفْعِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَيُلْغِيهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ شَكَّ فِي الْإِدْرَاكِ أَلْغَاهَا وَيَتَمَادَى مَعَ الْإِمَامِ، قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: وَإِنْ رَكَعَ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ أَيْقَنَ أَنَّهُ إنَّمَا أَدْرَكَهُ رَافِعًا مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنَّهُ لَمْ يُدْرِكْ تِلْكَ الرَّكْعَةَ بِاتِّفَاقٍ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يَخِرُّ سَاجِدًا مَعَ الْإِمَامِ وَلَا يَرْفَعُ، فَإِنْ فَعَلَ وَرَفَعَ جَاهِلًا أَوْ عَامِدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَلَوْ أَتَى بَدَلَهَا بِرَكْعَةٍ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ، وَهَذَا إذَا تَيَقَّنَ عَدَمَ الْإِدْرَاكِ قَبْلَ الرَّفْعِ، وَأَمَّا إذَا لَمْ يَتَيَقَّنْ إلَّا بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَمِثْلُ تَيَقُّنِ عَدَمِ الْإِدْرَاكِ الشَّكُّ، وَلِلْأُجْهُورِيِّ مَا مُحَصِّلُهُ: أَنَّ مَنْ انْحَنَى مَعَ الْإِمَامِ مَعَ تَيَقُّنٍ أَوْ ظَنٍّ أَوْ شَكِّ الْإِدْرَاكِ وَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ يَرْفَعُ مَعَ الْإِمَامِ، فَلَوْ تَرَكَهُ وَخَرَّ سَاجِدًا لَمْ تَبْطُلْ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حِينَ الِانْحِنَاءِ يَتَيَقَّنُ أَوْ يَظُنُّ عَدَمَ الْإِدْرَاكِ وَتَبَيَّنَ لَهُ عَدَمُ الْإِدْرَاكِ فَهَذَا يَخِرُّ سَاجِدًا وَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ رَفَعَ غَيْرَ سَاهٍ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: الْجَمَاعَةُ بِفَرْضٍ غَيْرِ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ سَوَاءٌ كَانَ الْفَرْضُ حَاضِرًا أَوْ فَائِتًا سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، وَأَمَّا فِي الْجُمُعَةِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّهُ سُنَّةٌ فِي الْبَلَدِ وَفِي كُلِّ مَسْجِدٍ وَفِي حَقِّ كُلِّ مُرِيدِ صَلَاةٍ فَيُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ أَنْ يُوقِعَ صَلَاتَهُ فِي جَمَاعَةٍ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ جَامِعًا بَيْنَ أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ: إقَامَةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْبَلَدِ فَرْضُ كِفَايَةٍ يُجْبَرُونَ عَلَى إحْضَارِ ثَلَاثَةٍ فَأَكْثَرَ، فَإِنْ امْتَنَعُوا أُجْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ بِالْقِتَالِ، وَيَكْفِي ثَلَاثَةٌ بِالْإِمَامِ، وَيُسَنُّ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ أَيْضًا إقَامَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ، وَيَنْدُبُ لِلْمُنْفَرِدِ بَعْدَ إقَامَةِ فَرْضِ الْكِفَايَةِ وَالسُّنَّةِ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ يُصَلِّي مَعَهُ، وَاخْتُلِفَ فِيهَا فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَقِيلَ سُنَّةٌ، وَقِيلَ مَنْدُوبَةٌ وَطَلَبُ الْجَمَاعَةِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. قَالَ الْقَيْسِيُّ عَلَى الْعِزِّيَّةِ: وَالنِّسَاءُ فِيهَا كَالرِّجَالِ لِحَدِيثِ. «لَا تَمْنَعُوا إمَاءَ اللَّهِ مَسَاجِدَ اللَّهِ» وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ مِنْ أَنَّ إقَامَتَهَا لِلنِّسَاءِ فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجَمَاعَةُ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ أَحَدِكُمْ وَحْدَهُ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا» وَفِي لَفْظٍ: «بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» وَالْمُرَادُ بِالْجُزْءِ وَالدَّرَجَةِ الصَّلَاةُ، وَجَمَعَ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ حَتَّى لَا يَتَنَافَيَا بِأَنَّ الْجُزْءَ أَكْبَرُ مِنْ الدَّرَجَةِ، أَوْ بِأَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ نَبِيَّهُ أَوَّلًا بِالْقَلِيلِ، ثُمَّ تَفَضَّلَ بِالزِّيَادَةِ فَأَخْبَرَهُ بِهَا ثَانِيًا، وَيُسْتَفَادُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ بِثَمَانٍ وَعِشْرِينَ صَلَاةً، وَاحِدَةٌ كَصَلَاةِ الْفَذِّ وَبِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ لِفَضِيلَةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى رِوَايَةِ سَبْعٍ وَعِشْرِينَ، 1 - وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً كَامِلَةً مَعَ الْإِمَامِ يُحَصِّلُ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى مُعْظَمِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا كَالتَّكْبِيرِ شَرَعَ فِي كَيْفِيَّةِ إتْيَانِهَا بِبَاقِيهَا بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ أَتَى بَقَاءُ التَّفْرِيعِ فَقَالَ: (فَلْيَقْضِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ مَا فَاتَهُ) قَبْلَ دُخُولِهِ مَعَهُ مِنْ الْأَقْوَالِ (عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ) فَمَا قَرَأَ فِيهِ الْإِمَامُ بِأُمِّ الْقُرْآن وَسُورَةٍ جَهْرًا أَوْ سِرًّا يَقْرَأُ فِيهِ كَذَلِكَ. (وَأَمَّا) حَالُهُ (فِي) نَحْوِ (الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فَفِعْلُهُ) فِيهِ (كَفِعْلِ الْبَانِي الْمُصَلِّي وَحْدَهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَقَضَى الْقَوْلَ وَبَنَى الْفِعْلَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَسْبُوقَ الْمُدْرِكَ لِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ مَعَ إمَامِهِ إذَا سَلَّمَ إمَامُهُ وَقَامَ لِيَأْتِيَ بِمَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَقْضِي الْأَقْوَالَ وَيَبْنِي فِي الْأَفْعَالِ، وَحَقِيقَةُ الْقَضَاءِ جَعْلُ مَا فَاتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ أَوَّلَ صَلَاتِهِ، وَمَا أَدْرَكَهُ آخِرَ صَلَاتِهِ، وَالْبِنَاءُ جَعَلَ مَا أَدْرَكَ مَعَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَمَا فَاتَهُ آخِرَ صَلَاتِهِ عَكْسَ الْقَضَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْأَقْوَالِ الْقِرَاءَةُ خَاصَّةً، وَأَمَّا غَيْرُهَا مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ فَهُوَ بَانٍ فِيهِ، فَلِذَا يَجْمَعُ بَيْنَ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَإِذَا أَدْرَكَ ثَانِيَةَ الصُّبْحِ يَقْنُتُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الَّتِي يَقْضِيهَا عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ وَالْجُزُولِيُّ: فَإِنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً مِنْ الْعِشَاءِ قَامَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ فَأَتَى بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لِأَنَّهَا أَوَّلُ صَلَاتِهِ فَهُوَ قَاضٍ ثُمَّ يَجْلِسُ؛ لِأَنَّ الَّتِي أَدْرَكَهَا كَالْأُولَى بِالنِّسْبَةِ لِلْفِعْلِ فَيَبْنِي عَلَيْهَا، ثُمَّ يَأْتِي بِأُخْرَى بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لِأَنَّهُ يَقْضِي الْقَوْلَ وَلَا يَجْلِسُ بَلْ يَقُومُ وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ وَيَجْلِسُ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ طَرِيقَتَانِ سِوَى هَذِهِ: إحْدَاهُمَا أَنَّهُ قَاضٍ فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ بَانٍ فِيهِمَا وَهُوَ مَا عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَائْتُوهَا وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةُ وَالْوَقَارُ فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا» وَرُوِيَ «فَاقْضُوا» فَأَخَذَ أَبُو حَنِيفَةَ بِرِوَايَةِ «فَاقْضُوا» فَجَعَلَهُ قَاضِيًا فِي الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، وَأَخَذَ الشَّافِعِيُّ بِرِوَايَةِ فَأَتِمُّوا فَجَعَلَهُ بَانِيًا فِي الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَجَمَعَ مَالِكٌ بَيْنَ الرِّوَايَتَيْنِ فَحَمَلَ رِوَايَةَ فَأَتِمُّوا عَلَى الْأَفْعَالِ وَرِوَايَةَ فَاقْضُوا عَلَى الْأَقْوَالِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِيمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْمَغْرِبِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ قَاضٍ مُطْلَقًا يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا وَلَا يَجْلِسُ أَيْ بَيْنَهُمَا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهُ بَانَ مُطْلَقًا يَأْتِي بِالثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا وَيَجْلِسُ، ثُمَّ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ سِرًّا، وَعَلَى الْقَوْلِ بِالْقَضَاءِ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ يَأْتِي بِرَكْعَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا وَيَجْلِسُ بَيْنَهُمَا، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبَانِيَ هُوَ الْمُنْفَرِدُ وَالْقَاضِيَ هُوَ الْمَسْبُوقُ وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمُدْرِكِ وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: فَفَعَلَهُ أَيْ الْمُدْرِكُ لِرَكْعَةٍ فَأَكْثَرَ مَعَ الْإِمَامِ فِي حَالِ قَضَاءِ مَا سَبَقَهُ بِهِ الْإِمَامُ الْمُنْفَرِدُ فِي حَالِ بِنَائِهِ حَتَّى يُفْسِدَ بَعْضَ رَكَعَاتِهِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَيَبْنِي عَلَيْهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: كَفِعْلِ الْبَانِي الْمُصَلِّي وَحْدَهُ إشْكَالٌ مِنْ حَيْثُ أَنَّهُ أَحَالَ الْمُدْرِكُ بِفِعْلِهِ عَلَى الْبَانِي وَهُوَ لَمْ يُبَيِّنْ صُورَةَ الْبَانِي فَأَحَالَ مَجْهُولًا عَلَى مَجْهُولٍ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشُّيُوخِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِجَعْلِ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ تَفْسِيرًا لَلْبَانِي فَكَأَنَّهُ قَالَ: فِعْلُهُ كَفِعْلِ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ، وَقَدْ بَيَّنَ فِعْلَ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ فِي بَابِ صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ فِيمَا تَقَدَّمَ، فَلَيْسَ فِيهِ إحَالَةٌ عَلَى مَجْهُولٍ بَلْ عَلَى مَعْلُومٍ، وَأَمَّا ابْنُ عُمَرَ فَقَدْ سَلِمَ الْإِشْكَالُ وَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ تَفْسِيرِ الْبَانِي بِالْمُصَلِّي وَحْدَهُ زَوَالُ الْإِشْكَالِ،؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ كَيْفَ يَفْعَلُ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ إذَا تَبَيَّنَّ لَهُ فَسَادُ بَعْضِ صَلَاتِهِ، وَفَسَّرَ الْبَانِي بِأَنَّهُ الَّذِي يُصَلِّي صَلَاتَهُ إلَى آخِرِهَا، ثُمَّ يَذْكُرُ مَا يُفْسِدُ لَهُ بَعْضَ صَلَاتِهِ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ خَلِيلٍ: وَرَجَعَتْ الثَّانِيَةُ أَوْلَى بِبُطْلَانِهَا لِفَذٍّ وَإِمَامٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْعَلُ مَا صَحَّ عِنْدَهُ أَوَّلَ صَلَاتِهِ وَصُوَرُهُ ثَلَاثٌ: إحْدَاهَا أَنْ يَذْكُرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ رَكْعَةً إمَّا بِتَرْكِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ مَثَلًا، وَيُوَازِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُدْرِكِ الَّذِي كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِيهِ أَنْ تَفُوتَهُ رَكْعَةٌ مَعَ الْإِمَامِ. ثَانِيَتُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ رَكْعَتَيْنِ وَيُوَازِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُدْرِكِ أَنْ تَفُوتَهُ رَكْعَتَانِ. ثَالِثَتُهُمَا: أَنْ يَذْكُرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ وَيُوَازِي هَذَا مِنْ حَالِ الْمُدْرِكِ أَنْ تَفُوتَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ. وَأَمَّا إنْ ذَكَرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ جَمِيعَهَا فَلَا عَمَلَ عِنْدَهُ فِيهَا وَهُوَ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُدْرِكْ مِنْ الصَّلَاةِ شَيْئًا، وَصُورَةُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنْ يَجْعَلَ الْإِمَامَ عَلَى حِدَةٍ وَالْبَانِي عَلَى حِدَةٍ وَالْمُدْرِكُ وَاسِطَةٌ بَيْنَهُمَا، فَيَفْعَلُ أَيْ الْمُدْرِكُ وَهُوَ الْمَسْبُوقُ بِبَعْضِ صَلَاتِهِ مَعَ الْإِمَامِ فِي الْقِرَاءَةِ كَفِعْلِ الْإِمَامِ وَيَفْعَلُ فِي الْأَفْعَالِ كَفِعْلِ الْبَانِي فَقَدْ أَخَذَ مِنْ كُلِّ طَرَفٍ شَيْئًا وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَلْيَقْضِ عَلَى نَحْوِ مَا فَعَلَ الْإِمَامُ فِي الْقِرَاءَةِ، وَأَمَّا فِي الْقِيَامِ وَالْجُلُوسِ فَكَالْبَانِي الْمُصَلِّي وَحْدَهُ، وَوَجْهُ الْعَمَلِ فِي الْبَانِي أَنْ يَجْعَلَ مَا صَحَّ عِنْدَهُ هُوَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ فَيَبْنِي عَلَيْهِ، وَيَأْتِي بِمَا فَسَدَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا يَفْعَلُ فِي ابْتِدَاءِ صَلَاتِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ الرَّكْعَةَ الْأُولَى مِنْ الْعِشَاءِ مَثَلًا وَهُوَ فِي حَالِ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ وَيَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ لِنَقْصِ السُّجُودِ وَالْجُلُوسِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ؛ لِأَنَّهُ أَتَى بِهِ بَعْدَ رَكْعَةٍ وَزَادَ الرَّكْعَةَ الْمُلْغَاةَ. وَالْمُدْرِكُ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ يَفْعَلُ كَفِعْلِ الْإِمَامِ فِيهَا، وَيُخَالِفُهُ فِي الْجُلُوسِ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمْ يَجْلِسْ فِيهَا، وَجَلَسَ هُوَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا رَابِعَةٌ لَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ خَاصَّةً، وَتَكُونُ صَلَاتُهُ كُلُّهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ السُّورَتَيْنِ وَزَادَ الرَّكْعَتَيْنِ الْفَاسِدَتَيْنِ وَنَقَصَ الْجُلُوسَ؛ لِأَنَّهُ ظَهَرَ فِعْلُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ، وَأَمَّا الْمُدْرِكُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ جَهْرًا؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ قَرَأَ فِيهِمَا كَذَلِكَ فِي آخَرِ صَلَاتِهِ، وَإِنْ ذَكَرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ ثَلَاثَ رَكَعَاتٍ أَتَى بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ وَيَجْلِسُ لِأَنَّهَا ثَانِيَتُهُ، وَيَقُومُ فَيَأْتِي بِالرَّكْعَتَيْنِ الْبَاقِيَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَيَسْجُدُ أَيْضًا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ نَقَصَ السُّورَةَ وَزَادَ الرَّكَعَاتِ الْفَاسِدَةَ، وَهَذَا الْكَلَامُ فِي الْبَانِي عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ الَّذِي مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَخَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَرَجَعَتْ ثَانِيَتُهُ أَوْلَى بِبُطْلَانِهَا لِفَذٍّ وَإِمَامٍ لِانْقِلَابِ رَكَعَاتِهِمَا، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِمَا فَسَدَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَفْسَدَهُ. وَأَمَّا الْمُدْرِكُ إذَا فَاتَهُ ثَلَاثُ رَكَعَاتٍ فَإِنَّهُ يَقُومُ وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ وَيَجْعَلُهَا مَعَ الَّتِي أَدْرَكَ، وَيَجْلِسُ بَعْدَهَا، فَوَافَقَ فِي هَذَا الْفِعْلِ الْبَانِيَ، ثُمَّ يَقُومُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ، ثُمَّ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَهَذَا وَجْهُ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثِ صُوَرٍ الَّتِي تُتَصَوَّرُ فِي الْبَانِي وَالْمُدْرِكِ، وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 الْجَمَاعَةِ لِلْفَضْلِ فِي ذَلِكَ إلَّا الْمَغْرِبَ وَحْدَهَا وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَلَا يُعِيدُهَا فِي جَمَاعَةٍ وَمَنْ   [الفواكه الدواني] ذَكَرَ الْبَانِي أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ تَرَكَ مِنْ كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْهَا، فَإِنْ كَانَ تَذَكَّرَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ سَجْدَةً فِي الصُّورَةِ الْأُولَى وَسَجْدَتَيْنِ فِي الثَّانِيَةِ وَتَصِيرُ الرَّابِعَةُ أَوْلَى فَيَبْنِي عَلَيْهَا لِبُطْلَانِ الثَّلَاثِ الْأُولَى، لِفَوَاتِ تَدَارُكِ إصْلَاحِ كُلِّ رَكْعَةٍ بِعَقْدِ مَا بَعْدَهَا وَعَقْدُهَا بِالِانْحِنَاءِ فِيهَا وَقَبْلَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي تَلِيهَا، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، ثُمَّ يَأْتِي بِثَانِيَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ وَيَجْلِسُ ثُمَّ بِرَكْعَتَيْنِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةَ الرَّكَعَاتِ الْبَاطِلَةِ وَنَقْصَ السُّورَةِ مِنْ الرَّابِعَةِ الَّتِي صَارَتْ أَوْلَى، وَإِنْ تَذَكَّرَ بَعْدَ السَّلَامِ بَطَلَتْ الصَّلَاةُ كُلُّهَا؛ لِأَنَّ السَّلَامَ يُفَوِّتُ تَدَارُكَ الْأَخِيرَةِ، وَهَذِهِ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَبَطَلَتْ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي مِثْلُ الْأَرْبَعِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا لَوْ ذَكَرَ الْبَانِي أَنَّهُ تَرَكَ سَجْدَةً أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهَا وَلَا يَدْرِي مِنْ أَيِّ رَكْعَةٍ هِيَ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَخِرُّ سَاجِدًا لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ الرَّكْعَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا، وَلَمْ يَفُتْ تَدَارُكِهَا وَبَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إنْ كَانَ تَذَكُّرُهُ أَوْ شَكُّهُ وَهُوَ فِي الْجِلْسَةِ الْأَخِيرَةِ يَأْتِي بَعْدَ السَّجْدَةِ بِرَكْعَةٍ بِفَاتِحَةٍ فَقَطْ لِانْقِلَابِ رَكَعَاتِهِ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ مِنْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ وَرَجَعَتْ الَّتِي لَا سُورَةَ فِيهَا مَكَانَهَا، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ شَكَّ فِي سَجْدَةٍ لَمْ يَدْرِ مَحَلَّهَا سَجَدَهَا. وَفِي الْأَخِيرَةِ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ وَفِي قِيَامِ ثَالِثَتِهِ بِثَلَاثٍ وَرَابِعَتِهِ بِرَكْعَتَيْنِ وَتَشَهُّدٍ أَيْ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِالسَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ الْإِتْيَانِ بِهَا ثَبَتَ لَهُ رَكْعَتَانِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ مُحَقَّقٌ سِوَاهُمَا. الثَّانِي: قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ كَفِعْلِ الْبَانِي دُونَ قَيْدِ الْمُصَلِّي وَحْدَهُ لَكَانَ أَتَمَّ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَالْفَذِّ فِي الْبِنَاءِ عَلَى مَا صَحَّ مِنْ صَلَاتِهِمْ عِنْدَ تَبَيُّنِ فَسَادِ بَعْضِهَا سَوَاءً اهـ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: فِي كَلَامِهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ يُخَالِفُ الْفَذَّ وَالْإِمَامَ لِانْقِلَابِ رَكَعَاتِهِمَا، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَلَا تَنْقَلِبُ رَكَعَاتُهُ إلَّا تَبَعًا لِإِمَامِهِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ تَنْقَلِبْ رَكَعَاتُ إمَامِهِ لَمْ تَنْقَلِبْ رَكَعَاتُهُ، وَيَأْتِي بِمَا فَسَدَ لَهُ عَلَى صُورَةِ مَا فَسَدَ. الثَّالِثُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِيمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَلْيَقْضِ يُوهِمُ اخْتِصَاصَ هَذَا الْحُكْمِ بِالْمُدْرِكِ، وَيُعَبِّرُ عَنْهُ بِالْمَسْبُوقِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِثْلُهُ مَنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ أَوَّلِ الصَّلَاةِ إلَى آخِرِهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ رَكْعَةً أَوْ أَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ صَارَ مِثْلَ الْمَسْبُوقِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا بَقِيَ عَلَيْهِ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ بَعْضُ صَلَاتِهِ فَيَقُومُ قَاضِيًا فِي الْأَقْوَالِ بَانِيًا فِي الْأَفْعَالِ. الرَّابِعُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ سُجُودِ السَّهْوِ لِظُهُورِ أَمْرِهِ؛ لِأَنَّ الْبَانِيَ يَسْجُدُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ؛ لِأَنَّ مَعَهُ زِيَادَةً وَرُبَّمَا يَنْضَمُّ لَهَا نَقْصٌ، بِخِلَافِ الْمُدْرِكِ قَدْ لَا يَحْصُلُ لَهُ نَقْصٌ وَلَا زِيَادَةٌ، نَعَمْ إنْ كَانَ عَلَى إمَامِهِ سُجُودٌ يُخَاطَبُ بِهِ أَوْ حَصَلَ لَهُ بَعْدَ قِيَامِهِ لِقَضَاءِ مَا عَلَيْهِ مَا يُوجِبُ السُّجُودَ يَسْجُدُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ وَتَسْهِيلًا عَلَى الطَّالِبِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَمَنْ أَدْرَكَ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ) فَرِيضَةً أَوْ صَلَّاهَا مَعَ صَبِيٍّ وَلَمْ يَكُنْ إمَامًا رَاتِبًا صَلَّى فِي مَحَلِّهِ بِشَرْطِهِ (فَلَهُ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (أَنْ يُعِيدَ) صَلَاتَهُ وَلَوْ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ (فِي الْجَمَاعَةِ) اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ لَا مَعَ وَاحِدٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامًا رَاتِبًا، خِلَافًا لِظَاهِرِ خَلِيلٍ فِي قَوْلِهِ: وَلَوْ مَعَ وَاحِدٍ فَإِنَّ ظَاهِرَهُ يُصَدِّقُ بِغَيْرِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ ابْنَ عَرَفَةَ أَنْكَرَ الْقَوْلَ بِالْإِعَادَةِ مَعَ الْوَاحِدِ غَيْرِ الْإِمَامِ الرَّاتِبِ، وَيَنْوِي بِإِعَادَتِهِ الْفَرْضَ مَعَ التَّفْوِيضِ لِاحْتِمَالِ تَبَيُّنِ عَدَمِ صِحَّةِ الْأُولَى فَتَجْزِيهِ هَذِهِ الْمُعَادَةُ، وَأَمَّا لَوْ صَلَّاهَا مَعَ بَالِغٍ وَلَوْ امْرَأَةً فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْفَضْلُ، وَكَذَا لَوْ كَانَ إمَامًا رَاتِبًا صَلَّى فِي مَحَلِّهِ الْمُعْتَادِ لَهُ بَعْدَ الْأَذَانِ وَانْتِظَارِ الْجَمَاعَةِ فَقَدْ حَصَلَ لَهُ الْفَضْلُ لِقَوْلِ خَلِيلٍ وَالْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي: وَالْإِمَامُ الرَّاتِبُ كَجَمَاعَةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ الْإِعَادَةِ بِقَوْلِهِ: (لِلْفَضْلِ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ وَهُوَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً» أَيْ صَلَاةً، وَتَنْدُبُ إعَادَتُهَا لِذَلِكَ الْفَضْلِ. وَلَوْ كَانَ صَلَّاهَا وَحْدَهَا أَوَّلَ الْوَقْتِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْجَمَاعَةِ عَلَى الِانْفِرَادِ، بِخِلَافِ أَفْضَلِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا عَلَى فِعْلِهَا جَمَاعَةً آخِرَهُ، وَمَحَلُّ نَدْبِ إعَادَةِ مَنْ صَلَّى وَحْدَهُ أَنْ لَا يَكُونَ صَلَّاهَا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ: مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ وَإِلَّا لَمْ تَنْدُبُ إعَادَتُهَا؛ لِأَنَّ فَذَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَةِ غَيْرِهَا فَكَيْفَ يُعِيدُ؟ وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ صَلَّى فِي وَاحِدٍ مِنْهَا لَا يُعِيدُ فِي غَيْرِهَا وَلَوْ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ وَاحِدًا مِنْهَا بَعْدَ أَنَّ صَلَّى فِي بَعْضِهَا فَذًّا فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي الْبَعْضِ الْآخَرِ فِي جَمَاعَةٍ لَا فَذٍّ، وَلَوْ كَانَ مَا دَخَلَ فِيهِ أَفْضَلَ مِمَّا صَلَّى فَذًّا فِيهِ، وَأَمَّا مَنْ صَلَّى فِي غَيْرِهَا مُنْفَرِدًا اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا فِيهَا وَلَوْ مُنْفَرِدًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ صَلَّى فِي غَيْرِهَا جَمَاعَةً فَلَا يُعِيدُ فِيهَا إلَّا فِي جَمَاعَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ لِلَّخْمِيِّ يُعِيدُهَا وَلَوْ فَذًّا وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِهِمْ: أَنَّ فَذَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَةٍ غَيْرِهَا، وَلَمَّا كَانَ مَفْعُولُ صَلَّى يُؤْذِنُ بِالْعُمُومِ لِحَذْفِهِ اسْتَثْنَى مِنْهُ مَا لَا يُعَادُ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا الْمَغْرِبَ وَحْدَهَا) كَانَ عَلَيْهِ أَنْ يَزِيدَ: وَإِلَّا الْعِشَاءَ بَعْدَ الْوِتْرِ فَتَحْرُمُ إعَادَتُهَا لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ تَعْبِيرِ التَّوْضِيحِ بِالْمَنْعِ، وَصَرَّحَ بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ الْمَغْرِبَ وِتْرُ صَلَاةِ النَّهَارِ وَبِالْإِعَادَةِ تَصِيرُ شَفْعًا، فَإِنْ اقْتَحَمَ النَّهْيَ وَأَعَادَ الْمَغْرِبَ قَطَعَ مَا لَمْ يَرْكَعْ وَإِلَّا شَفَّعَهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثٍ شَفَّعَهَا بِوَاحِدَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَعَادَ وَلَمْ يَقْعُدْ قَطَعَ وَإِلَّا شَفَّعَ، وَإِنْ أَتَمَّ وَلَوْ سَلَّمَ أَتَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 لَمْ يُدْرِكْ إلَّا التَّشَهُّدَ أَوْ الْجُلُوسَ فَلَهُ أَنْ يُعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ وَالرَّجُلُ الْوَاحِدُ مَعَ الْإِمَامِ يَقُومُ عَنْ يَمِينِهِ وَيَقُومُ الرَّجُلَانِ فَأَكْثَرَ خَلْفَهُ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مَعَهُمَا قَامَتْ خَلْفَهُمَا، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا رَجُلٌ صَلَّى عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ خَلْفَهُمَا وَمَنْ   [الفواكه الدواني] بِرَابِعَةٍ إنْ قَرُبَ، وَإِنَّمَا حُرِّمَ إعَادَةُ الْعِشَاءِ بَعْدَ الْوِتْرِ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ اجْتِمَاعِ وِتْرَيْنِ فِي لَيْلَةٍ إنْ أَعَادَ الْوِتْرَ، وَمِنْ مُخَالِفَةِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اجْعَلُوا آخِرَ صَلَاتِكُمْ مِنْ اللَّيْلِ وِتْرًا» إنْ لَمْ يُعِدْهُ فَإِنْ اقْتَحَمَ النَّهْيَ وَأَعَادَ الْعِشَاءَ فَالظَّاهِرُ مِنْ التَّفْرِيعِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ عَلَى إعَادَةِ الْمَغْرِبِ فَقَطْ قَطَعَ الْعِشَاءَ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ قَطْعِ الْعِشَاءِ مُطْلَقًا وَشَفْعِ الْمَغْرِبِ بَعْدَ عَقْدِهَا مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْعِشَاءَ بَعْدَ الْوِتْرِ لَا يُتَنَفَّلُ بَعْدَهَا، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ ذَلِكَ فِي الْمَغْرِبِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت أَنَّ الْعِشَاءَ بَعْدَ الْوِتْرِ كَالْمَغْرِبِ فِي عَدَمِ الْإِعَادَةِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ عَلِمْت أَنَّ اقْتِصَارَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْمَغْرِبِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ؛ لِأَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِغَيْرِ الْمَشْهُورِ، وَعَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ مِنْ إعَادَةِ الْعِشَاءِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ بَعْدَ الْوِتْرِ فَهَلْ يُعَادُ الْوِتْرُ أَوْ لَا؟ قَوْلَانِ لِسَحْنُونٍ وَغَيْرِهِ. الثَّانِي: الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ بَعْدَ الْوِتْرِ وَإِنْ كَانَا لَا يُعَادَانِ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ يُعَادَانِ لِلتَّرْتِيبِ وَلِلصَّلَاةِ بِالنَّجَاسَةِ نِسْيَانًا، وَيُعَادُ الْوِتْرُ فِي الصُّورَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْإِعَادَةَ لِلْحِلِّ آكَدُ مِنْهَا لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ. (وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ) وَلَوْ مَعَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ (فَلَا يُعِيدُهَا فِي الْجَمَاعَةِ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَلَوْ كَانَتْ الثَّانِيَةُ أَفْضَلَ وَأَكْثَرَ عَدَدًا؛ لِأَنَّ الْفَضْلَ الَّذِي تُشَرَّعُ لِأَجْلِهِ الْإِعَادَةُ قَدْ حَصَلَ، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ ابْتِدَاءً مَعَ الْفُضَلَاءِ وَفِي الْجُمُوعِ الْكَثِيرَةِ أَفْضَلَ، إلَّا أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ لَا تُشَرَّعُ لِأَجْلِهِ الْإِعَادَةُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت أَنَّ الصَّلَاةَ مَعَ وَاحِدٍ كَالصَّلَاةِ مَعَ الْجَمَاعَةِ عَلِمْت أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ؛ لِأَنَّهُ يُوهِمُ أَنَّ مَنْ صَلَّى مَعَ وَاحِدٍ يُعِيدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. الثَّانِي: مَفْهُومُ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْمُصَلِّيَ وَحْدَهُ يُعِيدُ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ الْإِمَامَ الرَّاتِبَ حُكْمُهُ حُكْمُ الْجَمَاعَةِ فِي أَنَّهُ إنْ صَلِّي وَحْدَهُ يَحْصُلُ لَهُ الْفَضْلُ وَلَا يُعِيدُ مَفْهُومُ مَا هُنَا بِمَا يَأْتِي. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَلَا يُعِيدُهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْإِعَادَةَ مَعَهَا فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجِبُ تَقْيِيدُ كَلَامِهِ بِمَا إذَا كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الَّتِي يُرِيدُ الْإِعَادَةَ مَعَهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ أَوْ كَانَتْ الْجَمَاعَةُ الْأُولَى فِي أَحَدِهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ الْأُولَى فِي غَيْرِهَا وَالثَّانِيَةُ فِيهَا فَيَنْدُبُ لَهُ الْإِعَادَةُ مَعَهَا لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ فِي غَيْرِهَا فِي جَمَاعَةٍ يُعِيدُ فِيهَا جَمَاعَةً لِأَنَّ جَمَاعَتَهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَةِ غَيْرِهَا. الرَّابِعُ: قَوْلُهُ هُنَا وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً إلَخْ لَيْسَ مُكَرَّرًا مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلِ الْبَابِ: وَمَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الْجَمَاعَةَ؛ لِأَنَّ مَا تَقَدَّمَ قَصَدَ بِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مُدْرِكَ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ مَعَ الْإِمَامِ يَحْصُلُ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ، وَمَا هُنَا قَصَدَ بِهِ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّ مُحَصِّلَ الْفَضْلِ تَحْرُمُ عَلَيْهِ إعَادَةُ الصَّلَاةِ لِلْفَضْلِ الْحَاصِلِ، وَلَا يُقَالُ: مِنْ الْأَوَّلِ يُفْهَمُ الثَّانِي؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ فَهْمِ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ كَوْنُهُ مَقْصُودًا مِنْهُ. (وَ) مَفْهُومُ إدْرَاكِ رَكْعَةٍ إلَخْ أَنَّ (مَنْ لَمْ يُدْرِكْ) مَعَ الْإِمَامِ (إلَّا التَّشَهُّدَ الْأَخِيرَ أَوْ الْجُلُوسَ) وَنَحْوَهُمَا مِمَّا لَيْسَ بِرَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ (فَلَهُ) عَلَى النَّدْبِ (أَنْ يُعِيدَ) تِلْكَ الصَّلَاةَ (فِي جَمَاعَةٍ) أُخْرَى لِيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ كَمَنْ صَلَّاهَا ابْتِدَاءً وَحْدَهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْتَغْنِ بِمَا تَقَدَّمَ عَنْ هَذِهِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِحُصُولِ الْفَضْلِ بِإِدْرَاكِ مَا دُونَ رَكْعَةٍ أَوْ لِمُجَرَّدِ رَفْعِ تَوَهُّمِ اعْتِقَادِ حُصُولِ الْفَضْلِ لَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ لِلْإِشَارَةِ إلَى مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مَعَ الْإِمَامِ لَهُ أَنْ يَقْطَعَ وَيُدْرِكَ جَمَاعَةً أُخْرَى يَرْجُوهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْجُ جَمَاعَةً كَمَّلَ صَلَاتَهُ وَلَا يَقْطَعُهَا حَيْثُ كَانَ غَيْرَ مُعِيدٍ لِفَضْلِ الْجَمَاعَةِ، وَأَمَّا الْمُعِيدُ لِفَضْلِهَا فَإِنَّهُ إنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً يُشَفِّعُ نَدْبًا حَيْثُ كَانَتْ الصَّلَاةُ الْأُولَى مِمَّا يَنْتَفِلُ بَعْدَهَا كَمَا فِي الْجَلَّابِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَحَلِّ وُقُوفِ الْمَأْمُومِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ أَحْكَامِهِ بِقَوْلِهِ: (وَالرَّجُلُ الْوَاحِدُ) وَمِثْلُهُ الصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْقُرْبَةَ إذَا صَلَّى وَاحِدًا مِنْهُمَا (مَعَ الْإِمَامِ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَقُومَ) أَيْ يُصَلِّيَ (عَنْ) أَيْ جِهَةَ (يَمِينِهِ) وَيُنْدَبُ لَهُ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْهُ قَلِيلًا بِحَيْثُ يَتَمَيَّزُ الْإِمَامُ مِنْ الْمَأْمُومِ وَتُكْرَهُ مُحَاذَاتُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: بِتُّ فِي بَيْتِ خَالَتِي مَيْمُونَةَ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي فَقُمْت عَنْ يَسَارِهِ فَأَخَذَ بِيَدَيَّ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ فَعَدَلَنِي كَذَلِكَ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِهِ إلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ» وَإِنَّمَا لَمْ يُدِرْهُ مِنْ أَمَامِهِ لِئَلَّا يَمُرَّ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي. (وَ) مَفْهُومُ الْوَاحِدِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقُومَ) أَيْ يُصَلِّيَ (الرَّجُلَانِ فَأَكْثَرَ خَلْفَهُ) لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «قُمْت عَنْ يَسَارِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدَيَّ فَأَدَارَنِي حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، ثُمَّ جَاءَ جَابِرُ بْنُ صَخْرٍ فَقَامَ عَنْ يَسَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 صَلَّى بِزَوْجَتِهِ قَامَتْ خَلْفَهُ وَالصَّبِيُّ إنْ صَلَّى مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ خَلْفَ الْإِمَامِ قَامَا خَلْفَهُ إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ لَا يَذْهَبُ وَيَدْعُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ وَالْإِمَامُ الرَّاتِبُ إنْ صَلَّى وَحْدَهُ قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ وَيُكْرَهُ فِي كُلِّ مَسْجِدٍ لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ أَنْ تُجْمَعَ فِيهِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ وَمَنْ صَلَّى صَلَاةً فَلَا يَؤُمُّ فِيهَا أَحَدًا وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ فَلْيَتْبَعْهُ مَنْ لَمْ يَسْهُ مَعَهُ مِمَّنْ خَلْفَهُ   [الفواكه الدواني] رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخَذَ بِيَدَيْنَا جَمِيعًا فَدَفَعَنَا حَتَّى أَقَامَنَا خَلْفَهُ» وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ كَانَ وَاحِدٌ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ أَنَّهُمَا يَتَأَخَّرَانِ خَلْفَ الْإِمَامِ وَلَا يُؤْمَرُ الْإِمَامُ بِالتَّقَدُّمِ أَمَامَهُمَا بَلْ يَسْتَمِرُّ وَاقِفًا وَهُمَا الْمَأْمُورَانِ بِالتَّأَخُّرِ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَبِتَأْوِيلِنَا يَقُومُ فَيُصَلِّي يَشْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْمُصَلِّيَ جَالِسًا. (فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مَعَهُمَا) أَيْ مَعَ الرَّجُلَيْنِ (قَامَتْ خَلْفَهُمَا) وَلَا تَقِفُ فِي صَفِّهِمَا لِخَبَرِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: «صَلَّيْت أَنَا وَالْيَتِيمُ وَرَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْعَجُوزُ مِنْ وَرَائِنَا» وَالْيَتِيمُ حَمْزَةُ وَالْعَجُوزُ أُمُّ سُلَيْمٍ. (فَإِنْ كَانَ مَعَهُمَا) أَيْ مَعَ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةِ بِقَرِينَةِ اسْمِ كَانَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ إلَّا الْإِمَامُ وَالْمَرْأَةُ (رَجُلٌ) وَمِثْلُهُ الصَّبِيُّ الَّذِي يَعْقِلُ الْقُرْبَةَ (صَلَّى) الرَّجُلُ وَمَنْ فِي حُكْمِهِ (عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ وَالْمَرْأَةُ) تُصَلِّي (خَلْفَهُمَا) لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِ وَبِأُمِّهِ أَوْ خَالَتِهِ وَأَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَعْقِلُ الصَّلَاةَ وَأَقَامَ الْمَرْأَةَ خَلْفَنَا» وَحُكْمُ جَمَاعَةِ النِّسْوَةِ مَعَ الْإِمَامِ وَالرَّجُلِ حُكْمُ الْوَاحِدَةِ مَعَهُمَا، وَسَيَأْتِي ذَلِكَ فِي بَابِ الْجُمُعَةِ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْمَنْدُوبِ: كَوُقُوفِ ذَكَرٍ عَنْ يَمِينِهِ وَاثْنَيْنِ خَلْفَهُ وَصَبِيٍّ عَقَلَ الْقُرْبَةَ كَالْبَالِغِ وَالنِّسَاءِ خَلْفَ الْجَمِيعِ. (وَمَنْ صَلَّى بِزَوْجَتِهِ) الْمُرَادُ بِامْرَأَةٍ وَلَوْ أَجْنَبِيَّةً (قَامَتْ خَلْفَهُ) وَلَا تَقِفُ عَنْ يَمِينِهِ، فَلَوْ وَقَفَتْ بِجَنْبِهِ كَالرَّجُلِ كُرِهَ لَهَا ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُشِيرَ لَهَا بِالتَّأْخِيرِ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْمُحَاذَاةِ إلَّا أَنْ يَحْصُلُ مَا يُبْطِلُ الطَّهَارَةَ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِمَّا مَرَّ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ كَخَلِيلٍ حُكْمُ وُقُوفِ الْخُنْثَى، وَيَنْبَغِي أَنَّ حُكْمَهُ مَعَ الْإِمَامِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ رِجَالٍ كَالْأُنْثَى، وَأَمَّا مَعَ رِجَالٍ وَإِنَاثٍ فَيَقِفُ خَلْفَ الرِّجَالِ وَالْأُنْثَى الْمُحَقَّقَةُ خَلْفَهُ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُهُمْ وَحَرَّرَهُ. (وَالصَّبِيُّ إنْ صَلَّى مَعَ رَجُلٍ وَاحِدٍ خَلْفَ الْإِمَامِ) الْمُرَادُ اقْتَدَيَا بِهِ (فَإِمَّا خَلْفَهُ) كَالْبَالِغِينَ لَكِنْ بِشَرْطِ (إنْ كَانَ الصَّبِيُّ يَعْقِلُ) الْقُرْبَةَ بِحَيْثُ (لَا يَذْهَبُ وَيَدْعُ مَنْ يَقِفُ مَعَهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَصَبِيٌّ عَقَلَ الْقُرْبَةَ كَالْبَالِغِ، وَأَمَّا الَّذِي لَا يَعْقِلُ فَيَتْرُكُهُ الْإِمَامُ يَقِفُ كَيْفَ شَاءَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ هَذَا التَّرْتِيبَ وَكَذَا الْوُقُوفَ خَلْفَ الْإِمَامِ مُسْتَحَبٌّ، وَخِلَافُهُ مَكْرُوهٌ وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ التَّقَدُّمِ عَلَى الْإِمَامِ وَمُحَاذَاتِهِ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ. 1 - الثَّانِي: مِمَّا يُسْتَحَبُّ فِي الصَّلَاةِ أَيْضًا تَسْوِيَةُ الصُّفُوفِ وَاتِّصَالُهَا، وَيُكْرَهُ عَدَمُ تَسْوِيَتِهَا أَوْ تَقْطِيعُهَا، وَكَذَلِكَ لَا يُشْرَعُ فِي الصَّفِّ الثَّانِي إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الْأَوَّلِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَوَّلِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ بِالْمَقْصُورَةِ أَوْ الْمِنْبَرِ، وَسَوَاءٌ قَرُبَ صَاحِبُهُ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ بَعُدَ عَنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ إيقَاعُ الصَّلَاةِ فِيهِ؛ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِيقَاعُ الْفَرْضِ بِالصَّفِّ الْأَوَّلِ لِخَبَرِ: «إنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ ثَلَاثًا عَلَى أَهْلِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَوَاحِدَةً مَنْ يَلِيهِ» وَيَحْصُلُ فَضْلُ الْجَمَاعَةِ عِنْدَنَا وَلَوْ صَلَّى فِي غَيْرِ الصَّفِّ اخْتِيَارًا، وَإِنَّمَا يَفُوتُهُ ثَوَابُ الصَّلَاةِ فِي الصَّفِّ حَيْثُ تَرَكَ الدُّخُولَ فِيهِ اخْتِيَارًا لَا لِضَرُورَةٍ فَيَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ لِنِيَّةِ الدُّخُولِ فِيهِ لَوْلَا الْمَانِعُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَلَاةُ مُنْفَرِدٍ خَلْفَ صَفٍّ أَيْ يَحْصُلُ مَعَهَا فَضْلُ الْجَمَاعَةِ، وَإِنْ كُرِهَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الدُّخُولِ فِي الصَّفِّ (وَالْإِمَامُ الرَّاتِبُ) وَهُوَ الَّذِي نَصَّبَهُ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ عَلَى وَجْهٍ يَجُوزُ أَوْ يُكْرَهُ أَوْ نَصَّبَهُ وَاقِفُ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ وَاجِبُ الِاتِّبَاعِ وَإِنْ كَانَ بِمَكْرُوهٍ، وَكَذَلِكَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ لِوُجُوبِ اتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَإِنْ أَمَرَ بِمَكْرُوهٍ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي بِمَفْهُومِهِ أَنَّ طَاعَةَ السُّلْطَانِ وَاجِبَةٌ فِي أَمْرِهِ بِالْمَكْرُوهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الرَّاتِبُ مَنْصُوبًا فِي مَسْجِدٍ أَوْ سَفِينَةٍ أَوْ فِي مَكَان جَرَتْ الْعَادَةُ بِالْجَمْعِ فِيهِ، سَوَاءٌ كَانَ فِي جَمِيعِ الصَّلَوَاتِ أَوْ بَعْضِهَا. (إنْ صَلَّى وَحْدَهُ) فِي مَكَانِهِ الَّذِي نُصِّبَ لِلصَّلَاةِ فِيهِ (قَامَ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ) فِي حُصُولِ فَضْلِهَا لَهُ وَهُوَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ أَوْ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ صَلَاةً زِيَادَةً عَلَى صَلَاةِ الْفَذِّ، فَتَصِيرُ ثَمَانِيَةً وَعِشْرِينَ أَوْ سِتَّةً وَعِشْرِينَ، وَجَعَلْنَا التَّمْيِيزَ صَلَاةً؛ لِأَنَّهَا الْمُرَادَةُ بِالْجُزْءِ أَوْ الدَّرَجَةِ فِي الْحَدِيثِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْإِمَامُ الرَّاتِبُ كَجَمَاعَةٍ فَلَا يُعِيدُ فِي جَمَاعَةٍ لِحُصُولِ الْفَضْلِ لَهُ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ أَنْ يَجْمَعَ فِي مَحَلِّهِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَجْمَعَ لَيْلَةَ الْمَطَرِ حَيْثُ كَانَ مَنْزِلُهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَيَقْتَصِرُ عَلَى: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقِيلَ: يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا وَبَيْنَ: رَبَّنَا وَلَكَ الْحَمْدُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي قِيَامِهِ مَقَامَ الْجَمَاعَةِ صَلَاتُهُ فِي وَقْتِهِ الْمُعْتَادِ وَانْتِظَارُ النَّاسِ عَلَى الْعَادَةِ وَنِيَّةُ الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ. قَالَ سَنَدٌ: إذَا أَقَامَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ لَمْ يَنْدُبْ لَهُ طَلَبُ جَمَاعَةٍ فِي مَسْجِدٍ آخَرَ بَلْ يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ، وَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِهِ. (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ (فِي كُلِّ مَسْجِدٍ) أَوْ مَا فِي حُكْمِهِ مِمَّا (لَهُ إمَامٌ رَاتِبٌ) عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي قَدَّمْنَا (أَنْ تُجْمَعَ فِيهِ الصَّلَاةُ مَرَّتَيْنِ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَإِعَادَةُ جَمَاعَةٍ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وَلَا يَرْفَعُ أَحَدٌ رَأْسَهُ قَبْلَ الْإِمَامِ، وَلَا يَفْعَلُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ وَيَفْتَتِحْ بَعْدَهُ وَيَقُومُ مِنْ اثْنَتَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ وَيُسَلِّمُ بَعْدَ سَلَامِهِ وَمَا   [الفواكه الدواني] الرَّاتِبِ، وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ، لَكِنْ عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ أَحْسَنُ مِنْ عِبَارَةِ خَلِيلٍ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا: يُكْرَهُ جَمْعُهَا مَرَّتَيْنِ يَصْدُقُ بِصَلَاتِهَا جَمَاعَةً قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ، وَكَلَامُ خَلِيلٍ يُوهِمُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْجَمْعِ بَعْدَهُ فَقَطْ اهـ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ فِي الْجَمْعِ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ وَإِنْ أَذِنَ الْإِمَامُ؛ لِأَنَّ مَنْ أَذِنَ لِشَخْصٍ أَنْ يُؤْذِيَهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَذِيَّتُهُ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الْجَمْعُ لِغَيْرِ الرَّاتِبِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ تَكْثِيرُ الْجَمَاعَةِ لِخَبَرِ: الْجَمْعُ الْكَثِيرُ مَغْفُورٌ لَهُ، فَإِذَا عَلِمَتْ النَّاسُ عَدَمَ جَمْعِ الصَّلَاةِ فِي الْمَحَلِّ مَرَّتَيْنِ بَادَرُوا لِحُضُورِهَا مَعَ الرَّاتِبِ، وَمِنْ كَرَمِهِ تَعَالَى أَنْ جَعَلَ الْجُمُعَةَ مَجْمَعًا لِلنَّاسِ فَوْقَ الْجَمَاعَةِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي غَيْرِ الْجُمُعَةِ قَدْ لَا يَكُونُ فِيهَا مَغْفُورٌ لَهُ فَنَجِدُهُ فِي الْجُمُعَةِ، وَشُرِعَ الْعِيدُ لِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْبُلْدَانِ الْمُتَقَارِبَةِ، وَشُرِعَ الْمَوْقِفُ بِعَرَفَةَ لِاجْتِمَاعِ سَائِرِ الْأَقْطَارِ فِيهِ، فَفِيهِ اعْتِنَاءٌ بِشَأْنِ الْعِيدِ، وَحَمَلْنَا الْكَرَاهَةَ فِي الْجَمْعِ عَلَى وُقُوعِهَا قَبْلَهُ وَبَعْدَهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْجَمْعِ فِي حَالِ صَلَاةِ الرَّاتِبِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ، بَلْ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ حَرَامٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أُقِيمَتْ بِمَسْجِدٍ عَلَى مُحَصِّلِ النَّفْلِ، وَهُوَ بِهِ خَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّهَا وَلَا غَيْرَهَا، وَإِلَّا لَزِمَتْهُ كَمَنْ لَمْ يُصَلِّهَا، وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ فَلَا صَلَاةَ إلَّا الْمَكْتُوبَةُ» وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ الَّتِي لَا رَاتِبَ لَهَا لَا يُكْرَهُ تَعَدُّدُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا، كَمَا لَا تُكْرَهُ صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ فِيهَا بَعْدَ جَمْعِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا صَلَاةُ الْمُنْفَرِدِ قَبْلَ الرَّاتِبِ، وَيَخْرُجُ قَبْلَ إتْيَانِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ الرَّاتِبِ أَنْ يَجْمَعَ إذَا جَاءَ فَوَجَدَ غَيْرَهُ جَمَعَ فِي مَحَلِّهِ حَيْثُ كَانَ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَإِلَّا كُرِهَ لَهُ كَمَا يُكْرَهُ جَمْعُهُ إذَا تَأَخَّرَ كَثِيرًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ الْجَمْعُ إنْ جَمَعَ غَيْرُهُ قَبْلَهُ إنْ لَمْ يُؤَخِّرْ كَثِيرًا. (تَنْبِيهٌ) : نَائِبُ الرَّاتِبِ حُكْمُهُ حُكْمُ الرَّاتِبِ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ خِلَافًا لِمَنْ نَازَعَ فِي ذَلِكَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَمَنْ صَلَّى صَلَاةً) بِحَيْثُ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ مِنْهَا سَوَاءٌ صَلَّاهَا فَذًّا أَوْ فِي جَمَاعَةٍ (فَلَا يَؤُمَّ فِيهَا أَحَدًا) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِمَامِ أَنْ لَا يَكُونَ مُعِيدًا سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الصَّلَاةُ فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً، فَمَنْ صَلَّى الْعِيدَ فِي جَمَاعَةٍ لَا يَؤُمَّ فِيهَا غَيْرَهُ، وَمَنْ صَلَّى خَلْفَ الْمُعِيدِ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا حَيْثُ كَانَ صَلَاتُهُ فَرِيضَةً وَلَوْ فِي جَمَاعَةٍ، وَأَمَّا قَوْلُ خَلِيلٍ: وَأَعَادَ مُؤْتَمٌّ بِمُعِيدٍ أَبَدًا أَفْذَاذًا فَإِنَّ قَوْلَهُ أَفْذَاذًا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ كَالْعِيدِ فَتُعَادُ قَبْلَ الزَّوَالِ وَهَذَا فِي الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ فَلَا يُعِيدُ صَلَاتَهُ إلَّا إذَا كَانَ أَدَّاهَا أَوَّلًا مُنْفَرِدًا لِحُصُولِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ عَلَى تَقْدِيرِ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ الْأُولَى كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ. (وَإِذَا سَهَا الْإِمَامُ) عَنْ شَيْءٍ يُوجِبُ السَّهْوَ عَنْهُ السُّجُودُ (وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ فَلْيَتَّبِعْهُ) فِي السُّجُودِ وُجُوبًا (مَنْ لَمْ يَسْهُ مَعَهُ مِمَّنْ خَلْفَهُ) وَأَوْلَى مَنْ حَضَرَ مَعَهُ السَّهْوَ وَإِنْ أَتَى بِهِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَا يُجْمِلُهُ الْإِمَامُ عَنْ الْمَأْمُومِ يَكُونُ سَهْوُ الْإِمَامِ سَهْوًا لِلْمَأْمُومِ، وَإِنْ فَعَلَهُ أَوْ لَمْ يَحْضُرْ مُوجِبَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَأْمُومَ إنْ لَمْ يَكُنْ مَسْبُوقًا فَأَمْرُهُ وَاضِحٌ مِنْ لُزُومِ مُتَابَعَةِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَسْبُوقًا فَإِنْ كَانَ لَمْ يُدْرِكْ مَعَ الْإِمَامِ رَكْعَةً يُخَاطَبُ بِالسُّجُودِ، وَإِنْ سَجَدَ وَلَوْ مَعَ الْإِمَامِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ سَجَدَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا، وَإِنْ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَإِنَّهُ يَسْجُدُ الْقَبْلِيَّ وَالْبَعْدِيَّ بَعْدَ الْقَضَاءِ، فَلَوْ سَجَدَهُ مَعَهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ فِي الْعَمْدِ وَالْجَهْلِ كَمَا تَبْطُلُ بِسُجُودِهِ الْقَبْلِيِّ مَعَهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِسُجُودِ الْمَسْبُوقِ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدِيًّا مُطْلَقًا أَوْ قَبْلِيًّا إنْ لَمْ يَلْحَقْ رَكْعَةً، وَإِلَّا سَجَدَ وَلَوْ تَرَكَ إمَامَهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكْ مُوجِبَهُ وَأُخْرَى الْبَعْدِيُّ. (تَنْبِيهٌ) : مَفْهُومُ قَوْلِهِ: فَلْيَتَّبِعْهُ أَنَّ الْمَأْمُومَ لَوْ تَرَكَ تَبَعِيَّةَ الْإِمَامِ فِي السُّجُودِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ كَانَ قَبْلِيًّا، وَتَرَكَهُ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا، وَلَا تَبْطُلُ إنْ تَرَكَهُ مَعَ الْإِمَامِ سَهْوًا، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ سُجُودِهِ الْبَعْدِيِّ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَسَجَدَ لِسَهْوِهِ أَنَّ الْإِمَامَ لَوْ تَرَكَ السُّجُودَ لِسَهْوِهِ لَا يَسْجُدُ الْمَأْمُومُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ وَلَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِلَّا سَجَدَ وَلَوْ تَرَكَ إمَامُهُ أَوْ لَمْ يُدْرِكْ مُوجِبَهُ، وَأَخَّرَ الْبَعْدِيَّ فَإِنْ سَجَدَ الْمَأْمُومُ الْقَبْلِيَّ مَعَهُ وَتَرَكَهُ إمَامُهُ صَحَّتْ صَلَاتُهُ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ إمَامِهِ إنْ كَانَ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَطَالَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَتُزَادُ هَذِهِ عَلَى قَاعِدَةِ كُلُّ صَلَاةٍ بَطَلَتْ عَلَى الْإِمَامِ بَطَلَتْ عَلَى الْمَأْمُومِ إلَّا فِي سَبْقِ الْحَدَثِ وَنِسْيَانِهِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ ابْنُ رُشْدٍ. (وَ) مِنْ أَحْكَامِ الْمَأْمُومِينَ أَنَّهُ (لَا يَرْفَعُ أَحَدٌ) مِنْهُمْ (رَأْسَهُ) مِنْ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ (قَبْلَ) رَفْعِ (الْإِمَامِ) لِحُرْمَةِ ذَلِكَ، وَيُقَاسَ عَلَيْهِ الْخَفْضُ لِمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَلَمَّا قَضَى أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي إمَامُكُمْ فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ فَإِنِّي أَرَاكُمْ مِنْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» قَالَ ابْنُ نَاجِي: فَلَوْ رَفَعَ لِاعْتِقَادِهِ رَفْعَ الْإِمَامِ رَجَعَ إلَيْهِ مَنْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ يَلْحَقُهُ قَبْلَ رَفْعِهِ وَإِلَّا تَمَادَى، خِلَافًا لِسَحْنُونٍ فِي قَوْلِهِ: لَا بُدَّ مِنْ رُجُوعِهِ لِيَقَعَ رَفْعُهُ بَعْدَ الْإِمَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَمْرُ الرَّافِعِ بِعَوْدِهِ إنْ عُلِمَ إدْرَاكُهُ قَبْلَ رَفْعِهِ كَأَنْ خَفَضَ عَلَى مَا صَوَّبَهُ ابْنُ غَازِيٍّ، فَلَوْ تَرَكَ الْعَوْدَ فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ حَيْثُ أَخَذَ فَرْضَهُ مَعَ الْإِمَامِ قَبْلَ رَفْعِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخَذَ فَرْضَهُ وَتَرَكَ الرُّجُوعَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ؛ لِأَنَّهُ كَمُتَعَمِّدٍ تَرْكَ رُكْنٍ، كَانَ سَهْوًا كَانَ كَمَنْ زُوحِمَ تَفُوتُهُ الرَّكْعَةُ وَيَأْتِي بِبَدَلِهَا. (وَ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 سِوَى ذَلِكَ فَوَاسِعٌ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَهُ، وَبَعْدَهُ أَحْسَنُ وَكُلُّ سَهْوٍ سَهَاهُ الْمَأْمُومُ فَالْإِمَامُ يَحْمِلُهُ عَنْهُ إلَّا رَكْعَةً أَوْ سَجْدَةً أَوْ   [الفواكه الدواني] الْوَاجِبُ عَلَى مَنْ خَلْفَهُ أَنْ (لَا يَفْعَلَ) وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا (إلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ) أَيْ الْإِمَامِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ الْبَرَاءِ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا قَالَ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ لَمْ يَحْنِ أَحَدٌ مِنَّا ظَهْرَهُ حَتَّى يَقَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَاجِدًا ثُمَّ نَقَعَ سُجُودًا بَعْدَهُ» وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «إنَّمَا جُعِلَ الْإِمَامُ لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَلَا تَخْتَلِفُوا عَلَيْهِ» وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عُمُومُ التَّأَخُّرِ عَنْ الْإِمَامِ حَتَّى فِي الرُّكُوعِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَقِيلَ: يَشْرَعُ مَعَهُ فِي الرُّكُوعِ وَهُوَ لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْقِيَامِ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَأَمَّا فِيهِ فَمُتَّفَقٌ عَلَى طَلَبِ التَّأَخُّرِ حَتَّى يَسْتَقِلَّ الْإِمَامُ قَائِمًا، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَلَا يَفْعَلُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ تَكْرَارٌ مَعَ مَا قَبْلَهُ، فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْعَامِّ بَعْدَ الْخَاصِّ، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْأَوَّلَ نَهَى فِيهِ عَنْ السَّبَقِ، وَقَوْلُهُ هُنَا: وَلَا يَفْعَلُ إلَّا بَعْدَ فِعْلِهِ نَهَى فِيهِ عَنْ الْمُصَاحَبَةِ الَّتِي كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ السَّابِقِ جَوَازُهَا. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبْقُ الْإِمَامِ وَلَا مُصَاحَبَتُهُ فِي فِعْلِ رُكْنٍ مِنْ الْأَرْكَانِ، وَحُكْمُ السَّبْقِ الْحُرْمَةُ وَالْمُصَاحَبَةِ الْكَرَاهَةُ، وَأَمَّا التَّأَخُّرُ عَنْهُ حَتَّى يَنْتَقِلَ إلَى رُكْنٍ آخَرَ فَحَرَامٌ، وَعُلِمَ أَنَّهُ يَجِبُ الرُّجُوعُ إلَى الْإِمَامِ فِي السَّبْقِ فِي الرَّفْعِ وَالْخَفْضِ وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، وَأَمَّا هُمَا فَأَشَارَ إلَى الْإِحْرَامِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى مُرِيدِ الِاقْتِدَاءِ أَنْ (يَفْتَتِحَ) أَيْ يُكَبِّرَ لِلْإِحْرَامِ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ فَرَاغِ الْإِمَامِ وَهَذَا خَبْرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ أَيْ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يُحْرِمَ قَبْلَ الْإِمَامِ، فَإِنْ افْتَتَحَ الْمَأْمُومُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ إمَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ خَتَمَهُ بَعْدَهُ، وَكَذَا إنْ صَاحَبَهُ فِي افْتِتَاحِهِ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ وَإِنْ تَأَخَّرَ خَتْمُهُ، وَأَمَّا إنْ افْتَتَحَ الْإِمَامُ الْإِحْرَامَ قَبْلَ الْمَأْمُومِ وَلَوْ بِحَرْفٍ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ فِي خَتْمِهِ، وَكَذَا إنْ صَاحَبَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَتَبْطُلُ إنْ خَتَمَهُ قَبْلَهُ، فَالصُّوَرُ تِسْعٌ، تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ فِي سَبْعٍ وَتَصِحُّ فِي صُورَتَيْنِ، وَلَا فَرْقَ فِي صُورَةِ الْبُطْلَانِ مِنْ وُقُوعِ ذَلِكَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا أَوْ سَهْوًا. (تَنْبِيهٌ) : قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: إذَا عَلِمَ الْمَأْمُومُ أَنَّ إحْرَامَهُ سَابِقٌ عَلَى إحْرَامِ إمَامِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بَعْدَهُ فَقَالَ مَالِكٌ: يُكَبِّرُ وَلَا يُسَلِّمُ؛ لِأَنَّهُ كَأَنَّهُ لَمْ يُكَبِّرْ لِمُخَالَفَتِهِ مَا أَمَرَ بِهِ مِنْ التَّأْخِيرِ عَنْ الْإِمَامِ، خِلَافًا لِسَحْنُونٍ فِي قَوْلِهِ يُسَلِّمُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ صَلَّى مُنْفَرِدًا أَوْ شَكَّ فِي تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، فَهَذَا إنْ كَانَ قَدْ رَكَعَ يَقْطَعُ بِسَلَامٍ، وَإِلَّا كَبَّرَ مِنْ غَيْرِ احْتِيَاجٍ إلَى سَلَامٍ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي أَوَّلِ بَابِ صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْ الْمَأْمُومِ أَنْ (يَقُومَ مِنْ اثْنَتَيْنِ بَعْدَ قِيَامِهِ) أَيْ الْإِمَامِ، وَهَذَا أَيْضًا خَبَرٌ بِمَعْنَى النَّهْيِ، أَيْ لَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ أَنْ يَقُومَ مِنْ اثْنَتَيْنِ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْلَالِ إمَامِهِ وَيَحْرُمُ سَبْقُهُ وَتُكْرَهُ مُصَاحَبَتُهُ كَمَا قَدَّمْنَا ، وَأَشَارَ إلَى حُكْمِ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمَأْمُومِ أَنْ لَا (يُسَلِّمَ) إلَّا (بَعْدَ سَلَامِهِ) أَيْ الْإِمَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: فِي شُرُوطِ الِاقْتِدَاءِ وَمُتَابَعَةٌ فِي إحْرَامٍ وَسَلَامٍ، فَإِنْ شَرَعَ فِي السَّلَامِ قَبْلَ إمَامِهِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ، وَمِثْلُ السَّبْقِ الْمُصَاحَبَةُ فِي ابْتِدَائِهِ تَبْطُلُ بِهَا الصَّلَاةُ، وَإِنْ تَأَخَّرَ خَتْمُهُ عَنْ الْإِمَامِ، أَمَّا لَوْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ فِي ابْتِدَائِهِ وَلَوْ بِحَرْفٍ فَهَذَا إنَّمَا يُبْطِلُ صَلَاةَ الْمَأْمُومِ إنْ خَتَمَ قَبْلَ الْإِمَامِ لَا إنْ تَأَخَّرَ عَنْ سَلَامِ الْإِمَامِ أَوْ صَاحَبَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَالصُّوَرُ تِسْعٌ كَصُوَرِ الْإِحْرَامِ تَبْطُلُ فِي سَبْعٍ وَتَصِحُّ فِي صُورَتَيْنِ، وَمَحَلُّ الْبُطْلَانِ فِي سَبْعٍ: السَّلَامُ إنْ وَقَعَ السَّلَامُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ مَعَهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ أَوْ الْجَهْلِ، وَأَمَّا لَوْ سَبَقَهُ سَهْوُ الْأَمْرِ بِالسَّلَامِ بَعْدَ الْإِمَامِ، لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ حَيْثُ لَمْ يَأْتِ بِمُبْطِلٍ بَعْدَ سَلَامِهِ. (وَمَا سِوَى ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الِافْتِتَاحِ بِالْإِحْرَامِ وَالْقِيَامِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَالتَّأَخُّرِ بِالسَّلَامِ (فَوَاسِعٌ) أَيْ لَا حَرَجَ عَلَى الْمَأْمُومِ فِي (أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْإِمَامِ (وَ) لَكِنَّ فِعْلَهُ (بَعْدَهُ أَحْسَنُ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ. (تَنْبِيهٌ) : كَلَامُ الْمُصَنِّفِ صَرِيحٌ فِي جَوَازِ الْمُسَاوَاةِ فِي نَحْوِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ كَلَامُ خَلِيلٍ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ كَرَاهَةُ الْمُسَاوَاةِ فِي غَيْرِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ وَفِيهِمَا مُبْطِلَةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مُرَادَهُ بِوَاسِعٍ عَدَمِ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنَافِي الْكَرَاهَةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَبَعْدَهُ أَحْسَنُ بِمَعْنَى مُسْتَحَبٍّ فَأَفْعَلُ. لَيْسَ عَلَى بَابِهِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْمَأْمُومِ أَنْ يَتَأَخَّرَ عَنْ الْإِمَامِ فِي كُلِّ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ وَيَحْرُمُ سَبْقُهُ فِي جَمِيعِهَا، وَكَذَا مُصَاحَبَتُهُ فِي الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِمَا، وَأَمَّا السَّبْقُ فِي غَيْرِهِمَا عَمْدًا فَحَرَامٌ وَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ فَمَكْرُوهَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُتَابَعَةٌ فِي إحْرَامٍ وَسَلَامٍ، فَالْمُسَاوَاةُ، وَإِنْ شَكَّ فِي الْمَأْمُومِيَّةِ مُبْطَلَةٌ لَا الْمُسَاوَاةُ كَغَيْرِهِمَا لَكِنَّ سَبْقَهُ مَمْنُوعٌ وَإِلَّا كُرِهَ. (وَكُلُّ سَهْوٍ سَهَاهُ الْمَأْمُومُ) فِيمَا يَحْمِلُهُ عَنْهُ إمَامُهُ فِي حَالِ اقْتِدَائِهِ (فَالْإِمَامُ يَحْمِلُهُ عَنْهُ) كَالتَّكْبِيرِ وَلَفْظِ التَّشَهُّدِ وَزِيَادَةِ سَجْدَةٍ أَوْ رُكُوعٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا سَهْوَ عَلَى مُؤْتَمٍّ حَالَةَ الْقُدْوَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَسْبُوقًا سَهَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ عَنْ شَيْءٍ فَلَا يَحْمِلُهُ عَنْهُ بَلْ يَسْجُدُ لَهُ، وَلَا مَفْهُومَ لِلسَّهْوِ فِي كَلَامِهِ كَخَلِيلٍ بَلْ يُحْمَلُ عَنْهُ بَعْضُ عَمْدٍ كَتَرْكِ التَّكْبِيرِ أَوْ لَفْظِ التَّشَهُّدِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ أَوْ السَّلَامَ وَاعْتِقَادَ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ سَلَامِهِ، وَلْيَنْصَرِفْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَحَلِّهِ فَذَلِكَ وَاسِعٌ.   [الفواكه الدواني] مِمَّا يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (إلَّا) نَحْوَ (رَكْعَةٍ أَوْ سَجْدَةٍ) أَوْ رُكُوعٍ أَوْ طُمَأْنِينَةٍ. (أَوْ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ أَوْ السَّلَامَ أَوْ اعْتِقَادَ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ) فَإِنَّ الْإِمَامَ لَا يَحْمِلُ شَيْئًا مِنْهَا عَنْ الْمَأْمُومِ لِأَنَّهَا فَرَائِضُ، وَالْإِمَامُ إنَّمَا يَحْمِلُ عَنْ الْمَأْمُومِ مَا يَسْجُدُ لِأَجْلِهِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ اعْتِقَادَ نِيَّةِ الْفَرِيضَةِ قَالَ التَّادَلِيُّ: الصَّوَابُ حَذْفُ لَفْظِ اعْتِقَادِ الَّذِي هُوَ الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ وَالتَّصْمِيمُ عَلَيْهِ، وَالنِّيَّةُ هِيَ إرَادَةُ الْفِعْلِ. وَهِيَ مُتَأَخِّرَةٌ عَنْ الْعَزْمِ، وَالْعَزْمُ سَابِقٌ عَلَيْهَا، وَلِي فِي هَذَا الْكَلَامِ بَحْثٌ؛ لِأَنَّهُمْ عَرَّفُوا النِّيَّةَ بِأَنَّهَا الْعَزْمُ عَلَى الشَّيْءِ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَلَعَلَّ إضَافَةَ اعْتِقَادِ إلَى نِيَّةٍ بَيَانِيَّةٌ أَيْ اعْتِقَادٌ هُوَ نِيَّةُ الْفَرِيضَةِ. (وَإِذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ) مِنْ الصَّلَاةِ (فَلَا يَثْبُتُ بَعْدَ سَلَامِهِ) وَفَسَّرَ عَدَمَ الثُّبُوتِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَنْصَرِفْ) مِنْ مِحْرَابِهِ نَدْبًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ تَنَفُّلُهُ بِمِحْرَابِهِ، وَقَالَ شَارِحُهُ: وَكَذَا جُلُوسُهُ عَلَى هَيْئَتِهِ فِي الْمِحْرَابِ مِنْ غَيْرِ تَنَفُّلٍ، وَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ الْكَرَاهَةِ بِانْصِرَافٍ أَوْ تَغْيِيرِ هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا فِي صَلَاتِهِ، بَلْ هَذَا أَوْلَى مِنْ الِانْصِرَافِ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الِانْصِرَافَ سَرِيعًا مِنْ التَّشْدِيدِ فِي الدِّينِ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ الْإِمَامِ الِانْصِرَافُ بَعْدَ سَلَامِهِ لِئَلَّا يَتَوَهَّمَ الدَّاخِلُ أَنَّهُ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ التَّعَالِيلِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَنْصَرِفُ قَبْلَ الذِّكْرِ الْمَطْلُوبِ عَقِبَ الْفَرِيضَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي بِهِ بَعْدَ انْصِرَافِهِ أَوْ تَغْيِيرِ هَيْئَتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَنْدُبُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُغَيِّرَ حَالَتَهُ بَعْدَ السَّلَامِ إمَّا بِالِانْصِرَافِ أَوْ تَغْيِيرِ هَيْئَتِهِ بِأَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى أَيِّ جِهَةٍ شَاءَ، إمَّا إلَى جِهَةِ الْيَمِينِ أَوْ الشِّمَالِ كَمَا قَالَ مَالِكٌ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ التَّلْبِيسُ عَلَى الدَّاخِلِ، وَإِمَّا بِالِانْصِرَافِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ تَطْرُقُ الْعَجَبَ إلَيْهِ أَوْ الرِّيَاءَ، فَقَدْ نَقَلَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُمَا كَانَا إذَا سَلَّمَا يَنْهَضَانِ مِنْ الْمِحْرَابِ نَهْضَةَ الْبَعِيرِ الْهَائِجِ مِنْ عِقَالِهِ، وَقَالَ الثَّعَالِبِيُّ: وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ مِنْ أَنَّهُ يَتَحَوَّلُ إلَى أَيِّ جِهَةٍ هُوَ السُّنَّةُ، وَنَحْوُهُ لِابْنِ أَبِي جَمْرَةَ وَصَاحِبِ الْمَدْخَلِ لَا انْصِرَافُهُ جُمْلَةً مِنْ مَحَلِّهِ، فَإِنَّ هَذَا فِعْلُ أَهْلِ التَّشْدِيدِ فِي الدِّينِ حَتَّى يَقُومَ الرَّجُلُ سَرِيعًا كَأَنَّمَا ضُرِبَ بِشَيْءٍ يُؤْلِمُهُ، وَيَفُوتُهُ بِذَلِكَ خَيْرُ اسْتِغْفَارِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ مَا دَامَ فِي مُصَلَّاهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ مَا لَمْ يُحْدِثْ، يَقُولُونَ لَهُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ. قُلْت: وَفِي هَذَا نَوْعُ مُخَالَفَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ الْمَنْقُولِ عَنْ مُسْلِمٍ، وَاَلَّذِي تَرْكَنُ إلَيْهِ النَّفْسُ مَا قَالَهُ الثَّعَالِبِيُّ عَنْ مَالِكٍ وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَصَاحِبُ الْمَدْخَلِ؛ لِأَنَّ التَّرَاخِيَ الْيَسِيرَ مُغْتَفَرٌ فِي الْعُقُودِ الَّتِي تُطْلَبُ فِيهَا الْفَوْرِيَّةُ فَأَوْلَى هَذَا؛ لِأَنَّهُ مَحَلُّ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّمَا يَنْصَرِفُ الْإِمَامُ بَعْدَ مُكْثِهِ مُدَّةً لَطِيفَةً بِقَدْرِ مَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَنْتَ السَّلَامُ وَمِنْك السَّلَامُ وَإِلَيْك يَرْجِعُ السَّلَامُ تَبَارَكْت وَتَعَالَيْت يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَلَمَّا عَلَّلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ طَلَبَ الِانْصِرَافِ بِزَوَالِ اسْتِحْقَاقِهِ لِمَحَلِّ صَلَاتِهِ بِفَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ) ذَلِكَ الْإِمَامُ صَلَّى (فِي مَحَلِّهِ) الْمَمْلُوكِ لَهُ أَوْ فِي الصَّحْرَاءِ (فَذَلِكَ) أَيْ جُلُوسُهُ فِي مَحَلِّ صَلَاتِهِ (وَاسِعٌ) أَيْ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ لِانْتِفَاءِ الْعِلَلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلِانْصِرَافِ أَوْ تَحَوُّلِهِ مِنْ مَحَلِّ صَلَاتِهِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) : قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِ صِفَةِ الْعَمَلِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ الْمَطْلُوبَ بِأَثَرِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ الذِّكْرُ، وَأَمَّا الِاشْتِغَالُ بِالدُّعَاءِ زِيَادَةً عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ: إنَّهُ بِدْعَةٌ لَمْ يَرِدْ بِهِ عَمَلٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلِذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ: كَرِهَ مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ لِأَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ وَالْجَمَاعَاتِ الدُّعَاءَ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ الْمَكْتُوبَةِ جَهْرًا لِلْحَاضِرِينَ، فَيَحْصُلُ لِلْإِمَامِ بِذَلِكَ نَوْعٌ مِنْ الْعَظَمَةِ بِسَبَبِ نَصْبِ نَفْسِهِ وَاسِطَةً بَيْنَ الرَّبِّ وَعَبْدِهِ مِنْ تَحْصِيلِ مَصَالِحِهِمْ عَلَى يَدَيْهِ مِنْ الدُّعَاءِ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ نَاجِي: قُلْت وَقَدْ اسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى جَوَازِهِ عِنْدَنَا بِإِفْرِيقِيَّةَ، وَكَانَ بَعْضُ مَنْ لَقِيته يُصَرِّحُ بِأَنَّ الدُّعَاءَ وَرَدَ الْحَثُّ عَلَيْهِ مِنْ حَيْثُ الْجُمْلَةِ. قَالَ تَعَالَى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] لِأَنَّهُ عِبَادَةٌ فَلِذَا صَارَ تَابِعًا فِعْلَهُ بَلْ الْغَالِبُ عَلَى مَنْ يُنَصِّبُ نَفْسَهُ لِذَلِكَ التَّوَاضُعِ وَالرِّقَّةِ فَلَا يُهْمَلُ أَمْرُهُ بَلْ يُفْعَلُ، وَمَا كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، بَلْ هُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ، وَالِاجْتِمَاعُ فِيهِ يُورِثُ الِاجْتِهَادَ فِيهِ وَالنَّشَاطَ، وَأَقُولُ: طَلَبُ ذَلِكَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِهِ شَاهِدُ صِدْقٍ فِيمَا ارْتَضَاهُ ابْنُ نَاجِي. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَقَدْ انْتَهَى رُبْعُ الرِّسَالَةِ أَعَانَنَا اللَّهُ بِمَنِّهِ وَكَرَمِهِ عَلَى بَاقِيهَا. [بَاب جَامِع فِي الصَّلَاة] ثُمَّ شَرَعَ فِي الرُّبْعِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بَابٌ جَامِعٌ فِي الصَّلَاةِ وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ الدِّرْعُ الْخَصِيفُ السَّابِغُ الَّذِي يَسْتُرُ ظُهُورَ قَدَمَيْهَا، وَهُوَ الْقَمِيصُ وَالْخِمَارُ الْخَصِيفُ وَيُجْزِئُ الرَّجُلَ فِي الصَّلَاةِ ثَوْبٌ وَاحِدٌ وَلَا يُغَطِّي أَنْفَهُ وَوَجْهَهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يَضُمُّ ثِيَابَهُ أَوْ يَكْفِتُ   [الفواكه الدواني] بَابٌ جَامِعٌ فِي الصَّلَاةِ رُوِيَ بِتَنْوِينِ بَابٍ وَهُوَ الْأَظْهَرُ لِعَدَمِ إيهَامِهِ، وَبِالْإِضَافَةِ أَيْ بَابِ جَامِعٍ لَكِنَّ الْإِضَافَةَ تُوهِمُ أَنَّهُ جَمَعَ كُلَّ مَسَائِلِ الصَّلَاةِ، وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ بِخِلَافِ تَنْوِينِهِ الْمَعْنِيِّ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَذْكُرُ مَسَائِلَ مُخْتَلِفَةً (فِي الصَّلَاةِ) وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ عَلَى نُسْخَةِ فِي، وَأَمَّا عَلَى إسْقَاطِهَا فَالتَّنْوِينُ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ فِي أَنَّ الْمَعْنَى أَنَّ الْبَابَ جَمَعَ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ لَكِنْ يُوهِمُ أَنَّ جَمِيعَ مَا فِيهِ أَحْكَامُ الصَّلَاةِ لَا غَيْرَهَا، مَعَ أَنَّهُ يَذْكُرُ فِيهِ أَحْكَامَ غَيْرِ الصَّلَاةِ مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةً بِالْوُضُوءِ وَالتَّيَمُّمِ كَقَوْلِهِ: وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، وَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لِضَرَرٍ بِهِ، وَيُوهِمُ أَيْضًا أَنَّهُ اسْتَوْعَبَ جَمِيعَ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَمْ أَذْكُرْ فِيهِ إلَّا أَحْكَامَ الصَّلَاةِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ جَامِعٌ أَحْكَامَ الصَّلَاةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ وُضُوءٍ وَتَيَمُّمٍ وَسِتْرِ عَوْرَةٍ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْمُرَادَ جَامِعٍ مُعْظَمَ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ عَلَى حَدِّ: الْحَجُّ عَرَفَةَ، وَعَلَى إضَافَةِ بَابٍ إلَى جَامِعٍ فَيَكُونُ مِنْ إضَافَةِ الدَّالِ إلَى مَدْلُولِهِ؛ لِأَنَّ الْبَابَ اسْمٌ لِجَمِيعِ الْمَسَائِلِ الْمَذْكُورَةِ بَعْدَهُ، وَعَلَى إسْقَاطِ فِي وَتَنْوِينِ بَابٍ يَصِحُّ فِي الصَّلَاةِ النَّصْبُ وَالْجَرُّ عَلَى حَدِّ: وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَنًا، وَابْتَدَأَ هَذَا الْبَابَ بِمَسْأَلَةٍ تَقَدَّمَتْ فِي طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ؛ لِأَنَّ السِّتْرَ يُطْلَبُ حِينَ إرَادَةِ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ فَقَالَ: (وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ الْمَرْأَةَ مِنْ اللِّبَاسِ فِي الصَّلَاةِ) شَيْئَانِ سَاتِرَانِ لِجَسَدِهَا أَحَدُهُمَا (الدِّرْعُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ (الْحَصِيفُ) بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ الْكَثِيفُ الْمَتِينُ الَّذِي لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ، وَيُرْوَى بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَفَسَّرَهُ عَلَى الضَّبْطَيْنِ بِقَوْلِهِ: (السَّابِغُ) أَيْ (الَّذِي يَسْتُرُ) جَمِيعَ جَسَدِهَا سِوَى رَأْسِهَا حَتَّى (ظُهُورَ قَدَمَيْهَا) ، وَلَمَّا كَانَ الدِّرْعُ مُشْتَرَكًا لَفْظًا بَيْنَ دِرْعِ الْحَدِيدِ وَبَيْنَ الثَّوْبِ قَالَ: (وَهُوَ الْقَمِيصُ) الَّذِي يَسْلُكُ فِي الْعُنُقِ. (وَ) ثَانِي الْأَمْرَيْنِ (الْخِمَارُ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ (الْخَصِيفُ) وَحَقِيقَةُ الْخِمَارِ الثَّوْبُ الَّذِي تَجْعَلُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا وَخَدَّيْهَا، سُمِّيَ خِمَارًا؛ لِأَنَّهُ يُخَمِّرُ الرَّأْسَ أَيْ يُغَطِّيهِ، وَاحْتُرِزَ بِالْخَصِيفِ مِنْ الْخَفِيفِ النَّسْجُ الَّذِي يَشِفُّ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: كَالْبُنْدُقِيِّ الرَّفِيعِ فَإِنْ صَلَّتْ بِهِ أَعَادَتْ أَبَدًا عَلَى مَا قَالَ خَلِيلٌ تَبَعًا لِابْنِ الْحَاجِبِ تَبَعًا لِابْنِ بَشِيرٍ: مِنْ أَنَّ الَّذِي يَشِفُّ كَالْعَدَمِ، وَاعْتَرَضَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: قَوْلُ ابْنِ بَشِيرٍ وَتَابِعِيهِ الشَّافُّ كَالْعَدَمِ وَمَا يَصِفُ لِرِقَّتِهِ يُكْرَهُ، وَهْمٌ لِمُخَالَفَتِهِ لِرِوَايَةِ الْبَاجِيِّ: التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ فِي حَالِ صَلَاتِهَا أَنْ تَسْتُرَ جَمِيعَ جَسَدِهَا وَشَعْرَهَا حَتَّى دَلَالِيلَهَا مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَجْهِ هُنَا الْوَجْهُ الْمُتَقَدِّمُ تَحْدِيدُهُ فِي فَرَائِضِ الْوُضُوءِ، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ لِحْيَتِهَا إنْ خُلِقَ لَهَا لِحْيَةٌ وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ هُنَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ بَعْضِ خَدَّيْهَا، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ إلَخْ أَنَّهَا لَوْ صَلَّتْ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوَاجِبِ لَمْ يُجِزْهَا، وَتُعِيدُ أَبَدًا وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ عَلَى تَفْصِيلٍ تَقَدَّمَ وَهُوَ: إنْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ الصَّدْرِ أَوْ بَعْضَ الْأَطْرَافِ كَظُهُورِ قَدَمَيْهَا وَذِرَاعَيْهَا وَشَعْرَهَا أَوْ بَعْضَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَأَعَادَتْ لِصَدْرِهَا وَأَطْرَافِهَا بِوَقْتٍ كَكَشْفِ أَمَةٍ فَخِذًا لَا رِجْلًا، وَأَمَّا لَوْ صَلَّتْ مَكْشُوفَةَ شَيْءٍ مِنْ نَحْوِ الْبَطْنِ أَوْ الظَّهْرِ أَوْ الْجَنْبِ لَأَعَادَتْ أَبَدًا، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ الْخَلْوَةِ وَالْجَلْوَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَتْ مَعَ زَوْجِهَا فَيَحِلُّ لِكُلٍّ النَّظَرُ لِفَرْجِ الْآخَرِ، وَأَمَّا مَعَ الْغَيْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ الْجَسَدِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ مَعَ مَحْرَمِهَا وَمَعَ الْأَجْنَبِيِّ جَمِيعَ جَسَدِهَا إلَّا الْوَجْهَ وَالْكَفَّيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَ ذَلِكَ فَرَاجِعْهُ. (وَيُجْزِئُ الرَّجُلَ) بِالنَّصْبِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ وَالْفَاعِلُ (الصَّلَاةُ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ) وَيُشْتَرَطُ فِيهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ كَوْنُهُ كَثِيفًا بِحَيْثُ لَا يَصِفُ وَلَا يَشِفُّ وَإِلَّا كُرِهَ وَكَوْنُهُ سَاتِرًا لِجَمِيعِ جَسَدِهِ. فَإِنْ سَتَرَ الْعَوْرَةَ الْمُغَلَّظَةَ فَقَطْ أَوْ كَانَ مِمَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 شَعْرَهُ وَكُلُّ سَهْوٍ فِي الصَّلَاةِ بِزِيَادَةٍ فَلْيَسْجُدْ لَهُ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ يَتَشَهَّدُ لَهُمَا وَيُسَلِّمُ مِنْهُمَا [السَّاهِي فِي صَلَاتِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ مِنْ سُجُودٍ وَعَدَمِهِ] وَكُلُّ سَهْوٍ يُنْقِصُ   [الفواكه الدواني] يَصِفُ أَيْ يُحَدِّدُ الْعَوْرَةَ أَوْ يَشِفُّ بِأَنْ يُرَى مِنْهُ لَوْنُهَا كُرِهَتْ الصَّلَاةُ فِيهِ مَعَ الْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ حَتَّى مِنْ الَّذِي يَشِفُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الثَّوْبِ الْوَاحِدِ أَوَلِكُلِّكُمْ ثَوْبَانِ» 1 - وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ إنَّمَا كَرَّرَهَا الْمُصَنِّفُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهَا مَا لَمْ يُقَدِّمْهُ فِي بَابِ طَهَارَةِ الْمَاءِ وَالثَّوْبِ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَلَا يُغَطِّي) أَيْ الْمُصَلِّي (أَنْفَهُ أَوْ وَجْهَهُ فِي الصَّلَاةِ) أَيْ يُكْرَهُ لِكُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ امْرَأَةً الِانْتِقَابُ فِي الصَّلَاةِ وَهِيَ تَغْطِيَةُ الْوَجْهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى عَيْنَيْهِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُغَطِّي أَنْفَهُ، وَيُكْرَهُ أَيْضًا التَّلَثُّمُ بِأَنْ يُغَطِّيَ شَفَتَهُ السُّفْلَى؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْغُلُوِّ فِي الدِّينِ وَهُوَ مُنَافٍ لِلْخُشُوعِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَإِنْ كَانَ الْفَاعِلُ عَادَتُهُ ذَلِكَ فَلَا كَرَاهَةَ حَيْثُ كَانَ مِمَّنْ عُرِفُوا بِذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ تَرْكُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ لَهُ حَتَّى فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمُتَكَبِّرِينَ. (أَوْ) أَيْ وَلَا (يَضُمُّ ثِيَابَهُ أَوْ يَكْفِتُ) أَيْ يَضُمُّ (شَعْرَهُ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمُرِيدِ الصَّلَاةِ أَنْ يُشَمِّرَ ثَوْبَهُ أَوْ كُمَّهُ أَوْ يَضُمَّ شَعْرَهُ لِمُنَافَاةِ جَمِيعِ ذَلِكَ لِلْخُشُوعِ الْمَطْلُوبِ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ انْتِقَابُ امْرَأَةٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَأَوْلَى رَجُلٍ كَكَفْتِ كُمٍّ وَشَعْرٍ لِصَلَاةٍ وَتَلَثُّمٍ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ لِصَلَاةٍ رَاجِعٌ لِلِانْتِقَابِ وَلِلْمُشَبَّهِ بِهِ، وَمَفْهُومُ الصَّلَاةِ أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ ضَمُّ الثَّوْبِ وَلَا الشَّعْرِ لِغَيْرِهَا، وَسَوَاءٌ عَادَ لِمَا كَانَ الْكَفْتُ لَهُ مِنْ الشُّغْلِ أَمْ لَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَحَمَلَهُ بَعْضُهُمْ عَلَى مَا إذَا عَادَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرَتْ أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ وَلَا أَكْفِتُ شَعْرًا وَلَا ثَوْبًا» فَأَخْبَرَ أَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ إذَا قُصِدَ بِهِ الصَّلَاةُ. وَرُوِيَ: «إذَا سَجَدَ الْإِنْسَانُ فَسَجَدَ مَعَهُ شَعْرُهُ كُتِبَ لَهُ بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةً» ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الِانْتِقَابِ وَالتَّلَثُّمِ وَالِاحْتِزَامِ وَالتَّشْمِيرِ وَضَمِّ الْأَكْمَامِ وَالشَّعْرِ إنَّمَا يُكْرَهُ إذَا فُعِلَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ إلَّا الِانْتِقَابَ لِمَنْ لَمْ تَكُنْ عَادَتُهُ ذَلِكَ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ لَوْ حَضَرَتْهُ الصَّلَاةُ وَهُوَ مُحْتَزِمٌ أَوْ شَامِرٌ لِثَوْبِهِ لَا تُكْرَهُ صَلَاتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ وَإِنْ كَانَ الْأَوْلَى حَلَّ ذَلِكَ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى أَحْكَامِ السَّاهِي فِي صَلَاتِهِ وَمَا يَفْعَلُهُ مِنْ سُجُودٍ وَعَدَمِهِ فَقَالَ: (وَكُلُّ سَهْوٍ) أَيْ ذُهُولٍ عَنْ شَيْءٍ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ أَمْ لَا؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ النِّسْيَانِ سَهَاهُ (فِي الصَّلَاةِ) وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكِحًا، وَلَوْ كَانَتْ صَلَاتُهُ نَافِلَةً فَإِنْ كَانَ (بِزِيَادَةٍ) يَسِيرَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَزِيَادَةِ رُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ أَوْ أَكْثَرَ حَيْثُ لَمْ تَبْلُغْ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ كَوَامِلَ فِي الرُّبَاعِيَّةِ أَوْ الثُّلَاثِيَّةِ أَوْ الثُّنَائِيَّةِ الْمَقْصُورَةِ أَوْ اثْنَتَيْنِ فِي الثُّنَائِيَّةِ أَصَالَةً كَالصُّبْحِ أَوْ الْجُمُعَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ يَوْمِهَا، وَالْكَمَالُ هُنَا بِرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرَّكْعَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ. (فَلْيَسْجُدْ لَهُ سَجْدَتَيْنِ) اسْتِنَانًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَلَوْ تَكَرَّرَ سَهْوُهُ إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا (بَعْدَ السَّلَامِ) بِإِحْرَامٍ بِمَعْنَى أَنَّهُ يَنْوِي بِتَكْبِيرَةِ الْهَوِيِّ الْإِحْرَامَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةِ تَكْبِيرٍ لَهُ وَيُكَبِّرُ فِي الرَّفْعِ وَ (يَتَشَهَّدُ لَهَا وَيُسَلِّمُ مِنْهُمَا) جَهْرًا وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ، قَالَ خَلِيلٌ: بِإِحْرَامٍ وَتَشَهُّدٍ وَسَلَامٍ جَهْرًا. وَإِنَّمَا طُلِبَ لِهَاتَيْنِ السَّجْدَتَيْنِ إحْرَامٌ وَتَشَهُّدٌ وَسَلَامٌ؛ لِأَنَّهُمَا عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَلِأَنَّ السُّنَّةَ فِي السَّلَامِ أَنْ يَقَعَ عَقِبَ تَشَهُّدٍ، وَحُكْمُ السَّلَامِ مِنْ الْبَعْدِيِّ أَنَّهُ وَاجِبٌ غَيْرُ شَرْطٍ فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَأَمَّا التَّشَهُّدُ فَقَالَ فِي الطِّرَازِ: لَا خِلَافَ أَنَّهُ لَيْسَ بِشَرْطٍ، فَلَوْ تَرَكَ الْإِحْرَامَ بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ وَالتَّشَهُّدَ وَالسَّلَامَ وَاقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ السَّجْدَتَيْنِ بِنِيَّتِهِمَا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، بَلْ لَوْ تَرَكَ الْبَعْدِيَّ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْقَبْلِيِّ الْمُتَرَتِّبِ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّهُ دَاخِلُ الصَّلَاةِ فَهُوَ جَابِرٌ لَهَا، وَالْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ مِنْ الْبَعْدِيِّ تَرْغِيمُ أَنْفِ الشَّيْطَانِ، وَقَيَّدْنَا الزِّيَادَةَ بِالْيَسِيرَةِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِالْفِعْلِ الْكَثِيرِ وَلَوْ سَهْوًا وَلَوْ مِنْ جِنْسِ الصَّلَاةِ كَزِيَادَةِ أَرْبَعٍ فِي الرُّبَاعِيَّةِ وَالثُّلَاثِيَّةِ أَوْ الْمَقْصُورَةِ. وَأَمَّا زِيَادَةُ أَقْوَالِ الصَّلَاةِ فَلَا سُجُودَ فِي سَهْوِهَا كَمَا لَا تَبْطُلُ بِعَمْدِهَا، كَمَا لَوْ كَرَّرَ السُّورَةَ أَوْ التَّكْبِيرَ أَوْ زَادَ سُورَةً فِي أُخْرَيَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْقَوْلُ فَرْضًا فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، كَمَا لَوْ كَرَّرَ الْفَاتِحَةَ سَهْوًا وَلَوْ فِي رَكْعَةٍ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَعَمُّدِ تَكْرِيرِهَا وَالْمُعْتَمَدُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُجْهُورِيُّ عَدَمُ الْبُطْلَانِ، وَيُفْهَمُ أَيْضًا مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَيَتَعَمَّدُ كَسَجْدَةٍ مِنْ كُلِّ رُكْنٍ فَعَلَى عَدَمِ بُطْلَانِهَا بِتَعَمُّدِ زِيَادَةِ الرُّكْنِ الْقَوْلِيِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَحًا لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ مَنْ اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوُ يُصَلِّي وَلَا يَسْجُدُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَوْ نَافِلَةً لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ السَّهْوَ فِي النَّافِلَةِ كَالسَّهْوِ فِي الْفَرِيضَةِ إلَّا فِي خَمْسِ مَسَائِلَ: تَرْكُ السِّرِّ وَالْجَهْرِ فِي مَحَلِّهَا وَتَرْكُ السُّورَةِ فَهَذِهِ الثَّلَاثَةُ لَا سُجُودَ فِي تَرْكِهَا مِنْ النَّافِلَةِ، وَيَسْجُدُ لَتَرْكِهَا مِنْ الْفَرِيضَةِ، وَالرَّابِعَةُ إذَا عَقَدَ ثَالِثَةَ النَّفْلِ يَرْفَعُ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِهَا يُكَمِّلُهَا أَرْبَعًا وَفِي الْفَرْضِ يَرْجِعُ، وَالْخَامِسَةُ إذَا تَرَكَ رُكْنًا مِنْ النَّافِلَةِ وَطَالَ أَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ مُطْلَقًا أَوْ نَافِلَةٍ وَرَكَعَ لَا يَلْزَمُهُ قَضَاؤُهَا بِخِلَافِ الْفَرِيضَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ لِلزِّيَادَةِ فَقَطْ بَعْدَ السَّلَامِ خَبَرُ الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى الْعَصْرَ فَسَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ فَقَامَ ذُو الْيَدَيْنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فَلْيَسْجُدْ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ إذَا تَمَّ تَشَهُّدُهُ، ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَقِيلَ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ وَمَنْ نَقَصَ وَزَادَ سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ وَمَنْ   [الفواكه الدواني] فَقَالَ: أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ نَسِيت؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ، فَقَالَ ذُو الْيَدَيْنِ: قَدْ كَانَ بَعْضُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَقْبَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: أَصَدَقَ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ فَأَتَمَّ ثُمَّ سَجَدَ سَجْدَتَيْنِ بَعْدَ السَّلَامِ وَهُوَ جَالِسٌ» وَمَعْنَى أَقَصُرَتْ الصَّلَاةُ هَلْ أُوحِيَ إلَيْك بِقَصْرِهَا أَمْ نَسِيت؟ فَالتَّاءُ فِي أَقَصُرَتْ لِلتَّأْنِيثِ وَالصَّلَاةُ فَاعِلٌ وَلَيْسَتْ حَرْفَ خِطَابٍ لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ أَمْ نَسِيت، وَفُهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ أُمُورٌ مِنْهَا: مَشْرُوعِيَّةُ السُّجُودِ لِلسَّهْوِ وَالْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ إلَى الْآنَ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ أَنَّ قِصَّةَ ذِي الْيَدَيْنِ مَنْسُوخَةٌ، وَمَا وَقَعَ كَانَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ رَاوِيَ الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إسْلَامًا فَالْحَقُّ عَدَمُ نَسْخِ قِصَّتِهِ وَفُهِمَ مِنْهُ أَنَّهُ سَجْدَتَانِ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَكُونُ بَعْدَ السَّلَامِ لِلزِّيَادَةِ، وَمِنْهَا: أَنَّ السَّلَامَ سَهْوًا لَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَمِنْهَا: أَنَّ الْفَصْلَ الْيَسِيرَ بَعْدَهُ غَيْرُ مُبْطِلٍ، وَأَنَّ الْكَلَامَ الْعَمْدَ لِإِصْلَاحِهَا مِنْ الْمَأْمُومِ وَالْإِمَامِ لَا يُبْطِلُهَا إذَا لَمْ يَكْثُرُ، وَمِنْهَا: جَوَازُ سُؤَالِ الْمَأْمُومِ لِإِمَامِهِ عِنْدَ شَكِّهِ، وَجَوَازُ سُؤَالِ الْإِمَامِ لِمَأْمُومِيهِ كَذَلِكَ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَحْضَ الزِّيَادَةِ يُسْجَدُ لَهَا بَعْدَ السَّلَامِ ذَكَرَ مُحْتَرَزَهَا بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ سَهْوٍ بِنَقْصٍ) سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ دَاخِلَةٌ فِي الصَّلَاةِ كَالزَّائِدِ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ آيَةٍ مِنْ الْفَاتِحَةِ أَوْ جَمِيعِهَا حَيْثُ أَتَى بِهَا فِي جُلِّ الصَّلَاةِ أَوْ فِي أَقَلِّهَا عَلَى مَا يَأْتِي لِلْفَاكِهَانِيِّ، وَمِثْلُ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ السُّنَّتَانِ الْخَفِيفَتَانِ، وَسَوَاءٌ كَانَ النَّقْصُ مُحَقَّقًا أَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ، وَخَبَرُ كُلِّ سَهْوٍ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأٌ (فَلْيَسْجُدْ لَهُ) سَجْدَتَيْنِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ وَلَوْ كَثُرَتْ السُّنَنُ الْمَتْرُوكَةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: سُنَّ لِسَهْوٍ وَإِنْ تَكَرَّرَ بِنَقْصِ سُنَّةٍ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ مَعَ زِيَادَةِ سَجْدَتَانِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَمُقَابِلُهُ الْوُجُوبُ إنْ كَانَ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ لِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهِ (قَبْلَ السَّلَامِ) يُكَبِّرُ لِلْخَفْضِ وَالرَّفْعِ مَعَ نِيَّةِ فِعْلِ السَّجْدَتَيْنِ عَلَى مَا يَظْهَرُ وَخِلَافُهُ لَا يَظْهَرُ، وَجَعَلْنَا مَفْعُولَ الْمَصْدَرِ سُنَّةً لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الْفَرَائِضَ لَا يُسْجَدُ لَهَا وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَدَارُكِهَا، وَقَيَّدْنَا السُّنَّةَ بِالْمُؤَكَّدَةِ أَوْ الْخَفِيفَةِ الْمُتَعَدِّدَةِ؛ لِأَنَّ نَحْوَ التَّكْبِيرَةِ لَا يُسْجَدُ لَهَا وَبِدَاخِلَةِ الصَّلَاةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِقَامَةِ فَلَا يُسْجَدُ لَهَا، وَإِنْ سَجَدَ لِمَا لَا يُسْجَدُ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ وَلَوْ جَهْلًا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، إلَّا أَنْ يَسْجُدَ تَبَعًا لِمَنْ يَرَى السُّجُودَ لِذَلِكَ، وَمُحْتَرَزُ السَّهْوِ أَنَّ الْعَمْدَ لَا يُسْجَدُ لَهُ، وَاخْتُلِفَ هَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ أَوْ لَا؟ وَلَا سُجُودَ خِلَافٌ وَمَحَلُّ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ (إذَا تَمَّ تَشَهُّدُهُ) الَّذِي هُوَ آخَرُ صَلَاتِهِ وَفَرَغَ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالدُّعَاءِ أَيْضًا (ثُمَّ) بَعْدَ فِعْلِ السَّجْدَتَيْنِ (يَتَشَهَّدُ) أَيْ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ اسْتِنَانٌ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: يَتَشَهَّدُ أَنَّهُ لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا أَحَدُ الْمَوَاضِعِ الَّتِي لَا يُطْلَبُ فِي تَشَهُّدِهَا الدُّعَاءُ، وَالصَّلَاةُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الدُّعَاءِ. (وَيُسَلِّمُ) وُجُوبًا؛ لِأَنَّهُ سَلَامُ الْفَرِيضَةِ. وَلَمَّا بَيَّنَ أَنَّ إعَادَةَ التَّشَهُّدِ هِيَ الصَّوَابُ ذَكَرَ مُقَابِلَهَا بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ لَا يُعِيدُ التَّشَهُّدَ) ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ عَلَى فِعْلِ السَّجْدَتَيْنِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكٍ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ الْمُبَيِّنُ لِمَا بِهِ الْفَتْوَى حَيْثُ قَالَ: وَأَعَادَ تَشَهُّدَهُ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِنَا: أَنَّ إعَادَةَ التَّشَهُّدِ سُنَّةٌ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ إعَادَتَهُ وَلَوْ عَمْدًا لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَاسْتَظْهَرَ الْأُجْهُورِيُّ أَنَّهُ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ لِلْفَرِيضَةِ وَاكْتَفَى بِتَشَهُّدِ الْفَرِيضَةِ لَصَحَّتْ صَلَاتُهُ بِالْأَوْلَى مِنْ تَرْكِ إعَادَتِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ لِسَهْوِهِ سَجْدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ؟ أَوْ شَكَّ هَلْ سَجَدَ لِسَهْوِهِ أَوْ لَمْ يَسْجُدْ أَصْلًا؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ وَاحِدَةً فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَفِي الثَّانِيَةِ يَأْتِي بِسَجْدَتَيْنِ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ بَعْدَ سَلَامِهِ، فَلَيْسَ كَمَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى وَاحِدَةً أَوْ اثْنَتَيْنِ وَبَنَى عَلَى الْأَقَلِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ أُمِرَ بِالسُّجُودِ فِي شَكِّهِ فِي سُجُودِ السَّهْوِ لَأَمْكَنَ أَنْ يَشُكَّ مَرَّةً أُخْرَى وَيَسْجُدَ فَيَتَسَلْسَلُ الْأَمْرُ، وَمِنْ ثَمَّ لَمَّا سُئِلَ بَعْضُ النَّحْوِيِّينَ عَنْ ذَلِكَ قَالَ: الْمُصَغَّرُ لَا يُصَغَّرُ، وَهَذَا بِخِلَافِ لَوْ سَجَدَ لِلسَّهْوِ ثَلَاثَ سَجَدَاتٍ سَهْوًا فَيَفْتَرِقُ الْحَالُ إنْ كَانَ قَبْلِيًّا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ لَا إنْ كَانَ بَعْدِيًّا، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَحْضَ الزِّيَادَةِ يُسْجَدُ لَهَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَمَحْضَ النَّقْصِ قَبْلَ السَّلَامِ شَرَعَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ وَزِيَادَةٌ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَقَصَ) سُنَّةً مِنْ سُنَنِ صَلَاتِهِ وَلَوْ خَفِيفَةً (وَزَادَ) فِيهَا أَيْضًا زِيَادَةً سَهْوًا لَا تَبْطُلُ بِمِثْلِهَا (سَجَدَ) لَهُمَا (قَبْلَ السَّلَامِ) تَغْلِيبًا لِجَانِبِ النَّقْصِ الْحَاصِلِ عَلَى الزِّيَادَةِ؛ لِأَنَّ الْقَبْلِيَّ جَابِرٌ هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّقْصَ الْحَاصِلَ مَعَ الزِّيَادَةِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ السُّنَّةِ الْمُؤَكَّدَةِ وَالْخَفِيفَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَا بَيْنَ الْمُحَقَّقَةِ وَالْمَشْكُوكِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ جَعَلُوا الصُّوَرَ تِسْعًا بَيَانُهَا أَنَّ النَّقْصَ وَحْدَهُ إمَّا مُحَقَّقٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِ، وَالزِّيَادَةَ وَحْدَهَا كَذَلِكَ إمَّا مُحَقَّقَةٌ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهَا فَهَذِهِ أَرْبَعٌ، وَإِذَا اجْتَمَعَا فَصُوَرُهُمَا أَرْبَعٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُمَا إمَّا مُحَقَّقَانِ أَوْ مَشْكُوكٌ فِيهِمَا أَوْ النَّقْصُ مُحَقَّقٌ وَالزِّيَادَةُ مَشْكُوكٌ فِيهَا أَوْ عَكْسُهُ فَهَذِهِ أَرْبَعٌ تُضَمُّ لِلْأَرْبَعِ الْأُولَى تَصِيرُ ثَمَانِ صُوَرٍ، وَلِلتَّاسِعَةِ أَنْ يَتَيَقَّنَ حُصُولَ الْمُوجِبِ لِلسُّجُودِ وَيَشُكَّ هَلْ هُوَ زِيَادَةٌ أَوْ نَقْصٌ فَيَسْجُدَ فِي الْجَمِيعِ قَبْلَ السَّلَامِ إلَّا فِي صُورَتَيْنِ يَسْجُدُ فِيهِمَا بَعْدَ السَّلَامِ وَهُمَا بَعْضُ الزِّيَادَةِ الْمُحَقَّقَةِ وَالزِّيَادَةِ الْمَشْكُوكِ فِي حُصُولِهَا وَعَدَمِ حُصُولِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 نَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ السَّلَامِ فَلْيَسْجُدْ مَتَى مَا ذَكَرَهُ، وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَبْلَ السَّلَامِ سَجَدَ إنْ كَانَ قَرِيبًا، وَإِنْ بَعُدَ ابْتَدَأَ   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّفْضِيلِ بَيْنَ الزِّيَادَةِ وَالنَّقْصِ هُوَ مَرَضِيُّ الْإِمَامِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ وَحَمَلَ السُّجُودَ لِلْجَمِيعِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأَمَّا أَبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَجَعَلَهُ بَعْدِيًّا مُطْلَقًا، وَتَقَدَّمَ دَلِيلُ إمَامِنَا عَلَى الزِّيَادَةِ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ، وَدَلِيلُ النَّقْصِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ بُحَيْنَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِهِمْ الظُّهْرَ فَقَامَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ لِلتَّشَهُّدِ فَقَامَ النَّاسُ مَعَهُ حَتَّى إذَا قَضَى صَلَاتَهُ وَانْتَظَرَ النَّاسُ تَسْلِيمَهُ كَبَّرَ وَهُوَ جَالِسٌ فَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ ثُمَّ سَلَّمَ ثُمَّ غَلَبَ النَّقْصُ عَلَى الزِّيَادَةِ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِمَا» . الثَّانِي: لَوْ خَالَفَ الْمُصَلِّي وَقَدَّمَ مَا يُؤَخَّرُ وَأَخَّرَ مَا يُقَدَّمُ لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ إنْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ لَكِنْ مَعَ حُرْمَةِ تَقْدِيمِ الْبَعْدِيِّ عَمْدًا وَكَرَاهَةِ تَأْخِيرِ الْقَبْلِيِّ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ أَبِي الْحَسَنِ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ، وَمِمَّا يَصِحُّ أَيْضًا لَوْ سَجَدَ الْإِمَامُ فِي مَحَلِّهِ، وَقَدَّمَهُ الْمَأْمُومُ أَوْ أَخَّرَهُ فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَصَحَّ إنْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ أَيْ وَلَوْ مِنْ الْمَأْمُومِ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَصِحُّ تَقْدِيمُ الْبَعْدِيِّ وَلَوْ مِنْ الْمَأْمُومِ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، وَتَأْخِيرُ الْقَبْلِيِّ وَلَوْ مِنْ الْمَأْمُومِ مُخَالِفًا لِإِمَامِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ تَعَالَى. (وَمَنْ نَسِيَ أَنْ يَسْجُدَ) عِنْدَ مُخَاطَبَتِهِ بِالسُّجُودِ (بَعْدَ السَّلَامِ) وَهُوَ مَنْ زَادَ فِي صَلَاتِهِ شَيْئًا سَهْوًا لَا تَبْطُلُ بِزِيَادَتِهِ وَفَارَقَ مَحَلَّ صَلَاتِهِ بَعْدَ سَلَامِهِ (فَلْيَسْجُدْ مَتَى مَا ذَكَرَهُ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ) بَعْدَ سَلَامِهِ وَتَذَكَّرَهُ، وَقَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ: وَلَوْ بَعْدَ شَهْرٍ لَا مَفْهُومَ لَهُ، كَمَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ نَسِيَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَإِنَّمَا كَانَ يَسْجُدُ الْبَعْدِيَّ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّهُ لِتَرْغِيمِ أَنْفِ الشَّيْطَانِ بِخِلَافِ الْقَبْلِيِّ فَإِنَّهُ جَابِرٌ لَنَقْصِ الصَّلَاةِ فَلِذَا طَلَبَ وُقُوعَهُ فِيهَا أَوْ عَقِبَهَا بِالْقُرْبِ. (تَنْبِيهَاتٌ) . الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ السُّجُودَ يُفْعَلُ وَلَوْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي الْقَبْلِيِّ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ وَتَابِعٌ لَهَا، وَأَمَّا الْبَعْدِيُّ فَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَالْمُصَنِّفِ أَنَّهُ كَذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ مِنْ صَلَاةٍ مَفْرُوضَةٍ، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَهُ مِنْ صَلَاةٍ غَيْرِ مَفْرُوضَةٍ فِي وَقْتِ النَّهْيِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ لِحَلِّ النَّافِلَةِ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ وَحَمَلَ الْمُدَوَّنَةَ عَلَيْهِ رَعْيًا لِأَصْلِهِ، وَيُوَافِقُهُ نَقْلُ عَبْدِ الْحَقِّ عَنْ بَعْضِ شُيُوخِهِ. الثَّانِي ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ يَسْجُدُ الْبَعْدِيَّ فِي أَيِّ مَحَلٍّ وَلَوْ مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إنْ كَانَ مِنْ صَلَاةِ جُمُعَةٍ لَا يَصِحُّ إلَّا فِي جَامِعٍ، وَيُشْتَرَطُ كَوْنُهُ الَّذِي صَلَّى فِيهِ إنْ كَانَ قَبْلِيًّا كَمَا لَوْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ بِرَكْعَةٍ مِنْهَا وَقَامَ لِلْقَضَاءِ فَنَسِيَ السُّورَةَ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَذَكَرَهُ سَرِيعًا فَإِنَّهُ يَرْكَعُ لِمَسْجِدِهِ الَّذِي صَلَّى فِيهِ وَيَسْجُدُ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلُ طُولٌ بِنَاءً، عَلَى أَنَّ الْخُرُوجَ مِنْ الْمَسْجِدِ لَيْسَ بِطُولٍ بَلْ بِالْعُرْفِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بَعْدِيًّا كَمَا لَوْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ زَادَ رَكْعَةً سَهْوًا وَنَسِيَ السُّجُودَ حَتَّى خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ فِي أَيِّ جَامِعٍ كَانَ، قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالْجَامِعِ فِي الْجُمُعَةِ فِي أَوَّلِهِ. الثَّالِثُ: التَّقْيِيدُ بِالسَّهْوِ فِي هَذَا الْبَابِ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَطْلُبُ السُّجُودَ لِلْعَمْدِ كَطُولٍ بِمَحَلٍّ لَمْ يُشَرَّعْ بِهِ التَّطْوِيلُ كَالرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ، وَمَنْ اسْتَوْفَزَ لِلْقِيَامِ عَلَى يَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، بِخِلَافِ التَّطْوِيلِ بِمَحِلٍّ يُشَرَّعُ فِيهِ التَّطْوِيلُ فَلَا سُجُودَ إلَّا أَنْ يَخْرُجَ عَنْ حَدِّهِ فَيَسْجُدُ، وَمِنْ غَيْرِ السَّهْوِ الشَّكُّ فِي الزِّيَادَةِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لَهَا، وَأَيْضًا ذَكَرَ اللَّخْمِيُّ أَنَّ مَنْ تَرَكَ الْفَاتِحَةَ عَمْدًا مِنْ رَكْعَةٍ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ وَمُقَابِلُهُ بُطْلَانُ صَلَاتِهِ بَلْ حَكَى بَعْضُهُمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ، وَلَا يُقَالُ: السُّنَّةُ الْوَاحِدَةُ جَرَى الْخِلَافُ فِي بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِهَا وَعَدَمِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ. هَذِهِ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا فَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا وَبِتَرْكِ السُّجُودِ لَهَا، وَلَوْ مِنْ رَكْعَةٍ عِنْدَ تَرْكِهَا سَهْوًا، وَإِنْ كَانَتْ الصَّلَاةُ لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ سُجُودِ السَّهْوِ إلَّا إنْ كَانَ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ. (وَإِنْ كَانَ) السُّجُودُ الَّذِي سَهَا عَنْ الْإِتْيَانِ بِهِ فِي مَحَلِّهِ (قَبْلَ السَّلَامِ) وَسَلَّمَ تَارِكًا لَهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ (إنْ كَانَ) تَذَكُّرُهُ (قَرِيبًا) مِنْ الصَّلَاةِ وَالْقُرْبُ بِالْعُرْفِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَبِعَدَمِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ عِنْدَ أَشْهَبَ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَيُحْرِمُ لَهُمَا وَلَا يَرْجِعُ إلَّا إصْلَاحَ مَا نَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ إلَّا بِإِحْرَامٍ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَتَأْخِيرُ الْقَبْلِيَّتَيْنِ عَفْوٌ، وَرَوَى مُحَمَّدٌ إنْ ذَكَرَهُمَا قَبْلَ سَلَامِهِ رَجَعَ لَهُمَا بِإِحْرَامٍ، وَكَذَا كُلُّ رَاجِعٍ لِبَاقٍ عَلَيْهِ بِالْقُرْبِ، كَمَنْ سَلَّمَ وَتَذَكَّرَ مَا يُفْسِدُ لَهُ رَكْعَةً أَوْ نَسِيَ رُكُوعًا مِنْ رَكْعَةٍ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِرَكْعَةٍ بَدَلَهَا حَيْثُ قَرُبَ لَكِنْ بِإِحْرَامٍ، وَصِفَةُ الْإِتْيَانِ أَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَارِكُ رُكُوعٍ يَرْجِعُ قَائِمًا، وَتَارِكُ سَجْدَةٍ يَجْلِسُ لَا سَجْدَتَيْنِ، وَتَارِكُ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ يَرْجِعُ مُحْدَوْدَبًا، وَقَالَ أَيْضًا: وَتَدَارُكُ الرُّكْنِ الْمَتْرُوكِ إنْ لَمْ يَعْقِدْ رُكُوعَ رَكْعَةٍ تَالِيَةٍ لِرَكْعَةِ السَّهْوِ، وَإِلَّا رَجَعَتْ الْمَعْقُودَةُ مَكَانَهَا، وَإِنْ كَانَ الرُّكْنُ الْمَتْرُوكُ مِنْ الْأَخِيرَةِ يُتَدَارَكُ إنْ لَمْ يُسَلِّمْ فَإِنْ سَلَّمَ بَنَى إنْ قَرُبَ بِإِحْرَامٍ وَلَمْ تَبْطُلُ بِتَرْكِهِ وَجَلَسَ لَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ. (وَ) مَفْهُومُ إنْ كَانَ قَرِيبًا (إنْ بَعُدَ) تَذَكُّرُهُ مِنْ السَّلَامِ (ابْتَدَأَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 صَلَاتَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنْ نَقْصِ شَيْءٍ خَفِيفٍ كَالسُّورَةِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ التَّشَهُّدَيْنِ وَشِبْهَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يُجْزِئُ سُجُودُ السَّهْوِ لِنَقْصِ رَكْعَةٍ وَلَا سَجْدَةٍ وَلَا لِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا أَوْ فِي رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ   [الفواكه الدواني] صَلَاتَهُ) لِبُطْلَانِهَا حَيْثُ كَانَ السُّجُودُ مُتَرَتِّبًا عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ فَأَكْثَرَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ) السُّجُودُ (مِنْ نَقْصِ) أَيْ مِنْ أَجْلِ نَقْصِ (شَيْءٍ خَفِيفٍ كَالسُّورَةِ) الَّتِي تُقْرَأُ (مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ) فَلَا يَلْزَمُهُ ابْتِدَاءُ صَلَاتِهِ لِعَدَمِ بُطْلَانِهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ السُّجُودِ الْقَبْلِيِّ، إلَّا إنْ كَانَ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ، وَعَدَمُ لُزُومِ ابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ السُّجُودُ لِتَرْكِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ الْبُطْلَانِ بِتَرْكِ السُّجُودِ لِلسُّورَةِ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلُ مِنْهُ الْقِيَامُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَامَ لَهَا سُنَّةٌ وَسِرُّهَا أَوْ جَهْرُهَا مِنْ صِفَتِهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتْرُكْ إلَّا سُنَّةً وَاحِدَةً فَلَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ السُّجُودِ لَهَا وَلَوْ كَانَتْ مُؤَكَّدَةً، وَأَمَّا لَوْ قُلْنَا: الْقِيَامُ لَهَا سُنَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى السُّورَةِ وَالسِّرِّ أَوْ الْجَهْرِ كَذَلِكَ لَبَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِتَرْكِ السُّجُودِ حَيْثُ تَرَكَ الْجَمِيعَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ يَحْتَمِلُ كَلَامُهُ الْمَشْيَ عَلَى عَدِّ قِيَامِهَا سُنَّةً، فَلَا يُقَيِّدُ كَلَامُهُ بِمَا إذَا قَامَ، وَيُحْتَمَلُ الْمَشْيُ عَلَى عَدِّهِ سُنَّةً كَالسِّرِّ أَوْ الْجَهْرِ فَيُقَيِّدُ عَدَمَ الْبُطْلَانِ بِمَا إذَا قَامَ مِنْ غَيْرِ قِرَاءَةِ السُّورَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُصْ ثَلَاثَ سُنَنٍ، وَإِنَّمَا نَقَصَ سُنَّتَيْنِ، وَجَرَى عَلَى هَذَا أَكْثَرُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالُوا عِنْدَ قَوْلِهِ وَبِتَرْكِ قَبْلِيٍّ عَنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَطَالَ سَوَاءٌ كَانَتْ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً كَالسُّورَةِ أَوْ قَوْلِيَّةً فَقَطْ كَثَلَاثِ تَكْبِيرَاتٍ. (أَوْ) إلَّا أَنْ يَكُونَ عَنْ نَقْصِ (تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ التَّشَهُّدَيْنِ) وَالْحَالُ أَنَّهُ جَلَسَ لَهُمَا وَإِلَّا بَطَلَتْ، وَاعْتَرَضَ الْقَرَافِيُّ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ قَائِلًا: لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يَنْسَى التَّشَهُّدَيْنِ وَيَكُونُ السُّجُودُ لَهُمَا قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَحَقَّقُ سَهْوُهُ عَنْ التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ إلَّا بِالسَّلَامِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَا قَبْلَهُ ظَرْفٌ لِلتَّشَهُّدِ، وَأُجِيبُ بِتَصَوُّرِ ذَلِكَ فِي الْمُدْرِكِ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُ يَتَشَهَّدُ مَعَ الْإِمَامِ فِي جُلُوسِهِ الْأَخِيرِ، فَإِذَا قَامَ أَتَى بِرَكْعَةٍ وَجَلَسَ عَلَيْهَا يَتَشَهَّدُ، فَإِذَا أَتَى بِالثَّانِيَةِ يَتَشَهَّدُ، فَإِذَا نَسِيَ الْأَوَّلَ الَّذِي يَتَشَهَّدُهُ مَعَ الْإِمَامِ وَالثَّانِي يُتَصَوَّرُ بِنِسْيَانِ تَشَهُّدَيْنِ زَائِدَيْنِ عَلَى مَا قَبْلَ السَّلَامِ، وَكَذَا يُتَصَوَّرُ فِي الْمُقِيمِ يُدْرِكُ رَكْعَةً مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْمُسَافِرِ، وَلِي فِي هَذَا الْجَوَابِ بَحْثٌ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ التَّشَهُّدَ الْأَوَّلَ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ يَحْمِلُهُ الْإِمَامُ فَلَا يُنْظَرُ لَهُ: وَالْبَحْثُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ التَّشَهُّدَيْنِ يُسْجَدُ لَهُمَا، نَعَمْ يُتَصَوَّرُ فِي الرَّاعِفِ الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَالْمُقِيمُ يُصَلِّي صَلَاةَ الْخَوْفِ خَلْفَ مُسَافِرٍ، وَالْمُقِيمُ الْمَسْبُوقُ يُصَلِّي خَلْفَ مُسَافِرٍ، فَيَجْتَمِعُ لِهَؤُلَاءِ الْقَضَاءُ وَهُوَ مَا فَاتَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ، وَالْبِنَاءُ وَهُوَ مَا فَاتَهُمْ بَعْدَهُ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ تَقْدِيمُ الْبِنَاءِ. (وَ) مِنْ الْخَفِيفِ (شِبْهِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ كَنَصِّ تَكْبِيرَةِ عِيدٍ أَوْ تَسْمِيعَةٍ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ يُخَاطَبُ بِالسُّجُودِ لِجَمِيعِ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ نَقْصِ السُّورَةِ أَوْ التَّشَهُّدَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا عَلَى مَا شَهَرَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَقَالَ: إنَّهُ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْبُطْلَانِ وَعَدَمِ السُّجُودِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَبِتَرْكِ قَبْلِيٍّ عَنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ وَطَالَ لَا أَقَلَّ فَلَا سُجُودٌ. (تَنْبِيهٌ) : مَا تَقَدَّمَ مِنْ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِتَرْكِ الْقَبْلِيِّ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ بِشَرْطِ الطُّولِ إنْ كَانَ تَرَكَهُ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ، وَأَمَّا لَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا لَبَطَلَتْ صَلَاتُهُ بِمُجَرَّدِ التَّرْكِ هَكَذَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَالَ السَّنْهُورِيُّ: لَا تَبْطُلُ إلَّا بِالطُّولِ وَلَوْ كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا، وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْأَوْجَهَ كَلَامُ السَّنْهُورِيِّ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّأْخِيرَ الْقَبْلِيَّ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَلَوْ كَانَ عَمْدًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ إنْ قَدَّمَ أَوْ أَخَّرَ وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا عَمْدًا فَإِطْلَاقُ خَلِيلٍ فِي قَوْلِهِ وَطَالَ مُسْلِمٌ وَتَأَمَّلْهُ، وَلَمَّا كَانَ الْمَجْبُورُ بِالسُّجُودِ مُخْتَصًّا بِنَقْصِ السُّنَنِ قَالَ: (وَلَا يُجْزِئُ سُجُودُ السَّهْوِ لِنَقْصِ رَكْعَةٍ) كَامِلَةٍ تَيَقَّنَ تَرْكُهَا أَوْ شَكَّ فِيهِ حَالَ تَشَهُّدِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا لِفَرِيضَةٍ أَوْ غَيْرِ مُؤَكَّدَةٍ، وَكَيْفِيَّةُ الْإِتْيَانِ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ أَنَّهُ يَأْتِي بِهَا بَانِيًا عَلَى مَا مَعَهُ مِنْ الرَّكَعَاتِ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَى الْأُولَيَيْنِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَسْجُدُ لِنَقْصِ السُّورَةِ إذَا فَاتَتْهُ فِيمَا صَارَ أَوَّلَ صَلَاتِهِ لِانْقِلَابِ رَكَعَاتِهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ حَيْثُ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا. (وَلَا) يُجْزِئُ أَيْضًا سُجُودُ السَّهْوِ لِنَقْصِ (سَجْدَةٍ) أَوْ رُكُوعٍ أَوْ رَفْعٍ مِنْهُمَا، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي حَالِ قِيَامِهِ أَوْ تَشَهُّدِهِ قَبْلَ سَلَامِهِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِالرُّكُوعِ قَبْلَ عَقْدِ مَا يَلِي الرَّكْعَةَ الْمَتْرُوكِ مِنْهَا بِأَنْ يَرْجِعَ لِلرُّكُوعِ قَائِمًا إنْ ذَكَرَهُ جَالِسًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَارِكُ رُكُوعٍ يَرْجِعُ قَائِمًا، وَتَارِكُ الرَّفْعِ مِنْهُ يَرْجِعُ مُحْدَوْدَبًا، وَتَارِكُ سَجْدَةٍ يَجْلِسُ وَسَجْدَتَيْنِ يَخِرُّ سَاجِدًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَأْتِي بِمَا نَسِيَهُ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عِنْدَ إمْكَانِ تَدَارُكِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَمْ يُسَلِّمْ إذَا كَانَ الْمَتْرُوكُ مِنْ الْأَخِيرَةِ، وَلَمْ يَعْقِدْ رُكُوعًا إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ، فَإِنْ سَلَّمَ بَطَلَتْ الرَّكْعَةُ الْمَنْقُوصُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ السَّلَامَ مِنْ الْأَخِيرَةِ بِمَنْزِلَةِ عَقْدِ رُكُوعٍ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ بَدَلَهَا إنْ كَانَ قَرِيبًا، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ أَوْ مِنْ ثَلَاثٍ لِاعْتِقَادِهِ كَمَالَ صَلَاتِهِ، فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا مَعَهُ إنْ قَرُبَ. قَالَ خَلِيلٌ مُفَرِّعًا عَلَى السَّلَامِ وَبَنَى إنَّ قَرُبَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ بِإِحْرَامٍ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ وَجَلَسَ لَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ إنْ كَانَ السَّلَامُ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَإِلَّا حَرُمَ مِنْ الْحَالَةِ الَّتِي فَارَقَ الصَّلَاةَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ، وَإِنْ كَانَ النَّقْصُ مِنْ غَيْرِ الْأَخِيرَةِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ مَا لَمْ يَعْقِدْ رُكُوعَ مَا بَعْدَهَا، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرَ النَّقْصَ حَتَّى رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ رُكُوعِ الَّتِي تَلِيهَا فَإِنَّ الْمَنْقُوصَ مِنْهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ وَاخْتُلِفَ فِي السَّهْوِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِهَا فَقِيلَ يُجْزِئُ فِيهِ سُجُودُ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَقِيلَ يُلْغِيهَا وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ، وَقِيلَ يَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ وَلَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ احْتِيَاطًا وَهَذَا   [الفواكه الدواني] تَبْطُلُ وَتَرْجِعُ الْمَعْقُودَةُ مَكَانَهَا وَتَنْقَلِبُ رَكَعَاتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَجَعَتْ الثَّانِيَةُ أَوْلَى بِبُطْلَانِهَا لِفَذٍّ وَإِمَامٍ، وَكَذَا لَوْ نَقَصَ جَمِيعُ سَجَدَاتِ الْأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ حَتَّى جَلَسَ فِي التَّشَهُّدِ الْأَخِيرِ فَإِنَّ رَكَعَاتِهِ تَبْطُلُ مَا عَدَا الْأَخِيرَةَ فَيُجْبِرُهَا بِالسُّجُودِ لَهَا حَيْثُ لَمْ يُسَلِّمْ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَبَطَلَ بِأَرْبَعِ سَجَدَاتٍ مِنْ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ الْأُوَلِ وَتَرْكُ جَمِيعِ السَّجَدَاتِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الْأَرْبَعِ بَلْ أَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَذْكُرْ السَّجَدَاتِ حَتَّى سَلَّمَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ كُلُّهَا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) . الْأَوَّلُ: هَذَا كُلُّهُ إذَا عَرَفَ الرُّكْنَ الْمَتْرُوكَ مِنْهَا مِنْ سَجْدَةٍ أَوْ رُكُوعٍ، وَأَمَّا لَوْ نَسِيَ فَرِيضَةً وَلَمْ يُدْرِكُونَهَا سَجْدَةً أَوْ رُكُوعًا أَوْ غَيْرَهُمَا فَإِنَّهُ يَجْعَلُهُ الْإِحْرَامَ أَوْ النِّيَّةَ فَيُحْرِمُ بِنِيَّتِهِ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ بِسَلَامٍ وَلَا كَلَامٍ؛ لِأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِصَلَاتِهِ وَيَأْتِي بِجَمِيعِ الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَإِنْ تَيَقَّنَ الْإِحْرَامَ وَحْدَهُ أَوْ شَيْئًا زَائِدًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى مَا تَيَقَّنَ الْإِتْيَانُ بِهِ مِنْ كَوْنِهِ إحْرَامًا أَوْ مَعَ شَيْءٍ بَعْدَهُ، فَمُتَيَقِّنُ الْإِحْرَامِ يَبْنِي عَلَيْهِ أَوْ الْإِحْرَامَ وَالْفَاتِحَةَ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَيْهِمَا وَيَأْتِي بِمَا بَعْدَهُمَا، وَهَكَذَا يَجْعَلُ الْمَشْكُوكَ فِيهِ هُوَ مَا بَعْدَ الْمُتَيَقَّنِ، فَمُتَيَقِّنُ الْإِحْرَامِ فَقَطْ يَجْعَلُ الْمَنْسِيَّ الْفَاتِحَةَ وَهَكَذَا، وَلَا يُقَالُ: لُزُومُ الْإِحْرَامِ بِنِيَّةٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْأُولَى بَطَلَتْ أَصْلًا فَلِأَيِّ شَيْءٍ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إنْشَاءُ الْإِحْرَامِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْطَعْهَا بِسَلَامٍ أَوْ كَلَامٍ، بَلْ الْمَطْلُوبُ الْإِتْيَانُ بِإِحْرَامٍ مُتَيَقَّنٍ مِنْ غَيْرِ قَطْعِ الْأُولَى كَمَا قَدَّمْنَا لِاحْتِمَالِ وُجُودِ إحْرَامِهِ وَلَا مُوجِبَ لِقَطْعِهِمَا فَيَكُونُ هَذَا الْإِحْرَامُ مَحْضَ زِيَادَةٍ هَذَا إيضَاحُهُ. الثَّانِي: قَوْلُهُمْ الْفَرْضُ الْمَتْرُوكُ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ يُشْعِرُ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ تَدَارُكُهُ، وَأَمَّا نَحْوُ النِّيَّةِ وَتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَلَا يُتَدَارَكَانِ؛ لِأَنَّهُمَا إذَا نُسِيَا لَمْ تُوجَدُ صَلَاتُهُ، فَإِذَا سَهَا عَنْ النِّيَّةِ أَوْ عَنْ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَبْتَدِئُ صَلَاتَهُ مِنْ أَوَّلِهَا، وَلَيْسَتْ هَذِهِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ تَرَكَ فَرْضًا أَوْ شَكَّ فِي عَيْنِهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ تَيَقُّنُ تَرْكِ النِّيَّةِ فَلَا شَيْءَ مَعَهُ يَبْنِي عَلَيْهِ إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا وَيَتَمَادَى مَعَ الْإِمَامِ إنْ كَانَ مَأْمُومًا. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّقْصَ الْمَشْكُوكَ فِيهِ كَالْمُحَقَّقِ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ مَا يَشْمَلُ الْوَهْمَ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي نَقْصِ الْفَرَائِضِ كَتَحَقُّقِهِ فِي وُجُوبِ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِ الْمَشْكُوكِ فِيهِ حَيْثُ لَا اسْتِنْكَاحَ، بِخِلَافِ السُّنَنِ فَلَا يَسْجُدُ لِنَقْصِهَا إلَّا عِنْدَ تَيَقُّنِ النَّقْصِ أَوْ التَّرَدُّدِ فِيهِ عَلَى السَّوَاءِ لَا عِنْدَ تَوَهُّمِهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْت فِي ذَلِكَ شَفَقَةٌ عَلَى الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يُوجَدَ هَذَا الْإِيضَاحُ. (وَلَا) يُجْزِئُ أَيْضًا سُجُودُ السَّهْوِ (لِتَرْكِ الْقِرَاءَةِ) لِلْفَاتِحَةِ (فِي الصَّلَاةِ كُلِّهَا) عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ قِرَاءَتُهَا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ مِنْ وُجُوبِ الْفَاتِحَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ. وَرُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ الْإِجْزَاءُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْفَاتِحَةَ لَا تَجِبُ فِي شَيْءٍ مِنْ الرَّكَعَاتِ لِحَمْلِ الْإِمَامِ لَهَا، قَالَ الْبَاجِيُّ: هُوَ شُذُوذٌ. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يُجْزِئُ سُجُودُ السَّهْوِ (فِي) تَرْكِ الْقِرَاءَةِ عَنْ (رَكْعَتَيْنِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ لَا يُجْزِئُ السُّجُودُ (فِي تَرْكِ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ) أَوْ الْجُمُعَةِ وَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِبَدَلِ الْمَتْرُوكِ مِنْهَا، فَتُلَخَّصُ أَنَّ الصَّلَاةَ تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْفَاتِحَةِ فِي جَمِيعِ الصَّلَاةِ أَوْ جُلِّهَا أَوْ نِصْفِهَا حَيْثُ فَاتَ تَدَارُكُ الْمَتْرُوكِ مِنْهَا. وَشَرَعَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ أَتَى بِهَا فِي جُلِّ صَلَاتِهِ وَتَرَكَهَا فِي أَقَلِّهَا، وَهُوَ مَفْهُومُ مَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَاخْتُلِفَ فِي السَّهْوِ عَنْ الْقِرَاءَةِ فِي رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِهَا) أَيْ مِنْ غَيْرِ الصُّبْحِ بَلْ مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ، وَأَتَى بِهَا فِي جُلِّ الصَّلَاةِ عَلَى ثَلَاثِ رِوَايَاتٍ عَنْ الْإِمَامِ كُلُّ وَاحِدَةٍ مُقَيَّدَةٌ بِقَيْدٍ تَرَاهُ فِي مَحَلِّهِ أَشَارَ إلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ: (فَقِيلَ يُجْزِئُ عَنْهَا) أَيْ عَنْ الْفَاتِحَةِ مِنْ رَكْعَةٍ (سُجُودُ السَّهْوِ قَبْلَ السَّلَامِ) بِنَاءً عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا أَوْ فِي رَكْعَةٍ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَقَيَّدَ هَذَا الْقِيلَ بِمَا إذَا فَاتَ تَدَارُكُهَا بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ عَدَمَ قِرَاءَتِهَا إلَّا بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ بِنَاءً عَلَى عَقْدِهَا بِرَفْعِ الرَّأْسِ وَهُوَ مَا عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَعَلَى مُقَابِلِهِ بِوَضْعِ الْيَدَيْنِ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَفُتْ التَّدَارُكُ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا، وَلَوْ كَانَ قَرَأَ السُّورَةَ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُعِيدُ السُّورَةَ أَوْ لَا؟ وَعَلَى إعَادَتِهَا فَقِيلَ يَسْجُدُ لِزِيَادَتِهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَقِيلَ لَا سُجُودَ قَوْلَانِ: فَإِنْ سَلَّمَ قَبْلَ السُّجُودِ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّجُودِ سَجَدَ بَعْدَهُ إنْ ذَكَرَهُ بِالْقُرْبِ وَإِنْ طَالَ بَطَلَتْ؛ لِأَنَّ الْفَاتِحَةَ سُنَّةٌ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا فَالسُّجُودُ لَهَا أَوْكَدُ مِنْ الْقَبْلِيِّ الْمُرَتَّبِ عَنْ نَقْصِ ثَلَاثِ سُنَنٍ. وَيُفْهَمُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إعَادَةِ السُّورَةِ أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْفَاتِحَةِ الْمَنْسِيَّةِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى أَوْ غَيْرِهَا مِنْ بَاقِي الرَّكَعَاتِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى الرِّوَايَةِ الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ) لَا يُجْزِئُ عَنْ الْفَاتِحَةِ السُّجُودُ، وَلَوْ مِنْ رَكْعَةٍ وَ (يُلْغِيهَا) أَيْ الرَّكْعَةَ الْمَتْرُوكَةُ مِنْهَا الْفَاتِحَةُ (وَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ) وَشَهَرَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَابْنُ شَاسٍ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 أَحْسَنُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى وَمَنْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَةٍ أَوْ عَنْ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَرَّةً أَوْ الْقُنُوتِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَمَنْ   [الفواكه الدواني] فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ فَيَأْتِي بِرَكْعَةٍ لِفَوَاتِ رُكْنِهَا كَمَا لَوْ نَسِيَ سُجُودَهَا أَوْ رُكُوعَهَا، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ حَيْثُ جَلَسَ بَعْدَ رَكْعَتَيْنِ صَحِيحَتَيْنِ بِحَيْثُ قَرَأَ فِيهِمَا الْفَاتِحَةَ وَالسُّورَةَ، وَإِلَّا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ لِزِيَادَةِ الرَّكْعَةِ الْمَلْغِيَّةِ وَنَقْصِ الْجُلُوسِ وَالسُّورَةِ مِنْ الثَّانِيَةِ الَّتِي ظَنَّهَا ثَالِثَةً؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا تَذَكَّرَ فِي الرَّابِعَةِ لِجَعْلِهِ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ فَإِنَّهُ يَجْعَلُهَا ثَالِثَةً وَيَأْتِي بِرَابِعَةٍ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ فَيَجْتَمِعُ لَهُ نَقْصٌ وَزِيَادَةُ الزِّيَادَةِ هِيَ الرَّكْعَةُ الْمَلْغِيَّةُ وَالنَّقْصُ السُّورَةُ وَالْجُلُوسُ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَهَا فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى قَبْلَ إكْمَالِهَا بِسَجْدَتَيْهَا لَأَلْغَى مَا فَعَلَهُ مِنْ السُّجُودِ وَالرُّكُوعِ، وَاسْتَأْنَفَ قِرَاءَةَ الْفَاتِحَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى قَامَ لِلثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يُلْغِيهَا وَيَجْعَلُ الثَّانِيَةَ الَّتِي قَامَ لَهَا مَحَلَّهَا، وَإِنْ تَذَكَّرَهَا فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ رُكُوعِهِ فَإِنَّهُ يَقْرَؤُهَا مَعَ السُّورَةِ، وَيَجْعَلُهَا ثَانِيَةً وَيَسْجُدُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَعْدَ سَلَامٍ إذْ مَعَهُ مَحْضُ زِيَادَةٍ، وَأَشَارَ إلَى الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ يَسْجُدُ) لَهَا (قَبْلَ السَّلَامِ وَلَا يَأْتِي بِرَكْعَةٍ) بَلْ يَعْتَدُّ بِهَا لِإِغْنَاءِ السُّجُودِ عَنْ إعَادَتِهَا (وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ) نَدْبًا (احْتِيَاطًا) . قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ إتْمَامَ الْأُولَى وَاجِبٌ وَإِعَادَتَهَا مَنْدُوبَةٌ؛ لِأَنَّ الِاحْتِيَاطَ لَا يَكُونُ إلَّا مَنْدُوبًا، وَإِنَّمَا أَمَرَ الْمُصَلِّيَ بِالِاحْتِيَاطِ لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَبِالْإِعَادَةِ افْتَرَقَتْ الرِّوَايَةُ الثَّالِثَةُ مِنْ الْأُولَى لِاتِّفَاقِهِمَا عَلَى السُّجُودِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنَّمَا تَمَيَّزَتْ الثَّالِثَةُ عَنْ الْأُولَى بِنَدْبِ إعَادَتِهَا. قَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَمَحَلُّ هَذَا الْخِلَافِ إذَا فَاتَ تَدَارُكُهَا، وَكَانَ التَّذَكُّرُ فِي الرَّابِعَةِ فَإِنْ لَمْ يَفُتْ تَدَارُكُهَا بِأَنْ ذَكَرَ الْفَاتِحَةَ قَبْلَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِهَا أَوْ وَضْعِ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ عَلَى الْخِلَافِ الْمُتَقَدِّمِ لَرَجَعَ لِلْقِرَاءَةِ وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ التَّذَكُّرُ فِي الثَّانِيَةِ قَبْلَ رَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ الرُّكُوعِ فَقَوْلَانِ بِالْقَطْعِ مِنْ غَيْرِ شَفْعٍ وَقِيلَ يُشَفِّعُهَا، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ فِي الثَّانِيَةِ بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ رُكُوعِهَا فَإِنَّهُ يُشَفِّعُهَا اتِّفَاقًا، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ فِي الثَّالِثَةِ قَبْلَ قِيَامِهِ لِلرَّابِعَةِ فَإِنَّهُ يُشَفِّعُهَا وَلَوْ بَعْدَ سُجُودِهَا، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ فِي الرَّابِعَةِ فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ أَنَّ إتْمَامَهَا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ إذَا عَلِمْت هَذَا ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ، وَمَا يَتَمَيَّزُ بِهِ كُلُّ قَوْلٍ مِنْ غَيْرِهِ. (وَهَذَا) الْقِيلُ الثَّالِثُ (أَحْسَنُ ذَلِكَ) الْخِلَافِ أَيْ الْمُرْتَضَى مِنْ الرِّوَايَاتِ الثَّلَاثِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا أَحْسَنَ لِمَا فِيهِ مِنْ الِاحْتِيَاطِ بِالْإِعَادَةِ فَفِيهِ الْجَمْعُ بَيْنَ تَرْغِيمِ أَنْفِ الشَّيْطَانِ بِالسُّجُودِ وَالْإِعَادَةِ لِلِاحْتِيَاطِ، وَإِنَّمَا قَالَ: (إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) مَعَ كَوْنِهِ أَحْسَنَ الرِّوَايَاتِ إمَّا لِعَدَمِ جَزْمِهِ بِمَا قَالَهُ مِنْ الْأَحْسَنِيَّةِ أَوْ لِلتَّبَرُّكِ بِهَا، وَهَذَا مَسْلَكٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّ عِلْمَ الْحَسَنِ قَطْعًا مُفَوَّضٌ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَهَذَا الْفَرْعُ زِيَادَةٌ عَلَى كَلَامِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا قَالَ: وَإِنْ تَرَكَ آيَةً مِنْهَا سَجَدَ بَعْدَ حِكَايَةِ الْخِلَافِ فِي وُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ جُلِّ الصَّلَاةِ وَطَوَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ إجْزَاءِ السُّجُودِ فِي تَرْكِ الْفَاتِحَةِ فِي كُلِّ الصَّلَاةِ أَوْ نِصْفِهَا، وَأُولَى جُلِّهَا هِيَ طَرِيقَةُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - فَلَا يُنَافِي مَا شَهَرَهُ الْفَاكِهَانِيُّ مِنْ أَنَّ تَرْكَهَا فِي جُلِّ صَلَاتِهِ وَأُولَى نِصْفِهَا يَجْزِيهِ السُّجُودُ قَبْلَ السَّلَامِ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ وُجُوبِهَا جُمْلَةً أَوْ فِي رَكْعَةٍ فَقَطْ، وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ احْتِيَاطًا، وَمَا شَهَرَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ مِنْ أَنَّ مَنْ تَرَكَهَا فِي نِصْفِ صَلَاتِهِ يَتَمَادَى وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ وَيُعِيدُ الصَّلَاةَ احْتِيَاطًا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ بَعْضَ الْفَاتِحَةِ مِنْ رَكْعَةٍ يَسْجُدُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَرَكَ آيَةً مِنْهَا سَجَدَ وَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ، وَاسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَلَعَلَّهُ مُرَاعَاةٌ لِمَنْ يَقُولُ بِوُجُوبِهَا فِي بَعْضِ الصَّلَاةِ أَوْ عَدَمِ وُجُوبِهَا جُمْلَةً. الثَّالِثُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ تَرْكِهِ الْفَاتِحَةَ أَوْ بَعْضَهَا عَمْدًا، وَمُحَصِّلُهُ كَمَا فِي بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ: أَنَّهُ إنْ تَرَكَهَا أَوْ بَعْضَهَا عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَأَمَّا عَلَى عَدَمِ وُجُوبِهَا جُمْلَةً أَوْ عَلَى وُجُوبِهَا فِي بَعْضِهَا فَقَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا الْبُطْلَانُ وَهُوَ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِ الشُّيُوخِ وَحُكِيَ عَلَيْهَا الِاتِّفَاقُ، وَالثَّانِي لِلَّخْمِيِّ يَسْجُدُ وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ لِمَا عَلِمْت مِنْ حِكَايَةِ بَعْضِهِمْ الِاتِّفَاقَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِنَقْصِ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ إلَّا إذَا كَانَ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً أَوْ خَفِيفَةً مُتَعَدِّدَةً شَرَعَ فِي مُحْتَرَزِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَهَا عَنْ تَكْبِيرَةٍ) مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرِ الْعِيدِ وَغَيْرِ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، (أَوْ عَنْ) لَفْظِ (سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ مَرَّةً وَاحِدَةً) رَاجِعٌ لِلتَّكْبِيرَةِ وَالتَّسْمِيعَةِ (أَوْ) سَهَا عَنْ (الْقُنُوتِ فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ) جَوَابُ مَنْ سَهَا؛ لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَقَرَنَهُ بِالْفَاءِ؛ لِأَنَّهُ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ، وَإِنْ سَجَدَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَمْدًا قَبْلَ سَلَامِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا بِإِمَامٍ سَجَدَ عَلَى مَذْهَبِهِ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ تَرَكَ السُّجُودَ خَلْفَهُ، أَمَّا لَوْ كَانَتْ تَكْبِيرَةَ الْعِيدِ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ الْعِيدِ أَوْ تَسْمِيعَتَيْنِ لَسَجَدَ، وَإِنْ صَحَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 انْصَرَفَ مِنْ الصَّلَاةِ ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْهَا شَيْءٌ فَلْيَرْجِعْ إنْ كَانَ بِقُرْبِ ذَلِكَ فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُحْرِمُ بِهَا، ثُمَّ يُصَلِّي مَا بَقِيَ عَلَيْهِ وَإِنْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ ابْتَدَأَ صَلَاتَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ السَّلَامَ وَمَنْ لَمْ يَدْرِ مَا صَلَّى أَثْلَاثَ رَكَعَاتٍ أَمْ أَرْبَعًا بَنَى عَلَى الْيَقِينِ وَصَلَّى مَا شَكَّ فِيهِ، وَأَتَى بِرَابِعَةٍ وَسَجَدَ بَعْدَ سَلَامِهِ وَمَنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ   [الفواكه الدواني] الصَّلَاةُ بِعَدَمِ السُّجُودِ، وَمِثْلُ التَّكْبِيرَتَيْنِ لَفْظُ التَّشَهُّدِ الْوَاحِدِ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ لِتَرْكِهِ عَلَى مَا شَهَرَهُ غَيْرُ خَلِيلٍ وَادَّعَى أَنَّهُ الْمَذْهَبُ، وَقَوْلُنَا غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَرْضِ فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ لَهُ. [مَا يَفْعَلُهُ مَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إكْمَالِ صَلَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِ كَمَالَهَا] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَفْعَلُهُ مَنْ سَلَّمَ قَبْلَ إكْمَالِ صَلَاتِهِ لِاعْتِقَادِهِ كَمَالَهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ انْصَرَفَ) أَيْ خَرَجَ (مِنْ الصَّلَاةِ) بِسَلَامٍ مُعْتَقِدًا كَمَالَهَا (ثُمَّ) بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْهَا بِالسَّلَامِ (ذَكَرَ أَنَّهُ بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا) كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ (فَلْيَرْجِعْ) وُجُوبًا بِإِحْرَامٍ إلَى تَمَامِ صَلَاتِهِ (إنْ كَانَ) تَذَكَّرَهُ (بِقُرْبِ ذَلِكَ) الِانْصِرَافِ (فَيُكَبِّرُ تَكْبِيرَةً يُحْرِمُ بِهَا) أَيْ يَنْوِي بِهَا إتْمَامَ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَيَنْدُبُ لَهُ رَفْعُ الْيَدَيْنِ فِي ذَلِكَ الْإِحْرَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَنَى إنْ قَرُبَ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ الْمَسْجِدِ بِإِحْرَامٍ، وَلَمْ تَبْطُلْ بِتَرْكِهِ، وَجَلَسَ لَهُ عَلَى الْأَظْهَرِ إنْ كَانَ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ فَارَقَ الصَّلَاةَ بَعْدَ ثَلَاثٍ لَمْ يَجْلِسْ. قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: وَإِذَا قُلْنَا يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الرُّجُوعِ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي فَارَقَ الصَّلَاةَ فِيهَا، فَإِنْ كَانَ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ رَجَعَ إلَى الْجُلُوسِ، وَإِنْ كَانَ سَلَّمَ مِنْ رَكْعَةٍ أَوْ ثَلَاثٍ فَذَكَرَ وَهُوَ قَائِمٌ رَجَعَ إلَى حَالَةِ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ السُّجُودِ، وَأَحْرَمَ مِنْهُ وَلَا يَجْلِسُ، وَحُكْمُ هَذَا الْجُلُوسِ إذَا كَانَ سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ الْوُجُوبُ، وَلَكِنْ لَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِتَرْكِهِ، كَمَا لَا تَبْطُلُ بِتَرْكِ الْإِحْرَامِ بِمَعْنَى التَّكْبِيرِ، وَإِذَا جَلَسَ وَكَبَّرَ لِلْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَقُومُ بِالتَّكْبِيرِ الَّذِي يَفْعَلُهُ مَنْ فَارَقَ الصَّلَاةَ مِنْ اثْنَتَيْنِ. (ثُمَّ) بَعْدَ إحْرَامِهِ بِالنِّيَّةِ وَالتَّكْبِيرِ مَعَ رَفْعِ الْيَدَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا (يُصْلِحُ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ يُصَلِّي (مَا بَقِيَ عَلَيْهِ) مِنْ الصَّلَاةِ وَيَسْجُدُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَنْكَحًا فَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ كَمَا يَأْتِي. قَالَ فِي الْكِفَايَةِ: وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ إذَا كَانَ الْمُصَلِّي فَذًّا أَوْ إمَامًا وَافَقَهُ الْمَأْمُومُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ خَالَفُوهُ فَإِنْ أَخْبَرَهُ عَدْلَانِ بِأَنَّهُ نَقَصَ مِنْ صَلَاتِهِ رَكْعَةً مَثَلًا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمَا إنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ خِلَافَ مَا أَخْبَرَاهُ بِهِ، وَإِنْ تَيَقَّنَ خِلَافَ مَا أَخْبَرَاهُ بِهِ فَلَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمَا، وَإِنْ كَثُرَ الْمُخْبِرُونَ لَهُ جِدًّا رَجَعَ إلَى قَوْلِهِمْ، وَلَوْ تَيَقَّنَ خِلَافَ مَا أَخْبَرُوهُ بِهِ، وَلَا يَرْجِعُ إلَى قَوْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَجَعَ إمَامٌ فَقَطْ لِعَدْلَيْنِ إنْ لَمْ يَتَيَقَّنْ إلَّا لِكَثْرَتِهِمْ جِدًّا. (وَ) مَفْهُومُ قَوْلِهِ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ (إنْ تَبَاعَدَ ذَلِكَ) التَّذَكُّرُ، وَهُوَ مَحْدُودٌ بِالْعُرْفِ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ (أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ) عِنْدَ أَشْهَبَ (ابْتَدَأَ صَلَاتَهُ) جَوَابُ إنْ تَبَاعَدَ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ صَلَاتَهُ لِلطُّولِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَشْهَبَ أَنَّ مُجَرَّدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَسْجِدِ تَبَاعُدٌ، وَلَوْ كَانَ الْمَسْجِدُ صَغِيرًا وَصَلَّى بِقُرْبِ بَابِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ وَهُوَ التَّحْدِيدُ لِلْقُرْبِ وَالْبُعْدِ بِالْعُرْفِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ عَلَى كَلَامِ أَشْهَبَ الْمَحَلُّ الْمَحْصُورُ، فَإِنْ صَلَّى فِي الصَّحْرَاءِ فَالْبَعْدُ عِنْدَهُ أَنْ يَصِلَ الْمُصَلِّي بَعْدَ انْصِرَافِهِ إلَى مَحَلٍّ لَا يُمْكِنُ الِاقْتِدَاءُ بِمَنْ فِيهِ مِمَّنْ يَكُونُ فِي مَحَلِّ الْمُصَلِّي النَّاسِي. (تَنْبِيهٌ) : مَحَلُّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِيمَنْ سَلَّمَ مِنْ صَلَاتِهِ عَامِدًا لِاعْتِقَادِهِ إتْمَامَ صَلَاتِهِ، وَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ عَالِمًا عَدَمَ إتْمَامِهَا أَوْ شَاكًّا فِي إتْمَامِهَا، وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكِحًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْبُطْلَانِ: كَمُسْلِمٍ شَكَّ فِي الْإِتْمَامِ، ثُمَّ ظَهَرَ الْكَمَالُ عَلَى الْأَظْهَرِ وَأَوْلَى لَوْ تَبَيَّنَ عَدَمُ الْكَمَالِ أَوْ لَمْ يَظْهَرْ شَيْءٌ وَأَمَّا الْمُسْتَنْكِحُ فَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِالْبِنَاءِ عَلَى الْأَكْثَرِ، وَقَوْلُنَا عَامِدًا إلَخْ لَا يُنَافِي أَنَّهُ سَاهٍ عَنْ الْإِتْمَامِ؛ لِأَنَّ مَنْ اعْتَقَدَ الْإِتْمَامَ سَاهٍ عَنْ النُّقْصَانِ فَافْهَمْ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الْإِمَامِ وَالْفَذِّ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ يُسَلِّمُ قَبْلَ إمَامِهِ لِظَنِّهِ سَلَامَ إمَامِهِ، فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ سَلَامَ إمَامِهِ وَيُسَلِّمُ مَعَهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُبْطِلُ صَلَاتَهُ وَإِلَّا ابْتَدَأَهَا، ثُمَّ شَبَّهَ فِي الْبِنَاءِ مَعَ الْقُرْبِ وَابْتِدَاءِ الصَّلَاةِ مَعَ الْبُعْدِ مَنْ كَمَّلَ صَلَاتَهُ وَنَسِيَ السَّلَامَ عَقِبَ التَّشَهُّدِ مِنْهَا فَقَالَ: (وَكَذَلِكَ مَنْ نَسِيَ السَّلَامَ) وَلَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى طَالَ طُولًا مُتَوَسِّطًا بَيْنَ الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ أَوْ فَارَقَ مَوْضِعَهُ فَإِنَّهُ يُعِيدُ التَّشَهُّدَ بَعْدَ رُجُوعِهِ بِإِحْرَامٍ مِنْ جُلُوسٍ لِيَقَعَ سَلَامُهُ مِنْ جُلُوسٍ عَقِبَ تَشَهُّدٍ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَعَادَ تَارِكُ السَّلَامِ التَّشَهُّدَ وَسَجَدَ إنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ، وَأَمَّا إنْ تَبَاعَدَ أَوْ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُحْمَلُ عَلَيْهِ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا؛ لِأَنَّهُ شَبَّهَ فِيمَا تَقَدَّمَ الْبِنَاءَ مَعَ الْبُعْدِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ نَاسِيَ السَّلَامِ يُتَصَوَّرُ فِيهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ: يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ وَتَشَهُّدٍ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ فِي صُورَتَيْنِ وَهُمَا الطُّولُ الْمُتَوَسِّطُ أَوْ مُفَارَقَةُ الْمَوْضِعِ. الثَّالِثُ: الطُّولُ جِدًّا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ. الرَّابِعُ: الْقُرْبُ جِدًّا وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا الِانْحِرَافُ عَنْ الْقِبْلَةِ فَيَعْتَدِلُ وَيُسَلِّمُ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ غَيْرِ تَكْبِيرٍ وَلَا تَشَهُّدٍ، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَنْحَرِفَ فَيُسَلِّمَ فَقَطْ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ خَمْسَةُ أَحْوَالٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سُجُودِ مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَمْ يَكُنْ انْحِرَافُهُ مُبْطِلًا كَمَنْ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ جَامِعِ عَمْرٍو. (وَمَنْ لَمْ يَدْرِ) أَيْ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ (مَا صَلَّى أَثْلَاثَ رَكَعَاتٍ أَمْ أَرْبَعًا) وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَحًا (بَنَى) وُجُوبًا (عَلَى الْيَقِينِ) أَيْ عَلَى الِاعْتِقَادِ الْجَازِمِ (وَصَلَّى مَا شَكَّ فِيهِ) أَيْ فِي تَرْكِهِ لِاقْتِصَارِهِ عَلَى الْمُتَيَقَّنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وَمَنْ لَمْ يَدْرِ أَسَلَّمَ أَمْ لَمْ يُسَلِّمْ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ فِي السَّهْوِ فَلْيَلْهَ عَنْهُ، وَلَا إصْلَاحَ عَلَيْهِ وَلَكِنْ عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] وَطَرْحِهِ الْمَشْكُوكَ فِيهِ وَهُوَ الرَّابِعَةُ فَيَأْتِي بِهَا، فَقَوْلُهُ: (وَأَتَى بِرَابِعَةٍ) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ مَا شَكَّ فِيهِ (وَسَجَدَ بَعْدَ سَلَامِهِ) وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ مَنْ اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ يَبْنِي عَلَى الْأَكْثَرِ، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ نَدْبًا، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا قَابَلَ الْيَقِينَ فَيَشْمَلُ الْوَهْمَ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ صَلَّى أَرْبَعًا وَتَوَهَّمَ أَنَّهُ صَلَّى ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَأْتِي بِرَابِعَةٍ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ عَامِرَةٌ يَقِينًا فَلَا تَبْرَأُ إلَّا بِأَمْرٍ مُتَيَقَّنٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الشَّاكَّ فِيمَا صَلَّى يَبْنِي عَلَى الْأَقَلِّ وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَمُقَابِلُهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ. قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَبِهِ أَقُولُ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «السَّلَامُ إذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلَاتِهِ فَلَمْ يَدْرِ كَمْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا فَلْيَطْرَحْ الشَّكَّ وَلْيَبْنِ عَلَى مَا اسْتَيْقَنَ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يُسَلِّمَ» وَإِنَّمَا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ الرَّكْعَةَ الْمَشْكُوكَ فِيهَا يُحْتَمَلُ أَنَّهَا الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ فَتَصِيرُ الثَّالِثَةُ ثَانِيَةً فَتَنْقُصُ السُّورَةُ وَالْجُلُوسُ، وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: السُّجُودُ بَعْدَ السَّلَامِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ إنَّمَا وَقَعَ فِي التَّوَالِي هَلْ هُوَ فِي الرَّابِعَةِ أَوْ فِي الثَّالِثَةِ؟ تُحَقَّقُ سَلَامَةُ الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْ النَّقْصِ بِأَنْ تُحَقَّقَ قِرَاءَةُ السُّورَةِ فِيهِمَا وَالْجُلُوسُ بَعْدَهُمَا، وَإِلَّا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ لِاحْتِمَالِ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ لِانْقِلَابِ الرَّكَعَاتِ عَلَى تَقْدِيرِ وُقُوعِ الشَّكِّ فِي تَرْكِ سَجْدَةٍ أَوْ رُكُوعٍ مِنْ الْأُولَيَيْنِ، أَوْ حَصَلَ شَكٌّ مُرَكَّبٌ بِأَنْ شَكَّ هَلْ صَلَّى ثَلَاثًا أَمْ أَرْبَعًا، وَعَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ مَا صَلَّاهُ أَرْبَعٌ أَوْ ثَلَاثٌ هَلْ قَرَأَ السُّورَةَ فِي الْأُولَيَيْنِ أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ يُرَاعَى وَلَوْ مَشْكُوكًا فِيهِ. (تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت أَنَّ قَوْلَهُ: وَأَتَى بِرَابِعَةٍ تَفْسِيرٌ لِمَا شَكَّ فِيهِ، عَلِمْت أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إنَّ قَوْلَهُ بَنَى عَلَى الْيَقِينِ الَّذِي هُوَ الثَّالِثَةُ وَصَلَّى مَا شَكَّ فِيهِ الَّتِي هِيَ الرَّابِعَةُ ثُمَّ قَالَ: وَأَتَى بِرَابِعَةٍ فَهِيَ رَابِعَةٌ فِي اللَّفْظِ خَامِسَةٌ فِي الْمَعْنَى، وَأَجَابَ بَعْضٌ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَتَى بِرَابِعَةٍ مِنْ زِيَادَةِ النَّاسِخِ، وَبَعْضٌ بِأَنَّهُ مَحْضُ تَكْرَارٍ، وَأَجَابَ بَعْضٌ؛ لِأَنَّهُ عَطْفُ تَفْسِيرٍ وَهُوَ أَحْسَنُ، وَعُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا الشَّكَّ بِمَا قَابَلَ الْيَقِينَ دَفَعَ الْإِشْكَالَ فِي كَلَامِهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ: بَنَى عَلَى الْيَقِينِ مَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَا يَبْنِي عَلَى الظَّنِّ، ظَاهِرُ قَوْلِهِ وَصَلَّى مَا شَكَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي مَا ظَنَّ فِعْلَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا تَدَافُعٌ، وَقَدْ عَلِمْت انْدِفَاعَهُ بِأَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّرَدُّدَ عَلَى السَّوَاءِ بَلْ مَا قَابَلَ الْيَقِينَ فَيَدْخُلُ فِيهِ الظَّنُّ. (وَمَنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا) عَنْ كَوْنِهِ فِي الصَّلَاةِ (سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ) إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ كَثِيرًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَحْمِلُهُ عَنْهُ الْإِمَامُ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ سَاهِيًا عَنْ الْمُعْتَمَدِ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِكَلَامِهِ، وَلَوْ قَلَّ أَوْ وَجَبَ كَالْكَلَامِ لَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ لِإِجَابَةِ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى فَرْضِ وُقُوعِهِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ، إلَّا مَا كَانَ لِإِصْلَاحِهَا فَلَا تَبْطُلُ بِهِ إلَّا أَنْ يُكْثِرَ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ مَا يَعُدُّهُ الْعُرْفُ كَثِيرًا وَلَوْ تَوَقَّفَ الْإِصْلَاحُ عَلَيْهِ، وَمِثَالُ الْكَلَامِ لِإِصْلَاحِ الصَّلَاةِ أَنْ يُسَلِّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ مُعْتَقِدًا كَمَالَ صَلَاتِهِ، ثُمَّ يَشُكُّ هَلْ كَمُلَتْ أَمْ لَا؟ وَتَعَذَّرَ عَلَيْهِ التَّسْبِيحُ فَسَأَلَ مَنْ خَلْفَهُ هَلْ كَمَّلَ الصَّلَاةَ أَمْ لَا؟ وَلَا سُجُودَ فِي هَذَا الْكَلَامِ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ وَإِنْ سَجَدَ لِزِيَادَةِ السَّلَامِ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مِنْهُ سَهْوًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثُ ذِي الْيَدَيْنِ وَهُوَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَلَّمَ مِنْ اثْنَتَيْنِ فِي إحْدَى صَلَاتَيْ الْعِشَاءِ فَقَالَ لَهُ ذُو الْيَدَيْنِ: أَنَسِيت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْ قَصُرَتْ الصَّلَاةُ» بِالرَّفْعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ؟ «فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَمْ أَنْسَ وَلَمْ تُقْصَرْ، فَالْتَفَتَ فَقَالَ: أَحَقٌّ مَا يَقُولُ ذُو الْيَدَيْنِ؟ فَقَالُوا: نَعَمْ، فَقَامَ وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ» . قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَمَوْضِعُ الدَّلِيلِ مِنْهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَكَلَّمَ ثُمَّ قَالَ. لَا يُقَالُ: أَنَّ ذَلِكَ كَانَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْكَلَامِ، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّ تَحْرِيمَ الْكَلَامِ كَانَ بِمَكَّةَ وَقِصَّةُ ذِي الْيَدَيْنِ كَانَتْ بِمَكَّةَ أَيْضًا قَالَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ، وَتَقَدَّمَ الرَّدُّ عَلَى مَنْ ادَّعَى النَّسْخَ أَيْضًا بِأَنَّ رَاوِيَ هَذَا الْحَدِيثِ أَبُو هُرَيْرَةَ وَهُوَ مُتَأَخِّرٌ إسْلَامًا، وَقَوْلُنَا يُسَلِّمُ مُعْتَقِدًا لِلْإِتْمَامِ، وَشَكَّ بَعْدَ ذَلِكَ فَسَأَلَ احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ شَكَّ قَبْلَ سَلَامِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ السُّؤَالُ كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ السَّلَامُ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَبْنِيَ عَلَى يَقِينِهِ، فَلَوْ سَلَّمَ أَوْ سَأَلَ فِي حَالِ شَكِّهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ شَكٌّ فِي إتْمَامِ صَلَاتِهِ قَبْلَ السَّلَامِ أَوْ عُرِضَ لَهُ الشَّكُّ بَعْدَ سَلَامِهِ مَعَ اعْتِقَادِ كَمَالِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُ مَا تَبْرَأُ بِهِ ذِمَّتُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ السُّؤَالُ بِالْكَلَامِ وَلَا السَّلَامِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، إلَّا الْإِمَامَ يُسَلِّمُ عَلَى يَقِينٍ، ثُمَّ يَحْصُلُ لَهُ الشَّكُّ مِنْ كَلَامِ الْمَأْمُومِينَ فَيَجُوزُ لَهُ السُّؤَالُ بِالْكَلَامِ إذَا تَعَذَّرَ عَلَيْهِ الْوُصُولُ إلَى الْعِلْمِ بِحَيْثُ لَا يَحْصُلُ بِإِشَارَةٍ وَلَا تَسْبِيحٍ. 1 - فَرْعٌ: مَنْ قَالَ بَعْدَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ السَّلَامُ فَقَطْ سَهْوًا، ثُمَّ ذَكَرَ وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ سَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، الْبُرْزُلِيُّ: وَكَانَ شَيْخُنَا الْإِمَامُ يُفْتِي بِأَنَّهُ يَرْجِعُ بِإِحْرَامٍ أَيْ وَيَسْجُدُ، وَسَمِعْت فِي الْمُذَكِّرَاتِ أَنَّهُ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ وَلَا إحْرَامَ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى (وَمَنْ لَمْ يَدْرِ) بَعْدَ إتْمَامِ صَلَاتِهِ (سَلَّمَ أَمْ لَمْ يُسَلِّمْ) وَتَفَكَّرَ قَلِيلًا (سَلَّمَ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ) وَمِثْلُهُ لَوْ شَكَّ هَلْ سَهَا عَنْ شَيْءٍ أَوْ لَمْ يَسْهُ، وَتَفَكَّرَ قَلِيلًا ثُمَّ تَبَيَّنَ عَدَمُ سَهْوِهِ، وَمَحَلُّ عَدَمِ السُّجُودِ حَيْثُ كَانَ قَرِيبًا، وَلَمْ يَنْحَرِفْ عَنْ الْقِبْلَةِ وَلَمْ يُفَارِقْ مَكَانَهُ، فَإِنْ انْحَرَفَ عَنْهَا سَجَدَ وَإِنْ طَالَ زَمَنُ تَفَكُّرِهِ بِأَنْ تَوَسَّطَ، وَمِثْلُهُ لَوْ فَارَقَ مَكَانَهُ بَنَى بِإِحْرَامٍ وَتَشَهُّدٍ وَسَلَّمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ السَّلَامِ، وَهُوَ الَّذِي يَكْثُرُ ذَلِكَ مِنْهُ يَشُكُّ كَثِيرًا أَنْ يَكُونَ سَهَا زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَا يُوقِنُ فَلْيَسْجُدْ بَعْدَ السَّلَامِ فَقَطْ وَإِذَا أَيْقَنَ بِالسَّهْوِ سَجَدَ بَعْدَ إصْلَاحِ صَلَاتِهِ فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ مِنْهُ فَهُوَ يَعْتَرِيهِ كَثِيرًا أَصْلَحَ صَلَاتَهُ، وَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ   [الفواكه الدواني] وَسَجَدَ بَعْدَ السَّلَامِ، فَإِنْ طَالَ جِدًّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا لَمْ يَسْجُدْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ سَلَامَهُ إمَّا وَاقِعٌ فِي مَحَلِّهِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكِلَاهُمَا لَا يَسْجُدُ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ إنَّمَا هُوَ فِي غَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ كَمَا قَدَّمْنَا ذِكْرَهُ مُحْتَرَزُهُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ) أَيْ كَثُرَ (الشَّكُّ فِي السَّهْوِ) فِي الصَّلَاةِ (فَلْيَلْهَ عَنْهُ) أَيْ يُعْرِضْ عَنْهُ وُجُوبًا (وَلَا إصْلَاحَ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَدَاؤُهُ كَالنَّفَسِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ، وَمُخَالَفَتُهُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ يُصْلِحُ وَيَسْجُدُ، فَلَوْ بَنَى الْمُسْتَنْكَحُ عَلَى الْأَقَلِّ وَلَمْ يَلْهَ عَنْهُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ عَامِدًا كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّ الْأَصْلَ الْبِنَاءُ عَلَى الْيَقِينِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْ الْمُسْتَنْكَحِ تَخْفِيفًا عَنْهُ فَإِذَا أَصْلَحَ فَعَلَ الْأَصْلَ، وَلَا يُقَالُ: الشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: أَخْرِجُوا مِنْ عُمُومِهِ الْمُسْتَنْكَحَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ عَلَى الْأَكْثَرِ وَلَا يَبْنِي عَلَى أَوَّلِ خَاطِرَيْهِ، خِلَافًا لِابْنِ الْحَاجِبِ وَبَعْضِ الْقَرَوِيِّينَ فِي قَوْلِهِمْ: أَنَّ الْمُوَسْوِسَ يَبْنِي عَلَى أَوَّلِ خَاطِرَيْهِ، فَإِنْ سَبَقَ لَهُ خَاطِرٌ بِأَنَّ صَلَاتَهُ تَمَّتْ، ثُمَّ قِيلَ لَهُ إنَّهَا لَمْ تَتِمَّ فَإِنَّهُ يَبْنِي عَلَى أَنَّهَا تَمَّتْ، وَعَكْسُهُ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَالْمُدَوَّنَةُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْمُسْتَنْكَحَ لَمْ يَنْضَبِطْ لَهُ خَاطِرٌ أَوَّلٌ مِنْ غَيْرِهِ كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ الْوِجْدَانُ، إذَا الشَّاكُّ مُتَرَدِّدٌ بَيْنَ أَمْرَيْنِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عَدَمِ إصْلَاحِ الْمُسْتَنْكَحِ عَدَمُ سُجُودِهِ قَالَ: (وَلَكِنْ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُسْتَنْكَحِ (أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ السَّلَامِ) اسْتِحْبَابًا؛ لِأَنَّهُ إلَى الزِّيَادَةِ أَقْرَبُ هَكَذَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: إنَّمَا يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ وَالْمُعْتَمَدُ كَلَامُ ابْنِ الْقَاسِمِ. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: فَلْيَلْهَ الْهَاءُ مِنْهُ مَفْتُوحَةٌ؛ لِأَنَّهُ مُضَارِعُ لَهَى كَعَلِمَ وَخَشِيَ، فَلَمَّا دَخَلَ الْجَازِمُ حُذِفَتْ أَلِفُهُ وَبَقِيَتْ الْفَتْحَةُ دَلِيلًا عَلَيْهَا، كَمَا فِي سَائِرِ الْأَفْعَالِ الْمُعْتَلَّةِ تَبْقَى حَرَكَةُ مَا قَبْلَ حَرْفِ الْعِلَّةِ بَعْدَ حَذْفِهِ، وَمَعْنَى الْإِلْهَاءِ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَعَدَمُ الْعَمَلِ بِمُقْتَضَاهُ بِحَيْثُ يَأْتِي بِمَا شَكَّ فِي عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِهِ، ثُمَّ فَسَّرَ حَقِيقَةَ الْمُسْتَنْكَحِ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ) أَيْ الْمُسْتَنْكَحُ (الَّذِي يَكْثُرُ ذَلِكَ) أَيْ الشَّكُّ (مِنْهُ) أَيْ الْمُسْتَنْكَحِ، وَذَلِكَ بِأَنْ (يَشُكَّ كَثِيرًا) أَيْ زَمَنًا كَثِيرًا (أَنْ يَكُونَ سَهَا زَادَ أَوْ نَقَصَ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَا يُوقِنُ) بِشَيْءٍ يَبْنِي عَلَيْهِ هَذَا هُوَ مَعْنَى الِاسْتِنْكَاحِ، وَفَسَّرَ ابْنُ عُمَرَ الْكَثْرَةَ بِأَنْ يَطْرَأَ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَفِي كُلِّ صَلَاةٍ أَوْ فِي الْيَوْمِ مَرَّتَيْنِ أَوْ مَرَّةً، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَا يَحْصُلُ لَهُ إلَّا بَعْدَ يَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَحٍ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: فَظَهَرَ لِي أَنَّ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَجْرِيَ فِي مَسْأَلَةِ الشَّكِّ مَا جَرَى فِي مَسْأَلَةِ السَّلَسِ، فَإِذَا زَادَ مِنْ إتْيَانِهِ عَلَى زَمَنِ عَدَمِ إتْيَانِهِ أَوْ تَسَاوَيَا فَهُوَ مُسْتَنْكَحٌ، وَإِنْ قَلَّ زَمَنُ إتْيَانِهِ فَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَحٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِزَمَنِ إتْيَانِهِ الْوَقْتَ الَّذِي يَحْصُلُ فِيهِ، بَلْ الْمُرَادُ الْأَيَّامُ الَّتِي يَأْتِي فِيهَا وَلَوْ مَرَّةً فَقَطْ، فَإِذَا أَتَاهُ يَوْمًا وَانْقَطَعَ يَوْمًا وَهَكَذَا أَوْ أَتَاهُ يَوْمَيْنِ وَيَنْقَطِعُ الثَّالِثَ وَهَكَذَا كَانَ مُسْتَنْكَحًا، وَأَمَّا لَوْ أَتَاهُ يَوْمًا وَانْقَطَعَ عَنْهُ يَوْمَيْنِ فَلَيْسَ بِمُسْتَنْكَحٍ، بَلْ الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْحَنَفِيَّةُ السَّمْحَةُ أَيْ الشَّرِيعَةُ السَّهْلَةُ أَنَّ الِاسْتِنْكَاحَ مَا يَشُقُّ مَعَهُ الْوُضُوءُ فِي الشَّكِّ فِي الْوُضُوءِ، وَفِي الصَّلَاةِ مَا تَشُقُّ مَعَهُ الصَّلَاةُ،؛ لِأَنَّهُ لَا يُلَفَّقُ شَكُّ الْوُضُوءِ إلَى الشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ، وَقَوْلُهُ: (فَلْيَسْجُدْ بَعْدَ السَّلَامِ فَقَطْ) مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ: وَلَكِنْ عَلَيْهِ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ السَّلَامِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: وَلَا يُوقِنُ تَكْرَارٌ فِي الْمَعْنَى مَعَ قَوْلِهِ يَشُكُّ؛ لِأَنَّ الَّذِي يَشُكُّ لَا يُوقِنُ. (تَنْبِيهٌ) قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ فِي كَلَامِهِ تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصَوُّرِ وَالْوَاجِبُ عَكْسُهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى الْمُسْتَنْكَحِ بِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَلْهَى عَنْهُ قَبْلَ أَنْ يَتَصَوَّرَ، وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ فِي مِثْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ فِيهِ تَقْدِيمَ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصَوُّرِ، وَإِنَّمَا فِيهِ تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصْوِيرِ لِلْغَيْرِ لَا عَلَى التَّصَوُّرِ، وَالْوَاجِبُ تَقْدِيمُهُ عَلَى التَّصْدِيقِ هُوَ التَّصَوُّرُ لَا التَّصْوِيرُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ كَانَ مُتَصَوِّرًا لِلْمُسْتَنْكَحِ قَبْلَ حُكْمِهِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَلْهَى عَنْهُ فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الشَّاكِّ بِقِسْمَيْهِ غَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ وَالْمُسْتَنْكَحِ شَرَعَ فِي السَّاهِي بِقِسْمَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا أَيْقَنَ) الْمُصَلِّي (بِالسَّهْوِ) بِأَنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَإِنْ لَمْ يَكْثُرْ ذَلِكَ مِنْهُ (سَجَدَ بَعْدَ إصْلَاحِ صَلَاتِهِ) بِالْإِتْيَانِ بِالْمَنْسِيِّ بِأَنْ تَذَكَّرَ فِي تَشَهُّدِهِ أَنَّهُ نَسِيَ رُكُوعًا أَوْ سُجُودًا مِنْ أُولَاهُ أَوْ ثَانِيَتِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِتْيَانُ بِهِ عَلَى نَحْوِ مَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا، وَيَسْجُدُ بَعْدَ السَّلَامِ، لِأَنَّ مَعَهُ مَحْضُ زِيَادَةٍ إنْ تَيَقَّنَ أَنَّهُ زَادَ رَكْعَةً أَوْ سُجُودًا قَبْلَ السَّلَامِ إنَّ تَذَكَّرَ بَعْدَ تَمَامِ صَلَاتِهِ وَقَبْلَ سَلَامِهِ أَنَّ نَقْصَ السُّورَةِ أَوْ تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ لَفْظَ تَشَهُّدٍ مَعَ جُلُوسِهِ أَوْ بِدُونِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: سَجَدَ بَعْدَ إصْلَاحِ صَلَاتِهِ إحَالَةٌ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ أَنَّ مَحْضَ الزِّيَادَةِ يَسْجُدُ لَهَا بَعْدَ السَّلَامِ، وَغَيْرَهَا يَسْجُدُ لَهَا قَبْلَهُ. (فَإِنْ كَثُرَ ذَلِكَ) السَّهْوُ (مِنْهُ فَهُوَ يَعْتَرِيهِ كَثِيرًا) تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ كَثُرَ (أَصْلَحَ صَلَاتَهُ) بِأَنْ يَأْتِيَ بِمَا تَيَقَّنَ نِسْيَانُهُ وَعَدَمُ الْإِتْيَانِ بِهِ (وَلَمْ يَسْجُدْ لِسَهْوِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ السَّهْوُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ، وَمَحَلُّ الْإِصْلَاحِ إذَا تَمَكَّنَ مِنْهُ، وَذَلِكَ فِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ السُّنَنِ وَالْفَرَائِضِ، فَالْمَنْسِيُّ إنْ كَانَ سُورَةً أَتَى بِهَا مَا لَمْ يَنْحَنِ وَيَضَعْ يَدَيْهِ عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 وَمَنْ قَامَ مِنْ اثْنَيْنِ رَجَعَ مَا لَمْ يُفَارِقْ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ فَإِذَا فَارَقَهَا تَمَادَى، وَلَمْ يَرْجِعْ وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ وَمَنْ   [الفواكه الدواني] رُكْبَتَيْهِ، وَمِثْلُهَا السِّرُّ وَالْجَهْرُ وَتَكْبِيرُ الْعِيدِ، وَإِلَّا فَاتَتْ وَلَا سُجُودَ عَلَى الْمُسْتَنْكَحِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ السَّهْوِ عَنْ الْجُلُوسِ الْوَسَطُ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ مَا لَمْ يُفَارِقْ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ كَمَا يَأْتِي، وَأَمَّا لَوْ كَانَ السَّهْوُ عَنْهُ فَرْضًا كَرُكُوعٍ أَوْ سُجُودٍ فَيَكْفِيهِ إصْلَاحُهُ الْإِتْيَانُ بِهِ وَحْدَهُ إنْ لَمْ يَعْقِدْ رُكُوعَ الرَّكْعَةِ الْوَالِيَةِ لِلْمَنْسِيِّ مِنْهَا لِبُطْلَانِهَا وَلَا سُجُودَ عَلَى الْمُسْتَنْكَحِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: شَاكٌّ غَيْرُ مُسْتَنْكَحٍ وَأَشَارَ إلَيْهِ أَوَّلًا بِقَوْلِهِ: وَمَنْ لَمْ يَدْرِ إلَخْ، وَشَاكٌّ مُسْتَنْكَحٌ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ إلَخْ، فَالْأَوَّلُ يُصْلِحُ وَيَسْجُدُ، وَالثَّانِي يَسْجُدُ وَلَا يُصْلِحُ، وَسَاهٍ غَيْرُ مُسْتَنْكَحٍ وَهَذَا كَالشَّاكِّ غَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ يُصْلِحُ وَيَسْجُدُ، وَالرَّابِعُ السَّاهِي الْمُسْتَنْكَحُ وَهُوَ عَكْسُ الشَّاكِّ الْمُسْتَنْكَحِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ يُصْلِحُ فَقَطْ، وَالثَّانِي يَسْجُدُ فَقَطْ، وَغَيْرُ الْمُسْتَنْكَحِ يُصْلِحُ وَيَسْجُدُ مُطْلَقًا، وَالتَّفْرِقَةُ فِي الْمُسْتَنْكَحِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ السَّاهِي وَالشَّاكِّ أَنَّ السَّاهِيَ يَضْبِطُ مَا وَقَعَ مِنْهُ مِنْ نَقْصٍ أَوْ زِيَادَةٍ سَوَاءٌ كَانَ مُسْتَنْكَحًا أَمْ لَا، وَالشَّاكُّ بِقِسْمَيْهِ لَا يَضْبِطُ مَا يَصْدُرُ مِنْهُ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا لَوْ خَالَفَ الْمُسْتَنْكَحُ لِلسَّهْوِ وَسَجَدَ، وَنَظَرَ فِيهِ الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِقَوْلِهِ: وَلَوْ سَجَدَ لِسَهْوِهِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَكَانَ سُجُودُهُ قَبْلَ السَّلَامِ فَهَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِهِ إنْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا أَمْ لَا؟ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ أَنَّهُ يَسْجُدُ وَهَذَا وَاضِحٌ إذَا أَصْلَحَ مَا سَهَا عَنْهُ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُصْلِحْ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ التَّارِكِ لَهُ وَهُوَ مَنْ لَمْ يَسْتَنْكِحْهُ السَّهْوُ فَيَجْرِي فِيهِ حُكْمُهُ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِهِ أَوْ بِرَكْعَةٍ إنْ فَاتَ تَدَارُكُهُ، وَإِنْ كَانَ سُنَّةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مَنْ اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوُ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَلَوْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِ تَدَارَكَ مَا نَسِيَهُ مِنْ السُّنَنِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَوْ خَالَفَ وَسَجَدَ لِلسَّهْوِ الْمُسْتَنْكَحِ وَلَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَلَوْ تَعَمَّدَ السُّجُودَ قَبْلَ السَّلَامِ بِالْأُولَى مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ مَنْ اسْتَنْكَحَهُ الشَّكُّ إذَا خَالَفَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، وَأَصْلَحَ بِأَنْ بَنَى عَلَى الْأَقَلِّ وَزَادَ رَكْعَةً مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا شَكَّ فِي خِفَّةِ زِيَادَةِ السُّجُودِ عَنْ زِيَادَةِ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ وَحَرَّرَهُ. الثَّالِثُ: الْفَرْقُ بَيْنَ السَّهْوِ وَالنِّسْيَانِ أَنَّ السَّهْوَ الذُّهُولُ عَنْ الشَّيْءِ تَقَدَّمَ لَهُ ذِكْرٌ أَمْ لَا، وَالنِّسْيَانُ الذُّهُولُ عَنْ الشَّيْءِ بَعْدَ ذِكْرِهِ فَهُوَ أَخَصُّ. قَالَ صَاحِبُ شَرْحِ الْمَوَاقِفِ: السَّهْوُ زَوَالُ الْمَعْلُومِ مِنْ الْقُوَّةِ الْمُدْرَكَةِ مَعَ بَقَائِهِ فِي الْحَافِظَةِ، وَالنِّسْيَانُ زَوَالُهُ مِنْهَا وَمِنْ الْحَافِظَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ بَيْنَ الشَّاكِّ وَالسَّاهِي بَعْدَ ضَبْطِ الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي فَإِنَّهُ يَتَذَكَّرُ مَا سَهَا عَنْهُ. (وَمَنْ قَامَ) أَيْ تَزَحْزَحَ وَهَمَّ لِلْقِيَامِ (مِنْ اثْنَتَيْنِ) مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ نَاسٍ لِلْجُلُوسِ (سَهْوًا رَجَعَ) لِلْجُلُوسِ عِنْدَ تَذَكُّرِهِ سَرِيعًا (مَا لَمْ يُفَارِقْ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ) جَمِيعًا فَإِذَا رَجَعَ تَشَهَّدَ كَمَّلَ صَلَاتَهُ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ لِيَسَارَةِ مَا حَصَلَ مِنْهُ، فَلَوْ لَمْ يَرْجِعْ عَمْدًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقِيلَ لَا تَبْطُلُ عَلَى الْخِلَافِ فِي تَارِكِ السُّنَّةِ عَمْدًا، فَحُكْمُ الرُّجُوعِ الْوُجُوبُ عَلَى الْأَوَّلِ وَالسُّنِّيَّةُ عَلَى الثَّانِي، وَأَمَّا لَوْ تَمَادَى عَلَى الْقِيَامِ وَلَمْ يَرْجِعْ سَهْوًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ، فَإِنْ تَرَكَ السُّجُودَ وَطَالَ زَمَنُ التَّرْكِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ لِتَرْكِ الْقَبْلِيِّ الْمُتَرَتِّبِ عَنْ ثَلَاثِ سُنَنٍ: الْجُلُوسِ وَمُطْلَقِ التَّشَهُّدِ وَخُصُوصِ اللَّفْظِ بِنَاءً عَلَى سُنِّيَّتِهِ، وَحَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى مَنْ قَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ تَارِكًا لِلْجُلُوسِ، وَمَنْ لَازَمَهُ تَرْكُ التَّشَهُّدِ تَبَعًا لِخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَرَجَعَ تَارِكُ الْجُلُوسِ الْأَوَّلِ إنْ لَمْ يُفَارِقْ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَلَا سُجُودَ وَإِلَّا فَلَا، لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ جَلَسَ وَقَامَ نَاسِيًا التَّشَهُّدَ فَلَا يَرْجِعُ لَهُ كَمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ وَلَفْظُهُ: لَوْ جَلَسَ الْجِلْسَةَ الْوُسْطَى وَنَسِيَ التَّشَهُّدَ فَلَمْ يَذْكُرْهُ حَتَّى نَهَضَ فَإِنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا سُجُودَ فِي تَرْكِهِ كَالتَّسْبِيحِ، فَإِنْ رَجَعَ لِلتَّشَهُّدِ بَعْدَ نُهُوضِهِ لِلْقِيَامِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُ إذَا رَجَعَ لِلْجُلُوسِ، قَالَهُ فِي التَّحْقِيقِ. (فَإِذَا فَارَقَهَا) أَيْ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ (تَمَادَى) عَلَى الْقِيَامِ وُجُوبًا لَتَلَبُّسِهِ بِفَرْضٍ (وَلَمْ يَرْجِعْ) لِلْجُلُوسِ الَّذِي هُوَ سُنَّةٌ وَكَمَّلَ صَلَاتَهُ (وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ) فَلَوْ خَالَفَ وَرَجَعَ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَبْطُلُ إنْ رَجَعَ، وَلَوْ اسْتَقَلَّ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِالرُّجُوعِ، وَإِذَا رَجَعَ فَلَا يَنْهَضُ حَتَّى يَتَشَهَّدَ؛ لِأَنَّ رُجُوعَهُ مُعْتَدٍّ بِهِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَيَنْقَلِبُ سُجُودُهُ الْقَبْلِيُّ بَعْدِيًّا، فَلَوْ تَرَكَ التَّشَهُّدَ عَمْدًا بَعْدَ رُجُوعِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا عَلَى كَلَامِ أَشْهَبَ؟ وَإِذَا كَانَ إمَامًا تَبِعَهُ مَأْمُومُهُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ، فَلَوْ لَمْ يَتْبَعْهُ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ مَعَ الْعَمْدِ وَالْجَهْلِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: حَمَلْنَا الْقِيَامَ مِنْ اثْنَتَيْنِ: مِنْ رُبَاعِيَّةٍ أَوْ ثُلَاثِيَّةٍ؛ لِأَنَّهُمَا اللَّتَانِ يُتَشَهَّدُ فِي وَسَطِهِمَا، وَلِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ النَّافِلَةَ إذَا قَامَ مِنْهَا بَعْدَ اثْنَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ يَرْجِعُ، وَلَوْ اسْتَقَلَّ قَائِمًا إلَّا أَنْ يَعْقِدَ الثَّالِثَةَ بِرَفْعِ الرَّأْسِ مِنْ رُكُوعِهِمَا، وَإِلَّا كَمَّلَهَا أَرْبَعًا وَسَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَقِيلَ بَعْدَهُ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِ كَخَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ذَكَرَ صَلَاةً صَلَّاهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا عَلَى نَحْوِ مَا فَاتَتْهُ ثُمَّ أَعَادَ مَا كَانَ فِي وَقْتِهِ مِمَّا صَلَّى بَعْدَهَا وَمَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ   [الفواكه الدواني] وَرُكْبَتَيْهِ وَلَوْ كَانَ مُسْتَنْكَحًا لِلسَّهْوِ، وَلَا يُقَالُ: مَنْ اسْتَنْكَحَهُ السَّهْوُ يُصْلِحُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْإِصْلَاحُ مَشْرُوطٌ بِإِمْكَانِ التَّدَارُكِ، وَبَعْدَ مُفَارَقَةِ الْأَرْضِ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ فَاتَهُ الْجُلُوسُ لِتَلَبُّسِهِ بِالْفَرْضِ وَلَا يَرْجِعُ مِنْهُ لِسُنَّةٍ، وَقَيَّدَ بَعْضُ الشُّيُوخِ عَدَمَ الرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِقْلَالِ بِغَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ الْفِقْهَ نَقْلِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّ الصَّلَاةَ لَا تَبْطُلُ بِالرُّجُوعِ بَعْدَ الِاسْتِقْلَالِ، وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَمَامِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ الصَّلَاةُ بِالرُّجُوعِ؛ لِأَنَّ فِي رُجُوعِهِ إبْطَالَ رُكْنٍ، وَنَظَرَ الْأُجْهُورِيُّ فِي الْقِرَاءَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الْفَاتِحَةُ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُقْرَأُ بَعْدَ الْقِيَامِ مِنْ اثْنَتَيْنِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. الرَّابِعُ: وَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ بَعْضِ الْمَشَايِخِ فِي نَحْوِ السُّورَةِ إذَا رَجَعَ لَهَا بَعْدَ الِانْحِنَاءِ أَوْ السِّرِّ أَوْ الْجَهْرِ، فَهَلْ يَصِحُّ قِيَاسُ مَا ذَكَرَ عَلَى الْجُلُوسِ بِجَامِعٍ أَنَّ كُلًّا يُفَوِّتُ الشُّرُوعَ فِي الرُّكْنِ الَّذِي بَعْدَهُ؟ فَبَعْضٌ سَمِعْنَا مِنْهُ عَدَمَ بُطْلَانِ صَلَاةِ مَنْ رَجَعَ لِنَحْوِ السُّورَةِ بَعْدَ انْحِنَائِهِ، قِيَاسًا عَلَى عَدَمِ بُطْلَانِ مَنْ رَجَعَ لِلْجُلُوسِ بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ قَائِمًا، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ الْفِقْهَ نَقْلِيٌّ. الْخَامِسُ: قَالَ بَعْضُ الْمَشَايِخِ: يَقُومُ مِنْ عَدَمِ رُجُوعِ مَنْ فَارَقَ الْأَرْضَ بِيَدَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ تَارِكًا لِلْجُلُوسِ، وَمَنْ نَسِيَ السُّورَةَ حَتَّى انْحَنَى، أَنَّ نَاسِيَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ لَا يَرْجِعُ لَهُمَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي غَسْلِ وَجْهِهِ بَلْ يَتَمَادَى وَيَفْعَلُهُمَا بَعْدَ فَرَاغِهِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ بِالرُّجُوعِ عَلَى غَيْرِ النَّاسِي، وَأَنَّ الْإِمَامَ إذَا شَرَعَ فِي الْخُطْبَةِ بَعْدَ فَرَاغِ الْمُؤَذِّنِ الثَّانِي لِاعْتِقَادِ أَنَّهُ الثَّالِثُ فَإِنَّهُ يَتَمَادَى وَلَا يَقْطَعُهَا لِلْمُؤَذِّنِ، الثَّالِثُ وَهُوَ الصَّوَابُ قَالَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. [ذَكَرَ صَلَاةً نَسِيَهَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ السَّهْوِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ قَضَاءِ الْفَوَائِتِ فَقَالَ: (وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً) نَسِيَهَا مِنْ إحْدَى الْخَمْسِ (صَلَّاهَا) وُجُوبًا (مَتَى مَا ذَكَرَهَا) وَلَوْ عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَوْ غُرُوبِهَا أَوْ خُطْبَةِ جُمُعَةٍ حَيْثُ تَحَقَّقَ تَرْكُهَا، أَوْ ظَنُّهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا فَلْيَفْعَلْهَا إذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وَقْتُهَا» وَفِي مُسْلِمٍ: «فَكَفَّارَتُهَا أَنْ يُصَلِّيَهَا إذَا ذَكَرَهَا» وَمَا فِي الْحَدِيثِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مُتَعَمِّدَ التَّرْكِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فِي أَيِّ وَقْتٍ بِالْأَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقَلَمَ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّائِمِ وَالسَّاهِي بِخِلَافِ الْمُتَعَمِّدِ فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ صَلَاتِهَا فَإِنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى فِعْلِهَا، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقْتَلُ إذَا عَانَدَ فِي فِعْلِهَا؟ فَقِيلَ يُقْتَلُ، وَقِيلَ لَا، وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ عَدَمُ قَتْلِهِ بِالْفَائِتَةِ فَإِنَّهُ لَا فَائِتَةَ عَلَى الْأَصَحِّ. وَقَيَّدْنَا بِمُحَقِّقَةِ التَّرْكِ أَوْ الْمَظْنُونَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْكُوكَ فِي تَرْكِهَا وَعَدَمِهِ عَلَى السَّوَاءِ يَجِبُ قَضَاؤُهَا، وَلَكِنْ يَتَوَقَّى الْفَاعِلُ أَوْقَاتَ النَّهْيِ وُجُوبًا فِي نَهْيِ الْحُرْمَةِ وَنَدْبًا فِي نَهْيِ الْكَرَاهَةِ، وَأَمَّا الْوَهْمُ وَالتَّجْوِيزُ الْعَقْلِيُّ فَلَا يَجِبُ بِهِمَا وَلَا يُنْدَبُ قَضَاءٌ كَمَا قَالَهُ الْحَطَّابُ، وَلَا يُقَالُ: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ نَقْصَ الْفَرَائِضِ وَلَوْ الْمَوْهُومَ كَالْمُحَقَّقِ فَأَوْلَى الْفَرْضُ الْكَامِلُ الْمَوْهُومُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُتَقَدِّمُ فِي الْفَرْضِ الْمُحَقَّقِ الْخِطَابُ بِهِ، وَمَا هُنَا لَمْ يَتَحَقَّقْ خِطَابٌ فَافْهَمْ، وَمِنْ هُنَا عُلِمَ خَطَأُ بَعْضِ الْمُطَاوَعَةِ فِي قَوْلِهِمْ بِقَضَاءِ صَلَاةِ زَمَنٍ مِنْ الصِّبَا أَوْ مُدَّةِ الْبَطْنِ، وَيُسَمُّونَهَا صَلَاةً وَهُوَ جَهْلٌ مِنْهُمْ، وَيُفَوِّتُ الْإِنْسَانُ بِهِ ثَوَابَ النَّفْلِ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يُصَلِّيَهَا. (عَلَى نَحْوِ) أَيْ صِفَةِ (مَا فَاتَتْهُ) مِنْ سِرٍّ أَوْ جَهْرٍ أَوْ قَصْرٍ أَوْ إتْمَامٍ، وَقُنُوتٍ فِي صُبْحٍ وَتَطْوِيلِ قِرَاءَةٍ، وَقِرَاءَةٍ بِسُورَةٍ فِي الثُّنَائِيَّةِ وَأُولَتَيْ غَيْرِهَا، وَاسْتَثْنُوا مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْمَرَضِ وَقَضَاهَا فِي الصِّحَّةِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ، وَلَوْ كَانَ فَرْضُهُ الْجُلُوسَ فِي الْمَرَضِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ خَفَّ مَعْذُورٌ انْتَقَلَ لِلْأَعْلَى. وَعَكْسُهُ مَنْ فَاتَتْهُ فِي الصِّحَّةِ يَقْضِيهَا وَلَوْ مِنْ جُلُوسٍ، أَوْ فَاتَتْهُ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْوُضُوءِ وَلَمْ يَقْضِهَا إلَّا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى التَّيَمُّمِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ حَالَ الْفِعْلِ سَوَاءٌ كَانَ أَعْلَى مِنْ الْفَوَائِتِ أَوْ عَكْسُهُ. (ثُمَّ) إنْ كَانَ ذَكَرَهَا بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةٍ حَاضِرَةٍ (أَعَادَ مَا كَانَ فِي وَقْتِهِ مِمَّا صَلَّى بَعْدَهَا) بَيَانٌ لِمَا، وَالضَّمِيرُ فِي وَقْتِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا الْوَاقِعَةِ عَلَى الْفَرْضِ وَلِذَا ذَكَرَ الضَّمِيرَ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْدَهَا عَلَى الْمَنْسِيَّةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ صَلَّى فَرِيضَةً فِي وَقْتِهَا الْحَاضِرِ، ثُمَّ بَعْدَ فَرَاغِهَا فَائِتَةٌ يَجِبُ تَقْدِيمُهَا عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا وَهِيَ خَمْسُ أَوْ أَرْبَعُ صَلَوَاتٍ، فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ صَلَاةِ تِلْكَ الْفَائِتَةِ إعَادَةُ تِلْكَ الْحَاضِرَةِ الَّتِي كَانَ صَلَّاهَا مَا دَامَ وَقْتُهَا وَلَوْ الضَّرُورِيَّ لِحُصُولِ التَّرْتِيبِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: مَا كَانَ فِي وَقْتِهِ عَمَّا فَاتَهُ وَقْتُهُ فَلَا يُعَادُ، مِثْلُ ذَلِكَ أَنْ يَنْسَى الْمَغْرِبَ وَلَمْ يَذْكُرْهَا حَتَّى صَلَّى الصُّبْحَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَيُعِيدُ الصُّبْحَ إذَا كَانَ التَّذْكِيرُ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِبَقَاءِ وَقْتِهَا، وَلَا يُعِيدُ الْعِشَاءَ لِفَوَاتِ وَقْتِهَا، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَغْرِبَ إلَّا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ صَلَّى الْمَغْرِبَ فَقَطْ، وَإِذَا كَانَ هَذَا الْمُعِيدُ إمَامًا فَفِي إعَادَةِ مَأْمُومِهِ صَلَاتَهُ خِلَافٌ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا إعَادَةَ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ هُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُهُمْ: الرَّاجِحُ الْإِعَادَةُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعَادِلُ مَا رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ وَقَالَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ وَطَائِفَةٌ، وَقَيَّدْنَا الْفَائِتَةَ بِالْيَسِيرَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ صَلَّى حَاضِرَةً ثُمَّ ذَكَرَ فَائِتَةً كَثِيرَةً وَهِيَ سِتٌّ أَوْ خَمْسٌ فَإِنَّ الْحَاضِرَةَ تَقَدَّمَ عَلَيْهَا عِنْدَ ذِكْرِهَا، فَلَا يَتَأَتَّى إعَادَةُ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ قَضَائِهَا فَافْهَمْ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْتِ هُنَا مَا يَشْمَلُ الضَّرُورِيَّ. قَالَ خَلِيلٌ فِي يَسِيرِ الْفَوَائِتِ مَعَ الْحَاضِرَةِ: فَإِنْ خَالَفَ وَلَوْ عَمْدًا أَعَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 صَلَّاهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَهُ وَإِنْ كَانَتْ يَسِيرَةً أَقَلَّ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَدَأَ بِهِنَّ، وَإِلَّا فَاتَ وَقْتُ مَا هُوَ فِي وَقْتِهِ وَإِنْ كَثُرَتْ بَدَأَ بِمَا تَخَافُ فَوَاتَ وَقْتِهِ وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فِي صَلَاةٍ فَسَدَتْ هَذِهِ عَلَيْهِ وَمَنْ ضَحِكَ فِي الصَّلَاةِ أَعَادَهَا وَلَمْ يُعِدْ الْوُضُوءَ وَإِنْ كَانَ مَعَ إمَامٍ تَمَادَى وَأَعَادَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي   [الفواكه الدواني] بِوَقْتِ الضَّرُورِيِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ إعَادَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ صَلَاتِهَا بِثَوْبٍ نَجَسٍ عَلَى جِهَةِ السَّهْوِ أَوْ الْعَجْزِ، فَإِنَّ الْوَقْتَ الَّذِي تُعَادُ فِيهِ هُوَ الْمُخْتَارُ، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ الْإِعَادَةِ لِلنَّجَاسَةِ وَبَيْنَ الْإِعَادَةِ لِلتَّرْتِيبِ بِتَأَكُّدِ التَّرْتِيبِ عَلَى إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، بِدَلِيلِ تَقْدِيمِ الْفَائِتَةِ الْيَسِيرَةِ عَلَى الْحَاضِرَةِ وَإِنْ خَافَ خُرُوجَ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ، وَبِالْعَفْوِ عَنْ يَسِيرِ النَّجَاسَةِ. (وَمَنْ) تَرَتَّبَ (عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ) وَهِيَ مَا زَادَ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، وَقِيلَ أَوْ سَاوَاهُمَا سَوَاءٌ كَانَتْ مَنْسِيَّةً أَوْ مَتْرُوكَةً عَمْدًا. (صَلَّاهَا) وُجُوبًا فَوْرًا (بِكُلِّ) أَيْ فِي كُلٍّ كَمَا هُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَعِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا) أَوْ خُطْبَةِ جُمُعَةٍ، وَهَذَا حَيْثُ كَانَتْ مُحَقَّقَةَ التَّرْكِ أَوْ مَظْنُونَتَهُ، وَأَمَّا لَوْ تَرَدَّدَ فِيهَا عَلَى السَّوَاءِ، فَيَتَوَقَّى أَوْقَاتَ النَّهْيِ وُجُوبًا فِي نَهْيِ الْحُرْمَةِ وَنَدْبًا فِي نَهْيِ الْكَرَاهَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذَا وَإِنْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ سَابِقًا: مَنْ ذَكَرَ إلَخْ فَإِنَّهُ يَشْمَلُ الْوَاحِدَةَ وَالْأَكْثَرَ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يُصَلِّي عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَّا صُبْحَ يَوْمِهِ وَعِنْدَ غُرُوبِهَا إلَّا عَصْرَ يَوْمِهِ، وَدَلِيلُنَا عُمُومُ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً أَوْ نَامَ عَنْهَا فَلْيُصَلِّهَا مَتَى مَا ذَكَرَهَا إلَى أَنْ قَالَ: فَذَلِكَ وَقْتُهَا. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ (كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَهُ) وَلَوْ فِي حَالِ الْمَرَضِ الَّذِي يُصَلِّي فِيهِ مِنْ جُلُوسٍ، وَلَوْ فَاتَتْهُ فِي حَالِ الصِّحَّةِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرِ: حَالَ الْفِعْلِ لَا حَالَ الْوُجُوبِ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: كَيْفَمَا تَيَسَّرَ لَهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ شَغْلُ زَمَانِهِ بِالْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا يُوَسِّعُ لَهُ فِي الضَّرُورَاتِ الَّتِي لَا غِنًى لَهُ عَنْهَا، كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ كَثِيرَةٌ أُمِرَ أَنْ يُصَلِّيَهَا مَتَى قَدَرَ وَوَجَدَ السَّبِيلَ إلَى ذَلِكَ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ دُونَ أَنْ يُضَيِّعَ مَا لَا بُدَّ مِنْهُ مِنْ حَوَائِجِ دُنْيَاهُ مِنْ نَفَقَةِ عِيَالِهِ وَصِغَارِ أَوْلَادِهِ الْفُقَرَاءِ أَوْ أَبَوَيْهِ الْفُقَرَاءِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ دَرْسُ الْعِلْمِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ وَالتَّمْرِيضُ وَإِشْرَافُ الْقَرِيبِ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ صَلَوَاتُ النَّفْلِ قَبْلَ قَضَاءِ مَا عَلَيْهِ إلَّا الصَّلَاةَ الْمَسْنُونَةَ كَالْعِيدِ وَالْكُسُوفِ وَمَا خَفَّ مِنْ النَّوَافِلِ دُونَهَا كَرَكْعَتَيْ الْفَجْرِ وَالشَّفْعِ لِاتِّصَالِهِمَا بِالْوِتْرِ لَا مَا كَثُرَ كَقِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يَفْعَلُهُ، فَإِنْ فَعَلَهُ أَثِمَ مِنْ وَجْهٍ وَأُجِرَ مِنْ وَجْهٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنْ إثْمِ التَّأْخِيرِ إلَّا بِفِعْلِ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَقَوْلُ مَنْ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ الْحُرْمَةِ وَلَا يُعَدُّ مُفَرِّطًا بِصَلَاةِ يَوْمَيْنِ فِي كُلِّ يَوْمٍ ضَعِيفٍ. 1 - (فَرْعٌ) لَوْ أَجَّرَ شَخْصٌ نَفْسَهُ فِي عَمَلِ إجَارَةٍ لَازِمَةٍ وَهِيَ الْوَجِيبَةُ أَوْ الْمُشَاهَرَةُ مَعَ نَقْدِ الْأُجْرَةِ، ثُمَّ أَقَرَّ أَنَّ عَلَيْهِ مَنْسِيَّاتٍ يَمْنَعُهُ قَضَاؤُهَا عَنْ الْعَمَلِ لَمْ يُقْبَلُ مِنْهُ كَإِقْرَارِ مَنْ رَهَنَ عَبْدًا أَوْ بَاعَهُ أَنَّهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ رَهْنِهِ لِلتُّهْمَةِ فِي الْجَمِيعِ. وَلِمَا بَيَّنَ أَنَّ الْفَائِتَةَ يَجِبُ قَضَاؤُهَا فَوْرًا عَلَى مَا بَيَّنَّا [تَرْتِيبِ الْفَائِتَةِ] شَرَعَ فِي حُكْمِ تَرْتِيبِ الْفَائِتَةِ مَعَ الْحَاضِرَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ الْفَوَائِتُ (يَسِيرَةً) وَهِيَ مَا كَانَتْ (أَقَلَّ مِنْ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ) أَوْ قَدْرَ صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ (بَدَأَ بِهِنَّ) وُجُوبًا قَبْلَ الصَّلَاةِ الْحَاضِرَةِ سَوَاءٌ اتَّسَعَ الْوَقْتُ أَمْ لَا بَلْ. (وَإِنْ فَاتَ) أَيْ خَافَ فَوَاتَ (وَقْتُ مَا هُوَ فِي وَقْتِهِ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْوَاجِبِ: وَيَسِيرُهَا مَعَ حَاضِرَةٍ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَهَلْ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ خِلَافٌ؟ فَإِذَا خَالَفَ وَقَدَّمَ الْحَاضِرَةَ عَلَى يَسِيرِ الْفَوَائِتِ وَلَوْ عَامِدًا صَحَّتْ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ الْحَاضِرَةِ بَعْدَ فِعْلِ الْفَائِتَةِ وَلَوْ فِي وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ. قَالَ خَلِيلٌ: فَإِنْ خَالَفَ وَلَوْ عَمْدًا أَعَادَ بِوَقْتِ الضَّرُورَةِ، وَفِي إعَادَةِ مَأْمُومِيهِ خِلَافٌ، وَقَدَّمْنَا بَيَانَ الرَّاجِحِ وَأَشْعَرَ التَّقْيِيدُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْفَائِتَةِ الْيَسِيرَةِ وَالْحَاضِرَةِ لَيْسَ بِشَرْطٍ، وَإِنْ وَجَبَ مَعَ الذِّكْرِ، وَيَدْخُلُ فِي الْفَائِتَةِ الْيَسِيرَةُ مَا لَوْ كَانَ عَلَيْهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ أَوْ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ الْوَقْتِ إلَّا مَا يَسَعُ الْأَخِيرَةَ، فَيَجِبُ تَقْدِيمُ الْأُولَى عَلَى الثَّانِيَةِ، فَإِنْ خَالَفَ وَقَدَّمَ الْحَاضِرَةَ صَحَّتْ مَعَ الْإِثْمِ فِي الْعَمْدِ دُونَ النِّسْيَانِ، وَلَا يَتَأَتَّى هُنَا إعَادَةٌ لِخُرُوجِ الْوَقْتِ. (وَ) مَفْهُومُ الْيَسِيرَةِ أَنَّ الْفَوَائِتَ (إنْ كَثُرَتْ) بِأَنْ زَادَتْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ أَوْ سَاوَتْ عَلَى الْخِلَافِ فِي يَسِيرِهَا (بَدَأَ بِمَا يَخَافُ فَوَاتُ وَقْتِهِ) مِنْ الْحَاضِرَةِ، فَإِنْ اتَّسَعَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ قَدَّمَ الْفَائِتَةَ، وَإِنْ ضَاقَ وَقْتُ الْحَاضِرَةِ عَنْ فِعْلِ الْفَائِتَةِ وَالْحَاضِرَةِ قَدَّمَ الْحَاضِرَةَ، هَذَا مَا ارْتَضَاهُ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِبَعْضِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ: أَنَّ الْحَاضِرَةَ تُقَدَّمُ عَلَى كَثِيرِ الْفَوَائِتِ مُطْلَقًا وَلَوْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ، لَكِنْ وُجُوبًا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَنَدْبًا عِنْدَ اتِّسَاعِهِ، وَلَوْ قَدَّمَ حُكْمَ مَنْ ذَكَرَ الْفَوَائِتَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي صَلَاةٍ حَاضِرَةٍ [ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِصَلَاةٍ حَاضِرَةٍ] شَرَعَ فِي حُكْمِ مَنْ ذَكَرَ صَلَاةً وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِصَلَاةٍ حَاضِرَةٍ فَقَالَ: (وَمَنْ ذَكَرَ صَلَاةً فِي صَلَاةٍ فَسَدَتْ هَذِهِ) الْمَذْكُورَةُ فِيهَا (عَلَيْهِ) بِمُجَرَّدِ ذِكْرِهَا إنْ كَانَتَا حَاضِرَتَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ الْمَذْكُورَةُ فَائِتَةً بِأَنْ خَرَجَ وَقْتُهَا لَمْ تُفْسِدْ الْمَذْكُورَ فِيهَا إلَّا إنْ أَفْسَدَهَا، وَلَكِنَّ الْمُتَبَادِرَ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْفَسَادِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِإِفْسَادِهِ، أَنَّ الْمُرَادَ ذِكْرُ حَاضِرَةٍ فِي حَاضِرَةٍ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْحَاضِرَتَيْنِ وَاجِبٌ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 التَّبَسُّمِ ، وَالنَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ وَالْعَامِدُ لِذَلِكَ مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ وَمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ وَكَذَلِكَ مَنْ صَلَّى   [الفواكه الدواني] الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ مَعَ الْحَاضِرَةِ فَإِنَّهُ غَيْرُ شَرْطٍ، بَلْ يَجِبُ بَيْنَ الْفَوَائِتِ فِي أَنْفُسِهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِيَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ يَسِيرَةً أَوْ كَثِيرَةً، وَأَمَّا تَرْتِيبُهَا مَعَ الْحَاضِرَةِ فَيَجِبُ فِي الْيَسِيرَةِ لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِيَّةِ، وَأَمَّا مَعَ الْكَثِيرَةِ فَعِنْدَ خَلِيلٍ يُقَدِّمُ الْحَاضِرَةَ مُطْلَقًا، وَعِنْدَ الْمُصَنِّفِ التَّفْصِيلُ بَيْنَ ضِيقِ الْوَقْتِ فَتُقَدَّمُ الْحَاضِرَةُ وَاتِّسَاعِهِ فَتُقَدَّمُ الْفَائِتَةُ. قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ: وَجَبَ قَضَاءُ فَائِتَةٍ مُطْلَقًا، وَمَعَ ذِكْرِ تَرْتِيبِ حَاضِرَتَيْنِ شَرْطًا، وَالْفَوَائِتُ فِي أَنْفُسِهَا وَيَسِيرُهَا مَعَ حَاضِرَةٍ وَإِنْ خَرَجَ وَقْتُهَا، وَهَلْ أَرْبَعٌ أَوْ خَمْسٌ خِلَافٌ؟ فَإِنْ خَالَفَ وَلَوْ عَمْدًا أَعَادَ بِوَقْتِ الضَّرُورَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْوُجُوبِ الشَّرْطِيِّ وَغَيْرِ الشَّرْطِيِّ أَنَّ الشَّرْطِيَّ يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِهِ الْعَدَمُ، وَقَيَّدْنَا بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَدَّمَ ثَانِيَةَ الْحَاضِرَةِ عَلَى الْأُولَى نَاسِيًا، وَاسْتَمَرَّ نَاسِيًا حَتَّى سَلَّمَ صَحَّتْ وَتُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ فَقَطْ، وَإِنْ قَدَّمَهَا مَعَ الْعَمْدِ بَطَلَتْ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ ذَكَرْت الْأُولَى فِي أَثْنَاءِ الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الذِّكْرُ ابْتِدَاءً أَوْ فِي الْأَثْنَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ الْبُطْلَانُ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا وَاحِدٌ عِنْدَ غَيْرِ أَبِي حَنِيفَةَ. [مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي مَبْحَثِ مُبْطِلَاتِ الصَّلَاةِ فَقَالَ: (وَمَنْ ضَحِكَ) أَيْ قَهْقَهَ (فِي الصَّلَاةِ أَعَادَهَا) لِبُطْلَانِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَتْ بِقَهْقَهَةٍ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا أَوْ غَلَبَةً لِمُنَافَاتِهَا لِلصَّلَاةِ لِطَلَبِ الْخُشُوعِ فِيهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ وَلَوْ كَانَ ضَحِكُهُ فَرَحًا بِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَأَفْتَى بِهِ بَعْضُ أَهْلِ تُونُسَ وَالْقَرَوِيِّينَ، وَقَالَ الْبُرْزُلِيُّ: وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، وَصَوَّبَ ابْنُ نَاجِي صِحَّةَ صَلَاتِهِ مُعَلِّلًا ذَلِكَ بِعَدَمِ قَصْدِ اللَّعِبِ، وَأَقُولُ بِرَدِّ تَعْلِيلِ بُطْلَانِ صَلَاةِ النَّاسِي وَالْمَغْلُوبِ، فَلَعَلَّ الصَّوَابَ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ وَالْمُدَوَّنَةِ، نَعَمْ يَظْهَرُ صِحَّةُ مَنْ بِهِ سَلَسُ الْقَهْقَهَةِ كُلَّمَا دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ تَرْكُهَا بِوَجْهٍ، كَمَا قَالُوهُ فِي مُعْتَادِ سَلَسِ الْحَدْسِ كُلَّمَا تَوَضَّأَ، بِخِلَافِ مَنْ عَادَتُهُ كُلَّمَا صَامَ يَشْتَدُّ عَطَشُهُ الْمُوجِبُ لِلْفِطْرِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْإِمْسَاكَ بِوَجْهٍ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ؛ لِأَنَّ شَرْطَهُ الْإِطَاقَةُ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَلَسِ الْقَهْقَهَةِ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ الصَّوْمِ، وَالْحَدَثُ شَرَطُوا فِيهِ الْخُرُوجَ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ لَا مَا خَرَجَ بِالْمَرَضِ كَالسَّلَسِ فَلَا يُنْتَقَضُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَعَادَهَا إمَامًا أَوْ فَذًّا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَيَقْطَعُ مِنْ خَلْفِ الْإِمَامِ، وَوَقَعَ لِابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ وَنَحْوِهِ فِي الْمَوَّازِيَّةِ أَنَّ الْإِمَامَ يَسْتَخْلِفُ فِي الْغَلَبَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَيَرْجِعُ مَأْمُومًا عَلَى صَلَاةٍ بَاطِلَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ إعَادَتُهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ رُجُوعِهِ مَأْمُومًا مَعَ الْإِعَادَةِ أَبَدًا مُرَاعَاةُ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ بِالصِّحَّةِ مِنْ الْغَلَبَةِ وَالنِّسْيَانِ، وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْقَهْقَهَةِ نِسْيَانًا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ دُونَ الْكَلَامِ النِّسْيَانِ؟ فَالْجَوَابُ: شِدَّةُ مُنَافَاتِهَا لِلْخُشُوعِ بِخِلَافِ الْكَلَامِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ عَهْدٌ عَمَدَهُ فِي الصَّلَاةِ لِإِصْلَاحِهَا حَتَّى مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمَّا كَانَتْ الْقَهْقَهَةُ تَنْقُضُ الْوُضُوءَ عِنْدَ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ لَا عِنْدَ إمَامِنَا قَالَ: (وَلَمْ يُعِدْ) مِنْ قَهْقَهَةٍ فِي صَلَاتِهِ (الْوُضُوءَ) ؛ لِأَنَّ النَّاقِضَ عِنْدَنَا إمَّا حَدَثٌ أَوْ سَبَبٌ أَوْ رِدَّةٌ أَوْ شَكٌّ فِي حَدَثٍ، وَهِيَ لَيْسَتْ مِنْ ذَلِكَ (وَإِنْ كَانَ) الضَّاحِكُ بِالْقَهْقَهَةِ (مَعَ إمَامٍ تَمَادَى) وُجُوبًا لَحِقَ إمَامَهُ، وَقِيلَ: نَدْبًا عَلَى صَلَاةٍ بَاطِلَةٍ. (وَأَعَادَ) صَلَاتَهُ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ أَبَدًا لِبُطْلَانِهَا، وَمَحَلُّ التَّمَادِي عَلَى الْمَأْمُومِ فِي ضَحِكِهِ غَلَبَةً أَوْ سَهْوًا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْكِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَتْ بِقَهْقَهَةٍ وَتَمَادَى الْمَأْمُومُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى التَّرْكِ بِشَرْعِ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ، وَلَمْ تَكُنْ صَلَاةُ جُمُعَةٍ، وَلَمْ يَلْزَمْ عَلَى تَمَادِيهِ ضَحِكُ بَعْضِ الْمَأْمُومِينَ، وَإِلَّا قُطِعَتْ فِي الْجَمِيعِ، وَهَذِهِ إحْدَى مَسَاجِينِ الْإِمَامِ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُصَلِّي وَلَوْ فَذًّا (فِي التَّبَسُّمِ) وَهُوَ تَحْرِيكُ الشَّفَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ تَصْوِيتٍ، وَمَعْنَى لَا شَيْءَ عَلَيْهِ لَا سُجُودَ عَلَيْهِ فِي السَّهْوِ، وَلَا بُطْلَانَ فِي الْعَمْدِ أَوْ الْجَهْلُ غَيْرُ الْعَمْدِ مَكْرُوهٌ، وَإِنْ كَثُرَ أَبْطَلَهَا وَلَوْ سَهْوًا، وَأَمَّا الْمُتَوَسِّطُ فِي الْكَثِيرِ وَالْقَلِيلِ فَيَسْجُدُ لِسَهْوِهِ، وَتَبْطُلُ الصَّلَاةُ بِعَمْدِهِ. (تَنْبِيهٌ) : حُكْمُ التَّبَسُّمِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ الْجَوَازُ وَفِيهَا الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنْ يَكْثُرَ فَيَحْرُمَ، وَأَمَّا الْقَهْقَهَةُ فَلَا نِزَاعَ فِي حُرْمَتِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ فَحَرَامٌ عِنْدَ الصُّوفِيَّةِ وَمَكْرُوهَةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ضَحِكَ فِي الدُّنْيَا بَكَى فِي الْآخِرَةِ» ؛ وَلِأَنَّ الضَّحِكَ يُمِيتُ الْقَلْبَ وَيُذْهِبُ بِنُورِ الْوَجْهِ، وَقَالَ الْحَسَنُ: عَجِبْت مِنْ ضَاحِكٍ وَالنَّارُ وَرَاءَهُ، وَعَجِبْت مِنْ مَسْرُورٍ وَالْمَوْتُ وَرَاءَهُ، وَلَعَلَّ قَوْلَ الصُّوفِيَّةِ بِحُرْمَتِهَا لِأَمْرٍ يُدْرِكُونَهُ مِنْهَا: لَوْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ الْفَقِيهُ لَحَرَّمَهَا، وَإِلَّا فَالصُّوفِيَّةُ مِنْ عُظَمَاءِ أَهْلِ الشَّرْعِ. (وَالنَّفْخُ) مِنْ الْفَمِ (فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ) فَإِنْ وَقَعَ سَهْوًا وَلَمْ يَكْثُرْ سَجَدَ لَهُ بَعْدَ السَّلَامِ. (وَالْعَامِدُ لِذَلِكَ) وَالْجَاهِلُ لِحُكْمِهِ (مُفْسِدٌ لِصَلَاتِهِ) وَلَوْ قَلَّ مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَظْهَرَ مِنْهُ حَرْفٌ أَمْ لَا، وَأَمَّا النَّفْخُ مِنْ الْأَنْفِ فَلَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ وَلَا سُجُودَ لِسَهْوِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِعْلُهُ عَبَثًا، وَإِلَّا جَرَى عَلَى الْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ، فَإِنْ كَثُرَ أَبْطَلَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - مِنْ قَوْلِهِ: «النَّفْخُ فِي الصَّلَاةِ كَالْكَلَامِ» وَالظَّاهِرُ رَفْعُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يُقَالُ مِنْ قِبَلِ الرَّأْيِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَأَيْضًا قَدْ «قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِرَبَاحٍ وَهُوَ يَنْفُخُ فِي التُّرَابِ: مَنْ نَفَخَ مِنْ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَكَلَّمَ» وَغَيْرُ ذَلِكَ كَمَا رُوِيَ، وَمَفْهُومٌ فِي الصَّلَاةِ أَنَّ النَّفْخَ فِي غَيْرِهَا لَيْسَ بِكَلَامٍ، فَمَنْ حَلَفَ لَا يَتَكَلَّمُ لَا يَحْنَثُ بِنَفْخِهِ، أَوْ حَلَفَ لَيَتَكَلَّمَنَّ لَا يَبِرُّ بِنَفْخِهِ. 1 - (فُرُوعٌ تَشْتَدُّ حَاجَةُ الطَّالِبِ لِمَعْرِفَتِهَا) مِنْهَا: التَّنَحْنُحُ فِي الصَّلَاةِ لِضَرُورَةٍ لَا يُبْطِلُ عَمْدُهُ وَلَا سُجُودَ يَسْجُدُ، وَلِغَيْرِ ضَرُورَةٍ قَوْلَانِ الْمُخْتَارُ مِنْهُمَا عِنْدَ اللَّخْمِيِّ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الصَّلَاةَ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْإِبْطَالِ بِهِ لِغَيْرِهَا، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ السَّنْهُورِيُّ بِمَا إذَا فَعَلَهُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ فَعَلَهُ عَبَثًا، وَإِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ تَبَعًا لِلَّخْمِيِّ لِغَيْرِهَا أَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ فَعَلَهُ لِحَاجَةٍ غَيْرِ مُتَعَلِّقَةٍ بِهَا كَإِعْلَامِ أَنَّهُ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا لَوْ تَنَحْنَحَ عَبَثًا عَامِدًا فِي صَلَاتِهِ لَبَطَلَتْ وَلَا وَجْهَ لِعَدَمِ الْبُطْلَانِ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: ظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ وَلَوْ فَعَلَهُ عَبَثًا حَيْثُ قَلَّ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ كَلَامَ السَّنْهُورِيِّ أَوْجَهُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنَّ الْجُشَاءَ وَالتَّنَخُّمَ كَالتَّنَحْنُحِ فِي أَحْكَامِهِ. 1 - (الْفَرْعُ الثَّانِي) التَّشَهُّدُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ الْبُرْزُلِيُّ: إنْ فَعَلَهُ غَلَبَةً فَمُغْتَفَرٌ، وَإِنْ فَعَلَهُ سَهْوًا سَجَدَ غَيْرُ الْمَأْمُومِ، وَإِنْ فَعَلَهُ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ. (الْفَرْعُ الثَّالِثُ) الْأَنِينُ لِلْوَجَعِ فِي الصَّلَاةِ، الْمَذْهَبُ عَدَمُ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَمِثْلُهُ الْبُكَاءُ إذَا كَانَ بِلَا صَوْتٍ حَصَلَ اخْتِيَارًا أَوْ غَلَبَةً كَانَ لِتَخَشُّعٍ أَوْ لَا، إلَّا أَنْ يَكْثُرَ اخْتِيَارًا، وَإِلَّا أَبْطَلَ الصَّلَاةَ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِصَوْتٍ فَإِنْ كَانَ اخْتِيَارًا أَبْطَلَ مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَلَبَةً فَإِنْ كَانَ لِخُشُوعٍ لَمْ يُبْطِلْ وَلِغَيْرِ خُشُوعٍ يُبْطِلُ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَيْثُ لَمْ يَكْثُرْ وَإِلَّا أَبْطَلَ، هَذَا مُلَخَّصُ قَوْلِ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: الْبُكَاءُ الْمَسْمُوعُ إذَا كَانَ لَا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَالْخُشُوعِ يَلْحَقُ بِالْكَلَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ إذَا قَامَ فِي مَقَامِك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، وَإِنْ تَرَدَّدَ النَّاسُ فِي الْبُكَاءِ هَلْ هُوَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ أَوْ مِنْ النَّاسِ؟ لَمَا رَأَوْا أَبَا بَكْرٍ قَامَ مَقَامَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَفِي مُسْلِمٍ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ إذَا قَرَأَ الْقُرْآنَ لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ. وَالْمُرَادُ بِبُكَاءِ التَّخَشُّعِ الْبُكَاءُ لِخَوْفِ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ فِي الْبُكَاءِ سُرُورًا لِمَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْآخِرَةِ هَلْ هُوَ كَالضَّحِكِ قَهْقَهَةٌ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ الصَّوَابُ فِيهِ الْبُطْلَانُ بِهِ أَمْ لَا؟ اُنْظُرْ النَّصَّ الصَّرِيحَ فِي ذَلِكَ وَيَظْهَرُ الْبُطْلَانُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنْ غَلَبَةً فَيَكُونُ عَبَثًا فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ الْقَهْقَهَةِ وَالْكَلَامِ فِيمَا مَرَّ. [مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فِي الصَّلَاة] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ فَقَالَ: (وَمَنْ أَخْطَأَ الْقِبْلَةَ) بَعْدَ أَنْ صَلَّى مُجْتَهِدًا فِي جِهَتِهَا أَوْ مُقَلِّدًا غَيْرَهُ عَدْلًا عَارِفًا أَوْ مِحْرَابًا لَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ جَامِعِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ وَكَانَ الْخَطَأُ بِغَيْرِ نِسْيَانٍ. (أَعَادَ فِي الْوَقْتِ) أَيْ تِلْكَ الْفَرِيضَةَ فِي وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، وَاحْتُرِزَ بِالْخَطَأِ عَمَّنْ خَالَفَ الْقِبْلَةَ عَمْدًا فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَتْ إنْ خَالَفَهَا وَإِنْ صَادَفَ، فَإِنَّهُ مُخْتَصٌّ بِالْعَمْدِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ كَالتَّتَائِيِّ وَالزَّرْقَانِيِّ، وَقَوْلُنَا فِي الْمُجْتَهِدِ إذَا اجْتَهَدَ أَوْ قَلَّدَ غَيْرَهُ عَدْلًا عَارِفًا احْتِرَازٌ مِنْ الْمُجْتَهِدِ الَّذِي تَحَيَّرَ وَاخْتَارَ جِهَةً وَصَلَّى لَهَا، وَالْمُقَلِّدِ الَّذِي لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَتَخَيَّرَ جِهَةً وَصَلَّى لَهَا فَإِنَّهُ لَا إعَادَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَقَوْلُنَا: وَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ جَامِعِ عَمْرٍو لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ كَانَ يُصَلِّي لِهَؤُلَاءِ وَأَخْطَأَ، فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَيُعِيدُهَا أَبَدًا حَيْثُ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ، سَوَاءٌ كَانَ يَسِيرًا أَوْ كَثِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ أَعْمَى أَوْ بَصِيرًا، هَذَا هُوَ الَّذِي يُفِيدُهُ كَلَامُهُمْ؛ لِأَنَّ مَنْ بِمَكَّةَ إنَّمَا يَسْتَقْبِلُ عَيْنَ الْكَعْبَةِ وَإِنْ بِمَشَقَّةٍ، وَمَنْ بِالْمَدِينَةِ يُصَلِّي إلَى مِحْرَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِثْلُ مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ سَائِرُ الْمَسَاجِدِ الَّتِي صَلَّى إلَيْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنَّ قِبْلَتَهَا مُسَامِتَةٌ لِلْكَعْبَةِ فَلَا يُصَلِّي إلَّا إلَيْهَا مَعَ الْعِلْمِ بِقِبْلَتِهَا، وَلَا يَصِحُّ الِاجْتِهَادُ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ، وَقِبْلَةُ جَامِعِ عَمْرٍو مُجْمَعٌ عَلَى مُسَامَتَتِهَا لِلْكَعْبَةِ أَيْضًا، وَقَوْلُنَا بَعْدَ أَنْ صَلَّى يُشْعِرُ بِأَنَّ الْخَطَأَ تَبَيَّنَ بَعْدَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا لَوْ تَبَيَّنَ فِي أَثْنَائِهَا فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَبَيَّنَ خَطَأٌ بِصَلَاةٍ قَطَعَ غَيْرُ أَعْمَى وَمُنْحَرِفٍ يَسِيرًا، وَهُوَ الْبَصِيرُ الْمُنْحَرِفُ كَثِيرًا بِأَنْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ، وَأَمَّا الْأَعْمَى مُطْلَقًا، وَالْبَصِيرُ الْمُنْحَرِفُ يَسِيرًا فَيَسْتَقْبِلَانِهِ اوَلَا يَقْطَعَانِ، فَإِنْ تَرَكَا الِاسْتِقْبَالَ عَمْدًا لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُمَا بِخِلَافِ الْبَصِيرِ الْمُنْحَرِفِ كَثِيرًا، وَلَفْظُ الْأُجْهُورِيِّ: أَمَّا لَوْ لَمْ يَسْتَقْبِلَانِهَا فَالصَّلَاةُ صَحِيحَةٌ فِيهِمَا فِي الْيَسِيرِ بَاطِلَةٌ لِغَيْرِ الْأَعْمَى فِي الْكَثِيرِ، وَأَقُولُ: جَعْلُهُ الْبُطْلَانَ لِغَيْرِ الْأَعْمَى فِي الْكَثِيرِ مُرَتَّبًا عَلَى عَدَمِ الِاسْتِقْبَالِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ اسْتَقْبَلَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْخَطَأِ تَصِحُّ صَلَاتُهُ، وَهُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ خَلِيلٍ: قَطَعَ غَيْرُ أَعْمَى، دُونَ أَنْ يَقُولَ بَطَلَتْ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ عُذْرُهُ بِعَدَمِ الدُّخُولِ عَلَى الْخَطَأِ وَتَلَبُّسُهُ بِالصَّلَاةِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَقَوْلُنَا: بِأَنْ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَطَأِ الْيَسِيرِ، فَإِنَّهُ لَا تَنْدُبُ لِأَجْلِهِ إعَادَةٌ فِي حَقِّ الْأَعْمَى مُطْلَقًا وَلَا الْبَصِيرِ فِي الْيَسِيرِ، وَإِنَّمَا تَنْدُبُ فِي حَقِّ الْبَصِيرِ الْمُنْحَرِفِ كَثِيرًا؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالْقَطْعِ عِنْد تَبَيُّنِ الْخَطَأِ فِي الْأَثْنَاءِ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُؤْمَرُ بِالْقَطْعِ بَلْ بِالِاسْتِقْبَالِ وَهُوَ الْأَعْمَى مُطْلَقًا أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 بِثَوْبٍ نَجِسٍ أَوْ عَلَى مَكَان نَجِسٍ وَكَذَلِكَ مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجِسٍ مُخْتَلِفٍ فِي نَجَاسَتِهِ وَأَمَّا مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ قَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ   [الفواكه الدواني] غَيْرُهُ فِي الْيَسِيرِ، وَفَرَضْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِيمَنْ حَصَلَ لَهُ الْخَطَأُ بِغَيْرِ النِّسْيَانِ، وَأَمَّا مَنْ أَخْطَأَ نَاسِيًا فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهُوَ يُعِيدُ النَّاسِي أَبَدًا بِلَا خِلَافٍ، وَالْمُرَادُ نَسِيَ إمَّا مَطْلُوبِيَّةَ الِاسْتِقْبَالِ أَوْ نَسِيَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ مَعَ عِلْمِهِ بِوُجُوبِ الِاسْتِقْبَالِ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَقِيلَ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ وَالْخِلَافُ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا جَاهِلُ حُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ فَيُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ أَخْطَأَ لِغَيْرِ نِسْيَانٍ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَمَنْ أَخْطَأَ لِنِسْيَانٍ؟ فَفِيهِ خِلَافٌ فِي الْإِعَادَةِ أَبَدًا أَوْ فِي الْوَقْتِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّاسِيَ عِنْدَهُ تَفْرِيطٌ بِخِلَافِ غَيْرِهِ قَدْ فَعَلَ مَقْدُورَهُ مِنْ الِاجْتِهَادِ أَوْ التَّقْلِيدِ لِلْعَدْلِ الْعَارِفِ، ثُمَّ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي قِبْلَةِ الِاجْتِهَادِ وَالتَّخْيِيرِ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: مَنْ صَلَّى بِوَاحِدٍ مِنْ مَسْجِدِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ جَامِعِ عَمْرٍو بِالْفُسْطَاطِ فَتَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا فَإِنَّهُ يَقْطَعُ، وَلَوْ كَانَ أَعْمَى مُنْحَرِفًا يَسِيرًا، وَإِنْ تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ بَعْدَهَا فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ سَائِرَ الْمَحَارِيبِ الْكَائِنَةِ بِالْمَدِينَةِ لَوْ صَلَّى إلَيْهَا كَمِحْرَابِ قُبَاءَ حُكْمُهُ حُكْمُ مِحْرَابِ مَسْجِدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَمِمَّا ذَكَرْنَا وُجُوبُ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، إذْ هُوَ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ وَلَوْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ لَكِنْ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ. وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَنْ يَتَعَلَّمَ أَدِلَّةَ الْقِبْلَةِ إنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَلِّدُهُ، وَالْمُجْتَهِدُ لَا يُقَلِّدُ غَيْرَهُ مَعَ ظُهُورِ الْعَلَامَاتِ لَهُ وَتَمَكُّنِهِ مِنْ الِاسْتِدْلَالِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ، وَابْنُ عُمَرَ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ: مَنْ جَحَدَ وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ فَهُوَ كَافِرٌ يُقْتَلُ بَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إنْ لَمْ يَرْجِعْ، فَإِنْ رَجَعَ تَرَكَ، وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَدِلَّتِهَا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: دَلِيلُ الْقِبْلَةِ بِالنَّهَارِ أَنْ تَسْتَقْبِلَ ظِلَّكَ عِنْدَ وُقُوفِكَ قَبْلَ الْأَخْذِ فِي الزِّيَادَةِ فَذَلِكَ قِبْلَتُكَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لَا يَجْرِي فِي كُلِّ زَمَانٍ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَاَلَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاجْتِهَادِ، وَلَمْ يَجِدْ مَنْ يُقَلِّدُهُ وَلَوْ مِحْرَابًا صَحِيحًا، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَجْعَلَ الْمَغْرِبَ فِي صَلَاتِهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ، أَوْ يَجْعَلَ الْمَشْرِقَ أَمَامَ وَجْهِهِ، وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ فِي أَيِّ زَمَنٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ حَصَلَ لَهُ انْحِرَافٌ يَكُونُ يَسِيرًا، وَهُوَ لَا يَضُرُّ عِنْدَنَا، فِيمَنْ كَانَ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. وَمِنْ جُمْلَةِ الْعَلَامَاتِ لِمَنْ كَانَ مِصْرِيًّا أَنْ يَجْعَلَ الْقُطْبَ خَلْفَ أُذُنِهِ الْيُسْرَى، وَإِنْ كَانَ بِالْعِرَاقِ خَلْفَ أُذُنِهِ الْيُمْنَى، وَإِنْ كَانَ بِالشَّامِ يَجْعَلُهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، وَإِنْ كَانَ بِالْيَمَنِ يَجْعَلُهُ أَمَامَهُ، فَإِنَّهُ إنْ فَعَلَ ذَلِكَ يَكُونُ مُسْتَقْبِلًا، فَإِنَّ الْعِرَاقَ مُقَابِلٌ لِمِصْرِ مِنْ جِهَةِ الْمَشْرِقِ، وَالشَّامَ مِنْ جِهَةِ شِمَالِ مُسْتَقْبِلِ قِبْلَةِ مِصْرَ، وَالْيَمَنَ فِي جَنُوبِهِ، وَقَوْلُنَا إنْ كَانَ غَيْرَ مُجْتَهِدٍ لِقَوْلِ خَلِيلٍ وَلَا يُقَلِّدُ مُجْتَهِدٌ غَيْرَهُ وَلَا مِحْرَابًا إلَّا لِمِصْرِ وَإِنْ أَعْمَى، وَسَأَلَ عَنْ الْأَدِلَّةِ، وَقَلَّدَ غَيْرَهُ مُكَلَّفًا عَارِفًا أَوْ مِحْرَابًا، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ الْمُقَلِّدُ مَنْ يُقَلِّدُهُ أَوْ تَخَيَّرَ الْمُجْتَهِدُ فَإِنَّهُ يَتَخَيَّرُ جِهَةً تَرْكَنُ إلَيْهَا نَفْسُهُ وَيُصَلِّي، وَإِنْ صَلَّى لِلْأَرْبَعِ جِهَاتٍ لَكَانَ فِعْلُهُ حَسَنًا لِاخْتِيَارِ بَعْضِ الشُّيُوخِ لَهُ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ بِكُلِّ وَجْهٍ كَالْمُصَلِّي فِي حَالَةِ الِالْتِحَامِ أَوْ مِنْ تَحْتِ هَدْمٍ، فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الِاسْتِقْبَالِ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ كَمَا تَصِحُّ صَلَاةُ الْمُسَافِرِ سَفَرَ قَصْرٍ عَلَى دَابَّةِ النَّافِلَةِ لِجِهَةِ سَيْرِهَا وَلَوْ كَانَتْ وِتْرًا، وَإِنَّمَا أَطَلْت فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ وَإِجْحَافِ الْمُصَنِّفِ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ (مَنْ صَلَّى) فَرِيضَةً (بِثَوْبٍ نَجِسٍ) أَوْ مُتَنَجِّسٍ مَعَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى إزَالَتِهَا وَاتِّسَاعِ الْوَقْتِ، وَكَانَتْ تِلْكَ النَّجَاسَةُ غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، أَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَتِهَا، لَكِنْ صَلَّى نَاسِيًا لَهَا حَتَّى أَتَمَّ صَلَاتَهُ. (أَوْ) صَلَّى (عَلَى مَكَان نَجِسٍ) فَإِنَّهُ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ أَيْضًا، لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ إزَالَةَ النَّجَاسَةِ إنَّمَا تَجِبُ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ وَتَسْقُطُ مَعَ الْعَجْزِ وَالنِّسْيَانِ، وَأَمَّا مَعَ الْعَمْدِ وَالْقُدْرَةِ فَالصَّلَاةُ بَاطِلَةٌ وَتُعَادُ أَبَدًا، وَقِيلَ: إنَّهَا سُنَّةٌ فَتُعَادُ فِي الْوَقْتِ وَلَوْ مَعَ الْعَمْدِ وَالْقُدْرَةِ، فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَحْتَمِلُ جَرْيَهُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ صَلَاتِهِ عَاجِزًا عَنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ أَوْ نَاسِيًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَشَى عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ إزَالَتَهَا سُنَّةٌ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى التَّقْيِيدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُصَلِّيَ بِهَا عَامِدًا عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ إنَّمَا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَالْوَقْتُ فِي الظُّهْرَيْنِ لِلِاصْفِرَارِ، وَفِي الْعِشَاءَيْنِ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَالصُّبْحِ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا ضَرُورِيَّ لَهَا وَلِلْأَسْفَارِ الْأَعْلَى عَلَى مُقَابِلِهِ. (تَنْبِيهٌ) أَشْعَرَ قَوْلُهُ صَلَّى أَنَّهُ لَمْ يَتَذَكَّرْ النَّجَاسَةَ فِي الثَّوْبِ أَوْ الْمَكَانِ إلَّا بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا لَوْ عَلِمَ بِذَلِكَ فِي أَثْنَائِهَا لَبَطَلَتْ بِمُجَرَّدِ عِلْمِهَا كَمَا لَوْ سَقَطَتْ عَلَيْهِ فِيهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَسُقُوطُهَا فِي صَلَاةِ مُبْطِلٍ كَذِكْرِهَا فِيهَا لَا قَبْلَهَا، وَلَكِنْ يُقَيَّدُ الْبُطْلَانُ بِمَا إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَعْفُوٍّ عَنْهَا، وَكَانَ قَادِرًا عَلَى إزَالَتِهَا بِوُجُودِ الْمُطْلَقِ وَاتِّسَاعِ الْوَقْتِ، وَمِثْلُ وُجُودِ الْمُطْلَقِ الثَّوْبُ أَوْ الْمَكَانُ الطَّاهِرُ فَيُصَلِّي فِي غَيْرِهِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَلَا يُكْمِلُ، وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ طَرْحِ مَا عَلَيْهِ أَوْ تَحَوُّلِهِ إلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ لِبُطْلَانِهَا بِمُجَرَّدِ الذِّكْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إزَالَتِهَا إلَّا عَلَى الْقَوْلِ بِسُنِّيَّتِهَا، وَلَا إنْ كَانَ عَاجِزًا عَنْ إزَالَتِهَا أَوْ مَعْفُوًّا عَنْهَا، وَأَمَّا لَوْ رَآهَا فِي ثَوْبِهِ، وَهَمَّ بِقَطْعِهَا فَنَسِيَهَا وَتَمَادَى فَإِنَّهُ يُعِيدُ أَبَدًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَلِمَ بِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَنَسِيَهَا وَصَلَّى فَالْمَشْهُورُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا لَوْ رَآهَا فِي ثَوْبِ إمَامِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ إعْلَامُهُ إنْ قَرُبَ مِنْهُ، وَإِذَا بَعُدَ أَعْلَمَهُ بِالْكَلَامِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمَأْمُومِ تَبَعِيَّتُهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِنَجَاسَةِ ثَوْبِهِ أَوْ مَكَانِهِ بَلْ يَسْتَخْلِفُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ أَعَادَ صَلَاتَهُ أَبَدًا وَوُضُوءَهُ وَرُخِّصَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ، وَكَذَلِكَ فِي طِينٍ وَظُلْمَةٍ يُؤَذِّنُ لِلْمَغْرِبِ أَوَّلَ الْوَقْتِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، ثُمَّ يُؤَخِّرُ قَلِيلًا فِي قَوْلِ مَالِكٍ ثُمَّ يُقِيمُ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَيُصَلِّيهَا   [الفواكه الدواني] الْإِمَامُ، وَلَوْ الَّذِي أَعْلَمَهُ بِالنَّجَاسَةِ حَيْثُ لَمْ يَتْبَعْهُ بَعْدَ الْعِلْمِ فِي شَيْءٍ مِنْهَا لِبُطْلَانِهَا عَلَيْهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَأَمَّا مَنْ سَجَدَ أَوْ جَلَسَ عَلَى نَجَاسَةٍ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ مُفَارَقَتِهَا فَقِيلَ يَقْطَعُ صَلَاتَهُ وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ أَخْذًا مِنْ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ عَلِمَ فِي صَلَاتِهِ أَنَّهُ شَرَّقَ أَوْ غَرَّبَ قَطَعَ وَابْتَدَأَ صَلَاتَهُ بِإِقَامَتِهِ، وَإِنْ عَلِمَ بَعْدَ الصَّلَاةِ أَعَادَ فِي الْوَقْتِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ عَرَفَةَ: يُتِمُّ صَلَاتَهُ مُتَنَحِّيًا عَنْهَا، وَأَمَّا مَنْ رَأَى فِي صَلَاتِهِ نَجَاسَةً بِعِمَامَتِهِ بَعْدَ سُقُوطِهَا يَقْطَعُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَجَرَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ إلَى أَنَّهُ يَتَمَادَى وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ، وَهَذِهِ فُرُوعٌ حِسَانٌ قَلَّ أَنْ تَجِدَهَا مَجْمُوعَةً هَكَذَا فَاحْرِصْ عَلَيْهَا. (وَكَذَلِكَ) أَيْ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ (مَنْ تَوَضَّأَ بِمَاءٍ نَجَسٍ) الْأُولَى مُتَنَجِّسٌ لِقَوْلِهِ: (مُخْتَلَفٌ فِي نَجَاسَتِهِ) كَالْقَلِيلِ الَّذِي حَلَّتْهُ نَجَاسَةٌ وَلَمْ تُغَيِّرْهُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، سَوَاءٌ تَوَضَّأَ بِهِ عَامِدًا أَوْ نَاسِيًا، وَبَعْدَ الْوُضُوءِ مَا أَصَابَهُ مِنْ ثَوْبٍ أَوْ جَسَدٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ عَلَى كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَالْمُصَنِّفِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ عَلَى قَوْلِهِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ؛ لِأَنَّ النَّصَّ لِابْنِ الْقَاسِمِ: إنْ لَمْ يَجِدْ سِوَاهُ تَرَكَهُ وَتَيَمَّمَ، وَمَعْنَى مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ أَنَّ الْقَائِلَ بِالنَّجَاسَةِ يَكْتَفِي بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِقَوْلِ الْقَائِلِ بِعَدَمِ نَجَاسَتِهِ، وَالْقَائِلُ بِالطَّهَارَةِ يَقُولُ بِالْإِعَادَةِ فِي الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِالنَّجَاسَةِ، وَاَلَّذِي فِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ بِهَذَا الْمَاءِ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ أَصْلًا عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَإِذَا اسْتَعْمَلَهُ لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ، وَعَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ مُرَاعَاةً لِلْخِلَافِ، وَأَقُولُ: قَوْلُ الْعَلَّامَةِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ بِعَدَمِ إعَادَةِ مُسْتَعْمِلِهِ إنْ كَانَ لِنَصٍّ صَرِيحٍ عَنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ كَانَ لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ فَلَا؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ بِعَدَمِ نَجَاسَتِهِ لَا يُنَافِي نَدْبَ إعَادَةِ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ كَمَا قَالَ فِي الرِّسَالَةِ، فَلَعَلَّ الْأَحْوَطَ كَلَامُ الْمُدَوَّنَةِ وَالرِّسَالَةِ مِنْ نَدْبِ الْإِعَادَةَ فِي الْوَقْتِ. (وَأَمَّا مَنْ تَوَضَّأَ) أَوْ اغْتَسَلَ (بِمَاءٍ قَدْ تَغَيَّرَ) وَلَوْ ظَنًّا غَيْرَ قَوِيٍّ (لَوْنُهُ أَوْ طَعْمُهُ أَوْ رِيحُهُ) بِمَا يُفَارِقُهُ غَالِبًا مِنْ طَاهِرٍ كَلَبَنٍ أَوْ نَجَسٍ كَبَوْلٍ (أَعَادَ صَلَاتَهُ أَبَدًا وَوُضُوءَهُ) وَاسْتِنْجَاءَهُ؛ لِأَنَّ الْحَدَثَ وَحُكْمَ الْخُبْثِ لَا يَرْتَفِعُ إلَّا بِالْمُطْلَقِ، وَهُوَ الْبَاقِي عَلَى أَوْصَافِ خِلْقَتِهِ غَيْرَ مُسْتَخْرَجٍ مِنْ نَبَاتٍ وَلَا حَيَوَانٍ لَا بِمُتَغَيِّرٍ لَوْنًا أَوْ طَعْمًا أَوْ رِيحًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْإِعَادَةِ بَيْنَ اسْتِعْمَالِهِ فِي وَقْتِ الضَّرُورَةِ أَوْ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى مَنْ هُوَ مَعَهُ التَّيَمُّمُ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ مُتَعَلِّقَاتِ الصَّلَاةِ جَمْعُهَا فَتُصَلَّى إحْدَاهُمَا فِي غَيْرِ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا إمَّا قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ، وَأَسْبَابُهُ سِتَّةٌ: الْمَطَرُ وَحْدَهُ وَالطِّينُ وَالظُّلْمَةُ وَعَرَفَةُ وَالْمُزْدَلِفَةُ وَالسَّفَرُ وَالْمَرَضُ وَحُكْمُهُ مُخْتَلِفٌ، وَبَيَّنَ كُلًّا فِي مَحَلِّهِ، فَأَشَارَ إلَى الْجَمْعِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ بِقَوْلِهِ: (وَرُخِّصَ) أَيْ سُهِّلَ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ أَوْ السُّنِّيَّةِ (فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لَيْلَةَ الْمَطَرِ) الْغَزِيرِ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ رُءُوسِهِمْ بِحَيْثُ يَشُقُّ مَعَهُ الْوُصُولُ إلَى الْمَنَازِلِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْوَاقِعِ أَوْ الْمُتَوَقَّعِ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَاخْتَصَّ الْجَمْعُ بِالْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلْمَطَرِ؛ لِأَنَّهُمَا اللَّذَانِ وَرَدَ بِهِمَا الْخَبَرُ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَلَمَةَ مِنْ السُّنَّةِ: إذَا كَانَ يَوْمَ مَطَرٍ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ، وَأَيْضًا إنَّمَا يَفْعَلَانِ فِي اللَّيْلِ، وَهُوَ مَحَلُّ الظُّلْمَةِ، وَلَا يُتَوَهَّمُ مِنْ لَفْظِ الرُّخْصَةِ الْإِبَاحَةُ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ قَدْ تَكُونُ سُنَّةً وَقَدْ تَكُونُ مَنْدُوبَةً، فَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ: الْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ سُنَّةٌ، وَقَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ: الْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ سُنَّةٌ مَاضِيَةٌ، وَالْأَصْلُ الْحَقِيقَةُ، وَقَدْ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - وَفِعْلُهُمْ لَا يَطْرَأُ عَلَيْهِ نَسْخٌ، وَأُلْحِقَ بِالْمَطَرِ الثَّلْجُ وَالْبَرَدُ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ رَخَّصَ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ (فِي) كُلِّ لَيْلَةٍ ذَاتِ (طِينٍ وَظُلْمَةٍ) لِكَوْنِهَا مِنْ لَيَالِيِ آخِرِ الشَّهْرِ لَا ظُلْمَةَ الْغَيْمِ نَهَارًا، فَلَا يُجْمَحُ لِأَجْلِهَا وَلَوْ انْضَمَّ لَهَا طِينٌ أَوْ رِيحٌ شَدِيدٌ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ ذَلِكَ الْجَمْعُ فِي حَقِّ أَرْبَابِ الْمَسَاجِدِ السَّاكِنَةِ بِغَيْرِهَا رِفْقًا بِهِمْ فِي تَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ لَهُمْ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ زَائِدَةٍ بِسَبَبِ ذَهَابِهِمْ قَبْلَ شِدَّةِ الظَّلَّامِ اللَّاحِقَةِ لَهُمْ إنْ صَبَرُوا لِغَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجْمَعُ أَرْبَابُ الْمَسَاجِدِ الْمُعْتَكِفَةِ بِهَا إلَّا تَبَعًا لِمَنْ مَنْزِلُهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَسْجِدِ كَالْمُجَاوِرِينَ بِالْأَزْهَرِ الْمُنْقَطِعِينَ بِهِ لَا يَجْمَعُونَ إلَّا تَبَعًا لِلْإِمَامِ الَّذِي مَنْزِلُهُ خَارِجٌ عَنْ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْإِمَامُ مِنْ جُمْلَتِهِمْ لَوَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِخْلَافٌ مِنْ مَنْزِلِهِ خَارِجٌ عَنْ الْمَسْجِدِ وَيَتَأَخَّرُ الْمُعْتَكِفُ يُصَلِّي مَأْمُومًا تَبَعًا. 1 - (تَنْبِيهَانِ) . الْأَوَّلُ: لَوْ صَلَّى شَخْصٌ الْمَغْرِبَ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ فَوَجَدَ الْجَمَاعَةَ فِي صَلَاةِ الْعِشَاءِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الدُّخُولُ مَعَهُمْ حَيْثُ يَطْمَعُ فِي إدْرَاكِ رَكْعَةٍ لِيَحُوزَ فَضِيلَةَ الْجَمَاعَةِ، وَنِيَّةُ الْإِمَامِ الْجَمْعُ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَأَمَّا لَوْ وَجَدَهُمْ فَرَغُوا أَوْ فِي التَّشَهُّدِ فَلَا يَدْخُلُ مَعَهُمْ وَيُؤَخِّرُ الْعِشَاءَ لِلشَّفَقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَسْجِدُ الَّذِي دَخَلَهُ وَوَجَدَ أَهْلَهُ قَدْ جَمَعُوا أَحَدَ الْمَسَاجِدِ مَكَّةَ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 ثُمَّ يُؤَذِّنُ لِلْعِشَاءِ فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَيُقِيمُ ثُمَّ يُصَلِّيهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ وَعَلَيْهِمْ إسْفَارٌ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ عِنْدَ الزَّوَالِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ ، وَكَذَلِكَ فِي جَمْعِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِالْمُزْدَلِفَةِ إذَا   [الفواكه الدواني] الْمَدِينَةَ أَوْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ لِنَفْسِهِ لِعِظَمِ فَضْلِهَا عَلَى الْجَمَاعَةِ فِي غَيْرِهَا. الثَّانِي: الَّذِي مَنْزِلُهُ مُتَّصِلٌ بِالْجَامِعِ وَلَمْ يَأْتِ الْجَامِعُ لَيْسَ لَهُ الْجَمْعُ تَبَعًا لِأَهْلِ الْجَامِعِ، فَلَوْ خَالَفَ وَجَمَعَ مَعَ أَهْلِ الْمَسْجِدِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ جَمْعِهِمْ تَبَعًا لِأَهْلِ الْمَسْجِدِ. [أَسْبَاب الْجَمْع وَصِفَته] ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ الْجَمْعِ لِلْمَطَرِ أَوْ الطِّينِ مَعَ الظُّلْمَةِ بِقَوْلِهِ: (يُؤَذِّنُ لِلْمَغْرِبِ أَوَّلَ الْوَقْتِ) عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (خَارِجَ الْمَسْجِدِ) عَلَى الْمَنَابِرِ يَرْفَعُ صَوْتَهُ حُكْمُ الْمُعْتَادِ. (ثُمَّ يُؤَخِّرُ) الْمَغْرِبَ نَدْبًا عَنْ أَوَّلِ الْوَقْتِ (قَلِيلًا فِي قَوْلِ مَالِكٍ) بِقَدْرِ مَا يَدْخُلُ وَقْتُ الِاشْتِرَاكِ لِاخْتِصَاصِ الْأُولَى بِثَلَاثٍ بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَقِيلَ قَدْرَ حَلْبِهِ شَاةً، وَقَوْلُ مَالِكٍ هُوَ الْمَشْهُورُ، وَعِلَّةُ التَّأْخِيرِ لِيَأْتِيَ مَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ، وَلَا يُقَالُ: وَقْتُ الْمَغْرِبِ مَضِيقٌ فَتَأْخِيرُهَا مُنَافٍ لِذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: تَأْخِيرُهَا مُرَاعَاةً لِلْقَوْلِ بِامْتِدَادِ اخْتِيَارَيْهَا لِلشَّفَقِ، فَإِنَّ لَهُ قُوَّةً فِي بَابِ الْجَمْعِ رِفْقًا بِالنَّاسِ فِي حُصُولِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ لَهُمْ، وَأَيْضًا نَصُّوا عَلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ قَلِيلًا لِمُحَصِّلِي الشُّرُوطِ قَبْلَ دُخُولِ وَقْتِهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ التَّأْخِيرِ قَلِيلًا (يُقِيمُ) الْمُؤَذِّنُ الصَّلَاةَ (فِي دَاخِلِ الْمَسْجِدِ وَيُصَلِّيهَا) أَيْ الْمَغْرِبَ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلٍ؛ لِأَنَّ تَقْصِيرَهَا مَطْلُوبٌ فِي غَيْرِ هَذَا فَهَذَا أَوْلَى. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَانْصِرَافِ الْإِمَامِ مِنْ مَحَلِّ صَلَاتِهِ (يُؤَذِّنُ لِلْعِشَاءِ) إثْرَ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مِنْ غَيْرِ مُهْلَةٍ وَلَا تَسْبِيحٍ وَلَا تَحْمِيدٍ مِنْ الْمُؤَذِّنِ (فِي دَاخِلِ) صَحْنِ (الْمَسْجِدِ) بِصَوْتٍ مُنْخَفِضٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِطَلَبِ الْجَمَاعَةِ، وَلِذَلِكَ كَانَ مَنْدُوبًا، وَعِنْدَ دُخُولِ الْوَقْتِ يُسَنُّ الْأَذَانُ عَلَى الْمَنَارِ بِصَوْتٍ مُرْتَفِعٍ لِيُعْلِمَ أَهْلَ الْبُيُوتِ. (وَيُقِيمُ) لِلْعِشَاءِ (ثُمَّ يُصَلِّيهَا) سَرِيعًا (ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ) إلَى مَنَازِلِهِمْ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (عَلَيْهِمْ الْإِسْفَارُ) أَيْ بَقِيَّةً مِنْ نُورِ النَّهَارِ بِحَيْثُ يَصِلُونَ إلَى مَنَازِلِهِمْ (قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ) . (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا: ثُمَّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَانْصِرَافِهِ إلَخْ، إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ لَا يَبْقَى فِي مَحَلِّهِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ فَإِنَّ الْجُزُولِيَّ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: هَلْ يَنْصَرِفُ مِنْ مَحَلِّهِ أَوْ يَسْتَمِرُّ؟ لَمْ أَرَ فِيهِ نَصًّا. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ وَغَيْرُهُ: وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَقُومَ مِنْ مُصَلَّاهُ إذَا صَلَّى الْمَغْرِبَ حَتَّى يُؤَذِّنَ الْمُؤَذِّنُ، ثُمَّ يَعُودُ اهـ. وَأَقُولُ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِيمَا سَبَقَ: وَلْيَنْصَرِفْ الْإِمَامُ إلَخْ يَشْمَلُ هَذَا. الثَّانِي: قَوْلُهُ ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ إلَخْ لَوْ جَمَعُوا وَلَمْ يَنْصَرِفُوا حَتَّى غَابَ الشَّفَقُ أَعَادُوا الْعِشَاءَ وَقِيلَ لَا إعَادَةَ. الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَنْصَرِفُونَ وَعَلَيْهِمْ الْإِسْفَارُ أَنَّهُمْ لَا يُصَلُّونَ الْوِتْرَ، وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ وَقْتَهُ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ كَتَرَاوِيحِ رَمَضَانَ. الرَّابِعُ: فُهِمَ مِنْ طَلَبِ انْصِرَافِهِمْ بَعْدَ الْعِشَاءِ أَنَّهُمْ لَا يَشْتَغِلُونَ بِنَفْلٍ وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَنَفُّلَ بَيْنَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا، وَإِذَا وَقَعَ وَنَزَلَ وَتَنَفَّلَ بَيْنَهُمَا لَا يُمْنَعُ الْجَمْعُ إلَّا أَنْ تَكْثُرَ النَّوَافِلُ بِحَيْثُ يَدْخُلُ وَقْتُ الظُّلْمَةِ الشَّدِيدَةِ فَيَفُوتُ الْجَمْعُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ التَّنَفُّلِ الْكَرَاهَةُ، وَلَا وَجْهَ لِحُرْمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَثُرَ لَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ فَوَاتُ وَاجِبٍ إذْ الْجَمْعُ مَنْدُوبٌ أَوْ مَسْنُونٌ وَالْمُفَوِّتُ لِأَحَدِهِمَا لَا يُحَرَّمُ فِعْلُهُ فَتَأَمَّلْهُ. الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ نِيَّةِ الْجَمْعِ وَلَا مَحَلَّهَا، وَمَحِلُّهَا عَلَى الرَّاجِحِ عِنْدَ الصَّلَاةِ الْأُولَى، وَتُطْلَبُ مِنْ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَأَمَّا نِيَّةُ الْإِمَامَةِ فَقِيلَ عِنْدَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي يَظْهَرُ أَثَرُ الْجَمْعِ فِيهَا، وَقِيلَ فِيهِمَا وَالْمَشْهُورُ الثَّانِي، فَلَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ نِيَّةَ الْإِمَامَةِ بَطَلَتْ الثَّانِيَةُ عَلَى الْأَوَّلِ، وَبَطَلَتْ عَلَى الثَّانِي حَيْثُ تَرَكَهَا فِيهِمَا، وَأَمَّا لَوْ تَرَكَهَا فِي الثَّانِيَةِ وَأَتَى بِهَا فِي الْأُولَى فَالظَّاهِرُ صِحَّتُهَا وَتَبْطُلُ الثَّانِيَةُ وَلَا يُصَلِّيهَا إلَّا عِنْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ، وَأَمَّا لَوْ تَرَكَهَا عِنْدَ الْأُولَى وَنِيَّتُهُ الْجَمْعُ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ؛ لِأَنَّ صِحَّتَهَا مَشْرُوطَةٌ بِنِيَّةِ الْإِمَامَةِ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَتَرْكِ الْإِمَامِ نِيَّةَ الْإِمَامَةِ فِي صَلَاةِ الْجَمْعِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي ثَالِثِ أَسْبَابِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: (وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ) يَوْمَ الْوُقُوفِ وَهُوَ تَاسِعُ الْحِجَّةِ لَيْلَةَ الْعِيدِ (بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) جَمْعُ تَقْدِيمٍ (عِنْدَ الزَّوَالِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ، وَصِفَتُهُ أَنْ يَخْطُبَ لِلنَّاسِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَيَجْلِسَ فِي وَسَطِهَا، وَلِذَلِكَ سَمَّاهَا خَلِيلٌ خُطْبَتَيْنِ، ثُمَّ يُؤَذِّنُ لِلظُّهْرِ وَيُقِيمُ لَهَا، وَالْإِمَامُ جَالِسٌ عَلَى الْمِنْبَرِ ثُمَّ يَنْزِلُ يُصَلِّي الظُّهْرَ ثُمَّ بَعْدَ صَلَاتِهَا يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ لِلْعَصْرِ، وَإِلَى ذَلِكَ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (بِأَذَانٍ) لِكُلِّ صَلَاةٍ (وَإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ) وَلَا يُتَنَفَّلُ بَيْنَهُمَا كَغَيْرِهِمَا مِنْ الصَّلَوَاتِ الْمَجْمُوعَةِ. قَالَ زَرُّوقٌ: وَنَظَرَ الْأُجْهُورِيُّ فِي التَّنَفُّلِ بَعْدَ الصَّلَاتَيْنِ فِي جَمْعِ الظُّهْرَيْنِ وَفِي جَمْعِ الْعِشَاءَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ. قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ صَلَّى فِي رَحْلِهِ كَفَتْهُ الْإِقَامَةُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى أَذَانٍ، وَمَنْ فَاتَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ مَعَ الْإِمَامِ وَهُوَ قَوِيٌّ عَلَى ذَلِكَ فَلْيَجْمَعْ بَيْنَهُمَا فِي رَحْلِهِ إذَا زَالَتْ الشَّمْسُ وَيَتَّبِعُ فِي ذَلِكَ السُّنَّةَ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ تَرْكُ جَمْعِ الصَّلَاتَيْنِ بِعَرَفَةَ مَعَ الْإِمَامِ، وَالصَّلَاةُ فِي ذَلِكَ سِرِّيَّةٌ وَتُصَلَّى الظُّهْرُ فِي عَرَفَةَ، وَلَوْ وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: جَمَعَ الرَّشِيدُ مَالِكًا وَأَبَا يُوسُفَ فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وَصَلَ إلَيْهَا وَإِذَا جَدَّ السَّيْرُ بِالْمُسَافِرِ فَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَأَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ، وَكَذَلِكَ الْمَغْرِبُ وَالْعِشَاءُ وَإِذَا ارْتَحَلَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْأُولَى جَمَعَ حِينَئِذٍ وَلِلْمَرِيضِ أَنْ يَجْمَعَ إذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ عَلَى   [الفواكه الدواني] عَنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَدْ صَلَّاهَا؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَصَلَّى بَعْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ وَهَذِهِ جُمُعَةٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَجَهَرَ بِالْقِرَاءَةِ كَمَا يَجْهَرُ بِالْجُمُعَةِ، فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ وَسَلَّمَ. وَأَشَارَ إلَى رَابِعِ الْأَسْبَابِ لِلْجَمْعِ وَهُوَ الْمُزْدَلِفَةُ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ) الْحُكْمُ (فِي جَمْعِ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جَمْعَ تَأْخِيرٍ (بِالْمُزْدَلِفَةِ) سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ وَمَحَلُّهُ (إذَا وَصَلَ إلَيْهَا) بَعْدَ مَغِيبِ الشَّفَقِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إلَّا بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَالِ الْخَفِيفَةِ، بِأَنْ يُؤَذِّنَ لِلْمَغْرِبِ بَعْدَ الشَّفَقِ وَيُقِيمَ لَهَا فَإِذَا صَلُّوهَا وَفَرَغُوا مِنْهَا يُؤَذِّنُ لِلْعِشَاءِ وَيُقِيمُ لَهَا وَيُصَلُّونَهَا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِتَسْبِيحٍ وَلَا تَنَفُّلٍ كَسَائِرِ الْجُمُوعِ، لَا يُتَنَفَّلُ بَيْنَهُمَا. قَالَهُ زَرُّوقٌ، فَإِنْ وَصَلَ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ قَبْلَ مَغِيبِ الشَّفَقِ لَمْ يَصِحَّ جَمْعُهُ قَبْلَهُ، فَلَوْ جَمَعَ أَعَادَ الْمَغْرِبَ نَدْبًا وَالْعِشَاءَ بَعْدَ الشَّفَقِ وُجُوبًا، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ إذَا وَصَلَ عَمَّا إذَا لَمْ يَصِلْ لِمَرَضٍ بِهِ أَوْ بِدَابَّتِهِ فَهَذَا يَجْمَعُ إذَا غَابَ الشَّفَقُ فِي أَيِّ مَحَلٍّ، وَلَوْ كَانَ مُنْفَرِدًا؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَوْ عَرَفَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ جَمَاعَةٌ بَلْ لِكُلِّ مَنْ فَاتَهُ الْإِمَامُ الْجَمْعُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ سُنِّيَّةِ الْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَنْ يَكُونَ مُرِيدًا الْجَمْعَ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَسَارَ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْهُ لِعَجْزٍ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَعْدَ الشَّفَقِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَنَفَرَ مِنْهُ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُ اخْتِيَارًا لَا يَجْمَعُ إلَّا بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ الشَّفَقِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ مَعَهُ، وَتَأَخَّرَ عَنْهُ لِعَجْزٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الشَّفَقِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ وَلَوْ غَيْرَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ الْإِمَامِ بَلْ وَقَفَ بَعْدَهُ لَا يَجْمَعُ وَلَا بِالْمُزْدَلِفَةِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْأَذَانِ لِلْمَغْرِبِ بَعْدَ الشَّفَقِ يُخَالِفُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَذَانَ يُكْرَهُ فِي الضَّرُورِيِّ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الْأَذَانُ لِلظُّهْرِ حَيْثُ يُجْمَعُ مَعَ الْعَصْرِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ بَابَ الْجَمْعِ بَابُ ضَرُورَةٍ، أَلَا تَرَى أَنَّ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ تُفْعَلُ بَعْدَ أَوْ قَبْلَ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ، فَالْأَذَانُ أَوْلَى فَيُقَيَّدُ مَا فِي الْأَذَانِ بِغَيْرِ الصَّلَاةِ الْمَجْمُوعَةِ، وَأَشَارَ إلَى خَامِسِ أَسْبَابِ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا جَدَّ السَّيْرُ) أَيْ اشْتَدَّ (بِالْمُسَافِرِ) فِي الْبَرِّ سَفَرًا مُبَاحًا، وَإِنْ قَصُرَ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَهُ حَالَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يُدْرِكَ الزَّوَالَ سَائِرًا وَفِي هَذَا وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ (فَلَهُ) حِينَئِذٍ (أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ) الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ (فِي آخِرِ وَقْتِ الظُّهْرِ وَ) فِي (أَوَّلِ وَقْتِ الْعَصْرِ) فَصَلَّى الظُّهْرَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا وَالْعَصْرَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَهَذَا يُسَمَّى جَمْعًا صُورِيًّا وَلِلصَّحِيحِ فِعْلُهُ؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي تُقَدَّمُ فِيهِ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ عَنْ وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ أَوْ تُؤَخِّرُهُ عَنْهُ، وَلِهَذَا صُلِّيَتْ فِيهِ كُلُّ صَلَاةٍ فِي وَجْهِهَا، وَثَانِي الْوَجْهَيْنِ أَسْقَطَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ فِي الِاصْفِرَارِ وَقَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا، وَإِلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَالَتْ رَاكِبًا أَخَّرَهُمَا إنْ نَوَى الِاصْفِرَارَ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَفِي وَقْتِهِمَا، وَحُكْمُ التَّأْخِيرِ الْجَوَازُ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاتَيْنِ فِي نِيَّةِ النُّزُولِ فِي الِاصْفِرَارِ، وَفِي النُّزُولِ قَبْلَهُ الْجَوَازُ بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرِ وَالْوُجُوبُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَصْرِ، هَذَا هُوَ الظَّاهِرُ وَسَوَاءٌ غَيْرُ ظَاهِرٍ (وَ) الْحُكْمُ (كَذَلِكَ) فِي الْعِشَاءَيْنِ إذَا أَشْرَكَهُ الْغُرُوبُ سَائِرًا فَلَهُ وَجْهَانِ أَيْضًا: أَحَدُهُمَا أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ (الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ) جَمْعًا صُورِيًّا بِأَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا الضَّرُورِيِّ وَيُصَلِّيَ الْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ يُنْزِلُ طُلُوعَ الْفَجْرِ هَذَا مَنْزِلَةَ الْغُرُوبِ فِي الظُّهْرَيْنِ، وَالثُّلُثَ الْأَوَّلَ مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَ الِاصْفِرَارِ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْفَجْرِ مَنْزِلَةَ الِاصْفِرَارِ، وَثَانِي الْوَجْهَيْنِ أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ فِي الثُّلُثَيْنِ الْأَخِيرَيْنِ أَوْ قَبْلَهُمَا فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُهُمَا كَمَا كَانَ يُؤَخِّرُ الظُّهْرَيْنِ عِنْدَ نِيَّةِ النُّزُولِ فِي الِاصْفِرَارِ أَوْ قَبْلَهُ. وَثَانِي الْحَالَتَيْنِ أَنْ يُدْرِكَهُ الزَّوَالُ أَوْ الْغُرُوبُ بَازِلًا بِالْمَنْهَلِ وَفِيهِ ثَلَاثُ أَوْجُهٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا وَجْهًا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا ارْتَحَلَ) الْمُسَافِرُ أَيْ أَرَادَ الِارْتِحَالَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ نَازِلٌ بِالْمَنْهَلِ وَزَالَتْ أَوْ غَرَبَتْ الشَّمْسُ وَهُوَ بِهِ (فِي أَوَّلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ الْأُولَى) وَهِيَ الظُّهْرُ مِنْ الظُّهْرَيْنِ أَوْ الْمَغْرِبُ مِنْ الْعِشَاءَيْنِ؛ لِأَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ شَامِلٌ لَهُمَا، وَنَوَى أَنَّهُ لَا يَنْزِلُ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ (جَمَعَ حِينَئِذٍ) بِأَنْ يُصَلِّيَ الْعَصْرَ عِنْدَ الظُّهْرِ وَالْعِشَاءَ عِنْدَ الْمَغْرِبِ، وَيُسَمَّى جَمْعَ تَقْدِيمٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَالْأَوَّلُ إيقَاعُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَثَانِيهَا أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ قَبْلَ الِاصْفِرَارِ فِي الظُّهْرَيْنِ أَوْ فِي الثُّلُثِ الْأَوَّلِ فِي الْعِشَاءَيْنِ فَإِنَّهُ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ الثَّانِيَةَ فَقَطْ، وَثَالِثُهَا أَنْ يَنْوِيَ النُّزُولَ فِي الِاصْفِرَارِ بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرَيْنِ أَوْ بَعْدَ الثُّلُثِ الْأَوَّلِ فِي الْعِشَاءَيْنِ. فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ زَالَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ أَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 عَقْلِهِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَعِنْدَ الْغُرُوبِ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ أَرْفَقُ بِهِ لِبَطْنٍ بِهِ وَنَحْوِهِ جَمَعَ وَسْطَ وَقْتِ الظُّهْرِ وَعِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ   [الفواكه الدواني] رَاكِبًا لَهُ حَالَتَانِ، وَمَنْ زَالَتْ أَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ نَازِلٌ بِالْمَنْهَلِ لَهُ ثَلَاثُ أَحْوَالٍ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأُولَى، قَبْلَ الِارْتِحَالِ فِي الثَّلَاثِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى قِسْمَيْ الرَّاكِبِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ زَالَتْ رَاكِبًا أَخَّرَهُمَا إنْ نَوَى الِاصْفِرَارَ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِلَّا فَفِي وَقْتَيْهَا كَمَنْ لَا يَضْبِطُ نُزُولَهُ، وَأَشَارَ إلَى أَحْوَالِ النَّازِلِ بِقَوْلِهِ: وَرَخَّصَ لَهُ الظُّهْرَيْنِ بِالْمَنْهَلِ إذَا زَالَتْ بِهِ، وَنَوَى النُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْلَ الِاصْفِرَارِ أَخَّرَ الْعَصْرَ وَفِي الِاصْفِرَارِ خَيْرٌ فِيهَا، وَالْعِشَاءَانِ كَالظُّهْرَانِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِتَنْزِيلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَنْزِلَةَ الْغُرُوبِ، وَالثُّلُثِ الْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَ الِاصْفِرَارِ وَبَاقِي اللَّيْلِ مَنْزِلَةَ الِاصْفِرَارِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ النَّازِلَ وَقْتَ الزَّوَالِ أَوْ الْغُرُوبِ مُخَالِفٌ لِلسَّائِرِ فِي هَذَيْنِ الْوَقْتَيْنِ؛ لِأَنَّ النَّازِلَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْتَحِلَ وَيَنْزِلَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَجْمَعُ جَمْعَ تَقْدِيمٍ، وَالسَّائِرَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَنْزِلَ بَعْدَ الْغُرُوبِ أَوْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إنَّمَا يَجْمَعُ جَمْعًا صُورِيًّا؛ لِأَنَّهُ يُصَلِّي الْأُولَى فِي آخِرِ وَقْتِهَا، وَالثَّانِيَةَ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا وَلِلصَّحِيحِ فِعْلُهُ، وَنَظِيرهُ مَنْ لَا يَضْبِطُ وَقْتَ نُزُولِهِ، وَمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ اسْتِعْمَالُ الْمَاءِ فِي وَقْتِ كُلِّ صَلَاةٍ وَالْمَبْطُونُ يَجُوزُ لِكُلٍّ مِنْ هَؤُلَاءِ تَأْخِيرُ الْأُولَى إلَى آخِرِ وَقْتِهَا بِحَيْثُ إذَا فَرَغَ مِنْهَا يُؤَذِّنُ وَيُقِيمُ وَيَشْرَعُ فِي الثَّانِيَةِ لِدُخُولٍ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ جَدَّ الْيَسِيرُ فِيهِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا إسْنَادُ الْجِدِّ إلَى السَّيْرِ، وَهُوَ إنَّمَا يُسْنَدُ إلَى الشَّخْصِ؛ لِأَنَّ مَعْنَاهُ الِاجْتِهَادُ وَالسَّيْرُ لَا يُجْتَهَدُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا جَوَابَ هَذَا بِتَضْمِينِ جَدَّ بِمَعْنَى اشْتَدَّ أَوْ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الْعَقْلِيِّ، وَهُوَ إسْنَادُ الْفِعْلِ إلَى غَيْرِ مَا هُوَ لَهُ عَلَى حَدِّ: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ أَيْ صَاحِبُهَا، وَالْمَعْنَى هُنَا جَدَّ السَّيْرَ أَيْ صَاحِبُهُ، وَثَانِي الْأَمْرَيْنِ أَنَّ تَعْبِيرَهُ بِ جَدَّ يُوهِمُ اشْتِرَاطَ الْجِدِّ فِي جَوَازِ الْجَمْعِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ مِنْهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ كَمَا صَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنْ قَصُرَ وَلَمْ يَجِدَّ إلَخْ. الثَّالِثُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ هَذَا الْجَمْعَ صُورِيٌّ؛ لِأَنَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الَّذِي تُقَدَّمُ فِيهِ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ عَنْ وَقْتِهَا أَوْ تُؤَخَّرُ، وَالْمُرَادُ وَقْتُهَا الْمُعْتَادُ لَهَا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا صَلَّيْت فِيهِ وَقْتٌ لَهَا ضَرُورِيٌّ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الضَّرُورِيَّ بَعْدَ الْمُخْتَارِ أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ، وَاخْتُلِفَ فِي الصُّورِيِّ هَلْ هُوَ رُخْصَةٌ أَوْ غَيْرُ رُخْصَةٍ؟ فَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَخَالَفَ الْمَازِرِيُّ فِي كَوْنِهِ رُخْصَةً، وَلَعَلَّ وَجْهَ كَوْنِهِ رُخْصَةً أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ إيقَاعَ الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا؛ لِأَنَّهُ مِنْ أَفْضَلِ الْأَعْمَالِ، وَيُلَامُ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، وَأَمَّا نَحْوُ الْمَرِيضِ وَمَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ إيقَاعُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا فَلَا يُلَامُ عَلَيْهِ فِي تَأْخِيرِهَا، لِأَنَّهُ يُرَخَّصُ لِصَاحِبِ الضَّرُورَةِ مَا لَا يُرَخَّصُ فِيهِ لِلصَّحِيحِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشَارَ إلَى سَادِسِ الْأَسْبَابِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ (لِلْمَرِيضِ أَنْ يَجْمَعَ) بَيْنَ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ (إذَا خَافَ أَنْ يُغْلَبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (عَلَى عَقْلِهِ) فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ بِجُنُونٍ وَإِغْمَاءٍ أَوْ حُمَّى أَوْ دَوْخَةٍ (عِنْدَ الزَّوَالِ) مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ يَجْمَعُ، وَذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلظُّهْرَيْنِ (وَعِنْدَ الْغُرُوبِ) بِالنِّسْبَةِ لِلْعِشَاءَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَدَّمَ خَائِفُ الْإِغْمَاءِ وَالنَّافِضُ وَالْمَيْدُ، وَاسْتَشْكَلَ الْقَرَافِيُّ طَلَبَ هَذَا الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ حُصُولِ نَحْوِ الْإِغْمَاءِ لَا تَجِبُ الصَّلَاةُ، فَلَا يَجْمَعُ مَا لَمْ يَجِبْ بَلْ يَحْرُمُ التَّقَرُّبُ بِصَلَاةٍ مِنْ خَمْسٍ لَمْ تَجِبْ، وَعَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ حُصُولِ نَحْوِ الْإِغْمَاءِ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى الْجَمْعِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ لَوْ حَصَلَ الشَّكُّ فِي سُقُوطِهَا وَهُوَ شَكٌّ فِي الْمَانِعِ فَيُطْلَبُ إلْغَاؤُهُ بِخِلَافِ الشَّكِّ فِي أَصْلِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا خَافَتْ الْمَرْأَةُ تَحِيضُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهَا تَقْدِيمُ الثَّانِيَةِ عِنْدَ الْأُولَى، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْغَالِبَ عَلَى الْحَيْضِ اسْتِغْرَاقُهُ الْوَقْتَ بِخِلَافِ غَيْرِهِ يُمْكِنُ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ فَلَا يُسْقِطُ الصَّلَاةَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ خَافَ السَّلِيمُ أَنْ يُغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْ عَكْسَهُ وَهُوَ مَا إذَا غَلَبَ عَلَى عَقْلِهِ وَقْتَ الْأُولَى مِنْ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ، وَالْحُكْمُ فِيهَا عَكْسُ مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ أَنَّهُ يُؤَخِّرُ الْأُولَى إلَى وَقْتِ الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ كَصَاحِبِ السَّلَسِ الَّذِي يُلَازِمُهُ فِي وَقْتِ الْأُولَى وَيَنْقَطِعُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ. الثَّانِي: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نَدْبِ التَّقْدِيمِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَنَدْبُ التَّأْخِيرِ فِي عَكْسِهِ وَاضِحٌ إذَا كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ الْوَقْتِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يَذْهَبُ فِي آخِرِهِ لَطَلَبَ مِنْهُ التَّأْخِيرَ، لَكِنْ يَتَّجِهُ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ اسْتِغْرَاقَهُ لِوَقْتِ الثَّانِيَةِ أَنَّهَا تَسْقُطُ فَمَا وَجْهُ طَلَبِهِ بِهَا وَيُقَدِّمُهَا قَبْلَ وَقْتِهَا، وَجَوَابُهُ احْتِمَالُ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ. الثَّالِثُ: لَوْ جَمَعَ الْمَرِيضُ فِي وَقْتِ الْأُولَى مِنْ غَيْرِ خَوْفٍ أَعَادَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِهَا كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَكَذَا لَوْ جَمَعَ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْأُولَى لِخَوْفِ زَوَالِ عَقْلِهِ أَوْ لِحُمَّى عِنْدَ الثَّانِيَةِ، ثُمَّ سَلَّمَ فَقَالَ سَنَدٌ يُعِيدُ الْأَخِيرَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ سَلَّمَ أَوْ قَدَّمَ وَلَمْ يَرْتَحِلْ أَوْ ارْتَحَلَ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَنَزَلَ عِنْدَهُ فَجَمَعَ أَعَادَ الثَّانِيَةَ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْإِعَادَةِ فِي الْفَرْعِ الثَّانِي، وَمَحَلُّ الْإِعَادَةِ فِي الْفَرْعِ الثَّالِثِ إذَا جَمَعَ غَيْرَ نَاوٍ الِارْتِحَالَ، وَإِلَّا فَلَا إعَادَةَ، وَأَشَارَ إلَى الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ حَالَتَيْ الْمَرِيضِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ) كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَقْضِي مَا خَرَجَ وَقْتُهُ فِي إغْمَائِهِ وَيَقْضِي مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِمَّا يُدْرِكُ مِنْهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ مِنْ الصَّلَوَاتِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ تَطْهُرُ فَإِذَا بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ طُهْرِهَا بِغَيْرِ تَوَانٍ خَمْسُ رَكَعَاتٍ صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، وَإِنْ كَانَ الْبَاقِي   [الفواكه الدواني] الْمَرِيضُ لَا يَخَافُ عَلَى عَقْلِهِ عِنْدَ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنْ (كَانَ الْجَمْعُ) بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ (أَرْفَقَ) أَيْ أَيْسَرَ (بِهِ لِبَطْنٍ بِهِ وَنَحْوِهِ) كَشِدَّةِ بَرْدٍ (جَمَعَ) جَوَازًا فِي (وَسَطِ وَقْتِ الظُّهْرِ) وَهُوَ آخِرُ الْقَامَةِ الْأُولَى بِحَيْثُ إذَا سَلَّمَ دَخَلَ وَقْتُ الْعَصْرِ فَيُؤَذِّنُ لَهَا وَيُقِيمُ وَيُسَمَّى الْجَمْعُ الْمَذْكُورُ صُورِيًّا. (وَ) جَمَعَ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ (عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ) الْأَحْمَرِ فَيُوقِعُ الْمَغْرِبَ فِي آخِرِ وَقْتِهَا الِاخْتِيَارِيِّ بِنَاءً عَلَى امْتِدَادِهِ، وَالْعِشَاءَ فِي أَوَّلِ اخْتِيَارٍ بِهَا، وَالصَّحِيحُ فِعْلُ هَذَا الْجَمْعِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ جَمْعًا حَقِيقِيًّا لِفِعْلِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَالْحَقِيقِيُّ مَا تُقَدَّمُ فِيهِ إحْدَى الصَّلَاتَيْنِ أَوْ تُؤَخَّرُ كَمَا قَدَّمْنَا. [الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لِقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ) وَمِثْلُهُ السَّكْرَانُ بِحَلَالٍ وَبِالْأَوْلَى الْمَجْنُونُ (لَا يَقْضِي) وَاحِدٌ مِنْهُمْ (مَا خَرَجَ وَقْتُهُ) الضَّرُورِيُّ (فِي) زَمَنِ (إغْمَائِهِ) أَوْ جُنُونِهِ أَوْ سُكْرِهِ الْحَلَالِ، كَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ عَسَلًا أَوْ لَبَنًا لِعَدَمِ خِطَابِهِمْ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. (وَ) إنَّمَا (يَقْضِي) أَيْ يُؤَدِّي الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ (مَا) أَيْ الْفَرْضَ الَّذِي (أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ) وَفَسَّرْنَا يَقْضِي بِيُؤَدِّي؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ فِعْلُ مَا خَرَجَ وَقْتُهُ، وَمَا فُعِلَ فِي وَقْتِهِ لَا يُقَالُ لَهُ قَضَاءً، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ قَصَدَ الْمُشَاكَلَةَ فَعَبَّرَ بِيَقْضِي لِوُقُوعِهِ فِي صُحْبَةِ الْقَضَاءِ، وَهُوَ حَقِيقَةُ الْمُشَاكَلَةِ، نَظِيرُهُ وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنْ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنْ الْجِنِّ أَوْ الضَّمِيرُ فِي وَقْتِهِ عَائِدٌ عَلَى مَا الْمُفَسَّرَةِ بِالْفَرْضِ، وَلِذَلِكَ ذَكَرَ الضَّمِيرَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَقَلَّ الْقُدْرَةِ الَّذِي إذَا أَفَاقَ فِيهِ يَلْزَمُهُ الْأَدَاءُ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا يُدْرِكُ مِنْهُ) الضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِمَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ (رَكْعَةً) بِسَجْدَتَيْهَا (فَأَكْثَرَ مِنْ الصَّلَوَاتِ) وَحَاصِلُ الْمَعْنَى بِإِيضَاحٍ: أَنَّ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ لَا يَلْزَمُهُ فِعْلُ مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ إلَّا إذَا كَانَ يَعْتَقِدُ إدْرَاكَ رَكْعَةٍ كَامِلَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا فَأَكْثَرَ بَعْدَ تَحْصِيلِ الطَّهَارَةِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شُرُوطِهَا الَّتِي تَتَوَقَّفُ الصِّحَّةُ عَلَيْهَا عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ سَوَاءٌ حَصَلَ لَهُ الْإِغْمَاءُ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ أَوْ آخِرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَعْذُورُ غَيْرُ الْكَافِرِ يُقَدَّرُ لَهُ الطُّهْرُ، فَقَوْلُهُ: مِمَّا يُدْرِكُ مِنْهُ رَكْعَةً يَعْنِي فِي جَانِبِ السُّقُوطِ وَالْإِدْرَاكِ مَعًا، فَالتَّقْدِيرُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَقْضِي مَا خَرَجَ وَقْتُهُ فِي إغْمَائِهِ مِمَّا لَا يُدْرِكُ مِنْهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ، وَيَقْضِي مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ مِمَّا يُدْرِكُ مِنْهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ لِأَدَائِهِ، فَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ مِقْدَارُ خَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ وَمِقْدَارُ تَحْصِيلِ شُرُوطِهَا الَّتِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا الصِّحَّةُ لَمْ يَقْضِهِمَا لِإِغْمَائِهِ فِي وَقْتِهِمَا، وَإِنْ أَفَاقَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ هَذَا الْقَدْرُ قَضَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ أَفَاقَ فِي وَقْتِهِمَا، وَإِذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَقَدْ بَقِيَ لِطُلُوعِ الْفَجْرِ مِقْدَارُ الطُّهْرِ وَأَرْبَعُ رَكَعَاتٍ لَمْ يَقْضِهِمَا، وَإِذَا أَفَاقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ قَضَاهُمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا بِهِ الْإِدْرَاكُ بِهِ السُّقُوطُ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَقْتِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الضَّرُورِيُّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتُدْرِكُ فِيهِ الصُّبْحَ بِرَكْعَةٍ لَا أَقَلَّ، وَالظُّهْرَانِ وَالْعِشَاءَانِ إنْ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْ الْأُولَى لَا الْأَخِيرَةِ، وَمِنْ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ الْحَيْضَ وَمِثْلُهُ النِّفَاسُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ) وَمِثْلُهَا النُّفَسَاءُ (تَطْهُرُ) أَيْ تَرَى كُلُّ وَاحِدَةٍ عَلَامَةَ الطُّهْرِ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ، فَلَا تَقْضِي مَا خَرَجَ وَقْتُهُ مِمَّا لَا تُدْرِكُ مِنْهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ، وَتُؤَدِّي مَا طَهُرَتْ فِي وَقْتِهِ مِمَّا تُدْرِكُ فِيهِ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا، ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى ذَلِكَ التَّشْبِيهِ قَوْلَهُ: (فَإِذَا) رَأَتْ الْحَائِضُ وَالنُّفَسَاءُ عَلَامَةَ الطُّهْرِ نَهَارًا وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ (بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ طُهْرِهَا) بِالْمَاءِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّيَمُّمِ، وَإِلَّا قُدِّرَ لَهَا الطُّهْرُ بِالتُّرَابِ (بِغَيْرِ تَوَانٍ) أَيْ تَرَاخٍ كَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ أَيْ يُعْتَبَرُ زَمَنُ طُهْرِهَا عَلَى الْمُعْتَادِ لِمِثْلِهَا لَا مَعَ سُرْعَةِ الْعَجَلَةِ وَلَا مَعَ التَّسَاهُلِ فِي الْفِعْلِ وَالْهَيْئَةِ وَفَاعِلُ بَقِيَ (خَمْسُ رَكَعَاتٍ) فِي الْحَضَرِ أَوْ ثَلَاثٌ فِي السَّفَرِ (صَلَّتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ) أَيْ وَجَبَ عَلَيْهَا صَلَاتُهَا لِطُهْرِهَا فِي وَقْتِهِمَا؛ لِأَنَّهَا تُدْرِكُ الْأُولَى بِقَدْرِهَا وَيَبْقَى لِلثَّانِيَةِ رَكْعَةٌ، فَلَوْ شَرَعَتْ فِي الطُّهْرِ مِنْ غَيْرِ تَرَاخٍ تَظُنُّ إدْرَاكَ الصَّلَاتَيْنِ فَغَرَبَتْ الشَّمْسُ صَلَّتْ الْعَصْرَ وَسَقَطَتْ الظُّهْرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ ظَنَّ إدْرَاكَهُمَا فَرَكَعَ فَخَرَجَ الْوَقْتُ قَضَى الْأَخِيرَةَ، وَإِنْ تَطَهَّرَ فَأَحْدَثَ أَوْ تَبَيَّنَ عَدَمُ طَهُورِيَّةِ الْمَاءِ، أَوْ ذَكَرَ مَا تَرَتَّبَ فَالْقَضَاءُ، وَيُتِمُّ مَا شَرَعَ فِيهِ نَافِلَةً بِحَيْثُ يُسَلِّمُ مِنْ رَكْعَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَدْخُولٍ عَلَيْهِ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَ طُهْرِهَا أَنَّهُ يُقَدَّرُ لَهَا الطُّهْرُ زِيَادَةً عَلَى مَا تُدْرِكُ فِيهَا الرَّكْعَةَ، وَمِثْلُهَا سَائِرُ أَرْبَابِ الْأَعْذَارِ غَيْرَ الْكَافِرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَعْذُورُ غَيْرَ كَافِرٍ يُقَدَّرُ لَهُ الطُّهْرُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ يُسْلِمُ فِي آخَرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فَلَا يُقَدَّرُ لَهُ الطُّهْرُ لِقُدْرَتِهِ عَلَى زَوَالِ مَانِعِهِ، وَفَائِدَةُ التَّقْدِيرِ السُّقُوطُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ لِلطُّهْرِ وَالرَّكْعَةِ وَعَدَمُهُ عِنْدَ اتِّسَاعِهِ لَهُمَا، وَكَمَا يُعْتَبَرُ مِقْدَارُ الطُّهْرِ فِي جَانِبِ الْإِدْرَاكِ يُعْتَبَرُ أَيْضًا فِي جَانِبِ السُّقُوطِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَالْمُرَادُ الطُّهْرُ بِالْمَاءِ، وَإِنْ كَانَ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ وَخَشْيَةِ فَوَاتِهِ بِاسْتِعْمَالِ الْمَاءِ لَا يَنْتَقِلُ الشَّخْصُ لِلتَّيَمُّمِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْخِطَابِ بِالصَّلَاةِ هُنَا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُخَاطَبًا بِالصَّلَاةِ فِي جَمِيعِ الْوَقْتِ لِكَوْنِهِ لَيْسَ مِنْ أَصْحَابِ الْأَعْذَارِ، وَأَخَّرَ فِعْلَهَا حَتَّى ضَاقَ وَقْتُهَا، وَعَلِمَ أَنَّهُ إنْ تَيَمَّمَ أَدْرَكَ الْوَقْتَ بِرَكْعَةٍ، وَإِنْ تَوَضَّأَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 مِنْ اللَّيْلِ أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، وَإِنْ كَانَ مِنْ النَّهَارِ أَوْ مِنْ اللَّيْلِ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ صَلَّتْ الصَّلَاةَ الْأَخِيرَةَ، وَإِنْ حَاضَتْ لِهَذَا التَّقْدِيرِ لَمْ تَقْضِ مَا حَاضَتْ فِي وَقْتِهِ، وَإِنْ حَاضَتْ لِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ النَّهَارِ فَأَقَلَّ إلَى رَكْعَةٍ أَوْ لِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ إلَى رَكْعَةٍ قَضَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى فَقَطْ وَاخْتُلِفَ فِي حَيْضِهَا لِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ فَقِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ، وَقِيلَ إنَّهَا حَاضَتْ فِي وَقْتِهِمَا فَلَا تَقْضِيهِمَا وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ   [الفواكه الدواني] خَرَجَ وَقْتُهَا فَإِنَّهُ يَتَيَمَّمُ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُ نَوْعُ تَفْرِيطٍ فَشَدَّدَ عَلَيْهِ دُونَ صَاحِبِ الْعُذْرِ فَخَفَّفَ عَنْهُ بِسُقُوطِهَا إنْ لَمْ يَبْقَ زَمَنٌ لِلطُّهْرِ بِالْمَاءِ، هَذَا إيضَاحُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ أَيْضًا: وَأَفْهَمُ اقْتِصَارَهُ عَلَى الطُّهْرِ أَيْ طُهْرِ الْحَدَثِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادَرُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ، وَأَيْضًا طُهْرُ الْخُبْثِ إنَّمَا يُطْلَبُ عِنْدَ اتِّسَاعِ الْوَقْتِ أَنَّهُ لَا يُقَدَّرُ لَهُ سَتْرَ عَوْرَةٍ وَلَا اسْتِقْبَالَ قِبْلَةٍ وَلَا اسْتِبْرَاءَ وَاجِبٍ إنْ اُحْتِيجَ إلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَفِي كَلَامِ الشَّاذِلِيِّ مَا يَقْتَضِي اعْتِبَارَ بَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ فَانْظُرْهُ مَعَ كَلَامِ الشَّيْخِ، وَمَفْهُومٌ بِغَيْرِ تَوَانٍ أَنَّهَا لَوْ تَرَاخَتْ فِي الْفِعْلِ، أَوْ كَانَتْ مُوَسْوِسَةً حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ الَّذِي يَسَعُ الطُّهْرَ الْمُعْتَادَ وَالرَّكْعَةَ لَوَجَبَ عَلَيْهَا الْقَضَاءُ. (وَإِنْ) رَأَتْ عَلَامَةَ الطُّهْرِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ قَدْ (بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ) بَعْدَ طُهْرِهَا بِالْمَاءِ بِغَيْرِ تَوَانٍ مَا يَسَعُ (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ) وَلَوْ فِي السَّفَرِ (صَلَّتْ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) لِإِدْرَاكِ الْمَغْرِبِ بِثَلَاثٍ وَتُبْقِي رَكْعَةً لِلْعِشَاءِ لِمَا تَقَدَّمَ عَنْ خَلِيلٍ أَنَّ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ يُدْرَكَانِ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْ الْأُولَى عَلَى الْمَذْهَبِ. (وَإِنْ كَانَ) الْبَاقِي (مِنْ النَّهَارِ أَوْ مِنْ اللَّيْلِ) بَعْدَ طُهْرِهَا إنَّمَا يَسَعُ (أَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْخَمْسِ فِي النَّهَارِ وَالْأَرْبَعِ فِي اللَّيْلِ (صَلَّتْ الصَّلَاةَ الْأَخِيرَةَ) ، وَسَقَطَتْ الْأُولَى لِأَنَّ الْوَقْتَ إذَا ضَاقَ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ، وَلَمَّا كَانَ مَا بِهِ الْإِدْرَاكُ يَحْصُلُ بِهِ السُّقُوطُ قَالَ: (وَإِذَا حَاضَتْ) أَوْ نَفِسَتْ (لِهَذَا التَّقْدِيرِ) وَهُوَ الْخَمْسُ فِي النَّهَارِ بِعُذْرٍ مِنْ الطُّهْرِ أَوْ الْأَرْبَعُ فِي اللَّيْلِ مَعَ زَمَنِ الطُّهْرِ (لَمْ تَقْضِ مَا حَاضَتْ فِي وَقْتِهِ) بَلْ يَسْقُطُ عَنْهَا الصَّلَاتَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُسْقِطَ عُذْرٌ حَصَلَ غَيْرَ نَوْمٍ وَنِسْيَانِ الْمُدْرِكِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَ زَمَنِ الطُّهْرِ لِمَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهُ يُقَدِّرُ الطُّهْرَ فِي جَانِبِ السُّقُوطِ كَمَا يُقَدِّرُ فِي جَانِبِ الْإِدْرَاكِ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: وَسَوَاءٌ أَخَّرَتْ الْمَرْأَةُ الصَّلَاةَ عَمْدًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ رَجَاءَ أَنْ تَحِيضَ فِي وَقْتِهِمَا حَتَّى لَا تَقْضِيَهُمَا إلَّا أَنَّهَا تَأْثَمُ فِي الْعَمْدِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ مِنْهَا: الْمُقِيمُ الْمُرِيدُ لِلسَّفَرِ يُؤَخِّرُ الصَّلَاتَيْنِ لِآخِرِ الْوَقْتِ حَتَّى يَقْصُرْهُمَا فَلَهُ قَصْرُهُمَا، وَمِنْهَا: مَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ فِي زَمَنِ الْحَرِّ فَأَرَادَ السَّفَرَ فِيهِ لِأَجْلِ الْفِطْرِ وَيَقْضِيهِ فِي زَمَنِ الشِّتَاءِ فَإِنَّهُ يَقْضِيهِ، وَمِنْهَا: مَنْ عِنْدَهُ مَالٌ يَصِيرُ بِهِ مُسْتَطِيعًا فَتَصَدَّقَ بِهِ لَيَسْقُطَ عَنْهُ الْحَجُّ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: مَأْثُومٌ، وَلَمْ يُعَامَلْ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ، بِخِلَافِ الْخَلِيطَيْنِ يَقْصِدَانِ بِالْخَلْطَةِ أَوْ بِالِافْتِرَاقِ الْهُرُوبَ مِنْ الزَّكَاةِ، فَإِنَّهُمَا يُؤَاخَذَانِ بِمَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَ الْخَلْطَةِ، وَمِثْلُهُمَا مَنْ أَبْدَلَ إبِلَهُ بِذَهَبٍ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، وَفَرَّقَ شَيْخُنَا مُحَمَّدٌ بَيْنَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَبَيْنَ مَسَائِلِ الزَّكَاةِ بِأَنَّ الْحَقَّ فِي الْمُتَقَدِّمَةِ لِلَّهِ وَفِي مَسَائِلِ الزَّكَاةِ لِلْفُقَرَاءِ فَعُومِلَ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ. (وَإِنْ حَاضَتْ) أَوْ نَفِسَتْ فِي آخِرِ الصَّلَاتَيْنِ (لِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ النَّهَارِ) فِي الْحَضَرِ أَوْ رَكْعَتَيْنِ فِي السَّفَرِ (فَأَقَلَّ إلَى رَكْعَةٍ) بَعْدَ مِقْدَارِ زَمَنِ الطُّهْرِ (أَوْ) حَاضَتْ (لِثَلَاثِ رَكَعَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ إلَى رَكْعَةٍ قَضَتْ الصَّلَاةَ الْأُولَى فَقَطْ) وَتَسْقُطُ الثَّانِيَةُ لِحَيْضِهَا فِي وَقْتِهَا، وَالْوَقْتُ إذَا ضَاقَ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ إدْرَاكًا وَسُقُوطًا، وَتَقْضِي الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا تَرْتِيبٌ فِي ذِمَّتِهَا لِخُرُوجِ وَقْتِهَا قَبْلَ الْمُسْقِطِ، فَهِيَ كَدَيْنٍ أُعْسِرَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِهِ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بَلْ يَقْضِيهِ فِي يَسَارِهِ الْمُسْتَقْبَلِ، وَكَذَلِكَ الْحَائِضُ تَقْضِي الْأُولَى بَعْدَ الطُّهْرِ. (وَاخْتُلِفَ فِي حَيْضِهَا) أَيْ فِيمَا إذَا حَاضَتْ (لِأَرْبَعِ رَكَعَاتٍ مِنْ اللَّيْلِ) مَعَ مَا يَسَعُ الطُّهْرَ (فَقِيلَ مِثْلُ ذَلِكَ) أَيْ تَقْضِي الْأُولَى وَتَسْقُطُ الثَّانِيَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّقْدِيرَ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْ الثَّانِيَةِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ضَاقَ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ. (وَقِيلَ إنَّهَا حَاضَتْ فِي وَقْتِهِمَا فَلَا تَقْضِيهِمَا) بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ يُدْرَكَانِ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْ الْأُولَى، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأُولَى يَجِبُ تَقْدِيمُهَا فِعْلًا فَيُقَدَّرُ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْهَا، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَتُدْرَكُ الصُّبْحُ بِرَكْعَةٍ فِي الضَّرُورِيِّ، وَالظُّهْرَانِ وَالْعِشَاءَانِ بِفَضْلِ رَكْعَةٍ عَنْ الْأُولَى لَا الْأَخِيرَةِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ اعْتِبَارِ زَمَنِ الطُّهْرِ فِي جَانِبِ الْإِدْرَاكِ وَالسُّقُوطِ أَنَّ مَنْ أَخَّرَتْ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَحَاضَتْ فِي وَقْتِهِمَا بِحَيْثُ بَقِيَ خَمْسُ رَكَعَاتٍ إنَّمَا يَسْقُطَانِ عَنْهَا حَيْثُ كَانَتْ طَاهِرًا حِينَ حُصُولِ الْحَيْضِ لَا إنْ كَانَ عَلَيْهَا جَنَابَةٌ، بِحَيْثُ لَوْ أَمَرْنَاهَا بِالْغُسْلِ لَمْ تُدْرِكْ سِوَى أَرْبَعٍ أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّمَا تَسْقُطُ الثَّانِيَةُ وَتَقْضِي الْأُولَى، وَلَوْ كَانَتْ أَخَّرَتْهُمَا عَمْدًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَعُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالطُّهْرِ الْوُضُوءُ أَوْ الْغُسْلُ لِمَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَوْ التَّيَمُّمُ لِمَنْ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ مَحَلُّهَا بَابَ مُوجِبَاتِ الْوُضُوءِ فَقَالَ: (وَمَنْ أَيْقَنَ) أَيْ جَزَمَ (بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي) طَرَيَانِ (الْحَدَثِ) الْمُرَادُ النَّاقِضُ وَلَوْ سَبَبًا سِوَى الرِّدَّةِ فَيَشْمَلُ الشَّكَّ فِي نَوْمِهِ أَوْ إغْمَائِهِ أَوْ مَسِّ ذَكَرِهِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّوَاقِضِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وُضُوئِهِ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فَرِيضَةٌ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ بِالْقُرْبِ أَعَادَ ذَلِكَ وَمَا يَلِيهِ وَإِنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ أَعَادَهُ فَقَطْ وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ أَبْتَدَأَ   [الفواكه الدواني] (ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيَشُكُّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ إلَّا الْمُسْتَنْكَحَ، وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ التَّرَدُّدُ عَلَى حَدٍّ سِوَى فَلَا يَلْزَمُ الْوُضُوءُ بِتَوَهُّمِ الْحَدَثِ مَعَ ظَنِّ الطَّهَارَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْوُضُوءُ عَلَى مَنْ ظَنَّ الْحَدَثَ أَوْ تَرَدَّدَ فِيهِ وَفِي عَدَمِهِ عَلَى السَّوَاءِ، وَكَذَا لَا يَجِبُ الْوُضُوءُ بِالشَّكِّ فِي الرِّدَّةِ لِعَدَمِ حُصُولِهَا بِالشَّكِّ، وَفُهِمَ مِنْ إيجَابِ الْوُضُوءِ فِي صُورَةِ الْمُصَنِّفِ إيجَابُهُ فِي عَكْسِهَا، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي حُصُولِ الطَّهَارَةِ أَوْ تَيَقَّنَهُمَا وَشَكَّ فِي السَّابِقِ مِنْهُمَا أَوْ شَكَّ فِيهِمَا، أَوْ تَيَقَّنَ الْوُضُوءَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، وَشَكَّ مَعَ ذَلِكَ هَلْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ؟ أَوْ تَيَقَّنَ الْحَدَثَ وَشَكَّ فِي الْوُضُوءِ، وَشَكَّ مَعَ ذَلِكَ هَلْ كَانَ قَبْلَهُ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ بَابِ أَحْرَى؟ وَرُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الشَّكَّ حَصَلَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةَ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ مُتَيَقِّنًا الطَّهَارَةَ، ثُمَّ طَرَأَ لَهُ الشَّكُّ فِي النَّاقِضِ فِيهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّمَادِي فِيهَا، وَبَعْدَ تَمَامِهَا إنْ بَانَ لَهُ الْبَقَاءُ عَلَى الطَّهَارَةِ لَمْ يُعِدْهَا، وَإِنْ بَانَ حَدَثُهُ أَوْ بَقِيَ عَلَى شَكِّهِ أَعَادَهَا وُجُوبًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ شَكَّ فِي صَلَاتِهِ ثُمَّ بَانَ الطُّهْرُ لَمْ يُعِدْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا وَجَبَ الْوُضُوءُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ الطَّهَارَةَ شَرْطٌ، وَالشَّكُّ فِي الشَّرْطِ مُؤَثِّرٌ بِخِلَافِ الشَّكِّ فِي طَلَاقِ زَوْجَتِهِ أَوْ عِتْقِ أَمَتِهِ أَوْ شَكَّ فِي الطَّهَارَةِ أَوْ الرَّضَاعِ لَا يُؤَثِّرُ؛ لِأَنَّهُ شَكَّ فِي الْمَانِعِ وَهُوَ لَا يُؤَثِّرُ. قَالَهُ الْوَانْشَرِيسِيُّ، وَإِنَّمَا أَثَّرَ فِي الشَّرْطِ دُونَ الْمَانِعِ؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ مُحَقَّقَةٌ فِي الذِّمَّةِ فَلَا تَبْرَأُ مِنْهَا إلَّا بِطَهَارَةٍ مُحَقَّقَةٍ، وَالْمَانِعُ يَطْرَأُ عَلَى أَمْرٍ مُحَقَّقٍ، وَهُوَ الْإِبَاحَةُ أَوْ الْمِلْكُ مِنْ الرَّقِيقِ فَلَا تَنْقَطِعُ بِأَمْرٍ مَشْكُوكٍ فِيهِ. الثَّانِي: قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: إذَا صَلَّى شَاكًّا فِي الطَّهَارَةِ، ثُمَّ تَذَكَّرَهَا قَالَ مَالِكٌ: صَلَاتُهُ تَامَّةٌ لِأَنَّ الشَّرْطَ الطَّهَارَةُ وَهِيَ حَاصِلَةٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ عَلِمْت أَمْ لَا؟ وَقَالَ أَشْهَبُ وَسَحْنُونٌ: بَاطِلَةٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَامِلٍ عَلَى قَصْدِ الصِّحَّةِ. الثَّالِثُ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَمَنْ أَيْقَنَ بِالْوُضُوءِ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ إشْكَالٌ بَيَانُهُ إيهَامُ أَنَّ جُمْلَةَ وَشَكَّ فِيهِ حَالِيَّةٌ فَيَلْزَمُ اجْتِمَاعُ الشَّكِّ وَالْيَقِينِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُسْتَحِيلٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِثُمَّ بَدَلِ الْوَاوِ، وَلِيُعْلَمَ مِنْهُ أَنَّ الشَّكَّ مُتَأَخِّرٌ عَنْ الْيَقِينِ، وَأَصْلُ الْعِبَارَةِ فِي الْمُدَوَّنَةِ كَمَا فِي الْمُصَنِّفِ، وَعِبَارَةُ خَلِيلٍ خَالِيَةٌ مِنْ هَذَا الْإِشْكَالِ وَلَفْظُهَا: وَيَشُكُّ فِي حَدَثٍ بَعْدَ طُهْرٍ عُلِمَ، وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى مَا يَدْفَعُ هَذَا الْإِشْكَالَ فِي الْمَزْجِ بِقَوْلِنَا: فِي حُصُولِ الْحَدَثِ الدَّالِّ عَلَى أَنَّ الشَّكَّ طَرَأَ بَعْدَ الْيَقِينِ فَتَصِيرُ عِبَارَتُهُ كَعِبَارَةِ خَلِيلٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ حَقُّهَا أَنْ تُذْكَرَ فِي بَابِ صِفَةِ الْوُضُوءِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ وُضُوئِهِ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فَرِيضَةٌ مِنْهُ) نَسِيَهُ حَالَ الْوُضُوءِ، أَوْ شَكَّ فِي نِسْيَانِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَحًا (فَإِنْ كَانَ) ذَلِكَ التَّذَكُّرُ (بِالْقُرْبِ) مِنْ وُضُوئِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَمْ تَجِفَّ أَعْضَاؤُهُ الْمُعْتَدِلَةُ فِي الزَّمَنِ الْمُعْتَدِلِ وَالْمُعْتَبَرُ آخِرُ الْأَعْضَاءِ غَسْلًا (أَعَادَ ذَلِكَ) وُجُوبًا وَمَعْنَى الْإِعَادَةِ الْإِتْيَانُ بِهِ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهُ لَمْ يَغْسِلْهُ، وَيَأْتِي بِهِ بِنِيَّةِ إتْمَامِ وُضُوئِهِ، وَيَفْعَلُهُ ثَلَاثًا إنْ كَانَ مَغْسُولًا، سَوَاءٌ كَانَ عُضْوًا كَامِلًا أَوْ بَعْضَ عُضْوٍ. (وَ) أَعَادَ (مَا يَلِيهِ) اسْتِنَانًا لِأَجَلِ التَّرْتِيبِ وَهُوَ سُنَّةٌ بَيْنَ الْفَرَائِضِ، وَيَغْسِلُهُ مَرَّةً إنْ كَانَ غَسَلَهُ أَوَّلًا ثَلَاثًا أَوْ مَرَّتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ غَسَلَهُ مَرَّةً بِغَسْلِهِ مَرَّتَيْنِ. (وَ) مَفْهُومُ بِالْقُرْبِ (إنْ تَطَاوَلَ ذَلِكَ) بِأَنْ لَمْ يَتَذَكَّرْ إلَّا بَعْدَ جَفَافِ الْعُضْوِ الْمَغْسُولِ آخِرًا (أَعَادَهُ) أَيْ اقْتَصَرَ عَلَى فِعْلِ الْمَتْرُوكِ (فَقَطْ) ، وَلَا يَغْسِلُ مَا يَلِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ حَالَةِ الْقُرْبِ، وَقَيَّدْنَا هَذَا بِغَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ فَإِنَّهُ إنْ شَكَّ فِي تَرْكِ عُضْوٍ يَطْرَحُ الشَّكَّ وَلَا يَغْسِلُهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: يُطْلَبُ مِنْ النَّاسِي أَنْ يَغْسِلَ ذَلِكَ الْمَنْسِيَّ فَوْرًا، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: يَفْعَلُهُ حِينَ يَذْكُرُهُ فَلَوْ تَأَخَّرَ عَنْ وَقْتِ الذِّكْرِ حَتَّى طَالَ فَسَدَ وُضُوءُهُ تَعَمَّدَ التَّأْخِيرَ أَوْ كَانَ نَاسِيًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ الْمُتَكَرِّرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ يُعْذَرُ بِهِ فَيَفْعَلُ الْمَنْسِيَّ وَحْدَهُ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى ذَلِكَ فَرْعُ سَحْنُونٍ الْمَشْهُورِ بَيْنَ طَلَبَةِ الْعِلْمِ وَهُوَ: مَنْ صَلَّى الْخَمْسَ بِوُضُوءٍ وَجَبَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَذَكَرَ مَسْحَ رَأْسِهِ مِنْ وُضُوءِ أَحَدِهَا مَسَحَهُ وَأَعَادَ الْخَمْسَ، فَلَوْ أَعَادَهَا نَاسِيًا مَسَحَهُ مَسْحَةً وَأَعَادَ الْعِشَاءَ فَقَطْ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمَسْحَ الْمَتْرُوكَ إنْ كَانَ مِنْ إحْدَى الْأَرْبَعِ فَقَدْ أَعَادَهَا بِوُضُوءِ الْعِشَاءِ الْكَامِلِ وَبَرِئَتْ الذِّمَّةُ مِنْ جَمِيعِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَسْحُ الْمَتْرُوكُ مِنْ وُضُوءِ الْعِشَاءِ فَقَدْ بَرِئَتْ ذِمَّتُهُ بِالْمَسْحِ الثَّانِي اهـ. وَاعْتَرَضَ هَذَا بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ لَمْ يُعْذَرْ بِالنِّسْيَانِ الثَّانِي. قَالَ الْمُصَنِّفُ: قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: لِأَنَّ مَعَهُ نَوْعًا مِنْ التَّفْرِيطِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي جَوَابِهِ: لَا مَانِعَ مِنْ بِنَاءِ مَشْهُورٍ عَلَى ضَعِيفٍ، وَمِثْلُ فَرْعِ سَحْنُونٍ: لَوْ صَلَّى الصُّبْحَ وَالظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ بِوُضُوءٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ أَحْدَثَ وَتَوَضَّأَ لِلْعِشَاءِ، ثُمَّ بَعْدَ صَلَاتِهَا تَذَكَّرَ أَنَّهُ نَسِيَ مَسْحَ رَأْسِهِ مِنْ أَحَدِ الْوُضُوءَيْنِ وَأَعَادَ الْخَمْسَ نَاسِيًا مَسْحَ رَأْسِهِ فَإِنَّهُ يَمْسَحُ رَأْسَهُ وَيُصَلِّي الْعِشَاءَ فَقَطْ، وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، لِأَنَّ كُلَّ صَلَاةٍ فُعِلَتْ مَرَّتَيْنِ بِوُضُوءَيْنِ أَحَدُهُمَا صَحِيحٌ قَطْعًا. قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ وُضُوئِهِ شَيْئًا قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 الْوُضُوءَ وَإِنْ طَالَ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ أَعَادَ صَلَاتَهُ أَبَدًا وَوُضُوءَهُ، وَإِنْ ذَكَرَ مِثْلَ الْمَضْمَضَةِ   [الفواكه الدواني] بِالشَّيْءِ أَعْلَمُ مِنْ أَنْ يَكُونَ عُضْوًا أَوْ لُمْعَةً، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَا يَلِي الْمَتْرُوكَ يُعَادُ مَعَ الْقُرْبِ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ فِيمَا يَلِي اللُّمْعَةَ هَلْ هُوَ بَقِيَّةُ الْعُضْوِ الْمَتْرُوكِ مِنْهُ، أَوْ الْعُضْوُ الَّذِي يَلِي الْعُضْوَ الْمَتْرُوكَ مِنْهُ اللُّمْعَةُ؟ وَهَذَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ، فَتُغْسَلُ اللُّمْعَةُ ثَلَاثًا بِنِيَّةِ إتْمَامِ الْوُضُوءِ، وَيُعِيدُ الْعُضْوَ الْمَوَالِيَ لِعُضْوِ اللُّمْعَةِ، وَلَا يَغْسِلُ بَقِيَّةَ مَا تَرَكَ مِنْهُ اللُّمْعَةُ، فَلَوْ نَسِيَ لُمْعَةً مِنْ يَدٍ مَثَلًا، وَلَمْ يَدْرِ هَلْ هِيَ مِنْ الْيُمْنَى أَوْ الْيُسْرَى غَسَلَهَا مِنْ الْيَدَيْنِ جَمِيعًا، وَأَعَادَ مَا بَعْدَهُمَا لِآخِرِ الْوُضُوءِ، وَإِنْ نَسِيَهَا مِنْ يَدٍ أَوْ رِجْلٍ، وَلَمْ يَدْرِ مَحَلَّهَا غَسَلَ الْعُضْوَ كُلَّهُ. (وَ) مَفْهُومُ إنْ تَذَكَّرَ أَنَّهُ (إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ) أَيْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ (ابْتَدَأَ) وُجُوبًا (الْوُضُوءَ إنْ طَالَ ذَلِكَ) أَيْ زَمَنُ التَّرْكِ فَتَخَلَّصَ أَنَّ التَّارِكَ لِشَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ عُضْوًا أَوْ لُمْعَةً يَبْنِي مَا فَعَلَ مَعَ النِّسْيَانِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَعَ الْعَمْدِ أَوْ الْعَجْزِ فَإِنَّهُ يَبْنِي مَا لَمْ يَطُلْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَنَى بِنِيَّةٍ إنْ نَسِيَ مُطْلَقًا، وَإِنْ عَجَزَ مَا لَمْ يَطُلْ بِجَفَافِ أَعْضَاءٍ بِزَمَنِ اعْتَدِلْ، وَإِنَّمَا ابْتَدَأَ الْوُضُوءَ مَعَ الطُّولِ لِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ وُجُوبِهَا مَعَ الذِّكْرِ، وَأَمَّا مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا تَجِبُ، فَلِذَا بَنَى مَعَ النِّسْيَانِ وَلَوْ طَالَ زَمَنُ التَّرْكِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَتْرُوكِ مَغْسُولًا أَوْ مَمْسُوحًا، وَمَفْهُومُ إنْ طَالَ إنْ لَمْ يَطُلْ لَا يَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ، وَيَأْتِي بِالْمَتْرُوكِ فَقَطْ مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ لِوُجُودِهَا، وَتُسَنُّ إعَادَةُ مَا بَعْدَهُ لِأَجْلِ التَّرْتِيبِ، فَصَارَ الْعَمْدُ كَالنِّسْيَانِ عِنْدَ عَدَمِ الطُّولِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَتْرُوكِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقَانِ مَعَ الطُّولِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَرِيضَةَ الْمُوَالَاةِ، وَيُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْفَوْرِ وَهِيَ الْإِتْيَانُ بِالْوُضُوءِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ مُتَفَاحِشٍ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ وَصَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَهَلْ الْمُوَالَاةُ وَاجِبَةٌ إنْ ذَكَرَ وَقَدَّرَ إلَخْ، وَوَجَبَ الْأَخْذُ أَنَّهُ أَوْجَبَ ابْتِدَاءَ الْوُضُوءِ مَعَ الْعَمْدِ فِي حَالِ الطُّولِ وَالْبِنَاءَ فِي حَالِ النِّسْيَانِ مُطْلَقًا، وَحَمَلَهُ الْفَاكِهَانِيُّ أَيْضًا عَلَى الْوُجُوبِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُصَنِّفُ لَمْ يُعَبِّرْ بِالْوُجُوبِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: التَّعْبِيرُ بِالْفِعْلِ وَهُوَ ابْتِدَاءٌ فِي كَلَامِهِ الْأَصْلِ فِي الْوُجُوبِ، خِلَافًا لِسَيِّدِي أَحْمَدَ زَرُّوقٍ وَسَيِّدِي يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ فِي قَوْلِهِمَا: يَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ فِي حَالِ الْعَمْدِ مَعَ الطُّولِ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِسُنِّيَّةِ الْمُوَالَاةِ؛ لِأَنَّ التَّهَاوُنَ بِالسُّنَنِ كَالتَّهَاوُنِ بِالْفَرَائِضِ، وَتَبِعَا فِي كَلَامِهِمَا ابْنَ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ فَعَلَى خِلَافِهِ لِأَنَّهُ قَالَ: لَا يَبْتَدِيهِ وَلَوْ فَرَّقَهُ عَامِدًا، وَإِنَّمَا يَبْنِي عَلَى مَا فَعَلَ كَمَا لَوْ فَرَّقَهُ نَاسِيًا، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الْمُتَوَضِّئَ لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَ جَمِيعِ سُنَنِ الْوُضُوءِ لَمْ يَبْطُلْ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُوَالَاةُ شُهِرَتْ فَرْضِيَّتُهَا فَعَظُمَ أَمْرُهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَابَلَ الْمُصَنِّفُ التَّرْكَ نِسْيَانًا الْمَفْهُومُ مَنْ ذَكَرَ بِالْمُتَعَمِّدِ، وَخَلِيلٌ قَابَلَهُ بِالْعَاجِزِ، وَأَمَّا الْأَوْلَى مِنْهُمَا مَعَ الِاتِّفَاقِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْمَنْقُولِ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ فَأَقُولُ: الْأَوْلَى مُقَابَلَةُ النَّاسِي بِالْعَاجِزِ لِيَكُونَ نَصًّا عَلَى الْمُتَوَهَّمِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَابَلَهُ بِالْعَامِدِ كَ الْمُصَنِّفِ لِتَوَهُّمِ أَنَّ الْعَاجِزَ كَالنَّاسِي يَبْنِي مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَلَمَّا قَابَلَهُ بِالْعَاجِزِ عُلِمَ بِالْأَوْلَى بِنَاءَ الْمُتَعَمَّدِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُقَابَلَةُ بِالْعَاجِزِ تُوهِمُ أَيْضًا أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ يَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ مُطْلَقًا، وَلَوْ مَعَ الْقُرْبِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ اُشْتُهِرَ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ سَائِرَ الْأَمَاكِنِ الَّتِي تُطْلَبُ فِيهَا الْفَوْرِيَّةُ يُغْتَفَرُ فِيهَا التَّفْرِيقُ الْيَسِيرُ فَافْهَمْ، نَعَمْ أَلْحَقُوا الْمَكْرُوهَ عَلَى التَّرْكِ بِالنَّاسِي، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْإِكْرَاهَ يَكُونُ بِمُطْلَقِ التَّخْوِيفِ بِالْأَمْرِ الْمُؤْلِمِ مِنْ ضَرْبٍ وَنَحْوِهِ، وَصَوَّرُوا التَّفَرُّقَ بَيْنَ أَعْضَاءِ وُضُوئِهِ عَجْزًا بِأَنْ يُعَدَّ مِنْ الْمَاءِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ يَكْفِيهِ فَيُغْصَبُ مِنْهُ أَوْ يُرَاقُ أَوْ يَتَبَيَّنُ عَدَمُ مَا يَكْفِيهِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِمَا ذَكَرَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُتَعَمِّدَ لِلتَّفْرِيقِ كَالْعَاجِزِ فِي أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبِنَاءُ عَلَى مَا تَقَدَّمَ إلَّا مَعَ الْقُرْبِ، وَيَجِبُ ابْتِدَاءُ الْوُضُوءِ مَعَ الطُّولِ، بِخِلَافِ مَنْ أَعَدَّ مِنْ الْمَاءِ مَا يَقْطَعُ بِكِفَايَتِهِ فَيُرَاقُ عَلَيْهِ أَوْ يُغْضَبُ مِنْهُ فَهَذَا كَالنَّاسِي كَمَا هُوَ مَفْهُومٌ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ، فَإِنْ قِيلَ. وُجُوبُ الْمُوَالَاةِ مَشْرُوطٌ بِالذِّكْرِ وَمَشْرُوطٌ بِالْقُدْرَةِ، فَلِأَيِّ شَيْءٍ افْتَرَقَا عِنْدَ التَّخَلُّفِ إذْ يُبْنَى مُطْلَقًا عِنْدَ عَدَمِ الذِّكْرِ وَهُوَ النِّسْيَانُ، وَأَمَّا عِنْدَ فَقْدِ الْقُدْرَةِ وَهُوَ الْعَجْزُ إنَّمَا يُبْنَى عِنْدَ الْقُرْبِ، وَكَانَ مُقْتَضَى شَرْطِيَّةِ الْقُدْرَةِ كَالذِّكْرِ الْبِنَاءَ مُطْلَقًا عِنْدَ الْعَجْزِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْعَاجِزَ عِنْدَهُ نَوْعُ تَقْصِيرٍ بِعَدَمِ احْتِيَاطِهِ بِتَكْثِيرِ الْمَاءِ أَوْ بِالتَّحَفُّظِ مِمَّنْ يُرِيقُهُ أَوْ يَغْصِبُهُ، فَشَابَهُ الْمُتَعَمِّدَ لَتَرْكِ الْمُوَالَاةِ فَافْهَمْ. الثَّانِي: التَّارِكُ لِبَعْضِ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ عَمْدًا أَوْ عَجْزًا إنَّمَا أُمِرَ بِابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الطُّولِ لِتَرْكِ الْمُوَالَاةِ، وَذَلِكَ التَّرْكُ يَشْمَلُ تَرْكَ بَعْضِ الْأَعْضَاءِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، وَغَسْلُ مَا بَعْدَهُ لَكِنْ بَعْدَ تَفْرِيقٍ فَاحِشٍ، وَيَشْمَلُ مَا إذَا غَسَلَ أَوَّلَ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ، وَلَمْ يَشْرَعْ فِيمَا بَعْدَهُ حَتَّى جَفَّ الْأَوَّلُ، فَهَذَا أَيْضًا بِمَنْزِلَةِ التَّارِكِ جُمْلَةً فَيَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ كَالْأَوَّلِ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْوُضُوءِ بَلْ مِثْلُهُ الْغُسْلُ فِي التَّفْصِيلِ، فَإِنْ تَرَكَ عُضْوًا أَوْ لُمْعَةً مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ فَإِنَّهُ مَعَ التَّرْكِ نِسْيَانًا أَوْ لِأَجْلِ إكْرَاهٍ يَبْنِي بِنِيَّةِ إتْمَامِ الْغُسْلِ، وَلَوْ مَعَ الطُّولِ وَيَبْتَدِيهِ مَعَ التَّفْرِيقِ عَمْدًا، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى فِعْلِ الْمَتْرُوكِ وَلَوْ مَعَ الْقُرْبِ؛ لِأَنَّ التَّرْتِيبَ فِي الْغُسْلِ لَا يَجِبُ وَلَا يُسَنُّ، وَيُغْسَلُ الْمَتْرُوكُ مَرَّةً وَاحِدَةً إلَّا الرَّأْسَ فَتُثَلَّثُ لِطَلَبِ التَّثْلِيثِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَمِثْلُ أَعْضَاءِ الْغُسْلِ أَعْضَاءُ الْوُضُوءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وَالِاسْتِنْشَاقِ وَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ فَإِنْ كَانَ قَرِيبًا فَعَلَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعِدْ مَا بَعْدَهُ، وَإِنْ تَطَاوَلَ فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ وَلَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ وَمَنْ صَلَّى عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ مِنْ حَصِيرٍ وَبِمَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ نَجَاسَةٌ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالْمَرِيضُ   [الفواكه الدواني] الْمُنْدَرِجَةُ فِي الْغُسْلِ تُفْعَلُ مَرَّةً، وَأَمَّا الْوُضُوءُ السَّابِقُ عَلَى الْغُسْلِ فَيَجْرِي فِيهِ تَفْصِيلُ الْوُضُوءِ. الثَّالِثُ: قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: اعْلَمْ أَنَّ تَارِكَ الْمُوَالَاةِ وَتَارِكَ بَعْضِ فَرَائِضِ الْوُضُوءِ وَالْمُنَكِّسَ سَوَاءٌ فِي إعَادَةِ مَا حَصَلَ فِيهِ الْخَلَلُ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرَ وَحْدَهُ إنْ حَصَلَ الْبُعْدُ، وَفِي إعَادَتِهِ مَعَ مَا بَعْدَهُ عِنْدَ الْقُرْبِ كَمَا يُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ وَغَيْرِهِ. الرَّابِعُ: يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ وُضُوئِهِ شَيْئًا النِّيَّةَ فَإِنَّهُ إذَا ذَكَرَهَا أَوْ شَكَّ فِي تَرْكِهَا يَبْتَدِئُ الْوُضُوءَ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلُ طُولٌ وَلَا يَعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِمَّا فَعَلَهُ دُونَ تَحَقُّقِ نِيَّةِ الْوُضُوءِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا إذَا كَانَ صَلَّى قَبْلَ فِعْلِ الْمَتْرُوكِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ قَدْ صَلَّى فِي جَمِيعِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ تَرْكِ بَعْضِ مَفْرُوضَاتِ الْوُضُوءِ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ غَيْرِهِ وَقَبْلَ فِعْلِهِ (أَعَادَ صَلَاتَهُ أَبَدًا) إنْ كَانَتْ مَفْرُوضَةً لِفِعْلِهَا قَبْلَ تَمَامِ طَهَارَتِهِ. (وَ) أَعَادَ (وُضُوءَهُ) إنْ كَانَ طَوَّلَ مَعَ الْعَمْدِ أَوْ الْعَجْزِ. وَأَمَّا لَوْ كَانَ التَّرْكُ نِسْيَانًا أَوْ إكْرَاهًا فَإِنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ بَعْدَ بِنَائِهِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ أَعْضَاءِ الْوُضُوءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا أَتَى بِهِ وَبِالصَّلَاةِ، وَأَشَارَ إلَى حُكْمِ تَرْكِ غَيْرِ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ هَذَا مَفْهُومُ قَوْلِهِ سَابِقًا: وَمَنْ ذَكَرَ مِنْ وُضُوئِهِ شَيْئًا مِمَّا هُوَ فَرِيضَةٌ فَقَالَ: (وَإِنْ ذَكَرَ) مِنْ وُضُوئِهِ بَعْدَ تَمَامِهِ شَيْئًا مِمَّا لَيْسَ فَرِيضَةً بَلْ (مِثْلَ الْمَضْمَضَةِ وَالِاسْتِنْشَاقِ) بَلْ (وَمَسْحِ الْأُذُنَيْنِ) وَنَحْوِهَا مِمَّا هُوَ سُنَّةٌ، وَلَمْ يُنِبْ عَنْهُ غَيْرَهُ، وَلَمْ يَكُنْ فِعْلُهُ مُوجِبًا لِتَكْرِيرِ الْمَسْحِ (فَإِنْ كَانَ) التَّذَكُّرُ (قَرِيبًا فَعَلَ ذَلِكَ) الْمَنْسِيَّ اسْتِنَانًا حَيْثُ أَرَادَ الْبَقَاءَ عَلَى الطَّهَارَةِ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ فِعْلَ قُرْبَةٍ، لَا إنْ كَانَ مُرَادُهُ نَقْضَ طَهَارَتِهِ. (وَلَمْ يُعِدْ مَا بَعْدَهُ) سَوَاءٌ كَانَ التَّرْكُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَسَوَاءٌ قَرُبَ أَوْ بَعُدَ، قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ؛ لِأَنَّ تَرْتِيبَ السُّنَنِ فِيمَا بَيْنَهَا أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ مَنْدُوبٌ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلُ مَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ: مَنْ غَسَلَ وَجْهَهُ قَبْلَ أَنْ يَتَمَضْمَضَ تَمَضْمَضَ وَلَمْ يُعِدْ غَسْلَ وَجْهِهِ، وَمِثْلُ تَحَقُّقِ النِّسْيَانِ الشَّكُّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُسْتَنْكَحًا (وَإِنْ تَطَاوَلَ) أَيْ بَعُدَ مَا بَيْنَ وُضُوئِهِ وَتَذَكُّرِهِ (فَعَلَ ذَلِكَ) الْمَنْسِيَّ وَحْدَهُ (لِمَا يُسْتَقْبَلُ) مِنْ الصَّلَوَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا أَتَى بِهِ وَبِالصَّلَاةِ وَسُنَّةً فَعَلَهَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ، كَأَنْ يُذْكَرُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ أَنَّهُ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنْ السُّنَنِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّيَ بِهَذَا الْوُضُوءِ الْعَصْرَ فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِي حَقِّهِ فِعْلُ السُّنَّةِ الْمَتْرُوكَةِ، وَمِثْلُ الصَّلَاةِ الطَّوَافُ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ الْأُجْهُورِيُّ فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ مَعَ الْقُرْبِ يَفْعَلُ الْمَتْرُوكَ مِنْ السُّنَنِ حَيْثُ أَرَادَ الْبَقَاءَ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَلَوْ لَمْ يُرِدْ الصَّلَاةَ وَلَا غَيْرَهَا، وَأَمَّا مَعَ الطُّولِ فَإِنَّهُ يُسَنُّ فِعْلُهُ إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ أَوْ الطَّوَافَ، وَقَيَّدْنَا بِاَلَّتِي لَمْ يُنِبْ عَنْهَا غَيْرَهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِاسْتِنْثَارِ، وَمِثْلُهُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ نَابَ عَنْهُمَا غَيْرُهُمَا، وَلِلِاحْتِرَازِ عَنْ رَدِّ مَسْحِ الرَّأْسِ؛ لِأَنَّهُ يُوجِبُ تَكْرَارَ الْمَسْحِ بِمَاءٍ جَدِيدٍ، وَكَذَا تَجْدِيدُ الْمَاءِ لِلْأُذُنَيْنِ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَطَّابُ خِلَافًا لِلزَّرْقَانِيِّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بَعْدَ تَمَامِ وُضُوئِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ نَسِيَ الْمَضْمَضَةَ أَوْ الِاسْتِنْشَاقَ وَذَكَرَهُمَا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِي غَسْلِ وَجْهِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَاخْتَلَفَتْ أَقْوَالُ شُيُوخِ أَهْلِ الْمَغْرِبِ فِيهِ، وَالرَّاجِحُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ: أَنَّهُ يَفْعَلُ الْمَضْمَضَةَ أَوْ الِاسْتِنْشَاقَ، وَلَا يُؤَخِّرُ إلَى تَمَامِ الْوُضُوءِ، وَإِذَا كَانَ التَّذَكُّرُ بَعْدَ تَمَامِ غَسْلِ الْوَجْهِ لَا يُعِيدُهُ، وَإِذَا كَانَ فِي أَثْنَائِهِ كَمَّلَهُ وَيَتَمَضْمَضُ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ فَرْضٍ إلَى سُنَّةٍ، وَأَمَّا الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ فَقَالَ: يُكَمِّلُ الْوُضُوءَ وَيَفْعَلُ السُّنَّةَ الْمَتْرُوكَةَ بَعْدَ تَمَامِ الْوُضُوءِ، وَكُلٌّ مِنْ كَلَامِ مَالِكٍ وَالذَّخِيرَةِ مَفْرُوضٌ فِي النَّاسِي، وَأَمَّا الْعَامِدُ فَيَتَّفِقَا عَلَى أَنَّهُ يَفْعَلُ السُّنَّةَ الْمَتْرُوكَةَ سَرِيعًا وَلَا يُؤَخِّرُهَا إلَى تَمَامِ الْوُضُوءِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَأَمَّا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ: وَيَفْعَلُ ذَلِكَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الصَّلَوَاتِ فَمَفْرُوضٌ فِي حَالِ الطُّولِ بَعْدَ تَمَامِ الْوُضُوءِ كَمَا عَلِمْت. (وَ) إذَا كَانَ قَدْ صَلَّى بِهَذَا الْوُضُوءِ الْمَتْرُوكِ بَعْضَ سُنَنِهِ (لَمْ يُعِدْ مَا صَلَّى بِهِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ) الْمَتْرُوكَ مِنْ السُّنَنِ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا حَيْثُ كَانَ تَرْكُهَا نِسْيَانًا، وَأَمَّا لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهَا وَلَوْ جَمِيعَ السُّنَنِ، وَصَلَّى فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ جَرَى فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ خِلَافٌ، لِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ سُنَنِ الْوَسِيلَةِ عَنْ سُنَنِ الْمَقْصِدِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي» وَقَالَ فِي الْوُضُوءِ: «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ» وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إعَادَةُ الصَّلَاةُ فِي الْوَقْتِ كَمَا هُوَ الْمَنْصُوصُ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبِسَاطِيُّ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَمَّا النَّاسِي فَلَا يُعِيدُ اتِّفَاقًا كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ فِي تَرْكِ السُّنَنِ: لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ سُنَنِ الْوُضُوءِ أَوْ الْغُسْلِ حَيْثُ فُعِلَتْ فِي الْوُضُوءِ قَبْلَ الْغُسْلِ، وَأَمَّا لَوْ انْدَرَجَتْ فِي الْغُسْلِ فَلَا يَفْعَلُ مَا تَرَكَهُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ، كَذَا يَنْبَغِي فِي تَرْكِ السُّنَنِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ حُصُولُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 إذَا كَانَ عَلَى فِرَاشٍ نَجِسٍ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِ ثَوْبًا طَاهِرًا كَثِيفًا وَيُصَلِّيَ عَلَيْهِ وَصَلَاةُ الْمَرِيضِ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ صَلَّى جَالِسًا إنْ قَدَرَ عَلَى التَّرَبُّعِ، وَإِلَّا فَبِقَدْرِ طَاقَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى السُّجُودِ فَلْيُومِئْ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ   [الفواكه الدواني] الْمَشَقَّةِ فِي الْغُسْلِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى غَسْلِ جَمِيعِ الْجَسَدِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ تَطَاوَلَ فِعْلُ ذَلِكَ لِمَا يُسْتَقْبَلُ إلَخْ: لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمُ الْفِعْلِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ حُكْمَهُ السُّنِّيَّةُ وَتَبِعْنَا فِي ذَلِكَ النَّاصِرَ اللَّقَانِيِّ، وَقَالَ غَيْرُهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مَا قَالَهُ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ لَا تَنْحَطُّ رُتْبَتُهَا بِتَرْكِهَا إلَّا إنْ نَابَ عَنْهَا غَيْرُهَا. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ تَرَكَ فَضِيلَةً كَشَفْعِ غَسْلِهِ وَتَثْلِيثِهِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ لَا يَطْلُبُ إعَادَتُهَا لَا حَالًا وَلَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ، وَيُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُ تَنْكِيسِ السُّنَنِ فِي أَنْفُسِهَا أَوْ مَعَ الْفَرَائِضِ، فَلَا يُعَادُ الْمُنَكَّسُ مِنْهَا لِمَا يُسْتَقْبَلُ، إلَّا مَنْ اقْتَصَرَ عَلَى الِاسْتِجْمَارِ فِي صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَنْدُبُ لَهُ الِاسْتِنْجَاءُ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنْ الصَّلَاةِ. (وَمَنْ صَلَّى عَلَى مَوْضِعٍ طَاهِرٍ مِنْ حَصِيرٍ) أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَسْدُلُهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ كَحِرَامِهِ الَّذِي طَرَحَهُ فِي الْأَرْضِ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (بِمَوْضِعٍ آخَرَ مِنْهُ نَجَاسَةً) وَلَكِنْ لَمْ يَسْجُدْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهَا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَلَوْ لَمَسَتْهَا ثِيَابُهُ سَوَاءٌ تَحَرَّكَتْ بِحَرَكَتِهِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ إنَّمَا يُطْلَبُ مِنْهُ طَهَارَةُ مَا تَمَسُّهُ أَعْضَاؤُهُ، وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ صِحَّةُ الصَّلَاةِ عَلَى الْفَرْوَةِ الَّتِي بِبَاطِنِهَا نَجَاسَةٌ وَلَوْ جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ شَاةٍ مَاتَتْ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ حَيْثُ كَانَ الشَّعْرُ سَاتِرًا لِلْجِلْدِ وَلَا نَجَاسَةَ بِهِ، وَلَا يُقَالُ: الشَّعْرُ يَتَّصِلُ بِالنَّجَاسَةِ فَهُوَ مُتَنَجِّسٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُتَنَجِّسُ الْمَنْبَتُ فِي الْجِلْدِ الْخَارِجُ الزَّائِدُ عَلَيْهِ فَهُوَ كَالْحَصِيرِ الَّذِي بِبَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ وَلَوْ مُتَّصِلَةً بِهِ، فَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ صَحِيحَةٌ لِعَدَمِ حَمْلِهِ لَهَا، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَتْ النَّجَاسَةُ بِطَرَفِ عِمَامَتِهِ أَوْ ثَوْبِهِ الْمَحْمُولِ لَهُ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ حَيْثُ كَانَ عَالِمًا وَقَادِرًا عَلَى إزَالَتِهَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ نَحْوِ الْعِمَامَةِ وَالْحَصِيرِ أَنَّ نَحْوَ الْحَصِيرِ بِمَنْزِلَةِ الْأَرْضِ، فَالشَّرْطُ طَهَارَةُ مَا تَمَاسُّهُ أَعْضَاءُ الْمُصَلِّي، بِخِلَافِ نَحْوِ الْعِمَامَةِ فَإِنَّهُ مَحْمُولٌ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُضِرَّ إنَّمَا هُوَ الْجُلُوسُ عَلَى الْمَحَلِّ أَوْ حَمْلُهُ فِي الصَّلَاةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ وَقَفَ عَلَى طَرَفِ حَبْلٍ مُتَنَجِّسٍ أَوْ مَرْبُوطٍ بِهِ نَجَاسَةٌ، وَالطَّرَفُ الْآخَرُ طَاهِرٌ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ إنْ وَقَفَ عَلَى الْمُتَنَجِّسِ، وَأَمَّا إنْ وَقَفَ عَلَى الطَّرَفِ الطَّاهِرِ، وَلَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ حَامِلٍ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْوَاقِفِ عَلَى الْحَصِيرِ الَّذِي بِبَاطِنِهِ نَجَاسَةٌ لَمْ تَتَّصِلْ بِأَعْلَاهُ. (وَالْمَرِيضُ إذَا كَانَ) جَالِسًا (عَلَى فِرَاشٍ نَجِسٍ) وَأَوْلَى مُتَنَجِّسٍ (فَلَا بَأْسَ) إذَا أَرَادَ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ (أَنْ يَبْسُطَ عَلَيْهِ ثَوْبًا طَاهِرًا كَثِيفًا) غَيْرَ حَرِيرٍ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ غَيْرَهُ (وَيُصَلِّي عَلَيْهِ) وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمَرِيضٍ سَتْرُ نَجِسٍ بِطَاهِرٍ لِيُصَلِّيَ عَلَيْهِ كَالصَّحِيحِ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَرِيضِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَيْهِ؛ وَلِأَنَّهُ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ غَالِبًا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الصَّحِيحَ كَذَلِكَ، فَقَوْلُهُ: لَا بَأْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْجَوَازُ الْمُسْتَوِي أَوْ الْمَرْجُوحُ إنْ كَانَ يُمْكِنُهُ الصَّلَاةُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ وَإِلَّا وَجَبَ، فَلَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَسْتُرُ بِهِ النَّجَاسَةَ إلَّا الْحَرِيرَ فَلَهُ سَتْرُهَا بِهِ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ عَلَيْهِ إنَّمَا تَحْرُمُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَعَصَى وَصَحَّتْ إنْ لَبِسَ حَرِيرًا كَمَا يُعْصَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ اخْتِيَارًا، وَلَوْ فَرَشَ عَلَيْهِ ثَوْبًا غَيْرَ حَرِيرٍ لِأَنَّ حُرْمَةَ الْحَرِيرِ أَشَدُّ مِنْ حُرْمَةِ النَّجَاسَةِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي تَجْوِيزِ الْجُلُوسِ عَلَيْهِ بَعْدَ سَتْرِهِ بِغَيْرِهِ، فَإِذَا أُقِيمَتْ الصَّلَاةُ عَلَيْك بِمَحَلٍّ مَفْرُوشٍ بِحَرِيرٍ فَيَجِبُ عَلَيْك رَفْعُ الْفُرُشِ وَتُصَلِّي عَلَى مَا تَحْتَهُ، إلَّا أَنْ لَا تَسْتَطِيعَ فَلَا بَأْسَ بِفَرْشِ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَتُصَلِّي بَعْدَ تَقْلِيدِ الْقَائِلِ بِزَوَالِ الْحُرْمَةِ بِفَرْشِ شَيْءٍ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) : يُشْتَرَطُ فِي الثَّوْبِ الَّذِي يُفْرَشُ عَلَى النَّجَاسَةِ أَنْ يَكُونَ مُنْفَصِلًا عَنْ الْمُصَلِّي، وَأَمَّا لَوْ فَرَشَ كُمَّ ثَوْبِهِ الْمُلَابِسِ لَهُ عَلَى نَجَاسَةٍ بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ أَوْ طَرَفِ حِرَامِهِ الْمُلْتَحِفِ بِهِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَلَوْ الْجَافَّةَ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ، فَقَدْ قَالَ عِيَاضٌ: وَسُقُوطُ طَرَفِ ثَوْبِهِ عَلَى جَافِّ نَجَاسَةٍ بِغَيْرِ مَحَلِّهِ اهـ مَوَّاقٌ، فَإِنَّ مَفْهُومَ قَوْلِهِ: بِغَيْرِ مَحَلِّهِ أَنَّ طَرَفَ ثَوْبِهِ السَّاقِطِ عَلَى النَّجَاسَةِ لَوْ كَانَ مَفْرُوشًا عَلَى نَجَاسَةٍ تَحْتَ جَبْهَتِهِ أَوْ قَدَمِهِ أَوْ رُكْبَتِهِ لَمْ يَكُنْ لَغْوًا فَلَا يَصِحُّ لِلْمُصَلِّي أَنْ يَفْرِشَ كُمَّهُ عَلَى نَجَاسَةٍ بِمَوْضِعِ سُجُودِهِ أَوْ تَحْتَ قَدَمِهِ. [صِفَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ بِقَوْلِهِ: (وَصَلَاةُ الْمَرِيضِ) الْفَرِيضَةُ (إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ) فِيهَا مُسْتَقِلًّا بِأَنْ عَجَزَ عَنْهُ جُمْلَةً أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِ مَشَقَّةٌ شَدِيدَةٌ (صَلَّى جَالِسًا) مُسْتَقِلًّا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَرَبَّعَ (إنْ قَدَرَ عَلَى التَّرَبُّعِ) اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَتَرَبَّعُ فِي صَلَاتِهِ جَالِسًا» كَمَا هُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ عُمَرَ وَأَنَسٍ؛ وَلِأَنَّهُ الْأَلْيَقُ بِالْأَدَبِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَتَرَبَّعَ كَالْمُتَنَفِّلِ، وَغَيَّرَ جِلْسَتُهُ بَيْنَ سَجْدَتَيْهِ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَكَذَا فِي سُجُودِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُصَلِّي الْفَرْضَ جَالِسًا هُوَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْقِيَامَ جُمْلَةً أَوْ يَخَافُ بِالْقِيَامِ الْمَرَضَ أَوْ زِيَادَتَهُ كَالتَّيَمُّمِ، وَأَمَّا مَنْ يَحْصُلُ لَهُ بِهِ الْمَشَفَّةُ الْفَادِحَةُ دُونَ الْمَرَضِ فَالرَّاجِحُ التَّفْصِيلُ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ صَحِيحًا فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْجُلُوسُ، وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا يَصِحُّ جُلُوسُهُ، كَمَا هُوَ مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، خِلَافًا لِتِلْمِيذِهِ ابْنِ عَرَفَةَ فَإِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِهِ عَدَمُ صِحَّةِ صَلَاتِهِ جَالِسًا، وَالْقَادِرُ عَلَى الْقِيَامِ مَعَ الِاسْتِقْلَالِ يَجِبُ عَلَيْهِ وَلَوْ عَجَزَ مَعَهُ عَنْ الطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ مَعَ الِاسْتِنَادِ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِنَادُ لِغَيْرِ جُنُبٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 وَيَكُونُ سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ إيمَاءً، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] وَحَائِضٍ وَلَهُمَا أَعَادَ بِوَقْتٍ حَيْثُ اسْتَنَدَ لَهُمَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِمَا، وَقَيَّدْنَا الصَّلَاةَ بِالْفَرِيضَةِ الْمُقَابِلَةِ لِلسُّنَّةِ فَيَدْخُلُ فِيهَا النَّفَلُ الْمَنْذُورُ فِيهِ الْقِيَامُ وَصَلَاةُ الْجِنَازَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِفَرْضِيَّتِهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِ الْفَرِيضَةِ فَلَا يَجِبُ فِيهَا الْقِيَامُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمُتَنَفِّلٍ جُلُوسٌ وَلَوْ فِي أَثْنَائِهَا إنْ لَمْ يَدْخُلْ عَلَى الْإِتْمَامِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْقِيَامِ أَنَّهُ لَوْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ لَمْ يَصِحَّ لَهُ الْجُلُوسُ. قَالَ خَلِيلٌ: يَجِبُ بِفَرْضٍ قِيَامٌ إلَّا لِمَشَقَّةٍ أَوْ لِخَوْفِهِ بِهِ فِيهَا أَوْ قَبْلَ ضَرَرٍ كَالتَّيَمُّمِ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ كَخَلِيلٍ لَمْ يُبَيِّنْ مَوْضِعَ الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِهِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ الْقِيَامُ فِي حَالِ فِعْلِ الْفَرْضِ كَالرُّكُوعِ وَالْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَلَى غَيْرِ الْمَأْمُومِ أَوْ زَمَنِ قِرَاءَتِهَا فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا السُّورَةُ فَلَا يَجِبُ الْقِيَامُ فِيهَا إلَّا عَلَى مَأْمُومٍ لِئَلَّا تَحْصُلَ الْمُخَالَفَةُ بَيْنَ الْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ، وَأَمَّا اسْتِنَادُ غَيْرِ الْمَأْمُومِ فِي حَالِ قِرَاءَتِهَا فَلَمْ يَكُنْ مُبْطِلًا لِصَلَاتِهِ بِخِلَافِ اسْتِنَادِهِ فِي نَحْوِ الرُّكُوعِ أَوْ الْفَاتِحَةِ، فَإِنَّهُ يَكُونُ مُبْطِلًا حَيْثُ كَانَ اسْتِنَادُهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ لَا إنْ كَانَ سَهْوًا، فَإِنَّمَا تَبْطُلُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ، فَيُحْمَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَلَوْ سَقَطَ قَادِرٌ بِزَوَالِ عِمَادٍ بَطَلَتْ عَلَى الْمُسْتَنَدِ عَمْدًا فِي حَالِ فِعْلِ الْفَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بِحَيْثُ لَوْ أُزِيلَ لَا يَسْقُطُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَإِنَّمَا يُكْرَهُ ذَلِكَ فَقَطْ وَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ الضَّرُورِيِّ. الثَّانِي: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اسْتِحْبَابِ التَّرَبُّعِ لِلْمُصَلِّي جَالِسًا لَا يُنَافِي أَنَّهُ يَطْلُبُ مِنْهُ تَغَيُّرَ جِلْسَتِهِ إذَا أَرَادَ السُّجُودَ أَوْ الْجُلُوسَ لِلتَّشَهُّدِ، وَحُكْمُ التَّغْيِيرِ السُّنِّيَّةُ حَالَ السُّجُودِ وَالتَّشَهُّدِ، وَالنَّدْبُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ الْمَرِيضُ عَلَى الْجُلُوسِ بِحَالَتَيْهِ مُتَرَبِّعًا بِأَنْ عَجَزَ عَنْهُ جُمْلَةً أَوْ يَلْحَقُهُ بِالتَّرَبُّعِ الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ (صَلَّى) جَالِسًا (بِقَدْرِ طَاقَتِهِ) وَلَوْ غَيْرَ مُتَرَبِّعٍ، وَاسْتَنَدَ لِغَيْرِ جَنْبٍ وَحَائِضٍ، وَلَهُمَا أَعَادَ بِوَقْتٍ إنْ كَانَ الِاسْتِنَادُ لَهُمَا مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِمَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ: الْقِيَامُ مَعَ الِاسْتِقْلَالِ، الْقِيَامُ مَعَ الِاسْتِنَادِ، الْجُلُوسُ اسْتِقْلَالًا، الْجُلُوسُ مَعَ الِاسْتِنَادِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْقِيَامِ الْقَادِرِ عَلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ مِنْ جُلُوسِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْهُمَا مِنْ جُلُوسٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) أَيْ الْعَاجِزُ عَنْ الْقِيَامِ بِحَالَتَيْهِ (عَلَى السُّجُودِ) وَالرُّكُوعِ مِنْ جُلُوسٍ بَلْ عَجَزَ عَنْهُمَا جُمْلَةً أَوْ تَلْحَقُهُ بِهِمَا الْمَشَقَّةُ الْفَادِحَةُ (فَلْيُومِئْ) أَيْ يُشِيرْ بِرَأْسِهِ وَظَهْرِهِ (بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ) أَيْ إلَيْهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِهِمَا أَوْمَأَ إلَيْهِمَا بِرَأْسِهِ فَقَطْ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ بِرَأْسِهِ فِيمَا يَسْتَطِيعُ أَوْمَأَ وَلَوْ بِيَدِهِ أَوْ طَرَفِهِ. (وَ) يَجِبُ أَنْ (يَكُونُ) إيمَاؤُهُ لِ (سُجُودُهُ أَخْفَضَ مِنْ رُكُوعِهِ) أَيْ مِنْ إيمَائِهِ لِرُكُوعِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ وَلَا يَسْتَطِيعُ السُّجُودَ وَالرُّكُوعَ بِأَنَّهُ يُومِئُ لَهُمَا مِنْ جُلُوسٍ، وَتَرْكُ حُكْمٍ عَكْسُ كَلَامِهِ وَهُوَ مَنْ لَا يَقْدِرْ إلَّا عَلَى الْقِيَامِ فَقَطْ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَوْمَأَ عَاجِزٌ إلَّا عَنْ الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يَأْتِي بِصَلَاتِهِ كُلِّهَا مِنْ قِيَامٍ بِأَنْ يُومِئَ إلَى الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ بِرَأْسِهِ وَظَهْرِهِ أَوْ بِمَا قَدَرَ مِنْ أَعْضَائِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى النِّيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ قَصْدُ أَفْعَالِ الصَّلَاةِ مَعَ الْإِتْيَانِ بِالْأَقْوَالِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا نَوَى الْجَمِيعَ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ قَصْدُ شَيْءٍ فِي مَحَلِّهِ زِيَادَةً عَلَى نِيَّةِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ يُومِئُ لَهُمَا مِنْ قِيَامٍ إنْ عَجَزَ عَنْ الْجُلُوسِ، وَإِنْ قَدَرَ عَلَى الْجُلُوسِ أَوْمَأَ إلَى الرُّكُوعِ مِنْ قِيَامٍ وَإِلَى السُّجُودِ مِنْ جُلُوسٍ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَيْفَ يَفْعَلُ بِيَدَيْهِ حَالَ الْإِيمَاءِ لِلرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْمُومِئَ لِلرُّكُوعِ لَا نِزَاعَ فِي أَنَّهُ إنْ أَوْمَأَ إلَيْهِ مِنْ قِيَامٍ أَنْ يَمُدَّ يَدَيْهِ مُشِيرًا بِهِمَا إلَى رُكْبَتَيْهِ، وَأَنْ يَضَعَهُمَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ إنْ أَوْمَأَ إلَيْهِ مِنْ جُلُوسٍ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ الْمَدِّ فِي الْأَوَّلِ وَالْوَضْعِ فِي الثَّانِي الْوُجُوبُ، وَأَمَّا الْمُومِئُ لِلسُّجُودِ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ يُومِئُ بِيَدَيْهِ أَوْ يَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ؟ أَيْ هَلْ يُومِئُ بِهِمَا إلَى الْأَرْضِ إنْ أَوْمَأَ إلَى السُّجُودِ مِنْ قِيَامٍ، وَيَضَعُهُمَا عَلَى الْأَرْضِ إنْ أَوْمَأَ إلَيْهِ مِنْ جُلُوسٍ وَالْمُقَابِلُ مَطْوِيٌّ؟ أَيْ أَوْ لَا يَفْعَلُ بِهِمَا شَيْئًا تَأْوِيلَانِ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حَدَّ الْإِيمَاءِ، وَحَكَى فِيهِ خَلِيلٌ تَأْوِيلَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ يَجِبُ فِيهِ الْوُسْعُ أَيْ بَذْلُ الْجُهْدِ بِحَيْثُ لَوْ قَصَّرَ عَنْ وُسْعِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، أَوْ يَكْتَفِي بِمَا يُعَدُّ إيمَاءً؟ لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْإِيمَاءِ لِلرُّكُوعِ مِنْ السُّجُودِ. الرَّابِعُ: قَوْلُنَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ إيمَاؤُهُ لِلسُّجُودِ أَخْفَضَ إلَخْ هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْمُدَوَّنَةِ، وَفِي التَّحْقِيقِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ. وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الْحَالَاتِ الْأَرْبَعِ وَهِيَ: حَالَةُ الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا وَمُسْتَنِدًا، وَالْجُلُوسُ كَذَلِكَ شُرِعَ فِي حَالَاتِ الِاسْتِلْقَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) الْمَرِيضُ عَلَى الصَّلَاةِ مِنْ جُلُوسٍ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِنَادِ (صَلَّى) مُضْطَجِعًا، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ (عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وَلَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ إذَا كَانَ فِي عَقْلِهِ وَلْيُصَلِّهَا بِقَدْرِ مَا يُطِيقُ وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لِضَرَرٍ بِهِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَجُدْ مَنْ   [الفواكه الدواني] إيمَاءً) بِرَأْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْحَالُ أَنَّ وَجْهَهُ إلَى الْقِبْلَةِ كَمَا يُفْعَلُ بِهِ فِي لَحْدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَعَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ أَيْضًا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا مُضْطَجِعًا (عَلَى ظَهْرِهِ فَعَلَ ذَلِكَ) بِأَنْ يَجْعَلَ وَجْهَهُ إلَى السَّمَاءِ وَرِجْلَاهُ إلَى الْقِبْلَةِ، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ الصَّلَاةِ عَلَى الظَّهْرِ صَلَّى مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ وَرِجْلَاهُ إلَى دُبُرِهَا، وَحُكْمُ الِاسْتِقْبَالِ فِي تِلْكَ الْحَالَاتِ الْوُجُوبُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَلَوْ صَلَّى لِغَيْرِهَا مَعَ الْقُدْرَةِ بَطَلَتْ، وَالْقُدْرَةُ تَكُونُ بِوُجُودِ مَنْ يُحَوِّلُهُ وَإِلَّا سَقَطَ، ثُمَّ وَجَدَ مَنْ يُحَوِّلُهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَتُهَا فِي الْوَقْتِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ حَالَاتِ الِاسْتِلْقَاءِ الثَّلَاثِ وَهِيَ: الْأَيْمَنُ وَالْأَيْسَرُ وَالظَّهْرُ مُسْتَحَبٌّ، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّلَاةِ عَلَى الْبَطْنِ فَهُوَ وَاجِبٌ، كَالتَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْجُلُوسِ بِحَالَتَيْهِ وَالْقِيَامِ بِحَالَتَيْهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْقِيَامِ مُسْتَقِلًّا وَالْقِيَامِ مُسْتَنِدًا وَالْجُلُوسِ بِحَالَتَيْهِ فَرْضٌ، وَكَذَلِكَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْقِيَامِ مُسْتَنِدًا وَالْجُلُوسِ بِحَالَتَيْهِ عَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ وَعَلَى كَلَامِ غَيْرِهِ: أَنَّ التَّرْتِيبَ بَيْنَ الْقِيَامِ مُسْتَنِدًا وَالْجُلُوسِ مُسْتَقِلًّا مُسْتَحَبٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ فَقَطْ، وَكَذَا التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْجُلُوسِ بِحَالَتَيْهِ وَالِاضْطِجَاعِ فَرْضٌ، كَمَا بَيْنَ حَالَاتِ الِاسْتِلْقَاءِ الثَّلَاثِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْبَطْنِ كَمَا قَدَّمْنَا خِلَافًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. الثَّانِي: الْمُصَلِّي مِنْ اضْطِجَاعٍ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، وَلَكِنْ لَمْ يُعْلَمْ هَلْ يُومِئُ بِكُلِّ أَعْضَائِهِ أَوْ بِبَعْضِهَا، وَالْمَأْخُوذُ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ أَنَّهُ يُومِئُ بِرَأْسِهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْإِيمَاءِ بِرَأْسِهِ أَوْمَأَ بِعَيْنَيْهِ وَقَلْبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِأُصْبُعِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالظَّاهِرُ أَنَّ تَرْتِيبَ الْإِيمَاءِ بِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَاجِبٌ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ يُسْرِ الدِّينِ سُقُوطُ الصَّلَاةِ عَمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِشَيْءٍ مِنْ أَفْعَالِهَا سِوَى النِّيَّةِ قَالَ: (وَلَا يُؤَخِّرُ) الْمُكَلَّفُ (الصَّلَاةَ إذَا كَانَ فِي عَقْلِهِ) الْمُرَادُ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ بِوَجْهٍ (وَلْيُصَلِّهَا بِقَدْرِ طَاقَتِهِ) ، وَلَوْ بِنِيَّةِ أَفْعَالِهَا: قَالَ فِي الْجَلَّابِ: وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ الصَّلَاةُ وَمَعَهُ شَيْءٌ مِنْ عَقْلِهِ، وَصِفَةُ الْإِتْيَانِ بِهَا أَنْ يَقْصِدَ أَرْكَانَهَا بِقَلْبِهِ بِأَنْ يَنْوِيَ الْإِحْرَامَ وَالْقِرَاءَةَ وَالرُّكُوعَ وَالرَّفْعَ وَالسُّجُودَ، وَهَكَذَا إلَى السَّلَامِ إنْ كَانَ لَا يَقْدِرُ إلَّا عَلَى الْإِيمَاءِ بِطَرَفِهِ أَوْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا أَوْمَأَ بِمَا قَدَرَ عَلَى الْإِيمَاءِ بِهِ، وَلَوْ بِحَاجِبٍ كَمَا قَالَ الْمَازِرِيُّ، وَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ الْمَرِيضُ أَنْ يُومِئَ إلَّا بِطَرَفِهِ وَحَاجِبِهِ فَلْيُومِئْ بِهِمَا، وَيَكُونُ مُصَلِّيًا بِهَذَا مَعَ النِّيَّةِ وَهَذَا مُقْتَضَى الْمَذْهَبِ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الطَّهَارَةِ لِلْعِلْمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَلَوْ فِي حَقِّ الْعَاجِزِ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ وَلَوْ بِالنِّيَّةِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهَا بِكُلِّ وَجْهٍ سَقَطَتْ عَنْهُ الصَّلَاةُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ أَدَاءً وَقَضَاءً؛ لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْهَا بِقِسْمَيْهَا الْمَائِيَّةِ وَالتُّرَابِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَتَسْقُطُ صَلَاةٌ وَقَضَاؤُهَا بِعَدَمِ مَاءٍ وَصَعِيدٍ، وَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ عَدَمُ سُقُوطِهَا بِالْإِكْرَاهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الطَّهَارَةِ، بَلْ إنْ أَخَّرَهَا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاؤُهَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُتَصَوَّرُ الْإِكْرَاهُ عَلَى عَدَمِ الصَّلَاةِ بِالْقَصْدِ. 1 - الثَّانِي: الْأَصْلُ فِي صَلَاةِ الْمَرِيضِ عَلَى الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] أَيْ مَا فِي طَاقَتِهَا، وَآيَةُ. {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ قَالَ: «كَانَتْ بِي بَوَاسِيرُ فَسَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الصَّلَاةِ فَقَالَ: صَلِّ قَائِمًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَجَالِسًا فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبِكَ» زَادَ ابْنُ صَخْرٍ: «فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَمُسْتَلْقِيًا» . الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ شَرَعَ فِي الصَّلَاةِ فَطَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُغَيِّرُ حَالَتَهُ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مُضْطَجِعًا أَوْ جَالِسًا وَطَرَأَ لَهُ الصِّحَّةُ، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ السَّلَامِ فَلَا إعَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا فِي الْوَقْتِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَتْ لَهُ الْقُدْرَةُ زِيَادَةً عَنْ الْحَالَةِ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ صَلَاتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الِانْتِقَالُ إلَى الْأَعْلَى زِيَادَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ خَفَّ مَعْذُورٌ وَانْتَقَلَ إلَى الْأَعْلَى وُجُوبًا إنْ كَانَ التَّرْتِيبُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ وَاجِبًا، وَنَدْبًا إنْ كَانَ التَّرْتِيبُ بَيْنَهُمَا مَنْدُوبًا، وَمَفْهُومُ خَفَّ أَنَّهُ لَوْ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ بِحَيْثُ صَارَ لَا يَسْتَطِيعُ الْحَالَةَ الَّتِي كَانَ يُصَلِّي عَلَيْهَا، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا صَلَاةً عَجَزَ عَلَى مَا مَرَّ مِنْ جُلُوسٍ مَعَ الِاسْتِقْلَالِ أَوْ الِاسْتِنَادِ أَوْ الِاضْطِجَاعِ. 1 - الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ الْمَرِيضُ يَسْتَطِيعُ الْإِتْيَانَ بِالصَّلَاةِ عَلَى حَالَةٍ مِنْ الْحَالَاتِ، لَكِنْ نَسِيَ بَعْضَ أَقْوَالِهَا وَأَفْعَالِهَا وَلَكِنْ يَقْدِرُ عَلَيْهَا بِالتَّلْقِينِ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُ مَنْ يُلَقِّنُهُ أَمْ لَا؟ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ نَقْلًا عَنْ ابْنِ الْمُنِيرِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ اتِّخَاذُ مَنْ يُلَقِّنُهُ نَحْوَ الْقِرَاءَةِ وَالتَّكْبِيرِ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ، وَلَوْ زَادَتْ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ فِي ثَمَنِ الْمَاءِ فَيَقُولُ لَهُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ لِلصَّلَاةِ قُلْ: اللَّهُ أَكْبَرُ وَهَكَذَا إلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ تَيَمَّمَ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يُنَاوِلُهُ تُرَابًا تَيَمَّمَ بِالْحَائِطِ إلَى جَانِبِهِ إنْ كَانَ طِينًا أَوْ عَلَيْهِ طِينٌ فَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ جِصٌّ أَوْ جِيرٌ فَلَا يَتَيَمَّمُ بِهِ وَالْمُسَافِرُ يَأْخُذُهُ الْوَقْتُ فِي طِينٍ خِضْخَاضٍ لَا يَجِدُ أَيْنَ يُصَلِّي فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَابَّتِهِ، وَيُصَلِّي فِيهِ قَائِمًا يُومِئُ بِالسُّجُودِ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ صَلَّى عَلَى دَابَّتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ وَلِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَنَفَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ فِي سَفَرِهِ حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ إنْ كَانَ سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةِ، وَلْيُوتِرْ عَلَى دَابَّتِهِ إنْ شَاءَ وَلَا يُصَلِّي الْفَرِيضَةَ وَإِنْ كَانَ   [الفواكه الدواني] السَّلَامِ، وَيَقُولُ لَهُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ: افْعَلْ هَكَذَا إشَارَةً إلَى الرُّكُوعِ أَوْ السُّجُودِ عِنْدَ نِسْيَانِهِمَا. ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً وَعَدَ بِهَا فِي التَّيَمُّمِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) مَرِيدُ الصَّلَاةِ (عَلَى مَسِّ الْمَاءِ لِضَرَرٍ بِهِ؛ أَوْ لِأَنَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يُنَاوِلُهُ إيَّاهُ) مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى مَسِّهِ (تَيَمَّمَ) أَيْ جَازَ لَهُ التَّيَمُّمُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَادِمِ لِلْمَاءِ (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) الْمَرِيضُ (مَنْ يُنَاوِلُهُ تُرَابًا) يَتَيَمَّمُ عَلَيْهِ (تَيَمَّمَ بِالْحَائِطِ) الْقَرِيبِ (إلَى جَانِبِهِ إنْ كَانَ طِينًا أَوْ عَلَيْهِ طِينٌ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمَرِيضٍ حَائِطُ لَبِنٍ أَوْ حَجَرٍ، وَالتَّقْيِيدُ بِالْمَرِيضِ لَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الصَّحِيحِ، إذْ الصَّحِيحُ يَصِحُّ تَيَمُّمُهُ بِالْحَائِطِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ بِالْمَرِيضِ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ (فَإِنْ كَانَ فِي جَصٍّ أَوْ جِيرٍ) أَوْ تِبْنٍ (فَلَا) يَصِحُّ أَنْ (يَتَيَمَّمَ عَلَيْهِ) صَحِيحٌ أَوْ مَرِيضٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ مَخْلُوطًا بِشَيْءٍ نَجِسٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي بَابِ التَّيَمُّمِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْمَاءِ وَلَا الصَّعِيدِ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِنِيَابَةٍ تَسْقُطُ الصَّلَاةُ وَقَضَاؤُهَا، كَمَا تَسْقُطُ عَمَّنْ لَمْ يَجِدْ لَا مَاءً وَلَا صَعِيدًا فَرَاجِعْهُ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَسْأَلَةٍ مُنَاسِبَةٍ لِمَا قَبْلَهَا فِي الْعَجْزِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُسَافِرُ) الْمُرَادُ الرَّاكِبُ مُطْلَقًا (يَأْخُذُهُ الْوَقْتُ) أَيْ يَضِيقُ عَلَيْهِ الْوَقْتُ الْمُخْتَارُ وَهُوَ سَائِرٌ (فِي طِينٍ خَضْخَاضٍ) وَهُوَ الطِّينُ الرَّقِيقُ وَمِثْلُهُ الْمَاءُ الْخَالِصُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ (لَا يَجِدُ أَيْنَ يُصَلِّي فِيهِ) خَوْفًا مِنْ الْغَرَقِ أَوْ مِنْ تَلْطِيخِ ثِيَابِهِ (فَلْيَنْزِلْ عَنْ دَابَّتِهِ وَيُصَلِّي فِيهِ) حَالَ كَوْنِهِ (قَائِمًا يُومِئُ بِالسُّجُودِ أَخْفَضَ مِنْ الرُّكُوعِ) وَلَا يَلْزَمُهُ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، خَلَا أَشْهَبَ فِي إيجَابِهِ: الْجُلُوسَ وَالسُّجُودَ مَعَ التَّخْفِيفِ وَإِنْ تَلَطَّخَتْ ثِيَابُهُ النَّفِيسَةُ، وَإِذَا أَوْمَأَ إلَى الرُّكُوعِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَإِذَا رَفَعَ يَرْفَعُهُمَا، وَإِذَا أَوْمَأَ إلَى السُّجُودِ يُومِئُ بِيَدَيْهِ إلَى الْأَرْضِ وَيَنْوِي الْجُلُوسَ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ قَائِمًا، وَكَذَلِكَ جُلُوسُ التَّشَهُّدِ إنَّمَا يَكُونُ قَائِمًا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَاحْتُرِزَ بِالْخَضْخَاضِ مِنْ الْيَابِسِ الَّذِي يُمْكِنُ السُّجُودُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ النُّزُولُ وَيُصَلِّي فِيهِ بِالسُّجُودِ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَوْلُهُ: الْمُسَافِرُ لَا مَفْهُومَ لَهُ كَمَا أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلرَّاكِبِ، الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيَنْزِلْ بَلْ أَوْلَى مِنْ الْمَاشِي فَإِنَّهُ يُصَلِّي فِي الْخَضْخَاضِ بِالْإِيمَاءِ. (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) الْخَائِفُ خُرُوجَ الْوَقْتِ وَهُوَ مِنْ طِينٍ أَوْ مَاءٍ (أَنْ يَنْزِلَ فِيهِ) خَوْفًا مِنْ الْغَرَقِ (صَلَّى عَلَى دَابَّتِهِ إلَى الْقِبْلَةِ) بِأَنْ يُوقِفَهَا وَيُصَلِّيَ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ، وَقَوْلُنَا: خَوْفًا مِنْ الْغَرَقِ احْتِرَازٌ مِنْ خَوْفِ تَلْطِيخِ الثِّيَابِ فَقَطْ، فَلَا يُبِيحُ الصَّلَاةَ عَلَى الدَّابَّةِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: خَشْيَةَ تَلْطِيخِ الثِّيَابِ لَا تُوجِبُ صِحَّةَ الصَّلَاةِ عَلَى الدَّابَّةِ، وَإِنَّمَا تُبِيحُ الصَّلَاةَ إيمَاءً بِالْأَرْضِ، وَهَلْ يُقَيَّدُ بِكَوْنِ الْغَسْلِ يُفْسِدُهَا أَوْ مُطْلَقًا خِلَافٌ، وَسَيَأْتِي فِي الرُّعَافِ مَا يَقْتَضِي التَّقْيِيدَ بِكَوْنِ الْغَسْلِ يُفْسِدُهَا، وَاعْلَمْ أَنَّ صَلَاةَ الْفَرْضِ عَلَى الدَّابَّةِ إنَّمَا تَكُونُ بِالْإِيمَاءِ إلَى الْأَرْضِ لَا إلَى رَحْلِ الدَّابَّةِ أَوْ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا، فَإِنْ أَوْمَأَ إلَيْهِ فَصَلَاتُهُ بَاطِلَةٌ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي الْإِيمَاءِ لِلسُّجُودِ، وَأَمَّا لِلرُّكُوعِ فَيَكُونُ حَيْثُ الْقُدْرَةُ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْجُدَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ. وَفِي التَّتَّائِيِّ عَنْ سَيِّدٍ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ صَلَّى عَلَى الدَّابَّةِ قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا مِنْ غَيْرِ نَقْصٍ أَجْزَأَهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، سَحْنُونٌ: لَا يُجْزِئُهُ لِدُخُولِهِ عَلَى الضَّرَرِ، وَلَا يُقَالُ يُعَارِضُهُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَبَطَلَ فَرْضٌ عَلَى ظَهْرِهَا لِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى الصَّلَاةِ عَلَيْهَا قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا، أَوْ كَلَامُ سَنَدٍ فِي الْفَرْضِ لَا النَّفْلِ، وَلَكِنَّ كَلَامَ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ لِلصَّحِيحِ أَنْ يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فِي غَيْرِ الِالْتِحَامِ وَالْخَوْفِ مِنْ كَسَبُعٍ، أَوْ فِي خَضْخَاضٍ لَا يُطِيقُ النُّزُولَ بِهِ، أَوْ لِمَرَضٍ وَيُؤَدِّيهَا عَلَيْهَا كَالْأَرْضِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهٌ) : مِثْلُ مَنْ يَأْخُذَهُ الْوَقْتُ فِي الْمَاءِ أَوْ الطِّينِ فِي جَوَازِ صَلَاتِهِ الْفَرْضَ عَلَى الدَّابَّةِ بِالْإِيمَاءِ الْخَائِفِ مِنْ لُصُوصٍ أَوْ سِبَاعٍ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ إلَى جِهَةِ الْأَرْضِ وَيَرْفَعُ الْعِمَامَةَ عَنْ جَبْهَتِهِ عِنْدَ الْإِيمَاءِ لِلسُّجُودِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ فَرْضٌ عَلَى ظَهْرِهَا أَيْ الْكَعْبَةِ كَالرَّاكِبِ إلَّا لِالْتِحَامٍ أَوْ لِخَوْفٍ مِنْ كَسَبُعٍ وَإِنْ لِغَيْرِهَا، وَإِلَّا لِخَضْخَاضٍ لَا يُطِقْ النُّزُولَ بِهِ أَوْ لِمَرَضٍ وَيُؤَدِّيهَا عَلَيْهَا كَالْأَرْضِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّافِلَةِ عَلَى الدَّابَّةِ فَقَالَ: (وَ) يَجُوزُ (لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَتَنَفَّلَ عَلَى دَابَّتِهِ) وَالْمُرَادُ بِهَا مَا عَدَا السَّفِينَةَ، فَيَشْمَلُ الْفَرَسَ وَالْحِمَارَ وَالْآدَمِيَّ لِمُقَابَلَتِهَا بِالسَّفِينَةِ، وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ رَاكِبًا عَلَى ظَهْرِهَا أَوْ فِي شُقْدُفٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي رَاكِبٍ نَحْوِ السَّبُعِ هَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّنَفُّلُ عَلَيْهِ أَمْ لَا؟ (فِي) مُدَّةِ (سَفَرِهِ) وَلَا يَلْزَمُهُ اسْتِقْبَالُ قِبْلَةٍ بَلْ (حَيْثُمَا تَوَجَّهَتْ بِهِ) وَلَوْ سَهُلَ الِابْتِدَاءُ بِالنَّافِلَةِ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَكِنْ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إنْ كَانَ) سَفَرُهُ (سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ) بِأَنْ كَانَ مُبَاحًا وَأَرْبَعَةُ بُرْدٍ، فَلَا يَتَنَفَّلُ الْعَاصِي وَلَا مُسَافِرٌ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرْدٍ، وَالْمُرَادُ بِالنَّفْلِ مَا قَبْلَ الْفَرْضِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلْيُوتِرْ) الْمُسَافِرُ (عَلَى دَابَّتِهِ إنْ شَاءَ) وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ النُّزُولِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 مَرِيضًا إلَّا بِالْأَرْضِ إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْ نَزَلَ صَلَّى جَالِسًا إيمَاءً لِمَرَضِهِ فَلْيُصَلِّ عَلَى الدَّابَّةِ بَعْدَ أَنْ تُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلَ بِهَا الْقِبْلَةَ وَمَنْ رَعَفَ مَعَ الْإِمَامِ خَرَجَ فَغَسَلَ الدَّمَ، ثُمَّ بَنَى مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ أَوْ يَمْشِ عَلَى نَجَاسَةٍ وَلَا يَبْنِي عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ تَتِمَّ   [الفواكه الدواني] بِالْأَرْضِ، وَالتَّخْيِيرُ إنَّمَا هُوَ فِي مُطْلَقِ الْجَوَازِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ التَّنَفُّلَ بِالْأَرْضِ أَفْضَلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَوْبَ سَفَرِ قَصْرٍ لِرَاكِبٍ دَابَّةً فَقَطْ، وَإِنْ بِمَحَلِّ بَدَلٍ فِي نَفْلٍ وَإِنْ وِتْرًا وَإِنْ سَهُلَ لِابْتِدَاءٍ لَهَا لَا السَّفِينَةُ فَيَدُورُ مَعَهَا إنْ أَمْكَنَ، وَهَلْ إنْ أَوْمَأَ أَوْ مُطْلَقًا تَأْوِيلَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ النَّفْلِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَفِي الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي وَهُوَ عَلَى حِمَارٍ وَهُوَ مُتَوَجِّهٌ إلَى خَيْبَرَ» وَفِي لَفْظِ الْبُخَارِيِّ: «وَيُوتِرُ عَلَيْهَا غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي عَلَيْهَا الْمَكْتُوبَةَ» وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاجَةٍ فَجِئْت وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ نَحْوَ الْمَشْرِقِ السُّجُودُ أَخْفَضُ مِنْ الرُّكُوعِ» قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَيُومِئُ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْأَرْضِ، وَلَا يَسْجُدُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَيَكُونُ فِي سُجُودِهِ مُتَرَبِّعًا عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَيَرْفَعُ عِمَامَتَهُ عِنْدَ إيمَائِهِ لِلسُّجُودِ، وَلَهُ ضَرْبُ الدَّابَّةِ وَرَكْضِهَا فِي الصَّلَاةِ، وَلَهُ ضَرْبُ غَيْرِهَا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَتَكَلَّمُ وَلَا يَلْتَفِتُ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي طَهَارَةِ السَّرْجِ وَنَحْوِهِ مِمَّا هُوَ رَاكِبٌ عَلَيْهِ، وَاَلَّذِي اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ اشْتِرَاطُ طَهَارَتِهِ فِي النَّافِلَةِ دُونَ الْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ اسْتَحَقَّ تَرْكَ الْفَرْضِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَكَيْفَ بِطَهَارَةِ الْمَحَلِّ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَمَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ فِي النَّافِلَةِ مِنْ اشْتِرَاطِ طَهَارَةِ الْمَحَلِّ يُفِيدُ صِحَّةَ الْإِيمَاءِ إلَيْهِ، فَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: وَيُومِئُ إلَى الْأَرْضِ لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ الْوُجُوبِ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْإِيمَاءِ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ فِي الْمَسَائِلِ الَّتِي تُصَلَّى فِيهَا الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِهَا لَا يَكُونُ إلَّا لِلْأَرْضِ، فَلَا يَصِحُّ فِي سَرْجِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ جَسَدِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَاحْتُرِزَ بِالْمُسَافِرِ عَلَى الْحَاضِرِ فَلَا يَصِحُّ تَنَفُّلُهُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَلَا الْفَرِيضَةِ إلَّا فِي الْمَسَائِلِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَا يَصِحُّ تَنَفُّلُهُ فِي السَّفِينَةِ أَيْضًا حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ، بَلْ لَا يُصَلِّي فِيهَا إلَّا لِلْقِبْلَةِ وَيَدُورُ مَعَهَا إنْ أَمْكَنَ، وَلَوْ كَانَ يُصَلِّي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: مَحَلُّ مَنْعِ بَعْضِ النَّفْلِ فِي السَّفِينَةِ حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ إذَا كَانَ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ لِعُذْرٍ اقْتَضَى ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَلَا مَنْعَ يُصَلِّي حَيْثُ مَا تَوَجَّهَتْ، وَلَوْ تَرَكَ الدَّوَرَانَ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ قِبْلَةَ الْمُسَافِرِ فِي النَّفْلِ جِهَةَ سَفَرِهِ، فَلَوْ انْحَرَفَ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا انْحَرَفَ الْمُسَافِرُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ إلَى جِهَةِ سَفَرِهِ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ وَلَا سَهْوٍ، فَإِنْ كَانَتْ الْقِبْلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا الْأَصْلُ وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَإِنْ ظَنَّ أَنَّ تِلْكَ طَرِيقُهُ أَوْ غَلَبَتْهُ الدَّابَّةُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لِغَيْرِ جِهَةِ الْقِبْلَةِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ إلَى جِهَةِ دُبُرِ الدَّابَّةِ، وَلَوْ كَانَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ، فَإِنْ فَعَلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إنْ تَحَوَّلَ إلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ وَإِلَّا بَطَلَتْ. 1 - الثَّالِثُ: إذَا وَصَلَ مَنْزِلًا وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِصَلَاةِ النَّافِلَةِ، فَإِنْ كَانَ مَنْزِلَ إقَامَةٍ نَزَلَ وَكَمَّلَهَا بِالْأَرْضِ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالِاسْتِقْبَالِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْزِلَ إقَامَةٍ خَفَّفَ وَأَتَمَّهَا عَلَى الدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ عَزْمَهُ السَّفَرُ، وَهَكَذَا كُلُّهُ حَيْثُ بَقِيَ مِنْهَا مَا لَهُ بَالٌ، وَأَمَّا نَحْوُ التَّشَهُّدِ فَيَفْعَلُهُ عَلَى ظَهْرِهَا مُطْلَقًا، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ يَتَنَفَّلُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَصِحُّ لِلْمُسَافِرِ وَأَوْلَى غَيْرُهُ أَنْ (يُصَلِّيَ الْفَرِيضَةَ) وَلَوْ بِالنَّذْرِ لِقِيَامِهَا (وَإِنْ كَانَ مَرِيضًا إلَّا بِالْأَرْضِ) فَلَوْ صَلَّاهَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ أَعَادَهَا أَبَدًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ يُصَلِّيهَا عَلَيْهَا قَائِمًا وَرَاكِعًا وَسَاجِدًا مِنْ غَيْرِ نَقْصِ شَيْءٍ عِنْدَ سَحْنُونٍ لِدُخُولِهِ عَلَى الضَّرَرِ، وَقَالَ سَنَدٌ: تَجْزِيهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَسَيَأْتِي مَا يَقْتَضِي أَنَّهُ مُخَالِفٌ لِلْمَشْهُورِ. (إلَّا أَنْ يَكُونَ إنْ نَزَلَ) عَنْ ظَهْرِ الدَّابَّةِ (صَلَّى جَالِسًا إيمَاءً لِمَرَضِهِ فَلْيُصَلِّ) الْفَرْضَ (عَلَى الدَّابَّةِ) حِينَئِذٍ إنْ كَانَ يَفْعَلُهَا عَلَى ظَهْرِهَا كَفِعْلِهِ لَهَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ فَيُومِئُ إلَى الْأَرْضِ بَعْدَ رَفْعِ الْعِمَامَةِ عَنْ مَوْضِعِ السُّجُودِ، وَذَلِكَ الْفِعْلُ (بَعْدَ أَنْ تُوقَفَ لَهُ وَيَسْتَقْبِلُ بِهَا الْقِبْلَةَ) وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ الْفَرِيضَةُ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ: وَهِيَ ثَلَاثُ مَسَائِلَ قَدَّمْنَاهَا سِوَى هَذِهِ، وَإِلَّا لِمَرَضٍ وَيُؤَدِّيهَا عَلَيْهَا كَالْأَرْضِ فَعَلَهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُؤَدِّيهَا عَلَى الْأَرْضِ أَتَمَّ مِنْ صَلَاتِهَا عَلَى ظَهْرِهَا لَوَجَبَ عَلَيْهِ صَلَاتُهَا بِالْأَرْضِ اتِّفَاقًا، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ إنْ نَزَلَ عَلَى الْأَرْضِ بِقَدْرٍ يَسْجُدُ، وَإِنْ صَلَّى عَلَى ظَهْرِهَا يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ، هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْأَتَمِّيَّةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِوُجُوبِ فِعْلِهَا بِالْأَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِالْإِيمَاءِ عَلَى ظَهْرِهَا وَبِالْأَرْضِ لَكِنْ يَزِيدُ إنْ نَزَلَ عَلَى الْأَرْضِ بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّرَبُّعِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَيْسَ بِفَرْضٍ فَلَا يَقْتَضِي وُجُوبَ فِعْلِهَا بِالْأَرْضِ بَلْ النَّدْبُ فَقَطْ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَبِتَقْيِيدِ الْمَسْأَلَةِ بِالْمَرِيضِ الَّذِي فَرْضُهُ الْإِيمَاءُ عُلِمَ الرَّدُّ عَلَى تَعَقُّبِ ابْنِ الْفَخَارِ لِلْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَالَ: مَا قَالَهُ الْمُؤَلِّفُ مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ مَالِكٍ، إذْ لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُهُ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُصَلِّي جَالِسًا، وَيَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَّا بِالْأَرْضِ وَغَفَلَ عَنْ تَقْيِيدٍ بِحَالِ الْإِيمَاءِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَمَا ذَكَرَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْمُؤَلِّفُ لَا يُخَالِفُ مَا عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الْكَرَاهَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْجَوَازَ قَدْ يَكُونُ مَعَ الْكَرَاهَةِ وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَفِيهَا كَرَاهَةُ الْأَخِيرِ حَيْثُ كَانَ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ لَكِنَّ فَرْضَهُ الْإِيمَاءُ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ النُّزُولِ عَنْ الدَّابَّةِ فَلَا تَتَأَتَّى الْكَرَاهَةُ فِي حَقِّهِ إذْ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا عَلَى ظَهْرِهَا، كَمَنْ أَخَذَهُ الْوَقْتُ فِي خَضْخَاضٍ أَوْ فِي حَالِ الِالْتِحَامِ، وَيَقُولُ ابْنُ الْفَخَّارِ: لَمْ يَخْتَلِفْ مَذْهَبُ مَالِكٍ فِي الْمَرِيضِ الَّذِي يُصَلِّي جَالِسًا، وَيَقْدِرُ عَلَى السُّجُودِ أَنَّهُ لَا يُصَلِّي إلَّا بِالْأَرْضِ، ضَعُفَ كَلَامُ سَنَدٍ الْمُتَقَدِّمُ فَافْهَمْ، وَأَيْضًا خَلِيلٌ لَمْ يَصْحِحْ الْفَرِيضَةَ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ إلَّا فِي أَرْبَعِ مَسَائِلَ: مَسْأَلَةِ الْمَرِيضِ وَالْخَائِفِ مِنْ لِصٍّ أَوْ سِبَاعٍ وَمَنْ فِي حَالِ الِالْتِحَامِ، وَمَنْ يَأْخُذُهُ الْوَقْتُ فِي مَاءٍ أَوْ خَضْخَاضٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْإِيمَاءَ لِلْأَرْضِ فِي الْأَرْبَعِ وَمَعَ الِاسْتِقْبَالِ إلَّا فِي حَالِ الِالْتِحَامِ وَعِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ اللُّصُوصِ وَالسِّبَاعِ فَقَدْ يَسْقُطُ؛ لِأَنَّ مُعْظَمَ شُرُوطِ الصَّلَاةِ إنَّمَا تَجِبُ مَعَ الْقُدْرَةِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : كَمَا اُغْتُفِرَ فِي حَقِّ الْمَرِيضِ إيقَاعُ صَلَاةِ الْفَرْضِ عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ، اُغْتُفِرَ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَى السَّرِيرِ الْمَفْعُولِ مِنْ الشَّرِيطِ، وَشَبَهِهِ مِمَّا لَيْسَ بِخَشَبٍ وَلَا حَجَرٍ حَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ النُّزُولَ بِالْأَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ قُدْرَةُ النُّزُولِ إلَى الْأَرْضِ فَلَا تَصِحُّ صَلَاتُهُ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ فَرْضُهُ الْإِيمَاءَ حَيْثُ أَوْمَأَ إلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ أَوْمَأَ إلَى الْأَرْضِ لَصَحَّتْ صَلَاتُهُ كَمَا صَحَّتْ عَلَى الدَّابَّةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَأَمَّا الصَّلَاةُ عَلَى السَّرِيرِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الْخَشَبِ فَقَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: لَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ شَبِيهٌ بِالسَّطْحِ. [الرُّعَاف فِي الصَّلَاة] ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَنْ مَسَائِلِ الرُّعَافِ وَهُوَ الدَّمُ الْخَارِجُ مِنْ الْأَنْفِ وَمِثْلُهُ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ فَقَالَ: (وَمَنْ رَعَفَ) بِفَتْحِ عَيْنِهِ فِي الْمَاضِي وَالْمُضَارِعِ عَلَى الْأَفْصَحِ فِي حَالِ صَلَاتِهِ (مَعَ الْإِمَامِ) وَكَثُرَ رُعَافُهُ بِحَيْثُ سَالَ أَوْ قَطَرَ، وَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ وَلَمْ يَظُنَّ دَوَامَهُ لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ. (خَرَجَ) مِنْ الْمَسْجِدِ مُسْتَمِرًّا عَلَى صَلَاتِهِ إنْ شَاءَ (فَغَسَلَ الدَّمَ) وَصِفَةُ خُرُوجِهِ أَنْ يَخْرُجَ مُمْسِكًا أَنْفَهُ مِنْ أَسْفَلِهِ أَوْ أَعْلَاهُ، وَهُوَ الْأَوْلَى لِئَلَّا يَحْتَبِسَ الدَّمُ إذَا مَسَكَهُ مِنْ أَسْفَلِهِ، وَقَيَّدْنَاهُ بِالسَّائِلِ أَوْ الْقَاطِرِ بِحَيْثُ لَا يُذْهِبُهُ الْفَتْلُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرَّاشِحِ الَّذِي يُذْهِبُهُ الْفَتْلُ؛ لِأَنَّهُ يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَنْصَرِفُ لِدَمٍ خَفِيفٍ وَلْيَفْتِلْهُ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: وَلَمْ يَتَلَطَّخْ بِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَثِيرِ الَّذِي يُلَطِّخُهُ فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ حَيْثُ زَادَ عَلَى دِرْهَمٍ وَاتَّسَعَ الْوَقْتُ لِغَسْلِهِ، وَقَيَّدْنَا بِعَدَمِ ظَنِّ الدَّوَامِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا ظَنَّ الدَّوَامَ لِآخِرِ الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، فَإِنَّهُ يُتِمُّهَا وَلَا يَخْرُجُ وَلَوْ سَائِلًا أَوْ قَاطِرًا حَيْثُ كَانَ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ أَوْ فِيهِ، وَفَرَشَ شَيْئًا يُلَاقِي بِهِ الدَّمَ أَوْ كَانَ مُحَصَّبًا أَوْ تُرَابًا لَا حَصِيرَ عَلَيْهِ لِأَنَّ ذَلِكَ ضَرُورَةٌ، وَيَغْسِلُ الدَّمَ بَعْدَ فَرَاغٍ، كَمَا تَرَكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَعْرَابِيَّ يُتِمُّ بَوْلَهُ فِي الْمَسْجِدِ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ فِيهَا وَإِنْ عِيدًا أَوْ جِنَازَةً وَظَنَّ دَوَامَهُ لَهُ أَتَمَّهَا إنْ لَمْ يُلَطِّخْ فُرُشَ مَسْجِدٍ، فَإِنْ كَانَ فِي مَسْجِدٍ مَفْرُوشٍ أَوْ مُبَلَّطِ يُخْشَى تَلْوِيثُهُ وَلَوْ بِأَقَلَّ مِنْ دِرْهَمٍ يَقَعُ وُجُوبًا عَلَى الْإِتْمَامِ يُتِمُّهَا بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ، إلَّا أَنْ يَخْشَى ضَرَرًا بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، أَوْ تَلَطَّخَ ثِيَابُهُ الَّذِي يُفْسِدُهَا الْغَسْلُ فَيُتِمُّهَا وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ، لَا إنْ خَشِيَ تَلَطُّخَ جَسَدِهِ أَوْ ثِيَابِهِ الَّتِي لَا يُفْسِدُهَا الْغَسْلُ فَلَا يَصِحُّ لَهُ الْإِيمَاءُ، وَقَوْلُنَا: إنْ شَاءَ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْقَطْعُ بِسَلَامٍ أَوْ كَلَامٍ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ الْبَقَاءُ وَالْبِنَاءُ عَلَى مَا فَعَلَ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) بَعْدَ خُرُوجِهِ وَغَسْلِ الدَّمِ (يَبْنِي) عَلَى مَا فَعَلَ قَبْلَ خُرُوجِ الدَّمِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ عِنْدَ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمَنْ رَعَفَ مَعَ الْإِمَامِ يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْإِمَامُ كَالْمَأْمُومِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ خَلْفَهُ جَمَاعَةٌ حَيْثُ كَانَ رَاتِبًا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الرَّاتِبَ كَجَمَاعَةٍ، إلَّا أَنَّ الْإِمَامَ يُسْتَحَبُّ لَهُ الِاسْتِخْلَافُ عِنْدَ خُرُوجِهِ إذَا كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ. وَأَمَّا الْفَذُّ فَفِي بِنَائِهِ خِلَافٌ هَلْ مُنْشَؤُهُ رُخْصَةُ الْبِنَاءِ لِحُرْمَةِ الصَّلَاةِ لِلْمَنْعِ مِنْ إبْطَالِ الْعَمَلِ أَوْ لِتَحْصِيلِ فَضْلِ الْجَمَاعَةِ؟ فَيَبْنِي عَلَى الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ مَنْ خَرَجَ لِغَسْلِ الدَّمِ يَنْدُبُ لَهُ الْبِنَاءُ مُقَيَّدٌ بِالْعَامِّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الرَّاعِفُ مِنْ الْعَوَامّ، أَوْ مِمَّنْ لَا يُحْسِنُ التَّصَرُّفَ بِالْعِلْمِ فَالْقَطْعُ فِي حَقِّهِ أَوْلَى، هَكَذَا قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ وَهُوَ حَسَنٌ. وَشُرُوطُ الْبِنَاءِ أَرْبَعَةٌ أَشَارَ إلَى أَحَدِهَا بِقَوْلِهِ: (مَا لَمْ يَتَكَلَّمْ) فِي زَمَنِ خُرُوجِهِ لِغَسْلِ الدَّمِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا سَوَاءٌ تَكَلَّمَ فِي حَالِ الِانْصِرَافِ أَوْ الرُّجُوعِ وَالْفَرْقُ لَا يَظْهَرُ، وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ) أَيْ وَمَا لَمْ (يَمْشِ عَلَى نَجَاسَةٍ) فَإِنْ مَشَى عَلَيْهَا فِي حَالَ انْصِرَافِهِ أَوْ رُجُوعِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَلَوْ يَابِسَةً حَيْثُ عُلِمَ بِهَا فِي حَالِ الصَّلَاةِ لَا بَعْدَهَا فَيُعِيدُ فِي الْوَقْتِ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَرْوَاثَ الدَّوَابِّ أَوْ أَبْوَالَهَا حَيْثُ لَا مَنْدُوحَةَ لَهُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرُورَ عَلَيْهَا مَعَ الْعِلْمِ وَالِاخْتِيَارِ مُبْطِلٌ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ يَابِسَةً وَلَوْ أَرْوَاثَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا مَعَ الِاضْطِرَارِ فَلَا بُطْلَانَ، وَلَا إعَادَةَ أَيْضًا فِي الْمُرُورِ عَلَى أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَلَوْ رَطْبَةً، وَكَذَا فِي الْمُرُورِ عَلَى غَيْرِهَا لَا بُطْلَانَ، لَكِنْ تُسْتَحَبُّ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ هَذَا كُلِّهِ مَعَ الْعِلْمِ، وَأَمَّا الْمُرُورُ مَعَ النِّسْيَانِ فَلَا إعَادَةَ فِي أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ وَأَبْوَالِهَا، وَكَذَا فِي غَيْرِهَا إذَا لَمْ يَتَذَكَّرْ، إلَّا بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا لَوْ تَذَكَّرَ فِيهَا فَإِنْ تَعَلَّقَ بِهِ شَيْءٌ بَطَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ جَرَى عَلَى الْخِلَافِ فِي مَنْ سَجَدَ عَلَى نَجَاسَةٍ، وَلَمْ يَعْلَمْ بِهَا إلَّا بَعْدَ رَفْعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 بِسَجْدَتَيْهَا وَلِيُلْغِهَا وَلَا يَنْصَرِفُ لِدَمٍ خَفِيفٍ وَلْيَفْتِلْهُ إلَّا أَنْ يَسِيلَ أَوْ يَقْطُرَ وَلَا يَنْصَرِفُ لِدَمٍ خَفِيفٍ وَلْيَفْتِلْهُ بِأَصَابِعِهِ إلَّا أَنْ يَسِيلَ أَوْ يَقْطُرَ وَلَا يَبْنِي فِي قَيْءٍ وَلَا حَدَثٍ ، وَمَنْ   [الفواكه الدواني] جَبْهَتِهِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ شَيْءٌ مِنْهَا، فَابْنُ عَرَفَةَ يُبْطِلُ صَلَاتَهُ وَغَيْرُهُ يَتَحَوَّلُ عَنْهَا وَيُتِمُّ صَلَاتَهُ، وَبَقِيَ شَرْطَانِ لَمْ يَذْكُرْهُمَا وَهُمَا: أَنْ لَا يَجِدَ الْمَاءَ فِي مَوْضِعٍ وَيَتَجَاوَزَهُ إلَى أَبْعَدَ مِنْهُ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَأَنْ لَا يَسْتَدْبِرَ قِبْلَةً بِلَا عُذْرٍ فَإِنْ اسْتَدْبَرَهَا اخْتِيَارًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمِنْ الْعُذْرِ اسْتِدْبَارُهَا لِطَلَبِ الْمَاءِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ: فَيَخْرُجُ مُمْسِكٌ أَنْفَهُ لِغَسْلٍ إنْ لَمْ يُجَاوِزُ أَقْرَبَ مَكَان مُمْكِنٍ قَرُبَ، وَيَسْتَدْبِرُ قِبْلَةً بِلَا عُذْرٍ وَيَطَأُ نَجِسًا وَيَتَكَلَّمُ وَلَوْ سَهْوًا. (فَرْعَانِ) أَحَدُهُمَا: إذَا دَارَ الْأَمْرُ بَيْنَ الذَّهَابِ لِمَاءٍ قَرُبَ مَعَ الِاسْتِدْبَارِ وَمَاءٍ بَعُدَ الِاسْتِدْبَارُ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَذْهَبُ إلَى الْقَرِيبِ وَلَوْ مَعَ الِاسْتِدْبَارِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِدْبَارَ اُغْتُفِرَ جِنْسُهُ فِي الصَّلَاةِ فِي بَعْضِ الْأَمَاكِنِ، بِخِلَافِ الْفِعْلِ الْكَثِيرِ فَتَبْطُلُ بِهِ وَلَوْ سَهْوًا. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ، وَرُبَّمَا يُبْحَثُ فِيهِ بِأَنَّ الْفِعْلَ الْكَثِيرَ اُغْتُفِرَ جِنْسُهُ أَيْضًا، وَلَوْ عَمْدًا فِي صَلَاةِ الْمُسَابَقَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ بِنُدُورِ هَذَا بِالنِّسْبَةِ لِعُذْرِ الِاسْتِدْبَارِ (الْفَرْعُ الثَّانِي) : إذَا دَار الْأَمْرُ بَيْنَ الِاسْتِدْبَارِ وَوَطْءِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يَبْطُلُ وَطْؤُهَا فَإِنَّهُ يُقَدِّمُ الِاسْتِدْبَارَ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْبَارٌ لِعُذْرٍ، أَشَارَ إلَى هَذَيْنِ الْفَرْعَيْنِ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (وَ) إذَا خَرَجَ الرَّاعِفُ لِغَسْلِ الدَّمِ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ (لَا يَبْنِي عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ تَتِمَّ بِسَجْدَتَيْهَا) قَبْلَ رُعَافِهِ (وَلْيُلْغِهَا) أَيْ لَا يَعْتَدُّ بِشَيْءٍ مِنْ أَجْزَائِهَا، وَإِنَّمَا يَبْنِي عَلَى رَكْعَةٍ تَامَّةٍ، وَتَمَامُهَا يَكُونُ الْجُلُوسَ إنْ كَانَ يَقُومُ مِنْهَا لِلْجُلُوسِ، وَيَكُونُ بِالْقِيَامِ إنْ كَانَ يَقُومُ مِنْهَا لِلْقِيَامِ، فَلَوْ رَكَعَ وَسَجَدَ السَّجْدَتَيْنِ ثُمَّ قَبْلَ الْجُلُوسِ أَوْ الْقِيَامِ رَعَفَ فَلَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ، وَيَبْتَدِئُ الْقِرَاءَةَ مِنْ أَوَّلِهَا بَانِيًا عَلَى الْإِحْرَامِ إنْ كَانَ الرُّعَافُ حَصَلَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى، أَوْ عَلَى الرَّكْعَةِ الْكَامِلَةِ السَّابِقَةِ عَلَى الْمَلْغِيَّةِ إنْ كَانَ الرُّعَافُ فِي غَيْرِ الْأُولَى، فَالْمُصَنِّفُ أَطْلَقَ الْبِنَاءَ عَلَى الِاعْتِدَادِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ: لَا يَبْنِي عَلَى رَكْعَةٍ لَمْ تَتِمُّ لَا يَعْتَدُّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: وَلْيُلْغِهَا فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَبْنِي وَلَوْ عَلَى الْإِحْرَامِ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَإِذَا بَنَى لَمْ يَعْتَدَّ إلَّا بِرَكْعَةٍ كَمُلَتْ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مَا بِهِ الْكَمَالُ عَلَى مَا حَقَّقَهُ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ إلَّا لِغَسْلِ الدَّمِ السَّائِلِ أَوْ الْقَاطِرِ، شَرَعَ فِي حُكْمِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَنْصَرِفُ لِ) غَسْلِ (دَمٍ خَفِيفٍ) الْمُرَادُ لَا يَجُوزُ لِلرَّاعِفِ الْخُرُوجُ مِنْ الصَّلَاةِ لِغَسْلِ دَمٍ رَاشِحٍ. (وَلْيَفْتِلْهُ بِأَصَابِعِهِ) أَيْ رُءُوسِ أَنَامِلِ يُسْرَاهُ الْخَمْسِ الْعُلْيَا، قَالَ خَلِيلٌ: فَإِنْ رَشَحَ فَتَلَهُ بِأَنَامِلِ يُسْرَاهُ وَالْمُرَادُ الْخَمْسُ الْعُلْيَا، وَصِفَةُ الْفَتْلِ أَنْ يَلْقَاهُ بِرَأْسِ الْخِنْصَرِ وَيَفْتِلُهُ بِرَأْسِ الْإِبْهَامِ، ثُمَّ بَعْدَ الْخِنْصَرِ الْبِنْصِرُ ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ السَّبَّابَةُ، وَلَا يُلْقِي الدَّمَ بِرَأْسِ الْإِبْهَامِ بَلْ يَفْتِلُ بِهَا، فَإِنْ اسْتَمَرَّ وَتَلَطَّخَتْ الْأَنَامِلُ الْعُلْيَا انْتَقِلْ لِلْأَنَامِلِ الْوُسْطَى، فَإِنْ زَادَ مَا فِيهَا عَنْ دِرْهَمٍ تَحْقِيقًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إنْ اتَّسَعَ الْوَقْتُ الَّذِي هُوَ فِيهِ وَإِلَّا أَتَمَّهَا: كَمَا إذَا ظَنَّ الزِّيَادَةَ أَوْ شَكَّ فِيهَا، وَلَا يَنْظُرُ مَا فِي الْعُلْيَا، فَلَوْ انْتَقَلَ بَعْدَ تَلْطِيخِ الْعُلْيَا إلَى عُلْيَا الْيُمْنَى وَزَادَ مَا فِيهَا عَنْ دِرْهَمٍ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مُعَلِّلًا لَهُ بِقَوْلِهِ: مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِفَتْلِهِ بِيَدَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا لِكَلَامِهِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَصَابِعِ رُءُوسُهَا، فَهُوَ مَجَازٌ مُرْسَلٌ عِلَاقَتُهُ الْكُلِّيَّةُ وَالْجُزْئِيَّةُ نَظِيرُ: {يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ} [البقرة: 19] وَأَنَّ الْمُرَادَ الْعُلْيَا مِنْ الْيَدِ الْيُسْرَى عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ؛ لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِمُبَاشَرَةِ الْأَقْذَارِ، وَلَمَّا كَانَ فَتْلُ الدَّمِ الْخَفِيفِ مَشْرُوطًا بِاسْتِمْرَارِهِ خَفِيفًا قَالَ: (إلَّا أَنْ يَسِيلَ أَوْ يَقْطُرَ) بِحَيْثُ لَا يَذْهَبُ بِالْفَتْلِ، فَلَهُ أَنْ يَنْصَرِفَ لِغَسْلِهِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَبْنِي عَلَى مَا فَعَلَ، وَلَهُ الْقَطْعُ بِسَلَامٍ أَوْ كَلَامٍ كَالسَّائِلِ ابْتِدَاءً، وَلَا يُقَالُ هَذَا مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ أَوَّلًا: وَمَنْ رَعَفَ خَرَجَ فَغَسَلَ الدَّمَ، لِحَمْلِ مَا تَقَدَّمَ عَلَى السَّائِلِ أَوْ الْقَاطِرِ ابْتِدَاءً، وَهَذَا رَاشِحٌ ابْتِدَاءً وَطَرَأَ لَهُ الزِّيَادَةُ حَتَّى سَالَ أَوْ قَطَرَ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَوْلَى التَّعْبِيرَ بِإِلَى مَوْضِعٍ إلَّا لِيَكُونَ ظَاهِرًا فِيمَا ذَكَرْنَا، وَلَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ لِغَسْلِ الدَّمِ وَالْبِنَاءُ عَلَى مَا صَلَّاهُ قَبْلَ الرُّعَافِ رُخْصَةً لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا قَالَ: (وَلَا يَبْنِي) الْمُصَلِّي (فِي قَيْءٍ) مُتَنَجِّسٍ خَرَجَ مِنْهُ فِي حَالِ صَلَاتِهِ (وَلَا) يَبْنِي أَيْضًا فِي (حَدَثٍ) تَذَكَّرَهُ فِيهَا أَوْ خَرَجَ مِنْهُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي الْبِنَاءِ مَعَ الْحَدَثِ الْغَالِبِ، وَلِأَشْهَبَ فِي بِنَاءِ مَنْ رَأَى نَجَاسَةً فِي ثَوْبِهِ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْهَا فِي صَلَاتِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَبْنِي فِي غَيْرِهِ كَظَنِّهِ فَخَرَجَ فَظَهَرَ نَفْيُهُ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ فِي كُلِّ مَا ذَكَرْنَا، لَكِنْ بِالْحَدَثِ وَلَوْ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا الْقَيْءُ النَّجِسُ أَوْ سُقُوطُ النَّجَاسَةِ فَإِنَّمَا تُبْطِلُ عِنْدَ اتِّسَاعِهِ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْقَيْءِ النَّجِسِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُوجِبُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا الطَّاهِرُ فَلَا تَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَنْ ذَرَعَهُ قَيْءٌ لَمْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: طَهَارَتُهُ وَيَسَارَتُهُ وَخُرُوجُهُ غَلَبَةً، لَا إنْ كَانَ نَجِسًا أَوْ كَثِيرًا أَوْ تَعَمَّدَ ابْتِلَاعَهُ فَتَبْطُلُ بِهِ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا لَوْ ابْتَلَعَهُ غَلَبَةً فَفِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ قَوْلَانِ عَلَى حَدِّ سِوَى، وَكَمَا لَا يَبْنِي فِي غَيْرِ الرُّعَافِ لَا يَبْنِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 رَعَفَ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ سَلَّمَ وَانْصَرَفَ وَإِنْ رَعَفَ قَبْلَ سَلَامِهِ انْصَرَفَ وَغَسَلَ الدَّمَ، ثُمَّ رَجَعَ فَجَلَسَ وَسَلَّمَ وَلِلرَّاعِفِ أَنْ يَبْنِيَ فِي مَنْزِلِهِ إذَا يَئِسَ أَنْ يُدْرِكَ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ إلَّا فِي الْجُمُعَةِ فَلَا يَبْنِي إلَّا فِي الْجَامِعِ وَيُغْسَلُ قَلِيلُ الدَّمِ مِنْ   [الفواكه الدواني] فِي الرُّعَافِ الْمُتَكَرِّرِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ فَرْحُونٍ، خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ بِالْبِنَاءِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ الرُّعَافُ مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ، وَلَيْسَ مِنْ الْمُتَكَرِّرِ الْحَاصِلُ فِي حَالِ رُجُوعِهِ مِنْ غَسْلِ الدَّمِ قَبْلَ دُخُولِهِ فِي إكْمَالِ الصَّلَاةِ بَلْ يَسْتَمِرُّ عَلَى صَلَاتِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ مِنْ حَمْلِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى الرُّعَافِ الْمُبْطِلِ عَلِمْت أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَعَلَّهُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أُطْلِقَ اتِّكَالًا عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حُصُولِ مَا يُوجِبُ الْخُرُوجَ مِنْ الصَّلَاةِ، وَإِلَّا فَالْمُصَنِّفُ إمَامٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أُمُورُ الْفِقْهِ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ. الثَّانِي قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَبْنِي فِي قَيْءٍ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ عَلَى جَعْلِ لَا نَافِيَةً، وَفِي بَعْضِهَا بِحَذْفِهَا عَلَى جَعْلِهَا نَاهِيَةً، وَفِي خَلِيلٍ كَذَلِكَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الرُّعَافِ الْحَاصِلِ فِي أَثْنَاءِ الصَّلَاةِ، شَرَعَ فِي حُكْمِ الْحَاصِلِ بَعْدَ تَمَامِهَا وَقَبْلَ السَّلَامِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ رَعَفَ) مِنْ الْمَأْمُومِينَ (بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ سَلَّمَ وَانْصَرَفَ) ؛ لِأَنَّ سَلَامَهُ مَعَ النَّجَاسَةِ أَخَفُّ مِنْ خُرُوجِهِ لِغَسْلِهَا وَسَلَامِهِ بَعْدَ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ: وَلَوْ رَعَفَ قَبْلَ تَشَهُّدِهِ لَحَمَلَ الْإِمَامُ لَهُ، فَلَوْ خَالَفَ وَخَرَجَ لِغَسْلِ الدَّمِ قَبْلَ السَّلَامِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ بُطْلَانِ صَلَاتِهِ. (وَ) مَفْهُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ (إنْ رَعَفَ قَبْلَ سَلَامِهِ) أَيْ الْإِمَامِ (انْصَرَفَ وَغَسَلَ الدَّمَ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَخْرُجْ يَصِيرُ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ عَمْدًا فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ. (ثُمَّ رَجَعَ) بَعْدَ انْصِرَافِهِ لَغَسَلَ الدَّمِ (فَجَلَسَ) وَتَشَهَّدَ فَلَوْ كَانَ تَشَهَّدَ قَبْلَ الِانْصِرَافِ (وَسَلَّمَ) ؛ لِأَنَّ سُنَّةَ السَّلَامِ أَنْ يَكُونَ عَقِبَ تَشَهُّدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَلَّمَ وَانْصَرَفَ إنْ رَعَفَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ لَا قَبْلَهُ، وَمَحَلُّ انْصِرَافِ مَنْ رَعَفَ قَبْلَ سَلَامِ الْإِمَامِ مَا لَمْ يُسَلِّمْ إمَامُهُ قَبْلَ مُجَاوَزَتَيْنِ الصَّفَّ وَالصَّفَّيْنِ وَإِلَّا جَلَسَ وَسَلَّمَ: (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْمَأْمُومِ إنْ رَعَفَ بَعْدَ سَلَامِ إمَامِهِ مِنْ أَنَّهُ يُسَلِّمُ وَلَا يَنْصَرِفُ لِغَسْلِ الدَّمِ، وَمَنْ رَعَفَ قَبْلَ سَلَامِ إمَامِهِ يَخْرُجُ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَسَكَتَ عَنْ نَفْسِ الْإِمَامِ يَرْعُفُ فِي حَالِ جُلُوسِهِ، وَمِثْلُهُ الْفَذُّ عَلَى الْقَوْلِ بِبِنَائِهِ، وَقَالَ الْحَطَّابُ: لَمْ أَرَ فِيهِمَا نَصًّا، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: إنْ حَصَلَ الرُّعَافُ بَعْدَ أَنْ أَتَى بِمِقْدَارِ السُّنَّةِ مِنْ التَّشَهُّدِ فَإِنَّهُ يُسَلِّمُ، وَالْإِمَامُ وَالْفَذُّ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَإِنْ رَعَفَ قَبْلَ ذَلِكَ فَلْيَسْتَخْلِفْ الْإِمَامُ مَنْ يُتِمُّ بِهِمْ التَّشَهُّدَ وَيَخْرُجُ هُوَ لِغَسْلِ الدَّمِ، وَأَمَّا الْفَذُّ فَيَخْرُجُ لِغَسْلِ الدَّمِ وَيُتِمُّ مَكَانَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُتِمُّ فِيهِ الرَّاعِفُ صَلَاتَهُ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: (وَلِلرَّاعِفِ) أَيْ وَيَجِبُ عَلَى الرَّاعِفِ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ (أَنْ يَبْنِيَ) أَيْ يُتِمَّ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ بَانِيًا عَلَى مَا فَعَلَهُ (فِي مَنْزِلِهِ) الَّذِي غَسَلَ فِيهِ الدَّمَ. (إذَا يَئِسَ أَنْ يُدْرِكَ بَقِيَّةَ صَلَاةِ الْإِمَامِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَأَتَمَّ مَكَانَهُ إنْ ظَنَّ فَرَاغَ إمَامِهِ وَأَمْكَنَ، وَإِلَّا فَالْأَقْرَبُ إلَيْهِ، وَإِلَّا بَطَلَتْ وَرَجَعَ إنْ ظَنَّ بَقَاءَهُ أَوْ شَكَّ وَلَوْ تَشَهَّدَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّاعِفَ لَهُ بَعْدَ غَسْلِ الدَّمِ حَالَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يَظُنَّ فَرَاغَ إمَامِهِ، وَالثَّانِيَةُ أَنْ يَظُنَّ بَقَاءَهُ أَوْ يَشُكَّ فِيهِ، فَفِي الْأُولَى يُتِمُّ مَكَانَهُ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَفِي أَقْرَبِ مَكَان إلَيْهِ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ وَلَوْ تَبَيَّنَ سَلَامُهُ قَبْلَ إمَامِهِ، وَفِي الثَّانِيَةِ يَرْجِعُ لِمَكَانِهِ حَيْثُ يُوقِنُ إدْرَاكَ الْإِمَامِ قَبْلَ سَلَامِهِ، وَهَذَا فِي الْمَأْمُومِ، وَمِثْلُهُ الْإِمَامُ بَعْدَ اسْتِخْلَافِهِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ بَعْدَ الِاسْتِخْلَافِ مَا يَلْزَمُ الْمَأْمُومَ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا الْفَذُّ فَيُتِمُّ مَكَانَهُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ الرَّاعِفِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَأَمَّا الرَّاعِفُ فِي الْجُمُعَةِ فَلَا يُتِمُّ مَكَانَهُ، وَلَوْ تَيَقَّنَ فَرَاغَ إمَامِهِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (إلَّا) أَنْ يَكُونَ الرَّاعِفُ مِنْ إمَامٍ أَوْ مَأْمُومٍ (فِي الْجُمُعَةِ) وَحَصَلَ لَهُ الرُّعَافُ بَعْدَ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا (فَلَا يَبْنِي إلَّا فِي) أَوَّلِ (الْجَامِعِ) الَّذِي ابْتَدَأَهَا فِيهِ، وَلَوْ ظَنَّ فَرَاغَ إمَامِهِ؛ لِأَنَّ الْجَامِعَ شَرْطٌ مَعَ صِحَّةِ الْجُمُعَةِ، وَلَا يُتِمُّهَا بِرِحَابِهِ وَلَوْ كَانَ ابْتَدَأَهَا بِهِ لِضِيقٍ أَوْ اتِّصَالِ صُفُوفٍ، كَمَا اسْتَظْهَرَهُ الْحَطَّابُ لِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْجَامِعِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: يَصِحُّ إتْمَامُهَا فِي الرِّحَابِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَتَمَّهَا فِي غَيْرِ الْجَامِعِ الَّذِي ابْتَدَأَهَا فِيهِ فَتَبْطُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ، وَإِذَا رَجَعَ إلَيْهِ فَوَجَدَهُ مَغْلُوقًا لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ وَيُضِيفُ رَكْعَةً إلَى رَكْعَتِهِ لِتَصِيرَ لَهُ نَافِلَةٌ وَيَبْتَدِئُهَا ظُهْرًا بِإِحْرَامٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي أَوَّلِ الْجَامِعِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إلَى مَكَانِهِ، الَّذِي افْتَتَحَ الصَّلَاةَ فِيهِ، بَلْ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ بِمُجَاوَزَتِهِ أَقْرَبَ مَكَان مُمْكِنٍ، وَكَمَا يَجِبُ الرُّجُوعُ لِأَوَّلِ الْجَامِعِ عَلَى مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً بِسَجْدَتَيْهَا يَجِبُ عَلَى مَنْ يَظُنُّ إدْرَاكَ رَكْعَةٍ مَعَ الْإِمَامِ بَعْدَ رُجُوعِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُدْرِكْ رَكْعَةً قَبْلَ الرُّعَافِ وَلَا يَعْتَقِدُ إدْرَاكَ رَكْعَةٍ بَعْدَ رُجُوعِهِ مَعَ الْإِمَامِ فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَلْ يَقْطَعُ إحْرَامَهُ وَيَبْتَدِئُ ظُهْرًا بِإِحْرَامٍ جَدِيدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الْجُمُعَةِ مُطْلَقًا لِأَوَّلِ الْجَامِعِ وَإِلَّا بَطَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ رَكْعَةً فِي الْجُمُعَةِ ابْتَدَأَ ظُهْرًا بِإِحْرَامٍ. قَالَ الْحَطَّابُ: وَلَوْ خَالَفَ وَبَنَى عَلَى إحْرَامِهِ وَصَلَّى أَرْبَعًا الظَّاهِرُ صِحَّةُ صَلَاتِهِ وَلَمْ أَرَهُ مَنْصُوصًا، وَمَحَلُّ ابْتِدَائِهَا ظُهْرًا حَيْثُ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا فَعَلَ بِأَنْ كَانَ الْبَلَدُ مِصْرًا تَتَعَدَّدُ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَيَذْهَبُ إلَى جَامِعٍ آخَرَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَظُنَّ سَلَامَ الْإِمَامِ قَبْلَ رُجُوعِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ، وَمَنْ يَظُنُّ فَرَاغَهُ يُتِمُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 الثَّوْبِ وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ: إلَّا مِنْ كَثِيرِهِ وَقَلِيلُ كُلِّ نَجَاسَةٍ غَيْرِهِ وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ وَدَمُ الْبَرَاغِيثِ لَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ.   [الفواكه الدواني] مَكَانَهُ إنْ أَمْكَنَهُ، وَإِنَّ مُدْرِكَ رَكْعَةٍ مِنْ الْجُمُعَةِ سَوَاءٌ كَانَ أَدْرَكَهَا قَبْلَ الرُّعَافِ أَوْ يَعْتَقِدُ إدْرَاكَهَا بَعْدَ رُجُوعِهِ يَطْلُبُ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ ظَنَّ فَرَاغَ الْإِمَامِ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى، وَكُلُّ مَنْ خَالَفَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، وَمَنْ فَعَلَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ صَحَّتْ صَلَاتُهُ وَإِنْ أَخْطَأَ ظَنُّهُ. 1 - الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الرُّعَافِ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَطْمَعَ فِي انْقِطَاعِهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، بِحَيْثُ يَبْقَى مِنْهُ مَا يَسَعُ الطَّهَارَةَ وَأَرْبَعَ رَكَعَاتٍ أَوْ رَكْعَةً بِنَاءً عَلَى مَا يُدْرَكُ بِهِ لِوَقْتِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَفِي هَذَا يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَظُنَّ دَوَامَهُ إلَى آخِرِ الْوَقْتِ، وَفِي هَذَا يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، كَمَا يُصَلِّي مَعَ نُزُولِ الدَّمِ آخِرَ الْوَقْتِ إذَا لَمْ يَنْقَطِعْ، بِأَنْ تَخَلَّفَ ظَنُّهُ وَضَاقَ الْوَقْتُ وَهُوَ نَازِلٌ، وَيُصَلِّي بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ مَعَ الْإِمْكَانِ، وَأَمَّا لَوْ تَضَرَّرَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِضَرَرٍ بِجِسْمِهِ أَوْ لِلْخَوْفِ عَلَى تَلَطُّخِ ثِيَابِهِ الَّتِي يُفْسِدُهَا الْغُسْلُ صَلَّى بِالْإِيمَاءِ، وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ يُفْهَمَانِ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ رَعَفَ قَبْلَهَا وَدَامَ آخَرُ لِآخِرِ الِاخْتِيَارِيِّ وَصَلَّى؛ لِأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ آخِرَ أَنَّهُ يُرْجَى انْقِطَاعُهُ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَرْجُ الِانْقِطَاعَ يُصَلِّي مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ السَّائِلِ وَالْقَاطِرِ وَالرَّاشِحِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْمَسْبُوقِ الَّذِي يَدْخُلُ مَعَ الْإِمَامِ وَيَحْصُلُ لَهُ الرُّعَافُ أَوْ نَحْوُهُ مِمَّا يُوجِبُ فَوَاتَ رَكْعَةٍ أَوْ أَكْثَرَ بَعْدَ الدُّخُولِ مَعَ الْإِمَامِ بِحَيْثُ يَجْتَمِعُ فِي صَلَاتِهِ الْقَضَاءُ وَالْبِنَاءُ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِذَا اجْتَمَعَ قَضَاءٌ وَبِنَاءٌ لِرَاعِفٍ أَدْرَكَ الْوُسْطَيَيْنِ أَوْ إحْدَاهُمَا، أَوْ الْحَاضِرُ أَدْرَكَ ثَانِيَةَ صَلَاةِ مُسَافِرٍ أَوْ خَوْفٍ بِحَضَرٍ قَدَّمَ الْبِنَاءَ وَجَلَسَ فِي آخِرِ الْإِمَامِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ ثَانِيَتَهُ، وَلَمَّا كَانَ الرُّعَافُ مَظِنَّةً لِإِصَابَةِ الدَّمِ نَاسَبَ التَّعَرُّضُ لِحُكْمِ غَسْلِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُغْسَلُ) نَدْبًا (قَلِيلُ الدَّمِ) وَلَوْ مِنْ غَيْرِ رُعَافٍ، كَدَمِ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ وَمِثْلُهُ الْقَيْحُ وَالصَّدِيدُ (مِنْ الثَّوْبِ) أَوْ الْجَسَدِ، وَالْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ أَقَلُّ مِنْ دِرْهَمٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَفَا عَنْ دُونِ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ مُطْلَقًا وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَالْمُرَادُ بِالدِّرْهَمِ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَهُوَ قَدْرُ الدَّائِرَةِ الَّتِي تَكُونُ بِبَاطِنِ ذِرَاعِ الْبَغْلِ، وَمَفْهُومُ مِنْ الثَّوْبِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْمُصَلِّي أَنَّهُ لَوْ أَصَابَ طَعَامًا لِنَجَسِهِ وَلَوْ قَلَّ، فَالْعَفْوُ فِي غَيْرِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَنْجُسُ كَثِيرُ طَعَامٍ مَائِعٍ بِنَجَسٍ وَلَوْ قَلَّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا نَدْبًا لِقَوْلِهِ: (وَلَا تُعَادُ الصَّلَاةُ) مَعَ مُلَابَسَةِ الدَّمِ (إلَّا مِنْ كَثِيرِهِ) وَهُوَ مَا كَانَ قَدْرَ الدِّرْهَمِ مَسَّاحَةً لَا وَزْنًا، وَالْأَثَرُ وَالْعَيْنُ سَوَاءٌ فِي الْعَفْوِ عَنْ الْقَلِيلِ وَوُجُوبِ الْغُسْلِ فِي الْكَثِيرِ، فَإِنْ صَلَّى بِالْكَثِيرِ أَعَادَ مَعَ الْعَمْدِ أَوْ الْجَهْلِ أَبَدًا عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ، وَنَدْبًا فِي الْوَقْتِ مَعَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ أَوْ الْعَمْدِ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ، وَفِي الْوَقْتِ عَلَى الْقَوْلِ بِالسُّنِّيَّةِ مُطْلَقًا، أَوْ عِنْدَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا عُفِيَ عَنْ يَسِيرِ الدَّمِ؛ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَكَادُ يَسْلَمُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ بَدَنَ الْإِنْسَانِ كَالْقِرْبَةِ الْمَمْلُوءَةِ مَاءً وَهِيَ لَا تَسْلَمُ غَالِبًا مِنْ رَشْحٍ، وَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ: وَعُفِيَ عَمَّا يُعْسِرُ، وَأَمَّا نَحْوُ الْبَوْلِ أَوْ الْمَنِيِّ فَيَجِبُ غَسْلُ قَلِيلِهِ كَكَثِيرِهِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَقَلِيلُ كُلِّ نَجَاسَةٍ غَيْرِهِ) أَيْ الدَّمِ (وَكَثِيرُهَا سَوَاءٌ) فِي وُجُوبِ الْغَسْلِ وَلَوْ كَرُءُوسِ الْإِبَرِ. (وَ) مِمَّا يُعْفَى عَنْهُ لِمَشَقَّةِ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ (دَمُ الْبَرَاغِيثِ) أَيْ خَرْؤُهَا وَمِثْلُهَا الْقَمْلُ وَالْبَقُّ وَالْبَعُوضُ. (لَيْسَ عَلَيْهِ غَسْلُهُ) لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا (إلَّا أَنْ يَتَفَاحَشَ) بِحَيْثُ يَسْتَحْيِ أَنْ يَجْلِسَ بِهِ بَيْنَ أَقْرَانِهِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُهُ، إلَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى ذَلِكَ فِي حَالِ الصَّلَاةِ فَلَا يَنْدُبُ غَسْلُهُ إذْ لَا يُقْطَعُ الْفَرْضُ لِمَنْدُوبٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَدَبَ غَسْلُ مَا يُعْفَى عَنْهُ عِنْدَ تَفَاحُشِهِ كَدَمِ بَرَاغِيثَ إلَّا فِي صَلَاةٍ، وَفَسَّرْنَا دَمَ الْبَرَاغِيثِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا بِخَرْئِهَا؛ لِأَنَّ دَمَهَا الْحَقِيقِيَّ كَسَائِرِ الدِّمَاءِ يُعْفَى عَنْ يَسِيرِهَا، وَيَجِبُ غَسْلُ الْكَثِيرِ وَلَوْ مِنْ سَمَكٍ وَذُبَابٍ. (خَاتِمَةٌ) ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ ضَابِطًا كُلِّيًّا لِمَا يُعْفَى عَنْهُ مِمَّا هُوَ مُحَقَّقُ النَّجَاسَةِ أَوْ مَظْنُونُهَا بِقَوْلِهِ: وَعُفِيَ عَمَّا يُعْسِرُ كَحَدَثٍ مُسْتَنْكَحٍ وَبَلَلِ بَاسُورٍ فِي يَدٍ أَوْ ثَوْبٍ إنْ كَثُرَ الدَّمُ، وَثَوْبِ مُرْضِعَةٍ تَجْتَهِدُ، وَدُونَ دِرْهَمٍ مِنْ دَمٍ مُطْلَقًا، وَقَيْحٍ وَصَدِيدٍ، وَبَوْلِ فَرَسٍ لِفَارٍّ بِأَرْضِ حَرْبٍ وَأَثَرِ ذُبَابٍ مِنْ عُذْرَةٍ وَمَوْضِعِ حِجَامَةِ سَطْحٍ وَكَطِينِ مَطَرٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الْعُذْرَةُ بِالْمُصِيبِ وَلَمْ تَغْلِبْ وَذَيْلِ امْرَأَةٍ مُطَالٍ لِلسِّتْرِ وَرِجْلٍ بُلَّتْ يَمُرَّانِ بِنَجِسٍ يَبِسٍ يَطْهُرَانِ بِمَا بَعْدَهُ وَخُفٍّ وَنَعْلٍ مِنْ رَوْثِ دَوَابَّ وَأَبْوَالِهَا إنْ دُلِّكَا بِغَيْرِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْخُفَّ وَالنَّعْلَ وَالْقَدَمَ وَالْمَخْرَجَانِ وَمَوْضِعَ الْحِجَامَةِ وَالسَّيْفَ الصَّقِيلَ يُجْزِي فِيهَا زَوَالُ النَّجَاسَةِ بِغَيْرِ الْمَاءِ. [بَاب فِي سُجُود الْقُرْآن] وَلَمَّا كَانَتْ سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ دَاخِلَةً فِي حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي حَقِيقَةِ الصَّلَاةِ: قُرْبَةٌ فِعْلِيَّةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَسَلَامٍ أَوْ سُجُودٍ فَقَطْ. ذَكَرَهَا فِي عَقِبِ الْبَابِ الْجَامِعِ لِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ فَقَالَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بَابٌ فِي سُجُودِ الْقُرْآنِ وَسُجُودُ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَ سَجْدَةً، وَهِيَ الْعَزَائِمُ لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ فِي النَّصِّ عِنْدَ قَوْلِهِ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانِ مَوَاضِعِ (سُجُودِ الْقُرْآنِ) وَيُتَرْجَمُ بِسُجُودِ التِّلَاوَةِ وَهِيَ أَوْلَى مِنْ سُجُودِ الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّ التِّلَاوَةَ أَخَصُّ مِنْ الْقِرَاءَةِ، لِأَنَّ التِّلَاوَةَ لَا تَكُونُ فِي كَلِمَةِ وَاحِدَةٍ، وَالْقِرَاءَةَ تَكُونُ فِيهَا، وَالسُّجُودُ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَا عِنْدَ مُجَرَّدِ قِرَاءَةِ كَلِمَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِحُكْمِ السُّجُودِ، وَفِيهِ خِلَافٌ، فَقِيلَ: سُنَّةٌ، وَقِيلَ: فَضِيلَةٌ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَقِلَّتِهِ، وَأَمَّا السُّجُودُ فِي الصَّلَاةِ فَهُوَ مَطْلُوبٌ عَلَى الْقَوْلَيْنِ خِلَافًا لِمَنْ قَصَّرَهُ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَالْمَطْلُوبُ مِنْ السُّجُودِ إيجَادُ مَاهِيَّةِ السُّجُودِ، وَهِيَ تُوجَدُ فِي سَجْدَةٍ وَاحِدَةٍ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21] فِي مَعْرَضِ الذَّمِّ فَيَدُلُّ عَلَى طَلَبِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ الْقُرْآنَ فَإِذَا مَرَّ بِسُورَةٍ فِيهَا سَجْدَةٌ فَسَجَدَهَا سَجَدْنَا مَعَهُ» وَثَبَتَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «إذَا سَجَدَ الْإِنْسَانُ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي فَيَقُولُ: يَا وَيْلَتَاهُ أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْت أَنَا بِالسُّجُودِ فَأَبَيْت فَلِي النَّارُ» وَأَجْمَعُوا عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ عِنْدَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ وَلَوْ فِي حَالَةِ الصَّلَاةِ، وَإِنْ اسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ عَدَمَ كُفْرِ مَنْ أَنْكَرَ مَشْرُوعِيَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا عُلِمَ حُكْمُهُ بِالضَّرُورَةِ، إذْ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ الْإِجْمَاعِ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ وَصَيْرُورَتِهِ مَعْلُومًا لِلْخَاصِّ وَالْعَامِّ، وَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ الْقَارِئُ وَالْمُسْتَمِعُ وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُتَعَلِّمُ، أَمَّا الْقَارِئُ فَيَسْجُدُ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ مِنْ طَهَارَةِ حَدَثٍ وَخُبْثٍ وَسَتْرِ عَوْرَةٍ وَاسْتِقْبَالِ قِبْلَةٍ، وَفِي اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ نِزَاعٌ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ اشْتِرَاطُ الْبُلُوغِ. وَفِي شَرْحِ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ: اسْتِحْبَابُ سُجُودِ الصَّبِيِّ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِخِطَابِهِ بِمَا دُونَ الْوَاجِبَاتِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي سُجُودِ الْقَارِئِ صَلَاحِيَّتُهُ لِلْإِمَامَةِ فَيَسْجُدُ الْفَاسِقُ وَالْمَرْأَةُ، وَأَمَّا الْمُسْتَمِعُ فَيَسْجُدُ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ جَلَسَ لِيَتَعَلَّمَ الْقُرْآنَ أَوْ أَحْكَامَهُ فَلَا يَسْجُدُ الْجَالِسُ لِابْتِغَاءِ الثَّوَابِ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، كَمَا أَنَّ السَّامِعَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لَا يَسْجُدُ، وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْقَارِئُ الَّذِي جَلَسَ الْمُسْتَمِعُ لِيَسْمَعَ قُرْآنًا صَالِحًا لِلْإِمَامَةِ بِالْفِعْلِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُتَوَضِّئًا عَلَى مَا جَزَمَ بِهِ اللَّخْمِيُّ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ أَوْ يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا التَّقْيِيدِ أَنَّ الْمُسْتَمِعَ مِنْ الْعَاجِزِ يَسْجُدُ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْتَمِعُ قَادِرًا لِصَلَاحِيَّةِ الْعَاجِزِ عَنْ رُكْنٍ لِلْإِمَامَةِ لِمِثْلِهِ، وَيَقْتَضِي أَنَّ الْمُسْتَمِعَ الْمَكْرُوهَ الْإِمَامَةُ يَسْجُدُ، وَمِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ الْقَارِئُ جَلَسَ لِيُسْمِعَ النَّاسَ حُسْنَ قِرَاءَتِهِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ فَيَسْجُدُ الْمُسْتَمِعُ وَلَوْ تَرَكَ الْقَارِئُ السُّجُودَ، وَأَمَّا الْمُعَلِّمُ أَوْ الْمُتَعَلِّمُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُمَا يَسْجُدَانِ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ كَالْقَارِئِ، وَالْمُعَلِّمُ وَالْمُتَعَلِّمُ يَتَكَرَّرُ عَلَيْهِمَا مَحَلُّ السُّجُودِ فَيَسْجُدَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، 1 - وَلَمَّا وَقَعَ خِلَافٌ فِي عَدَدِ السَّجَدَاتِ، بَيَّنَ الْمَشْهُورِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَسَجَدَاتُ الْقُرْآنِ إحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً لَيْسَ فِي الْمُفَصَّلِ مِنْهَا شَيْءٌ) وَالْمُرَادُ بِالْمُفَصَّلِ مَا كَثُرَ تَفْصِيلُهُ بِالْبَسْمَلَةِ لِقِصَرِ سُوَرِهِ، وَأَوَّلُهُ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ الْحُجُرَاتِ إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَلَا يَسْجُدُ لِقِرَاءَةِ النَّجْمِ وَالِانْشِقَاقِ وَالْقَلَمِ. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا ثَانِيَةَ الْحَجِّ وَالنَّجْمِ وَالِانْشِقَاقِ وَالْقَلَمِ. (وَهِيَ) أَيْ الْإِحْدَى عَشْرَةَ سَجْدَةً (الْعَزَائِمُ) أَيْ الْأَوَامِرُ بِمَعْنَى الْمَأْمُورِ بِالسُّجُودِ عِنْدَ قِرَاءَتِهَا، هَكَذَا قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ، وَقَالَ زَرُّوقٌ: الْعَزَائِمُ جَمْعُ عَزِيمَةٍ وَهِيَ الْمُتَأَكِّدَةُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ بَيْنَ هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ فِي سُجُودِ غَيْرِهَا مِنْ ثَانِيَةِ الْحَجِّ وَالنَّجْمِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا لَا يَسْجُدُ لَهُ عَلَى الْمَشْهُودِ، فَعَلَى تَفْسِيرِ الْأَقْفَهْسِيِّ: إنْ سَجَدَ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ هَذِهِ فِي صَلَاتِهِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُقْتَدِيًا بِمَنْ يَسْجُدُ لَهَا، وَعَلَى تَفْسِيرِ زَرُّوقٍ لَا تَبْطُلُ، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ هَذِهِ التَّفْرِقَةِ، بَلْ الظَّاهِرُ الِاسْتِوَاءُ فِي الْحُكْمِ وَهُوَ بُطْلَانُ سُجُودِ السَّاجِدِ عَمْدًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُقْتَدِيًا بِمَنْ يَرَى السُّجُودَ عِنْدَهَا، وَيَظْهَرُ أَنَّ مَعْنَى الْعَزَائِمِ الْأُمُورُ الْمَطْلُوبَةُ لَا عَلَى وَجْهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَهُوَ آخِرُهَا فَمَنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَإِذَا سَجَدَهَا قَامَ فَقَرَأَ مِنْ الْأَنْفَالِ أَوْ مِنْ غَيْرِهَا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ وَفِي الرَّعْدِ عِنْدَ قَوْلِهِ {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وَفِي النَّحْلِ {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وَفِي بَنِي إسْرَائِيلَ {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] وَفِي مَرْيَمَ {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَفِي الْحَجِّ أَوَّلُهَا {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] وَفِي الْفُرْقَانِ {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] وَفِي الْهُدْهُدِ {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] وَفِي الم تَنْزِيلُ: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وَفِي ص {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] وَقِيلَ عِنْدَ قَوْلِهِ {لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] وَفِي حم تَنْزِيلُ {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] وَلَا يَسْجُدُ السَّجْدَةَ فِي التِّلَاوَةِ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ وَيُكَبِّرُ لَهَا   [الفواكه الدواني] الرُّخْصَةِ؛ لِأَنَّ الْعَزِيمَةَ مَا قَابَلَتْ الرُّخْصَةَ، كَقَصْرِ الصَّلَاةِ وَفِطْرِ الْمُسَافِرِ وَمَسْحِ الْخُفِّ، فَهَذِهِ الْأَفْعَالُ لَا يُقَالُ لَهَا عَزَائِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ رُخَصٌ جَمْعُ رُخْصَةٍ، وَسُمِّيَتْ بِالْعَزَائِمِ لِلْحَثِّ عَلَى فِعْلِهَا خَشْيَةَ تَرْكِهَا وَهُوَ مَكْرُوهٌ أُولَاهَا سَجْدَةٌ (فِي المص) الْأَعْرَافِ (عِنْدَ قَوْلِهِ) تَعَالَى: {وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ} [الأعراف: 206] وَهُوَ آخِرُهَا، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ وَهُوَ آخِرُهَا غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ فَمَا بَالُهُ نَصَّ عَلَيْهِ؟ فَالْجَوَابُ: نَصَّ إمَّا لِتَنْبِيهِ الْجَاهِلِ بِأَنَّهُ آخِرُهَا أَوْ لِيُفَرِّعَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (فَمَنْ كَانَ) فِي حَالِ قِرَاءَةِ تِلْكَ السُّورَةِ (فِي صَلَاةٍ) فَرِيضَةً أَوْ نَافِلَةً أَوْ قَرَأَ آيَةَ السَّجْدَةِ، وَلَوْ مَعَ تَعَمُّدِ قِرَاءَتِهَا فَإِنَّهُ يَسْجُدُهَا، وَإِنْ كُرِهَ تَعَمُّدُهَا بِالْفَرِيضَةِ، بَلْ وَإِنْ كَانَ فِي وَقْتِ نَهْيِ حُرْمَةٍ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْحَاجِّ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ كَسُجُودِ السَّهْوِ الْمُقْبِلِ (فَإِذَا سَجَدَهَا قَامَ فَقَرَأَ) نَدْبًا (مِنْ الْأَنْفَالِ أَوْ غَيْرِهَا مَا تَيَسَّرَ عَلَيْهِ، ثُمَّ رَكَعَ وَسَجَدَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ لِسَاجِدِ الْأَعْرَافِ قِرَاءَةٌ قَبْلَ رُكُوعِهِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ لَا يَكُونُ إلَّا عَقِبَ قِرَاءَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَخْتَصُّ هَذَا بِمَنْ قَرَأَ سَجْدَةَ الْأَعْرَافِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ سَجْدَةَ الْأَعْرَافِ قَدْ يُتَوَهَّمُ فِيهَا عَدَمُ جَوَازِ قِرَاءَةِ الْأَنْفَالِ أَوْ غَيْرِهَا، لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَعَدُّدِ السُّورَةِ فِي رَكْعَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي صَلَاةٍ: أَنَّهُ لَوْ قَرَأَ سَجْدَةَ الْأَعْرَافِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ كَالتَّالِي لِحِزْبِهِ مَثَلًا لَا يُسْتَحَبُّ لَهُ بَعْدَ السُّجُودِ أَنْ يَقْرَأَ مِنْ غَيْرِهَا إلَّا بِقَصْدِ التِّلَاوَةِ (وَ) ثَانِيَتُهَا: (فِي الرَّعْدِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [الرعد: 15] وَفِي هَذِهِ مَدَحَ السَّاجِدِينَ (وَ) ثَالِثَتُهَا: (فِي النَّحْلِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ} [النحل: 50] أَيْ عَذَابَ رَبِّهِمْ {مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] فَالْفَوْقِيَّةُ فَوْقِيَّةُ قَهْرٍ لِاسْتِحَالَةِ الْحِسِّيَّةِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. (وَ) رَابِعَتُهَا: (فِي بَنِي إسْرَائِيلَ) وَهِيَ سُورَةُ الْإِسْرَاءِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 109] وَفِي هَذِهِ أَيْضًا الْمَدْحُ لِلسَّاجِدِينَ (وَ) خَامِسَتُهَا: (فِي مَرْيَمَ) عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} [مريم: 58] وَفِيهِ مَدْحٌ لِلسَّاجِدِينَ أَيْضًا. (وَ) سَادِسَتُهَا: (فِي الْحَجِّ أَوَّلُهَا) بَدَلٌ مِنْ الْحَجِّ (عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18] فَفِيهِ ذَمٌّ لِمَنْ لَمْ يَسْجُدْ وَيُسْتَغْنَى عَنْ قَوْلِهِ أَوَّلُهَا بِذِكْرِ الْآيَةِ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذَكَرَهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الَّتِي فِي آخِرِ السُّورَةِ فَإِنَّهُ لَا يَسْجُدُ لَهَا عَلَى الْمَشْهُورِ كَمَا قَدَّمْنَا. (وَ) سَابِعَتُهَا: (فِي الْفُرْقَانِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا} [الفرقان: 60] وَفِيهِ ذَمٌّ لِلتَّارِكِينَ. (وَ) ثَامِنَتُهَا: (فِي) سُورَةِ (الْهُدْهُدِ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [النمل: 26] وَفِيهِ تَوْحِيدٌ لِلْبَارِّي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (وَ) تَاسِعَتُهَا: (فِي الم تَنْزِيلُ) السَّجْدَةِ (عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15] وَفِيهِ مَدْحٌ لِلسَّاجِدِينَ. (وَ) عَاشِرَتُهَا: (فِي ص عِنْدَ قَوْلِهِ: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: 24] عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى: {فَغَفَرْنَا لَهُ} [ص: 25] كَالْجَزَاءِ عَلَى السُّجُودِ، وَهَلْ يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ السُّجُودِ لِتَقَدُّمِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ؟ (وَقِيلَ) مَحَلُّهُ (عِنْدَ قَوْلِهِ) تَعَالَى: {لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} [ص: 25] وَفِيهِ مَدْحٌ أَيْضًا. (وَ) حَادِي عَشْرَتَهَا: (فِي حم تَنْزِيلُ) فُصِّلَتْ (عِنْدَ قَوْله تَعَالَى: {وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] عَلَى الْمُعْتَمَدِ الَّذِي ارْتَضَاهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَصَادَ وَأَنَابَ وَفُصِّلَتْ تَعْبُدُونَ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمَا رُوِيَ مِنْ السُّجُودِ لِغَيْرِ هَذِهِ الْإِحْدَى عَشْرَةَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّسْخِ عِنْدَ مَالِكٍ، وَاَلَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْإِحْدَى عَشْرَةَ الْمَذْكُورَةَ، وَإِنْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - سَجَدَ عِنْدَ قَوْله تَعَالَى فِي النَّجْمِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] وَأَنَّهَا أَوَّلُ سَجْدَةٍ أَعْلَنَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَرَمِ وَسَجَدَ مَعَهُ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ سِوَى أَبِي لَهَبٍ فَإِنَّهُ رَفَعَ حَفْنَةً مِنْ تُرَابٍ إلَى جَبْهَتِهِ وَقَالَ: يَكْفِي هَذَا، فَإِنَّهُ نُسِخَ بِدَلِيلِ إجْمَاعِ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ وَقُرَّائِهَا عَلَى تَرْكِ السُّجُودِ فِيهَا مَعَ تَكَرُّرِ الْقِرَاءَةِ فِيهَا لَيْلًا وَنَهَارًا أَوْ لَا يَجْمَعُونَ عَلَى تَرْكِ سُنَّةٍ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى شَرْطِ السُّجُودِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَسْجُدُ) مَنْ يُؤْمَرُ بِالسُّجُودِ (السَّجْدَةَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وَلَا يُسَلِّمُ مِنْهَا وَفِي التَّكْبِيرِ فِي الرَّفْعِ مِنْهَا سَعَةٌ، وَإِنْ كَبَّرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا وَيَسْجُدُهَا مَنْ قَرَأَهَا فِي الْفَرِيضَةِ وَالنَّافِلَةِ   [الفواكه الدواني] التِّلَاوَةِ إلَّا عَلَى وُضُوءٍ) أَوْ بَدَلِهِ مَعَ بَقِيَّةِ شُرُوطِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّلَاةِ، وَالطَّهَارَةُ شَرْطٌ فِي صِحَّةِ مُطْلَقِ الصَّلَاةِ، وَتَبْطُلُ بِدُونِهَا وَلَوْ مَعَ الْعَجْزِ أَوْ النِّسْيَانِ، فَإِنْ قَرَأَ سُورَةَ السَّجْدَةِ فِي وَقْتِ نَهْيٍ أَوْ عَلَى غَيْرِ وُضُوءٍ، فَهَلْ يَحْذِفُ مَوْضِعَ السُّجُودِ خَاصَّةً كَ يَشَاءُ فِي الْحَجِّ، وَكَالْعَظِيمِ فِي النَّمْلِ، أَوْ يَحْذِفُ الْآيَةَ جُمْلَةً تَأْوِيلَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِالْعِطْفِ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَإِلَّا فَهَلْ يُجَاوِزُ مَحَلَّهَا أَوْ الْآيَةَ تَأْوِيلَانِ. (وَ) صِفَةُ فِعْلِ السَّجْدَةِ أَنْ (يُكَبِّرَ لَهَا) عِنْدَ الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَبِّرْ لِخَفْضٍ وَرَفْعٍ وَلَوْ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُكَبِّرُ إذَا سَجَدَهَا وَإِذَا رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْهَا، وَهَذَا فِي الصَّلَاةِ اتِّفَاقًا، وَفِي غَيْرِهَا فِيهِ خِلَافٌ، وَاَلَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ التَّكْبِيرُ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَيْضًا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ حُكْمَ تَكْبِيرِهَا كَتَكْبِيرِ الصَّلَوَاتِ السُّنِّيَّةِ، وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ إنَّهُ لَا إحْرَامَ لَهَا، وَإِنَّمَا يُكَبِّرُ عِنْدَ خَفْضِهِ وَرَفْعِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: سَجَدَ بِشَرْطِ الصَّلَاةِ بِلَا إحْرَامٍ، وَسَلَامُ قَارِئٍ وَمُسْتَمِعٍ فَقَطْ وَمُعَلِّمٍ وَمُتَعَلِّمٍ، وَمُرَادُ خَلِيلٍ بِقَوْلِهِ: بِلَا إحْرَامٍ أَيْ زَائِدٍ مَعَ تَكْبِيرِ الْخَفْضِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَنْوِي فِعْلَ السَّجْدَةِ عِنْدَ خَفْضِهِ لِأَنَّهَا عَمَلٌ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَمَنْ قَالَ بِلَا إحْرَامٍ وَلَا نِيَّةٍ لَا يَظْهَرُ كَلَامُهُ، بَلْ الْمَنْفِيُّ الْإِحْرَامُ الْمَعْرُوفُ بِالنِّيَّةِ مَعَ رَفْعِ يَدَيْنِ وَتَكْبِيرَةٍ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّةِ فِعْلِهَا. (وَ) إذَا كَبَّرَ عِنْدَ فِعْلِ السَّجْدَةِ فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ (لَا يُسَلِّمُ مِنْهَا) بَلْ يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْخُرُوجَ مِنْ الْخِلَافِ فَلَا يُكْرَهُ. قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: وَفِي النَّفْسِ مِنْ عَدَمِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ شَيْءٌ، وَلَمَّا قَدَّمَ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ طَلَبُ التَّكْبِيرِ ذَكَرَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَفِي التَّكْبِيرِ فِي) حَالِ (الرَّفْعِ مِنْهَا سَعَةٌ وَإِنْ كَبَّرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا) يُحْتَمَلُ أَنَّ هَذِهِ إشَارَةٌ إلَى أَحَدِ الْأَقْوَالِ، وَهُوَ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِي التَّكْبِيرِ وَعَدَمِهِ، وَقَوْلُهُ: وَإِنْ كَبَّرَ فَهُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا اخْتِيَارٌ مِنْهُ لِلْمَشْهُورِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ تَكْبِيرِهِ لِلْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَإِنْ نَسَبَ غَيْرَهُ مَالِكٌ أَيْضًا. 1 - (تَتِمَّةٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِمَا يَقُولُهُ السَّاجِدُ فِي حَالِ سُجُودِهِ، وَلْنَذْكُرْهُ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ فَنَقُولُ: قَالَ ابْنُ جُزَيٍّ فِي قَوَانِينِهِ: وَيُسَبِّحُ السَّاجِدُ فِي سُجُودِهِ أَوْ يَدْعُو، فَقَدْ رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَجَدَ وَكَانَ يَدْعُو بِهَذَا الدُّعَاءِ: اللَّهُمَّ اُكْتُبْ لِي بِهَا عِنْدَك أَجْرًا، وَضَعْ عَنِّي بِهَا وِزْرًا، وَاجْعَلْهَا لِي عِنْدَك ذُخْرًا وَتَقَبَّلْهَا مِنِّي كَمَا تَقَبَّلْتهَا مِنْ عَبْدِك دَاوُد - عَلَيْهِ السَّلَامُ -» وَالضَّمِيرُ فِي تَقَبَّلْتهَا رَاجِعٌ لِمُطْلَقِ السَّجْدَةِ لَا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ؛ لِأَنَّ سَجْدَةَ دَاوُد لَمْ تَكُنْ سَجْدَةَ تِلَاوَةٍ كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ. وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ السَّجْدَةِ مَطْلُوبًا حَتَّى فِي الصَّلَاةِ قَالَ: (وَيَسْجُدُهَا) أَيْ سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ كُلُّ (مَنْ قَرَأَهَا) وَلَوْ كَانَ (فِي الْفَرِيضَةِ) فَذًّا كَانَ أَوْ إمَامًا، لَكِنْ يُطْلَبُ مِنْهُ الْجَهْرُ بِهَا فِي الصَّلَاةِ السِّرِّيَّةِ لِيُعْلِمَ النَّاسَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَهَرَ إمَامُ السِّرِّيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَجْهَرْ وَسَجَدَ تَبِعَهُ مَأْمُومُهُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ السَّهْوِ، فَإِنْ لَمْ يَتْبَعْهُ الْمَأْمُومُ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَيَسْجُدُهَا مَنْ قَرَأَهَا فِي الْفَرِيضَةِ، وَلَوْ تَعَمَّدَ قِرَاءَتَهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُؤْمَرُ بِسُجُودِهَا وَإِنْ كُرِهَ لَهُ تَعَمُّدُ قِرَاءَتِهَا فِي الْفَرِيضَةِ، وَيَسْجُدُهَا فِي الصَّلَاةِ وَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ لَا تَحِلُّ فِيهِ النَّافِلَةُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (وَ) كَذَا يَسْجُدُهَا مَنْ قَرَأَهَا فِي صَلَاةِ (النَّافِلَةِ) بِالْأَوْلَى مِنْ سُجُودِهَا فِي صَلَاةِ الْفَرِيضَةِ لِعَدَمِ كَرَاهَةِ تَعَمُّدِ قِرَاءَتِهَا فِي النَّافِلَةِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ تَعَمُّدُهَا بِالْفَرِيضَةِ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَسْجُدْ يَدْخُلْ فِي الْوَعِيدِ، وَإِنْ سَجَدَ يَزِيدُ فِي سُجُودِ الْفَرِيضَةِ، عَلَى أَنَّهُ رُبَّمَا يُؤَدِّي إلَى التَّخْلِيطِ عَلَى الْمَأْمُومِينَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ فَرِيضَةٍ وَنَافِلَةٍ أَنَّهُ لَوْ قَرَأَهَا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ لَا يَسْجُدُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِخْلَالِ بِنِظَامِ الْخُطْبَةِ، وَحُكْمُ الْإِقْدَامِ عَلَى قِرَاءَتِهَا فِيهَا الْكَرَاهَةُ كَمَا يُكْرَهُ تَعَمُّدُهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَإِنْ وَقَعَ أَنَّهُ سَجَدَ فِي الْخُطْبَةِ لَمْ تَبْطُلْ، وَإِنْ نَهَى عَنْ السُّجُودِ فِيهَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ نُزُولِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَسُجُودِهِ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلٌ وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى نَسْخِهِ. 1 - الثَّانِي: لَوْ سَهَا الْمُصَلِّي عَنْ السُّجُودِ عَقِبَ قِرَاءَتِهَا، فَإِنْ كَانَ التَّجَاوُزُ يَسِيرًا كَالْآيَةِ وَنَحْوِهَا سَجَدَ مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ قِرَاءَتِهَا وَلَوْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةِ، وَإِنْ جَاوَزَهَا بِكَثِيرٍ رَجَعَ إلَيْهَا فَقَرَأَهَا ثُمَّ سَجَدَ وَرَجَعَ إلَى حَيْثُ انْتَهَى مِنْ الْقِرَاءَةِ، وَسَوَاءٌ مَنْ فِي صَلَاةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لَكِنْ مَنْ فِي صَلَاةٍ يَعُودُ لِقِرَاءَتِهَا وَلَوْ فِي الْفَرْضِ مَا لَمْ يَنْحَنِ، فَإِذَا انْحَنَى لِلرُّكُوعِ لَا يَرْجِعُ مِنْهُ وَتَفُوتُ السَّجْدَةُ فِي الْفَرْضِ وَلَا يَقْرَؤُهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ لِكَرَاهَةِ تَعَمُّدِهَا بِالْفَرِيضَةِ، وَيُسْتَحَبُّ فِي صَلَاةِ النَّفْلِ فِعْلُهَا فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ يَسْجُدُهَا قَبْلَ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فَتُقَدَّمُ بِسَبَبِهَا، أَوْ بَعْدَ قِرَاءَتِهَا ثُمَّ يَقُومُ بَعْدَ السُّجُودِ يَقْرَأُ السُّورَةَ قَوْلَانِ. 1 - الثَّالِثُ: إذَا كَانَ الْقَارِئُ لِلسَّجْدَةِ إمَامًا وَتَرَكَهَا فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يَتْرُكُهَا وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ السُّجُودِ، وَلَوْ تَرَكَ الْقَارِئُ هَذَا فِي الْمُسْتَمِعِ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَإِنْ سَجَدَهَا الْمَأْمُومُ دُونَ إمَامِهِ فَإِنْ كَانَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَأَمَّا سَهْوًا فَلَا، لِحَمْلِ الْإِمَامِ لِسَهْوِهِ الْيَسِيرِ، كَمَا أَنَّهُ لَا تَبْطُلُ صَلَاةُ الْمَأْمُومِ بِتَرْكِ السُّجُودِ خَلْفَ إمَامِهِ السَّاجِدِ وَلَوْ عَمْدًا فِي الْإِحْدَى عَشْرَةَ الْمَشْهُورَةِ، وَلَكِنَّهُ أَسَاءَ بِعَدَمِ تَبَعِيَّتِهِ الْإِمَامَ، وَلَمَّا كَانَ الْقَارِئُ يَسْجُدُهَا فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَيَسْجُدُهَا مَنْ قَرَأَهَا بَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ يُسْفِرْ وَبَعْدَ الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ.   [الفواكه الدواني] الصَّلَاةِ، وَلَوْ فِي وَقْتِ النَّهْيِ؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ. شَرَعَ فِي وَقْتِ سُجُودِهَا لِغَيْرِ الْمُصَلِّي بِقَوْلِهِ: (وَيَسْجُدُهَا مَنْ قَرَأَهَا) فِي غَيْرِ صَلَاةٍ وَلَوْ (بَعْدَ الصُّبْحِ مَا لَمْ تُسْفِرْ الشَّمْسُ) أَيْ يَظْهَرُ الضَّوْءُ، وَتُسْفِرُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الْإِسْفَارِ وَهُوَ الضَّوْءُ. (وَ) سَجَدَهَا (بَعْدَ) أَدَاءِ فَرْضِ (الْعَصْرِ مَا لَمْ تَصْفَرَّ الشَّمْسُ) عَلَى الْجُدْرَانِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ جِنَازَةٌ وَسُجُودُ تِلَاوَةٍ قَبْلَ إسْفَارٍ وَاصْفِرَارٍ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يَسْجُدُهَا بَعْدَ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ مَا لَمْ يَحْصُلْ إسْفَارٌ وَاصْفِرَارٌ؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فَفَارَقَتْ النَّوَافِلَ الْمَحْضَةَ، وَمِثْلُهَا صَلَاةُ الْجِنَازَةِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ خَلِيلٍ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَتُفْعَلُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ مَا عَدَا وَقْتَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُتَّفَقٌ عَلَى الْمَنْعِ فِيهِ، وَهُوَ إذَا اصْفَرَّتْ الشَّمْسُ بَعْدَ الْعَصْرِ حَتَّى تَغْرُبَ، وَبَعْدَ الْإِسْفَارِ إلَى أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ وَتَرْتَفِعَ قَيْدَ رُمْحٍ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَالْعَصْرِ، وَالْمَشْهُورُ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْجَوَازِ قَبْلَ الِاصْفِرَارِ اهـ كَلَامُ الْفَاكِهَانِيِّ، وَفِي قَوْلِهِ: الْمُتَّفَقُ عَلَى الْمَنْعِ فِيهِ إلَخْ تَأَمَّلْ، إذْ الْمَمْنُوعُ عَلَى الْمَشْهُورِ إنَّمَا هُوَ عِنْدَ الْغُرُوبِ أَوْ الطُّلُوعِ، وَأَمَّا عِنْدَ الِاصْفِرَارِ أَوْ الْإِسْفَارِ فَالْحُكْمُ الْكَرَاهَةُ كَمَا هُوَ صَرِيحُ عِبَارَةِ خَلِيلٍ فَافْهَمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرَادُ الْفَاكِهَانِيِّ الْمَنْعَ مَا قَابَلَ الْجَوَازَ فَلَا يُنَافِي الْكَرَاهَةَ فِي الْإِسْفَارِ. 1 - (تَتِمَّةٌ) : قَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّ الْمُعَلِّمَ وَالْمُتَعَلِّمَ يُخَاطَبَانِ بِالسُّجُودِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَخْرُجَانِ عَنْ الْقَارِئِ وَالْمُسْتَمِعِ، وَلَكِنْ قَدْ يَقْرَأُ الْقَارِئُ الْمُتَعَلِّمُ عَلَى الْمُعَلِّمِ سُوَرًا كَثِيرَةً فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي سُجُودِهِ مَرَّةً أَوْ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ السُّوَرِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهُ أَنَّهُمَا يَسْجُدَانِ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَلَوْ كَرَّرَ الْمُتَعَلِّمُ سُوَرًا، وَأَمَّا لَوْ تَعَدَّدَ الْمُتَعَلِّمُ وَالْمُعَلَّمُ وَاحِدٌ فَلَا إشْكَالَ فِي سُجُودِ جَمِيعِ الْمُتَعَلِّمِينَ كُلُّ وَاحِدٍ سَجْدَةً؛ لِأَنَّ سُجُودَ زَيْدٍ لَا يُغْنِي عَنْ سُجُودِ عَمْرٍو، وَأَمَّا الْمُعَلِّمُ فَإِنَّهُ يَسْجُدُ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ الْأَوَّلِ حَيْثُ قَرَأَ مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ السُّورَةَ الَّتِي قَرَأَهَا الْأَوَّلُ، وَإِنْ قَرَأَ الثَّانِي غَيْرَ سُورَةِ الْمُتَعَلِّمِ الْأَوَّلِ فَفِي سُجُودِ الْمُعَلِّمِ مَعَ الثَّانِي خِلَافٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُعَلِّمِ وَالْمُتَعَلِّمِ مِمَّنْ لَهُ حِزْبٌ يَقْرَؤُهُ كُلَّ لَيْلَةٍ مَثَلًا فَقَالَ الْمَازِرِيُّ: فِيهِ أَصْلُ الْمَذْهَبِ تَكْرِيرُ السُّجُودِ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالْحِزْبِ الْوَرْدُ الَّذِي اعْتَادَ قِرَاءَتَهُ لَا الْحِزْبُ الْمَعْرُوفُ الَّذِي هُوَ مِنْ تَجْزِئَةِ سِتِّينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 بَابٌ فِي صَلَاةِ السَّفَرِ وَمَنْ سَافَرَ مَسَافَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصُرَ الصَّلَاةَ فَيُصَلِّيهَا رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَلَا يَقْصُرُهَا وَلَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَ بُيُوتَ الْمِصْرِ وَتَصِيرَ خَلْفَهُ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا بِحِذَائِهِ مِنْهَا شَيْءٌ ثُمَّ لَا يُتِمُّ حَتَّى يَرْجِعَ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي صَلَاة السَّفَر] (بَابٌ فِي) صِفَةِ (صَلَاةِ) الْفَرْضِ فِي زَمَنِ (السَّفَرِ) لِأَنَّ السَّفَرَ لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا قَطْعُ مَسَافَةٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ لِقَصْدٍ شَرْعِيٍّ، فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ سَفَرًا مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ السَّفَرِ وَهُوَ الظُّهُورُ وَالْكَشْفُ، يُقَالُ: أَسْفَرَتْ الْمَرْأَةُ عَنْ وَجْهِهَا إذَا كَشَفَتْهُ وَأَظْهَرَتْهُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يُسْفِرُ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَيَكْشِفُهَا، قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُزَكِّيَ رَجُلًا عِنْدَهُ: هَلْ سَافَرْت مَعَهُ؟ وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ الْمَسَافَةِ الْمَخْصُوصَةِ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ سَافَرَ) أَيْ شَرَعَ فِي سَفَرٍ (مَسَافَةَ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ) ذَهَابًا مَقْصُودًا قَطَعَهَا دَفْعَةً وَاحِدَةً وَلَوْ قَطَعَهَا فِي أَقَلَّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِنَحْوِ طَيَرَانٍ؛ لِأَنَّ النَّظَرَ فِي الشَّرْعِ لِلْمَسَافَةِ، وَالْبُرُدُ بِضَمِّ الْبَاءِ جَمْعُ بَرِيدٍ وَقَدْرُهُ أَرْبَعَةُ فَرَاسِخَ، وَالْفَرْسَخُ ثَلَاثَةُ أَمْيَالٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَهِيَ) أَيْ الْأَرْبَعَةُ بُرُدٌ (ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ مِيلًا) هَاشِمِيَّةٌ سَوَاءٌ كَانَتْ فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ أَوْ بَعْضُهَا فِي الْبَرِّ وَالْبَعْضُ الْآخَرُ فِي الْبَحْرِ، سَوَاءٌ تَقَدَّمَ الْبَرُّ أَوْ الْبَحْرُ، وَلِلْبَعْضِ تَفْصِيلٌ اُنْظُرْهُ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِ الْمِيلِ فَقِيلَ أَلْفًا ذِرَاع وَشَهَرَهُ بَعْضُهُمْ. وَقِيلَ ثَلَاثَةُ آلَافِ ذِرَاعٍ وَخَمْسُمِائَةِ ذِرَاعٍ وَصَحَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، وَالذِّرَاعُ مَا بَيْنَ طَرَفَيْ الْمِرْفَقِ إلَى آخِرِ الْأُصْبُعِ الْمُتَوَسِّطِ وَهُوَ سِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ أُصْبُعًا كُلُّ أُصْبُعٍ سِتُّ شُعَيْرَاتٍ بَطْنُ إحْدَاهُمَا إلَى ظَهْرِ الْأُخْرَى كُلُّ شَعِيرَةٍ سِتُّ شَعَرَاتٍ مِنْ شَعْرِ الْبِرْذَوْنِ، وَهَذَا بَيَانٌ لِأَقَلِّ الْمَسَافَةِ الَّتِي تُقْصَرُ فِيهَا الصَّلَاةُ وَحَدُّهَا بِالزَّمَانِ سَفَرُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بِسَيْرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمُثْقَلَةِ بِالْأَحْمَالِ الْمُعْتَادَةِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ الْمَشْهُورُ، وَعَنْ الْإِمَامِ أَيْضًا أَنَّهُ يَقْصُرُ فِي خَمْسَةٍ وَأَرْبَعِينَ مِيلًا، وَقَالَ ابْنُ الْمَاجِشُونِ: يَقْصُرُ فِي أَرْبَعِينَ، وَجَوَابُ مَنْ سَافَرَ إلَخْ (فَعَلَيْهِ أَنْ يَقْصُرَ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَضَمِّ الصَّادِ (الصَّلَاةَ) الرُّبَاعِيَّةَ الْوَقْتِيَّةَ أَوْ الْفَائِتَةَ فِيهِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ فَعَلَيْهِ الْمُتَأَكَّدُ لَا الْوُجُوبُ الْحَقِيقِيُّ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ فَإِنَّ ابْنَ رُشْدٍ أَنْكَرَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ لِمُسَافِرٍ غَيْرِ عَاصٍ بِهِ وَلَاهٍ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ وَلَوْ بِبَحْرٍ ذَهَابًا قُصِدَتْ دَفْعَةً قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ وَقْتِيَّةٍ أَوْ فَائِتَةٍ فِيهِ أَوْ نُوتِيًّا بِأَهْلِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السُّنِّيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فِي الْقَصْرِ صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللَّهُ بِهَا عَلَيْكُمْ فَاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا سَافَرُوا قَصَرُوا» ثُمَّ فَسَّرَ الْقَصْرَ بِقَوْلِهِ: (فَيُصَلِّي) الرُّبَاعِيَّةَ الْحَاضِرَةَ أَوْ الْفَائِتَةَ فِي السَّفَرِ (رَكْعَتَيْنِ إلَّا الْمَغْرِبَ فَلَا يَقْصُرُهَا) ؛ لِأَنَّهَا لَوْ قُصِرَتْ صَارَتْ رَكْعَةً وَنِصْفًا وَلَمْ يُعْهَدْ فِي الشَّرْعِ. ، وَإِنْ كَمُلَتْ كَتَكْمِيلِ طَلْقَةِ الْعَبْدِ صَارَتْ شَفْعًا فَيَفُوتُ غَرَضُ الشَّارِعِ مِنْ جَعْلِهَا وِتْرًا، وَمَفْهُومُ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ أَنَّ مَنْ سَافَرَ أَقَلَّ مِنْهَا لَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِ الْقَصْرُ، وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ فِي مَفْهُومِهِ تَفْصِيلٌ مُحَصِّلُهُ أَنَّ نَحْوَ الْمَكِّيِّ وَالْمَنْوِيِّ وَالْمُزْدَلِفِيِّ يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ قَصْرُ الصَّلَاةِ فِي حَالِ خُرُوجِهِمْ لِعَرَفَةَ لِلنُّسُكِ فَقَطْ وَرُجُوعِهِمْ مِنْهَا، وَأَمَّا غَيْرُ هَؤُلَاءِ فَلَا يُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ الْقَصْرُ فِي أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ، وَلَكِنْ إنْ قَصَرَ فِي خَمْسَةٍ وَثَلَاثِينَ مِيلًا فَأَقَلَّ لَمْ تَصِحَّ صَلَاتُهُ وَتُعَادُ أَبَدًا، وَإِنْ قَصَرَ فِي أَرْبَعِينَ مِيلًا فَصَحِيحَةٌ وَلَا تُعَادُ وَلَا فِي الْوَقْتِ، وَإِذَا قَصَرَ فِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعِينَ وَالْخَمْسَةِ وَثَلَاثِينَ فَفِي إعَادَتِهِ فِي الْوَقْتِ وَعَدَمِهَا قَوْلَانِ هَكَذَا فَصَّلَ ابْنُ رُشْدٍ. وَفِي التَّوْضِيحِ: أَنَّ مَنْ قَصَرَ فِي سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ يُعِيدُ أَبَدًا وَلَعَلَّهُ طَرِيقَةٌ لِغَيْرِ ابْنِ رُشْدٍ وَتَفْصِيلُ ابْنِ رُشْدٍ فِي الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ فَلَا يَجُوزُ إلَّا لِمَنْ سَافَرَ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَلَعَلَّ الْفَرْقَ مَشَقَّةُ الصَّلَاةِ بِتَكَرُّرِهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ. (تَنْبِيهٌ) : مَنْ سَافَرَ وَبِهِ مَانِعٌ كَحَيْضٍ أَوْ كُفْرٍ ثُمَّ زَالَ فِي أَثْنَاءِ الْمَسَافَةِ انْتَظَرَ مَا بَقِيَ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ قَصَرَ وَإِلَّا فَلَا، قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَغَيْرُهُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَبْدَأَ الْقَصْرِ بِقَوْلِهِ (وَلَا يَقْصُرُ) أَيْ لَا يَصِحُّ قَصْرُ الْمُسَافِرِ (حَتَّى يُجَاوِزَ) أَيْ يَتَعَدَّى (الْبَلَدِيُّ بُيُوتَ الْمِصْرِ وَتَصِيرَ خَلْفَهُ لَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَا بِحِذَائِهِ مِنْهَا شَيْءٌ) قَالَ خَلِيلٌ: إنْ عَدَّى الْبَلَدِيُّ الْبَسَاتِينَ الْمَسْكُونَةَ الْمُتَّصِلَةَ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا كَالْبَسَاتِينِ الَّتِي يَرْتَفِقُ أَهْلُهَا وَمَسَاكِنُهَا بِمَرَافِقَ الْمُتَّصِلَةِ مِنْ أَخْذِ نَارٍ وَطَبْخٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 إلَيْهَا أَوْ يُقَارِبَهَا بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِمَوْضِعٍ أَوْ مَا يُصَلِّي فِيهِ عِشْرِينَ صَلَاةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ   [الفواكه الدواني] وَخُبْزٍ وَمَا يُحْتَاجُ إلَى شِرَائِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَسْكُونَةِ مَا تُسْكَنُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، لِأَنَّ اعْتِبَارَ مُجَاوَزَتِهَا أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ الْبِنَاءِ الْخَرَابِ الْخَالِي مِنْ السُّكَّانِ فَإِنَّهُ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَهُ، وَمِثْلُ الْبَسَاتِينَ فِي اعْتِبَارِ الْمُجَاوَزَةِ الْقَرْيَتَانِ إذَا اتَّصَلَتَا أَوْ اشْتَدَّ قُرْبُهُمَا بِحَيْثُ يَرْتَفِقُ أَهْلُ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِأَهْلِ الْأُخْرَى فَلَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ مِنْ إحْدَاهُمَا حَتَّى يُجَاوِزَ الْأُخْرَى وَيَنْفَصِلَ عَنْ الْقَرْيَتَيْنِ، لَا إنْ بَعُدَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ الْأُخْرَى أَوْ كَانَ بَيْنَهُمَا عَدَاوَةٌ بِحَيْثُ لَا يَرْتَفِقُ أَهْلُ إحْدَاهُمَا بِالْأُخْرَى فَلَا يُعْتَبَرُ فِي قَصْرِ الْمُسَافِرِ مِنْ إحْدَاهُمَا مُجَاوَزَةُ الْأُخْرَى، وَأَمَّا الْمَزَارِعُ وَالْبَسَاتِينُ الْمُنْفَصِلَةُ حَقِيقَةً وَحُكْمًا فَلَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَانَتْ بَلَدَ جُمُعَةٍ أَوْ غَيْرَهَا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَرَوَى مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنْ كَانَتْ قَرْيَةَ جُمُعَةٍ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَ ثَلَاثَةَ أَمْيَالٍ مِنْ سُورِ الْبَلَدِ وَإِلَّا فَمِنْ آخِرِ بُنْيَانِهَا وَوَجْهُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ الْجُمُعَةَ كَمَا تَلْزَمُ مَنْ كَانَ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَمْيَالٍ، فَكَذَلِكَ لَا يَقْصُرُ حَتَّى يُجَاوِزَهَا؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ فِي الزَّائِدِ عَلَى الْبَسَاتِينِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى اعْتِبَارِ مُجَاوَزَةِ الْبَسَاتِين، وَأَمَّا الْقَرْيَةُ الَّتِي لَا بَسَاتِينَ لَهَا فَيَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ بِنَائِهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَةُ غَيْطِهَا وَمَزَارِعِهَا، وَالْجَبَلِيُّ يَقْصُرُ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ، وَالْعَمُودِيُّ بِمُجَاوَزَتِهِ مَحَلَّتَهُ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَنْزِلُ إقَامَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ تَفَرَّقَتْ بُيُوتُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ مُجَاوَزَةِ الْجَمِيعِ حَيْثُ جَمَعَهُمْ اسْمُ الْحَيِّ وَالدَّارِ، أَوْ اسْمُ الدَّارِ فَقَطْ، أَوْ اسْمُ الْحَيِّ حَيْثُ كَانَ يَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَإِلَّا قَصَرَ بِمُجَرَّدِ انْفِصَالِهِ عَنْ مَنْزِلِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: بَقِيَ مِنْ شُرُوطِ الْقَصْرِ قَصْدُ قَطْعِ الْمَسَافَةِ دَفْعَةً وَاحِدَةً كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي الْمَزْحِ، لَا إنْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ فِي خِلَالِهِمَا أَوْ لَا نِيَّةَ لَهُ بِقَطْعٍ وَلَا إقَامَةٍ فَلَا يَقْصُرُ، وَلِذَلِكَ لَا يَقْصُرُ الرَّاعِي وَلَا التَّائِهُ وَلَا الْهَائِمُ، وَمِنْ الشُّرُوطِ كَوْنُ السَّفَرِ غَيْرَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ، فَلَا يَقْصُرُ الْعَاصِي وَلَا اللَّاهِي، فَإِنْ قَصَرَ فَعِنْدَ ابْنِ نَاجِي أَسَاءَ وَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَقَالَ اللَّقَانِيُّ. إنْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ يُعِيدُ أَبَدًا، وَإِنْ كَانَ سَفَرُهُ مَكْرُوهًا يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ. وَأَمَّا الْعَاصِي فِي سَفَرِهِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ قَصْرِهِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَعْدِلَ عَنْ مَسَافَةٍ قَصِيرَةٍ إلَى طَوِيلَةٍ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَيْضًا أَنْ لَا يَقْتَدِيَ بِمُقِيمٍ أَدْرَكَ مَعَهُ رَكْعَةً فَأَكْثَرَ وَإِلَّا امْتَنَعَ، وَلَيْسَ مِنْ الشُّرُوطِ الْبُلُوغُ عَلَى مَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ عَلَى التَّصْرِيحِ بِاشْتِرَاطِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْبَحْثُ لِبَعْضِ الشُّيُوخِ فِي ذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ جَوَازُ الْقَصْرِ حَتَّى لِلصِّبْيَانِ؛ لِأَنَّ رُخْصَتَهُ شُرِعَتْ لِلتَّخْفِيفِ عَنْ الْمُسَافِرِ، وَالصَّبِيُّ الْمُسَافِرُ أَوْلَى بِالتَّخْفِيفِ مِنْ الْبَالِغِ، وَأَيْضًا الرُّبَاعِيَّةُ فَرْضٌ عَلَى الْبَالِغِ وَحُطَّ عَنْهُ شَطْرُهَا، وَمَنْدُوبَةٌ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ، فَكَيْفَ يُحَطُّ شَطْرُ الْوَاجِبِ دُونَ الْمَنْدُوبِ؟ وَأَيْضًا قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَأُلْحِقَ خِطَابُ الصِّبْيَانِ بِغَيْرِ الْفَرَائِضِ وَالْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ قِيلَ: الرُّخْصَةُ مُخْتَصَّةٌ بِالْبَالِغِ، نَقُولُ: يَرُدُّهُ إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ فَإِنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ بِحُرْمَتِهَا عَلَى الصَّغِيرِ الْمُضْطَرِّ وَحُرِّرَ الْحُكْمُ. الثَّانِي: حُكْمُ السَّفَرِ الْإِبَاحَةُ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَالسَّفَرِ لِحُجَّةِ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُسْتَطِيعِ، وَكَسَفَرِ الْغَزْوِ فِي حَقِّ الذَّكَرِ الْقَادِرِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدْبُ كَالسَّفَرِ لِزِيَارَةِ صَالِحٍ أَوْ طَلَبِ عِلْمٍ غَيْرِ وَاجِبٍ، وَقَدْ تَعْرِضُ لَهُ الْحُرْمَةُ كَالسَّفَرِ لِقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَقَدْ تَعْرِضُ كَرَاهِيَةٌ كَالسَّفَرِ لِصَيْدِ اللَّهْوِ وَالْإِبَاحَةُ كَالسَّفَرِ لِتَحْصِيلِ الرِّبْحِ لِتَكْثِيرِ الْأَمْوَالِ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ قُرْبَةٍ بِهِ، وَهَذِهِ الْأَقْسَامُ فِي سَفَرِ الطَّلَبِ، وَأَمَّا سَفَرُ الْهَرَبِ كَالسَّفَرِ مِنْ الْبَلَدِ الَّذِي يَكْثُرُ فِيهِ الْحَرَامُ بِحَيْثُ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ السَّاكِنُ، وَكَالسَّفَرِ مِنْ بَلَدٍ يَحْصُلُ لَهُ فِيهِ الْإِهَانَةُ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ ذَوِي الْفَضْلِ أَوْ تُسَبُّ فِيهِ الصَّحَابَةَ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ فَحُكْمُهُ الْوُجُوبُ. وَلَمَّا بَيَّنَ مَحَلَّ بَدْءِ الْقَصْرِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُنْتَهَاهُ فِي الرُّجُوعِ فَقَالَ: (ثُمَّ) بَعْدَ مُجَاوَزَةِ مَا يُشْتَرَطُ مُجَاوَزَتُهُ مِنْ بَسَاتِينِ الْمِصْرِ وَمَا فِي حُكْمِهَا يَسْتَمِرُّ يَقْصُرُ وَ (لَا يُتِمُّ حَتَّى يَرْجِعَ إلَيْهَا) أَيْ فِي بُيُوتِ الْمِصْرِ الَّتِي سَافَرَ مِنْهَا وَيَدْخُلُهَا بِالْفِعْلِ (أَوْ يُقَارِبُهَا بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ) فَإِنْ دَخَلَهَا أَوْ قَارَبَهَا بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِتْمَامُ،؛ لِأَنَّ دُخُولَ بَلَدِ الْمُسَافِرِ يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَلَوْ غَلَبَةً. قَالَ خَلِيلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَقَطْعُهُ دُخُولَ بَلْدَةٍ وَإِنْ بِرِيحٍ غَالِبَةٍ فَعَلَى هَذَا يَخْتَلِفُ حَالُ ابْتِدَاءِ الْقَصْرِ مِنْ انْتِهَائِهِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَكَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ، خِلَافًا لِكَلَامِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ التَّابِعِ لِابْنِ الْحَاجِبِ فِي قَوْلِهِ: مُنْتَهَاهُ فِي الدُّخُولِ كَابْتِدَائِهِ فِي الْخُرُوجِ فَإِنَّهُ قَالَ: سُنَّ لِمُسَافِرٍ قَصْرُ رُبَاعِيَّةٍ إنْ عَدَّى الْبَلَدِيُّ الْبَسَاتِينَ الْمَسْكُونَةَ إلَخْ إلَى مَحَلِّ الْبَدْءِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَنْهُ بِدَعْوَى حَذْفٍ فِي الْكَلَامِ وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ فِي قَوْلِهِ: إلَى مَحَلِّ الْبَدْءِ أَيْ إلَى مِثْلِ مَحَلِّ الْبَدْءِ، وَيَكُونُ إشَارَةً إلَى بَيَانِ مُنْتَهَاهُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إلَيْهِ لَا الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ بَلْ يَكُونُ سَاكِتًا عَنْهُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ يَسْتَمِرُّ يَقْصُرُ حَتَّى يَدْخُلَ بِالْفِعْلِ أَوْ يُقَارِبَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَالْمُدَوَّنَةُ، وَعَلَى هَذَا يَكُونُ الْمُصَنِّفُ سَكَتَ عَمَّا بَيَّنَهُ ابْنُ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٌ وَهُوَ مُنْتَهَاهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 حَتَّى يَظْعَنَ مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ وَمَنْ خَرَجَ وَلَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ صَلَّاهُمَا سَفَرِيَّتَيْنِ فَإِنْ بَقِيَ قَدْرُ مَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةً صَلَّى الظُّهْرَ حَضَرِيَّةً وَالْعَصْرَ سَفَرِيَّةً وَلَوْ دَخَلَ لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ نَاسِيًا لَهُمَا صَلَّاهُمَا حَضَرِيَّتَيْنِ فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ فَأَقَلَّ إلَى رَكْعَةٍ صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً وَالْعَصْرَ حَضَرِيَّةً وَإِنْ   [الفواكه الدواني] بِالنِّسْبَةِ لِلْبَلَدِ الَّذِي سَافَرَ إلَيْهِ وَهُوَ الْبَسَاتِينُ إنْ كَانَ لِلْبَلْدَةِ الَّتِي يُرِيدُ دُخُولَهَا بَسَاتِينَ، أَوْ دُخُولَ بُيُوتِهَا إنْ كَانَتْ قَرْيَةً، أَوْ الْوُصُولَ إلَى الْحِلَّةِ فِي حَقِّ الْعَمُودِيِّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُنْتَهَى يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمَحِلُّ الَّذِي سَافَرَ مِنْهُ وَاَلَّذِي سَافَرَ إلَيْهِ، فَاَلَّذِي سَافَرَ إلَيْهِ الْمُنْتَهَى كَالْمُبْتَدَأِ، وَأَمَّا الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ فَمُنْتَهَاهُ دُخُولُ الْبَلْدَةِ أَوْ مُقَارَبَتُهَا كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَاسْتَشْكَلَ ابْنُ عُمَرَ لَفْظَ الْمُصَنِّفِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ الْكَلَامِ يَحْمِلُ الدَّاخِلَ فِي أَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ مُسَافِرًا، وَآخِرَ الْكَلَامِ يَجْعَلُهُ فِيهِ مُقِيمًا، وَهَذَا لَا شَكَّ فِي أَنَّهُ تَنَاقُضٌ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجَوَابِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ إشَارَةٌ إلَى قَوْلَيْنِ وَهُوَ جَارٍ عَلَى قَاعِدَةِ الْمُصَنِّفِ الْمَعْرُوفَةِ لَهُ مِنْ إتْيَانِهِ بِأَوْ إشَارَةً إلَى الْخِلَافِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: اسْتِمْرَارُ الْقَصْرِ إلَى الدُّخُولِ فِي حَقِّ مَنْ اسْتَمَرَّ سَائِرًا وَلَمْ يَنْزِلْ، وَالْإِتْمَامُ فِي حَقِّ مَنْ نَزَلَ بِقُرْبِ الْبَلَدِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ الدَّاخِلِ بِالْبَلَدِ، وَأَجَابَ ابْنُ عُمَرَ الْمُسْتَشْكِلُ بِأَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ يُقَارِبُهَا تَفْسِيرٌ لِقَوْلِهِ: حَتَّى يَرْجِعَ، وَكَأَنَّهُ قَالَ: يَسْتَمِرُّ يَقْصُرُ حَتَّى يُقَارِبَ بُيُوتَ الْمِصْرِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ نَزَلَ خَارِجَ الْبَلَدِ بِأَقَلَّ مِنْ الْمِيلِ وَعَلَيْهِ الْعَصْرُ مَثَلًا وَلَمْ يَدْخُلْ الْبَلَدَ حَتَّى غَرَبَتْ الشَّمْسُ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَأْتِي بِهَا سَفَرِيَّةً، وَعَلَى الثَّانِي يَأْتِي بِهَا حَضَرِيَّةً، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الدُّخُولَ فِي الْبَسَاتِينِ الْمَسْكُونَةِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا كَالدُّخُولِ فِي الْبَلَدِ، وَالْقُرْبُ مِنْهَا كَالْقُرْبِ مِنْ الْبَلَدِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا لَا تُعَدُّ مِنْ الْمَسَافَةِ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ ابْنُ نَاجِي، خِلَافًا لِشَيْخِهِ فِي عَدِّهَا مِنْ الْمَسَافَةِ، وَكَانَ الْأُجْهُورِيُّ يُقَرِّرُ فِي دَرْسِهِ أَنَّ الصَّوَابَ كَلَامُ ابْنِ نَاجِي قَائِلًا: لَا مَعْنَى لِعَدِّهَا مِنْ الْمَسَافَةِ مَعَ اشْتِرَاطِ مُجَاوَزَتِهَا لِجَوَازِ الْقَصْرِ، بَلْ اشْتِرَاطُ مُجَاوَزَتِهَا مَبْنِيٌّ عَلَى خُرُوجِهَا مِنْ الْمَسَافَةِ وَجَعْلِهَا مِنْ جُمْلَةِ الْبَلَدِ، وَأَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ نَوَى الْمُسَافِرُ) فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ (إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ) صِحَاحٍ بِلَيَالِيِهَا (بِمَوْضِعٍ) لَيْسَ وَطَنًا لَهُ أَتَمَّ صَلَاتَهُ، وَأَمَّا الْوَطَنُ فَيَجِبُ الْإِتْمَامُ بِدُخُولِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةِ إقَامَةٍ، وَمِثْلُهُ الْمَحِلُّ الْمُعْتَادُ لِإِقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ بِهِ فَأَكْثَرَ كَمَكَّةَ لِلْحَاجِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِتْمَامُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهَا. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا إنْ نَوَى إقَامَةً (مَا يُصَلِّي فِيهِ عِشْرِينَ صَلَاةً أَتَمَّ الصَّلَاةَ) جَوَابُ إنْ نَوَى، وَقَوْلُهُ: أَوْ مَا يُصَلِّي إشَارَةً إلَى طَرِيقِ سَحْنُونٍ، وَقَوْلُهُ أَوَّلًا: وَإِنْ نَوَى إشَارَةً إلَى طَرِيقِ شَيْخِهِ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَابْنُ الْقَاسِمِ يَعْتَبِرُ الْأَرْبَعَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ أَوْ مَا يُصَلِّي فِيهِ الْعِشْرِينَ صَلَاةً يَلْزَمُهُ الْإِتْمَامُ. (حَتَّى يَظْعَنَ) بِالظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَيْ يَرْتَحِلَ (مِنْ مَكَانِهِ ذَلِكَ) الَّذِي نَوَى فِيهِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَطَعَهُ دُخُولُ بَلَدِهِ وَإِنْ بِرِيحٍ غَالِبَةٍ أَوْ مَكَانِ زَوْجَةٍ دَخَلَ بِهَا فَقَطْ وَنِيَّةُ دُخُولِهِ وَلَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَسَافَةِ وَنِيَّتِهِ إقَامَةُ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ وَلَوْ بِخِلَالِهِ إلَّا الْعَسْكَرَ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ الْعِلْمِ بِهَا عَادَةً لَا مُجَرَّدِ الْإِقَامَةِ مِنْ غَيْرِ مُقَارَبَةِ النِّيَّةِ الْمَذْكُورَةِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ اعْتِبَارِ الصِّحَّةِ فِي الْأَيَّامِ إلْغَاءُ الْمُكْثِ الَّذِي دَخَلَ فِيهِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ إلْغَائِهِ وَعَدَمِ تَلْفِيقِهِ مَعَ غَيْرِهِ عَدَمُ الْإِتْمَامِ بِهِ، كَمَنْ حَلَفَ لَا يُكَلِّمُ زَيْدًا أَرْبَعَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ وَهُوَ فِي أَثْنَاءِ يَوْمٍ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ كَلَامِهِ مِنْ وَقْتِ الْحَلِفِ حَتَّى تَمْضِيَ الْأَيَّامُ الصِّحَاحُ الزَّائِدَةُ عَلَى يَوْمِ الْحَلِفِ. (فَرْعٌ) لَوْ نَوَى الْإِقَامَةَ وَشَكَّ هَلْ هِيَ أَرْبَعَةٌ أَوْ أَقَلُّ مِنْهَا؟ فَإِنْ كَانَ فِي مُنْتَهَى سَفَرِهِ أَتَمَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ نِهَايَةَ السَّفَرِ مَحَلٌّ لِلْإِقَامَةِ، وَإِنْ كَانَ شَكُّهُ الْمَذْكُورُ فِي أَثْنَاءِ سَفَرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَقْطَعُ حُكْمَ السَّفَرِ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْقَصْرِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَسَائِلَ أَرْبَعَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالصَّلَاةِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ، وَبَيَانِ كَوْنِهِمَا أَرْبَعًا إنَّ مُرِيدَ السَّفَرِ إمَّا أَنْ يَخْرُجَ لِلسَّفَرِ نَهَارًا قَبْلَ فِعْلِ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ، وَإِمَّا أَنْ يَدْخُلَ لِلْحَضَرِ نَهَارًا قَبْلَ فِعْلِهِمَا، وَإِمَّا أَنْ يَخْرُجَ لَيْلًا قَبْلَ فِعْلِ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ، أَوْ يَدْخُلَ لَيْلًا قَبْلَ فِعْلِهِمَا فَقَالَ: (وَمَنْ خَرَجَ) مُسَافِرًا (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يُصَلِّ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ بَقِيَ مِنْ النَّهَارِ قَدْرُ ثَلَاثِ رَكَعَاتٍ) فَأَكْثَرَ (صَلَّاهُمَا سَفَرِيَّتَيْنِ) وَلَوْ كَانَ أَخَّرَهُمَا عَمْدًا لِلْقَصْرِ لَكِنْ يَأْثَمُ بِالتَّأْخِيرِ عَمْدًا، وَإِنَّمَا قَصَرَهُمَا لِلسَّفَرِ فِي وَقْتِهِمَا، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ ثَلَاثٍ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ) لَمْ يُسَافِرْ حَتَّى (بَقِيَ قَدْرُ مَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ أَوْ رَكْعَةً صَلَّى الظُّهْرَ حَضَرِيَّةً) لِخُرُوجِ وَقْتِهَا (وَ) صَلَّى (الْعَصْرَ سَفَرِيَّةً) لِلسَّفَرِ فِي وَقْتِهَا، وَيَجِبُ تَقْدِيمُ الظُّهْرِ عَلَى الْعَصْرِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْفَائِتَةِ الْيَسِيرَةِ وَالْحَاضِرَةِ وَإِنْ خَافَ خُرُوجَ وَقْتِ الْحَاضِرَةِ، وَهَذِهِ مَسْأَلَةُ الْخُرُوجِ نَهَارًا، وَأَشَارَ إلَى مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ نَهَارًا بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ دَخَلَ) الْمُسَافِرُ وَطَنَهُ (لِخَمْسِ رَكَعَاتٍ) فَأَكْثَرَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَعَلَيْهِ الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ حَالَةَ كَوْنِهِ (نَاسِيًا لَهُمَا) أَوْ عَامِدًا (صَلَّاهُمَا حَضَرِيَّتَيْنِ) لِإِدْرَاكِ الْأُولَى بِأَرْبَعٍ وَيَفْضُلُ لِلثَّانِيَةِ رَكْعَةٌ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ نَاسِيًا وَصْفٌ طَرْدِيٌّ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الْخَمْسِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانَ) الدُّخُولُ إنَّمَا وَقَعَ (بِقَدْرِ) مَا يَسَعُ (أَرْبَعَ رَكَعَاتٍ فَأَقَلَّ إلَى رَكْعَةٍ) قَبْلَ الْغُرُوبِ (صَلَّى الظُّهْرَ سَفَرِيَّةً) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 قَدِمَ فِي لَيْلٍ وَقَدْ بَقِيَ لِلْفَجْرِ رَكْعَةٌ فَأَكْثَرُ وَلَمْ يَكُنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَالْعِشَاءَ حَضَرِيَّةً وَلَوْ خَرَجَ وَقَدْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ رَكْعَةٌ فَأَكْثَرُ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ سَفَرِيَّةً.   [الفواكه الدواني] لِأَنَّهَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ فِي السَّفَرِ فَيَقْضِيهَا عَلَى صِفَةِ مَا فَاتَتْهُ. (وَ) صَلَّى (الْعَصْرَ حَضَرِيَّةً) لِإِدْرَاكِ وَقْتِهَا. وَلَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ النَّهَارِيَّتَيْنِ فِي حَالِ الْخُرُوجِ وَالدُّخُولِ، وَعَلِمَ أَنَّ التَّقْدِيرَ فِي الْخُرُوجِ بِالسَّفَرِيَّتَيْنِ وَفِي الدُّخُولِ بِالْحَضَرِيَّتَيْنِ. شَرَعَ فِي حُكْمِ اللَّيْلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ قَدِمَ) الْمُسَافِرُ لِوَطَنِهِ (فِي لَيْلٍ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ بَقِيَ لِلْفَجْرِ رَكْعَةٌ فَأَكْثَرَ فِيمَا يُقَدَّرُ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَكُنْ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) وَلَوْ كَانَ أَخَّرَهُمَا عَمْدًا (صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا) لِعَدَمِ قَصْرِهَا (وَ) صَلَّى (الْعِشَاءَ حَضَرِيَّةً) لِقُدُومِهِ فِي وَقْتِهَا. قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: اُخْتُلِفَ فِي هَذَا التَّقْدِيرِ هَلْ يُرَاعِي قَبْلَهُ تَقْدِيرَ الطَّهَارَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ مُتَطَهِّرًا أَمْ لَا؟ اهـ لَفْظُهُ. وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ يُقَدَّرُ الطُّهْرُ فِي مَسْأَلَةِ الْحَاضِرِ إذَا سَافَرَ وَالْمُسَافِرِ إذَا قَدِمَ عِنْدَ اللَّخْمِيِّ وَالْقَرَافِيِّ وَأَبِي الْحَسَنِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَهُوَ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَاتِ اهـ، وَأَقُولُ: وَاَلَّذِي يَنْبَغِي اعْتِبَارُ تَقْدِيرِ الطُّهْرِ عِنْدَ التَّأْخِيرِ نِسْيَانًا لَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ؛ لِأَنَّ الطُّهْرَ إنَّمَا يُقَدَّرُ لِذَوِي الْأَعْذَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَعْذُورُ غَيْرُ كَافِرٍ يُقَدَّرُ لَهُ الطُّهْرُ، ثُمَّ خَتَمَ الْبَابَ بِالْمَسْأَلَةِ الرَّابِعَةِ فَقَالَ: (وَلَوْ خَرَجَ) لِلسَّفَرِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ بَقِيَ مِنْ اللَّيْلِ) مَا يَسَعُ (رَكْعَةً فَأَكْثَرَ صَلَّى الْمَغْرِبَ ثَلَاثًا وَصَلَّى الْعِشَاءَ سَفَرِيَّةً) ؛ لِأَنَّهُ سَافَرَ فِي وَقْتِهَا وَالْوَقْتُ إذَا ضَاقَ اخْتَصَّ بِالْأَخِيرَةِ، وَلَوْ رَاعَى الْمُصَنِّفُ الْمُنَاسَبَةَ لَقَدَّمَ مَسْأَلَةَ الْخُرُوجِ فِي اللَّيْلِيَّتَيْنِ عَلَى مَسْأَلَةِ الدُّخُولِ كَمَا فَعَلَ فِي النَّهَارِيَّتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ عَكَسَ فِي اللَّيْلِيَّتَيْنِ. (خَاتِمَةٌ) يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا وَلَهُ أَهْلٌ أَنْ يُعَجِّلَ الْأَوْبَةَ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ السَّفَرَ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ تَعْجِيلُ الْأَوْبَةِ وَالدُّخُولِ ضُحًى؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي السُّرُورِ، وَيُكْرَهُ الدُّخُولُ لَيْلًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ: «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَشَرَابَهُ وَطَعَامَهُ، فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهْمَتَهُ مِنْ وُجْهَتِهِ فَلْيُعَجِّلْ إلَى أَهْلِهِ وَلَا يَطْرُقُهُمْ لَيْلًا كَيْ تَسْتَحِدَّ الْمَغِيبَةُ وَتُمَشَّطَ الشَّعِثَةُ وَلِئَلَّا يَجِدَ فِي بَيْتِهِ مَا يَكْرَهُ» وَقَدْ اقْتَحَمَ النَّهْيَ رَجُلَانِ فَوَجَدَ كُلٌّ فِي بَيْتِهِ رَجُلًا، وَالنَّهْمَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الْهَاءِ بُلُوغُ الْمُرَادِ، وَالْوُجْهَةُ جِهَةُ سَفَرِهِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ اسْتِصْحَابُ هَدِيَّةٍ مَعَهُ وَتَكُونُ بِقَدْرِ حَالِهِ. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ صَلَاةِ السَّفَرِ وَالْجُمُعَةِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ حَيْثُ الصُّورَةِ، نَاسَبَ ذِكْرُ الْجُمُعَةِ عَقِبَ صَلَاةِ السَّفَرِ بِقَوْلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 بَابٌ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَالسَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ وَذَلِكَ عِنْدَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَأَخَذَ الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي صَلَاة الْجُمُعَةَ] (بَابٌ فِي بَيَانِ حُكْمِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ) وَهِيَ بِضَمِّ الْمِيمِ عَلَى أَشْهَرِ لُغَاتِهَا وَبِهِ قُرِئَ وَبِالسَّبْعِ، وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا وَفَتْحُهَا وَبِهِمَا قُرِئَ فِي الشَّوَاذِّ، وَلُغَةً رَابِعَةً بِكَسْرِ الْمِيمِ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِوُجُوبِ اجْتِمَاعِ النَّاسِ فِيهَا، وَقِيلَ: لِاجْتِمَاعِ أَجْزَاءِ آدَمَ فِي يَوْمِهَا، وَقِيلَ:؛ لِأَنَّ آدَمَ اجْتَمَعَ مَعَ حَوَّاءَ فِي يَوْمِهَا وَأَوَّلُ مَنْ سَمَّاهَا جُمُعَةً قُصَيٌّ فَإِنَّهُ جَمَعَ قُرَيْشًا فِي يَوْمِهَا وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَقِيلَ: أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَ فِيهِ أَرْبَعِينَ رَجُلًا وَصَلَّى بِهِمْ الْجُمُعَةَ وَقَالَ: هَذَا يَوْمُ الْجُمُعَةِ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ جَمَعَهَا فِي بَيَاضَةَ لَمَّا «أَنْفَذَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُصْعَبَ بْنَ عُمَيْرٍ أَمِيرًا عَلَى الْمَدِينَةِ وَأَمَرَهُ بِإِقَامَتِهَا فَنَزَلَ عَلَى أَسْعَدَ الْمَذْكُورَ وَكَانَ أَحَدَ النُّقَبَاءِ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَأَخْبَرَهُ بِأَمْرٍ وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَلَّى الصَّلَاةَ بِنَفْسِهِ وَهِيَ أَوَّلُ جُمُعَةٍ أُقِيمَتْ بِالْمَدِينَةِ وَيَوْمُهَا يَوْمٌ عَظِيمٌ» ، فَفِي الْمُوَطَّإِ: «خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِيهِ خُلِقَ آدَم وَفِيهِ أُهْبِطَ وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ مَاتَ وَفِيهِ تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُصَادِفُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ وَهُوَ يُصَلِّي يَسْأَلُ اللَّهَ شَيْئًا إلَّا أَعْطَاهُ إيَّاهُ» وَالْأَكْثَرُ أَنَّ تِلْكَ السَّاعَةَ بَاقِيَةٌ مَا لَمْ تُرْفَعْ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي وَقْتِهَا فَقِيلَ: إنَّ اللَّهَ أَخْفَاهَا عَلَى الْعِبَادِ حَتَّى نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِيَجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، كَمَا أَخْفَى الرَّجُلَ الصَّالِحَ، وَكَمَا أَخْفَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَاسْتَمَرَّ هَذَا إلَّا فِي حَقِّ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ لَمْ يَمُتْ حَتَّى أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى مَا أَخْفَاهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ الْمَغِيبَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْعَقِيدَةِ فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت، وَبِالْجُمْلَةِ فَيَوْمُ الْجُمُعَةِ يَوْمٌ عَظِيمُ الشَّأْنِ خَصَّ اللَّهُ بِهِ هَذِهِ الْأُمَّةَ، وَأَعْطَى النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ وَالْيَهُودَ يَوْمَ السَّبْتِ وَفُرِضَتْ بِمَكَّةَ وَلَمْ يُصَلِّهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَئِذٍ، وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ رَكْعَتَانِ يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الظُّهْرِ عَلَى رَأْيٍ وَيُسْقِطَانِهَا عَلَى آخَرَ، فَقَوْلُهُ: يَمْنَعَانِ وُجُوبَ الظُّهْرِ أَيْ عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ يَوْمِهَا وَالظُّهْرُ بَدَلٌ مِنْهَا وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَقَوْلُهُ: وَيَسْقُطَانِهَا عَلَى آخَرَ أَيْ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ مِنْ الظُّهْرِ وَهُوَ شَاذٌّ، إذْ لَوْ كَانَتْ بَدَلًا مَا صَحَّ فِعْلُهَا مَعَ إمْكَانِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا وَاجِبٌ مُسْتَقِلٌّ، وَجَمَعَ الْفَاكِهَانِيُّ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ لِيَزُولَ الْإِشْكَالُ الْحَاصِلُ مِنْ فِعْلِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الظُّهْرِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْبَدَلِيَّةِ فَقَالَ: وَالْحَقُّ أَنَّهَا بَدَلُ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالظُّهْرُ بَدَلٌ مِنْهَا فِي الْفِعْلِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَدَلًا فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ أَنَّ الظُّهْرَ شُرِعَتْ فِي ابْتِدَاءٍ ثُمَّ شُرِعَتْ الْجُمُعَةُ بَدَلًا مِنْهَا، وَمَعْنَى كَوْنِهَا بَدَلًا فِي الْفِعْلِ أَنَّهَا إذَا تَعَذَّرَ فِعْلُهَا أَجْزَأَتْ عَنْهَا الظُّهْرُ، فَإِضَافَةُ صَلَاةٍ فِي كَلَامِهِ مِنْ قَبِيلِ إضَافَةِ الْمُسَمَّى إلَى الِاسْمِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الِاسْمَ عَيْنُ الْمُسَمَّى. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهَا بِقَوْلِهِ: (وَالسَّعْيُ) أَيْ الذَّهَابُ (إلَى) الْمَسْجِدِ الْجَامِعِ لِأَجْلِ صَلَاةِ (الْجُمُعَةِ فَرِيضَةٌ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهَا الْجَامِعُ بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ الْفَرَائِضِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَالْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَهِيَ فَرْضٌ عَلَى الْأَعْيَانِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ عَلَى الْكِفَايَةِ، فَالْآيَةُ دَلَّتْ عَلَى وُجُوبِ الْخُطْبَةِ لِقَوْلِهِ: {فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَالْأَذَانِ لَهَا، وَتَحْرِيمِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَحُرْمَةِ الِانْفِضَاضِ مِنْ خَلْفِ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَاتَبَ الَّذِينَ انْفَضُّوا مِنْ خَلْفِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: {وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] وَذَلِكَ لَمَّا أَقْبَلَتْ الْقَافِلَةُ مِنْ الشَّامِ خَرَجُوا إلَيْهَا وَتَرَكُوهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَائِمًا يَخْطُبُ، قِيلَ: لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إلَّا اثْنَيْ عَشَرَ وَهُمْ الصَّحَابَةُ الْعَشَرَةُ وَالْحَادِيَ عَشَرَ بِلَالٌ، وَاخْتُلِفَ فِي الثَّانِيَ عَشَرَ فَقِيلَ عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ وَقِيلَ ابْنُ مَسْعُودٍ. وَاللَّهْوُ هُوَ النَّظَرُ إلَى صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيِّ؛ لِأَنَّهُ كَانَ مِنْ أَجْمَلِ النَّاسِ وَكَانَ أَقْبَلَ مَعَ الْقَافِلَةِ، وَدَلَّتْ الْآيَةُ أَيْضًا عَلَى طَلَبِ الْقِيَامِ فِي الْخُطْبَةِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِقَوْمٍ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ: «لَقَدْ هَمَمْت أَنْ آمُرَ رَجُلًا يُصَلِّي بِالنَّاسِ ثُمَّ أُحَرِّقُ عَلَى رِجَالٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أَنْ يَصْعَدُوا حِينَئِذٍ عَلَى الْمَنَارِ فَيُؤَذِّنُونَ وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ الْبَيْعُ وَكُلُّ مَا يَشْغَلُ عَنْ السَّعْيِ إلَيْهَا وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي أَحْدَثَهُ   [الفواكه الدواني] يَتَخَلَّفُونَ عَنْ الْجُمُعَةِ بُيُوتَهُمْ» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الْجُمُعَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَبَيْنَ زَمَنِ السَّعْيِ لَهَا بِقَوْلِهِ (وَذَلِكَ) أَيْ السَّعْيُ يَكُونُ (عِنْدَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (أَخَذَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي بِمَعْنَى شَرَعَ (الْمُؤَذِّنُونَ فِي الْأَذَانِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ بِصِيغَةِ الْمَصْدَرِ وَجَرِّ الْمُؤَذِّنِينَ بِالْإِضَافَةِ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى " جُلُوسِ " بِحَيْثُ لَا يَفْرُغُ الْأَذَانُ إلَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ الْجُمُعَةُ، فَيُحْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ جِدًّا بِحَيْثُ يَصِلُ السَّاعِي لَهَا قَبْلَ فَرَاغِ الْأَذَانِ كَمَا عَلِمْت، وَأَمَّا مَنْ بَعُدَتْ دَارُهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّعْيُ مِنْ الزَّمَانِ الَّذِي إذَا سَعَى فِيهِ يُدْرِكُ أَوَّلَ الْخُطْبَةِ إذَا لَمْ يَكُنْ ثَمَّ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ سِوَاهُ؛ لِأَنَّ حُضُورَ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَوَّلِهَا، فَقَوْلُ بَعْضِ الشُّرَّاحِ: يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ وُجُوبِ حُضُورِ الْخُطْبَةِ مِنْ أَوَّلِهَا غَيْرُ مُسْلِمٍ بِالنِّسْبَةِ لِجَمِيعِ الْمُخَاطَبِينَ بِحُضُورِهَا، وَإِنَّمَا يَصِحُّ فِي الزَّائِدِ عَلَى مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِ كَمَا بَيَّنَّا، فَيَتَعَيَّنُ فَهْمُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ، نَعَمْ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ جَوَازُ أَذَانِ الْجَمَاعَةِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْهُ جَوَازُ اتِّخَاذِ الْمِنْبَرِ بَلْ هُوَ مُسْتَحَبٌّ لِلْخُلَفَاءِ وَجَائِزٌ لِغَيْرِهِمْ، وَالْمَنْدُوبُ فِي حَقِّ مَنْ يَخْطُبُ عَلَى الْأَرْضِ وُقُوفُهُ عَلَى يَسَارِ الْمِحْرَابِ وَاسْتَحَبَّ بَعْضٌ الْوُقُوفَ عَلَى يَمِينِهِ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ: وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ. وَلَمَّا كَانَ لِلْجُمُعَةِ أَذَانَانِ وَأَحَدُهُمَا لَمْ يَكُنْ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَرَعَ فِي بَيَانِ كُلٍّ بِقَوْلِهِ: (وَالسُّنَّةُ الْمُتَقَدِّمَةُ) الَّتِي كَانَتْ تُفْعَلُ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَنْ يَصْعَدُوا) أَيْ الْمُؤَذِّنُونَ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ (عَلَى الْمَنَارِ) فَإِذَا ارْتَقَوْا عَلَيْهِ (فَيُؤَذِّنُونَ) عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ حَبِيبٍ وَابْنِ عَبْدِ الْبَرِّ وَغَيْرِهِمْ وَهُوَ الصَّحِيحُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ رَقَى الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ ثُمَّ يُؤَذِّنُ الْمُؤَذِّنُونَ وَكَانُوا ثَلَاثَةً يُؤَذِّنُونَ عَلَى الْمَنَارِ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ، فَإِذَا فَرَغَ الثَّالِثُ قَامَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ، وَكَذَا فِي زَمَنِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَتْ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْدَاثِ أَذَانٍ سَابِقٍ عَلَى الَّذِي كَانَ يُفْعَلُ عَلَى الْمَنَارِ، وَأَمَرَهُمْ بِفِعْلِهِ بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَهُوَ مَوْضِعٌ بِالسُّوقِ لِيَجْتَمِعَ النَّاسُ وَيَرْتَفِعُوا مِنْ السُّوقِ فَإِذَا خَرَجَ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ عَلَى الْمَنَارِ، ثُمَّ إنَّ هِشَامَ بْنَ عَبْدِ الْمَلِكِ فِي زَمَنِ إمَارَتِهِ عَلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَ بِنَقْلِ الْأَذَانِ الَّذِي كَانَ عَلَى الْمَنَارِ بِأَنْ يُفْعَلَ بَيْنَ يَدَيْهِ عِنْدَ جُلُوسِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَصَارَ الْأَمْرُ إذَا خَرَجَ هِشَامٌ وَجَلَسَ عَلَى الْمِنْبَرِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُونَ كُلُّهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِذَا فَرَغُوا خَطَبَ؛ وَلِهَذَا قَالَ ابْنُ الْجَلَّابِ: وَلَهَا أَذَانَانِ أَحَدُهُمَا عِنْدَ الزَّوَالِ وَالْآخَرُ عِنْدَ جُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَالثَّانِي مِنْهُمَا آكَدُ مِنْ الْأَوَّلِ وَعِنْدَهُ يَحْرُمُ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ. وَمُقَابِلُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْآذَانَ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْأَذَانَ كَانَ فِي زَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَاحِدًا، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ هَلْ كَانَ عَلَى الْمَنَارِ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَهُوَ صَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، أَوْ كَانَ بَيْنَ يَدَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ وَالْمُرَادُ بِالْمَنَارِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَوْضِعُ الْأَذَانِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَلَى صُورَتِهِ الْآنَ. قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ مَا مَعْنَاهُ: مَحَلُّ تَأْخِيرِ صُعُودِ الْمُؤَذِّنِينَ لِجُلُوسِ الْإِمَامِ عَلَى الْمِنْبَرِ إذَا كَانَ الْمَنَارُ قَرِيبًا مِنْ الْأَرْضِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ بَعِيدًا فَإِنَّهُمْ يَصْعَدُونَ الْمَنَارَ أَوَّلًا ثُمَّ يَرْقَى الْإِمَامُ الْمِنْبَرَ وَلَكِنْ لَا يُؤَذِّنُونَ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ غَيْرُ جَازِمٍ، وَانْدَفَعَ بِهِ الِاعْتِرَاضُ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي ثُبُوتِهَا مِنْ تَوَهُّمِ عَطْفِ " يُؤَذِّنُونَ " عَلَى " يَصْعَدُوا " الْمَنْصُوبَ بِأَنْ، وَلَمَّا كَانَ الْأَذَانُ الْوَاقِعُ بَعْدَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ عَلَى الْمِنْبَرِ آكَدَ؛ لِأَنَّهُ قِيلَ بِوُجُوبِهِ [الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَقْتَ صَلَاة الْجُمُعَةَ] قَالَ: (وَيَحْرُمُ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ وَقَعَ الْآذَانُ وَالْخَطِيبُ عَلَى الْمِنْبَرِ، سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَى مَنَارٍ كَمَا فِي الزَّمَنِ الْقَدِيمِ أَوْ بَيْنَ يَدَيْ الْإِمَامِ كَمَا هُوَ الْآنَ (الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ) عَلَى كُلِّ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجُمُعَةُ مَعَ مِثْلِهِ، أَوْ مَعَ مَنْ لَا تَجِبُ عَلَيْهِ تَغْلِيبًا لِجَانِبِ الْخَطَرِ، إلَّا مَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ كَمَنْ أَحْدَثَ وَقْتَ النِّدَاءِ وَلَا يَجِدُ الْمَاءَ أَوْ الصَّعِيدَ إلَّا بِالثَّمَنِ، فَيَجُوزُ كُلٌّ، مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ إنْ كَانَ الْمَالِكُ مِمَّنْ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْبَيْعُ كَعَبْدٍ أَوْ صَبِيٍّ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يُوجَدْ الْمَاءُ إلَّا مَعَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُخَاطَبُ بِحُضُورِ الْجُمُعَةِ وُجُوبًا فَهَلْ تَتَعَدَّى إلَيْهِ الرُّخْصَةُ وَيَجُوزُ لَهُ الْبَيْعُ لِضَرُورَةِ الْمُشْتَرِي؟ أَوْ الرُّخْصَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُشْتَرِي؟ تَرَدَّدَ فِي ذَلِكَ شُيُوخُ ابْنِ نَاجِي كَالْغُبْرِينِيِّ وَغَيْرِهِ، وَأَقُولُ: الْمَأْخُوذُ مِمَّا يَأْتِي فِي بَيْعِ نَحْوِ الْعَذِرَةِ مِنْ النَّجَاسَاتِ عِنْدَ الْحَاجَةِ الشَّدِيدَةِ مَا يَقْتَضِي قَصْرَهَا عَلَى الْمُشْتَرِي، فَرَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ لِقَوْلِهِ لَا كَزِبْلٍ وَزَيْتٍ تَنَجَّسَ (وَ) لَا مَفْهُومَ لِلْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَلْ يَحْرُمُ (كُلُّ مَا يُشْغِلُ عَنْ السَّعْيِ إلَيْهَا) كَالتَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْهِبَةِ وَالْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْخِيَاطَةِ وَالْحَصَادِ وَالدِّرَاسِ وَالسَّفَرِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. قَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9] وَأَوْلَى غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ مِنْ الْحَاجَاتِ، فَإِذَا نَهَى عَنْهُ نَهَى عَنْ غَيْرِهِ بِالْأَوْلَى، وَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ كُلُّ مَا فِيهِ مُعَاوَضَةٌ مَالِيَّةٌ كَالْبَيْعِ وَالتَّوْلِيَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَسْخُ بَيْعٍ وَإِجَارَةٍ وَتَوْلِيَةٍ وَشَرِكَةٍ وَإِقَالَةٍ وَشُفْعَةٍ بِأَذَانٍ ثَانٍ، لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 بَنُو أُمَيَّةَ وَالْجُمُعَةُ تَجِبُ بِالْمِصْرِ وَالْجَمَاعَةِ وَالْخُطْبَةُ فِيهَا وَاجِبَةٌ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَيَتَوَكَّأُ الْإِمَامُ عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا   [الفواكه الدواني] نَحْوِ النِّكَاحِ وَالْهِبَةِ لِغَيْرِ الثَّوَابِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ النَّاجِزِ، وَكَذَا الْكِتَابَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عِتْقٌ فَلَا يُفْسَخُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ حَرُمَ، وَإِذَا فُسِخَ فَالْفَسْخُ بَعْدَ فَوَاتِهِ فِي الْقِيمَةِ يَوْمَ قَبْضِهِ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَفَسْخُ بَيْعٍ إلَخْ فَإِنْ فَاتَ فَالْقِيمَةُ يَوْمَ الْقَبْضِ كَالْبَيْعِ الْفَاسِدِ لَا نِكَاحٍ وَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِيمَا إذَا وَقَعَ الْبَيْعُ أَوْ غَيْرُهُ مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ بَيْنَ شَخْصَيْنِ فِي حَالِ سَعْيِهِمَا لِلْجُمُعَةِ، فَقِيلَ يُفْسَخُ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَقِيلَ لَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْغَلْهُمَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الَّذِي يُفْسَخُ الْعَقْدَ الْمُحَرَّمُ. وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ أَوْ عَبْدَيْنِ أَوْ عَبْدٍ وَصَبِيٍّ فَلَا سَبِيلَ لِفَسْخِهِ لِعَدَمِ حُرْمَتِهِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ أَيْضًا فِي فَسْخِ الْبَيْعِ الْوَاقِعِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَشَخْصَيْنِ عَلَيْهِمَا الظُّهْرُ وَالْعَصْرُ وَلَمْ يَبْقَ لِلْمَغْرِبِ إلَّا قَدْرُ خَمْسِ رَكَعَاتٍ فِي الْحَضَرِ أَوْ ثَلَاثٍ فِي السَّفَرِ، فَقَالَ الْقَاضِي إسْمَاعِيلُ وَأَبُو عِمْرَانَ بِالْفَسْخِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ بِعَدَمِهِ، وَصَوَّبَهُ ابْنُ مُحْرِزٍ وَغَيْرُهُ وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى بِخِلَافِ غَيْرِهَا، وَقَيَّدْنَا السَّفَرَ بِوَقْتِ الْأَذَانِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ السَّفَرِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْوَقْتِ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ الزَّوَالِ فَمَكْرُوهٌ، فَالسَّفَرُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى ثَلَاثِ أَقْسَامٍ مَحَلُّهَا مَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ يُدْرِكُهَا فِي طَرِيقِهِ كَمُرُورِهِ بِمَحَلِّ جُمُعَةٍ، أَوْ يَكُونُ لَهُ رُفْقَةٌ لَا يَسْتَطِيعُ التَّأْخِيرَ عَنْهُمْ لِلْخَوْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ إلَّا جَازَ لَهُ السَّفَرُ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَمَعْنَاهُ أَنَّ الرُّفْقَةَ لَا تَلْزَمُهُمْ جُمُعَةٌ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَى الْجَمِيعِ السَّفَرُ بَعْدَ الزَّوَالِ. (وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي) يَعْنِي الثَّانِيَ فِي الْإِحْدَاثِ وَهُوَ الْأَوَّلُ الْيَوْمَ فِي الْفِعْلِ؛ لِأَنَّهُمْ يَفْعَلُونَهُ عَلَى الْمَنَارِ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعِيدُونَهُ بَيْنَ يَدَيْ الْخَطِيبِ. (أَحْدَثَهُ بَنُو أُمَيَّةَ) بِالزَّوْرَاءِ عِنْدَ الزَّوَالِ وَلَمْ يَكُنْ قَبْلَ ذَلِكَ إلَّا أَذَانٌ وَاحِدٌ عَلَى الْمَنَارِ، ثُمَّ لَمَّا كَثُرَتْ النَّاسُ أَمَرَ عُثْمَانُ بِإِحْدَاثِ أَذَانٍ عَلَى الزَّوْرَاءِ لِيَرْتَفِعَ النَّاسُ مِنْ السُّوقِ وَيَحْضُرُونَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَذَانِ فَوْقَ الْمَنَارِ، ثُمَّ لَمَّا تَوَلَّى هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ بِالْمَدِينَةِ أَمَرَ بِنَقْلِ الَّذِي عَلَى الزَّوْرَاء إلَى الْمَنَارِ وَاَلَّذِي عَلَى الْمَنَارِ بَيْنَ يَدَيْهِ وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَلَوْ قَالَ بَدَلُ بَنِي أُمَيَّةَ عُثْمَانُ لَكَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ أَمَسُّ بِالِاقْتِدَاءِ، إنْ كَانَ كَانَ أُمَوِيًّا لِلتَّصْرِيحِ بِاسْمِهِ لَا سِيَّمَا أَنَّهُ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ، وَسَمَّاهُ مُحْدِثًا وَهُوَ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ عُثْمَانَ أَحْدَثَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الْمُحْدِثَ الَّذِي يَجِبُ تَرْكُهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الزَّمَنِ الْأَوَّلِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ فِعْلَ الصَّحَابِيِّ وَقَوْلَ الصَّحَابِيِّ مِنْ السُّنَّةِ، وَأَمَّا الْأَذَانُ الْوَاقِعُ بَيْنَ يَدِي الْخَطِيبِ الْآنَ فَهُوَ ثَانٍ فِي الْفِعْلِ وَأَوَّلٌ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الَّذِي أَحْدَثَهُ عُثْمَانُ أَوَّلٌ فِي الْفِعْلِ وَثَانٍ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالْوَاقِعُ بَيْنَ يَدِي الْخَطِيبِ ثَانٍ فِي الْفِعْلِ وَأَوَّلٌ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَالنَّاقِلُ لَهُ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ فَهُوَ غَيْرُ الْمُحْدِثِ لِلثَّانِي، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُصَنِّفَ احْتَرَزَ بِالسُّنَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنْ السُّنَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ وَهِيَ الْمَشْرُوعَةُ مِنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَإِنَّ الْمُحْدِثَ لِلْأَذَانِ الْأَوَّلِ الْيَوْمَ الَّذِي يُفْعَلُ قَبْلَ الصُّعُودِ عَلَى الْمِنْبَرِ، فَقَوْلُهُ: وَهَذَا الْأَذَانُ الثَّانِي إشَارَةٌ إلَى السُّنَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِثَانَوِيَّتِهِ أَنَّهُ ثَانٍ فِي الْمَشْرُوعِيَّةِ وَالْإِحْدَاثُ وَإِنْ كَانَ سَابِقًا فِي الْفِعْلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي عَلَى الْمَنَارِ الْيَوْمَ هُوَ مَا كَانَ عَلَى الزَّوْرَاءِ، وَاَلَّذِي بَيْنَ يَدِي الْخَطِيبِ هُوَ مَا كَانَ عَلَى الْمَنَارِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ بِنَقْلِهِ بَيْنَ يَدِي الْخَطِيبِ صَادِرًا مِنْ هِشَامِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ وَهُوَ مِمَّنْ لَا يُقْتَدَى بِهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمُلُوكِ كَانَ مَكْرُوهًا وَإِنْ كَانَ سُنَّةً، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ السُّنَّةِ وَالْكَرَاهَةِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مَشْرُوعٌ فِي الْجُمْلَةِ وَالْكَرَاهَةُ مِنْ حَيْثُ فِعْلِهِ فِي غَيْرِ مَحِلِّهِ؛ لِأَنَّ مَحِلَّهُ الْمَنَارُ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ. الثَّانِي: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِمُنْتَهَى وَقْتِ الْجُمُعَةِ، وَإِنْ فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ أَوَّلَهُ مِنْ الزَّوَالِ كَالظُّهْرِ فِي الِاخْتِيَارِيِّ وَالضَّرُورِيِّ. قَالَ خَلِيلٌ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ، وَهَلْ إنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنْ الْعَصْرِ وَصَحَّحَ أَوَّلًا رِوَايَتَانِ، وَمِمَّنْ قَالَ إنَّ وَقْتَهَا كَوَقْتِ الظُّهْرِ الْأُجْهُورِيُّ، وَيُتَوَجَّهُ عَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْوَقْتَ إذَا ضَاقَ يَخْتَصُّ بِالْأَخِيرَةِ وَتَصِيرُ الْأُولَى فَائِتَةً يَجِبُ تَرْتِيبُهَا مَعَ مَا بَعْدَهَا لَا عَلَى وَجْهِ الشَّرْطِيَّةِ، وَلَمْ يَنُصَّ أَحَدٌ عَلَى اسْتِثْنَاءِ الْجُمُعَةِ مَعَ الْعَصْرِ فَيَلْزَمُ عَلَى فِعْلِهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ عَلَى الْقَوْلِ الثَّانِي فِعْلُهَا قَضَاءً؛ لِأَنَّهَا تُقَدَّمُ عَلَى الْعَصْرِ؛ لِأَنَّهَا فَائِتَةٌ يَسِيرَةٌ مَعَ أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تُقْضَى، فَتَأَمَّلْ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَرَ مَنْ أَفْصَحَ عَنْ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ لَا تَخْتَصُّ بِالْأَمْصَارِ قَالَ: (وَ) صَلَاةُ (الْجُمُعَةِ تَجِبُ بِالْمِصْرِ) وُجُوبَ الْفَرَائِضِ الْعَيْنِيَّةِ، وَالْمِصْرُ هُوَ الْبَلَدُ الْكَبِيرُ الَّذِي بِهِ مَنْ يُقِيمُ الْأَحْكَامَ وَالْحُدُودَ. (وَ) كَذَلِكَ تَجِبُ بِالْقُرَى الْمُتَّصِلَةِ الْبُنْيَانِ ذَاتِ (الْجَمَاعَةِ) وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: إنَّهَا لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْأَمْصَارِ، وَزَادَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ أَنْ يَكُونَ فِيهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إمَامٌ يُقِيمُ الْحُدُودَ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْقُرَى أَنْ تَكُونَ مَبْنِيَّةً بِالطُّوبِ وَالْأَحْجَارِ، بَلْ وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَخْصَاصٍ مَصْنُوعَةٍ مِنْ خَشَبٍ أَوْ بُوصٍ وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: شَرْطُ الْجُمُعَةِ وُقُوعُ كُلِّهَا بِالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ لِلْغُرُوبِ، إلَى أَنْ قَالَ: بِاسْتِيطَانِ بَلَدٍ أَوْ أَخْصَاصٍ لَا خِيَمٍ، وَبِجَامِعٍ مَبْنِيٍّ مُتَّحِدٍ، فَإِنْ تَعَدَّدَ فَالْجُمُعَةُ لِلْعَتِيقِ، وَإِنْ تَأَخَّرَ أَدَاءً فَلَا تَصِحُّ فِي الْمَكَانِ الْمُحَجَّرِ مِنْ غَيْرِ بِنَاءٍ أَوْ مَبْنِيٍّ بِنَاءً خَفِيفًا أَيْ دُونَ الْمُعْتَادِ، وَحَقِيقَةُ الِاسْتِيطَانِ نِيَّةُ الْإِقَامَةِ عَلَى التَّأْيِيدِ مَعَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِكَوْنِ الْجَمَاعَةِ تَتَقَرَّى بِهَا الْقَرْيَةُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْجُمُعَةِ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةٍ وَيُقَالُ لَهَا شُرُوطُ أَدَاءٍ، وَحَقِيقَتُهَا كُلُّ مَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الصِّحَّةُ، وَشُرُوطُ وُجُوبٍ وَهِيَ كُلُّ مَا يَتَوَقَّفُ الْوُجُوبُ عَلَيْهِ، فَشُرُوطُ الصِّحَّةِ وُقُوعُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ وَقْتَ الظُّهْرِ وَاسْتِيطَانِ بَلَدِهَا، وَوُجُوبُ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ تَتَقَرَّى بِهِمْ الْقَرْيَةُ وَحُضُورُ اثْنَيْ عَشَرَ غَيْرَ الْإِمَامِ ذُكُورًا أَحْرَارًا مُسْتَوْطِنِينَ لِلْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ وَلَوْ فِي الْجُمُعَةِ الْأُولَى، وَكَوْنُ الْإِمَامِ هُوَ الْخَطِيبُ إلَّا لِعُذْرٍ، وَوُقُوعُ الصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ فِي الْجَامِعِ الْمَبْنِيِّ عَلَى وَجْهِ الْعَادَةِ وَأَنْ يَكُونَ مُتَّحِدًا وَأَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِالْبَلَدِ أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ حِينَ بِنَائِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْهَا ابْتِدَاءً بِأَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعِينَ بَاعَا وَالْبَاعُ أَرْبَعَةُ أَذْرُعٍ لَمْ تَصِحَّ فِيهِ، وَإِنْ تَعَدَّدَ فَالْجُمُعَةُ لِلْعَتِيقِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَلَدُ كَبِيرًا بِحَيْثُ يَعْسُرُ اجْتِمَاعُهُمْ فِي مَحَلٍّ وَلَا طَرِيقَ بِجِوَارِهِ تُمْكِنُ الصَّلَاةُ فِيهَا فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ تَعَدُّدُهُ بِحَسَبِ الْحَاجَةِ كَمَا لَوْ ارْتَضَاهُ بَعْضُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ، وَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ حَاجَةُ مَنْ يَغْلِبُ حُضُورُهُ لِصَلَاتِهَا وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ كَالصِّبْيَانِ وَالْعَبِيدِ؛ لِأَنَّ الْكُلَّ مَطْلُوبٌ بِالْحُضُورِ وَلَوْ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِذَلِكَ وُجُودُ الْعَدَاوَةِ الْمَانِعَةِ مِنْ اجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ، بَلْ لَوْ قِيلَ إنَّ هَذَا أَوْلَى لِجَوَازِ التَّعَدُّدِ لَمَا بَعْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ اتِّحَادِ الْجَامِعِ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُقِيمُوا سِوَى جُمُعَةً وَاحِدَةً، وَ؛ لِأَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى وَاحِدَةٍ أَفْضَى إلَى، الْمَقْصُودِ مِنْ إظْهَارِ شِعَارِ الِاجْتِمَاعِ وَاتِّفَاقِ الْكَلِمَةِ. قَالَهُ الرَّمْلِيُّ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَمَذْهَبُنَا لَا يُخَالِفُهُ فِي هَذَا، وَشُرُوطُ الْوُجُوبِ الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالتَّكْلِيفُ وَالِاسْتِيطَانُ، وَهُوَ الْإِقَامَةُ عَلَى قَصْدِ التَّأْبِيدِ لَا الْإِقَامَةُ الْمُجَرَّدَةُ فَلَا تَجِبُ بِهَا إلَّا تَبَعًا، وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْحُضُورِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ شَدِيدَةٍ فَلَا تَجِبُ عَلَى مَرِيضٍ لَا يَسْتَطِيعُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَتْ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ الذَّكَرَ بِلَا عُذْرٍ الْمُتَوَطِّنَ وَإِنْ بِقَرْيَةٍ نَائِيَةٍ بِكَفَرْسَخٍ مِنْ الْمَنَارِ، وَقَوْلُنَا فِي شَرْطِ الصِّحَّةِ أَنَّهُ يَكْفِي حُضُورُ اثْنَيْ عَشَرَ إلَخْ لَا يُنَافِي اشْتِرَاطَ كَثْرَةِ الْجَمَاعَةِ فِي مَحَلِّ الْجُمُعَةِ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُمْ الْإِقَامَةُ عَلَى التَّأْبِيدِ مَعَ الْأَمْنِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى الذَّبِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّ وُجُودَ مَنْ تَتَقَرَّى بِهِ الْقَرْيَةُ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ مَشْرُوعِيَّتِهَا عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ وَيُطَالَبُونَ بِحُضُورِهَا، فَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ مِنْهُمْ لِلْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ إلَّا اثْنَيْ عَشَرَ غَيْرَ الْإِمَامِ صَحَّتْ، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجُمُعَةِ الْأُولَى وَغَيْرِهَا بِشَرْطِ صِحَّةِ صَلَاةِ جَمِيعِهِمْ، لَا إنْ أَحْدَثَ وَاحِدٌ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ قَبْلَ السَّلَامِ، أَوْ كَانَ أَحَدُهُمْ شَافِعِيًّا لَمْ يُقَلِّدْ مَالِكًا فِي صَلَاتِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَتَوَصَّلُ إلَى الْعِلْمِ بِكَوْنِ تِلْكَ الْجَمَاعَةِ الْكَائِنَةِ فِي الْبَلَدِ تَتَقَرَّى بِهِمْ الْقَرْيَةُ دَائِمًا مَعَ أَنَّ الْعِلْمَ بِالْأَمْرِ الْمُسْتَقْبَلِ مُخْتَصٌّ بِاَللَّهِ تَعَالَى؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الشَّرْطَ كَوْنُهَا تَتَقَرَّى بِهَا الْقَرْيَةُ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ بِحَسَبِ اعْتِقَادِنَا وَالْعَادَةُ وَإِنْ كَانَ الْعَقْلُ يُجَوِّزُ تَخَلُّفَ ذَلِكَ فَافْهَمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِيطَانَ إنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي الْجَمَاعَةِ لَا فِي الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي فِيهِ الْإِقَامَةُ؛ لِأَنَّهُ فَرْعُ الْخَلِيفَةِ، وَالْخَلِيفَةُ الَّذِي هُوَ السُّلْطَانُ تَصِحُّ إمَامَتُهُ فِي الْجُمُعَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُسْتَوْطِنًا بَلْ وَلَوْ كَانَ مُسَافِرًا، وَلَا يُقَالُ: إذَا كَانَ مَقِيسًا عَلَيْهِ تَصِحُّ إمَامَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مُقِيمًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: شَأْنُ الْفَرْعِ أَنْ يَكُونَ أَحَطَّ مَرْتَبَةً مِنْ أَصْلِهِ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةً حَسَنَةً وَهِيَ صِحَّةُ إمَامَةِ مُسَافِرٍ نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ فِي قَرْيَةٍ فَإِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ خَطِيبًا فِيهَا، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُ الِاثْنَيْ عَشَرَ لِكَيْ تَصِحَّ خُطْبَتُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إلَّا الَّذِي لَمْ تَكُنْ نِيَّتُهُ الْإِقَامَةَ لِأَجْلِ الْخُطْبَةِ، وَبَنَوْا عَلَيْهِ أَيْضًا صِحَّةَ إمَامَةِ مَنْ قَدِمَ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ أُخْرَى وَبَيْنَ الْبَلَدَيْنِ أَقَلُّ مِنْ كَفَرْسَخٍ مِنْ الْمَنَارِ أَوْ قَدْرُ فَرْسَخٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ كَفَرْسَخٍ فَلَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ إلَّا إذَا نَوَى إقَامَةَ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِصِحَّةِ إمَامَتِهِ حَيْثُ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: إنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ رَاجِعْ شُرَّاحَهُ لِخَلِيلٍ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي، ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ. (وَالْخُطْبَةُ فِيهَا) أَيْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (وَاجِبَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا مِنْهَا بِمَنْزِلَةِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا بِلَا خُطْبَةٍ، فَإِذَا صَلَّوْا مِنْ غَيْرِ خُطْبَةٍ أَعَادُوهَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ مَا دَامَ وَقْتُهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي تِلْكَ الْخُطْبَةِ أَنْ تَكُونَ كَلَامًا مُشَجِّعًا مُخَالِفًا لِلنَّثْرِ وَالشِّعْرِ بِحَيْثُ تُسَمِّيهَا الْعَرَبُ خُطْبَةً، وَأَنْ تَكُونَ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَلَوْ كَانُوا عَجَمًا، وَأَنْ تَكُونَ جَهْرًا وَلَوْ كَانُوا صُمًّا، وَأَنْ تَكُونَ بِحَضْرَةِ اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا أَحْرَارًا مُسْتَوْطِنِينَ بَاقِينَ لِسَلَامِهَا، وَأَنْ تَقَعَ بَعْدَ الزَّوَالِ، دَاخِلَ الْمَسْجِدِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهَا كَجُزْءٍ مِنْ الصَّلَاةِ، وَتَصِحُّ مِنْ مَحْضِ قُرْآنٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى تَحْذِيرٍ وَتَبْشِيرٍ وَبَعْضِ مَوَاعِظَ كَسُورَةِ ق، وَيُسْتَحَبُّ اشْتِمَالُهَا عَلَى الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَلْ فِيهَا لِلْجِنْسِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خُطْبَتَيْنِ يَجْلِسُ بَيْنَهُمَا وَلَا بُدَّ أَنْ تَقَعَ (قَبْلَ الصَّلَاةِ) فَلَوْ صَلَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وَيَجْلِسُ فِي أَوَّلِهَا وَفِي وَسَطِهَا وَتُقَامُ الصَّلَاةُ عِنْدَ فَرَاغِهَا وَيُصَلِّي الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ يَقْرَأُ فِي الْأُولَى   [الفواكه الدواني] قَبْلَ الْخُطْبَةِ لَمْ تَصِحَّ وَتَجِبُ إعَادَتُهَا بَعْدَ الْخُطْبَةِ، فَإِنْ خَطَبَ وَصَلَّى قَبْلَ الزَّوَالِ بَطَلَتَا وَأُعِيدَتَا، هَذَا مُلَخَّصُ شُرُوطِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَنَظَمَهَا عَلَّامَةُ الزَّمَانِ سَيِّدِي عَلِيُّ أَبُو الْإِرْشَادِ الْأُجْهُورِيُّ بِقَوْلِهِ: شَرْطُ وُجُوبِ الْجُمُعَةِ الذُّكُورَةُ ... تَوَطُّنٌ كَذَلِكَ الْحُرِّيَّةُ إقَامَةٌ أَيْ لِلْوُجُوبِ تَبِعَا ... وَفَقْدُ عُذْرِ مِثْلِهَا فَاسْتَمِعَا كَذَا دُخُولُ الْوَقْتِ وَأَلْحِقْ السَّبَبَ ... وُجُوبُهَا كَغَيْرِهَا مِمَّا وَجَبَ وَشَرْطُ صِحَّةِ وُقُوعِ الْخُطْبَتَيْنِ ... فِي وَقْتِ ظُهْرٍ لَا سِوَاهُ دُونَ بَيْنِ كَمَسْجِدٍ مُتَّحِدٍ ذِي بِنْيَةِ ... وَقَرْيَةٍ بِأَهْلِهَا تَقَرَّتْ وَأَنْ يُصَلِّيَ مِنْهُمْ اثْنَا عَشَرَا ... لَهَا مَعَ الْإِمَامِ مِنْ غَيْرِ مِرَا وَكَوْنُهُ بِلَا خَفَا مَنْ خَطَبَا ... إلَّا لِعُذْرٍ وَمُقِيمًا صُوِّبَا وَخُطْبَتَيْنِ قَبْلَهَا وَيَحْضُرُوا ... جَمِيعَ هَاتَيْنِ اللَّذَيْنِ عَبَّرُوا ثُمَّ شَرَعَ فِي مَنْدُوبَاتِ الْخُطْبَةِ وَالصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يَتَوَكَّأَ الْإِمَامُ) أَيْ يَعْتَمِدُ حَالَ خُطْبَتِهِ (عَلَى عَصًا) أَوْ سَيْفٍ (أَوْ قَوْسٍ) قَالَهُ مَالِكٌ، وَالْمُرَادُ قَوْسُ الْعَرَبِ لَا قَوْسُ الْعَجَمِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ ذَلِكَ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِهِ ذَلِكَ فَقِيلَ لِئَلَّا يَعْبَثَ بِيَدِهِ فِي لِحْيَتِهِ عِنْدَ قِرَاءَتِهِ لِلْخُطْبَةِ، وَقِيلَ تَخْوِيفِ الْحَاضِرِينَ، وَيَضَعُهُ بِيَمِينِهِ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَلَا يَعْتَمِدُ عَلَى عُودِ الْمِنْبَرِ. (وَ) يُسَنُّ أَنْ (يَجْلِسَ) الْخَطِيبُ (فِي أَوَّلِهَا) أَيْ الْخُطْبَةِ لِلِاسْتِرَاحَةِ حَتَّى يُفْرَغَ الْأَذَانُ (وَ) يُسَنُّ أَيْضًا أَنْ يَجْلِسَ (فِي وَسَطِهَا) وَيَقُومُ لِلْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَالْجُلُوسُ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ قَدْرَ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ رَقَى الْمِنْبَرَ فَجَلَسَ» وَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ قَائِمًا ثُمَّ يَقْعُدُ ثُمَّ يَقُومُ فَيَخْطُبُ» وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ عَلَى ذَلِكَ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ وَالْأَعْصَارِ مُنْذُ زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى الْآنَ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَكَذَلِكَ سَائِرُ الْخُطَبِ فِي أَوَّلِهَا وَفِي وَسَطِهَا. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجْلِسُ أَنَّهُ يَخْطُبُ قَائِمًا، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ ذَلِكَ الْقِيَامِ فَقِيلَ وَاجِبٌ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ جَمِيعًا، وَقِيلَ سُنَّةٌ، فَإِنْ خَطَبَ جَالِسًا أَسَاءَ وَصَحَّتْ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ كَمَا فِي عَزَّ وَابْنِ عَرَفَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي وُجُوبِ قِيَامِهِ لَهُمَا تَرَدُّدٌ (فَائِدَةٌ) : حِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّةِ الْخُطْبَةِ مَعَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ جَلَاءُ الْقُلُوبِ بِسَمَاعِ الْمَوَاعِظِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لَمَّا كَانَتْ الْقُلُوبُ تَصْدَأُ بِالْغَفْلَةِ وَالْخَطِيئَةِ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ اقْتَضَتْ الْحِكْمَةُ الْإِلَهِيَّةُ جَلَاءَهَا كُلَّ أُسْبُوعٍ بِالْمَوَاعِظِ وَالِاجْتِمَاعِ لِيَتَّعِظَ الْغَنِيُّ بِالْفَقِيرِ وَالْقَوِيُّ بِالضَّعِيفِ وَالصَّالِحُ بِغَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ أَمَرَ بِاجْتِمَاعِ أَهْلِ الْآفَاقِ فِي الْحَجِّ فِي الْعُمُرِ مَرَّةً وَبِالِاجْتِمَاعِ فِي الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَاتِ عِنْدَ فِعْلِهَا، وَلَمَّا تَقَرَّرَ أَنَّ الْخُطْبَةَ كَأُولَتَيْ الرُّبَاعِيَّةِ فَتَتَّصِلُ بِهَا قَالَ: (وَتُقَامُ الصَّلَاةُ) أَيْ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ (عِنْدَ فَرَاغِهَا) أَيْ الْخُطْبَةِ وَهَذَا عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، وَيُغْتَفَرُ الْفَصْلُ الْيَسِيرُ دُونَ الْكَثِيرِ فَتُعَادُ لِأَجْلِهِ الْخُطْبَةُ، وَمِنْ الْفَصْلِ الْيَسِيرِ مَا قَالَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ ذَكَرَ بَعْدَ خُطْبَتِهِ مَنْسِيَّةً فَإِنَّهُ يُصَلِّيهَا ثُمَّ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بَعْدَهَا وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى أَنَّ الْإِمَامَ هُوَ الْخَطِيبُ، فَإِنْ طَرَأَ مَا يَمْنَعُ إمَامَتَهُ كَحَدَثٍ أَوْ رُعَافٍ فَقَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ انْتِظَارُهُ لِعُذْرٍ قَرُبَ عَلَى الْأَصَحِّ، وَمَفْهُومُهُ لَوْ بَعُدَ لَوَجَبَ اسْتِخْلَافُهُ لِغَيْرِهِ بِاتِّفَاقٍ، وَيُسْتَحَبُّ اسْتِخْلَافُ حَاضِرِ الْخُطْبَةِ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ لَا يُنْتَظَرُ وَلَوْ قَرُبَ زَوَالُ عُذْرِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ لَا تَصِحُّ الْخُطْبَةُ إلَّا مِمَّنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الْإِمَامَةِ. (وَ) صِفَةُ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنْ (يُصَلِّيَ الْإِمَامُ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) فَتَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ زِيَادَةٍ كَسَجْدَةٍ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ مَعَ السَّهْوِ فَتَبْطُلُ بِزِيَادَةِ رَكْعَتَيْنِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا فَرْضُ يَوْمِهَا، وَأَمَّا بِزِيَادَةِ أَرْبَعَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا بَدَلٌ عَنْ الظُّهْرِ، وَحُكْمُ الْجَهْرِ فِيهَا كَجَهْرِ الْفَرَائِضِ السُّنِّيَّةِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: كُلُّ صَلَاةٍ فِيهَا خُطْبَةٌ يُجْهَرُ فِيهَا بِالْقِرَاءَةِ مَا عَدَا خُطْبَةِ الْحَجِّ؛ لِأَنَّهَا لِلتَّعْلِيمِ، وَإِنْ قَرَأَ فِيهَا سِرًّا عَمْدًا كَانَ كَتَعَمُّدِ تَرْكِ سُنَّةٍ، فَقِيلَ يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَلَا سُجُودَ عَلَيْهِ، وَقِيلَ تَبْطُلُ صَلَاتُهُ، وَالنَّاسِي يَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ إنْ أَسَرَّ فِي الْفَاتِحَةِ أَوْ فِي السُّورَةِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ، وَتَوَهَّمَ أَبُو يُوسُفَ صَاحِبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَلَّى الْجُمُعَةَ؛ لِأَنَّ وَقْفَتَهَا وَقَعَتْ يَوْمَ جُمُعَةٍ فَحَاجَّهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ نَاظَرَهُ عِنْدَ الْأَمِيرِ هَارُونَ الرَّشِيدِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: هِيَ جُمُعَةٌ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَلَا تَكُونُ جُمُعَةً إلَّا كَذَلِكَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: أَجَهَرَ فِيهَا؟ فَانْقَطَعَ أَبُو يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَرْوِ أَحَدٌ أَنَّهُ جَهَرَ فِيهَا، وَالْإِجْمَاعُ مُنْعَقِدٌ عَلَى الْجَهْرِ فِي الْجُمُعَةِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقْرَأَ فِي) الرَّكْعَةِ (الْأُولَى) بَعْدَ الْفَاتِحَةِ (بِالْجُمُعَةِ) لِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بِالْجُمُعَةِ وَنَحْوِهَا وَفِي الثَّانِيَةِ بِهَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ وَنَحْوِهَا وَيَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهَا عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ وَمَنْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْهُ فَأَقَلَّ وَلَا تَجِبُ عَلَى مُسَافِرٍ وَلَا عَلَى أَهْلِ مِنًى وَلَا عَلَى عَبْدٍ وَلَا امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ وَإِنْ حَضَرَهَا عَبْدٌ أَوْ   [الفواكه الدواني] اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مُوَاظِبًا عَلَى قِرَاءَتِهَا فِيهَا. (وَ) لَهُ أَنْ يَقْرَأَ فِيهَا (نَحْوَهَا) مِمَّا هُوَ مُقَارِبٌ لَهَا فِي الطُّولِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ: إنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْرَأْ فِي الْجُمُعَةِ إلَّا بِهَا، فَفِي مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَرَأَ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى: بِ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى» فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي زِيَادَةِ قَوْلِهِ: أَوْ نَحْوَهَا، وَلَا يُقَالُ: سَبِّحْ لَيْسَتْ نَحْوَ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَصْدُ الرَّدُّ عَلَى مَنْ نَفَى قِرَاءَةَ غَيْرِ الْجُمُعَةِ فِي حَقِّ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَهُوَ يَحْصُلُ بِوُرُودِهِ مُطْلَقَ قِرَاءَةِ سُورَةٍ غَيْرِ الْجُمُعَةِ فَافْهَمْ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ (فِي) الرَّكْعَةِ (الثَّانِيَةِ بِ " هَلْ أَتَاك حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ " وَنَحْوِهَا) مِنْ الْقِصَارِ. قَالَ فِي الْكَافِي: وَيَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ بِ " سَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى " أَوْ " هَلْ أَتَاك " أَوْ " إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ " كُلُّ ذَلِكَ حَسَنٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ اسْتَحَبَّ فِي الثَّانِيَةِ قِرَاءَةَ: هَلْ أَتَاك فَقَطْ، وَبَعْضُهُمْ يُحَصِّلُ النَّدْبَ فِي الثَّانِيَةِ بِقِرَاءَةِ: سَبِّحْ، أَوْ: إذَا جَاءَك الْمُنَافِقُونَ، أَوْ: هَلْ أَتَاك، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي الثَّانِيَةِ: بِهَلْ أَتَاك وَنَحْوِهَا اقْتِصَارٌ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَلَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا لَقَالَ: وَفِي الثَّانِيَةِ بِهَلْ أَتَاك أَوْ هِيَ وَسَبِّحْ أَوْ الْمُنَافِقُونَ. (وَيَجِبُ السَّعْيُ إلَيْهَا) أَيْ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (عَلَى مَنْ) هُوَ مُسْتَوْطِنٌ (فِي الْمِصْرِ) وَهُوَ الْبَلَدُ الْكَبِيرُ. قَالَ فِي الْجَلَّابِ: وَتَجِبُ الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ فِي الْمِصْرِ قَاصِيهِمْ وَدَانِيهِمْ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْمَصْرِ بَلْ سَائِرُ الْقُرَى الْمُسْتَوْطَنَةِ يَجِبُ عَلَى أَهْلِهَا السَّعْيُ إلَى الْجُمُعَةِ وَلَوْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ عَنْ مَحَلِّ الْجُمُعَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ سِتَّةِ أَمْيَالٍ وَتَنْعَقِدُ بِهِمْ لِدُخُولِهِمْ بَلَدِ الْجُمُعَةِ. (وَ) كَذَا يَجِبُ السَّعْيُ عَلَى (مَنْ) مَنْزِلُهُ خَارِجٌ عَنْ بَلَدِ الْجُمُعَةِ حَيْثُ كَانَ (عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْمِصْرِ، وَالْمُرَادُ مِنْ مَنَارِهِ أَوْ سُورِهِ (فَأَقَلَّ) فَلَا تَجِبُ عَلَى مَنْ خَرَجَ مَنْزِلُهُ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَمْيَالٍ، هَكَذَا رُوِيَ عَنْ أَشْهَبَ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وُجُوبُهَا عَلَى مَنْ عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ وَرُبْعٍ أَوْ ثُلُثِ مِيلٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَتْ الْمُكَلَّفَ الْحُرَّ الذَّكَرَ الْمُتَوَطِّنَ وَإِنْ بِقَرْيَةٍ نَائِيَةٍ بِكَفَرْسَخٍ مِنْ الْمَنَارِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي نَفْيِهِ الْوُجُوبَ عَنْ الْخَارِجِ عَنْ الْمِصْرِ دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الجمعة: 9] وَهَذَا عَامٌّ فِي الْأَمْصَارِ وَالْقُرَى، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْجُمُعَةُ عَلَى مَنْ سَمِعَ النِّدَاءَ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد، وَالنِّدَاءُ يُسْمَعُ مِنْ الصِّيتِ مِنْ ثَلَاثِ أَمْيَالٍ مَعَ هُدُوءِ الرِّيحِ، وَلَكِنْ لَا تَنْعَقِدُ إلَّا بِمَنْ كَانَ سَاكِنًا بِالْبَلَدِ، وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْهَا وَدَاخِلُ الْفَرْسَخِ تَجِبُ عَلَيْهِ وَلَا تَنْعَقِدُ بِهِ فَلَا يُحْسَبُ مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيَصِحُّ كَوْنُهُ خَطِيبًا. [شُرُوطِ وُجُوبِ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الْوُجُوبِ يَذْكُرُ الضِّدَّ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَجِبُ) صَلَاةُ الْجُمُعَةِ (عَلَى مُسَافِرٍ) بِدَلِيلِ عَدَمِ صَلَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْجُمُعَةَ عَامَ حَجَّةِ سَنَةِ الْوَدَاعِ بِعَرَفَةَ، وَلَوْ صَلَّاهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْمُسْتَوْطَنَيْنِ بِعَرَفَةَ لَصَحَّتْ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يُشْتَرَطُ فِي إمَامَتِهِ الِاسْتِيطَانُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُصْطَفَى خَلِيفَةُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُسَافِرِ مَنْ أَتَى مِنْ مَحَلٍّ خَارِجٍ عَنْ بَلَدِ الْجُمُعَةِ بِأَكْثَرَ مِنْ كَفَرْسَخِ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ مَسَافَةِ قَصْرٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَافِرَ لَا جُمُعَةَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُنَا: مَنْ أَتَى إلَخْ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ سَافَرَ مِنْ بَلَدٍ وَأَدْرَكَ النِّدَاءَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، فَهَذَا لَا تَسْقُطُ عَنْهُ الْجُمُعَةُ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ لَهَا حَيْثُ يَعْتَقِدُ إدْرَاكَهَا وَلَوْ بِرَكْعَةٍ، وَمِثْلُ إدْرَاكِ النِّدَاءِ تَحَقُّقُ الزَّوَالِ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ الْفَرْسَخِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُصَلِّيهَا فِي مَحَلِّ إمَامِهِ (وَ) كَذَا (لَا) تَجِبُ الْجُمُعَةُ (عَلَى أَهْلِ مِنًى) الْكَائِنِينَ بِهَا لِرَمْيِ الْجِمَارِ؛ لِأَنَّهُمْ مُسَافِرُونَ، وَأَمَّا الْمُسْتَوْطِنُونَ بِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهِمْ حَيْثُ تَوَفَّرَتْ فِيهِمْ الشُّرُوطُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مَنْ أَتَى قَرْيَةً إلَى قَرْيَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يَخْطُبَ بِهَا تَصِحُّ خُطْبَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الْإِقَامَةَ الْقَاطِعَةَ لِحُكْمِ السَّفَرِ حَيْثُ كَانَتْ قَرْيَتُهُ عَلَى كَفَرْسَخٍ مِنْ الْمَنَارِ، وَإِنْ كَانَتْ قَرْيَتُهُ خَارِجَةً عَنْ كَفَرْسَخٍ لَا تَصِحُّ إمَامَتُهُ فِي الْجُمُعَةِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْإِقَامَةَ، وَلَوْ كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ أَقَلُّ مِنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ عَلَى ظَاهِرِ الْمَذْهَبِ، وَعَدَمُ وُجُوبِهَا عَلَى الْمُسَافِرِ لَا يُنَافِي أَنَّهُ إنْ صَلَّاهَا نَابَتْ لَهُ عَنْ الظُّهْرِ. (وَلَا) تَجِبُ الْجُمُعَةُ أَيْضًا (عَلَى عَبْدٍ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ وُجُوبِهَا الْحُرِّيَّةُ (وَلَا امْرَأَةٍ) وَلَا خُنْثَى مُشْكِلٍ (وَلَا صَبِيٍّ) لِحَدِيثِ: «الْجُمُعَةُ حَقٌّ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ فِي جَمَاعَةٍ إلَّا أَرْبَعَةً: عَبْدٌ مَمْلُوكٌ، أَوْ امْرَأَةٌ، أَوْ صَبِيٌّ، أَوْ مَرِيضٌ» وَلَمَّا كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْوُجُوبِ عَدَمُ نَدْبِ فِعْلِهَا قَالَ: (إنْ حَضَرَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 امْرَأَةٌ فَلْيُصَلِّهَا وَتَكُونُ النِّسَاءُ خَلْفَ صُفُوفِ الرِّجَالِ وَلَا تَخْرُجُ إلَيْهَا الشَّابَّةُ وَيُنْصَتُ لِلْإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ وَيَسْتَقْبِلُهُ   [الفواكه الدواني] عَبْدٌ أَوْ امْرَأَةٌ) أَوْ مُسَافِرٌ أَوْ مَرِيضٌ يُبَاحُ لَهُ التَّخَلُّفُ عَنْهَا (فَلْيُصَلِّهَا) وَتُجْزِئْهُ عَنْ الظُّهْرِ، وَلَمْ يَنُصَّ عَلَى حُكْمِ حُضُورِهَا فِي حَقِّ هَؤُلَاءِ، وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ وَهُوَ النَّدْبُ فِي الصَّبِيِّ وَالْمُكَاتَبِ وَلَوْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُمَا، وَأَمَّا الْقِنُّ وَالْمُدَبَّرُ فَيُنْدَبُ لَهُمَا مَعَ الْإِذْنِ فِي حُضُورِهَا، وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَفِي يَوْمِ سَيِّدِهِ يَتَوَقَّفُ النَّدْبُ عَلَى إذْنِهِ، وَفِي يَوْمِهِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنٍ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمُعْتَقَ إلَى أَجَلٍ كَالْقِنِّ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلَا يُنْدَبُ لَهَا حُضُورُهَا كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَإِنْ مُتَجَالَّةً، وَحُكْمُ حُضُورِهَا الْحُرْمَةُ فِي الشَّابَّةِ النَّاعِمَةِ، وَالْكَرَاهَةُ فِي حَقِّ الشَّابَّةِ الَّتِي لَا تَمِيلُ إلَيْهَا النُّفُوسُ غَالِبًا، وَالْجَوَازُ فِي حَقِّ الْمُتَجَالَّةِ فَالْأَقْسَامُ ثَلَاثَةٌ، وَأَمَّا الْمُسَافِرُ فَيُنْدَبُ لَهُ الْحُضُورُ حَيْثُ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَصْحَابُ الْأَعْذَارِ الْمُسْقِطَةِ لَهَا فَحُضُورُهُمْ جَائِزٌ، وَإِنْ حَضَرُوهَا وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ، حُكْمُ دُخُولِهِ النَّدْبُ إلَّا النِّسَاءَ وَالْعَبِيدَ الَّذِينَ يَحْتَاجُونَ إلَى الْإِذْنِ وَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُمْ يُكْرَهُ لَهُمْ فِعْلُهَا أَوْ بِخِلَافِ الْأَوْلَى، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا حَضَرَتْ الْجُمُعَةُ تُصَلِّيهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَحَلِّ وُقُوفِهَا فَقَالَ: (وَتَكُونُ النِّسَاءُ) فِي حَالِ صَلَاتِهِنَّ (خَلْفَ صُفُوفِ الرِّجَالِ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاتِهِنَّ غَيْرَ الْجُمُعَةِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ بَيَانِ مَحَلِّ وُقُوفِهِنَّ جَوَازُ خُرُوجِهِنَّ لِصَلَاتِهَا وَإِنْ كُنَّ شَوَابَّ قَالَ كَالْمُسْتَدْرِكِ عَلَى مَا سَبَقَ: (وَلَا تَخْرُجُ إلَيْهَا) أَيْ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (الشَّابَّةُ) عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ مَخْشِيَّةَ الْفِتْنَةِ وَإِلَّا حَرُمَ حُضُورُهَا، وَأَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَيَجُوزُ حُضُورُهَا، فَحُضُورُهُنَّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ سَابِقًا. (تَتِمَّةٌ) : بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَشْيَاءُ يَسْقُطُ مِنْهَا وُجُوبُ السَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ أَشَارَ إلَيْهَا فِي التَّحْقِيقِ بِقَوْلِهِ: وَالْمَانِعُ مِنْ حُضُورِهَا أَشْيَاءُ مِنْهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّفْسِ كَالْمَرَضِ الَّذِي يَشُقُّ مَعَهُ الْإِتْيَانُ أَوْ عِلَّةٌ لَا يُمْكِنُ مَعَهَا الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ يَكُونُ مُقْعَدًا وَلَا يَجِدُ مَرْكُوبًا أَوْ أَعْمَى وَلَا يَجِدُ قَائِدًا عَنْ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَمِنْهَا: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَهْلِ بِأَنْ تَكُونَ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ أَوْ أَحَدَ وَالِدَيْهِ وَقَدْ اشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ أَوْ اُحْتُضِرَ أَوْ مَاتَ وَخُشِيَ، عَلَيْهِ التَّغَيُّرُ إنْ تَرَكَهُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الصَّلَاةُ فَلَهُ التَّخَلُّفُ وَيَشْتَغِلُ بِجِنَازَتِهِ، بَلْ الِاشْتِغَالُ بِهَا أَوْلَى وَلَوْ فَاتَتْهُ الْجُمُعَةُ، وَلِقَرِيبِ الْمَرِيضِ الْخُرُوجُ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ إذَا بَلَغَهُ عَنْهُ مَا يُخْشَى مِنْهُ الْمَوْتُ، وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَخَافُ عَلَى مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُ مَالِهِ مِنْ سُلْطَانٍ أَوْ سَارِقٍ أَوْ حَرْقٍ، وَمِنْهَا: الْمَطَرُ الشَّدِيدُ أَوْ الْوَحْلُ الْكَثِيرُ، وَمِنْهَا: كَوْنُهُ مُعْسِرًا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَيَخَافُ أَنْ يَحْبِسَهُ الْغَرِيمُ عِنْدَ ظُهُورِهِ، وَمِنْهَا: أَكْلُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَثُومٍ أَوْ بَصَلٍ أَوْ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ كَكَوْنِهِ مَجْذُومًا، وَمِنْهَا: عَدَمُ مَا يَسْتُرُ بِهِ عَوْرَتَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ بِغَيْرِ لَائِقٍ، وَلَيْسَ مِنْ الْأَعْذَارِ شُهُودُ صَلَاةِ الْعِيدِ صَبِيحَةَ يَوْمِ الْجُمُعَةِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ وَإِلَّا الْعُرْسُ بِمَعْنَى الزَّوْجَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ لِسَمَاعِ الْخُطْبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ أَنْ (يُنْصِتَ) أَيْ يَسْتَمِعَ (لِلْإِمَامِ) فِي خُطْبَتِهِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَفِي حَالِ جُلُوسِ الْخَطِيبِ بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ تَفْرُغَ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْصَاتُ فِي حَالِ الدُّعَاءِ لِلسُّلْطَانِ، وَقَوْلُهُ فِي خُطْبَتِهِ يُفِيدُ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الْإِنْصَاتُ إلَّا بَعْدَ شُرُوعِهِ فِيهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ وَنَحْوَهُ مِنْ كُلِّ مُشْغِلٍ إنَّمَا يَحْرُمُ بِالْخُطْبَةِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشْبِهًا فِي الْحُرْمَةِ كَكَلَامٍ فِي خُطْبَتِهِ بِقِيَامِهِ وَبَيْنَهُمَا وَلَوْ لِغَيْرِ سَامِعٍ إلَّا أَنْ يَلْغُوَ عَلَى الْمُخْتَارِ، وَكَلَامٌ وَرَدُّهُ وَنَهْيٌ لَاغٍ وَحَصَبُهُ أَوْ إشَارَةٌ لَهُ، وَابْتِدَاءُ صَلَاةٍ بِخُرُوجِهِ وَإِنْ لِدَاخِلٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِنْصَاتَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ كَانَ جَالِسًا بِالْمَسْجِدِ أَوْ رِحَابِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ يَسْمَعُ كَلَامَ الْإِمَامِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْإِنْصَاتُ وَالْإِصْغَاءُ لَا السَّمَاعُ، وَإِلَّا لَوَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ شَهِدَ الْجُمُعَةَ الْجُلُوسُ بِقُرْبِ الْخَطِيبِ بِحَيْثُ يَسْمَعُهُ وَلَا قَائِلَ بِذَلِكَ، إذْ يَجُوزُ الْجُلُوسُ عَجُزَ الْمَسْجِدِ اخْتِيَارًا بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ الْخَطِيبَ، وَالْأَصْلُ فِي وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا} [الأعراف: 204] قِيلَ نَزَلَتْ فِي، الْخُطْبَةِ. وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت» . وَرُوِيَ: «مَنْ لَغَى فَلَا جُمُعَةَ لَهُ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا، وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْهُ أَنَّهُ سَمَّى الْأَمْرَ بِالْمَعْرُوفِ فِيهِ لَغْوًا، وَاللَّغْوُ الْكَلَامُ الَّذِي لَا خَيْرَ فِيهِ، وَمَا نُفِيَ عَنْهُ الْخَيْرُ عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِغْرَاقِ نَصًّا أَوْ ظُهُورًا يَقْبَحُ التَّكَلُّمُ بِهِ بَلْ يَحْرُمُ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَقَوْلُنَا: جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رِحَابِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْجَالِسِ فِي غَيْرِهِمَا، فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْصَاتُ وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ إلَّا مَعَ الْجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رَحْبَتِهِ لَا مَعَ غَيْرِهِمَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيِّدَ وُجُوبَ الْإِنْصَاتِ عَلَى الْجَالِسِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ رَحْبَتِهِ بِمَا إذَا كَانَ الْخَطِيبُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ لَغْوٌ بِحَيْثُ يَخْرُجُ عَنْ الْخُطْبَةِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا كَقِرَاءَةِ كِتَابٍ أَوْ نَحْوِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِنْصَاتِ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ السَّامِعِ حُرْمَةُ كُلِّ مَا يُنَافِيه مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَتَحْرِيكُ شَيْءٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 النَّاسُ وَالْغُسْلُ لَهَا وَاجِبٌ وَالتَّهْجِيرُ حَسَنٌ وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ وَلْيَتَطَيَّبْ لَهَا وَيَلْبَسْ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ وَأَحَبُّ إلَيْنَا   [الفواكه الدواني] يَحْصُلُ مِنْهُ تَصْوِيتٌ كَوَرَقٍ أَوْ ثَوْبٍ أَوْ فَتْحِ بَابٍ أَوْ سُبْحَةٍ أَوْ مُطَالَعَةٍ فِي كُرَّاسٍ، بَلْ يَقْتَضِي الْمَذْهَبُ مَنْعَ الْإِشَارَةِ لِمَنْ لَغَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَهْيُ لَاغٍ وَحَصْبُهُ أَوْ إشَارَةٌ لَهُ أَوْ لِرَدِّ سَلَامٍ وَإِنْ جَازَتْ فِي الصَّلَاةِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا مَرَّ مِنْ حُرْمَةِ التَّكَلُّمِ وَقْتَ الْخُطْبَةِ بِشُرُوعِ الْخَطِيبِ فِيهَا عَدَمُ حُرْمَةِ مَا يَقُولُهُ الْمُرْقَى عِنْدَ صُعُودِ الْخَطِيبِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْت» . وَقَوْلُهُ: " أَنْصِتْ رَحِمَكُمْ اللَّهُ "؛ لِأَنَّهُ يَقُولُهُ قَبْلَ شُرُوعِ الْخَطِيبِ، نَعَمْ فِعْلُهُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِدْعَةٌ مَكْرُوهَةٌ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ وَعَلَّلَ الْكَرَاهَةَ بِأَنَّهُ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا عَنْ أَحَدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ عَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلِي فِي دَعْوَى الْكَرَاهَةِ بَحْثٌ مَعَ اشْتِمَالِهِ عَلَى التَّحْذِيرِ مِنْ ارْتِكَابِ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ حَالَ الْخُطْبَةِ فَلَعَلَّهُ مِنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ، وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ لَيْسَ بِمَوْضُوعٍ، وَأَمَّا مَا يَقُولُهُ الْمُؤَذِّنُونَ عِنْدَ جُلُوسِ الْخَطِيبِ بَيْنَ الْخُطْبَتَيْنِ فَيَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ كُلٌّ مِنْ التَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ ذِكْرِ أَسْبَابِهَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ إقْبَالٌ عَلَى ذِكْرٍ قَلَّ سِرًّا كَتَأْمِينٍ وَتَعَوُّذٍ عِنْدَ السَّبَبِ وَكَتَحْمِيدِ عَاطِسٍ سِرًّا. (وَ) يَجِبُ أَنْ (يَسْتَقْبِلَهُ) أَيْ الْخَطِيبَ (النَّاسُ) بِوُجُوهِهِمْ (فِي الْخُطْبَةِ) وَالنَّاسُ يَتَنَاوَلُ أَهْلَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَغَيْرَهُمْ مِمَّنْ يَسْمَعُهُ وَمَنْ لَمْ يَسْمَعْهُ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَلَكِنَّ أَهْلَ الصَّفِّ الْأَوَّلِ يُحَوِّلُونَ وُجُوهَهُمْ إلَى جِهَةِ ذَاتِهِ بِحَيْثُ يَنْظُرُونَهَا، وَأَمَّا أَهْلُ غَيْرِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ فَيَسْتَقْبِلُونَ جِهَتَهُ وَذَاتَه، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اُرْمُقُوهُ بِأَبْصَارِكُمْ وَاصْغُوا إلَيْهِ بِآذَانِكُمْ.؛ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْإِسْمَاعِ» وَمَا حَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوب الِاسْتِقْبَالِ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ لَا خُصُوصِ غَيْرِ الصَّفِّ الْأَوَّلِ هُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، خِلَافًا لِلْفَاكِهَانِيِّ، فِي قَوْلِهِ: إنَّهُ سُنَّةٌ، وَلِخَلِيلٍ فِي قَوْلِهِ: إنَّ الَّذِي يَسْتَقْبِلُهُ غَيْرُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَلَفْظُهُ: وَاسْتَقْبَلَهُ غَيْرُ الصَّفِّ الْأَوَّلِ. [آدَاب الْجُمُعَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي آدَابِهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْغُسْلُ لَهَا) أَيْ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ (وَاجِبٌ) وُجُوبَ السُّنَنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسُنَّ غُسْلٌ مُتَّصِلٌ بِالرَّوَاحِ وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ وَأَعَادَ إنْ تَغَدَّ أَوْ نَامَ اخْتِيَارًا لَا لِأَكْلٍ خَفَّ، فَيُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ مَنْ يَحْضُرُهَا وَلَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً؛ لِأَنَّهُ لِلصَّلَاةِ لَا لِلنَّوْمِ، بِخِلَافِ غُسْلِ الْعِيدِ وَهُوَ تَعَبُّدٌ فَيَفْتَقِرُ إلَى مُطْلَقِ نِيَّةٍ وَصِفَتُهُ كَغُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَيَصِحُّ انْدِرَاجُهُ فِيهِ عِنْدَ نِيَّتِهِ بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْغُسْلِ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ فَلَا يُجْزِئُ قَبْلَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِهِ بِالرَّوَاحِ، فَإِنْ اشْتَغَلَ خَارِجَ الْمَسْجِدِ بَعْدَهُ بِغَدَاءٍ أَوْ نَوْمٍ أَعَادَهُ حَيْثُ طَالَ زَمَانُهُمَا، وَأَمَّا الْأَكْلُ وَالنَّوْمُ فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُبْطِلُهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَوْ كَثُرَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ كَغَيْرِهِ وَلَوْ حَصَلَا فِيهِ مَعَ كَثْرَتِهِمَا لَا يُبْطِلَانِ ثَوَابَ الْغُسْلِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَدَثَ لَهُ رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ أَوْ جَنَابَةٌ فَيُبْطِلَانِ ثَوَابَهُ وَلَوْ حَصَلَا فِي الْمَسْجِدِ، وَمَحِلُّ سُنِّيَّةِ الْغُسْلِ مَا لَمْ يَكُنْ لِمُرِيدِ حُضُورِهَا رَائِحَةٌ كَرِيهَةٌ تَمْنَعُ مِنْ حُضُورِهَا وَإِلَّا وَجَبَ، وَلَيْسَ لِلْجُمُعَةِ سُنَّةٌ إلَّا الْغُسْلَ، وَقَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: ثَلَاثُ سُنَنٍ قَلَّ الْعَمَلُ بِهَا: غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَوُضُوءُ الْجُنُبِ لِلنَّوْمِ وَفِعْلُ الْعَقِيقَةِ، وَزِيدَ عَلَيْهَا سُنَّةٌ رَابِعَةٌ وَهِيَ غُسْلُ الْعِيدَيْنِ وَإِطْلَاقُ السُّنَّةِ عَلَى وُضُوءِ الْجُنُبِ عَلَى طَرِيقَةِ الْبَغْدَادِيِّينَ الَّذِينَ يُطْلِقُونَ لَفْظَ السُّنَّةِ عَلَى كُلِّ مَطْلُوبٍ طَلَبًا غَيْرَ جَازِمٍ، وَأَمَّا بَقِيَّةُ آدَابِ الْجُمُعَةِ فَهُوَ مَنْدُوبٌ لِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَالتَّهْجِيرُ) وَهُوَ الذَّهَابُ إلَى صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَقْتَ الْهَاجِرَةِ مِنْ الْإِمَامِ وَمَأْمُومٍ (حَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - كَانُوا يَأْتُونَ الْمَسْجِدَ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الرَّوَاحَ فِي وَقْتِ الْهَاجِرَةِ وَإِنْ كَانَ مُسْتَحَبًّا يَخْتَلِفُ ثَوَابُهُ بِدَلِيلِ حَدِيثِ: «مَنْ اغْتَسَلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ثُمَّ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْأُولَى فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشًا أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الْخَامِسَةِ فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ حَضَرَتْ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ» وَهَذِهِ السَّاعَاتُ الْخَمْسُ أَجْزَاءُ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ النَّهَارِ وَهِيَ السَّاعَةُ السَّادِسَةُ الَّتِي قَبْلَ الزَّوَالِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ: " فَإِذَا خَرَجَ الْإِمَامُ إلَخْ "؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يُطْلَبُ خُرُوجُهُ فِي أَوَّلِ السَّابِعَةِ وَهُوَ عَقِبَ الزَّوَالِ وَعَقِبَ الْجُزْءِ الْخَامِسِ مِنْ السَّادِسَةِ الْمُقَسَّمَةِ لِلْخَمْسَةِ أَجْزَاءٍ، وَبِخُرُوجِهِ تَحْضُرُ الْمَلَائِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ، فَالسَّاعَةُ الْكَائِنَةُ فِي الْحَدِيثِ اعْتِبَارِيَّةٌ لَا فَلَكِيَّةٌ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُبَادَرَةُ إلَى حُضُورِ الطَّاعَةِ مَطْلُوبَةً فِي الْجُمْلَةِ كَانَتْ مَظِنَّةَ تَوَهُّمِ نَدْبِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَدَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ ذَلِكَ) أَيْ السَّعْيُ الْمَفْهُومُ مِنْ التَّهْجِيرِ (فِي أَوَّلِ النَّهَارِ) ؛ لِأَنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَرِهَ السَّعْيَ لَهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَا أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلِخَوْفِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا اسْمَ الْإِشَارَةِ بِالسَّعْيِ؛ لِأَنَّ الْهَاجِرَةَ شِدَّةُ الْحَرِّ وَهِيَ لَا تَكُونُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ عِنْدَ طُلُوعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 أَنْ يَنْصَرِفَ بَعْدَ فَرَاغِهَا وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمَسْجِدِ وَلْيَتَنَفَّلْ إنْ شَاءَ قَبْلَهَا وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ الْإِمَامُ وَلْيَرْقَ الْمِنْبَرَ كَمَا يَدْخُلُ.   [الفواكه الدواني] الشَّمْسِ، فَإِنْ قِيلَ: كَرَاهَةُ التَّبْكِيرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، يُنَافِيه قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ وَبَكَّرَ وَابْتَكَرَ وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ وَدَنَا مِنْ الْإِمَامِ لِيَسْمَعَ وَلَمْ يَلْغُ كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا» فَالْجَوَابُ مَا قَالَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ مَعْنَى بَكَّرَ أَدْرَكَ بَاكُورَةَ الْخُطْبَةِ، وَمَعْنَى ابْتَكَرَ قَدِمَ فِي أَوَّلِ الْوَقْتِ، أَوْ أَنَّ مَعْنَى بَكَّرَ تَصَدَّقَ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «بَاكِرُوا بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْبَلَاءَ لَا يَتَخَطَّاهَا» وَقَوْلُهُ: " ابْتَكَرَ " تَأْكِيدٌ لِسَابِقِهِ عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، وَمَعْنَى غَسَّلَ أَوْجَبَ الْغُسْلَ عَلَى غَيْرِهِ بِالْجِمَاعِ وَاغْتَسَلَ هُوَ مِنْهُ (وَالتَّطَيُّبُ لَهَا) حَسَنٌ أَيْضًا بِمَعْنَى: مَنْدُوبٌ، وَمَعْنَى التَّطَيُّبِ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَلَوْ لِمُؤَنَّثٍ، وَهُوَ مَا يَظْهَرُ أَثَرُهُ وَرِيحُهُ، وَيَقْصِدُ بِذَلِكَ الْعَمَلَ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ طِيبٌ فَلَا يَضُرُّهُ أَنْ يَمَسَّ مِنْهُ وَلَا يَقْصِدُ بِهِ فَخْرًا وَلَا رِيَاءً» . وَفِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ " لَهَا " إشَارَةٌ إلَى أَنَّهُ إنَّمَا يُخَاطِبُ بِالتَّطَيُّبِ مَنْ يَحْضُرُ الصَّلَاةَ، بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ يَوْمَهُ اسْتِعْمَالُ الطِّيبِ وَلَوْ لَمْ يَحْضُرْ صَلَاتَهُ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ أَنْ (يَلْبَسَ أَحْسَنَ ثِيَابِهِ) لِيَتَجَمَّلَ بِهَا بَيْنَ النَّاسِ، وَالْمُرَادُ بِأَحْسَنِهَا الْأَبْيَضُ وَلَوْ عَتِيقًا لِحَدِيثِ: «أَحْسَنُ مَا زُرْتُمْ اللَّهَ بِهِ فِي قُبُورِكُمْ وَمَسَاجِدِكُمْ الْبَيَاضُ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبِسُوا مِنْ ثِيَابِكُمْ الْبَيَاضَ فَإِنَّهَا خَيْرُ ثِيَابِكُمْ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ» . حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْعِيدِ فَإِنَّ الْحَسَنَ فِيهِ الثِّيَابُ الْجَدِيدَةُ وَلَوْ غَيْرَ بَيْضَاءَ. (تَتِمَّتَانِ) الْأُولَى: بَقِيَ مِنْ الْمُسْتَحَبِّ تَحْسِينُ الْهَيْئَةِ مِنْ قَصِّ شَارِبٍ وَظُفُرٍ وَنَتْفِ إبْطٍ وَحَلْقِ عَانَةٍ لِمَنْ احْتَاجَ إلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ؛ لِأَنَّهَا لَا تُنْدَبُ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَلَيْسَ مِنْ الْآدَابِ الْمُسْتَحَبَّةِ حَلْقُ الرَّأْسِ وَإِنَّمَا حَلْقُهُ مُبَاحٌ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحْلِقْهُ إلَّا فِي الْحَجِّ، فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْمُبَاحَةِ أَوْ الْحَسَنَةِ لِمَنْ يَقْبُحُ مَنْظَرُهُ بِدُونِهِ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ أَيْضًا الْمَشْيُ لَهَا فِي الْغُدُوِّ لِخَبَرِ: «مَنْ اغْبَرَّتْ قَدَمَاهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ» . الثَّانِيَةُ: الْآدَابُ الْمَذْكُورَةُ مِنْهَا مَا هُوَ مَشْرُوعٌ فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ كَالتَّهْجِيرِ وَالْمَشْيِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ كَتَحْسِينِ الْهَيْئَةِ وَالتَّطَيُّبِ وَالتَّجَمُّلِ بِالثِّيَابِ الْحَسَنَةِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ إنَّمَا هُوَ مَطْلُوبٌ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ بِخِلَافِهَا فِي الْعِيدِ فَإِنَّهَا لِلْيَوْمِ. قَالَ خَلِيلٌ فِيهِ: وَتَطَيُّبٌ وَتَزَيُّنٌ وَإِنْ لِغَيْرِ مُصَلٍّ. وَلَمَّا كَانَ الشَّأْنُ التَّنَفُّلَ قَبْلَ الظُّهْرِ كَبَعْدِهَا، وَقِيلَ: إنَّ الْجُمُعَةَ بَدَلٌ عَنْهَا كَانَ مَظِنَّةَ تَوَهُّمِ طَلَبِ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا قَالَ: (وَأَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ (أَنْ يَنْصَرِفَ) مُصَلِّي الْجُمُعَةِ (بَعْدَ فَرَاغِهَا) وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ تَسْبِيحٍ وَتَحْمِيدٍ وَتَكْبِيرٍ وَقِرَاءَةِ نَحْوِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ مِمَّا يُطْلَبُ عَقِبَ الْفَرَائِضِ إلَى بَيْتِهِ وَيَتَنَفَّلُ فِيهِ بِمَا أَحَبَّ مِنْ النَّوَافِلِ (وَلَا يَتَنَفَّلُ فِي الْمَسْجِدِ) لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ إثْرَ الْجُمُعَةِ فِي الْمَسْجِدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ «أَنَّ ابْنَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا صَلَّى الْجُمُعَةَ انْصَرَفَ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَفْعَلُ ذَلِكَ» ، وَتَسْتَمِرُّ الْكَرَاهَةُ بَعْدَ الْجُمُعَةِ لِمَنْ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَنْصَرِفَ الشَّخْصُ مِنْ الْمَسْجِدِ أَوْ حَتَّى يُحْدِثَ سَوَاءٌ كَانَ إمَامًا أَوْ غَيْرَهُ، لَكِنَّ الْكَرَاهَةَ فِي حَقِّ الْإِمَامِ أَشَدُّ هَذَا هُوَ الْمَنْصُوصُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَيَمْتَدُّ وَقْتُ الْكَرَاهَةِ حَتَّى يَنْصَرِفَ أَكْثَرُ الْمُصَلِّينَ لَا كُلُّهُمْ، أَوْ بِمَعْنَى زَمَنِ انْصِرَافِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَنْصَرِفُوا، وَالْكَرَاهَةُ قَيَّدَهَا بَعْضُهُمْ بِأَنْ يَكُونَ الْفَاعِلُ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يُخْشَى مِنْهُ اعْتِقَادُ وُجُوبِهَا، وَأَمَّا مَنْ يَفْعَلُهَا مَعَ الْعِلْمِ بِنَدْبِهَا فَلَا كَرَاهَةَ كَمَا لَوْ فَعَلَهَا مُقَلِّدًا فِي فِعْلِهَا الْقَائِلَ بِطَلَبِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ يَقَعُ التَّنَفُّلُ مِنْ جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ. (وَلْيَتَنَفَّلْ) الْمَأْمُومُ فِي الْمَسْجِدِ (إنْ شَاءَ قَبْلَهَا) أَيْ قَبْلَ الْخُطْبَةِ، وَقَوْلُهُ إنْ شَاءَ يُوهِمُ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْدُوبٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ نَدْبُ النَّفْلِ قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ مِنْ الْخَلْوَةِ لِغَيْرِ الْجَالِسِ وَقْتَ الْأَذَانِ مَعْلُومٌ، وَإِنَّمَا مُرَادُهُ بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ أَنَّهُ غَيْرُ مَنْهِيٍّ عَنْهُ بِخِلَافِ الْجَالِسِ عِنْدَ الْأَذَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ تَرْكُ طَهَارَةٍ فِيهَا وَالْعَمَلُ يَوْمَهَا وَبَيْعٌ كَعَبْدٍ بِسُوقٍ وَقْتَهَا وَتَنَفُّلُ إمَامٍ قَبْلَهَا أَوْ جَالِسٍ عِنْدَ الْأَذَانِ، وَأَمَّا التَّنَفُّلُ بَعْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ فَهُوَ حَرَامٌ وَلَوْ عَلَى الدَّاخِلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَنَفُّلَ الْمَأْمُومِ قَبْلَ الْأَذَانِ وَقَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ مَنْدُوبٌ وَعِنْدَ الْأَذَانِ مَكْرُوهٌ لِلْجَالِسِ، وَأَمَّا بَعْدُ خُرُوجِهِ فَحَرَامٌ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْحَرَامِ: وَابْتَدَأَ صَلَاةً بِخُرُوجِهِ وَإِنْ لِدَاخِلٍ، وَمِثْلُ خُرُوجِ الْخَطِيبِ دُخُولُهُ ذَاهِبًا لِلْمِنْبَرِ، فَإِنْ أَحْرَمَ بَعْدَ خُرُوجِهِ أَوْ عِنْدَ دُخُولِهِ مُتَوَجِّهًا إلَى الْمِنْبَرِ، فَإِنْ كَانَ جَالِسًا قَبْلَ ذَلِكَ قَطَعَ صَلَاتَهُ وَلَوْ ابْتَدَأَهَا سَاهِيًا عَنْ خُرُوجِهِ أَوْ دُخُولِهِ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ حِينَ خُرُوجِهِ أَوْ دُخُولِهِ وَأَحْرَمَ، فَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِخُرُوجِهِ أَوْ دُخُولِهِ وَبِالْحُكْمِ قَطَعَ، وَإِنْ كَانَ سَاهِيًا أَوْ جَاهِلًا خَفَّفَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُحْرِمًا قَبْلَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ أَوْ دُخُولِهِ فَلَا شَكَّ فِي عَدَمِ قَطْعِهِ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَابْتَدَأَ صَلَاةً بِخُرُوجِهِ: وَلَا يَقْطَعُ إنْ دَخَلَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حُرْمَةِ الصَّلَاةِ بَعْدَ خُرُوجِ الْخَطِيبِ وَلَوْ لِلدَّاخِلِ وَهُوَ مَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ وَمُقَابِلُهُ جَوَازُ إحْرَامِهِ وَلَوْ فِي حَالِ الْخُطْبَةِ، وَعَلَيْهِ السُّيُورِيُّ مِنْ عُلَمَائِنَا وَهُوَ مَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ أَيْضًا قَائِلًا: الرُّكُوعُ أَوْلَى؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْمَسْجِدِ لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] «أَنَّ سُلَيْكًا الْغَطَفَانِيَّ دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَصَلَّيْت؟ فَقَالَ: لَا، فَقَالَ: قُمْ فَصَلِّ رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزْ فِيهِمَا» وَلِخَبَرِ: «إذَا جَاءَ أَحَدُكُمْ الْمَسْجِدَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَلْيُصَلِّ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ ثُمَّ يَجْلِسُ» . وَدَلِيلُنَا مَا فِي أَبِي دَاوُد وَالنَّسَائِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا تَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فَقَالَ لَهُ: اجْلِسْ فَقَدْ آذَيْت» فَأَمَرَهُ بِالْجُلُوسِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَالْأَمْرُ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ، وَخَبَرُ: «إذَا قُلْت لِصَاحِبِك أَنْصِتْ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ فَقَدْ لَغَوْت» نَهْيٌ عَنْ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ مَعَ وُجُوبِهِ، فَالْمَنْدُوبُ أَوْلَى، وَأَمَّا خَبَرُ سُلَيْكٍ الْغَطَفَانِيِّ وَأَمْرُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ بِالرُّكُوعِ لَمَّا دَخَلَ الْمَسْجِدَ وَهُوَ يَخْطُبُ فَيُحْتَمَلُ نَسْخُهُ بِنَهْيِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الصَّلَاةِ حِينَئِذٍ كَمَا فِي الْخَبَرِ السَّابِقِ، وَعَلَى تَقْدِيرِ مُعَارَضَتِهِ وَعَدَمِ نَسْخِهِ فَحَدِيثُنَا أَوْلَى كَمَا قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ لِاتِّصَالِهِ بِعَمَلِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَلِجَرْيِهِ عَلَى الْقِيَاسِ مِنْ وُجُوبِ الِاشْتِغَالِ بِالِاسْتِمَاعِ الْوَاجِبِ وَتَرْكِ التَّحِيَّةِ الْمَنْدُوبَةِ، وَأَمَّا الْجَوَابُ بِأَنَّ سُلَيْكًا كَانَ صُعْلُوكًا وَدَخَلَ يَطْلُبُ شَيْئًا فَأَمَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِيَتَفَطَّنَ لَهُ النَّاسُ فَيَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ فَلَا يَدْفَعُ الْمُعَارَضَةَ، وَكَذَا الْجَوَابُ بِاحْتِمَالِ قَطْعِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخُطْبَةَ لَهُ،؛ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ عِنْدَنَا تَدْخُلُ بِمُجَرَّدِ تَوَجُّهِ الْخَطِيبِ إلَى الْمِنْبَرِ، وَإِنَّمَا قَصَرْنَا الْكَلَامَ السَّابِقَ عَلَى الْمَأْمُومِ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ هُنَا: (وَلَا يَفْعَلُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ التَّنَفُّلِ قَبْلَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ (الْإِمَامُ) لِكَرَاهَةِ التَّنَفُّلِ فِي حَقِّهِ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ. (وَلْيَرْقَ الْمِنْبَرَ كَمَا يَدْخُلُ) أَيْ سَاعَةَ دُخُولِهِ وَلَا يَجْلِسُ بَعْدَ دُخُولِهِ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَبْلَ الزَّوَالِ أَوْ بَعْدَهُ وَقَبْلَ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ. [بَاب فِي صَلَاة الْخَوْف] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ إيقَاعِ الصَّلَاةِ فِي الْخَوْفِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 بَابٌ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ، صَلَاةُ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ إذَا خَافُوا الْعَدُوَّ أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ وَيَدَعَ طَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوَّ فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِطَائِفَةٍ رَكْعَةً ثُمَّ يَثْبُتُ قَائِمًا وَيُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ رَكْعَةً ثُمَّ يُسَلِّمُونَ فَيَقِفُونَ مَكَانَ أَصْحَابِهِمْ ثُمَّ يَأْتِي أَصْحَابُهُمْ فَيُحْرِمُونَ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) كَيْفِيَّةِ فِعْلِ (صَلَاةِ) الْفَرْضِ فِي زَمَنِ (الْخَوْفِ) ؛ لِأَنَّ الْخَوْفَ لَيْسَ لَهُ صَلَاةٌ تَخُصُّهُ بِخِلَافِ الْعِيدِ، وَالْخَوْفُ وَالْخِيفَةُ ضِدُّ الْأَمْنِ، وَسَيَأْتِي لِلْمُصَنِّفِ التَّصْرِيحُ بِحُكْمِهَا فِي بَابِ جُمَلٍ حَيْثُ يَقُولُ: وَصَلَاةُ الْخَوْفِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ وُجُوبَ السُّنَنِ، وَمِمَّنْ صَرَّحَ بِسُنِّيَّتِهَا ابْنُ يُونُسَ، وَلَا تَنَافِي بَيْنَ كَوْنِهَا سُنَّةً وَقَوْلُ خَلِيلٍ رُخْصَةٌ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ تَكُونُ وَاجِبَةً وَتَكُونُ سُنَّةً وَتَكُونُ مُبَاحَةً، وَخِلَافُ الْأَوْلَى وَمَكْرُوهَةٌ، فَالْوَاجِبَةُ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَالسُّنَّةُ كَقَصْرِ الصَّلَاةِ، وَالْمُبَاحَةُ كَمَسْحِ الْخُفِّ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ، وَخِلَافُ الْأَوْلَى كَالْجَمْعِ بَيْنَ الصَّلَاتَيْنِ بِالْمَنْهَلِ عِنْدَ الزَّوَالِ، وَالْمَكْرُوهَةُ كَالْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهَا ابْنُ عَرَفَةَ وَلَا غَيْرُهُ، وَقَالَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ شَيْخُ الْأُجْهُورِيِّ: وَيُمْكِنُ رَسْمُهَا بِأَنَّهَا فِعْلُ فَرْضٍ مِنْ الْخَمْسِ وَلَوْ جُمُعَةً مَقْسُومًا فِيهِ الْمَأْمُومُونَ قِسْمَيْنِ مَعَ الْإِمْكَانِ وَمَعَ عَدَمِهِ، لَا قَسْمَ فِي قِتَالِ مَأْذُونٍ فِيهِ فَيَدْخُلُ قِتَالُ الْمُحَارِبِينَ وَكُلُّ قِتَالٍ جَائِزٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ حُكْمِهَا وَأَنَّهَا غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} [النساء: 102] الْآيَةَ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَدْ وَرَدَ فِي ذَلِكَ أَحَادِيثُ صَحِيحَةٌ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ صَلَّاهَا بَعْدَ مَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهَا مَشْرُوعَةٌ وَحُكْمُهَا بَاقٍ لَمْ يُنْسَخْ، وَدَعْوَى الْمُزَنِيّ نَسْخَهَا مَرْدُودَةٌ، وَعَلَى بَقَاءِ حُكْمِهَا مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ، خِلَافًا لِابْنِ الْقَصَّارِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ وَأَبِي يُوسُفَ مِنْ الْحَنَفِيَّةِ فِي قَوْلِهِمَا: إنَّهَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبِعَهُمَا الْمُزَنِيّ مِنْ الشَّافِعِيَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ حَضَرًا وَسَفَرًا وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي عَدَدِ الْأَمَاكِنِ الَّتِي صَلَّاهَا فِيهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ وَهُوَ الْأَصَحُّ كَمَا فِي الْقَبَسِ أَنَّهُ صَلَّاهَا فِي ثَلَاثِ غَزَوَاتٍ: ذَاتِ الرِّقَاعِ وَبَطْنِ النَّخِيلِ وَعُسْفَانَ، وَشَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهَا سَفَرًا بِقَوْلِهِ: (وَ) صِفَةُ (صَلَاةِ) الْفَرْضِ حَالَ (الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ إذَا خَافُوا) أَيْ الْمُسْلِمُونَ ضَرَرَ (الْعَدُوِّ) الْكَافِرِ أَنَّ الْمُسْلِمَ الْمُحَارِبَ عِنْدَ صَلَاتِهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً وَأَمْكَنَ قَسْمُهُمْ (أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ لِيُصَلِّيَ بِطَائِفَةٍ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُقَاتِلِينَ شَطْرَ صَلَاتِهِمْ. (وَيَدَعُ) أَيْ يَتْرُكُ (طَائِفَةً مُوَاجِهَةً الْعَدُوَّ) قَالَ خَلِيلٌ: رُخِّصَ لِقِتَالٍ جَائِزٍ أَمْكَنَ تَرْكُهُ لِبَعْضِهِمْ قَسْمُهُمْ قِسْمَيْنِ وَإِنْ وِجَاهَ الْقِبْلَةِ أَوْ عَلَى دَوَابِّهِمْ، وَيُعَلِّمُهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ صِفَةَ صَلَاةِ الْخَوْفِ وُجُوبًا عِنْدَ الْجَهْلِ وَنَدْبًا عِنْدَ عَدَمِهِ،؛ لِأَنَّ تِلْكَ الصِّفَةَ غَيْرُ مَأْلُوفَةٍ لِلنَّاسِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَّمَهُمْ وَصَلَّى بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ اسْتِنَانًا حَيْثُ طَلَبُوا غَيْرَهُمْ. قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: وَتُقَامُ هَذِهِ الصَّلَاةُ فِي كُلِّ قِتَالٍ مَأْذُونٍ فِيهِ، فَشَمَلَ الْوَاجِبَ كَقِتَالِ الْكُفَّارِ وَالْبُغَاةِ، وَالْمُبَاحَ كَقِتَالِ مُرِيدِ الْمَالِ. قَالَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ: وَمِثْلُ الْخَوْفِ مِنْ الْعَدُوِّ فِي جَوَازِ الْقَسْمِ الْخَوْفُ عَلَى الْمَالِ مِنْ اللُّصُوصِ أَوْ عَلَى النَّفْسِ مِنْ السِّبَاعِ، وَأَمَّا الْقِتَالُ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ كَقِتَالِ الْمُسْلِمِينَ مُجَرَّدَ شَهْوَةِ النَّفْسِ كَمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَقِتَالِ الْإِمَامِ الْعَادِلِ فَلَا يَجُوزُ قَسْمُهُمْ، فَإِنْ قِيلَ: صَلَاةُ الْخَوْفِ إنَّمَا شُرِعَتْ فِي حَالِ قِتَالِ الْكُفَّارِ فَكَيْفَ أَجَزْتُمُوهَا فِي قِتَالِ الْمُسْلِمِينَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مِنْ بَابِ قِيَاسٍ لَا فَارِقَ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ السَّبَبَ الْخَوْفُ وَهُوَ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ سَوَاءٌ، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: أَنْ يَتَقَدَّمَ الْإِمَامُ قَوْلُهُ: (فَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَةً) مِنْ غَيْرِ الثُّلَاثِيَّةِ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي حَالِ السَّفَرِ، وَكَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ: فَيُصَلِّي بِهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لِلْإِضْمَارِ، لِظُهُورِ أَنَّ فَاعِلَ يُصَلِّي الْإِمَامُ وَالضَّمِيرُ الْمَجْرُورُ لِلطَّائِفَةِ، إلَّا أَنَّ عَادَةَ الْمُصَنِّفِ فِي هَذَا الْكِتَابِ زِيَادَةُ الْإِيضَاحِ وَنَكَّرَ طَائِفَةً، وَعَبَّرَ بِهَا لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَسَاوِي الطَّائِفَتَيْنِ، بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُ كُلِّ طَائِفَةٍ فِيهَا قُدْرَةٌ عَلَى رَدِّ الْعَدُوِّ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ الرَّكْعَةِ بِقِيَامَةٍ (يَثْبُتُ) أَيْ الْإِمَامُ (قَائِمًا) سَاكِتًا أَوْ قَارِئًا أَوْ دَاعِيًا بِالنَّصْرِ وَالْفَتْحِ. (وَ) يُشِيرُ لَهُمْ (يُصَلُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 خَلْفَ الْإِمَامِ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقْضُونَ الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ وَيَنْصَرِفُونَ هَكَذَا يَفْعَلُ فِي صَلَاةِ الْفَرَائِضِ كُلِّهَا إلَّا الْمَغْرِبَ فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى رَكْعَتَيْنِ وَبِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً وَإِنْ صَلَّى بِهِمْ فِي الْحَضَرِ لِشِدَّةِ خَوْفٍ صَلَّى فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ وَلِكُلِّ صَلَاةٍ أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ عَنْ ذَلِكَ صَلُّوا   [الفواكه الدواني] رَكْعَةً) وَهِيَ بَقِيَّةُ صَلَاتِهِمْ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ الْمَأْمُومِيَّةِ فَلَا يُحْمَلُ سَهْوُهُمْ، وَلَا تَبْطُلُ صَلَاتُهُمْ بِبُطْلَانِ صَلَاتِهِ بَعْدَ تَمَامِ قِيَامِهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ حَصَلَ مِنْهُ مُبْطِلٌ قَبْلَ تَمَامِ الْقِيَامِ فَإِنَّهُ يُبْطِلُ صَلَاتَهُمْ أَيْضًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُبْطِلُ حَدَثًا غَالِبًا أَوْ حَصَلَ مِنْهُ عَلَى جِهَةِ النِّسْيَانِ، فَإِنَّهُ يَسْتَخْلِفُ أَوْ يَسْتَخْلِفُونَ مَنْ يُتِمَّ بِهِمْ الْقِيَامَ، فَإِذَا قَامَ هَذَا الْمُسْتَخْلَفُ بِالْفَتْحِ يَثْبُتُ عَلَى حَالِهِ كَالْإِمَامِ الْأَصْلِيِّ حَتَّى تُتِمَّ الطَّائِفَةُ الْأُولَى وَتَأْتِي الثَّانِيَةُ فَتَدْخُلُ مَعَهُ وَيُصَلِّي بِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاةِ الْإِمَامِ الْأَوَّلِ وَيُتِمُّونَ لِأَنْفُسِهِمْ فُرَادَى، فَإِنْ أَمَّهُمْ أَحَدُهُمْ فَصَلَاتُهُ تَامَّةٌ وَصَلَاتُهُمْ فَاسِدَةٌ. قَالَهُ سَنَدٌ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ خِلَافًا لِقَوْلِ التَّتَّائِيِّ: أَوْ بِإِمَامٍ. (ثُمَّ) بَعْدَ صَلَاتِهِمْ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِمْ (يُسَلِّمُونَ) عَلَى الْيَمِينِ تَسْلِيمَةَ التَّحْلِيلِ وَعَلَى الْيَسَارِ إنْ كَانَ عَلَى يَسَارِ الْمُسَلِّمِ أَحَدٌ، وَلَا يُسَلِّمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَلِّمُونَ قَبْلَ سَلَامِهِ فَلَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، وَبَعْدَ سَلَامِهِمْ يَذْهَبُونَ إلَى الْعَدُوِّ (فَيَقِفُونَ مَكَانَ أَصْحَابِهِمْ) قُبَالَةَ الْعَدُوِّ (ثُمَّ يَأْتِي أَصْحَابُهُمْ) الَّذِينَ لَمْ يُصَلُّوا (فَيُحْرِمُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ فَيُصَلِّي بِهِمْ الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ) الْبَاقِيَةَ مِنْ صَلَاتِهِ. (ثُمَّ يَتَشَهَّدُ) أَيْ الْإِمَامُ (وَيُسَلِّمُ) وَلَا يَنْتَظِرُهُمْ خِلَافًا لِأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ فِي انْتِظَارِهِمْ حَتَّى يُسَلِّمُوا مَعَهُ، وَفِي السُّنَّةِ الصَّحِيحَةِ مَا يَدُلُّ لِلْمَذْهَبَيْنِ، وَلِذَلِكَ لَوْ انْتَظَرَهُمْ حَتَّى كَمَّلُوا صَلَاتَهُمْ وَسَلَّمَ بِهِمْ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ مُرَاعَاةً لِلْقَائِلِ بِالِانْتِظَارِ. (ثُمَّ) بَعْدَ سَلَامِهِ تَقُومُ أَهْلُ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ (يَقْضُونَ الرَّكْعَةَ الَّتِي فَاتَتْهُمْ) لِلطَّائِفَةِ الْأُولَى، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: يَقْضُونَ أَنَّهُمْ يَقْرَءُونَ فِيهَا بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ. (ثُمَّ) بَعْدَ فَرَاغِهِمْ وَسَلَامِهِمْ (يَنْصَرِفُونَ) جِهَةَ الْعَدُوِّ مَعَ أَصْحَابِهِمْ. (هَكَذَا يَفْعَلُ) الْإِمَامُ (فِي صَلَاةِ الْفَرَائِضِ) كُلِّهَا فِي حَالِ السَّفَرِ (إلَّا) صَلَاةَ (الْمَغْرِبِ) (فَإِنَّهُ) أَيْ الْإِمَامَ (يُصَلِّي بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى) مِنْهَا (رَكْعَتَيْنِ) ؛ لِأَنَّهَا لَا تُقْصَرُ وَتَذْهَبُ قُبَالَةَ الْعَدُوِّ (وَ) يُصَلِّي (بِالثَّانِيَةِ رَكْعَةً) ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ، ثُمَّ يَقْضُونَ لِأَنْفُسِهِمْ فُرَادَى الرَّكْعَتَيْنِ اللَّتَيْنِ صَلَّاهُمَا الْإِمَامُ بِالطَّائِفَةِ الْأُولَى يَقْرَءُونَ فِيهَا بِالْفَاتِحَةِ وَالسُّورَةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يَنْتَظِرُ الْإِمَامُ الطَّائِفَةَ الثَّانِيَةَ فِي غَيْرِ الثُّنَائِيَّةِ قَائِمًا أَوْ جَالِسًا عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي قِيَامِهِ بِغَيْرِهَا تَرَدُّدٌ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَنْتَظِرُهَا قَائِمًا سَاكِتًا أَوْ دَاعِيًا، وَعَلَى الثَّانِي يَجْلِسُ دَاعِيًا وَيَكُونُ هَذَا مُسْتَثْنًى مِنْ كَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي غَيْرِ الْجُلُوسِ الْأَخِيرِ. [صفة صَلَاة الْخَوْف فِي الْحَضَر] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ صَلَاةِ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ شَرَعَ فِي صِفَةِ صَلَاتِهَا فِي الْحَضَرِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ صَلَّى) أَيْ أَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُصَلِّيَ (بِهِمْ فِي الْحَضَرِ) صَلَاةَ قَسْمٍ (لِشِدَّةِ خَوْفٍ) مِنْ عَدُوٍّ أَوْ مُحَارِبٍ أَوْ لِصٍّ كَمَا مَرَّ (صَلَّى) بِهِمْ (فِي الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ وَالْعِشَاءِ) عِنْدَ إمْكَانِ قَسْمِهِمْ (بِكُلِّ طَائِفَةٍ رَكْعَتَيْنِ) سَوَاءٌ كَانُوا طَالِبِينَ أَوْ مَطْلُوبِينَ، فَإِذَا صَلَّى بِالْأُولَى رَكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ بَعْدَ تَشَهُّدِهِ يُشِيرُ إلَيْهَا لِتَقُومَ تُكْمِلُ صَلَاتَهَا أَفْذَاذًا، وَيَسْتَمِرُّ جَالِسًا سَاكِتًا أَوْ دَاعِيًا، وَقِيلَ قَائِمًا عَلَى قَوْلَيْنِ قَدَّمْنَاهُمَا، فَإِذَا جَاءَتْ الثَّانِيَةُ صَلَّى بِهَا مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، ثُمَّ إذَا سَلَّمَ قَامُوا لِقَضَاءِ مَا صَلَّاهُ مَعَ الْأُولَى عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَإِذَا كَانَ يَوْمُ جُمُعَةٍ فَإِنَّهُ يُقَسِّمُ الْجَمَاعَةَ أَيْضًا، وَتُوُقِّفَ فِي صَلَاةِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الرَّكْعَةَ الثَّانِيَةَ هَلْ بِإِمَامٍ أَوْ أَفْذَاذًا؟ وَاسْتَظْهَرَ الثَّانِي، وَتُوُقِّفَ أَيْضًا فِي عَدَدِ الطَّائِفَتَيْنِ وَاسْتَظْهَرَ أَنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ كُلُّ طَائِفَةٍ اثْنَيْ عَشَرَ غَيْرَ الْإِمَامِ وَأَنْ يَحْضُرَ كُلٌّ مِنْ الطَّائِفَتَيْنِ الْخُطْبَةَ، هَذَا مُلَخَّصُ بَحْثِ الْأُجْهُورِيِّ فَإِنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لِأَحَدٍ سِوَاهُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ طَلَبِ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ لِشِدَّةِ الْخَوْفِ دَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَلِكُلِّ صَلَاةٍ) مَفْرُوضَةٍ أُرِيدَ فِعْلُهَا وَلَوْ فِي زَمَانِ الْخَوْفِ فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ (أَذَانٌ وَإِقَامَةٌ) بِشَرْطِهِ السَّابِقِ وَهُوَ طَلَبُ مَنْ يَحْضُرُ الصَّلَاةَ الْمُشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: مِنْ الْأَذَانِ لِجَمَاعَةٍ طَلَبَتْ غَيْرَهَا فِي فَرْضٍ وَقْتِيٍّ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ صِحَّةَ الْقَسْمِ مَشْرُوطَةٌ بِالْإِمْكَانِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ الْآتِي: وَإِذَا اشْتَدَّ الْخَوْفُ إلَخْ، وَعِنْدَ إمْكَانِ الْقَسْمِ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمْ يُصَلُّونَ بِالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ أَوْ الْإِيمَاءِ وَلَوْ عَلَى خُيُولِهِمْ حَيْثُ احْتَاجُوا إلَى ذَلِكَ، وَتُسْتَثْنَى هَذِهِ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ اقْتِدَاءِ الْمُومِي بِالْمُومِي، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّانِي: مَحَلُّ جَوَازِ الْقَسْمِ إذَا لَمْ يُرْجَ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَإِلَّا انْتَظَرُوا مَا لَمْ يَخَافُوا خُرُوجَ الْوَقْتِ. الثَّالِثُ: فُهِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْقَسْمَ رُخْصَةٌ عِنْدَ التَّمَكُّنِ أَنَّهُمْ لَوْ تَرَكُوهُ وَصَلَّوْا أَفْذَاذًا أَوْ بِإِمَامَيْنِ لَصَحَّتْ صَلَاتُهُمْ وَإِنَّمَا فَاتَهُمْ ثَوَابُ السُّنَّةِ، وَفُهِمَ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَسْمُهُمْ أَكْثَرَ مِنْ قِسْمَيْنِ، فَإِنْ قَسَّمَهُمْ الْإِمَامُ أَكْثَرَ مِنْ قِسْمَيْنِ فَقِيلَ: تَبْطُلُ صَلَاةُ الْجَمِيعِ حَتَّى الْإِمَامِ، وَقِيلَ: إنَّمَا تَبْطُلُ صَلَاةُ مَنْ فَارَقَ الْإِمَامَ فِي غَيْرِ مَحَلِّ مُفَارَقَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ صَلَّى فِي ثُلَاثِيَّةٍ أَوْ رُبَاعِيَّةٍ بِكُلِّ رَكْعَةٍ بَطَلَتْ الْأُولَى وَالثَّالِثَةُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ كَغَيْرِهِمَا عَلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وُحْدَانًا مُشَاةً أَوْ رُكْبَانًا مَاشِينَ أَوْ سَاعِينَ مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا.   [الفواكه الدواني] الْأَرْجَحِ وَصُحِّحَ خِلَافُهُ وَهُوَ الْقَوْلُ الْأَوَّلُ الْقَائِلُ بِبُطْلَانِ الْأُولَى وَلَوْ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَكَذَا الثَّالِثَةُ فِي الرُّبَاعِيَّةِ، وَتَصِحُّ لِلثَّانِيَةِ وَلَوْ فِي الثُّلَاثِيَّةِ، كَمَا تَصِحُّ الرَّابِعَةُ مِنْ الرُّبَاعِيَّةِ، وَلِلثَّالِثَةِ فِي الثُّلَاثِيَّةِ الرَّابِعُ: لَوْ تَرَتَّبَ عَلَى الْإِمَامِ سُجُودُ سَهْوٍ، فَإِنْ حَصَلَ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى فَإِنَّهَا تَسْجُدُ بَعْدَ كَمَالِ صَلَاتِهَا الْقَبْلِيِّ قَبْلَ سَلَامِهَا وَالْبَعْدِيِّ بَعْدَهُ، وَأَمَّا الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ فَإِنَّهَا تُخَاطَبُ بِالسُّجُودِ لِسَهْوِ الْإِمَامِ وَلَوْ سَهَا قَبْلَ دُخُولِهَا مَعَهُ، لَكِنْ تَسْجُدُ الْقَبْلِيَّ مَعَهُ وَالْبَعْدِيَّ بَعْدَ الْقَضَاءِ. [صَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الصَّلَاةِ مَعَ قَسْمِ الْمَأْمُومِينَ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى صَلَاةِ الْمُسَايَفَةِ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ الْقَسْمِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا اشْتَدَّ) أَيْ زَادَ (الْخَوْفُ عَنْ ذَلِكَ) الْخَوْفُ الْمُتَقَدِّمُ الْمُمْكِنُ مَعَهُ الْقَسْمُ أَخَّرُوا الصَّلَاةَ نَدْبًا لِآخِرِ الِاخْتِيَارِيِّ وَ (صَلَّوْا وُحْدَانًا بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ) وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ حَالَ كَوْنِهِمْ (مُشَاةً أَوْ رُكْبَانًا مَاشِينَ) عَلَى الْهِينَةِ (أَوْ سَاعِينَ) هَرْوَلَةً أَوْ جَرْيًا. قَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالا أَوْ رُكْبَانًا} [البقرة: 239] حَالَةَ كَوْنِهِمْ (مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا) لِلضَّرُورَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَّ لِلضَّرُورَةِ مَشْيٌ وَرَكْضٌ وَطَعْنٌ وَعَدَمُ تَوَجُّهٍ وَكَلَامٌ وَإِمْسَاكُ مُلَطَّخٍ، فَتَكُونُ هَذِهِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ الْبُطْلَانِ بِالْأَفْعَالِ الْكَثِيرَةِ وَلَوْ سَهْوًا، وَتُسَمَّى صَلَاةَ الْمُسَايَفَةِ لِجَوَازِ الضَّرْبِ بِالسَّيْفِ حَالَ فِعْلِهَا، وَفِي إيقَاعِ الصَّلَاةِ مَعَ تِلْكَ الْمُنَافَيَاتِ الْحَثُّ عَلَى الْإِتْيَانِ بِالصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا عَلَى أَيِّ حَالَةٍ يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْمُصَلِّي، وَلَا يَحِلُّ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا وَلَوْ كَانَ يَلْزَمُ عَلَيْهِ فِعْلُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْأَحْوَالِ. (تَتِمَّةٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا إذَا انْجَلَى عَنْهُمْ الْعَدُوُّ فِي أَثْنَائِهَا بَعْدَ افْتِتَاحِهَا صَلَاةَ مُسَايَفَةٍ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُمْ يُتِمُّونَهَا صَلَاةَ أَمْنٍ بِرُكُوعٍ وَسُجُودٍ لَكِنْ فُرَادَى؛ لِأَنَّهُمْ افْتَتَحُوهَا هَكَذَا، وَإِنْ افْتَتَحُوهَا صَلَاةَ قَسْمٍ فَكَيْفِيَّةُ إتْمَامِهَا: إنْ حَصَلَ الْأَمْنُ مَعَ الطَّائِفَةِ الْأُولَى قَبْلَ مُفَارَقَتِهَا لِلْإِمَامِ أَنْ تَدْخُلَ الطَّائِفَةُ الثَّانِيَةُ مَعَ الْإِمَامِ وَيُتِمُّ بِالْجَمِيعِ، وَإِنْ حَصَلَ مَعَ الطَّائِفَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ مِنْ أَهْلِ الطَّائِفَةِ الْأُولَى الدُّخُولُ مَعَ الْإِمَامِ لَكِنْ يَصْبِرُ حَتَّى يَفْعَلَ الْإِمَامُ مَا فَعَلَهُ، هَذَا بَعْدَ مُفَارَقَةِ الْإِمَامِ إنْ كَانَ فَعَلَ شَيْئًا، وَأَمَّا مَنْ كَمَّلَ صَلَاتَهُ وَسَلَّمَ قَبْلَ حُصُولِ الْأَمْنِ فَلَا يُطَالَبُ بِرُجُوعٍ لِتَمَامِ صَلَاتِهِ، هَذَا حُكْمُ مَنْ حَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ فِي صَلَاةِ الْخَوْفِ سَوَاءٌ كَانَتْ مُسَايَفَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَأَمَّا لَوْ طَرَأَ الْخَوْفُ عَلَى صَلَاةِ الْأَمْنِ فَالْحُكْمُ أَنَّهُمْ يُكْمِلُونَهَا عَلَى حَسَبِ طَاقَتِهِمْ وَلَوْ بِالْإِيمَاءِ مَعَ التَّفَرُّقِ وَلَا يَقْطَعُونَهَا، وَإِذَا تَمَكَّنَ الْإِمَامُ مِنْ قَسْمِهِمْ عَلَى تَفْصِيلِ بَيَانِهِ إنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ قَبْلَ فِعْلِ شَطْرِ الصَّلَاةِ أَشَارَ إلَى طَائِفَةٍ بِالْقَطْعِ تَذْهَبُ قُبَالَةَ الْعَدُوِّ وَيُكْمِلُ شَطْرَ الصَّلَاةِ بِالطَّائِفَةِ الَّتِي مَعَهُ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ أَشَارَ إلَيْهَا فَتَتِمُّ صَلَاتَهَا وَتَذْهَبُ قُبَالَةَ الْعَدُوِّ وَتَأْتِي الَّتِي قَطَعَتْ تُصَلِّي مَعَهُ مَا بَقِيَ مِنْ صَلَاتِهِ، وَإِنْ فَجَأَهُمْ بَعْدَ تَمَامِ شَطْرِهَا وَعُقِدَ رُكُوعٌ مِنْ الشَّطْرِ الثَّانِي قَطَعَتْ طَائِفَةٌ وَأَتَمَّ بِالْبَاقِيَةِ فَإِذَا سَلَّمَ وَسَلَّمَتْ مَعَهُ تَذْهَبُ مَكَانَ الَّتِي قَطَعَتْ وَتُصَلِّي الَّتِي قُبَالَةَ الْعَدُوِّ فُرَادَى أَوْ بِإِمَامٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَمِنُوا بِهَا أُتِمَّتْ صَلَاةَ أَمْنٍ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَحْصُلْ الْأَمَانُ إلَّا بَعْدَ كَمَالِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهَا لَا تُعَادُ لَا فِي الْوَقْتِ وَلَا غَيْرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَمِنُوا بِهَا أُتِمَّتْ صَلَاةَ أَمْنٍ وَبَعْدَهَا لَا إعَادَةَ كَسَوَادٍ ظُنَّ عَدُوًّا فَظَهَرَ نَفْيُهُ. [بَاب فِي صَلَاة الْعِيدَيْنِ وَالتَّكْبِير أَيَّام منى] وَلَمَّا كَانَتْ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ مُشْبِهَةً بِصَلَاةِ الْخَوْفِ فِي السُّنِّيَّةِ نَاسَبَ ذِكْرُهَا عَقِبَهَا فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 بَابٌ فِي صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَالتَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ يَخْرُجُ لَهَا الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ضَحْوَةً بِقَدْرِ مَا إذَا وَصَلَ حَانَتْ الصَّلَاةُ وَلَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) الْكَلَامِ عَلَى (صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ) حُكْمًا وَصِفَةً وَمَنْ يُخَاطَبُ بِهَا وَبَيَانُ وَقْتِهَا وَمَحِلِّهَا الَّتِي تُفْعَلُ فِيهِ (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى (التَّكْبِيرِ أَيَّامَ مِنًى) وَهِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ الثَّلَاثَةُ الَّتِي بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا خُصَّتْ بِالذِّكْرِ مَعَ أَنَّ التَّكْبِيرَ يَقَعُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ فِيهَا أَكْثَرُ،؛ لِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الْفَرَائِضِ فَإِنَّهُ فِيهَا يَقَعُ عَقِبَ جَمِيعِهَا، وَأَمَّا فِي يَوْمِ النَّحْرِ فَإِنَّهُ لَا يَقَعُ عَقِبَ صَلَاةِ الصُّبْحِ؛ لِأَنَّ ابْتِدَاءَهُ فِيهِ مِنْ الظُّهْرِ، وَإِنْ أَرَادَ التَّكْبِيرَ عَقِبَ الرَّمْيِ فَإِنَّهُ يَقَعُ فِيهَا عَقِبَ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، وَفِي يَوْمِ النَّحْرِ عَقِبَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي تُرْمَى فِيهِ، وَالْعِيدَانِ هُمَا الْيَوْمَانِ الْمَعْرُوفَانِ أَوَّلُ شَوَّالٍ وَعَاشِرُ الْحِجَّةِ، وَالْعِيدُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَوْدِ وَهُوَ الرُّجُوعُ خُصَّ بِذَلِكَ مَعَ أَنَّ نَحْوَ عَرَفَةَ وَالْجُمُعَةِ يَعُودَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ اطِّرَادُ وَجْهِ التَّسْمِيَةِ، وَقِيلَ: سُمِّيَ بِذَلِكَ لِعَوْدِهِ بِالْفَرَحِ وَالسُّرُورِ عَلَى النَّاسِ وَهُوَ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ أَصْلُهُ عَوَدَ قُلِبَتْ الْوَاوُ يَاءً لِسُكُونِهَا وَانْكِسَارِ مَا قَبْلَهَا كَمِيزَانٍ وَإِنَّمَا جُمِعَ بِالْيَاءِ، وَقِيلَ: أَعْيَادٌ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ ذَوَاتِ الْوَاوِ وَالْجَمْعُ كَالتَّصْغِيرِ يَرُدَّانِ الْأَشْيَاءَ لِأَصْلِهَا لِلْفَرْقِ بَيْنَ جَمْعِ الْعِيدِ الْمَعْرُوفِ وَعُودِ الْخَشَبِ، وَأَوَّلُ عِيدٍ صَلَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِيدُ الْفِطْرِ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَشَارَكَهَا فِي ذَلِكَ الصَّوْمُ وَالزَّكَاةُ وَأَكْثَرُ الْأَحْكَامِ وَاسْتَمَرَّ مُوَاظِبًا عَلَيْهَا إلَى أَنْ مَاتَ. ثُمَّ بَيَّنَ حُكْمَهَا بِقَوْلِهِ: (وَصَلَاةُ الْعِيدَيْنِ) الْفِطْرُ وَالْأَضْحَى كُلُّ وَاحِدَةٍ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى سُنِّيَّتِهَا مُوَاظَبَتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ فَارَقَ الدُّنْيَا، وَخَبَرُ الْأَعْرَابِيِّ: «هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قَالَ: لَا إلَّا أَنْ تَطَوَّعَ» وَخَبَرُ: «خَمْسُ صَلَوَاتٍ كَتَبَهُنَّ اللَّهُ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ» فَإِنَّهُ يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ غَيْرَ الْخَمْسِ لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَإِنَّمَا تُسَنُّ فِي حَقِّ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْجُمُعَةِ وُجُوبًا وَهُوَ الذَّكَرُ الْحُرُّ الْمُتَوَطِّنُ، وَتُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ تَلْزَمْهُ الْجُمُعَةُ، كَمَا تُسْتَحَبُّ لِمَنْ فَاتَتْهُ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِهَا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُسْتَحَبُّ لِلنِّسَاءِ أَنْ يُصَلِّينَ أَفْذَاذًا إذَا لَمْ يَخْرُجْنَ، وَإِذَا خَرَجْنَ فَفِي ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَلَا يَتَطَيَّبْنَ، وَالْعَجُوزُ وَغَيْرُهَا فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَالْمُرَادُ بِمَنْ يُؤْمَرُ بِالْجُمُعَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ وَلَوْ لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ فَيَشْمَلُ الْخَارِجَ عَنْ الْبَلَدِ الدَّاخِلِ فِي كَفَرْسَخِ، فَلَا تُسَنّ فِي حَقِّ الْخَارِجِ عَنْ تِلْكَ الْأَمْيَالِ، وَلَا تُشْرَعُ فِي حَقِّ الْحَاجِّ لَا اسْتِنَانًا وَلَا نَدْبًا لِوُقُوفِهِمْ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ، وَكَذَا الْمُقِيمُ بِمِنًى وَلَوْ غَيْرَ حَاجٍّ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: صَلَاةُ الْعِيدِ كَصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فِي اشْتِرَاطِ الْجَمَاعَةِ حَتَّى تَقَعَ سُنَّةً، وَأَمَّا مَنْ فَاتَتْهُ فَيُنْدَبُ لَهُ فَقَطْ، وَفِي أَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ جَمَاعَتُهَا فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدَةِ قَالَ مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَيُؤْتَى لِلْعِيدَيْنِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَلَا تُصَلَّى الْعِيدَانِ فِي مَوْضِعَيْنِ، وَيَفْتَرِقَانِ فِي اشْتِرَاطِ الْجَامِعِ فِي الْجُمُعَةِ دُونَ الْعِيدِ. الثَّانِي: كَمَا يُشْتَرَطُ فِي إمَامِ الْفَرِيضَةِ كَوْنُهُ غَيْرَ مُعِيدٍ لَهَا كَذَلِكَ الْعِيدُ، فَلَا يَصِحُّ لِمَنْ صَلَّاهَا فِي مَحَلٍّ إمَامًا أَوْ مَأْمُومًا ثُمَّ جَاءَ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ أَنْ يُصَلِّيَ إمَامًا بِأَهْلِهِ عَلَى مَا يَظْهَرُ، فَإِنْ اقْتَدُوا بِهِ أُعِيدَتْ مَا لَمْ يَحْصُلْ الزَّوَالُ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الْإِمَامِ مُسَاوَاةُ صَلَاتِهِ لِصَلَاةِ الْمَأْمُومِ زَمَنًا وَشَخْصًا وَوَصْفًا. الثَّالِثُ: إذَا تَرَكَ أَهْلُ الْبَلَدِ صَلَاةَ الْعِيدِ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا. وَفِي التَّوْضِيحِ يُقَاتَلُونَ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَذَانِ تَكَرُّرُهُ دُونَهَا، وَأَيْضًا الْأَذَانُ وَاجِبٌ فِي الْأَمْصَارِ. [زَمَن صَلَاةِ الْعِيدِ] ثُمَّ بَيَّنَ زَمَنَ صَلَاتِهَا بِقَوْلِهِ: (يَخْرُجُ لَهَا) أَيْ صَلَاةِ الْعِيدِ (الْإِمَامُ وَالنَّاسُ ضَحْوَةً) أَيْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَوْ قَبْلَ حِلِّ النَّافِلَةِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (بِقَدْرِ مَا إذَا وَصَلَ) إلَى مَحَلِّ الصَّلَاةِ (حَانَتْ) أَيْ حَلَّتْ (الصَّلَاةُ) أَيْ صَلَاةُ النَّافِلَةِ بِأَنْ تَرْتَفِعَ الشَّمْسُ قَيْدَ رُمْحٍ مِنْ أَرْمَاحِ الْعَرَبِ وَهُوَ اثْنَا عَشَرَ شِبْرًا بِالْأَشْبَارِ الْمُتَوَسِّطَةِ وَهَذَا لِمَنْ قَرُبَ مَكَانُهُ، وَأَمَّا مَنْ بَعُدَ مَكَانُهُ عَنْ مُصَلَّى الْعِيدِ فَإِنَّهُ يَخْرُجُ قَبْلَ ذَلِكَ بِحَيْثُ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ، وَفَسَّرْنَا الضَّحْوَةَ بِبَعْدِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِقَوْلِ الصِّحَاحِ: " ضَحْوَةُ النَّهَارِ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ثُمَّ بَعْدَ الضَّحْوَةِ الضُّحَى بِالْقَصْرِ حِينً تَشْرُقُ الشَّمْسُ، ثُمَّ بَعْدَ الضَّحَاءِ بِالْمَدِّ وَهُوَ عِنْدَ ارْتِفَاعِ النَّهَارِ الْأَعْلَى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وَلَا إقَامَةٌ فَيُصَلِّي بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا جَهْرًا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسُ وَضُحَاهَا وَنَحْوِهِمَا وَيُكَبِّرُ فِي الْأُولَى سَبْعًا قَبْلَ الْقِرَاءَةِ يَعُدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ لَا يَعُدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةَ الْقِيَامِ   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاتِهَا وَهُوَ حِلُّ النَّافِلَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ آخِرُهُ وَهُوَ الزَّوَالُ. قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ لِعِيدٍ رَكْعَتَانِ لِمَأْمُورِ الْجُمُعَةِ مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ لِلزَّوَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ وَالْجُمْهُورِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: وَقْتُهَا مَا بَيْنَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَزَوَالِهَا، وَلَكِنْ يُسَنُّ عِنْدَهُ تَأْخِيرُهَا لِحَلِّ النَّافِلَةِ، فَالْمَالِكِيُّ الْمُصَلِّي خَلْفَهُ بَعْدَ الطُّلُوعِ وَقَبْلَ ارْتِفَاعِهَا قَيْدَ رُمْحِ مُصَلٍّ فِي وَقْتِ الْكَرَاهَةِ يَنْبَغِي لَهُ التَّقْلِيدُ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ الْكَرَاهَةِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَدَمُ صَلَاتِهَا فِي بَيْتِهِ وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ بَيَانُ مَحَلِّهَا وَالْمَنْدُوبُ مِنْهُ الْمُصَلَّى. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِيقَاعُهَا بِهِ أَيْ بِالْمُصَلَّى إلَّا بِمَكَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ إيقَاعُهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَلَوْ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ لِإِظْهَارِ شَعِيرَةِ الْإِسْلَامِ وَزِينَتِهِ وَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ، وَأَمَّا فِي مَكَّةَ فَأَفْضَلُ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ لِمُعَايَنَةِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ مَفْقُودَةٌ فِي غَيْرِهَا، وَلِخَبَرِ: «يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رَحْمَةً، سِتُّونَ لِلطَّائِفِينَ وَأَرْبَعُونَ لِلْمُصَلِّينَ وَعِشْرُونَ لِلنَّاظِرِينَ إلَيْهِ» . (وَلَيْسَ فِيهَا أَذَانٌ وَلَا إقَامَةٌ) لِاخْتِصَاصِهِمَا بِالْفَرَائِضِ وَيُكْرَهَانِ فِي غَيْرِهَا، كَمَا تُكْرَهُ الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ لِعَدَمِ وُرُودِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِيهَا، فَقَدْ قَالَ جَابِرٌ: «صَلَّيْت مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْعِيدَ بِلَا أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا قِيلَ: إذَا كَانَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤَذَّنْ لَهَا وَلَمْ يُقَمْ فَمَا الْمُحْوَجُ إلَى النَّصِّ مِنْ الْمُصَنِّفِ عَلَى ذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ ذِكْرِهِمَا الرَّدُّ عَلَى مَنْ أَحْدَثَهُمَا بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُمْ بَنُو أُمَيَّةَ، وَالْمُحْدِثُ لَهُمَا أَوَّلًا مِنْهُمْ مُعَاوِيَةُ عَلَى الصَّحِيحِ، وَالتَّنْبِيهُ عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِذَلِكَ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّ كَرَاهَةِ النِّدَاءِ بِالصَّلَاةِ جَامِعَةٌ مَا لَمْ يَتَوَقَّفْ الْإِعْلَامُ بِالدُّخُولِ مِنْ الْإِمَامِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى ذَلِكَ كَمَا فِي الْأَمْصَارِ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَإِلَّا كَانَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ؛ لِأَنَّ مَحَلَّ الْكَرَاهَةِ إذَا فُعِلَ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ سُنَّةٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ: يَخْرُجُ لَهَا الْإِمَامُ إلَخْ قَوْلَهُ: (فَيُصَلِّي) أَيْ الْإِمَامُ (بِالنَّاسِ) بِمُجَرَّدِ وُصُولِهِ الْمُصَلَّى أَوْ الْمَسْجِدَ بَعْدَ حِلِّ النَّافِلَةِ وَاجْتِمَاعِ النَّاسِ (رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِيهِمَا جَهْرًا) ؛ لِأَنَّهَا صَلَاةٌ ذَاتُ خُطْبَةٍ لِلْوَعْظِ لَا لِلتَّعْلِيمِ كَخُطْبَةِ عَرَفَةَ (بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى) فِي الْأُولَى (وَ) يَقْرَأُ فِي الثَّانِيَةِ سُورَةَ (الشَّمْسِ وَضُحَاهَا وَنَحْوَهَا) مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَقِرَاءَتُهَا بِكَسَبِّحْ وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا. (وَ) صِفَةُ افْتِتَاحِهَا أَنْ (يُكَبِّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا) وَيُسَنُّ أَنْ يَكُونَ (قَبْلَ الْقِرَاءَةِ يَعُدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ وَ) إذَا شَرَعَ (فِي) قِيَامِ الرَّكْعَةِ (الثَّانِيَةِ) يُكَبِّرُ (خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ لَا يَعُدُّ فِيهَا تَكْبِيرَةَ الْقِيَامِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَافْتَتَحَ بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ بِالْإِحْرَامِ ثُمَّ بِخَمْسٍ غَيْرِ الْقِيَامِ مُوَالِي إلَّا بِقَدْرِ تَكْبِيرِ الْمُؤْتَمِّ بِلَا قَوْلٍ وَتَحَرَّاهُ مُؤْتَمٌّ لَمْ يَسْمَعْ، فَالتَّكْبِيرُ الزَّائِدُ عَلَى تَكْبِيرِ الرَّكْعَتَيْنِ فِي غَيْرِ الْعِيدِ إحْدَى عَشْرَةَ تَكْبِيرَةً فَتَصِيرُ اثْنَتَيْنِ وَعِشْرِينَ تَكْبِيرَةً عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَالْأَصْحَابِ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ طُرُقٍ حِسَانٍ كَثِيرَةٍ: «أَنَّهُ كَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعًا وَفِي الثَّانِيَةِ خَمْسًا» وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ نَافِعٍ: «شَهِدْت الْأَضْحَى وَالْفِطْرَ فَكَبَّرَ فِي الْأُولَى سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ وَفِي الْأَخِيرَةِ خَمْسَ تَكْبِيرَاتٍ قَبْلَ الْقِرَاءَةِ» فَالزِّيَادَةُ عَلَى السَّبْعِ وَالنَّقْصُ عَنْهَا وَتَأْخِيرُهَا عَنْ الْقِرَاءَةِ مِنْ الْخَطَأِ الَّذِي لَا يُتَّبَعُ فِيهِ الْمُخَالِفُ، وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ التَّكْبِيرِ سِوَى الْإِحْرَامِ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّلَوَاتِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَنْ مَالِكٍ اسْتِحْبَابُهُ مَعَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ التَّكْبِيرِ وَبَيَّنَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ بِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ يَسْجُدُ الْإِمَامُ وَالْمُنْفَرِدُ لِلْوَاحِدَةِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْمَأْمُومَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ السُّنَنِ وَلَوْ عَمْدًا حَيْثُ أَتَى بِهَا الْإِمَامُ أَوْ سَجَدَ لِتَرْكِهَا سَهْوًا وَتَبِعَهُ الْمَأْمُومُ، وَكَذَا لَوْ تَرَكَ الْإِمَامُ السُّجُودَ لِيَكُونَ مَذْهَبُهُ لَا يَرَى السُّجُودَ لِتَرْكِهَا كَالشَّافِعِيِّ، وَتَكُونُ هَذِهِ مُسْتَثْنَاةً مِنْ قَوْلِهِمْ: إنَّ الْقَبْلِيَّ يَسْجُدُهُ الْمَأْمُومُ وَلَوْ تَرَكَهُ الْإِمَامُ، كَمَا أَفْتَى بِذَلِكَ بَعْضُ شُيُوخِنَا حِينَ نَسِيَ إمَامُ الْأَزْهَرِ تَكْبِيرَةَ الْعِيدِ وَلَمْ يَسْجُدْ لَهُ لِكَوْنِهِ شَافِعِيًّا وَتَرَكَهُ الْمَالِكِيُّ الْمُصَلِّي خَلْفَهُ، وَالْفَتْوَى ظَاهِرَةٌ؛ لِأَنَّ طَلَبَ الْمَأْمُومِ بِالسُّجُودِ فَرْعُ طَلَبِ الْإِمَامِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْضًا حُكْمَ تَقْدِيمِ التَّكْبِيرِ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ سُنَّةٌ كَمَا اسْتَظْهَرَهُ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُقَدِّمُ التَّكْبِيرَ عَلَى الْقِرَاءَةِ، وَتَقَدَّمَ عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ يَكُونُ مُوَالِيًا إلَّا بِقَدْرِ تَكْبِيرِ الْمَأْمُومِ فَيُنْدَبُ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْكُتَ حَتَّى يُكَبِّرَ الْمَأْمُومُ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَنْ خَالَفَ السُّنَّةَ وَقَدَّمَ الْقِرَاءَةَ عَلَى التَّكْبِيرِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُعِيدُ الْقِرَاءَةَ بَعْدَ التَّكْبِيرِ اسْتِنَانًا حَيْثُ لَمْ يَرْكَعْ، وَيَسْجُدُ قَبْلَ السَّلَامِ لِتَرْكِهِ فِي السَّهْوِ، وَيَأْتِي الْخِلَافُ فِي تَرْكِ السُّنَّةِ عَمْدًا فِي الْإِمَامِ وَالْفَذِّ إذَا تَرَكَهُ عَمْدًا قَالَهُ خَلِيلٌ، وَكَبَّرَ نَاسِيه إنْ لَمْ يَرْكَعْ وَسَجَدَ بَعْدَهُ وَإِلَّا تَمَادَى وَسَجَدَ غَيْرُ الْمُؤْتَمِّ قَبْلَهُ، فَلَوْ رَجَعَ إلَى إعَادَةِ الْقِرَاءَةِ بَعْدَ الِانْحِنَاءِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُ الْبُطْلَانِ قِيَاسًا عَلَى مَنْ رَجَعَ بَعْدَ اسْتِقْلَالِهِ لِلْجُلُوسِ، وَكَذَا تَبْطُلُ عَلَى الظَّاهِرِ بِعَدَمِ إعَادَةِ الْقِرَاءَةِ بَعْدَ التَّكْبِيرِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ مَنْ سَبَقَهُ الْإِمَامُ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ وَجَدَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَرْقَى الْمِنْبَرَ وَيَخْطُبُ وَيَجْلِسُ فِي أَوَّلِ خُطْبَتِهِ وَوَسَطِهَا ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْجِعَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى مِنْهَا وَالنَّاسُ كَذَلِكَ وَإِنْ كَانَ فِي الْأَضْحَى خَرَجَ بِأُضْحِيَّتِهِ إلَى الْمُصَلَّى فَذَبَحَهَا أَوْ نَحَرَهَا لِيَعْلَمَ ذَلِكَ النَّاسُ فَيَذْبَحُونَ بَعْدَهُ وَلْيَذْكُرْ اللَّهَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى   [الفواكه الدواني] فِي حَالِ الْقِرَاءَةِ يُكَبِّرُ سَبْعًا إنْ وَجَدَهُ فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَخَمْسًا غَيْرَ الْإِحْرَامِ فِي الثَّانِيَةِ، وَيَقُومُ بَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَقْضِي الْأُولَى بِسَبْعِ تَكْبِيرَاتٍ بِالْقِيَامِ، وَلَا يُقَال: مُدْرِكُ رَكْعَةٍ يَقُومُ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: خُولِفَتْ الْقَاعِدَةُ هُنَا لِتَحْصِيلِ عِدَّةِ تَكْبِيرِ الرُّبَاعِيَّةِ فِي رَكْعَتَيْ الْعِيدِ؛ لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الْجُلُوسِ لِلتَّشَهُّدِ مَعَ الْإِمَامِ لَمْ يُعْتَدَّ بِهَا فِي تَحْصِيلِ هَذَا الْعَدَدِ؛ لِأَنَّ الْإِتْيَانَ بِهَا إنَّمَا كَانَ لِمُوَافَقَةِ الْإِمَامِ، وَإِنْ وَجَدَ الْمَأْمُومُ الْإِمَامَ فِي الْقِرَاءَةِ وَلَمْ يَدْرِ أَهِيَ الرَّكْعَةُ الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةُ. قَالَ الْحَطَّابُ: لَا نَصَّ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُكَبِّرُ سَبْعًا؛ لِأَنَّ نَقْصَ التَّكْبِيرِ مِنْ حَيْثُ هُوَ يَقْتَضِي السُّجُودَ بِخِلَافِ زِيَادَتِهِ، وَإِنْ أَدْرَكَ الْإِمَامَ فِي التَّشَهُّدِ يُكَبِّرُ لِلْإِحْرَامِ وَيَجْلِسُ، وَبَعْدَ سَلَامِ الْإِمَامِ يَقُومُ يَقْضِي الْأُولَى بِسِتٍّ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُكَبِّرُ لِلْقِيَامِ أَوْ لَا يُكَبِّرُ اسْتِغْنَاءً عَنْ تَكْبِيرِهِ؟ الْمَطْلُوبُ مِمَّنْ أَدْرَكَ دُونَ رَكْعَةٍ بِتَكْبِيرِ الْعِيدِ تَأْوِيلَانِ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ. (وَ) يَسْجُدُ (فِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْنِ) وَالتَّصْرِيحُ بِهَذَا غَيْرُ ضَرُورِيٍّ، فَالْأَحْسَنُ مَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ " وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَيْنِ وَرَكْعَةً وَاحِدَةً " عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالرَّكْعَةِ الرُّكُوعُ، وَيَكُونُ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّنْبِيهَ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ كَصَلَاةِ الْكُسُوفِ؛ لِأَنَّهَا بِزِيَادَةِ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ. (ثُمَّ) بَعْدَ إتْمَامِ الرَّكْعَتَيْنِ يَسْجُدُ فِي الْأَخِيرَةِ (يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) كَتَسْلِيمِ الْفَرِيضَةِ [خُطْبَةَ الْعِيدِ] (ثُمَّ) بَعْدَ السَّلَامِ (يَرْقَى الْمِنْبَرَ) أَيْ يَصْعَدُ عَلَيْهِ (وَيَخْطُبُ) نَدْبًا خُطْبَتَيْنِ كَخُطْبَتَيْ الْجُمُعَةِ فِي كَوْنِهِمَا بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَجَهْرًا، لَكِنَّ خُطْبَةَ الْعِيدِ يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ، وَخُطْبَةَ الْجُمُعَةِ بِالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ مُشْتَمِلَةً عَلَى بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِصَدَقَةِ الْفِطْرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ مِنْ بَيَانِ مَنْ يُطْلَبُ بِإِخْرَاجِهَا وَالْقَدْرُ الْمُخْرَجُ وَالْمُخْرَجُ مِنْهُ وَزَمَنُ إخْرَاجِهَا، وَفِي عِيدِ النَّحْرِ عَلَى بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِالضَّحِيَّةِ وَمَنْ يُؤْمَرُ بِهَا وَمَا تَكُونُ مِنْهُ وَالسِّنُّ الْمُجْزِي مِنْهَا وَزَمَنُ تَذْكِيَتِهَا. (تَنْبِيهٌ) رَقِيَ بِكَسْرِ الْقَافِ فِي الْمَاضِي وَفَتْحِهَا فِي الْمُضَارِعِ بِمَعْنَى صَعِدَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ عَلِمَ يَعْلَمُ، بِخِلَافِ رَقَى مِنْ الرُّقْيَةِ فَبِالْعَكْسِ (وَيَجْلِسُ) نَدْبًا (فِي أَوَّلِ خُطْبَتِهِ) عَلَى الْمَشْهُورِ لِتَأْخُذَ النَّاسُ مَجَالِسَهُمْ (وَ) كَذَا نُدِبَ أَنْ يَجْلِسَ فِي (وَسَطِهَا) اقْتِدَاءً بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَلِلْفَصْلِ فِي الْخُطْبَتَيْنِ وَلِلِاسْتِرَاحَةِ مِنْ تَعَبِ الْقِيَامِ، وَيَكُونُ قَدْرُ الْجُلُوسِ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَخُطْبَتَانِ كَالْجُمُعَةِ وَسَمَاعِهَا وَاسْتِقْبَالِهِ وَبَعْدِيَّتِهِمَا وَأُعِيدَتَا إنْ قُدِّمَتَا وَاسْتِفْتَاحٌ بِتَكْبِيرٍ وَتَخَلُّلُهُمَا بِهِ بِلَا حَدٍّ، وَإِذَا أَحْدَثَ فِي الْخُطْبَةِ تَمَادَى؛ لِأَنَّهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ كَخُطْبَةِ الِاسْتِسْقَاءِ؛ وَلِأَنَّ الطَّهَارَةَ مُسْتَحَبَّةٌ فِي الْخُطْبَةِ وَلَوْ خُطْبَةَ جُمُعَةٍ. (ثُمَّ) بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَتَيْنِ (يَنْصَرِفُ) مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ إنْ شَاءَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ لَا يَتَنَفَّلُ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا إذَا فَعَلَهَا فِي الصَّحْرَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ لِمُصَلِّي الْعِيدِ تَنَفُّلٌ بِمُصَلَّى قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا لَا بِمَسْجِدٍ فِيهِمَا لِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ يَوْمَ الْأَضْحَى فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ لَمْ يُصَلِّ قَبْلَهُمَا وَلَا بَعْدَهُمَا» وَأَمَّا إنْ أَوْقَعَهُمَا فِي الْمَسْجِدِ فَلَا يُكْرَهُ لِإِمَامٍ وَلَا مَأْمُومٍ تَنَفُّلٌ قَبْلَهَا وَلَا بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ. (وَيُسْتَحَبُّ) لِلْإِمَامِ إذَا انْصَرَفَ (أَنْ يَرْجِعَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الطَّرِيقِ الَّتِي أَتَى) إلَى الصَّلَاةِ (مِنْهَا وَالنَّاسُ كَذَلِكَ) فِي نَدْبِ الرُّجُوعِ مِنْ غَيْرِ الطَّرِيقِ الْأُولَى خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالْإِمَامِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا خَرَجَ يَوْمَ الْعِيدِ مِنْ طَرِيقٍ رَجَعَ مِنْ غَيْرِهِ» وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ ذَلِكَ فَقِيلَ لِأَجْلِ الصَّدَقَةِ عَلَى أَهْلِ الطَّرِيقَيْنِ، وَقِيلَ لِتَشْهَدَ لَهُ الطَّرِيقَانِ. (وَإِنْ كَانَ) خُرُوجُ الْإِمَامِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ (فِي الْأَضْحَى خَرَجَ) نَدْبًا (بِأُضْحِيَّتِهِ إلَى الْمُصَلَّى) إنْ كَانَ بَلَدُهُ كَبِيرًا وَكَانَ لَهُ أُضْحِيَّةٌ (فَذَبَحَهَا أَوْ نَحَرَهَا لِيُعْلِمَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ ذَبْحٍ وَنَحْرٍ (النَّاسَ) فَإِذَا عَلِمُوا (فَيَذْبَحُونَ) أَوْ يَنْحَرُونَ (بَعْدَهُ) ؛ لِأَنَّ ذَبْحَهُمْ مَعَهُ أَوْ قَبْلَهُ غَيْرُ مُجْزٍ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَعَادَ سَابِقُهُ إلَّا الْمُتَحَرِّي أَقْرَبَ إمَامٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَكَذَا مُصَاحِبُهُ فَلَوْ نَصَّ عَلَى الْمُصَاحِبِ لَفُهِمَ حُكْمُ السَّابِقِ بِالْأَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يُخْرِجْ الْإِمَامُ أُضْحِيَّتَهُ إلَى الْمُصَلَّى فَلْيَتَحَرَّ النَّاسُ ذَكَاتَهُ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى مَنْزِلِهِ وَيَذْبَحُونَ وَيُجْزِيهِمْ، وَإِنْ أَخْطَئُوا فِي تَحَرِّيهمْ بِأَنْ تَبَيَّنَ ذَبْحُهُمْ قَبْلَ الْإِمَامِ لِكَوْنِهِ تَوَانَى بِلَا عُذْرٍ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ لَهُ عُذْرٌ بَعْدَ رُجُوعِهِ إلَى بَيْتِهِ مَنَعَهُ مِنْ الذَّبْحِ سُرْعَةٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ انْتِظَارُهُ لِقُرْبِ الزَّوَالِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ إجْزَاءِ الضَّحِيَّةِ إذَا تَبَيَّنَ الْخَطَأُ بَعْدَ التَّحَرِّي وَعَدَمُ إجْزَاءِ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ مَعَ الْخَطَأِ بَعْدَ التَّحَرِّي لِطُلُوعِ الْفَجْرِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ، وَلَا تُجْزِي إنْ تَبَيَّنَ تَقَدُّمُ إحْرَامِهَا عَلَى الْفَجْرِ، وَإِنْ يَنْحَرُ. مَشَقَّةُ إعَادَةِ الضَّحِيَّةِ دُونَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، وَأَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ كَانَ فِي الْأَضْحَى خَرَجَ بِأُضْحِيَّتِهِ إلَخْ أَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ بِالْمُصَلَّى أَفْضَلُ وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَإِيقَاعُهَا بِهِ إلَّا بِمَكَّةَ أَنْ يُسْتَحَبَّ إيقَاعُ صَلَاةِ الْعِيدِ مُطْلَقًا فِي " الْمُصَلَّى وَلَوْ فِي الْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُصَلَّى الصَّحْرَاءُ وَالْفَضَاءُ، وَصَلَاتُهَا بِالْمَسْجِدِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ بِدْعَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 جَهْرًا حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى الْإِمَامُ وَالنَّاسُ كَذَلِكَ فَإِذَا دَخَلَ الْإِمَامُ لِلصَّلَاةِ قَطَعُوا ذَلِكَ وَيُكَبِّرُونَ بِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فِي خُطْبَتِهِ وَيُنْصِتُونَ لَهُ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ فَإِنْ كَانَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ فَلْيُكَبِّرْ النَّاسُ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْهُ وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ مِنًى يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ، ثُمَّ يَقْطَعُ   [الفواكه الدواني] لَمْ يَفْعَلْهَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا فِي مَكَّةَ فَفِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ لِمُشَاهَدَةِ الْكَعْبَةِ وَهِيَ عِبَادَةٌ مَفْقُودَةٌ فِي غَيْرِهَا لِخَبَرِ: «يَنْزِلُ عَلَى هَذَا الْبَيْتِ فِي كُلِّ يَوْمٍ مِائَةٌ وَعِشْرُونَ رَحْمَةً» الْحَدِيثَ، وَقَيَّدْنَا نَدْبَ خُرُوجِ الضَّحِيَّةِ إلَى الْمُصَلَّى بِالْبَلَدِ الْكَبِيرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْقَرْيَةِ الصَّغِيرَةِ، فَلَا يُنْدَبُ لَهُ إخْرَاجُ أُضْحِيَّتِهِ لِعِلْمِهِمْ غَالِبًا بِذَبْحِهِ وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ أُضْحِيَّتَهُ، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمَامِ فِي، كَلَامِهِ إمَامُ الصَّلَاةِ لَا الْإِمَامُ الْأَكْبَرُ فَيَكُونُ مُقْتَصَرًا عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ لِأَرْجَحِيَّتِهِ عِنْدَهُ، وَيَبْقَى الْكَلَامُ إذَا تَعَدَّدَ إمَامُ الصَّلَاةِ فِي الْمِصْرِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ إمَامُ حَارَتِهِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَعْلَمُ ذَبْحَهُ وَيُؤْمَرُ بِاتِّبَاعِهِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ الضَّحِيَّةِ أَنَّ مَنْ لَا إمَامَ لَهُمْ يَتَحَرَّوْنَ ذَبْحَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إلَيْهِمْ وَيَذْبَحُونَ وَتَجْزِيهِمْ وَلَوْ تَبَيَّنَ خَطَؤُهُمْ قَالَ خَلِيلٌ وَأَعَادَ سَابِقُهُ إلَّا الْمُتَحَرِّي أَقْرَبَ إمَامٍ كَأَنْ لَمْ يُبْرِزْهَا وَتَوَانَى بِلَا عُذْرٍ قَدَّرَهُ وَبِهِ انْتَظَرَ لِلزَّوَالِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ جَعْلِنَا قَوْلَهُ: فَيَذْبَحُونَ جَوَابًا لِشَرْطٍ مُقَدَّرٍ غَيْرِ جَازِمٍ الْجَوَابَ عَنْ اعْتِرَاضِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ قَائِلًا: الصَّوَابُ إسْقَاطُ نُونِ يَذْبَحُونَ لِعَطْفِهِ عَلَى يَعْلَمُ الْمَنْصُوبَ بِأَنَّ الْمُضْمَرَةِ بَعْدَ لَامِ التَّعْلِيلِ. [صِفَةِ خُرُوجِ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ خُرُوجِ الْإِمَامِ بِصَلَاةِ الْعِيدِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَذْكُرْ) الْإِمَامُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (اللَّهَ فِي خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ) الْمُرَادُ مَحَلُّهُ الَّذِي كَانَ فِيهِ لِلصَّلَاةِ (فِي الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى) خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي عَدَمِ التَّكْبِيرِ فِي حَالِ خُرُوجِهِ لِصَلَاةِ عِيدِ الْفِطْرِ دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى: {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] وَالْعِدَّةُ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُكَبِّرُ فِي يَوْمِ الْفِطْرِ حِينَ يَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهِ حَتَّى يَأْتِيَ إلَى الْمُصَلَّى» وَهُوَ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ خَلَفًا عَنْ سَلَفٍ، وَصِفَةُ هَذَا الذِّكْرِ كَصِفَتِهِ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَأَنْ يَكُونَ بِالْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ كَسَائِرِ الْأَذْكَارِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ (جَهْرًا) بِحَيْثُ يُسْمِعُ نَفْسَهُ وَمَنْ يَلِيه وَفَوْقَ ذَلِكَ قَلِيلًا «؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَخْرُجُ يَوْمَ الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى إلَى الْمُصَلَّى رَافِعًا صَوْتَهُ بِالتَّكْبِيرِ» وَحِكْمَةُ الْجَهْرِ بِهِ إيقَاظُ الْغَافِلِ وَتَعْلِيمُ الْجَاهِلِ، وَيَسْتَمِرُّ تَكْبِيرُ الْإِمَامِ (حَتَّى يَأْتِيَ الْمُصَلَّى) أَيْ مَكَانَ الصَّلَاةِ (الْإِمَامُ وَالنَّاسُ كَذَلِكَ) أَيْ كَالْإِمَامِ فِي طَلَبِ الذِّكْرِ حَالَ الْخُرُوجِ، وَيُكَبِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ وَحْدَهُ فِي الطَّرِيقِ وَفِي الْمُصَلَّى، وَلَا يُكَبِّرُونَ جَمَاعَةً؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: افْتَرَقَ النَّاسُ بِالْقَيْرَوَانِ فِرْقَتَيْنِ بِمَحْضَرِ أَبِي عِمْرَانَ الْفَاسِيِّ وَأَبِي بَكْرِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَإِذَا فَرَغَتْ إحْدَاهُمَا مِنْ التَّكْبِيرِ وَسَكَتَتْ أَجَابَتْ الْأُخْرَى، فَسُئِلَا عَنْ ذَلِكَ فَقَالَا: إنَّهُ لَحَسَنٌ، ثُمَّ قَالَ: قُلْت وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ النَّاسِ عِنْدَنَا عَلَى ذَلِكَ بِأَفْرِيقِيَّةِ بِمَحْضَرِ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَكَابِرِ الشُّيُوخِ اهـ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى اسْتِحْسَانِهِمَا فِعْلَهُ جَمَاعَةٌ كَوْنُ ذَلِكَ بِدْعَةً؛ لِأَنَّ الْبِدْعَةَ قَدْ تَكُونُ حَسَنَةً. (فَإِذَا دَخَلَ الْإِمَامُ الصَّلَاةَ قَطَعُوا ذَلِكَ) التَّكْبِيرَ وَقِيلَ يَقْطَعُونَ بِمُجَرَّدِ مَجِيئِهِ إلَى الْمُصَلَّى. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَهَرَ بِهِ وَهَلْ لِمَجِيءِ الْإِمَامِ أَوْ لِقِيَامِهِ لِلصَّلَاةِ تَأْوِيلَانِ. (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلْيَذْكُرْ اللَّهَ فِي خُرُوجِهِ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ قَبْلَ الْخُرُوجِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمُقَابِلُهُ يَقُولُ: يَدْخُلُ زَمَنُ التَّكْبِيرِ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَعَلَيْهِ فِعْلُ أَهْلِ الْأَرْيَافِ فَإِنَّهُمْ يُكَبِّرُونَ عَلَى الْمَنَارِ لَيْلَةَ الْعِيدِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا بَأْسَ بِذَلِكَ إذَا قَصَدُوا بِفِعْلِهِ الْإِعْلَامَ بِثُبُوتِ الْعِيدِ. الثَّانِي: قَدْ صَرَّحَ فِيمَا تَقَدَّمَ زَمَنَ الْخُرُوجِ لِصَلَاةِ الْعِيدِ بِأَنَّهُ ضَحْوَةٌ، وَالْمُرَادُ الْخُرُوجُ فِي الزَّمَنِ الَّذِي إذَا خَرَجَ فِيهِ يُدْرِكُ الصَّلَاةَ وَلَوْ قَبْلَ الشَّمْسِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَخُرُوجٌ بَعْدَ الشَّمْسِ وَتَكْبِيرٌ فِيهِ حِينَئِذٍ لَا قَبْلَهُ وَصَحَّ خِلَافُهُ (وَيُكَبِّرُونَ) أَيْ النَّاسُ (بِتَكْبِيرِ الْإِمَامِ فِي) خِلَالِ (خُطْبَتِهِ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ مَالِكًا سُئِلَ عَنْ الْإِمَامِ يُكَبِّرُ فِي خُطْبَتِهِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَتُكَبِّرُ النَّاسُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ. (وَيُنْصِتُونَ) أَيْ يَسْتَمِعُونَ (لَهُ) اسْتِحْبَابًا (فِيمَا) أَيْ لَهُ فِي زَمَنٍ (سِوَى ذَلِكَ) وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ اسْتِمَاعُ خُطْبَتَيْ الْعِيدِ إلَّا فِي حَالِ تَكْبِيرِ الْإِمَامِ أَوْ صَلَاتِهِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهِ، أَوْ تَعَوُّذٍ مِنْ النَّارِ عِنْدَ سَمَاعِ ذِكْرِهَا، أَوْ تَأْمِينِهِ عِنْدَ دُعَائِهِ كَمَا فِي خُطْبَةِ الْجُمُعَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ التَّكْبِيرِ إثْرَ الصَّلَوَاتِ الْمَفْرُوضَةِ فَقَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ دَخَلَتْ (أَيَّامُ النَّحْرِ فَلْيُكَبِّرْ) جَمِيعُ (النَّاسِ) الْإِمَامُ وَغَيْرُهُ حَتَّى النِّسَاءُ وَالْفَذُّ وَالْحَاضِرُ وَالْمُسَافِرُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (دُبُرَ الصَّلَوَاتِ) الْمَفْرُوضَاتِ الْوَقْتِيَّاتِ الَّتِي عِدَّتُهَا خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً أَوَّلُهَا (مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ) لَا ظُهْرَ عَرَفَةَ وَانْتِهَاؤُهَا (إلَى صَلَاةِ الصُّبْحِ مِنْ الْيَوْمِ الرَّابِعِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ النَّحْرِ (وَهُوَ آخِرُ أَيَّامِ مِنًى) وَالْغَايَةُ دَاخِلَةٌ فَابْتِدَاؤُهُ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَآخِرُهُ صُبْحَ الرَّابِعِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِإِلَى خِلَافُ الْمُرَادِ قَالَ: (يُكَبِّرُ إذَا صَلَّى الصُّبْحَ ثُمَّ يَقْطَعُ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَالتَّكْبِيرُ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَإِنْ جَمَعَ مَعَ التَّكْبِيرِ تَهْلِيلًا وَتَحْمِيدًا فَحَسَنٌ يَقُولُ إنْ شَاءَ ذَلِكَ اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا وَالْأَوَّلُ وَالْكُلُّ وَاسِعٌ وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ أَيَّامُ مِنًى وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ وَالْغُسْلُ لِلْعِيدَيْنِ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِلَازِمٍ وَيُسْتَحَبُّ فِيهِمَا الطِّيبُ وَالْحَسَنُ مِنْ الثِّيَابِ. .   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: أَشْعَرَ قَوْلُهُ دُبُرَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ قَبْلَ التَّسْبِيحِ وَقِيلَ قِرَاءَةِ آيَةِ الْكُرْسِيِّ، وَأَصْرَحُ مِنْهُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَتَكْبِيرَةٌ إثْرَ خَمْسَ عَشْرَةَ فَرِيضَةً وَسُجُودُهَا الْبَعْدِيُّ مِنْ ظُهْرِ يَوْمِ النَّحْرِ لَا نَافِلَةَ وَلَا مَقْضِيَّةَ فِيهَا مُطْلَقًا. الثَّانِي: إذَا سَلَّمَ الْمُصَلِّي مِنْ الْفَرِيضَةِ وَنَسِيَ التَّكْبِيرَ، فَإِنَّهُ يَأْتِي بِهِ مَعَ الْقُرْبِ، وَأُخْرَى لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَهُ قَالَ فِي الْجَلَّابِ: مَنْ تَرَكَ التَّكْبِيرَ خَلْفَ الصَّلَوَاتِ أَيَّامَ التَّشْرِيقِ كَبَّرَ إنْ كَانَ قَرِيبًا، وَالْقُرْبُ هُنَا كَالْقُرْبِ فِي الْبِنَاءِ كَمَا ذَكَرَهُ سَنَدٌ. الثَّالِثُ: إذَا تَرَكَهُ الْإِمَامُ فَإِنَّ الْمَأْمُومَ يُنَبِّهُهُ وَلَوْ بِالْكَلَامِ، فَلَوْ لَمْ يُنَبِّهْهُ أَوْ لَمْ يَتَنَبَّهْ كَبَّرَ وَلَا يَتْرُكُهُ. (وَ) عِدَّةُ (التَّكْبِيرِ دُبُرَ الصَّلَوَاتِ) أَنْ يَقُولَ الْمُكَبِّرُ: (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) ثَلَاثًا بِالْإِعْرَابِ إلَّا أَنْ يَقِفَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ التَّلَفُّظِ وَالْمَدِّ الطَّبِيعِيِّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَفْظُهُ وَهُوَ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا أَنْ يَخْرُجَ مِنْ عُهْدَةِ الطَّلَبِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَإِنْ لَمْ يَزِدْ اللَّهُ أَكْبَرُ كَبِيرًا وَنَحْوَهَا مِمَّا يَذْكُرُونَهُ عِنْدَ التَّكْبِيرِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (وَإِنْ جَمَعَ مَعَ التَّكْبِيرِ تَهْلِيلًا) بِأَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ (وَتَحْمِيدًا) بِأَنْ قَالَ: وَلِلَّهِ الْحَمْدُ (فَحَسَنٌ) أَيْ أَفْضَلُ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَبَيَّنَ صِفَةَ الْجَمْعِ بِقَوْلِهِ: (يَقُولُ إنْ شَاءَ ذَلِكَ) أَيْ إنْ أَرَادَ الْجَمْعَ (اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) مَرَّةً وَاحِدَةً (وَاَللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ) مَرَّتَيْنِ (وَلِلَّهِ الْحَمْدُ) وَإِلَى هَذَا أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ قَالَ بَعْدَ تَكْبِيرَتَيْنِ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ثُمَّ تَكْبِيرَتَيْنِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ فَحَسَنٌ (وَقَدْ رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ هَذَا) اسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ إلَى الْجَمْعِ (وَالْأَوَّلُ) أَيْضًا فَكُلٌّ مِنْ الْجَمْعِ وَعَدَمِهِ مَرْوِيٌّ عَنْ الْإِمَامِ وَلَكِنَّ الْمَذْهَبَ الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّهُ بَلَاغُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ وَلِذَلِكَ صَدَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ، وَالثَّانِي رِوَايَةُ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْ مَالِكٍ، وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْيِينُ شَيْءٍ مِنْ هَاتَيْنِ الصِّيغَتَيْنِ قَالَ: (وَالْكُلُّ وَاسِعٌ) وَعَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: وَإِنْ زَادَ أَوْ نَقَصَ فَلَا حَرَجَ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ يُكَبِّرُ نَدْبًا فِي خُرُوجِهِ لِلصَّلَاةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] نَاسَبَ بَيَانَ الْأَيَّامِ الْمَعْلُومَةِ وَالْمَعْدُودَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَيَّامُ الْمَعْلُومَاتُ) فِي الْآيَةِ الْمُرَادُ بِهَا (أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ) الْأَوَّلُ وَتَالِيَاهُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لِلذَّبْحِ. (وَالْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ) الْمَذْكُورَةُ فِي الْآيَةِ هِيَ (أَيَّامُ مِنًى وَهِيَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ) أَيْضًا (بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ) ثَانِي النَّحْرِ وَتَالِيَاهُ، وَسُمِّيَتْ مَعْدُودَاتٍ؛ لِأَنَّ الْجِمَارَ تُعَدُّ فِيهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْيَوْمَ الْأَوَّلَ مَعْلُومٌ لِلنَّحْرِ غَيْرُ مَعْدُودٍ لِلرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرْمَى فِيهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَالرَّابِعُ عَكْسُهُ مَعْدُودٌ لِلرَّمْيِ غَيْرُ مَعْلُومٍ لِلنَّحْرِ لِفَوَاتِ زَمَنِ التَّضْحِيَةِ بِغُرُوبِ الثَّالِثِ كَمَا يَأْتِي، وَالْيَوْمَانِ الْمُتَوَسِّطَانِ مَعْلُومَانِ وَمَعْدُودَانِ؛ لِأَنَّهُمَا لِلنَّحْرِ وَالرَّمْيِ. [غُسْلَ الْعِيدِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالصَّلَاةِ وَالْخُطْبَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَنْ آدَابٍ تُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصِ يَوْمَ الْعِيدِ فَقَالَ: (وَالْغُسْلُ لِلْعِيدَيْنِ حَسَنٌ) أَيْ مَنْدُوبٌ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَيْسَ بِلَازِمٍ) وَصِفَةٌ كَصِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُسْنِهِ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَيُطْلَبُ مِنْ كُلِّ مُمَيِّزٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُكَلَّفًا وَلَا مُرِيدًا لِلصَّلَاةِ. قَالَ الْجُزُولِيُّ: يُؤْمَرُ بِهِ مَنْ يُؤْمَرُ بِالْخُرُوجِ وَمَنْ لَا يُؤْمَرُ؛ لِأَنَّ الْغُسْلَ لِلْيَوْمِ لَا لِلصَّلَاةِ بِخِلَافِ غُسْلِ الْجُمُعَةِ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِأَوَّلِ السُّدُسِ الْأَخِيرِ مِنْ اللَّيْلِ، وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ فِعْلُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ وَغُسْلٌ بَعْدَ الصُّبْحِ، فَمَنْ اغْتَسَلَ قَبْلَ السُّدُسِ الْأَخِيرِ لَمْ يُجِزْهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ يُخَالِفُ غُسْلَ الْجُمُعَةِ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّهُ يُطْلَبُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ يُطْلَبُ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّ غُسْلَ الْعِيدِ لِلْيَوْمِ فَإِنَّهُ لِلصَّلَاةِ وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ اتِّصَالِهِ بِالرَّوَاحِ. وَثَالِثُهَا: لَا يَدْخُلُ وَقْتُهُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ بِخِلَافِ غُسْلِ الْعِيدِ. (وَيُسْتَحَبُّ فِيهِمَا) أَيْ فِي يَوْمَيْ الْعِيدِ اسْتِعْمَالُ (الطِّيبِ) وَلَوْ لَمْ يُرِدْ الْخُرُوجَ لِلصَّلَاةِ (وَ) يُسْتَحَبُّ فِيهِمَا أَيْضًا لِبْسُ (الْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَتَطَيُّبٌ وَتَزَيُّنٌ وَإِنْ لِغَيْرِ مُصَلٍّ، وَالْمُرَادُ بِالْحَسَنِ مِنْ الثِّيَابِ فِي الْعِيدِ الْجَدِيدُ وَلَوْ أَسْوَدَ إلَّا النِّسَاءَ فَإِنَّهُنَّ إنْ أَرَدْنَ الْخُرُوجَ لِلصَّلَاةِ لَا يَقْرَبْنَ طِيبًا وَلَا زِينَةً وَإِنْ كُنَّ عَجَائِزَ، وَأَمَّا فِي مَنْزِلِهِنَّ فَلَا حَرَجَ، وَيَنْبَغِي فِي زَمَانِنَا أَوْ يَتَعَيَّنُ أَوْ يَلْحَقُ بِالنِّسَاءِ مَنْ تَتَشَوَّقُ النُّفُوسُ إلَى رُؤْيَتِهِ مِنْ الذُّكُورِ، فَيَجِبُ عَلَى وَلِيِّ الصَّغِيرِ الْجَمِيلِ وَسَيِّدِ الْمَمْلُوكِ أَنْ يُجَنِّبَهُ اللِّبَاسَ الْحَسَنَ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْعِيدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ مُعَاذٍ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُنَا إذَا غَدَوْنَا إلَى الْمُصَلَّى أَنْ نَلْبَسَ أَجْوَدَ مَا نَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الثِّيَابِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ إظْهَارِ النِّعْمَةِ وَالْفَرَحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَالسُّرُورِ» فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ تَرْكُ الزِّينَةِ وَالطِّيبِ يَوْمَ الْعِيدِ تَقَشُّفًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمَا، وَمَنْ تَرَكَ ذَلِكَ رَغْبَةً عَنْهُ فَهُوَ مُبْتَدِعٌ. 1 - (وَيُسْتَحَبُّ) أَيْضًا (الْأَكْلُ قَبْلَ الْغُدُوِّ) أَيْ الذَّهَابِ إلَى الْمُصَلَّى (يَوْمَ) عِيدِ (الْفِطْرِ) وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ عَلَى تَمَرَاتٍ وِتْرًا إنْ أَمْكَنَ لِيُقَارِنَ أَكْلُهُ إخْرَاجَ زَكَاةِ فِطْرٍ؛ لِأَنَّهُ يُؤْمَرُ بِإِخْرَاجِهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَلِيَحْصُلَ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْحَالَتَيْنِ؛ لِأَنَّهُ كَانَ صَائِمًا، وَأَمَّا يَوْمُ النَّحْرِ فَالْأَفْضَلُ فِيهِ تَأْخِيرُ الْفِطْرِ لِيُفْطِرَ عَلَى كَبِدِ أُضْحِيَّتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَطَرَ قَبْلَهُ فِي الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُهُ فِي النَّحْرِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى جَمِيعِ الْمَنْدُوبَاتِ بِقَوْلِهِ: وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ وَغُسْلٌ بَعْدَ الصُّبْحِ وَتَطَيُّبٌ وَتَزَيُّنٌ وَإِنْ لِغَيْرِ مُصَلٍّ وَمَشْيٌ فِي ذَهَابِهِ وَفِطْرٌ قَبْلَهُ فِي الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُهُ فِي النَّحْرِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ إحْيَاءُ لَيْلَةِ الْعِيدِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَحْيَا لَيْلَةَ الْعِيدِ وَلَيْلَةَ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ يَوْمَ تَمُوتُ الْقُلُوبُ» وَفِي حَدِيثٍ: «مَنْ أَحْيَا اللَّيَالِي الْأَرْبَعَ وَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّةُ» وَهِيَ: لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ عَرَفَةَ وَلَيْلَةُ الْفِطْرِ وَلَيْلَةُ النَّحْرِ، وَمَعْنَى لَمْ يَمُتْ قَلْبُهُ لَمْ يَتَحَيَّرْ عِنْدَ النَّزْعِ وَلَا عَلَى الْقِيَامَةِ، وَقِيلَ لَمْ يَمُتْ فِي حُبِّ الدُّنْيَا وَالْإِحْيَاءُ يَحْصُلُ بِالذِّكْرِ وَالصَّلَاةِ وَلَوْ فِي مُعْظَمِ اللَّيْلِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْ الْإِحْيَاءِ هَلْ يُشْتَرَطُ كَوْنُهُ لِمُجَرَّدِ ابْتِغَاءِ الثَّوَابِ الْأُخْرَوِيِّ أَوْ وَلَوْ خَالَطَهُ قَصْدُ الدُّنْيَا كَقِرَاءَةِ لَيْلَةِ الْعِيدِ أَوْ لَيْلَةِ الْجُمُعَةِ، وَالْأَنْسَبُ بِمَقَامِ الْكَرِيمِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ ثَوَابُ الْأَوَّلِ أَعْظَمَ كَمَا قَالُوهُ فِي الْمُجَاهِدِ وَغَيْرِهِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ حِسَانٍ مِنْهَا: مَا سُئِلَ عَنْهُ الْإِمَامُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - مِنْ قَوْلِ الرَّجُلِ لِأَخِيهِ يَوْمَ الْعِيدِ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْك، يُرِيدُ الصَّوْمَ وَفِعْلَ الْخَيْرِ الصَّادِرِ فِي رَمَضَانَ، غَفَرَ اللَّهُ لَنَا وَلَك فَقَالَ: مَا أَعْرِفُهُ وَلَا أُنْكِرُهُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: مَعْنَاهُ لَا يَعْرِفُهُ سُنَّةً وَلَا يُنْكِرُهُ عَلَى مَنْ يَقُولُهُ؛ لِأَنَّهُ قَوْلٌ حَسَنٌ؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ، حَتَّى قَالَ الشَّيْخُ الشَّبِيبِيُّ يَجِبُ الْإِتْيَانُ بِهِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهِ مِنْ الْفِتَنِ وَالْمُقَاطَعَةِ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا قَالُوهُ فِي الْقِيَامِ لِمَنْ يَقْدَمُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ قَوْلُ النَّاسِ لِبَعْضِهِمْ فِي الْيَوْمِ الْمَذْكُورِ: عِيدٌ مُبَارَكٌ، وَأَحْيَاكُمْ اللَّهُ لِأَمْثَالِهِ، وَلَا شَكَّ فِي جَوَازِ كُلِّ ذَلِكَ، بَلْ وَلَوْ قِيلَ بِوُجُوبِهِ لَمَا بَعُدَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ مَأْمُورُونَ بِإِظْهَارِ الْمَوَدَّةِ وَالْمَحَبَّةِ لِبَعْضِهِمْ، وَمِنْهَا: مَا سُئِلَ عَنْهُ ابْنُ سَحْنُونٍ مِنْ اجْتِمَاعِ النَّاسِ بِأَطْعِمَتِهِمْ عِنْدَ كَبِيرِهِمْ وَيَفْعَلُونَهُ كَثِيرًا فِي الْأَرْيَافِ عِنْدَ الْفِطْرِ كُلَّ لَيْلَةٍ وَيَوْمَ الْعِيدِ فَقَالَ: مَكْرُوهٌ وَعَلَّلَ الْكَرَاهَةَ بِمَا يَحْصُلُ مِنْهُمْ غَالِبًا مِنْ الْغِيبَةِ وَبِالرِّيَاءِ لِإِمْكَانِ أَكْلِ بَعْضِهِمْ مِنْ طَعَامِ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِمَّا يَأْكُلُ مِنْ طَعَامِهِ، وَأَقُولُ: الَّذِي يَظْهَرُ أَوْ يَتَعَيَّنُ الْجَزْمُ بِهِ جَوَازُ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ الْمَطْلُوبَيْنِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا دَعْوَى الرِّيَاءِ فَلَا تَظْهَرُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ أَحَدٌ الْمُبَايَعَةَ وَالْمُعَارَضَةَ فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ، وَمَا أَحْسَنُ قَوْلِ الْجُزُولِيِّ: وَالصَّحِيحُ الْجَوَازُ، وَأَمَّا الْغِيبَةُ فَلَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ وَلَا مَظْنُونَةٍ وَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ مِنْهَا. [بَاب فِي صَلَاة الْخُسُوف] ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُشْبِهُ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 بَابٌ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ إذَا خَسَفَتْ الشَّمْسُ خَرَجَ الْإِمَامُ إلَى الْمَسْجِدِ فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ ثُمَّ قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً سِرًّا بِنَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ ثُمَّ يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) صِفَةِ وَحُكْمِ (صَلَاةِ الْخُسُوفِ) لِلشَّمْسِ وَالْقَمَرِ؛ لِأَنَّهُ جَمَعَهُمَا فِي بَابٍ وَاحِدٍ، وَيُقَالُ الْكُسُوفُ بَدَلُ الْخُسُوفِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ هُمَا مُتَرَادِفَانِ أَوْ مُتَبَايِنَانِ، فَعَلَى التَّرَادُفِ مَعْنَاهُمَا ذَهَابُ الضَّوْءِ مِنْ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، وَعَلَى التَّبَايُنِ قِيلَ وَهُوَ الْأَجْوَدُ الْكُسُوفُ التَّغَيُّرُ وَالْخُسُوفُ الذَّهَابُ بِالْكُلِّيَّةِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْأَكْثَرُ الْأَوَّلُ وَهُوَ ذَهَابُ ضَوْئِهِمَا كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ إلَّا أَنْ يَقِلَّ الذَّاهِبُ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُدْرِكُهُ إلَّا الْحَاذِقُ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فَلَا يَصِلُ لَهُ لَتَنَزُّلِهِ مَنْزِلَةَ الْعَدَمِ. وَسَبَبُ خُسُوفِ الشَّمْسِ مَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ: مِنْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إذَا أَرَادَ أَنْ يُخَوِّفَ عِبَادَهُ وَيُظْهِرَ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ عَظَمَتِهِ وَسُلْطَانِهِ فَتَقَعُ الشَّمْسُ فِي الْبَحْرِ الْمَكْفُوفِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، فَإِذَا سَقَطَتْ كُلُّهَا غَابَتْ كُلُّهَا أَوْ بَعْضُهَا غَابَ ذَلِكَ الْبَعْضُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَائِبَ مِنْ الضَّوْءِ بِقَدْرِ السَّاقِطِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْخُسُوفُ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى يُخَوِّفُ بِهَا عِبَادَهُ وَلِذَلِكَ أَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالدُّعَاءِ وَالصَّلَاةِ عِنْدَ ذَلِكَ رَجَاءً لِظُهُورِ الضَّوْءِ، وَبَدَأَ بِبَيَانِ حُكْمِ صَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ بِقَوْلِهِ: (وَصَلَاةُ الْخُسُوفِ) لِلشَّمْسِ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ يُخَاطَبُ بِهَا كُلُّ مَنْ يُؤْمَرُ بِالصَّلَاةِ وَلَوْ نَدْبًا، فَتُخَاطَبُ بِهَا النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ وَالْمُسَافِرُ وَالْحَاضِرُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَتُصَلِّيهَا الْمَرْأَةُ فِي بَيْتِهَا؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ غَيْرُ شَرْطٍ فِيهَا بَلْ مُسْتَحَبَّةٌ لِلرِّجَالِ فِي الْمَسَاجِدِ. قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ وَإِنْ لِعَمُودِيٍّ وَمُسَافِرٍ لَمْ يَجِدَّ سَيْرَهُ لِكُسُوفِ الشَّمْسِ رَكْعَتَانِ سِرًّا بِزِيَادَةِ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ، دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} [فصلت: 37] قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا صَلَاةَ خُسُوفِ الشَّمْسِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا عِبَادَةَ اللَّهِ دُونَ عِبَادَتِهِمَا، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَا يُخْسَفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ» وَفِي رِوَايَةٍ «فَافْزَعُوا إلَى الصَّلَاةِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَالَ الْقَرَافِيُّ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا دُونَ صِفَتِهَا، وَقَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: مَنْ جَحَدَهَا فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ اهـ، وَأَقُولُ: لِي فِي قَوْلِهِ مَنْ جَحَدَهَا يُقْتَلُ إنْ لَمْ يَتُبْ بَحْثٌ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ جَاحِدَ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ لَا يُقْتَلُ إلَّا إذَا عَرَفَهُ الْخَاصُّ وَالْعَامُّ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَمَنْ لِمَعْلُومٍ ضَرُورَةٍ جَحَدْ ... مِنْ دِينِنَا يُقْتَلْ كُفْرًا لَيْسَ حَدْ وَصَلَاةُ الْكُسُوفِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ إذْ لَمْ يَعْرِفْهَا إلَّا الْعَالِمُ، فَلَعَلَّ كَلَامَ الْأَقْفَهْسِيِّ مِنْ بَابِ الْمُبَالَغَةِ، [صفة صَلَاة الْكُسُوف وَالْخُسُوف] ثُمَّ بَيَّنَ صِفَتَهَا بِقَوْلِهِ: (إذَا خَسَفَتْ الشَّمْسُ) بِمَعْنَى ذَهَبَ ضَوْءُهَا وَلَوْ الْبَعْضُ إلَّا مَا قَلَّ جِدًّا كَمَا قَدَّمْنَا (خَرَجَ الْإِمَامُ) نَدْبًا (إلَى الْمَسْجِدِ) ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرْوَ أَنَّهُ خَرَجَ لِصَلَاتِهَا فِي الْمُصَلَّى بِمَعْنَى الصَّحْرَاءِ، بِخِلَافِ الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَالْمُسْتَحَبُّ فِعْلُهُمَا فِي الصَّحْرَاءِ لِكَثْرَةِ الْحَاضِرِينَ لِفِعْلِهَا، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْخُسُوفِ وَوَقْتُ صَلَاةِ الْجَمِيعِ مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ إلَى الزَّوَالِ، فَلَوْ طَلَعَتْ الشَّمْسُ مَكْسُوفَةً انْتَظَرَ بِفِعْلِهَا حِلَّ النَّافِلَةِ، وَلَوْ كَسَفَتْ بَعْدَ الزَّوَالِ لَمْ يُصَلِّ لَهَا، كَمَا لَا يُصَلِّي الْعِيدَ وَالِاسْتِسْقَاءَ بَعْدَ الزَّوَالِ؛ لِأَنَّ الْأَوْقَاتِ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْفَرَائِضِ، إلَّا مَا كَانَ مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ لِلزَّوَالِ فَهُوَ لِلسُّنَنِ الرَّاتِبَةِ. (فَافْتَتَحَ الصَّلَاةَ بِالنَّاسِ) ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيَنْوِي الْإِمَامُ وَالنَّاسُ سُنَّةَ الْكُسُوفِ، وَلَا حَدَّ فِي جَمَاعَةِ الْكُسُوفِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَيَفْتَتِحُهَا الْإِمَامُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ الْمَسْجِدَ فِي وَقْتِ حِلِّ النَّافِلَةِ (بِغَيْرِ أَذَانٍ وَلَا إقَامَةٍ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ، لَكِنْ صَحَّ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 حَمِدَهُ ثُمَّ يَقْرَأُ دُونَ قِرَاءَتِهِ الْأُولَى ثُمَّ يَرْكَعُ نَحْوَ قِرَاءَتِهِ الثَّانِيَةِ ثُمَّ يَرْفَعُ رَأْسَهُ يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ ثُمَّ يَقُومُ فَيَقْرَأُ دُونَ قِرَاءَتِهِ الَّتِي تَلِي ذَلِكَ ثُمَّ يَرْكَعُ نَحْوَ قِرَاءَتِهِ ثُمَّ يَرْفَعُ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَقْرَأُ دُونَ قِرَاءَتِهِ هَذِهِ ثُمَّ يَرْكَعُ نَحْوَ ذَلِكَ ثُمَّ يَرْفَعُ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَسْجُدُ كَمَا ذَكَرْنَا ثُمَّ يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ وَلِمَنْ شَاءَ " أَنْ يُصَلِّيَ فِي بَيْتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ فَلْيَفْعَلْ وَلَيْسَ فِي صَلَاتِهِ خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ وَلِيُصَلِّ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْذَاذًا وَالْقِرَاءَةُ فِيهَا جَهْرًا كَسَائِرِ رُكُوعِ   [الفواكه الدواني] نَادَى فِيهَا: الصَّلَاةُ جَامِعَةٌ، وَيُكَبِّرُ فِي افْتِتَاحِهَا كَسَائِرِ الصَّلَوَاتِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ (قَرَأَ قِرَاءَةً طَوِيلَةً سِرًّا) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ؛ لِأَنَّهَا نِهَايَةٌ، هَكَذَا فَعَلَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَهَذَا مَا لَمْ تَتَضَرَّرْ النَّاسُ بِتَطْوِيلِهَا، وَإِلَّا تَرَكَهُ الْإِمَامُ وَصَلَّاهَا بِزِيَادَةِ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ لَكِنْ غَيْرَ تَطْوِيلٍ، وَفَسَّرَ الْقِرَاءَةَ الطَّوِيلَةَ بِقَوْلِهِ (بِنَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ) بَعْدَ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مُشْتَمِلَةٌ عَلَى زِيَادَةِ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَ بِنَحْوِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ إشَارَةً إلَى أَنَّ النَّدْبَ لَا يَخْتَصُّ بِهَذِهِ السُّورَةِ، بَلْ الْمُرَادُ هِيَ أَوْ قَدْرُهَا كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَنَصُّهَا يَقُومُ قِيَامًا طَوِيلًا نَحْوًا مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ (يَرْكَعُ رُكُوعًا طَوِيلًا نَحْوَ ذَلِكَ) أَيْ يَقْرُبُ مِنْهُ فِي الطُّولِ لَا أَنَّهُ يُسَاوِيه وَيُسَبِّحُ فِي رُكُوعِهِ (ثُمَّ) بَعْدَ رُكُوعِهِ (يَرْفَعُ رَأْسَهُ) حَالَةَ كَوْنِهِ (يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وَتَقُولُ النَّاسُ خَلْفَهُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. (ثُمَّ) بَعْدَ رَفْعِ رَأْسِهِ مِنْ الرُّكُوعِ يَسْتَمِرُّ قَائِمًا الْقِيَامَ الثَّانِي (يَقْرَأُ) فِيهِ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ قِرَاءَةً طَوِيلَةً لَكِنَّهَا (دُونَ قِرَاءَتِهِ الْأُولَى) فِي الطُّولِ بِأَنْ يَقْرَأَ آلَ عِمْرَانَ أَوْ نَحْوَهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ قِرَاءَةِ نَحْوِ آلِ عِمْرَانَ (يَرْكَعُ) الرُّكُوعَ الثَّانِي (نَحْوَ) أَيْ يُقَارِبُ (قِرَاءَتِهِ الثَّانِيَةِ) فِي الْقِيَامِ الثَّانِي (ثُمَّ) بَعْدَ الرُّكُوعِ الثَّانِي (يَرْفَعُ رَأْسَهُ) حَالَةَ كَوْنِهِ (يَقُولُ سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ) وَالْمَأْمُومُ خَلْفَهُ يَقُولُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، وَلَا تَطْوِيلَ فِي حَالَةِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ. (ثُمَّ) بَعْدَ رَفْعِهِ مِنْ الرُّكُوعِ الثَّانِي (يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ تَامَّتَيْنِ) يُطَوِّلُ فِيهِمَا تَطْوِيلًا قَرِيبًا مِنْ الرُّكُوعِ الْكَائِنِ قَبْلَهُمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَكَعَ كَالْقِرَاءَةِ وَسَجَدَ كَالرُّكُوعِ، أَيْ يَفْعَلُ كُلَّ رُكُوعٍ كَالْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهُ، وَالْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الطُّولِ وَلَا يُسَاوِيه، وَيَسْجُدُ كُلَّ سُجُودٍ قَرِيبًا مِنْ الرُّكُوعِ الَّذِي قَبْلَهُ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّ التَّطْوِيلَ فِي السَّجْدَتَيْنِ مُسْتَوٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ السَّجْدَةُ الثَّانِيَةُ أَقْصَرُ مِنْ الْأُولَى، كَمَا أَنَّ الرُّكُوعَ قَرِيبٌ مِنْ زَمَنِ الْقِرَاءَةِ الَّتِي قَبْلَهُ. (ثُمَّ) بَعْدَ السَّجْدَتَيْنِ (يَقُومُ) لِلرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ (فَيَقْرَأُ) بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ قِرَاءَةً (دُونَ) أَيْ أَقْصَرُ زَمَنًا مِنْ زَمَنِ (قِرَاءَتِهِ الَّتِي تَلِي ذَلِكَ) أَيْ زَمَنَ قِرَاءَتِهِ الْكَائِنِ فِي الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى، فَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ فِيهِ بِنَحْوِ سُورَةِ النِّسَاءِ، وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَوْلَهُمْ يَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ مِنْ الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ سُورَةَ النِّسَاءِ مَعَ مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ مِنْ أَنَّ الْقِيَامَ الْأَوَّلَ فِي الرَّكْعَةِ الثَّانِيَةِ أَقْصَرُ مِنْ الْقِيَامِ الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَقِرَاءَةُ النِّسَاءِ تُنَافِي ذَلِكَ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ كَثْرَةِ الْمَقْرُوءِ طُولُ زَمَنِ قِرَاءَتِهِ لِإِمْكَانِ الْإِسْرَاعِ مَعَ التَّرْتِيبِ حَتَّى يَصِيرَ زَمَنُ قِرَاءَةِ النِّسَاءِ أَقْصَرَ مِنْ زَمَنِ قِرَاءَةِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ الْقِيَامِ الثَّالِثِ (يَرْكَعُ نَحْوَ) أَيْ قَرِيبًا مِنْ (قِرَاءَتِهِ) فِي الْقِيَامِ الَّذِي قَبْلَهُ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ (يَرْفَعُ رَأْسَهُ كَمَا ذَكَرْنَا) فِي رَفْعِهِ مِنْ رُكُوعِ مَا قَبْلَ هَذِهِ الرَّكْعَةِ مِنْ قَوْلِهِ: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، وَقَوْلُ الْمَأْمُومِ خَلْفَهُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ، مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلٍ زَائِدٍ عَلَى ذَلِكَ. (ثُمَّ يَقْرَأُ) بَعْدَ رَفْعِهِ مِنْ ذَلِكَ الرُّكُوعِ (دُونَ) أَيْ أَقْصَرَ مِنْ (قِرَاءَتِهِ هَذِهِ) الَّتِي فِي الْقِيَامِ الثَّالِثِ بِأَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ قِرَاءَةِ الْقِيَامِ الرَّابِعِ (يَرْكَعُ نَحْوَ) أَيْ قَرِيبًا مِنْ (ذَلِكَ) أَيْ مِنْ زَمَنِ الْقِيَامِ الرَّابِعِ (ثُمَّ يَرْفَعُ) رَأْسَهُ (كَمَا ذَكَرْنَا) أَيْ حَالَةَ كَوْنِهِ قَائِلًا: سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ إنْ كَانَ إمَامًا، وَالْمَأْمُومُ: رَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ الرَّفْعِ مِنْ الرُّكُوعِ (يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ كَمَا ذَكَرْنَا) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى مِنْ كَوْنِهِمَا تَامَّتَيْنِ طَوِيلَتَيْنِ كُلُّ سَجْدَةٍ قَرِيبَةٌ مِمَّا قَبْلَهَا فِي الطُّولِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَكَعَ كَالْقِرَاءَةِ وَسَجَدَ كَالرُّكُوعِ أَيْ الثَّانِي، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبٌ مِمَّا قَبْلَهُ فِي الطُّولِ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ السَّجْدَتَيْنِ (يَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) وَحَصَلَتْ السُّنَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُدْرَكُ الرَّكْعَةُ بِالرُّكُوعِ وَلَا تُكَرَّرُ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ، وَقِيلَ الْمَنْعُ وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ الْكَرَاهَةُ فَلَا مُخَالَفَةَ إلَّا إذَا انْجَلَتْ ثُمَّ كَسَفَتْ مَرَّةً أُخْرَى بَعْدَ صَلَاتِهَا وَقَبْلَ الزَّوَالِ فَإِنَّهَا تُكَرَّرُ لِاخْتِلَافِ السَّبَبِ، وَأَمَّا لَوْ كَسَفَتْ فِي أَيَّامٍ لَطُلِبَتْ صَلَاتُهَا بِعَدَدِ الْأَيَّامِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَوَقْتُهَا كَالْعِيدِ وَلَا تُكَرَّرُ. قَالَ شُرَّاحُهُ: مَعْنَاهُ فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ عِنْدَ اتِّحَادِ السَّبَبِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ يَخْرُجُ لَهَا الْإِمَامُ وَالنَّاسُ شَرْطِيَّةُ الْجَمَاعَةِ فِيهَا رَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَلِمَنْ شَاءَ أَنْ يُصَلِّيَ) صَلَاةَ الْكُسُوفِ (فِي بَيْتِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) الْوَصْفُ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ زِيَادَةِ قِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ مَعَ الطُّولِ فِي الْقِرَاءَةِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (فَلْيَفْعَلْ) وَيَكُونُ مُؤَدِّيًا لِلسُّنَّةِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَيْسَتْ شَرْطًا فِيهَا بَلْ مَنْدُوبَةً فَيُسَنُّ لِلْمُنْفَرِدِ فِعْلُهَا وَإِنْ تَمَكَّنَ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَإِنَّمَا يُفَوِّتُ عَلَى نَفْسِهِ ثَوَابَ فِعْلِهَا فِي الْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعِيدِ شَرْطُ وُقُوعِهَا سُنَّةً فِعْلُهَا مَعَ الْجَمَاعَةِ، فَمَنْ فَاتَتْهُ مَعَ جَمَاعَتِهَا فِي الْبَلَدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 النَّوَافِلِ وَلَيْسَ فِي أَثَرِ صَلَاةِ خُسُوفِ الشَّمْسِ خُطْبَةٌ مُرَتَّبَةٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَعِظَ النَّاسَ وَيُذَكِّرَهُمْ. .   [الفواكه الدواني] نُدِبَتْ لَهُ فَقَطْ، وَإِنْ فَعَلَهَا مَعَ جَمَاعَةٍ لَمْ تَقَعْ لَهُ سُنَّةٌ؛ لِأَنَّ السُّنَّةَ تَحْصُلُ بِالْجَمَاعَةِ الْأُولَى لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ فِي الْبَلَدِ الْوَاحِدِ إلَّا إذَا كَانَتْ مِصْرًا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ تَطْوِيلِ الْقِرَاءَةِ، وَلَا حُكْمُ تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَلَا السُّجُودِ وَلَا حُكْمُ الرُّكُوعِ الْأَوَّلِ، وَلَا تُدْرَكُ بِهِ الرَّكْعَةُ مِنْ الرُّكُوعَيْنِ، وَمُلَخَّصُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ: أَنَّ فِي تَطْوِيلِ الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ قَوْلَيْنِ الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا النَّدْبُ وَمُقَابِلُهُ السُّنِّيَّةُ، وَعَلَى الْمُعْتَمَدِ لَا سُجُودَ فِي تَرْكِهِ سَهْوًا وَلَا بُطْلَانَ فِي تَرْكِهِ عَمْدًا وَلَوْ مِنْ الثَّلَاثِ، بِأَنْ قَرَأَ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ بِسَبِّحْ، وَفِي الثَّانِي بِهَلْ أَتَاك، وَفِي الثَّالِثِ بِأَلَمْ نَشْرَحْ. وَفِي الرَّابِعِ بِإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ، وَرَكَعَ كَالْقِرَاءَةِ وَسَجَدَ كَالرُّكُوعِ، وَعَلَى مُقَابِلِهِ السُّجُودُ فِي السَّهْوِ وَالْبُطْلَانُ فِي الْعَمْدِ وَلَوْ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْقِيَامِ الْأَوَّلِ فَحُكْمُهُ السُّنِّيَّةُ، وَكَذَا الرُّكُوعُ الْأَوَّلُ الزَّائِدَيْنِ، فَمَنْ صَلَّاهَا بِقِيَامٍ وَاحِدٍ وَرُكُوعٍ وَاحِدٍ كَبَقِيَّةِ الصَّلَوَاتِ، فَإِنْ كَانَ سَاهِيًا سَجَدَ قَبْلَ السَّلَامِ، وَإِنْ كَانَ عَامِدًا أَجْرَى الْخِلَافَ فِي بُطْلَانِ صَلَاتِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَهَلْ يَتَعَمَّدُ تَرْكَ سُنَّةٍ أَوْ لَا؟ وَلَا سُجُودَ خِلَافٌ، وَتُدْرَكُ رَكْعَتُهَا بِالرُّكُوعِ الثَّانِي مِنْ الرُّكُوعَيْنِ، فَمَنْ دَخَلَ مَعَ الْإِمَامِ فِي الرُّكُوعِ الثَّانِي مِنْ الرَّكْعَةِ الْأَخِيرَةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ مَعَ الْإِمَامِ وَيَقْضِي الثَّانِيَةَ بِقِيَامَيْنِ وَرُكُوعَيْنِ. 1 - الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْفَاتِحَةَ تُكَرَّرُ فِي كُلِّ قِيَامٍ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ شَرَعَ فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ ثُمَّ انْجَلَتْ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ وَمُحَصِّلُهُ: إنْ انْجَلَتْ بَعْدَ تَمَامِ شَطْرِهَا فَقِيلَ يُتِمُّهَا بِقِيَامَيْنِ وَرُكُوعٍ عَلَى سُنِّيَّتِهَا لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَطْوِيلٍ، وَقِيلَ يُتِمُّهَا كَالنَّافِلَةِ بِقِيَامٍ وَاحِدٍ وَرُكُوعٍ وَاحِدٍ، وَإِنْ انْجَلَتْ قَبْلَ تَمَامِ شَطْرِهَا فَقِيلَ يَقْطَعُهَا وَقِيلَ يُتِمُّهَا كَالنَّوَافِلِ وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ 1 - الرَّابِعُ: لَمْ يُبَيِّنْ كَخَلِيلٍ حُكْمَ مَا لَوْ زَالَتْ فِي أَثْنَائِهَا وَتَرَدَّدَ فِيهِ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ وَأَقُولُ الَّذِي يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ يُتِمُّهَا كَالنَّافِلَةِ وَلَا يَقْطَعُهَا؛ لِأَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا اُفْتُتِحَتْ بِوَجْهٍ جَائِزٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ خُرُوجُ وَقْتِهَا أَوْ تَبَيَّنَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ مِنْهَا يُخَفَّفُ فِي فِعْلِهَا وَتُمِّمَتْ نَافِلَةً وَلَا تُقْطَعُ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ وَقْتَ نَهْيٍ؛ لِأَنَّ النَّفَلَ إنَّمَا يَحْرُمُ فِي وَقْتِ النَّهْيِ إذَا كَانَ مَدْخُولًا عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوَالِ قَبْلَ تَمَامِ شَطْرِهَا أَوْ بَعْدَهُ، وَلَيْسَ الزَّوَالُ كَالتَّجَلِّي لِوُجُودِ السَّبَبِ هُنَا فِي الْجُمْلَةِ وَحَرِّرْ ذَلِكَ. 1 - الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ ضَاقَ الْوَقْتُ عَنْ صَلَاتِهَا عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا تُفْعَلُ عَلَى مَا يُمْكِنُ وَلَوْ عَلَى غَيْرِ هَيْئَتِهَا؛ لِأَنَّ السُّنَنَ قَدْ تُتْرَكُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ كَالسُّورَةِ مَثَلًا لِمَنْ خَافَ بِقِرَاءَتِهَا خُرُوجَ الْوَقْتِ وَعَدَمَ إدْرَاكِهِ، وَأَشَارَ إلَى صِفَةِ صَلَاةِ خُسُوفِ الْقَمَرِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ فِي صَلَاةِ خُسُوفِ الْقَمَرِ جَمَاعَةٌ وَلْيُصَلِّ النَّاسُ عِنْدَ ذَلِكَ أَفْذَاذًا) ؛ لِأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فَفِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ. (وَالْقِرَاءَةُ فِيهَا جَهْرًا) ؛ لِأَنَّهَا نَافِلَةٌ لَيْلِيَّةٌ فِيهَا الْجَهْرُ (كَسَائِرِ رُكُوعِ النَّوَافِلِ) اللَّيْلِيَّةِ وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: وَرَكْعَتَانِ رَكْعَتَانِ لِخُسُوفِ قَمَرٍ كَالنَّوَافِلِ جَهْرًا بِلَا جَمْعٍ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْأَفْضَلَ فِيهَا الِانْفِرَادُ وَتُكْرَهُ فِيهَا الْجَمَاعَةُ وَيَجُوزُ تَكْرَارُهَا، وَأَفَادَ بِقَوْلِهِ كَالنَّوَافِلِ أَنَّهَا تُصَلَّى رَكْعَتَيْنِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ فِي الْقِيَامِ وَلَا فِي الرُّكُوعِ، وَأَنَّهَا مُسْتَحَبَّةٌ وَلَيْسَتْ سُنَّةً، وَمُقَابِلُ الْمُعْتَمَدِ قَوْلُ ابْنِ عَطَاءِ اللَّهِ: أَنَّهَا سُنَّةٌ وَقْتُهَا اللَّيْلُ كُلُّهُ فَإِنْ طَلَعَ مَكْسُوفًا صَلُّوا الْمَغْرِبَ قَبْلَهَا، وَيَفُوتُ فِعْلُهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ فَلَا تُفْعَلُ بَعْدَهُ وَلَوْ تَعَمَّدُوا تَأْخِيرَهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي عَدَمِ صَلَاتِهَا لَوْ لَمْ يَخْسِفْ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ لَوْ خَسَفَ لَيْلًا وَأَخَّرُوا الصَّلَاةَ حَتَّى غَابَ فَعِنْدَنَا لَا تُصَلَّى وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ تُصَلَّى، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ: لَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِالنَّاسِ إلَّا فِي خُسُوفِ الشَّمْسِ، وَلَمْ أَسْمَعْ أَنَّهُ جَمَعَ لِخُسُوفِ الْقَمَرِ، وَلَكِنْ يُصَلُّونَ أَفْذَاذًا رَكْعَتَيْنِ كَسَائِرِ النَّوَافِلِ. (وَلَيْسَ فِي إثْرِ) أَيْ عَقِبِ (صَلَاةِ خُسُوفِ الشَّمْسِ خُطْبَةٌ مُرَتَّبَةٌ) بِحَيْثُ يَجْلِسُ فِي أَوَّلِهَا وَفِي وَسَطِهَا؛ لِأَنَّ جَمَاعَةً مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَالنُّعْمَانُ بْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَابِرٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ نَقَلُوا صِفَةَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَلَمْ يَذْكُرْ أَحَدٌ مِنْهُمْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَطَبَ فِيهَا، وَمَا صَدَرَ مِنْ تَسْمِيَةِ عَائِشَةَ لِمَا صَدَرَ مِنْهُ خُطْبَةً فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ أَتَى بِكَلَامٍ يُشْبِهُ الْخُطْبَةَ. (وَ) لَكِنْ (لَا بَأْسَ) بِمَعْنَى أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ (أَنْ يَعِظَ) الْإِمَامُ (النَّاسَ) بَعْدَهَا (وَيُذَكِّرَهُمْ) تَفْسِيرٌ لِلْوَعْظِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَوَعَظَ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّ الْوَعْظَ إذَا وَرَدَ بَعْدَ الْآيَاتِ يُرْجَى تَأْثِيرُهُ، وَكَمَا يُسْتَحَبُّ لِلْإِمَامِ وَعْظُ النَّاسِ يُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْرِيضُهُمْ وَحَثُّهُمْ عَلَى بَذْلِ الصَّدَقَاتِ وَالْعِتْقِ وَالصِّيَامِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ: «إنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِمَا عِبَادَهُ لَا يَخْسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ فَإِذَا رَأَيْتُمْ ذَلِكَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ» . وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ نَقْرِ النُّحَاسِ عِنْدَ الْخُسُوفِ فَهُوَ بِدْعَةٌ مِنْ عَمَلِ فِرْعَوْنَ 1 - (خَاتِمَةٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الصَّلَاةِ أَوْ السُّجُودِ عِنْدَ شَيْءٍ مِنْ الْآيَاتِ غَيْرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْخُسُوفِ مِنْ نَحْوِ الزَّلْزَلَةِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدِ وَنَحْوِهِمَا، وَالنَّصُّ عَنْ مَالِكٍ: " لَا يُصَلِّي عِنْدَ الزَّلْزَلَةِ وَلَا عِنْدَ شِدَّةِ الرِّيحِ وَلَا شِدَّةِ الظُّلْمَةِ " وَالْمُرَادُ الْكَرَاهَةُ، وَقَالَ مَالِكٌ أَيْضًا: " وَلَا يَسْجُدُ عِنْدَ الْبُشْرَى " وَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: يَسْجُدُ وَقَدْ سَجَدَ شُكْرًا حِينَ بَلَغَهُ مَوْتُ الْحَجَّاجِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ قَالَ خَلِيلٌ: شُكْرًا أَوْ زَلْزَلَةً نَعَمْ قَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَيْضًا: " وَلَكِنْ أَرَى أَنْ يَفْزَعَ لِلصَّلَاةِ عِنْدَ الْأَمْرِ يَحْدُثُ مِمَّا يَخَافُ أَنْ يَكُونَ عُقُوبَةً كَالزَّلَازِلِ وَالظُّلُمَاتِ وَالرِّيحِ الشَّدِيدَةِ " وَهُوَ قَوْلُ أَشْهَبَ، فَتَخَلَّصَ أَنَّ الْمَكْرُوهَ عِنْدَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ خُصُوصُ السُّجُودِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فَتُطْلَبُ عِنْدَ ذَلِكَ وَيَدُلُّ لِذَلِكَ مَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مِنْ قَوْلِهِ لِبِلَالٍ عِنْدَ حُصُولِ الْأَمْرِ الْمُهِمِّ: «أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 بَابٌ فِي صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ تُقَامُ يَخْرُجُ لَهَا الْإِمَامُ كَمَا يَخْرُجُ لِلْعِيدَيْنِ ضَحْوَةً فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ يَقْرَأُ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى وَالشَّمْسُ وَضُحَاهَا وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] (بَابٌ فِي) بَيَانِ (صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ) بِالْمَدِّ وَهُوَ لُغَةً طَلَبُ السَّقْيِ، وَشَرْعًا طَلَبُ السَّقْيِ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى لِقَحْطٍ نَزَلَ بِهِمْ أَوْ بِدَوَابِّهِمْ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ عِنْدَ جُمْهُورِ الْأَئِمَّةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُصَلَّى؛ لِأَنَّهَا بِدْعَةٌ وَحَمَلَ مَا وَرَدَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى فِعْلِهَا عَلَى الدُّعَاءِ وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ} [البقرة: 60] وقَوْله تَعَالَى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا} [نوح: 10] الْآيَةَ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَرَجَ إلَى الْمُصَلَّى فَاسْتَسْقَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ وَقَلَبَ رِدَاءَهُ وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ» . وَفِي رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ: «جَهَرَ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى ذَلِكَ، وَتُشْرَعُ عِنْدَ تَأْخِيرِ النِّيلِ وَالْمَطَرِ، وَقَدْ احْتَاجَ الزَّرْعُ أَوْ الْآدَمِيُّ أَوْ الْحَيَوَانُ الْبَهِيمِيُّ إلَى الْمَاءِ فَيَأْمُرُ الْإِمَامُ النَّاسَ بِالتَّوْبَةِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَالْإِتْيَانِ بِمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ تَغَيُّرَ الْحَالِ إنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا لِارْتِكَابِ الذُّنُوبِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ حُكْمِهَا بِقَوْلِهِ: (وَصَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ سُنَّةٌ) عَلَى الْأَعْيَانِ يَتَأَكَّدُ أَنْ (تُقَامَ) أَيْ تُصَلَّى. قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ الِاسْتِسْقَاءُ لِزَرْعٍ أَوْ شُرْبٍ بِنَهْرٍ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ بِسَفِينَةٍ رَكْعَتَانِ جَهْرًا وَكَرَّرَ إنْ تَأَخَّرَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّهَا إنَّمَا تُسَنُّ لِلْمَحَلِّ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَالْحَاءِ وَهُوَ احْتِيَاجُ الزَّرْعِ وَالْجَدْبُ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ ضِدُّ الْخِصْبِ بِكَسْرِ الْخَاءِ أَوْ لِشُرْبِ الْآدَمِيِّ أَوْ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلٍّ وَلَا جَدْبٍ وَلَا يَحْتَاجُ إلَى الشُّرْبِ وَقَدْ أَتَاهُمْ مِنْ الْغَيْثِ الْكِفَايَةُ لَا مَعَ سَعَةٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِي حَقِّهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِنَانٍ وَلَا نَدْبٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَتَرَتَّبُ عَلَى السَّعَةِ فِعْلُ خَيْرٍ فَيُنْدَبُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ فِي خَصْبٍ وَرَخَاءٍ وَأَرَادَ أَنْ يَطْلُبَ بِهِ الرَّخَاءَ أَوْ الْخَصْبَ لِغَيْرِهِ فَيُنْدَبُ؛ لِأَنَّهُ إعَانَةٌ عَلَى الْخَيْرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فِعْلَ الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ وَتُفْعَلُ صَلَاةُ الِاسْتِسْقَاءِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، [وَقْت صَلَاة الِاسْتِسْقَاء] ثُمَّ بَيَّنَ وَقْتَهَا بِقَوْلِهِ: (يَخْرُجُ لَهَا الْإِمَامُ) إلَى الْمُصَلَّى (كَمَا يَخْرُجُ لِلْعِيدَيْنِ) وَذَلِكَ عِنْدَ (ضَحْوَةِ) النَّهَارِ وَهِيَ مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ إلَى الزَّوَالِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَخَرَجُوا ضُحًى مُشَاةً بِبِذْلَةٍ وَتَخَشُّعٍ مَشَايِخُ وَصِبْيَةٌ لَا مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْهُمْ وَلَا بَهِيمَةٌ وَلَا حَائِضٌ. (فَيُصَلِّي بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ يَجْهَرُ فِيهِمَا بِالْقِرَاءَةِ) نَدْبًا كَمَا يُنْدَبُ أَنْ (يَقْرَأَ بِسَبِّحْ اسْمَ رَبِّك الْأَعْلَى) فِي الرَّكْعَةِ الْأُولَى وَفِي الثَّانِيَةِ بِسُورَةِ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ قَرَأَ فِي صَلَاتِهَا بِهَاتَيْنِ السُّورَتَيْنِ (وَفِي كُلِّ رَكْعَةٍ سَجْدَتَانِ وَرَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ) أَيْ رُكُوعٌ وَاحِدٌ فَلَيْسَتْ كَصَلَاةِ كُسُوفِ الشَّمْسِ. (وَيَتَشَهَّدُ وَيُسَلِّمُ) وَتَحْصُلُ، السُّنَّةُ بِفِعْلِ الرَّكْعَتَيْنِ مِنْ الذُّكُورِ الْبَالِغِينَ؛ لِأَنَّهُمْ الَّذِينَ تُسَنُّ فِي حَقِّهِمْ، وَأَمَّا الصِّبْيَانُ وَالْمُتَجَالَّاتُ مِنْ النِّسَاءِ فَتُنْدَبُ فِي حَقِّهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْمُرَادُ مِنْ غَيْثٍ أَوْ نِيلٍ كُرِّرَتْ عَلَى تَوَالِي الْأَيَّامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَرَّرَ إنْ تَأَخَّرَ لَا فِي الْيَوْمِ الْوَاحِدِ، قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا بَأْسَ بِهِ أَيَّامًا مُتَوَالِيَةً. قَالَ أَصْبَغُ: اُسْتُقِيَ عِنْدَنَا بِمِصْرَ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا مُتَوَالِيَةً عَلَى سُنَّةِ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ وَحَضَرَ ذَلِكَ ابْنُ الْقَاسِمِ وَابْنُ وَهْبٍ وَرِجَالٌ صَالِحُونَ فَلَمْ يُنْكِرُوهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَجْمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّاسِ مَعَ أَنَّهُمْ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْرُجُ اتِّفَاقًا وَهُمْ الرِّجَالُ وَالْمُتَجَالَّاتُ مِنْ النِّسَاءِ وَمَنْ يَعْقِلُ فِي الْقَرْيَةِ مِنْ الصِّبْيَانِ، وَقِسْمٌ لَا يَخْرُجُ اتِّفَاقًا وَهُنَّ الشَّابَّاتُ الْمَخْشِيَّاتُ الْفِتْنَةَ، وَقِسْمٌ اُخْتُلِفَ فِيهِ وَهُوَ مَنْ لَا يَعْقِلُ فِي الْقَرْيَةِ وَالشَّابَّاتُ غَيْرُ الْمَخْشِيَّاتِ وَالْبَهَائِمُ، وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ عَدَمُ خُرُوجِهِمْ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا مَنْ لَا يَعْقِلُ مِنْهُمْ وَبَهِيمَةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 يَسْتَقْبِلُ النَّاسَ بِوَجْهِهِ فَيَجْلِسُ جِلْسَةً فَإِذَا اطْمَأَنَّ النَّاسُ قَامَ مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصًا فَخَطَبَ ثُمَّ جَلَسَ ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ. فَإِذَا فَرَغَ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ يَجْعَلُ مَا عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ وَمَا عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى الْأَيْمَنِ وَلَا يَقْلِبُ ذَلِكَ وَلْيَفْعَلْ النَّاسُ مِثْلَهُ وَهُوَ قَائِمٌ وَهُمْ قُعُودٌ ثُمَّ يَدْعُو كَذَلِكَ ثُمَّ يَنْصَرِفُ وَيَنْصَرِفُونَ وَلَا يُكَبِّرُ فِيهَا وَلَا فِي الْخُسُوفِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ وَلَا أَذَانَ فِيهَا وَلَا إقَامَةَ.   [الفواكه الدواني] وَأَمَّا أَهْلُ الذِّمَّةِ فَأَبَاحَ فِي الْمُدَوَّنَةِ خُرُوجَهُمْ مَعَ النَّاسِ وَلَكِنْ يَقِفُونَ عَلَى جِهَةٍ وَلَا يَنْفَرِدُونَ بِيَوْمٍ آخَرَ، قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُمْنَعُ ذِمِّيٌّ وَانْفَرَدَ لَا بِيَوْمٍ آخَرَ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ خُرُوجِ الْإِمَامِ وَالنَّاسِ وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: بِبِذْلَةٍ وَتَخَشُّعٍ أَيْ مُتَوَاضِعِينَ وَجِلِينَ لَابِسِينَ ثِيَابَ الْبِذْلَةِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَدَّمْنَا بَيَانَهُ أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمُصَلَّى فِي غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ كَالْعَبْدِ، وَأَمَّا أَهْلُ مَكَّةَ فَيَسْتَسْقُونَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَا يُصَلُّونَ فِيهِ الْعِيدَ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ (ثُمَّ) إذَا سَلَّمَ الْإِمَامُ (يَسْتَقْبِلُ النَّاسَ) نَدْبًا (بِوَجْهِهِ فَيَجْلِسُ) عَلَى الْأَرْضِ قَبْلَ خُطْبَتِهِ (جَلْسَةً) بِفَتْحِ الْجِيمِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مَرَّةً كَجَلْسَتِهِ قَبْلَ الْخُطْبَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ وَالنَّاسُ يَجْلِسُونَ كَذَلِكَ. (فَإِذَا اطْمَأَنَّ النَّاسُ) جَالِسِينَ (قَامَ) حَالَةَ كَوْنِهِ (مُتَوَكِّئًا عَلَى قَوْسٍ أَوْ عَصَا) أَوْ سَيْفٍ لِئَلَّا يَعْبَثَ بِلِحْيَتِهِ (فَخَطَبَ) بِالْأَرْضِ الْخُطْبَةَ الْأُولَى (ثُمَّ جَلَسَ) قَدْرَ مَا بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ (ثُمَّ قَامَ فَخَطَبَ) الْخُطْبَةَ الثَّانِيَةَ كَخُطْبَةِ الْعِيدِ لَكِنْ يُبَدِّلُ التَّكْبِيرَ بِالِاسْتِغْفَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ خَطَبَ كَالْعِيدِ لَكِنْ يُبَدِّلُ التَّكْبِيرَ بِالِاسْتِغْفَارِ، ثُمَّ قَالَ: وَنُدِبَ خُطْبَةٌ بِالْأَرْضِ فَلَا يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرٍ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ يُمْنَعُ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالْمَنْعِ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَالَةَ يُطْلَبُ فِيهَا التَّوَاضُعُ، وَيَدْعُو فِي خُطْبَتِهِ بِكَشْفِ مَا نَزَلَ بِهِمْ وَلَا يَدْعُو لِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَلَا لِأَحَدٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ، وَتُسْتَحَبُّ الْمُبَالَغَةُ فِي آخِرِ الْخُطْبَةِ الثَّانِيَةِ حَالَةَ كَوْنِهِ مُسْتَقْبِلًا بِأَنْ يُكْثِرَ مِنْ الدُّعَاءِ وَيَأْتِي بِأَجْوَدِهِ وَهُوَ مَا كَانَ يَقُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي اسْتِسْقَائِهِ وَهُوَ: «اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَك وَبَهِيمَتَك وَانْشُرْ رَحْمَتَك وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ» وَيَجْهَرُ بِالدُّعَاءِ وَيُؤَمِّنُ عَلَى دُعَائِهِ مَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الِاسْتِسْقَاءِ بِخُطْبَتَيْنِ كَالْعِيدِ هُوَ الْمَذْهَبُ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَجَلَسَ بَيْنَهُمَا وَالْمَطْلُوبُ تَوَسُّطُهَا. 1 - الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِ الْخُطْبَةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ، وَدَلِيلُهُ مَا خَرَّجَهُ أَصْحَابُ الصِّحَاحِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّمَ الِاسْتِسْقَاءَ؛ وَلِأَنَّ تَقْدِيمَ الصَّلَاةِ أَنْجَحُ فِي الدُّعَاءِ فَقَدْ «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَرَادَ حَاجَةً تَوَضَّأَ وَصَلَّى ثُمَّ يَسْأَلُ اللَّهَ» ؛ لِأَنَّهَا حَقُّ اللَّهِ وَالدُّعَاءُ حَقُّ الْعَبْدِ فَيُقَدَّمُ حَقُّ اللَّهِ، كَمَا قَدَّمَ الثَّنَاءَ فِي الْفَاتِحَةِ وَفِي التَّشَهُّدِ قَبْلَ الدُّعَاءِ وَقِيَاسًا عَلَى الْعِيدَيْنِ وَاسْتِمَاعُهُمَا مَنْدُوبٌ وَكُلُّ مَنْ حَضَرَ وَالْإِمَامُ يَخْطُبُ يَجْلِسُ وَلَا يُصَلِّي وَبَعْدَ الْخُطْبَةِ يُخَيَّرُ فِي الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ نَافِلَةً كَمَنْ فَاتَتْهُ صَلَاةُ الْعِيدِ مَعَ الْإِمَامِ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ. (فَإِذَا فَرَغَ) الْإِمَامُ مِنْ الْخُطْبَةِ (اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ) نَدْبًا (فَحَوَّلَ رِدَاءَهُ) بِأَنْ (يَجْعَلَ مَا عَلَى مَنْكِبِهِ الْأَيْمَنِ عَلَى الْأَيْسَرِ وَ) يَجْعَلَ (مَا عَلَى الْأَيْسَرِ عَلَى) مَنْكِبِهِ (الْأَيْمَنِ) وَالسِّرُّ فِي التَّحَوُّلِ الْمَذْكُورِ التَّفَاؤُلُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحَوِّلُ سَاعَةَ الْجَدْبِ بِسَاعَةِ الْخَصْبِ وَسَاعَةَ الْعُسْرِ بِسَاعَةِ الْيُسْرِ (وَلَا يَقْلِبُ ذَلِكَ) الرِّدَاءَ بِأَنْ يَجْعَلَ الْحَاشِيَةَ السُّفْلَى عُلْيَا وَالْعُلْيَا سُفْلَى. (وَلْيَفْعَلْ النَّاسُ) أَيْ الرِّجَالُ بِأَرْدِيَتِهِمْ (مِثْلَهُ) أَيْ مِثْلَ الْإِمَامِ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُحَوِّلْنَ، وَقَوْلُنَا بِأَرْدِيَتِهِمْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْبَرَانِسِ فَلَا تُحَوَّلُ، ثُمَّ بَيَّنَ زَمَنَ التَّحْوِيلِ مِنْ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ (وَهُوَ قَائِمٌ وَهُمْ قُعُودٌ ثُمَّ يَدْعُو كَذَلِكَ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: ثُمَّ حَوَّلَ رِدَاءَهُ يَمِينَهُ يَسَارَهُ بِلَا تَنْكِيسٍ وَكَذَلِكَ الرِّجَالُ فَقَطْ قُعُودًا، وَمِنْ الْأَدْعِيَةِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ اسْقِ عِبَادَك وَبَهِيمَتَك وَانْشُرْ رَحْمَتَك وَأَحْيِ بَلَدَك الْمَيِّتَ» . وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا مُغِيثًا هَنِيئًا مَرِيئًا مَرِيعًا غَدَقًا مُجَلَّلًا عَامًّا طَبَقًا سَحًّا دَائِمًا، اللَّهُمَّ اسْقِنَا الْغَيْثَ وَلَا تَجْعَلْنَا مِنْ الْقَانِطِينَ، اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِالْعِبَادِ وَالْبِلَادِ مِنْ الْأَذَى وَالضَّنْكِ وَالْجَهْدِ مَا لَا يُشْكَى إلَّا إلَيْك، اللَّهُمَّ أَنْبِتْ لَنَا الزَّرْعَ وَأَدِرَّ لَنَا الضَّرْعَ، وَاسْقِنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاءِ وَأَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ، اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا الْجَهْدَ وَالْجُوعَ وَالْعُرْيَ وَاكْشِفْ عَنَّا مَا لَا يَكْشِفُهُ غَيْرُك، اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَغْفِرُك فَإِنَّك كُنْت غَفَّارًا، فَأَرْسِلْ السَّمَاءَ عَلَيْنَا مِدْرَارًا» وَيَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي حَالِ الدُّعَاءِ وَبُطُونُهُمَا إلَى الْأَرْضِ وَقِيلَ إلَى السَّمَاءِ، وَوَرَدَ أَنَّهُ بَعْدَ الدُّعَاءِ يَضَعُ يَدَيْهِ عَلَى وَجْهِهِ وَيَمْسَحُهُ بِهِمَا لَكِنْ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدُّعَاءَ مُتَأَخِّرٌ عَنْ التَّحْوِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَخْطُبُ ثُمَّ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ ثُمَّ يُحَوِّلُ ثُمَّ يَدْعُو عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَالنَّاسُ مِثْلُ الْإِمَامِ إلَّا فِي حَالِ الْخُطْبَةِ وَالدُّعَاءِ فَإِنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ قَائِمًا وَهُمْ جُلُوسٌ. (ثُمَّ) بَعْدَ فَرَاغِ الدُّعَاءِ (يَنْصَرِفُ) أَيْ الْإِمَامُ (وَيَنْصَرِفُونَ وَلَا يُكَبِّرُ) أَحَدٌ (فِيهَا) أَيْ صَلَاةِ الِاسْتِسْقَاءِ. (وَلَا فِي) صَلَاةِ (الْخُسُوفِ غَيْرَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ) وَتَكْبِيرَةِ (الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ) كَمَا أَنَّهُ لَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] يُكَبِّرُ فِي الْخُطْبَةِ؛ لِأَنَّهُ يُبَدِّلُ التَّكْبِيرَ الْمَطْلُوبَ فِي خُطْبَةِ الْعِيدِ فِيهَا بِالِاسْتِغْفَارِ كَمَا قَدَّمْنَا (وَلَا أَذَانَ فِيهَا وَلَا إقَامَةَ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي صَلَاةِ الْخُسُوفِ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ شَعَائِرِ الْفَرَائِضِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا لَوْ اسْتَجَابَ اللَّهُ الدُّعَاءَ وَأَنْزَلَ الْغَيْثَ وَتَوَقَّعْنَا مِنْهُ الضَّرَرَ لِكَثْرَتِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَدَّعِي بِرَفْعِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي بِرَفْعِ ضَرَرِهِ، وَمِمَّا وَرَدَ فِي الدُّعَاءِ لِرَفْعِ ضَرَرِهِ مَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اللَّهُمَّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، اللَّهُمَّ عَلَى مَنَابِتِ الشَّجَرِ وَبُطُونِ الْأَوْدِيَةِ وَطَهُورِ الْآكَامِ وَالْآجَامِ وَالظِّرَابِ» ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: اللَّهُمَّ أَنْزِلْهُ حَوَالَيْنَا وَلَا تُنْزِلْهُ عَلَيْنَا، وَالْآكَامُ جَمْعُ أَكَمَةٍ وَهِيَ التَّلُّ وَهُوَ مَا اجْتَمَعَ مِنْ الْحِجَارَةِ وَالْآجَامُ مِثْلُهَا وَالْأَجَمَةُ مِنْ الْقَصَبِ، وَالظِّرَابُ بِكَسْرِ الظَّاءِ هِيَ الْبَوَادِي الْكِبَارُ وَالْجِبَالُ الصِّغَارُ، وَلَا يَقُولُ ارْفَعْهُ عَنَّا؛ لِأَنَّهُ رَحْمَةٌ فِي الْجُمْلَةِ وَنِعْمَةٌ لَا يُطْلَبُ رَفْعُهَا، وَلِذَلِكَ وَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي جَوَازِ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الطَّاعُونِ. قَالَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ: شَيْخُ شَيْخِ بَعْضِ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهُ وَأَفْتَى عُلَمَاءُ عَصْرِهِ بِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ لَا يُسْأَلُ رَفْعُهَا إلَّا الْبَكْرِيَّ، لَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ زَرُّوقٍ وَالْقَلْشَانِيَّ اسْتَعْمَلَا أَدْعِيَةً لِلْحِفْظِ مِنْهُ وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى الْحَوَازَةِ، دَعَوَاتُ سَيِّدِي، أَحْمَدَ زَرُّوقٍ: تَحَصَّنْت بِذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاعْتَصَمْت بِرَبِّ الْمَلَكُوتِ، وَتَوَكَّلْت عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، اصْرِفْ عَنَّا الْأَذَى إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا. وَدَعَوَاتُ الْقَلْشَانِيِّ: اللَّهُمَّ سَكِّنْ فِتْنَةً صَدَمَتْ قَهْرَمَانَ الْجَبَرُوتَ، بِأَلْطَافِك الْخَفِيَّةِ الْوَارِدَةِ النَّازِلَةِ مِنْ بَابِ الْمَلَكُوتِ، حَتَّى نَتَشَبَّثَ بِأَلْطَافِك وَنَعْتَصِمَ بِك عَنْ إنْزَالِ قُدْرَتِك، يَا ذَا الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ أَيْضًا مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ» مَعَ أَنَّ لِقَاءَهُ يَسْتَلْزِمَ الشَّهَادَةُ. قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: تَمَّ ثُلُثُ الرِّسَالَةِ، وَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ الْإِقْدَارَ عَلَى تَمَامِ شَرْحِ الْبَقِيَّةِ مَعَ الْإِخْلَاصِ وَحُسْنِ النِّيَّةِ بِحَقِّ سَيِّدِنَا وَمَوْلَانَا مُحَمَّدٍ خَيْرِ الْبَرِّيَّةِ. [بَاب مَا يَفْعَل بِالْمُحْتَضَرِ وَفِي غَسَلَ الْمَيِّت] وَلَمَّا كَانَ سَبَبُ الِاسْتِسْقَاءِ رُبَّمَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْمَوْتُ نَاسَبَ ذِكْرَ بَابِ الْجَنَائِزِ عَقَّبَهُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 بَابُ مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْتَضَرِ وَفِي غُسْلِ الْمَيِّتِ وَكَفْنِهِ وَتَحْنِيطِهِ وَحَمْلِهِ وَدَفْنِهِ وَيُسْتَحَبُّ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْمُحْتَضَرِ وَإِغْمَاضُهُ إذَا قَضَى وَيُلَقَّنُ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِنْ قُدِرَ عَلَى أَنْ   [الفواكه الدواني] (بَابُ) بَيَانِ (مَا يُفْعَلُ بِالْمُحْتَضَرِ) بِفَتْحِ الضَّادِ أَيْ الَّذِي حَضَرَ أَجَلُهُ. (وَفِي) بَيَانِ حُكْمِ (غُسْلِ الْمَيِّتِ) وَلَمْ يُضْمَرْ بِأَنْ يَقُولَ وَفِي غُسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُغَسَّلُ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَفِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا يُسَمَّى مُحْتَضَرًا إلَّا عَلَى طَرِيقِ الْمَجَازِ نَحْوَ: {وَآتُوا الْيَتَامَى} [النساء: 2] أَيْ الَّذِينَ كَانُوا يَتَامَى. (وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (كَفْنِهِ) بِسُكُونِ الْفَاءِ أَيْ إدْرَاجِهِ فِي الْكَفَنِ بِفَتْحِ الْفَاءِ. (وَ) فِي بَيَانِ (تَحْنِيطِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْكَفَنِ وَالْمَيِّتِ. (وَ) فِي بَيَانِ (حَمْلِهِ) إلَى الْمُصَلَّى أَوْ إلَى الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ بِذَلِكَ يُعْلَمُ مِنْ وُجُوبِ دَفْنِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَدَفْنِهِ) أَيْ وَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ وَسَتْرِهِ. وَبَدَأَ بِمَا صَدَّرَ بِهِ فَقَالَ: (وَيُسْتَحَبُّ) لِمَنْ ظَهَرَتْ لَهُ عَلَامَاتُ قُرْبِ الْمَوْتِ (اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِالْمُحْتَضَرِ) أَيْ تَقْبِيلُهُ فَالسِّينُ زَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ الْقِبْلَةَ أَفْضَلُ الْجِهَاتِ وَفِيهِ التَّفَاؤُلُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِهَا، وَلِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ لِابْنِهِ: إذَا حَضَرَتْنِي الْوَفَاةُ فَاصْرِفْنِي إلَى الْقِبْلَةِ، وَمِثْلُهُ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالْمُسْتَحَبُّ فِي صِفَةِ الِاسْتِقْبَالِ أَنْ يُجْعَل عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ وَصَدْرُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُوضَعَ فِي قَبْرِهِ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ مُسْتَقْبِلًا، وَهَذَا بِخِلَافِ وَضْعِهِ لِلْغُسْلِ فَيُسْتَحَبُّ وَضْعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ لِيَبْدَأَ بِغُسْلِ الْجَنْبِ الْأَيْمَنِ، وَمُقَدِّمَاتُ الْمَوْتِ إحْدَادُ بَصَرِهِ وَشُخُوصُهُ إلَى السَّمَاءِ، فَقَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَتَقْبِيلُهُ عِنْدَ إحْدَادِهِ عَلَى أَيْمَنَ ثُمَّ ظَهْرٍ وَيُكْرَهُ أَنْ يَسْتَقْبِلَ بِهِ الْقِبْلَةَ قَبْلَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْمَوْتِ كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَوَامُّ فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمَرِيضَ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِمَنْ حَضَرَهُ (إغْمَاضُهُ) أَيْ إغْلَاقُ عَيْنَيْهِ (إذَا قَضَى) أَيْ مَاتَ بِالْفِعْلِ وَلِذَلِكَ عَبَّرَ بِإِذَا الْمُفِيدَةِ لِلتَّحْقِيقِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ شَدُّ لَحْيَيْهِ بِعِصَابَةٍ عَرِيضَةٍ وَيَرْبِطُهَا مِنْ فَوْقِ رَأْسِهِ لِيَنْطَبِقَ فَاهُ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ إغْمَاضُهُ؛ لِأَنَّ فَتْحَ عَيْنَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ يَقْبُحُ بِهِ مَنْظَرُهُ، كَمَا أَنَّ فَتْحَ فِيهِ كَذَلِكَ، وَمِنْ عَلَامَاتِ تَحَقُّقِ الْمَوْتِ انْقِطَاعُ نَفَسِهِ وَإِحْدَادُ بَصَرِهِ وَانْفِرَاجُ شَفَتَيْهِ وَسُقُوطُ قَدَمَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي مُسْلِمٍ عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: «دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَبِي سَلَمَةَ وَقَدْ شَقَّقَ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ بَصَرَهُ فَأَغْمَضَهُ وَقَالَ: الرُّوحُ إذَا قُبِضَ تَبِعَهُ الْبَصَرُ» وَيُقَالُ عِنْدَ ذَلِكَ: بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ يَسِّرْ عَلَيْهِ أَمْرَهُ وَسَهِّلْ عَلَيْهِ مَوْتَهُ وَأَسْعِدْهُ بِلِقَائِك وَاجْعَلْ مَا خَرَجَ إلَيْهِ خَيْرًا مِمَّا يَخْرُجُ مِنْهُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَوَلَّى إغْمَاضَهُ مَنْ هُوَ أَرْفَقُ بِهِ مِنْ أَوْلِيَائِهِ، وَمَنْ مَاتَ وَلَمْ يُغْمَضْ وَانْفَتَحَتْ عَيْنَاهُ وَشَفَتَاهُ يَجْذِبُ شَخْصٌ عَضُدَيْهِ وَآخَرُ إبْهَامَيْ رِجْلَيْهِ فَإِنَّهُمَا يَنْغَلِقَانِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ بِرِفْقٍ عَقِبَ مَوْتِهِ تَسْهِيلًا عَلَى الْغَاسِلِ، وَرَفْعُهُ عَنْ الْأَرْضِ بِأَنْ يُوضَعَ عَلَى سَرِيرٍ خَوْفَ الْهَوَامِّ، وَيُسْتَحَبُّ سَتْرُهُ بِثَوْبٍ زَائِدٍ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْمَوْتِ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَظْهَرُ مِنْهُ مَا لَا يَجِبُ أَنْ يَطَّلِعَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِسْرَاعُ بِتَجْهِيزِهِ إلَّا الْغَرِيقَ، وَأَمَّا تَأْخِيرُ تَجْهِيزِ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلِلْأَمْنِ مِنْ تَغَيُّرِهِ وَلِلِاهْتِمَامِ بِعَقْدِ الْخِلَافَةِ، وَلِذَلِكَ دُفِنَتْ فَاطِمَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - لَيْلًا، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَغَيْرُهُمَا مِمَّنْ مَاتَ لَيْلًا، حَتَّى اُسْتُثْنِيَ تَجْهِيزُ الْمَيِّتِ مِنْ ذَمِّ الْعَجَلَةِ وَأَنَّهَا مِنْ الشَّيْطَانِ، وَمِثْلُهُ التَّوْبَةُ وَالصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَإِنْكَاحُ الْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إذَا حَلَّ، وَتَعْجِيلُ الْأَوْبَةِ مِنْ السَّفَرِ، وَإِخْرَاجُ الزَّكَاةِ عِنْدَ حُلُولِهَا، فَكُلُّ ذَلِكَ الْمَطْلُوبُ فِيهِ الْعَجَلَةُ، وَأَمَّا الْغَرِيقُ وَمَنْ بِهِ مَرَضُ السَّكْتَةِ وَمَنْ يَمُوتُ فَجْأَةً أَوْ تَحْتَ هَدْمٍ فَلَا يُسْرَعُ بِتَجْهِيزِهِمْ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُلَقَّنَ) الْمُحْتَضَرُ بِأَنْ يَقُولَ الْجَالِسُ عِنْدَهُ بِحَيْثُ يَسْمَعُ: (لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَلَوْ لَمْ يَقُلْ أَشْهَدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ جَمْعِ مُحَمَّدٍ رَسُولُ اللَّهِ مَعَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ إذْ الْعَبْدُ لَا يَكُونُ مُسْلِمًا إلَّا بِهِمَا وَمَحَلُّ ذَلِكَ (عِنْدَ) ظُهُورِ عَلَامَاتِ (الْمَوْتِ) لِيَتَذَكَّرَهُمَا بِقَلْبِهِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مُعْتَرِفٌ بِهِمَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَقِّنُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 يَكُونَ طَاهِرًا وَمَا عَلَيْهِ طَاهِرٌ فَهُوَ أَحْسَنُ وَيُسْتَحَبُّ أَنْ لَا يَقْرَبَهُ حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ وَأَرْخَصَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ رَأْسِهِ بِسُورَةِ يَس ~ وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ وَحَسُنَ التَّعَزِّي   [الفواكه الدواني] مَوْتَاكُمْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَإِنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لِيَكُونَ ذَلِكَ آخِرَ كَلَامِهِ، وَلِأَنَّ ذِكْرَ اللَّهِ يَطْرُدُ الشَّيْطَانَ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَهُ غَيْرُ وَارِثِهِ مِمَّنْ لَهُ بِهِ مَحَبَّةٌ وَإِلَّا فَأَرْأَفُهُمْ بِهِ، وَلَا يُلِحُّ عَلَيْهِ وَلَا يَقُولُ لَهُ قُلْ لِئَلَّا يُوَافِقَ ذَلِكَ قَوْلَهُ لَا لِرَدِّ فِتْنَةِ الْفَتَّانِينَ أَوْ إبْلِيسَ؛ لِأَنَّهُمْ يَحْضُرُونَ لِلْمُحْتَضَرِ عَلَى صِفَةِ مَنْ تَقَدَّمَ مَوْتًا مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إلَيْهِ مِنْ أَقَارِبِهِ فَيَقُولُونَ لَهُ: مُتْ عَلَى دِينِ كَذَا فَإِنَّهُ خَيْرُ الْأَدْيَانِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى هَذَا «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ احْتِضَارِهِ: قُلْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجُّ لَك بِهَا عِنْدَ اللَّهِ» ؛ لِأَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمْ يَكُنْ سَبَقَ مِنْهُ التَّلَفُّظُ بِهَا، وَإِذَا قَالَهَا الْمُحْتَضَرُ لَا تُعَادُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ أَجْنَبِيٍّ فَتُعَادُ عَلَيْهِ لِتَكُونَ آخِرَ كَلَامِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ، وَلَا يَضْجَرُ الْمُلَقِّنُ مِنْ عَدَمِ قَبُولِ الْمُحْتَضَرِ لِمَا يُلَقِّنُهُ؛ لِأَنَّهُ يُشَاهِدُ مِنْ عَظَائِمِ الْمَوْتِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَا لَا نَطَّلِعُ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَسَ لِسَانُهُ أَوْ ذَهَبَ عَقْلُهُ فَلَمْ يَنْطِقْ بِالشَّهَادَتَيْنِ حَتَّى مَاتَ وَلَمْ يَخْطُرْ الْإِيمَانُ بِقَلْبِهِ مَاتَ مُؤْمِنًا وَلَا يَضُرُّهُ ذَلِكَ، كَمَا أَنَّ الْكَافِرَ إذَا مَاتَ كَذَلِكَ يُحْكَمُ لَهُ بِالْكُفْرِ؛ لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ مَا كَانَ عَلَيْهِ الشَّخْصُ قَبْلَ مَوْتِهِ، حَيْثُ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ فِي حَالِ كَمَالِ عَقْلِهِ مَا يُنَافِي ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ الْمَيِّتَ الْمُؤْمِنَ إيمَانُهُ بَاقٍ حُكْمًا بَعْدَ مَوْتِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَلْقِينُ الْمُحْتَضَرِ وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا مُمَيِّزًا، خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ حَيْثُ قَالَ: لَا يُلَقَّنُ إلَّا الْبَالِغُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُلَقَّنُ بَعْدَ دَفْنِهِ. قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَلَيْسَ الْعَمَلُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ، وَجَزَمَ النَّوَوِيُّ بِنَدْبِهِ، وَقَالَ ابْنُ الطَّلَّاعِ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ: هُوَ الَّذِي نَخْتَارُهُ وَنَعْمَلُ بِهِ، وَقَدْ رَوَيْنَا فِيهِ حَدِيثًا لَيْسَ بِالْقَوِيِّ لَكِنْ اُعْتُضِدَ بِالْقَوَاعِدِ وَبِعَمَلِ أَهْلِ الشَّامِ، وَمِمَّنْ وَافَقَ عَلَى نَدْبِهِ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ وَالْقُرْطُبِيُّ وَالثَّعَالِبِيُّ وَغَيْرُ وَاحِدٍ، حَتَّى قَالَ الْأَبِيُّ: وَلَا يَبْعُدُ حَمْلُ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ» عَلَى التَّلْقِينِ بَعْدَ الدَّفْنِ وَلَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ الْبُعْدِ صَرِيحُ لَفْظِ الْحَدِيثِ حَيْثُ قَالَ: مَوْتَاكُمْ وَالْأَصْلُ عَدَمُ التَّأْوِيلِ، وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ التَّعْلِيلُ بِصَيْرُورَتِهَا آخِرَ كَلَامِهِ فَافْهَمْ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مُلَازَمَةِ الْمُحْتَضَرِ وَلَا عَلَى مَنْ يَطْلُبُ مِنْهُ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهَا تَجِبُ عَلَى أَقَارِبِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَلَى أَصْحَابِهِ مُلَازَمَتُهُ. فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَلَى جِيرَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَعَلَى عُمُومِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ، فَقَدْ تَرَكَ ابْنُ عُمَرَ حُضُورَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ حِينَ دُعِيَ لِحُضُورِ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، وَمَحَلُّ طَلَبِ الْحُضُورِ عِنْدَ الْمَرِيضِ عِنْدَ اشْتِدَادِ مَرَضِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَكْرَهُ ذَلِكَ لِكَوْنِهِ صَارَ عَلَى حَالَةٍ لَا يُحِبُّ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ عَلَيْهَا فَيَسْقُطُ طَلَبُ حُضُورِهِ بِمَنْعِهِ. وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْمُحْتَضَرِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ قُدِرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (عَلَى أَنْ يَكُونَ) جِسْمُ الْمُحْتَضَرِ (طَاهِرًا وَمَا عَلَيْهِ طَاهِرٌ فَهُوَ أَحْسَنُ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ كَمَا يُسْتَحَبُّ وَضْعُ الرَّوَائِحِ الطَّيِّبَةِ عِنْدَهُ (وَيُسْتَحَبُّ) أَيْضًا (أَنْ لَا يَقْرَبَهُ) أَيْ الْمُحْتَضَرَ (حَائِضٌ وَلَا جُنُبٌ) وَلَا صَبِيٌّ يَعْبَثُ، وَلَا يَكُفُّ إذَا نُهِيَ، وَلَا كَلْبٌ غَيْرُ مَأْذُونٍ فِي اتِّخَاذِهِ وَقِيلَ مُطْلَقًا، وَلَا تِمْثَالٌ وَلَا آلَةُ لَهْوٍ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا تَكْرَهُهُ الْمَلَائِكَةُ، وَالْمُرَادُ بِتَجَنُّبِ مَا ذُكِرَ أَنْ لَا يَكُونَ مَعَ الْمُحْتَضَرِ فِي مَحَلٍّ وَاحِدٍ. (وَأَرْخَصَ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ اسْتَحَبَّ (بَعْضُ الْعُلَمَاءِ) وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ (فِي الْقِرَاءَةِ عِنْدَ رَأْسِهِ) أَوْ رِجْلَيْهِ وَالضَّمِيرُ لِلْمُحْتَضَرِ (بِسُورَةِ يَس) لِخَبَرِ: «إذَا قُرِئَتْ، عَلَيْهِ سُورَةُ يَس بَعَثَ اللَّهُ مَلَكًا لِمَلَكِ الْمَوْتِ أَنْ هَوِّنْ عَلَى عَبْدِي الْمَوْتَ» وَحَدِيثُ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَا مِنْ مَيِّتٍ تُقْرَأُ عِنْدَهُ سُورَةُ يَس إلَّا هَوَّنَ اللَّهُ عَلَيْهِ» . وَقَالَ أَيْضًا: «اقْرَءُوا عَلَى مَوْتَاكُمْ يَس» . وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: أَرَادَ بِهِ بَعْضَ مَنْ حَضَرَهُ الْمَوْتُ لَا أَنَّ الْمَيِّتَ يُقْرَأُ عَلَيْهِ. (وَلَمْ يَكُنْ ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورُ مِنْ الْقِرَاءَةِ عِنْدَ الْمُحْتَضَرِ (عِنْدَ مَالِكٍ أَمْرًا مَعْمُولًا بِهِ) بَلْ تُكْرَهُ عِنْدَهُ قِرَاءَةُ يَس ~ أَوْ غَيْرِهَا عِنْدَ مَوْتِهِ أَوْ بَعْدَهُ أَوْ عَلَى قَبْرِهِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ: وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ عِنْدَ مَالِكٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إذَا فُعِلَتْ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ، وَأَمَّا لَوْ فُعِلَتْ عَلَى وَجْهِ التَّبَرُّكِ بِهَا وَرَجَاءَ حُصُولِ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ لِلْمَيِّتِ فَلَا، وَأَقُولُ: هَذَا هُوَ الَّذِي يَقْصِدُهُ النَّاسُ بِالْقِرَاءَةِ فَلَا يَنْبَغِي كَرَاهَةُ ذَلِكَ فِي هَذَا الزَّمَانِ وَتَصِحُّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَاَلَّذِي يَظْهَرُ حُصُولُ بَرَكَةِ الْقُرْآنِ لِلْأَمْوَاتِ كَحُصُولِهَا بِمُجَاوَرَةِ الرَّجُلِ الصَّالِحِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا يَنْبَغِي إهْمَالُ أَمْرِ الْمَوْتَى مِنْ الْقِرَاءَةِ وَلَا مِنْ التَّهْلِيلِ الَّذِي يُفْعَلُ عِنْدَ الدَّفْنِ، وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَسِعَةِ رَحْمَتِهِ، وَذَكَرَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ أَنَّ مَنْ أَرَادَ حُصُولَ بَرَكَةِ قِرَاءَتِهِ وَثَوَابِهَا لِلْمَيِّتِ بِلَا خِلَافٍ فَلْيَجْعَلْ ذَلِكَ دُعَاءً فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا أَقْرَؤُهُ لِفُلَانٍ أَوْ مَا قَرَأْته، وَحِينَئِذٍ يَحْصُلُ لِلْمَيِّتِ ثَوَابُ الْقِرَاءَةِ وَلِلْقَارِئِ ثَوَابُ الدُّعَاءِ [الْبُكَاء عِنْدَ مَوْتِ الْمَيِّت] وَلَمَّا كَانَ الْمَوْتُ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الْبُكَاءُ وَالتَّفَجُّعُ بَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالْبُكَاءِ) بِالْمَدِّ وَهُوَ مَا كَانَ (بِالدُّمُوعِ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ الِاحْتِضَارِ، وَكَذَا بَعْدَ الْمَوْتِ حَيْثُ لَمْ يَصْحَبْهُ رَفْعُ صَوْتٍ وَلَا قَوْلٌ قَبِيحٌ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى الْجَائِزِ وَبُكَاءٌ عِنْدَ مَوْتِهِ وَبَعْدَهُ بِلَا رَفْعِ صَوْتٍ وَقَوْلٍ قَبِيحٍ شَرْعًا، فَقَدْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَالتَّصَبُّرُ أَجْمَلُ لِمَنْ اسْتَطَاعَ وَيُنْهَى عَنْ الصُّرَاخِ وَالنِّيَاحَةِ وَلَيْسَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ حَدٌّ وَلَكِنْ يُنْقَى وَيُغَسَّلُ وِتْرًا بِمَاءٍ   [الفواكه الدواني] بَكَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ وَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ الْقَلْبُ وَلَا نَقُولُ مَا يُسْخِطُ الرَّبَّ» فَالْمُرَادُ بِلَا بَأْسٍ الْجَوَازُ الْمَرْجُوحُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَ) لَكِنْ (حُسْنُ التَّعَزِّي وَ) هُوَ (التَّصَبُّرُ) وَالتَّجَلُّدُ وَالرِّضَى بِمَا حَكَمَ الْجَبَّارُ (أَجْمَلُ) أَيْ أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ مِنْ الْبُكَاءِ بِالدُّمُوعِ (لِمَنْ اسْتَطَاعَ) قَالَ تَعَالَى: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 155] {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَالَ ذَلِكَ وَقَالَ مَعَهُ: اللَّهُمَّ أْجُرْنِي عَلَى مُصِيبَتِي وَأَعْقِبْنِي خَيْرًا مِنْهَا فَعَلَ اللَّهُ بِهِ ذَلِكَ قَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ: قُلْت ذَلِكَ حِينَ مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ، وَقُلْت: مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ، فَأَعْقَبَنِي اللَّهُ رَسُولَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَزَوَّجْته» ، وَالصَّبْرُ إنَّمَا يَكُونُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، فَإِنْ قِيلَ: إذَا كَانَ التَّصَبُّرُ أَحْسَنَ مِنْ الْبُكَاءِ فَلِمَ أَهْمَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَبَكَى عَلَى وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأُمَّةِ، وَأَمَّا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَيُؤْمَرُ بِفِعْلِ خِلَافِ الْأَفْضَلِ فِي حَقِّنَا لِلتَّشْرِيعِ وَيُثَابُ عَلَيْهِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْبُكَاءَ الْمَحْدُودَ وَهُوَ مُجَرَّدُ إرْسَالِ الدُّمُوعِ جَائِزٌ صَرَّحَ بِمُحْتَرَزِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُنْهَى) قَرِيبُ الْمُحْتَضَرِ وَكُلُّ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهِ (عَنْ الصُّرَاخِ وَالنِّيَاحَةِ) وَسَائِرِ الْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ، فَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ حَيْثُ اسْتَلْزَمَ أَمْرًا مُحَرَّمًا لِخَبَرِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الْخُدُودَ وَلَا مَنْ شَقَّ الْجُيُوبَ» وَرُوِيَ: «أَنَا بَرِيءٌ مِمَّنْ حَلَقَ وَصَلَقَ وَخَرَقَ» وَالصَّلْقُ الصِّيَاحُ فِي الْبُكَاءِ وَقُبْحُ الْقَوْلِ. وَرُوِيَ «أَنَّ النَّائِحَةَ إذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ» . وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ الْمَيِّتَ لَيُعَذَّبُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَلَيْهِ» وَحَمَلَهُ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَا إذَا أَوْصَاهُمْ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْبُكَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: جَائِزٌ مُطْلَقًا وَهُوَ مَا كَانَ بِمُجَرَّدِ إرْسَالِ الدُّمُوعِ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ، وَحَرَامٌ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا كَانَ بِالصَّوْتِ وَالْأَقْوَالِ الْقَبِيحَةِ، وَجَائِزٌ عِنْدَ الْمَوْتِ لَا بَعْدَهُ وَهُوَ مَا كَانَ بِالصَّوْتِ مِنْ غَيْرِ قَوْلٍ قَبِيحٍ مَعَهُ. 1 - (خَاتِمَةٌ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَا يُنْدَبُ فِعْلُهُ مَعَ أَهْلِ الْمَيِّتِ مِنْهَا: تَعْزِيَتُهُمْ وَحَمْلُهُمْ عَلَى الصَّبْرِ وَعَلَى الرِّضَى بِمُصِيبَتِهِمْ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبِرِّ وَإِظْهَارِ الْمَحَبَّةِ لِأَهْلِ الْمَيِّتِ حَتَّى قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: إنَّ التَّعْزِيَةَ سُنَّةٌ وَقَدْ جَاءَ فِيهَا ثَوَابٌ كَثِيرٌ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ اللَّهَ يُلْبِسُ الَّذِي عَزَّى مُصَابًا لِبَاسَ التَّقْوَى» وَجَاءَ: «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ أَجْرٌ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَصِفَتُهَا أَنْ يَقُولَ الْمُعَزِّي لِلْمُصَابِ: أَعْظَمَ اللَّهُ أَجْرَك، وَأَحْسَنَ اللَّهُ عَزَاءَك، وَغَفَرَ لِمَيِّتِك، وَعَزَّى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - امْرَأَةً فِي أَبِيهَا فَقَالَ: «إنَّ لِلَّهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَبْقَى، وَلِكُلِّ أَجَلٍ مُسَمًّى وَكُلٌّ إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَاحْتَسِبِي وَاصْبِرِي فَإِنَّ الصَّبْرَ عِنْدَ أَوَّلِ صَدْمَةٍ» وَتَكُونُ التَّعْزِيَةُ قَبْلَ الدَّفْنِ وَبَعْدَهُ وَعِنْدَ الْقَبْرِ وَكَوْنُهَا فِي الْمَنْزِلِ وَبَعْدَ الدَّفْنِ أَحْسَنَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْمَيِّتِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَا بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا فِي الْمُعَزَّى بِفَتْحِ الزَّايِ بَيْنَ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا حَيْثُ كَانَ جَارًا فَيُعَزَّى الْكَافِرُ بِالْكَافِرِ لِحَقِّ الْجِوَارِ وَيُقَالُ لَهُ: أَلْهَمَك اللَّهُ الصَّبْرَ وَعَوَّضَك خَيْرًا مِنْهُ، إلَّا الشَّابَّةَ وَاَلَّذِي لَا يُمَيِّزُ فَلَا يُعْزَيَانِ، وَيُعَزَّى الشَّخْصُ فِي كُلِّ مَنْ يَتَأَثَّرُ بِفَقْدِهِ أُمًّا أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَتَنْتَهِي التَّعْزِيَةُ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَزِّي أَوْ الْمُعَزَّى غَائِبًا. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُصْنَعَ لَهُمْ طَعَامٌ أَوْ يُبْعَثَ إلَى مَحَلِّهِمْ لِاشْتِغَالِهِمْ بِمَيِّتِهِمْ، فَقَدْ رُوِيَ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَهْلِهِ حِينَ جَاءَ نَعْيُ جَعْفَرِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا وَابْعَثُوا بِهِ إلَيْهِمْ فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمَحَبَّةِ وَالِاعْتِنَاءِ، وَأَمَّا مَا يَصْنَعُهُ أَقَارِبُ الْمَيِّتِ مِنْ الطَّعَامِ وَجَمْعِ النَّاسِ عَلَيْهِ فَإِنْ كَانَ لِقِرَاءَةِ قُرْآنٍ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُرْجَى خَيْرُهُ لِلْمَيِّتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الَّذِي صَنَعَهُ مِنْ الْوَرَثَةِ بَالِغًا رَشِيدًا فَلَا حَرَجَ فِي الْأَكْلِ مِنْهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ أَوْصَى بِفِعْلِهِ عِنْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ فِي ثُلُثِهِ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهُ عَمَلًا بِفَرْضِهِ، وَأَمَّا عَقْرُ الْبَهَائِمِ وَذَبْحُهُمْ عَلَى الْقَبْرِ وَحَمْلُ الْخُبْزِ وَيُسَمُّونَهُ بِعَشَاءِ الْقَبْرِ فَإِنَّهُ مِنْ الْبِدَعِ الْمَكْرُوهَةِ وَمِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ» وَلِأَدَائِهِ إلَى الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ، وَالْمَطْلُوبُ فِي فِعْلِ الْقُرَبِ الْإِخْفَاءُ، وَالصَّوَابُ فِي فِعْلِ هَذَا التَّصَدُّقُ بِهِ فِي الْمَنْزِلِ حَيْثُ سَلِمَ مِنْ قَصْدِ الْمُبَاهَاةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْحَطَّابِ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمُحْتَضَرِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ) أَيْ الَّذِي يُطْلَبُ تَغْسِيلُهُ (حَدٌّ) وَاجِبٌ بِحَيْثُ يُمْنَعُ الزِّيَادَةُ وَالنَّقْصُ عَنْهُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَلَكِنْ) الْمَطْلُوبُ أَنْ (يُنَقَّى) مِنْ الْقَذَرِ وَيُعَمَّ جَسَدُهُ بِالْمَاءِ، وَنَفْيُ الْحَدِّ الْوَاجِبِ لَا يُنَافِي نَدْبَ التَّحْدِيدِ بِالْوِتْرِ كَمَا يَأْتِي، وَقَوْلُنَا: الَّذِي يُطْلَبُ تَغْسِيلُهُ احْتِرَازًا عَنْ شَهِيدِ الْمُعْتَرَكِ وَعَنْ الْكَافِرِ وَعَنْ السِّقْطِ وَعَنْ مَنْ فُقِدَ أَكْثَرُهُ فَإِنَّهُ لَا يُغَسَّلُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بَلْ يَحْرُمُ تَغْسِيلُ الْكَافِرِ وَشَهِيدِ الْحَرْبِ، وَيُكْرَهُ تَغْسِيلُ السِّقْطِ وَمَنْ غَابَ أَكْثَرُهُ، وَيَكْفِي فِي وُجُوبِ الْغُسْلِ الْإِسْلَامُ الْحُكْمِيُّ فَيَدْخُلُ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِإِسْلَامِ صَاحِبِهِ أَوْ أَبِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْغُسْلِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وَسِدْرٍ وَيُجْعَلُ فِي الْأَخِيرَةِ كَافُورٌ وَتُسْتَرُ عَوْرَتُهُ وَلَا تُقَلَّمُ أَظْفَارُهُ وَلَا يُحْلَقُ شَعْرُهُ وَيُعْصَرُ بَطْنُهُ عَصْرًا رَقِيقًا وَإِنْ وُضِّئَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ وَيُقْلَبُ لِجَنْبِهِ فِي الْغُسْلِ أَحْسَنُ وَإِنْ أُجْلِسَ فَذَلِكَ وَاسِعٌ وَلَا بَأْسَ بِغُسْلِ   [الفواكه الدواني] شُرُوطًا: اسْتِقْرَارُ الْحَيَاةِ وَعَدَمُ الشَّهَادَةِ فِي الْحَرْبِ وَوُجُودُ كُلِّ الْمَيِّتِ أَوْ جُلِّهِ وَإِسْلَامُهُ وَلَوْ حُكْمًا كَنِيَّةِ إسْلَامِ سَيِّدَيْ الْمَجُوسِيِّ أَيْ الْمَجُوسِيِّ غَيْرِ الْمُمَيِّزِ وَإِنْ كَانَ يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ إلَّا أَنَّهُ إنْ مَاتَ قَبْلَ الْجَبْرِ فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ حَتَّى يَحْصُلَ مِنْهُ الْإِسْلَامُ بِالْفِعْلِ، هَذَا مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ تَقْرِيرُ عبق عَلَى الْمُخْتَصَرِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَارٍ فِي سَيِّدِي، الْمَجُوسِيِّ وَأَبِيهِ مَعًا. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُغَسَّلَ وِتْرًا) ثَلَاثًا أَوْ خَمْسًا أَوْ سَبْعَ غَسَلَاتٍ (بِمَاءٍ) مُطْلَقٍ فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْإِنْقَاءُ بِالسَّابِعَةِ فَلَا إيتَارَ لِانْتِهَاءِ نَدْبِ الْإِيتَارِ بِالسَّبْعِ، وَإِنَّمَا يُطْلَبُ الْإِنْقَاءُ، وَتَقَدَّمَ الْجَوَابُ عَنْ اعْتِرَاضِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْفِي التَّحْدِيدَ ثُمَّ يَقُولُ: وَيُغَسَّلُ وِتْرًا بِأَنَّ الْمُرَادَ نَفْيُ التَّحْدِيدِ فِي الزِّيَادَةِ عَلَى تَعْمِيمِ الْجَسَدِ وَهُوَ الْوَاجِبُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْوِتْرَ لَا يَتَجَاوَزُ السَّبْعَ، أَوْ أَنَّ الْغُسْلَ الْوِتْرُ لَا يُحَدُّ بِثَلَاثٍ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ خَمْسًا أَوْ سَبْعًا، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ جُمَلٍ حُكْمُ الْغُسْلِ قَبْلَ الْوُجُوبِ وَقَبْلَ السُّنِّيَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى صِفَتِهِ بِقَوْلِهِ: وَغُسْلٌ كَالْجَنَابَةِ تَعَبُّدًا بِلَا نِيَّةٍ فَصِفَتُهُ كَصِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ الْإِجْزَاءُ كَالْإِجْزَاءِ وَالْكَمَالُ كَالْكَمَالِ إلَّا مَا يَخْتَصُّ بِهِ غُسْلُ الْمَيِّتِ مِنْ التَّكْرَارِ، وَلَا يُكَرِّرُ وُضُوءَهُ عَلَى الرَّاجِحِ، فَيَبْدَأُ بِغَسْلِ يَدَيْ الْمَيِّتِ أَوَّلًا ثُمَّ يُزِيلُ الْأَذَى إنْ كَانَ ثُمَّ يُوَضِّئُهُ مَرَّةً مَرَّةً، وَيُثَلِّثُ رَأْسَهُ، ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى الْأَيْسَرِ، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ وَإِنْ كَانَ تَعَبُّدًا؛ لِأَنَّهُ فِي الْغَيْرِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ. إلَى صِفَةِ وُضُوئِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ وُضِّئَ وُضُوءَ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ، وَبَيَّنَ خَلِيلٌ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِ غُسْلِهِ؛ لِأَنَّهُ صَدَّرَ بِهِ حَيْثُ قَالَ فِي وُجُوبِ غُسْلِ الْمَيِّتِ بِمُطَهِّرٍ وَلَوْ بِزَمْزَمَ وَعَلَى الْوُجُوبِ الْأَكْثَرُ، وَإِذَا تَعَذَّرَ الْمَاءُ يَجِبُ تَيَمُّمُهُ حَتَّى يُصَلَّى عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَلَازَمَا أَيْ الْغُسْلُ وَالصَّلَاةُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ التَّيَمُّمَ يَقُومُ مَقَامَ الْغُسْلِ عِنْدَ تَعَذُّرِ الْمَاءِ أَوْ اسْتِعْمَالِهِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ بَعْدَ غُسْلِ الْمَيِّتِ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ أَنْ يُغَسَّلَ مَرَّةً أُخْرَى بِمَاءٍ مَعَ (سِدْرٍ) وَهُوَ وَرَقُ النَّبْقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْغُسْلِ سِدْرٌ وَصِفَتُهُ أَنْ يُطْحَنَ وَيُذَابَ بِالْمَاءِ ثُمَّ يُعْرَكَ بِهِ بَدَنُ الْمَيِّتِ وَيُدَلَّكُ بِهِ، وَلَا يُقَالُ يَلْزَمُ عَلَى إذَابَتِهِ فِي الْمَاءِ إضَافَتُهُ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْغُسْلَ الْوَاجِبَ حَصَلَ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ وَهَذِهِ الْغَسْلَةُ لِلنَّظَافَةِ، وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يُوجَدْ السِّدْرُ فَالصَّابُونُ وَنَحْوُهُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الزِّيَادَةَ لِلنَّظَافَةِ فَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ مُطْلَقًا. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ (يَجْعَلَ فِي) الْغَسْلَةِ (الْأَخِيرَةِ كَافُورًا) فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَسْلَةَ الْأُولَى تَكُونُ بِالْمَاءِ الْقَرَاحِ لِلتَّطْهِيرِ الْوَاجِبِ أَوْ الْمَسْنُونِ، وَالثَّانِيَةَ بِالْمَاءِ وَالسِّدْرِ لِلتَّنْظِيفِ، وَالثَّالِثَةَ بِالْمَاءِ وَالْكَافُورِ لِلتَّطْيِيبِ لِأَمْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَشُدُّ جَسَدَ الْمَيِّتِ وَيَحْفَظُهُ عَنْ مُسَارَعَةِ الْفَسَادِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ كَوْنُهُ لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ، وَقِيلَ مُعَلَّلٌ بِالِاسْتِعْدَادِ لِسُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَأَيْضًا وَرَدَ أَنَّ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا تُوُفِّيَ أُتِيَ بِحَنُوطٍ وَكُفِّنَ مِنْ الْجَنَّةِ وَنَزَلَتْ الْمَلَائِكَةُ فَغَسَّلَتْهُ وَكَفَّنَتْهُ فِي وِتْرٍ مِنْ الثِّيَابِ وَحَنَّطُوهُ وَتَقَدَّمَ مَلَكٌ مِنْهُمْ فَصَلَّى عَلَيْهِ وَصَلَّتْ الْمَلَائِكَةُ خَلْفَهُ وَدَفَنُوهُ فِي لَحْدٍ وَنَصَبُوا عَلَيْهِ اللَّبِنَ وَابْنُهُ شِيثٌ حَاضِرٌ مَعَهُمْ، فَلَمَّا فَرَغُوا قَالُوا لَهُ: اصْنَعْ هَكَذَا بِوَالِدِك وَإِخْوَتِك فَإِنَّهَا سُنَّتُكُمْ. (وَ) يَجِبُ أَنْ (تُسْتَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (عَوْرَتُهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَسِتْرُ الْغَاسِلِ مِنْ سُرَّتِهِ لِرُكْبَتِهِ عَنْهُ وَعَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ عِنْدَ تَجْرِيدِهِ لِلتَّغْسِيلِ، وَمَحِلُّ الْوُجُوبِ إذَا كَانَ الْغَاسِلُ غَيْرَ سَيِّدٍ وَغَيْرَ زَوْجٍ وَإِلَّا نُدِبَ فَقَطْ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «لَا يُنْظَرُ لِفَخْذِ حَيٍّ وَلَا مَيِّتٍ» وَصِفَةُ سِتْرِهَا أَنْ تُلَفَّ خِرْقَةٌ وَيَضَعَهَا عَلَى قُبُلِهِ ثُمَّ يَجْعَلُ ثَوْبًا آخَرَ بِدُبُرِهِ، وَأَمَّا غُسْلُ الْمَرْأَةِ لِلْمَرْأَةِ فَإِنَّهَا تَسْتُرُ مِنْ سُرَّتِهَا إلَى رُكْبَتِهَا، وَلَا يَطَّلِعُ عَلَى الْمَغْسُولِ غَيْرُ غَاسِلِهِ وَالْمُعِينِ لَهُ. (وَلَا تُقَلَّمُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (أَظْفَارُهُ وَلَا يُحْلَقُ لَهُ شَعْرٌ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُكْرَهُ لِلْغَاسِلِ قَلْمُ أَظَافِرِ الْمَيِّتِ وَكَذَلِكَ حَلْقُ شَعْرِ رَأْسِهِ، وَكَذَا يُكْرَهُ لِلْمَرِيضِ فِعْلُ ذَلِكَ إذَا قُصِدَ بِهِ الْمَوْتُ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ، لَا إنْ قَصَدَ بِهِ الْإِرَاحَةَ بِإِزَالَةِ نَحْوِ الظُّفُرِ وَالشَّعْرِ كَرَاهَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ حَلْقُ شَعْرِهِ وَقَلْمُ ظُفُرِهِ وَهُوَ بِدْعَةٌ وَضَمَّ مَعَهُ إنْ فَعَلَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَجْزَاءَ لَا تَجِبُ مُوَارَاتُهَا، وَكَذَا يُكْرَهُ أَنْ تُنَقَّى قُرُوحُهُ وَإِنَّمَا يُزَالُ مَا سَالَ مِنْهَا بِخِرْقَةٍ أَوْ نَحْوِهَا وَلَوْ كَانَ السَّائِلُ دُونَ دِرْهَمٍ قَصْدًا لِلنَّظَافَةِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْغَاسِلِ أَنْ (يَعْصِرَ بَطْنَهُ) أَيْ الْمَيِّتِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي بَيَانِ غُسْلِهِ (عَصْرًا رَفِيقًا) مَخَافَةَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ شَيْءٌ حَالَ الْغُسْلِ أَوْ بَعْدَهُ مِمَّا لَيْسَ بِصَدَدِ الْخُرُوجِ وَفِيهِ أَذِيَّةٌ لِلْمَيِّتِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْغُسْلِ الْمَطْلُوبَةِ لِلْمَيِّتِ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ وُضِّئَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرٌ عَائِدٌ عَلَى الْمَيِّتِ (وُضُوءَ الصَّلَاةِ فَحَسَنٌ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ) غَيْرُ ضَرُورِيٍّ الذِّكْرُ مَعَ قَوْلِهِ فَحَسَنٌ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْغَاسِلِ تَوْضِئَةُ الْمَيِّتِ بَعْدَ إزَالَةِ الْأَذَى مِثْلَ مَا يُنْدَبُ لِلْجُنُبِ عِنْدَ إرَادَةِ غُسْلِهِ لِلْجَنَابَةِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَنُدِبَ نَدْبًا بِإِزَالَةِ الْأَذَى، ثُمَّ أَعْضَاءَ وُضُوئِهِ كَامِلَةً مَرَّةً، فَيَبْدَأُ بِغَسْلِ يَدَيْ الْمَيِّتِ ثُمَّ يُزِيلُ الْأَذَى ثُمَّ يُوَضِّئُهُ وَيَتَفَقَّدُ أَسْنَانَهُ وَأَنْفَهُ بِخِرْقَةٍ مَبْلُولَةٍ لِإِزَالَةِ مَا يُكْرَهُ رِيحُهُ وَيُمَيِّلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ فِي السَّفَرِ لَا نِسَاءَ مَعَهَا وَلَا مَحْرَمَ مِنْ الرِّجَالِ فَلْيُيَمِّمْ رَجُلٌ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا يَمَّمَ النِّسَاءُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ يُغَسِّلُهُ وَلَا امْرَأَةٌ مِنْ مَحَارِمِهِ فَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةٌ مِنْ مَحَارِمِهِ غَسَّلَتْهُ وَسَتَرَتْ عَوْرَتَهُ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتَةِ ذُو مَحْرَمٍ غَسَّلَهَا مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ   [الفواكه الدواني] رَأْسَهُ عِنْدَ الْمَضْمَضَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: تَوْضِئَةُ وَتَعَهُّدُ أَسْنَانِهِ وَأَنْفِهِ بِخِرْقَةٍ وَإِمَالَةُ رَأْسِهِ لِمَضْمَضَةٍ. (وَ) أَنْ (يُقْلَبَ) الْمَيِّتُ (لِجَنْبِهِ فِي الْغُسْلِ أَحْسَنُ) أَيْ يُضْجَعُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ حَالَ التَّغْسِيلِ لِيَبْدَأَ بِغُسْلِ الْمَيَامِنِ قَبْلَ الْمَيَاسِرِ، وَلَا يَقْلِبُهُ عَلَى ظَهْرِهِ وَلَا بَطْنِهِ؛ لِأَنَّ فِي ذَلِكَ تَشْوِيهًا لَهُ، وَأَشَارَ إلَى مُقَابِلِ الْأَحْسَنِ، بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أُجْلِسَ) أَيْ الْمَيِّتُ حَالَ غُسْلِهِ (فَذَلِكَ وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ، فَقَوْلُهُ أَحْسَنُ أَيْ مِنْ إجْلَاسِهِ أَوْ قَلْبِهِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَأَمَّا مَا يَفْعَلُهُ الْغَاسِلُ مِنْ وُقُوفِهِ عَلَى الدِّكَّةِ وَيَجْعَلُ الْمَيِّتَ بَيْنَ رِجْلَيْهِ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ، بَلْ الْمَطْلُوبُ وُقُوفُهُ بِالْأَرْضِ وَيُضْجَعُ الْمَيِّتُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يُقَلِّبُهُ عَلَى الْأَيْمَنِ كَمَا قَدَّمْنَا. (تَتِمَّةٌ) بَقِيَ مِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الْغُسْلِ تَجْرِيدُ الْمَيِّتِ مِنْ ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا إلَّا سَاتِرَ عَوْرَتِهِ وَوَضْعُهُ عَلَى مُرْتَفَعٍ؛ لِأَنَّهُ أَمْكَنُ لِلْغَاسِلِ، وَلَيْسَ مِنْ سُنَنِهِ اسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ بِهِ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ وَضْعُ مَا لَهُ رَائِحَةٌ طَيِّبَةٌ عِنْدَهُ حَالَ التَّغْسِيلِ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ اشْتِغَالُ الْغَاسِلِ حَالَ التَّغْسِيلِ بِالتَّفَكُّرِ وَالِاعْتِبَارِ، وَإِذَا حَصَلَ مِنْ الْمَيِّتِ بَعْدَ تَغْسِيلِهِ مَا لَوْ حَصَلَ مِنْ الْحَيِّ لَأَبْطَلَ غُسْلَهُ لَمْ يُبْطِلْهُ وَإِنَّمَا يُنَظَّفُ دُونَ إعَادَةِ غُسْلِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْ يُعِدْ كَالْوُضُوءِ لِنَجَاسَةٍ وَغُسِلَتْ النَّجَاسَةُ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْهُ فِي الصُّورَتَيْنِ. [تَغْسِيلِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْغُسْلِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالتَّغْسِيلِ مَعَ أَنَّهُ كَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَ الْكَلَامِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكَلَامِ عَلَى الْغُسْلِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِغُسْلِ) أَيْ تَغْسِيلِ (أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَيَّ مِنْ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ يُقَدَّمُ فِي تَغْسِيلِ صَاحِبِهِ بِالْقَضَاءِ عَلَى أَقَارِبِ الْمَيِّتِ وَعَلَى مَنْ أَوْصَاهُ الْمَيِّتُ أَيْضًا، وَيُنْدَبُ لَهُ الْقِيَامُ بِأَخْذِ حَقِّهِ، فَلَا بَأْسَ هُنَا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَيُّ مُحْرِمًا فَيُنْهَى عَنْ التَّغْسِيلِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ، فَإِنْ فَعَلَ أَهْدَى إنْ أَمَذَى، وَالْمُرَادُ بِالزَّوْجَيْنِ الصَّحِيحَيْ النِّكَاحِ وَلَوْ بِفَوَاتِ الْفَاسِدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ الزَّوْجَانِ إنْ صَحَّ النِّكَاحُ إلَّا أَنْ يَفُوتَ فَاسِدُهُ بِالْقَضَاءِ وَإِنْ رَقِيقًا أَذِنَ سَيِّدُهُ أَوْ قَبْلَ بِنَاءٍ أَوْ بِأَحَدِهِمَا عَيْبٌ أَوْ وَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَالْأَحَبُّ نَفْيُهُ إنْ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا أَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ لَا مُطَلَّقَةً وَلَوْ رَجْعِيًّا، بِخِلَافِ الْمُولَى مِنْهَا وَالْمُظَاهَرِ مِنْهَا فَلَهُمَا التَّغَسُّلُ بِالْقَضَاءِ لِقِيَامِ السَّبَبِ، وَالْكِتَابِيَّةُ تُغَسِّلُ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ بِحَضْرَةِ مُسْلِمٍ عَارِفٍ بِصِفَةِ الْغُسْلِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ غَسَّلَتْ زَوْجَهَا أَبَا بَكْرٍ وَهُوَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ غَسَّلَتْهُ زَوْجَتُهُ، وَأَوْصَتْ فَاطِمَةُ عَلِيًّا أَنْ يُغَسِّلَهَا، فَكَانَ يَصُبُّ الْمَاءَ عَلَى أَسْمَاءَ الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ تُغَسِّلُهَا، وَمَا هَذَا إلَّا لِثُبُوتِ حَقِّ الْحَيِّ فِي التَّغْسِيلِ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ وَتَعَدَّدَتْ زَوْجَاتُهُ وَطَلَبْنَ التَّغْسِيلَ لَا نَصَّ فِيمَنْ تَقَدَّمَ مِنْهُنَّ، وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ: الظَّاهِرُ الْقُرْعَةُ وَأَوَّلُ الظَّاهِرِ اشْتِرَاكُ الْجَمِيعِ فِي الْمُبَاشَرَةِ لِاسْتِوَاءِ الْجَمِيعِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْقُرْعَةُ إنَّمَا تَكُونُ عِنْدَ تَعَذُّرِ الِاشْتِرَاكِ فِي الْفِعْلِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَجْزِيَ مِثْلُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَحَلٍّ يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْمُسْتَحَقُّ الْمُسْتَوِي فِي الْمَرْتَبَةِ لِغَيْرِهِ وَحَرِّرْهُ. 1 - الثَّانِي: نَصَّ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَلَى تَقْدِيمِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي تَغْسِيلِ صَاحِبِهِ وَسَكَتَا عَمَّا لَوْ طَلَبَا الْحَيُّ إنْزَالَ صَاحِبِهِ الْقَبْرَ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُمَا فَقَالَ: إنْ كَانَ الْحَيُّ الزَّوْجَ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ فِي إنْزَالِ زَوْجَتِهِ قَبْرَهَا عَلَى أَوْلِيَائِهَا بِالْقَضَاءِ، وَأَمَّا الزَّوْجَةُ فَلَا تُقَدَّمُ فِي إنْزَالِ زَوْجِهَا بَلْ الْحَقُّ لِأَوْلِيَائِهِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَالزَّوْجُ أَحَقُّ بِإِدْخَالِ زَوْجَتِهِ قَبْرَهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَقْرَبُ مَحَارِمِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا فَقِيلَ النِّسَاءُ، وَقِيلَ أَهْلُ الْفَضْلِ. الثَّالِثُ: قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: وَفِي حُكْمِ الزَّوْجَيْنِ السَّيِّدُ مَعَ أَمَتِهِ وَأُمِّ وَلَدِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِبَاحَةُ الْوَطْءِ لِلْمَوْتِ بِرِقٍّ تُبِيحُ الْغُسْلَ مِنْ الْجَانِبَيْنِ: بِخِلَافِ الْمُكَاتَبَةِ وَالْمُبَعَّضَةِ وَالْمُعْتَقَةِ لِأَجَلٍ وَالْمُشْتَرَكَةِ فَلَا يَحِلُّ لِلْحَيِّ مِنْهَا تَغْسِيلُهُ لِحُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ، وَتَقْدِيمُ السَّيِّدِ عَلَى أَوْلِيَاءِ الْأَمَةِ بِالْقَضَاءِ، بِخِلَافِ الْأَمَةِ فَلَا يُقْضَى لَهَا بِالتَّقْدِيمِ عَلَى أَوْلِيَاءِ سَيِّدِهَا اتِّفَاقًا ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ مَنْ لَا زَوْجَ لَهُ وَلَا سَيِّدَ بِقَوْلِهِ: (وَالْمَرْأَةُ) الْمُسْلِمَةُ (تَمُوتُ فِي السَّفَرِ) أَوْ فِي الْحَضَرِ وَلَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ وَ (لَا نِسَاءَ مَعَهَا) لَا أَقَارِبَ وَلَا أَجَانِبَ (وَلَا ذُو مَحْرَمٍ) لَهَا (مِنْ الرِّجَالِ) لَا بِالنَّسَبِ وَلَا بِالرَّضَاعِ وَلَا بِالصِّهْرِ (فَلْيُيَمِّمْ رَجُلٌ) أَجْنَبِيٌّ (وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا) أَيْ كُوعَيْهَا وَيُدْخِلُهُمَا فِي الْمَسْحِ؛ لِأَنَّهُمَا كَالْكَفَّيْنِ لَيْسَا بِعَوْرَةٍ يُبَاحُ النَّظَرُ لَهُمَا لِغَيْرِ شَهْوَةٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ فَإِنَّهُ عَوْرَةٌ لَا يَحِلُّ لِلْأَجْنَبِيِّ النَّظَرُ إلَيْهِ، مِنْ الْأَجْنَبِيَّةِ فَضْلًا عَنْ لَمْسِهِ. (وَ) أَمَّا (لَوْ كَانَ الْمَيِّتُ رَجُلًا) فِي حَالِ سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ لَوَجَبَ أَنْ (يُيَمِّمَ النِّسَاءُ) الْأَجَانِبُ (وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ إلَى الْمِرْفَقَيْنِ) بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ رَجُلٌ يُغَسِّلُهُ) وَلَوْ أَجْنَبِيًّا (وَلَا امْرَأَةٌ مِنْ مَحَارِمِهِ فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ حَضَرَتْ (امْرَأَةٌ مِنْ مَحَارِمِهِ غَسَّلَتْهُ وَسَتَرَتْ عَوْرَتَهُ) مِنْ سُرَّتِهِ إلَى رُكْبَتِهِ؛ لِأَنَّهَا تَنْظُرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 يَسْتُرُ جَمِيعَ جَسَدِهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الْمَيِّتُ فِي وِتْرٍ ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَوْ خَمْسَةٍ أَوْ سَبْعَةٍ وَمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ أُزْرَةٍ وَقَمِيصٍ   [الفواكه الدواني] مِنْهُ مَا يَنْظُرُهُ الرَّجُلُ مِنْ مِثْلِهِ وَهُوَ مَا عَدَا مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَة، وَقِيلَ تَسْتُرُ جَمِيعَ جَسَدِهِ وَكَذَا لَوْ كَانَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ يُغَسِّلُهُ، قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: يُقَدَّمُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ ثُمَّ أَقْرَبُ أَوْلِيَائِهِ ثُمَّ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ امْرَأَةٌ مَحْرَمٌ، وَهَلْ يَسْتُرُهُ أَوْ عَوْرَتَهُ تَأْوِيلَانِ فَيُقَدَّمُ ابْنُ الْمَيِّتِ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ أَبُوهُ ثُمَّ أَخُوهُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ جَدُّهُ ثُمَّ عَمُّهُ ثُمَّ ابْنُهُ وَالشَّقِيقُ وَعَاصِبُ النَّسَبِ عَلَى غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي عِنْدَ مُشَاحَّةِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَرْتَبَةِ الِاجْتِمَاعُ مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ كَمَا قَدَّمْنَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ قَرِيبٌ فَالرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ الْمُسْلِمُ أَوْ الذِّمِّيُّ لَكِنْ بِحَضْرَةِ مُسْلِمٍ عَارِفٍ بِصِفَةِ الْغُسْلِ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِالتَّغْسِيلِ أَوْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ الرِّجَالِ فَالْمَرْأَةُ الْمَحْرَمُ وَلَوْ بِالصِّهَارَةِ كَأُمِّ زَوْجَتِهِ أَوْ زَوْجَةِ ابْنِهِ، وَيُقَدَّمُ مَحْرَمُ الرَّضَاعِ عَلَى مَحْرَمِ الصِّهَارَةِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ حَيْثُ جَازَ لَهَا أَنْ تُيُمِّمَ الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ إلَى مِرْفَقَيْهِ وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُيَمِّمَهَا إلَّا لِكُوعَيْهَا مَعَ شِدَّةِ مَيْلِ النِّسَاءِ إلَى الرِّجَالِ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ عَوْرَةَ الْأَجْنَبِيِّ مَعَ الْأَجْنَبِيَّةِ مَا عَدَا الْوَجْهَ وَالْأَطْرَافَ كَمَا قَدَّمْنَا فِي مَبْحَثِ الْعَوْرَةِ، وَأَيْضًا شِدَّةُ حَيَاءِ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ وَلَا سِيَّمَا إذَا مَاتَ الرَّجُلُ يُضْعِفُ الْأُنْثَى إلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) اعْلَمْ أَنَّ التَّرْتِيبَ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ بَيْنَ الْأَقَارِبِ كَمَا يَجْرِي فِي الْغُسْلِ يَجْرِي فِي الصَّلَاةِ وَالنِّكَاحِ، وَيُقْضَى بِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ بَيْنَ مَنْ يَتَقَدَّمُ وَمَنْ يَتَأَخَّرُ عَنْهُ لِمَا عَرَفْت بَيْنَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مِنْ الِاجْتِمَاعِ فِي الْمُبَاشَرَةِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَاعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا غَسَّلَتْ مَحْرَمَهَا لَا تُبَاشِرُ بِيَدِهَا مَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ وَهُوَ عَوْرَتُهُ فَقَطْ أَوْ جَمِيعُ الْجَسَدِ بَلْ تَجْعَلُ عَلَى يَدِهَا خِرْقَةً، بِخِلَافِ مَا لَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ وَهُوَ بَقِيَّةُ الْجَسَدِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي مُبَاشَرَتِهِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَالْمَرْأَةُ تَمُوتُ وَلَا نِسَاءَ مَعَهَا وَلَا مَحْرَمَ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتَةِ) الْمَذْكُورَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا نِسَاءَ مَعَهَا رَجُلٌ (ذُو مَحْرَمٍ) وَلَوْ بِالصِّهْرِ (غَسَّلَهَا مِنْ فَوْقِ ثَوْبٍ يَسْتُرُ جَمِيعَ جَسَدِهَا) بِأَنْ يَجْعَلَهُ الْغَاسِلُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَرْأَةِ مِنْ السَّقْفِ إلَى أَسْفَلَ بِحَيْثُ يَصِيرُ نَظَرُهُ إلَى الثَّوْبِ لَا إلَى جَسَدِهَا، وَيَصِلُ الْمَاءُ مِنْ خَلْفِ الثَّوْبِ وَيَجْعَلُ خِرْقَةً عَلَى يَدِهِ غَلِيظَةً، فَكَمَا لَا يَنْظُرُ إلَى جَسَدِهَا لَا يُبَاشِرُهُ بِيَدِهِ، وَإِيَّاكَ أَنْ تَفْهَمَ أَنَّ مَعْنَى سَتْرِ جَسَدِهَا جَعْلُ الثَّوْبِ عَلَى جَسَدِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَحْرَمِ مُبَاشَرَةُ جَمِيعِ جَسَدِ الْمَرْأَةِ الْمَحْرَمِ بَعْدَ تَعْلِيقِ الثَّوْبِ الْمَانِعِ مِنْ نَظَرِهِ إلَى جَسَدِهَا، وَبَعْدَ جَعْلِ خِرْقَةٍ غَلِيظَةٍ عَلَى يَدِهِ، وَأَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ إذَا غَسَّلَتْ مَحْرَمَهَا الذَّكَرَ مُبَاشَرَةُ جَمِيعِ جَسَدِهِ حَيْثُ لَفَّتْ عَلَى يَدِهَا خِرْقَةً كَثِيفَةً، وَأَمَّا مِنْ غَيْرِ خِرْقَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَهَا مُبَاشَرَةُ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُهُ وَهُوَ الْعَوْرَةُ فَقَطْ أَوْ جَمِيعُ الْجَسَدِ عَلَى أَحَدِ التَّأْوِيلَيْنِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ. وَأَمَّا لَوْ غَسَّلَتْ امْرَأَةٌ امْرَأَةً لَجَازَ لَهَا مُبَاشَرَةُ جَمِيعِ جَسَدِهَا وَلَوْ بِغَيْرِ حَائِلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إذَا مَاتَتْ امْرَأَةٌ مَعَ الرِّجَالِ لَيْسَ مَعَهُمْ امْرَأَةٌ غَيْرُهَا أَوْ الرَّجُلُ مَعَ النِّسَاءِ لَيْسَ مَعَهُنَّ رَجُلٌ غَيْرُهُ فَإِنَّهُمَا يُيَمَّمَانِ وَيُدْفَنَانِ» . وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُيَمِّمُ الرَّجُلَ الْأَجْنَبِيَّ لِلْمِرْفَقَيْنِ وَالرَّجُلُ إنَّمَا يُيَمِّمُهَا إلَى كُوعَيْهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كُلًّا إذَا يَمَّمَ غَيْرَهُ يَمَسُّ وَجْهَهُ، وَتَوَقَّفَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ حَيْثُ قَالَ: وَانْظُرْ كَيْفَ جَازَ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ الْأَجْنَبِيَّيْنِ لَمْسُ وَجْهِ الْآخَرِ بِيَدِهِ مَعَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ فِي حَالَةِ الْحَيَاةِ، فَإِنْ قُلْت: يُحْمَلُ عَلَى أَنْ يَجْعَلَ عَلَى يَدِهِ خِرْقَةً وَيَضَعَهَا عَلَى التُّرَابِ، قُلْت: لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا اقْتَصَرَ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْكُوعَيْنِ اهـ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وَضْعِ الْخِرْقَةِ وَلَا يَلْزَمُ مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَإِنَّمَا جَازَ مَا ذُكِرَ مَعَ الْخِرْقَةِ لِلضَّرُورَةِ وَلَا مُحْوِجَ إلَى مُجَاوَزَةِ كُوعَيْ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مَا عَدَاهُمَا سُنَّةٌ، وَلَا يُسْتَبَاحُ الْمُحَرَّمُ بِفِعْلِ سُنَّةٍ وَتَأَمَّلْهُ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ الْأُنْثَى الْمُحَقَّقَةِ وَعَلَى الذَّكَرِ الْمُحَقَّقِ وَسَكَتَ عَنْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ يَمُوتُ وَلَا مَحْرَمَ لَهُ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ إلَّا سَيِّدٌ ذَكَرٌ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَشْتَرِي لَهُ جَارِيَةً مِنْ مَالِهِ تُغَسِّلُهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ، ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَلَا تُورَثُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ لَا وُصُولَ إلَيْهِ فَإِنَّهُ يُيَمَّمُ وَيُدْفَنُ، وَيَنْبَغِي إذَا يَمَّمَهُ رَجُلٌ أَنْ يُيَمِّمَهُ إلَى كُوعَيْهِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ يَمَّمَتْهُ امْرَأَةٌ يَمَّمَتْهُ إلَى مِرْفَقَيْهِ بِالْأَوْلَى مِنْ الرَّجُلِ الْمُحَقَّقِ. 1 - الثَّانِي: لَوْ يَمَّمْنَ النِّسَاءُ الْمَيِّتَ الذَّكَرَ ثُمَّ جَاءَ رَجُلٌ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ غَسَّلَهُ وَصَلَّى عَلَيْهِ وَالنِّسَاءُ خَلْفَهُ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّلَاةِ لَمْ يَبْطُلْ تَيَمُّمُهُ، هَذَا مَا ارْتَضَاهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ . الثَّالِثُ: لَوْ يُمِّمَ الْمَيِّتُ لِعَدَمِ الْمَاءِ ثُمَّ وُجِدَ الْمَاءُ بَعْدَ التَّيَمُّمِ قَالَ الطِّخِّيخِيُّ: إنْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ غُسِّلَ قَوْلًا وَاحِدًا وَإِلَّا فَلَا اهـ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَإِلَّا فَلَا وَلَوْ كَانَ مَعَ النِّسْيَانِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِصَلَاةِ الْفَرْضِ الْعَيْنِيِّ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي مُبْطِلَاتِ التَّيَمُّمِ: وَبِوُجُودِ الْمَاءِ قَبْلَ الصَّلَاةِ لَا فِيهَا إلَّا نَاسِيه إلَّا أَنْ يَفْرُقَ بِانْحِطَاطِ رُتْبَةِ أَمْرِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ مَعَ طَلَبِ الْإِسْرَاعِ بِدَفْنِ الْأَمْوَاتِ وَحَرِّرْهُ. 1 - الرَّابِعُ: لَوْ تَعَذَّرَ التَّغْسِيلُ وَالتَّيَمُّمُ يُدْفَنُ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ عَلَى ظَاهِرِ قَوْلِ خَلِيلٍ وَتَلَازُمًا وَارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَقَالَ شَيْخُ شَيْخِنَا اللَّقَانِيُّ بِالصَّلَاةِ عَلَيْهِ، وَأَجَابَ عَنْ خَلِيلٍ بِأَنَّ مُرَادَهُ تَلَازُمًا أَيْ غَالِبًا، وَأَمَّا لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ تَغْسِيلٍ مَعَ تَيَسُّرِ الْغُسْلِ بَلْ لِسَهْوٍ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يُدْفَنَ فَفِيهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَعِمَامَةٍ فَذَلِكَ مَحْسُوبٌ فِي عَدَدِ الْأَثْوَابِ الْوِتْرِ «وَقَدْ كُفِّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ أُدْرِجَ فِيهَا إدْرَاجًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَلَا بَأْسَ أَنْ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ وَيُعَمَّمَ وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَنَّطَ وَيُجْعَلَ الْحُنُوطُ بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَفِي جَسَدِهِ وَمَوَاضِعِ السُّجُودِ مِنْهُ وَلَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ فِي الْمُعْتَرِكِ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُدْفَنُ بِثِيَابِهِ وَيُصَلَّى عَلَى   [الفواكه الدواني] قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا يُخْرَجُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يُخْشَ تَغَيُّرُهُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا فِي عبق، وَالثَّانِي يَفُوتُ تَغْسِيلُهُ بِتَمَامِ دَفْنِهِ كَمَا لَوْ دُفِنَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، إلَّا أَنَّ هَذَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ إلَّا أَنْ يُدْفَنَ بِغَيْرِهَا. [التَّكْفِينِ وَمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الْمَيِّتُ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْغُسْلِ وَعَلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِهِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّكْفِينِ وَمَا يُكَفَّنُ فِيهِ الْمَيِّتُ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يُكَفَّنَ الْمَيِّتُ) الَّذِي يَجِبُ تَغْسِيلُهُ الْمُتَقَدِّمِ بَيَانُهُ (فِي وِتْرٍ) مِنْ الثِّيَابِ وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهِ (ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ) وَهِيَ: الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ لِلرَّجُلِ وَالْخِمَارُ لِلْمَرْأَةِ وَالْأُزْرَةُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةٌ وَالْأَفْضَلُ فِي الْوَاحِدِ وَلِذَلِكَ قُلْنَا: وَأَقَلُّ مَرَاتِبِ الْوِتْرِ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الِاثْنَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الْوَاحِدِ وَإِنْ كَانَا شَفْعًا لِزِيَادَةِ السِّتْرِ، وَالثَّلَاثَةُ أَفْضَلُ مِنْ الْأَرْبَعَةِ لِمَا فِي الثَّلَاثَةِ مِنْ السِّتْرِ وَالْوِتْرِيَّةِ. (أَوْ خَمْسَةٌ) وَهِيَ الْقَمِيصُ وَالْعِمَامَةُ وَالْخِمَارُ وَالْأُزْرَةُ وَلِفَافَتَانِ يُدْرَجُ فِيهِمَا الْمَيِّتُ وَتُجْعَلُ الْعُلْيَا أَوْسَعَ مِنْ السُّفْلَى، وَالْخَمْسَةُ أَفْضَلُ مِنْ السِّتَّةِ وَلَا يُزَادُ الرَّجُلُ عَلَى خَمْسٍ فَقَوْلُهُ: (أَوْ سَبْعَةٌ) بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ فَيُزَادُ لَهَا عَلَى الْخَمْسِ السَّابِقَةِ لِفَافَتَانِ. (وَمَا جُعِلَ لَهُ مِنْ أُزْرِهِ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِهَا مَا يُتَّزَرُ بِهِ. (وَ) مِنْ (قَمِيصٍ وَعِمَامَةٍ) لِلرَّجُلِ (فَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الثَّلَاثَةِ (مَحْسُوبٌ فِي عَدَدِ الْأَثْوَابِ الْوِتْرِ) وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَمَا جُعِلَ لَهُ إلَخْ أَنَّ نَحْوَ الْخِرَقِ وَالْعَصَائِبِ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى الْوَجْهِ وَالْوَسَطِ وَغَيْرِهِمَا لَا يُحْسَبُ شَيْءٌ مِنْهَا مِنْ السَّبْعِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى اسْتِحْبَابِ إيتَارِ الْكَفَنِ بِقَوْلِهِ: «وَقَدْ كُفِّنَ» بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ «رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ أُدْرِجَ» أَيْ لُفَّ (فِيهَا إدْرَاجًا) مَصْدَرٌ مُؤَكَّدٌ لِعَامِلِهِ (- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَصِفَةُ الْإِدْرَاجِ أَنْ تُبْسَطَ الْوَافِيَةُ أَوَّلًا وَيُجْعَلَ عَلَيْهَا الْحَنُوطُ ثُمَّ تُجْعَلُ الَّتِي تَلِيهَا فِي الْقَصْرِ عَلَيْهَا وَيُجْعَلُ عَلَيْهَا الْحَنُوطُ ثُمَّ يُوضَعُ الْمَيِّتُ عَلَيْهَا بَعْدَمَا يُجَفَّفُ بِخِرْقَةٍ، فَإِذَا وُضِعَ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُقْلَبُ عَلَيْهِ الَّذِي مِنْ نَاحِيَةِ الْيُمْنَى، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُقْلَبُ أَوَّلًا الَّذِي مِنْ نَاحِيَةِ الْيَسَارِ وَيُخَاطُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْقُطَ عَنْهُ وَلَا يُحْتَاجُ إلَى ذَلِكَ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كُفِّنَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ يَمَانِيَّةٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ مِنْ كُرْسُفٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي قَوْلِهَا: لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ فَحَمَلَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ فِي الْكَفَنِ وَقَالَ: فَيُسَنُّ لِلرَّجُلِ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ خَاصَّةً لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلَا عِمَامَةٌ، وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَالِكٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْدُودٍ بَلْ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الثَّلَاثَةُ أَثْوَابٍ زِيَادَةً عَلَى الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ فَنَقَلَ عَنْهُمَا اسْتِحْبَابَ زِيَادَةِ الْقَمِيصِ وَالْعِمَامَةِ وَسَحُولِيَّةٍ بِفَتْحِ السِّينِ وَضَمِّهَا فَعَلَى الْفَتْحِ النِّسْبَةُ إلَى السَّحُولِ وَهُوَ الْقَصَّارُ الَّذِي يَسْحَلُهَا أَيْ يُقَصِّرُهَا وَيَغْسِلُهَا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ النِّسْبَةُ إلَى سَحُولَةَ الْقَرْيَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْيَمَنِ، وَعَلَى الضَّمِّ فَهُوَ جَمْعُ سُحُلٍ وَهُوَ الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ النَّقِيُّ وَلَا يَكُونُ إلَّا مِنْ قُطْنٍ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّ الْمُرَادَ الْمَضْمُومُ، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ عَلَيْهِ الثَّوْبُ الَّذِي غُسِّلَ فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ ظَاهِرِ الْحَدِيثِ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَثْوَابٍ أَفْضَلُ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يُنْدَبُ (أَنْ يُقَمَّصَ الْمَيِّتُ) أَيْ يَلْبَسَ قَمِيصًا (وَيُعَمَّمَ) أَيْ يُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ عِمَامَةٌ، كَمَا يُنْدَبُ تَخْمِيرُ رَأْسِ الْمَرْأَةِ كَمَا قَدَّمْنَا (وَيَنْبَغِي) أَيْ يُنْدَبُ (أَنْ يُحَنَّطَ) أَيْ يُطَيَّبَ الْمَيِّتُ بِمِسْكٍ أَوْ غَيْرِهِ وَإِنْ مُحْرِمًا وَمُعْتَدَّةً وَلَا يَتَوَلَّيَاهُ. (وَ) أَنْ (يُحْمَلَ الْحَنُوطُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ وَهُوَ مَا يَتَطَيَّبُ بِهِ (بَيْنَ أَكْفَانِهِ وَفِي) مَنَافِذِ (جَسَدِهِ) كَعَيْنَيْهِ وَأَنْفِهِ وَأُذُنَيْهِ بِأَنْ يُدِرُّ مِنْهُ عَلَى قُطْنٍ وَيُلْصَقُ عَلَى عَيْنَيْهِ وَفِي أُذُنَيْهِ وَعَلَى مَخْرَجِهِ مِنْ غَيْرِ إدْخَالٍ. (وَ) يُجْعَلُ (فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ مِنْهُ) كَالْجَبْهَةِ وَالْيَدَيْنِ وَالرُّكْبَتَيْنِ وَنَحْوِهَا، ثُمَّ يُلَفُّ الْكَفَنُ عَلَيْهِ بَعْدَ تَبْخِيرِهِ بِنَحْوِ الْعُودِ وَيُرْبَطُ الْكَفَنُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ وَرِجْلَيْهِ، وَقِيلَ يُخَاطُ وَيُحَلُّ عِنْدَ الدَّفْنِ. 1 - (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ التَّكْفِينِ وَلَا الْقَدْرَ الْوَاجِبَ وَإِنْ نَصَّ عَلَى نَدْبِ إيتَارِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ الْوَاجِبُ ثَوْبٌ يَسْتُرُهُ أَوْ سَتْرُ الْعَوْرَةِ وَالْبَاقِي سُنَّةٌ خِلَافٌ وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ وَهُوَ سَتْرُ جَمِيعِ الْجَسَدِ وَالْخِلَافُ فِي الذَّكَرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجِبُ سَتْرُ جَمِيعِ جَسَدِهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَأَمَّا التَّكْفِينُ وَهُوَ إدْرَاجُ الْمَيِّتِ فِي الْكَفَنِ فَوَاجِبٌ اتِّفَاقًا كَمُوَارَاتِهِ فِي التُّرَابِ. 1 - الثَّالِثَةُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هُنَا مَنْ يَلْزَمُهُ تَكْفِينُ الْمَيِّتِ وَمُؤَنُ تَجْهِيزِهِ، وَسَيَأْتِي فِي آخِرِ الْكِتَابِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ عَلَى الْمُنْفِقِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رِقٍّ لَا زَوْجِيَّةٍ وَالْفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ لَا مَالَ لَهُ، وَإِلَّا فَمِنْ مَالِهِ وَلَوْ صَغِيرًا. الثَّالِثَةُ: الْأَفْضَلُ فِي الْكَفَنِ الْبَيَاضُ لِمُوَافَقَةِ كَفَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَجُوزُ بِالْمَلْبُوسِ حَيْثُ كَانَ طَاهِرًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 قَاتِلِ نَفْسِهِ وَيُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي حَدٍّ أَوْ قَوَدٍ وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ الْإِمَامُ وَلَا يُتْبَعُ الْمَيِّتُ بِمِجْمَرٍ وَالْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ أَفْضَلُ وَيُجْعَلُ الْمَيِّتُ فِي قَبْرِهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَيُنْصَبُ عَلَيْهِ اللَّبِنُ وَيَقُولُ حِينَئِذٍ اللَّهُمَّ إنَّ صَاحِبَنَا قَدْ نَزَلَ   [الفواكه الدواني] سَاتِرًا لِقَوْلِ الصِّدِّيقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْحَيُّ أَوْلَى بِالْجَدِيدِ إنَّهُ لِلْمِهْنَةِ وَالصَّدِيدِ، وَيُكْرَهُ التَّكْفِينُ فِي الْحَرِيرِ وَلَوْ لِلرِّجَالِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ، كَمَا يُكْرَهُ التَّكْفِينُ بِالنَّجَسِ أَوْ الْمُتَنَجِّسِ أَوْ الْأَسْوَدِ أَوْ الْأَزْرَقِ، بِخِلَافِ الْمَصْبُوغِ بِمَا فِيهِ طِيبٌ كَالْمُزَعْفَرِ وَالْمُوَرَّسِ وَهَذَا فِي غَيْرِ الضَّرُورَةِ، وَأَمَّا عِنْدَهَا فَيَجُوزُ التَّكْفِينُ فِي كُلِّ سَاتِرٍ وَلَوْ نَجِسًا أَوْ حَشِيشًا. [غُسْلِ الشُّهَدَاءِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ] ثُمَّ أَشَارَ إلَى بَعْضِ شُرُوطِ التَّغْسِيلِ بِذِكْرِ ضِدِّهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُغَسَّلُ الشَّهِيدُ) بِقَتْلِهِ (فِي الْمُعْتَرَكِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ التَّغْسِيلِ أَنْ لَا يَكُونَ الْمَيِّتُ شَهِيدَ حَرْبٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُغَسَّلُ شَهِيدُ مُعْتَرَكٍ فَقَطْ وَلَوْ بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ وَإِنْ أَجْنَبَ عَلَى الْأَحْسَنِ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَغْسِيلُهُ سَوَاءٌ قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ لِلْغَنِيمَةِ، سَوَاءٌ غَزَا الْمُسْلِمُونَ الْعَدُوَّ أَوْ عَكْسُهُ، سَوَاءٌ قَاتَلَ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ بِأَنْ كَانَ غَافِلًا حَتَّى قَتَلَهُ الْعَدُوُّ، أَوْ قَتَلَهُ مُسْلِمٌ بِظَنِّهِ كَافِرًا، أَوْ دَاسَتْهُ الْخَيْلُ، أَوْ رَجَعَ بِسَيْفِهِ عَلَيْهِ، أَوْ سَقَطَ عَنْ دَابَّتِهِ، أَوْ حَمَلَ عَلَى الْعَدُوِّ فَتَرَدَّى فِي بِئْرٍ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. (وَ) كَمَا لَا يُغَسَّلُ (لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ) لِقَوْلِ خَلِيلٍ وَتَلَازُمًا؛ وَلِأَنَّ الصَّلَاةَ شَفَاعَةٌ لِأَصْحَابِ الذُّنُوبِ وَالشَّهِيدُ مُسْتَغْنٍ عَنْهَا لِرَفْعِ دَرَجَتِهِ وَكَثْرَةِ ثَوَابِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ طَلَبِ تَغْسِيلِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي قَتْلَى أُحُدٍ: «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ فَإِنِّي قَدْ شَهِدْت عَلَيْهِمْ وَقَدِّمُوا أَكْثَرَهُمْ قُرْآنًا» وَفِي رِوَايَةٍ: «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ مَنْ كَلْمٍ وَيُكْلَمُ فِي اللَّهِ إلَّا هُوَ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَرِيحُهُ رِيحُ الْمِسْكِ» . فَإِنْ قِيلَ: لِمَ غُسِّلَتْ الْأَنْبِيَاءُ وَصُلِّيَ عَلَيْهِمْ وَهُمْ أَكْمَلُ مِنْ الشُّهَدَاءِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ حُرْمَةَ غُسْلِ الشُّهَدَاءِ مَزِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَقْضِي الْأَفْضَلِيَّةَ، أَلَا تَرَى أَنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الْمُؤَذِّنَ أَدْبَرَ وَلَهُ ضُرَاطٌ، وَإِذَا شَرَعَ الشَّخْصُ فِي الصَّلَاةِ يُقْبِلُ عَلَيْهِ وَيُوَسْوِسُ لَهُ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ أَعْظَمُ مِنْ الْأَذَانِ، وَأَيْضًا الشَّهِيدُ إنَّمَا حُذِّرَ مِنْ تَغْسِيلِهِ اسْتِبْقَاءً لِلدَّمِ لِيَشْهَدَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى حُرْمَةِ تَغْسِيلِ الشُّهَدَاءِ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَهُ كَافِرٌ مَعَ أَنَّهُ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ قَاتِلَ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - غَيْرُ حَرْبِيٍّ بَلْ رَقِيقٌ نَصْرَانِيٌّ يَلْزَمُ قَاتِلَهُ قِيمَتُهُ. وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: فِي الْمُعْتَرَكِ عَنْ شَهِيدِ الْآخِرَةِ كَالْغَرِيقِ وَالْمَبْطُونِ وَالْغَرِيبِ وَنَحْوِهِمْ مِنْ شُهَدَاءِ الْآخِرَةِ فَإِنَّهُمْ يُغَسَّلُونَ وَيُصَلَّى عَلَيْهِمْ، وَسُمِّيَ الشَّهِيدُ شَهِيدًا؛ لِأَنَّ رُوحَهُ شَهِدَتْ دَارَ السَّلَامِ وَدَخَلَتْهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، بِخِلَافِ رُوحِ غَيْرِهِ لَا تَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلَّا بَعْدَ دُخُولِ صَاحِبِهَا وَهُوَ بَعْدَ الْقِيَامَةِ وَالصِّرَاطِ؛ وَلِأَنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يَشْهَدُونَ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ كُلًّا مِنْ شَهِيدِ الْحَرْبِ وَالْآخِرَةِ لَا يُسْأَلُ. (وَ) يَجِبُ أَنْ (يُدْفَنَ بِثِيَابِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَدُفِنَ بِثِيَابِهِ إنْ سَتَرَتْهُ وَإِلَّا زِيدَ بِخُفٍّ وَقَلَنْسُوَةٍ وَمِنْطَقَةٍ قَلَّ ثَمَنُهَا وَخَاتَمٍ قَلَّ فَصُّهُ لَا دِرْعٍ وَسِلَاحٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «زَمِّلُوهُمْ فِي ثِيَابِهِمْ بِكُلُومِهِمْ» . (وَ) يَجِبُ أَنْ (يُصَلَّى عَلَى قَاتِلِ نَفْسِهِ) ؛ لِأَنَّ عِصْيَانَهُ بِقَتْلِ نَفْسِهِ لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ مَا دَامَ مُسْلِمًا. (وَ) كَذَا يَجِبُ أَنْ (يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَتَلَهُ الْإِمَامُ فِي حَدٍّ) مُوجِبٍ لِلْقَتْلِ كَرَجْمٍ أَوْ حِرَابَةٍ أَوْ تَرْكِ صَلَاةٍ كَسَلًا. (أَوْ) قَتَلَهُ فِي (قَوَدٍ) لِقَتْلِهِ مُكَافِئًا لَهُ لِلْحُكْمِ بِإِسْلَامِ الْجَمِيعِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلُّوا عَلَى مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَيْ وَمُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ» . وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الصَّلَاةَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَعَاصِي غَيْرُ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُصَلِّي عَلَيْهِ) أَيْ مَنْ ذُكِرَ مِنْ قَاتِلِ نَفْسِهِ وَمَا بَعْدَهُ (الْإِمَامُ) وَلَا غَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَالْمُرَادُ يُكْرَهُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَصَلَاةُ فَاضِلٍ عَلَى بِدْعِيٍّ أَوْ مُظْهِرِ كَبِيرَةٍ، وَالْإِمَامِ عَلَى مَنْ حَدُّهُ الْقَتْلُ بِحَدٍّ أَوْ قَتْلٍ وَإِنْ تَوَلَّاهُ النَّاسُ دُونَهُ وَإِنْ مَاتَ قَبْلَهُ فَتَرَدَّدَ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُصَلَّى عَلَى الْمُبْتَدِعَةِ وَلَا تُعَادُ مَرْضَاهُمْ وَلَا تُشْهَدُ جَنَائِزُهُمْ أَدَبًا لَهُمْ، فَإِنْ خِيفَ ضَيْعَتُهُمْ غُسِّلُوا وَكُفِّنُوا وَصَلَّى عَلَيْهِمْ غَيْرُ أَهْلِ الْفَضْلِ، وَإِنَّمَا أُفْرِدَ الْإِمَامُ بِالذِّكْرِ مَعَ عَدَمِ قَصْرِ الْكَرَاهَةِ عَلَيْهِ لِلرَّدِّ عَلَى ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ فِي قَوْلِهِ بِجَوَازِ صَلَاةِ الْإِمَامِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالرَّجْمِ مُحْتَجًّا «بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى مَاعِزٍ وَالْغَامِدِيَّةِ» ، وَرَدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى مَنْ ذُكِرَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ قُتِلَ فِي تَعْزِيرٍ أَوْ فِي حَدٍّ غَيْرِ الْقَتْلِ لَا تُكْرَهُ صَلَاةُ الْإِمَامِ وَلَا مَنْ فِي حُكْمِهِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مُشْتَهِرًا بِالْمَعَاصِي، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مِنْ الْإِمَامِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ مَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى عَدَمِ صَلَاتِهِمْ تَرْكُ الصَّلَاةِ جُمْلَةً عَلَى مَنْ ذُكِرَ، وَإِلَّا وَجَبَتْ صَلَاتُهُ حَتَّى الْفَاضِلُ لِوُجُوبِ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ عَلَى كُلِّ مَحْكُومٍ لَهُ بِالْإِسْلَامِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ الْمَكْرُوهَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُتْبَعُ الْمَيِّتُ بِمِجْمَرٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ الْأُولَى وَفَتْحِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يُكْرَهُ اتِّبَاعُ الْمَيِّتِ بِالشَّيْءِ الَّذِي يُوضَعُ فِيهِ الْجَمْرُ الْمَعْرُوفُ عِنْدَنَا بِالْمِبْخَرَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ النَّصَارَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِتْبَاعُهُ بِنَارٍ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ: «لَا يُتْبَعُ الْمَيِّتُ بِصَوْتٍ وَلَا نَارٍ» قَالَ أَبُو الْحَسَنِ: فَإِنْ كَانَ فِيهِ طِيبٌ فَكَرَاهَةٌ ثَانِيَةٌ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ زَائِدَةٌ عَنْ التَّرْجَمَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُ: (وَالْمَشْيُ أَمَامَ الْجِنَازَةِ) فِي حَالِ الذَّهَابِ إلَى الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ (أَفْضَلُ) مِنْ الْمَشْيِ خَلْفَهَا لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَمْشِي أَمَامَ الْجِنَازَةِ» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 بِك وَخَلَّفَ الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ وَتَجْصِيصُهَا وَلَا يُغَسِّلُ الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ وَلَا   [الفواكه الدواني] وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ؛ وَلِأَنَّهُ شَافِعٌ وَحَقُّ الشَّافِعِ أَنْ يَتَقَدَّمَ، فَالْمَاشِي أَمَامَهَا مُحَصِّلٌ لِفَضِيلَتَيْنِ الْمَشْيِ وَالتَّقَدُّمِ، وَيُكْرَهُ الرُّكُوبُ إلَّا بَعْدَ الدَّفْنِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ الْمَاشِينَ، وَأَمَّا النِّسَاءُ وَالرَّاكِبُونَ فَالْمَنْدُوبُ فِي حَقِّهِمْ التَّأَخُّرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَشْيُ مُشَيِّعٍ وَإِسْرَاعُهُ وَتَقَدُّمُهُ وَتَأَخُّرُ، رَاكِبٍ وَامْرَأَةٍ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ الْإِسْرَاعُ بِالْجِنَازَةِ لِخَبَرِ: «أَسْرِعُوا بِجَنَائِزِكُمْ فَإِنَّمَا هُوَ خَيْرٌ تُقَدِّمُونَهُمْ إلَيْهِ وَشَرٌّ تَضَعُونَهُ عَنْ رِقَابِكُمْ» . وَنَدْبُ الْإِسْرَاعِ لَا يُنَافِي مَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ عَلَيْكُمْ بِالْقَصْدِ فِي الْمَشْيِ بِجَنَائِزِكُمْ» ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِسْرَاعِ مَا فَوْقَ الْمَشْيِ الْمُعْتَادِ دُونَ الْخَبَبِ وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالْقَصْدِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : الَّذِي يُطْلَبُ مِنْهُ الْخُرُوجُ لِتَشْيِيعِ الْجَنَائِزِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهَا هُمْ الرِّجَالُ وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ قَرِيبٍ وَأَجْنَبِيٍّ، وَأَمَّا النِّسَاءُ الْمَخْشِيَّاتُ الْفِتْنَةَ فَلَا يَحِلُّ خُرُوجُهُنَّ وَلَوْ لِجِنَازَةِ وَلَدٍ أَوْ زَوْجٍ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ غَيْرُ الْمَخْشِيَّةِ فَتَخْرُجُ لِجِنَازَةِ مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهَا فَقْدُهُ كَابْنِهَا وَزَوْجِهَا وَأَخِيهَا وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِ. [صِفَةِ وَضْعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ وَضْعِ الْمَيِّتِ فِي قَبْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُجْعَلَ الْمَيِّتُ) أَيْ يُضْجَعَ (فِي قَبْرِهِ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ) وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ؛ لِأَنَّهَا أَشْرَفُ الْجِهَاتِ، وَتُحَلُّ عُقَدُ كَفَنِهِ، وَتُمَدُّ يَدُهُ الْيُمْنَى عَلَى جَسَدِهِ، وَيُعْدَلُ رَأْسُهُ بِالتُّرَابِ وَرِجْلَاهُ بِرِفْقٍ، وَيُجْعَلُ التُّرَابُ خَلْفَهُ وَأَمَامَهُ لِئَلَّا يَنْقَلِبَ، فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَضْعُهُ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ فَعَلَى ظَهْرِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ بِوَجْهِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَضُجِعَ فِيهِ عَلَى أَيْمَنَ مُقْبِلًا وَتُدُورِكَ إنْ خُولِفَ بِالْحَضْرَةِ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي قَبْرِهِ بَلْ مَيِّتُ الْبَحْرِ إنْ لَمْ يُرْجَ الْبُرْءُ قَبْلَ تَغَيُّرِهِ يُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَيُرْمَى عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ وَوَجْهُهُ إلَى الْقِبْلَةِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُثَقَّلُ بِشَيْءٍ فِي رِجْلَيْهِ أَوْ لَا قَوْلَانِ. (تَنْبِيهٌ) هَذَا كُلُّهُ فِي الْمَيِّتِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ يَمُوتُ وَخِفْنَا عَلَيْهِ الضَّيْعَةَ لِعَدَمِ كَافِرٍ يُوَارِيه فَيَجِبُ عَلَيْنَا مُوَارَاتُهُ وَلَا يُسْتَقْبَلُ بِهِ قِبْلَتَنَا وَلَا قِبْلَتَهُ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُنْصَبَ عَلَيْهِ اللَّبِنُ) بِكَسْرِ الْبَاءِ وَهُوَ الطُّوبُ النِّيءُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَدُّهُ بِلَبِنٍ ثُمَّ لَوْحٍ ثُمَّ قُرْمُودٍ ثُمَّ آجُرٍّ ثُمَّ قَصَبٍ، وَسَتْرُهُ بِالتُّرَابِ أَوْلَى مِنْ التَّابُوتِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ " مِنْ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْحَدَ ابْنَهُ إبْرَاهِيمَ وَنَصَبَ اللَّبِنَ عَلَى لَحْدِهِ» وَفَعَلَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ عُمَرُ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: فَهُوَ أَفْضَلُ مَا يَسُدُّهُ بِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ خَلَا التُّرَابَ فَالسَّدُّ بِهِ وَصَبُّهُ عَلَى الْمَيِّتِ أَفْضَلُ مِنْ وَضْعِهِ فِي التَّابُوتِ وَهُوَ الْخَشَبَةُ الَّتِي تُوضَعُ كَالصُّنْدُوقِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِلْوَاضِعِ لِلْمَيِّتِ فِي حَالِ إضْجَاعِهِ لَهُ أَنْ (يَقُولَ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ سَدِّ الْقَبْرِ عَلَيْهِ (اللَّهُمَّ إنَّ صَاحِبَنَا قَدْ نَزَلَ بِك) ضَيْفًا (وَخَلَّفَ) بِشَدِّ اللَّامِ أَيْ تَرَكَ (الدُّنْيَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَافْتَقَرَ إلَى مَا عِنْدَك) مِنْ الرَّحْمَةِ؛ لِأَنَّهُ قَدِمَ وَحِيدًا فَرِيدًا وَإِنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مُتَعَزِّزًا بِقَوْمِهِ وَمَالِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ صَغِيرًا أَوْ أَبًا (اللَّهُمَّ ثَبِّتْ) بِكَسْرِ الْمُوَحَّدَةِ وَشَدِّهَا (عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ (مَنْطِقَهُ) أَيْ نُطْقَهُ وَالْمَعْنَى: أَسْأَلُك يَا رَبِّ أَنْ تُعْطِيَ هَذَا الْمَيِّتَ قُوَّةً عَلَى فَهْمِ وَرَدِّ جَوَابِ الْمَلَكَيْنِ؛ لِأَنَّهُمَا يَسْأَلَانِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَعْدَ إقْعَادِهِ وَرَدِّ الْحَيَاةِ فِي جَمِيعِهِ وَقِيلَ نِصْفِهِ الْأَعْلَى وَإِعْطَائِهِ مِنْ الْعَقْلِ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْفَهْمُ، وَالْحَالُ أَنَّهُ يَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِ الْحَاضِرِينَ لِلدَّفْنِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم: 27] وَالْمُرَادُ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا عِنْدَ خُرُوجِ رُوحِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْآخِرَةِ وَقْتُ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ كَمَا تَقَدَّمَ بَسْطُهُ فِي الْعَقِيدَةِ. (وَلَا تَبْتَلِهِ) أَيْ لَا تَخْتَبِرْهُ (فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ) أَيْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى رَدِّ جَوَابِهِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ صِفَةَ السُّؤَالِ مُخْتَلِفَةٌ بِالصُّعُوبَةِ وَالسُّهُولَةِ. (وَأَلْحِقْهُ بِنَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَيْ اجْعَلْهُ فِي جِوَارِهِ وَمَشْمُولًا بِشَفَاعَتِهِ، وَاخْتَارَ هَذَا الدُّعَاءَ؛ لِأَنَّهُ مَرْوِيٌّ عَنْ بَعْضِ السَّلَفِ لَا أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ دُونَ غَيْرِهِ، إذْ قَدْ وَرَدَ أَنَّهُ يَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ وَعَلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اللَّهُمَّ تَقَبَّلْهُ بِأَحْسَنِ قَبُولٍ» . قَالَ الْإِمَامُ أَشْهَبُ: عَقِبَ هَذَا الدُّعَاءِ إنْ دَعَا بِغَيْرِهِ فَحَسَنٌ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ الدُّعَاءِ مِمَّا زَادَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى خَلِيلٍ فَرَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى دَفْنِ الْمَيِّتِ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى حُكْمِ إظْهَارِ قَبْرِهِ فَقَالَ: (وَيُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ) وَكَذَا تَحْوِيزُ مَوَاضِعِهَا بِالْبِنَاءِ حَوْلَهَا؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَفْعَلْهُ وَلَمْ يَأْمُرْ بِهِ، وَإِنَّمَا صَدَرَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ «وَضَعَ بِيَدِهِ الْكَرِيمَةِ حَجَرًا عِنْدَ رَأْسِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ وَقَالَ: أُعَلِّمُ بِهِ قَبْرَ أَخِي وَأَدْفِنُ إلَيْهِ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِهِ» وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ لِلْبِنَاءِ إذَا عَرَى قَصْدُ الْمُبَاهَاةِ وَإِلَّا حَرُمَ، كَمَا إذَا كَانَ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَفْسَدَةٌ كَصَيْرُورَتِهِ مَأْوًى لِلُّصُوصِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَمَحِلُّهَا أَيْضًا إذَا كَانَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْبَانِي أَوْ مُبَاحَةٍ كَمَوَاتٍ، وَأَمَّا فِي أَرْضٍ مُحْبَسَةٍ فَحَرَامٌ كَالْقَرَافَةِ بِمِصْرَ، وَمَحَلُّهَا أَيْضًا مَا لَمْ يَقْصِدْ بِهِ مُجَرَّدَ تَمْيِيزِ الْقَبْرِ وَإِلَّا جَازَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ لِلتَّمْيِيزِ، قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ الْبِنَاءُ أَوْ التَّجْوِيزُ، كَمَا يَجُوزُ وَضْعُ خَشَبَةٍ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ إلَّا أَنْ يَخَافَ أَنْ يَضِيعَ فَلْيُوَارِهِ وَاللَّحْدُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الشَّقِّ وَهُوَ أَنْ يَحْفِرَ لِلْمَيِّتِ تَحْتَ الْجَرْفِ فِي حَائِطِ قِبْلَةِ الْقَبْرِ وَذَلِكَ إذَا كَانَتْ تُرْبَةً صَلْبَةً لَا تَتَهَيَّلُ وَلَا تَتَقَطَّعُ وَكَذَلِكَ فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.   [الفواكه الدواني] حَجَرٍ عَلَيْهِ بِلَا نَقْشٍ وَإِلَّا كُرِهَ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّقْشُ بِقُرْآنٍ فَتَظْهَرُ الْحُرْمَةُ خَوْفَ الِامْتِهَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبِنَاءَ عَلَى الْقَبْرِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ، وَهِيَ فِي الْبِنَاءِ عَلَى خُصُوصِ الْقَبْرِ؛ لِأَنَّهُ حَبْسٌ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْقُبَبُ وَنَحْوُهَا مِمَّا يُضْرَبُ عَلَى الْقَبْرِ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهَا فِي الْأَرْضِ الْمُحْبَسَةِ عَلَى دَفْنِ الْأَمْوَاتِ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ التَّحْجِيرِ عَلَى مَا هُوَ حَقٌّ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ. (وَ) كَمَا يُكْرَهُ الْبِنَاءُ عَلَى الْقُبُورِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يُكْرَهُ (تَجْصِيصُهَا) أَيْ تَبْيِيضُهَا خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ لَنَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ «نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ تَجْصِيصِ الْقَبْرِ وَالْبِنَاءِ عَلَيْهِ» ، وَمَا وَرَدَ أَيْضًا مِنْ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ تَكُونُ عَلَى الْقَبْرِ تَسْتَغْفِرُ لِصَاحِبِهِ مَا لَمْ يُجَصَّصْ فَإِنْ جُصِّصَ تَرَكُوا الِاسْتِغْفَارَ، وَعَلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَتَطْيِينُ قَبْرٍ وَتَبْيِيضُهُ وَبِنَاءٌ عَلَيْهِ وَتَحْوِيزٌ فَإِنْ بُوهِيَ بِهِ حَرُمَ، وَجَازَ لِلتَّمْيِيزِ كَحَجَرٍ أَوْ خَشَبَةٍ بِلَا نَقْشٍ إلَّا كُرِهَ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ حُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْأَبِ عَلَى وَلَدِهِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ أَبُوهُ كَافِرًا وَتَغْسِيلُهُ قَالَ: (وَلَا يُغَسِّلُ) بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ وَهُوَ (الْمُسْلِمُ أَبَاهُ الْكَافِرَ) وَأَوْلَى غَيْرُ الْأَبِ كَالْأَخِ وَالْعَمِّ (وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْبِرِّ سَقَطَ بِمَوْتِهِ وَقَبْرُهُ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّارِ بَلْ يَتْرُكُهُ إلَى أَهْلِ دِينِهِ (إلَّا أَنْ يَخَافَ) عَلَيْهِ (أَنْ يَضِيعَ) بِتَرْكِ مُوَارَاتِهِ (فَلْيُوَارِهِ) وُجُوبًا بِكَفْنِهِ وَدَفْنِهِ لِمَا يَلْحَقُهُ مِنْ الْمَعَرَّةِ وَلَا يَسْتَقْبِلُ بِهِ قِبْلَتَنَا وَلَا قِبْلَتَهُ، وَالنَّهْيُ عَمَّا ذُكِرَ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْكَافِرُ يَتَنَاوَلُ الْحَرْبِيَّ خِلَافًا لِبَعْضٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا وَرَدَ «أَنَّ أَبَا طَالِبٍ لَمَّا مَاتَ جَاءَ وَلَدُهُ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ: اذْهَبْ فَوَارِهِ» ، وَالْمَقَامُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَأْمُرْهُ بِمُوَارَاتِهِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ مَنْ يُبَاشِرُ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ مِلَّتِهِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَافِرَ غَيْرَ الْقَرِيبِ لَا تَجِبُ مُوَارَاتُهُ عِنْدَ خَوْفِ ضَيْعَتِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ وُجُوبُ مُوَارَاتِهِ عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ عَلَيْهِ عَامٌّ حَتَّى فِي الْأَجْنَبِيِّ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْمُصَنِّفَ وَغَيْرَهُ كَخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يُغَسِّلُ مُسْلِمٌ أَبًا كَافِرًا وَلَا يُدْخِلُهُ قَبْرَهُ إلَّا أَنْ يَضِيعَ فَلْيُوَارِهِ إنَّمَا نَصَّ الْمُتَوَهِّمُ فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُ كَذَلِكَ بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْأَبَ إذَا كَانَتْ مُوَارَاتُهُ لَا تَجِبُ إلَّا عِنْدَ خَوْفِ الضَّيْعَةِ فَالْأَجْنَبِيُّ أَحْرَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ وُجُوبُ مُوَارَاةِ الْآدَمِيِّ فَافْهَمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ فِي مَحَلِّ الدَّفْنِ فَقَالَ (وَاللَّحْدُ أَحَبُّ إلَى أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ الشَّقِّ) بِفَتْحِ الشِّينِ، وَإِنَّمَا كَانَ اللَّحْدُ أَحَبَّ لِخَبَرِ: «اللَّحْدُ لَنَا وَالشَّقُّ لِغَيْرِنَا» وَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَارَهُ لِنَبِيِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ «كَانَ بِالْمَدِينَةِ رَجُلَانِ أَحَدُهُمَا يَلْحَدُ وَالْآخَرُ يَشُقُّ فَقَالَتْ الصَّحَابَةُ: أَيُّهُمَا جَاءَ يَعْمَلُ عَمَلَهُ فَجَاءَ الَّذِي يَلْحَدُ فَلَحَدَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَأَفْعَلُ التَّفْضِيل لَيْسَ عَلَى بَابِهِ كَمَا تَقْتَضِيه الْأَدِلَّةُ، وَفَسَّرَ اللَّحْدَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ أَنْ يُحْفَرَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (لِلْمَيِّتِ تَحْتَ الْجُرْفِ فِي حَائِطِ قِبْلَةِ الْقَبْرِ) أَيْ فِي جَانِبِ الْحَائِطِ الْكَائِنِ فِي الْقِبْلَةِ. (وَذَلِكَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ أَحَبِّيَّةِ اللَّحْدِ عَلَى الشَّقِّ (إذَا كَانَتْ) الْمَقْبَرَةُ (تُرْبَةً صَلْبَةً) أَيْ (تَتَهَيَّلُ) كَالرَّمْلِ (وَ) لَا (تَتَقَطَّعُ) أَيْ تَسْقُطُ شَيْئًا فَشَيْئًا وَإِلَّا كَانَ الشَّقُّ أَفْضَلَ، وَحَقِيقَتُهُ أَنْ يَحْفِرَ حُفْرَةً فِي وَسَطِ الْقَبْرِ وَيَبْنِيَ جَانِبَاهَا بِاللَّبِنِ أَوْ غَيْرِهِ وَيُوضَعُ الْمَيِّتُ فِيهَا وَيُسَدُّ عَلَيْهِ بِاللَّبِنِ فَوْقَ الْجَانِبَيْنِ كَالسَّقْفِ بِحَيْثُ لَا يَمَسُّ الْمَيِّتَ (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَلِأَجْلِ فَضْلِ اللَّحْدِ (فُعِلَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) . (خَاتِمَةٌ) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ غَايَةَ الْقَبْرِ وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَقَلُّهُ مَا مَنَعَ رَائِحَتَهُ وَحَرَسَهُ، وَيُسْتَحَبُّ عَدَمُ عُمْقِهِ وَكَوْنُهُ فِي أَرْضٍ غَيْرِ سَبْخَةٍ لِسُرْعَةِ الْبَلَاءِ فِيهَا، وَاَلَّتِي لَا تُبْلَى أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ غَيْرِهَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. [بَاب فِي الصَّلَاة عَلَى الْجَنَائِز وَالدُّعَاء لِلْمَيِّتِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْغُسْلِ وَالْكَفَنِ شَرَعَ فِيمَا يَكُونُ بَعْدَهُمَا وَهُوَ الصَّلَاةُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 بَابٌ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَالدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ وَالتَّكْبِيرُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ يَرْفَعُ يَدَيْهِ فِي أُولَاهُنَّ وَإِنْ رَفَعَ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فَلَا بَأْسَ وَإِنْ شَاءَ دَعَا بَعْدَ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) كَيْفِيَّةِ (الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ) بِفَتْحِ الْجِيمِ اتِّفَاقًا وَهُوَ جَمْعُ جِنَازَةٍ بِكَسْرِهَا عَلَى الْأَفْصَحِ؛ لِأَنَّ فَعَالَةَ بِالْفَتْحِ أَوْ الْكَسْرِ أَوْ الضَّمِّ تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ بِفَتْحِ الْفَاءِ. قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَبِفَعَائِلَ اجْمَعْنَ فَعَاله وَشِبْهُهُ ذَا تَاءٍ أَوْ مُزَالَهُ كَسَحَابَةٍ وَرِسَالَةٍ وَكُنَاسَةٍ وَعَجُوزٍ وَصَحِيفَةٍ، فَهَذِهِ كُلُّهَا تُجْمَعُ عَلَى فَعَائِلَ بِفَتْحِ الْفَاءِ، وَتُطْلَقُ عَلَى الْمَيِّتِ وَحْدَهُ وَعَلَى النَّعْشِ وَعَلَى الْمَيِّتِ، وَالْمَقْصُودُ هُنَا خُصُوصُ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يُصَلَّى عَلَيْهِ. (وَ) فِي ذِكْرِ (الدُّعَاءِ لِلْمَيِّتِ) وَاسْتَشْكَلَ ذِكْرُ الدُّعَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهُ بَعْضُهَا؛ لِأَنَّهَا عِبَادَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى نِيَّةٍ وَتَكْبِيرٍ وَدُعَاءٍ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ وَسَلَامٍ وَقِيلَ وَقِيَامٍ، وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ الصَّلَاةِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْجُزْءِ عَلَى الْكُلِّ وَهُوَ جَائِزٌ، وَلَيْسَ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ كَمَا لَا يَخْفَى، وَلَا يُقَالُ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَقُولَ وَالدُّعَاءُ لَهَا بَدَلُ قَوْلِهِ لِلْمَيِّتِ لِيَكُونَ الضَّمِيرُ مُطَابِقًا لِلْجَنَائِزِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا جَمْعًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا كَانَتْ الْجَنَائِزُ تُطْلَقُ عَلَى الْأَمْوَاتِ فَقَطْ وَعَلَى النُّعُوشِ وَالْأَمْوَاتِ عَلَيْهَا رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ عَلَى بُعْدِ عَوْدِ الضَّمِيرِ عَلَى النُّعُوشِ مَعَ الْأَمْوَاتِ، مَعَ أَنَّ الصَّلَاةَ إنَّمَا تَكُونُ عَلَى الْأَمْوَاتِ وَلَوْ لَمْ تَكُنْ عَلَى نُعُوشٍ، وَأَفْرَدَ الْمَيِّتَ إشَارَةً إلَى أَنَّ أَلْ فِي الْجَنَائِزِ لِلْجِنْسِ، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ جُمَلٍ أَنَّ حُكْمَ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَقِيلَ سُنَّةٌ، وَدَلِيلُ الْفَرِيضَةِ مَفْهُومُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا} [التوبة: 84] بِنَاءً عَلَى أَنَّ الَّذِي يُفِيدُهُ الْمَفْهُومُ ضِدُّ الْحُكْمِ الْمَنْطُوقِ وَهُوَ وُجُوبُ الصَّلَاةِ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ إمَامًا، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْأَوْلَى بِالصَّلَاةِ وَصِيٌّ رُجِيَ خَيْرُهُ، ثُمَّ الْخَلِيفَةُ لَا فَرْعُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ صَاحِبَ خُطْبَةٍ، ثُمَّ أَقْرَبُ الْعَصَبَةِ كَالنِّكَاحِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَالثَّانِي: شُرُوطُهَا كَشُرُوطِ الصَّلَاةِ ذَاتِ الْأَرْكَانِ، وَلَا تَجِبُ إلَّا عَلَى مَنْ غُسِّلَ أَوْ يُمِّمَ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ، وَتَجِبُ قَبْلَ دَفْنِهِ فَإِنْ دُفِنَ قَبْلَ الصَّلَاةِ فَيُصَلَّى عَلَى الْقَبْرِ حَيْثُ لَمْ يُتَيَقَّنْ ذَهَابُهُ وَلَوْ بِأَكْلِ السَّبُعِ كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَلَا تُشْتَرَطُ فِيهَا جَمَاعَةٌ بَلْ تُسْتَحَبُّ فَقَطْ، وَإِذَا حَصَلَ لِلْإِمَامِ مُوجِبُ الِاسْتِخْلَافِ اسْتَخْلَفَ، وَإِذَا ذَكَرَ فَائِتَةً تَمَادَى عَلَيْهَا لِسُهُولَةِ أَمْرِهَا، وَطَلَبُ الْإِسْرَاعِ بِالْجَنَائِزِ وَأَرْكَانِهَا الْمُتَّفِقِ عَلَيْهَا أَرْبَعَةٌ: النِّيَّةُ وَالتَّكْبِيرُ وَالدُّعَاءُ بَعْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَلَوْ مِنْ الْمَأْمُومِ وَتَسْلِيمَةٌ خَفِيفَةٌ، وَالْمُخْتَلَفُ فِيهِ الْقِيَامُ إلَّا لِعُذْرٍ، فَإِنْ صَلَّى عَلَيْهَا مِنْ جُلُوسٍ أَوْ رُكُوبٍ اخْتِيَارًا أُعِيدَتْ، هَكَذَا قَالَهُ عِيَاضٌ وَابْنُ الْحَاجِّ وَزَرُّوقٌ وَالْقَرَافِيُّ وَسَنَدٌ بِنَاءً عَلَى فَرْضِيَّتِهَا، وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ مِنْ تِلْكَ الْأَرْكَانِ إلَّا التَّكْبِيرَ وَالدُّعَاءَ وَالسَّلَامَ حَيْثُ قَالَ: (وَ) عَدَدُ (التَّكْبِيرِ عَلَى الْجِنَازَةِ أَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ) عَلَى كُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ مَأْمُومًا، وَتُمْنَعُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ كَمَا قَالَهُ عِيَاضٌ لِانْعِقَادِ الْإِجْمَاعِ. فِي زَمَنِ عُمَرَ عَلَى أَرْبَعٍ، وَاسْتَقَرَّ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْأَرْبَعِ، وَمَضَى عَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، فَلَوْ زَادَ الْإِمَامُ عَلَى الْأَرْبَعِ لَمْ يَنْظُرْهُ مَأْمُومُهُ بَلْ يُسَلِّمُ قَبْلَهُ سَوَاءٌ زَادَ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا، وَسَوَاءٌ كَانَ يَرَى الزِّيَادَةَ مَذْهَبًا أَمْ لَا، وَأَمَّا لَوْ نَقَصَ الْإِمَامُ فَإِنْ كَانَ عَامِدًا فَالظَّاهِرُ بُطْلَانُ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ تَبَعًا لِبُطْلَانِ صَلَاةِ إمَامِهِ وَلَوْ أَتَى الْمَأْمُومُ بِالرَّابِعَةِ، وَأَمَّا لَوْ نَقَصَ الْإِمَامُ سَاهِيًا سَبَّحَ لَهُ الْمَأْمُومُ فَإِذَا لَمْ يَرْجِعْ كَمَّلَ صَلَاتَهُ، وَتَبْطُلُ صَلَاةُ الْإِمَامِ إذَا سَلَّمَ وَطَالَ إلَّا أَنْ تَذَكَّرَ بِالْقُرْبِ فَيَبْنِي بِأَنْ يَرْجِعَ بِغَيْرِ تَكْبِيرٍ يُكْمِلُهَا بِتَكْبِيرِ الرَّابِعَةِ إنْ سَلَّمَ بَعْدَ ثَلَاثٍ، وَمِثْلُهُ الْمُنْفَرِدُ يُسَلِّمُ بَعْدَ تَكْبِيرَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثٍ، وَلَا يَتَأَتَّى هُنَا سُجُودُ سَهْوٍ فِي زِيَادَةِ كَلَامٍ أَوْ سَلَامٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا شُرِعَ فِي ذَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الْأَرْبَعِ ثُمَّ يُسَلِّمُ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ مَكَانَهُ وَيَقِفُ الْإِمَامُ فِي الرَّجُلِ عِنْدَ وَسَطِهِ وَفِي الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا وَالسَّلَامُ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجَنَائِزِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ خَفِيَّةٌ لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ وَقِيرَاطٌ فِي حُضُورِ دَفْنِهِ وَذَلِكَ التَّمَثُّلُ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدِ ثَوَابًا وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ شَيْءٍ مَحْدُودٍ وَذَلِكَ كُلُّهُ وَاسِعٌ وَمِنْ   [الفواكه الدواني] الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَرْفَعَ يَدَيْهِ فِي أُولَاهُنَّ) أَيْ التَّكْبِيرَاتِ (وَإِنْ رَفَعَ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فَلَا بَأْسَ) بِهِ إذْ غَايَةُ مَا حَصَلَ مِنْهُ تَرْكُ الْمَنْدُوبِ؛ وَلِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْ الْإِمَامِ الرَّفْعُ عِنْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ فَلَا بَأْسَ لِمَا غَيْرُهُ أَفْضَلُ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الرَّاجِحَ الْأَوَّلُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَرَفَعَ يَدَيْهِ فِي أُولَاهُنَّ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: اُخْتُلِفَ هَلْ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى إحْرَامٌ لِصَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَوْ لَا إحْرَامَ لَهَا؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ: لَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى لَمْ يَجُزْ إدْخَالُهَا فِي الصَّلَاةِ بَلْ يَسْتَأْنِفُ لَهَا صَلَاةً بَعْدَ السَّلَامِ مِنْ الْأُولَى، فَقَدْ قَالَ فِي التَّهْذِيبِ: لَوْ حَضَرَتْ جِنَازَةٌ ثَانِيَةٌ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الْأُولَى وَالشُّرُوعِ فِي الدُّعَاءِ فَلَا يُشْرِكُ الْإِمَامُ الثَّانِيَةَ مَعَ الْأُولَى فِي الدُّعَاءِ، وَقِيلَ يَجُوزُ إدْخَالُهَا فِي الدُّعَاءِ مَعَ الْأُولَى، وَنَقَلَهُ الزَّنَاتِيُّ فِي شَرْحِهِ لِهَذَا الْكِتَابِ، وَلَعَلَّ الْمُعْتَمَدَ عَدَمُ جَوَازِ إدْخَالِهَا، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَسْتَأْنِفَ لَهَا صَلَاةً مُسْتَقِلَّةً وَهُوَ كَلَامُ التَّهْذِيبِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ النِّيَّةَ وَهِيَ أَحَدُ أَرْكَانِهَا، وَلَعَلَّهُ لَمْ يُنَبِّهْ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ رُكْنِيَّتَهَا ضَرُورِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ مِنْ أَعْظَمِ الْأَعْمَالِ وَصِحَّتُهَا بِالنِّيَّةِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَرُكْنُهَا النِّيَّةُ وَأَرْبَعُ تَكْبِيرَاتٍ وَالدُّعَاءُ وَتَسْلِيمَةٌ خَفِيفَةٌ وَسَمْعُ الْإِمَامِ مَنْ يَلِيه وَصَبْرُ الْمَسْبُوقِ لِلتَّكْبِيرِ، وَدَعَا إنْ تُرِكَتْ وَإِلَّا وَالَى، وَالْمُصَنِّفُ أَشَارَ إلَى الدُّعَاءِ فِيمَا يَأْتِي عِنْدَ بَيَانِ صِفَةِ الصَّلَاةِ فِي قَوْلِهِ: وَيُقَالُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ بِغَيْرِ شَيْءٍ مَحْدُودٍ، وَصِفَةُ النِّيَّةِ أَنْ يَقْصِدَ بِقَلْبِهِ الصَّلَاةَ عَلَى هَذَا الْمَيِّتِ الْحَاضِرِ مَعَ اسْتِحْضَارِ أَنَّهَا فَرْضُ كِفَايَةٍ، فَإِنْ غَفَلَ عَنْ هَذَا الْأَخِيرِ لَمْ يَضُرَّ وَتَصِحُّ صَلَاتُهُ كَمَا تَصِحُّ لَوْ صَلَّى عَلَيْهَا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهَا أُنْثَى فَتَبَيَّنَ أَنَّهَا ذَكَرٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أَنَّهَا فُلَانٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا غَيْرُهُ؛ لِأَنَّ مَقْصُودَهُ الشَّخْصُ الْحَاضِرُ بَيْنَ يَدَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ فِي النَّعْشِ اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ وَاعْتَقَدَ أَنَّ مَا فِيهِ وَاحِدٌ فَإِنَّهَا تُعَادُ عَلَى الْجَمِيعِ حَيْثُ كَانَ الْوَاحِدُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ، وَإِلَّا أُعِيدَتْ عَلَى غَيْرِ الْمُعَيَّنِ الَّذِي نَوَاهُ، وَأَمَّا لَوْ نَوَى وَاحِدًا بِعَيْنِهِ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُمَا اثْنَانِ أَوْ أَكْثَرُ وَلَيْسَ فِيهِمَا أَوْ فِيهِمْ مَنْ عَيَّنَهُ فَإِنَّهَا تُعَادُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ نَوَى الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ فِي النَّعْشِ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّهُ جَمَاعَةٌ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ الْوَاحِدَ أَوْ الِاثْنَيْنِ بَعْضُ الْجَمَاعَةِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الدُّعَاءَ وَاجِبٌ بَعْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَلَوْ عَلَى الْمَأْمُومِ فَلَيْسَ كَقِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ خَلْفَ الْإِمَامِ بَلْ تُعَادُ الصَّلَاةُ لِتَرْكِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ شَافِعٌ مَطْلُوبٌ بِالدُّعَاءِ، وَإِنَّمَا اُخْتُلِفَ فِي الدُّعَاءِ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ شَاءَ) الْمُصَلِّي عَلَى الْجِنَازَةِ (دَعَا بَعْدَ الْأَرْبَعِ) تَكْبِيرَاتٍ بِمَا كَانَ يَدْعُو بِهِ بَيْنَ التَّكْبِيرَاتِ أَوْ بِغَيْرِهِ (ثُمَّ يُسَلِّمُ وَإِنْ شَاءَ سَلَّمَ بَعْدَ الرَّابِعَةِ مَكَانَهُ) مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ وَهَذَا مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الدُّعَاءَ فِيهَا كَالْقِرَاءَةِ فِي الصَّلَاةِ ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، فَكَمَا لَا قِرَاءَةَ بَعْدَ رُكُوعِ الرَّابِعَةِ مَثَلًا لَا دُعَاءَ بَعْدَ التَّكْبِيرَةِ الرَّابِعَةِ هُنَا وَمُقَابِلُهُ يَدْعُو وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ، قَالَ خَلِيلٌ: وَدَعَا بَعْدَ الرَّابِعَةِ عَلَى الْمُخْتَارِ. (وَ) صِفَةُ الْوُقُوفِ الْمَنْدُوبِ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ أَنْ (يَقِفَ الْإِمَامُ) وَمِثْلُهُ الْمُنْفَرِدُ (فِي) الصَّلَاةِ عَلَى (الرَّجُلِ عِنْدَ وَسَطِهِ وَفِي) الصَّلَاةِ عَلَى (الْمَرْأَةِ عِنْدَ مَنْكِبَيْهَا) قَالَهُ خَلِيلٌ: وَوُقُوفُ إمَامٍ بِالْوَسَطِ وَمَنْكِبَيْ الْمَرْأَةِ كَمَا تَقِفُ الْمَرْأَةُ فِي صَلَاتِهَا عَلَيْهِ لِئَلَّا يَتَذَكَّرَ كُلٌّ إنْ وَقَفَ عِنْدَ وَسَطِ الْمَيِّتِ مَا يَشْغَلُهُ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى هَذَا مَا فِي حَدِيثِ سَمُرَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى امْرَأَةٍ وَوَقَفَ عِنْدَ وَسَطِهَا» لِعِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ قَصْدِ مَا يَشْغَلُهُ، وَأَمَّا وُقُوفُ الْمَأْمُومِ فَعَلَى صِفَةِ وُقُوفِهِ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ كَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّجُلِ، وَكَذَا وُقُوفُهُ عِنْدَ صَلَاتِهِ مُنْفَرِدًا عَلَى جِنَازَةٍ سَوَاءٌ كَانَتْ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ إذَا صَلَّتْ عَلَى امْرَأَةٍ فَتَقِفُ حَيْثُ شَاءَتْ، وَيُسْتَحَبُّ جَعْلُ رَأْسِ الْمَيِّتِ عَلَى يَمِينِ الْمُصَلِّي إلَّا فِيمَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ فِي الرَّوْضَةِ الشَّرِيفَةِ فَإِنَّهُ يُجْعَلُ رَأْسُ الْمَيِّتِ عَلَى يَسَارِهِ لِتَكُونَ رِجْلَاهُ لِغَيْرِ جِهَةِ قَبْرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّ الَّذِي يُصَلِّي فِي الرَّوْضَةِ يَصِيرُ قَبْرُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ عَلَى يَسَارِهِ؛ لِأَنَّهُ مَعَ قَبْرِ الْخُلَفَاءِ وَالزَّوْجَاتِ فِي طَرَفِ الْمَسْجِدِ عَلَى يَسَارِ الْمُصَلَّى فِيهَا أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُرِيَهُ لِمَنْ لَمْ يَرَهُ. (وَ) عِدَّةُ (السَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ عَلَى الْجِنَازَةِ تَسْلِيمَةٌ وَاحِدَةٌ خَفِيفَةٌ) وَرُوِيَ خَفِيَّةٌ (لِلْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ) لَكِنَّ الْإِمَامَ يُنْدَبُ لَهُ أَنْ يُسْمِعَ مَنْ يَلِيه. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَسْلِيمَةٌ خَفِيفَةٌ وَسَمْعُ الْإِمَامِ مَنْ يَلِيه، وَمَعْنَى، خَفِيفَةٌ أَوْ خَفِيَّةٌ عَدَمُ الْجَهْرِ بِهَا مِنْ الْمَأْمُومِ، وَلَيْسَ هُنَا رَدٌّ عَلَى الْإِمَامِ لِعَدَمِ وُرُودِ ذَلِكَ؛ وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ الْمُسَارَعَةُ لِلدَّفْنِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ السَّلَامَ مِنْ أَرْكَانِهَا وَصِفَتُهُ كَصِفَةِ سَلَامِ الصَّلَاةِ مُعَرَّفًا بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الصَّلَاةِ بِقَوْلِهِ: (وَفِي الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ قِيرَاطٌ مِنْ الْأَجْرِ وَقِيرَاطٌ فِي حُضُورِ دَفْنِهِ) لِمَا فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اتَّبَعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا وَكَانَ مَعَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 مُسْتَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنْ يُكَبِّرَ ثُمَّ يَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ وَالْمُلْكُ وَالْقُدْرَةُ وَالسَّنَاءُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ فِي الْعَالَمِينَ إنَّك حَمِيدٌ مَجِيدٌ اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ   [الفواكه الدواني] حَتَّى يُصَلِّيَ عَلَيْهَا وَيَفْرُغَ مِنْ دَفْنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ الْأَجْرِ بِقِيرَاطَيْنِ كُلُّ قِيرَاطٍ مِثْلُ أُحُدٍ، وَمَنْ صَلَّى عَلَيْهَا ثُمَّ رَجَعَ قَبْلَ أَنْ تُدْفَنَ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِقِيرَاطٍ» . وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ صَرِيحَةٌ فِي الْقِيرَاطَيْنِ، خِلَافًا لِمَنْ تَوَهَّمَ مِنْ لَفْظِ مُسْلِمٍ أَنَّهَا ثَلَاثَةٌ وَأَنَّ أَحَدَ الْقِيرَاطَيْنِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْآخَرِ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ حُصُولُ ثَوَابِ قِيرَاطِ الصَّلَاةِ وَلَوْ لَمْ يَتْبَعْهَا فِي الطَّرِيقِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ الْبُخَارِيِّ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي تَوَقُّفَهُ. عَلَى اتِّبَاعِهَا وَعَلَى الْبَقَاءِ مَعَهَا حَتَّى يُفْرَغَ مِنْ دَفْنِهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَثَوَابُ مَنْ اتَّبَعَهَا وَلَازَمَهَا لِلدَّفْنِ أَعْظَمُ (وَذَلِكَ) الْقِيرَاطُ (فِي التَّمْثِيلِ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ ثَوَابًا) تَمْيِيزٌ لِمِثْلِ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ جَبَلُ أُحُدٍ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَتَصَدَّقَ بِهِ لَكَانَ ثَوَابُ هَذَا الْقِيرَاطِ كَثَوَابِهِ، وَقِيلَ مَعْنَى الْمُمَاثَلَةِ لَوْ جُعِلَ هَذَا الْجَبَلُ فِي كِفَّةٍ وَجُعِلَ الْقِيرَاطُ فِي كِفَّةٍ مُقَابِلَةٍ لَهَا لَسَاوَاهَا، وَأُحُدُ جَبَلٌ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ قَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ هَذَا الْجَبَلَ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ» وَخَصَّهُ بِالتَّمْثِيلِ إمَّا لِذَلِكَ وَإِمَّا؛ لِأَنَّهُ أَكْبَرُ الْجِبَالِ؛ لِأَنَّهُ بَلَغَ إلَى الْأَرْضِ السَّابِعَةِ وَمُتَّصِلٌ بِجَمِيعِ الْجِبَالِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الْقِيرَاطُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ الدَّفْنِ قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَتَوَقَّفُ ثَوَابُ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ. الثَّانِي: لَوْ تَعَدَّدَتْ الْأَمْوَاتُ لَتَعَدَّدَ قِيرَاطُ الصَّلَاةِ وَالدَّفْنِ بِتَعَدُّدِهِمْ. قَالَ الْفَقِيهُ أَبُو عِمْرَانَ وَسَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: يَحْصُلُ لَهُ بِكُلِّ مَيِّتٍ قِيرَاطٌ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَيِّتٍ انْتَفَعَ بِدُعَائِهِ وَحُضُورِهِ. الثَّالِثُ: الْمُقَسَّمُ إلَى هَذِهِ الْقَرَارِيطِ هُوَ الْأَجْرُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الْأَفْعَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَيِّتِ مِنْ تَغْمِيضِهِ وَتَقْبِيلِهِ وَشَدِّ لَحْيَيْهِ وَنَزْعِ ثِيَابِهِ الَّتِي مَاتَ فِيهَا وَوَضْعِهِ عَلَى مُرْتَفَعٍ وَتَغْسِيلِهِ وَحَمْلِهِ وَالْمَشْيِ مَعَهُ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَحُضُورِهِ وَدَفْنِهِ وَحَفْرِ قَبْرِهِ وَسَدِّهِ عَلَيْهِ وَإِهَالَةِ التُّرَابِ، فَهَذِهِ خَمْسَةَ عَشَرَ أَمْرًا بَلْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ فَقَطْ، وَلَعَلَّهُ بَقِيَ مِنْهَا تَلْيِينُ مَفَاصِلِهِ بِرِفْقٍ، فَمَنْ أَتَى بِالصَّلَاةِ فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنْ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَالْخَمْسَةَ عَشَرَ هِيَ جُمْلَةُ الْأَجْرِ، وَمَنْ حَضَرَ الدَّفْنَ فَلَهُ قِيرَاطٌ مِنْهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا مُتَفَاوِتَةٌ بِتَفَاوُتِ مَا تَرَتَّبَتْ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْقِيرَاطُ مَنْسُوبًا إلَى أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ قِيرَاطًا، نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْعِمَادِ نَاقِلًا لَهُ عَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ. الرَّابِعُ: حُضُورُ الْجِنَازَةِ إمَّا رَغْبَةً فِي أَهْلِهَا أَوْ خَوْفًا مِنْهُمْ، وَإِمَّا رَغْبَةً فِي الْأَجْرِ وَإِمَّا مُكَافَأَةً، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يَحْصُلُ بِهِ الْقِيرَاطُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى الصَّلَاةِ أَوْ عَلَى حُضُورِ الدَّفْنِ، وَقَصْدُ أَهْلِهَا وَالْمُكَافَأَةُ لَا يَضُرُّ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ صِلَةِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ كَمَا قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سِيرِينَ: وَلَا يَشْكُلُ عَلَى هَذَا حَدِيثُ الْبُخَارِيِّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اتَّبَعَ جِنَازَةَ مُسْلِمٍ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا» إلَخْ الْإِمْكَانُ حَمْلُهُ عَلَى حُصُولِ الْأَجْرِ الْكَامِلِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ الدُّعَاءُ وَأَنَّهُ يَحْصُلُ وَلَوْ بِعَفَا اللَّهُ عَنْهُ أَوْ رَحِمَهُ اللَّهُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُجْزِي أَنْ (يُقَالَ فِي الدُّعَاءِ) فِي الصَّلَاةِ (عَلَى الْمَيِّتِ غَيْرُ شَيْءٍ مَحْدُودٍ) أَيْ أَوْ مُعَيَّنٍ، فَلَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ، أَوْ اللَّهُمَّ ارْحَمْهُ حَصَلَ الْوَاجِبُ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِهِ بِلَفْظٍ أَوْ قَدْرٍ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَذَلِكَ كُلُّهُ وَاسِعٌ) فِي تَحْصِيلِ الْوَاجِبِ (وَمِنْ مُسْتَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ) أَيْ الدُّعَاءِ عَلَى الْمَيِّتِ (أَنْ يُكَبِّرَ) عِنْدَ شُرُوعِهِ وُجُوبًا؛ لِأَنَّ التَّكْبِيرَ رُكْنٌ كَمَا بَيَّنَّا. (ثُمَّ) الْأَوْلَى الْفَاءُ بَدَلُ ثُمَّ عَدَمُ التَّرَاخِي (يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ وَأَحْيَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى) وَهَذَا مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 28] فَأَطْلَقَ الْمَوْتَ عَلَى عَدَمِهِ قَبْلَ إنْشَائِهِمْ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ مَنْ أَرَادَ إمَاتَتَهُ، وَأَحْيَا مَنْ أَرَادَ حَيَاتَهُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي يُحْيِي الْمَوْتَى فِي الْآخِرَةِ، وَقِيلَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَمَاتَ بِالْكُفْرِ وَأَحْيَا بِالْإِيمَانِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (لَهُ الْعَظَمَةُ وَالْكِبْرِيَاءُ) مُتَرَادِفَانِ (وَ) لَهُ (الْمُلْكُ) بِضَمِّ الْمِيمِ اسْتِحْقَاقُ التَّصَرُّفِ فِي سَائِرِ الْكَائِنَاتِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى سَبَبٍ بَاعِثٍ بَلْ فَاعِلٌ بِالِاخْتِيَارِ. (وَ) لَهُ (الْقُدْرَةُ) التَّامَّةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِجَمِيعِ الْمُمْكِنَاتِ. (وَ) لَهُ (السَّنَاءُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمَدِّ الْعُلُوُّ وَالرِّفْعَةُ فِي الشَّرَفِ وَالْمَنْزِلَةِ لَا فِي الْمَكَانِ، وَأَمَّا بِالْقَصْرِ فَهُوَ الضَّوْءُ فَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهُ هُنَا. (وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ الْمُمْكِنَاتِ (قَدِيرٌ اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْت وَرَحِمْت وَبَارَكْت) الْبَرَكَةُ الْخَيْرُ وَالْمَنْفَعَةُ (عَلَى إبْرَاهِيمَ وَعَلَى آلِ إبْرَاهِيمَ إنَّك حَمِيدٌ) أَيْ مَحْمُودٌ (مَجِيدٌ) أَيْ مُعَظَّمٌ وَمُشَرَّفٌ وَكَرِيمٌ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ وَغَيْرُهُ: هَذِهِ صِيغَةُ الصَّلَاةِ الْكَامِلَةِ وَهِيَ أَحْسَنُ مِنْ الَّتِي ذَكَرَهَا فِي التَّشَهُّدِ؛ لِأَنَّهُ زَادَ فِي التَّشَهُّدِ: وَارْحَمْ مُحَمَّدًا، وَلَمْ تَأْتِ فِي طَرِيقٍ صَحِيحٍ، وَلَيْسَ فِيهَا هُنَا لَفْظُ فِي الْعَالَمِينَ وَزَادَ هُنَاكَ، وَحَذَفَ. أَيْضًا لَفْظَ: وَبَارِكْ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَرَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيه وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ بِحَبْلِ جِوَارِك لَهُ إنَّك ذُو وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ اللَّهُمَّ قِه مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزُلَهُ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ وَنَقِهِ مِنْ الْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ مِنْ الدَّنَسِ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَزَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك وَأَنْتَ خَيْرُ مَنْزُولٍ بِهِ فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ تَقُولُ هَذَا بِأَثَرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ   [الفواكه الدواني] وَإِنْ كَانَ الِاعْتِرَاضُ إنَّمَا هُوَ فِي زِيَادَةِ وَارْحَمْ مُحَمَّدًا فَقَطْ، وَالْأَفْضَلُ الِاقْتِصَارُ عَلَى الْوَارِدِ وَتَرْكُ مَا لَمْ يَثْبُتْ وُرُودُهُ، وَتَقَدَّمَتْ الْمُنَاقَشَةُ فِي هَذَا الْكَلَامِ فَرَاجِعْ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ إمَامٌ عَظِيمٌ نَفَعَنَا اللَّهُ بِبَرَكَاتِهِ. (اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك) ظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ زِنَا، وَقِيلَ: يَقْتَصِرُ فِي وَلَدِ الزِّنَا عَلَى قَوْلِهِ: إنَّهُ عَبْدُك، وَاخْتُلِفَ أَيْضًا فِي نِدَائِهِ فِي الْآخِرَةِ فَقِيلَ: يُنَادَى بِاسْمِ أُمِّهِ، وَقِيلَ: بِاسْمِ أَبِيهِ. (أَنْتَ خَلَقْته وَ) أَنْتَ (رَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتّه) فِي الدُّنْيَا (وَأَنْتَ تُحْيِيه) فِي الْآخِرَةِ (وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِسِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ فَشَفِّعْنَا فِيهِ) أَيْ اقْبَلْ دُعَاءَنَا لَهُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ: مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ أَرْبَعُونَ رَجُلًا قَبِلَ اللَّهُ شَفَاعَتَهُمْ " وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي لِوَلِيِّ الْمَيِّتِ الِاجْتِهَادُ فِي إحْضَارِ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ التَّعْبِيرُ بِهَذَا اللَّفْظِ، وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي أَدْنَى مِنْ الْمَيِّتِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّمَا يَقُولُ جِئْنَاك شُفَعَاءَ لَهُ إذَا كَانَ الْمُصَلِّي مُسَاوِيًا أَوْ أَرْفَعَ رُتْبَةً، وَأَمَّا الْأَدْنَى فَإِنَّمَا يَقُولُ: جِئْنَا مَعَ الشُّفَعَاءِ لَهُ. (اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَجِيرُ) أَيْ نَطْلُبُ الْإِجَارَةَ وَالْأَمْنَ مِنْ عَذَابِك حَالَ كَوْنِنَا مُتَمَسِّكِينَ (بِحَبْلِ جِوَارِك) بِكَسْرِ الْجِيمِ أَيْ أَمَانِك (لَهُ) وَفِي كَلَامِهِ اسْتِعَارَةٌ؛ لِأَنَّ الْأَشْيَاءَ الْمُتَفَرِّقَةَ لَا يُجْمَعُ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ إلَّا بِالْحَبْلِ، وَبَيَانُ الِاسْتِعَارَةِ هُنَا أَنَّ الْعَبْدَ بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ بِإِسَاءَتِهِ مَحْجُوبٌ عَنْهُ فَلَا يَنْضَافُ إلَى رَحْمَتِهِ إلَّا بِحَبْلِ عَفْوِهِ وَفَضْلِهِ فَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ، فَإِضَافَةُ حَبْلٍ إلَى جِوَارٍ بَيَانِيَّةٌ. (إنَّك ذُو) أَيْ صَاحِبُ (وَفَاءٍ وَذِمَّةٍ) أَيْ عَهْدٍ، وَقَدْ وَعَدَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالْمَغْفِرَةِ. (اللَّهُمَّ قِه) أَيْ نَجِّهِ (مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ) بِأَنْ تُثَبِّتَهُ لِجَوَابِ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ فِي الْقَبْرِ، أَوْ تَجْعَلَهُ مِمَّنْ لَا يُسْأَلُ كَالشُّهَدَاءِ، وَأَمَّا ضَمَّةُ الْقَبْرِ فَلَا بُدَّ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَتْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الدَّرَجَاتِ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: لَوْ نَجَا أَحَدٌ مِنْهَا سِوَى الْأَنْبِيَاءِ لَنَجَى مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الَّذِي اهْتَزَّ الْعَرْشُ لِمَوْتِهِ وَحَضَرَ جِنَازَتَهُ سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ الْمَلَائِكَةِ. وَفِي الْحَدِيثِ «لَوْ أَفْلَتَ مِنْهَا أَحَدٌ لَأَفْلَتَ مِنْهَا هَذَا الصَّبِيُّ» وَأَمَّا الْأَنْبِيَاءُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: وَلَا يُعْلَمُ أَنَّ لِلْأَنْبِيَاءِ فِي قُبُورِهِمْ ضَمَّةً وَلَا سُؤَالٌ لِعِصْمَتِهِمْ. (وَ) قِه (مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُ) بِسَتْرِ ذُنُوبِهِ (وَارْحَمْهُ وَاعْفُ عَنْهُ وَعَافِهِ وَأَكْرِمْ نُزْلَهُ) بِسُكُونِ الزَّايِ أَيْ اُلْطُفْ بِهِ حِينَ وَضْعِهِ فِي قَبْرِهِ وَحِيدًا فَرِيدًا بِأَنْ تُرِيَهُ فِيهِ مَا يُؤْنِسُهُ،؛ لِأَنَّ النُّزُلَ يُطْلَقُ عَلَى حُلُولِهِ فِي قَبْرِهِ وَإِكْرَامِهِ فِيهِ بِرُؤْيَةِ مَا يَسُرُّهُ مِنْ الْعَمَلِ، وَيُطْلَقُ النُّزُلُ عَلَى مَا يُهَيَّأُ لِلنَّزِيلِ (وَوَسِّعْ مَدْخَلَهُ) أَيْ قَبْرَهُ فَهُوَ بِفَتْحِ الْمِيمِ (وَاغْسِلْهُ بِمَاءٍ وَثَلْجٍ وَبَرَدٍ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ وَالثَّلْجُ وَالْبَرَدُ مَاءَانِ مُنْعَقِدَانِ يَنْزِلَانِ مِنْ السَّمَاءِ ثُمَّ يَذُوبَانِ، وَالْمَعْنَى: اُمْحُ ذُنُوبَهُ وَلَا تُبْقِي مِنْهَا شَيْئًا بِقَرِينَةٍ. (وَنَقِّهِ مِنْ الذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا كَمَا يُنَقَّى الثَّوْبُ الْأَبْيَضُ) الْوَسِخُ (مِنْ الدَّنَسِ) وَإِنَّمَا مَثَّلَ بِالثَّوْبِ الْأَبْيَضِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَظْهَرُ فِيهِ أَثَرُ الْغَسْلِ، وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْمَخْلُوقِ وَإِلَّا فَقَدْ قَالَ الزَّنَاتِيُّ: اللَّهُ تَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ، وَلَوْلَا وُرُودُ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ مِنْ الشَّارِعِ لَمَا جَازَتْ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ الْمَعْنَى: حَتَّى يَصِيرَ فِي نَظَرِنَا كَالثَّوْبِ الْأَبْيَضِ الَّذِي نُشَاهِدُهُ خَالِصًا مِنْ كُلِّ مُنَافٍ لِلْبَيَاضِ وَهُوَ كِنَايَةٌ عَنْ الْخُلُوصِ مِنْ الذُّنُوبِ. (وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ) بِأَنْ تَجْعَلَ دَارِهِ الْجَنَّةَ (وَ) أَبْدِلْهُ (أَهْلًا) أَيْ قَرَابَةً فِي الْآخِرَةِ (خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ) فِي الدُّنْيَا (وَ) أَبْدِلْهُ (زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهِ) لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ زَوْجَتَهُ فِي الدُّنْيَا قَدْ تَكُونُ لَهُ فِي الْجَنَّةِ إذَا كَانَتْ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِثْلَهُ، وَإِلَّا عُوِّضَ خَيْرًا مِنْهَا، أَوْ كَانَتْ فِي الدُّنْيَا ذَاتَ أَزْوَاجٍ وَصَحَّتْ لِغَيْرِهِ فَيُبْدِلُهُ خَيْرًا مِنْهَا، أَوْ لَمْ يُزَوَّجْ فِي الدُّنْيَا فَيُعَوِّضُهُ خَيْرًا مِنْ الَّتِي كَانَ يُرِيدُ زَوَاجَهَا. (اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا) فِي الدُّنْيَا لِغَيْرِهِ (فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ) أَيْ فِي الْإِحْسَانِ إلَيْهِ فِي الْآخِرَةِ. (وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ اللَّهُمَّ إنَّهُ قَدْ نَزَلَ بِك) ضَيْفًا (وَأَنْتَ خَيْرُ) جَوَّادٍ (مَنْزُولٍ بِهِ) فَالضَّمِيرُ لَيْسَ لِلَّهِ (فَقِيرٌ إلَى رَحْمَتِك) حَالٌ مِنْ فَاعِلِ نَزَلَ (وَأَنْتَ غَنِيٌّ عَنْ عَذَابِهِ) لِاسْتِغْنَائِك عَنْ كُلِّ مَا سِوَاك. (اللَّهُمَّ ثَبِّتْ عِنْدَ الْمَسْأَلَةِ) أَيْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ (مَنْطِقَهُ وَلَا تَبْتَلِهِ فِي قَبْرِهِ بِمَا لَا طَاقَةَ لَهُ بِهِ اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ) أَيْ أَجْرَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَأَجْرَ مُصِيبَتِهِ؛ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مُصَابٌ فِي أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ (وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ) بِسَبَبِ مُصِيبَتِهِ (تَقُولُ هَذَا) الدُّعَاءَ وُجُوبًا (بِأَثَرِ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ) مِنْ التَّكْبِيرَاتِ الثَّلَاثِ الْأُوَلِ، وَأَمَّا الْحَمْدُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمَنْدُوبَانِ وَالْوَاجِبُ الدُّعَاءُ وَلَوْ فِي حَقِّ الْمَأْمُومِ كَمَا قَدَّمْنَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا وَلِوَالِدَيْنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَأَسْعِدْنَا بِلِقَائِك وَطَيِّبِنَا لِلْمَوْتِ وَطَيِّبِهِ لَنَا وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا ثُمَّ تُسَلِّمُ وَإِنْ كَانَتْ امْرَأَةً قُلْت اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا قَدْ تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ   [الفواكه الدواني] (وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ) وُجُوبًا عَلَى مَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِحَيِّنَا وَمَيِّتِنَا وَحَاضِرِنَا وَغَائِبِنَا وَصَغِيرِنَا وَكَبِيرِنَا وَذَكَرِنَا وَأُنْثَانَا إنَّك تَعْلَمُ مُنْقَلَبَنَا وَمَثْوَانَا وَ) اغْفِرْ (لِوَالِدِينَا) بِكَسْرِ الدَّالِ (وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ وَلِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ) مُوَاظِبًا (عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ) بِضَمِّ الْهَاءِ مِنْ تَوَفَّهُ وَبِكَسْرِهَا مِنْ أَحْيِهِ؛ لِأَنَّهُمَا مَبْنِيَّانِ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الْعِلَّةِ وَهِيَ الْيَاءُ مِنْ أَحْيِهِ وَالْأَلِفُ مِنْ تَوَفَّهُ. (عَلَى الْإِسْلَامِ) وَجَمَعَ بَيْنَهُمَا تَفَنُّنًا؛ لِأَنَّهُمَا مُتَلَازِمَانِ شَرْعًا أَوْ لِاتِّحَادِ مَا يُرَامُ مِنْهُمَا. قَالَ بَعْضُ الْعَارِفِينَ: مَنْ أَرَادَ أَنْ يَمُوتَ وَلِسَانُهُ رَطْبٌ بِذِكْرِ اللَّهِ فَيَلْزَمُ سِتَّةَ أَشْيَاءَ أَوْ سَبْعَةً، أَنْ يَقُولَ عِنْدَ ابْتِدَاءِ كُلِّ عَمَلٍ: بِسْمِ اللَّهِ، وَعِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَإِذَا اسْتَقْبَلَهُ مَكْرُوهٌ يَقُولُ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، وَإِذَا أَصَابَتْهُ مُصِيبَةٌ قَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، وَإِذَا عَزَمَ عَلَى فِعْلٍ أَوْ أَمْرٍ فِي غَدٍ قَالَ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، وَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا قَالَ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ. (وَ) تَقُولُ (أَسْعِدْنَا بِلِقَائِك) أَيْ بِدُخُولِ الْجَنَّةِ (وَطَيِّبِنَا لِلْمَوْتِ) بِأَنْ تُوَفِّقَنَا لِلتَّوْبَةِ النَّصُوحِ حَتَّى نَمُوتَ عَلَيْهَا. (وَطَيِّبْهُ لَنَا) بِأَنْ يَنْزِلَ بِنَا وَأَنْفُسُنَا رَاضِيَةٌ بِهِ. (وَاجْعَلْ فِيهِ رَاحَتَنَا وَمَسَرَّتَنَا) بِحَيْثُ تُوَسِّعُ لَنَا الْقَبْرَ وَتُنَعِّمُنَا فِيهِ وَتُدْخِلُنَا بَعْدَ خُرُوجِنَا مِنْهُ الْجَنَّةَ وَتَرْزُقُنَا فِيهَا النَّظَرَ إلَى وَجْهِك الْكَرِيمِ، وَلَا يُقَالُ: فِي هَذَا تَمَّنِي الْمَوْتِ وَهُوَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ لِضُرٍّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتْ الْحَيَاةُ خَيْرًا لِي، وَتَوَفَّنِي مَا كَانَتْ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي» ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَلْزَمُ مِنْ الدُّعَاءِ بِمَا ذُكِرَ التَّمَنِّي؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ حُصُولِهِ،؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الْمَوْتِ، عَلَى أَنَّ ابْنَ الْعَرَبِيِّ يُجَوِّزُ تَمَّنِي الْمَوْتِ إذَا بُشِّرَ بِالْجَنَّةِ لِلْخُرُوجِ مِنْ دَارِ الشَّقَاءِ إلَى دَارِ الرَّاحَةِ، أَوْ يَكُونُ الشَّخْصُ مُلَابِسًا لِلْمَعَاصِي وَلَا يُمْكِنُ احْتِرَازُهُ عَنْهَا أَوْ يَنْدَرِسُ الْحَقُّ وَيَنْتَشِرُ الْبَاطِلُ كَزَمَانِنَا هَذَا. (ثُمَّ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الدُّعَاءِ (تُسَلِّمُ) عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ تَسْلِيمَةً خَفِيفَةً؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ الْأَرْكَانِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ لِطُولِهِ، بَلْ الْعَمَلُ وَالْأَحْسَنُ مَا اسْتَحَبَّهُ مَالِكٌ مِنْ دُعَاءِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -؛ لِأَنَّهُ كَانَ يَتْبَعُ الْجِنَازَةَ مِنْ حَمْلِ أَهْلِهَا، فَإِذَا وُضِعَتْ كَبَّرَ وَحَمِدَ اللَّهَ وَصَلَّى عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك، كَانَ يَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ وَحْدَك لَا شَرِيكَ لَك وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُك وَرَسُولُك وَأَنْتَ أَعْلَمُ بِهِ، اللَّهُمَّ إنْ كَانَ مُحْسِنًا فَزِدْ فِي إحْسَانِهِ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَتَجَاوَزْ عَنْهُ، اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ. قَالَ مَالِكٌ: هَذَا أَحْسَنُ مَا سَمِعْته مِنْ الدُّعَاءِ عَلَى الْجِنَازَةِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ ابْتِدَاءَ الصَّلَاةِ بِالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ وَالْوَاجِبِ إنَّمَا هُوَ الدُّعَاءُ حَتَّى عَلَى الْمَأْمُومِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْمُسْتَحَبَّاتِ: وَابْتَدَأَ بِحَمْدٍ وَصَلَاةٍ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِسْرَارِ دُعَاءٍ. الثَّانِي: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ، وَحُكْمُهَا الْوُجُوبُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَعِنْدَ مَالِكٍ الْكَرَاهَةُ إلَّا إذَا قَصَدَ الْمُصَلِّي مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ فَيَأْتِي بِهَا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ حَتَّى تَصِحَّ الصَّلَاةُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ، وَالْعِبَادَةُ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهَا خَيْرٌ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَمِنْ الْوَرَعِ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ، وَمِنْ فَوَائِدِ الْمُرَاعَاةِ صِحَّةُ صَلَاةِ الشَّافِعِيِّ خَلْفَ الْمَالِكِيِّ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَقْرَأْ الْفَاتِحَةَ تَكُونُ الصَّلَاةُ بَاطِلَةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا يَصِحُّ اقْتِدَاؤُهُ بِالْمَالِكِيِّ فِيهَا، وَقَوْلُنَا بَعْدَ شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عِنْدَنَا كَوُجُوبِ الْفَاتِحَةِ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ فَلَا بُدَّ مِنْهُمَا حَتَّى تَصِحَّ الصَّلَاةُ عَلَى الْمَذْهَبَيْنِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ التَّذْكِيرِ فِي الدُّعَاءِ إذَا كَانَ الْمَيِّتُ ذَكَرًا. (وَإِنْ كَانَتْ) الْجِنَازَةُ (امْرَأَةً قُلْت) بَعْدَ الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (اللَّهُمَّ إنَّهَا أَمَتُك ثُمَّ تَتَمَادَى بِذِكْرِهَا عَلَى التَّأْنِيثِ) فَتَقُولُ: وَبِنْتُ أَمَتِك وَبِنْتُ عَبْدِك أَنْتَ خَلَقْتهَا وَرَزَقْتهَا إلَخْ (غَيْرَ أَنَّك لَا تَقُولُ وَأَبْدِلْهَا زَوْجًا خَيْرًا مِنْ زَوْجِهَا؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ زَوْجًا فِي الْجَنَّةِ لِزَوْجِهَا فِي الدُّنْيَا) وَعَبَّرَ بِقَدْ الدَّالَّةِ عَلَى التَّوَقُّعِ لِدُخُولِهَا عَلَى الْمُضَارِعِ؛ لِأَنَّ دُخُولَ الْجَنَّةِ مُتَوَقَّعٌ لِتَوَقُّفِهِ عَلَى الْمَوْتِ عَلَى الْإِيمَانِ وَهُوَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ تَزَوَّجَتْ بِمُتَعَدِّدِ فِي الدُّنْيَا لَدَخَلَهَا الْخِلَافُ الْمُقَرَّرِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِيمَنْ تَكُونُ لَهُ، إلَّا أَنْ تَمُوتَ فِي عِصْمَةِ وَاحِدٍ فَإِنَّهَا تَكُونُ لَهُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ إنْ كَانَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ. 1 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْتَغِينَ بِهِمْ بَدَلًا وَالرَّجُلُ قَدْ يَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ أَزْوَاجٌ وَلَا بَأْسَ أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ وَيَلِي الْإِمَامَ الرِّجَالُ إنْ كَانَ فِيهِمْ نِسَاءٌ وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَجُعِلَ مِنْ دُونِهِ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ إلَى الْقِبْلَةِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُجْعَلُوا صَفًّا وَاحِدًا وَيُقَرِّبُوا إلَى الْإِمَامِ   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا لَوْ لَمْ يُعْلَمْ الْمَيِّتُ هَلْ هُوَ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ يَنْوِيَ الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ حَضَرَ وَيَقْطَعَ النَّظَرَ عَنْ كَوْنِهِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، كَمَا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَعْلَمْ هَلْ هُوَ وَاحِدٌ أَوْ مُتَعَدِّدٌ يَنْوِي الصَّلَاةَ عَلَى مَنْ فِي هَذَا النَّعْشِ، وَيَتَمَادَى فِي الدُّعَاءِ عَلَى التَّذْكِيرِ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْرَادِ، وَيَجْمَعُ عِنْدَ اعْتِقَادِ الْجَمْعِ، وَيُفْرِدُ عِنْدَ الشَّكِّ عَلَى مَعْنَى مَنْ حَضَرَ فِي هَذَا النَّعْشِ؛ لِأَنَّ مَنْ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَعَلَى الْمُتَعَدِّدِ الْمُحَقَّقِ وَالْمُشْكِلِ فَتَقُولُ فِي الدُّعَاءِ عَلَى الْمُثَنَّى: اللَّهُمَّ إنَّهُمَا عَبْدَاك أَوْ أَمَتَاك، وَفِي الْجَمْعِ: اللَّهُمَّ إنَّهُمْ عَبِيدُك وَأَبْنَاءُ عَبِيدِك، وَفِي الْجَمْعِ الْمُؤَنَّثِ: اللَّهُمَّ إنَّهُنَّ إمَاؤُك وَبَنَاتُ إمَائِك وَبَنَاتُ عَبِيدِك، وَإِنْ اجْتَمَعَ مُذَكَّرٌ وَمُؤَنَّثٌ غَلَّبَ الْمُذَكَّرَ عَلَى الْمُؤَنَّثِ. 1 - الثَّانِي: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَنْ مَا لَوْ ظَنَّ الْإِمَامُ وَحِدَةَ الْجِنَازَةِ وَظَنَّ الْمَأْمُومُونَ التَّعَدُّدَ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ جَمَاعَةٌ عَلَى اعْتِقَادِ الْمَأْمُومِينَ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَا نَوَاهُ الْإِمَامُ غَيْرَ مُعَيَّنٍ أُعِيدَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا أُعِيدَتْ عَلَى مَنْ عَدَاهُ؛ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِمَا ظَنَّهُ الْإِمَامُ، وَلِذَلِكَ لَوْ اعْتَقَدَ الْإِمَامُ أَنَّ الَّذِي فِي النَّعْشِ جَمَاعَةٌ وَاعْتَقَدَ الْمَأْمُومُونَ أَنَّهُ مُنْفَرِدٌ وَتَبَيَّنَ مُطَابَقَةُ اعْتِقَادِ الْإِمَامِ صَحَّتْ الصَّلَاةُ وَلَا تُعَادُ، كَمَا لَا تُعَادُ إذَا ظَنَّ الْإِمَامُ أَوْ الْمُنْفَرِدُ أَنَّ مَنْ يُصَلَّى عَلَيْهِ جَمَاعَةٌ فَتَبَيَّنَ أَنَّهُمْ أَقَلُّ مِمَّا نَوَى، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِيمَا سَبَقَ مَا يُغْنِي عَنْ الْإِعَادَةِ فَرَاجِعْهُ. ثُمَّ أَكَّدَ تَعْلِيلَ النَّهْيِ السَّابِقِ بِقَوْلِهِ: (وَنِسَاءُ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ) أَيْ مَحْبُوسَاتٌ (عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَبْغِينَ) أَيْ لَا يَرْضِينَ (بِهِمْ بَدَلًا) ؛ لِأَنَّ الْجَنَّةَ لَا إكْرَاهَ فِيهَا وَلَا حُزْنَ، وَإِنَّمَا الْفَرَحُ وَالسُّرُورُ وَنَيْلُ مَا تَشْتَهِيه الْأَنْفُسُ، وَأَفْضَلُ خِصَالِ الْمَرْأَةِ حُبُّهَا لِزَوْجِهَا وَهِيَ صِفَةُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَلَا يَتَعَلَّقُ قَلْبُهَا فِيهَا بِغَيْرِ حُبِّ زَوْجِهَا، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ نِسَاءَ الْجَنَّةِ مَقْصُورَاتٌ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ كَانَ مَظِنَّةَ سُؤَالٍ تَقْدِيرُهُ: وَأَمَّا الرَّجُلُ فَهَلْ كَذَلِكَ؟ قَالَ فِي الْجَوَابِ: (وَالرَّجُلُ) لَيْسَ كَالْمَرْأَةِ فَإِنَّهُ (قَدْ يَكُونُ لَهُ زَوْجَاتٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَنَّةِ) زِيَادَةً عَلَى مَا كَانَ يَحِلُّ لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى هَذَا كَثْرَةُ النِّسَاءِ فِي الْجَنَّةِ عَلَى الرِّجَالِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِحَدِيثِ: «اطَّلَعْت عَلَى الْجَنَّةِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا الرِّجَالَ، وَاطَّلَعْت عَلَى النَّارِ فَرَأَيْت أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ» ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْأَزْوَاجِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَا يَشْمَلُ الْحُورَ الْعِينَ، وَلَا يَضُرُّ فِي هَذَا خَبَرُ أَبِي نُعَيْمٍ مِنْ أَنَّهُ يُزَوَّجُ كُلُّ رَجُلِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ أَرْبَعَةَ آلَافِ بِكْرٍ وَثَمَانِيَةَ آلَافِ أَيِّمٍ وَمِائَةَ حَوْرَاءَ لِإِمْكَانِ حَمْلِ كُلِّ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْكُلِّ الْمَجْمُوعِيِّ لَا الْجَمِيعِيِّ، وَإِنْ جُعِلَتْ قَدْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّقْلِيلِ فَلَا يَتَأَتَّى الْإِشْكَالُ. (وَلَا يَكُونُ لِلْمَرْأَةِ) (فِي الْجَنَّةِ أَزْوَاجٌ) بَلْ وَلَا اثْنَانِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا مَا يَنْفِرُ مِنْهُ الطَّبْعُ لَا لِحُرْمَةِ ذَلِكَ لِانْقِطَاعِ التَّكْلِيفِ بِالْمَوْتِ، وَلِذَلِكَ لَا يَتَزَوَّجُ الْإِنْسَانُ بِنَحْوِ أُمِّهِ وَأُخْتِهِ لِكَرَاهَةِ النَّفْسِ ذَلِكَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ عِنْدَ تَعَدُّدِ الْأَمْوَاتِ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الْجَمِيعِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يُسْتَحَبُّ عَلَى الْمَشْهُورِ (أَنْ تُجْمَعَ الْجَنَائِزُ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ) لِفِعْلِ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَقَدْ مَاتَتْ أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ زَوْجُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَوَلَدُهَا زَيْدُ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ فِي فَوْرٍ وَاحِدٍ، وَصُلِّيَ عَلَيْهِمَا صَلَاةً وَاحِدَةً، وَكَانَ الْمُوَالِي لِلْإِمَامِ زَيْدٌ وَالْمُتَوَلِّي لِلصَّلَاةِ إمَامًا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ وَهُوَ أَخُو زَيْدٍ لِأَبِيهِ، وَكَانَ هُنَاكَ الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ وَهُمْ أَخَوَا أُمِّ كُلْثُومٍ وَلَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ مِنْهُمَا، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْأَوْلَى بِالْإِمَامَةِ وَلِيُّ الذَّكَرِ، هَكَذَا قَالَ بَعْدَ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي يَلِي الْإِمَامَةَ الْأَفْضَلُ وَلَوْ كَانَ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَأَفْضَلُ وَلِيٍّ وَلَوْ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ، قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَبَالَغَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِتَقْدِيمِ وَلِيِّ الرَّجُلِ عَلَى وَلِيِّ الْمَرْأَةِ وَلَوْ مَفْضُولًا، مُتَمَسِّكًا بِقَضِيَّةِ أُمِّ كُلْثُومٍ وَوَلَدِهَا زَيْدٍ لَمَّا مَاتَا وَصَلَّى وَلِيُّ زَيْدٍ إمَامًا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَلَا حُجَّةَ بِتِلْكَ الْقَضِيَّةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّ الْحُسَيْنَ إنَّمَا قَدَّمَ ابْنَ عُمَرَ لِسِنِّهِ وَلِإِقْرَارِهِ بِفَضْلِهِ لَا؛ لِأَنَّهُ أَحَقُّ قَالَهُ الْمَوَّاقُ، وَلَمَّا قَدَّمَ هُوَ الْأَفْضَلَ جَمْعَ الْجَنَائِزِ فِي الصَّلَاةِ ذَكَرَ هُنَا كَيْفِيَّةَ وَضْعِهِمْ أَمَامَ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يُنْدَبُ أَنْ (يَلِيَ الْإِمَامَ) فِي حَالِ الصَّلَاةِ (لِرِجَالٍ) فَاعِلُ يَلِي وَظَاهِرُهُ غَيْرُ صَالِحِينَ (إنْ كَانَ فِيهِمْ) أَيْ الْجَنَائِزِ (نِسَاءٌ وَإِنْ كَانُوا رِجَالًا) وَنِسَاءً وَمَعَهُمْ أَطْفَالٌ (جُعِلَ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْإِمَامَ وَجُعِلَ مَنْ دُونَهُ) فِي الْفَضْلِ مِنْ (النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ) الْفَاضِلُ مُتَرَتِّبِينَ صَفًّا وَاحِدًا (إلَى الْقِبْلَةِ) بِحَيْثُ يَصِيرُ الْجَمِيعُ أَمَامَ الْإِمَامِ، يَلِي الْإِمَامَ الرَّجُلُ، وَالطِّفْلُ خَلْفَهُ، وَالْمَرْأَةُ خَلْفَ الْجَمِيعِ. قَالَ خَلِيلٌ: يَلِي الْإِمَامَ رَجُلٌ فَطِفْلٌ فَعَبْدٌ فَخَصِيٌّ فَخُنْثَى كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى كَيْفِيَّةٍ أُخْرَى بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَجْعَلُوا صَفًّا وَاحِدًا) مُمْتَدًّا مِنْ الشَّرْقِ إلَى الْغَرْبِ. (وَيُقَرَّبُ إلَى الْإِمَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أَفْضَلَهُمْ وَأَمَّا دَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ فَيُجْعَلُ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ وَمَنْ دُفِنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَوُرِيَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ قَدْ صُلِّيَ عَلَيْهِ وَيُصَلَّى عَلَى أَكْثَرِ الْجَسَدِ وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ.   [الفواكه الدواني] أَفْضَلُهُمْ) وَعَنْ يَمِينِهِ مَنْ يَلِيه فِي الْفَضْلِ، وَعَنْ يَسَارِهِ مَنْ يَلِيه رَجُلًا الْمَفْضُولُ عِنْدَ رَأْسِ الْفَاضِلِ، وَمَنْ دُونَهُمَا فِي الْفَضْلِ كَذَلِكَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الشَّيْخِ التَّخْيِيرُ بَيْنَ جَعْلِ الْجَنَائِزِ صَفًّا مِنْ الْإِمَامِ إلَى الْقِبْلَةِ أَوْ صَفًّا مِنْ الْمَشْرِقِ، إلَى الْمَغْرِبِ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ مِنْ رِوَايَةِ أَشْهَبَ وَغَيْرِهِ، وَقِيلَ: الْأَفْضَلُ الصِّفَةُ الْأُولَى وَقَالَهَا مَالِكٌ أَيْضًا، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَرْجِيحُ الصِّفَةِ الْأُولَى لِتَقْدِيمِهِ لَهَا؛ وَلِقَوْلِهِ فِي الثَّانِيَةِ: وَلَا بَأْسَ الْمُشْعِرَةُ غَالِبًا بِالتَّمْرِيضِ. (تَنْبِيهٌ) : هَذَا إذَا كَانَتْ الْجَنَائِزُ صِنْفًا وَاحِدًا، فَإِنْ تَفَاوَتُوا فِي الْخِصَالِ الْحَمِيدَةِ يَلِي الْإِمَامَ الْأَعْلَمُ ثُمَّ الْأَفْضَلُ ثُمَّ الْأَسَنُّ، وَقَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: وَيُقَدَّمُ بِالْخِصَالِ الدِّينِيَّةِ الَّتِي تُرَغِّبُ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ تَسَاوَوْا فِي الْفَضْلِ رُجِّحَ بِالسِّنِّ، فَإِنْ تَسَاوَوْا أُقْرِعَ بَيْنَهُمْ، إلَّا أَنْ تَتَرَاضَى الْأَوْلِيَاءُ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْقَرَارِيطَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِمْ، وَانْظُرْ هَلْ تَتَفَاوَتُ بِتَفَاوُتِهِمْ فِي الْفَضْلِ أَمْ لَا؟ وَيَظْهَرُ التَّفَاوُتُ وَحَرِّرْهُ. [دَفْنُ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ] (وَأَمَّا) كَيْفِيَّةُ (دَفْنِ الْجَمَاعَةِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ) عِنْدَ الضَّرُورَةِ الْحَامِلَةِ عَلَى ذَلِكَ كَضِيقِ الْمَحَلِّ أَوْ عَدَمِ الْحَافِرِ. (فَيُجْعَلُ أَفْضَلُهُمْ مِمَّا يَلِي الْقِبْلَةَ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَجَمْعُ أَمْوَاتٍ بِقَبْرٍ لِضَرُورَةٍ وَوَلَّى الْقِبْلَةَ الْأَفْضَلَ، وَأَمَّا جَمْعُهُمْ فِي قَبْرٍ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَمَكْرُوهٌ وَإِنْ كَانُوا مَحَارِمَ، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ نَدْبُ جَعْلِ شَيْءٍ مِنْ التُّرَابِ بَيْنَهُمْ، وَقَالَ أَشْهَبُ: يَكْفِي الْكَفَنُ، وَكَمَا يَجُوزُ جَمْعُ الْأَمْوَاتِ فِي الْقَبْرِ لِلضَّرُورَةِ وَلَوْ أَجَانِبَ، يَجُوزُ جَمْعُهُمْ فِي كَفَنٍ لِلضَّرُورَةِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ ثُمَّ يَقُولُ: أَيُّهُمَا كَانَ أَكْثَرَ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ؟ فَإِذَا أُشِير إلَى وَاحِدٍ قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ» . (تَنْبِيهٌ) : مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ جَوَازِ جَمْعِ الْأَمْوَاتِ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ لِلضَّرُورَةِ وَيُكْرَهُ لِغَيْرِهَا مَحَلُّهُ إذَا كَانَ حَصَلَ دَفْنُهُمْ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَأَمَّا لَوْ أَرَدْنَا دَفْنَ مَيِّتٍ عَلَى آخَرَ بَعْدَ تَمَامِ دَفْنِهِ فَيَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْقَبْرَ حَبْسٌ. لَا يُمْشَى عَلَيْهِ وَلَا يُنْبَشُ مَا دَامَ بِهِ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَلَا يَحْرُمُ. [مَنْ دُفِنَ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ] (وَمَنْ دُفِنَ) بَعْدَ الْغُسْلِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ وَوُرِيَ فَإِنَّهُ يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرٍ إلَّا أَنْ يُدْفَنَ بِغَيْرِهَا فَيُصَلِّي عَلَى الْقَبْرِ ظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ عَدَمُ الصَّلَاةِ عَمْدًا، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ مُجَرَّدَ تَمَامِ الدَّفْنِ مُجَوِّزٌ لِلصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ إخْرَاجُهُ وَلَوْ تَمَّ دَفْنُهُ إلَّا أَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَالْفَوَاتُ يَمْنَعُ إخْرَاجَ الْمَيِّتِ مِنْ قَبْرِهِ لِلصَّلَاةِ عَلَيْهِ خَشْيَةَ تَغَيُّرِهِ، قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَسَحْنُونٌ وَعِيسَى، وَمَحَلُّ طَلَبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْقَبْرِ عِنْدَ خَشْيَةِ تَغَيُّرِهِ إذَا ظُنَّ بَقَاؤُهُ أَوْ شُكَّ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ تُيُقِّنَ ذَهَابُهُ وَلَوْ بِأَكْلِ سَبُعٍ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَقَوْلُنَا بَعْدَ الْغُسْلِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ دُفِنَ قَبْلَ غُسْلِهِ فَإِنَّهُ لَا يُصَلَّى عَلَى قَبْرِهِ وَيَجِبُ إخْرَاجُهُ لِلْغُسْلِ إلَّا أَنْ يُخْشَى تَغَيُّرُهُ فَيَسْقُطَانِ لِتَلَازُمِهِمَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ أَنَّ الْمَدْفُونَ مِنْ غَيْرِ غُسْلٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ صَلَاةٍ يُخْرَجُ مَا لَمْ يُخَفْ تَغَيُّرُهُ. (وَلَا يُصَلَّى) عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (عَلَى مَنْ قَدْ صَلَّى عَلَيْهِ) جَمَاعَةٌ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تُكَرَّرُ وَأَمَّا لَوْ صَلَّى عَلَيْهِ مُنْفَرِدٌ لَنُدِبَ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ عَلَيْهِ (وَ) مَنْ ذَهَبَ بَعْضُهُ يَجِبُ أَنْ (يُصَلَّى عَلَى أَكْثَرِ الْجَسَدِ) مِنْهُ كَالثُّلُثَيْنِ بَعْدَ تَغْسِيلِهِ وَتَكْفِينِهِ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ لِلْأَكْثَرِ وَيَنْوِي الْمُصَلِّي الصَّلَاةَ عَلَى الْجَمِيعِ. (وَاخْتُلِفَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى مِثْلِ الْيَدِ وَالرِّجْلِ) وَأَمَّا دُونَ الْجُلِّ وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ الصَّلَاةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا مَا دُونَ الْجُلِّ وَلَوْ كَانَ مَعَهُ الرَّأْسُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَإِنَّمَا لَمْ يُصَلَّ عَلَى مَا دُونَ الثُّلُثَيْنِ لِأَدَائِهِ إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَأَصْحَابِهِ، وَاغْتُفِرَ غَيْبَةُ الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ تَبَعٌ، وَبِهَذَا التَّوْجِيهِ انْدَفَعَ اسْتِشْكَالُ التُّونُسِيِّ بِأَنَّ عَدَمَ الصَّلَاةِ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ يُؤَدِّي إلَى عَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَوَجْهُ الدَّفْعِ أَنَّ الصَّلَاةَ عَلَى مَا دُونَ الْجُلِّ تُؤَدِّي إلَى الصَّلَاةِ عَلَى الْغَائِبِ وَهِيَ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَالصَّلَاةُ قِيلَ إنَّهَا سُنَّةٌ وَلَا يُرْتَكَبُ غَيْرُ الْجَائِزِ لِسُنَّةٍ، وَبَحَثَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي ذَلِكَ قَائِلًا: إنَّمَا يَتِمُّ هَذَا الْكَلَامُ إذَا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى الْغَائِبِ مُحَرَّمَةً، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَتِهَا فَلَا كَيْفَ، وَقَدْ قِيلَ بِوُجُوبِ الصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، فَلَعَلَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَتِهَا وَفِيهِ شَيْءٌ لِاحْتِجَاجِ الْمُخَالِفِ بِصَلَاةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى النَّجَاشِيِّ وَهُوَ غَائِبٌ عَنْهُ، وَأَجَابَ عَنْهُ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا بِأَنَّ هَذَا مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ أَنَّ الْأَرْضَ رَفَعَتْهُ لَهُ وَرَآهُ وَنَعَاهُ لِأَصْحَابِهِ فَأَمَّهُمْ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُوَارَى، وَيَدُلُّ عَلَى الْخُصُوصِيَّةِ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْهُ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ وَلَا صَلَّى أَحَدٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ وُورِيَ، الْحَالُ أَنَّ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْظَمَ رَغْبَةً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بَابٌ فِي الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ وَالصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ تُثْنِي عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ تَقُولُ اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك وَابْنُ أَمَتِك أَنْتَ خَلَقْته وَرَزَقْته وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيه اللَّهُمَّ فَاجْعَلْهُ لِوَالِدَيْهِ سَلَفًا وَذُخْرًا وَفَرَطًا وَأَجْرًا وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمْ وَأَعْظِمْ بِهِ أُجُورَهُمْ وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمْ أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمْ بَعْدَهُ اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ إبْرَاهِيمَ وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ وَمِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ تَقُولُ ذَلِكَ فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ وَتَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِيمَانِ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الدُّعَاء لِلطِّفْلِ وَالصَّلَاة عَلَيْهِ وَغَسَلَهُ] (بَابٌ فِي) صِفَةِ (الدُّعَاءِ لِلطِّفْلِ) وَهُوَ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ. (وَ) فِي حُكْمِ (الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَغُسْلِهِ) وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ عَمَّا قَبْلَهُ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ بِعَدَمِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهَا شَفَاعَةٌ وَهُوَ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إلَيْهَا، وَرَدَّ كَلَامَهُ بِأَنَّ الشَّفَاعَةَ قَدْ تَكُونُ لِمَحْضِ رَفْعِ دَرَجَاتٍ فَلَا تَتَقَيَّدُ بِالْمُذْنِبِينَ وَصِفَتُهَا أَنْ (تُثْنِيَ عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) بِأَنْ تَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَدْبًا (وَتُصَلِّي عَلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) كَذَلِكَ (ثُمَّ) بَعْدَهُمَا (تَقُولُ اللَّهُمَّ إنَّهُ عَبْدُك وَابْنُ عَبْدِك) وَفِي نُسْخَةٍ بِالتَّثْنِيَةِ، وَقِيلَ تَقُولُ فِي وَلَدِ الزِّنَا (وَابْنُ أَمَتِك) بَدَلٌ، وَابْنُ عَبْدِك (أَنْتَ خَلَقْته وَرَزَقْته) وَلَوْ مَاتَ بَعْدَ الِاسْتِهْلَالِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ رَزَقَهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ. (وَأَنْتَ أَمَتَّهُ وَأَنْتَ تُحْيِيه) فِي الْآخِرَةِ (اللَّهُمَّ فَاجْعَلْهُ لِوَالِدِيهِ) بِكَسْرِ الدَّالِ (سَلَفًا) أَيْ مُقَدَّمًا بَيْنَ أَيْدِيهمْ (وَذُخْرًا) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي الْآخِرَةِ بِخِلَافِهِ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ فَإِنَّهُ فِي الدُّنْيَا وَقِيلَ بِالْإِهْمَالِ مُطْلَقًا. (وَفَرَطًا) ذَكَرَهُ تَأْكِيدًا لِسَلَفًا لِمُرَادَفَتِهِ لَهُ قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ» أَيْ مُتَقَدِّمُكُمْ. (وَأَجْرًا) أَيْ جَزَاءً عَظِيمًا لِمَا رُوِيَ فِي الْخَبَرِ: «لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ ثَلَاثَةٌ مِنْ الْوَلَدِ فَيَحْتَسِبُهُمْ إلَّا كَانُوا لَهُ جُنَّةً مِنْ النَّارِ، قَالَتْ امْرَأَةٌ: وَاثْنَانِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: وَاثْنَانِ وَوَرَدَ: لَمْ تَمَسَّهُ النَّارُ إلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ» وَهَذَا مَعَ الصَّبْرِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى، وَفِي الصَّبْرِ عَلَى الْمُصِيبَةِ مِنْ الثَّوَابِ مَا لَيْسَ فِي الصَّبْرِ عَلَى الطَّاعَةِ. (وَثَقِّلْ بِهِ مَوَازِينَهُمْ وَأَعْظِمْ) بِكَسْرِ الظَّاءِ الْمُشَالَةِ أَيْ أَكْثِرْ (بِهِ أُجُورَهُمْ وَلَا تَحْرِمْنَا وَإِيَّاهُمْ أَجْرَهُ) أَيْ أَجْرَ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ أَوْ أَجْرَ الْمُصِيبَةِ. (وَلَا تَفْتِنَّا وَإِيَّاهُمْ بَعْدَهُ) قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ الدُّعَاءَ وَلَوْ كَانَ الْمُصَلِّي أَبًا أَوْ أُمًّا لِلطِّفْلِ؛ لِأَنَّ هَذَا الدُّعَاءَ هُوَ الْمَأْثُورُ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي أَذَانِهِ: «أَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» وَأَمَّا قَوْلُهُ: فَاجْعَلْهُ لِوَالِدِيهِ سَلَفًا يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِالْمُسْلِمِ الْأَصْلِيِّ، وَأَمَّا مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَوْلَادِ الْكُفَّارِ أَوْ حُكِمَ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِلسَّابِي فَلَا يَقُولُ ذَلِكَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا أَجْرَهُ وَلَا تَفْتِنَّا بَعْدَهُ وَيَسْقُطُ وَإِيَّاهُمْ. (اللَّهُمَّ أَلْحِقْهُ بِصَالِحِ سَلَفِ) أَوْلَادِ (الْمُؤْمِنِينَ فِي كَفَالَةِ) أَيْ حَضَانَةِ أَبِينَا (إبْرَاهِيمَ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْجَنَّةِ، وَذَلِكَ «؛ لِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ شَيْخًا فِي السَّمَاءِ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ وَحَوْلَهُ صِبْيَانُ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِجِبْرِيلَ: مَنْ هَذَا؟ فَقَالَ: أَبُوك إبْرَاهِيمُ وَهَؤُلَاءِ أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ» . وَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْجَنَّةَ فِي السَّمَاءِ، وَالتَّقْيِيدُ بِأَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهُمْ فِي كَفَالَتِهِ أَيْضًا بِنَاءً عَلَى دُخُولِ أَوْلَادِ غَيْرِهِمْ الْجَنَّةَ. (وَأَبْدِلْهُ دَارًا خَيْرًا مِنْ دَارِهِ وَأَهْلًا خَيْرًا مِنْ أَهْلِهِ) بِأَنْ تَجْعَلَهُ مُجَاوِرًا لِنَحْوِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ (وَعَافِهِ مِنْ فِتْنَةِ الْقَبْرِ) وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الْأَطْفَالَ تُسْأَلُ فِي الْقَبْرِ. (وَ) عَافِهِ (مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ) وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَطْفَالَ تَحْتَ الْمَشِيئَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، بَلْ أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ وُجُودَ الْخِلَافِ مِنْ كَوْنِهِمْ فِي الْجَنَّةِ، وَالْأَوْلَى فِي تَوْجِيهِ الدُّعَاءِ بِالْمُعَافَاةِ مِنْ الْفِتْنَةِ وَمَا بَعْدَهَا مَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ تَعَالَى لَهُ تَعْذِيبُ الطَّائِعِ. (تَقُولُ ذَلِكَ) الدُّعَاءَ (فِي كُلِّ تَكْبِيرَةٍ) أَيْ بَعْدَ كُلِّ تَكْبِيرَةٍ حَتَّى الرَّابِعَةَ. (وَ) قِيلَ (تَقُولُ بَعْدَ الرَّابِعَةِ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يَدْعُو بَعْدَهَا: (اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَسْلَافِنَا وَأَفْرَاطِنَا وَلِمَنْ سَبَقَنَا بِالْإِيمَانِ اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْته مِنَّا فَأَحْيِهِ) بِكَسْرِ الْهَاءِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ تُسَلِّمُ وَلَا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَلَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَنَ السِّقْطُ فِي الدُّورِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُغَسِّلَ النِّسَاءُ الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ ابْنَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٍ وَلَا يُغَسِّلُ الرَّجُلُ الصَّبِيَّةَ وَاخْتُلِفَ فِيهَا إنْ كَانَتْ لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُشْتَهَى وَالْأَوَّلُ أَحَبُّ إلَيْنَا.   [الفواكه الدواني] (عَلَى الْإِيمَانِ) الْكَامِلِ (وَمَنْ تَوَفَّيْته مِنَّا فَتَوَفَّهُ) بِضَمِّ الْهَاءِ (عَلَى الْإِسْلَامِ) وَهُوَ السَّعَادَةُ الْعُظْمَى. (وَاغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ الْأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالْأَمْوَاتِ ثُمَّ تُسَلِّمُ) تَسْلِيمَةً خَفِيفَةً وَيُسْمِعُ الْإِمَامُ جَمِيعَ مَنْ يَلِيه، وَهَذَا الدُّعَاءُ اخْتَارَهُ الْمُصَنِّفُ لِمَا قِيلَ أَنَّ بَعْضَهُ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَبَعْضَهُ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ بَلْ الْأَفْضَلُ دُعَاءُ أَبِي هُرَيْرَةَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِنْ كَانَ يَكْفِي مُطْلَقُ دُعَاءٍ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِيمَا سَبَقَ، بَلْ لَوْ قَالَ: اللَّهُمَّ اُعْفُ عَنْهُ كَفَى وَإِنْ صَغِيرًا. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ اجْتِمَاعِ كِبَارٍ وَأَطْفَالٍ، وَالْمَطْلُوبُ تَقْدِيمُ الدُّعَاءِ لِلْكِبَارِ عَلَى الْأَطْفَالِ أَوْ يَجْمَعُهُمْ فِي دُعَاءٍ وَاحِدٍ، وَيَقُولُ عَقِبَ ذَلِكَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْأَوْلَادَ سَلَفًا لِوَالِدِيهِمْ وَفَرَطًا وَأَجْرًا، وَهَكَذَا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَوْ جَمَعَ الْجَمِيعَ فِي دُعَاءٍ أَجْزَأَ، كَمَا لَوْ جَهِلَ كَوْنَ الْمَيِّتِ كَبِيرًا أَوْ طِفْلًا فَيَدْعُو بِنَحْوِ دُعَاءِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَغَيْرِهِ. (وَلَا يُصَلَّى) عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا) بِأَنْ نَزَلَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَلَا سِقْطٍ لَمْ يَسْتَهِلَّ وَلَا تَحَرَّكَ أَوْ عَطَسَ أَوْ بَالَ أَوْ رَضَعَ إلَّا أَنْ تَتَحَقَّقَ الْحَيَاةُ وَغُسِلَ دَمُهُ وَلُفَّ بِخِرْقَةٍ وَوُرِيَ، وَحُكْمُ غَسْلِ الدَّمِ النَّدْبُ، وَحُكْمُ الْمُوَارَاةِ وَاللَّفِّ بِخِرْقَةٍ الْوُجُوبُ، وَلَا يُسْأَلُ وَلَا يُبْعَثُ وَلَا يُشَفَّعُ إنْ لَمْ تُنْفَخْ فِيهِ الرُّوحُ. (وَ) كَمَا لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ لِعَدَمِ اسْتِهْلَالِهِ (لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ) ؛ لِأَنَّ شَرْطَ الْإِرْثِ تَحَقُّقُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَ مَوْتِ مُوَرِّثِهِ وَاسْتِهْلَالِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إلَّا الْغُرَّةَ فَتُورَثُ عَنْهُ وَإِنْ نَزَلَ عَلَقَةً أَوْ مُضْغَةً؛ لِأَنَّهَا مَأْخُوذَةٌ عَنْ ذَاتِهِ، وَالشَّرْطُ لِمَا يُورَثُ عَنْهُ مِمَّا فِي يَدِهِ (وَيُكْرَهُ أَنْ يُدْفَنَ السِّقْطُ فِي الدُّورِ) وَحَقِيقَتُهُ مَنْ لَمْ يَسْتَهِلَّ صَارِخًا وَهُوَ مُثَلَّثُ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ دَفْنُهُ فِي الدُّورِ خَوْفَ امْتِهَانِهِ عِنْدَ سُقُوطِ الْحَائِطِ، وَإِنْ اشْتَرَى شَخْصٌ دَارًا فَوَجَدَ فِيهَا قَبْرَ سِقْطٍ لَا خِيَارَ لَهُ؛ لِأَنَّ قَبْرَهُ لَيْسَ حَبْسًا بِخِلَافِ قَبْرِ الْمُسْتَهِلِّ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْكَبِيرِ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قَبْرُ غَيْرِ السِّقْطِ حَبْسٌ عَلَى الدَّفْنِ بِمُجَرَّدِ وَضْعِ الْمَيِّتِ فِيهِ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ شُرُوطِ الْمُبَاشِرِ لِلتَّغْسِيلِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يَجُوزُ (أَنْ يُغَسِّلَ النِّسَاءُ) الْأَجَانِبُ (الصَّبِيَّ الصَّغِيرَ ابْنَ سِتِّ سِنِينَ أَوْ سَبْعٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ غُسْلُ امْرَأَةٍ ابْنَ سَبْعٍ. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَابْنَ ثَمَانٍ، وَرَوَى ابْنَ وَهْبٍ: وَابْنَ تِسْعٍ وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الرِّجَالِ، وَلَا تُكَلَّفُ الْغَاسِلَةُ بِسَتْرِ عَوْرَتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ نَظَرُهُنَّ إلَى بَدَنِهِ حَيْثُ لَمْ يُنَاهِزْ الْحُلُمَ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَالْمُنَاهِزُ كَكَبِيرٍ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا دُونَ الْمُنَاهِزِ لِلْحُلُمِ لَهَا نَظَرُ عَوْرَتِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْظُرَ مِنْهَا مَا بَيْنَ سُرَّتِهَا وَرُكْبَتِهَا وَهُوَ يَصْدُقُ بِابْنِ عَشَرٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُنَاهِزٍ، وَجَوَازُ النَّظَرِ لَا يُنَافِي حُرْمَةَ التَّغْسِيلِ؛ لِأَنَّ التَّغْسِيلَ فِيهِ جَسٌّ فَهُوَ أَخَصُّ مِنْ النَّظَرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ سَبْعٍ أَوْ ثَمَانٍ تَنْظُرُ الْمَرْأَةُ عَوْرَتَهُ وَتُغَسِّلُهُ، وَقَيَّدْنَا النِّسَاءَ بِالْأَجَانِبِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمَرْأَةِ الْمَحْرَمِ، فَإِنَّ لَهَا تَغْسِيلَ الرَّجُلِ مِنْ مَحَارِمِهَا إنْ لَمْ يُوجَدْ رَجُلٌ يُغَسِّلُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ أَقْرَبُ أَوْلِيَائِهِ ثُمَّ أَجْنَبِيٌّ ثُمَّ امْرَأَةٌ مَحْرَمٌ، وَهَلْ تَسْتُرُهُ أَوْ عَوْرَتَهُ تَأْوِيلَانِ، ثُمَّ يُيَمَّمُ لِمِرْفَقَيْهِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي تَغْسِيلِ الذَّكَرِ لِلْأُنْثَى بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُغَسِّلُ الرِّجَالُ الصَّبِيَّةَ) الَّتِي بَلَغَتْ حَدَّ الشَّهْوَةِ كَبِنْتِ سِتٍّ أَوْ سَبْعٍ لِحُرْمَةِ نَظَرِهِمْ لَهَا بِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ، وَأَمَّا الرَّضِيعَةُ وَمَا قَارَبَهَا مِمَّنْ لَا تَمِيلُ لَهَا النَّفْسُ فَيَجُوزُ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَرَجُلٌ كَرَضِيعَةٍ. (وَاخْتُلِفَ فِيهَا) أَيْ الصَّبِيَّةِ (إنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَمْ تَبْلُغْ أَنْ تُشْتَهَى) كَبِنْتِ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ فَقِيلَ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ تَغْسِيلُهَا وَقِيلَ يَجُوزُ (وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ حُرْمَةُ تَغْسِيلِهَا (أَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ أَصْحَابِ الْإِمَامِ كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَحَبُّ لِلْوُجُوبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّضِيعَةَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ تَغْسِيلُهَا، وَاَلَّتِي بَلَغَتْ أَنْ تُشْتَهَى يَحْرُمُ عَلَيْهِ تَغْسِيلُهَا، وَالْخِلَافُ فِيمَا فَوْقَ الرَّضِيعَةِ، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، الْمَنْعُ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ كَانَ الرَّجُلُ مَحْرَمًا لِلصَّبِيَّةِ أَمْ لَا وَهُوَ قَوْلُ بَعْضِ الشُّيُوخِ، وَقِيلَ: إنَّمَا هَذَا فِي الرِّجَالِ الْأَجَانِبِ، وَأَمَّا الرِّجَالُ الْمَحْرَمُ فَلَهُ تَغْسِيلُ الْمَرْأَةِ مِنْ مَحَارِمِهِ إنْ لَمْ تُوجَدْ امْرَأَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَرْأَةُ أَقْرَبُ امْرَأَةٍ ثُمَّ أَجْنَبِيَّةٌ ثُمَّ مَحْرَمٌ فَوْقَ ثَوْبٍ يُمِّمَتْ لِكُوعَيْهَا. 1 - (خَاتِمَةٌ) لَوْ مَاتَتْ امْرَأَةٌ وَجَنِينُهَا يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهَا فَإِنْ أَمْكَنَ إخْرَاجُهُ مِنْ مَحِلِّهِ فُعِلَ اتِّفَاقًا وَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ فَلَا تُدْفَنُ مَا دَامَ حَيًّا، وَاخْتُلِفَ هَلْ تُبْقَرُ بَطْنُهَا لِإِخْرَاجِهِ حَيْثُ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا؟ وَهُوَ قَوْلُ سَحْنُونٍ وَعُزِيَ لِأَشْهَبَ أَيْضًا، وَقِيلَ: لَا تُبْقَرُ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَوَقَعَتْ فِي زَمَنِهِمَا وَسُئِلَا عَنْهَا فَأَفْتَى أَشْهَبُ بِالْبَقْرِ، وَافَتَى ابْنُ الْقَاسِمِ بِعَدَمِهِ، فَعَمِلُوا فِيهَا بِكَلَامِ أَشْهَبَ فَخَرَجَ الْجَنِينُ حَيًّا وَكَبُرَ وَصَارَ عَالِمًا يُعَلِّمُ الْعِلْمَ وَيَتَّبِعُ قَوْلَ أَشْهَبَ وَيَدَعُ قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ ابْتَلَعَ مَالًا وَلَوْ مَمْلُوكًا لَهُ فَإِنَّ بَطْنَهُ تُبْقَرُ حَيْثُ كَانَ بَال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لَهُ، قَالَ خَلِيلٌ: وَبَقْرٌ عَنْ مَالٍ كَثُرَ وَلَوْ بِشَاهِدٍ لَا عَنْ جَنِينٍ، وَتُؤُوِّلَتْ أَيْضًا عَلَى الْبَقْرِ إنْ رُجِيَ وَإِنْ قُدِرَ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ مَحَلٍّ فُعِلَ، وَمِثْلُ الْمَالِ الْجَوَاهِرُ النَّفِيسَةُ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى الْحَيَوَانُ الْبَهِيمِيُّ يَمُوتُ بِلَا ذَكَاةٍ وَوَلَدُهُ يَضْطَرِبُ فِي بَطْنِهِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ بَقْرِ بَطْنِ أُمِّهِ حَيْثُ رُجِيَ خُرُوجُهُ حَيًّا، وَانْظُرْ كَيْفَ تُبْقَرُ بَطْنُ الْمَيِّتِ لِإِخْرَاجِ الْمَالِ إنْفَاقًا وَيُخْتَلَفُ فِي بَقْرِهَا لِإِخْرَاجِ الْجَنِينِ مَعَ عَظَمَةِ النَّفْسِ وَشَرَفِهَا عَلَى الْمَالِ، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ ذَلِكَ بِمَا فِيهِ لُيُونَةٌ بِأَنَّ نَفْعَ الْمَالِ مُحَقَّقٌ دُونَ الْجَنِينِ لِاحْتِمَالِ مَوْتِهِ عِنْدَ خُرُوجِهِ أَوْ بَعْدَهُ بِسُرْعَةٍ مَعَ أَذِيَّةِ الْأُمِّ بِبَقْرِ بَطْنِهَا وَيُؤْذِي الْمَيِّتَ مَا يُؤْذِي الْحَيَّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى رُكْنَيْ الْإِسْلَامِ وَهُمَا شَهَادَتَا الْإِسْلَامِ وَالصَّلَاةُ شَرَعَ فِي الثَّالِثِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 بَابٌ فِي الصِّيَامِ وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ يُصَامُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهِ كَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا فَإِنْ غُمَّ الْهِلَالُ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الصِّيَام] ِ) وَهُوَ لُغَةً الْإِمْسَاكُ وَالتَّرْكُ وَالصَّمْتُ وَلِوُقُوفِ الْفَرَسِ، وَشَرْعًا الْإِمْسَاكُ عَنْ شَهْوَتِي الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَمَا يَقُومُ مَقَامَهُمَا، مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ مَعَهُ فِي غَيْرِ أَيَّامِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَأَيَّامِ الْعِيدِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ مُخَالَفَةُ النَّفْسِ وَكَسْرُهَا وَتَصْفِيَةُ مِرْآةِ الْعَقْلِ وَتَنْبِيهُ الْعَبْدِ عَلَى مُوَاسَاةِ الْجَائِعِ وَبَيَّنَ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: (وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ) عَلَى كُلِّ عَاقِلٍ بَالِغٍ مُطِيقٍ لَهُ غَيْرِ مُسَافِرٍ سَفَرَ قَصْرٍ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» ، إلَى قَوْلِهِ: «وَصَوْمِ رَمَضَانَ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، فَمَنْ جَحَدَهُ قُتِلَ كُفْرًا إلَّا أَنْ يَتُوبَ كَسَائِرِ الْمُرْتَدِّينَ، وَمَنْ اعْتَرَفَ بِوُجُوبِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ عِنَادًا أَوْ كَسَلًا فَنَقَلَ ابْنُ نَاجِي أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا عَلَى الْمَشْهُورِ لَكِنْ بَعْدَ تَأْخِيرِهِ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ اللَّيْلِ مِقْدَارَ مَا يُوقِعُ فِيهِ النِّيَّةَ، وَفُرِضَ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ بَعْدَ لَيْلَتَيْنِ خَلَتَا مِنْ شَعْبَانَ، وَحِين فُرِضَ رَمَضَانُ كَانَ الشَّخْصُ مُخَيَّرًا بَيْنَ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ، ثُمَّ نُسِخَ التَّخْيِيرُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَوَجَبَ الصَّوْمُ إلَى اللَّيْلِ، وَأُبِيحَ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ وَالْجِمَاعُ إلَى صَلَاةِ الْعِشَاءِ أَوْ نَوْمُ أَحَدِهِمَا فَيَحْرُمُ جَمِيعُ ذَلِكَ، فَاخْتَارَ عُمَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - زَوْجَتَهُ وَكَذَّبَهَا فِي أَنَّهَا نَامَتْ وَوَطِئَهَا فَنَزَلَ " عَلِمَ اللَّهُ " إلَى قَوْلِهِ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] وَفِي الذَّخِيرَةِ: اُخْتُلِفَ فِي أَوَّلِ الصَّوْمِ فِي الْإِسْلَامِ فَقِيلَ عَاشُورَاءُ، وَقِيلَ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَرَمَضَانُ اسْمٌ لِلشَّهْرِ عَلَى الصَّحِيحِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دَخَلَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النِّيرَانِ وَصُفِّدَتْ الشَّيَاطِينُ» كَمَا أَنَّ الصَّحِيحَ جَوَازُ اسْتِعْمَالِ رَمَضَانَ غَيْرِ مُضَافٍ لِلشَّهْرِ سَوَاءٌ كَانَ هُنَاكَ قَرِينَةٌ عَلَى الشَّهْرِ أَمْ لَا؛ لِأَنَّ الْقَوْلَ بِأَنَّهُ مِنْ أَسْمَائِهِ تَعَالَى لَمْ يَصِحَّ، وَسُمِّيَ هَذَا الشَّهْرُ بِرَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ يَرْمَدُ الذُّنُوبَ أَيْ يَحْرُقُهَا، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَمَّا بَيَّنَ حُكْمَ صَوْمِ رَمَضَانَ شَرَعَ فِي بَيَانِ [مَا يَثْبُتُ بِهِ شَهْر رَمَضَان] مَا يَثْبُتُ بِهِ بِقَوْلِهِ: (يُصَامُ) أَيْ شَهْرُ رَمَضَانَ (لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ) حَيْثُ كَانَتْ الرُّؤْيَةُ مِنْ عَدْلَيْنِ، وَمِثْلُ الْعَدْلَيْنِ الْجَمَاعَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ أَيْ الْكَثِيرَةُ الَّذِينَ يَسْتَحِيلُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ فَإِنَّ خَبَرَهُمْ يُفِيدُ الْعِلْمَ أَوْ الظَّنَّ الْقَرِيبَ مِنْهُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ زَمَنِ الصَّحْوِ وَالْغَيْمِ، وَلَا بَيْنَ الْمِصْرِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ، وَمِثْلُ الْعَدْلَيْنِ الْوَاحِدُ الْمَوْثُوقُ بِخَبَرِهِ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً إذَا كَانَ الْمَحَلُّ لَا يَعْتَنِي فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ فِي حَقِّ أَهْلِ الرَّأْيِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَأَمَّا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ يُعْتَنَى فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ فَلَا يَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْوَاحِدِ وَلَوْ فِي حَقِّ أَهْلِهِ وَلَوْ صَدَّقُوهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْفَعَ أَمْرَهُ إلَى الْحَاكِمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فَإِنْ أَفْطَرَ كَفَّرَ وَلَوْ مُتَأَوِّلًا؛ لِأَنَّ تَأْوِيلَهُ بَعِيدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى عَدْلٍ أَوْ مَرْجُوٍّ رَفْعُ رُؤْيَتِهِ، وَالْمُخْتَارُ وَغَيْرُهُمَا فَإِنْ أَفْطَرُوا فَالْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ إلَّا بِتَأْوِيلٍ فَتَأْوِيلَانِ وَالرَّاجِحُ وُجُوبُ الْكَفَّارَةِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ قَبُولِ قَوْلِ الْمُؤَذِّنِ الْوَاحِدِ وَعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ بِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُعْتَنَى فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُخَبِّرٌ بِدُخُولِ وَقْتٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُؤَذِّنَ يَسْتَنِدُ فِي إخْبَارِهِ إلَى أَمْرٍ يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَلَوْ أَخْطَأَ لَنَبَّهَهُ غَيْرُهُ، بِخِلَافِ الْهِلَالِ وَلَا سِيَّمَا جَمِيعُ النَّاسِ حَرَصَ عَلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَهُمْ كَالْمُعَارِضِينَ لِمُدَّعِي الرُّؤْيَةِ، وَيُفْهَمُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ بِرُؤْيَةٍ أَنَّهُ لَا يُعَوَّلُ عَلَى قَوْلِ أَهْلِ الْمِيقَاتِ إنَّهُ مَوْجُودٌ وَلَكِنْ لَا يُرَى؛ لِأَنَّ الشَّارِعَ إنَّمَا يُعَوِّلُ عَلَى الرُّؤْيَةِ لَا عَلَى الْوُجُودِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشَّافِعِيَّةِ. (تَنْبِيهٌ) : سُمِّيَ الْهِلَالُ هِلَالًا لِرَفْعِ الصَّوْتِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ، وَيُسَمَّى بِذَلِكَ لِثَلَاثِ لَيَالٍ ثُمَّ بَعْدُ يُسَمَّى قَمَرًا، وَسُمِّيَ الشَّهْرُ شَهْرًا لِشُهْرَتِهِ. (وَ) كَمَا يَجِبُ الصَّوْمُ لِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ (يُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهِ) أَيْ هِلَالِ شَوَّالٍ فَالضَّمِيرُ لِلْمُقَيَّدِ بِدُونِ قَيْدِهِ؛ لِأَنَّ الْأَوَّلَ هِلَالُ رَمَضَانَ وَالثَّانِي هِلَالُ شَوَّالٍ وَسَوَاءٌ (كَانَ) رَمَضَانُ (ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ يَوْمًا) لِأَنَّ الشَّهْرَ يَأْتِي كَامِلًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فَيُعَدُّ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ غُرَّةِ الشَّهْرِ الَّذِي قَبْلَهُ ثُمَّ يُصَامُ وَكَذَلِكَ فِي الْفِطْرِ وَيُبَيِّتُ الصِّيَامَ فِي أَوَّلِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَيَاتُ فِي بَقِيَّتِهِ، وَيُتِمُّ الصِّيَامَ إلَى اللَّيْلِ وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرُ السُّحُورِ وَإِنْ شَكَّ فِي الْفَجْرِ فَلَا يَأْكُلْ وَلَا يُصَامُ يَوْمُ   [الفواكه الدواني] وَنَاقِصًا. قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «صُمْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعًا وَعِشْرِينَ أَكْثَرَ مَا صُمْنَا مَعَهُ ثَلَاثِينَ» ، ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ قَوْلِهِ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ غُمَّ الْهِلَالُ) أَيْ هِلَالُ رَمَضَانَ بِأَنْ كَثُرَ الْغَيْمُ مَكَانَهُ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مَعَ رُؤْيَةِ هِلَالِ شَعْبَانَ (فَيَعُدُّ) الْمُكَلَّفُ (ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ غُرَّةِ) أَيْ أَوَّلِ الشَّهْرِ (الَّذِي قَبْلَهُ) وَهُوَ شَعْبَانُ (ثُمَّ) بَعْدَ إتْمَامِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ، يَوْمًا (يَصُومُ) أَيْ يَثْبُتُ صَوْمُ رَمَضَانَ لَيْلَةَ الْوَاحِدِ وَالثَّلَاثِينَ الَّتِي ابْتِدَاؤُهَا مِنْ غُرَّةِ شَعْبَانَ، وَلَوْ تَوَالَى الْغَيْمُ شُهُورًا فَفِي الطِّرَازِ عَنْ مَالِكٍ يُكْمِلُونَ عِدَّةَ الْجَمِيعِ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهُ اتِّبَاعًا لِحَدِيثِ: «الشَّهْرُ تِسْعَةٌ وَعِشْرُونَ يَوْمًا فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا» وَلَوْ تَوَالَى ثَلَاثَةٌ عَلَى الْكَمَالِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ كَمَالُ الشُّهُورِ، وَلَا الْتِفَاتَ إلَى حِسَابِ الْمُنَجِّمِينَ وَلَا لِقَوْلِ أَهْلِ الْمِيقَاتِ إنَّهُ لَا يَتَوَالَى أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ أَوْ خَمْسَةٍ عَلَى التَّمَامِ وَلَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ عَلَى النُّقْصَانِ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: يَثْبُتُ رَمَضَانُ بِكَمَالِ شَعْبَانَ أَوْ بِرُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ وَلَوْ بِصَحْوٍ بِمِصْرٍ، فَإِنْ لَمْ يُرَ بَعْدَ ثَلَاثِينَ صَحْوًا كُذِّبَا أَوْ مُسْتَفِيضَةً وَعَمَّ إنْ نَقَلَ بِهِمَا عَنْهُمَا لَا بِمُنْفَرِدٍ إلَّا كَأَهْلِهِ وَمَنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُمْ بِأَمْرِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي كُذِّبَا لِلْعَدْلَيْنِ، وَمِثْلُهُمَا مَا زَادَ عَلَيْهِمَا، وَلَمْ يَبْلُغْ عَدَدَ الْمُسْتَفِيضَةِ، وَقَوْلُهُ: فَإِنْ لَمْ يُرَ أَيْ بِغَيْرِ الْعَدْلَيْنِ الَّذِينَ ادَّعَيَا رُؤْيَتَهُ وَصَامَتْ النَّاسُ بِشَهَادَتِهِمَا وَمَعَ تَكْذِيبِهِمَا صَوْمُ النَّاسِ بِرُؤْيَتِهِمَا مُعْتَدٌّ بِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَنَظَرَ الْأُجْهُورِيُّ فِيمَا إذَا رَأَى شَخْصٌ الْهِلَالَ وَصَامَ بِرُؤْيَةِ نَفْسِهِ وَلَمْ يُرَ بَعْدَ الثَّلَاثِينَ صَحْوًا فَهَلْ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ أَوْ يَعْمَلُ عَلَى اعْتِقَادِهِ؟ وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الْمُسْتَفِيضَةُ وَهُمْ الَّذِينَ يُفِيدُ خَبَرُهُمْ الْعِلْمَ أَوْ الظَّنَّ الْقَرِيبَ مِنْهُ فَلَا يُحْكَمُ بِتَكْذِيبِهِمْ لِإِسْلَامِ جَمِيعِهِمْ وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ النِّسَاءُ وَالْعَبِيدُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَمَا يَثْبُتُ رَمَضَانُ بِرُؤْيَةِ الْعَدْلَيْنِ أَوْ بِرُؤْيَةِ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ أَوْ بِكَمَالِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا أَوْ بِرُؤْيَةِ مُنْفَرِدٍ بِمَحَلٍّ لَا يُعْتَنَى فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ يَثْبُتُ بِنَقْلِ عَدْلَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ عَنْ عَدْلَيْنِ أَوْ عَنْ جَمَاعَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ، لَكِنْ إنْ كَانَ عَنْ رُؤْيَةِ الْعَدْلَيْنِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ أَوْ عَنْ الثُّبُوتِ عِنْدَ الْحَاكِمِ أَوْ عَنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسْتَفِيضَةِ فَيُكْتَفَى وَلَوْ بِوَاحِدٍ وَلَوْ فِي مَحَلٍّ يُعْتَنَى فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ، وَكَذَا يَثْبُتُ بِرُؤْيَةِ الْمَنَائِرِ مَوْقُودَةً حَيْثُ كَانَتْ لَا تُوقَدُ إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ الشَّرْعِيِّ كَمَا عِنْدَنَا بِمِصْرَ، وَمِثْلُهَا سَمَاعُ الْمَدَافِعِ فَإِنَّهَا لَا تُضْرَبُ عِنْدَ الْغُرُوبِ إلَّا لِثُبُوتِ الشَّهْرِ. الثَّانِي: وُجُوبُ الصَّوْمِ عِنْدَنَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ الْحَاكِمِ، فَلَوْ حَكَمَ مُخَالِفٌ بِثُبُوتِهِ بِرُؤْيَةِ وَاحِدٍ فِي مَحَلٍّ يَعْتَنِي أَهْلُهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، فَفِي لُزُومِهِ لِلْمَالِكِيِّ وَعَدَمِ لُزُومِهِ تَرَدُّدٌ، وَلَوْ أَخْبَرَ الْحَاكِمُ شَخْصًا بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ فَإِنْ كَانَ مُوَافِقًا لِمَنْ أَخْبَرَهُ فِي الْمَذْهَبِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُخَالِفًا فِي الْمَذْهَبِ لِمَنْ أَخْبَرَهُ فَإِنَّهُ يَسْأَلُهُ، فَإِنْ وُجِدَ الثُّبُوتُ بِشَاهِدَيْنِ لَزِمَهُ الصَّوْمُ وَبِوَاحِدٍ جَرَى الْخِلَافُ الْمُتَقَدِّمُ، وَلَوْ ادَّعَى السُّلْطَانُ أَوْ الْقَاضِي الرُّؤْيَةَ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ رُؤْيَةِ الْوَاحِدِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ يُعْتَنَى فِيهِ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ، وَلَوْ صَدَّقْنَاهُ لَا يَلْزَمُنَا الصَّوْمُ خِلَافًا لِبَعْضِ الْمَذَاهِبِ. الثَّالِثُ: لَوْ رَأَى شَخْصٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَخْبَرَهُ بِالصَّوْمِ لَا يَلْزَمُ الرَّائِيَ وَلَا غَيْرَهُ إجْمَاعًا لِاخْتِلَالِ ضَبْطِ النَّائِمِ لَا لِلشَّكِّ فِي رُؤْيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَخْبَرَهُ بِطَلَاقِ زَوْجَتِهِ لَمْ تَحْرُمْ عَلَيْهِ إجْمَاعًا. (وَكَذَلِكَ) أَيْ وَكَمَا يَجِبُ الصَّوْمُ لِرُؤْيَةِ هِلَالِ رَمَضَانَ أَوْ لِإِتْمَامِ عِدَّةِ شَعْبَانَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا يَفْعَلُ (فِي الْفِطْرِ) فَيَجِبُ بِرُؤْيَةِ عَدْلَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ مُسْتَفِيضَةٍ لِهِلَالِ شَوَّالٍ أَوْ لِإِتْمَامِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ غُرَّةِ هِلَالِ رَمَضَانَ لَا بِرُؤْيَةِ مُنْفَرِدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُفْطِرُ مُنْفَرِدٌ بِشَوَّالٍ وَلَوْ أَمِنَ الظُّهُورَ إلَّا بِمُبِيحٍ كَمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ، وَلَكِنْ يُفْطِرُ بِالنِّيَّةِ لِحُرْمَةِ الْإِمْسَاكِ بِالنِّيَّةِ يَوْمَ الْعِيدِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ هِلَالُ شَوَّالٍ بِرُؤْيَةِ الْوَاحِدِ، وَلَا فِي مَحَلٍّ لَا يُعْتَنَى فِيهِ بِأَمْرِ الْهِلَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ حَتَّى عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِثُبُوتِ رَمَضَانَ بِعَدْلٍ وَاحِدٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ. [شُرُوطِ الصَّوْمِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ شُرُوطِ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ: (وَيُبَيِّتُ الصِّيَامَ) أَيْ يَنْوِي الصَّوْمَ وُجُوبًا (فِي أَوَّلِهِ) بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ شَعْبَانَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُ مُطْلَقًا بِنِيَّةٍ مُبَيَّتَةٍ أَوْ مَعَ الْفَجْرِ، وَكَفَتْ نِيَّةٌ لِمَا يَجِبُ تَتَابُعُهُ لَا مَسْرُودٌ وَيَوْمٌ مُعَيَّنٌ، وَرُؤْيَةٌ عَلَى الِاكْتِفَاءِ فِيهِمَا بِنِيَّةٍ، وَصِفَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى بِأَدَاءِ مَا اُفْتُرِضَ عَلَيْهِ مِنْ اسْتِغْرَاقِ النَّهَارِ فِي كُلِّ أَيَّامِهِ بِالْإِمْسَاكِ عَمَّا يُفْطِرُ، وَلَا يَلْزَمُ تَعْيِينُ سَنَةِ رَمَضَانَ كَالْيَوْمِ لِلصَّلَاةِ، فَالْمُرَادُ بِالتَّبْيِيتِ نِيَّةُ الصَّوْمِ لَيْلًا الَّذِي أَوَّلُهُ الْغُرُوبُ وَآخِرُهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ النِّيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ التَّبْيِيتِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصَّوْمَ» إنَّمَا صَحَّتْ مَعَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النِّيَّةِ مُقَارَنَتُهَا لِأَوَّلِ الْعِبَادَةِ، وَإِنَّمَا اُغْتُفِرَ تَقَدُّمُهَا فِي الصَّوْمِ لِمَشَقَّةِ تَحَرِّي الْفَجْرِ. (وَلَيْسَ عَلَيْهِ الْبَيَاتُ) كُلَّ لَيْلَةٍ (فِي بَقِيَّتِهِ) وَكَذَلِكَ كُلُّ صَوْمٍ يَجِبُ تَتَابُعُهُ يَكْفِي النِّيَّةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْوَاحِدَةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَفَتْ نِيَّةُ لِمَا يَجِبُ تَتَابُعُهُ لَا مَسْرُودٌ وَيَوْمٌ مُعَيَّنٌ، وَالْمَنْفِيُّ إنَّمَا هُوَ وُجُوبُ التَّبْيِيتِ كُلَّ لَيْلَةٍ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَبْيِيتُهَا كُلَّ لَيْلَةٍ لِمُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ وَأَبَا حَنِيفَةَ يَقُولَانِ بِوُجُوبِ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ. وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ خِلَافَ مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ وَسَبَبُ الْخِلَافِ هَلْ صَوْمُ رَمَضَانَ عِبَادَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ كُلُّ يَوْمٍ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَالْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ إنْ تَمَادَيَا عَلَى الصَّوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِمَا النِّيَّةُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِعَدَمِ وُجُوبِ التَّتَابُعِ فِي حَقِّهِمَا وَعِنْدَ صِحَّةِ الْمَرِيضِ، وَقُدُومِ الْمُسَافِرِ يَكْفِيهِمَا نِيَّةٌ لِمَا بَقِيَ كَالْحَائِضِ تَطْهُرُ وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ فِي أَثْنَاءِ الصَّوْمِ وَالْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي أَثْنَاءِ الشَّهْرِ. (وَ) يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ صَامَ فَرْضًا أَوْ نَفْلًا أَنْ (يُتِمَّ الصِّيَامَ إلَى) تَحَقُّقِ دُخُولِ (اللَّيْلِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْلِهِ {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» أَيْ انْقَضَى صَوْمُهُ، وَقَوْلُهُ: إلَى تَحَقُّقِ دُخُولِ اللَّيْلِ إشَارَةٌ إلَى خُرُوجِ الْغَايَةِ، وَإِلَى حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ الْمُفْطِرِ عِنْدَ الْغُرُوبِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَكْلَهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ فَلَا قَضَاءَ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: إلَى اللَّيْلِ أَنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ الْوِصَالُ لِخَبَرِ: «لَا تُوَاصِلُوا» وَإِنْ أُبِيحَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْوِصَالُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ شُرُوطَ الصَّوْمِ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ وَهُوَ اثْنَانِ: الْبُلُوغُ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الصَّوْمِ. وَثَانِيهَا شَرْطٌ فِي الصِّحَّةِ فَقَطْ وَهُوَ أَرْبَعٌ: الْإِسْلَامُ وَالْكَفُّ عَنْ الْمُفْطِرَاتِ وَالنِّيَّةُ الْمُبَيَّتَةُ وَالزَّمَنُ الْقَابِلُ لِلصَّوْمِ فِيمَا لَيْسَ لَهُ زَمَنٌ مُعَيَّنٌ. ثَالِثُهَا فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: الْعَقْلُ وَالنَّقَاءُ مِنْ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ وَدُخُولُ وَقْتِ الصَّوْمِ فِيمَا لَهُ وَقْتٌ مُعَيَّنٌ كَرَمَضَانَ . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الصَّائِمِ أَوْ مَرِيدِ الصَّوْمِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ السُّنَّةِ تَعْجِيلُ الْفِطْرِ) بَعْدَ تَحَقُّقِ الْغُرُوبِ بِغُرُوبِ جَمِيعِ قُرْصِ الشَّمْسِ لِمَنْ يَنْظُرُهُ أَوْ دُخُولِ الظُّلْمَةِ، وَغَلَبَةِ الظَّنِّ بِالْغُرُوبِ لِمَنْ لَمْ يَنْظُرْ قُرْصَ الشَّمْسِ، كَمَحْبُوسٍ بِحُفْرَةٍ تَحْتَ الْأَرْضِ وَلَا مُخْبِرَ لَهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي لَهُ تَأْخِيرُ الْفِطْرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ أَهْلِ التَّشْدِيدِ، وَأَمَّا مَنْ يُؤَخِّرُهُ لِعَارِضٍ أَوْ اخْتِيَارًا مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ الصَّوْمَ قَدْ انْتَهَى بِالْغُرُوبِ فَلَا كَرَاهَةَ فِي فِعْلِهِ، وَيُسْتَحَبُّ فِطْرُهُ عَلَى شَيْءٍ حُلْوٍ فَفِي الْحَدِيثِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ رُطَبَاتٍ فَثَمَرَاتٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ حَسَا حَسَوَاتٍ مِنْ مَاءٍ» وَالْحَسَوَاتُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ، وَمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ فَالْمُسْتَحَبُّ فِي حَقِّهِ الْفِطْرُ عَلَى مَاءِ زَمْزَمَ لِبَرَكَتِهِ، فَإِنْ جَمَعَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّمْرِ فَحَسَنٌ، وَإِنَّمَا نُدِبَ الْفِطْرُ عَلَى التَّمْرِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ الْحَلْوَيَاتِ؛ لِأَنَّهُ يَرُدُّ مَا زَاغَ مِنْ الْبَصَرِ بِالصَّوْمِ، وَيَقُولُ نَدْبًا عِنْدَ الْفِطْرِ: اللَّهُمَّ لَك صُمْت وَعَلَى رِزْقِك أَفْطَرْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت، أَوْ يَقُولُ: اللَّهُمَّ لَك صُمْت وَعَلَى رِزْقِك أَفْطَرْت، ذَهَبَ الظَّمَأُ وَابْتَلَّتْ الْعُرُوقُ وَثَبَتَ الْأَجْرُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، فَإِنَّ لِلصَّائِمِ دَعْوَةً مُسْتَجَابَةً قِيلَ هِيَ بَيْنَ رَفْعِ اللُّقْمَةِ وَوَضْعِهَا فِي فِيهِ. (وَ) مِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا (تَأْخِيرُ السُّحُورِ) بِضَمِّ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ لِلْفِعْلِ، وَبِفَتْحِهَا الْمَأْكُولُ فِي السَّحَرِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ مَا عَجَّلُوا الْفِطْرَ وَأَخَّرُوا السُّحُورَ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُفْطِرُ عَلَى رُطَبَاتٍ قَبْلَ الصَّلَاةِ» وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ سُنَّةِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ وَتَأْخِيرِ السُّحُورِ مِثْلُهُ فِي الْقُرْطِيَّةِ وَالْجَوَاهِرِ لَكِنْ فِي تَعْجِيلِ الْفِطْرِ، وَاَلَّذِي فِي خَلِيلٍ أَنَّهُمَا مُسْتَحَبَّانِ وَلَفْظُهُ: وَنُدِبَ تَعْجِيلُ فِطْرٍ وَتَأْخِيرُ سُحُورٍ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: وَقَدْرُ التَّأْخِيرِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَبْقَى بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ إلَى الْفَجْرِ قَدْرَ مَا يَقْرَأُ الْقَارِئُ خَمْسِينَ آيَةً وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْقَارِئُ الْمُتَمَهِّلُ فِي قِرَاءَتِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ وَلَمْ يَذْكُرْ حُكْمَ فِعْلِهِ، وَهَذَا النَّدْبُ لِخَبَرِ: «تَسَحَّرُوا فَإِنَّ السُّحُورَ بَرَكَةٌ» ؛ لِأَنَّهُ يُقَوِّي عَلَى الصِّيَامِ وَيُنَشِّطُ ". الثَّانِي: فُهِمَ مِنْ نَدْبِ أَوْ سُنَّةِ تَعْجِيلِ الْفِطْرِ تَقْدِيمُهُ عَلَى صَلَاةِ الْمَغْرِبِ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَ عَلَى نَحْوِ رُطَبَاتٍ مِنْ كُلِّ مَا خَفَّ، وَإِلَّا قُدِّمَتْ الصَّلَاةُ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْمَغْرِبِ مُضَيَّقٌ، هَذَا هُوَ الْمَأْخُوذُ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَابْنِ حَبِيبٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا فِي تَقْدِيمِ الطَّعَامِ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ مَا قَالَاهُ عَلَى الْفِطْرِ بِغَيْرِ الْفِطْرِ عَلَى الرُّطَبِ أَوْ الْمَاءِ فَلَا يُخَالِفُ مَا قُلْنَاهُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ طَلَبِ تَأْخِيرِ السُّحُورِ جَوَازُ فِعْلِهِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي الْوَقْتِ قَالَ: (وَإِنْ شَكَّ) مَرِيدُ السُّحُورِ (فِي الْفَجْرِ فَلَا يَأْكُلْ) وَلَا يَشْرَبْ وَلَا يَفْعَلْ شَيْئًا مِنْ الْمُفْطِرَاتِ، وَمِثْلُ الشَّكِّ فِي الْفَجْرِ الشَّكُّ فِي الْغُرُوبِ، وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ فِيهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْأَوَّلِ وَاتِّفَاقًا فِي الثَّانِي، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْأَصْلَ بَقَاءُ اللَّيْلِ وَفِي الثَّانِي بَقَاءُ النَّهَارِ، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى جَعَلَ غَايَةَ الصَّوْمِ اللَّيْلَ لَا الشَّكَّ فِيهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ أَكَلَ مَعَ الشَّكِّ وَهُوَ الْقَضَاءُ، إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ أَنَّ الْأَكْلَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الشَّكِّ لِيَحْتَاطَ بِهِ مِنْ رَمَضَانَ وَمَنْ صَامَهُ كَذَلِكَ لَمْ يُجْزِهِ وَإِنْ وَافَقَهُ مِنْ رَمَضَانَ وَلِمَنْ شَاءَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا أَنْ يَفْعَلَ وَمَنْ أَصْبَحَ فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ وَلْيُمْسِكْ عَنْ الْأَكْلِ فِي بَقِيَّتِهِ وَيَقْضِيهِ وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ مُفْطِرًا أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ نَهَارًا فَلَهُمَا الْأَكْلُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمَا وَمَنْ أَفْطَرَ فِي تَطَوُّعِهِ عَامِدًا أَوْ سَافَرَ   [الفواكه الدواني] بَعْدَ الْغُرُوبِ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَلْزَمُ الْمُنْتَهِكَ لِلْحُرْمَةِ، وَمِمَّنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ مَنْ أَكَلَ عَلَى يَقِينٍ ثُمَّ طَرَأَ لَهُ الشَّكُّ فِي الْفَجْرِ أَوْ الْغُرُوبِ وَاسْتَمَرَّ عَلَى شَكِّهِ. الثَّانِي: لَوْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مُتَلَبِّسٌ بِالْفِطْرِ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ إلْقَاءُ مَا فِي فَمِهِ وَنَزْعُ فَرْجِهِ وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، فَلَوْ مَكَثَ قَلِيلًا مُتَعَمِّدًا لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا قَضَاءَ فِي نَزْعِ مَأْكُولٍ أَوْ مَشْرُوبٍ طُلُوعَ الْفَجْرِ. الثَّالِثُ: لَوْ غَرَّهُ شَخْصٌ وَقَالَ لَهُ كُلْ مَثَلًا فَإِنَّ الْفَجْرَ لَمْ يَطْلُعْ فَأَكَلَ وَتَبَيَّنَ أَنَّهُ طَلَعَ وَجَبَ الْقَضَاءُ عَلَى مَنْ أَكَلَ مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ، وَفِي لُزُومِهَا لِلْغَارِّ قَوْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ أَكْرَهَ شَخْصٌ شَخْصًا عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ لَلَزِمَ الْمُكْرَهَ بِالْفَتْحِ الْقَضَاءُ وَيَلْزَمُ الْمُكْرِهَ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ مَنْ أَكْرَهَ غَيْرَهُ عَلَى جِمَاعِ امْرَأَةٍ لَا تَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الِانْتِشَارَ مَعَهُ نَوْعُ اخْتِيَارٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تَلْزَمْهُ الْكَفَّارَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَعَمَّدْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ أَكْرَهَ غَيْرَهُ عَلَى الْجِمَاعِ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ وَلَا يَلْزَمُ الْمُكْرَهَ بِالْفَتْحِ أَيْضًا، لِأَنَّ لُزُومَ الْكَفَّارَةِ مَشْرُوطٌ بِالتَّعَمُّدِ. (وَلَا يُصَامُ يَوْمُ الشَّكِّ) أَيْ يُكْرَهُ إذَا صَامَهُ (لِيَحْتَاطَ) أَيْ يَحْتَسِبَ (بِهِ مِنْ رَمَضَانَ) وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْكَرَاهَةِ هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي جَزْمِهِ بِالتَّحْرِيمِ لِخَبَرِ: «مَنْ صَامَ يَوْمَ الشَّكِّ فَقَدْ عَصَى أَبَا الْقَاسِمِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَالْمُرَادُ بِيَوْمِ الشَّكِّ صَبِيحَةُ لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ حَيْثُ تَكُونُ السَّمَاءُ مُصْحِيَةً وَيَشِيعُ عَلَى أَلْسِنَةِ النَّاسِ الَّذِينَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ أَنَّ النَّاسَ قَدْ رَأَوْا الْهِلَالَ لَا صَبِيحَةَ الْغَيْمِ، وَمَالَ إلَى هَذَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَئِمَّتِنَا قَائِلًا: وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدِي لِأَنَّنَا لَيْلَةَ الْغَيْمِ مَأْمُورُونَ بِإِكْمَالِ الْعِدَّةِ ثَلَاثِينَ يَوْمًا لِخَبَرِ: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُمْ فَأَكْمِلُوا عِدَّةَ شَعْبَانَ أَوْ فَاقْدُرُوا لَهُ» فَإِنَّ هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ صَبِيحَةَ لَيْلَةِ الثَّلَاثِينَ مِنْ شَعْبَانَ عَمَلًا بِالِاسْتِصْحَابِ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّ تَفْسِيرَ يَوْمِ الشَّكِّ بِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيِّ إلَى النَّفْسِ أَمْيَلُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لِيَحْتَاطَ بِهِ أَنَّ الْإِمْسَاكَ فِيهِ لِيَتَحَقَّقَ لَا يُنْهَى عَنْهُ بَلْ مَنْدُوبٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إمْسَاكٌ لِيَتَحَقَّقَ. (وَمَنْ صَامَهُ كَذَلِكَ) أَيْ لِلِاحْتِيَاطِ (لَمْ يُجْزِهِ) لِعَدَمِ جَزْمِ النِّيَّةِ لِعَدَمِ ثُبُوتِ الشَّهْرِ وَقْتَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ. (وَإِنْ وَافَقَهُ مِنْ رَمَضَانَ) خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الشُّهُورُ فَتَحَرَّى شَهْرًا وَصَامَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ رَمَضَانُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَالَ سَحْنُونٌ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ قَوْلِ شَيْخِهِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَوَجْهُ الْمُعْتَمَدِ أَنَّ الْمُتَحَرِّيَ مَأْمُورٌ بِالصَّوْمِ وَجَازِمٌ بِنِيَّتِهِ، بِخِلَافِ الصَّائِمِ احْتِيَاطًا فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ سَلَّمَ شَاكًّا فِي إتْمَامِ صَلَاتِهِ فَإِنَّهَا بَاطِلَةٌ وَلَوْ تَبَيَّنَ لَهُ الْكَمَالُ، وَكَذَلِكَ مَنْ شَكَّ فِي دُخُولِ الْوَقْتِ وَصَلَّى فِي حَالِ شَكِّهِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ وَلَوْ تَبَيَّنَ وُقُوعَهَا فِيهِ، وَلَمَّا كَانَ مَحَلُّ النَّهْيِ عَنْ صَوْمِ يَوْمِ الشَّكِّ مُخْتَصًّا بِالِاحْتِيَاطِ قَالَ (وَلِمَنْ شَاءَ صَوْمَهُ تَطَوُّعًا أَنْ يَفْعَلَ) أَيْ لَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصِيمَ عَادَةً وَتَطَوُّعًا وَقَضَاءً وَلِنَذْرٍ صَادَفَ لَا احْتِيَاطًا، بَلْ قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ صَادَفَ لِمَا عَرَفْت مِنْ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ صَامَهُ احْتِيَاطًا. (وَمَنْ أَصْبَحَ) أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ يَوْمَ الشَّكِّ (فَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ) فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ (أَنَّ ذَلِكَ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ لَمْ يُجْزِهِ) لِعَدَمِ تَبْيِيتِهِ النِّيَّةَ الصَّحِيحَةَ. (وَلْيُمْسِكْ) وُجُوبًا (عَنْ الْأَكْلِ) وَالشُّرْبِ وَسَائِرِ الْمُفْطِرَاتِ (فِي بَقِيَّتِهِ وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَقْضِيَهُ) لِفَسَادِ صَوْمِهِ وَالتَّمَادِي فِيهِ لِحُرْمَةِ الشَّهْرِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ وَلَوْ أَصْبَحَ مُفْطِرًا، وَلِذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَإِنْ ثَبَتَ نَهَارًا أَمْسَكَ وَإِلَّا كَفَّرَ إنْ انْتَهَكَ بِأَنْ أَفْطَرَ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ وَحُرْمَةِ الْفِطْرِ، وَمِثْلُهُ الْمُفْطِرُ نِسْيَانًا أَوْ مُكْرَهًا فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ إنْ انْتَهَكَ كُلَّ بِأَنْ تَمَادَى عَلَى الْفِطْرِ عَالِمًا بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ زَوَالِ النِّسْيَانِ وَالْإِكْرَاهِ، بِخِلَافِ مَنْ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ كَالْمُضْطَرِّ وَالْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَى وَاحِدٍ بِأَكْلِهِ أَوْ شُرْبِهِ لِعَدَمِ وُجُوبِ الْإِمْسَاكِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْمُفْطِرِ لِإِكْرَاهٍ أَوْ نِسْيَانٍ أَوْ لِلشَّكِّ فِي أَنَّ الْيَوْمَ مِنْ رَمَضَانَ قَالَ التَّادَلِيُّ: عِبَادَتَانِ يَلْزَمُ التَّمَادِي فِيهِمَا بَعْدَ فَسَادِهِمَا كَمَا يَجِبُ فِي صَحِيحَيْهِمَا وَهُمَا: الصَّوْمُ وَالْحَجُّ، بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَيَجِبُ قَطْعُ الْفَاسِدِ مِنْهَا وَيَحْرُمُ التَّمَادِي عَلَيْهَا، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الصَّوْمَ وَالْحَجَّ فَسَادُهُمَا فِي الْغَالِبِ بِشَهْوَةِ الْبَطْنِ وَالْفَرْجِ وَشِدَّةِ مَيْلِ النَّفْسِ، فَأَمَرَ الشَّخْصَ بِالتَّمَادِي فِيهِمَا زَجْرًا لِلنَّفْسِ وَإِنْ وَجَبَ قَضَاؤُهُمَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ وُجُوبُ الْإِمْسَاكِ عَلَى مَنْ أَكَلَ نَهَارًا فِي رَمَضَانَ مُخْتَصًّا بِمَنْ أَفْطَرَ نِسْيَانًا أَوْ مُكْرَهًا لَا مَنْ أُبِيحَ لَهُ الْفِطْرُ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ قَالَ: (وَإِذَا قَدِمَ الْمُسَافِرُ) مِنْ سَفَرِهِ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ فِيهِ الْفِطْرُ حَالَةَ كَوْنِهِ (مُفْطِرًا أَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ) أَوْ النُّفَسَاءُ (نَهَارًا) ظَرْفٌ لَقَدِمَ وَطَهُرَتْ (فَلَهُمَا) أَيْ يَجُوزُ لَهُمَا التَّمَادِي عَلَى نَحْوٍ (الْأَكْلُ فِي بَقِيَّةِ يَوْمِهِمَا) وَكَالْمُفْطِرِ لِضَرُورَةِ جُوعٍ أَوْ عَطَشٍ، وَالْمُرْضِعِ يَمُوتُ وَلَدُهَا نَهَارًا، وَالْمَرِيضِ يَقْوَى، وَالصَّبِيِّ يَبْلُغُ وَلَمْ يَكُنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ أَوْ بَيَّتَهُ وَأَفْطَرَ عَمْدًا قَبْلَ بُلُوغِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 فِيهِ فَأَفْطَرَ لِسَفَرِهِ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ أَفْطَرَ سَاهِيًا فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْفَرِيضَةِ وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ لِلصَّائِمِ فِي جَمِيعِ   [الفواكه الدواني] فَلَا يَجِبُ الْإِمْسَاكُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ بِخِلَافِ الصَّبِيِّ يُبَيِّتُ الصَّوْمَ وَيَسْتَمِرُّ صَائِمًا حَتَّى بَلَغَ أَوْ أَفْطَرَ نَاسِيًا وَأَمْسَكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ فِي هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ لِعُذْرٍ غَيْرِ إكْرَاهٍ مَعَ الْعِلْمِ بِرَمَضَانَ، وَأُخْرَى مِنْ ذِي الْعُذْرِ الْمَجْنُونُ وَالْمُغْمَى عَلَيْهِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ وَلَا يُسْتَحَبُّ، بِخِلَافِ مَنْ يُبَاحُ لَهُ لَا مَعَ الْعِلْمِ كَالنَّاسِي أَوْ لِعُذْرِ إكْرَاهٍ وَأُلْحِقَ بِهِمَا الشَّاكُّ فِي الْيَوْمِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَضَابِطُ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ مَخْدُوشٌ مَنْطُوقًا بِالْمُكْرَهِ وَمَفْهُومًا بِالْمُغْمَى عَلَيْهِ وَالْمَجْنُونِ لِمَا قَدَّمْته لَك مِنْ حُكْمِهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مِمَّا يَتَفَرَّعُ عَلَى جَوَازِ اسْتِمْرَارِ الْفِطْرِ لِلْمُسَافِرِ وَمَنْ مَعَهُ جَوَازُ وَطْءِ كُلٍّ زَوْجَتَهُ الَّتِي طَهُرَتْ مِنْ حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا يَوْمَ قُدُومِهِ وَيَجُوزُ لَهَا تَمْكِينُهُ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ الصَّغِيرَةِ وَالْمَجْنُونَةِ وَالْكِتَابِيَّةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ صَائِمَةً أَوْ صَائِمَةً حَيْثُ لَا يُفْسِدُ الْوَطْءُ صَوْمَهَا فِي دِينِهَا؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إكْرَاهُهَا عَلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهَا فِي دِينِهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ التَّوَجُّهِ إلَى نَحْوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ مِنْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ أَكْلِ خِنْزِيرٍ. الثَّانِي: وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْكَافِرِ يُسْلِمُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ، فَإِنْ قُلْنَا بِعَدَمِ خِطَابِهِ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ الْإِمْسَاكُ كَالصَّبِيِّ يَحْتَلِمُ نَهَارًا، وَإِنْ قُلْنَا بِخِطَابِهِ نُدِبَ لَهُ الْإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ لِيَظْهَرَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ الْإِسْلَامِ بِسُرْعَةٍ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ تَرْغِيبًا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ قَضَاءُ يَوْمِ الْإِسْلَامِ دُونَ مَا قَبْلَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ التَّطَوُّعَاتُ تَصِيرُ عِنْدَنَا وَاجِبَةَ الْإِتْمَامِ بِالشُّرُوعِ فِيهَا وَيَحْرُمُ تَعَمُّدُ فَسَادِهَا قَالَ: (وَمَنْ أَفْطَرَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (فِي تَطَوُّعِهِ عَامِدًا) عَمْدًا حَرَامًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ الَّتِي يَتَعَمَّدُ إفْسَادَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَضَاءٌ فِي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الْحَرَامِ وَلَوْ بِطَلَاقٍ بَتٍّ إلَّا لِوَجْهٍ كَوَالِدٍ وَشَيْخٍ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا فَإِنَّهُمَا إنْ أَمَرَاهُ بِالْفِطْرِ شَفَقَةً عَلَيْهِ قَالَ مَالِكٌ: أُحِبُّ أَنْ يُطِيعَهُمَا وَيُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا وَلَا حُرْمَةَ وَلَا قَضَاءَ، وَمِثْلُ الْوَالِدَيْنِ السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ، وَالْمُرَادُ الْوَالِدَانِ دَنِيَّةً لَا الْجَدُّ وَلَا الْجَدَّةُ، وَأَمَّا الْفِطْرُ لِنَحْوِ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ جُوعٍ أَوْ مَرَضٍ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ قَضَاءٌ؛ لِأَنَّهُ عَمْدٌ غَيْرُ حَرَامٍ. (أَوْ سَافَرَ) عَطْفٌ عَلَى أَفْطَرَ (فِيهِ) أَيْ فِي زَمَنِ تَطَوُّعِهِ بِالصَّوْمِ (فَأَفْطَرَ) فِيهِ عَمْدًا لَا لِعُذْرٍ بَلْ (لِسَفَرٍ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِحُرْمَةِ فِطْرِ الْمُتَطَوِّعِ اخْتِيَارًا؛ لِأَنَّ جَوَازَ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ مُخْتَصٌّ بِرَمَضَانَ لَا فِي غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ كَفَّارَةٍ أَوْ تَطَوُّعٍ لِأَنَّهُ رُخْصَةٌ وَالرُّخَصُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا، فَقَوْلُهُ: فَعَلَيْهِ رَاجِعٌ لِمَنْ أَفْطَرَ فِي تَطَوُّعِهِ عَامِدًا وَلِمَنْ أَفْطَرَ فِي سَفَرِهِ، فَحَذَفَهُ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي؛ لِأَنَّهُ جَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ حَدِيثُ: «الصَّائِمُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» فَإِنَّهُ يَقْتَضِي جَوَازَ الْفِطْرِ لِلْمُتَطَوِّعِ وَعَدَمَ لُزُومِ الْقَضَاءِ فَمَا الْجَوَابُ؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي سَنَدِ الْحَدِيثِ مَقَالًا فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ سَلَّمْنَا صِحَّتَهُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَجَازِ، وَالْمَجَازُ إمَّا فِي أَوَّلِهِ وَإِمَّا فِي آخِرِهِ، وَبَيَانُهُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّائِمِ فِيهِ إمَّا مَرِيدُ الصَّوْمِ فَيَكُونُ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ صَامَ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِالصَّائِمِ الْمُتَلَبِّسِ بِالصَّوْمِ فَيَكُونُ الصَّائِمُ مُسْتَعْمَلًا فِي حَقِيقَتِهِ وَيَكُونُ قَوْلُهُ: إنْ شَاءَ صَامَ مَعْنَاهُ اسْتَمَرَّ عَلَى صَوْمِهِ فَيَكُونُ مَجَازًا، وَارْتِكَابُ الْمَجَازِ فِي أَوَّلِهِ يُعَيِّنُهُ أَدِلَّةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: {أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] هَكَذَا أَجَابَ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ، وَرُبَّمَا يُعَيِّنُ فِيهِ حَدِيثُ أُمِّ هَانِئٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ ثُمَّ نَاوَلَهَا فَشَرِبَتْ فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا كُنْت صَائِمَةً، فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: الْمُتَطَوِّعُ أَمِيرُ نَفْسِهِ إنْ شَاءَ صَامَ وَإِنْ شَاءَ أَفْطَرَ» فَلَعَلَّ الصَّوَابَ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ لِلْآيَاتِ السَّابِقَةِ، وَلِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ: «أَنَّ عَائِشَةَ وَحَفْصَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَصْبَحَتَا مُتَطَوِّعَتَيْنِ فَأُهْدِيَ لَهُمَا طَعَامٌ فَأَفْطَرَتَا عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُمَا: اقْضِيَا مَكَانَهُ يَوْمًا آخَرَ» فَلَوْ كَانَ الْفِطْرُ مُبَاحًا لَمْ يَلْزَمْهُمَا الْقَضَاءُ، وَلِأَنَّ الْعَمَلَ عَلَى مَا قُلْنَا، أَلَا تَرَى لِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ ذَلِكَ يَلْعَبُ بِصِيَامِهِ؟ وَأَيْضًا جَاءَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى طَعَامٍ فَلْيُجِبْ، فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ، وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ فَلِيَدْعُ إلَى أَهْلِ الطَّعَامِ، وَوَرَدَ صَرِيحًا «فَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلَا يَأْكُلْ» وَمُلَخَّصُ الْجَوَابِ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ لَا عَمَلَ عَلَيْهِ مَعَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومٍ عَامِدًا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَفْطَرَ) فِي تَطَوُّعِهِ حَالَ كَوْنِهِ (سَاهِيًا) أَوْ مُكْرَهًا (فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ تَعَمُّدِهِ وَلَكِنْ يَجِبُ الْإِمْسَاكُ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي نَدْبِ قَضَائِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَمِثْلُ النَّاسِي الْمُفْطِرُ لِضَرُورَةٍ كَجُوعٍ أَوْ عَطَشٍ أَوْ لِوَجْهٍ كَأَمْرِ شَيْخِهِ أَوْ أَحَدِ أَبَوَيْهِ، وَالْمُرَادُ شَيْخُهُ فِي الْعِلْمِ أَوْ الطَّرِيقَةِ، وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ لُزُومِ الْقَضَاءِ فِي الْفِطْرِ لَا عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ مُخْتَصًّا بِالتَّطَوُّعِ قَالَ: (بِخِلَافِ) صَوْمِ (الْفَرِيضَةِ) فَإِنَّهُ يَجِبُ قَضَاؤُهُ وَلَوْ بِفِطْرِ النِّسْيَانِ، وَسَوَاءٌ رَمَضَانُ أَوْ غَيْرُهُ مِنْ نَحْوِ كَفَّارَةٍ أَوْ نَذْرٍ إلَّا الْمُعَيَّنَ يَفُوتُ صَوْمُهُ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِسْيَانٍ عَلَى مَا قَالَ خَلِيلٌ فَلَا يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 نَهَارِهِ وَلَا تُكْرَهُ لَهُ الْحِجَامَةُ إلَّا خِيفَةَ التَّغْرِيرِ وَمَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ فِي رَمَضَانَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ اسْتَقَاءَ فَقَاءَ فَعَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] فِي حُكْمِ الِاسْتِيَاكِ فِي حَقِّ الصَّائِمِ، أَشَارَ الْمُصَنِّفُ لِبَيَانِ حُكْمِهِ فِي الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالسِّوَاكِ) أَيْ الِاسْتِيَاكِ بِعُودٍ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ (لِلصَّائِمِ فِي جَمِيعِ نَهَارِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ سِوَاكٌ كُلَّ النَّهَارِ، فَلَا بَأْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَعْنَى الْإِذْنِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَتَأَكَّدُ نَدْبُهُ فِي وَقْتِ الصَّلَاةِ وَوَقْتِ الْوُضُوءِ وَلَكِنْ قَبْلَ الزَّوَالِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَالْجَوَازُ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَقَدْ يَجِبُ إذَا تَوَقَّفَ زَوَالُ مَا يُبِيحُ التَّخَلُّفَ عَنْ الْجُمُعَةِ عَلَيْهِ مِنْ نَحْوِ رَائِحَةِ بَصَلٍ أَوْ ثُومٍ، وَقَدْ يَحْرُمُ كَالِاسْتِيَاكِ بِالْجَوْزَاءِ وَلَوْ فِي حَقِّ الصَّائِمِ بِغَيْرِ رَمَضَانَ بَلْ وَلَوْ لِغَيْرِ صَائِمٍ، لِتَعْلِيلِ حُرْمَةِ الِاسْتِيَاكِ بِهَا بِأَنَّهَا مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهَا تُحَمِّرُ الْفَمَ وَحَرَّرَهُ وَقَدْ يُكْرَهُ كَالِاسْتِيَاكِ بِالْعُودِ الْأَخْضَرِ الَّذِي يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَإِنَّمَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِيَاكِ فِي جَمِيعِ النَّهَارِ لِلرَّدِّ عَلَى الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي كَرَاهَتِهِ عِنْدَهُمَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ» وَدَلِيلُنَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» أَيْ لَأَوْجَبْته عَلَيْهِمْ، وَهَذَا يَعُمُّ الصَّائِمَ وَغَيْرَهُ، وَفِي السُّنَنِ الْأَرْبَعِ عَنْ عَامِرِ بْنِ رَبِيعَةَ: «رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا لَا أُحْصِي وَلَا أَعُدُّ يَسْتَاكُ وَهُوَ صَائِمٌ» . وَعَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كَانَ يَسْتَاكُ لِكُلِّ صَلَاةٍ وَهُوَ صَائِمٌ» وَلَا دَلَالَةَ لِلْإِمَامَيْنِ وَمَنْ تَبِعَهُمَا فِيمَا تَمَسَّكُوا بِهِ؛ لِأَنَّ الْخُلُوفَ لَا يَنْقَطِعُ مَا دَامَتْ الْمَعِدَةُ مَوْجُودَةً، فَإِنْ قِيلَ: الْخُلُوفُ أَثَرُ عِبَادَةٍ فَلَا يُزَالُ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي التَّطَوُّعَاتِ الْإِخْفَاءُ مَخَافَةَ الرِّيَاءِ، وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِإِبْقَاءِ دَمِ الشَّهِيدِ؛ لِأَنَّ الصَّائِمَ مُنَاجٍ لِرَبِّهِ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ تَطِيبُ رَائِحَةِ فَمِهِ بِخِلَافِ الشَّهِيدِ، وَأَيْضًا لِلشَّارِعِ غَرَضٌ فِي بَقَاءِ دَمِ الشَّهِيدِ لِيَشْهَدَ لَهُ عَلَى الْخَصْمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِفِعْلِهِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ تَكُونُ الرَّائِحَةُ الْمُنْتِنَةُ حِسًّا أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ مَعَ عِلْمِهِ تَعَالَى بِأَنَّهَا مُنْتِنَةٌ؟ لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا مِنْ بَابِ تَشْبِيهِ الْحَسَنِ الشَّرْعِيِّ بِالْعُرْفِيِّ، أَيْ أَنَّ هَذَا الْمُنْتِنَ عِنْدَنَا فِي الْحُسْنِ أَفْضَلُ وَأَحْسَنُ فِي الشَّرْعِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ عِنْدَ الطَّبْعِ لِصَبْرِ الصَّائِمِ عَلَيْهِ وَالصَّبْرُ عَمَلٌ صَالِحٌ، وَحَاصِلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِطِيبِهِ اسْتِلْذَاذَهُ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِطِيبِهِ عِنْدَ اللَّهِ رِضَاهُ بِهِ وَثَنَاؤُهُ عَلَى الصَّائِمِ بِسَبَبِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: وَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ ابْنِ الصَّلَاحِ وَابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ فِي كَوْنِ الْخُلُوفِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ هَلْ فِي الدُّنْيَا أَوْ فِي الْآخِرَةِ؟ ذَهَبَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ إلَى أَنَّهُ فِي الْآخِرَةِ وَاسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مُسْلِمٍ حَيْثُ قَالَ: «أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: إنَّ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَأَقُولُ: لَا مَانِعَ مِنْ كَوْنِهِ أَطْيَبَ عِنْدَ اللَّهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ بَلْ الْآثَارُ دَالَّةٌ عَلَى ذَلِكَ. الثَّانِي: الْخُلُوفُ رِيحٌ مُتَغَيِّرٌ كَرِيهُ الشَّمِّ يَحْدُثُ مِنْ خُلُوِّ الْمَعِدَةِ وَهُوَ بِضَمِّ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَحَكَى عِيَاضٌ فَتْحَهَا وَهُوَ خَطَأٌ (وَلَا تُكْرَهُ لَهُ) أَيْ لِلصَّائِمِ (الْحِجَامَةُ) وَلَا الْفَصَادَةُ (إلَّا خِيفَةَ التَّغْرِيرِ) لِأَدَائِهَا إلَى الْفِطْرِ، وَرُبَّمَا أَشْعَرَ قَوْلُهُ خِيفَةَ التَّغْرِيرِ بِأَنَّ هَذَا فِي حَقِّ الْمَرِيضِ، وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: يُكْرَهُ ذَوْقُ مِلْحٍ وَعِلْكٍ ثُمَّ يَمُجُّهُ وَمُدَاوَاةُ حَفْرِ زَمَنِهِ إلَّا لِخَوْفِ ضَرَرٍ وَنَذْرُ يَوْمٍ مُكَرَّرٍ وَمُقَدِّمَةُ جِمَاعٍ كَقُبْلَةٍ وَفِكْرٍ إنْ عُلِمَتْ السَّلَامَةُ وَإِلَّا حُرِّمَتْ وَحِجَامَةُ مَرِيضٍ فَقَطْ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَلَا تُكْرَهُ لَهُ إلَّا إذَا شَكَّ فِي السَّلَامَةِ وَعَدَمِهَا، وَاَلَّذِي حَرَّرَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ أَنَّ الْحِجَامَةَ وَالْفَصَادَةَ يَحْرُمَانِ عِنْدَ عِلْمِ عَدَمِ السَّلَامَةِ حَتَّى عَلَى الصَّحِيحِ، وَيُكْرَهَانِ عِنْدَ الشَّكِّ فِي السَّلَامَةِ وَلَوْ لِلصَّحِيحِ، وَأَمَّا عِنْدَ اعْتِقَادِ السَّلَامَةِ فَالْكَرَاهَةُ لِلْمَرِيضِ وَعَدَمُهَا لِلصَّحِيحِ وَجْهُهُ أَنَّ الْمَرِيضَ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْجَزْمُ بِالسَّلَامَةِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَرِيضِ مَنْ قَامَ بِهِ الْمَرَضُ وَمِثْلُهُ ضَعِيفُ الْبِنْيَةِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَضَعْفُ بِنْيَةِ الصَّحِيحِ وَشَيْخُوخَتِهِ كَالْمَرِيضِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى خُصُوصِ الْحِجَامَةِ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ وَجَمَاعَةٍ فِي قَوْلِهِمْ: إنَّ الْحِجَامَةَ تُفْطِرُ بِنَفْسِهَا أَخْذًا بِظَاهِرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمُحْتَجِمُ» وَأَجَابَ الْجُمْهُورُ بِأَنَّهُ مَنْسُوخٌ بِحَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احْتَجَمَ وَهُوَ مُحْرِمٌ وَاحْتَجَمَ وَهُوَ صَائِمٌ، أَوْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اطَّلَعَ عَلَى فِطْرِهِمَا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ» وَالْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَأَحْمَدُ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ، وَأَمَّا قَوْلُ الْفَاكِهَانِيِّ نَقْلًا عَنْ ابْنِ مَعِينٍ فِي الْجَوَابِ أَنَّ حَدِيثَ «أَفْطَرَ الْحَاجِمُ وَالْمُحْتَجِمُ» لَمْ يَصِحَّ غَيْرُ مُسَلَّمٍ مَعَ ذِكْرِ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ لَهُ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُهُ لَمْ يَصِحَّ عَلَى مَعْنًى لَمْ يَحْكُمْ أَحَدٌ بِتَصْحِيحِهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُمْ ذَكَرُوهُ وَإِنْ كَانَ ضَعِيفًا أَوْ مَنْسُوخًا كَمَا تَقَدَّمَ (وَمَنْ ذَرَعَهُ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ خَرَجَ مِنْهُ غَلَبَةً (الْقَيْءُ فِي) صِيَامِ (رَمَضَانَ) وَأَوْلَى غَيْرُهُ (فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ) لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا وَلَوْ خَرَجَ مُتَغَيِّرًا، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَرْجِعَ مِنْهُ شَيْءٌ إلَى حَلْقِهِ، فَإِنْ رَجَعَ مِنْهُ شَيْءٌ فِي حَلْقِهِ كَفَّرَ إنْ تَعَمَّدَ، وَإِلَّا قَضَى وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ فِي الْوُصُولِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَالْقَلْسُ كَالْقَيْءِ وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مِنْ فَمِ الْمَعِدَةِ عِنْدَ امْتِلَائِهَا فَإِنْ بَلَغَ إلَى فِيهِ وَأَمْكَنَهُ طَرْحُهُ وَلَمْ يَفْعَلْ فَقَالَ مَالِكٌ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الْقَضَاءُ وَإِذَا خَافَتْ الْحَامِلُ عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا أَفْطَرَتْ وَلَمْ تُطْعِمْ وَقِيلَ تُطْعِمُ وَلِلْمُرْضِعِ إنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا وَلَمْ تَجِدْ مَنْ تَسْتَأْجِرُهُ لَهُ أَوْ لَمْ يَقْبَلْ غَيْرَهَا أَنْ تُفْطِرَ وَتُطْعِمَ وَيُسْتَحَبُّ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا أَفْطَرَ أَنْ يُطْعِمَ وَالْإِطْعَامُ فِي هَذَا كُلِّهِ مُدٌّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَقْضِيهِ وَكَذَلِكَ يُطْعِمُ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ وَلَا صِيَامَ عَلَى   [الفواكه الدواني] الْبَلْغَمُ يَخْرُجُ مِنْ الصَّدْرِ إلَى طَرَفِ اللِّسَانِ وَيَبْلَعُهُ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَلَوْ تَمَكَّنَ مِنْ طَرْحِهِ، وَمِثْلُهُ النُّخَامَةُ وَلَوْ وَصَلَتْ إلَى طَرَفِ اللِّسَانِ وَتَعَمَّدَ ابْتِلَاعَهَا لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، خِلَافًا لِخَلِيلٍ فِي إيجَابِهِ الْقَضَاءَ عَلَى مَنْ تَمَكَّنَ مِنْ طَرْحِهِ، وَمِمَّا لَا قَضَاءَ فِيهِ بِالْأَوْلَى الرِّيقُ يَتَعَمَّدُ جَمْعَهُ فِي فِيهِ وَيَبْلَعُهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ وَأَظُنُّهُ الرَّاجِحُ، وَمِمَّا لَا قَضَاءَ فِيهِ مَا غَلَبَ مِنْ ذُبَابٍ أَوْ دَقِيقٍ أَوْ جِبْسٍ لِصَانِعِهِ أَوْ بَائِعِهِ كَغُبَارِ الطَّرِيقِ يَغْلِبُ الصَّائِمَ، وَمِمَّا لَا قَضَاءَ فِيهِ الْحُقْنَةُ مِنْ الْإِحْلِيلِ وَهُوَ غَيْرُ الذَّكَرِ وَلَوْ بِمَائِعٍ، وَأَمَّا مِنْ الدُّبُرِ أَوْ فَرْجِ الْمَرْأَةِ فَفِيهَا الْقَضَاءُ، وَمِمَّا لَا قَضَاءَ فِيهِ أَيْضًا الْجَائِفَةُ حَيْثُ لَمْ تَصِلْ إلَى مَحَلِّ الطَّعَامِ أَوْ الشَّرَابِ، وَكَذَا الْمَنِيُّ أَوْ الْمَذْيُ الْمُسْتَنْكَحَانِ، وَلَا فِي نَزْعِ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ طُلُوعَ الْفَجْرِ أَيْ فِي الزَّمَنِ الَّذِي يَتَّصِلُ بِهِ الْفَجْرُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ قَوْلِهِ ذَرَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اسْتَقَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْ اسْتَدْعَى خُرُوجَ الْقَيْءِ (فَقَاءَ) أَيْ خَرَجَ مِنْهُ الْقَيْءُ (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) بِمُجَرَّدِ خُرُوجِهِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ تَيَقَّنَ عَدَمَ رُجُوعِ شَيْءٍ مِنْهُ إلَى حَلْقِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ذَرَعَهُ الْقَيْءُ وَهُوَ صَائِمٌ فَلَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءٌ وَإِنْ اسْتَقَاءَ عَمْدًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَالْحَاكِمُ. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ غَرِيبٌ وَضَعَّفَهُ الْبَغَوِيّ [أَسْبَابٍ تُبِيحُ الْفِطْرَ] . ثُمَّ شَرَعَ فِي أَسْبَابٍ تُبِيحُ الْفِطْرَ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا خَافَتْ الْحَامِلُ) عَلَى نَفْسِهَا أَوْ (عَلَى مَا فِي بَطْنِهَا أَفْطَرَتْ) وُجُوبًا وَلَوْ فِي صِيَامِ رَمَضَانَ حَيْثُ خَافَتْ هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى وَنَدْبًا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ. (وَلَمْ تُطْعِمُ) عَلَى الْمَشْهُورِ وَإِنَّمَا تَقْضِي فَقَطْ فِي نَظَرِ رَمَضَانَ وَإِنَّمَا لَمْ تُطْعِمْ؛ لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ، وَأَشَارَ إلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قِيلَ تُطْعِمُ) وَمِثْلُ الْحَامِلِ الْمَرِيضُ. قَالَ خَلِيلٌ عَطْفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَلِمَرَضٍ خَافَ زِيَادَتَهُ أَوْ تَمَادِيهِ وَوَجَبَ إنْ خَافَ هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى كَحَامِلٍ وَمُرْضِعٍ لَمْ يُمْكِنْهُمَا اسْتِئْجَارٌ أَوْ غَيْرُهُ خَافَتَا عَلَى وَلَدَيْهِمَا، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَا إذَا شَمَّتْ الْحَامِلُ شَيْئًا وَتَخْشَى إنْ لَمْ تَأْكُلْ مِنْهُ سَرِيعًا أَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا، وَأَمَّا الصَّحِيحُ يَلْحَقُهُ الْمَشَقَّةُ بِدَوَامِ صَوْمِهِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا لِخَوْفِ الْمَوْتِ أَوْ حُدُوثِ الْمَرَضِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: الْخَوْفُ الْمُجَوِّزُ لِلْفِطْرِ هُوَ الْمُسْتَنِدُ صَاحِبُهُ إلَى قَوْلِ طَبِيبٍ ثِقَةٍ حَاذِقٍ، أَوْ لِتَجْرِبَةٍ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ لِإِخْبَارٍ مِمَّنْ هُوَ مُوَافِقٌ لَهُ فِي الْمِزَاجِ كَمَا قَالُوهُ فِي التَّيَمُّمِ. الثَّانِي: اسْتَعْمَلَ الْمُصَنِّفُ لَفْظَةَ مَا فِي قَوْلِهِ: مَا فِي بَطْنِهَا إمَّا عَلَى الْقَلِيلِ أَوْ نَظَرًا إلَى الْحَالِ؛ لِأَنَّ الْجَنِينَ فِي حُكْمِ غَيْرِ الْعَاقِلِ. (وَ) يُؤْذَنُ (لِلْمُرْضِعِ إنْ خَافَتْ عَلَى وَلَدِهَا) الْمَشَقَّةَ الشَّدِيدَةَ بِإِدَامَةِ الصَّوْمِ (وَلَمْ تَجِدْ مَنْ تَسْتَأْجِرُهُ لَهُ أَوْ) وَجَدَتْهُ وَلَكِنْ (لَمْ يَقْبَلْ غَيْرَهَا) أَوْ قَبِلَ لَكِنْ لَمْ تَجِدْ أُجْرَةً لِمَنْ لَمْ تَرْضَ بِدُونِهَا (أَنْ تُفْطِرَ) وُجُوبًا إنْ خَافَتْ عَلَيْهِ الْهَلَاكَ أَوْ شَدِيدَةَ الْأَذَى، وَنَدْبًا فِيمَا دُونَ ذَلِكَ وَلِذَلِكَ قُلْنَا يُؤْذَنُ لِيَشْمَلَ. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تُطْعِمَ) بَعْدَ أَكْلِ يَوْمٍ بِخِلَافِ الْحَامِلِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَامِلَ مُلْحَقَةٌ بِالْمَرِيضِ وَهُوَ لَا إطْعَامَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الْأُمِّ فِي ذَلِكَ الْمُسْتَأْجَرَةُ لِلرَّضَاعِ حَيْثُ احْتَاجَتْ لِلْأُجْرَةِ، أَوْ لِكَوْنِ الْوَلَدِ لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا كَمَا قَالَهُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ وَبَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَنَظِيرُهَا الْحَصَّادُ الَّذِي يَخْرُجُ لِلْحَصَادِ بِأُجْرَتِهِ الْمُحْتَاجُ إلَيْهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ وَلَوْ أَدَّى إلَى فِطْرِهِ حَيْثُ يَضْطَرُّ إلَى الْأُجْرَةِ لَكِنْ بِشَرْطِ تَبْيِيتِ الصَّوْمِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ بِالْفِعْلِ إلَّا عِنْدَ حُصُولِ الْمَشَقَّةِ فَلَيْسَ كَالْمُسَافِرِ، وَمِثْلُهُ صَاحِبُ الزَّرْعِ حَيْثُ لَا يُمْكِنُهُ التَّخَلُّفُ عَنْ الْخُرُوجِ لِلْخَوْفِ عَلَى زَرْعِهِ فَافْهَمْ. (تَنْبِيهٌ) إذَا اسْتُئْجِرَتْ الْمُرْضِعُ فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَكُونُ مِنْ مَالِ الْوَلَدِ حَيْثُ كَانَ لَهُ مَالٌ لِأَنَّهَا كَالنَّفَقَةِ، وَالْأَبُ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مَعَ وُجُودِ مَالٍ لَهُ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَمِنْ مَالِ الْأَبِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ فَمِنْ مَالِ الْأُمِّ، هَكَذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ فَيَكُونُ مُقَيَّدًا لِتَرْجِيحِ الْقَوْلِ بِتَقْدِيمِ مَالِ الْأَبِ عَلَى مَالِ الْأُمِّ، وَالْخِلَافُ فِي مَالِ الْأُمِّ الَّتِي يَلْزَمُهَا الرَّضَاعُ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى تَقْدِيمِ مَالِ الْأَبِ عَلَى مَالِ الْأُمِّ، وَكُلُّ مَنْ قِيلَ بِأَنَّهُ يُطْعِمُ فَالْإِطْعَامُ فِي حَقِّهِ وَاجِبٌ إلَّا فِي حَقِّ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ لِلشَّيْخِ الْكَبِيرِ إذَا أَفْطَرَ أَنْ يُطْعِمَ) مُدًّا عَنْ كُلِّ يَوْمٍ، وَإِنَّمَا يُكْتَفَى بِالْإِمَامِ إذَا كَانَ لَا يَسْتَطِيعُ الصَّوْمَ جُمْلَةً، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَوْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَلَا إطْعَامَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ الشَّيْخِ الْكَبِيرِ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ تَرْكَ الْمَاءِ لِشِدَّةِ الْعَطَشِ فِي جَمِيعِ الزَّمَنِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَفِدْيَةٌ لِهَرَمٍ وَعَطَشٍ، وَقَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ وَلَا فِدْيَةَ عَلَى مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الصَّوْمَ، وَمُرَادُهُ عَدَمُ الْوُجُوبِ فَلَا يُنَافِي النَّدْبَ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَهُ الْفِطْرُ لِمَرَضٍ أَوْ سَفَرٍ أَوْ مَشَقَّةٍ لَا إطْعَامَ عَلَيْهِ، إلَّا مَنْ يَسْقُطُ عَنْهُ الصَّوْمُ لِكِبَرٍ أَوْ عَطَشٍ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِلَّا الْحَامِلُ وَالْمُفَرِّطُ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ، وَبَيَّنَ قَدْرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِطْعَامُ فِي هَذَا) الْمَذْكُورِ (كُلِّهِ) أَيْ الْمَنْدُوبِ وَالْوَاجِبِ (مُدٌّ) بِمُدِّهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 الصِّبْيَانِ حَتَّى يَحْتَلِمَ الْغُلَامُ وَتَحِيضَ الْجَارِيَةُ وَبِالْبُلُوغِ لَزِمَتْهُمْ أَعْمَالُ الْأَبْدَانِ فَرِيضَةً قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59]   [الفواكه الدواني] - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَقْضِيهِ» إنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَلَا يَرِدُ الشَّيْخُ الْهَرِمُ وَالْعَطِشُ فَإِنَّهُمَا يُطْعِمَانِ وَلَا يَقْضِيَانِ لِسُقُوطِ الصَّوْمِ عَنْهُمَا لِعَدَمِ إطَاقَتِهِمَا الْمَشْرُوطَةِ فِي وُجُوبِ الصَّوْمِ، وَيَكُونُ الْإِخْرَاجُ مَعَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ فِيمَنْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِطْعَامُ إلَّا بَعْدَ الْوُجُوبِ، وَيَجِبُ أَنْ يَدْفَعَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا، فَلَا يَصِحُّ إعْطَاءُ الْمُدِّ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَا إعْطَاءُ أَكْثَرَ مِنْ مُدٍّ لِوَاحِدٍ، فَإِنْ فَعَلَ لَمْ يُعْتَدَّ بِالزَّائِدِ. (وَكَذَلِكَ) يَجِبُ أَنْ (يُطْعِمُ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْوَاجِبِ: وَإِطْعَامُ مُدٍّ بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِمُفَرِّطٍ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ لِمِثْلِهِ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ لِمِسْكِينٍ، وَلَا يُعْتَدُّ بِالزَّائِدِ إنْ أَمْكَنَ قَضَاؤُهُ لِشَعْبَانَ لَا إنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ مَعَ الْقَضَاءِ أَوْ بَعْدَهُ، وَهَذَا شُرِعَ فِي الْكَفَّارَةِ الصُّغْرَى، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ فَرَّطَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ إلَى أَنْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ آخَرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّكْفِيرُ بِإِخْرَاجِ مُدٍّ عَنْ كُلِّ يَوْمٍ يَقْضِيهِ يَدْفَعُهُ لِمِسْكِينٍ وَاحِدٍ، فَإِنْ أَعْطَى الْمُدَّ لِاثْنَيْنِ كَمَّلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ، وَإِنْ أَعْطَى مُدَّيْنِ لِوَاحِدٍ انْتَزَعَ وَاحِدًا إنْ كَانَ بَاقِيًا وَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَفَّارَةٌ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فَرَّطَ أَنَّهُ تَمَكَّنَ مِنْ الْقَضَاءِ فِي آخِرِ شَعْبَانَ بِقَدْرِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَيَّامِ، فَلَوْ أَخَّرَ الْقَضَاءَ حَتَّى بَقِيَ مِنْ شَعْبَانَ قَدْرَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَيَّامِ، فَمَرِضَ أَوْ سَافَرَ أَوْ حَاضَتْ حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ لَمْ يَلْزَمْ كَفَّارَةٌ لِعَدَمِ التَّفْرِيطِ، وَأَمَّا لَوْ أَخَّرَهُ نَاسِيًا حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ لَكَانَ مُفَرِّطًا. قَالَهُ الْحَطَّابُ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، بِخِلَافِ التَّأْخِيرِ لِإِكْرَاهٍ أَوْ جَهْلٍ فَلَا كَفَّارَةَ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ الْكُبْرَى إذَا كَانَتْ لَا تَجِبُ بِالْفِطْرِ مَعَ الْإِكْرَاهِ أَوْ الْجَهْلِ فَأَحْرَى الصُّغْرَى، وَمِنْ الْعُذْرِ تَأْخِيرُ الْحَامِلِ الْقَضَاءَ لِتَأْخِيرِ وَضْعِهَا حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانَ لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ التَّفْرِيطَ الْمُوجِبَ لِلْكَفَّارَةِ إنَّمَا يُنْظَرُ فِيهِ لِشَعْبَانَ الْوَالِي لِعَامِ الْقَضَاءِ خَاصَّةً، فَمَنْ اتَّصَلَ مَرَضُهُ بِرَمَضَانَ الْوَالِي لِعَامِ الْقَضَاءِ وَفَرَّطَ فِي الْعَامِ الثَّانِي حَتَّى دَخَلَ رَمَضَانُ السَّنَةَ الثَّالِثَةَ فَإِنَّهُ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَعَدَّدُ الْمُدُّ بِتَعَدُّدِ السِّنِينَ الَّتِي فَرَّطَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ مُدٌّ إذَا فَرَّطَ فِي الْقَضَاءِ فِي شَعْبَانَ الْوَالِي لِعَامِ الْقَضَاءِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ زَمَنَ الْقَضَاءِ وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: بِزَمَنٍ أُبِيحَ صَوْمُهُ تَطَوُّعًا، فَلَا يَقْضِي فِي رَابِعِ النَّحْرِ وَلَا فِي سَابِقَيْهِ وَلَا فِيمَا وَجَبَ صَوْمُهُ وَلَوْ بِنَذْرٍ، وَيَصِحُّ فِي يَوْمِ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهُ يُصَامُ تَطَوُّعًا وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ طَلَبُ الصِّبْيَانِ بِالصَّوْمِ كَسَائِرِ التَّطَوُّعَاتِ قَالَ: (وَلَا صِيَامَ عَلَى الصِّبْيَانِ) لَا وُجُوبًا لَا نَدْبًا (حَتَّى يَحْتَلِمَ الْغُلَامُ) أَوْ يَرَى عَلَامَةً لِلْبُلُوغِ سَوَاءً. (وَ) حَتَّى (تَحِيضَ الْجَارِيَةُ) أَوْ تَرَى عَلَامَةً سِوَى الْحَيْضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالصَّبِيُّ لِبُلُوغِهِ بِثَمَانِ عَشْرَةَ أَوْ الْحُلُمِ أَوْ الْحَيْضِ أَوْ الْحَمْلِ أَوْ الْإِنْبَاتِ، وَمَفْهُومُ الصِّيَامِ أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ الصَّلَاةِ وَشُرُوطِهَا وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا لَيْسَ كَذَلِكَ، فَيُنْدَبُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهِ وَيُنْدَبُ لَهُمْ فِعْلُهُ وَيُكْتَبُ لَهُمْ ثَوَابُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّوْمِ وَنَحْوِ الصَّلَاةِ مَشَقَّةُ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ، وَأَيْضًا تَكْرَارُ الصَّلَاةِ فَنَاسَبَ أَمْرَهُمْ بِهَا لِيَتَمَرَّنُوا عَلَيْهَا كَمَا تَقَدَّمَ، قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِي صِيَامِ الصِّبْيَانِ لِعَدَمِ أَمْرِهِمْ بِهِ، وَالثَّوَابُ إنَّمَا يَكُونُ فِي فِعْلِ مَا يُؤْمَرُ بِهِ الْفَاعِلُ، وَيُفْهَمُ مِنْ حَدِيثِ: «أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ» أَنَّهُ يُنْدَبُ حَجُّ الصَّغِيرِ وَتَلِفَتْ النَّفْسُ لِلْفَرْقِ، ا. هـ. كَلَامُ الْأُجْهُورِيِّ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ الْفَرْقَ مَا مَرَّ مِنْ مَشَقَّةِ الصِّيَامِ دُونَ الْحَجِّ؛ لِأَنَّ الْحَجَّ وَإِنْ عَظُمَتْ مَشَقَّتُهُ إنَّمَا هِيَ لِغَيْرِ الصَّبِيِّ، وَأَمَّا هُوَ فَيَحْمِلُهُ الْوَلِيُّ فِيمَا لَا يُطِيقُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَمْلُ مُطِيقٍ وَرَمْيٍ إلَخْ، وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: لَا يَلْزَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ لَهُ حَجًّا وَلِمَنْ أَحَجَّهُ أَجْرًا» أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِفِعْلِهِ ابْتِدَاءً كَالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَنُصُّوا عَلَى أَنَّهُ يُنْدَبُ لِلْوَلِيِّ إحْجَاجُ الصَّغِيرِ، وَإِنَّمَا نَصُّوا عَلَى أَنَّهُ إذَا اتَّفَقَ أَنَّ الْوَلِيَّ أَخَذَ الصَّغِيرَ مَعَهُ إلَى الْحَجِّ يَأْمُرُهُ بِالْإِحْرَامِ إنْ كَانَ مُمَيِّزًا أَوْ يَنْوِي إدْخَالَهُ فِي حُرُمَاتِ الْحَجِّ إنْ كَانَ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ لِحُرْمَةِ الْحَرَمِ، وَعَدَمِ جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ لِغَيْرِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَنْ اُسْتُثْنِيَ مِمَّنْ هُوَ مُتَرَدِّدٌ عَلَيْهَا كَمَا هُوَ مُبَيَّنٌ فِي مَحَلِّهِ وَحَرَّرَهُ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ حَتَّى يَحْتَلِمَ بِقَوْلِهِ: (وَبِالْبُلُوغِ) وَهُوَ قُوَّةٌ تَحْدُثُ فِي الصَّغِيرِ يَخْرُجُ بِهَا مِنْ حَالِ الطُّفُولِيَّةِ إلَى حَالِ الرُّجُولِيَّةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا عَلَامَاتِهِ (لَزِمَتْهُمْ) أَيْ فُرِضَتْ وَتَحَتَّمَتْ عَلَيْهِمْ (أَعْمَالُ الْأَبَدَانِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَسَائِرِ الْمَأْمُورَاتِ وَشُرُوطِهَا وَجَمِيعِ مَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَيْهِ، وَلَا مَفْهُومَ لِأَعْمَالِ الْأَبَدَانِ بَلْ أَعْمَالِ الْقُلُوبِ كَالنِّيَّةِ وَسَائِرِ الْمُعْتَقِدَاتِ الْوَاجِبَةِ الِاعْتِقَادِ، وَلَا يَرِدُ لُزُومُ الْعِدَّةِ وَالْإِحْدَادِ لِلصَّغِيرَةِ وَلُزُومُ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْوَلِيُّ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِأَعْمَالِ الْأَبَدَانِ خُصُوصُ الصِّيَامِ وَمَا أَشْبَهَ مِنْ نَحْوِ الصَّلَاةِ وَالْغَزْوِ وَالْحَجِّ مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْبُلُوغِ فَلَا تَرِدُ الْمَذْكُورَاتُ، وَقَوْلُهُ: (فَرِيضَةً) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ الْمُؤَكِّدَةِ لِعَامِلِهَا؛ لِأَنَّ اللُّزُومَ وَالْفَرِيضَةَ مُتَرَادِفَانِ، وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: قَالَ اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 وَمَنْ أَصْبَحَ جُنُبًا وَلَمْ يَتَطَهَّرْ أَوْ امْرَأَةٌ حَائِضٌ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَمْ يَغْتَسِلَا إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَا يَجُوزُ صِيَامُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا يَوْمُ النَّحْرِ وَلَا يَصُومُ الْيَوْمَيْنِ اللَّذَيْنِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا الْمُتَمَتِّعُ الَّذِي لَا يَجِدُ هَدْيًا وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ لَا يَصُومُهُ مُتَطَوِّعٌ وَيَصُومُهُ مَنْ نَذَرَهُ أَوْ مَنْ كَانَ فِي صِيَامٍ مُتَتَابِعٍ   [الفواكه الدواني] سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] فِي كُلِّ الْأَوْقَاتِ {كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [النور: 59] وَهُمْ الْكِبَارُ، فَوُجُوبُ الِاسْتِئْذَانِ بِالْبُلُوغِ عَلَامَةٌ عَلَى لُزُومِ سَائِرِ الْفَرَائِضِ، إذْ لَا قَائِلَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ حُكْمٍ وَحُكْمٍ، لَكِنْ يُشْكِلُ الِاسْتِدْلَال بِتِلْكَ الْآيَةِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ شَرْطَ الدَّلِيلِ الْمُطَابِقَةُ لِلْمَدْلُولِ أَوْ كَوْنُهُ أَعَمَّ، وَوُجُوبُ الِاسْتِئْذَانِ أَخَصُّ مِنْ الْمَدْلُولِ الَّذِي هُوَ سَائِرُ الْفَرَائِضِ، وَأُجِيبُ بِأَنَّهُ مُطَابِقٌ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَلِذَلِكَ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَهَذَا الِاسْتِئْذَانُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى مُطَابِقٌ لِلدَّعْوَى، وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ أَخَصَّ فَهُوَ مِنْ بَابِ يُؤْخَذُ مِنْ النَّصِّ مَعْنًى يَعُمُّهُ، وَسَبَبُ نُزُولِ تِلْكَ الْآيَةِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْسَلَ يَتِيمًا إلَى عُمَرَ فَدَخَلَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَكْشُوفٌ فَتَغَيَّظَ مِنْ دُخُولِهِ عَلَيْهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَذَهَبَ إلَى الْمُصْطَفَى يَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدَهَا قَدْ نَزَلَتْ» وَالْخِطَابُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ بِتَغْلِيبِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَبِالْبُلُوغِ لَزِمَتْهُمْ إلَخْ، أَنَّ لُزُومَ الْأَعْمَالِ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْبُلُوغِ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ وُجِدَتْ الشُّرُوطُ وَانْتَفَتْ الْمَوَانِعُ، فَلَا تَرِدُ عَدَمُ لُزُومِ الصَّوْمِ إذَا بَلَغَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ لِفَوَاتِ وَقْتِ النِّيَّةِ الَّتِي شَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ مُبَيَّتَةً فَلَا يَلْزَمُهُ إمْسَاكٌ وَلَا قَضَاءٌ. الثَّانِي: إذَا ظَهَرَ الْحَمْلُ بِأُنْثَى فِي أَوَّلِ الْحِجَّةِ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثِ أَشْهُرٍ، فَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا بَلَغَتْ مِنْ ابْتِدَاءِ رَمَضَانَ أَوْ قَبْلَهُ، فَإِنْ ظَهَرَ فِي نِصْفِ الْحِجَّةِ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ نِصْفِهِ. (وَمَنْ أَصْبَحَ) أَيْ طَلَعَ عَلَيْهِ الْفَجْرُ (جُنُبًا) فِي زَمَنِ صَوْمِهِ (وَلَمْ يَتَطَهَّرْ أَوْ) أَصْبَحَتْ (امْرَأَةٌ حَائِضٌ طَهُرَتْ) أَيْ طَاهِرَةٌ لِرُؤْيَتِهَا عَلَامَةَ الطُّهْرِ وَلْيُتِمَّا الصَّوْمَ (قَبْلَ الْفَجْرِ، وَ) الْحَالُ أَنَّهُمَا (لَمْ يَغْتَسِلَا إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُمَا صَوْمُ ذَلِكَ الْيَوْمِ) لِوُقُوعِ النِّيَّةِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلَا يَضُرُّ الْإِصْبَاحُ بِلَا غُسْلٍ وَلَوْ مَعَ الْعِلْمِ بِالْجَنَابَةِ وَانْقِطَاعِ الْحَيْضِ لَيْلًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ إصْبَاحٌ بِجَنَابَةٍ، وَالْجَوَازُ لَا يُنَافِي كَوْنَ الْأَفْضَلِ الِاغْتِسَالَ لَيْلًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ خَبَرُ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصْبِحُ جُنُبًا مِنْ غَيْرِ احْتِلَامٍ فِي رَمَضَانَ ثُمَّ يَصُومُ» وَأَمَّا صِحَّةُ صَوْمِ الْحَائِضِ إذَا طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إذَا كَانَ طُهْرُهَا فِي زَمَنٍ يَسَعُ الْغُسْلَ، وَعَلَى الْمَشْهُورِ إذَا كَانَ فِي زَمَنٍ بِحَيْثُ تُدْرِكُ فِيهِ النِّيَّةَ، وَإِذَا شَكَّتْ هَلْ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَهُ وَجَبَ عَلَيْهَا الْإِمْسَاكُ وَالْقَضَاءُ، وَالْإِمْسَاكُ لِاحْتِمَالِ طُهْرِهَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالْقَضَاءُ لِاحْتِمَالِ طُهْرِهَا بَعْدَهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الصَّلَاةِ فَلَا يَلْزَمُهَا قَضَاؤُهَا إذَا شَكَّتْ هَلْ طَهُرَتْ قَبْلَ خُرُوجِ وَقْتِهَا أَوْ بَعْدَهُ؟ وَالْفَرْقُ أَنَّ الْحَيْضَ يَمْنَعُ أَدَاءَ الصَّلَاةِ وَقَضَاءَهَا، وَأَمَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ أَدَاءَهُ لَا قَضَاءَهُ، فَلِذَلِكَ وَجَبَ عَلَيْهَا قَضَاءُ الصَّوْمِ عِنْدَ الشَّكِّ؛ لِأَنَّهَا تَقْضِي أَيَّامَ الْحَيْضِ الْمُحَقَّقِ فَأَيَّامُ الشَّكِّ فِيهِ أَحْرَى، فَإِنْ قِيلَ: الْحَيْضُ يَمْنَعُ صِحَّةَ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ وَوُجُوبَهُمَا، فَمَا وَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ قَضَاءِ الصَّوْمِ دُونَ الصَّلَاةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ قَضَاءَ الصَّوْمِ بِأَمْرٍ جَدِيدٍ لِعَدَمِ تَكَرُّرِهِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ. (وَلَا يَجُوزُ) لِأَحَدٍ بَلْ وَلَا يَصِحُّ (صِيَامُ يَوْمِ الْفِطْرِ وَلَا النَّحْرِ) لِمَا صَحَّ مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ صَوْمِهِمَا وَلِلْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ صَوْمِهِمَا، وَاخْتُلِفَ هَلْ الْمَنْعُ لِلتَّعَبُّدِ أَوْ مُعَلَّلٌ بِضِيَافَةِ اللَّهِ لِعِبَادِهِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ؟ فَعَلَى الْأَوَّلِ لَا قَضَاءَ عَلَى نَاذِرِهِمَا، وَعَلَى الثَّانِي وُجُوبُ الْقَضَاءِ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) : إنَّمَا قُلْنَا: وَلَا يَصِحُّ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ عَدَمُ الصِّحَّةِ كَالصَّلَاةِ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ هُنَا عَنْ ذَاتِ الْعِبَادَةِ الْمَوْصُوفَةِ بِكَوْنِهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ، وَمِثْلُهَا الْمَنْهِيُّ عَنْهَا لِذَاتِ الْمَكَانِ كَالْفَرِيضَةِ عَلَى الْكَعْبَةِ، وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي الدَّارِ الْمَغْصُوبَةِ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا لِأَمْرٍ عَارِضٍ وَهُوَ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ لَا لِذَاتِ زَمَانِهَا وَلَا لِذَاتِ مَكَانِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَى مَحَلِّ الْغَيْرِ وَلَوْ بِغَيْرِ صَلَاةٍ؟ (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا وَلَا يَصِحُّ أَنْ (يُصَامَ الْيَوْمَانِ اللَّذَانِ بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ إلَّا) أَنْ يَصُومَهُمَا (الْمُتَمَتِّعُ) أَوْ الْقَارِنُ (الَّذِي لَا يَجِدُ هَدْيًا) وَكَذَلِكَ كُلُّ مَنْ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ فِي حَجٍّ مُتَقَدِّمٍ عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَعَجَزَ عَنْ الْهَدْيِ فَإِنَّهُ يَصُومُ عَشْرَةَ أَيَّامٍ ثَلَاثَةً فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى كَمَا يَأْتِي فِي بَابِ الْحَجِّ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَصَامَ أَيَّامَ مِنًى بِنَقْصٍ فِي حَجٍّ إنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوُقُوفِ، وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى وَلَمْ تُجْزِ إنْ قُدِّمَتْ عَلَى وُقُوفِهِ، وَالْأَصْلُ فِي حُرْمَةِ صَوْمِهِمَا لِغَيْرِ نَحْوِ الْمُتَمَتِّعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ» وَفِي الصَّوْمِ إعْرَاضٌ عَنْ ضِيَافَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقِيلَ تَحْرِيمُ صَوْمِهِمَا لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِي نَاذِرِ صَوْمِهَا، فَعَلَى أَنَّهُ مُعَلَّلٌ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى نَاذِرِهِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 قَبْلَ ذَلِكَ وَمَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ نَاسِيًا فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ وَكَذَلِكَ مَنْ أَفْطَرَ فِيهِ لِضَرُورَةٍ مِنْ مَرَضٍ وَمَنْ سَافَرَ   [الفواكه الدواني] قَضَاؤُهُمَا وَعَلَى التَّعَبُّدِ لَا قَضَاءَ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ رَفْعِنَا يَوْمَانِ بِالنِّيَابَةِ عَنْ فَاعِلِ يُصَامُ وَرُفِعَ الْمُتَمَتِّعُ بِالْفَاعِلِيَّةِ لِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ اسْتِقَامَةُ الْكَلَامِ وَصِحَّةُ الْإِعْرَابِ، وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ يُخَالِفُ قَاعِدَةَ النَّحْوِ الْمُقَرَّرَةِ فِي الِاسْمِ الْوَاقِعِ بَعْدَ إلَّا مَعَ التَّفْرِيغِ، فَإِنَّ الْقَاعِدَةَ إعْرَابُهُ عَلَى مَا يَقْتَضِيهِ مَا قَبْلَهَا لَوْ كَانَتْ إلَّا مَحْذُوفَةً مُشَارٌ إلَيْهِ بِقَوْلِ الْخُلَاصَةِ: وَأَنْ يُفَرَّغُ سَابِقٌ إلَّا لِمَا ... بَعْدَ يَكُنْ كَمَا لَوْ إلَّا عُدِمَا وَهَذَا أَوْلَى مِنْ قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الصَّوَابُ بِنَاءُ يَصُومُ لِلْفَاعِلِ وَنَصْبُ الْيَوْمَيْنِ وَصِفَتِهِمَا وَرَفْعُ الْمُتَمَتِّعِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِيَصُومُ، وَمَا فِي الْمُصَنِّفِ زَلَّةُ قَلَمٍ؛ لِأَنَّ هَذَا مِنْ ضَرُورِيَّاتِ الْمُصَنِّفِ، وَمَا أَجَابَ بِهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنْ تَجْرِيحِهِ عَلَى رَفْعِ رِجَالٍ عَلَى قِرَاءَةِ: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ} [النور: 36] {رِجَالٌ} [النور: 37] بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ، وَرَفْعُ رِجَالٍ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ لَا يَصِحُّ هُنَا لِوُجُودِ إلَّا قَبْلَ الْمَرْفُوعِ وَتَفْرِيغِ الْعَامِلِ، وَهَذَا تَوْضِيحٌ لِتَصْوِيبِ سَيِّدِي يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ (وَالْيَوْمُ الرَّابِعُ) لِيَوْمِ النَّحْرِ (لَا يَصُومُهُ مُتَطَوِّعٌ) أَيْ يُكْرَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الرَّابِعِ وَسَابِقَيْهِ أَنَّ التَّعْجِيلَ يُسْقِطُ رَمْيَهُ فَهُوَ أَضْعَفُ رُتْبَةً مِنْهُمَا. (وَ) إنَّمَا (يَصُومُهُ مَنْ نَذَرَهُ) وَلَوْ قَصْدًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَابِعُ النَّحْرِ لِنَاذِرِهِ وَإِنْ تَعْيِينًا، وَإِنَّمَا لَزِمَ النَّاذِرَ صَوْمُهُ مَعَ كَرَاهَتِهِ، وَالنَّذْرُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ إلَّا إذَا كَانَ مَنْدُوبًا أَوْ مَسْنُونًا قَبْلَ النَّذْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ نَظَرًا إلَى كَوْنِهِ مُطْلَقَ عِبَادَةٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ لُزُومِ الْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ قَصْدًا لُزُومُهُ فِي ضِمْنِ سَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ مَنْذُورَةٍ بِالْأَوْلَى، وَأَمَّا لَوْ نَذَرَ سَنَةً مُبْهَمَةً أَوْ شَهْرًا مُبْهَمًا فَلَا يَصُومُهُ (أَوْ) أَيْ وَكَذَا يَصُومُهُ (مَنْ كَانَ فِي صِيَامٍ) غَيْرِ مَنْذُورٍ لَكِنْ (مُتَتَابِعٍ) وُجُوبًا (قَبْلَ ذَلِكَ) أَيْ قَبْلَ مَجِيءِ الرَّابِعِ، كَمَنْ صَامَ شَوَّالًا وَذَا الْقَعْدَةِ عَنْ كَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ ثُمَّ مَرِضَ ثُمَّ صَحَّ فِي لَيْلَةِ الرَّابِعِ فَإِنَّهُ يَصُومُهُ، وَيَلْزَمُ مِنْ صَوْمِهِ لِنَاذِرِهِ جَوَازُ صَوْمِهِ لِلْمُتَمَتِّعِ بِالْأَوْلَى عَنْ سَابِقَيْهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الرَّابِعَ يُكْرَهُ صَوْمُهُ وَيَصِحُّ لِنَاذِرِهِ وَلِنَحْوِ الْمُتَمَتِّعِ وَكُلُّ مَنْ كَانَ فِي صِيَامٍ مُتَتَابِعٍ، وَإِنَّمَا قُلْنَا غَيْرِ مَنْذُورٍ لِتَقَدُّمِ الْمَنْذُورَةِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَنَّ صِيَامَ السَّنَةِ عَلَى أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ كَصَوْمِ رَمَضَانَ، وَحَرَامٌ كَيَوْمَيْ الْعِيدِ، وَمَكْرُوهٌ كَأَيَّامِ اللَّيَالِي الْبِيضِ وَسِتَّةٍ مِنْ شَوَّالٍ لِمَنْ يُقْتَدَى بِهِ أَوْ يَعْتَقِدُهَا غَيْرَ مَنْدُوبَةٍ، وَجَائِزٌ لِنَحْوِ الْمُتَمَتِّعِ كَثَانِي النَّحْرِ وَثَالِثِهِ، وَجَائِزٌ لِثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ: النَّاذِرِ وَالْمُتَمَتِّعِ وَالصَّائِمِ لِأَيَّامٍ وَاجِبَةِ التَّتَابُعِ اتَّصَلَ بِهَا وَهُوَ رُبَاعُ النَّحْرِ، وَمَا رَغِبَ الشَّارِعُ فِيهِ بِخُصُوصِهِ كَعَرَفَةَ وَعَاشُورَاءَ، وَمَا يُصَامُ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِيَاطِ كَيَوْمِ الشَّكِّ، وَمَا رَغِبَ فِيهِ الشَّارِعُ لَا عَلَى وَجْهِ الْخُصُوصِ كَصِيَامِ بَعْضِ أَيَّامٍ غَيْرِ مَا سَبَقَ أَوْ الدَّهْرِ. [أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ حَالَ كَوْنِهِ نَاسِيًا] (وَمَنْ أَفْطَرَ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ) حَالَ كَوْنِهِ (نَاسِيًا) الصَّوْمَ (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ) خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِعَدَمِ لُزُومِ الْقَضَاءِ كَالشَّافِعِيِّ، وَخِلَافًا لِمَنْ قَالَ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مَعَ الْكَفَّارَةِ، وَلِذَلِكَ رَدَّ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ فَقَطْ: وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِمْسَاكُ لِحُرْمَةِ الزَّمَنِ، فَإِنْ تَمَادَى عَلَى الْفِطْرِ غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ لَزِمَهُ الْكَفَّارَةُ، وَأَمَّا لَوْ تَمَادَى عَلَى الْفِطْرِ مُتَأَوِّلًا بِأَنْ ظَنَّ إبَاحَةَ الْأَكْلِ لِمَنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذَا تَأْوِيلٌ قَرِيبٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأُ وَالنِّسْيَانُ وَمَا اُسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» ، وَالْمَرْفُوعُ الْإِثْمُ، فَلِذَا ارْتَفَعَتْ الْكَفَّارَةُ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: فِي نَهَارِ رَمَضَانَ عَنْ الْفِطْرِ فِي قَضَائِهِ، فَفِي لُزُومِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ فَيَلْزَمُهُ يَوْمَانِ وَعَدَمُ لُزُومِهِ فَيَلْزَمُهُ يَوْمٌ فَقَطْ خِلَافٌ، وَعَمَّا لَوْ أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ نَاسِيًا فَإِنَّهُ يُمْسِكُ وُجُوبًا وَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ فِي عَدَمِ الْقَضَاءِ الزَّمَنُ الْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ يُفْطِرُ فِيهِ نَاسِيًا عَلَى مَا قَالَ خَلِيلٌ، أَوْ يَفُوتُ صِيَامُهُ لِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ لِمَرَضٍ، الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إلَّا الْمُعَيَّنَ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَسَيَأْتِي مَفْهُومُ أَفْطَرَ نَاسِيًا وَهُوَ الْمُتَعَمَّدُ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالْكَفَّارَةُ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ (مَنْ أَفْطَرَ عَلَيْهِ) أَيْ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ (لِضَرُورَةٍ) يَشُقُّ مَعَهَا الصَّوْمُ وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ مَرَضٍ) يُخْشَى بِالصَّوْمِ زِيَادَتُهُ أَوْ تَأْخِيرُ بُرْئِهِ، وَاسْتَنَدَ فِي ذَلِكَ لِتَجْرِبَةٍ فِي نَفْسِهِ أَوْ إخْبَارِ طَبِيبٍ حَاذِقٍ أَوْ مُوَافِقٍ لَهُ فِي الْمِزَاجِ، وَحُكْمُ الْفِطْرِ الْوُجُوبُ إنْ خَافَ الْهَلَاكَ أَوْ شَدِيدَ الْأَذَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ إنْ خَافَ هَلَاكًا أَوْ شَدِيدَ أَذًى، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَخْشَ ذَلِكَ وَلَكِنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فَلَهُ الْفِطْرُ وَيَقْضِي أَوْ يُمْسِكُ، وَأَمَّا الْمَرَضُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يَشُقُّ مَعَهُ الصَّوْمُ فَيَحْرُمُ لِأَجْلِهِ الْفِطْرُ، فَإِنْ أَفْطَرَ كَفَّرَ مَعَ الْقَضَاءِ، وَمَفْهُومٌ لِضَرُورَةٍ أَنَّ الصَّحِيحَ الَّذِي يَحْصُلُ لَهُ الْمَشَقَّةُ بِالصَّوْمِ لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ بِحَيْثُ يَخْشَى الْهَلَاكَ، أَوْ شَدِيدَ الْأَذَى الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرَ مَعَهُ عَلَى الصَّوْمِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الصَّائِمَ تَطَوُّعًا لَا يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ اخْتِيَارًا وَكَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ الْجَوَازِ لِصَائِمِ رَمَضَانَ بِالْأَوْلَى رَفَعَ ذَلِكَ الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَافَرَ) أَيْ أَنْشَأَ السَّفَرَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 سَفَرًا تُقْصَرُ فِيهِ الصَّلَاةُ فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ تَنَلْهُ ضَرُورَةٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَالصَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْنَا وَمَنْ سَافَرَ أَقَلَّ مِنْ أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ لَهُ فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَكُلُّ مَنْ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ   [الفواكه الدواني] أَوْ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ وَهُوَ مُسَافِرٌ (سَفَرًا تَقْصُرُ فِيهِ الصَّلَاةُ) بِأَنْ كَانَ مُبَاحًا وَمَسَافَتُهُ أَرْبَعُ بُرُدٍ ذَهَابًا بِأَنْ قُصِدَتْ دَفْعَةً (فَلَهُ أَنْ يُفْطِرَ وَإِنْ لَمْ تَنَلْهُ) أَيْ تَلْحَقُهُ (ضَرُورَةٌ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ قَالَ: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَسِتَّ عَشْرَةَ مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ فَمِنَّا مَنْ صَامَ وَمِنَّا مَنْ أَفْطَرَ، فَلَمْ يَعِبْ الصَّائِمُ عَلَى الْمُفْطِرِ وَلَا الْمُفْطِرُ عَلَى الصَّائِمِ» (وَ) لَكِنَّ (الصَّوْمُ أَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ لِمَنْ قَوِيَ عَلَيْهِ وَفِطْرُهُ مَكْرُوهٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] وَلَا يُشْكَلُ عَلَيْهِ أَفْضَلِيَّةُ قَصْرِ الصَّلَاةِ عَلَى الْإِتْمَامِ لِأَنَّ الذِّمَّةَ تَبْرَأُ مَعَ الْقَصْرِ، بِخِلَافِ الْفِطْرِ لَا بَرَاءَةَ مَعَهُ فَفَضْلُ الصِّيَامِ لِبَرَاءَةِ الذِّمَّةِ بِهِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: أَحَبُّ إلَيْنَا إلَى الرَّدِّ عَلَى ابْنِ حَنْبَلٍ وَابْنِ الْمَاجِشُونِ وَمَنْ وَافَقَهُمَا حَيْثُ قَالُوا: إنَّ الْأَفْضَلَ الْفِطْرُ لِمَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «لَيْسَ مِنْ الْبِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» وَأَجَابَ أَصْحَابُ الْمَشْهُورِ بِأَنَّ الْفُقَهَاءَ أَوَّلَتْ كُلَّ مَا دَلَّ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّوْمُ وَيَتَضَرَّرُ بِهِ لِاشْتِغَالِهِ بِنَحْوِ الْقِتَالِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَقَوَّوْا لِعَدُوِّكُمْ» وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَفِطْرٌ بِسَفَرِ قَصْرٍ شَرَعَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَنْوِهِ فِيهِ وَإِلَّا قَضَى وَلَوْ تَطَوُّعًا وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ بِسَفَرِهِ، وَمَعْنَى الشُّرُوعِ قَبْلَ الْفَجْرِ أَنْ يَصِلَ إلَى مَحَلِّ بَدْءِ الْقَصْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَمَعْنَى الْفِطْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ تَبْيِيتُ الْفِطْرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَعْلَمُ أَنَّ الْفَجْرَ يَطْلُعُ عَلَيْهِ قَبْلَ وُصُولِهِ إلَى مَحَلِّ بَدْئِهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ تَبْيِيتُ الْفِطْرِ وَإِنْ بَيَّتَهُ كَفَّرَ وَلَوْ مُتَأَوِّلًا، وَكَأَنَّ جَوَازَ تَبْيِيتِ الْفِطْرِ مَشْرُوطٌ بِمَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ يُجَاوِزُ مَحَلَّ بَدْءِ الْقَصْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَى مَحَلِّ بَدْءِ الْقَصْرِ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْيِيتُ الصَّوْمِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَالْحَاضِرِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْ يَصِلُ إلَّا مَحَلِّ بَدْءِ الْقَصْرِ قَبْلَ الْفَجْرِ يَجُوزُ لَهُ تَبْيِيتُ الْفِطْرِ، فَإِنْ بَيَّتَ الصَّوْمَ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ إلَّا لِضَرُورَةٍ كَغَيْرِ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّهُ شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ بِتَبْيِيتِ الصَّوْمِ، فَإِنْ أَفْطَرَ اخْتِيَارًا كَفَّرَ، وَأَمَّا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يَصِلُ إلَّا إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ فَهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَبْيِيتُ الصَّوْمِ، فَإِنْ بَيَّتَ الْفِطْرَ كَفَّرَ وَلَوْ كَانَ مُتَأَوِّلًا لِأَنَّهُ رَفَعَ نِيَّةَ الصَّوْمِ نَهَارًا، وَأَمَّا لَوْ بَيَّتَ الصَّوْمَ عَمَلًا بِالْوَاجِبِ عَلَيْهِ لَمْ يَجُزْ لَهُ الْفِطْرُ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ فَإِنْ أَفْطَرَ كَفَّرَ إنْ أَفْطَرَ قَبْلَ عَزْمِهِ عَلَى السَّفَرِ وَلَوْ تَأَوَّلَ، وَإِنْ أَفْطَرَ بَعْدَ شُرُوعِهِ فَلَا كَفَّارَةَ وَإِنْ لَمْ يَتَأَوَّلْ، وَإِنْ أَفْطَرَ بَعْدَ عَزْمِهِ وَقَبْلَ شُرُوعِهِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُتَأَوِّلًا كَفَّرَ وَإِلَّا فَلَا إنْ سَافَرَ مِنْ يَوْمِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: يَقْطَعُ جَوَازَ الْفِطْرِ مَا يَقْطَعُ جَوَازَ قَصْرِ الصَّلَاةِ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَقَطَعَهُ نِيَّةُ إقَامَةِ أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ صِحَاحٍ وَلَوْ بِخِلَالِهِ إلَّا لِعَسْكَرٍ بِدَارِ الْحَرْبِ. الثَّانِي: مَنْ أَرَادَ إدَامَةَ الصَّوْمِ فِي سَفَرِ الْقَصْرِ وَجَبَ عَلَيْهِ تَبْيِيتُ النِّيَّةِ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ لِانْقِطَاعِ وُجُوبِ التَّتَابُعِ بِسَفَرِ الْقَصْرِ. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كُلَّ مَنْ سَافَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ يَجُوزُ لَهُ الْفِطْرُ بِالشَّرْطِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ أَنْشَأَ السَّفَرَ لِأَجْلِ الْفِطْرِ وَنَظَرَ فِيهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَائِلًا: لَوْ تَعَمَّدَ السَّفَرَ لِأَجْلِ الْإِفْطَارِ كَمَنْ أَخَّرَتْ الصَّلَاةَ لِحَيْضٍ فَحَاضَتْ أَوْ تَصَدَّقَ بِمَالِهِ لِيُسْقِطَ عَنْهُ الْحَجَّ أَوْ أَخَّرَ الصَّلَاةَ فِي الْحَضَرِ لِيُصَلِّيَهَا مَقْصُورَةً فِي السَّفَرِ، اللَّخْمِيُّ: وَجَمِيعُ ذَلِكَ مَكْرُوهٌ، وَفِي كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّهُ مَأْثُومٌ وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الصَّوْمُ فِي السَّفَرِ وَلَا يُصَلِّي أَرْبَعًا وَلَا تَقْضِي الْحَائِضُ، لَكِنْ يُنَاقِضُ ذَلِكَ مَنْ أَبْدَلَ إبِلًا بِذَهَبٍ فِرَارًا مِنْ الزَّكَاةِ، أَوْ مَنْ جَمَعَ أَوْ فَرَّقَ فِي الْخَلْطَةِ فِرَارًا، وَأَصْلُ الْمَذْهَبِ الْمُعَامَلَةُ بِنَقِيضِ الْقَصْدِ الْفَاسِدِ. قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَفِطْرُ هَذَا لَا يَتَأَتَّى عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الْمَكْرُوهِ أَوْ الْحَرَامِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَصْرِ جَوَازِ الْفِطْرِ فِي السَّفَرِ عَلَى سَفَرِ الْقَصْرِ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ لِمَنْ أَفْطَرَ فِي غَيْرِهِ مُطْلَقًا قَالَ: (وَمَنْ سَافَرَ أَقَلَّ مِنْ) مَسَافَةِ (أَرْبَعَةِ بُرُدٍ فَظَنَّ أَنَّ الْفِطْرَ مُبَاحٌ لَهُ فَأَفْطَرَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِعَدَمِ انْتِهَاكِهِ بَلْ هُوَ مِنْ أَصْحَابِ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ وَهُوَ مَا اسْتَنَدَ صَاحِبُهُ لِسَبَبٍ مَوْجُودٍ (وَ) إنَّمَا (عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ) مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ (وَ) مِثْلُهُ (كُلُّ مَنْ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا) تَأْوِيلًا قَرِيبًا (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) وَمَثَّلَ خَلِيلٌ لِأَصْحَابِ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ بِقَوْلِهِ: لَا إنْ أَفْطَرَ نَاسِيًا أَوْ لَمْ يَغْتَسِلْ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ تَسَحَّرَ قُرْبَهُ أَوْ قَدِمَ لَيْلًا أَوْ سَافَرَ دُونَ الْقَصْرِ أَوْ رَأَى شَوَّالًا نَهَارًا فَظَنَّ الْإِبَاحَةَ، بِخِلَافِ بَعِيدِ التَّأْوِيلِ وَهُوَ مَا لَمْ يُوجَدْ سَبَبُهُ فَفِيهِ الْكَفَّارَةُ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ بَعِيدِ التَّأْوِيلِ كَرًّا وَلَمْ يَقْبَلْ أَوْ لِحُمَّى ثُمَّ حُمَّ أَوْ الْحَيْضِ ثُمَّ حَصَلَ أَوْ حِجَامَةٍ أَوْ غَيْبَةٍ، وَكَذَا مَنْ رَأَى هِلَالَ رَمَضَانَ وَلَمْ يَرْفَعْ شَهَادَتَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَكَذَا مَنْ أَكَلَ بَعْدَ ثُبُوتِ الصَّوْمِ نَهَارًا مَعَ الْعِلْمِ بِوُجُوبِ الْإِمْسَاكِ، فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مِمَّنْ ذَكَرَ الْكَفَّارَةَ وَلَوْ أَفْطَرَ ظَانًّا الْإِبَاحَةَ، إلَّا مَنْ حَجَمَ أَوْ احْتَجَمَ وَأَفْطَرَ ظَانًّا الْإِبَاحَةَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 عَلَى مَنْ أَفْطَرَ مُتَعَمِّدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ مَعَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةُ فِي ذَلِكَ إطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذَلِكَ أَحَبُّ إلَيْنَا وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ أَوْ صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ   [الفواكه الدواني] قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ لِاسْتِنَادِهِ إلَى سَبَبٍ مَوْجُودٍ فَهُوَ مِنْ أَمْثِلَةِ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ، خِلَافًا لِخَلِيلٍ فِي مَشْيِهِ عَلَى كَلَامِ ابْنِ حَبِيبٍ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُ: أَوْ تَسَحَّرَ قُرْبَ الْفَجْرِ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ مَنْ تَسَحَّرَ قُرْبَ الْفَجْرِ وَأَفْطَرَ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، بِخِلَافِ مَنْ تَسَحَّرَ فِي الْفَجْرِ وَيُفْطِرُ ظَانًّا الْإِبَاحَةَ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْقَضَاءُ فَقَطْ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ صَاحِبَ التَّأْوِيلِ الْقَرِيبِ لَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ بِخِلَافِ الْبَعِيدِ، فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ فِي التَّأْوِيلِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ . (وَإِنَّمَا الْكَفَّارَةُ) وَاجِبَةٌ (عَلَى مَنْ أَفْطَرَ) فِي رَمَضَانَ الْحَاضِرِ (مُتَعَمِّدًا بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ أَوْ جِمَاعٍ) أَوْ أَفْطَرَ مُتَأَوِّلًا تَأْوِيلًا بَعِيدًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَفَّرَ إنْ تَعَمَّدَ بِلَا تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ وَجَهِلَ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ جِمَاعًا أَوْ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا بِفَمٍ فَقَطْ، أَوْ رَفَعَ نِيَّةً نَهَارًا، أَوْ كَانَ فِطْرُهُ بِاسْتِيَاكٍ بِجَوْزَاءَ، أَوْ تَعَمَّدَ إخْرَاجَ مَنِيٍّ وَإِنْ بِإِدَامَةِ فِكْرٍ أَوْ نَظَرٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ شُرُوطَ الْكَفَّارَةِ خَمْسٌ: الْعَمْدُ وَالِاخْتِيَارُ وَالِانْتِهَاكُ لِلْحُرْمَةِ وَالْعِلْمُ بِحُرْمَةِ الْمُوجِبِ الَّذِي فَعَلَهُ وَإِنْ جَهِلَ وُجُوبَ الْكَفَّارَةِ بِخِلَافِ جَهْلِ رَمَضَانَ فَيُسْقِطُهَا اتِّفَاقًا، وَخَامِسُ الشُّرُوطِ كَوْنُ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ الْحَاضِرِ وَحَيْثُ كَانَتْ الْكَفَّارَةُ عَنْ الْمُكَفِّرِ فَتَجِبُ. (مَعَ الْقَضَاءِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيَجِبُ مَعَهَا الْقَضَاءُ إنْ كَانَتْ لَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَفَّرَ عَنْ غَيْرِهِ كَمَا لَوْ أَكْرَهَ زَوْجَتَهُ أَوْ غَيْرَهَا عَلَى الْجِمَاعِ لَمْ يَلْزَمْهُ الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا الْقَضَاءُ عَلَيْهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُقَيِّدْ الْأَكْلَ بِالْفَمِ اعْتِمَادًا عَلَى الْمُتَعَارَفِ مِنْ أَنَّ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ إنَّمَا يَكُونَانِ بِالْفَمِ، وَأَمَّا لَوْ أَفْطَرَ بِمَا وَصَلَ مِنْ أَنْفِهٍ أَوْ أُذُنِهِ أَوْ عَيْنِهِ أَوْ رَأْسِهِ كَدَهْنِ الْمَرْأَةِ رَأْسَهَا نَهَارًا بِمَا يَصِلُ إلَى حَلْقِهَا لَوَجَبَ الْقَضَاءُ فَقَطْ، وَيُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِالْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ وُصُولُ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ إلَى الْجَوْفِ فَلَا كَفَّارَةَ بِمَا يَصِلُ إلَى الْحَلْقِ، وَرَدَّهُ وَإِنْ لَزِمَ الْقَضَاءُ بِوُصُولِ الْمُنْحَلِ إلَى الْحَلْقِ وَإِنْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْجَوْفِ بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُنْحَلِ نَحْوِ الدِّرْهَمِ يَصِلُ إلَى حَلْقِهِ وَيَرُدُّهُ فَلَا قَضَاءَ وَلَا كَفَّارَةَ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْجِمَاعِ الْمُوجِبِ لِلْكَفَّارَةِ كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلْغُسْلِ عَلَى الْفَاعِلِ، لَا إنْ وَطِئَ الصَّائِمُ الْبَالِغُ غَيْرَ الْمُطِيقَةِ وَلَمْ يُنْزِلْ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَى كَبِيرَةٍ وَطِئَهَا صَبِيٌّ وَلَمْ تُنْزِلْ وَمَعَ الْمَذْيِ الْقَضَاءُ. الثَّانِي: إذَا عَرَفْت مَا ذَكَرْنَاهُ لَك مِمَّنْ تَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، عَلِمْت أَنْ حَصْرَ الْمُصَنِّفِ الْكَفَّارَةَ فِي تَعَمُّدِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَالْجِمَاعِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إلَّا أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ نَظَرَ إلَى الْغَالِبِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا قَدْ تَجِبُ بِغَيْرِ مَا ذَكَرَهُ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِحُكْمِ مَا إذَا تَعَدَّدَ مِنْهُ مُوجِبُ الْكَفَّارَةِ، وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهَا لَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَكَلَاتِ أَوْ الْوَطَآتِ، وَلَا بِأَكْلٍ وَوَطْءٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانَ أَخْرَجَ لِلْأَوَّلِ كَفَّارَةً قَبْلَ فِعْلِ الثَّانِي، وَإِنَّمَا تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِ الْأَيَّامِ، وَهَذَا حُكْمُ الْكَفَّارَةِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَوْجَبَ الْكَفَّارَةَ عَلَى غَيْرِهِ فَتَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ بِتَعَدُّدِ الْمُكَفَّرِ عَنْهُ. الرَّابِعُ: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْكَفَّارَةِ الِانْتِهَاكُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ بِالظَّاهِرِ، وَفِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَعَمَّدَ الْفِطْرَ فِي يَوْمٍ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ يَوْمُ عِيدٍ، أَوْ أَفْطَرَتْ الْمَرْأَةُ مُتَعَمِّدَةً ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهَا حَائِضٌ قَبْلَ ذَلِكَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهَا، خِلَافًا لِحَمْدِيسٍ وَمَنْ وَافَقَهُ، بِخِلَافِ مَنْ أَفْطَرَتْ مُتَعَمِّدَةً ثُمَّ يَأْتِيهَا بَعْدَ فِطْرِهَا الْحَيْضُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ فَإِنَّهَا تُكَفِّرُ. الْخَامِسُ: صَرِيحُ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَلْزَمُ بِالْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ بَعْدَ حُصُولِهِ، وَأَمَّا لَوْ عَزَمَ عَلَى الْأَكْلِ أَوْ الْجِمَاعِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَلَا الْقَضَاءُ، كَمَنْ عَزَمَ عَلَى نَقْضِ وُضُوئِهِ وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ النَّاقِضُ بِالْفِعْلِ وَلَا يُعَدُّ قَصْدُهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ رَفْضًا، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. [مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الصَّائِم فِي رَمَضَان] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مُوجِبِ الْكَفَّارَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِهَا قَوْلُهُ: (وَالْكَفَّارَةُ) الْكُبْرَى (فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْأَكْلِ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ أَحَدُ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ فِي حَقِّ الْحُرِّ الرَّشِيدِ وَأَشَارَ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (إطْعَامُ) أَيْ تَمْلِيكُ (سِتِّينَ مِسْكِينًا) أَحْرَارًا مُسْلِمِينَ، وَالْمُرَادُ بِالْمِسْكِينِ مَا يَشْمَلُ الْفَقِيرَ وَثَانِي مَفْعُولَيْ إطْعَامُ (هَذَا لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) فَلَا يُجْزِئُ غَدَاءٌ وَعَشَاءٌ خِلَافًا لِأَشْهَبَ، كَمَا لَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِأَقَلَّ مِنْ سِتِّينَ وَلَا لِأَكْثَرَ، وَيَسْتَرْجِعُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا زَادَ عَلَى الْمُدِّ إنْ كَانَ بَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ كَفَّارَةٌ وَبَقِيَ بِيَدِهِ وَكَمَّلَ السِّتِّينَ، فَإِنْ ذَهَبَ مِنْ يَدِهِ فَلَا يُتْبَعُ بِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُسَلِّطُ لَهُ فِي إتْلَافِهِ، وَيُكْمِلُ لِمَنْ أَخَذَ النَّاقِصَ كَمَا ذَكَرُوهُ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ، وَمِقْدَارُ الْمُدِّ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَهُوَ مِلْءُ الْيَدَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ لَا مَقْبُوضَتَيْنِ وَلَا مَبْسُوطَيْنِ، وَهَلْ تَكُونُ مِنْ عَيْشِ الْمُكَفِّرِ أَوْ مِنْ غَالِبِ عَيْشِ أَهْلِ الْبَلْدَةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ؟ قَالَ اللَّخْمِيُّ: يُجْزِئُ ذَلِكَ عَلَى الْخِلَافِ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَهِيَ عَلَى التَّخْيِيرِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَأَفْضَلُ أَنْوَاعِهَا الْإِطْعَامُ. فَلِذَلِكَ صَدَّرَ بِهِ وَقَالَ: (فَذَلِكَ) أَيْ الْإِطْعَامُ (أَحَبُّ إلَيْنَا) مُعْظَمِ أَصْحَابِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَالْمُصَنِّفِ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِطْعَامُ أَفْضَلَ؛ لِأَنَّهُ أَعَمُّ نَفْعًا وَأَفْضَلِيَّةً فِي حَقِّ الْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَفَّرَ إنْ تَعَمَّدَ بِلَا تَأْوِيلٍ قَرِيبٍ وَجَهِلَ فِي رَمَضَانَ فَقَطْ جِمَاعًا أَوْ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا بِفَمٍ فَقَطْ، بِإِطْعَامِ سِتِّينَ مِسْكِينًا لِكُلِّ مُدٍّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 مُتَعَمِّدًا كَفَّارَةٌ وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَيْلًا فَأَفَاقَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّوْمِ وَلَا يَقْضِي مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يَحْفَظَ لِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ وَيُعَظِّمَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا يَقْرَبُ   [الفواكه الدواني] وَهُوَ الْأَفْضَلُ، أَوْ صِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالظِّهَارِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ مَا أَجَابَ بِهِ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى الْأَمِيرَ عَبْدَ الرَّحْمَنِ حِينَ سَأَلَ الْفُقَهَاءَ عَنْ وَطْئِهِ جَارِيَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ مِنْ لُزُومِ تَكْفِيرِهِ بِالصَّوْمِ، وَسَكَتَ الْحَاضِرُونَ ثُمَّ سَأَلُوهُ: لِمَ لَمْ تُخَيِّرْهُ؟ فَقَالَ: لَوْ خَيَّرْته لَوَطِئَ كُلَّ يَوْمٍ وَأَعْتَقَ فَلَمْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ الْكَفَّارَاتِ شُرِعَتْ لِلزَّجْرِ، وَالْمُلُوكُ لَا تَنْزَجِرُ بِالْإِعْتَاقِ لِسُهُولَتِهِ عَلَيْهِمْ فَتَعَيَّنَ مَا هُوَ زَاجِرٌ لَهُمْ، وَهَذَا مِنْ النَّظَرِ فِي الْمَصْلَحَةِ وَلَا تَأْبَاهُ الْقَوَاعِدُ، وَلَعَلَّهُ غَيْرُ مُنَافٍ لِلتَّخْيِيرِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ التَّخْيِيرِ عَلَى فَقْدِ الْمُعَيِّنِ لِنَوْعٍ مِنْهَا، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ، وَأَشَارَ إلَى ثَانِي أَنْوَاعِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ) أَيْ الْحُرِّ الرَّشِيدِ (أَنْ يُكَفِّرَ بِعِتْقِ رَقَبَةٍ) مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ وَمُحَرَّرَةٍ لِخُصُوصِ الْكَفَّارَةِ، وَرُتْبَتُهُ تَلِي رُتْبَةَ الْإِطْعَامِ فِي الْأَفْضَلِيَّةِ؛ لِأَنَّ فِيهِ مَنْفَعَةً لِلْغَيْرِ فِي الْجُمْلَةِ، وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْأَنْوَاعِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ) يُكَفِّرُ بِ (صِيَامِ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) بِنِيَّةِ التَّتَابُعِ وَالْكَفَّارَةِ، وَقَيَّدْنَا بِالْحُرِّ الرَّشِيدِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْعَبْدِ فَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ، إلَّا أَنْ يَعْجَزَ عَنْهُ أَوْ يَمْنَعَهُ سَيِّدُهُ لِإِضْرَارِهِ بِخِدْمَتِهِ فَيَبْقَى فِي ذِمَّتِهِ إلَى أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْإِطْعَامِ، وَلِلِاحْتِرَازِ عَنْ السَّفِيهِ فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَأْمُرُهُ بِالصَّوْمِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ أَوْ أَبَى كَفَّرَ عَنْهُ بِأَدْنَى النَّوْعَيْنِ أَيْ قِيمَةِ الْإِطْعَامِ أَوْ الرَّقَبَةِ، وَهَذَا فِي تَكْفِيرِ الشَّخْصِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَفَّرَ عَنْ غَيْرِهِ فَإِنَّمَا يُكَفِّرُ عَنْهُ بِالْإِطْعَامِ أَوْ الْعِتْقِ إنْ كَانَ الْمُكَفَّرُ عَنْهُ حُرًّا، أَوْ بِالْإِطْعَامِ فَقَطْ إنْ كَانَ رَقِيقًا، كَمَا لَوْ وَطِئَ أَمَتَهُ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ. (تَنْبِيهٌ) كَمَا يَلْزَمُ الْمُعْتَمَدَ لِلْفِطْرِ الْكَفَّارَةُ يَلْزَمُهُ الْأَدَبُ أَيْضًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُدِّبَ الْمُفْطِرُ عَمْدًا إلَّا أَنْ يَأْتِيَ تَائِبًا. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَلَوْ كَانَ فِطْرُهُ بِمَا يُوجِبُ حَدًّا فَيَجْتَمِعُ عَلَيْهِ عُقُوبَةُ الْمَالِ وَهِيَ الْكَفَّارَةُ، وَعُقُوبَةُ الْبَدَنِ وَهِيَ الْحَدُّ، وَالْأَدَبُ فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، فَإِنْ جَاءَ تَائِبًا سَقَطَ الْأَدَبُ فَقَطْ وَيَلْزَمُهُ الْحَدُّ وَالْكَفَّارَةُ، كَمَا يَسْقُطُ الْأَدَبُ إنْ جَاءَ مُسْتَفْتِيًا لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى عَدَمِ الِاسْتِفْتَاءِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُؤَدِّبْ الْأَعْرَابِيَّ الَّذِي جَاءَ مُسْتَفْتِيًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا كَانَتْ الْكَفَّارَةُ مُخْتَصَّةً بِالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ الْحَاضِرِ شَرَعَ فِي مُحْتَرِزِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي قَضَاءِ رَمَضَانَ مُتَعَمِّدًا كَفَّارَةٌ) لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ الْقَائِلِ: بِوُجُوبِهَا، وَوَجْهُ الْمَشْهُورِ مَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ مِنْ أَنَّ الْكَفَّارَةَ سَبَبُهَا انْتِهَاكُ حُرْمَةِ رَمَضَانَ بِإِفْسَادِ الصَّوْمِ فِيهِ وَالْوَقْتُ الْحَاضِرُ لَهُ حُرْمَةٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ خِلَافٌ فِي لُزُومِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ عَلَى قَوْلَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي لُزُومِ قَضَاءِ الْقَضَاءِ خِلَافٌ، فَعَلَى اللُّزُومِ يَلْزَمُهُ يَوْمَانِ: يَوْمٌ لِلْأَصْلِ وَيَوْمٌ لِلْمُفْسِدِ، وَقِيلَ: يَوْمٌ فَقَطْ، وَالْقَوْلَانِ جَارِيَانِ فِي الْفِطْرِ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا عَلَى مَا ارْتَضَاهُ السَّنْهُورِيُّ وَالشَّيْخُ أَحْمَدُ الزَّرْقَانِيُّ، وَمِثْلُ قَضَاءِ رَمَضَانَ قَضَاءُ النَّفْلِ الْمُفْسِدِ وَلَمَّا كَانَ الْإِغْمَاءُ مُسْقِطًا لِوُجُوبِ الصَّوْمِ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ لِشَرْطِيَّةِ الْعَقْلِ فِيهَا وَكَانَ يُتَوَهَّمُ سُقُوطُ قَضَائِهِ كَالصَّلَاةِ قَالَ: (وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ لَيْلًا) فِي شَهْرِ رَمَضَانَ (فَأَفَاقَ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ) وَلَوْ يَسِيرًا (فَعَلَيْهِ قَضَاءُ الصَّوْمِ) لِفَوَاتِ مَحَلِّ النِّيَّةِ الَّذِي هُوَ اللَّيْلُ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ الصَّائِمَ إذَا طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِغْمَاءُ قَبْلَ الْفَجْرِ وَزَالَ بَعْدَهُ بِيَسِيرٍ لَمْ يَصِحَّ صَوْمُهُ وَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ لِمُقَارَنَةِ الْإِغْمَاءِ لِوَقْتِ النِّيَّةِ، زَادَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا يُؤْمَرُ بِالْكَفِّ عَنْ الْأَكْلِ بَقِيَّةَ النَّهَارِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إذَا اسْتَمَرَّ الْإِغْمَاءُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا أُغْمِيَ عَلَيْهِ جُلَّ الْيَوْمِ وَلَوْ سَلِمَ أَوَّلُهُ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ دُونَ الْجُلِّ وَلَمْ يَسْلَمْ أَوَّلُهُ بَلْ طَلَعَ الْفَجْرُ وَهُوَ مَغْمِيٌّ عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ، وَأَمَّا لَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ دُونَ الْجُلِّ وَسَلِمَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَوْ اسْتَمَرَّ سَالِمًا نَاوِيًا الصَّوْمَ ثُمَّ طَرَأَ عَلَيْهِ الْإِغْمَاءُ فِي أَثْنَاءِ النَّهَارِ إلَخْ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا إنْ سَلِمَ أَوَّلُهُ وَلَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ نِصْفَهُ، وَأَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمَنْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ إلَخْ أَنَّ مَنْ سَكِرَ بِحَرَامٍ لَيْلًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى سُكْرِهِ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ مِنْ بَابِ أَوْلَى لِتَسَبُّبِهِ، نَصَّ عَلَيْهِ اللَّخْمِيُّ وَلَمْ يَجُزْ لَهُ اسْتِعْمَالُ الْفِطْرِ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَأَمَّا السَّكْرَانُ بِحَلَالٍ فَكَالْمَجْنُونِ، وَالْمَجْنُونُ فِي التَّفْصِيلِ كَالْمُغْمَى عَلَيْهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا النَّائِمُ يَمْضِي عَلَيْهِ أَيَّامٌ وَهُوَ نَائِمٌ بَعْدَ تَبْيِيتِ النِّيَّةِ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لِصِحَّةِ صَوْمِهِ وَبَقَاءِ تَكْلِيفِهِ، وَإِنَّمَا السَّاقِطُ عَنْ النَّائِمِ الْإِثْمُ فَقَطْ، حَتَّى لَوْ بَيَّتَ النِّيَّةَ بَعْدَ ثُبُوتِ الشَّهْرِ وَنَامَ جَمِيعَهُ صَحَّ صَوْمُهُ وَبَرِئَتْ ذِمَّتُهُ، وَلَيْسَ السَّكْرَانُ بِحَلَالٍ كَالنَّائِمِ بَلْ كَالْمَجْنُونِ كَمَا عَلِمْت، فَمَا شَرَحَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ مِنْ أَنَّهُ كَالنَّائِمِ زَلَّةُ قَلَمٍ. (وَلَا يَقْضِي) أَيْ الْمُغْمَى عَلَيْهِ (مِنْ الصَّلَوَاتِ) فَرْضًا (إلَّا مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ) وَلَوْ الضَّرُورِيَّ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْجُمْلَةَ لِيُنَبِّهَ عَلَى مُخَالَفَةِ الصَّوْمِ لِلصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا سَقَطَتْ الصَّلَاةُ دُونَ الصَّوْمِ لِتَكَرُّرِهَا بِخِلَافِ الصَّوْمِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ يَقْضِيَانِهِ دُونَ الصَّلَاةِ؟ (تَنْبِيهٌ) : كَانَ الْأَنْسَبُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ لَوْ قَالَ: وَلَا يُطَالَبُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ بِفِعْلِ شَيْءٍ مِنْ الصَّلَوَاتِ إلَّا مَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ عِبَارَةٌ عَنْ الْإِتْيَانِ بِمَا خَرَجَ وَقْتُهُ، وَمَا أَفَاقَ فِي وَقْتِهِ أَدَاءٌ لَا قَضَاءٌ . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الصَّائِمِ وَمَا يُنْهَى عَنْهُ مُبْتَدِئًا بِالْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: (وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ) أَيْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الصَّائِمُ النِّسَاءَ بِوَطْءٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ وَلَا قُبْلَةٍ لِلَذَّةٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ وَلَا يَحْرُمُ ذَلِكَ عَلَيْهِ فِي لَيْلِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْبِحَ جُنُبًا مِنْ الْوَطْءِ وَمَنْ الْتَذَّ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِمُبَاشَرَةٍ أَوْ قُبْلَةٍ فَأَمْذَى لِذَلِكَ فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ وَإِنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ حَتَّى أَمْنَى فَعَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] يُطْلَبُ مِنْهُ (أَنْ يَحْفَظَ) أَيْ يَصُونَ (لِسَانَهُ وَجَوَارِحَهُ) عَمَّا لَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ، وَعَطْفُ الْجَوَارِحِ عَلَى اللِّسَانِ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ وَهُوَ أَحْسَنُ مِنْ اقْتِصَارِ خَلِيلٍ عَلَى اللِّسَانِ حَيْثُ قَالَ: وَكَفُّ لِسَانٍ، وَفَسَّرْنَا يَنْبَغِي بِيُطْلَبُ؛ لِأَنَّ مَا لَا ثَوَابَ فِي فِعْلِهِ مِنْهُ مَا هُوَ وَاجِبُ التَّرْكِ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَمِنْهُ مَا تَرْكُهُ مَنْدُوبٌ وَهُوَ كُلُّ مَا لَيْسَ بِحَرَامٍ وَلَوْ مُبَاحًا لِغَيْرِ الصَّائِمِ كَتَرْكِ الْإِكْثَارِ مِنْ الْكَلَامِ الْمُبَاحِ، وَإِنَّمَا خُصَّ رَمَضَانُ بِالذِّكْرِ وَإِنْ شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي هَذَا؛ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ فِيهِ أَشَدُّ، إذْ الْمَعَاصِي تُغَلَّظُ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَمَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْحَرَمِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّنْ عَصَاهُ خَارِجًا عَنْهُ، وَمَنْ عَصَاهُ فِي مَكَّةَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِمَّنْ عَصَاهُ فِي خَارِجِهَا، وَالْجَوَارِحُ سَبْعَةٌ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ وَاللِّسَانُ بَعْضُهَا، وَإِنَّمَا أَفْرَدَهُ مَعَ دُخُولِهِ فِيهَا لِأَنَّهُ أَعْظَمُهَا آفَةً، فَقَدْ وَرَدَ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ أَنَّهُ قَالَ: إذَا رَأَيْت قَسَاوَةً فِي قَلْبِك وَوَهَنًا فِي بَدَنِك وَحِرْمَانًا فِي رِزْقِك فَاعْلَمْ أَنَّك تَكَلَّمْت فِيمَا لَا يَعْنِيك، فَبِالْجُمْلَةِ اللِّسَانُ شَرُّ الْجَوَارِحِ، فَإِنْ اسْتَقَامَ اسْتَقَامَتْ الْجَوَارِحُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي الشُّعَبِ: «إذَا تَزَوَّجَ الْعَبْدُ فَقَدْ كَمُلَ نِصْفُ الدِّينِ فَلْيَتَّقِ اللَّهَ فِي النِّصْفِ الْبَاقِي» قِيلَ: النِّصْفُ الْبَاقِي اللِّسَانُ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى أَهْلِ الْفَضْلِ وَالصَّلَاحِ أَنْ يُقِلُّوا الْكَلَامَ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَيَتَأَكَّدُ ذَلِكَ فِي حَقِّ الصَّائِمِ وَأَصْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ صَائِمًا فَلَا يَرْفُثُ وَلَا يَجْهَلُ، فَإِنْ امْرُؤٌ شَاتَمَهُ أَوْ قَاتَلَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ» وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَالْفُحْشُ مِنْ الْقَوْلِ وَكَلَامُ النِّسَاءِ فِي الْجِمَاعِ، وَقَوْلُهُ: «فَلْيَقُلْ إنِّي صَائِمٌ» أَيْ بِلِسَانِ حَالِهِ لَا بِلِسَانِ مَقَالِهِ. (وَ) مِمَّا يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَيْضًا أَنْ (يُعَظِّمَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ؛ " مِنْ " زَائِدَةٌ " وَمَا " مَوْصُولَةٌ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَظِّمَ شَهْرَ رَمَضَانَ الَّذِي عَظَّمَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إذْ أَنْزَلَ فِيهِ الْقُرْآنَ وَأَنْزَلَ فِيهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَالزَّبُورَ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْأَدِلَّةِ عَلَى تَعْظِيمِهِ، وَخَصَّهُ بِإِيجَابِ الصَّوْمِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] وَتَعْظِيمُ الصَّائِمِ لَهُ بِتَمْيِيزِهِ بِفِعْلِ الْمَبَرَّاتِ وَكَثْرَةِ الْعِبَادَاتِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِادِّعَاءِ أَنَّ مِنْ بِمَعْنَى فِي وَهَذِهِ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُعَظِّمُ، وَالْمَعْنَى: وَيَنْبَغِي لِلصَّائِمِ أَنْ يُعَظِّمَ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ الْقُرْآنِ وَالتَّسْبِيحِ وَالصَّلَاةِ، وَتَعْظِيمُهَا بِالْإِكْثَارِ مِنْهَا فِي شَهْرِ رَمَضَانَ وَيُكْرَهُ تَعْظِيمُهُ بِغَيْرِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ كَكَثْرَةٍ وَقَيْدِ النَّارِ فِي الْمَسَاجِدِ وَتَزْوِيقِهَا بِبَعْضِ فُرُشٍ نَفِيسَةٍ (وَ) يَنْبَغِي لِلصَّائِمِ وَلَوْ غَيْرَ رَمَضَانَ أَنْ (لَا يَقْرَبَ) بِفَتْحِ الْيَاءِ وَالرَّاءِ عَلَى الْأَفْصَحِ مَبْنِيٌّ لِلْفَاعِلِ الَّذِي هُوَ (الصَّائِمُ النِّسَاءَ بِوَطْءٍ وَلَا مُبَاشَرَةٍ وَلَا قُبْلَةٍ لِلَذَّةٍ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ) لِأَنَّ قُرْبَ النِّسَاءِ ذَرِيعَةٌ إلَى إفْسَادِ الصَّوْمِ، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ عَيْنُ الْحُكْمِ وَمُحَصِّلُهُ: إنَّ قُرْبَهُنَّ بِوَطْءٍ حَرَامٍ عَلَى الْمُكَلَّفِ، وَأَمَّا بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ فَمَكْرُوهٌ مَعَ عِلْمِ السَّلَامَةِ وَحَرَامٌ عِنْدَ عَدَمِ عِلْمِهَا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَمُقَدِّمَةُ جِمَاعٍ كَقُبْلَةٍ وَفِكْرٍ إنْ عُلِمَتْ السَّلَامَةُ وَإِلَّا حُرِّمَتْ، وَقَوْلُنَا: وَلَوْ فِي غَيْرِ رَمَضَانَ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ اخْتِصَاصِهِ بِصِيَامِ رَمَضَانَ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ. (وَ) مَفْهُومٌ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ أَنَّهُ (لَا يَحْرُمُ) وَلَا يُكْرَهُ شَيْءٌ مِنْ (ذَلِكَ) أَنَّ الْمَذْكُورَ مِنْ وَطْءٍ وَغَيْرِهِ (عَلَيْهِ فِي لَيْلِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} [البقرة: 187] اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُعْتَكِفًا أَوْ مُحْرِمًا أَوْ صَائِمًا فِي كَفَّارَةِ ظِهَارٍ أَوْ قَتْلٍ، فَيَسْتَوِي عِنْدَهُ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ فَلَا يَطَأُ الْمُظَاهِرُ مِنْهَا وَلَوْ لَيْلًا. (تَنْبِيهٌ) اعْتَرَضَ ابْنُ الْفَخَّارِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ قَيَّدَ الْقُبْلَةَ بِكَوْنِهَا اللَّذَّةَ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي إبَاحَتَهَا بِدُونِ اللَّذَّةِ، مَعَ أَنَّ اللَّذَّةَ قَدْ تَحْدُثُ عِنْدَهَا، وَإِنْ لَمْ يَقْبَلْ بِقَصْدِهَا فَالصَّوَابُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا عِنْدَ عِلْمِ عَدَمِ السَّلَامَةِ، وَالْكَرَاهَةُ عِنْدَ عِلْمِ السَّلَامَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَمُقَدِّمَةُ جِمَاعٍ كَقُبْلَةٍ وَفِكْرٍ إنْ عُلِمَتْ السَّلَامَةُ وَإِلَّا حَرُمَتْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ النَّهْيُ عَنْ الْقُبْلَةِ لِكُلِّ صَائِمٍ وَلَوْ نَقْلًا لِحُرْمَةِ إبْطَالِ التَّطَوُّعَاتِ عِنْدَنَا اخْتِيَارًا، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ سَوَاءٌ كَانَ الصَّائِمُ شَابًّا أَوْ شَيْخًا كَبِيرًا وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنْ التَّفَكُّرَ أَوْ النَّظَرَ لَيْسَ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَجَعَلَهُمَا ابْنُ الْحَاجِبِ كَالْقُبْلَةِ وَخَلِيلٌ أَيْضًا، وَجَعَلَ اللَّخْمِيُّ النَّظَرَ الْمُسْتَدَامَ كَالْقُبْلَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ ابْنِ الْفَخَّارِ بِتَصَرُّفٍ وَإِيضَاحٍ، وَأَقُولُ: كَلَامُ ابْنِ الْفَخَّارِ الْمُتَضَمِّنُ عَدَمَ جَوَازِ الْقُبْلَةِ وَلَوْ لِغَيْرِ قَصْدِ اللَّذَّةِ مُوَافِقٌ لِكَلَامِ خَلِيلٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الشَّاذِلِيُّ فَتَمَحَّلَ لِلْمُصَنِّفِ جَوَابًا وَقَالَ: كَأَنَّهُ احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لِلَذَّةٍ عِنْدَ الْقُبْلَةِ لِلْوَدَاعِ أَوْ الرَّحْمَةِ مِمَّا لَا الْتِذَاذَ بِهِ عَادَةً، وَارْتَضَى تَقْيِيدَهُ الْأُجْهُورِيُّ فَلَا يُنَافِي عَدَمَ جَوَازِهَا لِغَيْرِ الْوَدَاعِ أَوْ الرَّحْمَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ قَصْدِ اللَّذَّةِ. (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُصْبِحَ) الصَّائِمُ (جُنُبًا مِنْ الْوَطْءِ) وَأَوْلَى مِنْ الِاحْتِلَامِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَإِصْبَاحٌ بِجَنَابَةٍ وَالْمُرَادُ بِلَا بَأْسٍ وَبِالْجَوَازِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الْكَفَّارَةُ وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَإِنْ قُمْت فِيهِ بِمَا تَيَسَّرَ فَذَلِكَ مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ وَتَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ وَالْقِيَامُ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ بِإِمَامٍ وَمَنْ شَاءَ قَامَ فِي بَيْتِهِ وَهُوَ أَحْسَنُ لِمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ وَحْدَهُ وَكَانَ السَّلَفُ   [الفواكه الدواني] عَدَمُ الْكَرَاهَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ خِلَافُ الْأَوْلَى ، وَلَمَّا قَدَّمَ الصَّائِمَ يُنْهَى عَنْ مُقَدِّمَاتِ الْجِمَاعِ وَلَوْ مَعَ عِلْمِ السَّلَامَةِ شَرَعَ فِي الْحُكْمِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى مَنْ ارْتَكَبَهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ الْتَذَّ فِي نَهَارِ رَمَضَانَ بِمُبَاشَرَةٍ) وَلَوْ بِبَعْضِ أَعْضَائِهِ كَرِجْلِهِ (أَوْ قُبْلَةٍ فَأَمْذَى لِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ (فَعَلَيْهِ الْقَضَاءُ) وَلَوْ نَسِيَ كَوْنَهُ فِي رَمَضَانَ، وَقِيلَ لَا قَضَاءَ عَلَى النَّاسِي، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُمْذِ لَا قَضَاءَ عَلَيْهِ وَإِنْ أَنْعَظَ وَهِيَ رِوَايَةُ ابْنِ وَهْبٍ وَأَشْهَبَ عَنْ مَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: عَلَيْهِ الْقَضَاءُ بِالْإِنْعَاظِ، وَمَشَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِ الصَّوْمِ، وَلَكِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: قَاعِدَةُ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ تَقْدِيمُ مَا رَوَاهُ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا يَقُولُهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي غَيْرِهَا وَمِثْلُ الْإِمْذَاءِ بِالْمُبَاشَرَةِ الْإِمْذَاءُ بِالْفِكْرِ وَالنَّظَرِ وَلَوْ لَمْ يُدِمْهُمَا عَلَى مَا فِي بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَفِي الْأُجْهُورِيِّ هُنَا، فَإِنْ كَانَ عَنْ فِكْرٍ غَيْرِ مُسْتَدَامٍ أَوْ نَظَرٍ غَيْرِ مُسْتَدَامٍ فَلَا يَجِبُ الْقَضَاءُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ. قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: وَأَقُولُ ظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ لُزُومُ الْقَضَاءِ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهُ سَوَّى بَيْنَ الْفِكْرِ وَالْقُبْلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ إنْ أَمَذَى قَضَى مِنْ غَيْرِ شَرْطِ اسْتِدَامَةٍ. (وَ) مَفْهُومُ أَمَذَى أَنَّهُ (إنْ تَعَمَّدَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ (حَتَّى أَمْنَى فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ) مَعَ الْقَضَاءِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَتَعْبِيرُهُ بِحَتَّى يُوهِمُ أَنَّهُ لَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ بِمُجَرَّدِ الْقُبْلَةِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الْمُعْتَمَدُ لُزُومُ الْكَفَّارَةِ بِتَعَمُّدِ إخْرَاجِ الْمَنِيِّ بِالْقُبْلَةِ أَوْ الْمُبَاشَرَةِ أَوْ الْمُلَاعَبَةِ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ عَادَةٍ وَلَا اسْتِدَامَةٍ، وَأَمَّا تَعَمُّدُ إخْرَاجِهِ بِنَظَرٍ أَوْ فِكْرٍ فَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِدَامَةِ مِمَّنْ عَادَتُهُ الْإِنْزَالُ بِهِمَا أَوْ اسْتَوَتْ حَالَتَاهُ، وَأَمَّا مَنْ كَانَتْ عَادَتُهُ السَّلَامَةُ مَعَ إدَامَتِهِمَا فَتَخَلَّفَتْ وَأَمْنَى فَقَوْلَانِ اسْتَظْهَرَ اللَّخْمِيُّ مِنْهُمَا عَدَمَ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، وَنَقَلَ بَعْضَ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ عَامًّا فِي جَمِيعِ مُقَدِّمَاتِ الْوَطْءِ وَهُوَ أَظْهَرُ، وَأَمَّا مَنْ أَمْنَى بِتَعَمُّدِ نَظْرَةٍ وَاحِدَةٍ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَمُقَابِلُهُ لِلْقَابِسِيِّ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ عَادَتُهُ الْإِمْنَاءُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى عَدَمِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ اللَّخْمِيِّ مَعَ بَيَانِ الرَّاجِحِ [حُكْمِ التَّرَاوِيحِ فِي رَمَضَانَ] . ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ التَّرَاوِيحِ الْمَعْرُوفَةِ بِقِيَامِ رَمَضَانَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ) أَيْ صَلَّى فِيهِ التَّرَاوِيحَ وَيُقَالُ لَهَا الْقِيَامُ (إيمَانًا) أَيْ مُصَدِّقًا بِالْأَجْرِ الْمَوْعُودِ عَلَيْهِ (وَاحْتِسَابًا) أَيْ مُخْلِصًا فِي فِعْلِهِ وَمُحْتَسِبًا أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَلَمْ يَفْعَلْهُ لِرِيَاءٍ وَلَا سُمْعَةٍ (غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) هَذَا جَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ، وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يُرَغِّبُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَأْمُرَ بِعَزِيمَةٍ فَيَقُولُ: مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» وَالْمُرَادُ ذُنُوبُهُ الصَّغَائِرُ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ عَفْوُ اللَّهِ، وَأَمَّا تَبِعَاتُ الْعِبَادِ فَلَا يُكَفِّرُهَا التَّوْبَةُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اسْتِحْلَالِ أَرْبَابِهَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا يُقَالُ لَهَا ذُنُوبٌ إنَّمَا الذَّنْبُ إثْمُ الْجُرْأَةِ، فَهَذَا يُكَفَّرُ بِالتَّوْبَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْحَجِّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ يُكَفِّرُ الْكَبَائِرَ، لَكِنَّ حَمْلَ الذُّنُوبِ عَلَى الصَّغَائِرِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا لِأَنَّهَا الَّتِي تُكَفَّرُ بِالْقِيَامِ يَلْزَمُ عَلَيْهِ إشْكَالٌ، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الصَّغَائِرَ تُغْفَرُ بِاجْتِنَابِ الْكَبَائِرِ، وَكَذَلِكَ بِالْوُضُوءِ وَبِالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَغَيْرِهَا مِمَّا نَصَّ الشَّارِعُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ، فَأَيْنَ الصَّغَائِرُ الَّتِي يُكَفِّرُهَا الْقِيَامُ؟ وَقَدْ سَبَقَ هَذَا الْإِشْكَالُ بِعَيْنِهِ فِي بَحْثِ الْعَقِيدَةِ، وَأَحْسَنُ مَا يُجَابُ بِهِ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنْ يُقَالَ: الذُّنُوبُ كَالْأَمْرَاضِ وَالْمُكَفِّرَاتُ كَالْأَدْوِيَةِ لَهَا، فَمِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الْوُضُوءُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الصَّوْمُ، وَمِنْهَا مَا لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا الْقِيَامُ، وَيَشْهَدُ لِهَذَا الْجَوَابِ حَدِيثُ: «إنَّ مِنْ الذُّنُوبِ مَا لَا يُكَفِّرُهُ الصَّوْمُ وَلَا الصَّلَاةُ وَإِنَّمَا يُكَفِّرُهُ السَّعْيُ عَلَى الْعِيَالِ» وَمَنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ الذُّنُوبِ يُرْفَعُ لَهُ بِهَا دَرَجَاتٌ، وَحُكْمُ الْقِيَامِ الَّذِي أَرَادَهُ الْمُصَنِّفُ النَّدْبُ وَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ فِي رَمَضَانَ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: إنَّ حُكْمَهُ السُّنِّيَّةُ، وَلَكِنَّ الَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ النَّدْبُ حَيْثُ قَالَ: وَوَقْتُهُ وَقْتُ الْوِتْرِ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ، فَلَا يُصَلَّى قَبْلَ الْعِشَاءِ وَلَا بَعْدَ عِشَاءٍ مُقَدَّمَةٍ عَلَى مَحَلِّهَا الضَّرُورِيِّ، وَاخْتُلِفَ هَلْ الِاشْتِغَالُ بِهِ أَفْضَلُ أَوْ مُذَاكَرَةُ الْعِلْمِ؛ لِأَنَّهُ فَرْضٌ وَفِعْلُهُ مُسْتَحَبٌّ قَوْلَانِ وَلَمَّا شَاعَ فِي الْأَمْصَارِ تَحْدِيدُهُ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً غَيْرِ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ حُصُولِ ذَلِكَ الثَّوَابِ بِأَقَلَّ مِنْهَا دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ قُمْت فِيهِ) أَيْ فِي رَمَضَانَ (بِمَا تَيَسَّرَ) مِنْ الصَّلَاةِ وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ رَكْعَةً (فَذَلِكَ) الَّذِي تَيَسَّرَ لَك (مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ) أَيْ ثَوَابُهُ لِاشْتِمَالِ كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى قِيَامٍ وَسُجُودٍ وَقِرَاءَةٍ: وَاَللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ) وَرَجَاءُ الْفَضْلِ مِنْ الْقِيَامِ الْقَلِيلِ لَا يُنَافِي أَنَّ الْكَثِيرَ أَكْثَرُ ثَوَابًا (وَ) مَرْجُوٌّ (تَكْفِيرُ الذُّنُوبِ بِهِ) وَإِنَّمَا قَالَ: مَرْجُوٌّ فَضْلُهُ وَلَمْ يَجْزِمْ بِحُصُولِهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْإِثَابَةَ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهَا، إذْ الْإِثَابَةُ عَلَيْهَا مُتَوَقِّفَةٌ عَلَى الْإِخْلَاصِ وَالْقَبُولِ، وَلِذَلِكَ نَصُّوا عَلَى أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الصَّالِحُ يَقُومُونَ فِيهِ فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً ثُمَّ يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ وَيَفْصِلُونَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِسَلَامٍ ثُمَّ صَلَّوْا بَعْدَ   [الفواكه الدواني] الْعَاقِلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجْعَلَ عَمَلَهُ دَائِمًا فِي حَضِيضِ النُّقْصَانِ وَغَيْرَ بَالِغِ دَرَجَةِ الْكَمَالِ، لَعَلَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يَتَفَضَّلُ عَلَيْهِ بِالْقَبُولِ وَالْإِحْسَانِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَحَلِّ الَّذِي يُنْدَبُ فِعْلُ الْقِيَامِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ فِعْلُ صَلَاةِ (الْقِيَامِ فِيهِ) أَيْ فِي رَمَضَانَ (فِي) سَائِرِ (مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ) وَإِنْ كَانَتْ مَسَاجِدَ خُطَبٍ وَيَجُوزُ فِعْلُهُ (بِإِمَامٍ) فَهُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ كَرَاهَةِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَمْعُ كَثِيرٍ لِنَفْلٍ أَوْ بِمَكَانٍ مُشْتَهِرٍ لِاسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ عَلَى الْجَمْعِ فِيهَا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ مِمَّنْ يَحْفَظُ الْقُرْآنَ لِاسْتِحْبَابِ خَتْمِهِ فِي صَلَاةِ التَّرَاوِيحِ لِيَسْمَعَ جَمِيعَهُ الْمَأْمُومُونَ، وَلَمَّا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلَ قَالَ: (وَمَنْ شَاءَ قَامَ) أَيْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ (فِي بَيْتِهِ وَلَوْ بِإِمَامٍ وَهُوَ أَحْسَنُ) أَيْ أَفْضَلُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْمَسْجِدِ (لِمَنْ قَوِيَتْ نِيَّتُهُ وَحْدَهُ) وَمَعْنَى قَوِيَتْ نِيَّتُهُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَشَاطٌ فِي فِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ الْمُتَأَكَّدِ: وَتَرَاوِيحُ وَانْفِرَادٌ فِيهَا إنْ لَمْ تُعَطَّلْ الْمَسَاجِدُ. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَنُدِبَ الِانْفِرَادُ مُقَيَّدٌ بِمَنْ يَنْشَطُ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ، وَبِعَدَمِ تَعْطِيلِ الْمَسْجِدِ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ، وَبِأَنْ لَا يَكُونَ آفَاقِيًّا وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ، وَإِلَّا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلَ، وَإِنَّمَا كَانَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ مَعَ الْقُيُودِ أَفْضَلَ لِلسَّلَامَةِ مِنْ الرِّيَاءِ؛ لِأَنَّ صَلَاةَ الْجَلْوَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ صَلَاةِ الْخَلْوَةِ، وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَفْضَلُ الصَّلَاةِ صَلَاتُكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَالْأَصْلُ فِي قِيَامِ رَمَضَانَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى بِأَصْحَابِهِ التَّرَاوِيحَ لَيْلَتَيْنِ وَقِيلَ ثَلَاثًا فِي الْمَسْجِدِ، ثُمَّ امْتَنَعَ مِنْ الْخُرُوجِ فِي الثَّالِثَةِ وَقِيلَ فِي الرَّابِعَةِ لَمَّا بَلَغَهُ ازْدِحَامُهُمْ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: رَأَيْت الَّذِي صَنَعْتُمْ وَلَمْ يَمْنَعْنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَّا أَنِّي خَشِيت أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ» كَمَا أَشَارَ الْأُجْهُورِيُّ بِقَوْلِهِ: وَفِيهِ قَدْ صَلَّى نَبِيُّ الرَّحْمَهْ ... قِيَامَهُ بِلَيْلَتَيْنِ فَاعْلَمْهُ أَوْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ ... خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ ثَمَّةَ كَانَ الْجَمْعُ فِيهِ مِنْ عُمَرْ ... لَمَّا وَعَاهُ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ خَبَرْ مِنْ أَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْلَاكٌ كِرَامْ ... بِرَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ لِلْقِيَامْ فَمَنْ لَهُمْ قَدْ مَسَّ أَوْ مَسُّوهُ ... يَسْعَدُ وَالشِّقْوَةُ لَا تَعْرُوهُ وَالْحَاصِلُ: أَنَّ صَلَاةَ التَّرَاوِيحِ لَهَا أَصْلٌ فِي الشَّرْعِ، وَقَوْلُ عُمَرَ فِيهَا: نِعْمَةُ الْبِدْعَةِ هَذِهِ لَيْسَ رَاجِعًا لِأَصْلِهَا، وَإِنَّمَا أَرَادَ بِقَوْلِهِ: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ جَمْعُهُمْ عَلَى إمَامٍ عَلَى سَبِيلِ الْمُوَاظَبَةِ فِي الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُمْ حِينَ امْتَنَعَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْخُرُوجِ صَارُوا يُصَلُّونَهَا فُرَادَى فِي بُيُوتِهِمْ، ثُمَّ بَعْدَ سَنَتَيْنِ حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْ خَشْيَةِ فَرْضِيَّتِهَا لِعَدَمِ تَجْدِيدِ الْأَحْكَامِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - بِفِعْلِهَا جَمَاعَةً، وَلَعَلَّهُ قَصَدَ بِذَلِكَ إشْهَارَهَا وَالْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا وَإِحْيَاءَ الْمَسَاجِدِ بِفِعْلِهَا؛ لِأَنَّ إخْفَاءَهَا ذَرِيعَةٌ لِإِهْمَالِهَا وَتَضْيِيعِهَا، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ إلَيْكُمْ خَشْيَةُ فَرْضِهَا عَلَيْكُمْ» مَعَ مَا فِي الْحَدِيثِ حِينَ فَرَضَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ مِنْ قَوْله تَعَالَى: " هُنَّ خَمْسٌ لَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ إلَخْ " فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ خَشْيَةُ فَرْضِهَا فِي خُصُوصِ رَمَضَانَ، وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَمَفْرُوضَةٌ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ عَلَى الدَّوَامِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ خَشْيَةُ فَرْضِهَا عَلَيْكُمْ فِي جَمَاعَةٍ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا مَنَعَنِي مِنْ الْخُرُوجِ خَشْيَةُ فَرْضِهَا» يَقْتَضِي أَنَّ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَفْضَلُ، فَكَيْفَ تَقُولُونَ فِعْلُهَا فِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ يَفْعَلُ الْمَفْضُولَ لِلتَّشْرِيعِ، فَفِعْلُهُ لَهَا فِي الْمَسْجِدِ مِنْ الْوَاجِبِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَخِلَافُ الْأَفْضَلِ فِي حَقِّنَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ عَدَدِ الرَّكَعَاتِ الَّتِي كَانَ يَفْعَلُهَا الْمُصْطَفَى وَوَاظَبَ عَلَيْهَا السَّلَفُ الصَّالِحُ بَعْدَ قَوْلِهِ: (وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - (يَقُومُونَ فِيهِ) فِي زَمَنِ خِلَافَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَبِأَمْرِهِ كَمَا تَقَدَّمَ (فِي الْمَسَاجِدِ بِعِشْرِينَ رَكْعَةً) وَهُوَ اخْتِيَارُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ، وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ الْآنَ فِي سَائِرِ الْأَمْصَارِ. (ثُمَّ) بَعْدَ صَلَاةِ الْعِشْرِينَ (يُوتِرُونَ بِثَلَاثٍ) مِنْ بَابِ تَغْلِيبِ الْأَشْرَفِ لَا أَنَّ الثَّلَاثَ وِتْرٌ؛ لِأَنَّ الْوِتْرَ رَكْعَةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا مَرَّ، وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَيَفْصِلُونَ بَيْنَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ بِسَلَامٍ) اسْتِحْبَابًا وَيُكْرَهُ الْوَصْلُ إلَّا لِاقْتِدَاءٍ بِوَاصِلٍ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُفْصَلُ بَيْنَهُمَا، وَخُيِّرَ الشَّافِعِيُّ بَيْنَ الْفَصْلِ وَالْوَصْلِ، وَاسْتَمَرَّ عَمَلُ النَّاسِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالْعِشْرِينَ شَرْقًا وَغَرْبًا. (ثُمَّ) بَعْدَ وَقْعَةِ الْحَرَّةِ بِالْمَدِينَةِ (صَلَّوْا) أَيْ السَّلَفُ غَيْرَ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ هُنَا مَنْ كَانَ فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ (بَعْدَ ذَلِكَ) الْعَدَدِ الَّذِي كَانَ فِي زَمَنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ذَلِكَ سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ وَكُلُّ ذَلِكَ وَاسِعٌ وَيُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - «مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَنْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً بَعْدَهَا الْوِتْرُ» .   [الفواكه الدواني] عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (سِتًّا وَثَلَاثِينَ رَكْعَةً غَيْرَ الشَّفْعِ وَالْوِتْرِ) وَاَلَّذِي أَمَرَهُمْ بِصَلَاتِهَا كَذَلِكَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمَّا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ فِي الْقِرَاءَةِ الْمُوجِبَةِ لِلسَّآمَةِ وَالْمَلَلِ، فَأَمَرَهُمْ بِتَقْصِيرِ الْقِرَاءَةِ وَزِيَادَةِ الرَّكَعَاتِ، وَالسُّلْطَانُ إذَا نَهَجَ مَنْهَجًا لَا تَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ وَلَا سِيَّمَا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَهَذَا اخْتَارَهُ مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ أَتْبَاعِهِ الْأَوَّلَ الَّذِي جَمَعَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ النَّاسَ عَلَيْهَا لِاسْتِمْرَارِ الْعَمَلِ فِي جَمِيعِ الْأَمْصَارِ عَلَيْهِ لِذَلِكَ صَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: ثَلَاثٌ وَعِشْرُونَ بِالشَّفْعِ وَالْوِتْرِ. (وَكُلُّ ذَلِكَ) أَيْ الْعَدَدِ مِنْ الْعِشْرِينَ أَوْ السِّتَّةِ وَالثَّلَاثِينَ (وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ وَهَذَا غَيْرُ ضَرُورِيِّ الذِّكْرِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُسَلِّمَ مِنْ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ) وَيُكْرَهُ تَأْخِيرُ السَّلَامِ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلَ عَلَى أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ بِتَسْلِيمَةٍ وَاحِدَةٍ الْأَفْضَلُ لَهُ السَّلَامُ بَعْدَ كُلِّ رَكْعَتَيْنِ، وَلَمَّا بَيَّنَ قَدْرَ مَا فَعَلَهُ الصَّحَابَةُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ السَّلَفِ الَّذِينَ كَانُوا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ عَدَدِ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا -: «مَا زَادَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَكْعَةً بَعْدَهَا الْوِتْرُ» قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَمَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ هُوَ أَغْلَبُ أَحْوَالِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يُعَارِضُ مَا رُوِيَ عَنْهَا بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَسَبْعَ عَشْرَةَ، وَرَوَى غَيْرُهَا مِنْ أَزْوَاجِهِ «أَنَّهُ رَجَعَ إلَى تِسْعٍ ثُمَّ إلَى سَبْعٍ» ، وَلَيْسَ اخْتِلَافًا حَقِيقِيًّا بَلْ اخْتِلَافٌ بِحَسَبِ اعْتِبَارَاتٍ، فَإِنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ أَوَّلُ مَا يَبْدَأُ إذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ بَعْدَ الْعِشَاءِ بِتَحِيَّةِ الْمَسْجِدِ، وَإِذَا قَامَ يَتَهَجَّدُ افْتَتَحَ وِرْدَهُ بِرَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ لِيَنْشَطَ، وَإِذَا خَرَجَ لِصَلَاةِ الصُّبْحِ رَكَعَ رَكْعَتَيْ الْفَجْرِ، فَتَارَةً عَدَّهَا بِفِعْلِهِ فِي لَيْلِهِ وَهُوَ سَبْعَ عَشْرَةَ وَتَارَةً أَسْقَطَ تَحِيَّةَ الْمَسْجِدِ فَعَدَّ ثَلَاثَ عَشْرَةَ، وَفِي هَذَا جَمْعٌ بَيْنَ كَثِيرٍ مِمَّا وَرَدَ. (خَاتِمَةٌ) قَالَ الْبَاجِيُّ فِي شَرْحِ الْمُوَطَّإِ: هَذَا الْقِيَامُ الَّذِي تَقُومُهُ النَّاسُ بِرَمَضَانَ فِي الْمَسَاجِدِ مَشْرُوعٌ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا يُوقِعُونَهُ فِي بُيُوتِهِمْ، وَإِنَّمَا جُعِلَ ذَلِكَ فِي الْمَسَاجِدِ بِرَمَضَانَ لِكَيْ يَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ فَضْلُ الْقِيَامِ بِالْقُرْآنِ كُلِّهِ، وَيَسْمَعُونَ كَلَامَ رَبِّهِمْ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ اهـ، وَنَحْوُ هَذَا لِابْنِ الْحَاجِّ فِي الْمَدْخَلِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ التَّتَّائِيُّ: وَلَمَّا سَمِعَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ هَذِهِ الْفَائِدَةَ أَنْكَرَهَا غَايَةَ الْإِنْكَارِ حَتَّى أَوْقَفْنَاهُ عَلَى أَنَّهَا مِنْ كَلَامِ الْبَاجِيِّ وَابْنِ الْحَاجِّ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الصِّيَامِ شَرَعَ فِي الِاعْتِكَافِ؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ الصِّيَامِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 بَابٌ فِي الِاعْتِكَافِ وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصِيَامٍ وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَتَابِعًا وَلَا يَكُونُ إلَّا فِي   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الِاعْتِكَاف] (بَابٌ فِي) ذِكْرِ أَحْكَامِ (الِاعْتِكَافِ) وَهُوَ لُغَةً مُطْلَقُ اللُّزُومِ لِخَيْرٍ أَوْ شَرٍّ، وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لُزُومُ مَسْجِدٍ مُبَاحٍ لِقُرْبَةٍ قَاصِرَةٍ بِصَوْمٍ مَعْزُومٌ عَلَى دَوَامِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِجُمُعَةٍ أَوْ لِمَعْنِيِّهِ الْمَمْنُوعِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِاللُّزُومِ الْإِقَامَةُ، وَاحْتَرَزَ بِمَسْجِدٍ مُبَاحٍ عَنْ مُلَازَمَةِ غَيْرِ الْمُبَاحِ، كَمُلَازَمَةِ نَحْوِ الْكَعْبَةِ مِنْ الْمَسَاجِدِ الْمَحْجُورَةِ فَلَا يَصِحُّ الِاعْتِكَافُ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِالْقُرْبَةِ الْقَاصِرَةِ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَيُكْرَهُ فِعْلُ غَيْرِهَا كَاشْتِغَالٍ كَثِيرٍ بِعِلْمٍ أَوْ كِتَابَةٍ، وَمَعْزُومٌ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِ " لُزُومُ "، وَقَوْلُهُ: سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِجُمُعَةٍ إلَخْ مُسْتَثْنًى مِنْ اللُّزُومِ، فَلَا تَجِبُ إقَامَتُهُ فِي الْمُعْتَكِفِ وَقْتَ خُرُوجٍ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ بَلْ يَخْرُجُ لِلْجُمُعَةِ وَيَرْجِعُ، وَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ وَيُتِمُّ عَلَى مَا مَضَى، هَكَذَا جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَضَعَّفَ الْأَشْيَاخُ كَلَامَهُ فِي هَذَا، وَالْمُعْتَمَدُ بُطْلَانُ اعْتِكَافِهِ لِخُرُوجِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْجَبُوا عَلَيْهِ الِاعْتِكَافَ فِي مَحَلٍّ فِيهِ خُطْبَةٌ إذَا نَذَرَ أَيَّامًا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ، وَإِلَّا خَرَجَ وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ كَمَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَقَوْلُهُ: أَوْ لِمَعْنِيِّهِ بِنُونٍ وَبَعْدَهَا مُثَنَّاةٌ أَيْ مَقْصُودِهِ الْمَمْنُوعِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تَلْزَمُ الْإِقَامَةُ زَمَنَهُ بَلْ يَخْرُجُ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْ بَوْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، كَخُرُوجِهِ لِغُسْلِ جَنَابَةٍ مِنْ احْتِلَامٍ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ لِمَرَضِهِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ مَعَهُ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا خَرَجَ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ، وَأَشَارَ إلَى حُكْمِ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ: (وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ) الْمَطْلُوبُ لِلشَّارِعِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ بِ عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرٌ مِنْ كَلَامِهِ، وَاسْتَظْهَرَهُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِ ابْنِ الْحَاجِبِ قَائِلًا: إذْ لَوْ كَانَ سُنَّةً لَمَا وَاظَبَ السَّلَفُ عَلَى تَرْكِهِ، وَخَالَفَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَقَالَ: إنَّهُ سُنَّةٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ مُقْتَضَى الْآثَارِ لِفِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُدَاوِمًا عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ فِي الْكَافِي: إنَّهُ سُنَّةٌ فِي رَمَضَانَ جَائِزٌ فِي غَيْرِهِ أَيْ جَوْزًا رَاجِحًا فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ التَّشَبُّهُ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ فِي اسْتِغْرَاقِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَةِ وَحَبْسِ النَّفْسِ عَنْ شَهَوَاتِهَا وَاللِّسَانِ عَنْ الْخَوْضِ فِيمَا لَا يَعْنِي، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ) مِنْ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ لِمَسْجِدٍ مُبَاحٍ بِمُطْلَقِ صَوْمٍ وَلَوْ كَانَ مَنْذُورًا لِقُرْبَةٍ قَاصِرَةٍ وَهِيَ الصَّلَاةُ وَالذِّكْرُ وَقِرَاءَةُ الْقُرْآنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ فِعْلُ غَيْرِ ذِكْرٍ وَصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ كَعِيَادَةٍ وَجِنَازَةٍ وَلَوْ لَاصَقَتْ، وَكَاشْتِغَالٍ بِعِلْمٍ وَكِتَابَتِهِ وَإِنْ مُصْحَفًا إنْ كَثُرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَيُبَاحُ لَهُ لِتَمَعُّشِهِ، كَمَا لَا يُكْرَهُ لَهُ الِاشْتِغَالُ بِالْعِلْمِ الْمُتَعَيَّنِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُمَيِّزِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى الْبَالِغُ، وَغَيْرُ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ. (تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ الْمُعْتَكِفِ مُلَازَمَتُهُ، وَاَلَّذِي يُنْهَى عَنْهُ كَتَعْرِيفِ الْإِنْسَانِ بِأَنَّهُ حَيَوَانٌ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَكْثَرُ عَلَى مَنْعِهِ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الشَّاذِلِيِّ: أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَرَّفَ الِاعْتِكَافَ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَأَقُولُ فِي جَوَابِهِ ذِكْرُهُ التَّعْرِيفَ بَعْدَ قَوْلِهِ الِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ يُرْشِدُ إلَى الْمُرَادِ، وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُلَازَمَةُ عَلَى الْقُرْبَةِ الْقَاصِرَةِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ فِي كَلَامِهِ التَّعْرِيفُ بِالْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْفَقِيهَ لَيْسَ مِنْ دَأْبِهِ بَيَانُ الْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَإِنَّمَا غَرَضُهُ بَيَانُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ، وَفِيهِ أَيْضًا تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصَوُّرِ لِأَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: وَالِاعْتِكَافُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ وَهَذَا تَصْدِيقٌ، وَالتَّصَوُّرُ قَوْلُهُ: وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَالصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِ تَقْدِيمُ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصْوِيرِ لَا عَلَى التَّصَوُّرِ، وَالْمَمْنُوعُ الثَّانِي لَا الْأَوَّلُ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالْعُكُوفُ الْمُلَازَمَةُ تَصْوِيرٌ لَا تَصَوُّرٌ، وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا اعْتِكَافَ يَصِحُّ) عِنْدَنَا (إلَّا بِالصِّيَامِ) وَلَوْ رَمَضَانَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُ بِمُطْلَقِ صَوْمٍ وَلَوْ نَذْرًا. (وَلَا يَكُونُ إلَّا مُتَتَابِعًا) إنْ نَذَرَ تَتَابُعَهُ أَوْ أَطْلَقَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ اعْتِكَافُ شَهْرٍ مَثَلًا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَلْزَمُ وَتَتَابُعُهُ فِي مُطْلَقِهِ، وَأَمَّا لَوْ نَذَرَ أَنْ يَعْتَكِفَ مُدَّةً مُفَرَّقَةً فَلَا يَلْزَمُ تَتَابُعُهَا، بِخِلَافِ مَنْ نَذَرَ صِيَامَ شَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ مِنْ غَيْرِ اعْتِكَافٍ وَأَطْلَقَ لَا يَلْزَمُهُ تَتَابُعُهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الِاعْتِكَافِ وَالصَّوْمِ أَنَّ الصَّوْمَ إنَّمَا يُفْعَلُ بِالنَّهَارِ فَكَيْفَ مَا أَتَى بِهِ بَرِئَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الْمَسَاجِدِ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] فَإِنْ كَانَ بَلَدٌ فِيهِ الْجُمُعَةُ فَلَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجَامِعِ إلَّا أَنْ يَنْذِرَ أَيَّامًا لَا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ وَأَقَلُّ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَشْرَةُ أَيَّامٍ وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ لَزِمَهُ وَإِنْ نَذَرَ لَيْلَةً لَزِمَهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهِ مُتَعَمِّدًا فَلْيَبْتَدِئْ اعْتِكَافَهُ وَكَذَلِكَ مَنْ جَامِع فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا أَوْ   [الفواكه الدواني] ذِمَّتُهُ فَرَّقَهُ أَوْ تَابَعَهُ، بِخِلَافِ الِاعْتِكَافِ يَسْتَغْرِقُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ فَكَأَنَّ حُكْمَهُ يَقْتَضِي التَّتَابُعَ اعْتِبَارًا بِأَجَلِ الدَّيْنِ وَالْإِجَازَةِ وَالْخِدْمَةِ وَالْأَيْمَانِ نَحْوَ: وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمُ زَيْدًا ثَلَاثَ أَيَّامٍ، فَيَحْنَثُ إنْ كَلَّمَهُ فِي لَيَالِيهَا كَمَا يَحْنَثُ بِكَلَامِهِ فِي النَّهَارِ. (وَ) مِنْ شُرُوطِ صِحَّتِهِ أَيْضًا أَنَّهُ (لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ) الْمُبَاحَةِ فَلَا يَصِحُّ فِي بَيْتٍ وَلَا فِي مَسْجِدٍ مُحَجَّرٍ وَلَا فِي سَطْحِ الْمَسْجِدِ وَلَا فِي بَيْتِ قَنَادِيلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعْتَكِفُ امْرَأَةً، وَاشْتِرَاطُ الْمَسْجِدِ (كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] وَإِطْلَاقُ الْمَسْجِدِ يَعُمُّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ وَهَذَا لَا يُنَافِي اسْتِحْبَابَ عَجْزِهِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَسَاجِدُ شَامِلَةً لِلْجَوَامِعِ ذَوَاتِ الْخُطَبِ وَغَيْرِهَا، وَالِاعْتِكَافُ تَارَةً يَسْتَلْزِمُ الْجُمُعَةَ وَتَارَةً لَا، وَكَانَ الْأَوَّلُ يَجِبُ فِيهِ الْجَامِعُ دُونَ الثَّانِي قَالَ: (فَإِنْ كَانَ) أَيْ مَحَلُّ مُرِيدِ الِاعْتِكَافِ الْمَفْهُومِ مِنْ الْمَقَامِ (بَلَدًا فِيهَا الْجُمُعَةُ) وَكَانَ مُرِيدُ الِاعْتِكَافِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ صَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَنَوَى أَوْ نَذَرَ اعْتِكَافَ أَيَّامٍ تُدْرِكُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ (فَلَا يَكُونُ) اعْتِكَافُهُ (إلَّا فِي الْجَامِعِ) لِأَجْلِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، فَلَوْ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدٍ لَا خُطْبَةَ فِيهِ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ لَمْ يَبْطُلْ اعْتِكَافُهُ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْجُمُعَةِ صَغِيرَةٌ، وَالِاعْتِكَافُ إنَّمَا يَبْطُلُ بِارْتِكَابِ الْكَبِيرَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهَا ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مُتَوَالِيَاتٍ، وَإِلَّا جَرَى الْخِلَافُ فِي بُطْلَانِهِ بِالْكَبِيرَةِ، ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: إنَّهُ لَا يَكُونُ إلَّا فِي الْجَامِعِ قَوْلَهُ: (إلَّا أَنْ يَنْذِرَ) أَوْ يَنْوِيَ (أَيَّامًا لَا تَأْخُذُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ) فَإِنَّهُ يَصِحُّ اعْتِكَافُهُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ [أَقَلّ مُدَّة الأعتكاف] ، ثُمَّ بَيَّنَ أَقَلَّ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ: (وَأَقَلُّ مَا هُوَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الِاعْتِكَافِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ مَالِكًا أَنْكَرَ مُقَابِلَهُ وَقَالَ: أَقَلُّهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَعْتَكِفْ أَقَلَّ مِنْهَا، وَأَكْثَرُهُ شَهْرٌ، وَيُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَيْهِ، وَقَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: أَكْمَلُهُ عَشْرَةُ أَيَّامٍ، وَأَقَلُّهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ، وَيُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَى عَشْرَةٍ، وَنُقِلَ هَذَا عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا فَتَلَخَّصَ أَنَّ لَهُ قَوْلَيْنِ فِي أَقَلِّهِ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِي الْأَقَلِّ فِيمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافًا أَوْ دَخَلَ فِيهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ عَدَدًا، فَعَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَلْزَمُهُ اعْتِكَافُ عَشَرَةِ أَيَّامٍ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ الْمُسْتَحَبِّ، وَعَلَى قَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ يَلْزَمُهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ؛ لِأَنَّهُمَا أَقَلُّ الْمُسْتَحَبِّ عِنْدَهُ . (وَمَنْ نَذَرَ اعْتِكَافَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ لَزِمَهُ) مَعَ لَيْلَةٍ فَيَلْزَمُهُ دُخُولُ الْمُعْتَكَفِ قَبْلَ الْغُرُوبِ أَوْ مَعَهُ. (وَ) كَذَا (إنْ نَذَرَ) اعْتِكَافَ (لَيْلَةً) فَقَطْ. (لَزِمَهُ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ يَوْمٌ إنْ نَذَرَ لَيْلَةً وَكَذَا عَكْسُهُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ نَذَرَ بَعْضَ يَوْمٍ أَوْ بَعْضَ لَيْلَةٍ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْجِوَارَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَى، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْأَمْرَانِ بِنَذْرِ أَحَدِهِمَا لِأَنَّ اللَّيْلَةَ يُعَبَّرُ بِهَا عَنْ يَوْمِهَا كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ. قَالَ تَعَالَى: {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] الْآيَةَ، اتَّفَقَ الْمُفَسِّرُونَ وَغَيْرُهُمْ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَيَّامُ وَلَيَالِيهَا. وَفِي الْحَدِيثِ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَإِنَّ السِّتَّةَ بِلَيَالِيِهَا مِنْ شَوَّالٍ» فَإِنْ قِيلَ: قَدْ عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ نَذْرَ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةِ أَيَّامٍ غَيْرُ مُسْتَحَبٍّ بَلْ صَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِكَرَاهَتِهِ فَكَيْفَ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ فِي ذَلِكَ الْأَقَلِّ شَائِبَتَيْنِ، شَائِبَةَ كَوْنِهِ مُطْلَقَ عِبَادَةٍ، وَشَائِبَةَ التَّجْدِيدِ بِهَذَا الْقَدْرِ الْمَخْصُوصِ، فَيَلْزَمُ النَّاذِرَ الْوَفَاءُ بِهِ لِلشَّائِبَةِ الْأُولَى كَمَا قَالُوهُ فِي نَاذِرِ رَابِعِ النَّحْرِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ مَعَ كَوْنِهِ مَكْرُوهًا قَبْلَ النَّذْرِ، وَمِثْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِي لُزُومِهِ الْوَفَاءَ لَوْ نَذَرَ أَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الِاعْتِكَافِ [مُبْطِلَات الِاعْتِكَاف] ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بُطْلَانِ الِاعْتِكَافِ بِقَوْلِهِ (وَمَنْ أَفْطَرَ فِيهِ) أَيْ فِي زَمَنِ اعْتِكَافِهِ (مُتَعَمِّدًا فَلْيَبْتَدِئْ اعْتِكَافَهُ) لِبُطْلَانِهِ بِتَعَمُّدِ إفْسَادِ الصَّوْمِ، وَمَفْهُومُ مُتَعَمِّدًا لَوْ بَطَلَ صَوْمُهُ بِغَيْرِ تَعَمُّدٍ وَبِغَيْرِ وَطْءٍ وَمُقَدِّمَاتِهِ كَأَكْلِهِ نَاسِيًا وَكَمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ فَلَا يَبْتَدِئُهُ لِعَدَمِ بُطْلَانِهِ وَيَقْضِي بَعْدَ زَوَالِ عُذْرِهِ الْيَوْمَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْفِطْرُ وَاصِلًا لَهُ بِاعْتِكَافِهِ حَيْثُ كَانَ الصَّوْمُ فَرْضًا بِحَسَبِ الْأَصْلِ كَرَمَضَانَ أَوْ مَنْذُورًا وَلَوْ مُعَيَّنًا، فَلَوْ أَمَرْنَاهُ بِالْبِنَاءِ فَنَسِيَ ابْتِدَاءَ اعْتِكَافِهِ وَلَا يُعْذَرُ بِالنِّسْيَانِ الثَّانِي، بِخِلَافِ مَنْ ذَكَرَ نَجَاسَةً وَهَمَّ بِغَسْلِهَا فَنَسِيَ وَشَرَعَ فِي الصَّلَاةِ بَعْدَ النِّسْيَانِ الثَّانِي فَصَلَاتُهُ صَحِيحَةٌ، وَيُعِيدُ نَدْبًا فِي الْوَقْتِ لِخِفَّةِ أَمْرِ النَّجَاسَةِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ إزَالَتَهَا سُنَّةٌ أَوْ مَنْدُوبَةٌ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الصَّوْمُ الَّذِي اعْتَكَفَ فِي زَمَنِهِ تَطَوُّعًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ بِأَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ عَلَى وَجْهِ السَّهْوِ فَكَذَلِكَ يَقْضِيهِ لِمَا مَعَهُ مِنْ التَّفْرِيطِ، وَإِنْ كَانَ الْفِطْرُ لِحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ مَرَضٍ لَمْ يَلْزَمْ قَضَاؤُهُ، فَإِنْ قُلْت: كَيْفَ يَقْضِي مَا أَفْطَرَ فِي زَمَنِهِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ مَعَ كَوْنِهِ مَنْذُورًا مُعَيَّنًا وَفَاتَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا انْضَمَّ لَهُ الِاعْتِكَافُ تَقَوَّى جَانِبُهُ فَلَزِمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 مُتَعَمِّدًا وَإِنْ مَرِضَ خَرَجَ إلَى بَيْتِهِ فَإِذَا صَحَّ بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ وَحُرْمَةُ الِاعْتِكَافِ عَلَيْهِمَا فِي الْمَرَضِ وَعَلَى الْحَائِضِ فِي الْحَيْضِ فَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَرِيضُ فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ رَجَعَا سَاعَتَئِذٍ إلَى الْمَسْجِدِ وَلَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ [مَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ] وَلْيَدْخُلْ مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي   [الفواكه الدواني] قَضَاؤُهُ وَلَوْ مَنْذُورًا مُعَيَّنًا، وَيَجْرِي مِثْلُ هَذَا الْجَوَابِ وَالسُّؤَالِ فِي وُجُوبِ الْقَضَاءِ عَلَى مَنْ أَفْطَرَ فِي التَّطَوُّعِ نَاسِيًا، وَيُجَابُ بِأَنَّ الصَّوْمَ لَمَّا كَانَ شَرْطًا فِي الِاعْتِكَافِ وَوَجَبَ قَضَاءُ الِاعْتِكَافِ وَجَبَ قَضَاءُ الصَّوْمِ بِطَرِيقِ التَّبَعِ، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَضَاءُ بِالْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ حَيْثُ كَانَ الصَّوْمُ تَطَوُّعًا، وَلَزِمَ مَعَ الْفِطْرِ بِالنِّسْيَانِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ النَّاسِيَ عِنْدَهُ نَوْعٌ مِنْ التَّفْرِيطِ مَعَ انْضِمَامِ وُجُوبِ قَضَاءِ الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ وَمُقَدِّمَاتِهِ؛ لِأَنَّ عَمْدَهُمَا وَسَهْوَهُمَا سَوَاءٌ وَإِلَيْهِمَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ يَبْتَدِئُ الِاعْتِكَافَ (مَنْ جَامَعَ فِيهِ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا نَاسِيًا أَوْ مُتَعَمِّدًا) وَمِثْلُ الْجِمَاعِ قُبْلَةٌ لِشَهْوَةٍ وَاللَّمْسُ بِبَعْضِ جَسَدِ مَنْ يَلْتَذُّ بِهِ مَعَ قَصْدِ اللَّذَّةِ أَوْ وِجْدَانِهَا، فَذِكْرُ الْوَطْءِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لَا إنْ قَبَّلَ مَنْ لَا تُشْتَهَى، أَوْ لِوَدَاعٍ أَوْ رَحْمَةٍ وَلَمْ يَجِدْ لَذَّةً. قَالَ أَبُو عِمْرَانَ: وَطْءُ الْمُكْرَهَةِ وَالنَّائِمَةِ كَغَيْرِهِمَا فِي بُطْلَانِ اعْتِكَافِهِمَا بِخِلَافِهِ احْتِلَامُهُمَا، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَصِحَّتُهُ بِعَدَمِ وَطْءٍ وَقُبْلَةِ شَهْوَةٍ وَلَمْسٍ وَإِنْ لِحَائِضٍ نَاسِيَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ وَيَبْتَدِئُهُ وَلَوْ كَانَتْ لَا تَبْطُلُ الصَّوْمَ، كَمَا لَوْ وَقَعَتْ مِنْ الْمُعْتَكِفِ لَيْلًا أَوْ فِي تَطَوُّعٍ نَهَارًا نِسْيَانًا، وَمِمَّا يُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ تَعَمُّدُ السُّكْرِ وَلَوْ لَيْلًا وَلَوْ صَحَا قَبْلَ الْفَجْرِ، وَأَمَّا سُكْرُهُ بِحَلَالٍ فَإِنَّمَا يُبْطِلُ اعْتِكَافَ يَوْمِهِ إنْ حَصَلَ السُّكْرُ نَهَارًا كَالْجُنُونِ وَالْإِغْمَاءِ فَيَجْرِي فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ مَا جَرَى فِيهِمَا، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ غَيْرُ الْمُفْسِدَةِ لِلصَّوْمِ كَالْقَذْفِ وَالْغِيبَةِ فَقِيلَ كَالسُّكْرِ بِالْحَرَامِ وَقِيلَ لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِزِيَادَتِهِ عَلَيْهَا بِتَعْطِيلِ الزَّمَنِ، وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَا تُبْطِلُ الِاعْتِكَافَ اتِّفَاقًا [مَالًا يُبْطِل الِاعْتِكَاف] ثُمَّ شَرَعَ فِي أَعْذَارٍ لَا تُبْطِلُهُ إنَّمَا تُمْنَعُ إمَّا الْجُلُوسُ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ الصَّوْمُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ مَرِضَ) الْمُعْتَكِفُ مَرَضًا يَمْنَعُهُ مِنْ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ مِنْ الصَّوْمِ دُونَ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ (خَرَجَ إلَى بَيْتِهِ) وُجُوبًا مَعَ الْمَرَضِ الْمَانِعِ مِنْ الْمُكْثِ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ جَوَازِ الْمَانِعِ مِنْ الصَّوْمِ فَقَطْ. وَفِي الرَّجْرَاجِيِّ: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْمُكْثُ فِي الْمَسْجِدِ مَعَ الْمَانِعِ مِنْ الصَّوْمِ فَقَطْ. (وَاذَا صَحَّ) مِنْ مَرَضِهِ وَرَجَعَ إلَى مُعْتَكَفِهِ سَرِيعًا (بَنَى عَلَى مَا تَقَدَّمَ) مِنْ اعْتِكَافِهِ، وَالْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ فِي كَلَامِهِ الْإِتْيَانُ بِبَدَلِ مَا فَاتَ بِالْعُذْرِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ كَانَتْ أَيَّامٌ مُعَيَّنَةً وَفَاتَتْ أَوْ لَا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ بِأَنْ كَانَتْ الْأَيَّامُ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ بَلْ مَضْمُونَةً (وَكَذَلِكَ إنْ حَاضَتْ الْمُعْتَكِفَةُ) تَخْرُجُ إلَى بَيْتِهَا كَمَا يَخْرُجُ الْمَرِيضُ (وَحُرْمَةُ الِاعْتِكَافِ عَلَيْهِمَا) أَيْ عَلَى الْمَرِيضِ مَا دَامَ (فِي الْمَرَضِ وَعَلَى الْحَائِضِ) مَا دَامَتْ (فِي الْحَيْضِ) فَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَفْعَلَ مَا لَا يَفْعَلُهُ الْمُعْتَكِفُ. (وَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَرِيضُ) وَصِلَةُ طَهُرَتْ وَأَفَاقَ (فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ رَجَعَا) وُجُوبًا (سَاعَتئِذٍ) أَيْ وَقْتَ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَرِيضُ، وَالْمُرَادُ بَعْدَ طُهْرِهَا وَبُرْءِ الْمَرِيضِ (إلَى الْمَسْجِدِ) وَإِنْ لَمْ يَعْتَدَّا بِيَوْمِ الرُّجُوعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَنَى. بِزَوَالٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ كَأَنْ مُنِعَ مِنْ الصَّوْمِ لِمَرَضٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ عِيدٍ وَخَرَجَ وَعَلَيْهِ حُرْمَتُهُ، فَإِنْ أَخَّرَهُ بَطَلَ إلَّا لَيْلَةَ الْعِيدِ وَيَوْمِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ وَالْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ إذَا أَخَّرَ الرُّجُوعَ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ وَلَوْ لِعُذْرٍ مِنْ نِسْيَانٍ أَوْ إكْرَاهٍ وَيَسْتَأْنِفُ، لَا أَنْ يَكُونَ التَّأْخِيرُ لِخَوْفٍ عَلَى نَفْسِهِ كَمَا قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، كَمَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّأْخِيرِ إذَا صَادَفَ زَوَالَ الْعُذْرِ لَيْلَةَ الْعِيدِ أَوْ يَوْمَهُ فَلَا يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَلَوْ أَخَّرَ الرُّجُوعَ حَتَّى مَضَى الْعِيدُ وَتَالِيَاهُ فِي الْأَضْحَى لِعَدَمِ صِحَّةِ صَوْمِ ذَلِكَ الزَّمَنِ، بِخِلَافِ لَوْ طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ النُّفَسَاءُ أَوْ صَحَّ الْمَرِيضُ وَأَخَّرَ كُلٌّ الرُّجُوعَ إلَى الْمَسْجِدِ فَإِنَّ اعْتِكَافَهُ يَبْطُلُ لِصِحَّةِ صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ لِغَيْرِهِمَا، بِخِلَافِ يَوْمِ الْعِيدِ فَإِنَّ صَوْمَهُ لَا يَصِحُّ لِأَحَدٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْبِنَاءَ فِي كَلَامِهِ مَصْرُوفٌ عَنْ ظَاهِرِهِ إلَى مَعْنًى أَعَمَّ، وَأَنَّ مِثْلَ الْمَرَضِ الْإِغْمَاءُ وَالْجُنُونُ، نَعَمْ كَلَامُهُ كَكَلَامِ خَلِيلٍ شَامِلٌ لِمَا إذَا كَانَ الِاعْتِكَافُ بِصَوْمِ فَرْضٍ بِحَسَبِ الْأَصْلِ كَرَمَضَانَ أَوْ بِنَذْرٍ، لَكِنْ إنْ كَانَتْ أَيَّامُهُ مَضْمُونَةً أَيْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ لَا فَرْقَ بَيْنَ حُصُولِ الْعُذْرِ قَبْلَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ أَوْ بَعْدَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً فَلَا يَجِبُ الْبِنَاءُ إلَّا إذَا حَصَلَ الْعُذْرُ بَعْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ قَبْلَ الدُّخُولِ فِي الْمُعْتَكَفِ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ الْمُعْتَمَدُ مِنْهَا عَدَمُ لُزُومِ الْقَضَاءِ. الثَّانِي: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَعْضُ تَكْرَارِ بَيَانِهِ أَنَّهُ قَالَ أَوَّلًا فِي الْمَرِيضِ: فَإِذَا صَحَّ بَنَى، ثُمَّ أَعَادَهُ ثَانِيًا فِي قَوْلِهِ: وَإِذَا طَهُرَتْ الْحَائِضُ أَوْ أَفَاقَ الْمَرِيضُ، هَكَذَا قَالَ بَعْضٌ، وَظَهَرَ لَنَا جَوَابٌ يَنْدَفِعُ بِهِ دَعْوَى التَّكْرَارِ وَهُوَ أَنَّ الْقَصْدَ مِنْ إعَادَتِهِ ثَانِيًا الْإِشَارَةُ إلَى وُجُوبِ رُجُوعِهِ سَرِيعًا إلَى الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا إذَا صَحَّ بَنَى وُجُوبَ الرُّجُوعِ سُرْعَةً فَنَبَّهَ عَلَيْهِ ثَانِيًا، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ الْخُرُوجُ لِأَجْلِهِ وَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَخْرُجُ الْمُعْتَكِفُ مِنْ مُعْتَكَفِهِ) أَيْ مَحَلِّ اعْتِكَافِهِ لِأَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 يُرِيدُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا اعْتِكَافَهُ وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا وَلَا يُصَلِّي عَلَى جِنَازَةٍ وَلَا يَخْرُجُ لِتِجَارَةٍ وَلَا شَرْطَ فِي الِاعْتِكَافِ وَلَا   [الفواكه الدواني] الْخُرُوجَ مُنَافٍ لِلْمُلَازَمَةِ (إلَّا لِحَاجَةِ الْإِنْسَانِ) الَّتِي لَا يَجُوزُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ كَبَوْلٍ، وَمَا لَا غِنَى لَهُ عَنْ تَحْصِيلِهِ كَشِرَاءِ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُجَاوِزَ مَحَلًّا قَرِيبًا يُمْكِنُ الشِّرَاءُ مِنْهُ، فَالْمُرَادُ بِحَاجَتِهِ مَا يَحْمِلُهُ عَلَى الْخُرُوجِ، فَيَشْمَلُ الْخُرُوجَ لِلْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ لِجَنَابَتِهِ أَوْ عِيدِهِ أَوْ جُمُعَتِهِ أَوْ تَبَرُّدِهِ لِحَرٍّ أَصَابَهُ كَمَا قَالَهُ فِي الطِّرَازِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ وَهْبٍ، وَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ فِي الْحَمَّامِ، وَقَوْلُ الشَّامِلِ: وَلَا يَدْخُلُ الْمُعْتَكِفُ الْحَمَّامَ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ يُمْكِنُهُ التَّطَهُّرُ فِي بَيْتِهِ أَوْ فِي مَحَلٍّ أَقْرَبَ مِنْهُ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ لِغَسْلِ ثِيَابِهِ الَّتِي أَصَابَتْهَا نَجَاسَةٌ وَلَا غِنَى لَهُ عَنْهَا، وَيَجُوزُ لَهُ انْتِظَارُ تَجْفِيفِهِ إنْ لَمْ يُمْكِنْهُ الِاسْتِنَابَةُ لِغَيْرِهِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَيْضًا الْخُرُوجُ لِمَرَضِ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ لِحُضُورِ جِنَازَةِ أَحَدِهِمَا وَإِنْ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَإِذَا مَاتَا مَعًا لَا يَخْرُجُ لِجِنَازَتِهِمَا وَلَا لِأَدَاءِ شَهَادَةٍ وَإِنْ وَجَبَتْ وَيُؤَدِّيهَا فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا خَرَجَ لِشَيْءٍ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ إلَيْهِ بَطَلَ اعْتِكَافُهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ الِاعْتِكَافِ أَنْ يُحَصِّلَ جَمِيعَ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ قَبْلَ دُخُولِهِ الْمُعْتَكَفِ، وَيُكْرَهُ دُخُولُهُ غَيْرَ مُكَفًّى. الثَّانِي: إذَا أَرَادَ الْمُعْتَكِفُ أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ فَيَأْكُلَ فِي أَيِّ مَحَلٍّ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَيَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ فِي رِحَابِهِ أَوْ فِي الْمَنَارَةِ وَيُغْلِقُهَا عَلَيْهِ، فَإِنْ أَكَلَ خَارِجَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ أَكَلَ خَارِجًا عَمَّا بَيْنَ يَدَيْهِ فَإِنَّهُ يَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ. الثَّالِثُ: كَخُرُوجِهِ لِبَعْضِ حَوَائِجِهِ، وَلِمَانِعٍ حَصَلَ لَهُ كَحَيْضٍ أَوْ إغْمَاءٍ أَوْ جُنُونٍ وَقَضَى حَاجَتَهُ أَوْ زَالَ مَانِعُهُ وَقُلْنَا يَرْجِعُ سَرِيعًا هَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ إلَى الْمَسْجِدِ الَّذِي كَانَ فِيهِ أَوَّلًا، أَوْ يَجُوزُ لَهُ الذَّهَابُ إلَى أَيِّ مَسْجِدٍ حَيْثُ كَانَ مِثْلَ الْأَوَّلِ فِي الْقُرْبِ أَوْ أَقْرَبَ؟ تَوَقَّفَ فِي ذَلِكَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ تَعْيِينِ الْأَوَّلِ حَيْثُ وُجِدَ مِثْلُ الْأَوَّلِ فِي الْقُرْبِ أَوْ أَقْرَبَ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ ابْتَدَأَ اعْتِكَافَهُ فِي مَسْجِدٍ وَأَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ مِنْهُ لَا لِعُذْرٍ بَلْ لِمُجَرَّدِ الِانْتِقَالِ لِيُكْمِلَ فِيهِ اعْتِكَافَهُ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ يَجُوزُ لَهُ الِانْتِقَالُ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ اخْتِيَارًا لَمَا وَجَبَ عَلَى نَاذِرِ أَيَّامٍ تُدْرِكُهُ فِيهَا الْجُمُعَةُ الِاعْتِكَافُ فِي مَحَلِّ خُطْبَةٍ ثُمَّ بَيَّنَ الزَّمَنَ الَّذِي يُطْلَبُ مِنْ مُرِيدِ الِاعْتِكَافِ الدُّخُولُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَدْخُلْ) مُرِيدُ الِاعْتِكَافِ (مُعْتَكَفَهُ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ اللَّيْلَةِ الَّتِي يُرِيدُ أَنْ يَبْتَدِئَ فِيهَا اعْتِكَافَهُ) لِيَسْتَكْمِلَ اللَّيْلَةَ، وَحُكْمُ الدُّخُولِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ الْوُجُوبُ إنْ كَانَ الِاعْتِكَافُ مَنْذُورًا، وَالنَّدْبُ إنْ لَمْ يَكُنْ مَنْذُورًا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَوْ أَخَّرَ دُخُولَهُ وَدَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ إنْ دَخَلَ قَبْلَ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ أَدْرَكَ مَحَلَّ النِّيَّةِ، بَلْ وَلَوْ دَخَلَ مَعَ الْفَجْرِ بِنَاءً عَلَى صِحَّتِهَا مَعَ الْفَجْرِ لَكِنْ مَعَ الْإِثْمِ عَلَى التَّأْخِيرِ فِي الِاعْتِكَافِ الْمَنْذُورِ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَهُ مَعَ مُخَالَفَتِهِ الْوَاجِبَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ أَقَلَّهُ يَوْمٌ . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُنْهَى الْمُعْتَكِفُ عَنْ فِعْلِهِ فَقَالَ: (وَلَا يَعُودُ مَرِيضًا) أَيْ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ، وَالْمُرَادُ فِي الْمَسْجِدِ لَا إنْ كَانَ خَارِجَهُ فَيُمْنَعُ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ، وَأَمَّا سَلَامُهُ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَا يَقُومُ مِنْ مَحَلِّهِ لِلتَّعْزِيَةِ وَلَا لِلتَّهْنِئَةِ، وَهَذَا حَيْثُ كَانَ الْمَرِيضُ غَيْرَ أَبَوَيْهِ، وَأَمَّا هُمَا أَوْ أَحَدُهُمَا فَقَدْ مَرَّ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِعِيَادَتِهِمَا أَوْ لِجِنَازَةِ أَحَدِهِمَا، وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ كَخُرُوجِهِ لِصَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَإِنَّهُ وَاجِبٌ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ. (وَلَا يُصَلِّي) الْمُعْتَكِفُ (عَلَى جِنَازَةٍ) وَلَوْ لَاصَقَتْ وَلَوْ جِنَازَةَ جَارٍ أَوْ صَالِحٍ، وَالْمُرَادُ يُكْرَهُ إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ فَيَجِبَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ عَلَيْهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ لِتَجْهِيزِهَا إنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ وَتُبْطِلُ اعْتِكَافَهُ، وَاتَّفَقَ الشُّيُوخُ عَلَى جَوَازِ حِكَايَتِهِ الْآذَانَ؛ لِأَنَّهُ ذِكْرٌ، وَلَا يُقَالُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَكْبِيرٍ وَهُوَ ذِكْرٌ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ تَقْتَضِي الْمَشْيَ وَالِانْتِقَالَ مِنْ مَحَلِّهِ وَالْمُخَالَطَةَ لِلنَّاسِ الْمُنَافِي كُلٌّ مِنْهُمَا لِلِاعْتِكَافِ، وَلَا يُقَالُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْجِنَازَةِ أَحَبُّ مِنْ النَّفْلِ إذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ جَارًا أَوْ صَالِحًا، وَقُلْتُمْ هُنَا يُكْرَهُ مُطْلَقًا؛ لِأَنَّا نَقُولُ: ذَلِكَ فِي حَقِّ غَيْرِ الْمُعْتَكِفِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ (وَ) كَذَا (لَا يَخْرُجُ لِتِجَارَةٍ) أَيْ يُكْرَهُ إذَا كَانَ مَحَلُّهَا قَرِيبًا مِنْ الْمَسْجِدِ بِحَيْثُ يَكُونُ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ ذَلِكَ فَيُمْنَعُ وَيَبْطُلُ اعْتِكَافُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي خُرُوجِهِ لِأَكْلِهِ، وَمَفْهُومُ التِّجَارَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِنَحْوِ أَكْلِهِ فَلَا يُنْهَى عَنْهُ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَ وَيَبِيعَ الشَّيْءَ الْخَفِيفَ مِنْ عَيْشِهِ الَّذِي لَا يَشْغَلُهُ، وَأَمَّا شِرَاؤُهُ أَوْ بَيْعُهُ لِلتِّجَارَةِ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ فَيُكْرَهُ أَيْضًا، فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ يَخْرُجُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُكْرَهُ بَيْعُهُ أَوْ شِرَاؤُهُ لِلتِّجَارَةِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ خَارِجَ الْمَسْجِدِ أَوْ دَاخِلَهُ، وَيَجُوزُ لِغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُسْتَغْنَى عَنْهُ وَلَوْ خَارِجَهُ بِحَيْثُ لَا يُجَاوِزُ مَحَلًّا قَرِيبًا يُمْكِنُ الشِّرَاءُ مِنْهُ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَجِدَ مَنْ يَشْتَرِي لَهُ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ: أَيَجْلِسُ مَجَالِسَ الْعُلَمَاءِ وَيَكْتُبُ الْعِلْمَ؟ فَقَالَ: لَا يَفْعَلُ إلَّا الْأَمْرَ الْخَفِيفَ وَالتَّرْكُ أَحَبُّ إلَيَّ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْمَجْمُوعَةِ: وَلَا يَخْرُجُ لِمُدَاوَاةِ رَمَدٍ بِعَيْنَيْهِ وَلْيَأْتِهِ مَنْ يُعَالِجُهُ، وَلَا يَصْعَدُ لِتَأْذِينٍ بِمَنَارٍ أَوْ سَطْحٍ. قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى مَا يُكْرَهُ لِلْمُعْتَكِفِ بِقَوْلِهِ: وَكُرِهَ أَكْلُهُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ، وَاعْتِكَافُهُ غَيْرُ مُكَفًّى، وَدُخُولُهُ مَنْزِلَهُ وَإِنْ لِغَائِطٍ، وَاشْتِغَالُهُ بِعِلْمٍ وَكِتَابَتِهِ وَإِنْ مُصْحَفًا إنْ كَثُرَ، وَفِعْلُ غَيْرِ ذِكْرٍ وَصَلَاةٍ وَتِلَاوَةٍ كَعِيَادَةٍ وَجِنَازَةٍ وَلَوْ لَاصَقَتْ، وَصُعُودُهُ لِتَأْذِينٍ بِمَنَارٍ أَوْ سَطْحٍ، وَإِخْرَاجُهُ لِحُكُومَةٍ إنْ لَمْ يَلُذْ بِهِ، وَأَشَارَ إلَى الْجَائِزِ بِقَوْلِهِ: وَجَازَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 بَأْسَ أَنْ يَكُونَ إمَامَ الْمَسْجِدِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَوْ يَعْقِدَ نِكَاحَ غَيْرِهِ وَمَنْ اعْتَكَفَ أَوَّلَ الشَّهْرِ أَوْ وَسَطَهُ خَرَجَ مِنْ اعْتِكَافِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهِ وَإِنْ اعْتَكَفَ بِمَا يَتَّصِلُ فِيهِ اعْتِكَافُهُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ فَلْيَبِتْ لَيْلَةَ الْفِطْرِ فِي الْمَسْجِدِ حَتَّى يَغْدُوَ مِنْهُ إلَى الْمُصَلَّى.   [الفواكه الدواني] إقْرَاءُ قُرْآنٍ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِ وَتَطَيُّبُهُ، وَأَنْ يَنْكِحَ وَيُنْكِحَ، وَأَخْذُهُ إذَا خَرَجَ لِغُسْلِ جُمُعَةٍ ظُفْرًا أَوْ شَارِبًا، وَانْتِظَارُ غَسْلِ ثَوْبِهِ وَتَجْفِيفِهِ، وَنُدِبَ إعْدَادُ ثَوْبِهِ وَمُكْثُهُ لَيْلَةَ الْعِيدِ. (وَلَا شَرْطَ) مَعْمُولٌ بِهِ (فِي الِاعْتِكَافِ) قَالَ الْجُزُولِيُّ: صُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: أَعْتَكِفُ الْأَيَّامَ دُونَ اللَّيَالِي أَوْ بِالْعَكْسِ، أَوْ أَعْتَكِفُ عَشَرَةَ أَيَّامٍ إلَى أَنْ يَبْدُوَ لِي فَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ فَأَقْوَالٌ ثَلَاثَةٌ: الْمَشْهُورُ مِنْهَا أَنَّهُ يَبْطُلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الِاعْتِكَافُ، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ أَنَّهُ إنْ عَرَضَ لَهُ أَمْرٌ يُوجِبُ الْقَضَاءَ فَلَا قَضَاءَ عَلَيْهِ لَمْ يُفِدْهُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يُشْتَرَطَ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الْمُعْتَكَفِ أَوْ بَعْدَهُ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَشَرُّ مُنَافِيهِ لَغْوٌ وَقَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ شَرَطَ سُقُوطَ الْقَضَاءِ لَمْ يُفِدْهُ. (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يُنْدَبُ (أَنْ يَكُونَ) الْمُعْتَكِفُ (إمَامًا لِمَسْجِدٍ) وَلَوْ رَاتِبًا؛ لِأَنَّ الصَّلَاةَ لَا تُنَافِي الِاعْتِكَافَ وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ كَوْنُهُ إمَامًا، لِأَنَّ «النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَّ فِي زَمَنِ اعْتِكَافِهِ» ، وَلَا يَفْعَلُ لِنَفْسِهِ إلَّا مَا كَانَ رَاجِحَ الْفِعْلِ، فَمَا فِي خَلِيلٍ مِنْ كَرَاهَةِ ذَلِكَ فَخِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا إقَامَةُ الصَّلَاةِ أَوْ صُعُودُهُ لِلْأَذَانِ عَلَى مَنَارٍ أَوْ سَطْحِ فَمَكْرُوهَتَانِ؛ لِأَنَّ مَا ذُكِرَ لَيْسَ مِنْ شَأْنِ الْمُعْتَكِفِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُبَاحُ لَهُ فِعْلُهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ) أَيْ يُبَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ عَقْدُ النِّكَاحِ سَوَاءٌ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. (أَوْ) أَيْ وَيُبَاحُ لَهُ أَنْ (يَعْقِدَ نِكَاحَ غَيْرِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ أَنْ يَنْكِحَ وَيُنْكِحَ بِشَرْطِ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ فِي مَجْلِسِهِ مِنْ غَيْرِ تَشَاغُلٍ بِهِ بِأَنْ كَانَ مُجَرَّدَ إيجَابٍ وَقَبُولٍ، وَأَمَّا لَوْ عَقَدَ بِغَيْرِ مَجْلِسِهِ فَإِنْ كَانَ فِي الْمَسْجِدِ كُرِهَ، وَإِنْ كَانَ خَارِجَهُ حَرُمَ وَبَطَلَ اعْتِكَافُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ بِنَحْوِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكِحُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمُعْتَكِفَ مُنْعَزِلٌ عَنْ النَّاسِ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ؛ وَلِأَنَّهُ مَفْسَدَةُ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ مِنْ مَفْسَدَةِ الِاعْتِكَافِ، وَمِمَّا يَجُوزُ لِلْمُعْتَكِفِ قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِهِ وَسَمَاعُهُ مِنْ غَيْرِهِ وَسَلَامُهُ عَلَى مَنْ بِقُرْبِهِ مِنْ صَحِيحٍ أَوْ مَرِيضٍ ، ثُمَّ بَيَّنَ وَقْتَ خُرُوجِهِ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ تَمَامِ اعْتِكَافِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ اعْتَكَفَ) بِالنَّذْرِ أَوْ عَلَى وَجْهِ التَّطَوُّعِ عَشَرَةَ أَيَّامٍ (أَوَّلَ الشَّهْرِ) رَمَضَانَ أَوْ غَيْرَهُ (أَوْ وَسَطَهُ) وَأَتَمَّهَا (خَرَجَ) جَوَازًا (مِنْ اعْتِكَافِهِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهِ) لِانْقِضَاءِ اعْتِكَافِهِ بِغُرُوبِ شَمْسِ آخِرِ يَوْمٍ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَهُوَ كَذَلِكَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. (وَ) أَمَّا (إنْ اعْتَكَفَ بِمَا) أَيْ فِي زَمَنٍ يَتَّصِلُ فِيهِ (اعْتِكَافُهُ بِيَوْمِ الْفِطْرِ) الْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ آخِرُهُ غُرُوبَ الشَّمْسِ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ وَالنَّحْرِ، كَمَنْ اعْتَكَفَ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ أَوْ الْأَوَّلَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. (فَلْيَبِتْ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (لَيْلَةَ) يَوْمِ عِيدِ (الْفِطْرِ) أَوْ النَّحْرِ (فِي الْمَسْجِدِ) الَّذِي اعْتَكَفَ فِيهِ، وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ لَهُ الْبَيَاتُ فِي الْمَسْجِدِ (حَتَّى يَغْدُوَ مِنْهُ إلَى الْمُصَلَّى) لِيَصِلَ عِبَادَةً بِعِبَادَةٍ. قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «بَلَغَنِي أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ عِنْدَ اعْتِكَافِهِ الْعَشْرَ الْأَخِيرَ مِنْ رَمَضَانَ» . 1 - (خَاتِمَةٌ) يَتَأَكَّدُ نَدْبُ الِاعْتِكَافِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ، وَالْأَفْضَلُ مِنْهُ الْعَشْرُ الْأَخِيرُ لِأَجْلِ طَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ، وَهِيَ اللَّيْلَةُ الَّتِي يُقَدِّرُ فِيهَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - جَمِيعَ الْأُمُورِ وَالْأَحْكَامِ الْجَارِيَةِ فِي مَخْلُوقَاتِهِ فِي السَّنَةِ الْمُقْبِلَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ} [الدخان: 4] وَمَعْنَى تَقْدِيرِ الْأُمُورِ تِلْكَ اللَّيْلَةِ سَوْقُهَا إلَى مَوَاقِيتِهَا وَتَنْفِيذُ الْقَضَاءِ الْمُقَدَّرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّرَ الْأَشْيَاءَ قَبْلَ خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ، لِأَنَّ الْغَالِبَ كَوْنُهَا فِيهِ لِخَبَرِ: «الْتَمِسُوهَا فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ» وَهِيَ اللَّيْلَةُ الْمُبَارَكَةُ الَّتِي أُنْزِلَ فِيهَا الْقُرْآنُ جُمْلَةً مِنْ اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ إلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَجْمًا بَعْد نَجْمٍ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، وَكَانَ نُزُولُ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فِي عِشْرِينَ سَنَةً، وَمَا قَدَّمْنَاهُ هُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي كَوْنِهَا بِالْعَامِ أَوْ بِرَمَضَانَ خِلَافٌ. قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ: فَإِنَّهَا لَا تَخْتَصُّ بِلَيْلَةٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ لَا تَلْزَمُ لَيْلَةٌ بِعَيْنِهَا بَلْ تَنْتَقِلُ، فَإِذَا كَانَتْ فِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ تَكُونُ فِي سَنَةٍ فِي لَيْلَةٍ أُخْرَى وَهِيَ بَاقِيَةٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ عَلَى الصَّوَابِ بِدَلِيلِ حَثِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى الْتِمَاسِهَا وَمَا وَرَدَ مِنْ رَفْعِهَا، فَالْمُرَادُ رَفْعُ تَعْيِينِهَا خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِرَفْعِهَا جُمْلَةً وَسُمِّيَتْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ لِتَقْدِيرِ الْكَائِنَاتِ فِيهَا مِنْ أَرْزَاقٍ وَغَيْرِهَا وَإِظْهَارِهَا لِلْمَلَائِكَةِ، وَسَبَبُ امْتِنَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِتِلْكَ اللَّيْلَةِ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَظَرَ فِي أَعْمَارِ مَنْ مَضَى مِنْ الْأُمَمِ وَتَعَجَّبَ مِنْ طُولِهَا مَعَ قِصَرِ أَعْمَارِ أُمَّتِهِ وَعَدَمِ بُلُوغِهَا عُمُرَ الْأَوَائِلِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْلَةَ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الْعَمَلَ الصَّالِحَ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِ أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَالْمُرَادُ عَمَلُ لَيْلِهَا وَنَهَارِهَا، كَمَا أَنَّ الْمُرَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] بِالْأَلْفِ شَهْرٍ مَا يَشْمَلُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَوَقَعَ خِلَافٌ هَلْ يَحْصُلُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ لِمَنْ عَمِلَ عَالِمًا بِهَا أَوْ يَحْصُلُ لِكُلِّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ الْعَمَلُ وَلَوْ لَمْ يَشْعُرْ بِهَا؟ وَالصَّوَابُ مِنْ ذَلِكَ الْخِلَافِ حُصُولُ الثَّوَابِ مُطْلَقًا، لَكِنَّ ثَوَابَ مَنْ عَمِلَ مَعَ الْعِلْمِ بِهَا بِظُهُورِ شَيْءٍ مِنْ عَلَامَاتِهَا أَتَمُّ مِنْ ثَوَابِ مَنْ لَمْ يَعْلَمْ، وَعَلَامَاتُهَا كَثِيرَةٌ مِنْهَا: أَنَّ الْمِيَاهَ الْمَالِحَةَ تَعْذُبُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ ثُمَّ تَرْجِعُ إلَى أَصْلِهَا، وَمِنْهَا: أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْلُعُ يَوْمَهَا عَلَى قَرْنَيْ شَيْطَانٍ بِخِلَافِ يَوْمِ غَيْرِهَا، وَمِنْهَا: اقْشِعْرَارٌ وَبُكَاءٌ، وَمِنْهَا: أَنَّ تِلْكَ اللَّيْلَةَ تَكُونُ مُشْرِقَةً نَيِّرَةً وَمُعْتَدِلَةً لَا حَارَّةً وَلَا بَارِدَةً وَلَا سَحَابَ فِيهَا وَلَا مَطَرَ وَلَا رِيحَ، وَلَا يُرَى فِيهَا نَجْمٌ، وَتَطْلُعُ الشَّمْسُ صَبِيحَتَهَا مُشَعْشَعَةً حَمْرَاءَ لَا شُعَاعَ لَهَا، كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْمُرُ مَنْ رَأَى عَلَامَةً لَيْلَةَ الْقَدْرِ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنَّك عَفْوٌ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي. وَقَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَوْ رَأَيْت لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا سَأَلْت اللَّهَ إلَّا الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ. هَذَا مُلَخَّصُ الْكَلَامِ عَلَى لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: مُقْتَضَى هَذَا اخْتِصَاصُ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِهَا، وَثَوَابُ الْعَمَلِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ ثَوَابِهِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ قَدْرٍ، وَعِدَّةُ الْأَلْفِ شَهْرٍ بِالسِّنِينَ ثَلَاثٌ وَثَمَانُونَ سَنَةً [بَاب فِي زَكَاة الْعَيْن وَالْحَرْث وَالْمَاشِيَة وَمَا يَخْرَج مِنْ الْمَعْدِن] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مُعْظَمِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ وَهُوَ الصَّلَاةُ وَالصَّوْمُ، شَرَعَ فِي الزَّكَاةِ وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمَهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَتَأْخِيرَ الصَّوْمِ عَنْهَا كَمَا فِي حَدِيثِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَلَعَلَّهُ إنَّمَا أَخَّرَهَا عَنْ الصَّوْمِ لِمُنَاسَبَةِ الصَّوْمِ لِلصَّلَاةِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 بَابٌ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعْدِنِ وَذِكْرُ الْجِزْيَةِ وَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِيِّينَ وَزَكَاةُ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَرِيضَةٌ فَأَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ فَيَوْمُ حَصَادِهِ وَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ فَفِي كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً وَلَا   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانِ أَحْكَامِ (زَكَاةِ الْعَيْنِ) (وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعْدِنِ وَ) ذِكْرٍ فِي (أَحْكَامِ) وَقَدْرِ (الْجِزْيَةِ) فِي بَيَانِ قَدْرِ (مَا يُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ) بِضَمِّ التَّاءِ جَمْعُ تَاجِرٍ كَفَاجِرٍ وَفُجَّارٍ، وَيُقَالُ تِجَارٌ بِكَسْرِهَا كَصَاحِبٍ وَصِحَابٍ (أَهْلِ الذِّمَّةِ وَ) مِنْ تِجَارَةِ (الْحَرْبِيِّينَ) وَسَتَأْتِي الزِّيَادَةُ عَلَى مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهِيَ أَحْكَامُ الرِّكَازِ وَزَكَاةِ الْعُرُوضِ، وَالزَّكَا فِي اللُّغَةِ النُّمُوُّ وَالزِّيَادَةُ، يُقَالُ: زَكَا الزَّرْعُ وَزَكَا الْمَالُ إذَا كَثُرَ، وَفِي الشَّرْعِ بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ جُزْءٌ مِنْ الْمَالِ شَرْطُ وُجُوبِهِ لِمُسْتَحِقِّهِ بُلُوغُ الْمَالِ نِصَابًا، وَالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيُّ: إخْرَاجُ جُزْءٍ مِنْ الْمَالِ إلَخْ، وَوَجْهُ تَسْمِيَةِ الْجُزْءِ زَكَاةً عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: أَنَّ فَاعِلَهَا يَزْكُو بِفِعْلِهِ عِنْدَ اللَّهِ أَيْ يُرْفَعُ بِذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَشْهَدُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] وَقِيلَ: لِنُمُوِّ ذَلِكَ الْجُزْءِ فِي نَفْسِهِ عِنْدَ اللَّهِ لِخَبَرِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِكَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا طَيِّبًا كَانَ كَأَنَّمَا يَضَعُهَا فِي كَفِّ الرَّحْمَنِ يُرَبِّيهَا لَهُ كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ بِفَتْحِ الْفَاءِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ أَوْ فَصِيلَهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» أَوْ قِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَبَدَأَ بِحُكْمِهَا فَقَالَ: (وَزَكَاةُ) بِالرَّفْعِ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَهِيَ بِمَعْنَى تَزْكِيَةِ (الْعَيْنِ) أَعْنِي الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ. (وَالْحَرْثِ) وَهِيَ سَائِرُ الْحُبُوبِ الْمَعْرُوفَةِ وَالثِّمَارِ وَذَوَاتِ الزُّيُوتِ الْآتِي بَيَانُهَا. (وَالْمَاشِيَةِ) وَهِيَ خُصُوصُ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ لَا غَيْرِهَا مِنْ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (فَرِيضَةٌ) وَلَوْ كَانَتْ الْمَاشِيَةُ مَعْلُوفَةً أَوْ عَامِلَةً وَلَوْ كَانَ الْحَرْثُ فِي أَرْضٍ خَرَاجِيَّةٍ دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، وَفُرِضَتْ فِي ثَانِيَةِ الْهِجْرَةِ بَعْدَ زَكَاةِ الْفِطْرِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَآيَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ الصَّحِيحَيْنِ: «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» إلَى قَوْلِهِ: «وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَالَ الْقَرَافِيُّ: اتَّفَقُوا عَلَى وُجُوبِهَا فَمَنْ جَحَدَهَا فَهُوَ كَافِرٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ حَدِيثَ عَهْدٍ بِالْإِسْلَامِ، وَأَمَّا مَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهَا وَامْتَنَعَ مِنْ أَدَائِهَا فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ كَرْهًا وَإِنْ بِقِتَالٍ وَتُجْزِيهِ وَفَرْضِيَّتُهَا عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ. 1 - وَلِوُجُوبِهَا شُرُوطٌ سِتَّةٌ: الْإِسْلَامُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ خِطَابِ الْكُفَّارِ، وَالْمِلْكُ التَّامُّ، وَالنِّصَابُ، وَمُرُورُ الْحَوْلِ فِي غَيْرِ الْمَعْدِنِ، وَمَجِيءُ السَّاعِي فِي الْمَاشِيَةِ، وَعَدَمُ الدَّيْنِ فِي الْعَيْنِ، وَالْمَشْهُورُ خِطَابُ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، فَيَكُونُ الْإِسْلَامُ شَرْطًا فِي صِحَّةِ الزَّكَاةِ، بِخِلَافِ خِطَابِهِمْ بِالْإِيمَانِ فَإِنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَقَوْلُنَا عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَطَاءٍ مِنْ أَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَا مِلْكَ لَهُمْ مَعَ اللَّهِ؛ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ أَنَّ جَمِيعَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ وَدَائِعِ اللَّهِ يَبْذُلُونَهُ فِي مَحَلِّهِ؛ وَلِأَنَّ الزَّكَاةَ إنَّمَا شُرِعَتْ طُهْرَةً لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ، وَالْأَنْبِيَاءُ مُبَرَّءُونَ مِنْ الدَّنَسِ لِعِصْمَتِهِمْ. قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَهَذَا بَنَاهُ ابْنُ عَطَاءِ اللَّهِ عَلَى مَذْهَبِ إمَامِهِ مِنْ عَدَمِ مِلْكِ الْأَنْبِيَاءِ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ. [زَكَاة الْحَرْث] ثُمَّ بَيَّنَ وَقْتَ وُجُوبِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ فِي الْحُبُوبِ بِقَوْلِهِ: (فَأَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ) كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالسُّلْتِ وَالْقَطَانِيِّ السَّبْعَةِ وَذَوَاتِ الزُّيُوتِ وَالثِّمَارِ الْآتِيَةِ (فَيَوْمُ حَصَادِهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] وَقَوْلُنَا وَقْتَ وُجُوبِ إخْرَاجِ الزَّكَاةِ؛ لِأَنَّ وَقْتَ الْوُجُوبِ يَدْخُلُ بِمُجَرَّدِ الْإِفْرَاكِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْوُجُوبُ بِإِفْرَاكِ الْحَبِّ وَطَيِّبِ الثَّمَرِ فَمَا أُكِلَ بَعْدَ الْإِفْرَاكِ زَمَنَ الْمَسْغَبَةِ مِنْ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَالْفُولِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّاهُ وَيُؤَدِّيَ زَكَاتَهُ مِنْ جِنْسِهِ حَبًّا نَاشِفًا أَوْ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ بَاعَهُ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَحَرَّى مَا تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ مَا اسْتَأْجَرَ بِهِ، وَأَمَّا الثِّمَارُ فَوَقْتُ الْوُجُوبِ فِيهَا يَوْمَ الطِّيبِ. قَالَ مَالِكٌ: إذَا زَهَتْ النَّخْلُ وَطَابَ الْكَرْمُ وَاسْوَدَّ الزَّيْتُونُ أَوْ قَارَبَ وَأَفْرَكَ الزَّرْعُ وَاسْتَغْنَى عَنْ الْمَاءِ وَجَبَ فِيهِ الزَّكَاةُ. (وَ) أَمَّا تَزْكِيَةُ (الْعَيْنِ) غَيْرَ الْمَعْدِنِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 زَكَاةَ مِنْ الْحَبِّ وَالتَّمْرِ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ وَذَلِكَ سِتَّةُ أَقْفِزَةٍ وَرُبُعُ قَفِيزٍ وَالْوَسْقُ سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيُجْمَعُ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ فِي الزَّكَاةِ فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا   [الفواكه الدواني] (وَالْمَاشِيَةِ فَفِي) تَمَامِ (كُلِّ حَوْلٍ مَرَّةً) حَيْثُ لَا سَاعِيَ فِي الْمَاشِيَةِ وَإِلَّا فَبَعْدَ حُضُورِهِ وَعَدَّهُ حَيْثُ أَمْكَنَ حُضُورُهُ وَحَضَرَ بِالْفِعْلِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَيْنَ إنَّمَا تُزَكَّى بَعْدَ تَمَامِ اثْنَيْ عَشَرَ شَهْرًا، وَكَذَا الْمَاشِيَةُ الَّتِي لَا سَاعِيَ لَهَا أَوْ لَا يُمْكِنُ وُصُولُهُ وَإِلَّا فَبَعْدَ وُصُولِهِ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ شَرْطُ وُجُوبٍ إنْ كَانَ وَبَلَغَ، فَإِنْ تَخَلَّفَ وَأُخْرِجَتْ أَجْزَأَ الْإِخْرَاجُ وَلَوْ تَخَلَّفَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمَحَلُّ الْإِجْزَاءِ إنْ أَثْبَتَ الْمُخْرَجَ وَالْإِخْرَاجَ بِالْبَيِّنَةِ فَإِنْ أُخْرِجَتْ قَبْلَ مَجِيءِ السَّاعِي دُونَ تَخَلُّفٍ فَلَا تُجْزِئُ، بِخِلَافِ الَّتِي لَا سَاعِيَ لَهَا فَيُجْزِئُ إخْرَاجُهَا وَلَوْ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ حَيْثُ كَانَ التَّقَدُّمُ بِيَسِيرٍ كَالشَّهْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ قُدِّمَتْ بِكَشَهْرٍ فِي عَيْنٍ وَمَاشِيَةٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ وَقْتِ إخْرَاجِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ قَدْرِ النِّصَابِ وَهُوَ الْقَدْرُ الَّذِي بَلَغَهُ الْمَالُ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) تُشْرَعُ (زَكَاةٌ مِنْ الْحَبِّ) الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ وَهُوَ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةِ وَالْعَلْسُ وَالْقَطَانِيُّ السَّبْعَةُ الَّتِي هِيَ الْعَدَسُ وَاللُّوبِيَا وَالتُّرْمُسُ وَالْحِمَّصُ وَالْبِسِلَّةُ وَالْفُولُ وَالْجُلْبَانُ وَذَوَاتُ الزُّيُوتِ وَهِيَ حَبُّ الْفُجْلِ الْأَحْمَرِ وَالسِّمْسِمِ الْمُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْجُلْجَانِ وَالْقُرْطُمُ وَالزَّيْتُونُ. (وَالتَّمْرُ) وَالزَّبِيبُ فَهَذِهِ عِشْرُونَ نَوْعًا لَا غَيْرَهَا مِنْ نَحْوِ بِزْرِ كَتَّانٍ أَوْ سَلْجَمٍ أَوْ بِزْرِ فُجْلٍ أَبْيَضَ وَلَا فِي فَوَاكِهَ كَرُمَّانٍ أَوْ خَوْخٍ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ (فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ) بِنَاءً عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ النِّصَابَ تَحْدِيدٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ مِنْ التَّمْرِ صَدَقَةٌ» . وَرِوَايَةُ مُسْلِمٍ: «لَيْسَ فِي حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ صَدَقَةٌ حَتَّى تَبْلُغَ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ» وَالْأَوْسُقُ جَمْعُ وَسْقٍ بِفَتْحِ الْوَاوِ عَلَى اللُّغَةِ الْمَشْهُورَةِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يَقُولُ النِّصَابُ تَقْرِيبٌ فَتَجِبُ عِنْدَ النَّقْصِ الْيَسِيرِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْأَوْسُقُ قَدْ لَا تُعْرَفُ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ فَسَّرَ قَدْرَهَا بِالْكَيْلِ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) مِنْ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَدْرُهُ بِالْكَيْلِ (سِتَّةُ أَقْفِزَةٍ) جَمْعُ قَفِيزٍ وَهِيَ ثَمَانِيَةٌ وَأَرْبَعُونَ صَاعًا وَرُبْعُ قَفِيزٍ فَالسِّتَّةُ أَقْفِزَةُ (وَرُبْعُ) قَفِيزٍ هِيَ الْخَمْسَةُ أَوْسُقٍ وَقَدْرُهَا بِالْكَيْلِ الْمَصْرِيِّ عَلَى مَا حَرَّرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ بِالْأَقْدَاحِ أَرْبَعُمِائَةِ قَدَحٍ وَبِالْأَرَادِبِ أَرْبَعَةُ أَرَادِبَ وَوَيْبَةٍ لِكِبَرِ الْكَيْلِ فِي زَمَنِهِ عَمَّا كَانَ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّابِقَةِ، فَلَا يُنَافِيهِ ضَبْطُ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ فِي زَمَنِهِ الْأَوْسُقَ بِالْكَيْلِ الْمَصْرِيِّ سِتَّةُ أَرَادِبَ وَنِصْفَ وَيْبَةٍ. (وَالْوَسْقُ) قَدْرُهُ بِالصِّيعَانِ (سِتُّونَ صَاعًا بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ) أَيْ صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) وَالْمُدُّ حُفْنَةٌ وَهِيَ مِلْءُ الْيَدَيْنِ الْمُتَوَسِّطَتَيْنِ لَا مَقْبُوضَتَيْنِ وَلَا مَبْسُوطَتَيْنِ، وَوَزْنُهُ رَطْلٌ وَثُلُثُ بِالْبَغْدَادِيِّ، فَيَكُونُ الصَّاعُ خَمْسَةَ أَرْطَالٍ وَثُلُثٍ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَحِينَئِذٍ فَالْخَمْسَةُ أَوْسُقٍ بِالْأَرْطَالِ الشَّرْعِيَّةِ أَلْفٌ وَسِتُّمِائَةِ رَطْلٍ كُلُّ رَطْلٍ مِائَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَعِشْرُونَ دِرْهَمًا بِالْوَزْنِ الْمَكِّيِّ، وَالرَّطْلُ اثْنَا عَشَرَ أُوقِيَّةً وَالْأُوقِيَّةُ أَحَدَ عَشَرَ دِرْهَمًا وَوَزْنُ الدِّرْهَمِ خَمْسُونَ وَخُمْسَا حَبَّةٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ، وَأَمَّا بِالْأَرْطَالِ الْمَصْرِيَّةِ فَالْخَمْسَةُ أَوْسُقٍ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ أَلْفُ رَطْلٍ وَأَرْبَعُمِائَةِ رَطْلٍ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ رَطْلًا، فَعُلِمَ أَنَّ الْخَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِالصِّيعَانِ ثَلَاثُمِائَةِ صَاعٍ، وَبِالْأَمْدَادِ أَلْفُ مُدٍّ وَمِائَتَا مُدٍّ، وَبِمَا ذَكَرْنَا عُلِمَ قَدْرُ النِّصَابِ بِالْكَيْلِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَصْرِيِّ وَبِالْوَزْنِ الشَّرْعِيِّ وَالْمَصْرِيِّ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْقَدْرَ الْمَأْخُوذَ مِنْ النِّصَابِ وَهُوَ الْعُشْرُ فِيمَا سُقِيَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ فَيُدْخِلُ أَرْضَ السَّيْحِ أَيْ الْمَاءِ الْجَارِي، وَمَا سُقِيَ مِنْ السَّمَاءِ، وَمَا سُقِيَ بِقَلِيلِ مَاءٍ كَالذُّرَةِ الصَّيْفِيِّ بِأَرْضِ مِصْرَ فَإِنَّهُ يُصَبُّ عَلَيْهِ قَلِيلُ مَاءٍ عِنْدَ وَضْعِ حَبِّهِ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ لَا يُسْقَى بَعْدَ ذَلِكَ، وَنِصْفُ الْعُشْرِ فِيمَا سُقِيَ بِمَشَقَّةِ كَالدَّوَالِيبِ وَالدِّلَاءِ وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِيمَا سَقَتْ السَّمَاءُ وَالْعُيُونُ الْعُشْرُ وَمَا سُقِيَ بِالنَّضْحِ نِصْفُ الْعُشْرِ» وَإِنْ سُقِيَ بِهِمَا فَعَلَى حُكْمَيْهِمَا حَيْثُ تَسَاوَيَا أَوْ تَقَارَبَا فَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ مِنْ ذِي السَّيْحِ وَنِصْفُهُ مِنْ ذِي الْآلَةِ، وَإِنْ سُقِيَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرُ فَقِيلَ الْحُكْمُ لِلْأَكْثَرِ وَيُلْغَى الْأَقَلُّ وَقِيلَ لَا تَبَعِيَّةَ وَتُعْتَبَرُ الْقِسْمَةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ سُقِيَ بِهِمَا فَعَلَى حُكْمَيْهِمَا وَهَلْ يُغَلَّبُ الْأَكْثَرُ خِلَافٌ. 1 - الثَّانِي: شَرْطُ اعْتِبَارِ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَنْ تَكُونَ خَالِصَةً مِنْ التِّبْنِ الَّذِي لَا تُخْزَنُ بِهِ، وَأَنْ تَكُونَ مُقَدَّرَةً الْجَفَافِ فِيمَا أُكِلَ أَخْضَرُ كَفَرِيكٍ وَشَعِيرٍ أَوْ فُولٍ أَوْ كَانَ مِمَّا لَا يَجِفُّ أَصْلًا كَعِنَبٍ وَزَيْتُونٍ وَبَلَحِ مِصْرَ، أَوْ مِمَّا يَجِفُّ كَعِنَبٍ وَبَلَحِ غَيْرِ مِصْرَ وَأُكِلَ قَبْلَ جَفَافِهِ. الثَّالِثُ: شَرْطُ وُجُوبِهَا فِي الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ أَنْ تَكُونَ مَزْرُوعَةً، وَأَمَّا مَا وُجِدَ مِنْ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ نَابَتَا فِي الْجِبَالِ وَالْأَرَاضِي الْمُبَاحَةِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ. قَالَ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الزَّرْقَانِيُّ ابْنُ يُونُسَ: قَالَ مَالِكٌ: وَمَا يُجْمَعُ مِنْ الزَّيْتُونِ وَالتَّمْرِ وَالْعِنَبِ فِي الْجِبَالِ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَإِنْ بَلَغَ خَرْصُهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ وَلَا يَكُونُ أَهْلُ قَرْيَةِ ذَلِكَ الْجَبَلِ أَحَقَّ بِهِ وَهُوَ لِمَنْ أَخَذَهُ؛ لِأَنَّ الْأَرْضَ كُلَّهَا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: إلَّا مَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْضِ الْعَدُوِّ فَإِنَّ فِي جَمِيعِ مَا سَمَّيْت لَك الْخُمُسَ إنْ جُعِلَ فِي الْغَنَائِمِ . ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ لِكَمَالِ النِّصَابِ وَمَا لَا يُضَمُّ بِقَوْلِهِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَلْيُزَكَّ ذَلِكَ وَكَذَلِكَ تُجْمَعُ أَصْنَافُ الْقَطْنِيَّةِ وَكَذَلِكَ تُجْمَعُ أَصْنَافُ التَّمْرِ وَكَذَلِكَ أَصْنَافُ الزَّبِيبِ وَالْأَرْزِ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ لَا يُضَمُّ إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ وَإِذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ أَصْنَافٌ مِنْ التَّمْرِ أَدَّى الزَّكَاةَ عَنْ الْجَمِيعِ مِنْ وَسَطِهِ وَيُزَكَّى الزَّيْتُونُ إذَا بَلَغَ حَبُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَخْرَجَ مِنْ زَيْتِهِ وَيُخْرِجُ مِنْ الْجُلْجُلَانِ وَحُبِّ الْفُجْلِ   [الفواكه الدواني] (وَيُجْمَعُ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ) وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِشَعِيرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا لَمْ يَكْمُلْ النِّصَابُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ وَصِلَةُ يُجْمَعُ (فِي الزَّكَاةِ) لِتَقَارُبِ مَنْفَعَتِهَا وَلِذَلِكَ جُعِلَتْ فِي الْبَيْعِ جِنْسًا بِحَيْثُ يَحْرُمُ التَّفَاضُلُ فِي بَيْعِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ. (فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا) بَعْدَ الضَّمِّ (خَمْسَةُ أَوْسُقٍ) فَأَكْثَرُ (فَلْيُزَكِّ ذَلِكَ) الْمَجْمُوعَ وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُخِذَ مِنْ الْحَبِّ كَيْفَ كَانَ كَالتَّمْرِ نَوْعًا أَوْ نَوْعَيْنِ وَإِلَّا فَمِنْ أَوْسَطِهَا، فَإِنْ أَخْرَجَ عَنْ أَحَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ فَإِنْ أَخْرَجَ مِنْ الْأَعْلَى عَنْ الْأَدْنَى أَجْزَأَ بِخِلَافِ عَكْسِهِ، وَيَجِبُ الضَّمُّ وَلَوْ زُرِعَتْ بِبُلْدَانٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُضَمُّ الْقَطَانِيُّ كَقَمْحٍ وَشَعِيرٍ وَسُلْتٍ وَإِنْ بِبُلْدَانٍ إنْ زُرِعَ أَحَدُهُمَا قَبْلَ حَصَادِ الْآخَرِ؛ لِأَنَّ الْحَصْدَ فِي الْحُبُوبِ كَالْحَوْلِ، وَإِنْ زُرِعَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ حَصَادِ الْآخَرِ فَلَا ضَمَّ، فَإِذَا زُرِعَ فِي ثَلَاثَةِ أَمَاكِنَ وَزُرِعَ الثَّانِي قَبْلَ حَصَادِ الْأَوَّلِ وَزُرِعَ الثَّالِثُ بَعْدَ حَصَادِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ حَصَادِ الثَّانِي، فَإِنْ كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابٌ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كُلِّ وَاحِدٍ نِصَابٌ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إنْ كَانَ فِي الْأَوَّلِ وَسْقَانِ وَفِي الثَّالِثِ وَسْقَانِ أَيْضًا وَفِي الْوَسَطِ وَهُوَ الثَّانِي ثَلَاثَةُ أَوْسُقٍ فَإِنَّهُ يُضَمُّ لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَيُزَكَّى الْجَمِيعُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الضَّمِّ أَنْ يَبْقَى مِنْ حَبِّ الْأَوَّلِ إلَى حَصَادِ الثَّانِي مَا يَكْمُلُ بِهِ النِّصَابُ، فَلَا بُدَّ فِي زَكَاةِ الْجَمِيعِ عِنْدَ ضَمِّ الْوَسَطِ لِكُلٍّ مِنْهُمَا أَنْ يَبْقَى حَبُّ السَّابِقِ لِحَصْدِ اللَّاحِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْوَسَطِ مَعَ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ نِصَابٌ مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ وَسْقَانِ فَلَا زَكَاةَ فِي الْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَكْمُلُ النِّصَابُ مِنْ الْوَسَطِ مَعَ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ فِي الْوَسَطِ ثَلَاثَةُ أَوْسُقٍ، وَفِي الْأَوَّلِ اثْنَانِ وَفِي الثَّالِثِ وَاحِدٌ أَوْ بِالْعَكْسِ، فَنَصَّ اللَّخْمِيُّ: لَا زَكَاةَ عَلَى الْقَاصِرِ، وَاَلَّذِي اسْتَظْهَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ إنْ كَمُلَ النِّصَابُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالْوَسَطِ زُكِّيَ الثَّالِثُ مَعَهُمَا، وَإِنْ كَمُلَ مِنْ الثَّالِثِ وَالْوَسَطِ زَكَّاهُمَا دُونَ الْأَوَّلِ. قَالَ بَعْضٌ: وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّهُ إذَا كَمُلَ النِّصَابُ مِنْ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي فَالْأَوَّلُ مَضْمُومٌ لِلثَّانِي فَالْحَوْلُ لِلثَّانِي وَهُوَ خَلِيطٌ لِلثَّالِثِ، وَإِذَا كَمُلَ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ فَالْمَضْمُومُ الثَّانِي لِلثَّالِثِ فَالْحَوْلُ لِلثَّالِثِ وَلَا خُلْطَةَ لِلْأَوَّلِ بِهِ وَهُوَ فَرْقٌ جَيِّدٌ. (وَكَذَلِكَ تُجْمَعُ) لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ (أَصْنَافُ التَّمْرِ) كَالصَّيْحَانِيِّ فَإِنَّهُ يُضَمُّ لِلْبَرْنِيِّ وَالْعَجْوَةِ؛ لِأَنَّ الضَّابِطَ أَنَّ الْأَنْوَاعَ الْمُتَقَارِبَةَ فِي الْمَنْفَعَةِ يُضَمُّ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ مُرَاعَاةً لَحِقَ الْفُقَرَاءِ وَيُخْرِجُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ إلَّا إذَا زَادَتْ عَلَى نَوْعَيْنِ فَمِنْ أَوْسَطِهَا كَمَا يَأْتِي، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْقَمْحَ وَمَا مَعَهُ لَا يُضَمُّ لِأَصْنَافِ التَّمْرِ وَهُوَ كَذَلِكَ. (وَكَذَلِكَ تُجْمَعُ أَصْنَافُ الْقَطْنِيَّةِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِهَا لِبَعْضِهَا بِشَرْطِ زَرْعِ الْمَضْمُومِ قَبْلَ حَصَادِ الْمَضْمُومِ إلَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ، فَإِذَا اجْتَمَعَ مِنْ جَمِيعِهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهَا فِي الزَّكَاةِ جِنْسٌ وَاحِدٌ رِفْقًا بِالْفُقَرَاءِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَتُجْمَعُ الْقَطْنِيَّةُ عَلَى قَطَانِيٍّ وَهِيَ كُلُّ مَا لَهُ غِلَافٌ كَالْبَسِيلَةِ وَالْحِمَّصِ وَالْعَدَسِ وَالْجُلْبَانِ وَالْفُولِ وَالتُّرْمُسِ وَاللُّوبِيَا، وَسُمِّيَتْ بِالْقَطَانِيِّ؛ لِأَنَّهَا تَقْطُنُ بِالْمَكَانِ أَيْ تُقِيمُ بِهِ، وَلَيْسَ مِنْهَا الْجُلْجُلَانُ وَلَا حَبُّ الْفُجْلِ وَلَا الْكِرْسِنَّةُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ عِنْدَ الضَّمِّ يُخْرِجُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ بِحِسَابِهِ، وَإِنْ أُخْرِجَتْ مِنْ بَعْضِ الْأَنْوَاعِ فَقَطْ أَجْزَأَ إنْ كَانَ الْمُخْرَجُ مِنْهُ أَعْلَى مِنْ الْمُخْرَجِ عَنْهُ. (وَكَذَلِكَ) تُجْمَعُ (أَصْنَافُ الزَّبِيبِ) بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ فَيُضَمُّ الْجُعْرُورُ لِغَيْرِهِ وَالْأَسْوَدُ لِلْأَحْمَرِ، فَإِنْ اجْتَمَعَ النِّصَابُ زَكَّى وَإِلَّا فَلَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا يُضَمُّ بَعْضُهُ إلَى بَعْضٍ شَرَعَ فِيمَا لَا يُضَمُّ بِقَوْلِهِ: (وَالْأُرْزُ) مُبْتَدَأٌ وَقَوْلُهُ: (وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ) مَعْطُوفَانِ عَلَيْهِ وَجُمْلَةُ (كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا صِنْفٌ) خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ لَا يُضَمُّ شَيْءٌ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ (إلَى الْآخَرِ فِي الزَّكَاةِ) كَمَا أَنَّهَا أَجْنَاسٌ فِي الْبَيْعِ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيمَا بَيْنَهَا (وَإِذَا كَانَ فِي الْحَائِطِ أَصْنَافٌ) مُخْتَلِفَةٌ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ (مِنْ التَّمْرِ) وَكَمُلَ النِّصَابُ بِضَمِّ بَعْضِهَا إلَى بَعْضٍ (أَدَّى) أَيْ أَخْرَجَ الْمَالِكُ (الزَّكَاةَ عَنْ الْجَمِيعِ مِنْ وَسَطِهِ) أَيْ التَّمْرِ، وَمِثْلُ أَصْنَافِ التَّمْرِ فِي الْإِخْرَاجِ مِنْ الْوَسَطِ أَصْنَافُ الزَّبِيبِ عَلَى مَا رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَإِنَّمَا أَجْزَأَ ذَلِكَ رِفْقًا بِالْمُزَكِّي وَبِالْفُقَرَاءِ، إذْ لَوْ أُخِذَ مِنْ الْأَعْلَى عَنْ الْجَمِيعِ لَأَضَرَّ بِرَبِّ الْمَالِ، أَوْ مِنْ الْأَدْنَى عَنْ الْجَمِيعِ لَأَضَرَّ بِالْفُقَرَاءِ، فَكَانَ الْعَدْلُ الْوَسَطَ، وَسَكَتَ عَمَّا لَوْ أَخْرَجَ كُلَّ وَاحِدٍ بِحَسَبِهِ وَلَمْ يُخْرِجْ مِنْ أَوْسَطِهَا لِوُضُوحِ أَمْرِهِ وَهُوَ الْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَوْ كَانَ الْحَائِطُ كُلُّهُ جَيِّدًا أَوْ كُلُّهُ رَدِيئًا لَأُخِذَ مِنْهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمَفْهُومُ أَصْنَافٍ لَوْ اجْتَمَعَ صِنْفَانِ فَقَطْ جَيِّدٌ وَرَدِيءٌ، فَفِي الْجَوَاهِرِ: يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ بِقِسْطِهِ وَلَا يُنْظَرُ لِلْأَكْثَرِ، وَمَفْهُومُ أَصْنَافِ التَّمْرِ أَنَّ أَصْنَافَ الْحُبُوبِ لَيْسَتْ كَذَلِكَ بَلْ يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ بِحَسَبِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُخِذَ مِنْ الْحَبِّ كَيْفَ كَانَ كَالتَّمْرِ نَوْعٍ أَوْ نَوْعَيْنِ وَإِلَّا فَمِنْ أَوْسَطِهَا ، وَلَمَّا كَانَ الْمُعْتَبَرُ فِي النِّصَابِ الْكَيْلُ وَالْإِخْرَاجُ تَارَةً مِنْ الْحَبِّ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِهِ أَشَارَ لِلثَّانِي بِقَوْلِهِ: (يُزَكَّى الزَّيْتُونُ إذَا بَلَغَ حَبُّهُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ) مُقَدَّرَةِ الْجَفَافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 مِنْ زَيْتِهِ فَإِنْ بَاعَ ذَلِكَ أَجْزَأَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا زَكَاةَ فِي الْفَوَاكِهِ وَالْخُضَرِ وَلَا زَكَاةَ مِنْ الذَّهَبِ فِي أَقَلَّ مِنْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَإِذَا بَلَغَتْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ رُبْعُ الْعُشْرِ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ وَلَا زَكَاةَ مِنْ الْفِضَّةِ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ وَذَلِكَ خَمْسُ أَوَاقٍ وَالْأُوقِيَّةُ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ أَعْنِي أَنَّ السَّبْعَةَ دَنَانِيرَ وَزْنُهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] فَإِذَا قَالَ الْمُخْرِصُ إنَّهُ بَعْدَ الْجَفَافِ يَبْلُغُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ (أَخْرَجَ) الْمَالِكُ زَكَاتَهُ (مِنْ زَيْتِهِ) إنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَهُ فِيهَا زَيْتٌ وَلَوْ كَانَ زَيْتُهُ رَطْلًا وَلَا يُجْزِئُ الْإِخْرَاجُ مِنْ حَبِّهِ وَلِأَئِمَّتِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمَا يَأْتِي عَنْ الْمُصَنِّفِ ضَعِيفٌ، فَلَوْ قَالَ الْخَارِصُ أَنَّهُ يَقْصُرُ عَنْ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَلَا زَكَاةَ فِيهِ وَلَوْ كَثُرَ زَيْتُهُ، وَالْقَدْرُ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ زَيْتِهِ الْعُشْرُ إنْ سُقِيَ بِغَيْرِ مَشَقَّةٍ، وَنِصْفُهُ إنْ سُقِيَ بِهَا، وَالنَّقْصُ وَالْعَصْرُ عَلَى رَبِّهِ. (وَ) كَذَلِكَ (يُخْرِجُ) جُزْءَ الزَّكَاةِ (مِنْ الْجُلْجُلَانِ) وَهُوَ السِّمْسِمُ (وَمِنْ حَبِّ الْفُجْلِ) الْأَحْمَرِ إذَا بَلَغَ حَبُّ كُلٍّ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ (مِنْ زَيْتِهِ) وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَ زَيْتُهُ يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَكْلِ أَوْ غَيْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الْإِخْرَاجُ مِنْ حَبِّ مَا ذُكِرَ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُعْتَمَدُ إجْزَاءُ الْإِخْرَاجِ مِنْ حَبِّهِمَا، وَمِثْلُهُمَا الْقُرْطُمُ فَتُسْتَثْنَى هَذِهِ مِنْ ذَوَاتِ الزُّيُوتِ؛ لِأَنَّهَا تُرَادُ لِغَيْرِ الْعَصْرِ كَثِيرًا فَلَيْسَتْ كَالزَّيْتُونِ الَّذِي لَهُ زَيْتٌ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْ زَيْتِهِ كَتَعَيُّنِ الْإِخْرَاجِ مِنْ ثَمَنِ مَا لَيْسَ لَهُ زَيْتٌ مِنْهُ. (فَإِذَا بَاعَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ حَبِّ الْخَمْسَةِ أَوْسُقٍ قَبْلَ الْعَصْرِ (أَجْزَأَهُ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ ثَمَنِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ) تَعَالَى هَذَا ضَعِيفٌ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يُخْرِجُ إلَّا مِنْ زَيْتِهِ كَمَا صَدَّرَ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَيُزَكَّى الزَّيْتُونُ إلَى قَوْلِهِ: مِنْ زَيْتِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّيْتُونَ إذَا كَانَ لَهُ زَيْتٌ يَتَعَيَّنُ الْإِخْرَاجُ مِنْ زَيْتِهِ وَلَا يُجْزِئُ الْإِخْرَاجُ مِنْ حَبِّهِ، وَلِأَئِمَّتِهِ إذَا بَاعَهُ وَإِنْ كَانَ فِي بَلَدٍ لَا زَيْتَ لَهُ فِيهَا كَزَيْتُونِ مِصْرَ فَيُخْرِجُ مِنْ ثَمَنِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَمِثْلُهُ مَا لَا يَجِفُّ مِنْ رُطَبِ مِصْرَ وَعِنَبِهَا وَحِمَّصِهَا وَفُولِهَا وَفَرِيكِهَا إذَا بِيعَتْ قَبْلَ جَفَافِهَا، إلَّا أَنَّ هَذَا يَجُوزُ إخْرَاجُ زَكَاتِهَا حَبًّا يَابِسًا كَمَا تَقَدَّمَ فِي نَحْوِ الْجُلْجُلَانِ وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُزَكَّى مِنْ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ عِشْرُونَ نَوْعًا وَكَانَتْ غَيْرَ مَعْلُومَةٍ صَرِيحًا مِنْ كَلَامِهِ نَصَّ عَلَى مَا لَا زَكَاةَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْفَوَاكِهِ) كَانَتْ تَيْبَسُ كَالْبُنْدُقِ أَوْ لَا كَالْخَوْخِ وَالرُّمَّانِ. (وَ) كَذَا لَا زَكَاةَ فِي (الْخُضَرِ) كَالْبِطِّيخِ وَالْخِيَارِ وَالْبُقُولِ كَالْبَصَلِ لِقَوْلِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: جَرَتْ السُّنَّةُ أَنْ لَا زَكَاةَ فِي الْخُضَرِ عَلَى عَهْدِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَعَهْدِ الْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ [زَكَاةِ الْعَيْنِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يُزَكَّى مِنْ الْحُبُوبِ وَمَا لَا يُزَكَّى شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ الْعَيْنِ وَبَيَانِ قَدْرِ النِّصَابِ مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ مِنْ الذَّهَبِ) مَسْكُوكًا أَوْ غَيْرَهُ (فِي أَقَلَّ مِنْ) وَزْنِ (عِشْرِينَ دِينَارًا) شَرْعِيَّةً بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ النِّصَابَ تَحْدِيدٌ. (فَإِذَا بَلَغَتْ) الْعَيْنُ مِنْ الذَّهَبِ وَزْنَ (عِشْرِينَ دِينَارًا فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ) وَهُوَ (رُبْعُ الْعُشْرِ) وَوَزْنُ الدِّينَارِ الشَّرْعِيِّ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ قِيرَاطًا، وَالْقِيرَاطُ ثَلَاثُ حَبَّاتٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ فَوَزْنُهُ مِنْ الْحَبَّاتِ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ حَبَّةً مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ، وَأَمَّا الدَّنَانِيرُ الْمَصْرِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي زَمَانِنَا مِنْ سِكَّةِ مُحَمَّدٍ وَإِبْرَاهِيمَ فَقَدْ صَغُرَتْ عَنْ الشَّرْعِيَّةِ حَتَّى صَارَ النِّصَابُ مِنْهَا ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ دِينَارًا وَنِصْفَ دِينَارٍ وَخَرُّوبَةً وَسُبْعَيْ خَرُّوبَةٍ كَمَا حَرَّرَهُ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ، وَلَمَّا كَانَتْ الْعَيْنُ لَا وَقَصَ فِيهَا قَالَ: (فَمَا زَادَ) عَلَى الْعِشْرِينَ دِينَارًا (فَبِحِسَابِ ذَلِكَ وَإِنْ قَلَّ الزَّائِدُ) (لَا زَكَاةَ فِي الْفِضَّةِ فِي أَقَلَّ مِنْ) وَزْنِ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ) شَرْعِيَّةٍ وَوَزْنُهُ خَمْسُونَ وَخُمُسَا حَبَّةٍ مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ، وَوَزْنُ الْمِائَتَيْنِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الدَّرَاهِمِ الْمِصْرِيَّةِ فِي زَمَانِنَا عَلَى مَا حَرَّرَهُ الْأُجْهُورِيُّ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ وَثُمُنُ دِرْهَمٍ. (وَذَلِكَ) الْقَدْرُ الْمَذْكُورُ فِي حَدِّ النِّصَابِ وَهُوَ الْمِائَتَا دِرْهَمٍ (خَمْسُ أَوَاقٍ وَالْأُوقِيَّةُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَزْنُهَا بِالدَّرَاهِمِ الشَّرْعِيَّةِ (أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) شَرْعِيَّةً؛ لِأَنَّ الْحَاصِلَ مِنْ ضَرْبِ الْخَمْسَةِ فِي الْأَرْبَعِينَ مِائَتَانِ، وَيُقَالُ لَهَا دَرَاهِمُ الْكَيْلِ؛ لِأَنَّ بِهَا تُقَدَّرُ الْمَكَايِيلُ الشَّرْعِيَّةُ مِنْ أُوقِيَّةٍ وَرَطْلٍ وَمُدٍّ وَصَاعٍ، وَالضَّارِبُ لَهَا النَّاقِشُ عَلَيْهَا عَلَّامَةُ الْإِسْلَامِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ، وَلَمَّا ضَرَبَهَا جَاءَتْ عَلَى حِسَابِ خَمْسِينَ وَخُمُسَيْ حَبَّةٍ وَهِيَ وَزْنُ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيِّ. ثُمَّ بَيَّنَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ بِبَيَانِ صِفَتِهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ أَعْنِي أَنَّ السَّبْعَةَ دَنَانِيرَ) الشَّرْعِيَّةِ (وَزْنُهَا عَشْرَةُ دَرَاهِمَ) شَرْعِيَّةٍ؛ لِأَنَّ وَزْنَ السَّبْعَةِ دَنَانِيرَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُ حَبَّاتٍ، وَوَزْنُ الْعَشَرَةِ دَرَاهِمَ كَذَلِكَ، وَذَلِكَ أَنَّك إذَا اعْتَبَرْت مَا فِي سَبْعَةِ دَنَانِيرَ وَمَا فِي عَشَرَةِ دَرَاهِمَ مِنْ الْحَبَّاتِ وَجَدَتْهُمَا عَدَدًا وَاحِدًا؛ لِأَنَّ وَزْنَ الدِّرْهَمِ كَمَا تَقَدَّمَ خَمْسُونَ وَخُمُسَا حَبَّةٍ مِنْ الشَّعِيرِ الْمُتَوَسِّطِ، وَكُلُّ دِينَارٍ وَزْنُهُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ شَعِيرَةً، وَإِذَا ضَرَبْت عَشْرَةً عَدَدَ الدَّرَاهِمِ فِي خَمْسِينَ خَرَجَ مِنْ ذَلِكَ خَمْسُمِائَةٍ وَتَبْقَى الْأَخْمَاسُ وَهِيَ عِشْرُونَ خُمْسًا الْحَاصِلَةُ مِنْ ضَرْبِ الْعَشَرَةِ فِي الْخُمُسَيْنِ بِضَمِّ الْخَاءِ بِأَرْبَعِ حَبَّاتٍ فَالْجُمْلَةُ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُ حَبَّاتٍ، وَإِذَا ضَرَبْت سَبْعَةً عِدَّةَ الدَّنَانِيرِ فِي اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ عَدَدَ حَبَّاتِ الدِّينَارِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وَيُجْمَعُ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ فِي الزَّكَاةِ فَمَنْ كَانَ لَهُ مِائَةُ دِرْهَمٍ وَعَشْرَةُ دَنَانِيرَ فَلْيُخْرِجْ مِنْ كُلِّ مَالٍ رُبْعَ عُشْرِهِ وَلَا زَكَاةَ فِي   [الفواكه الدواني] يَخْرُجُ هَذَا الْعَدَدُ وَهُوَ خَمْسُمِائَةٍ وَأَرْبَعُ حَبَّاتٍ، فَاتَّفَقَتْ السَّبْعَةُ دَنَانِيرَ وَالْعَشَرَةُ دَرَاهِمَ فِي عِدَّةِ الْحُبُوبِ، وَحَاصِلُ مُرَادِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الدِّرْهَمَ سَبْعَةُ أَعْشَارِ الدِّينَارِ، وَالدِّينَارُ مِثْلُ الدِّرْهَمِ وَثَلَاثَةِ أَسْبَاعٍ مِثْلِهِ، فَكُلُّ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ وَزْنُهَا وَزْنُ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ، فَكَأَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ: وَالْمُرَادُ بِتِلْكَ الدَّرَاهِمِ الَّتِي كُلُّ عَشْرَةٍ مِنْهَا وَزْنُ سَبْعَةِ دَنَانِيرَ، وَقَوْلُنَا: بَيَّنَ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ هُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِهِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ قَصَدَ بِقَوْلِهِ: مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ بَيَانَ نَوْعِ دَنَانِيرِ الزَّكَاةِ وَهَذَا الِاحْتِمَالُ بَعِيدٌ لِوُجُودِ الْفَاصِلِ، وَالْأَصْلُ فِي الصِّفَةِ الِاتِّصَالُ بِالْمَوْصُوفِ فَالْمُتَعَيِّنُ هُوَ الْأَوَّلُ، وَلِذَلِكَ تَعَقَّبَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ بِأَنَّهُ مُشْكِلٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا قَوْلُهُ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ أَحَالَ فِيهِ مَجْهُولًا عَلَى مَجْهُولٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ وَزْنَ الدِّرْهَمِ لَا وَزْنَ الدِّينَارِ، وَالثَّانِي قَوْلُهُ مِنْ وَزْنِ سَبْعَةٍ يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّهُ أَحَالَ الدَّرَاهِمَ عَلَى الدَّنَانِيرِ، وَقَوْلُهُ أَعْنِي يَظْهَرُ مِنْهُ أَنَّ الدَّنَانِيرَ يُفَسِّرُهَا بِالدَّرَاهِمِ فَهِيَ مِنْ مُشْكِلَاتِ الرِّسَالَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ غَازِيٍّ وَغَيْرُهُ. (فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ) الَّتِي وَزْنُ كُلِّ عَشْرَةٍ مِنْهَا سَبْعَةُ دَنَانِيرَ (مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا رُبْعُ عُشْرِهَا) وَهُوَ (خَمْسَةُ دَرَاهِمَ) ؛ لِأَنَّ عُشْرَ الْمِائَتَيْنِ عِشْرُونَ وَالْخَمْسَةُ رُبْعُهَا، وَهَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ: وَلَا زَكَاةَ فِي أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ، وَلَمَّا كَانَتْ الْعَيْنُ لَا وَقَصَ فِيهَا قَالَ: (فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَكْثَرَ وَمُجْمَعٍ مِنْهُمَا بِالْجُزْءِ رُبْعُ الْعُشْرِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ: وَهَذَا فِيمَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ رُبْعِ عُشْرِهِ، وَمَا لَا يُمْكِنُ إخْرَاجُ رُبْعِ عُشْرِهِ يُشْتَرَى بِهِ نَحْوُ طَعَامٍ مِمَّا يُمْكِنُ قَسْمُهُ عَلَى أَرْبَعِينَ جُزْءًا وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَدْ عَفَوْت عَنْكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ وَالرَّقِيقِ فَهَاتُوا صَدَقَةَ الْوَرِقِ مِنْ كُلِّ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا دِرْهَمٌ» وَلَيْسَ فِي تِسْعِينَ وَمِائَةٍ شَيْءٌ فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي تَحْدِيدِ النِّصَابِ إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ الدَّرَاهِمِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عَرَفْت، وَأَمَّا بِالدَّرَاهِمِ الْمَصْرِيَّةِ فَالنِّصَابُ مِائَةٌ وَخَمْسَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَنِصْفُ دِرْهَمٍ وَثُمُنُ دِرْهَمٍ، وَذَلِكَ لِنَقْصِ الدِّرْهَمِ الشَّرْعِيِّ عَنْ الدِّرْهَمِ الْمَصْرِيِّ خَرُّوبَةً وَعُشْرَ خَرُّوبَةٍ وَنِصْفَ عُشْرِ خَرُّوبَةٍ، وَأَمَّا مِقْدَارُ النِّصَابِ مِنْ الْفِضَّةِ الْعَدَدِيَّةِ الْمُسَمَّاةِ بِالْأَنْصَافِ فَهُوَ سِتُّمِائَةٍ وَسِتَّةٌ وَسِتُّونَ نِصْفًا وَثُلُثَا نِصْفٍ. قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَوْ الْمُتَعَيِّنُ التَّعْوِيلُ عَلَى مَا يُسَاوِي الْمِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَرْعِيَّةٍ وَزْنًا؛ لِأَنَّ الْأَنْصَافَ لَا ضَبْطَ لَهَا لِاخْتِلَافِهَا بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ، فَكُلُّ مَنْ مَلَكَ ذَلِكَ الْوَزْنَ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَلَا يُعَوَّلُ عَلَى الْعَدَدِ، إذْ الْأَنْصَافُ الْمَقْصُوصَةُ قَدْ لَا يَعْدِلُ الْأَلْفُ مِنْهَا وَزْنَ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنْ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَمَّا مِقْدَارُهُ مِنْ الْقُرُوشِ فَيَنْضَبِطُ لِانْضِبَاطِهَا بِالْوَزْنِ، وَإِلَّا اخْتَلَفَ بِاخْتِلَافِ نَوْعِهَا، فَالْكِلَابُ وَالرِّيَالُ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَرُبْعٌ لِاتِّفَاقِهِمَا وَزْنًا، وَأَمَّا الْبَنَادِقَةُ فَالنِّصَابُ مِنْهَا عِشْرُونَ وَأَبُو طَافَّةَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ. 1 - الثَّانِي: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: فَإِذَا بَلَغَتْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ إلَخْ أَنَّهَا لَوْ نَقَصَتْ عَنْ ذَلِكَ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُسْقِطُ لِلزَّكَاةِ إنَّمَا هُوَ النَّقْصُ الَّذِي يَحُطُّهَا فِي الرَّوَاجِ عَنْ زِنَةِ الْكَامِلَةِ لَا الَّذِي تَرُوجُ مَعَهُ كَالْكَامِلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُسْقِطُهَا قَالَ خَلِيلٌ مُبَالِغًا فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ بِرَدَاءَةِ أَصْلٍ أَوْ إضَافَةٍ وَرَاجَتْ كَكَامِلَةِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَرُجْ كَالْكَامِلَةِ فَإِنَّ زَكَاتَهَا تَسْقُطُ إنْ كَانَ نَقْصُهَا حِسِّيًّا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَعْنَوِيًّا فَيُعْتَبَرُ الْخَالِصُ مِنْهَا فَإِنْ كَانَ نِصَابًا زَكَّى وَإِلَّا فَلَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِلَّا حَسَبَ الْخَالِصِ، فَإِنْ قِيلَ: زَكَاةُ النَّاقِصَةِ الَّتِي تَرُوجُ كَالْكَامِلَةِ مُنَافٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النِّصَابَ تَحْدِيدٌ عَلَى الْمَشْهُورِ لَا تَقْرِيبٌ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ وَلَا إشْكَالَ؛ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يَبْنُونَ مَشْهُورًا عَلَى ضَعِيفٍ، أَوْ أَنَّ النَّقْصَ الْيَسِيرَ الَّتِي تَرُوجُ مَعَهُ رَوَاجَ الْكَامِلَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ كَنَقْصِ الْمِكْيَالِ الْمُتَعَارَفِ. الثَّالِثُ: أَفْهَمَ اقْتِصَارُهُ كَغَيْرِهِ مِنْ الْمُصَنَّفِينَ عَلَى الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ أَنَّ الْفُلُوسَ الْجُدُدَ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، قَالَ فِي الطِّرَازِ الْمَذْهَبُ لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهَا وَظَاهِرُهُ وَلَوْ تُعُومِلَ بِهَا عَدَدًا خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّيُوخِ. وَلَمَّا كَانَ اخْتِلَافُ قَدْرِ النِّصَابِ مِنْ الْعَيْنَيْنِ مُوهِمًا لِعَدَمِ جَوَازِ جَمِيعِ النِّصَابِ مِنْهُمَا دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يُجْمَعَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ) لِنَقْصِ كُلٍّ عَنْ النِّصَابِ (فِي الزَّكَاةِ) رِفْقًا بِالْفُقَرَاءِ فَقَدْ مَضَتْ السُّنَّةُ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَمَّ الذَّهَبَ إلَى الْفِضَّةِ وَالْفِضَّةَ إلَى الذَّهَبِ وَأَخْرَجَ الزَّكَاةَ عَنْهُمَا» . ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْجَمْعِ قَوْلَهُ: (فَمَنْ كَانَ لَهُ) مِنْ الْوَرِقِ وَزْنُ (مِائَةِ دِرْهَمٍ) مِنْ الْفِضَّةِ (وَ) لَهُ مِنْ الذَّهَبِ وَزْنُ (عَشْرَةِ دَنَانِيرَ) أَوْ عِنْدَهُ مِائَةٌ وَثَمَانُونَ دِرْهَمًا وَعِنْدَهُ دِينَارٌ يُسَاوِي عِشْرِينَ دِرْهَمًا (فَلْيُخْرِجْ مِنْ كُلِّ مَالٍ رُبْعَ عُشْرِهِ) لَكِنْ بِالتَّجْزِئَةِ وَالْمُقَابَلَةِ بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ دِينَارٍ فِي مُقَابَلَةِ عَشْرَةِ دَرَاهِمَ؛ لِأَنَّ دِينَارَ الزَّكَاةِ بِعَشْرَةِ دَرَاهِمَ لَا بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي مِائَتَيْ دِرْهَمٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عِشْرِينَ دِينَارًا فَأَكْثَرَ وَمُجْمَعٍ مِنْهُمَا بِالْجُزْءِ رُبْعُ الْعُشْرِ وَإِنْ لِطِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ. 1 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الْعُرُوضِ حَتَّى تَكُونَ لِلتِّجَارَةِ فَإِذَا بِعْتهَا بَعْد حَوْلٍ فَأَكْثَرَ مِنْ يَوْمِ أَخَذْت ثَمَنَهَا أَوْ زَكَّيْته فَفِي ثَمَنِهَا الزَّكَاةُ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ أَقَامَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ حَوْلًا أَوْ أَكْثَرَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدِيرًا لَا يَسْتَقِرُّ بِيَدِك عَيْنٌ وَلَا عَرَضٌ فَإِنَّك تُقَوِّمُ عُرُوضَك كُلَّ عَامٍ وَتُزْكِي ذَلِكَ مَعَ مَا بِيَدِك مِنْ الْعَيْنِ وَحَوْلُ رِبْحِ الْمَالِ حَوْلُ أَصْلِهِ وَكَذَلِكَ حَوْلُ نَسْلِ الْأَنْعَامِ حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ وَمَنْ لَهُ مَالٌ   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَلْيُخْرِجْ مِنْ كُلٍّ عَدَمُ جَوَازِ إخْرَاجِ أَحَدِهِمَا عَنْ الْآخَرِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ إخْرَاجُ ذَهَبٍ عَنْ وَرِقٍ وَعَكْسُهُ بِصَرْفِ وَقْتِهِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا إخْرَاجُ الْفُلُوسِ الْجُدُدِ عَنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً وَيُجْزِئُ بَعْدَ الْوُقُوعِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ فِي نَوَادِرِهِ. الثَّانِي: فُهِمَ مِنْ جَعْلِ الْعَشَرَةِ دَنَانِيرَ مُقَابِلَةً لِمِائَةِ دِرْهَمٍ فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ أَنَّ صَرْفَ دِينَارِ الزَّكَاةِ عَشْرَةُ دَرَاهِمَ كَدِينَارِ الْجِزْيَةِ بِخِلَافِ صَرْفِ دِينَارِ غَيْرِهِمَا فَإِنَّهُ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا. [زَكَاة عُرُوض التِّجَارَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالْعَيْنِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعُرُوضِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ فِي) أَعْوَاضِ (الْعُرُوضِ) وَمِثْلُهَا الْكُتُبُ وَالْحَدِيدُ وَسَائِرُ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا زَكَاةَ فِي أَعْيَانِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْعُرُوضِ هُنَا مَا عَدَا النُّقُودِ وَمَاشِيَةُ الْأَنْعَامِ وَأُلْحِقَ بِهَا مَا فِي عَيْنِهِ الزَّكَاةُ وَنَقَصَ عَنْ النِّصَابِ أَوْ كَمُلَ، وَأُخْرِجَتْ زَكَاةُ عَيْنِهِ كَالْحَبِّ الْمُزَكَّى حِينَ التَّصْفِيَةِ فَإِنَّهَا لَا تَجِبُ زَكَاةُ عَيْنِهِ مَرَّةً أُخْرَى، وَإِنَّمَا قُدِّرَتْ فِي أَعْوَاضِ الْعُرُوضِ؛ لِأَنَّ ذَاتَ الْعُرُوضِ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَوْ نَوَى بِهَا الْمَالِكُ التِّجَارَةَ. (حَتَّى تَكُونَ) أَيْ تَصِيرَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ (لِلتِّجَارَةِ) بِأَنْ يَنْوِيَ حِينَ اسْتِحْدَاثِ مِلْكِهِ التِّجَارَةَ فَإِنَّهُ يُخَاطَبُ بِزَكَاةِ عِوَضِهِ إذَا بَاعَهُ وَلَوْ صَاحَبَ نِيَّةَ التِّجَارَةِ غَيَّرَهَا كَنِيَّةِ قِنْيَةٍ أَوْ غَلَّةٍ أَوْ هُمَا، وَأَمَّا لَوْ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهُ بِنِيَّةِ الْقِنْيَةِ أَوْ الِاغْتِلَالِ أَوْ بِلَا نِيَّةٍ أَصْلًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ اتِّفَاقًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي فَرَسِهِ وَلَا عَبْدِهِ» . وَاعْلَمْ أَنَّ التِّجَارَةَ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا احْتِكَارٌ بِأَنْ يَنْتَظِرَ بِالْبَيْعِ الرِّبْحَ وَيَرْصُدَ الْأَسْوَاقَ، وَإِمَّا إدَارَةٌ يَبِيعُ وَلَوْ بِالرُّخْصِ، وَلِلْقِسْمَيْنِ شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ، أَوَّلُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَرْضَ مُلِكَ بِمُعَاوَضَةٍ مَالِيَّةٍ، لَا إنْ مُلِكَ بِإِرْثٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ بِمُعَاوَضَةٍ غَيْرِ مَالِيَّةٍ. كَالْمَأْخُوذِ مِنْ خُلْعٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إذَا بَاعَهُ وَلَوْ نَوَى بِهِ حِينَ تَمَلَّكَهُ التِّجَارَةَ بَلْ ثَمَنُهُ فَائِدَةٌ يَسْتَقْبِلُ حَوْلًا مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ، فَلَوْ أَخَّرَ ثَمَنَهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَلَوْ أَخَّرَ قَبْضَهُ هُرُوبًا مِنْ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ نَوَى بِشِرَائِهِ التِّجَارَةَ وَلَوْ صَاحَبَ نِيَّتَهَا نِيَّةُ غَيْرِهَا كَمَا قَدَّمْنَا. الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ عَيْنًا اشْتَرَاهُ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ أَوْ عَرْضًا مَلَكَهُ بِمُعَاوَضَةٍ وَلَوْ لِلْقِنْيَةِ ثُمَّ بَاعَهُ وَاشْتَرَى بِهِ ذَلِكَ الْعَرْضَ بِقَصْدِ التِّجَارَةِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَبِيعَ ذَلِكَ الْعَرْضَ بِعَيْنٍ لَا أَنْ يَبِيعَهُ أَوْ بَاعَهُ بِغَيْرِ عَيْنٍ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِبَيْعِهِ بِغَيْرِ الْعَيْنِ الْهُرُوبَ مِنْ الزَّكَاةِ، وَالْبَيْعُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَقِيقِيِّ مِنْهُ وَالْمَجَازِيِّ بِأَنْ يَسْتَهْلِكَهُ شَخْصٌ وَيَأْخُذَ التَّاجِرُ قِيمَتَهُ، لَكِنْ إنْ كَانَ التَّاجِرُ مُحْتَكِرًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَبِيعَ بِنِصَابٍ؛ لِأَنَّ عُرُوضَ الِاحْتِكَارِ لَا تُقَوَّمُ، وَإِنْ كَانَ مُدِيرًا فَيَكْفِي فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي حَقِّهِ مُطْلَقُ الْبَيْعِ وَلَوْ كَانَ ثَمَنُ مَا بَاعَهُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ تَقْوِيمُ بَقِيَّةِ عُرُوضِهِ [زَكَاة عُرُوضِ الِاحْتِكَارِ] ، وَبَدَأَ بِحُكْمِ عُرُوضِ الِاحْتِكَارِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا بِعْتهَا) أَوْ اسْتَهْلَكَهَا شَخْصٌ وَأَخَذْت قِيمَتَهَا أَيْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِكَارِ (بَعْدَ حَوْلٍ فَأَكْثَرَ) ابْتِدَاؤُهُ (مِنْ يَوْمِ أَخَذْت) أَيْ مَلَكْت (ثَمَنَهَا) إنْ لَمْ تَكُنْ زَكَّيْته (أَوْ) مِنْ يَوْمِ (زَكَّيْته فَفِي ثَمَنِهَا الزَّكَاةُ) حَيْثُ كَانَ الثَّمَنُ عَيْنًا لَا إنْ كَانَ عَرْضًا، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِأَخْذِ الْعَرْضِ ثَمَنًا الْهُرُوبَ مِنْ الزَّكَاةِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ (لِحَوْلٍ وَاحِدٍ) سَوَاءٌ (أَقَامَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ حَوْلًا أَوْ أَكْثَرَ) وَيُشْتَرَطُ فِي وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْمُحْتَكِرِ أَنْ يَكُونَ بَاعَ بِنِصَابٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: بِعْتهَا بَعْدَ حَوْلٍ عَمَّا لَوْ بَاعَهَا قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ فَإِنَّهُ لَا يُزَكِّي إلَّا بَعْدَ تَمَامِهِ. (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: إذَا عَرَفْت مَا قَدَّمْت لَك مِنْ الشُّرُوطِ ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِهِ مِنْ الْإِجْمَالِ الْحَامِلِ عَلَيْهِ الِاخْتِصَارُ. الثَّانِي: رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَوْ بِالْعِنَايَةِ جَوَازُ الِاحْتِكَارِ وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ وَلَوْ فِي الْأَطْعِمَةِ، لَكِنْ يُفِيدُ الْجَوَازَ بِمَا إذَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَيْهِ ضَرَرٌ بِالنَّاسِ وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَشْتَرِيَ جَمِيعَ مَا فِي السُّوقِ بِحَيْثُ لَا يَتْرُكُ لِغَيْرِهِ شَيْئًا مِمَّا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ فَيُمْنَعُ، وَلَا يُمْكِنُ إلَّا مِنْ شِرَاءِ قَدْرِ حَاجَتِهِ، وَثَنَّى بِالْكَلَامِ عَلَى عُرُوضِ الْإِعَارَةِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ مُدِيرًا) أَيْ حَرِيصًا عَلَى سُرْعَةِ الْبَيْعِ بِحَيْثُ (لَا يَسْتَقِرُّ) أَيْ لَا يَمْكُثُ (بِيَدِك عَيْنٌ وَلَا عَرْضٌ) بَلْ تَبِيعُ وَلَوْ بِلَا رِبْحٍ وَتَخْلُفُهُ بِغَيْرِهِ كَالْعَطَّارِينَ وَالزَّيَّاتِينَ وَنَحْوِهِمْ مِنْ كُلِّ مَا لَا يَرْصُدُ الْأَسْوَاقَ. (فَإِنَّك) يَا مُدِيرُ إذَا بِعْت بِنَقْدٍ وَلَوْ دِرْهَمًا (تُقَوِّمُ عُرُوضَك) قِيمَةَ عَدْلٍ تُرَاعِي فِيهَا الزَّمَانَ وَالْمَكَانَ فِي (كُلِّ عَامٍ) وَالتَّقْوِيمُ عَامٌّ فِي سَائِرِ عُرُوضِهِ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ طَعَامَ سَلَمٍ وَلَوْ بَارَتْ عِنْدَهُ سِنِينَ؛ لِأَنَّ بَوَارَهَا وَكَسَادَهَا لَا يَنْقُلُهَا لِلْقِنْيَةِ وَلَا لِلِاحْتِكَارِ، وَكَذَا دُيُونُهُ الَّتِي عَلَى النَّاسِ الْمُؤَجَّلَةُ الْكَائِنَةُ مِنْ بَيْعٍ كَانَتْ عُرُوضًا أَوْ نُقُودًا حَيْثُ كَانَتْ مَرْجُوَّةً، لَكِنَّ الْعَرْضَ يَوْمٌ بِعَيْنٍ وَالنَّقْدَ بِعَرْضٍ ثُمَّ بِنَقْدٍ لَا دُيُونُهُ الْغَيْرُ الْمَرْجُوَّةِ، وَلَا دَيْنُ الْقَرْضِ أَوْ دُيُونُهُ الْكَائِنَةُ مِنْ بَيْعٍ إذَا كَانَتْ مِنْ النَّقْدِ الْحَالِّ الْمَرْجُوِّ فَالْمُعْتَبَرُ عَدَدُهَا، وَأَمَّا دَيْنُ الْقَرْضِ فَلَا يُزَكَّى إلَّا بَعْدَ قَبْضِهِ لِسَنَةٍ مِنْ أَصْلِهِ وَلَوْ مَكَثَ أَعْوَامًا عَلَى الْمَدِينِ. (وَ) بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ التَّقْوِيمِ (تُزَكِّي ذَلِكَ) الْقَدْرَ الْمَجْمُوعَ مِنْ الْقِيَمِ (مَعَ مَا بِيَدِك مِنْ الْعَيْنِ) النَّاضَّةِ عِنْدَك وَكَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مِثْلُهُ أَوْ يَنْقُصُهُ وَعَنْ مِقْدَارِ مَالِ الزَّكَاةِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِمَّا لَا يُزَكَّى مِنْ   [الفواكه الدواني] النَّقْدُ الْحَالُّ الْمَرْجُوُّ وَالْمُعَدُّ لِلنَّمَاءِ، لَا إنْ كَانَ سَلَفًا عَلَى النَّاسِ فَلَا يُعْتَبَرُ عَدَدُ الْحَالِّ مِنْهُ، وَلَا يُقَوَّمُ الْمُؤَجَّلُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَتَأَوَّلَتْهُ الْمُدَوَّنَةُ بِتَقْوِيمِ الْمُؤَجَّلِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْمُدِيرَ لَا يَلْزَمُهُ تَقْوِيمُ عُرُوضِهِ إلَّا إنْ بَاعَ شَيْئًا وَلَوْ بِدِرْهَمٍ حَيْثُ قَبَضَهُ وَلَوْ أَتْلَفَهُ سَرِيعًا بَعْدَ قَبْضِهِ، لَا إنْ لَمْ يَبِعْ شَيْئًا أَوْ بَاعَ عُرُوضَهُ بِعُرُوضٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِالْبَيْعِ بِالْعُرُوضِ الْهُرُوبَ مِنْ الزَّكَاةِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كُلَّ عَامِ لَمْ يُبَيِّنْ أَوَّلَ الْعَامِ إحَالَةً عَلَى الْمُحْتَكِرِ مِنْ أَنَّهُ يُزَكِّي مِنْ يَوْمِ تَزْكِيَةِ الْأَصْلِ أَوْ مِلْكِهِ. 1 - الثَّالِثُ: لَوْ بَاعَ الْعُرُوضَ بَعْدَ التَّقْوِيمِ فَزَادَ ثَمَنَهَا عَلَى قِيمَتِهَا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الزِّيَادَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ زِيَادَتُهُ مُلْغَاةٌ بِخِلَافِ حُلِيِّ التَّجْرِ، كَمَا أَنَّهَا لَوْ بِيعَتْ بِبَخْسٍ فَلَا تُسْتَرَدُّ الزِّيَادَةُ مِنْ الْفَقِيرِ. 1 - الرَّابِعُ: لَوْ كَانَ الْمُدِيرُ كَافِرًا وَأَسْلَمَ وَبَاعَ بِعَيْنٍ فَهَلْ يُقَوِّمُ عُرُوضَهُ لِحَوْلٍ مِنْ يَوْمِ إسْلَامِهِ أَوْ يَسْتَقْبِلُ بِثَمَنِهِ حَوْلًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ؟ قَوْلَانِ. وَأَمَّا الْكَافِرُ الْمُحْتَكِرُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِقْبَالُ بِالثَّمَنِ حَوْلًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ قَوْلًا وَاحِدًا كَالْفَائِدَةِ ، وَأَمَّا الْعَيْنُ لَا تُزَكَّى كَغَيْرِهَا إلَّا بَعْدَ مُضِيِّ عَامٍ، وَكَانَ حَوْلُ الرِّبْحِ وَالنِّتَاجِ حَوْلَ أَصْلِهِ قَالَ: (وَحَوْلُ رِبْحِ الْمَالِ حَوْلُ أَصْلِهِ) فَيُضَمُّ لِأَصْلِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمُّ الرِّبْحِ لِأَصْلِهِ كَغَلَّةِ مُكْتَرٍ لِلتِّجَارَةِ وَلَوْ رِبْحَ دَيْنٍ لَا عِوَضَ لَهُ عِنْدَهُ، فَإِذَا اسْتَلَفَ قَدْرًا وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ وَاشْتَرَى بِهِ سِلْعَةً ثُمَّ بَاعَهَا بِزِيَادَةٍ عَلَى مَا تَسَلَّفَهُ عِشْرِينَ دِينَارًا مَثَلًا بَعْد حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ السَّلَفِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى سِلْعَةً بِقَدْرٍ فِي ذِمَّتِهِ ثُمَّ بَاعَهَا بَعْدَ حَوْلٍ بِثَمَنٍ زَائِدٍ عَلَى ثَمَنِهَا نِصَابًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَفَائِدَةُ بِنَاءِ حَوْلِهِ عَلَى حَوْلِ أَصْلِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ أَصْلُهُ مِنْ نِصَابٍ وَكَمُلَ بِهِ النِّصَابُ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ؛ لِأَنَّ الرِّبْحَ كَامِنٌ فِي أَصْلِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ رِبْحِ الْفَوَائِدِ فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ بِهِ كَمَا يَسْتَقْبِلُ بِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَقْبَلَ بِفَائِدَةٍ تَجَدَّدَتْ لَا عَنْ مَالٍ كَعَطِيَّةِ أَوْ غَيْرِ مُزَكًّى كَثَمَنِ مُقْتَنًى، وَحَقِيقَةُ رِبْحِ الْمَالِ الَّذِي حَوْلُهُ حَوْلُ أَصْلِهِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ زَائِدُ ثَمَنٍ مُبِيحٍ تَجُرُّ عَلَى ثَمَنِهِ الْأَوَّلِ ذَهَبًا أَوْ فِضَّةً. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَوْلَ أَصْلِهِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ؛ لِأَنَّ أَصْلَهُ إمَّا أَنْ يَكُونَ عَيْنًا تَسَلَّفَهَا، أَوْ عَرْضَا تَسَلَّفَهُ، أَوْ عَرَضًا اشْتَرَاهُ لِلتِّجَارَةِ، أَوْ عَرَضًا اشْتَرَاهُ لِلْقِنْيَةِ، وَبَدَا لَهُ التَّجْرُ فِيهِ، فَالْحَوْلُ فِي الْأَوَّلِ مِنْ يَوْمِ الْقَرْضِ، وَفِي الثَّانِي مِنْ يَوْمِ التَّجْرِ، وَفِي الثَّالِثِ مِنْ يَوْمِ الشِّرَاءِ. وَفِي الرَّابِعِ مِنْ يَوْمِ الْبَيْعِ (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ رِبْحِ الْمَالِ (حَوْلُ نَسْلِ الْأَنْعَامِ) هُوَ (حَوْلُ الْأُمَّهَاتِ) وَلَوْ كَانَتْ الْأُمَّهَاتُ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، فَمَنْ كَانَ عِنْدَهُ ثَلَاثٌ مِنْ الْإِبِلِ فَوَلَدَتْ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ مِنْ الضَّأْنِ فَوَلَدَتْ تَمَامَ النِّصَابِ وَجَبَتْ الزَّكَاةُ بَعْدَ تَمَامِ حَوْلِ الْأُمَّهَاتِ، لِأَنَّ نَسْلَ الْحَيَوَانِ كَرِبْحِ الْمَالِ يُضَمُّ لِأَصْلِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ النَّسْلُ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْأُمَّهَاتِ فَلَوْ نَتَجَتْ الْإِبِلُ غَنَمًا أَوْ الْبَقَرُ إبِلًا نِصَابًا لَكَانَ حَوْلُ النَّسْلِ حَوْلَ الْأُمَّهَاتِ، لَكِنْ يُرَاعَى النِّصَابُ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ عَلَى حِدَتِهِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِتَكْمِيلِ النِّصَابِ فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ النَّسْلُ مِنْ نَوْعِ الْأَصْلِ، فَلَا تُضَمُّ الْإِبِلُ لِلْبَقَرِ وَلَا عَكْسُهُ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ. (خَاتِمَةٌ) لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا لَوْ اسْتَفَادَ شَيْئًا وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ مَا اسْتَفَادَهُ عَيْنًا بِأَنْ وَرِثَ نَقْدًا أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ بَاعَ دَارًا أَوْ ثَوْبًا أَوْ قَبَضَ أُجْرَةً فَإِنَّهُ يَسْتَقْبِلُ حَوْلًا مِنْ يَوْمِ الْقَبْضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَقْبَلَ بِفَائِدَةٍ تَجَدَّدَتْ لَا عَنْ مَالٍ كَعَطِيَّةٍ أَوْ ثَمَنِ غَيْرِ مُزَكًّى، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَا اسْتَفَادَهُ مَاشِيَةً فَإِنْ كَانَ عِنْدَهُ مِنْ نَوْعِهَا نِصَابٌ ضَمَّهَا إلَيْهِ وَزَكَّاهَا لِحَوْلِ الْأَصْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضُمَّتْ الْفَائِدَةُ لَهُ وَإِنْ قَبْلَ حَوْلِهِ بِيَوْمٍ لَا لِأَقَلَّ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ فَائِدَةِ الْعَيْنِ وَفَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ أَنَّ زَكَاةَ الْمَاشِيَةِ مَوْكُولَةٌ لِلسَّاعِي فَلَوْ لَمْ تُضَمَّ لَخَرَجَ السَّاعِي فِي كُلِّ زَمَنٍ وَفِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ زَكَاةِ الْعَيْنِ فَإِنَّهَا مَوْكُولَةٌ لِأَرْبَابِهَا . وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ فِي الْعَيْنِ عَدَمُ الدَّيْنِ قَالَ: (وَمَنْ لَهُ مَالٌ) أَيْ مِنْ الْعَيْنِ (تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ) لِكَوْنِهِ نِصَابًا (وَ) لَكِنْ (عَلَيْهِ دَيْنُ مِثْلِهِ) أَيْ قَدْرُهُ كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَعَلَيْهِ مِثْلُهَا أَوْ مَا قِيمَتُهُ ذَلِكَ (أَوْ) أَقَلُّ مِنْهُ لَكِنْ (يُنْقِصُهُ عَنْ مِقْدَارِ مَالِ الزَّكَاةِ) أَيْ عَنْ النِّصَابِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ دِينَارًا وَعَلَيْهِ نِصْفُ دِينَارٍ (فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) لِخَبَرِ: «إذَا كَانَ لِلرَّجُلِ أَلْفُ دِرْهَمٍ وَعَلَيْهِ أَلْفُ دِرْهَمٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ» وَلِمَا وَرَدَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عَلَى الْمِنْبَرِ بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيَقْضِهِ فَإِنْ فَضَلَ لَهُ مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَلْيُزْكِهِ ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ. (تَنْبِيهٌ) : ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ فِي الدَّيْنِ شُمُولُهُ لِدَيْنِ الزَّكَاةِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِذَا تَجَمَّدَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَاةِ مَا يُعَادِلُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْعَيْنِ النِّصَابَ أَوْ يُنْقِصَهُ عَنْ النِّصَابِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ وَشُمُولُهُ لِلْحَالِّ وَالْمُؤَجَّلِ، وَلَوْ مَهْرَ زَوْجَتِهِ الْمُؤَجَّلَ لِمَوْتٍ أَوْ فِرَاقٍ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهُ لَا دَيْنَ كَفَّارَةٍ أَوْ هَدْيٍ أَوْ نَذْرٍ فَلَا يُسْقِطُ زَكَاةَ مَا عِنْدَهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ دَيْنَ الزَّكَاةِ تَتَوَجَّهُ الْمُطَالَبَةُ بِهِ مِنْ الْإِمَامِ الْعَادِلِ وَتُؤْخَذُ وَلَوْ كَرْهًا، بِخِلَافِ نَحْوِ الْكَفَّارَةِ وَالنَّذْرِ. وَلَمَّا كَانَ إسْقَاطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 عُرُوضٍ مُقْتَنَاةٍ أَوْ رَقِيقٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُقْتَنَاةٍ أَوْ عَقَارٍ أَوْ رَيْعٍ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ فَلْيُزَكِّ مَا بِيَدِهِ مِنْ الْمَالِ فَإِنْ لَمْ تَفِ عُرُوضُهُ بِدَيْنِهِ حَسَبَ بَقِيَّةِ دَيْنِهِ فِيمَا بِيَدِهِ فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ وَلَا يُسْقِطُ الدَّيْنُ زَكَاةَ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ وَلَا مَاشِيَةٍ وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي دَيْنٍ حَتَّى يَقْبِضَهُ وَإِنْ أَقَامَ أَعْوَامًا فَإِنَّمَا يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ بَعْدَ قَبْضِهِ وَكَذَلِكَ الْعَرْضُ حَتَّى يَبِيعَهُ وَإِنْ   [الفواكه الدواني] الدَّيْنِ الزَّكَاةِ مِنْ الْعَيْنِ مَشْرُوطًا بِعَدَمِ وُجُودِ مَا يُجْعَلُ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ مِنْ الْعُرُوضِ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ) أَيْ مَنْ لَهُ مَالُ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ قَدْرُهُ وَلَا يَنْقُصُ النِّصَابُ (مِمَّا لَا يُزَكَّى) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ عُرُوضٍ مُقْتَنَاةٍ) كَثِيَابٍ (أَوْ رَقِيقٍ أَوْ حَيَوَانٍ مُقْتَنًى أَوْ عَقَارٍ أَوْ رُبْعِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ) أَوْ مُعَشَّرٍ وَإِنْ زُكِّيَ أَوْ مَعْدِنٍ أَوْ قِيمَةِ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ (فَلْيُزَكِّ مَا بِيَدِهِ مِنْ الْمَالِ) وَيُجْعَلُ مَا عِنْدَهُ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ فِي مُقَابَلَةِ الدَّيْنِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ حَالَ الْحَوْلُ عَلَى مَا يُجْعَلُ فِي الدَّيْنِ. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُهُ: إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِمَّا لَا يُزَكَّى إلَخْ الظَّرْفُ خَبَرُ يَكُونَ مُقَدَّمٌ عَلَى الِاسْمِ وَمَا فِيهِ وَفَاءٌ اسْمُهَا مُؤَخَّرٌ، وَقَوْلُهُ مِمَّا لَا يُزَكَّى رُتْبَتُهُ التَّأْخِيرُ؛ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِمَا الْوَاقِعَةِ اسْمًا، فَفِي كَلَامِهِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ تَقْدِيرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مَا فِيهِ وَفَاءٌ مِمَّا لَا يُزَكَّى مِنْ عَرَضٍ إلَخْ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِدَيْنِهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ تَفِ عُرُوضُهُ) الَّتِي عِنْدَهُ (بِدَيْنِهِ) بِأَنْ زَادَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ عَلَى قِيمَةِ الْعُرُوضِ الَّتِي عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ الْعُرُوضَ فِي مُقَابَلَةِ بَعْضِهِ (حَسَبَ بَقِيَّةِ دَيْنِهِ) مِمَّا خَرَجَ عَنْ قِيمَةِ الْعَرَضِ (فِيمَا بِيَدِهِ) مِنْ الْمَالِ (فَإِنْ بَقِيَ بَعْدَ ذَلِكَ) الْمَحْسُوبُ فِي الدَّيْنِ (مَا فِيهِ الزَّكَاةُ زَكَّاهُ) مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا وَعَلَيْهِ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَعِنْدَهُ مِنْ الْعُرُوضِ الَّتِي تُبَاعُ فِي الدَّيْنِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ مَا يُوفِي عَشْرَةً تَبْقَى عَشْرَةُ مِنْ الدَّيْنِ بِحَسَبِهَا وَيَأْخُذُهَا مِنْ الثَّلَاثِينَ الَّتِي عِنْدَهُ وَيُعْطِيهَا لِصَاحِبِ الدَّيْنِ يَبْقَى بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ عِشْرُونَ فَيُزَكِّيهَا، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ إذَا لَمْ يَبْقَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ تَسْقُطُ عَنْهُ الزَّكَاةُ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ وَعَلَيْهِ عِشْرُونَ دِينَارًا وَعِنْدَهُ مِنْ الْعُرُوضِ مَا يَفِي بِعَشْرَةٍ يَبْقَى مِنْ الدَّيْنِ عَشْرَةٌ يُعْطِيهَا مِنْ الْعِشْرِينَ الَّتِي عِنْدَهُ يَفْضُلُ لَهُ بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ عَشْرَةٌ لَا زَكَاةَ فِيهَا وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الدَّيْنَ إنَّمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ فَقَطْ ذَكَرَ مُحْتَرِزَهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُسْقِطُ الدَّيْنَ زَكَاةُ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ وَلَا مَاشِيَةٍ) وَلَا مَعْدِنٍ وَلَا رِكَازٍ، فَمَنْ خَرَجَ مِنْ زَرْعِهِ خَمْسَةُ أَوْسُقٍ أَوْ وَجَدَ فِي مَاشِيَتِهِ نِصَابًا وَعَلَيْهِ دَيْنٌ يَزِيدُ عَلَى قِيمَةِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ الزَّكَاةِ وَيُوَفِّي دَيْنَهُ مِنْ الْبَاقِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَسْقُطُ زَكَاةُ حَرْثٍ وَلَا مَاشِيَةٍ وَمَعْدِنٍ بِدَيْنٍ أَوْ فَقْدٍ أَوْ أَسْرٍ وَظَاهِرُهُ كَالْمُصَنِّفِ، وَلَوْ اسْتَدَانَ الدَّيْنَ لِإِحْيَاءِ الزَّرْعِ أَوْ الْمَاشِيَةِ أَوْ اسْتَعَانَ بِهِ عَلَى إخْرَاجِ الْمَعْدِنِ وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ لَمْ يُقَيِّدْهُ أَحَدٌ فِيمَا نَعْلَمُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَبَيْنَ الْعَيْنِ أَنَّ هَذِهِ أُمُورٌ ظَاهِرَةٌ وَزَكَاتُهَا مَوْكُولَةٌ إلَى السَّاعِي يَأْخُذُهَا قَهْرًا، بِخِلَافِ الْعَيْنِ فَإِنَّ زَكَاتَهَا مَوْكُولَةٌ إلَى أَمَانَةِ أَرْبَابِهَا لِخَفَائِهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي أَنَّ عَلَيْهِمْ دَيْنًا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُمْ فِي إخْرَاجِهَا، وَهَذَا تَوْجِيهٌ لِمَا فَرَّقَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ السُّنَّةَ جَاءَتْ بِإِسْقَاطِ الدَّيْنِ لِزَكَاةِ الْعَيْنِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا. قَالَ الْقَرَافِيُّ: «كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ يَبْعَثُونَ الْخُرَّاصَ وَالسُّعَاةَ وَلَا يُنْقِصُونَ شَيْئًا لِأَجْلِ الدَّيْنِ مِنْ ثَمَرَةٍ وَلَا مِنْ مَاشِيَةٍ وَكَانُوا يَسْأَلُونَهُمْ عَنْ الدَّيْنِ فِي الْعَيْنِ» . 1 - . (تَنْبِيهٌ) : وَقَعَ الْخِلَافُ فِي إسْقَاطِ الدَّيْنِ لِصَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ عَدَمُ إسْقَاطِهَا بِالدَّيْنِ لِوُجُوبِ تَسَلُّفِ الصَّاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِّ لِلْقَادِرِ عَلَى وَفَائِهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ خَلِيلٌ . وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ الْمَدِينَ إذَا نَصَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ وَمَا لَهُ مِنْ الدَّيْنِ الْمَرْجُوِّ كُلَّ عَامٍ، بِخِلَافِ الْمُحْتَكِرِ إنَّمَا يُزَكِّي إذَا بَاعَ بِنِصَابٍ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ دَيْنِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُحْتَكِرِ وَمِثْلُهُ الْمُقْرِضُ (فِي دَيْنٍ) لَهُ عَلَى آخَرَ مَا دَامَ عَلَى الْمَدِينِ سَوَاءٌ كَانَ ثَمَنَ سِلْعَةٍ بَاعَهَا الْمُحْتَكِرُ أَوْ عَيْنًا أَقْرَضَهَا لَهُ. (حَتَّى يَقْبِضَهُ) عَيْنًا وَبَالَغَ عَلَى عَدَمِ الزَّكَاةِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَقَامَ أَعْوَامًا) فَإِنْ قَبَضَهُ عَيْنًا (فَإِنَّمَا يُزَكِّيهِ لِعَامٍ وَاحِدٍ) مِنْ يَوْمِ مَلَكَ أَوْ زَكَّى الْأَصْلَ (بَعْد قَبْضِهِ) حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يُزَكَّى دَيْنٌ إنْ كَانَ أَصْلُهُ عَيْنًا بِيَدِهِ أَوْ عَرْضَ تِجَارَةٍ وَقُبِضَ عَيْنًا وَلَوْ بِهِبَةٍ أَوْ إحَالَةً لِسَنَةٍ مِنْ أَصْلِهِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ إنَّمَا يُزَكَّى بِشُرُوطٍ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ أَصْلُ هَذَا الدَّيْنِ عَيْنًا بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ وَكِيلِهِ أَوْ عَرْضًا مِنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ فَأَقْرَضَ الْعَيْنَ أَوْ بَاعَ الْعَرْضَ، لَا إنْ كَانَتْ الْعَيْنُ بِيَدِ غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ إرْثٍ أَوْ كَانَ الْعَرْضُ الَّذِي بَاعَهُ عَرْضَ قِنْيَةٍ فَلَا زَكَاةَ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْبَالِ حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ قَبْضِ الْمَالِ الْمُورَثِ أَوْ ثَمَنِ السِّلْعَةِ الَّتِي كَانَتْ لِلْقِنْيَةِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَقْبِضَ الدَّيْنَ حَقِيقَةً وَهُوَ وَاضِحٌ، أَوْ حُكْمًا بِأَنْ وَهَبَهُ الْمُحْتَكِرُ لِغَيْرِ الْمَدِينِ وَقَبَضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ الْمُحْتَكِرُ يُزَكِّيهِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَاهِبُ أَرَادَ أَنَّ الزَّكَاةَ مِنْهُ وَأَوْلَى لَوْ شَرَطَ ذَلِكَ الْوَاهِبُ، وَأَمَّا لَوْ وَهَبَهُ لِلْمَدِينِ فَلَا زَكَاةَ عَلَى الْوَاهِبِ وَمِنْ الْقَبْضِ الْحُكْمِيِّ الْإِحَالَةُ، فَإِنْ كَانَ لِلْمُحْتَكِرِ مِائَةُ دِينَارٍ عَلَى شَخْصٍ وَمَضَى لَهَا حَوْلٌ فَأَكْثَرُ وَعَلَيْهِ مِائَةُ دِينَارٍ حَالَ حَوْلُهَا فَأَحَالَ بِاَلَّتِي عَلَيْهِ عَلَى الَّتِي لَهُ، فَعَلَى الْمُحْتَكِرِ الْمُحِيلِ زَكَاةُ الْمِائَةِ الَّتِي لَهُ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْحَوَالَةِ، لِأَنَّ قَبُولَ الْمُحَالِ لِلْحَوَالَةِ بِمَنْزِلَةِ قَبْضِ الْمُحِيلِ، وَهَذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 كَانَ الدَّيْنُ أَوْ الْعَرْضُ مِنْ مِيرَاثٍ فَلْيَسْتَقْبِلْ حَوْلًا بِمَا يَقْبِضُ مِنْهُ وَعَلَى الْأَصَاغِرِ الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ وَلَا زَكَاةَ عَلَى عَبْدٍ وَلَا عَلَى مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ فَإِذَا أُعْتِقَ فَلْيَأْتَنِفْ حَوْلًا مِنْ يَوْمئِذٍ بِمَا يَمْلِكُ مِنْ مَالِهِ وَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ فِي عَبْدِهِ وَخَادِمِهِ وَفَرَسِهِ وَدَارِهِ وَلَا مَا يُتَّخَذُ لِلْقِنْيَةِ مِنْ الرِّبَاعِ وَالْعُرُوضِ   [الفواكه الدواني] بِخِلَافِ الْمَالِ الْمَوْهُوبِ لَا يُزَكِّيهِ الْوَاهِبُ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمَوْهُوبُ لَهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: الدَّيْنُ الْمُحَالُ بِهِ يُزَكِّيهِ ثَلَاثَةٌ فِي عَامٍ وَاحِدٍ: الْمُحِيلُ وَالْمُحَالُ وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ، لَكِنَّ الْمُحِيلَ يُزَكِّيهِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْمُحَالُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ حَيْثُ كَانَ عِنْدَهُ مَا يَجْعَلُهُ فِي مُقَابَلَتِهِ وَالْمُحَالُ يُزَكِّيهِ مِنْهُ، وَمَفْهُومُ هَذَا الشَّرْطِ لَا زَكَاةَ وَلَوْ أَخَّرَ الْمُحْتَكِرُ قَبْضَهُ هُرُوبًا مِنْ الزَّكَاةِ وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَقْبِضَ عَيْنًا إنْ قَبَضَ عَرْضًا بَدَلَهُ، فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ بَيْعِهِ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ لِسَنَةٍ مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ الْمَقْبُوضُ مِنْ الدَّيْنِ نِصَابًا أَوْ يَكُونُ عِنْدَهُ مَا يُكْمِلُ النِّصَابَ وَلَوْ فَائِدَةً جَمَعَهَا مَعَ الْمَقْبُوضِ مِلْكًا وَحَوْلًا، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ وَجَبَتْ زَكَاتُهُ لِعَامٍ وَاحِدٍ مِنْ يَوْمِ مَلَكَ أَوْ زَكَّى أَصْلَهُ وَلَوْ تَلِفَ الْمَقْبُوضُ أَوَّلًا أَوْ آخِرًا أَوْ هُمَا حَيْثُ حَصَلَ التَّمَكُّنُ مِنْ الْإِخْرَاجِ لَا إنْ تَلِفَ النِّصَابُ أَوْ بَعْضُهُ سَرِيعًا. (تَنْبِيهٌ) : حَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى دَيْنِ الْقَرْضِ وَدَيْنِ الْمُحْتَكِرِ لِقَوْلِهِ: حَتَّى يَقْبِضَهُ؛ لِأَنَّ الْمُدِيرَ يُزَكِّي كُلَّ عَامٍ حَيْثُ نَضَّ لَهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ وَلَوْ دِرْهَمًا، وَلَوْ الدَّيْنَ الَّذِي لَمْ يُقْبَضْ، إمَّا عَدَدُهُ إنْ كَانَ نَقْدًا حَالًّا مَرْجُوًّا، وَإِمَّا قِيمَتُهُ إنْ كَانَ عَرْضًا أَوْ نَقْدًا مُؤَجَّلًا مَرْجُوًّا، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ إرْثٍ وَنَحْوِهِ فَسَيَأْتِي. ثُمَّ شَبَّهَ فِي دَيْنِ الْمُحْتَكِرِ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ الْعَرْضُ) الَّذِي بِيَدِهِ لِلِاحْتِكَارِ لَا يُزَكِّيهِ (حَتَّى يَبِيعَهُ) بِعَيْنٍ وَيَكُونُ نِصَابًا فَيُزَكِّيهِ لِسَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَهَذَا مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ سَابِقًا: فَإِذَا بِعْتهَا بَعْدَ حَوْلٍ فَأَكْثَرَ مِنْ يَوْمِ أَخَذْت ثَمَنَهَا أَوْ زَكَّيْته، فَفِي ثَمَنِهَا الزَّكَاةُ لِحَوْلٍ وَاحِدٍ قَامَتْ قَبْلَ الْبَيْعِ حَوْلًا أَوْ أَكْثَرَ، فَتَلَخَّصَ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّ الْمُدِيرَ يُزَكِّي كُلَّ سَنَةٍ إذَا نَضَّ لَهُ شَيْءٌ مَا مِنْ الْمَالِ وَيُقَوِّمُ عُرُوضَهُ، وَالْمُحْتَكِرُ لَا يُزَكِّي إلَّا إذَا بَاعَ بِنِصَابٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الدَّيْنِ النَّاشِئِ عَنْ عُرُوضِ التِّجَارَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا كَانَ مِنْ إرْثٍ أَوْ هِبَةٍ فَقَالَ: (وَإِنْ كَانَ الدَّيْنُ أَوْ الْعَرْضُ) حَاصِلًا (مِنْ إرْثٍ) أَوْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ أَرْشِ جِنَايَةٍ أَوْ مَهْرٍ أَوْ خُلْعٍ أَوْ صُلْحٍ عَنْ دَمٍ خَطَأٍ أَوْ عَمْدٍ أَوْ عَمَلِ يَدٍ (فَلْيَسْتَقْبِلْ) الْمَالِكُ (حَوْلًا بِمَا يَقْبِضُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعَهُ لِأَنَّهُ فَائِدَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَقْبَلَ بِفَائِدَةٍ تَجَدَّدَتْ لَا عَنْ مَالٍ كَعَطِيَّةٍ أَوْ غَيْرِ مُزَكًّى كَثَمَنِ مُقْتَنًى، وَهُوَ كَقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِهَا مَا مُلِكَ لَا عَنْ عِوَضٍ مُلِكَ لِتَجْرٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ الِاسْتِقْبَالِ حَوْلًا كَامِلًا بِثَمَنِ مَا ذَكَرَ بَعْدَ قَبْضِهِ عَيْنًا، وَلَوْ فَرَّ بِتَأْخِيرِ الْقَبْضِ أَعْوَامًا قَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ شَامِلَةً، وَإِنْ وَرِثَ عَيْنًا اسْتَقْبَلَ بِهَا حَوْلًا كَامِلًا مِنْ قَبْضِهِ أَوْ قَبْضِ رَسُولِهِ، وَلَوْ أَقَامَ أَعْوَامًا أَوْ عَلِمَ بِهِ أَوْ وَقَفَ لَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ الْجَارِي عَلَى الْمَذْهَبِ خِلَافًا لِمَا فِي خَلِيلٍ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَا يَتَحَصَّلُ لِلْإِنْسَانِ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ يَسْتَقْبِلُ بِهِ، وَمِثْلُهُ فِيمَا يَظْهَرُ مَا يَقْبِضُهُ مِنْ وَظَائِفِهِ أَوْ جَرَامِكَةٍ لِصِدْقِ حَدِّ الْفَائِدَةِ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْخِطَابُ بِالزَّكَاةِ وَضْعِيًّا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ تَكْلِيفُ الْمَالِكِ قَالَ: (وَعَلَى الْأَصَاغِرِ) وَهُمْ غَيْرُ الْبَالِغِينَ وَمِثْلُهُمْ الْمَجَانِينُ (الزَّكَاةُ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي الْحَرْثِ وَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ) لَكِنْ اتِّفَاقًا فِي الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ لِنُمُوِّهِمَا بِنَفْسِهِمَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ فِي الْعَيْنِ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ فِي الْعَيْنِ: وَإِنْ لِطِفْلٍ أَوْ مَجْنُونٍ دَلِيلُنَا قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] ظَاهِرُهَا الْعُمُومُ فِي الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ: «اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِئَلَّا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» وَالْمُخَاطَبُ بِالْإِخْرَاجِ الْوَلِيُّ فَالْمُعْتَبَرُ مَذْهَبُهُ، فَإِذَا كَانَ مَذْهَبُهُ يَرَى الْوُجُوبَ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ، ثُمَّ إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلَدِ حَاكِمٌ أَوْ كَانَ مَذْهَبُهُ يَرَى الْوُجُوبَ فَلَا حَاجَةَ إلَى رَفْعٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ فِي الْبَلَدِ مَنْ يَرَى سُقُوطَ الزَّكَاةِ عَنْ مَالِ الصَّغِيرِ فَلَا يُخْرِجُ حَتَّى يَرْفَعَ لِمَنْ يَرَى الْوُجُوبَ، كَمَا لَوْ جَهِلَ فَيَنْبَغِي الرَّفْعُ إلَيْهِ لَعَلَّهُ مِمَّنْ لَا يَرَى الزَّكَاةَ عَلَى الْأَصَاغِرِ فَيَمْنَعُهُمْ مِنْ إخْرَاجِهَا، كَمَا يَفْعَلُهُ بِخَمْرٍ يَجِدُهَا فِي التَّرِكَةِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَرَى تَحْلِيلَهَا لِإِرَاقَتِهَا فَيَضْمَنُهَا إنْ أَرَاقَهَا. (وَ) عَلَى الْأَصَاغِرِ أَيْضًا (زَكَاةُ الْفِطْرِ) لَكِنَّ الْمُطَالَبَ بِالْإِخْرَاجِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُمْ كَمَا يَأْتِي فِي بَابِ زَكَاةِ الْفِطْرِ، وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ شُرُوطِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ الْحُرِّيَّةُ قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَى عَبْدٍ) لَا شَائِبَةَ حُرِّيَّةٍ فِيهِ (وَلَا عَمَّنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ) كَالْمُكَاتَبِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ بَعْضُهُ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَا فِيمَا يُرَبِّيهِ لِلتِّجَارَةِ بِلَا خِلَافٍ لِعَدَمِ تَمَامِ مِلْكِهِ، وَلَا زَكَاةَ عَلَى سَيِّدِهِ أَيْضًا فِيمَا بِيَدِهِ وَلَوْ انْتَزَعَهُ مِنْهُ اسْتَقْبَلَ بِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْعَبْدِ فِي مَالِهِ قَوْله تَعَالَى: {عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} [النحل: 75] وَخَبَرُ لَا النَّافِيَةِ مُتَعَلِّقٌ (فِي ذَلِكَ) الْمُتَقَدِّمِ (كُلِّهِ) مِنْ حَرْثٍ وَمَاشِيَةٍ أَوْ عَيْنٍ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ اسْمِ الْإِشَارَةِ زَكَاةُ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ الْبَابَ لِزَكَاةِ الْأَمْوَالِ. (فَإِذَا أُعْتِقَ) الْعَبْدُ وَلَمْ يَشْتَرِطْ سَيِّدُهُ أَخْذَ مَالِهِ (فَلْيَأْتَنِفْ حَوْلًا مِنْ يَوْمئِذٍ) أَيْ مِنْ يَوْمِ نَجَزَ عِتْقُهُ (بِمَا يَمْلِكُ) فِي الْحَالِ (مِنْ مَالِهِ) الَّذِي فِيهِ الزَّكَاةُ؛ لِأَنَّهُ يَوْمُ كَمَالِ مِلْكِهِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَلَا فِيمَا يُتَّخَذُ لِلِّبَاسِ مِنْ الْحُلِيِّ وَمَنْ وَرِثَ عَرْضًا أَوْ وُهِبَ لَهُ أَوْ رُفِعَ مِنْ أَرْضِهِ زَرْعًا فَزَكَّاهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى يُبَاعَ وَيَسْتَقْبِلَ بِهِ حَوْلًا مِنْ يَوْمِ يَقْبِضُ ثَمَنَهُ وَفِيمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعْدِنِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ الزَّكَاةُ إذَا بَلَغَ   [الفواكه الدواني] بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ أَنْ يُمَلِّكَ يُعَدُّ مَالِكًا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الِاسْتِقْبَالَ فِيمَا يُشْتَرَطُ فِي تَزْكِيَتِهِ مُرُورُ الْحَوْلِ كَالْعَيْنِ وَالْمَاشِيَةِ، وَأَمَّا الثِّمَارُ وَالْحُبُوبُ فَيُنْظَرُ إنْ عَتَقَ قَبْلَ الطِّيبِ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ عَتَقَ بَعْدَ الطِّيبِ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: وَلَمْ يُشْتَرَطْ إلَخْ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَكُونُ لَهُ فِي الْعِتْقِ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ السَّيِّدُ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَإِنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَبْقَى لِسَيِّدِهِ بَعْدَ بَيْعِهِ إنْ لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْمُشْتَرِي. (تَنْبِيهٌ) : قَدْ عَلِمْت مِنْ قَوْلِنَا فِي الْحَالِّ دَفْعَ مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ يَمْلِكُهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بَعْدَ الْعِتْقِ دُونَ مَا كَانَ يَمْلِكُهُ فِي يَدِهِ حِينَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَأْتِ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِقْبَالِ، وَأَيْضًا قَرِينَةُ الْحَالِ تُعَيِّنُ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمَالِ الْكَائِنِ بِيَدِهِ زَمَنَ الرِّقِّيَّةِ، فَنَسَخَهُ مَلَكَ بِلَفْظِ الْمَاضِي . وَلَمَّا كَانَتْ الْمَاشِيَةُ الَّتِي فِي عَيْنِهَا الزَّكَاةُ بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ خَاصَّةً قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ فِي عَبْدِهِ) الذَّكَرِ (وَخَادِمِهِ) الْأُنْثَى وَلَوْ قَالَ فِي رَقِيقِهِ لَشَمَلَهَا (وَ) لَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ أَيْضًا فِي (فَرَسِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِ فِي عَبْدِهِ وَلَا فَرَسِهِ صَدَقَةٌ» وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةُ: «إلَّا صَدَقَةَ الْفِطْرِ» . (وَ) لَا زَكَاةَ عَلَى أَحَدٍ أَيْضًا فِي (دَارِهِ وَلَا فِيمَا يُتَّخَذُ لِلْقِنْيَةِ مِنْ الرِّبَاعِ وَالْعُرُوضِ الْمُقْتَنَاةِ) يَنْبَغِي رُجُوعُ الْمُقْتَنَاةِ لِكُلِّ مَا تَقَدَّمَ سِوَى الرِّبَاعِ، وَأَمَّا الْمُتَّخَذُ لِلتِّجَارَةِ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَالزَّكَاةُ فِي قِيمَتِهِ أَوْ ثَمَنِهِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ تَنْوِيعِ التِّجَارَةِ إلَى إدَارَةٍ وَاحْتِكَارٍ وَالْمَنْفِيِّ زَكَاةُ عَيْنِهِ، وَلَا يَخْفَى مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ التَّكْرَارِ. (وَلَا) زَكَاةَ أَيْضًا عَلَى أَحَدٍ (فِيمَا يُتَّخَذُ لِلِّبَاسِ مِنْ الْحُلِيِّ) الْمُبَاحِ سَوَاءٌ كَانَ مُقْتَنًى أَوْ مُتَّخَذًا لِلْكِرَاءِ كَانَ لِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، وَسَوَاءً كَانَ بَاقِيًا عَلَى حَالِهِ أَوْ تَكَسَّرَ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ عَدَمَ إصْلَاحِهِ فَتَجِبُ زَكَاتُهُ كَمَا لَوْ تَهَشَّمَ وَلَوْ نَوَى إصْلَاحَهُ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُبَاحِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُحَرَّمِ الِاسْتِعْمَالِ فَفِيهِ الزَّكَاةُ، وَلَوْ كَانَ مُرَصَّعًا عَلَى جَوْهَرٍ فَيُزَكَّى زِنَتُهُ إنْ أَمْكَنَ نَزْعُهُ بِغَيْرِ فَسَادٍ وَإِلَّا تَحَرَّى، وَالْمُحَرَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ غَيْرُ الْمَلْبُوسِ كَالْمِرْوَدِ وَالْمُكْحُلَةِ وَآلَةِ نَحْوِ الْأَكْلِ، وَعَلَى الرَّجُلِ خَاتَمُ الذَّهَبِ أَوْ الْخِنْجَرُ أَوْ الرِّكَابُ وَلَوْ كَانَ الْمُحَرَّمُ مُعَدًّا لِلْعَاقِبَةِ لِيُجْعَلَ صَدَاقًا أَوْ مَنْوِيًّا بِهِ التِّجَارَةُ، فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ الزَّكَاةُ، وَلَيْسَ مِنْ الْحُلِيِّ مَا تَجْعَلُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ الْقُرُوشِ أَوْ الْفِضَّةِ الْعَدَدِيَّةِ أَوْ الذَّهَبِ الْمَسْكُوكِ فَإِنَّ عَلَيْهَا فِيهِ الزَّكَاةَ، بِخِلَافِ مَا صَاغَتْهُ لِتُلَبِّسَهُ لِبِنْتِهَا إذَا كَبُرَتْ أَوْ وَجَدَتْ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ، بِخِلَافِ الرَّجُلِ يَشْتَرِي أَوْ يَصُوغُ حُلِيًّا لِمَا يُحْدِثُهُ اللَّهُ لَهُ مِنْ الْأَوْلَادِ أَوْ الْإِمَاءِ فَعَلَيْهِ فِيهِ الزَّكَاةُ. (تَنْبِيهٌ) : حُلِيٌّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ عَلَى وَزْنِ ثَدْيٍ فَيَكُونُ مُفْرَدًا، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ فَيَكُونُ جَمْعًا، وَقَدْ تُكْسَرُ الْحَاءُ فِي الْجَمْعِ مِثْلَ عِصِيٍّ، وَقُرِئَ بِذَلِكَ {مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلا} [الأعراف: 148] بِالضَّمِّ وَالْكَسْرِ. (وَمَنْ وَرِثَ عَرْضًا أَوْ وُهِبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْعَرْضِ وَالضَّمِيرُ فِي (لَهُ) : عَائِدٌ عَلَى مَنْ (أَوْ رَفَعَ) : بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ أَيْ حَصَدَ (مِنْ أَرْضِهِ زَرْعًا فَزَكَّاهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) : الْمَذْكُورِ مِنْ عَرْضٍ أَوْ زَرْعٍ فَمَا يَسْتَقْبِلُ مِنْ الزَّمَانِ وَلَوْ مَضَى أَعْوَامٌ. (حَتَّى يُبَاعَ) : ذَلِكَ الْمَذْكُورُ بِعَيْنِ نِصَابٍ. (وَيُسْتَقْبَلُ بِهِ) : أَيْ بِالثَّمَنِ الْمَفْهُومِ مِنْ الْبَيْعِ (حَوْلًا مِنْ يَوْمِ يَقْبِضُ) : الْمَالِكُ (ثَمَنَهُ) ؛ لِأَنَّ ثَمَنَ مَا ذُكِرَ كَالْفَائِدَةِ يَسْتَقْبِلُ بِهِ كَمَا مَرَّ، لَا إنْ لَمْ يَقْبِضْهُ وَلَوْ هَارِبًا أَوْ بَاعَ بِعُرُوضٍ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) : هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ لَمْ يَحْتَرِزْ الْمُصَنِّفُ بِهَا عَنْ شَيْءٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِزَكَاةِ عَيْنِ الْعُرُوضِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهَا لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ ثَمَنَهَا بَعْدَ بَيْعِهَا فَائِدَةٌ يَجِبُ الِاسْتِقْبَالُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ مِنْ زَرْعِهِ فَالتَّقْيِيدُ بِهِ بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ مَا اشْتَرَاهُ لِيَأْكُلَهُ أَوْ وَجَدَهُ نَابِتًا فِي الْجَبَلِ كَذَلِكَ لَا زَكَاةَ فِي عَيْنِهِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْحَبَّ الَّذِي يُزَكَّى مَا زَرَعَهُ الْإِنْسَانُ لَا مَا وَجَدَهُ نَابِتًا فِي أَرْضٍ مُبَاحَةٍ فَإِنَّ هَذَا لَا زَكَاةَ فِيهِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: احْتَرَزَ بِذَلِكَ عَمَّا لَوْ اكْتَرَى أَرْضًا لِيَزْرَعَهَا بِنِيَّةِ التِّجَارَةِ فَإِنَّهُ يُزَكِّيهِ مَرَّتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: زَكَاةُ عَيْنِهِ إنْ كَانَ نِصَابًا، وَالثَّانِيَةُ: ثَمَنُهُ إذَا بَاعَ بِنِصَابٍ بَعْدَ الْحَوْلِ إنْ كَانَ مُحْتَكِرًا، أَوْ يُقَوِّمُهُ كُلَّ سَنَةٍ إنْ كَانَ مُدِيرًا وَنَضَّ عِنْدَهُ شَيْءٌ كَمَا تَقَدَّمَ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ اكْتَرَى وَزَرَعَ لِلتِّجَارَةِ زَكَّى ثُمَّ زَكَّى الثَّمَنَ لِحَوْلِ التَّزْكِيَةِ [زَكَاة الْمَعَادِن] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمَعْدِنِ فَقَالَ: (وَفِيمَا يُخْرَجُ) : بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالنَّائِبُ ضَمِيرُ الْمُسْتَتِرِ فِي يُخْرَجُ عَائِدٌ عَلَى مَا (مِنْ الْمَعْدِنِ) : بِكَسْرِ الدَّالِ مِنْ عَدَنَ بِفَتْحِ الدَّالِ فِي الْمَاضِي يَعْدِنُ بِكَسْرِهَا فِي الْمُضَارِعِ إذَا أَقَامَ بِهِ. قَالَ الْبِسَاطِيُّ: وَالْقِيَاسُ إنْ كَانَ اسْمَ مَكَانِ الْفَتْحِ كَمَذْهَبٍ وَمَقْعَدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُخْرَجَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (مَنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ) : وَقَوْلُهُ: (الزَّكَاةُ) : بِالرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ قَوْلُهُ: فِيمَا يَخْرُجُ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَالزَّكَاةُ وَاجِبَةٌ فِيمَا يَخْرُجُ مِنْ مَعْدِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ الْخَبَرَ لِلْحَصْرِ أَيْ لَا يُزَكَّى مِنْ الْمَعَادِنِ إلَّا مَعْدِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، كَقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنَّمَا يُزَكَّى مَعْدِنُ عَيْنٍ لَا مَعْدِنُ نُحَاسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وَزْنَ عِشْرِينَ دِينَارًا أَوْ خَمْسَ أَوَاقٍ فِضَّةً فَفِي ذَلِكَ رُبُعُ الْعُشْرِ يَوْمَ خُرُوجِهِ وَكَذَلِكَ فِيمَا يَخْرُجُ بَعْدَ ذَلِكَ مُتَّصِلًا بِهِ وَإِنْ قَلَّ فَإِنْ انْقَطَعَ نَيْلُهُ بِيَدِهِ وَابْتَدَأَ غَيْرَهُ لَمْ يُخْرِجْ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ مَا فِيهِ الزَّكَاةُ وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ نِسَائِهِمْ وَصِبْيَانِهِمْ وَعَبِيدِهِمْ وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمَجُوسِ وَمِنْ نَصَارَى الْعَرَبِ وَالْجِزْيَةُ عَلَى   [الفواكه الدواني] وَلَا رَصَاصٍ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا زَكَاةَ فِي مَعَادِنِ الرَّصَاصِ وَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ وَالزَّرْنِيخِ وَاللُّؤْلُؤِ وَسَائِرِ الْجَوَاهِرِ، قَالَ فِي الْجَلَّابِ؛ لِأَنَّهَا عُرُوضٌ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ قَدْرَ النِّصَابِ مِنْ الْمَعْدِنِ كَغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (إذَا بَلَغَ) : الْخَارِجُ مِنْهُ (وَزْنَ عِشْرِينَ دِينَارًا) : إنْ كَانَ مَعْدِنَ ذَهَبٍ (أَوْ) : بَلَغَ وَزْنَ (خَمْسِ أَوَاقٍ فِضَّةً) : إنْ كَانَ مَعْدِنَ فِضَّةٍ، وَقَوْلُهُ: (فَفِي ذَلِكَ رُبْعُ الْعُشْرِ) : جَوَابُ إذَا الشَّرْطِيَّةِ وَالتَّقْدِيرُ: إذَا خَرَجَ مِنْ مَعْدِنِ الْعَيْنِ النِّصَابُ فَفِيهِ رُبْعُ الْعُشْرِ لَا الْخُمُسُ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ، وَلَمَّا كَانَ الْحَوْلُ لَا يُشْتَرَطُ فِي زَكَاةِ الْمَعْدِنِ قَالَ: (يَوْمَ خُرُوجِهِ) : وَقِيلَ: إنَّمَا تَجِبُ بِتَصْفِيَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي تَعَلُّقِ الْوُجُوبِ بِإِخْرَاجِهِ أَوْ تَصْفِيَتِهِ تَرَدُّدٌ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ إذَا رَفَعَ مِنْ الْمَعْدِنِ شَيْئًا وَلَمْ يَضَعْهُ إلَّا بَعْدَ حَوْلٍ مِنْ يَوْمِ خُرُوجِهِ، فَمَنْ قَالَ: الْوُجُوبُ بِالتَّصْفِيَةِ يَقُولُ بِزَكَاتِهِ مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَنْ قَالَ: الْوُجُوبُ بِخُرُوجِهِ كَالْمُصَنِّفِ يَقُولُ يُزَكِّيهِ مَرَّتَيْنِ، وَتَظْهَرُ أَيْضًا فِيمَا لَوْ أَنْفَقَ مِنْهُ شَيْئًا بَعْدَ الْإِخْرَاجِ وَقَبْلَ التَّصْفِيَةِ هَلْ يُحْسَبُ أَمْ لَا؟ (وَكَذَلِكَ) : يَجِبُ رُبْعُ الْعُشْرِ (فِيمَا يَخْرُجُ) : مِنْهُ (بَعْدَ ذَلِكَ) : أَيْ بَعْدَ تَمَامِ النِّصَابِ حَيْثُ خَرَجَ (مُتَّصِلًا بِهِ) : بِأَنْ كَانَ بَعْضَ الْخَارِجِ لِكَوْنِهِ مِنْ عِرْقِهِ (وَإِنْ قَلَّ) : قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمُّ بَقِيَّةِ عِرْقِهِ وَإِنْ تَرَاخَى الْعَمَلُ، وَإِنَّمَا وَجَبَ زَكَاةُ الْخَارِجِ بَعْدَ تَمَامِ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ كَالدَّيْنِ يُزَكَّى الْمَقْبُوضُ مِنْهُ بَعْدَ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ مُتَّصِلٍ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ انْقَطَعَ نِيلُهُ) : أَيْ عِرْقُهُ الَّذِي فِي الْمَعْدِنِ؛ لِأَنَّ النِّيلَ يُسَمَّى عِرْقًا بِأَنْ تَرَكَ الْعَمَلَ (بِيَدِهِ وَابْتَدَأَ غَيْرُهُ لَمْ) : يَجِبْ عَلَيْهِ أَنْ (يُخْرِجَ شَيْئًا حَتَّى يَبْلُغَ) : الْخَارِجُ (مَا فِيهِ الزَّكَاةُ) : بِأَنْ بَلَغَ نِصَابًا؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ مَعْدِنٍ أَوْ عِرْقٍ لَا يُضَمُّ لِغَيْرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا مَعَادِنَ وَلَا عِرْقَ لِآخَرَ بَلْ يُعْتَبَرُ كُلُّ عِرْقٍ عَلَى حِدَتِهِ وَإِنْ تَرَاخَى الْعَمَلُ فِيهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ، إحْدَاهَا: أَنْ يَتَّصِلَ الْعَمَلُ وَالنَّيْلُ وَيَخْرُجُ نِصَابٌ فَالزَّكَاةُ حَتَّى فِي الْخَارِجِ بَعْدَ النِّصَابِ وَإِنْ قَلَّ. ثَانِيهَا: أَنْ يَنْقَطِعَ النَّيْلُ وَيَتَّصِلَ الْعَمَلُ فَالْمَذْهَبُ لَا زَكَاةَ فِي الثَّانِي حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا لَا أَقَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يُضَمُّ نِيلٌ لِغَيْرِهِ. ثَالِثُهَا: أَنْ يَنْقَطِعَا مَعًا فَلَا زَكَاةَ فِي الثَّانِي حَتَّى يَبْلُغَ نِصَابًا اتِّفَاقًا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: يُسْتَثْنَى مِنْ الْمَعْدِنِ النَّدْرَةُ فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهَا الْخُمُسُ لَا الزَّكَاةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي نَدْرَتِهِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ، وَالنَّدْرَةُ بِفَتْحِ النُّونِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْقِطْعَةُ الْخَالِصَةُ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، وَيُدْفَعُ ذَلِكَ الْخُمُسُ لِلْإِمَامِ إنْ كَانَ عَدْلًا وَإِلَّا فُرِّقَ عَلَى فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ حُكْمُهَا حُكْمُ الْمَعْدِنِ يَقْطَعُهَا الْإِمَامُ لِمَنْ شَاءَ. 1 - الثَّانِي: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ يُزَكَّى الْخَارِجُ اشْتِرَاطُ كَوْنِ الْوَاجِدِ مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِأَنْ يَكُون حُرًّا مُسْلِمًا؛ لِأَنَّ الْمَعْدِنَ شَبِيهٌ بِالزَّرْعِ لَا يُزَكِّيهِ نَصْرَانِيٌّ وَلَا عَبْدٌ. الثَّالِثُ: إذَا كَانَ الْمُخْرِجُ لِلْمَعْدِنِ جَمَاعَةٌ اُعْتُبِرَ مِلْكُ كُلٍّ عَلَى انْفِرَادِهِ، كَالشُّرَكَاءِ فِي الزَّرْعِ أَوْ فِي الْمَاشِيَةِ أَوْ فِي الْعَيْنِ لَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْ حِصَّتُهُ نِصَابًا. 1 - الرَّابِعُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ الْمَعَادِنِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْأَرَاضِي، وَالْحُكْمُ فِيهَا جَمِيعِهَا الْإِمَامُ يَقْطَعُهَا لِمَنْ يَشَاءُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحُكْمُهُ لِلْإِمَامِ يَقْطَعُهُ لِمَنْ يَعْلَمُ فِيهِ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، إمَّا حَيَاةَ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ أَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، أَوْ يُوَكِّلُ مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا جُعِلَ لِلْإِمَامِ وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وَاجِدُهُ لِمَا يَحْصُلُ فِيهِ مِنْ الْهَرَجِ وَالْفِتَنِ بَيْنَ النَّاسِ، فَالْوَاجِدُ لَهُ لَا يَتَصَرَّفُ حَتَّى يُخْبِرَ بِهِ الْإِمَامَ وَيُمَكِّنُهُ مِنْهُ وَيَحُوزُهُ؛ لِأَنَّ عَطَايَا الْإِمَامِ تَفْتَقِرُ لِلْحَوْزِ كَعَطِيَّةِ غَيْرِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، إلَّا أَنْ يُوجَدَ فِي أَرْضِ الصُّلْحِ الْمَمْلُوكَةِ لِمُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِهِ فَحُكْمُهُ لِلْمُصَالِحِ أَوْ وَارِثِهِ لَا لِلْإِمَامِ. [الْجِزْيَةَ وَشُرُوطهَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ غَيْرِ الْمَاشِيَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْجِزْيَةِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَأْخِيرَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا بَعْدَ الْجِهَادِ لِتَسَبُّبِهَا عَنْهُ، وَيُقَدِّمُ الْكَلَامَ عَلَى زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَالْفِطْرَةِ، وَتَنْقَسِمُ إلَى صُلْحِيَّةٍ وَعَنْوِيَّةٍ، فَالصُّلْحِيَّةُ مَا الْتَزَمَ كَافِرٌ مَنْعَ نَفْسِهِ أَدَاءَهُ عَلَى إبْقَائِهِ بَلْدَةً تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ، وَالْعَنْوِيَّةُ مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْمُجَازَاةِ، وَالْجَزَاءُ بِمَعْنَى الْمُقَابَلَةِ؛ لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْا الْمَالَ فِي مُقَابَلَةِ الْأَمَانِ، وَمُجَازَاةٌ لِكَفِّنَا عَنْهُمْ وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ سُكْنَى بِلَادِنَا، وَشُرِعَتْ فِي السَّنَةِ الثَّامِنَةِ، وَقِيلَ التَّاسِعَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَمُدَّتُهَا مُغَيَّاةٌ بِنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَبَعْدَ نُزُولِهِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ جِزْيَةٌ وَإِنَّمَا يُطَالِبُهُمْ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالْإِيمَانِ وَإِلَّا قَتَلَهُمْ وَحُكْمُ ضَرْبِهَا الْجَوَازُ، وَقَدْ يَعْرِضُ وُجُوبُهَا إذَا كَانَتْ الْمَصْلَحَةُ لِلْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِهَا، وَأَشَارَ إلَى مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَتُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ) : صُلْحِيَّةً أَوْ عَنْوِيَّةً (مِنْ رِجَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ) : وَالْمُرَادُ بِهِمْ كُلُّ كَافِرٍ يَصِحُّ سَبْيُهُ وَلَوْ قُرَشِيًّا، وَطَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ مُخَالِفَةٌ لِمَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. (الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ) : الْعُقَلَاءِ فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا وَيُخَفَّفُ عَنْ الْفَقِيرِ وَيُؤْخَذُ مِمَّنْ تَجِرَ مِنْهُمْ مِنْ أُفُقٍ إلَى أُفُقٍ   [الفواكه الدواني] تُؤْخَذُ مِنْ الْمَجَانِينِ وَلَا مِمَّنْ لَا يَصِحُّ سَبْيُهُ كَالْمُعَاهِدِ قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ عَهْدِهِ وَالْمُرْتَدِّ لِعَدَمِ صِحَّةِ سَبْيِهِمَا، وَيُشْتَرَطُ فِيمَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُخَالِطًا لِأَهْلِ دِينِهِ، وَأَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى أَدَائِهَا، فَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْمُنْعَزِلِ بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ كَالرُّهْبَانِ، وَلَا مِنْ الْعَاجِزِ عَنْ أَدَائِهَا، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ مِمَّنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ كَافِرٍ أَعْتَقَهُ كَافِرٌ أَوْ مُسْلِمٌ فِي بِلَادِ الْحَرْبِ فَتُؤْخَذُ مِنْهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ شَرْطَ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْجِزْيَةُ عَنْوِيَّةً أَوْ صُلْحِيَّةً: الذُّكُورَةُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَصِحَّةُ سَبْيِهِ وَعَدَمُ عِتْقِ مُسْلِمٍ لَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَالْقُدْرَةُ عَلَى الْأَدَاءِ وَالْمُخَالَطَةُ لِأَهْلِ دِينِهِ وَلَوْ رَاهِبَ كَنِيسَةٍ، بِخِلَافِ رَاهِبِ الدَّيْرِ أَوْ الصَّوْمَعَةِ فَلَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا لِعَدَمِ مُخَالَطَتِهِمَا. قَالَ خَلِيلٌ: عَقْدُ الْجِزْيَةِ إذْنُ الْإِمَامِ لِكَافِرٍ صَحَّ سَبْيُهُ حُرٍّ قَادِرٍ مُخَالِطٍ لَمْ يَعْتِقْهُ مُسْلِمٌ سَكَنَ غَيْرَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَالْيَمَنِ. ثُمَّ ذَكَرَ مُحْتَرَزَاتِ الْقُيُودِ السَّابِقَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تُؤْخَذُ) : الْجِزْيَةُ (مِنْ نِسَائِهِمْ) : أَيْ رِجَالِ أَهْلِ الذِّمَّةِ (وَ) : لَا تُؤْخَذُ مِنْ (صِبْيَانِهِمْ وَ) : لَا مِنْ (عَبِيدِهِمْ) : وَلَا مِنْ الرُّهْبَانِ الْمُنْعَزِلِينَ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرَهُّبُهُمْ بَعْدَ ضَرْبِهَا فَلَا يُمْنَعُ لِاتِّهَامِهِمْ عَلَى قَوْلِ الْأَخَوَيْنِ، وَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ تَسْقُطُ بِالتَّرَهُّبِ، فَإِذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ عَتَقَ الْعَبْدُ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا سَرِيعًا كَمَا لَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ، وَلَا يُنْتَظَرُ بِالْأَخْذِ مُرُورُ الْحَوْلِ. (وَتُؤْخَذُ) : الْجِزْيَةُ (مِنْ الْمَجُوسِيِّ) : نِسْبَةً إلَى مَحَلِّهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شَأْنِهِمْ: «سُنُّوا لَهُمْ سُنَّةَ الْكِتَابِ» قَالَ كَثِيرٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى ذَلِكَ فِي أَخْذِ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ وَلَيْسُوا أَهْلَ كِتَابٍ، فَعَلَى هَذَا لَمْ تَتَعَدَّ السُّنَّةُ إلَى ذَبَائِحِهِمْ، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ وَجُمْهُورِ الصَّحَابَةِ. (وَتُؤْخَذُ) : الْجِزْيَةُ أَيْضًا (مِنْ رِجَالِ نَصَارَى الْعَرَبِ) :؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَهَا مِنْ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ نَصَارَى الرُّومِ أَوْ قُرَيْشٍ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْعَاقِدِ لَهَا مَعَ الْكُفَّارِ، وَقَدْ نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِأَنَّهُ الْإِمَامُ فَلَوْ عَقَدَهَا مُسْلِمٌ غَيْرُ الْإِمَامِ بِغَيْرِ إذْنِ الْإِمَامِ لَمْ يَصِحَّ عَقْدُهُ، لَكِنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُ الْكَافِرِ الْمَأْذُونِ لَهُ مِنْ غَيْرِ الْإِمَامِ وَلَا أَسْرُهُ، وَيُفْعَلُ بِهِ غَيْرُ الْقَتْلِ وَالْأَسْرِ، وَسَكَتَ عَنْ مَحَلِّ إقَامَتِهِمْ مَعَ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ أَيْضًا بِأَنَّهُ غَيْرُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ الَّتِي هِيَ مَكَّةُ وَالْمَدِينَةُ وَالْيَمَنُ، وَأَمَّا هَذِهِ الْأَمَاكِنُ الثَّلَاثَةُ فَلَا يَجُوزُ سُكْنَاهُمْ فِيهَا وَلَا يُدْفَنُونَ بِهَا إنْ مَاتُوا وَإِنْ كَانَ يَمْضِي بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَلَا يُخْرَجُونَ مِنْ قُبُورِهِمْ إلَّا الْمَيِّتَ فِي الْحَرَمِ فَلَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهِ مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ دَفْنِهِ كَمَا قَالَهُ السَّنْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ لِخَبَرِ: «لَا يَبْقَيَنَّ دِينَانِ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ» نَعَمْ يَجُوزُ لَهُمْ الْمُرُورُ إذَا كَانَ لِمَصْلَحَةٍ. الثَّانِي: قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَفْسَدَةُ الْكُفْرِ أَعْظَمُ مَفْسَدَةً، فَكَيْفَ نُقِرُّهُمْ عَلَيْهَا بِأَخْذِ الْمَالِ مَعَ وُجُوبِ دَرْءِ الْمَفْسَدَةِ؟ وَأَجَابَ الْعَلَّامَةُ الْقَرَافِيُّ بَعْدَ اسْتِشْكَالِهِ الْمَسْأَلَةَ: بِأَنَّ هَذَا مِنْ بَابِ الْتِزَامِ الْمَفْسَدَةِ الدُّنْيَا لِتَوَقُّعِ الْمَصْلَحَةِ الْعُلْيَا؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ إذَا قُتِلَ انْسَدَّ بَابُ الْإِيمَانِ، فَشُرِعَتْ الْجِزْيَةُ لِرَجَاءِ الْإِسْلَامِ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ إنْ لَمْ يُسْلِمْ هُوَ بَعْدَ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَحَاسِنِ الْإِسْلَامِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ: وَمَا الْحِكْمَةُ فِي تَغْيِيرِ حُكْمِ الشَّرْعِ عِنْدَ نُزُولِ عِيسَى بَعْدَ قَبُولِ الْجِزْيَةِ؟ وَبَيَّنَهُ ابْنُ بَطَّالٍ بِقَوْلِهِ: السِّرُّ فِي ذَلِكَ الِاسْتِغْنَاءُ عَنْ الْمَالِ بَعْدَ نُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -،؛ لِأَنَّهُ يَفِيضُ وَيَكْثُرُ فِي أَيَّامِهِ حَتَّى لَا يَقْبَلُهُ أَحَدٌ، فَلَا يُقْبَلُ مِنْ الْكَافِرِ إذْ ذَاكَ إلَّا الْإِيمَانُ أَوْ يَقْتُلُهُ، وَأَجَابَ وَلِيُّ الدِّينِ الْقَرَافِيُّ: بِأَنَّ قَبُولَ الْجِزْيَةِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى لِشُبْهَةِ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ لِتَعَلُّقِهِمْ بِزَعْمِهِمْ بِشَرْعٍ قَدِيمٍ، فَإِذَا نَزَلَ عِيسَى انْقَطَعَتْ شُبْهَتُهُمْ بِحُصُولِ مُعَايَنَتِهِ [قَدْرُ الْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ] ثُمَّ ذَكَرَ الْقَدْرَ الْمَأْخُوذَ بِقَوْلِهِ: (وَ) : قَدْرُ (الْجِزْيَةِ) : الْعَنْوِيَّةِ (عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةُ دَنَانِيرَ) : فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ (وَ) : قَدْرُهَا (عَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ) : أَيْ الْفِضَّةِ (أَرْبَعُونَ دِرْهَمًا) : هَذَا هُوَ الْمُقَدَّرُ الَّذِي فَرَضَهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِحَضْرَةِ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ إلَّا الْمَوَاشِي فَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ، وَنَقَلَ بَعْضٌ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّ عَلَيْهِمْ مَا أَرْضَاهُمْ عَلَيْهِ الْإِمَامُ مِنْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ، وَقَصَرْنَا الْكَلَامَ عَلَى الْعَنْوِيَّةِ الْمَأْخُوذَةِ مِمَّنْ فُتِحَتْ بَلَدُهُمْ قَهْرًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْجِزْيَةِ الصُّلْحِيَّةِ وَهِيَ الْمَأْخُوذَةُ مِمَّنْ مَنَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَحَفِظُوهَا وَطَلَبُوا الْإِقَامَةَ بِأَمَاكِنِهِمْ فَلَا تَحْدِيدَ فِيهَا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ مَا شَرَطُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَرَضِيَ بِهِ الْإِمَامُ أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ، إذْ لَهُ أَنْ لَا يَرْضَى وَيُقَاتِلَهُمْ، وَإِنْ أَطْلَقَ لَهُمْ الْإِمَامُ وَأَطْلَقُوا لَهُ وَلَمْ يُسَمُّوا قَدْرًا حِينَ الصُّلْحِ فَيَلْزَمُهُمْ مَا يَلْزَمُ الْعَنْوِيَّ. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هَلْ تُؤْخَذُ فِي أَوَّلِ الْعَامِ أَوْ آخِرِهِ؟ وَبَيَّنَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالظَّاهِرُ آخِرُهَا. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَالْبَاجِيُّ: لَا نَصَّ لِمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ وَالْمُدَوَّنَةِ أَنَّهَا تُؤْخَذُ بِآخِرِ الْعَامِ كَالزَّكَاةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا صِفَةَ أَخْذِهَا وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: مَعَ الْإِهَانَةِ عِنْدَ أَخْذِهَا، وَلِذَا لَا تَصِحُّ النِّيَابَةُ فِي دَفْعِهَا، وَيَنْبَغِي أَنْ يَبْسُطَ الْكَافِرُ كَفَّهُ بِهَا وَيَأْخُذُهَا الْمُسْلِمُ مِنْ كَفِّهِ لِتَكُونَ يَدُ الْمُسْلِمِ هِيَ الْعُلْيَا، وَالْقَدْرُ الْمَذْكُورُ إنْ يَجِبُ عَلَى الْغَنِيِّ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَيُخَفَّفُ عَنْ الْفَقِيرِ) : قَالَ خَلِيلٌ: وَنَقْصُ الْفَقِيرِ بِوُسْعِهِ وَلَا تُزَادُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى شَيْءٍ سَقَطَتْ عَنْهُ كَمَا تَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ صُلْحِيَّةً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 عُشْرُ ثَمَنِ مَا يَبِيعُونَهُ وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي السَّنَةِ مِرَارًا وَإِنْ حَمَلُوا الطَّعَامَ خَاصَّةً إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ خَاصَّةً أُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ الْحَرْبِيِّينَ الْعُشْرُ إلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي الرِّكَازِ وَهُوَ دِفْنُ الْجَاهِلِيَّةِ الْخُمُسُ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ.   [الفواكه الدواني] أَوْ عَنْوِيَّةً، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ ظَهَرَ مِنْهُ التَّحَيُّلُ بِالْإِسْلَامِ عَلَى إسْقَاطِ مَا كَانَ مُنْكَسِرًا وَهُوَ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَصَدَ بِتَرَهُّبِهِ فِي دَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ التَّحَيُّلَ عَلَى إسْقَاطِهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ الرَّاهِبَ بَاقٍ عَلَى كُفْرِهِ فِي الْجُمْلَةِ بِخِلَافِ مَنْ نَطَقَ بِالْإِسْلَامِ. (خَاتِمَةٌ) : يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ عِنْدَ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ بِلُبْسِ عَلَامَةٍ تُمَيِّزُهُمْ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَبِتَرْكِ رُكُوبِ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالسُّرُوجِ، وَإِنَّمَا يَرْكَبُونَ الْحَمِيرَ عَلَى نَحْوِ الْبَرْذعَةِ وَأَرْجُلِهِمْ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بِالْمَشْيِ فِي جَنْبِ الطَّرِيقِ وَبِالتَّأَدُّبِ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْنَا الذَّبُّ عَنْ أَذِيَّتِهِمْ لِعِصْمَتِهِمْ بِدَفْعِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ صَدَرَ مِنْهُمْ مَا يُنَافِي الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ عَزَّرَهُمْ الْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكُونَ نَاقِضًا لِعَهْدِهِمْ، كَقِتَالِهِمْ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْعِ الْجِزْيَةِ أَوْ إكْرَاهِ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ عَلَى الزِّنَا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ، وَيَجِبُ لَهَا مِنْ مَالِهِ الصَّدَاقُ وَوَلَدُهَا مِنْهُ عَلَى دِينِهَا لَا بِغَصْبِ أَمَةٍ مُسْلِمَةٍ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَلَا بِغَصْبِ حُرَّةٍ ذِمِّيَّةٍ وَخَرَجَ بِالْإِكْرَاهِ الطَّوْعُ فَلَيْسَ نَقْضًا عِنْدَ مَالِكٍ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ، قَالَ ذَلِكَ كُلَّهُ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عِصْمَتِهِمْ وَحُرْمَةِ التَّعَرُّضِ حَتَّى لِأَمْوَالِهِمْ عَدَمُ جَوَازِ أَخْذِ الْعُشْرِ مِنْهُمْ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) : يَجُوزُ أَنْ (يُؤْخَذَ مِمَّنْ تَجَرَ) : بِفَتْحِ الْجِيمِ فِي الْمَاضِي وَضَمِّهَا فِي الْمُضَارِعِ (مِنْهُمْ) : أَيْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ بَلْ بِمَعْنَى جَمِيعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا، صِغَارًا أَوْ كِبَارًا، أَحْرَارًا أَوْ عَبِيدًا. (مِنْ أُفُقٍ) : بِضَمِّ الْفَاءِ وَيَجُوزُ إسْكَانُهَا أَيْ إقْلِيمٍ (إلَى أُفُقٍ) : أَيْ إقْلِيمٍ آخَرَ، وَالْأَقَالِيمُ خَمْسَةٌ: مِصْرُ وَالشَّامُ وَالْعِرَاقُ وَبَرُّ الْأَنْدَلُسِ وَبَرُّ الْمَغْرِبِ، وَالِاعْتِبَارُ بِهَذَا لَا بِالسَّلَاطِينِ إذْ لَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ السُّلْطَانِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ عِنْدَ تَنَائِي الْأَقْطَارِ، وَأَمَّا الْأُفُقُ فِي بَابِ أَوْقَاتِ الصَّلَاةِ فَالْمُرَادُ بِهِ الْجَوُّ الَّذِي بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ. وَفِي بَابِ الْحَجِّ الْمُرَادُ بِهِ الْبَلَدُ، فَالْأُفُقُ لَهُ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ. (عُشْرُ ثَمَنِ مَا يَبِيعُونَهُ) : مِنْ غَيْرِ الطَّعَامِ أَوْ مِنْ الطَّعَامِ فِي غَيْرِ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِمَا مِنْ قُرَاهُمَا بِدَلِيلِ مَا يَأْتِي، وَسَوَاءٌ كَانَ مَا قَدِمُوا بِهِ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، فَإِذَا قَدِمُوا بِعَيْنٍ وَأَخَذُوا بَدَلَهَا عَرْضًا فَإِنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ الْعَرْضِ لَا عُشْرُ قِيمَتِهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَأَمَّا مَا يَشْتَرُونَهُ فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ قِيمَتِهِ لَا عُشْرُ ثَمَنِهِ. قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إجْمَالٌ، وَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ إقْلِيمِهِ وَيَبِيعَ فِي غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ حِينَ الشِّرَاءِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا بَاعَ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِهِ وَيَبِيعَ فِي إقْلِيمِهِ فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ فِي الشِّرَاءِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ إذَا بَاعَ، وَإِمَّا أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ غَيْرِ إقْلِيمِهِ وَيَبِيعَ فِي إقْلِيمٍ آخَرَ فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حِينَ الشِّرَاءِ وَحِينَ الْبَيْعِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُ ثَمَنِ مَا بَاعَ وَعُشْرُ قِيمَةِ مَا اشْتَرَى، بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا وَقَعَ كُلُّ وَاحِدٍ فِي إقْلِيمِهِ، فَهَذِهِ أَقْسَامٌ ثَلَاثَةٌ، وَبَقِيَ قِسْمَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا أَنْ يَتْجُرُ فِي إقْلِيمِهِ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ، وَهَذَا لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ فِي إقْلِيمِهِ، وَشَرْطُ أَخْذِ الْعُشْرِ مُرَكَّبٌ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا انْتِقَالُهُ مِنْ أُفُقٍ إلَى آخَرَ وَالثَّانِي انْتِفَاعُهُ إمَّا بِالْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ، ثَانِيهِمَا أَنْ يَتْجُرَ فِي غَيْرِ إقْلِيمِهِ مِنْ أَعْلَاهُ إلَى أَسْفَلِهِ، فَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْهُ مَرَّةً وَاحِدَةً حِينَ الشِّرَاءِ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهُ حِينَ الْبَيْعِ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ وَاشْتَرَى فِي إقْلِيمٍ وَاحِدٍ، وَلَوْ اشْتَرَى بِعَيْنٍ قَدِمَ بِهَا سَلَمًا فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ عُشْرُهَا. (تَنْبِيهٌ) : الدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ أَخْذِ الْعُشْرِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى» وَلِأَنَّهُ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَمَشَى عَلَيْهِ الْأَئِمَّةُ وَيُؤْخَذُ الْعُشْرُ. (وَإِنْ اخْتَلَفُوا) : أَيْ كَرَّرُوا التِّجَارَةَ (فِي السَّنَةِ مِرَارًا) : فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ عُشْرُ ثَمَنِ مَا بَاعُوهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً وَهُوَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عِنْدَ التَّكْرَارِ لِحُصُولِ النَّفْعِ لَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: عُشْرُ ثَمَنِ إلَخْ أَنَّ الْغَلَّاتِ الَّتِي تَحْصُلُ مِنْ كِرَاءِ الدَّوَابِّ الْمُعَدَّةِ لِلتِّجَارَةِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُهَا (وَإِنْ حَمَلُوا) : أَيْ أَهْلُ الذِّمَّةِ مُطْلَقًا (الطَّعَامَ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ خَاصَّةً) وَأُلْحِقَ بِهِمَا الْقُرَى الْمُتَّصِلَةُ بِهِمَا (أُخِذَ مِنْهُمْ نِصْفُ الْعُشْرِ مِنْ ثَمَنِهِ) لَا جَمِيعُ الْعُشْرِ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْجَلْبِ إلَيْهِمَا لِشِدَّةِ حَاجَةِ أَهْلِهِمَا إلَى الطَّعَامِ، وَمَفْهُومُ الطَّعَامِ أَنَّ غَيْرَهُ يُؤْخَذُ مِنْ ثَمَنِهِ جَمِيعُ الْعُشْرِ كَالْعَرْضِ وَالْبُنِّ. (تَنْبِيهٌ) : ظَهَرَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالطَّعَامِ جَمِيعُ الْمُقْتَاتِ أَوْ مَا يَجْرِي مَجْرَاهُ كَالْقَطَانِيِّ وَالْأَدْهَانِ خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ، وَمُقْتَضَى التَّعْيِينِ أَنَّ الْحَرْبِيِّينَ إذَا حَمَلُوا الطَّعَامَ إلَى هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ نِصْفُ عُشْرِ الثَّمَنِ [مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ] وَلَمَّا قَدَّمَ بَيَانَ مَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤْخَذُ مِنْ تُجَّارِ الْحَرْبِيِّينَ) : وَهُمْ الْقَادِمُونَ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ (الْعُشْرُ) : مِنْ نَفْسِ السِّلَعِ الَّتِي قَدِمُوا بِهَا لَمْ يَبِيعُوا. (إلَّا أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] أَيْ الْعُشْرِ فَإِنْ نَزَلُوا عَلَى أَنْ يَدْفَعُوا أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ فَيَجُوزُ أَخْذُهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا اتَّجَرَ إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَدَخَلَ عَلَى شَيْءٍ يُعْطِيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ الْعُشْرِ، وَلَا يَجُوزُ أَخْذُ زَائِدٍ عَلَيْهِ، وَعَنْ عَدَمِ تَعْيِينِ جُزْءٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ الْعُشْرُ إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْإِمَامُ اجْتِهَادَهُ إلَى أَخْذِ أَقَلَّ فَلْيَقْتَصِرْ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ النَّقْصَ وَالزِّيَادَةَ مَوْكُولَانِ إلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا حَدَّ لِمَأْخُوذٍ مِنْهُمْ سَوَاءً كَانَ قَبْلَ النُّزُولِ أَوْ بَعْدَهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ الثَّمَنِ إذَا اشْتَرَوْا مِنْ أُفُقٍ وَبَاعُوا فِي أُفُقٍ آخَرَ، وَأَمَّا الْحَرْبِيُّونَ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَبِيعُوا فِي بَلَدٍ وَاحِدٍ أَوْ فِي جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، إنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ الْأَعْيَانِ لَا بِشَرْطِ أَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ، إلَّا فِي الطَّعَامِ الْمَحْمُولِ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَكَأَهْلِ الذِّمَّةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ بِلَادَ الْإِسْلَامِ كَالْبَلَدِ الْوَاحِدِ بِالنِّسْبَةِ لِأَهْلِ الْحَرْبِ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَا يَكْمُلُ النَّفْعُ لَهُمْ إلَّا بِالِانْتِقَالِ مِنْ أُفُقٍ إلَى آخَرَ وَبَاعُوا بِالْفِعْلِ. (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مِمَّا يَتَعَلَّقُ عَلَى الْحَرْبِ إلَّا حُكْمَ مَا قَدِمُوا بِهِ مِنْ السِّلَعِ الَّتِي يَحِلُّ لِلْمُسْلِمِينَ تَمَلُّكُهَا لَوْلَا الْأَمَانُ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ الْعَيْنِ الَّتِي قَدِمُوا بِهَا إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِيَشْتَرُوا بِهَا، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ الْقِيمَةِ، وَقَيَّدْنَا بِاَلَّتِي يَحِلُّ تَمَلُّكُهَا إلَخْ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ شَرْعًا كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ إذَا كَانَ هُنَاكَ أَهْلُ ذِمَّةٍ يَشْتَرُونَهُ مِنْهُمْ فَإِنَّهُمْ يُتْرَكُونَ وَيُمَكَّنُونَ مِنْ الدُّخُولِ بِهِ وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ عُشْرُ الثَّمَنِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَنْ يَشْتَرِيهِ بِهِ فِي بَلَدِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَإِنَّهُمْ يُرَدُّونَ بِهِ وَلَا يُمَكَّنُونَ مِنْ الدُّخُولِ بِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا يُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْحَرْبِيِّينَ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَقَدْ قَامَ الْإِجْمَاعُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهُمْ لِخَبَرِ: «إنَّمَا الْعُشُورُ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَلَيْسَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ عُشُورٌ» وَحِينَئِذٍ فَمَا يُؤْخَذُ فِي زَمَانِنَا مِنْهُمْ عِنْدَ نُزُولِ قَوَافِلِ الْبُنِّ أَوْ الْقُمَاشِ فَهُوَ مِنْ الْمُنْكَرَاتِ الْمُجْمَعِ عَلَى تَحْرِيمِهَا، فَإِنْ كَانَ مَعَ اسْتِحْلَالِ الْأَخْذِ فَكُفْرٌ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِحُرْمَتِهِ فَهُوَ عِصْيَانٌ يَسْتَحِقُّ آخِذُهُ التَّعْزِيرَ بَعْدَ الرُّجُوعِ بِعَيْنِهِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ قِيمَتِهِ كَالْغَاصِبِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ زِيَادَةً عَلَى مَا تَرْجَمَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَفِي الرِّكَازِ وَهُوَ) : لُغَةً مَا يُوضَعُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْ الْمَعْدِنِ مِنْ الْقِطَعِ الْخَالِصَةِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ وَاصْطِلَاحًا (دِفْنُ) : بِكَسْرِ الدَّالِ بِمَعْنَى مَدْفُونٍ (الْجَاهِلِيَّةُ) : خَاصَّةً بِخِلَافِ الْكَنْزِ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ وَدِفْنِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَقِيلَ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ، وَقِيلَ الْجَاهِلِيَّةُ أَهْلُ الْفَتْرَةِ وَمَنْ لَا كِتَابَ لَهُمْ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَلَا يُقَالُ لَهُمْ جَاهِلِيَّةٌ، وَهَذَا الثَّانِي كَلَامُ أَبِي الْحَسَنِ شَارِحِ الْمُدَوَّنَةِ. (الْخُمُسُ عَلَى مَنْ أَصَابَهُ) : أَيْ وَجَدَهُ حُرًّا كَانَ أَوْ عَبْدًا، مُسْلِمًا كَانَ أَوْ كَافِرًا، غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا أَوْ مَدِينًا، سَوَاءً كَانَ نِصَابًا أَوْ لَا، سَوَاءً عَيْنًا أَوْ عَرْضًا، فَالنُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ وَالْحَدِيدُ وَالرُّخَامُ يُسَمَّى رِكَازًا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ دَفْنَ جَاهِلِيٍّ أَوْ شَكٍّ فِيهِ لِعَدَمِ عَلَامَةٍ تَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْمَوْجُودِ فِي الْأَرْضِ كَوْنُهُ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَيْسَ حُكْمُهُ لِلْإِمَامِ كَالْمَعْدِنِ بَلْ الْبَاقِي بَعْدَ إخْرَاجِ خُمُسِهِ لِوَاجِدِهِ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا حَيْثُ وَجَدَهُ فِي أَرْضٍ لَا مَالِكَ لَهَا، كَمَوَاتِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ أَوْ فَيَافِي الْعَرَبِ الَّتِي لَمْ تُفْتَحْ عَنْوَةً وَلَا أَسْلَمَ عَلَيْهَا أَهْلُهَا، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ فَيَكُونُ مَا فِيهِ لِمَالِكِ الْأَرْضِ وَلَوْ جَيْشًا، وَتَعْبِيرُهُ بِدِفْنِ يُوهِمُ أَنَّ مَا وَجَدَهُ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ عَلَامَةُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ لَيْسَ مِنْ الرِّكَازِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هُوَ مِنْهُ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: وَفِي مَالِ الْجَاهِلِيِّ الْخُمُسُ لِشَمْلِ الْمَدْفُونِ وَغَيْرِهِ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: مَا وُجِدَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ مِنْ مَالِ جَاهِلِيٍّ أَوْ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ مِنْ تَصَاوِيرِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِوَاجِدِهِ يُخَمَّسُ، وَأَمَّا مَا وَجَدَهُ وَعَلَيْهِ عَلَامَةُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَهُوَ لُقَطَةٌ سَوَاءٌ وُجِدَ مَدْفُونًا أَوْ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ يَجِبُ عَلَى وَاجِدِهِ تَعْرِيفُهُ سَنَةً، وَإِنَّمَا كَانَ مَالَ الذِّمِّيّ كَالْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَرَمٌ بِحُرْمَةِ الْإِسْلَامِ لِدُخُولِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْمُسْلِمِينَ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ يَأْخُذُ الْخُمُسَ، وَاَلَّذِي يَأْخُذُهُ الْإِمَامُ الْعَدْلُ يَصْرِفُهُ فِيهِ مَصَارِفِهِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الْإِمَامُ الْعَدْلُ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى وَاجِدِهِ التَّصَدُّقُ بِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ. 1 - الثَّانِي: مَحَلُّ تَخْمِيسِهِ مَا لَمْ يَحْتَجْ لِنَفَقَةٍ كَثِيرَةٍ وَإِلَّا فَيُزَكَّى. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي نَدْرَةِ الْمَعْدِنِ الْخُمُسُ كَالرِّكَازِ وَهُوَ دِفْنٌ جَاهِلِيٌّ، وَإِنْ يَشُكُّ أَوْ قَلَّ أَوْ وَجَدَهُ عَبْدٌ أَوْ كَافِرٌ إلَّا كَبِيرَ نَفَقَةٍ أَوْ عَمِلَ فِي تَخْلِيصِهِ فَالزَّكَاةُ لِقَوْلِ مَالِكٍ: الْأَمْرُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ عِنْدَنَا وَاَلَّذِي سَمِعْته مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إنَّ الرِّكَازَ إنَّمَا هُوَ دِفْنٌ يُوجَدُ مِنْ دِفْنِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا لَمْ يُطْلَبْ بِمَالٍ، وَأَمَّا مَا طُلِبَ بِمَالٍ وَتَكَلَّفَ كَثِيرًا فَلَيْسَ بِرِكَازٍ، وَإِنَّمَا فِيهِ الزَّكَاةُ بَعْدَ وُجُودِ شُرُوطِ الزَّكَاةِ حَيْثُ اسْتَأْجَرَ عَلَى الْعَمَلِ لَا إنْ عَمِلَ بِنَفْسِهِ أَوْ عَبِيدُهُ فَلَا يَخْرُجُ عَنْ الرِّكَازِ: الثَّالِثُ: يُسْتَثْنَى مِنْ الرِّكَازِ الَّذِي يُخَمَّسُ مَا وُجِدَ مَدْفُونًا فِي أَرْضِ الصُّلْحِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ دَفْنِهِمْ أَوْ مِنْ دَفْنِ غَيْرِهِمْ، فَهَذَا لَا يُخَمَّسُ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا يَكُونُ لِوَاجِدِهِ وَإِنَّمَا هُوَ لِأَهْلِ الصُّلْحِ جَمِيعًا، إلَّا أَنْ يَجِدَهُ رَبُّ دَارٍ مِنْهُمْ بِهَا فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ فَهُوَ لَهُمْ: 1 - الرَّابِعُ: مَا طَرَحَهُ الْبَحْرُ فِي جَوَانِبِهِ مِنْ نَحْوِ اللُّؤْلُؤِ وَالْجَوَاهِرِ وَكُلِّ نَفِيسٍ مِمَّا لَمْ يُوجَدْ عَلَيْهِ عَلَامَةُ مُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِوَاجِدِهِ بِلَا تَخْمِيسٍ. قَالَ خَلِيلٌ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَمَا لَفَظَهُ الْبَحْرُ كَعَنْبَرٍ فَلِوَاجِدِهِ بِلَا تَخْمِيسٍ، فَلَوْ رَآهُ جَمَاعَةٌ فَهُوَ لِمَنْ بَادَرَ إلَيْهِ، كَالصَّيْدِ يَمْلِكُهُ الْمُبَادِرُ لَهُ وَلَوْ رَآهُ غَيْرُهُ قَبْلَهُ، وَأَمَّا مَا يَتْرُكُهُ صَاحِبُهُ بِالْبَرِّ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ ثُمَّ يَأْخُذُهُ آخَرُ فَأَشَارَ ابْنُ عَرَفَةَ إلَى حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: سَمَحَ ابْنُ الْقَاسِمِ لِمَنْ أَسْلَمَ دَابَّةً فِي سَفَرٍ آيِسًا مِنْهَا أَخَذَهَا مِمَّنْ أَخَذَهَا وَأَنْفَقَ عَلَيْهَا وَعَاشَتْ وَعَلَى رَبِّهَا دَفْعُ كُلْفَةِ الَّذِي أَخَذَهَا كَأُجْرَةِ قِيَامِهِ عَلَيْهَا إنْ قَامَ عَلَيْهَا كَرَبِّهَا، وَلِابْنِ رُشْدٍ كَلَامٌ تَرَكْنَاهُ خَوْفَ الْإِطَالَةِ، وَسَمَحَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا لِمَنْ طَرَحَ مَتَاعَهُ خَوْفَ غَرَقِهِ أَخْذَهُ مِمَّنْ غَاصَ عَلَيْهِ وَحَمَلَهُ يَغْرَمُ أَجْرَهُمَا، وَأَجْرَى فِيهَا أَيْضًا ابْنُ رُشْدٍ خِلَافًا كَالسَّابِقَةِ، وَلِسَحْنُونٍ: مَنْ أَخْرَجَ ثَوْبًا مِنْ جُبٍّ وَأَبَى مِنْ رَدِّهِ إلَى رَبِّهِ وَطَرَحَهُ فِي الْجُبِّ فَطَلَبَهُ رَبُّهُ فَلَمْ يَجِدْهُ فَعَلَيْهِ إخْرَاجُهُ ثَانِيًا وَإِلَّا ضَمِنَهُ، مُحَمَّدٌ: إنْ أَخْرَجَهُ فَلَهُ أَجْرُهُ إنْ كَانَ رَبُّهُ لَا يَصِلُ إلَيْهِ إلَّا بِأَجْرٍ، وَسَمَحَ ابْنُ الْقَاسِمِ أَيْضًا لِمَنْ أَسْلَمَ مَتَاعَهُ بِفَلَاةٍ لِمَوْتِ رَاحِلَتِهِ أَخَذَهُ مِمَّنْ احْتَمَلَهُ بِغُرْمِ أَجْرِهِ، وَلِابْنِ رُشْدٍ فِيهَا كَلَامٌ سِوَى هَذَا، وَإِنَّمَا ذَكَرْنَا تِلْكَ الْمَسَائِلَ لِعِزَّةِ وُجُودِهَا فِي صِغَارِ الْكُتُبِ [بَاب فِي زَكَاة الْمَاشِيَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا كَانَ الْأَوْلَى تَأْخِيرُهُ لِزِيَادَتِهِ عَلَى التَّرْجَمَةِ وَعَدَمِ مُنَاسَبَتِهِ لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَاقِي مَا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 بَابٌ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ وَزَكَاةُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ فَرِيضَةٌ وَلَا زَكَاةَ مِنْ الْإِبِلِ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ ذَوْدٍ وَهِيَ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ فَفِيهَا شَاةٌ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنْ جُلِّ غَنَمِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ إلَى تِسْعٍ ثُمَّ فِي الْعَشْرِ شَاتَانِ إلَى أَرْبَعَةَ عَشَرَ ثُمَّ فِي خَمْسَةَ عَشَرَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى تِسْعَةَ عَشَرَ فَإِذَا كَانَتْ عِشْرِينَ فَأَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ ثُمَّ فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) : بَيَانِ (زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ) : وَقَدْرُ النِّصَابِ وَهِيَ فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ لَا تُطْلَقُ إلَّا عَلَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ وَهِيَ الَّتِي تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، فَلَا تَجِبُ فِي خَيْلٍ وَبِغَالٍ وَحَمِيرٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا لِوُجُودِ كَمَالِ النَّمَاءِ فِيهَا مِنْ لَبَنٍ وَصَفّ وَنَسْلٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ، بِخِلَافِ غَيْرِهَا مِنْ بَقِيَّةِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ، وَكَرَّرَ بَيَانَ الْحُكْمِ بِقَوْلِهِ: (وَزَكَاةُ) : مُبْتَدَأٌ أَيْ تَزْكِيَةُ (الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالْغَنَمِ) وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِالْمَاشِيَةِ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (فَرِيضَةٌ) : بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَا فَرْقَ عِنْدَ مَالِكٍ بَيْنَ الْمَعْلُوفَةِ وَالسَّائِمَةِ وَلَا بَيْنَ الْعَامِلَةِ وَالْمُهْمَلَةِ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ، دَلِيلُنَا عُمُومُ مَنْطُوقِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةٍ شَاةٌ وَفِي أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْإِبِلِ فَدُونَهَا الْغَنَمُ فِي كُلِّ خَمْسٍ شَاةٌ» وَهُوَ مُقَدَّمٌ عَلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي سَائِمَةِ الْغَنَمِ الزَّكَاةُ» قِيَامُ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَقْدِيمِ الْمَنْطُوقِ عَلَى الْمَفْهُومِ فِي بَابِ الِاحْتِجَاجِ، وَالْجَوَابُ عَلَى تَقْدِيرِ حُجِّيَّةِ الْمَفْهُومِ أَنَّ التَّقْيِيدَ بِالسَّائِمَةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الْغَالِبِ لَا لِلِاحْتِرَازِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِي الْأَنْعَامِ فِي أَرْضِ الْحِجَازِ السَّوْمُ وَالتَّقْيِيدُ إذَا كَانَ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ لَا يَكُونُ حُجَّةً بِالْإِجْمَاعِ وَبَدَأَ الْكَلَامَ عَلَى بَيَانِ فُرُوضِ أَنْصِبَةِ الْإِبِل اقْتِدَاءً بِالْحَدِيثِ إذْ فَعَلَ ذَلِكَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي كِتَابِ الصَّدَقَةِ الْمَكْتُوبِ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ، وَفُرُوضُ زَكَاتِهَا إحْدَى عَشْرَ فَرِيضَةً: أَرْبَعَةٌ مِنْهَا الْمَأْخُوذُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا وَيُسَمَّى الْمُزَكَّى بِهَا شَنَقًا بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالنُّونِ، وَسَبْعَةٌ الزَّكَاةُ فِيهَا مِنْ جِنْسِهَا، وَبَدَأَ بِالْأُولَى وَهِيَ الْأَرْبَعَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْإِبِلِ فِي أَقَلَّ مِنْ خَمْسِ ذَوْدٍ) : الرِّوَايَةُ الْمَشْهُورَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ إضَافَةُ خَمْسٍ إلَى ذَوْدٍ فَهُوَ مِنْ إضَافَةِ الْعَدَدِ إلَى الْمَعْدُودِ كَقَوْلِهِمْ: خَمْسَةُ أَبْعِرَةٍ وَخَمْسُ جَمَالٍ نُوقٍ، وَرُوِيَ بِتَنْوِينِ خَمْسٍ وَذَوْدٌ بَدَلٌ مِنْهُ، وَالذَّوْدُ بِدَالٍ مُعْجَمَةٍ وَدَالٍ مُهْمَلَةٍ. قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الذَّوْدُ مِنْ ثَلَاثٍ إلَى عَشْرَةٍ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: تَقُولُ ثَلَاثُ ذَوْدٍ بِحَذْفِ التَّاءِ مِنْ ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الذَّوْدَ مُؤَنَّثٌ وَلَا مُفْرَدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ كَرَهْطٍ وَقَوْمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ» أَيْ زَكَاةٌ فَمَا فِي الْمُصَنِّفِ حَدِيثٌ مَعَ تَغْيِيرٍ لِبَعْضِ أَلْفَاظِهِ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، ثُمَّ فَسَّرَ الذَّوْدَ بِقَوْلِهِ: (وَهِيَ) : أَيْ الذَّوْدُ (خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) : فَإِذَا بَلَغَتْ هَذَا الْعَدَدَ. (فَفِيهَا شَاةٌ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ) : وَهُمَا مَا أَوْفَى سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ دُخُولًا بَيِّنًا، وَالتَّاءُ فِيهِمَا لِلْوَحْدَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْإِجْزَاءِ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَتُؤْخَذُ (مِنْ جُلِّ غَنَمِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مِنْ ضَأْنٍ أَوْ مَعْزٍ) : فَإِنْ كَانَ جُلُّهَا الْمَعْزَ أُخِذَ مِنْهَا شَاةٌ وَلَا نَظَرَ إلَى غَنَمِ الْمَالِكِ، فَإِنْ تَطَوَّعَ وَأَخْرَجَ ضَائِنَةً فَتُجْزِي؛ لِأَنَّ الضَّائِنَةَ أَفْضَلُ،؛ لِأَنَّ الضَّابِطَ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّهُ إنْ أَخْرَجَ غَيْرَ مَا طُلِبَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَهُ أَحَظُّ لِلْفُقَرَاءِ أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا، وَيَسْتَمِرُّ أَخْذُ الشَّاةِ (إلَى تِسْعٍ) : إلَّا أَنَّ الْخَمْسَ هِيَ النِّصَابُ وَالْأَرْبَعَ وَقَصٌ. (ثُمَّ) : إنْ زَادَتْ عَلَى التِّسْعِ (فِي الْعَشْرِ شَاتَانِ) : وَيَسْتَمِرُّ أَخْذُهَا (إلَى) : أَنْ تَبْلُغَ (أَرْبَعَ عَشْرَةَ ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً وَجَبَ عَلَيْهِ (فِي خَمْسَ عَشْرَةَ ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى تِسْعَ عَشْرَةَ فَإِذَا كَانَتْ) : أَيْ صَارَتْ (عِشْرِينَ فَأَرْبَعُ شِيَاهٍ إلَى أَرْبَعً وَعِشْرِينَ) : فَالْوَقْصُ فِي هَذِهِ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا أَرْبَعٌ وَلَيْسَ فِيهَا إلَّا الْغَنَمُ بِالْإِجْمَاعِ، وَكَانَ الْأَصْلُ الْإِخْرَاجَ مِنْهَا لَكِنَّ الشَّارِعَ خَفَّفَ عَنْ الْمَالِكِ رِفْقًا بِهِ، فَإِذَا شَدَّدَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَخْرَجَ مِنْهَا فَالْأَصَحُّ إجْزَاءُ الْبَعِيرِ عَنْ الشَّاةِ الْوَاحِدَةِ حَيْثُ سَاوَتْ قِيمَتُهُ قِيمَةَ الشَّاةِ، فَإِذَا زَادَتْ الْإِبِلُ بِحَيْثُ زَادَتْ عَلَى الْأَرْبَعِ وَالْعِشْرِينَ زُكِّيَتْ مِنْ جِنْسِهَا؛ لِأَنَّهُ كُلَّمَا عَظُمَتْ النِّعَمُ وَزَادَ الْمَالُ يَنْبَغِي الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ الْوَاجِبِ تَعْظِيمًا لِشُكْرِ الْمُنْعِمِ، وَذَلِكَ فِي سَبْعِ فَرَائِضَ تُزَكَّى مِنْ جِنْسِهَا أَشَارَ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ الْإِبِلُ عَلَى أَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 وَهِيَ بِنْتُ سَنَتَيْنِ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ فِيهَا فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ ثُمَّ فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثِ سِنِينَ إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ ثُمَّ فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ عَلَى ظَهْرِهَا الْحَمْلُ وَيَطْرُقُهَا الْفَحْلُ وَهِيَ بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ إلَى سِتِّينَ ثُمَّ فِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ بِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ إلَى خَمْسٍ وَسَبْعِينَ ثُمَّ فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ إلَى تِسْعِينَ ثُمَّ فِي إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَلَا زَكَاةَ مِنْ الْبَقَرِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا تَبِيعٌ عِجْلٌ جَذَعٌ قَدْ أَوْفَى سَنَتَيْنِ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] يَكُونُ الْوَاجِبُ (فِي خَمْسٍ وَعِشْرِينَ بِنْتُ مَخَاضٍ) : وَهِيَ الَّتِي حَمَلَتْ أُمُّهَا بَعْدَهَا. (وَ) : لِذَا بَيَّنَ سِنَّهَا بِقَوْلِهِ: (هِيَ بِنْتُ سَنَتَيْنِ) : أَيْ وَفَتْ سَنَةً وَدَخَلَتْ فِي الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّ عَادَةَ النَّاقَةِ تُرَبِّي وَلَدَهَا سَنَةً وَتَحْمِلُ فِي الثَّانِيَةِ وَحِينَ حَمْلِهَا يَكُونُ الْجَنِينُ كَمَخْضٍ بِبَطْنِهَا فَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْمُخْرَجَةُ بِنْتَ مَخَاضٍ، وَتُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ سَلِيمَةً مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فِي الضَّحِيَّةِ. (فَإِنْ لَمْ تَكُنْ) : أَيْ تُوجَدْ بِنْتُ مَخَاضٍ (فِيهَا) : أَيْ الْخَمْسِ وَالْعِشْرِينَ أَوْ وُجِدَتْ لَكِنْ مَعِيبَةً (فَابْنُ لَبُونٍ ذَكَرٌ) : يُؤْخَذُ عِوَضًا عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُ تَعَيَّنَتْ بِنْتُ الْمَخَاضِ أَحَبَّ أَوْ كَرِهَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، فَجَعَلَ حُكْمَ عَدَمِ الصِّنْفَيْنِ كَحُكْمِ وُجُودِهِمَا، فَإِنْ أَتَاهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِابْنِ لَبُونٍ ذَكَرٍ فَذَلِكَ إلَى السَّاعِي إنْ رَأَى أَخْذَهُ نَظَرًا جَازَ وَإِلَّا لَزِمَهُ بِنْتُ مَخَاضٍ، فَلَوْ لَمْ يُلْزِمْ السَّاعِي صَاحِبَ الْإِبِلِ بِنْتَ مَخَاضٍ حَتَّى أَتَاهُ بِابْنِ اللَّبُونِ أُجْبِرَ عَلَى قَبُولِهِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَ مَوْجُودًا فِيهَا ابْتِدَاءً وَيَسْتَمِرُّ أَخْذُهَا (إلَى خَمْسٍ وَثَلَاثِينَ) :؛ لِأَنَّ الْوَقْصَ فِي هَذِهِ الْفَرِيضَةِ عَشْرَةٌ. (ثُمَّ) : إنْ زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ (فِي سِتٍّ وَثَلَاثِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثِ سِنِينَ) : أَيْ أَتَمَّتْ سَنَتَيْنِ وَدَخَلَتْ فِي الثَّالِثَةِ وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ أُمَّهَا ذَاتَ لَبَنٍ، فَلَوْ لَمْ تُوجَدْ عِنْدَهُ أَوْ وُجِدَتْ مَعِيبَةً لَمْ يُؤْخَذْ عَنْهَا حِقٌّ بِخِلَافِ ابْنِ اللَّبُونِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُؤْخَذُ عَنْ بِنْتِ الْمَخَاضِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَالْفَرْقُ أَنَّ ابْنَ اللَّبُونِ يَمْتَنِعُ مِنْ صِغَارِ السِّبَاعِ وَيَرِدُ الْمَاءَ وَيَرْعَى الشَّجَرَ، فَعَادَلَتْ هَذِهِ الْفَضِيلَةُ فَضِيلَةَ أُنُوثَةِ بِنْتِ الْمَخَاضِ، وَالْحِقُّ لَا يَخْتَصُّ بِمَنْفَعَةٍ وَغَايَةُ أَخْذِ ابْنِ اللَّبُونِ (إلَى خَمْسٍ وَأَرْبَعِينَ) :؛ لِأَنَّ الْوَقْصَ هُنَا تِسْعٌ (ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ عَلَى ذَلِكَ فَعَلَيْهِ (فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ حِقَّةٌ) : بِكَسْرِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ (وَهِيَ الَّتِي يَصْلُحُ عَلَى ظَهْرِهَا الْحَمْلُ) : أَيْ اسْتَحَقَّتْ أَنْ تُرْكَبَ وَيُحْمَلَ عَلَيْهَا (وَيَطْرُقُهَا الْفَحْلُ) : فَلَوْ دَفَعَ عَنْهَا بِنْتَيْ لَبُونٍ لَمْ يُجْزِئَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ عَادَلَتْ قِيمَتُهَا قِيمَةَ الْحِقَّةِ (وَهِيَ) : أَيْ الْحِقَّةُ (بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ) : الْمُرَادُ أَتَمَّتْ ثَلَاثَةً وَدَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَيَسْتَمِرُّ يَدْفَعُهَا (إلَى) تَمَامِ (سِتِّينَ) :؛ لِأَنَّ الْوَقْصَ هُنَا أَرْبَعَ عَشْرَةَ. (ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً عَلَى السِّتِّينَ فَعَلَيْهِ (فِي إحْدَى وَسِتِّينَ جَذَعَةٌ وَهِيَ بِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ) : الْمُرَادُ دَخَلَتْ فِي الْخَامِسَةِ سُمِّيَتْ جَذَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا تَجْذَعُ أَيْ تَسْقُطُ سِنُّهَا وَيَنْبُتُ غَيْرُهَا وَهِيَ آخِرُ الْأَسْنَانِ الَّتِي تُؤْخَذُ فِي الزَّكَاةِ مِنْ الْإِبِلِ وَغَايَةُ أَخْذِهَا (إلَى) : تَمَامِ (خَمْسٍ وَسَبْعِينَ) :؛ لِأَنَّ الْوَقْصَ فِي هَذِهِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ كَاَلَّتِي قَبْلَهَا (ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ عَلَى الْخَمْسِ وَسَبْعِينَ فَعَلَيْهِ (فِي سِتٍّ وَسَبْعِينَ بِنْتَا لَبُونٍ) : يَسْتَمِرُّ أَحَدُهُمَا (إلَى) : تَمَامِ (تِسْعِينَ) لِأَنَّ الْوَقْصَ فِي ذَلِكَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ أَيْضًا (ثُمَّ) : إذَا زَادَتْ وَاحِدَةً فَعَلَيْهِ (فِي إحْدَى وَتِسْعِينَ حِقَّتَانِ) : وَغَايَةُ أَخْذِهِمَا (إلَى) : تَمَامِ (عِشْرِينَ وَمِائَةٍ) : فَالْوَقْصُ فِي هَذِهِ تِسْعٌ وَعِشْرُونَ (فَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ) : أَيْ الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَلَوْ وَاحِدَةً عَلَى مَا هُوَ ظَاهِرُ لَفْظِهِ. (فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ) : وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ يَتَغَيَّرُ بِمُطْلَقِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَلَوْ وَاحِدَةً هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، فَيَجِبُ عِنْدَهُ فِي الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ إلَى تِسْعٍ وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ غَيْرِ تَجْبِيرٍ لِلسَّاعِي، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ مَالِكٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ فِي الْمُقَدِّمَاتِ أَنَّ الزِّيَادَةَ الَّتِي يَتَغَيَّرُ بِهَا الْوَاجِبُ هِيَ زِيَادَةُ الْعَشْرَاتِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ، وَأَمَّا زِيَادَةُ أَقَلَّ مِنْ عَشْرَةٍ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ فَالسَّاعِي بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ حِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَفِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ إلَى تِسْعٍ حِقَّتَانِ أَوْ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ الْخِيَارُ لِلسَّاعِي إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ فِي كُلِّ عَشْرٍ يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ فَيَتَغَيَّرُ فِي مِائَةٍ وَثَلَاثِينَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي قَالَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ مُخَالِفًا لِشَيْخِهِ أَنَّ فِي الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ إلَى تِسْعٍ وَثَلَاثِينَ ثَلَاثَ بَنَاتِ لَبُونٍ مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ شِهَابٍ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَبِهِ أَقُولُ، وَاَلَّذِي قَالَهُ مَالِكٌ وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ أَنَّ فِي الْمِائَةِ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ، إلَى تِسْعٍ الْخِيَارَ لِلسَّاعِي فِي أَخْذِ حِقَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ الْأَرْبَعِ الَّتِي أَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِيهَا بِغَيْرِ قَوْلِ الْإِمَامِ، وَبَاقِيهَا فِي التَّتَّائِيِّ فِي شَرْحِ هَذَا الْكِتَابِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ أَوْجَبَ فِي الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ حِقَّتَيْنِ: «فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ بِنْتُ لَبُونٍ» هَلْ هُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مُطْلَقِ الزِّيَادَةِ؟ فَيَتَغَيَّرُ الْفَرْضُ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمِائَةِ وَالْعِشْرِينَ وَلَوْ بِزِيَادَةِ الْوَاحِدَةِ فَيُؤْخَذُ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ تَبَعًا لِابْنِ شِهَابٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 كَذَلِكَ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ فَيَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ وَلَا تُؤْخَذُ إلَّا أُنْثَى وَهِيَ بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ وَهِيَ ثَنِيَّةٌ فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ وَلَا زَكَاةَ فِي الْغَنَمِ حَتَّى تَبْلُغَ أَرْبَعِينَ شَاةً فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا شَاةٌ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا شَاتَانِ إلَى مِائَتَيْ شَاةٍ فَإِذَا زَادَتْ وَاحِدَةٌ فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ وَلَا زَكَاةَ فِي الْأَوْقَاصِ وَهِيَ مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ وَيُجْمَعُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ فِي   [الفواكه الدواني] مِنْ غَيْرِ تَخْيِيرٍ لِلسَّاعِي أَوْ زِيَادَةِ الْعَشْرَاتِ وَهُوَ مَا رَوَاهُ أَشْهَبُ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ عَنْ مَالِكٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ الْفَرْضُ حَتَّى تَصِيرَ مِائَةً وَثَلَاثِينَ فَالْوَاجِبُ حِقَّةٌ وَبِنْتَا لَبُونٍ الْحِقَّةُ فِي خَمْسِينَ وَبِنْتَا لَبُونٍ فِي الثَّمَانِينَ، ثُمَّ إذَا زَادَتْ عَشْرًا بَدَّلَ بِنْتَ اللَّبُونِ بِحِقَّةٍ، فَإِذَا صَارَ جَمِيعُ الْوَاجِبِ حِقَاقًا بِأَنْ بَلَغَتْ مِائَةً وَخَمْسِينَ ثُمَّ زَادَتْ عَشْرَةً بَدَّلَ الْحِقَاقَ بِبَنَاتِ لَبُونٍ وَزَادَ وَاحِدَةً مِنْ بَنَاتِ اللَّبُونِ، ثُمَّ إذَا زَادَتْ عَشْرَةً بَدَّلَ بِنْتَ لَبُونٍ بِحَقَّةٍ ثُمَّ كَذَلِكَ، فَفِي الْمِائَةِ وَالْأَرْبَعِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرًا فَثَلَاثُ حِقَاقٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَأَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ ثُمَّ كَذَلِكَ، ثُمَّ لَا يُعْمَلُ بِهَذَا الضَّابِطِ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي مِائَتَيْنِ وَخَمْسِينَ خَمْسُ حِقَاقٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَلَوْ عَلِمْنَا بِهِ لَزِمَ وُجُوبُ سِتِّ بَنَاتِ لَبُونٍ وَقَدْ عَلِمْت وُجُوبَهَا فِي مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعَةٍ، وَفِي مِائَتَيْنِ مِنْ الْإِبِلِ الْخِيَارُ لِلسَّاعِي بَيْنَ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ، هَذَا إنْ وُجِدَ السِّنَّانِ أَوْ فُقِدَا، فَإِنْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا وَفُقِدَ الْآخَرُ خُيِّرَ رَبُّ الْمَالِ بَيْنَ دَفْعِ الْمَوْجُودِ وَيَتَعَيَّنُ عَلَى السَّاعِي أَخْذُهُ، وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ وَيَشْتَرِيَ السِّنَّ الْوَاجِبَ فَلَا حَظْرَ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ الْإِبِلِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ الْبَقَرِ وَنُصِبُهَا ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ وَأَرْبَعُونَ وَمَا زَادَ، وَاَلَّذِي يُزَكَّى بِهِ شَيْئَانِ مِنْ نَوْعِهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّةٌ، وَبَدَأَ بِأَقَلِّ النُّصُبِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْبَقَرِ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِينَ) : بَقَرَةً بَلْ لَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِ الثَّلَاثِينَ. (فَإِذَا بَلَغَتْهَا) : وَصَارَتْ ثَلَاثِينَ (فَفِيهَا تَبِيعٌ) : بِمُثَنَّاةٍ فَوْقِيَّةٍ بَعْدَهَا بَاءٌ مُوَحَّدَةٌ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَتْبَعُ أُمَّهُ أَوْ لِتَبَعِيَّةِ قَرْنَيْهِ أُذُنَيْهِ وَالتَّبِيعُ (عِجْلٌ جَذَعٌ) : أَيْ ذَكَرٌ فَلَا تُجْزِئُ الْأُنْثَى (قَدْ أَوْفَى سَنَتَيْنِ) : عَلَى الصَّحِيحِ خِلَافًا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ فِي قَوْلِهِ: أَنَّهُ مَا أَوْفَى سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ (ثُمَّ كَذَلِكَ) : يُؤْخَذُ التَّبِيعُ (حَتَّى تَبْلُغَ) : أَيْ تَكْمُلَ بَقَرُ الْمُزَكَّى (أَرْبَعِينَ) : فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ صَارَ نِصَابًا آخَرَ (فَيَكُونُ فِيهَا مُسِنَّةٌ) : وَالْوَقْصُ هُنَا تِسْعَةٌ (وَلَا تُؤْخَذُ إلَّا أُنْثَى) : خِلَافًا لِابْنِ حَبِيبٍ فِي تَجْوِيزِهِ أَخْذَ الذَّكَرِ، وَالْأَوَّلُ لِمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمَا - (وَ) : الْمُسِنَّةُ (هِيَ بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ) : أَيْ دَخَلَتْ فِي الرَّابِعَةِ وَلَيْسَ الْمُرَادُ وَقْتَهَا وَلِذَا غَايَرَ فِي التَّعْبِيرِ (وَهِيَ ثَنِيَّةٌ) : أَيْ تُسَمَّى بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا زَالَتْ ثَنَايَاهَا. (فَمَا زَادَ) : عَلَى أَرْبَعِينَ يَتَغَيَّرُ الْوَاجِبُ (فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ) : فِيمَا يُمْكِنُ فِيهِ ذَلِكَ وَذَلِكَ نَحْوُ سَبْعِينَ فَإِنَّ فِيهَا مُسِنَّةً وَتَبِيعًا، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَفِيهَا مُسِنَّتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَفِيهَا تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً فَفِيهَا تَبِيعٌ وَمُسِنَّتَانِ، فَإِذَا زَادَتْ عَشْرَةً بِأَنْ صَارَتْ مِائَةً وَعِشْرِينَ فَيُخَيَّرُ السَّاعِي بَيْنَ أَرْبَعَةِ أَتْبِعَةٍ أَوْ ثَلَاثِ مُسِنَّاتٍ إنْ وُجِدَا أَوْ فُقِدَا، وَيَتَعَيَّنُ أَحَدُهُمَا مُنْفَرِدًا، كَمَا يُخَيَّرُ فِي مِائَتَيْ الْإِبِلِ فِي أَخْذِ أَرْبَعِ حِقَاقٍ أَوْ خَمْسِ بَنَاتِ لَبُونٍ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفِي مِائَةٍ وَعِشْرِينَ كَمِائَتَيْ الْإِبِلِ. (تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ: فَمَا زَادَ فَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ وَفِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ فِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ خَمْسَةَ أَتْبِعَةٍ، مَعَ أَنَّ الْخَمْسَةَ أَتْبِعَةٍ تَجِبُ فِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ؛ لِأَنَّهَا ثَلَاثُونَ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَيَلْزَمُ أَنَّ عِشْرِينَ لَا زَكَاةَ فِيهَا، وَقَدْ أَجَابَ بَعْضُهُمْ بِصِحَّةِ هَذَا الضَّابِطِ بِأَنْ جَعَلَ فِي الْمِائَةِ وَالسَّبْعِينَ مُسِنَّتَيْنِ وَثَلَاثَةَ أَتْبِعَةٍ فَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا شَيْءٌ بِغَيْرِ زَكَاةٍ، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِلْمُصَنِّفِ عَلَى ارْتِكَابِ تِلْكَ الضَّوَابِطِ الْمَنْقُوضَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ مُرَاعَاةُ حَالِ الطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ يُكْتَفَى بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الضَّابِطَ وَلَوْ كَانَ مَنْقُوضًا يَصْدُقُ بِبَعْضِ أَمْثِلَةٍ صَحِيحَةٍ. [نِصَابِ الْغَنَمِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي نِصَابِ الْغَنَمِ فَقَالَ: (وَلَا زَكَاةَ) : وَاجِبَةٌ (فِي الْغَنَمِ حَتَّى تَبْلُغَ) : أَيْ تَكْمُلَ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ بِالزَّكَاةِ (أَرْبَعِينَ شَاةً) : وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ، وَوَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . (فَإِذَا بَلَغَتْهَا فَفِيهَا شَاةٌ جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ) : وَلَوْ مَعْزًا وَهِيَ الْمُوفِيَةُ سَنَةً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْأَقْوَالِ الْوَارِدَةِ فِي تَفْسِيرِ الْجَذَعِ، وَالشَّاةُ تُطْلَقُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَالضَّأْنِ وَالْمَعْزِ، فَقَوْلُهُ: جَذَعَةٌ أَيْ سِنُّهَا سِنُّ الْجَذَعَةِ أَوْ الثَّنِيَّةِ لَا خُصُوصَ الْأُنْثَى، فَقَوْلُهُ: أَوْ ثَنِيَّةٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِلَفْظِ شَاةٍ وَيَسْتَمِرُّ أَخْذُ الشَّاةِ (إلَى عِشْرِينَ وَمِائَةٍ فَإِذَا بَلَغَتْ) : أَيْ كَمُلَتْ غَنَمُ الْمُزَكِّي وَصَارَتْ (إحْدَى وَعِشْرِينَ وَمِائَةً فَفِيهَا شَاتَانِ) : وَتَسْتَمِرُّ الشَّاتَانِ (إلَى مِائَتَيْ شَاةٍ) : فَالْوَقْصُ هُنَا ثَمَانُونَ (فَإِذَا زَادَتْ) : غَنَمُ الْمُزَكِّي عَلَى الْمِائَتَيْنِ (وَاحِدَةً فَفِيهَا ثَلَاثُ شِيَاهٍ إلَى ثَلَاثِمِائَةٍ) : وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ (فَمَا زَادَ) : عَلَى الثَّلَثِمِائَةِ مَعَ التِّسْعَةِ وَالتِّسْعِينَ بِأَنْ كَمُلَتْ أَرْبَعَمِائَةٍ (فَفِي كُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ) : قَالَهُ خَلِيلٌ، الْغَنَمُ فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ، وَفِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ شَاتَانِ، وَفِي مِائَتَيْنِ وَشَاةٍ ثَلَاثُ شِيَاهٍ، وَفِي أَرْبَعِمِائَةٍ أَرْبَعٌ، ثُمَّ لِكُلِّ مِائَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 الزَّكَاةِ وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَقَرُ وَالْبُخْتُ وَالْعِرَابُ وَكُلُّ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بَيْنَهُمَا بِالسَّوِيَّةِ وَلَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْ حِصَّتُهُ عَدَدَ الزَّكَاةِ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمَعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ إذَا قَرُبَ الْحَوْلُ فَإِذَا كَانَ يَنْقُصُ   [الفواكه الدواني] شَاةٌ وَهُوَ أَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: إلَى ثَلَثِمِائَةٍ يُوهِمُ أَنَّ الثَّلَثَمِائَةِ غَايَةُ أَخْذِ الثَّلَاثِ شِيَاهٍ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، الْمَشْهُورُ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ كَمَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ خِلَافُهُ، وَأَنَّ الثَّلَاثَ يَسْتَمِرُّ أَخْذُهَا إلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، وَلَا يُؤْخَذُ لِكُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الْأَرْبَعِمِائَةِ كَمَا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ، فَالْوَقْصُ فِي هَذَا لِلْفَرْضِ الرَّابِعِ مِائَتَانِ غَيْرَ شَاتَيْنِ، وَعَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الضَّعِيفِ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ فُرُوضَ الْغَنَمِ أَرْبَعَةٌ وَأَرْبَعُونَ وَمِائَةٌ، وَإِحْدَى وَعِشْرُونَ وَمِائَتَانِ وَشَاةٌ إلَى ثَلَثِمِائَةٍ وَتِسْعَةٍ وَتِسْعِينَ، وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ كَأَرْبَعِمِائَةٍ أَوْ خَمْسِمِائَةٍ لِكُلِّ مِائَةٍ شَاةٌ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَالْوَقْصُ فِي هَذَا الْفَرْضِ الرَّابِعِ مِائَتَانِ غَيْرَ شَاتَيْنِ [حُكْمِ مَا بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَهُوَ الْوَقْصُ] . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ فُرُوضِ أَنْوَاعِ الْمَاشِيَةِ الثَّلَاثَةِ شَرَعَ فِي حُكْمِ مَا بَيْنَ الْفَرَائِضِ وَهُوَ الْوَقْصُ: فَقَالَ: (وَلَا زَكَاةَ فِي الْأَوْقَاصِ) : جَمْعُ وَقَصٍ بِفَتْحِ الْقَافِ وَتَسْكِينُهَا خَطَأٌ وَهَذَا حَيْثُ لَا خُلْطَةَ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا قَدْ تُزَكَّى عِنْدَهَا (وَهُوَ) : فِي اللُّغَةِ مِنْ وَقَصِ الْعُنُقِ الَّذِي هُوَ الْقِصَرُ لِقُصُورِهِ عَنْ النِّصَابِ وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ (مَا بَيْنَ الْفَرِيضَتَيْنِ مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ) : وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلِّ الْأَنْعَامِ لَيْسَ لِلِاحْتِرَازِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا مِمَّا يُزَكَّى كَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَالْعَيْنِ لَا وَقَصَ فِيهَا . وَلَمَّا كَانَتْ الْحُبُوبُ الْمُتَقَارِبَةُ فِي الِانْتِفَاعِ يُضَمُّ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ بَيَّنَ أَنَّ الْمَاشِيَةَ كَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَيُجْمَعُ الضَّأْنُ وَالْمَعْزُ) : وَهُمَا مَعْرُوفَانِ (فِي الزَّكَاةِ) : إذَا نَقَصَ كُلُّ صِنْفٍ عَنْ النِّصَابِ،؛ لِأَنَّ الْجِنْسَ جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي أَرْبَعِينَ شَاةً شَاةٌ» . (وَ) كَذَلِكَ تُجْمَعُ فِي الزَّكَاةِ (وَالْجَوَامِيسُ وَالْبَقَرُ) ؛ لِأَنَّ اسْمَ الْجِنْسِ جَمَعَهُمَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ تَبِيعٌ» . (وَ) كَذَلِكَ (الْبُخْتُ) : وَهِيَ الْإِبِلُ ذَاتُ السَّنَامَيْنِ (وَالْعِرَابُ) وَهِيَ الْإِبِلُ ذَاتُ السَّنَمِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّمَا جَمَعَهُمَا لِصِدْقِ لَفْظِ الْإِبِلِ عَلَى الصِّنْفَيْنِ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فِي كُلِّ خَمْسٍ مِنْ الْإِبِلِ شَاةٌ» وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَخَيَّرَ السَّاعِيَ إنْ وَجَبْت وَاحِدَةٌ وَتَسَاوَيَا كَعِشْرِينَ ضَائِنَةً وَمِثْلِهَا مَعْزًا، وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فَمِنْ الْأَكْثَرِ كَعِشْرِينَ ضَائِنَةً وَثَلَاثِينَ مَعْزًا، أَوْ بِالْعَكْسِ أَخَذَ الشَّاةَ مِنْ الْأَكْثَرِ وَإِنْ وَجَبَتْ شَاتَانِ، فَإِنْ اسْتَوَى الصِّنْفَانِ كَإِحْدَى وَسِتِّينَ ضَائِنَةً مِثْلِهَا مَعْزًا أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ شَاةً، وَكَذَا إنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا حَيْثُ كَانَ الْأَقَلُّ نِصَابًا وَهُوَ غَيْرُ وَقَصٍ كَمِائَةِ ضَائِنَةٍ وَأَرْبَعِينَ مَعْزًا أَوْ بِالْعَكْسِ، فَلَوْ كَانَ الْأَقَلُّ نِصَابًا وَلَكِنْ وَقَصًا كَمِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ضَائِنَةً وَأَرْبَعِينَ مَعْزًا أَوْ بِالْعَكْسِ أُخِذَتْ الشَّاتَانِ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَأَوْلَى لَوْ كَانَ الْأَقَلُّ دُونَ نِصَابٍ، وَأَمَّا لَوْ وَجَبَ ثَلَاثٌ فَإِنْ تَسَاوَى الصِّنْفَانِ كَمِائَةٍ وَشَاةٍ مِنْ الضَّأْنِ وَمِثْلِهَا مِنْ الْمَعْزِ أَخَذَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ شَاةً، وَخَيَّرَ السَّاعِيَ فِي الثَّالِثَةِ وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا، فَإِنْ كَانَ الْأَقَلُّ نِصَابًا وَهُوَ غَيْرُ وَقَصٍ كَمِائَةٍ وَسَبْعِينَ مَعْزًا وَأَرْبَعِينَ مِنْ الضَّأْنِ أَوْ كَانَ وَقَصًا أَوْ غَيْرَ نِصَابٍ، فَالْحُكْمُ فِي الْجَمِيعِ أَخْذُ كُلِّ الْوَاجِبِ مِنْ الْأَكْثَرِ، وَإِنْ وَجَبَ أَرْبَعُ شِيَاهٍ فَيَأْخُذْ مِنْ كُلِّ مِائَةِ شَاةٍ، وَالْمِائَةُ الْمُلَفَّقَةُ مِنْ الصِّنْفَيْنِ يَأْخُذُ وَاجِبَهُمَا مِنْ أَيِّهِمَا عِنْدَ التَّسَاوِي وَمِنْ أَكْثَرِهِمَا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ [زَكَاةِ الْخُلْطَةِ فِي الْأَنْعَام] . ثُمَّ شَرَعَ فِي زَكَاةِ الْخُلْطَةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: اجْتِمَاعُ نِصَابَيْ نَوْعِ نَعَمٍ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ فِيمَا يُوجِبُ تَزْكِيَتُهُمَا عَلَى مِلْكٍ وَاحِدٍ فَقَالَ: (وَكُلُّ خَلِيطَيْنِ) : فِي مَاشِيَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهُمَا كَالْمَالِكِ الْوَاحِدِ فِيمَا يَجِبُ، فَإِنْ أَخَذَ السَّاعِي الْوَاجِبَ مِنْ مَاشِيَةِ أَحَدِهِمَا (فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ) : فَإِنْ كَانَ لِوَاحِدٍ أَرْبَعُونَ شَاةً وَلِخَلِيطَةٍ مِثْلُهَا فَإِنَّ السَّاعِيَ يَأْخُذُ وَاحِدَةً عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَاجَعَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ شَرِيكَهُ بِنِسْبَةِ عَدَدَيْهِمَا، وَلَوْ انْفَرَدَ وَنَصَّ لِأَحَدِهِمَا فِي الْقِيمَةِ كَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا تِسْعٌ مِنْ الْإِبِلِ وَلِلْآخَرِ سِتٌّ فَتُقَسَّمُ الثَّلَاثُ شِيَاهٍ عَلَى خَمْسَةَ عَشْرَ لِكُلِّ ثَلَاثَةٍ خُمُسٌ، فَعَلَى صَاحِبِ التِّسْعَةِ ثَلَاثَةُ أَخْمَاسِ الثَّلَاثَةِ، وَعَلَى صَاحِبِ السِّتَّةِ خُمُسَاهَا، وَكَذَا إذَا انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْوَقَصِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْأَوْقَاصَ مُزَكَّاةٌ، كَأَنْ يَكُونَ لِأَحَدِهِمَا تِسْعٌ وَلِلْآخِرِ خَمْسٌ، فَإِنْ أَخَذَ الشَّاتَيْنِ مِنْ صَاحِبِ التِّسْعَةِ رَجَعَ عَلَى صَاحِبِهِ بِخَمْسَةِ أَسْبَاعٍ مِنْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ سُبُعًا مِنْ قِيمَةِ الشَّاتَيْنِ، أَوْ مِنْ صَاحِبِ الْخَمْسَةِ يَرْجِعُ عَلَى صَاحِبِهِ بِتِسْعَةِ أَسْبَاعٍ مِنْ قِيمَةِ الشَّاتَيْنِ بَعْدَ جَعْلِهِمَا أَرْبَعَةَ عَشَرَ سُبُعًا، أَوْ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةً رَجَعَ صَاحِبُ الْخَمْسَةِ عَلَى صَاحِبِهِ بِسُبُعَيْنِ مِنْ قِيمَةِ الشَّاةِ الَّتِي أَخَذَهَا السَّاعِي، وَكُلُّ ذَلِكَ مَبْنِيٌّ عَلَى تَزْكِيَةِ الْأَوْقَاصِ، وَعَلَى مُقَابِلِهِ يَكُونُ عَلَى كُلِّ وَاحِدَةٍ شَاةٌ. [شُرُوطِ زَكَّاهُ الْخَلِيطِينَ] وَلَمَّا كَانَ مِنْ شُرُوطِهَا أَنْ يَمْلِكَ كُلَّ نِصَابًا قَالَ: (وَلَا زَكَاةَ عَلَى مَنْ لَمْ تَبْلُغْ حِصَّتُهُ عَدَدَ الزَّكَاةِ) : وَمِنْ شُرُوطِهَا النِّيَّةُ؛ لِأَنَّهَا تُوجِبُ تَغْيِيرَ الْحُكْمِ فَتَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ كَالصَّلَاةِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْخَلِيطَانِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ، فَلَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا زَكَّى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ مَاشِيَتَهُ عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ، وَمِنْهَا: أَنْ يَجْتَمِعَا فِي الْأَكْثَرِ مِنْ خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: الْمَاءِ وَالْمَرَاحِ وَالْمَبِيتِ وَالرَّاعِي وَالْفَحْلِ لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا إنْ كَانَ يَضْرِبُ فِي الْجَمِيعِ بِرِفْقٍ، مِنْهَا أَنْ لَا يَقْصِدَا بِهَا الْفِرَارَ مِنْ تَكْثِيرِ الْوَاجِبِ كَمَا يَأْتِي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 أَدَاؤُهُمَا بِافْتِرَاقِهِمَا أَوْ بِاجْتِمَاعِهِمَا أُخِذَا بِمَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ وَلَا تُؤْخَذُ فِي الصَّدَقَةِ السَّخْلَةُ وَتُعَدُّ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ وَلَا تُؤْخَذُ الْعَجَاجِيلُ فِي الْبَقَرِ وَلَا الْفُصْلَانُ فِي الْإِبِلِ وَتُعَدُّ عَلَيْهِمْ وَلَا يُؤْخَذُ تَيْسٌ وَلَا هَرِمَةٌ وَلَا الْمَاخِضُ وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ وَلَا شَاةُ الْعَلَفِ وَلَا الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا وَلَا خِيَارُ أَمْوَالِ النَّاسِ وَلَا يُؤْخَذُ فِي ذَلِكَ عَرْضٌ وَلَا ثَمَنٌ فَإِنْ أَجْبَرَهُ الْمُصَدِّقُ عَلَى أَخْذِ الثَّمَنِ فِي الْأَنْعَامِ وَغَيْرِهَا أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَلَا يُسْقِطُ الدَّيْنَ زَكَاةُ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ وَلَا مَاشِيَةٍ.   [الفواكه الدواني] وَمِنْهَا أَنْ يَكُونَ الْحَوْلُ مَرَّ عَلَى مَاشِيَةِ كُلٍّ وَلَوْ وَقَعَتْ الْخُلْطَةُ فِي أَثْنَائِهِ، وَمِنْهَا اتِّحَادُ نَوْعِهَا بِأَنْ يَجُوزَ جَمْعُهَا فِي الزَّكَاةِ لَا بَقَرٍ مَعَ غَنَمٍ أَوْ إبِلٍ، فَإِنْ كَانَ الْفَحْلُ وَاحِدًا اُشْتُرِطَ اتِّحَادُ الصِّنْفِ، فَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ صَارَ كَالْمَالِكِ الْوَاحِدِ فِيمَا وُجِدَ مِنْ قَدْرٍ وَسِنٍّ وَصِنْفٍ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: لَوْ كَانُوا ثَلَاثَةً لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ ضَأْنًا الْوَاجِبُ شَاةٌ عَلَى كُلٍّ ثُلُثُهَا فَالْخُلْطَةُ أَفَادَتْ التَّخْفِيفَ. وَالثَّانِي: كَاثْنَيْنِ لِكُلِّ وَاحِدٍ سِتٌّ وَثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِمَا جَذَعَةٌ بَعْدَ أَنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَى كُلٍّ بِنْتَ لَبُونٍ. وَالثَّالِثُ: كَأَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ ثَمَانُونَ مِنْ الضَّأْنِ وَالْآخَرِ أَرْبَعُونَ مِنْ الْمُعِزِّ الْوَاجِبُ شَاةٌ مِنْ الضَّأْنِ عَلَى صَاحِبِ الثَّمَانِينَ ثُلُثَاهَا وَعَلَى الْآخَرِ ثُلُثُهَا. وَلَمَّا كَانَ مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَقْصِدَ بِالْخُلْطَةِ الْفِرَارَ قَالَ: (وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُفْتَرِقٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ) : وَهَذَا حَدِيثٌ وَلَفْظُهُ: «وَلَا يُجْمَعُ بَيْنَ مُتَفَرِّقٍ وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ مُجْتَمِعٍ خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ» وَمَا كَانَ مِنْ خَلِيطَيْنِ فَإِنَّهُمَا يَتَرَادَّانِ بِالسَّوِيَّةِ. (وَ) : مَحَلُّ النَّهْيِ عَنْ (ذَلِكَ) التَّفْرِيقِ (إذَا قَرُبَ الْحَوْلُ) : فَإِنَّهُ قَرِينَةٌ عَلَى قَصْدِ التَّقْلِيلِ بِسَبَبِ الْهُرُوبِ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضٌ: وَيَثْبُتُ الْفِرَارُ بِالْإِفْرَارِ أَوْ الْقَرِينَةِ أَوْ الْقُرْبِ الْمُوجِبِ تُهْمَتَهُمَا عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ. (تَنْبِيهٌ) : قَوْلُهُ: خَشْيَةَ الصَّدَقَةِ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ مَنْصُوبٌ لِيُجْمَع أَوْ يُفَرَّقُ، وَمَعْنَى خَشْيَةِ الصَّدَقَةِ الْخَوْفُ مِنْ كَثْرَتِهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّفَرُّقِ إذَا كَانَتْ مُفِيدَةً لِلتَّقْلِيلِ، أَوْ عِنْدَ عَدَمِ الِاجْتِمَاعِ إذَا كَانَتْ تُفِيدُ التَّخْفِيفَ كَأَنْ يَكُونَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ، فَلَا يَجُوزُ اخْتِلَاطُهُمَا لِلْخَوْفِ مِنْ دَفْعِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدَةً عِنْدَ عَدَمِ الْخُلْطَةِ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا إذَا ارْتَكَبَا النَّهْيَ بِالْخُلْطَةِ قَوْلُهُ: (فَإِذَا كَانَ يَنْقُصُ أَدَاؤُهُمَا) : بِسَبَبِ (افْتِرَاقِهِمَا) : افْتِرَاقًا مَنْهِيًّا عَنْهُ (أَوْ) : كَأَنْ يَنْقُصَ أَدَاؤُهُمَا (بِ) : سَبَبِ (اجْتِمَاعِهِمَا) : فَفَرَّقَا مَا كَانَ مُجْتَمِعًا، أَوْ جَمَعَا مَا كَانَ مُفَرَّقًا. (أُخِذَا بِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ) : هَذَا جَوَابُ إذَا، وَاسْمُ الْإِشَارَةِ رَاجِعٌ لِمَا ذُكِرَ مِنْ الِاجْتِمَاعِ وَالِافْتِرَاقِ، مِثَالُ النَّقْصِ بِالتَّفْرِيقِ أَنْ يَكُونَ لِوَاحِدٍ مِائَةُ شَاةٍ وَلِخَلِيطِهِ كَذَلِكَ، فَيَفْتَرِقَانِ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَجِبَ عَلَيْهِمَا شَاتَانِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمَا ثَلَاثٌ مُعَامَلَةً لَهُمَا بِنَقِيضِ قَصْدِهِمَا، وَمِثَالُ الْجَمْعِ ثَلَاثَةُ رِجَالٍ مُتَفَرِّقِينَ لِكُلِّ وَاحِدٍ أَرْبَعُونَ فَيَجْتَمِعُونَ فِي آخِرِ الْحَوْلِ لِيَجِبَ عَلَيْهِمْ شَاةٌ فَيُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدَةً، فَمَعْنَى خَشْيَةِ الصَّدَقَةِ خَشْيَةَ تَكْثِيرِهَا، وَمَفْهُومُ خَشْيَةِ الصَّدَقَةِ أَنَّهُمْ لَوْ تَفَرَّقُوا أَوْ اجْتَمَعُوا لِعُذْرٍ لَا حُرْمَةٍ، وَيُصَدَّقُونَ فِي الْعُذْرِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ إنْ كَانُوا مَأْمُونِينَ ظَاهِرِي الصَّلَاحِ وَإِلَّا فَيَمِينٌ، وَمِثْلُهُ فِي عَدَمِ النَّهْيِ عَنْ الِافْتِرَاقِ أَوْ الِاجْتِمَاعِ لَوْ اتَّحَدَ الْوَاجِبُ . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُجْزِئُ وَمَا لَا يُجْزِئُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) : يَجُوزُ أَنْ (تُؤْخَذَ فِي الصَّدَقَةِ السَّخْلَةُ) : أَيْ الصَّغِيرَةُ مِنْ الضَّأْنِ وَالْمَعْزِ (وَ) : إنْ كَانَتْ (تُعَدُّ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ) : فَإِذَا وُجِدَ عِنْدَهُ عِشْرُونَ مِنْ الْغَنَمِ وَوَلَدَتْ كَمَالَ النِّصَابِ وَلَوْ قَرُبَ الْحَوْلِ وَجَبَ شَاةٌ وَسَطٌ (وَ) : كَذَا (لَا) يَجُوزُ أَنْ (تُؤْخَذَ الْعَجَاجِيلُ) : جَمْعُ عِجْلٍ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَبْلُغْ سِنَّ التَّبِيعِ (فِي) صَدَقَةِ (الْبَقَرِ وَلَا الْفُصْلَانُ فِي) صَدَقَةِ (الْإِبِلِ) : وَالْفَصِيلُ مَا دُونَ ابْنِ الْمَخَاضِ. (وَ) إنْ كَانَتْ (تُعَدُّ عَلَيْهِمْ) : فِي تَكْمِيلِ النِّصَابِ وَلَوْ كَانَتْ مَوَاشِيهِ كُلُّهَا سِخَالًا أَوْ عَجَاجِيلَ أَوْ فُصْلَانًا لَوَجَبَتْ الزَّكَاةُ، وَيُكَلَّفُ شِرَاءُ الْوَسَطِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَزِمَ الْوَسَطُ وَلَوْ انْفَرَدَ الْخِيَارُ أَوْ الشِّرَاءُ، إلَّا أَنْ يَرَى السَّاعِي أَخْذَ الْمَعِيبَةِ لَا الصَّغِيرَةِ. (وَلَا يُؤْخَذُ تَيْسٌ) : وَهُوَ فَحْلُ الْمُعِزِّ (وَلَا هَرِمَةٌ) : أَيْ هَزِيلَةٌ (وَلَا الْمَاخِضُ) : أَيْ الْحَامِلُ (وَلَا فَحْلُ الْغَنَمِ وَلَا شَاةُ الْعَلَفِ وَلَا الَّتِي تُرَبِّي وَلَدَهَا وَلَا خِيَارَ أَمْوَالِ النَّاسِ) : كَكَثِيرَةِ اللَّبَنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَخْذُ الشِّرَارِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ الْفُقَرَاءِ، وَلَا الْجِيَادِ مُرَاعَاةً لِحَقِّ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي. قَالَ الْقَرَافِيُّ: فَإِنْ أَعْطَى وَاحِدَةً مِنْ الْخِيَارِ طَيِّبَةً بِهَا نَفْسُهُ جَازَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَعْطَى مِنْ الشِّرَارِ فَلَا يُجْزِئُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلُّهَا خِيَارًا أَوْ شِرَارًا لَزِمَ الْوَسَطُ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ امْتَنَعَ أُجْبِرَ عَلَى ذَلِكَ وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلسَّاعِي أَخْذُ الْمَعِيبَةِ كَالْعَوْرَاءِ وَالْجَرْبَاءِ إنْ رَأَى فِي ذَلِكَ نَظَرًا، وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ الصَّغِيرَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْمَعِيبَةَ بَلَغَتْ سِنَّ الْإِجْزَاءِ بِخِلَافِ الصَّغِيرَةِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ عَدَمُ إجْزَاءِ الصَّغِيرَةِ وَلَوْ رَضِيَ الْفَقِيرُ بِأَخْذِهَا،؛ لِأَنَّ بُلُوغَ السِّنِّ فِي الزَّكَاةِ كَالضَّحِيَّةِ وَالْهَدْيِ الْوَاجِبِ شَرْطٌ. (وَلَا يُؤْخَذُ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ السِّنِّ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ فِي زَكَاةِ الْمَاشِيَةِ مِنْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ أَوْ غَنَمٍ. (عَرْضٌ) : وَهُوَ مَا قَابَلَ الْعَيْنَ وَلَا يُجْزِئُ إنْ وَقَعَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. (وَ) كَذَا (لَا) : يُؤْخَذُ (ثَمَنٌ) : أَيْ قِيمَةُ السِّنِّ الْوَاجِبِ، فَإِنْ وَقَعَ فَقَوْلَانِ فِي الطَّوْعِ بِدَفْعِهَا الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا الْإِجْزَاءُ مَعَ الْكَرَاهَةِ. (فَإِنْ أَجْبَرَهُ) : أَيْ رَبُّ الْمَاشِيَةِ (الْمُصَدِّقُ) : بِتَخْفِيفِ الصَّادِ وَكَسْرِ الدَّالِ أَيْ السَّاعِي (عَلَى أَخْذِ الثَّمَنِ فِي) : زَكَاةِ (الْأَنْعَامِ أَوْ غَيْرِهَا) : مِنْ الْحَرْثِ وَالْفِطْرَةِ (أَجْزَأَهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى) : وَشَرْطُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إجْزَاءِ الثَّمَنِ عَنْ الْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ قَدْرَ الْقِيمَةِ فَأَكْثَرَ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَأَنْ يَصْرِفَهُ فِي مَصَارِفِهَا، وَفِي قَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ إشَارَةٌ إلَى قُوَّةِ الْخِلَافِ، وَحَاصِلُ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ إخْرَاجَ الْعَيْنِ عَنْ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ يُجْزِئُ مَعَ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِخْرَاجُ الْعَرْضِ عَنْهُمَا أَوْ عَنْ الْعَيْنِ لَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَكَذَا إخْرَاجُ الْحَرْثِ أَوْ الْمَاشِيَةِ عَنْ الْعَيْنِ، وَكَذَا إخْرَاجُ الْحَرْثِ عَنْ الْمَاشِيَةِ أَوْ عَكْسُهُ، وَاحْتَرَزْنَا بِتَخْفِيفِ الصَّادِ فِي ضَبْطِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُصَّدِّقِ بِتَشْدِيدِ الصَّادِ فَإِنَّهُ الْمُزَكِّي . (وَلَا يُسْقِطُ الدَّيْنُ) : فَاعِلُ يُسْقِطُ الْمَبْنِيُّ لِلْفَاعِلِ وَمَفْعُولُهُ (زَكَاةَ حَبٍّ وَلَا تَمْرٍ وَلَا مَاشِيَةٍ) : وَلَا مَعْدِنٍ وَإِنَّمَا يُسْقِطُ زَكَاةَ الْعَيْنِ، وَهَذَا مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ مَا تَقَدَّمَ 1 - (خَاتِمَةٌ) : تَشْمَلُ عَلَى مَسَائِلَ تَرَكَهَا الْمُصَنِّفُ خَوْفًا مِنْ التَّطْوِيلِ، وَأَرَدْنَا ذِكْرَهَا لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا، مِنْهَا: النِّيَّةُ وَتَكُونُ عِنْدَ دَفْعِهَا أَوْ عَزْلِهَا، وَلَوْ ضَاعَتْ قَبْلَ دَفْعِهَا لِلْفَقِيرِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَصِفَتُهَا أَنْ يَنْوِيَ إخْرَاجَ مَا وَجَبَ عَلَيْهِ، فَلَوْ دَفَعَ مَالًا لِفَقِيرٍ غَيْرَ نَاوِيهِ الزَّكَاةَ، ثُمَّ لَمَّا طُلِبَ بِالزَّكَاةِ أَرَادَ جَعْلَ مَا أَخْرَجَهُ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ زَكَاةٍ زَكَاةً لَمْ يَكْفِهِ، وَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ؛ لِأَنَّ الْعَطَايَا لِوَجْهِ اللَّهِ أَوْ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ تَلْزَمُ بِالْقَبُولِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ تَرْكِ النِّيَّةِ قَصْدًا أَوْ جَهْلًا أَوْ نِسْيَانًا خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّيُوخِ، وَيَنْوِي عَنْ الْمَجْنُونِ وَالصَّغِيرِ وَلِيُّهُمَا، وَإِنَّمَا أَجْزَأَتْ مَعَ الْإِكْرَاهِ عَلَى أَخْذِهَا؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْإِمَامِ أَوْ الْفَقِيرِ الْمُكْرَهِ عَلَى أَخْذِهَا كَافِيَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ بَعْدَ وُجُوبِهَا قَهْرًا عَلَى صَاحِبِ الْمَالِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَأُخِذَتْ كَرْهًا وَإِنْ بِقِتَالٍ 1 - ، وَمِنْ الْمَسَائِلِ وُجُوبُ تَفْرِقَتِهَا بِمَوْضِعِ الْوُجُوبِ، وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي فِيهِ الْمَالُ وَفِيهِ الْمَالِكُ وَالْمُسْتَحَقُّونَ بِالنِّسْبَةِ لِلْحَرْثِ، وَالْمَاشِيَةِ حَيْثُ كَانَ لَهُمَا سَاعٍ، وَأَمَّا النَّقْدُ وَعُرُوضُ التِّجَارَةِ فَهُوَ مَوْضِعُ الْمَالِكِ كَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ سَاعٍ، وَفِي حُكْمِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ مَا قَرُبَ مِنْهُ وَهُوَ مَا دَخَلَ مَسَافَةَ الْقَصْرِ، وَأَمَّا الْخَارِجُ عَنْ مَسَافَةِ الْقَصْرِ فَلَا يُجْزِئُ نَقْلُ الزَّكَاةِ إلَيْهِ إلَّا أَنْ يُعْدَمَ الْمُسْتَحِقُّ بِمَوْضِعِ الْوُجُوبِ أَوْ قُرْبِهِ، أَوْ يَكُونُ مُسَاوِيًا لِفُقَرَاءِ مَوْضِعِ الْوُجُوبِ، وَأَوْلَى لَوْ كَانَ أُعْدِمَ فَتُجْزِئُ فِي الْجَمِيعِ، وَمِنْ الْمَسَائِلِ أَنْ يَدْفَعَهَا بَعْدَ الْحَوْلِ، فَلَا تُجْزِئُ الْمُقَدَّمَةُ عَنْهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ بِالْإِفْرَاكِ وَطِيبِ الثَّمَرِ وَلَوْ بِقَلِيلٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْرَجَهَا بَعْدَهُمَا وَقَبْلَ التَّصْفِيَةِ فَلَا شَكَّ فِي إجْزَائِهَا، وَأَمَّا فِي الْعَيْنِ وَمِنْهَا عُرُوضُ التِّجَارَةِ وَمِثْلُهَا الْمَاشِيَةُ حَيْثُ لَا سَاعِيَ لَهَا فَيُجْزِئُ دَفْعُهَا لِلْمُسْتَحِقِّينَ قَبْلَ تَمَامِ الْحَوْلِ بِالزَّمَنِ الْيَسِيرِ كَالشَّهْرِ، وَأَمَّا تَسْمِيَتُهَا لِلْأَخْذِ لَهَا فَفِي مُخْتَصَرِ الْبُرْزُلِيِّ فَتْوَى شُيُوخِنَا أَنَّ الزَّكَاةَ لَا تُجْزِئُ حَتَّى يُسَمِّيَهَا الدَّافِعُ لِلْفَقِيرِ أَوْ يُعْلِمَهُ بِذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ بَلْ كَرِهَهُ بَعْضُهُمْ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ خَاطِرِ الْفَقِيرِ، 1 - وَمِنْ الْمَسَائِلِ الَّتِي تَرَكَهَا الْمُصَنِّفُ بَيَانُ مَصْرِفِهَا إلَى مَنْ يَسْتَحِقُّهَا وَتُصْرَفُ لَهُ وَهُوَ الْأَصْنَافُ الثَّمَانِيَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي آيَةِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} [التوبة: 60] وَلَا يَلْزَمُ تَعْمِيمُ تِلْكَ الْأَصْنَافِ الثَّمَانِيَةِ بَلْ يُسْتَحَبُّ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ، وَمِنْهَا: لَوْ مَاتَ شَخْصٌ قَبْلَ إخْرَاجِهَا وَبَعْدَ وُجُوبِهَا فَإِنْ كَانَتْ حَرْثًا أَوْ مَاشِيَةً لَا سَاعِيَ لَهَا أُخِذَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَالْعَيْنِ إنْ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهَا، وَأَمَّا لَوْ مَاتَ الْمَالِكُ قَبْلَ الْوُجُوبِ فَفِي الْحَرْثِ يُزَكِّيهَا الْوَارِثُ إنْ خَرَجَ لَهُ نِصَابٌ أَوْ كَانَ عِنْدَهُ زَرْعٌ آخَرُ يَخْرُجُ مِنْهُمَا نِصَابٌ، وَأَمَّا فِي الْمَاشِيَةِ فَإِنْ كَانَ عِنْدَ الْوَارِثِ نِصَابٌ ضَمَّهَا إلَيْهِ وَزَكَّى عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ وَلَوْ قَرُبَ مِنْ الْمَوْتِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَا شَيْءَ عِنْدَهُ سِوَاهَا أَوْ كَانَ عِنْدَهُ أَقَلُّ مِنْ نِصَابٍ لَاسْتَقْبَلَ حَوْلًا كَامِلًا مِنْ يَوْمِ كَمَالِ النِّصَابِ أَوْ مَلَكَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَالُ عَيْنًا وَمَاتَ مَالِكُهُ قَبْلَ مُرُورِ الْحَوْلِ لَاسْتَقْبَلَ الْوَارِثُ بِهِ وَلَا يَضُمُّهُ لِمَا عِنْدَهُ مِنْ النِّصَابِ؛ لِأَنَّ فَائِدَةَ الْعَيْنِ يَسْتَقْبِلُ بِهَا، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْعَيْنَ شَأْنُهَا عَدَمُ السَّاعِي بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ، إنَّمَا عَبَّرْنَا بِشَأْنِهَا لِلْإِشَارَةِ إلَى فَائِدَةِ الْمَاشِيَةِ تُضَمُّ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا سَاعٍ، لَكِنْ إنْ ضُمَّتْ لِنِصَابٍ زُكِّيَتْ مَعَهُ عِنْدَ تَمَامِ حَوْلِ النِّصَابِ، وَإِنْ كَانَ الْمَضْمُومَةُ إلَيْهِ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ فَيَسْتَقْبِلْ بِالْجَمِيعِ حَوْلًا كَامِلًا مِنْ يَوْمِ الْكَمَالِ، هَذَا إيضَاحُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَقَلَّ أَنْ تَجِدَهُ فِي مَحَلٍّ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. [بَاب فِي زَكَاة الْفِطْر] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى زَكَاةِ الْأَمْوَالِ شَرَعَ فِي زَكَاةِ الْأَبْدَانِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 بَابٌ فِي زَكَاةِ الْفِطْرِ وَزَكَاةُ الْفِطْرِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلِّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ صَاعًا عَنْ كُلِّ نَفْسٍ بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتُؤَدَّى مِنْ جُلِّ عَيْشِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ أَوْ سُلْتٍ أَوْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) : حُكْمِ (زَكَاةِ الْفِطْرِ) : وَيُقَالُ لَهَا صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَيُقَالُ لَهَا الْفِطْرَةُ بِكَسْرِ الْفَاءِ أَوْ الْخِلْقَةِ فَتَكُونُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ زَكَاةُ الْخِلْقَةِ، وَالْفِطْرَةُ لَفْظَةٌ مُوَلَّدَةٌ لَا عَرَبِيَّةٌ وَلَا مُعَرَّبَةٌ بَلْ اصْطَلَحَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ، وَالْمُعَرَّبَةُ هِيَ الْكَلِمَةُ الْأَعْجَمِيَّةُ الَّتِي اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ فِيمَا وُضِعَتْ لَهُ عِنْدَ الْعَجَمِ، وَفُرِضَتْ فِي ثَانِيَةِ الْهِجْرَةِ سَنَةَ فُرِضَ صَوْمُ رَمَضَانَ، وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهَا لِتَكُونَ طُهْرَةً لِلصَّائِمِ مِنْ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ وَلِلرِّفْقِ بِالْفُقَرَاءِ فِي إغْنَائِهِمْ عَنْ السُّؤَالِ فِي هَذَا الْيَوْمِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: الصَّوْمُ مَوْقُوفٌ عَلَى زَكَاةِ الْفِطْرِ، فَإِنْ أَخْرَجَ زَكَاةَ الْفِطْرِ قَبْلَ صَوْمِهِ، وَعَرَّفَ ابْنُ عَرَفَةَ زَكَاةَ الْفِطْرِ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ بِقَوْلِهِ: إعْطَاءُ مُسْلِمٍ فَقِيرٍ لِقُوتِ يَوْمِ الْفِطْرِ صَاعًا مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ أَوْ جُزْئِهِ الْمُسَمَّى لِلْجُزْءِ وَالْمَقْصُودُ وُجُوبُهُ عَلَيْهِ، وَبِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ صَاعًا مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ أَوْ جُزْئِهِ الْمُسَمَّى بِالْجُزْءِ إلَخْ، فَلَا تُدْفَعُ إلَّا لِمَنْ لَا يَمْلِكُ شَيْئًا كَمَا يَرْشُدُ لَهُ حَدِيثُ: «أَغْنُوهُمْ عَنْ ذُلِّ السُّؤَالِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ» هَذَا مَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: فَقِيرٍ لِقُوتِ يَوْمِ الْفِطْرِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ فَقِيرَ الزَّكَاةِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ جُزْءٍ إلَخْ أَشَارَ بِهِ إلَى مَا يُخْرَجُ عَنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ فَإِنَّهُ بِحَسَبِ الْجُزْءِ، وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِهَا بِقَوْلِهِ: (وَزَكَاةُ الْفِطْرِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مَفْرُوضَةٌ بِالسُّنَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «فَرَضَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَعِبَارَةُ خَلِيلٍ ظَاهِرَةٌ وَنَصُّهَا: يَجِبُ بِالسُّنَّةِ صَاعٌ أَوْ جُزْؤُهُ فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ وَإِنْ بِتَسَلُّفٍ، فَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَدَقَةُ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَحَمْلُ الْفَرْضِ عَلَى التَّقْدِيرِ بَعِيدٌ خُصُوصًا وَقَدْ خَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ: «بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُنَادِيًا يُنَادِي فِي فِجَاجِ مَكَّةَ أَلَا إنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ وَاجِبَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» هَكَذَا فِي التَّتَّائِيِّ وَالشَّاذِلِيِّ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَفِيهِ نَظَرٌ فَالصَّوَابُ أَنَّ الَّذِي فِي خَبَرِ التِّرْمِذِيِّ فِجَاجُ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ الْجُمْهُورَ عَلَى فَرْضِهَا فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ حِينَئِذٍ دَارَ حَرْبٍ فَلَا يَبْعَثُ مُنَادِيًا يُنَادِي فِي أَزِقَّتِهَا، وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِالسُّنَّةِ وَبِالْقُرْآنِ أَيْضًا، إمَّا بِآيَةِ {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14] أَوْ بِآيَةِ {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] لِعُمُومِهَا، وَلَكِنْ إذَا تَرَكَهَا أَهْلُ بَلَدٍ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا كَمَا لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ صَلَاةِ الْعِيدِ، بِخِلَافِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ فَيُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَرَجَّحَ بَعْضٌ أَنَّهُمْ يُقَاتَلُونَ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِهَا كَمَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَعَدَمُ الْقِتَالِ عَلَى تَرْكِهَا عَلَى الْقَوْلِ بِسُنِّيَّتِهَا وَإِنْ كَانَ خِلَافَ الْمُعْتَمَدِ، وَلِذَلِكَ لَا يُكَفَّرُ مُنْكِرُ وُجُوبِهَا بِخِلَافِ مُنْكِرِ مَشْرُوعِيَّتِهَا، وَلَعَلَّهُ وَجْهُ شُهْرَةِ مَشْرُوعِيَّتِهَا دُونَ فَرْضِيَّتِهَا، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ صَاعًا هَكَذَا رُوِيَ بِالنَّصْبِ عَلَى أَنَّهُ مَفْعُولٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَجَعَلْتهَا صَاعًا، وَأَعْرَبَهُ بَعْضُهُمْ حَالًا، وَرُوِيَ بِالرَّفْعِ عَلَى أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ وَهِيَ صَاعٌ وَلَيْسَ خَبَرَ الصَّدَقَةِ وَإِنَّمَا خَبَرُهَا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ، وَلَعَلَّ هَذَا اللَّفْظَ رِوَايَةٌ لِلْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى، وَإِلَّا فَنَصُّ الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَرَضَ زَكَاةَ الْفِطْرِ مِنْ رَمَضَانَ عَلَى النَّاسِ» إلَخْ وَصِلَةُ فَرَضَهَا (عَلَى كُلِّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ) : كَائِنَيْنِ (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) : وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْوُجُوبَ مُتَعَلِّقٌ بِوَلِيِّ الصَّغِيرِ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ، وَمَفْعُولُ فَرَضَ (صَاعًا عَنْ كُلِّ نَفْسٍ بِصَاعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَمْدَادٍ بِمُدِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَتَقَدَّمَ أَنَّ كُلَّ مُدٍّ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ. قَالَ فِي الْقَامُوسِ نَقْلًا عَنْ الدَّاوُدِيِّ: الصَّاعُ الَّذِي لَا يُخْتَلَفُ فِيهِ أَرْبَعُ حَفَنَاتٍ بِكَفَّيْ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ وَلَا صَغِيرِهِمَا، إذْ لَيْسَ كُلُّ مَكَان يُوجَدُ فِيهِ صَاعُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَدْرُ الصَّاعِ بِالْكَيْلِ الْمَصْرِيِّ قَدَحٌ وَثُلُثٌ كَمَا قَرَّرَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا أَبُو الْإِرْشَادِ عَلِيٌّ الْأُجْهُورِيُّ، فَعَلَى تَحْرِيرِهِ الرُّبُعُ الْمَصْرِيُّ يُجْزِئُ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 دُخْنٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ أُرْزٍ وَقِيلَ إنْ كَانَ الْعَلَسُ قُوتَ قَوْمٍ أُخْرِجَتْ مِنْهُ وَهُوَ حَبٌّ صَغِيرٌ يَقْرُبُ مِنْ خِلْقَةِ الْبُرِّ وَيُخْرِجُ عَنْ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ وَالصَّغِيرُ لَا مَالَ لَهُ يُخْرِجُ عَنْهُ وَالِدُهُ وَيُخْرِجُ الرَّجُلُ زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ وَعَنْ مُكَاتَبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ بَعْدُ وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُهَا إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ وَيُسْتَحَبُّ الْفِطْرُ فِيهِ قَبْلَ   [الفواكه الدواني] ثَلَاثَةِ أَشْخَاصٍ، وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَى الصَّاعِ إذَا كَانَتْ مُحَقَّقَةً، وَقَصَدَ بِهَا الِاسْتِظْهَارَ عَلَى الشَّارِعِ كَالزِّيَادَةِ فِي التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثِينَ، وَأَمَّا الزِّيَادَةُ لَا عَلَى أَنَّ الْإِجْزَاءَ يَتَوَقَّفُ عَلَيْهَا فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الصَّاعُ عَلَى مَنْ فَضَلَ عَنْ قُوتِهِ وَقُوتِ عِيَالِهِ يَوْمَ الْعِيدِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا قُوتُ يَوْمِ الْعِيدِ لَمْ تَلْزَمْهُ زَكَاةٌ إلَّا أَنْ يَجِدَ مَنْ يُسَلِّفُهُ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى الْوَفَاءِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ سُقُوطِهَا بِالدَّيْنِ، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى كُلِّ الصَّاعِ بَلْ عَلَى بَعْضِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ إخْرَاجُ مَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْهُ [مَا تَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَة الْفِطْرِ] . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ بِقَوْلِهِ: (وَتُؤَدَّى) : أَيْ تَخْرُجُ زَكَاةُ الْفِطْرِ (مِنْ جُلِّ) : أَيْ غَالِبِ (عَيْشِ أَهْلِ ذَلِكَ الْبَلَدِ) : الَّذِي فِيهِ الْمُزَكِّي أَوْ الْمُزَكَّى عَنْهُ، سَوَاءً مَاثَلَ قُوتَهُ أَوْ كَانَ أَدْنَى مِنْ قُوتِهِ أَوْ أَعْلَى، فَإِنْ كَانَ قُوتُهُ أَعْلَى مِنْ قُوتِ غَالِبِ أَهْلِ الْبَلَدِ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْإِخْرَاجُ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ دُونَ قُوتِهِمْ وَأَخْرَجَ مِنْهُ فَإِنْ كَانَ اقْتِيَاتُهُ لِعَجْزِهِ عَنْ قُوتِهِمْ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ لِشُحٍّ أَوْ كَسْرِ نَفْسٍ أَوْ عَادَةٍ فَلَا يُجْزِئُهُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ شِرَاءُ الصَّاعِ مِنْ قُوتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْإِخْرَاجَ مِنْ الْغَالِبِ الْجَيِّدِ وَاجِبٌ إلَّا لِعَجْزٍ عَنْهُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْقُوتُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ بُرٍّ أَوْ شَعِيرٍ) : وَهُمَا مَعْرُوفَانِ (أَوْ سُلْتٍ) : وَهُوَ شَعِيرٌ لَا قِشْرَ لَهُ (أَوْ تَمْرٍ أَوْ أَقِطٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ دُخْنٍ أَوْ ذُرَةٍ أَوْ أَرْزٍ) : فَهَذِهِ تِسْعَةُ أَنْوَاعٍ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهَا، وَزَادَ ابْنُ حَبِيبٍ عَاشِرًا أَشَارَ لَهُ الْمُصَنِّفُ بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ إنْ كَانَ الْعَلَسُ) : بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَاللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ وَبَعْدَهُمَا سِينٌ مُهْمَلَةٌ (قُوتَ قَوْمٍ أُخْرِجَ) : أَيْ الصَّاعُ (مِنْهُ وَهُوَ حَبٌّ صَغِيرٌ يَقْرُبُ مِنْ خِلْقَةِ الْبُرِّ) : وَهُوَ طَعَامُ أَهْلِ صَنْعَاءَ، وَيَجِبُ فِي هَذَا الصَّاعِ أَنْ يَكُونَ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُطْحَنُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ تُسْتَحَبُّ غَرْبَلَتُهُ إنْ كَانَ غَلَثًا إلَّا أَنْ يَزِيدَ غَلَثُهُ عَلَى الثُّلُثِ فَتَجِبُ غَرْبَلَتُهُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: وَلَا يُجْزِئُ الْمُسَوَّسُ الْفَارِغُ بِخِلَافِ الْقَدِيمِ الْمُتَغَيِّرِ الطَّعْمِ فَيُجْزِئُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ مَتَى وُجِدَ نَوْعٌ مِنْ هَذِهِ التِّسْعَةِ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا وَلَوْ اُقْتِيتَ ذَلِكَ الْغَيْرُ، وَأَمَّا عِنْدَ وُجُودِهَا كُلِّهَا أَوْ بَعْضِهَا فَيَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْ الْغَالِبِ اقْتِيَاتًا، فَإِنْ أُخْرِجَ مِنْ غَيْرِهِ أَجْزَأَ إنْ كَانَ أَعْلَى أَوْ مُسَاوِيًا، وَكَذَا إنْ كَانَ أَدْنَى مَعَ عَجْزِهِ عَنْ شِرَاءِ الْمُسَاوِي كَمَا مَرَّ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ الْإِخْرَاجُ مِنْ أَغْلِبْ مَا يُقْتَاتُ مِنْ غَيْرِهَا وَلَوْ لَحْمًا أَوْ زَيْتًا لَكِنْ يُخْرَجُ مِنْهُ مِقْدَارُ عَيْشِ الصَّاعِ مِنْ الْقَمْحِ وَزْنًا؛ لِأَنَّ عَيْشَ الصَّاعِ مِنْ الْقَمْحِ أَكْثَرُ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ الشِّبَعُ. 1 - الثَّانِي: صِفَةُ الْإِخْرَاجِ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ أَنْ يُخْرِجَ مِنْ حَبِّهَا، فَلَا يُجْزِئُ الْإِخْرَاجُ مِنْ خُبْزِهَا وَلَا مِنْ دَقِيقِهَا إلَّا أَنْ يُعْتَبَرَ مَا فِي الصَّاعِ الْحَبِّ مِنْ الدَّقِيقِ وَيُخْرِجُ رُبُعَهُ مَعَ الصَّاعِ الدَّقِيقِ أَوْ الْخُبْزِ. 1 - الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هَلْ الْمُرَادُ عَيْشُ الْبَلَدِ فِي جَمِيعِ الْعَامِ أَوْ فِي خُصُوصِ رَمَضَانَ؟ قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَكَانَ شَيْخُنَا يُعْجِبُهُ اعْتِبَارُهُ فِي خُصُوصِ رَمَضَانَ؛ لِأَنَّ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةٌ لِلصَّائِمِينَ فَيُعْتَبَرُ مَا يُؤْكَلُ فِيهِ، وَأَيْضًا إنَّمَا يَقْتَاتُونَ فِي رَمَضَانَ أَحْسَنَ الْأَقْوَاتِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى كُلِّ كَبِيرٍ أَوْ صَغِيرٍ أَوْ عَبْدٍ يُوهِمُ أَنَّ الصَّغِيرَ وَالرَّقِيقَ هُمَا الْمُخَاطَبَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَ) : يَجِبُ أَنْ (يُخْرِجَ عَنْ الْعَبْدِ سَيِّدُهُ) : وَلَوْ مُدَبَّرًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ أَوْ آبِقًا مَرْجُوًّا أَوْ مَبِيعًا بِالْخِيَارِ أَوْ أَمَةً مَبِيعَةً فِي زَمَنِ مُوَاضَعَتِهَا؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا مِنْ بَائِعِهَا أَوْ مُخْدِمِهَا تَرْجِعُ لَهُ رَقَبَتُهُ وَإِلَّا وَجَبَتْ عَلَى مَنْ تَصِيرُ لَهُ رَقَبَتُهُ، وَأَمَّا عَبِيدُ الْعَبِيدِ فَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ الْأَعْلَى وَلَا الْأَسْفَلَ الْإِخْرَاجُ عَنْهُمْ وَلَا يَلْزَمُ الْإِخْرَاجُ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَالْمُشْتَرَكُ وَالْمُبَعَّضُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَبْدِ فِيمَا قَابَلَ جُزْأَهُ الْحُرَّ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْعَبْدَ الْإِخْرَاجُ عَنْهُ زَوْجَتِهِ. (وَ) : كَذَلِكَ الْوَلَدُ الْمُسْلِمُ (الصَّغِيرُ) : الَّذِي (لَا مَالَ لَهُ) يَجِبُ أَنْ (يُخْرِجَ عَنْهُ وَالِدُهُ) : حَتَّى يَبْلُغَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَالْأُنْثَى حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْبَالِغُ الْمُوسِرُ أَوْ تَطْلُبُهُ لِلدُّخُولِ بِهَا مَعَ بُلُوغِهِ وَإِطَاقَتِهَا، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَهُ مَالٌ لَمْ يَلْزَمْ وَالِدَهُ الْإِخْرَاجُ عَنْهُ لِسُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْهُ، وَمَفْهُومُ الصَّغِيرِ أَنَّ الْكَبِيرَ لَا يَجِبُ عَلَى أَبِيهِ الْإِخْرَاجُ عَنْهُ وَلَوْ كَانَ فَقِيرًا حَيْثُ بَلَغَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ لَا إنْ بَلَغَ زَمِنًا، أَوْ مَجْنُونًا؛ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَابِعَةٌ لِوُجُوبِ النَّفَقَةِ. (وَ) : الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ أَيْ (يُخْرِجُ الرَّجُلُ) : الْمُرَادُ الْمَالِكُ (زَكَاةَ الْفِطْرِ عَنْ كُلِّ مُسْلِمٍ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ) : بِقَرَابَةٍ كَأَبَوَيْهِ دَنِيَّةً الْفَقِيرَيْنِ أَوْ زَوْجَتِهِ وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً أَوْ غَنِيَّةً فِي الْعِصْمَةِ أَوْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا لَا مُطَلَّقَةً طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا، وَكَمَا يَلْزَمُهُ الْإِخْرَاجُ عَنْ أَبِيهِ الْفَقِيرِ يُخْرِجُ عَنْ زَوْجَتِهِ وَخَادِمِهِ، وَكَمَا لَا تَتَعَدَّدُ نَفَقَةُ خَادِمِ الزَّوْجَةِ لَا تَتَعَدَّدُ فِطْرَتُهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ قَدْرٍ. (وَ) : كَذَا يَلْزَمُ الْمَالِكُ أَنْ يُخْرِجَ (عَنْ مُكَاتَبِهِ وَإِنْ كَانَ لَا يُنْفِقُ عَلَيْهِ) : زَمَنَ الْكِتَابَةِ (؛ لِأَنَّهُ عَبْدٌ لَهُ) : مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ أَوْ؛ لِأَنَّهُ كَانَ حَطَّ عَنْهُ جُزْءًا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 الْغُدُوِّ إلَى الْمُصَلَّى وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي الْأَضْحَى وَيُسْتَحَبُّ فِي الْعِيدَيْنِ أَنْ يَمْضِيَ مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعَ مِنْ أُخْرَى.   [الفواكه الدواني] الْكِتَابَةِ فِي نَظِيرِ النَّفَقَةِ، وَيُخْرِجُ عَنْ كُلِّ شَخْصٍ مِمَّنْ ذُكِرَ مِنْ النَّوْعِ الَّذِي يَأْكُلُ مِنْهُ الْمُخْرَجُ عَنْهُ، وَاحْتَرَزَ بِتَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ عَنْ الْقَرِيبِ الَّذِي لَا تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ: كَالْأَبَوَيْنِ الْمُوسِرَيْنِ وَكَالْأَجْدَادِ وَلَوْ فُقَرَاءَ وَالْحَوَاشِي فَلَا يَلْزَمُ الشَّخْصَ الْإِخْرَاجُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ لِعَدَمِ وُجُوبِ نَفَقَتِهِمْ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الشَّخْصَ إخْرَاجُ فِطْرَةِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ بِالِالْتِزَامِ [زَمَنِ إخْرَاجِهَا زَكَّاهُ الْفِطْر] . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ زَمَنِ إخْرَاجِهَا: بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ) : لِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ إخْرَاجُ زَكَاةِ الْفِطْرِ عَنْ نَفْسِهِ أَوْ عَنْ غَيْرِهِ (إخْرَاجُهَا) : أَيْ دَفْعُهَا لِلْمَسَاكِينِ الَّذِينَ لَا يَمْلِكُونَ قُوتَ يَوْمِ الْفِطْرِ (إذَا طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ الْفِطْرِ) : وَقَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ. وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَقَبْلَ الْغُدُوِّ، إلَى الْمُصَلَّى لِيَأْكُلَ مِنْهَا الْفَقِيرُ قَبْلَ ذَهَابِهِ إلَى الْمُصَلَّى لِمَا فِي مُسْلِمٍ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْمُرُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ أَنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلَى الْمُصَلَّى» . وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ مَقْبُولَةٌ وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» وَيَجُوزُ إخْرَاجُهَا قَبْلَ يَوْمِ الْفِطْرِ بِيَوْمٍ أَوْ يَوْمَيْنِ. 1 - (تَتِمَّةٌ) : لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَقْتَ وُجُوبِهَا وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهَلْ بِأَوَّلِ لَيْلَةِ الْعِيدِ أَوْ بِفَجْرِهِ خِلَافٌ، أَيْ هَلْ يَتَعَلَّقُ الْخِطَابُ بِزَكَاةِ الْفِطْرِ عَلَى مَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا بِأَوَّلِ لَيْلَةِ الْعِيدِ وَهُوَ غُرُوبُ آخِرِ يَوْمٍ مِنْ رَمَضَانَ وَلَا يَمْتَدُّ وَقْتُ الْوُجُوبِ أَوْ يَتَعَلَّقُ بِفَجْرِ يَوْمِ الْعِيدِ خِلَافٌ، وَتَظْهَرُ فَائِدَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ وَصَارَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا وَقْتَ الْفَجْرِ كَالزَّوْجَةِ تَطْلُقُ وَالْعَبْدُ يُبَاعُ أَوْ يُعْتَقُ، وَعَكْسُهُ كَمَنْ تَزَوَّجَهَا أَوْ مَلَكَهَا بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْلَ الْفَجْرِ أَيْ وَبَقِيَتْ لِلْفَجْرِ إذْ لَوْ طَلُقَتْ أَوْ بِيعَتْ قَبْلَهُ لَمْ تَجِبْ زَكَاتُهَا عَلَى الْقَوْلَيْنِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: فَمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَقْتَ الْغُرُوبِ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ وَقْتَ الْفَجْرِ عَلَى الثَّانِي سَقَطَتْ عَنْهُ وَلَوْ صَارَ مِنْ أَهْلِهَا بَعْدُ، فَمَنْ مَاتَ أَوْ بِيعَ أَوْ طَلُقَتْ بَائِنًا أَوْ أُعْتِقَ قَبْلَ الْغُرُوبِ: سَقَطَتْ عَنْهُ وَعَنْ الْمُطَلِّقِ وَالْبَائِعِ وَالْمُعْتِقِ اتِّفَاقًا، وَبَعْدَ الْفَجْرِ وَجَبَتْ عَلَى مَنْ ذُكِرَ اتِّفَاقًا وَفِيمَا بَيْنَهُمَا الْقَوْلَانِ، فَتَجِبُ فِي تَرِكَةِ الْمَيِّتِ وَعَلَى الْمُعْتِقِ وَعَلَى الْمُطَلِّقِ وَعَلَى الْمَالِكِ هُوَ الْبَائِعُ عَلَى الْأَوَّلِ وَعَلَى الْمُشْتَرِي وَالْعَتِيقِ وَالْمُطَلَّقَةِ، وَتَسْقُطُ عَنْ الْمَيِّتِ عَلَى الثَّانِي، وَإِنْ وُلِدَ أَوْ أَسْلَمَ قَبْلَ الْغُرُوبِ وَجَبَتْ اتِّفَاقًا، وَبَعْدَ الْفَجْرِ سَقَطَتْ اتِّفَاقًا، وَفِيمَا بَيْنَهُمَا الْقَوْلَانِ الْوُجُوبُ عَلَى الثَّانِي لَا عَلَى الْأَوَّلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ قَارَنَتْ وِلَادَتُهُ الْغُرُوبَ أَوْ طُلُوعَ الْفَجْرِ أَوْ مَاتَ أَوْ فُقِدَ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ مَنْ وُلِدَ قَبْلَهُمَا أَوْ مَاتَ أَوْ فُقِدَ قَبْلَهُمَا، اُنْظُرْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ . (وَيُسْتَحَبُّ الْفِطْرُ فِيهِ) : أَيْ فِي عِيدِ الْفِطْرِ (قَبْلَ الْغُدُوِّ) : أَيْ الذَّهَابِ (إلَى الْمُصَلَّى) وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ عَلَى تَمَرَاتٍ. قَالَ الْبَغَوِيّ: وَيَأْكُلُهُنَّ وِتْرًا. (وَلَيْسَ ذَلِكَ) : أَيْ اسْتِحْبَابُ الْفِطْرِ (فِي الْأَضْحَى) : بَلْ الْمُسْتَحَبُّ فِيهِ تَأْخِيرُ الْفِطْرِ لِخَبَرِ الدَّارَقُطْنِيِّ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يُفْطِرُ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَرْجِعَ لِيَأْكُلَ مِنْ كَبِدِ الْأُضْحِيَّةِ» وَإِنَّمَا اُسْتُحِبَّ الْمُبَادَرَةُ بِالْفِطْرِ فِي عِيدِ الْفِطْرِ لِيُفَرِّقَ بَيْنَ زَمَانِ الْفِطْرِ وَالصَّوْمِ. (وَيُسْتَحَبُّ فِي) : حَقِّ كُلِّ مُرِيدٍ لِصَلَاةِ (الْعِيدَيْنِ) : الْفِطْرِ وَالْأَضْحَى (أَنْ يَمْضِيَ) : إلَى الْمُصَلَّى (مِنْ طَرِيقٍ وَيَرْجِعَ فِي) : طَرِيقٍ (أُخْرَى) أَيْ غَيْرِ الَّتِي مَضَى مِنْهَا إلَى الْمُصَلَّى وَتَقَدَّمَ هَذَا، فَكَانَ الْمُصَنِّفُ فِي غَنِيَّةٍ عَنْ إعَادَتِهِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) : تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ لَهَا مَزِيدُ تَعَلُّقٍ بِالْبَابِ، مِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ كَانَ مُسَافِرًا أَنْ يُعَجِّلَ الْإِخْرَاجَ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ الْمُخَاطَبِ بِالْإِخْرَاجِ عَنْهُمْ: وَلَا يُؤَخِّرُ الْإِخْرَاجَ حَتَّى يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ وَنِيَّتُهُ عَنْهُمْ كَافِيَةٌ، لَكِنْ يُخْرِجُ مِمَّا يَقْتَاتُهُ أَهْلُ بَلَدِهِمْ، فَلَوْ أَخْرَجَ عَنْهُ أَهْلُهُ أَجْزَأَ بِشَرْطِ الْإِخْرَاجِ مِمَّا يَأْكُلُهُ، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ أَوْصَاهُمْ أَوْ كَانَتْ عَادَتُهُمْ الْإِخْرَاجَ عَنْهُ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ لِفَقْدِ النِّيَّةِ مِمَّنْ لَمْ تَجِبْ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُخْرِجِ، بِخِلَافِ مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى الْمُخْرِجِ، فَنِيَّةُ الْمُخْرِجِ كَافِيَةٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ صَدَقَةَ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ عَمَّا خُوطِبَ بِهَا بِمُضِيِّ زَمَنِهَا بِخِلَافِ الضَّحِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا فَرْضٌ وَتِلْكَ سُنَّةٌ، وَالْفَرْضُ لَا يَسْقُطُ إلَّا بِفِعْلِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ إلَّا لِمَنْ لَا يَمْلِكُ قُوتَ يَوْمِ الْفِطْرِ عَلَى مَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ، وَقِيلَ: تُدْفَعُ لِفَقِيرٍ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا وَإِنْ كَانَ لَا يَكْفِيهِ جَمِيعَ عَامِهِ لِحِكَايَةِ اللَّخْمِيِّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنَّهَا لَا تُدْفَعُ لِمَالِكِ النِّصَابِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي بَيَانِ مَنْ تُصْرَفُ لَهُ: وَإِنَّمَا تُدْفَعُ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ فَقِيرٍ، فَلَا تُدْفَعُ لِجَابٍ وَلَا مُفَرِّقٍ، وَلَا يُشْتَرَى مِنْهَا رَقِيقٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ سِوَى مَا تَقَدَّمَ [بَاب فِي الْحَجّ وَالْعُمْرَة] . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْأَرْبَعَةِ شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالرُّكْنِ الْخَامِسِ فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 بَابٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ الَّذِي بِبَكَّةِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ سَبِيلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ مَرَّةً فِي عُمُرِهِ وَالسَّبِيلُ الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ وَالزَّادُ الْمُبَلِّغُ إلَى مَكَّةَ وَالْقُوَّةُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ إمَّا رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا مَعَ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) : الْكَلَامِ عَلَى (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ) : أَمَّا الْحَجُّ فَهُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الْقَصْدِ أَوْ بِقَيْدِ التَّكْرَارِ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: يُمْكِنُ رَسْمُهُ بِأَنَّهُ عِبَادَةٌ يَلْزَمُهَا وُقُوفٌ بِعَرَفَةَ لَيْلَةَ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ وَحَدُّهُ بِزِيَارَةٍ وَطَوَافِ ذِي طُهْرٍ أَخَصُّ بِالْبَيْتِ عَنْ يَسَارِهِ سَبْعًا بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَالسَّعْيِ مِنْ الصَّفَا إلَى الْمَرْوَةِ وَمِنْهَا إلَيْهِ سَبْعًا بَعْدَ طَوَافٍ لَا بِقَيْدِ وَقْتِهِ بِإِحْرَامٍ فِي الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ بِالطُّهْرِ الْأَخَصُّ هُوَ مَا كَانَ مِنْ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ وَالْأَكْبَرِ، أَوْ مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ؛ لِأَنَّ الطَّوَافَ كَالصَّلَاةِ، وَمَعْنَى لَا بِقَيْدِ وَقْتِهِ أَنَّ الطَّوَافَ الَّذِي تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صِحَّةُ السَّعْيِ لَا يَتَقَيَّدُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، بِخِلَافِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَهِيَ لُغَةً الزِّيَادَةُ، وَاصْطِلَاحًا عِبَادَةٌ يَلْزَمُهَا طَوَافٌ وَسَعْيٌ مَعَ إحْرَامٍ، وَحَدُّهَا عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَبَدَأَ بِبَيَانِ حُكْمِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ: (وَحَجُّ) : أَيْ قَصْدُ (بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامَ الَّذِي بِبَكَّةِ) : لِلْعِبَادَةِ الْمَخْصُوصَةِ الَّتِي مَرَّ حَدُّهَا، وَبَكَّةُ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَيُقَالُ مَكَّةُ بِالْمِيمِ فَهُمَا لُغَتَانِ، وَقَوْلُهُ: الَّذِي بِبَكَّةِ وَصْفٌ كَاشِفٌ؛ لِأَنَّ بَيْتَ اللَّهِ الْحَرَامَ إنَّمَا هُوَ فِي مَكَّةَ فَقَطْ وَإِضَافَتُهُ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِلتَّشْرِيفِ، وَخَبَرُ حَجٍّ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً. (فَرِيضَةٌ) : عَلَى الْفَوْرِ عَلَى تَشْهِيرِ الْعِرَاقِيِّينَ، وَعَلَى التَّرَاخِي عَلَى تَشْهِيرِ الْمَغَارِبَةِ، إلَّا أَنْ يُخَافَ الْفَوَاتُ فَيُتَّفَقُ عَلَى أَنَّهُ عَلَى الْفَوْرِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ حَتَّى صَارَ وُجُوبُهُ كَالْمَعْلُومِ مِنْ الدَّيْنِ بِالضَّرُورَةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلا} [آل عمران: 97] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا مَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ الْحَجَّ فَحُجُّوا، فَقَالَ رَجُلٌ: أَكُلَّ عَامٍ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَسَكَتَ حَتَّى قَالَهَا ثَلَاثًا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَوْ قُلْت نَعَمْ لَوَجَبَتْ وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ» وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ زِيَادَةٌ: «فَمَنْ زَادَ فَتَطَوَّعَ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَالَ ابْنُ بَشِيرٍ: أَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَمَنْ جَحَدَهُ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَهُوَ كَافِرٌ يُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَمَنْ أَقَرَّ بِوُجُوبِهِ وَامْتَنَعَ مِنْ فِعْلِهِ فَاَللَّهُ حَسْبُهُ، وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ بِنَاءً عَلَى تَرَاخِيهِ؛ وَلِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ قَدْ لَا تَكُونُ مَوْجُودَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَجُّ أَشَقَّ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ قَالَ: (عَلَى كُلِّ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَى ذَلِكَ) : الْبَيْتِ (سَبِيلًا) : مَعْمُولُ اسْتَطَاعَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ سُلُوكَ سَبِيلٍ أَيْ طَرِيقٍ حَالَةَ كَوْنِ ذَلِكَ الْمُسْتَطِيعِ. (مِنْ الْمُسْلِمِينَ) : بِنَاءً عَلَى عَدَمِ خِطَابِ الْكُفَّارِ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَالْمَشْهُورُ خِطَابُهُمْ بِفُرُوعِهَا، فَالْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي صِحَّتِهِ فَقَطْ كَسَائِرِ الْعِبَادَاتِ، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ عَلَيْهِمْ مَعَ عَدَمِ صِحَّتِهِ مِنْهُمْ عِقَابُهُمْ وَوَصَفَ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ) : فَلَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ وَإِنْ صَحَّ مِنْهُمَا. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُمَا أَيْ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ بِالْإِسْلَامِ، فَيُحْرِمُ الْوَلِيُّ عَنْ الرَّضِيعِ وَالْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ بِخِلَافِ الْمُغْمَى عَلَيْهِ وَإِنْ أَيِسَ مِنْ إفَاقَتِهِ، وَأَمَّا شَرْطُ الْوُجُوبِ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَشَرْطُ وُجُوبِهِ كَوُقُوعِهِ فَرْضًا حُرِّيَّةٌ وَتَكْلِيفٌ وَقْتَ إحْرَامِهِ بِلَا نِيَّةِ نَفْلٍ، وَوَجَبَ بِاسْتِطَاعَةٍ بِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظُمَتْ، وَأَمْنٍ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ شَرْطَ الصِّحَّةِ الْإِسْلَامُ فَقَطْ، وَشَرْطُ الْوُجُوبِ فَقَطْ الِاسْتِطَاعَةُ وَإِذْنُ وَلِيِّ السَّفِيهِ، وَشَرْطُ الْوُجُوبِ مَعَ وُقُوعِهِ فَرْضًا الْحُرِّيَّةُ وَالتَّكْلِيفُ وَقْتَ الْإِحْرَامِ، وَشَرْطُ وُقُوعِهِ فَرْضًا فَقَطْ عَدَمُ نِيَّةِ النَّفْلِيَّةِ ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَبْرَأُ بِهِ الذِّمَّةُ مِنْ فَرِيضَةِ الْحَجِّ بِقَوْلِهِ: (مَرَّةً) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ الْمُبَيِّنِ لِلْعَدَدِ عَامِلُهُ فَرِيضَةٌ أَيْ وَحَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامَ فَرِيضَةٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ مَرَّةً (فِي عُمُرِهِ) : وَمَا زَادَ عَلَى ذَلِكَ فَفَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ حَصَلَ الْقِيَامُ بِهِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ كَانَ نَافِلَةً مِنْ غَيْرِهِ، كَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 صِحَّةِ الْبَدَنِ وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَمِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ الْجُحْفَةُ فَإِنْ مَرُّوا بِالْمَدِينَةِ   [الفواكه الدواني] أَنَّ سُنَّةَ الْعُمْرَةِ تَحْصُلُ بِمَرَّةٍ كَمَا يَأْتِي، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا يَقَعُ نَافِلَةً حَيْثُ حَصَلَتْ فِي عَامٍ آخَرَ،؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ إلَّا لِعَارِضٍ، كَمَنْ تَكَرَّرَ دُخُولُهُ الْحَرَمَ وَدَخَلَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ 1 - ، وَاخْتُلِفَ هَلْ فُرِضَ الْحَجُّ قَبْلَ الْهِجْرَةِ وَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] تَأْكِيدًا لَهُ، أَوْ بَعْدَهَا سَنَةَ خَمْسٍ أَوْ سِتٍّ، وَصَحَّحَهُ الشَّافِعِيُّ أَوْ ثَمَانٍ أَوْ تِسْعٍ وَصَحَّحَهُ فِي الْإِكْمَالِ أَقْوَالٌ، وَحَجَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَجَّةً وَاحِدَةً وَهِيَ حَجَّةُ الْوَدَاعِ فِي السَّنَةِ الْعَاشِرَةِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ حَجَّ قَبْلَهَا مَرَّاتٍ وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَمَا قَالَ أَنَسٌ: «عُمْرَةُ الصَّدِّ عَنْ الْبَيْتِ حِينَ أَحْرَمَ بِهَا وَصَدَّهُ الْمُشْرِكُونَ، وَعُمْرَتُهُ أَيْضًا مِنْ الْعَامِ الْمُقْبِلِ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ حَجَّتِهِ، وَعُمْرَتُهُ حِينَ قَسَّمَ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ مِنْ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ» [تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ] . ثُمَّ بَيَّنَ السَّبِيلَ الَّذِي يَكُونُ بِالتَّمَكُّنِ مِنْهُ مُسْتَطِيعًا بِقَوْلِهِ: (وَالسَّبِيلُ) : لَا بِالْمَعْنَى السَّابِقِ بَلْ بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ بِدَلِيلِ عَطْفِ الزَّادِ وَمَا بَعْدَهُ عَلَيْهِ عِبَارَةٌ عَنْ اجْتِمَاعِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا (الطَّرِيقُ السَّابِلَةُ) : أَيْ الْمَأْمُونَةُ فَإِنْ لَمْ يَأْمَنْ فِيهَا عَلَى نَفْسِهِ أَوْ مَالِهِ سَقَطَ عَنْهُ الْحَجُّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْخَوْفُ مِنْ لِصٍّ أَوْ عَشَّارٍ يَأْخُذُ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يَجْحَفُ بِمَالِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ، وَعُلِمَ أَنَّهُ لَا يَعُودُ ثَانِيًا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ، وَأَمَّا إنْ عُلِمَ رُجُوعُهُ أَوْ شَكَّ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَجِبُ مَعَهُ الْحَجُّ عَلَى الْمُعْتَمَدِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ مَشْرُوطَةٌ بِالْأَمْنِ، وَعِنْدَ الشَّكِّ لَا أَمْنَ، وَالْقِلَّةُ بِالنَّظَرِ لِلْمَأْخُوذِ مِنْهُ الْمَالُ، وَأَشْعَرَ سُقُوطُ الْحَجِّ بِأَخْذِ مَنْ ذُكِرَ عَلَى الْوَجْهِ الْمُسْقِطِ أَنَّ مَا يَأْخُذُهُ الْجُنْدُ مِنْ الْحُجَّاجِ لِيَدْفَعُوا عَنْهُمْ كُلَّ يَدٍ عَادِيَةٍ جَائِزٌ لِشَبَهِهِ بِالنَّفَقَةِ اللَّازِمَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ وَالزَّادِ، ذَكَرَهُ سَنَدٌ عَنْ أَبِي بَكْرِ مُحَمَّدِ بْنِ الْوَلِيدِ. (وَ) ثَانِي الْأُمُورِ (الزَّادُ الْمُبَلِّغُ) : أَيْ الْمُوَصِّلُ (إلَى مَكَّةَ) : وَلَوْ بِثَمَنِ وَلَدِ زِنًا مِنْ أَمَتِهِ، أَوْ مَا يُبَاعُ عَلَى الْمُفْلِسِ كَكُتُبِهِ وَلَوْ الْمُحْتَاجَ إلَيْهَا، أَوْ ثَوْبَيْ جُمُعَتِهِ إنْ كَثُرَتْ قِيمَتُهُمَا، وَدَارِهِ وَمَاشِيَتِهِ، بَلْ وَلَوْ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الزَّادِ الْمُبَلِّغِ مِنْ صَنْعَةٍ تَقُومُ بِهِ حَيْثُ كَانَ يَظُنُّ عَدَمَ كَسَادِهَا بِشَرْطِ أَنْ لَا تَكُونَ تُزْرِي بِهِ، وَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ الْمُبَلِّغِ إلَى مَكَّةَ أَنَّهُ لَا يُعْتَبَرُ فِي الِاسْتِطَاعَةِ وُجُودُ مَا يَرِدُ بِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاعْتُبِرَ مَا يَرِدُ بِهِ إنْ خَشِيَ ضَيَاعًا، وَحِينَئِذٍ فَيُعْتَبَرُ الْقُدْرَةُ عَلَى مَا يُوَصِّلُهُ وَيَرِدُ بِهِ إلَى أَقْرَبَ مَكَان يُمْكِنُ التَّمَشِّي فِيهِ بِمَا لَا يُزْرِي بِهِ مِنْ الْحِرَفِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ وُجُوبُ الْحَجِّ عَلَى الْقَادِرِ عَلَى الزَّادِ الْمُبَلِّغِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَلَوْ كَانَ أَعْزَبَ وَيَحْتَاجُ إلَى النِّكَاحِ بِمَا مَعَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَخْشَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ بِمَا مَعَهُ، وَلَوْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى إنْفَاقِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ أَوْ أَبَوَيْهِ أَوْ زَوْجَاتِهِ وَلَوْ خَشِيَ تَطْلِيقَهُنَّ عَلَيْهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَإِنْ بِافْتِقَارِهِ أَوْ تَرْكِ وَلَدِهِ لِلصَّدَقَةِ إنْ لَمْ يَخْشَ هَلَاكًا، وَهَذَا كُلُّهُ بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ، وَأَمَّا قُدْرَتُهُ بِالدَّيْنِ أَوْ قَبُولِ الْعَطِيَّةِ مِنْ الْغَيْرِ وَلَوْ مِنْ الِابْنِ لِأَبِيهِ كَمَا هُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَوْ بِالسُّؤَالِ فَلَا تَكُونُ اسْتِطَاعَةً وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ السُّؤَالَ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِدَيْنٍ أَوْ عَطِيَّةٍ أَوْ سُؤَالٍ مُطْلَقًا، خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ حَيْثُ قَالَ: وَقُدْرَةُ سَائِلٍ بِالْحَضَرِ عَلَى سُؤَالِ كِفَايَتِهِ بِالسَّفَرِ اسْتِطَاعَةٌ، وَرَجَّحَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا كَلَامَ ابْنِ عَرَفَةَ وَهُوَ الْمَشْهُورُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ بَلْ هُوَ صَرِيحُهُ أَنَّهُ لَا يُعَدُّ اسْتِطَاعَةً، وَهُوَ الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلَامُهُمْ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ فَيُعَوَّلُ عَلَيْهِ. (وَ) : ثَالِثُ الْأُمُورِ (الْقُوَّةُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ) : عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ، إذْ لَا يُشْتَرَطُ انْتِفَاؤُهَا جُمْلَةً وَإِلَّا سَقَطَ الْحَجُّ عَنْ غَالِبِ النَّاسِ الْمُسْتَطِيعِينَ، إذْ لَا بُدَّ مِنْ أَصْلِ الْمَشَقَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنْفُسِ} [النحل: 7] وَلَوْ كَانَ صَاحِبُ الْقُوَّةِ الْمَذْكُورَةِ أَعْمَى يَجِدُ قَائِدًا وَيَجِدُ أُجْرَتَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِمَا، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ مَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ عَلَى الْوُصُولِ جُمْلَةً أَوْ لَهُ لَكِنْ مَعَ مَشَقَّةٍ عَظِيمَةٍ لَا يَكُونُ مُسْتَطِيعًا، وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْفَرْضُ إنْ تَكَلَّفَ الْمَشَقَّةَ وَحَجَّ كَمَنْ فَرْضُهُ الصَّلَاةُ مِنْ جُلُوسٍ وَتَكَلَّفَ الْقِيَامَ، وَقَوْلُنَا عَلَى الْوَجْهِ الْمُعْتَادِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ قَدَرَ عَلَى الْوُصُولِ بِنَحْوِ طَيَرَانٍ فَلَا يُعَدُّ مُسْتَطِيعًا شَرْعًا، وَإِنْ كَانَ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَجُّ إنْ فَعَلَ، وَقَوْلُهُ إلَى مَكَّةَ كَانَ الْأَوْلَى إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لِلضَّمِيرِ وَالْقُوَّةِ الْمَذْكُورَةِ. (إمَّا) : بِتَمَكُّنِهِ مِنْ الْوُصُولِ (رَاكِبًا) : لِدَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ (أَوْ رَاجِلًا) : أَيْ مَاشِيًا عَلَى رِجْلَيْهِ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ؛ لِأَنَّ الِاسْتِطَاعَةَ عِنْدَ مَالِكٍ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا وُجُودُ رَاحِلَةٍ بَلْ الْقُدْرَةُ عَلَى الْوُصُولِ مِنْ غَيْرِ عَظِيمِ مَشَقَّةٍ. وَرَابِعُ الْأُمُورِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ (مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ) : فَالْمَرِيضُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ وَإِنْ وَجَدَ الزَّادَ وَالرَّاحِلَةَ، وَلَوْ أَسْقَطَ قَوْلُهُ: مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ لَكَانَ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ ذِكْرَهُ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالْقُوَّةُ عَلَى الْوُصُولِ إلَى مَكَّةَ يُشْبِهُ التَّكْرَارَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِهَا مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ ذَاتُ عِرْقٍ وَأَهْلُ الْيَمَنِ يَلَمْلَمُ وَأَهْلُ نَجْدٍ   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا السَّبِيلَ بِالِاسْتِطَاعَةِ أَنَّ فِي كَلَامِهِ شِبْهَ اسْتِخْدَامٍ؛ لِأَنَّ السَّبِيلَ فِي الْأَوَّلِ الطَّرِيقُ الْمَسْلُوكُ وَالسَّبِيلُ الثَّانِي بِمَعْنَى الِاسْتِطَاعَةِ الَّتِي هِيَ أَخَصُّ مِنْ ذَلِكَ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَسْتَقِيمُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَعَ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِطَاعَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي وُجُوبِهِ حَيْثُ قَالَ: وَوَجَبَ بِاسْتِطَاعَةٍ، بِقَوْلِهِ: بِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظُمَتْ وَأَمْنٍ عَلَى نَفْسٍ وَمَالٍ إلَخْ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَالسَّبِيلُ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ قَصَدَ بِهَا تَفْسِيرَ الِاسْتِطَاعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: وَالِاسْتِطَاعَةُ الْمَفْهُومَةُ مَنْ اسْتَطَاعَ الطَّرِيقَ الْمَأْمُونَةَ وَالزَّادَ وَالْقُوَّةَ عَلَى الْوُصُولِ مَعَ صِحَّةِ الْبَدَنِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِرَكَاكَةِ التَّرْكِيبِ عَلَى مَنْ لَيْسَ لَهُ مَعْرِفَةٌ بِالتَّرَاكِيبِ. الثَّانِي: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: رَاكِبًا أَوْ رَاجِلًا أَنَّ الْبَحْرَ كَالْبَرِّ؛ لِأَنَّ الرُّكُوبَ شَامِلٌ لِرُكُوبِ السَّفِينَةِ كَمَا ذَكَرْنَا وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْبَحْرُ كَالْبَرِّ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَطَبُهُ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ يَلْزَمُ عَلَى السَّفَرِ فِيهِ تَضْيِيعُ الصَّلَاةِ أَوْ رُكْنٍ مِنْ أَرْكَانِهَا، لِكَمَيْدٍ: وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَيْضًا أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ لِعُمُومِ مَنْ اسْتَطَاعَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ بَعِيدًا فَيَلْزَمُ الْحَجُّ الرَّجُلَ دُونَ الْمَرْأَةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهَا فِي سَفَرٍ لِلْبَحْرِ إلَّا أَنْ تَخُصَّ بِمَكَانٍ فَيَلْزَمُهَا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ فِي سَفَرِهَا مِنْ مُحْرِمٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ، فَإِنَّهَا تَقُومُ مَقَامَ الْمُحْرِمِ أَوْ الزَّوْجِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِمَا، لَكِنْ فِي حَجِّ الْفَرْضِ دُونَ النَّفْلِ. [غَصَبَ مَالًا وَحَجَّ بِهِ] 1 (فَائِدَةٌ) : وَقَعَ خِلَافٌ فِيمَنْ غَصَبَ مَالًا وَحَجَّ بِهِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ يَسْقُطُ لِصِحَّتِهِ بِهِ، وَعِنْدَ أَحْمَدَ لَا يَسْقُطُ لِبُطْلَانِهِ عِنْدَهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْحَجُّ، وَهُوَ الْمُسْتَطِيعُ وَبَيَّنَ الِاسْتِطَاعَةَ، شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْحَجِّ، لَكِنْ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ مَنْ أَرَادَ الشُّرُوعَ فِي شَيْءٍ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْرِفَ أَرْكَانَهُ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي صِفَتِهِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ الْمَطْلُوبَ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ أَرْكَانَ الْحَجِّ أَرْبَعَةٌ: الْإِحْرَامُ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وَيَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِ اثْنَيْنِ وَهُمَا: الْإِحْرَامُ وَالْوُقُوفُ، وَأَمَّا الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ فَلَا يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِمَا بَلْ يَأْتِي بِهِمَا وَلَوْ فَاتَ الْعَامُ، وَحَقِيقَةُ الْإِحْرَامِ فِي اللُّغَةِ الدُّخُولُ فِي الْحَرَمِ أَوْ فِي حُرْمَةِ الْحَجِّ أَوْ الصَّلَاةِ، وَشَرْعًا قَالَ خَلِيلٌ فِي مَنَاسِكِهِ: هُوَ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ مَعَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ مُتَعَلِّقَيْنِ بِهِ، فَالْقَوْلُ كَالتَّلْبِيَةِ وَالْفِعْلُ كَالتَّوَجُّهِ إلَى الطَّرِيقِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُرْمَةَ مُقَدَّمَاتِ الْوَطْءِ مُطْلَقًا وَإِلْقَاءِ الشَّعَثِ وَالطِّيبِ، وَلُبْسِ الذَّكَرِ الْمَخِيطِ وَالْمُحِيطِ وَالصَّيْدِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَا يَبْطُلُ بِمَا يَمْنَعُهُ فَقَالَ: (وَإِنَّمَا يُؤْمَرُ) : الْقَادِمُ مِنْ أُفُقِهِ إلَى الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ (أَنْ يُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ) : الْمَعْرُوفِ لِبَلَدِهِ الَّذِي قَدِمَ مِنْهُ الْآتِي بَيَانُهُ، وَيُكْرَهُ إحْرَامُهُ قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِيُحْرِمَ مِنْ الْمِيقَاتِ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ بِرُجُوعِهِ قَبْلَ إحْرَامِهِ فِي الْحَرَمِ نَزَلَ مَنْزِلَةَ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ فِي الْحَرَمِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ الدَّمُ وَلَوْ رَجَعَ إلَى الْمِيقَاتِ بَعْدَ الْإِحْرَامِ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ الرُّجُوعِ عَلَى مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَالًا أَنْ لَا يَخَافَ فَوَاتَ الْحَجِّ أَوْ رُفْقَتِهِ بِرُجُوعِهِ، وَإِلَّا أَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ وَمَضَى فِي الْحَرَمِ وَيَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَإِنَّمَا حَرُمَ مُجَاوَزَةُ الْمِيقَاتِ بِلَا إحْرَامٍ؛ لِأَنَّ الْجَوَازَ مِنْ خُصُوصِيَّاتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَاسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ الْمُتَرَدِّدِينَ عَلَى مَكَّةَ كَالْمُتَسَبَّبِينَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْخُضَرِ وَالْحَطَّابِينَ، وَالْخَارِجِ مِنْ مَكَّةَ رَافِضًا سُكْنَاهَا وَيَرْجِعُ لَهَا لِحَاجَةٍ نَسِيَهَا وَخَرَجَ مِنْهَا سَرِيعًا، وَكَذَا مَنْ خَرَجَ مِنْهَا إلَى مَحَلٍّ قَرِيبٍ وَرَجَعَ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يُقِيمَ زَمَنًا كَثِيرًا فَلَا إحْرَامَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ إلَّا مَكَانَ الْإِحْرَامِ وَسَكَتَ عَنْ زَمَانِهِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ أَكْمَلَ بَيَانٍ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ وَقْتَ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ الَّذِي يُكْرَهُ تَقَدُّمُهُ عَلَيْهِ شَوَّالٌ إلَى طُلُوعِ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَهَذَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ أَهْلِ الْآفَاقِ بِخِلَافِ مِيقَاتِهِ الْمَكَانِيِّ، فَإِنْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ قَبْلَ شَوَّالٍ كُرِهَ وَانْعَقَدَ، كَمَا يُكْرَهُ إيقَاعُهُ قَبْلَ مَكَانِهِ الْآتِي فِي كَلَامِهِ، وَأَمَّا إحْرَامُهُ بِالْعُمْرَةِ فَوَقْتُهُ الزَّمَنُ كُلُّهُ وَلَوْ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ يَوْمِ عَرَفَةَ، إلَّا مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهَا إلَّا بَعْدَ تَحْلِيلِ الْحَجِّ أَوْ بَعْدَ فَرَاغِ الْعُمْرَةِ كَمَا سَنُوَضِّحُهُ عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا إلَّا مَكَانَ إحْرَامِ الْقَادِمِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مَكَانَ إحْرَامِ الْمُقِيمِ بِمَكَّةَ وَمَحَلُّهُ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَكَانُهُ لَهُ لِلْمُقِيمِ مَكَّةُ وَنُدِبَ الْمَسْجِدُ وَلَوْ كَانَ الْمُقِيمُ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا، وَمِثْلُ الْمُقِيمِ بِهَا مَنْ قَرُبَ مِنْهَا كَالْمَنْوِيِّ وَالْمُزْدَلِفِيِّ وَكُلُّ مَنْ مَنْزِلُهُ فِي الْحَرَمِ، وَأَمَّا لَوْ أَرَادَ الْمُقِيمُ الْإِحْرَامَ بِالْعُمْرَةِ أَوْ بِالْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ فَيَخْرُجُ إلَى الْحِلِّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا وَلِلْقُرْآنِ الْحِلُّ وَالْجِعْرَانَةُ أَوْلَى، ثُمَّ التَّنْعِيمُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِمَسَاجِدِ عَائِشَةَ، وَتُطْلِقُ عَلَيْهِ الْعَامَّةُ الْعُمْرَةَ وَلَمَّا كَانَ مِيقَاتُ أَهْلِ الْآفَاقِ الْمَكَانِيِّ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِهِمْ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمِيقَاتُ أَهْلِ الشَّامِ وَ) : أَهْلِ (مِصْرَ وَأَهْلِ الْمَغْرِبِ) وَمَنْ خَلْفَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْأَنْدَلُسِ وَأَهْلِ الرُّومِ وَالتَّكْرُورِ (الْجُحْفَةُ) : بِضَمِّ الْجِيمِ وَإِسْكَانِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالْفَاءِ قَرْيَةٌ خَرِبَتْ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ عَلَى خَمْسِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ وَثَمَانٍ مِنْ الْمَدِينَةِ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ السَّيْلَ أَجْحَفَهَا، فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْهَا حَيْثُ مَرُّوا بِهَا. (فَإِنْ مَرُّوا) : أَيْ أَهْلُ الشَّامِ وَمِصْرَ وَالْمَغْرِبِ وَمَنْ مَعَهُمْ (بِالْمَدِينَةِ) : الْمُشَرَّفَةِ (فَالْأَفْضَلُ لَهُمْ أَنْ يُحْرِمُوا مِنْ مِيقَاتِ أَهْلِهَا) : وَهُوَ (مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) :؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَحْرَمَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا نُدِبَ الْإِحْرَامُ فِي حَقِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 مِنْ قَرْنٍ وَمَنْ مَرَّ مِنْ هَؤُلَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ إذْ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى مِيقَاتٍ لَهُ وَيُحْرِمُ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ بِإِثْرِ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ يَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ إنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَك   [الفواكه الدواني] هَؤُلَاءِ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِمْ؛ لِأَنَّ مِيقَاتَهُمْ أَمَامَهُمْ، وَلِهَذَا لَوْ أَرَادُوا أَنْ يَذْهَبُوا إلَى مَكَّةَ مِنْ طَرِيقٍ آخَرَ بِحَيْثُ لَا يَمُرُّونَ عَلَى مِيقَاتِهِمْ وَلَا يُحَازُونَهُ لَوَجَبَ عَلَيْهِمْ الْإِحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ كَمَا يَجِبُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَالْحُلَيْفَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ اللَّامِ وَالْفَاءِ تَصْغِيرُ حَلْفَةٌ وَهُوَ فِي الْأَصْلِ اسْمُ مَاءٍ لِبَنِي جُشَمٍ بِالْجِيمِ وَالشَّيْنِ الْمُعْجَمَةِ، وَهَذَا الْمِيقَاتُ أَبْعَدُ الْمَوَاقِيتِ مِنْ مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى عَشْرِ أَوْ تِسْعِ مَرَاحِلَ مِنْ مَكَّةَ، وَمِنْ الْمَدِينَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَوْ سِتَّةِ أَوْ أَرْبَعَةِ أَمْيَالٍ، وَيُسَمَّى مَسْجِدُهَا مَسْجِدَ الشَّجَرَةِ وَقَدْ خَرِبَ، وَبِهَا بِئْرٌ تُسَمِّيهَا الْعَوَامُّ بِئْرَ عَلِيٍّ، وَلِهَذَا الْمِيقَاتِ خُصُوصِيَّةٌ عَلَى غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحْرِمَ مِنْهُ يُحْرِمُ مَنْ حَرَمٍ وَيَحِلُّ فِي حَرَمٍ، فَفِيهِ شَرَفُ الِابْتِدَاءِ وَالِانْتِهَاءِ، وَأَيْضًا هُوَ مِيقَاتُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَمِيقَاتُ أَهْلِ الْعِرَاقِ) : وَفَارِسَ وَخُرَاسَانَ وَالْمَشْرِقِ وَمَنْ وَرَاءَهُمْ (ذَاتُ عِرْقٍ) : بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ مَوْضِعٌ بِالْبَادِيَةِ كَانَ قَرْيَةً وَخَرِبَتْ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ، يُقَالُ إنَّ بِنَاءَهَا تَحَوَّلَ إلَى جِهَةِ الْكَعْبَةِ فَيَتَحَرَّى مُرِيدُ الْإِحْرَامِ مَكَانَ الْقَرْيَةِ الْقَدِيمَةِ وَيُحْرِمُ مِنْهُ،؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَوَاقِيتَ مُعْتَبَرَةٌ بِأَنْفُسِهِمَا لَا بِأَسْمَائِهَا، فَلَوْ تَحَوَّلَتْ الْبَلَدُ أَوْ تَغَيَّرَ اسْمُهَا فَالْمُعْتَبَرُ الْمَحَلُّ الْأَصْلِيُّ. قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَمِنْ عَلَامَاتِ ذَاتِ عِرْقٍ الْمَقَابِرُ الْقَدِيمَةُ. (وَ) : مِيقَاتُ (أَهْلِ الْيَمَنِ) : وَالْهِنْدِ (يَلَمْلَمُ) : بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَالْمِيمُ بَيْنَهُمَا سَاكِنَةٌ وَآخِرُهُ مِيمٌ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ تِهَامَةَ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْ مَكَّةَ. (وَ) : مِيقَاتُ (أَهْلِ نَجْدٍ) الْيَمَنِ وَنَجْدٍ وَالْحِجَازِ (قَرْنٌ) : بِفَتْحِ الْقَافِ وَسُكُونِ الرَّاءِ يُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ لَا قَرْنُ الثَّعَالِبِ، وَعَنْ الْخَلِيلِ أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ قَرْنُ الْمَنَازِلِ وَالثَّعَالِبِ وَهُوَ جَبَلٌ صَغِيرٌ مُنْقَطِعٌ عَنْ الْجِبَالِ، قَالَ خَلِيلٌ فِي التَّوْضِيحِ: إنَّهُ أَقْرَبُ الْمَوَاقِيتِ لِمَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ عَلَى مَرْحَلَتَيْنِ مِنْهَا، وَأُوَيْسٌ الْقَرَنِيُّ لَيْسَ مَنْسُوبًا إلَيْهِ وَإِنَّمَا هُوَ مَنْسُوبٌ إلَى قَبِيلَةِ قَرَنٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ بَطْنٌ مِنْ مُرَادَ كَمَا قَالَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْدِيدِ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ ذَا الْحُلَيْفَةِ، وَلِأَهْلِ الشَّامِ الْجُحْفَةَ، وَلِأَهْلِ نَجْدٍ قَرْنَ الْمَنَازِلِ، وَلِأَهْلِ الْيَمَنِ يَلَمْلَمَ، وَقَالَ: هُنَّ لَهُنَّ وَلِمَنْ أَتَى عَلَيْهِنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهِنَّ لِمَنْ أَرَادَ الْحَجَّ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ وَمَنْ كَانَ دُونَ ذَلِكَ فَمِنْ حَيْثُ أَنْشَأَ الْإِحْرَامَ حَتَّى أَهْلِ مَكَّةَ مِنْ مَكَّةَ فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَيَخْرُجُ يُحْرِمُ بِهَا مِنْ الْحِلِّ» قَالَ صَاحِبُ الْإِكْمَالِ: هَذَا التَّحْدِيدُ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «؛ لِأَنَّهُ حَدَّدَ الْمَوَاقِيتَ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَحَ الْبِلَادَ» ، وَنَحْوُهُ قَوْلُ ابْنِ بَزِيزَةَ: عَلِمَهُ بِالْوَحْيِ فِي فَتْحِ الْمَدَائِنِ وَالْأَقْطَارِ لِأُمَّتِهِ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهُ تَحْدِيدٌ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ، وَلِابْنِ حَبِيبٍ تَقْرِيبٌ، وَيُرْوَى أَنَّ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ كَانَ لَهُ نُورٌ فِي أَوَّلِ أَمْرِهِ يَصِلُ آخِرُهُ لِهَذِهِ الْحُدُودِ، فَمَنَعَ الشَّارِعُ مُجَاوَزَتَهَا الْمُرِيدَ الْحَجَّ بِلَا إحْرَامٍ تَعْظِيمًا لِتِلْكَ الْآيَاتِ، وَلَمَّا قَدَمَ أَنَّ نَحْوَ الْمَصْرِيِّ وَالشَّامِيِّ إذَا مَرَّ بِالْمَدِينَةِ يُنْدَبُ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَكَانَ غَيْرُهُمْ يَجِبُ عَلَيْهِ قَالَ: (وَمَنْ مَرَّ مِنْ هَؤُلَاءِ) : الْجَمَاعَةِ أَعْنِي أَهْلَ الْعِرَاقِ وَأَهْلَ الْيَمَنِ وَأَهْلَ نَجْدٍ (بِالْمَدِينَةِ) : الْمُشَرَّفَةِ (فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يُحْرِمَ مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ) : وَعَلَّلَ وُجُوبَ الْإِحْرَامِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (إذْ لَا يَتَعَدَّاهُ إلَى مِيقَاتٍ) : بِالتَّنْوِينِ (لَهُ) : بِخِلَافِ نَحْوِ الْمِصْرِيِّ إذَا مَرَّ عَلَيْهِ يَصِيرُ مِيقَاتُهُ أَمَامَهُ، فَلِذَا نُدِبَ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْهُ وَلَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ إحْرَامِ مَنْ مَسْكَنُهُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَوَاقِيتِ وَمَكَّةَ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُحْرِمُ مِنْ مَنْزِلِهِ، وَيُنْدَبُ لَهُ الْإِحْرَامُ مِنْ الْأَبْعَدِ لِمَكَّةَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ الْمَسْجِدِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ عَنْ مَنْزِلِهِ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى أَهْلِ الْمَوَاقِيتِ تَأْخِيرُ الْإِحْرَامِ عَنْ الْمَوَاقِيتِ، وَيَلْزَمُ مَنْ أَخَّرَ الْإِحْرَامَ حَتَّى جَاوَزَ مَنْزِلَهُ وَأَحْرَمَ مِنْهُ الدَّمُ، كَمَا يَلْزَمُ مَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتِ حَلَالًا وَأَحْرَمَ مِنْهُ، وَكُلُّ مَنْ سَارَ مِنْ طَرِيقٍ غَيْرِ الْمُوَصِّلَةِ لِلْمِيقَاتِ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ عِنْدَ مُحَاذَاتِهِ الْمِيقَاتَ الْمُعَدَّلَةَ وَلَوْ مَرَّ فِي الْبَحْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَيْثُ حَاذَى وَاحِدًا أَوْ مَرَّ وَلَوْ بِبَحْرٍ، أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ حِينَئِذٍ إلَّا لِمَصْرِيٍّ يَمُرُّ بِالْحُلَيْفَةِ فَهُوَ أَوْلَى وَإِنْ لِحَائِضٍ. الثَّانِي: يُسْتَحَبُّ لِمُرِيدِ الْإِحْرَامِ مِنْ مِيقَاتِهِ أَنْ يُبَادِرَ بِالْإِحْرَامِ مِنْهُ، كَمَا يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ الْعِبَادَةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَيْضًا إزَالَةُ شَعَثِهِ كَتَقْلِيمِ أَظَافِرِهِ، وَإِزَالَةِ أَدْرَانِهِ وَشَعْرِ مَا عَدَا رَأْسَهُ فَالْأَفْضَلُ إبْقَاؤُهُ وَتَلْبِيدُهُ بِصَمْغٍ أَوْ غَاسُولٍ لِيَلْتَصِقَ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ زَمَنَ الْإِحْرَامِ سَتْرُهُ بِأَيِّ سَاتِرٍ وَلَوْ غَيْرَ مَخِيطٍ أَوْ مَخِيطٍ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَيْضًا تَرْكُ التَّلَفُّظِ عَنْ الْإِحْرَامِ بَلْ يَقْتَصِرُ عَلَى النِّيَّةِ، كَمَا يُكْرَهُ لَهُ التَّلَفُّظُ بِنَوَيْت فِي الصَّلَاةِ أَوْ الصَّوْمِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُوَسْوِسًا أَوْ يَقْصِدُ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ مَنْدُوبَةٌ. [صِفَتِهِ الْإِحْرَام بِالْحَجِّ] وَلَمَّا بَيَّنَ مَكَانَ الْإِحْرَامِ وَبَيَّنَّا زَمَانَهُ شَرَعَ الْآنَ فِي صِفَتِهِ وَذَكَرَ سُنَّتَهُ بِقَوْلِهِ (وَيُحْرِمُ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ) : سَيَأْتِي مَعْنَى يُحْرِمُ أَيْ يَنْوِي مَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (بِإِثْرِ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ أَوْ نَافِلَةٍ) : وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسَنُّ لِمَنْ أَرَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَك وَيَنْوِي مَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ وَيُؤْمَرُ أَنْ يَغْتَسِلَ عِنْدَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ وَيَتَجَرَّدَ مِنْ مَخِيطِ   [الفواكه الدواني] أَنْ يُحْرِمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يُوقِعَ إحْرَامَهُ عَقِبَ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَإِنْ أَحْرَمَ عَقِبَ صَلَاةِ فَرِيضَةٍ حَصَلَتْ السُّنَّةُ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ إيقَاعَهُ عَقِبَ صَلَاةٍ تَخُصُّهُ خِلَافًا لِظَاهِرِ تَخْيِيرِ الْمُصَنِّفِ، فَلَوْ كَانَ الْوَقْتُ لَا يُصَلَّى فِيهِ أَخَّرَ الْإِحْرَامَ إلَّا أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ أَصْحَابِهِ أَوْ ضَائِقَةَ الْوَقْتِ أَحْرَمَ بِغَيْرِ صَلَاةٍ، وَقَوْلُهُ: يُحْرِمُ بِإِثْرِ صَلَاةٍ لَيْسَ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ إحْرَامِهِ بَعْدَ السَّلَامِ، بَلْ حَتَّى يَسْتَوِيَ عَلَى رَاحِلَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ رَاحِلَةٌ يَرْكَبُهَا، أَوْ حَتَّى يَشْرَعَ فِي مَشْيِهِ حَالَةَ كَوْنِهِ (يَقُولُ لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ) : يَقُولُهَا مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى اللَّهُمَّ (لَا شَرِيكَ لَك لَبَّيْكَ) : وَمَعْنَى لَبَّيْكَ أَجَبْتُك يَا اللَّهُ إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ، أَوْ لَازَمْت الْإِقَامَةَ عَلَى طَاعَتِك، مِنْ أَلَبَ بِالْمَكَانِ إذَا لَزِمَهُ وَأَقَامَ بِهِ، وَلَفْظُهَا مَصْدَرٌ كَبَقِيَّةِ أَخَوَاتِهَا، وَهِيَ مُثَنَّاةٌ لَفْظًا وَمَعْنَاهَا التَّكْثِيرُ لَا خُصُوصُ الِاثْنَيْنِ نَظِيرُ كَرَّتَيْنِ فِي آيَةِ: {ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] وَيَدَاهُ بِمَعْنَى نِعَمُهُ مَبْسُوطَتَانِ إذْ نِعَمُهُ لَا تُحْصَى، وَالْبَصَرُ لَا يَرْجِعُ كَلِيلًا مِنْ كَرَّتَيْنِ، خِلَافًا لِيُونُسَ فِي قَوْلِهِ: إنَّ أَصْلَهُ لَبَّى اسْمٌ مُفْرَدٌ مَقْصُورٌ قُلِبَتْ أَلِفُهُ بِالْإِضَافَةِ لِلضَّمِيرِ كَأَلِفِ لَدَا وَعَلَى فِي لَدَيْهِ وَعَلَيْهِ، وَرُدَّ عَلَيْهِ بِقَلْبِ أَلِفِهِ عِنْدَ الْإِضَافَةِ لِلظَّاهِرِ كَمَا لَبَّى يَدِي مِسْوَرٌ بِخِلَافِ أَلِفِ لَدَا وَعَلَى (أَنَّ الْحَمْدَ) : بِفَتْحِ هَمْزَةِ أَنَّ عَلَى التَّعْلِيلِ، وَيُرْوَى بِالْكَسْرِ؛ لِأَنَّهُ ثَنَاءٌ وَإِخْبَارٌ، فَهُوَ اسْتِئْنَافٌ عَارِيًّا عَنْ التَّعْلِيلِ إشَارَةٌ إلَى اسْتِحْقَاقِ الْحَمْدِ عَلَى كُلِّ حَالٍ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْجُمْهُورِ، حَتَّى قَالَ الْخَطَّابِيُّ: إنَّ الْفَتْحَ رِوَايَةُ الْعَامَّةِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّ الْحَمْدَ إنَّمَا هُوَ لِخُصُوصِ هَذَا الْبَيْتِ، وَالْوَاقِعُ أَنَّ الْبَارِيَ سُبْحَانَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَمْدَ حَتَّى لِذَاتِهِ. (وَالنِّعْمَةَ لَك) : بِنَصْبِ لَفْظِ النِّعْمَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ لِعَطْفِهِ عَلَى مَنْصُوبِ أَنَّ قَبْلَ الِاسْتِكْمَالِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ جَوَازُ الرَّفْعِ عَلَى الِابْتِدَاءِ وَخَبَرُهُ لَك، وَخَبَرُ أَنَّ مَحْذُوفٌ دَلَّ عَلَيْهِ مَا بَعْدَهُ، وَمَعْنَى النِّعْمَةِ لَك أَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ لَك؛ لِأَنَّك الْمُنْعِمُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَإِنْ وَصَلَتْ لَنَا مِنْ يَدِ غَيْرِك؛ لِأَنَّك الْخَالِقُ وَالْعَبْدُ كَاسِبٌ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ الْكَسْبِ الْخَلْقُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ. (وَالْمُلْكَ) : بِالنَّصْبِ وَيَجُوزُ بِمَرْجُوحِيَّةِ الرَّفْعِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَحَلِّ اسْمِ أَنَّ، قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَجَائِزٌ رَفْعُك مَعْطُوفًا عَلَى مَنْصُوبِ إنْ بَعْدَ أَنْ تَسْتَكْمِلَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخَلْقَ وَالتَّصَرُّفَ التَّامَّ فِي جَمِيعِ الْكَائِنَاتِ لَك، وَاخْتَارَ بَعْضُهُمْ الْوَقْفَ عَلَى قَوْلِهِ: وَالْمُلْكَ يَبْتَدِئُ بِقَوْلِهِ: (لَا شَرِيكَ لَك) : أَيْ فِيهِ، وَهَذِهِ تَلْبِيَةُ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهِيَ مِنْ سُنَنِ الْإِحْرَامِ كَمَا جَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَقِيلَ: وَاجِبَةٌ وَهُوَ الَّذِي رَجَّحَهُ شُرَّاحُ الْمُخْتَصَرِ لِلُزُومِ الدَّمِ بِتَرْكِهَا أَوْ الْإِحْرَامِ مَعَ الطَّوْلِ؛ لِأَنَّ تَرْكَهَا أَوَّلَهُ مَعَ الطَّوْلِ يُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ تَرْكِهَا جُمْلَةً، وَلَا يُقَالُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ: كَيْفَ يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِ السُّنَّةِ؟ ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ سُنَّةٌ شُهِرَ الْقَوْلُ بِوُجُوبِهَا، وَيَطَّرِدُ هَذَا الْجَوَابُ فِي لُزُومِ الدَّمِ لِمَنْ تَرَكَ سُنَّةَ الْمَشْيِ فِي الطَّوَافِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَيُسْتَحَبُّ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا ذُكِرَ لِقَوْلِ مَالِكٍ: الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا أَفْضَلُ، وَعَنْهُ كَرَاهَةُ الزِّيَادَةِ وَعَنْهُ الْإِبَاحَةُ، وَسَبَبُهَا أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمَّا أَمَرَهُ اللَّهُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ فَبَنَاهُ فَلَمَّا أَتَمَّهُ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُنَادِيَ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ، فَقَالَ: يَا رَبِّ وَأَيْنَ يَبْلُغُ صَوْتِي؟ فَقَالَ: عَلَيْك النِّدَاءُ وَعَلَيْنَا الْبَلَاغُ، فَقِيلَ: إنَّهُ صَعِدَ عَلَى الْمَقَامِ، وَقِيلَ: عَلَى جَبَلِ أَبِي قُبَيْسٍ فَنَادَى: أَيُّهَا النَّاسُ إنَّ اللَّهَ بَنَى بَيْتًا فَحُجُّوهُ، فَكَانُوا يُجِيبُونَ مِنْ مَشَارِقِ الْأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا، وَمِنْ بُطُونِ النِّسَاءِ وَأَصْلَابِ الرِّجَالِ، فَمَنْ أَجَابَهُ مَرَّةً فَإِنَّهُ يَحُجُّ مَرَّةً، وَمَنْ أَجَابَهُ أَكْثَرَ فَإِنَّهُ يَحُجُّ عَلَى عَدَدِ مَا أَجَابَ ثُمَّ بَيَّنَ مَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَيُحْرِمُ الْحَاجُّ أَوْ الْمُعْتَمِرُ بِقَوْلِهِ: (وَيَنْوِي) : مُرِيدُ الْإِحْرَامِ (مَا أَرَادَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ هُوَ الدُّخُولُ بِالنِّيَّةِ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ مَعَ قَوْلٍ مُتَعَلِّقٍ بِهِ كَالتَّلْبِيَةِ أَوْ فِعْلٍ كَالتَّوَجُّهِ، وَهَذَا هُوَ الْإِحْرَامُ الَّذِي لَا خِلَافَ فِيهِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ وَإِنْ خَالَفَهَا لَفْظُهُ وَلَا دَمَ وَإِنْ بِجِمَاعٍ مَعَ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تَعَلَّقَا بِهِ، وَأَمَّا النِّيَّةُ بِدُونِ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ فَفِي انْعِقَادِهِ بِهَا خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ انْعِقَادُهُ؛ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، بَلْ قَالَ الْمَوَّاقُ: إنَّهُ نَصُّهَا [سُنَنٍ الْغُسْلُ الْمُتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ] ، وَلَمَّا كَانَ لِمُطْلَقِ الْإِحْرَامِ خَمْسُ سُنَنٍ: الْغُسْلُ الْمُتَّصِلُ بِالْإِحْرَامِ وَلَوْ مِنْ الْحَائِضِ وَالصَّغِيرِ وَالْهَيْئَةُ الْمَطْلُوبَةُ بَعْدَ التَّجَرُّدِ مِمَّنْ يُحْرِمُ مِنْ لُبْسِ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ وَالنَّعْلَيْنِ الْمَعْرُوفَيْنِ بِالْحَدْوَةِ كَنِعَالِ التَّكْرُورِ لَا مَا سَيْرُهُ عَرِيضٌ كَالتَّاسُومَةِ، وَهَذِهِ السُّنَّةُ خَاصَّةٌ بِالرَّجُلِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَتَجَرَّدُ عِنْدَ إحْرَامِهَا بَلْ تَكُفُّ وَجْهَهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ، وَتَقْلِيدُ مَا مَعَهُ مِنْ الْهَدَايَا وَإِشْعَارُهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُشْعِرُ وَإِيقَاعُهُ عَقِبَ صَلَاةٍ وَيُنْدَبُ كَوْنُهَا نَفْلًا وَالتَّلْبِيَةُ الْمُتَّصِلَةُ بِهِ، وَيَكْفِي فِي أَدَائِهَا وَلَوْ عَلَى وُجُوبِهَا الْمَرَّةُ، وَأَشَارَ إلَى بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ: (وَيُؤْمَرُ أَنْ يَغْتَسِلَ) : مُرِيدُ الْإِحْرَامِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (عِنْدَ الْإِحْرَامِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِمَ) : وَهُوَ سُنَّةٌ لِكُلِّ إحْرَامٍ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ كَمَا قَدَّمْنَا وَيَتَدَلَّك فِيهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُحْرِمْ وَهُوَ لِلنَّظَافَةِ، وَلِذَا يُطْلَبُ مِنْ نَحْوِ النُّفَسَاءِ وَلَوْ فُقِدَ الْمَاءُ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى اسْتِعْمَالِهِ لَا يَتَيَمَّمُ، وَلَيْسَ عَلَى تَارِكِهِ كَبَاقِي الِاغْتِسَالَاتِ دَمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الثِّيَابِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ وَلَا يَزَالُ يُلَبِّي دُبُرَ الصَّلَوَاتِ وَعِنْدَ كُلِّ شَرَفٍ وَعِنْدَ مُلَاقَاةِ الرِّفَاقِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ كَثْرَةُ الْإِلْحَاحِ بِذَلِكَ فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى ثُمَّ يُعَاوِدَهَا حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ   [الفواكه الدواني] نَحْوِ النُّفَسَاءِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ «أَنَّ أَسْمَاءَ بِنْتَ عُمَيْسٍ حِينَ وَلَدَتْ ذَكَرَ ذَلِكَ أَبُو بَكْرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - لِلرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: مُرْهَا فَلْتَغْتَسِلْ ثُمَّ لِتُهِلَّ» وَإِذَا جَهِلَتْ الْحَائِضُ أَوْ النُّفَسَاءُ الْغُسْلَ حِينَ أَحْرَمَتْ فَقَالَ مَالِكٌ: تَغْتَسِلُ إذَا عَلِمْت وَكَذَا غَيْرُهُمَا، وَيُسْتَحَبُّ عِنْدَ غُسْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْلِيمُ أَظْفَارِهِ وَحَلْقُ عَانَتِهِ وَوَقْصُ شَارِبِهِ بِخِلَافِ شَعْرِ رَأْسِهِ فَالْأَفْضَلُ إبْقَاؤُهُ. (وَ) : يَجِبُ عَلَى مُرِيدِ الْإِحْرَامِ وَإِنْ كَانَ مُكَلَّفًا وَعَلَى وَلِيِّهِ إنْ كَانَ صَغِيرًا أَنْ (يَتَجَرَّدَ مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ) : وَمِنْ مُحِيطِهَا وَإِنْ بِعُضْوٍ أَوْ نَسْجٍ أَوْ زِرٍّ أَوْ عَقْدٍ، لِقَوْلِ عَبْدِ الْحَقِّ: أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ تُفْعَلُ عِنْدَ الْمِيقَاتِ: التَّجَرُّدُ أَوَّلًا مِنْ مَخِيطِ الثِّيَابِ، ثُمَّ الْغُسْلُ، ثُمَّ الصَّلَاةُ، ثُمَّ الْإِحْرَامُ وَيَلْبَسُ الْإِزَارَ فِي وَسَطِهِ وَنَعْلَيْنِ كَنِعَالِ التَّكْرُورِ [الْغُسْلُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ] وَلَمَّا كَانَتْ اغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثَةً آكَدُهَا الْغُسْلُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ؛ لِأَنَّهُ سُنَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ وَقَدْ تَقَدَّمَ، وَالْغُسْلُ لِعَرَفَةَ وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ لَهُ) : أَيْ لِلْمُحْرِمِ وَلَوْ بِعُمْرَةٍ (أَنْ يَغْتَسِلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ) : إنْ كَانَ مِمَّنْ يُخَاطَبُ بِالصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ لِلطَّوَافِ، فَلِذَا لَا يُطْلَبُ مِنْ نَحْوِ حَائِضٍ لِمَنْعِهَا مِنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ، وَلَا يَتَدَلَّكُ فِي هَذَا الْغُسْلِ، وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ بِذِي طُوًى مُثَلَّثُ الطَّاءِ وَهُوَ مَقْصُورٌ، وَهُوَ وَادٍ مِنْ أَوْدِيَةِ مَكَّةَ لَا يَقْصُرُ الْمُسَافِرُ حَتَّى يُجَاوِزَهُ فَهُوَ مِنْ أَرْبَاضِهَا كَمَا قَالَ الْأَصْمَعِيُّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِدُخُولِ غَيْرِ حَائِضٍ مَكَّةَ بِذِي طُوًى. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَلَوْ قَالَ وَبِطَوَى بِحَرْفِ الْعَطْفِ لَأَفَادَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ ثَانٍ لِمَا وَرَدَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ إذَا دَخَلَ أَدْنَى الْحَرَمِ أَمْسَكَ عَنْ التَّلْبِيَةِ ثُمَّ يَبِيتُ بِذِي طُوًى فَإِذَا صَلَّى الصُّبْحَ اغْتَسَلَ، وَمَنْ لَمْ يَأْتِ عَلَى ذِي طُوًى اغْتَسَلَ مِنْ مِقْدَارِ مَا بَيْنَهُمَا. (وَ) : إذَا شَرَعَ فِي التَّلْبِيَةِ فَإِنَّهُ (لَا يَزَالُ) : أَيْ يَسْتَمِرُّ (يُلَبِّي دُبُرَ الصَّلَوَاتِ) وَلَوْ نَوَافِلَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجُدِّدَتْ بِتَغَيُّرِ حَالٍ وَخَلْفَ صَلَاةٍ. (وَعِنْدَ) : طُلُوعِ (كُلِّ شَرَفٍ) : أَيْ جَبَلٍ وَفِي بُطُونِ الْأَوْدِيَةِ. (وَعِنْدَ مُلَاقَاةِ الرِّفَاقِ) : جَمْعُ رُفْقَةٍ بِضَمِّ الرَّاءِ وَنُقِلَ كَسْرُهَا أَيْ الْجَمَاعَةُ، سُمُّوا بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَتَرَافَقُونَ فِي الْبَرِّ وَيَرْتَفِقُ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ، وَعِنْدَ الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ، وَعِنْدَ سَمَاعِ تَلْبِيَةِ الْغَيْرِ، وَحُكْمُ كُلِّ ذَلِكَ النَّدْبُ، وَقِيلَ السُّنِّيَّةُ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ طَلَبَ تَجْدِيدِ التَّلْبِيَةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الذَّاهِبِ مُحْرِمًا، وَأَمَّا لَوْ نَسِيَ حَاجَةً وَرَجَعَ إلَيْهَا فَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُلَبِّي؛ لِأَنَّ هَذَا السَّعْيَ لَيْسَ مِنْ سَعْيِ الْإِحْرَامِ، وَقَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَلَا يَرُدُّ الْمُلَبِّي سَلَامًا حَتَّى يَفْرُغَ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَنَظِيرُهُ عِنْدَنَا الْمُؤَذِّنُ، وَلَيْسَ فِي التَّلْبِيَةِ: دُعَاءٌ وَلَا صَلَاةٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي تَلْبِيَتِهِ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَأَمْرُ الْمَنَاسِكِ اتِّبَاعٌ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا وَرَدَ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ إذَا فَرَغَ مِنْ تَلْبِيَتِهِ سَأَلَ اللَّهَ الرِّضْوَانَ وَالْجَنَّةَ» ؛ لِأَنَّ هَذَا بَعْدَ قَطْعِ التَّلْبِيَةِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ طَلَبِ التَّلْبِيَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ مُلَازَمَتُهَا قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَيْهِ) : أَيْ الْمُحْرِمِ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا. (كَثْرَةُ الْإِلْحَاحِ) أَيْ الْمُلَازَمَةُ (بِذَلِكَ) : أَيْ بِالتَّلْبِيَةِ بَلْ يُكْرَهُ ذَلِكَ لِمَا يَلْزَمُ عَلَى مُلَازَمَتِهَا مِنْ الْمَلَالَةِ، بَلْ الْمُسْتَحَبُّ التَّوَسُّطُ فِي التَّلْبِيَةِ بِحَيْثُ لَا يُكْثِرُ حَتَّى يَلْحَقَهُ الضَّجَرُ، وَلَا يَتْرُكُ زَمَنًا طَوِيلًا حَتَّى تَفُوتَهُ الشَّعِيرَةُ، كَمَا يُنْدَبُ لَهُ التَّوَسُّطُ فِي تَصْوِيتِهِ بِهَا، فَلَا يُبَالِغُ فِي رَفْعِهِ وَلَا فِي خَفْضِهِ، وَهَذَا فِي حَقِّ الرَّجُلِ فِي غَيْرِ الْمَسْجِدِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَ مِنًى؛ لِأَنَّهُمَا بُنِيَا لِلْحَجِّ، وَقِيلَ لِلْأَمْنِ فِيهِمَا مِنْ الرِّيَاءِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَتُسْمِعُ نَفْسَهَا بِالتَّلْبِيَةِ؛ لِأَنَّ صَوْتَهَا عَوْرَةٌ، وَتُطْلَبُ التَّلْبِيَةُ حَتَّى مِنْ الْجُنُبِ وَالْحَائِضِ؛ لِأَنَّهُ. - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - حِينَ حَاضَتْ: «افْعَلِي مَا يَفْعَلُهُ الْحَاجُّ غَيْرَ أَنَّك لَا تَطُوفِي بِالْبَيْتِ» . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَمَاكِنَ تُتْرَكُ فِيهَا التَّلْبِيَةُ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا دَخَلَ) : الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا (مَكَّةَ أَمْسَكَ) : أَيْ كَفَّ نَدْبًا (عَنْ التَّلْبِيَةِ حَتَّى يَطُوفَ وَيَسْعَى) : وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَقْطَعُ التَّلْبِيَةَ بِمُجَرَّدِ دُخُولِ مَكَّةَ وَهُوَ مَا شَهَرَهُ ابْنُ بَشِيرٍ، وَمُقَابِلُهُ لَا يَقْطَعُهَا حَتَّى يَبْتَدِئَ الطَّوَافَ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، وَإِلَى هَذَيْنِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَهَلْ لِمَكَّةَ أَوْ لِلطَّوَافِ خِلَافٌ؟ وَأَنَّمَا نُدِبَ قَطْعُ التَّلْبِيَةِ لِلطَّوَافِ وَالسَّعْيِ لِطَلَبِ الدُّعَاءِ وَالِابْتِهَالِ وَالتَّضَرُّعِ فِي حَالِ فِعْلِهِمَا، فَيُكْرَهُ الِاشْتِغَالُ فِي فِعْلِهِمَا بِغَيْرِ ذَلِكَ، عَلَى أَنَّ الطَّوَافَ كَالصَّلَاةِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: «وَالصَّلَاةُ لَا تَلْبِيَةَ فِيهَا» وَقَيَّدْنَا الْمُحْرِمَ بِالْحَجِّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُحْرِمِ بِالْعُمْرَةِ فَقَطْ، سَوَاءٌ أَحْرَمَ بِهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْحَجِّ أَوْ أَحْرَمَ بِهَا لِفَوَاتِ الْحَجِّ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يُلَبِّي لِحَرَمِ مَكَّةَ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمُعْتَمِرُ الْمِيقَاتِ وَفَائِتُ الْحَجِّ لِلْحَرَمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ الْمَسْجِدَ بَلْ الْمُرَادُ بِهِ مَكَّةُ، وَاعْلَمْ أَنَّ مُحْرِمَ مَكَّةَ يُلَبِّي بِالْمَسْجِدِ فِي ابْتِدَاءِ أَمْرِهِ وَيَنْتَهِي إلَى رَوَاحِ مُصَلَّى عَرَفَةَ كَالْمُحْرِمِ مِنْ الْمِيقَاتِ، وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ مِنْ الْمِيقَاتِ سَوَاءٌ أَدْرَكَ الْحَجَّ أَوْ فَاتَهُ وَتَحَلَّلَ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يُلَبِّي إلَى الْبُيُوتِ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِالْحَجِّ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُلَبِّي حَتَّى يَصِلَ إلَى مَحَلِّ الْوُقُوفِ ثُمَّ يُعَاوِدَهَا حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَمَا قَالَهُ فِي الْجَلَّابِ، وَيَدُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحَ إلَى مُصَلَّاهَا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ مِنْ كَدَاءِ الثَّنِيَّةِ الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ وَإِذَا خَرَجَ خَرَجَ مِنْ كُدًى وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَا حَرَجَ قَالَ فَإِذَا دَخَلَ مَكَّةَ فَلْيَدْخُلْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمُسْتَحْسَنٌ أَنْ يَدْخُلَ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ فَيَسْتَلِمَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ بِفِيهِ إنْ قَدَرَ وَإِلَّا وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ ثُمَّ يَطُوفُ وَالْبَيْتُ عَلَى   [الفواكه الدواني] عَلَى أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمُحْرِم بِالْحَجِّ قَوْلُهُ: (ثُمَّ يُعَاوِدَهَا) : أَيْ التَّلْبِيَةَ أَيْ يَأْتِيَ بِهَا (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحَ إلَى مُصَلَّاهَا) : وَإِلَى هَذَا أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَعَاوَدَهَا بَعْدَ سَعْيٍ لِرَوَاحِ مُصَلَّى عَرَفَةَ، وَأَمَّا الْمُعْتَمِرُ فَلَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ فِيهِ لِانْقِضَاءِ عُمْرَتِهِ بِتَمَامِ سَعْيِهَا، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ فِيمَا يَأْتِي: وَالْعُمْرَةُ يُفْعَلُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ جِهَةِ الْأَرْكَانِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ يُفْعَلُ وَالتَّلْبِيَةُ قَوْلٌ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اسْتِمْرَارِ التَّلْبِيَةِ إلَى حُصُولِ الزَّوَالِ وَالرَّوَاحِ إلَى الْمُصَلَّى هُوَ مُخْتَارُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ، وَقَدْ انْتَهَتْ التَّلْبِيَةُ لِلْحَجِّ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلْبِيَةَ بَعْدَ الرَّوَاحِ إلَى الْمُصَلَّى حَتَّى تُكْرَهَ الْإِجَابَةُ بِالتَّلْبِيَةِ عِنْدَ النِّدَاءِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ، وَأَمَّا إجَابَةُ الصَّحَابَةِ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَمِنْ خَصَائِصِهِ، وَأَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: لَمْ يُعَاوِدْهَا أَنَّ الْكَلَامَ فِيمَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِالْحَجِّ، أَمَّا مِنْ الْمِيقَاتِ أَوْ مِنْ مَكَّةَ فَهَذَا يُلَبِّي إلَى مُصَلَّى عَرَفَةَ وَلَا يُعَاوِدُهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْمُحْرِمِ بِالْحَجِّ مِنْ عَرَفَةَ وَالْحُكْمُ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ يُلَبِّي حَتَّى يَصِلَ إلَى مَحَلِّ الْوُقُوفِ إنْ أَحْرَمَ قَبْلَهُ، ثُمَّ يُعَاوِدُهَا حَتَّى يَرْمِيَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ الْجَلَّابِ ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْبَابِ الَّذِي يُنْدَبُ دُخُولُهَا مِنْهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهَا مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ) : لِكُلِّ مُرِيدِ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (أَنْ يَدْخُلَ مَكَّةَ) : نَهَارًا وَأَنْ يَدْخُلَهَا (مِنْ كَدَاءِ) : بِالْفَتْحِ وَالْمَدِّ مَعَ الصَّرْفِ وَعَدَمِهِ وَكَدَاءُ هِيَ (الثَّنِيَّةُ) : أَيْ الطَّرِيقُ (الَّتِي بِأَعْلَى مَكَّةَ) : وَيُسَمُّونَهَا الْيَوْمَ بَابَ الْمُعَلَّى، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الدَّاخِلِ أَتَى مِنْ طَرِيقِ الْمَدِينَةِ أَوْ غَيْرِهَا، بَلْ يُسْتَحَبُّ لِجَمِيعِ أَهْلِ الْآفَاقِ اقْتِدَاءً بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالصَّحَابَةِ بَعْدَهُ، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ كَمَا قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، وَلَعَلَّ السِّرَّ فِي دُخُولِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ هَذَا الْمَحَلِّ لِمَا قِيلَ: مِنْ أَنَّ نِسْبَةَ بَابِ الْبَيْتِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ وَجْهِ الْإِنْسَانِ إلَيْهِ، وَأَمَاثِلُ النَّاسِ إنَّمَا يُقْصَدُونَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ مِنْ جِهَةِ وُجُوهِهِمْ لَا مِنْ ظُهُورِهِمْ، وَأَيْضًا هَذَا الْمَوْضِعُ دَعَا فِيهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - رَبَّهُ أَنْ يَجْعَلَ أَفْئِدَةً مِنْ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ فَقِيلَ لَهُ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا} [الحج: 27] الْآيَةَ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَالَ: يَأْتُوك وَلَمْ يَقُلْ يَأْتُونِي. (وَإِذَا خَرَجَ) : أَيْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مِنْ مَكَّةَ (خَرَجَ مِنْ كُدًى) : بِضَمِّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ مَعَ التَّنْوِينِ وَلَعَلَّهُ لِلرِّوَايَةِ، وَالدَّالُ مُهْمَلَةٌ مَعَ مَفْتُوحِ الْكَافِ وَمَضْمُومِهَا وَهِيَ الثَّنِيَّةُ الَّتِي بِأَسْفَلِ مَكَّةَ، وَيُعْرَفُ هَذَا الْمَحَلُّ الْيَوْمَ بِبَابِ شَبِيكَةَ وَهُوَ بَابُ بَنِي سَهْمٍ، وَالْخُرُوجُ مِنْهُ حُكْمُهُ النَّدْبُ اقْتِدَاءً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: وَفِي ذَلِكَ مُنَاسَبَةٌ حَسَنَةٌ بَابُ الدُّخُولِ كَدَاءٌ الْمَفْتُوحُ الْكَافِ، وَبَابُ الْخُرُوجِ كُدًى الْمَضْمُومُ الْكَافِ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ لِلدَّاخِلِ الْفَتْحُ وَلِلْخَارِجِ الضَّمُّ. (وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ) : مَا نُدِبَ لَهُ فِي الدُّخُولِ وَالْخُرُوجِ بَلْ خَالَفَ (فِي الْوَجْهَيْنِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ) أَيْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ وَلَا دَمَ وَهَذَا مِنْ بَابِ التَّصْرِيحِ بِمَا لَا يُتَوَهَّمُ . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ دُخُولُ مَكَّةَ مِنْهُ مِنْ الْأَبْوَابِ أَوْ الْخُرُوجَ شَرَعَ فِي بَيَانِ نَدْبِ الْمُسَارَعَةِ إلَى دُخُولِ مَسْجِدِهَا وَبَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ الدُّخُولُ مِنْهُ مِنْ أَبْوَابِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ) : أَيْ الْإِمَامُ مَالِكٌ وَلَعَلَّهُ لَمْ يُظْهِرْهُ لِلْعِلْمِ بِهِ (فَإِذَا دَخَلَ) : الْمُحْرِمُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (مَكَّةَ فَلْيَدْخُلْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ) : سَرِيعًا وَلَا يُقَدِّمُ عَلَيْهِ إلَّا مَا لَا بُدَّ مِنْهُ كَأَكْلٍ خَفِيفٍ أَوْ حَطِّ رَحْلِهِ؛ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ بِالذَّاتِ، فَالتَّأَخُّرُ عَنْهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ، وَلَمَّا كَانَ لَهُ أَبْوَابٌ عِدَّةً بَيَّنَ مَا يُنْدَبُ الدُّخُولُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَمُسْتَحْسَنٌ) : أَيْ مُسْتَحَبٌّ (أَنْ يَدْخُلَ) : أَيْ الَّذِي دَخَلَ مَكَّةَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ الْمَسْجَدَ الْحَرَامَ. (مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ) : وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ بِبَابِ السَّلَامِ لِدُخُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهُ، وَإِذَا خَرَجَ مِنْهُ فَيُسْتَحَبُّ الْخُرُوجُ مِنْ بَابِ بَنِي سَهْمٍ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي اسْتِحْبَابِ رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ رُؤْيَةِ الْبَيْتِ فَاسْتَحَبَّهُ ابْنُ حَبِيبٍ وَنَفَاهُ مَالِكٌ، وَإِلَى جَمِيعِ ذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَدُخُولُ مَكَّةَ نَهَارًا وَالْبَيْتِ مِنْ كَدَاءٍ بِالْمَدِّ وَالْفَتْحِ وَالْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ بَنِي شَيْبَةَ وَخُرُوجُهُ مِنْ كُدًى بِضَمِّ الْكَافِ وَالْقَصْرِ، وَلَمَّا كَانَتْ تَحِيَّةُ مَسْجِدِ مَكَّةَ الطَّوَافَ بَيَّنَ مَا يَفْعَلُهُ مُرِيدُ الطَّوَافِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (فَيَسْتَلِمُ) : أَيْ يُقَبِّلُ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ) : بِمُجَرَّدِ دُخُولِ الْمَسْجِدِ (بِفِيهِ إنْ قَدَرَ) : عَلَى ذَلِكَ وَفِي جَوَازِ التَّصْوِيتِ وَكَرَاهَتِهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا تَقْبِيلُهُ فِي غَيْرِ الشَّوْطِ الْأَوَّلِ فَمَنْدُوبٌ وَلَا بَأْسَ بِتَقْبِيلِهِ بِغَيْرِ طَوَافٍ، لَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِ النَّاسِ، وَنَصُّوا هُنَا عَلَى كَرَاهَةِ تَقْبِيلِ الْمُصْحَفِ وَالْخُبْزِ، كَمَا يُكْرَهُ امْتِهَانُهُ أَيْ الْخُبْزِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ عُمَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - جَاءَ إلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ وَقَالَ: إنِّي أَعْلَمُ أَنَّك حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُقَبِّلُك مَا قَبَّلْتُك، وَيُقَالُ إنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 يَسَارِهِ سَبْعَةَ أَطْوَافٍ ثَلَاثَةً خَبَبًا ثُمَّ أَرْبَعَةً مَشْيًا وَيَسْتَلِمُ الرُّكْنَ كُلَّمَا مَرَّ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا وَيُكَبِّرُ وَلَا يَسْتَلِمُ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَ   [الفواكه الدواني] عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: بَلْ يَضُرُّ وَيَنْفَعُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا أَخَذَ الْعَهْدَ عَلَى بَنِي آدَمَ كَتَبَ بِذَلِكَ كِتَابًا فَأَلْقَمَهُ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ فَهُوَ يَشْهَدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِمَنْ قَبَّلَهُ. (وَإِلَّا) : بِأَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ بِفَمِهِ (وَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ) : أَيْ عَلَى الْحَجَرِ (ثُمَّ وَضَعَهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ) : عَلَى الْمَشْهُورِ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَمَسُّهُ بِعُودٍ ثُمَّ يَضَعُهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرٍ تَقْبِيل، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ كَبَّرَ فَقَطْ، وَهَذَا التَّرْتِيبُ لَا بُدَّ مِنْهُ، فَلَا يَكْفِي الْعُودُ مَعَ إمْكَانِ الْيَدِ وَلَا وَضْعُ الْيَدِ مَعَ إمْكَانِ التَّقْبِيلِ، وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَفُهِمَ مِنْ التَّعْبِيرِ بِوَضْعِ يَدِهِ أَنَّهُ لَا يَضَعُ خَدَّهُ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ بَلْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُ. (ثُمَّ) : بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ تَقْبِيلِ الْحَجَرِ (يَطُوفُ وَ) : الْحَالُ أَنَّ (الْبَيْتَ عَلَى يَسَارِهِ سَبْعَةَ أَطَوَافً) : أَيْ أَشْوَاطٍ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَهَذَا الطَّوَافُ يُسَمَّى طَوَافَ الْقُدُومِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِلْحَجِّ طَوَافٌ قَبْلَ عَرَفَةَ إلَّا طَوَافَ الْقُدُومِ وَهُوَ وَاجِبٌ فَيَنْجَبِرُ بِالدَّمِ، وَوُجُوبُهُ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَكُونَ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ إمَّا وُجُوبًا كَالْآفَاقِيِّ الْقَادِمِ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ نَدْبًا كَالْمُقِيمِ الَّذِي مَعَهُ نَفْسٌ وَخَرَجَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ، وَسَوَاءٌ أَحْرَمَ مِنْ الْحَجِّ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا، وَكَذَا الْمُحْرِمُ مِنْ الْحَرَمِ إنْ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ مِنْ الْحِلِّ بِأَنْ جَاوَزَ الْمِيقَاتَ حَلَالًا مُقْتَحِمًا لِلنَّهْيِ، فَمَعْنَى إنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ إنْ طُولِبَ بِالْإِحْرَامِ مِنْ الْحِلِّ أَحْرَمَ مِنْهُ أَوْ مِنْ الْحَرَمِ. وَثَانِيهَا: أَنْ لَا يُرَاهِقُ، وَأَمَّا لَوْ ضَاقَ عَلَيْهِ الْوَقْتُ وَخَافَ فَوَاتَ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا يُرْدِفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ فِي الْحَرَمِ، فَإِنْ أَرْدَفَ بِحَرَمٍ فَلَا قُدُومَ عَلَيْهِ وَيُؤَخِّرُ سَعْيَهُ حَتَّى يَطُوفَ لِلْإِفَاضَةِ،؛ لِأَنَّ السَّعْيَ إنَّمَا يُقَدَّمُ عَلَى عَرَفَةَ إنْ طَافَ لِلْقُدُومِ، وَلَا دَمَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِ طَوَافِ الْقُدُومِ عِنْدَ الْمُرَاهَقَةِ أَوْ الْإِرْدَافِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : أَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ مُعْظَمَ شُرُوطِ الطَّوَافِ وَهِيَ: الطَّهَارَةُ مِنْ الْحَدَثِ وَالْخَبَثِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ، فَلَوْ طَافَ مُحْدِثًا وَلَوْ عَجْزًا أَوْ نِسْيَانًا أَوْ أَحْدَثَ مِنْ حَالِ طَوَافِهِ ابْتَدَأَهُ وَيَرْجِعُ لَهُ وَلَوْ مِنْ بَلَدِهِ إنْ كَانَ الطَّوَافُ رُكْنًا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الطَّوَافُ حَوْلَ الْبَيْتِ مِثْلُ الصَّلَاةِ إلَّا أَنَّكُمْ تَتَكَلَّمُونَ فِيهِ فَمَنْ تَكَلَّمَ فِيهِ فَلَا يَتَكَلَّمُ إلَّا بِخَيْرٍ» وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَنْ يَسَارِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَلَوْ طَافَ وَجَعَلَ الْبَيْتَ عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ أَوْ قُبَالَةَ وَجْهِهِ أَوْ وَرَاءَ ظَهْرِهِ لَمْ يَصِحَّ، وَيَرْجِعُ لَهُ وَلَوْ مِنْ بَلَدِهِ إنْ كَانَ رُكْنِيًّا، وَخُرُوجُ كُلِّ الْبَدَنِ عَنْ الشَّاذَرْوَانِ وَهُوَ الْبِنَاءُ الْمُحْدَوْدَبُ فِي جِدَارِ الْبَيْتِ، وَخُرُوجُ كُلِّ الْبَدَنِ عَنْ سِتَّةِ أَذْرُعٍ مِنْ الْحَجَرِ، فَلَوْ لَمْ يَتْرُكْ السِّتَّةَ أَذْرُعٍ مِنْ الْحَجَرِ بَلْ طَافَ فِيهَا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا مِنْ الْبَيْتِ، وَأَنْ يَكُونَ دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَشْوَاطُ مُتَوَالِيَةً، فَلَوْ فَرَّقَهَا لَمْ يَصِحَّ طَوَافُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ التَّفْرِيقُ يَسِيرًا أَوْ لِعُذْرٍ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى طَهَارَتِهِ فَلَا يَضُرُّ، وَأَمَّا لَوْ نَسِيَ شَوْطًا فَإِنْ ذَكَرَهُ بِالْقُرْبِ مَعَ بَقَاءِ طَهَارَتِهِ عَادَ إلَيْهِ كَمَا يَبْنِي فِي الصَّلَاةِ مَعَ الْقُرْبِ، وَإِنْ تَبَاعَدَ بَطَلَ كَمَا تَبْطُلُ الصَّلَاةُ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّقَ لِصَلَاةٍ عَلَى جِنَازَةٍ أَوْ لِطَلَبِ نَفَقَةٍ ضَاعَتْ، فَإِنْ كَانَ طَلَبَهَا فِي الْمَسْجِدِ أَوْ كَانَتْ الْجِنَازَةُ مُتَعَيِّنَةً وَيَخْشَى تَغَيُّرَهَا فَإِنَّهُ يَبْنِي كَمَا يَبْنِي عِنْدَ قَطْعِهِ لِفَرِيضَةٍ يَلْزَمُهُ الدُّخُولُ فِيهَا مَعَ الْإِمَامِ، أَوْ لِرُعَافِ بَنَى أَوْ لِغُسْلِ نَجَاسَةٍ عَلِمَ بِهَا فِي صَلَاتِهِ أَوْ سَقَطَتْ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ طَوْلٌ، وَأَنْ تَكُونَ الْأَشْوَاطُ سَبْعَةً، فَإِنْ نَقَصَ مِنْهَا شَوْطٌ أَوْ بَعْضُهُ وَلَوْ شَكًّا مِنْ الطَّوَافِ الرُّكْنِيِّ رَجَعَ لَهُ، وَأَمَّا لَوْ زَادَ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ سَهْوًا فَلَا تُبْطِلُهُ إلَّا إنْ بَلَغَتْ مِثْلَهُ، وَأَمَّا عَمْدًا فَيَبْطُلُ وَلَوْ بِزِيَادَةِ شَوْطٍ وَهُوَ الْمَشْهُورُ؛ لِأَنَّهُ كَالصَّلَاةِ. قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا، وَلِي فِيهِ بَحْثٌ وَيَظْهَرُ لِي عَدَمُ الْبُطْلَانِ بِيَسِيرِ الزِّيَادَةِ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ وَبَنَى عَلَى الْأَقَلِّ عِنْدَ الشَّكِّ إلَّا الْمُسْتَنْكِحَ كَالصَّلَاةِ، وَيُقْبَلُ إخْبَارُ الْغَيْرِ بِالْكَمَالِ وَلَوْ وَاحِدًا حَيْثُ كَانَ عَدْلًا، وَيَنْبَغِي لِلطَّائِفِ أَنْ يَحْتَاطَ عِنْدَ ابْتِدَائِهِ الطَّوَافَ، بِأَنْ يَقِفَ قَبْلَ الرُّكْنِ بِقَلِيلٍ حَيْثُ يَصِيرُ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ عَنْ يَمِينِ مَوْقِفِهِ لِيَسْتَوْعِبَ جُمْلَتَهُ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يَسْتَوْعِبْ الْحَجَرَ لَمْ يُعْتَدَّ بِالشَّوْطِ الْأَوَّلِ فَلْيَنْتَبِهْ لِذَلِكَ، وَقُلْنَا مُعْظَمُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ الشُّرُوطِ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ كَمَا بَيَّنَّا. (فَائِدَةٌ) : ابْتِدَاءُ الطَّوَافِ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَاجِبٌ يُجْبَرُ بِالدَّمِ. وَبَيَّنَ صِفَةَ طَوَافِ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الرِّجَالِ مِنْ الْمِيقَاتِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ بِقَوْلِهِ (ثَلَاثَةً) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِيَّةِ مِنْ سَبْعَةً وَ (خَبَبًا) : مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ عَامِلُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ يَخَبُّ فِيهَا خَبَبًا، أَوْ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ يَطُوفُ؛ لِأَنَّ الْمَصْدَرَ الْمُنَكَّرَ يَجُوزُ نَصْبُهُ عَلَى الْحَالِ أَيْ خَابًّا أَيْ مُسْرِعًا فِيهَا؛ لِأَنَّ الْخَبَبَ وَهُوَ الرَّمَلُ مَا فَوْقَ الْمَشْيِ وَدُونَ الْجَرْيِ بِأَنْ يَمْشِيَ هَازًّا لِمَنْكِبَيْهِ، وَحُكْمُ الْخَبَبِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ السُّنِّيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَمَلُ رَجُلٍ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ فِيهَا فِي حَقِّ مَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْمِيقَاتِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَرَمَلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْقُدُومِ وَمِنْ طَوَافِ الْعُمْرَةِ، وَلَوْ كَانَ الطَّائِفُ صَبِيًّا أَوْ مَرِيضًا وَحُمِلَ عَلَى دَابَّةٍ أَوْ رَجُلٍ فَيَرْمُلُ الْحَامِلُ وَيُحَرِّكُ الدَّابَّةَ كَمَا يُحَرِّكُهَا بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ، وَالْمَطْلُوبُ عِنْدَ الزَّحْمَةِ الرَّمَلُ بِقَدْرِ الطَّاقَةِ فَلَا يُكَلَّفُ فَوْقَهَا، وَلَا دَمَ عَلَى التَّارِكِ لَهُ وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَقَيَّدْنَا بِالرَّجُلِ؛ لِأَنَّهُ لَا رَمَلَ عَلَى النِّسَاءِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 بِفِيهِ وَلَكِنْ بِيَدِهِ ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ فَإِذَا تَمَّ طَوَافُهُ رَكَعَ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ اسْتَلَمَ الْحَجَرَ إنْ قَدَرَ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] طَوَافِهِنَّ وَلَا هَرْوَلَةَ فِي سَعْيِهِنَّ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ نَائِبَةً عَنْ رَجُلٍ وَأَحْرَمَتْ عَنْهُ مِنْ الْمِيقَاتِ، كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ النَّائِبَ عَنْ الْمَرْأَةِ لَا يَرْمُلُ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُحْرِمْ مِنْ الْمِيقَاتِ وَإِنَّمَا أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ مِنْ الْجِعْرَانَةِ أَوْ مِنْ التَّنْعِيمِ: فَإِنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرَّمَلُ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لِمَنْ لَمْ يَطُفْ لِلْقُدُومِ وَلَوْ تَرَكَهُ عَمْدًا، وَأَمَّا مَنْ طَافَ لِلْقُدُومِ فَلَا يَرْمُلُ فِي إفَاضَتِهِ وَلَوْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، وَأَمَّا طَوَافُ التَّطَوُّعِ فَيُكْرَهُ الرَّمَلُ فِيهِمَا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يُنْدَبُ: وَرَمَلُ مُحْرِمٍ مِنْ كَالتَّنْعِيمِ أَوْ بِالْإِفَاضَةِ لِمُرَاهِقٍ لَا تَطَوُّعٍ وَوَدَاعٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ سُنَّةً، وَتَارَةً يَكُونُ مَنْدُوبًا، وَتَارَةً يَكُونُ مَكْرُوهًا وَقَدْ بَيَّنَّاهَا. (ثُمَّ أَرْبَعَةً) : بِالنَّصْبِ لِعَطْفِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ (مَشْيًا) : أَيْ مِنْ غَيْرِ خَبَبٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى سُنِّيَّةِ الرَّمَلِ مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَلَ مِنْ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ حَتَّى انْتَهَى إلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَشْوَاطٍ» . وَوَرَدَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأَصْحَابِهِ مَكَّةَ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: إنَّهُ يَقْدَمُ عَلَيْكُمْ الْيَوْمَ وَقَدْ أَوْهَنَتْهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ وَلَقُوا مِنْهَا شَرًّا فَأَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ، فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَرْمُلُوا فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ وَأَنْ يَمْشُوا مَا بَيْنَ الرُّكْنَيْنِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ قَالَتْ قُرَيْشٌ: بَلْ هُمْ أَقْوَى مِنَّا فَزَالَتْ الْعِلَّةُ وَبَقِيَ الْحُكْمُ» وَهَذِهِ هِيَ السُّنَّةُ الْأُولَى مِنْ سُنَنِ الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ لَهُ سُنَنًا سِتَّةً وَثَانِيهَا الْمَشْيُ فِي حَقِّ الْقَادِرِ، فَإِنْ طَافَ رَاكِبًا أَوْ مَحْمُولًا لِغَيْرِ عُذْرٍ وَلَمْ يُعِدْهُ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ لَزِمَهُ دَمٌ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: أَنَّ الْمَشْيَ وَاجِبٌ فِي الطَّوَافِ الْوَاجِبِ بِدَلِيلِ لُزُومِ الدَّمِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْوَاجِبِ فَسُنَّةٌ وَلَا يَلْزَمُ الدَّمُ فِي تَرْكِهِ اخْتِيَارًا، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّ السُّنَّةَ لَا يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِهَا، وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ، فَإِنَّ مَنْ تَتَبَّعَ أَفْعَالَ الْحَجِّ يَجِدْ لُزُومَ الدَّمِ فِي تَرْكِ السُّنَّةِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ فَتَأَمَّلْهُ. وَثَالِثُهَا الدُّعَاءُ بِلَا حَدٍّ أَوْ يُسَبِّحُ أَوْ يُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَرَابِعُهَا تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بِفَمِهِ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَخَامِسُهَا اسْتِلَامُ أَيْ لَمْسٌ بِغَيْرِ الْفَمِ الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ. وَسَادِسُهَا صَلَاةُ الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَهُ بِنَاءً عَلَى سُنِّيَّةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِلطَّوَافِ الْمَشْيُ وَإِلَّا فَدَمٌ لِقَادِرٍ لَمْ يُعِدْهُ، وَتَقْبِيلُ حَجَرٍ بِفَمٍ أَوَّلَهُ، وَلِلزَّحْمَةِ لَمْسٌ بِيَدٍ ثُمَّ عُودٍ وَوَضْعِهَا عَلَى فِيهِ وَكَبَّرَ، ثُمَّ الدُّعَاءُ بِلَا حَدٍّ وَرَمَلُ رَجُلٍ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، إلَى أَنْ قَالَ: وَفِي سُنِّيَّةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ أَوْ وُجُوبِهِمَا خِلَافٌ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالرَّاجِحُ الْوُجُوبُ فِي رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِهِمَا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ ، وَأَشَارَ إلَى مَا يُسْتَحَبُّ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَيَسْتَلِمُ) : أَيْ يُقَبِّلُ الطَّائِفُ مُطْلَقًا (الرُّكْنَ) : أَيْ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ فِي غَيْرِ الشَّوْطِ الْأَوَّلِ (كُلَّمَا مَرَّ بِهِ كَمَا ذَكَرْنَا) : فِيمَا تَقَدَّمَ بِأَنْ يُقَبِّلَهُ بِفِيهِ إنْ أَمْكَنَ، وَإِلَّا فَيَمَسُّهُ بِيَدِهِ إنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَمَسُّهُ بِعُودٍ وَيَضَعُهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ سَقَطَ عَنْهُ. (وَيُكَبِّرُ) : فَقَطْ مِنْ غَيْرِ إشَارَةٍ إلَيْهِ بِيَدٍ أَوْ غَيْرِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يُكَبِّرُ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي قَوْلِهِ: كَمَا ذَكَرْنَا فِي الصِّفَةِ لَا فِي الْحُكْمِ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ تَقْبِيلَ الْحَجَرِ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ سُنَّةٌ وَفِيمَا بَعْدَهُ مُسْتَحَبٌّ، وَلَمَّا كَانَ التَّقْبِيلُ بِالْفَمِ مُخْتَصًّا بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرُهُ يُلْمَسُ بِغَيْرِ الْفَمِ قَالَ: (وَلَا يَسْتَلِمُ) : أَيْ لَا يُقَبِّلُ (الرُّكْنَ الْيَمَانِيَّ بِفِيهِ) :؛ لِأَنَّ الْفَمَ لَا يُطْلَبُ وَضْعُهُ إلَّا عَلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. (وَلَكِنْ) : يَسْتَلِمُهُ بِمَعْنَى يَلْمِسُهُ (بِيَدِهِ) : نَدْبًا فِي غَيْرِ الشَّوْطِ الْأَوَّلِ (ثُمَّ يَضَعُهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ) : فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ كَبَّرَ وَمَضَى، وَالرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ هُوَ الَّذِي يَتَوَسَّطُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْحَجَرِ رُكْنَانِ، وَمِنْ مُسْتَحَبَّاتِ الطَّوَافِ زِيَادَةٌ عَلَى تَقْبِيلِ الْحَجَرِ وَلَمْسِ الْيَمَانِيِّ بَعْدَ الشَّوْطِ الْأَوَّلِ الدُّعَاءُ بِالْمُلْتَزَمِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّوَافِ وَالدُّنُوُّ مِنْ الْبَيْتِ لِلرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، وَالْمُلْتَزَمُ مَا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْبَابِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا شُرُوطُ الطَّوَافِ وَسُنَنُهُ وَمُسْتَحَبَّاتُهُ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِمَكْرُوهَاتِهِ وَتَزِيدُ عَلَى عَشْرٍ: مِنْهَا الطَّوَافُ مَعَ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ، وَمِنْهَا السُّجُودُ عَلَى الرُّكْنِ، وَمِنْهَا تَقْبِيلُ الرُّكْنَيْنِ اللَّذَيْنِ يَلِيَانِ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَمِنْهَا كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَمِنْهَا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَمِنْهَا إنْشَادُ الشِّعْرِ إلَّا مَا خَفَّ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَى وَعْظٍ، وَمِنْهَا الشُّرْبُ لِغَيْرِ اضْطِرَارٍ، وَمِنْهَا الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ، وَمِنْهَا تَغْطِيَةُ الرَّجُلِ فَمَه وَانْتِقَابُ الْمَرْأَةِ، وَمِنْهَا الرُّكُوبُ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَمِنْهَا حَسْرُ الْمَنْكِبَيْنِ، وَمِنْهَا الطَّوَافُ عَنْ الْغَيْرِ قَبْلَ فِعْلِهِ عَنْ نَفْسِهِ، ابْنُ رَاشِدٍ: وَفِي بَعْضِهَا خِلَافٌ (فَإِذَا تَمَّ) : أَيْ فَرَغَ (طَوَافُهُ) : لِقُدُومِهِ بِدَلِيلِ سَعْيِهِ بَعْدَهُ (رَكَعَ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ) :. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نِيَّةِ الرَّكْعَتَيْنِ وَلَا حُكْمُ فِعْلِهِمَا عِنْدَ الْمَقَامِ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْمَذْهَبِ مُتَّفِقُونَ عَلَى عَدَمِ رُكْنِيَّتِهِمَا، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهِمَا أَوْ سُنِّيَّتِهِمَا، وَالْخِلَافُ جَارٍ حَتَّى فِي رَكْعَتَيْ طَوَافِ الْمُتَطَوِّعِ، وَوَجْهُ وُجُوبِ رَكْعَتَيْ طَوَافِ التَّطَوُّعِ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِهِمَا تَبَعِيَّتُهُمَا لَهُ وَهُوَ قَدْ تَعَيَّنَ إتْمَامُهُ بِالشُّرُوعِ فِيهِ، وَرَجَّحَ الْأُجْهُورِيُّ وُجُوبَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ الْوَاجِبِ وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِهِمَا عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا حُكْمُ فِعْلِهِمَا عِنْدَ الْمَقَامِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 يَخْرُجُ إلَى الصَّفَا فَيَقِفُ عَلَيْهِ لِلدُّعَاءِ ثُمَّ يَسْعَى إلَى الْمَرْوَةِ وَيَخُبُّ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ فَإِذَا أَتَى الْمَرْوَةَ وَقَفَ عَلَيْهَا لِلدُّعَاءِ ثُمَّ يَسْعَى إلَى الصَّفَا يَفْعَلُ ذَلِكَ سَبْعَ مَرَّاتٍ فَيَقِفُ بِذَلِكَ أَرْبَعَ وَقَفَاتٍ عَلَى الصَّفَا وَأَرْبَعًا عَلَى الْمَرْوَةِ ثُمَّ يَخْرُجُ   [الفواكه الدواني] فَمَنْدُوبٌ، وَالْمُرَادُ بِالْمَقَامِ الْحَجَرُ الَّذِي وَقَفَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ حِينَ بَنَى الْبَيْتَ وَغَرِقَتْ قَدَمَاهُ فِيهِ، أَوْ حِينَ أَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُؤَذِّنَ لِلنَّاسِ بِالْحَجِّ. الثَّانِي: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: فَإِذَا تَمَّ طَوَافُهُ رَكَعَ أَنَّهُ يُطْلَبُ اتِّصَالُهُمَا بِالطَّوَافِ لِدَلَالَةِ الْفَاءِ عَلَى التَّعْقِيبِ، فَلَوْ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهُ بَعْدَ الطَّوَافِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ تَطَهَّرَ وَأَعَادَ الطَّوَافَ لِصَلَاتِهِمَا مُتَّصِلَيْنِ بِهِ، فَإِنْ تَطَهَّرَ وَصَلَّاهُمَا وَسَعَى مِنْ غَيْرِ إعَادَةِ الطَّوَافِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ الطَّوَافَ وَالرَّكْعَتَيْنِ وَالسَّعْيَ مَا دَامَ بِمَكَّةَ أَوْ قَرِيبًا مِنْهَا، فَإِنْ تَبَاعَدَ مِنْ مَكَّةَ فَلْيَرْكَعْهُمَا بِمَوْضِعِهِ وَيَبْعَثْ بِهَدْيٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ انْتَقَضَتْ طَهَارَتُهُ قَهْرًا. الثَّالِثُ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: فَإِذَا تَمَّ طَوَافُهُ رَكَعَ عِنْدَ الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ عَنْهُمَا الْفَرْضُ، وَأَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَجْمَعَ أَسَابِيعَ وَيُصَلِّيَ لِجَمِيعِهَا رَكْعَتَيْنِ بَلْ يُكْرَهُ، وَإِنْ وَقَعَ صَلَّى لِكُلِّ سَبْعَةِ أَشْوَاطٍ رَكْعَتَيْنِ عَلَى الْمَشْهُورِ، اُنْظُرْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (ثُمَّ) : بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ (اسْتَلَمَ الْحَجَرَ) : الْأَسْوَدَ اسْتِنَانًا (إنْ قَدَرَ) : وَهَذَا التَّقْبِيلُ الْوَاقِعُ بَعْدَ تَمَامِ الطَّوَافِ تَوْدِيعٌ لِلْبَيْتِ، وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَمُرَّ بِزَمْزَمَ لِيَشْرَبَ مِنْهَا وَيَدْعُوَ بِمَا أَحَبَّ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا التَّقْبِيلُ تَوْدِيعًا لِلْبَيْتِ؛ لِأَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الطَّوَافِ وَالرَّكْعَتَيْنِ لِلسَّعْيِ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ) : بَعْدَ اسْتِلَامِ الْحَجَرِ (يَخْرُجُ) : مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ بَابِ الصَّفَا الَّذِي هُوَ بَابُ بَنِي مَخْزُومٍ ذَاهِبًا (إلَى الصَّفَا) : بِالْقَصْرِ وَهُوَ جَبَلٌ بِمَكَّةَ وَبَقِيَ مِنْهُ مَحَلٌّ صَغِيرٌ قَرِيبٌ عَلَى بَابِ الصَّفَا، فَإِذَا وَصَلَ إلَيْهِ يُسَنُّ أَنْ يَرْقَاهُ (فَيَقِفَ عَلَيْهِ لِلدُّعَاءِ) : بِمَا تَيَسَّرَ وَلَا يَدْعُو عَلَى الْأَرْضِ إلَّا مِنْ عِلَّةٍ، وَحُكْمُ الْوُقُوفِ وَالدُّعَاءِ السُّنِّيَّةُ؛ لِأَنَّ الرُّكْنَ إنَّمَا هُوَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ. (ثُمَّ) : بَعْدَ النُّزُولِ مِنْ عَلَى الصَّفَا (يَسْعَى) : أَيْ يَمْشِي ذَاهِبًا (إلَى الْمَرْوَةِ) : بِفَتْحِ الْمِيمِ وَسُكُونِ الرَّاءِ جَبَلٌ بِمَكَّةَ أَيْضًا مِنْهُ خَالٍ مِنْ الْبِنَاءِ مَحَلٌّ صَغِيرٌ كَالْبَاقِي مِنْ الصَّفَا. (وَ) : يُسَنُّ أَنْ (يَخُبَّ) : أَيْ يُسْرِعَ إنْ كَانَ رَجُلًا (فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ) : فِي السَّبْعَةِ أَشْوَاطٍ، وَالْمُرَادُ بِبَطْنِ الْمَسِيلِ مَا بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ، فَيَمْشِي بِالسَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ فِي حَالِ سَعْيِهِ حَتَّى يَصِلَ إلَى هَذَا الْمَحَلِّ فَيُسْرِعَ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِسْرَاعٌ بَيْنَ الْأَخْضَرَيْنِ فَوْقَ الرَّمَلِ، وَإِنَّمَا يُسَنُّ الْإِسْرَاعُ لِلرِّجَالِ لَا لِلنِّسَاءِ كَالرَّمَلِ فِي الطَّوَافِ، وَلَا يَخُبُّ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَلَوْ تَرَكَ الْخَبَبَ الْمَطْلُوبَ لَا دَمَ عَلَيْهِ، كَمَا لَا دَمَ عَلَى مَنْ تَرَكَ الرَّمَلَ فِي الطَّوَافِ؛ لِأَنَّ كُلًّا سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِفَرْضِيَّتِهَا فَلَا يَرِدُ أَنَّ التَّلْبِيَةَ سُنَّةٌ، وَإِذَا تَرَكَهَا يَلْزَمُهُ الدَّمُ، وَالْمَشْيُ فِي الطَّوَافِ لِلْقَادِمِ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَإِذَا أَتَى الْمَرْوَةَ وَقَفَ عَلَيْهَا) : اسْتِنَانًا بِحَيْثُ يَرَى الْبَيْتَ (لِلدُّعَاءِ) : كَمَا يَقِفُ عَلَى الصَّفَا، وَالْوُقُوفُ الْمَذْكُورُ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ مُطْلَقًا، وَلِلنِّسَاءِ إنْ خَلَا الْمَكَانُ مِنْ مُزَاحِمَةِ الرِّجَالِ، وَعِنْدَ الزَّحْمَةِ تَقِفُ النِّسَاءُ لِلدُّعَاءِ أَسْفَلَهَا. (ثُمَّ) : بَعْدَ الدُّعَاءِ بِمَا تَيَسَّرَ (يَسْعَى إلَى الصَّفَا) : الَّذِي ابْتَدَأَ مِنْهُ (بِفِعْلِ ذَلِكَ) : الْمَذْكُورِ مِنْ السَّعْيِ وَالْوُقُوفِ (سَبْعَ مَرَّاتٍ) : ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا قَدَّمَهُ مِنْ تَكْرِيرِ السَّعْيِ سَبْعَ مَرَّاتٍ قَوْلَهُ: (فَيَقِفُ بِذَلِكَ أَرْبَعَ وَقَفَاتٍ) : بِفَتْحِ الْقَافِ لِفَتْحِ فَائِهِ (عَلَى الصَّفَا وَأَرْبَعًا عَلَى الْمَرْوَةِ) : وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ يَبْدَأُ مِنْ الصَّفَا ثُمَّ يَنْتَهِي إلَى الْمَرْوَةِ وَيَرْجِعُ إلَى الصَّفَا فَتَحْصُلُ مِنْ وُقُوفِهِ مَرَّتَيْنِ عَلَى الصَّفَا وَمَرَّةً عَلَى الْمَرْوَةِ طَوَافَانِ، وَلِذَلِكَ يَخْتِمُ بِالْمَرْوَةِ، وَيَحْصُلُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعُ وَقَفَاتٍ عَلَى الصَّفَا وَأَرْبَعُ وَقَفَاتٍ عَلَى الْمَرْوَةِ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ رُكْنٌ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَلَا يُجْبَرُ بِالدَّمِ دَلَّ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ} [البقرة: 158] أَيْ لَا إثْمَ عَلَيْهِ أَنْ يَطُوفَ بِهِمَا أَيْ يَسْعَى بَيْنَهُمَا سَبْعًا، نَزَلَتْ لَمَّا كَرِهَ الْمُسْلِمُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانُوا يَطُوفُونَ بِهِمَا وَعَلَيْهِمَا صَنَمَانِ يَمْسَحُونَهُمَا، وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ السَّعْيَ غَيْرُ فَرْضٍ لِمَا أَفَادَهُ رَفْعُ الْإِثْمِ مِنْ التَّخْيِيرِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ فَاسْعَوْا» رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ. غَيْرُهُ وَقَالَ: «اُبْتُدِئُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ» يَعْنِي الصَّفَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ: إنَّمَا أُخِذَتْ الْفَرِيضَةُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ أَجْمَعَ مُجْتَهِدُو أُمَّةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، خِلَافًا لِابْنِ عَبَّاسٍ لِمَا أَفَادَهُ: رَفْعُ الْإِثْمِ مِنْ التَّخْيِيرِ، وَالْجَوَابُ عَنْهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ رَدًّا لِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ الْمُسْلِمُونَ فَلَا يُنَافِي الْفَرْضِيَّةَ. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ ذِكْرِ الْمُصَنِّفِ السَّعْيَ بَعْدَ الطَّوَافِ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّتِهِ مِنْ تَقَدُّمِ طَوَافٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصِحَّتُهُ بِتَقَدُّمِ طَوَافٍ وَنَوَى فَرْضِيَّتَهُ أَيْ عُلِمَ أَنَّهُ وَاجِدٌ أَوْ اعْتَقَدَ أَنَّهُ يَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ، وَهَذَا مَعْنَى نِيَّةِ الْفَرْضِيَّةِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ عَلَى خَلِيلٍ وَهُوَ ظَاهِرٌ، إذْ لَا مَعْنَى لِنِيَّةِ فَرِيضَةِ الشَّيْءِ مَعَ عِلْمِهِ فَرْضًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ نِيَّةَ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ تَتَضَمَّنُ فَرْضِيَّتَهَا وَإِيقَاعُهَا فِي وَقْتِهَا يَتَضَمَّنُ كَوْنَهَا أَدَاءً، وَالْمُرَادُ بِالْفَرْضِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 يَوْمَ التَّرْوِيَةِ إلَى مِنًى فَيُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ يَمْضِي إلَى عَرَفَاتٍ وَلَا يَدَعُ التَّلْبِيَةَ فِي   [الفواكه الدواني] قَوْلِ خَلِيلٍ نَوَى فَرْضِيَّتَهُ مَا قَابَلَ التَّطَوُّعَ فَيَشْمَلُ الْوَاجِبَ كَطَوَافِ الْقُدُومِ، فَإِنْ سَعَى مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ طَوَافٍ أَعَادَهُ، وَإِنْ سَعَى بَعْدَ طَوَافِ تَطَوُّعٍ أَوْ وَاجِبٍ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُ أَنَّهُ وَاجِبٌ بَلْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ تَطَوُّعٌ لِجَهْلِهِ فَيَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ وَيُعِيدُهُ بَعْدَ طَوَافٍ يَعْلَمُ وُجُوبَهُ إنْ كَانَ قَبْلَ عَرَفَةَ، وَإِلَّا أَعَادَهُ بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَإِنْ بَعُدَ لَزِمَهُ دَمٌ مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ صِحَّةَ السَّعْيِ الَّتِي لَا دَمَ مَعَهَا أَنْ يَقَعَ بَعْدَ طَوَافٍ وَاجِبٍ يُلَاحِظُ السَّاعِي وُجُوبَهُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَصِحُّ بَعْدَ طَوَافٍ غَيْرِ وَاجِبٍ، وَلَكِنْ يَلْزَمُهُ الدَّمُ حَيْثُ بَعُدَ بِحَيْثُ يَتَعَذَّرُ إعَادَتَهُ بَعْدَ طَوَافٍ يُلَاحِظُ وُجُوبَهُ، كَمَا يُؤْخَذُ ذَلِكَ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، 1 - وَمِنْ شُرُوطِهِ أَيْضًا الْمُوَالَاةُ بَيْنَ أَشْوَاطِهِ، فَلَوْ اشْتَغَلَ بِبَيْعٍ أَوْ شِرَاءِ أَوْ صَلَّى عَلَى جِنَازَةٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنَةٍ: فَإِنْ طَالَ بِحَيْثُ يُعَدُّ تَارِكًا لَهُ ابْتَدَأَهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الطَّوَافِ يَقْطَعُهُ لِجِنَازَةٍ غَيْرِ مُتَعَيِّنَةٍ فَيَبْتَدِئُهُ وَلَوْ لَمْ يُطِلْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الطَّوَافَ كَالصَّلَاةِ، وَلِذَا لَوْ أَصَابَهُ حَقْنٌ فِي السَّعْيِ تَوَضَّأَ وَبَنَى، وَالْكَلَامُ فِيهِ أَخَفُّ مِنْ الْكَلَامِ فِي الطَّوَافِ، وَإِنْ أُقِيمَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ تَمَادَى إلَّا أَنْ يَضِيقَ الْوَقْتُ فَلْيُصَلِّ ثُمَّ يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى لَهُ كَمَا يَبْنِي فِي الطَّوَافِ، وَمِنْ شُرُوطِهِ كَمَالُ السَّبْعَةِ أَشْوَاطٍ، فَلَوْ تَرَكَ شَوْطًا أَوْ بَعْضَهُ: لَمْ تَبْرَأْ ذِمَّتُهُ مِنْهُ بَلْ لَا بُدَّ مِنْهُ إنْ كَانَ بِالْقُرْبِ، وَإِلَّا ابْتَدَأَ السَّعْيَ لِبُطْلَانِهِ بِعَدَمِ الْمُوَالَاةِ وَيَرْجِعُ لَهُ وَلَوْ مِنْ بَلَدِهِ؛ لِأَنَّهُ جُزْءٌ مِنْ رُكْنٍ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَنْ سُنَنِ السَّعْيِ الرُّقِيُّ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ لِلرِّجَالِ مُطْلَقًا كَالنِّسَاءِ إنْ خَلَا الْمَكَانُ، وَمِنْ سُنَنِهِ أَيْضًا تَقْبِيلُ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَوَافٍ كَمَا تَقَدَّمَ وَمِنْ اتِّصَالِهِ بِالطَّوَافِ، وَمِنْ سُنَنِهِ الْمَشْيُ إلَّا لِعُذْرٍ، فَإِنْ رَكِبَ مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ أَعَادَ سَعْيَهُ إنْ قَرُبَ، وَإِنْ تَبَاعَدَ أَجْزَأَهُ وَأَهْدَى، وَمِنْ سُنَنِهِ الدُّعَاءُ فِي حَالِ سَعْيِهِ وَفِي حَالِ وُقُوفِهِ عَلَى الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَمِنْ سُنَنِهِ الْإِسْرَاعُ بَيْنَ الْمِيلَيْنِ الْأَخْضَرَيْنِ. الرَّابِعُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا شُرُوطَ صِحَّةِ السَّعْيِ، وَأَمَّا سُنَنُهُ فَخَمْسَةٌ: الْمَشْيُ فَإِنْ رَكِبَ فِيهِ وَلَمْ يُعِدْهُ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَزِمَهُ دَمٌ، وَتَقْبِيلُ الْحَجَرِ قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلسَّعْيِ تَقْبِيلُ الْحَجَرِ وَرُقِيُّهُ عَلَيْهِمَا كَامْرَأَةٍ إنْ خَلَا، وَإِسْرَاعٌ بَيْنَ الْأَخْضَرَيْنِ فَوْقَ الرَّمَلِ وَدَعَا، فَهَذِهِ خَمْسَةٌ فَإِنْ تَرَكَهَا أَوْ شَيْئًا مِنْهَا لَا دَمَ عَلَيْهِ إلَّا فِي الْمَشْيِ فَإِنَّهُ فِيهِ كَالطَّوَافِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا مَنْدُوبَاتُهُ فَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِلسَّعْيِ شُرُوطٌ: الصَّلَاةُ مِنْ طَهَارَةٍ حَدَثِيَّةٍ وَخُبْثِيَّةٍ وَسَتْرُ عَوْرَةٍ إلَّا لِاسْتِقْبَالٍ فَلَوْ اُنْتُقِضَتْ طَهَارَتُهُ أَوْ حَصَلَ لَهُ حَقْنٌ تَوَضَّأَ وَبَنَى عَلَى مَا فَعَلَ مِنْ السَّعْيِ،؛ لِأَنَّ اشْتِغَالَهُ بِالْوُضُوءِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْمُوَالَاةِ لِقِصَرِ زَمَنِ الْوُضُوءِ فَلَا يُخِلُّ بِالْمُوَالَاةِ الْوَاجِبَةِ (فَائِدَةٌ) : قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: أَصْلُ السَّعْيِ وَسَبَبُ مَشْرُوعِيَّتِهِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فِي الْحَجِّ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمَّا تَرَكَ وَلَدَهُ إسْمَاعِيلَ مَعَ أُمِّهِ بِمَكَّةَ وَهُوَ رَضِيعٌ نَفِدَ مَاؤُهَا وَعَطِشَ وَلَدُهَا مَعَهَا وَصَارَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ يَتَلَوَّى أَوْ قَالَ يَتَلَبَّطُ، فَانْطَلَقَتْ كَرَاهَةَ أَنْ تَنْظُرَ إلَيْهِ، فَوَجَدَتْ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ يَلِيهَا فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتْ الْوَادِيَ لِتَنْظُرَ هَلْ تَرَى أَحَدًا فَلَمْ تَرَى أَحَدًا، فَنَهَضَتْ مِنْ الصَّفَا حَتَّى إذَا بَلَغَتْ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرَفَ دِرْعِهَا وَسَعَتْ سَعْيَ الْإِنْسَانِ الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتْ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتْ الْمَرْوَةَ فَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ فَلَمْ تَرَ أَحَدًا سَبْعَ مَرَّاتٍ» وَيُقَالُ: إنَّ الصَّفَا أَفْضَلُ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ مِنْهُ أَرْبَعًا وَمِنْ الْمَرْوَةِ ثَلَاثًا، وَإِنْ كَانَ الْوُقُوفُ عَلَى كُلٍّ أَرْبَعًا، وَمَا كَانَتْ الْعِبَادَةُ فِيهِ أَكْثَرَ فَهُوَ أَفْضَلُ. (ثُمَّ) : بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ السَّعْيِ (يَخْرُجُ) : الْحَاجُّ مِنْ مَكَّةَ إذَا قَرُبَ زَمَنُ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ (يَوْمَ التَّرْوِيَةِ) : بِتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهُوَ ثَامِنُ الْحِجَّةِ سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْتَعِدُّونَ فِيهِ بِالْمَاءِ لِيَوْمِ عَرَفَةَ حَالَةَ كَوْنِهِ ذَاهِبًا (إلَى مِنًى) : وَهُوَ مَحَلٌّ مَعْرُوفٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَكَّةَ سَبْعَةُ أَمْيَالٍ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَمَنَّى فِيهِ كَشْفَ مَا نَزَلَ بِهِ مِنْ ذَبْحِ وَلَدِهِ. (فَيُصَلِّي بِهَا الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ) : أَوْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَخْرُجَ فِي زَمَنٍ بِحَيْثُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهَا صَلَاةُ الظُّهْرِ، وَيُقِيمُ فِيهَا حَتَّى يُصَلِّيَ الصُّبْحَ يَوْمَ عَرَفَةَ، فَيُكْرَهُ خُرُوجُهُ لِمِنًى قَبْلَ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَخُرُوجُهُ لِمِنًى قَدْرَ مَا يُدْرِكُ بِهَا الظُّهْرَ وَبَيَاتُهُ بِهَا وَسَيْرُهُ لِعَرَفَةَ بَعْدَ الطُّلُوعِ وَنُزُولُهُ بِنَمِرَةَ، وَالْأَصْلُ فِي هَذَا كُلِّهِ فِعْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا يَفْعَلُهُ فِي السَّابِعِ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ قَبْلَ خُرُوجِهِ لِمِنًى وَاَلَّذِي يُسْتَحَبُّ لَهُ إتْيَانُ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَإِذَا دَخَلَ وَقْتُ الظُّهْرِ صَلَّاهَا بِالنَّاسِ ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ وَخَطَبَ خُطْبَةً وَاحِدَةً يَفْتَتِحُهَا بِالتَّكْبِيرِ كَالْعِيدِ وَيُخَلِّلُهَا بِهِ وَيَذْكُرُ فِيهَا فَضْلَ الْحَجِّ، وَيُبَيِّنُ فِيهَا لِلنَّاسِ كَيْفِيَّةَ خُرُوجِهِمْ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى يَوْم التَّرْوِيَةِ وَصَلَاتِهِمْ بِهَا تِلْكَ الصَّلَوَاتِ وَمَبِيتِهِمْ بِهَا لَيْلَةَ عَرَفَةَ، وَيُحَرِّضُهُمْ عِنْدَ وُصُولِ عَرَفَةَ عَلَى النُّزُولِ بِنَمِرَةَ وَهِيَ آخِرُ الْحَرَمِ وَأَوَّلُ الْحِلِّ، وَهَذِهِ أُولَى الْخُطَبِ وَقَدْ تُرِكَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ، وَالثَّانِيَةُ يَوْمَ عَرَفَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ فِيهَا كَيْفِيَّةَ الْوُقُوفِ وَزَمَنَهُ وَالذَّهَابَ لِلْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ الْغُرُوبِ مَعَ الْبَيَاتِ بِهَا وَالتَّوَجُّهِ مِنْهَا إلَى مِنًى طُلُوعَ الشَّمْسِ لِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فَقَطْ وَالذَّبْحِ وَالْحَلْقِ ثُمَّ التَّوَجُّهِ إلَى مَكَّةَ لِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَالْخُطْبَةِ الثَّالِثَةِ فِي حَادِيَ عَشَرَ ذِي الْحِجَّةِ يُبَيِّنُ لِلنَّاسِ فِيهَا مَبِيتَهُمْ بِمِنًى وَكَيْفِيَّةَ الرَّمْيِ وَمَا يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ وَحُكْمَ التَّعْجِيلِ وَنَحْوَ ذَلِكَ، فَتَلَخَّصَ أَنْ خُطَبَ الْحَجِّ ثَلَاثٌ. [الْوُقُوفِ بِعَرَفَة] (ثُمَّ) : بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ التَّاسِعِ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 هَذَا كُلِّهِ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحُ إلَى مُصَلَّاهَا وَلْيَتَطَهَّرْ قَبْلَ رَوَاحِهِ فَيَجْمَعُ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مَعَ الْإِمَامِ ثُمَّ يَرُوحُ مَعَهُ إلَى مَوْقِفِ عَرَفَةَ فَيَقِفُ مَعَهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ ثُمَّ يَدْفَعُ بِدَفْعِهِ إلَى الْمُزْدَلِفَةِ فَيُصَلِّي مَعَهُ   [الفواكه الدواني] مِنًى (يَمْضِي) : أَيْ يَخْرُجُ مِنْهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ ذَاهِبًا (إلَى عَرَفَاتٍ) : وَهُوَ مَوْضِعُ الْوُقُوفِ، وَقِيلَ عَرَفَاتُ جَمْعُ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْهُ يُسَمَّى عَرَفَةَ، وَلِهَذَا يَجُوزُ فِيهِ الصَّرْفُ وَعَدَمُهُ كَمَا قِيلَ فِي أَذْرَعَاتٍ. قَالَ الزَّجَّاجُ: وَالْأَوْجُهُ الصَّرْفُ عِنْدَ جَمِيعِ النَّحْوِيِّينَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَسْمَاءِ الصَّرْفُ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ قِيلَ:؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ يُعَلِّمُ إبْرَاهِيمَ الْمَنَاسِكَ فِيهَا وَيُرِيهَا لَهُ وَيَقُولُ لَهُ: عَرَفْت؟ فَيَقُولُ: عَرَفْت، وَقِيلَ:؛ لِأَنَّ جِبْرِيلَ عَرَّفَ فِيهَا آدَمَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ، وَقِيلَ:؛ لِأَنَّ آدَمَ عَرَفَ حَوَّاءَ فِيهَا. (وَلَا يَدَعُ) : أَيْ لَا يَتْرُكُ (التَّلْبِيَةَ فِي هَذَا كُلِّهِ) : أَيْ فِي الزَّمَنِ الَّذِي مَرَّ بَعْدَ سَعْيِهِ؛ لِأَنَّهُ يُعَاوِدُ التَّلْبِيَةَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ سَعْيِهِ. (حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ وَيَرُوحُ إلَى مُصَلَّاهَا) : وَهُوَ مَسْجِدُ نَمِرَةَ. (وَلْيَتَطَهَّرْ) : أَيْ يَغْتَسِلْ اسْتِنَانًا، وَقِيلَ نَدْبًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ (قَبْلَ رَوَاحِهِ) : إلَى الْمُصَلَّى بَعْدَ الزَّوَالِ وَلَا يَتَدَلَّكُ، وَهَذَا الِاغْتِسَالُ لِلْوُقُوفِ لَا لِلصَّلَاةِ فَيُطْلَبُ مِنْ الْحَائِضِ، وَهَذَا ثَالِثُ اغْتِسَالَاتِ الْحَجِّ الَّتِي أَوَّلُهَا الْإِحْرَامُ، وَثَانِيهَا لِدُخُولِ مَكَّةَ، وَثَالِثُهَا هَذَا إذَا وَصَلَ إلَى الْمُصَلَّى. (فَيَجْمَعَ) : عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ (بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ) : بِمَسْجِدِ نَمِرَةَ جَمْعَ تَقْدِيمٍ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ (مَعَ الْإِمَامِ) : بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الْخُطْبَةِ، وَبَعْدَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ وَالْإِمَامُ عَلَى الْمِنْبَرِ، وَكَمَا يُسَنُّ جَمْعُ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ يُسَنُّ قَصْرُهُمَا إلَّا لِمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَحَلٍّ يُتِمُّ بِمَحَلِّهِ، وَإِنْ كَانَ يَجْمَعُ تَبَعًا لِلْإِمَامِ فِي مَحَلِّهِ، وَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ تَرْكُ ذَلِكَ الْجَمْعِ، وَيُصَلِّي الْإِمَامُ بِالنَّاسِ فِي عَرَفَةَ الظُّهْرَ وَلَوْ وَافَقَ يَوْمَ جُمُعَةٍ عَلَى الصَّوَابِ، فَقَدْ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: جَمَعَ هَارُونُ الرَّشِيدُ خَلِيفَةُ زَمَانِهِ مَالِكًا وَأَبَا يُوسُفَ، فَسَأَلَهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْ إقَامَةِ الْجُمُعَةِ بِعَرَفَةَ، فَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّهَا فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ، فَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: قَدْ صَلَّاهَا؛ لِأَنَّهُ خَطَبَ خُطْبَتَيْنِ وَصَلَّى بَعْدَهُمَا رَكْعَتَيْنِ وَهَذِهِ جُمُعَةٌ، فَقَالَ مَالِكٌ: أَجَهْرُ فِيهِمَا كَمَا يُجْهَرُ بِالْجُمُعَةِ؟ فَسَكَتَ أَبُو يُوسُفَ وَسَلَّمَ لِلْإِمَامِ (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ الْمَذْكُورَ مَشْرُوعٌ وَلَوْ لِأَهْلِ عَرَفَةَ بِخِلَافِ الْقَصْرِ، وَكَذَا يُقَالُ فِي أَهْلِ مِنًى وَمُزْدَلِفَةَ، وَالضَّابِطُ أَنَّ أَهْلَ كُلِّ مَحَلٍّ يُتِمُّونَ بِهِ، فَأَهْلُ عَرَفَةَ تَجْمَعُ بِهَا وَلَا تَقْصُرُ، وَأَهْلُ الْمُزْدَلِفَةِ كَذَلِكَ تَجْمَعُ بِهَا وَلَا تَقْصُرُ، وَالْمَنْوِيُّ يَجْمَعُ فِيهَا وَيَقْصُرُ. (ثُمَّ) : بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الصَّلَاتَيْنِ مَعَ الْإِمَامِ (يَرُوحُ مَعَهُ إلَى مَوْقِفِ عَرَفَةَ) : الَّذِي وَقَفَ فِيهِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ الْمُسْتَحَبُّ، وَهُوَ عِنْدَ الصَّخَرَاتِ الْعِظَامِ الْمَفْرُوشَةِ فِي أَسْفَلِ جَبَلِ الرَّحْمَةِ وَهُوَ الْجَبَلُ الَّذِي بِوَسَطِ عَرَفَةَ، هَذَا هُوَ الَّذِي اسْتَحَبَّهُ الْعُلَمَاءُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُعَلَّى وَإِنْ كَانَ يَصِحُّ الْوُقُوفُ فِي كُلِّ جُزْءٍ مِنْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ» وَارْتَفَعُوا عَنْ بَطْنِ عُرَنَةَ. (فَيَقِفُ مَعَهُ) : أَيْ مَعَ الْإِمَامِ (إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ) : وَيُنْدَبُ أَنْ يَكُونَ عَلَى وُضُوءٍ وَرَاكِبًا إلَّا لِتَعَبٍ، وَيَدْعُو وَيُسَبِّحُ أَوْ يُهَلِّلُ فِي حَالَةِ وُقُوفِهِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ أَنَّهُ لَا يَقِفُ بِعَرَفَةَ قَبْلَ الزَّوَالِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَحُكْمُ الْوُقُوفِ الْوُجُوبُ وَيَتَمَادَى وَلَوْ بِجُزْءٍ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ، وَيَلْزَمُ الدَّمُ بِتَرْكِهِ اخْتِيَارًا، وَأَمَّا الْوُقُوفُ الرُّكْنِيُّ فَزَمَنُهُ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَمُنْتَهَاهُ طُلُوعُ الْفَجْرِ، وَالتَّعْبِيرُ بِالْوُقُوفِ بَيَانٌ لِلْوَجْهِ الْكَامِلِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ إذَا مَرَّ بِعَرَفَةَ لَيْلًا وَلَمْ يَقِفْ فِيهَا يُجْزِئُهُ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِأَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ عَرَفَةُ، وَأَنْ يَنْوِيَ الْحُضُورَ بِعَرَفَةَ، لَا الْمَارُّ الْجَاهِلُ بِأَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ عَرَفَةُ، وَلَكِنْ يَلْزَمُ الْمَارَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمُجْزِئِ الدَّمُ لِوُجُوبِ الطُّمَأْنِينَةِ بِعَرَفَةَ. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: إذَا عَرَفْت مَا قَرَّرْنَاهُ لَك مِنْ أَنَّ الْوُقُوفَ بِعَرَفَةَ جُزْءٌ مِنْ النَّهَارِ بَعْدَ الزَّوَالِ وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ، وَأَنَّ الْوُقُوفَ الرُّكْنِيَّ الْوُقُوفُ بِهَا جُزْءٌ مِنْ اللَّيْلِ بَعْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْخَفَاءِ بِوَاسِطَةِ التَّعْبِيرِ بِإِلَى الدَّالَّةِ عَلَى خُرُوجِ مَا بَعْدَهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ فِي كَلَامِهِ حَذْفُ عَاطِفٍ وَمَعْطُوفٍ تَقْدِيرُهُ فَيَقِفُ مَعَهُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ. 1 - الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي الشُّرُوطِ اعْتِبَارُ الْحُرِّيَّةِ وَالتَّكْلِيفِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ، وَأَنَّ مَنْ جُنَّ أَوْ أُغْمِيَ عَلَيْهِ أَوْ سَكِرَ بِحَلَالٍ بَعْدَ الْإِحْرَامِ وَوَقَفَ بِهِ وَلِيُّهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ أَجْزَأَ وَيَسْقُطُ عَنْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ، بِخِلَافِ الْمَجْنُونِ الْمُطْبِقِ يُحْرِمُ عَنْهُ وَلِيُّهُ وَيَقِفُ بِهِ فَيَصِحُّ حَجُّهُ وَلَا تَسْقُطُ عَنْهُ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ وَقْتَ الْإِحْرَامِ. 1 - الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِنَا إنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حَذْفَ عَاطِفٍ وَمَعْطُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ اللَّيْلِ، أَنَّهُ لَوْ نَفَرَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ وَلَا يَكْفِيهِ الْوُقُوفُ وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ انْفَصَلَ مِنْ عَرَفَةَ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَأَمَّا لَوْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ انْفِصَالِهِ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ. الرَّابِعُ: لَوْ أَخْطَأَ أَهْلُ الْمَوْقِفِ لَيْلَةَ الثَّلَاثِينَ مِنْ الْقَعْدَةِ بِأَنْ خَفِيَ عَلَيْهِمْ الْهِلَالُ فَجَعَلُوا اللَّيْلَةَ الثَّانِيَةَ مِنْ الشَّهْرِ هِيَ الْأُولَى وَوَقَفُوا يَوْمَ الْعَاشِرِ لِزَعْمِهِمْ أَنَّهُ التَّاسِعَ فَإِنَّهُ يُجْزِئُهُ حَيْثُ خَفِيَ الْهِلَالُ عَلَى الْجَمِيعِ، وَسَوَاءٌ ظَهَرَ لَهُمْ الْخَطَأُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعَاشِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 بِالْمُزْدَلِفَةِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ وَالصُّبْحَ ثُمَّ يَقِفُ مَعَهُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يَوْمئِذٍ بِهَا ثُمَّ يَدْفَعُ بِقُرْبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ إلَى مِنًى وَيُحَرِّكُ دَابَّتَهُ بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ فَإِذَا وَصَلَ إلَى مِنًى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ مِثْلَ حَصَى الْخَذْفِ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ   [الفواكه الدواني] أَوْ فِي حَالِ وُقُوفِهِمْ أَوْ قَبْلَهُ، وَإِنْ وَقَفُوا يَوْمَ الثَّامِنِ وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُمْ الْخَطَأُ إلَّا بَعْدَ غُرُوبِ شَمْسِ التَّاسِعِ فَيَجِبُ عَلَيْهِمْ الذَّهَابُ إلَى عَرَفَةَ لِيَقِفُوا يَوْمَ الْعَاشِرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَفُوا فِي الْحَادِيَ عَشَرَ أَوْ كَانَ الْخَطَأُ مِنْ بَعْضِ الْحُجَّاجِ وَلَوْ الْمُعْظَمِ فَلَا يُجْزِئُهُمْ وُقُوفُهُمْ وَلَوْ بِالْعَاشِرِ، وَإِذَا وَقَفُوا بِالْعَاشِرِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ فَإِنَّ أَفْعَالَهُمْ تَنْقَلِبُ كَحَالِ مَنْ لَمْ يُخْطِئْ فَيَتَأَخَّرُ النَّحْرُ وَالرَّمْيُ. 1 - (فَرْعٌ) : قَالَ السُّيُورِيُّ حِينَ سُئِلَ عَمَّنْ شَكَّ فِي هِلَالِ الْحِجَّةِ: يَنْبَغِي عِنْدِي أَنْ يَقِفَ يَوْمَيْنِ احْتِيَاطًا، وَأَجَابَ اللَّخْمِيُّ: الْمَذْهَبُ لَا يَقِفُ إلَّا يَوْمًا وَاحِدًا لِطَرْحِ يَوْمِ الشَّكِّ وَالِاعْتِدَادِ بِمَا سِوَاهُ . (ثُمَّ) : بَعْدَ الْغُرُوبِ مِنْ الْيَوْمِ التَّاسِعِ وَمُضِيِّ جُزْءٍ مِنْ لَيْلَةِ الْعَاشِرِ (يَدْفَعُ) : أَيْ يَسِيرُ (بِدَفْعِهِ) : أَيْ الْإِمَامِ (إلَى الْمُزْدَلِفَةِ) : وَيَسِيرُ الْحَاجُّ مَعَ الْإِمَامِ مِنْ عَرَفَةَ، قِيلَ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ، وَقِيلَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَالْمُزْدَلِفَةُ هِيَ الْمَحَلُّ الْمَعْرُوفُ، وَتُسَمَّى جَمْعًا بِجِيمٍ مَفْتُوحَةٍ وَمِيمٍ سَاكِنَةٍ وَعَيْنٍ مُهْمَلَةٍ. (فَيُصَلِّي مَعَهُ) : أَيْ مَعَ الْإِمَامِ (بِالْمُزْدَلِفَةِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ) : مَجْمُوعَتَيْنِ عَلَى جِهَةِ السُّنِّيَّةِ جَمْعَ تَأْخِيرٍ؛ لِأَنَّهُ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَجْمَعُ الْحَاجُّ مَعَ الْإِمَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ إلَّا إذَا وَقَفَ مَعَهُ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ أَوْ تَأَخَّرَ لِغَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ الْإِمَامِ بِأَنْ لَمْ يَقِفْ أَصْلًا أَوْ وَقَفَ بَعْدَهُ فَإِنَّهُ يَجْتَمِعُ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا، وَيُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ لِوَقْتِهَا بِمَنْزِلَةِ غَيْرِ الْحَاجِّ، وَإِنْ وَقَفَ مَعَ الْإِحْرَامِ وَتَأَخَّرَ عَنْ النُّفُورِ مَعَهُ لِعَجْزٍ فَإِنَّهُ يُصَلِّيهِمَا بَعْدَ الشَّفَقِ فِي الْمُزْدَلِفَةِ أَوْ غَيْرِهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ مَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَنَفَرَ مَعَهُ يَجْمَعُ مَعَهُ بِالْمُزْدَلِفَةِ مِنْ غَيْرِ إشْكَالٍ، وَمَنْ وَقَفَ مَعَهُ وَتَأَخَّرَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ فِي أَيِّ مَحَلٍّ شَاءَ، فَإِنْ وَقَفَ مَعَهُ وَتَأَخَّرَ اخْتِيَارًا لَا يَجْمَعُ إلَّا فِي الْمُزْدَلِفَةِ، وَمَنْ لَمْ يَقِفْ مَعَ الْإِمَامِ فَلَا يَجُوزُ جَمْعُهُ مُطْلَقًا بَلْ يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا،؛ لِأَنَّ الْجَمْعَ لِمَنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْجَمْعَ سُنَّةٌ بِالْمُزْدَلِفَةِ كَعَرَفَةَ، كَمَا يُسَنُّ الْقَصْرُ فِيهِمَا لَكِنْ لِغَيْرِ أَهْلِ كُلِّ مَحَلٍّ بِهِ، وَأَمَّا الْبَيَاتُ بِالْمُزْدَلِفَةِ فَمَنْدُوبٌ، وَيُسْتَحَبُّ إكْثَارُهُ مِنْ التَّهَجُّدِ وَالذِّكْرِ فِيهَا، وَأَمَّا الْمُكْثُ بِهَا قَدْرَ حَطِّ الرِّحَالِ فَهُوَ وَاجِبٌ يَلْزَمُ بِتَرْكِهِ دَمٌ إلَّا لِعُذْرٍ يَفْعَلُهُ، وَرُبَّمَا يُفْهَمُ نَدْبُ الْبَيَاتِ بِهَا مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ (وَ) يُصَلِّي (الصُّبْحَ) : بِالْمُزْدَلِفَةِ مَعَ الْإِمَامِ (ثُمَّ) : بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ الصَّلَاةِ وَسَيْرِهِ مُغَلِّسًا (يَقِفُ مَعَهُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) : مُسْتَقْبِلًا مُكَبِّرًا عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ إلَى الْإِسْفَارِ (يَوْمَئِذٍ) : أَيْ يَوْمَ النَّحْرِ فَيَوْمَ ظَرْفٌ لِيُصَلِّيَ الصُّبْحَ الْمُقَدَّرَ أَوْ لِيَقِفَ وَالضَّمِيرُ فِي (بِهَا) : لِلْمُزْدَلِفَةِ؛ لِأَنَّ الْمَشْعَرَ جَبَلٌ بِهَا سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجَاهِلِيَّةَ كَانَتْ تُشْعِرُ فِيهِ هَدَايَاهَا، وَالْمُرَادُ بِالْيَوْمِ قِطْعَةٌ مِنْ الزَّمَانِ؛ لِأَنَّ وُقُوفَهُ يَنْتَهِي بِالْإِسْفَارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (ثُمَّ) : بَعْدَ انْتِهَاءِ وُقُوفِهِ بِالْمَشْعَرِ (يَدْفَعُ بِقُرْبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ) : وَهُوَ الْإِسْفَارُ ذَاهِبًا (إلَى مِنًى) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَارْتِحَالُهُ بَعْدَ الصُّبْحِ مُغَلِّسًا، وَوُقُوفُهُ بِالْمَشْعَرِ الْحَرَامِ يُكَبِّرُ وَيَدْعُو لِلْإِسْفَارِ وَاسْتِقْبَالُهُ بِهِ، وَلَا وُقُوفَ بَعْدَهُ إلَى الْإِسْفَارِ خِلَافًا لِلْمُشْرِكِينَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَقِفُونَ لِطُلُوعِ الشَّمْسِ، فَمَنْ وَقَفَ لِلطُّلُوعِ أَسَاءَ وَلَا دَمَ عَلَيْهِ. (وَ) : يُسْتَحَبُّ لِلدَّافِعِ مِنْ الْمَشْعَرِ إلَى جِهَةِ مِنًى وَكَانَ رَجُلًا أَنْ (يُحَرِّكَ دَابَّتَهُ بِبَطْنِ مُحَسِّرٍ) : إنْ كَانَ رَاكِبًا وَيُسْرِعُ فِي مَشْيِهِ إنْ كَانَ رَاجِلًا، وَبَطْنُ مُحَسِّرٍ وَادٍ بَيْنَ الْمُزْدَلِفَةِ، وَمِنًى قَدْرَ رَمْيَةِ الْحَجَرِ لَيْسَ مِنْ وَاحِدٍ مِنْهَا، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِحَسْرِ أَصْحَابِ الْفِيلِ فِيهِ وَنُزُولِ الْعَذَابِ عَلَيْهِمْ بِهِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْهُمْ إسْرَاعٌ كَمَا لَا يُطَالَبْنَ بِالرَّمَلِ. (فَإِذَا وَصَلَ) : السَّائِرُ مِنْ الْمُزْدَلِفَةِ (إلَى مِنًى) : يَوْمَ النَّحْرِ (رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : وُجُوبًا وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرْمِيَهَا حِينَ وُصُولِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَمْيُهُ الْعَقَبَةَ حِينَ وُصُولِهِ وَإِنْ رَاكِبًا؛ لِأَنَّهُ تَحِيَّةُ الْحَرَمِ وَالتَّحِيَّةُ يَبْدَأُ بِهَا الدَّاخِلُ، لَكِنْ إنْ وَصَلَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يُنْدَبُ تَأْخِيرُهُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ، وَإِنْ كَانَ يَدْخُلُ وَقْتُ رَمْيِهَا بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، وَيَمْتَدُّ وَقْتُ أَدَائِهَا إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ وَاللَّيْلِ قَضَاءً، وَالْمُرَادُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ الْبِنَاءُ، وَمَا تَحْتَهُ الْكَائِنُ فِي آخِرِ مِنًى مِنْ نَاحِيَةِ مَكَّةَ فِي رَأْسِ وَادِي الْمُحَصَّبِ عَنْ يَمِينِ الْمَاشِي إلَى مَكَّةَ، سُمِّيَتْ جَمْرَةً بِاسْمِ مَا يُرْمَى فِيهَا وَهِيَ الْحِجَارَةُ، إلَّا أَنَّ الرَّمْيَ فِي أَسْفَلِ الْبِنَاءِ أَفْضَلُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِ الْبِنَاءِ وَإِنْ أَجْزَأَ، وَلَا فَرْقَ فِي الْإِجْزَاءِ بَيْنَ كَوْنِ الرَّامِي وَاقِفًا أَمَامَ الْبِنَاءِ أَوْ تَحْتَهُ أَوْ خَلْفَهُ،؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ إيصَالُ الْحَصَيَاتِ إلَى أَسْفَلِ الْبِنَاءِ، فَإِنْ وَقَفَ فِي شُقُوقِ الْبِنَاءِ فَفِي الْإِجْزَاءِ تَرَدُّدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي إجْزَاءِ مَا وَقَفَ بِالْبِنَاءِ تَرَدُّدٌ وَتِلْكَ الْحَصَيَاتُ فِي الْقَدْرِ. (مِثْلُ حَصَى الْخَذْفِ) : بِخَاءٍ وَذَالٍ مُعْجَمَتَيْنِ آخِرُهُ فَاءٌ وَحَصَى الْخَذْفِ هُوَ الَّذِي يُرْمَى بِالْأَصَابِعِ كَانَتْ الْجَاهِلِيَّةُ تَفْعَلُ ذَلِكَ، يَجْعَلُ الشَّخْصُ الْحَصَاةَ عَلَى السَّبَّابَةِ أَوْ عَلَى الْوُسْطَى وَيَدْفَعُهَا بِالْإِبْهَامِ وَهُوَ مَكْرُوهٌ لِلنَّهْيِ فِي خَبَرِ: «إيَّاكُمْ وَالْخَذْفَ فَإِنَّهُ يَكْسِرُ السِّنَّ وَيَفْقَأُ الْعَيْنَ وَلَا يُجْزِئُ شَيْئًا» وَاخْتُلِفَ فِي قَدْرِهِ عَلَى أَقْوَالٍ: فَقِيلَ كَالْفُولَةِ، وَقِيلَ كَالنَّوَاةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَلَا يُجْزِئُ مَا صَغُرَ جِدًّا كَالْحِمَّصَةِ بِخِلَافِ الْكَبِيرِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ مَعَ الْإِجْزَاءِ، وَصِفَةُ الرَّمْيِ لِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَنْ يُعَجِّلَ بِرَمْيِهَا وَلَوْ رَاكِبًا كَمَا قَدَّمْنَا، وَيَسْتَقْبِلُ الْجَمْرَةَ فِي حَالِ الرَّمْيِ وَمِنًى عَنْ يَمِينِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 حَصَاةٍ ثُمَّ يَنْحَرُ إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ ثُمَّ يَحْلِقُ ثُمَّ يَأْتِي الْبَيْتَ فَيُفِيضُ وَيَطُوفُ سَبْعًا وَيَرْكَعُ ثُمَّ يُقِيمُ بِمِنًى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِذَا   [الفواكه الدواني] وَمَكَّةُ عَنْ يَسَارِهِ، بِخِلَافِ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ فِيهَا الْمَشْيُ، وَيَجْعَلُ الْحَصَاةَ بَيْنَ إبْهَامِهِ وَسَبَّابَتِهِ، وَقِيلَ يُمْسِكُهَا بِإِبْهَامِهِ وَالْوُسْطَى. (وَيُكَبِّرُ) : نَدْبًا (مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) : كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا يُنْدَبُ تَتَابُعُهَا وَلَقْطُهَا. [شُرُوطِ الرَّمْيِ] 1 (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ لِشُرُوطِ الرَّمْيِ وَمُحَصِّلُهَا أَنَّهَا عَلَى قِسْمَيْنِ: شَرَائِطُ صِحَّةٍ: وَشَرَائِطُ كَمَالٍ، فَشَرَائِطُ الصِّحَّةِ كَوْنُ الْمَرْمِيِّ حَجَرًا كَرُخَامٍ أَوْ بِرَامٍ فَلَا يَصِحُّ بِطِينٍ وَلَا مَعْدِنٍ، وَكَوْنُ إيصَالِ الْحَصَاةِ إلَى الْجَمْرَةِ بِوَاسِطَةِ الرَّمْيِ وَكَوْنُ الرَّمْيِ بِالْيَدِ، فَلَا يَصِحُّ بِقَوْسٍ وَلَا بِرِجْلٍ وَلَا بِفَمٍ، وَأَنْ يَرْمِيَ كُلَّ حَصَاةٍ بِانْفِرَادِهَا، فَإِنْ رَمَى بِالسَّبْعِ مَرَّةً وَاحِدَةً اعْتَدَّ بِوَاحِدٍ، وَتُرَتَّبُ الْجَمَرَاتُ الثَّلَاثُ فِي أَيَّامِ الرَّمْيِ، وَشَرَائِطُ الْكَمَالِ: الْمُبَادَرَةُ بِرَمْيِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ قَبْلَ حَطِّ الرَّحْلِ وَإِثْرَ الزَّوَالِ قَبْلَ الظُّهْرِ فِي غَيْرِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَالتَّكْبِيرُ حَالَ الرَّمْيِ كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ، وَتَتَابُعُ الْحَصَيَاتِ فِيمَا بَيْنَهَا وَلَقْطُ الْحَصَيَاتِ فَلَا يَكْسِرُ حَجَرًا كَبِيرًا وَيَرْمِي بِهِ، وَطَهَارَةُ الْحَصَيَاتِ فَيُكْرَهُ الرَّمْيُ بِمُتَنَجِّسٍ، كَمَا يُكْرَهُ الرَّمْيُ بِمَا رَمَاهُ الْغَيْرُ، وَمِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ الرَّمْيُ فِي بَطْنِ الْوَادِي. الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ تَخْتَصُّ بِأَرْبَعَةِ أُمُورٍ: صِحَّةُ رَمْيِهَا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ قَبْلَ الزَّوَالِ بِخِلَافِ رَمْيِ غَيْرِهَا لَا يَصِحُّ إلَّا بَعْدَ الزَّوَالِ، وَلَا يُرْمَى فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَّا هِيَ، وَلَا يُوقَفُ عِنْدَ رَمْيِهَا لِلدُّعَاءِ بِخِلَافِ غَيْرِهَا وَرَمْيُهَا مِنْ أَسْفَلِهَا. 1 - الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّهُ قَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ لِلْحَجِّ تَحَلُّلَيْنِ أَصْغَرُ وَأَكْبَرُ، فَالْأَكْبَرُ طَوَافُ الْإِفَاضَةِ؛ لِأَنَّهُ يَحِلُّ بِهِ كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَى الْمُحْرِمِ، وَالْأَصْغَرُ رَمْيُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَحِلُّ بِهِ غَيْرُ النِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَيُكْرَهُ مَعَهُ مَسُّ الطِّيبِ، وَمِثْلُ رَمْيِهَا بِالْفِعْلِ فَوَاتُ وَقْتِ أَدَائِهَا وَهُوَ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ؛ لِأَنَّ اللَّيْلَ قَضَاءٌ . (ثُمَّ) : بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (يَنْحَرُ) : أَوْ يَذْبَحُ (إنْ كَانَ مَعَهُ هَدْيٌ) : بِمِنًى وُجُوبًا وَقِيلَ نَدْبًا لَكِنْ بِشَرْطِ إنْ كَانَ مَسُوقًا فِي إحْرَامِ حَجٍّ وَلَوْ لِنَقْصٍ فِي عُمْرَةٍ أَوْ تَطَوُّعًا أَوْ كَانَ جَزَاءَ صَيْدٍ، وَأَنْ يَكُونَ قَدْ وَقَفَ بِهِ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ بِعَرَفَةَ سَاعَةَ لَيْلَةِ النَّحْرِ فِي أَيَّامِ مِنًى، فَإِنْ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَيَنْحَرُهُ بِمَكَّةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالنَّحْرُ بِمِنًى إنْ كَانَ فِي حَجٍّ وَوَقَفَ بِهِ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ وَكَانَ الذَّبْحُ بِأَيَّامِهَا، وَإِلَّا فَمَكَّةُ وَمِنًى كُلُّهَا مَحَلٌّ لِلنَّحْرِ إلَّا مَا وَرَاءَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مِنًى، وَلَا يَنْتَظِرُ بِنَحْرِ الْهَدْيِ نَحْرَ الْإِمَامِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مِنًى صَلَاةُ عِيدٍ، وَسَيَأْتِي هَذَا فِي كَلَامِهِ وَإِنَّمَا قَدَّمْنَاهُ لِلْمُنَاسِبَةِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) : لَوْ خَالَفَ الشَّخْصُ بِأَنْ ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ فِي مِنًى مَا مَحَلُّهُ مَكَّةَ أَوْ عَكْسُهُ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ نَحَرَ فِي مَكَّةَ مَا يُطْلَبُ نَحْرُهُ فِي مِنًى أَجْزَأَ وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِوُجُوبِ النَّحْرِ فِي مِنًى عِنْدَ اسْتِيفَاءِ الشُّرُوطِ، وَأَمَّا لَوْ نَحَرَ فِي مِنًى مَا يُطْلَبُ فِعْلُهُ فِي مَكَّةَ فَلَا يُجْزِئُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْمَرْوَةِ: «هَذَا النَّحْرُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقُهَا مَنْحَرٌ» . (ثُمَّ) : بَعْدَ النَّحْرِ أَوْ الذَّبْحِ (يَحْلِقُ) : وَلَوْ بِنُورَةٍ إنْ عَمَّ رَأْسَهُ بِالْمُزِيلِ؛ لِأَنَّ إزَالَةَ بَعْضِ الشَّعْرِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَيُجْزِئُ التَّقْصِيرُ إلَّا أَنَّ الْحَلْقَ أَفْضَلُ فِي حَقِّ الرِّجَالِ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهِنَّ التَّقْصِيرُ وَلَوْ بِنْتَ تِسْعِ سِنِينَ [طَوَافَ الْإِفَاضَةِ] . (ثُمَّ) : بَعْدَ الْحَلْقِ فِي مِنًى (يَأْتِي الْبَيْتَ) : الشَّرِيفَ (فَيُفِيضُ وَ) : مَعْنَى يُفِيضُ أَنَّهُ (يَطُوفُ) : بِهِ (سَبْعًا) : وَيُسَمَّى ذَلِكَ الطَّوَافُ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] وَلَا رَمَلَ فِي هَذَا الطَّوَافِ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَرْكُ الرَّمَلِ فِي طَوَافِ الْقُدُومِ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَرْمُلَ فِي الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَتَقَدَّمَتْ شُرُوطُ الطَّوَافِ مُطْلَقًا. (وَ) : يُطْلَبُ مِنْهُ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ طَوَافِهِ أَنْ (يَرْكَعَ) : قَبْلَ نَقْضِ طَهَارَتِهِ رَكْعَتَيْنِ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي تِلْكَ الرَّكْعَتَيْنِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْبَابِ أَنَّهُ رُكْنٌ بَلْ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ لِقُرْبِهِ مِنْ الْبَيْتِ، وَلَا يُشْكِلُ بِالْحَجِّ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جِهَةِ فَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ طَوَافَ الْإِفَاضَةِ أَفْضَلُ مِنْهُ، وَوَقْتُهُ بَعْدَ فَجْرِ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ آخِرُ أَرْكَانِ الْحَجِّ لِمَنْ قَدَّمَ السَّعْيَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بَاقِيًا لَسَعَى بَعْدَ الْإِفَاضَةِ، وَبِالْفَرَاغِ مِنْ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ السَّعْيِ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ قَدَّمَهُ يَحِلُّ كُلُّ مَا كَانَ مُحَرَّمًا عَلَيْهِ كَالنِّسَاءِ وَالصَّيْدِ وَكَرَاهَةِ الطِّيبِ. 1 - الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَفْعَلُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ مِنْ أَيَّامِ النَّحْرِ أَرْبَعَةَ أَشْيَاءَ: مَرْتَبَةً الرَّمْيَ فَالنَّحْرَ فَالْحَلْقَ فَالطَّوَافَ، لَكِنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ فِي مِنًى وَالرَّابِعَ فِي مَكَّةَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ حَدِيثُ جَابِرٍ الصَّحِيحِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَمَى ثُمَّ نَحَرَ ثُمَّ حَلَقَ ثُمَّ رَكِبَ إلَى الْبَيْتِ فَأَفَاضَ وَصَلَّى بِمَكَّةَ الظُّهْرَ» لَكِنَّ حُكْمَ هَذَا التَّرْتِيبِ مُخْتَلِفٌ، فَتَقْدِيمُ الرَّمْيِ عَلَى الْحَلْقِ وَعَلَى الْإِفَاضَةِ وَاجِبٌ، فَإِنْ حَلَقَ قَبْلَ الرَّمْي أَوْ طَافَ لِلْإِفَاضَةِ قَبْلَهُ لَزِمَهُ دَمٌ، بِخِلَافِ تَأْخِيرِ الذَّبْحِ عَنْ الرَّمْيِ أَوْ تَأْخِيرِ الْحَلْقِ عَنْ الذَّبْحِ فَمَنْدُوبٌ، كَتَأْخِيرِ الْإِفَاضَةِ عَنْ الذَّبْحِ، وَمَا وَرَدَ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ صَارُوا يَسْأَلُونَهُ فَقَالَ رَجُلٌ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْت قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ، فَقَالَ: اذْبَحْ وَلَا حَرَجَ، وَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَنَحَرْت قَبْلَ أَنْ أَرْمِيَ، فَقَالَ: ارْمِ وَلَا حَرَجَ» فَمَا سُئِلَ يَوْمئِذٍ عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ أَوْ أُخِّرَ إلَّا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا رَمَى الْجَمْرَةَ الَّتِي تَلِي مِنًى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ يُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ ثُمَّ يَرْمِي الْجَمْرَتَيْنِ كُلَّ جَمْرَةٍ بِمِثْلِ ذَلِكَ وَيُكَبِّرُ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ وَيَقِفُ لِلدُّعَاءِ بِإِثْرِ الرَّمْيِ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ وَلَا يَقِفُ عِنْدَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلْيَنْصَرِفْ فَإِذَا رَمَى فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ وَهُوَ رَابِعُ يَوْمِ النَّحْرِ انْصَرَفَ إلَى مَكَّةَ وَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ فِي   [الفواكه الدواني] قَالَ: افْعَلْ وَلَا حَرَجَ، لَا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْنَا؛ لِأَنَّ الَّذِي سُئِلَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - غَيْرُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ تَرْتِيبَهُ وَاجِبٌ، وَاَلَّذِي قَالَ فِيهِ افْعَلْ وَلَا حَرَجَ خَاصٌّ بِمَا سُئِلَ عَنْهُ، وَمَعْنَى افْعَلْ مَعَ وُقُوعِ الْفِعْلِ اعْتَدَّ بِفِعْلِك الصَّادِرِ مِنْك وَلَا تُطَالَبُ بِإِعَادَتِهِ. (ثُمَّ) : بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَصَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ لِمَنْ قَدَّمَ سَعْيَهُ يَرْجِعُ مِنْ مَكَّةَ إلَى مِنًى بِحَيْثُ يُدْرِكُ الْبَيَاتَ بِهَا وَ (يُقِيمُ بِمِنًى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) : بِلَيَالِيِهَا إنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ، وَيَوْمَيْنِ إنْ تَعَجَّلَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَادَ لِلْمَبِيتِ بِمِنًى فَوْقَ الْعَقَبَةِ ثَلَاثًا وَلَيْلَتَيْنِ إنْ تَعَجَّلَ، فَلَوْ تَرَكَ جُلَّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيهَا لَزِمَهُ دَمٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لِضَرُورَةٍ كَخَوْفِهِ عَلَى مَتَاعِهِ، وَيُسْتَثْنَى رُعَاةُ الْإِبِلِ فَإِنَّهُمْ يُرَخَّصُ لَهُمْ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ أَنْ يَنْصَرِفُوا إلَى الْمَرْعَى ثُمَّ يَأْتُوا فِي ثَالِثِ النَّحْرِ فَيَرْمُوا لِلْيَوْمِ الْمَاضِي وَهُوَ ثَانِي النَّحْرِ، وَلِلْيَوْمِ الَّذِي حَضَرُوا فِيهِ وَهُوَ ثَالِثُ النَّحْرِ، ثُمَّ إنْ شَاءُوا تَعَجَّلُوا فَيَسْقُطُ عَنْهُمْ رَمْيُ الرَّابِعِ، وَإِنْ شَاءُوا أَقَامُوا الْيَوْمَ الرَّابِعَ فَيَرْمُوهُ مَعَ النَّاسِ، وَمِثْلُ الرُّعَاةِ فِي عَدَمِ لُزُومِ الْمَبِيتِ لَيَالِي مِنًى أَهْلُ السِّقَايَةِ فَيَجُوزُ لَهُمْ الْبَيَاتُ بِمَكَّةَ لِأَجْلِ الْمَاءِ، لَكِنَّ أَهْلَ السِّقَايَةِ يَرْمُونَ فِي كُلِّ يَوْمٍ ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يَفْعَلُهُ الْمُقِيمُ بِمِنًى بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا زَالَتْ الشَّمْسُ مِنْ كُلِّ يَوْمٍ مِنْهَا) : أَيْ مِنْ أَيَّامِ مِنًى الثَّلَاثِ وَهِيَ الْأَيَّامُ الْمَعْرُوفَةُ بِأَيَّامِ الرَّمْيِ وَهِيَ ثَانِي النَّحْرِ وَثَالِثُهُ وَرَابِعُهُ. (رَمَى) : أَيْ الْمُقِيمُ بِمِنًى وُجُوبًا (الْجَمْرَةَ) : الْأُولَى وَهِيَ الْكُبْرَى (الَّتِي تَلِي) : مَسْجِدَ (مِنًى بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ) : فِي سَبْعِ مَرَّاتٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ الرَّمْيِ إثْرَ الزَّوَالِ وَقَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، وَيُسْتَحَبُّ أَيْضًا أَنْ (يُكَبِّرَ مَعَ كُلِّ حَصَاةٍ) : تَكْبِيرَةً وَاحِدَةً وَيَرْفَعَ صَوْتَهُ بِهَا. (ثُمَّ) : بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ رَمْيِ الْأُولَى (يَرْمِي الْجَمْرَتَيْنِ) : يُثَنِّي بِالْوُسْطَى وَهِيَ الَّتِي فِي السُّوقِ، ثُمَّ يَخْتِمُ بِجَمْرَةِ الْعَقَبَةِ، فَالتَّرْتِيبُ بَيْنَ الثَّلَاثِ شَرْطُ صِحَّةٍ، فَإِنْ نَكَّسَ بَطَلَ رَمْيُ الْمُقَدَّمَةِ عَنْ مَحَلِّهَا وَلَوْ سَهْوًا، وَيَرْمِي الْوُسْطَى مِنْ فَوْقِهَا وَالْعَقَبَةَ مِنْ أَسْفَلِهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَمِنْ فَوْقِهَا، وَيَرْمِي (كُلَّ جَمْرَةٍ) : مِنْهَا (بِمِثْلِ ذَلِكَ) : الْمَذْكُورِ فِي رَمْيِ الْأُولَى مِنْ كَوْنِهِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ كُلُّ حَصَاةٍ فِي مَرَّةٍ (وَيُكَبِّرُ مَعَ) : رَمْيِ (كُلِّ حَصَاةٍ) : وَتُنْدَبُ الْمُبَادَرَةُ بِرَمْيِ الثَّانِيَةِ عَقِبَ الْأُولَى وَبِالثَّالِثَةِ عَقِبَ الثَّانِيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ حُصُولِ التَّرْتِيبِ. بَيْنَهَا الْمُبَادَرَةُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ عَقِبَ رَمْيِ مَا قَبْلَهَا. (تَنْبِيهٌ) : تَلَخَّصَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ أَوَّلَ يَوْمٍ إنَّمَا يُرْمَى فِيهِ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ وَهِيَ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ، وَأَنَّ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ وَالرَّابِعَ وَهِيَ أَيَّامُ الرَّمْيِ وَيُقَالُ لَهَا الْأَيَّامُ الْمَعْدُودَاتُ يُرْمَى فِي كُلِّ يَوْمٍ الثَّلَاثُ جِمَارٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، الْجُمْلَةُ ثَلَاثٌ وَسِتُّونَ، وَحَصَيَاتُ الْعَقَبَةِ سَبْعَةٌ الْجُمْلَةُ سَبْعُونَ حَصَاةً لِمَنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ؛ لِأَنَّ الْمُتَعَجِّلَ يَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الرَّابِعِ. (وَ) : يُسْتَحَبُّ أَنْ (يَقِفَ لِلدُّعَاءِ) : وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (بِإِثْرِ الرَّمْيِ فِي الْجَمْرَةِ الْأُولَى) : وَهِيَ الْكُبْرَى الَّتِي تَلِي مَسْجِدَ مِنًى. (وَ) : كَذَا بِإِثْرِ (الثَّانِيَةِ) : الَّتِي هِيَ الْوُسْطَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَوُقُوفُهُ إثْرَ الْأَوَّلِيَّيْنِ قَدْرُ إسْرَاعِ قِرَاءَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْأُولَى وَالثَّانِيَةِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ. (وَلَا يَقِفُ عِنْدَ) : رَمْيِ (جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ) : وَلِذَا قَالَ: (وَلْيَنْصَرِفْ) : سَرِيعًا عَقِبَ رَمْيِهَا مِنْ غَيْرِ دُعَاءٍ لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ مَرْتَبَةٌ، وَإِنْ رَمَى غَيْرَ الْعَقَبَةِ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالزَّوَالِ، وَيَنْتَهِي الْأَدَاءُ إلَى غُرُوبِ كُلِّ يَوْمٍ وَمَا بَعْدَهُ قَضَاءٌ لَهُ، وَيَفُوتُ الرَّمْيُ كُلُّهُ بِغُرُوبِ الرَّابِعِ، وَلِذَا قَالُوا: لَا قَضَاءَ لِلرَّابِعِ لِانْقِضَاءِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ بِغُرُوبِ شَمْسِ الرَّابِعِ، وَيَلْزَمُهُ دَمٌ وَاحِدٌ فِي تَرْكِ حَصَاةٍ أَوْ فِي تَرْكِ الْجَمِيعِ، إلَّا إذَا كَانَ قَدْ أَخَّرَ كَتَأْخِيرِ شَيْءٍ مِنْهَا إلَى اللَّيْلِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يُوجِبُ الدَّمَ: وَتَأْخِيرُ كُلِّ حَصَاةٍ أَوْ الْجَمِيعِ لِلَّيْلِ (فَإِذَا رَمَى) : الْجَمَرَاتِ الثَّلَاثِ عَلَى تَرْتِيبِهَا السَّابِقِ رَمْيًا صَحِيحًا (فِي الْيَوْمِ الثَّالِثِ) : مِنْ أَيَّامِ مِنًى. (وَهُوَ رَابِعُ يَوْمِ النَّحْرِ) :؛ لِأَنَّ يَوْمَ الْعِيدِ لَيْسَ مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يُرْمَى فِيهِ جَمْرَةُ الْعَقَبَةِ. (انْصَرَفَ) : مِنْ مِنًى (إلَى مَكَّةَ) : وَيُرَخَّصُ لَهُ فِي تَرْكِ النُّزُولِ بِالْمُحَصَّبِ إنْ كَانَ غَيْرَ مُقْتَدًى بِهِ،؛ لِأَنَّ الْمُقْتَدَى بِهِ يُسْتَحَبُّ لَهُ النُّزُولُ بِهِ لِيُصَلِّيَ بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ يَدْخُلَ مَكَّةَ لَيْلًا لِفِعْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَحَلُّ اسْتِحْبَابِ النُّزُولِ بِهِ لِلْمُقْتَدَى بِهِ إذَا لَمْ يُصَادِفْ يَوْمُ الِانْصِرَافِ مِنْ مِنًى يَوْمَ الْجُمُعَةِ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّ سَائِرًا لِيُصَلِّيَ الْجُمُعَةَ بِأَهْلِ مَكَّةَ. (وَ) : بَعْدَ فِعْلِ الصِّفَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ الْإِحْرَامِ وَالطَّوَافِ وَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ وَالرَّمْيِ. (قَدْ تَمَّ حَجُّهُ) : بِفَرَائِضِهِ وَسُنَنِهِ وَفَضَائِلِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا لِتَوْدِيعِ الْبَيْتِ لِكُلِّ خَارِجٍ مِنْ مَكَّةَ لِكَالْجُحْفَةِ لَا كَالتَّنْعِيمِ وَلَيْسَ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَلَا مِنْ سُنَنِهِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِيمَا مَرَّ: ثُمَّ يُقِيمُ بِمِنًى ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُوهِمُ الْوُجُوبَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 يَوْمَيْنِ مِنْ أَيَّامِ مِنًى فَرَمَى وَانْصَرَفَ فَإِذَا خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ طَافَ لِلْوَدَاعِ وَانْصَرَفَ وَالْعُمْرَةُ يَفْعَلُ فِيهَا كَمَا ذَكَرْنَا   [الفواكه الدواني] لِلثَّلَاثَةِ مُطْلَقًا، بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ الْوُجُوبِ إنْ لَمْ يَتَعَجَّلْ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ) : أَيْ بَعْدَ يَوْمَيْنِ (مِنْ أَيَّامِ مِنًى) : بِأَنْ يَنْصَرِفَ فِي ثَالِثِ أَيَّامِ النَّحْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ عَادَ لِلْمَبِيتِ بِمِنًى فَوْقَ الْعَقَبَةِ ثَلَاثًا، أَوْ لَيْلَتَيْنِ إنْ تَعَجَّلَ (فَرَمَى) : أَيْ الْيَوْمَ الثَّانِيَ (وَانْصَرَفَ) : فَيَسْقُطُ عَنْهُ رَمْيُ الثَّالِثِ وَهُوَ رَابِعُ النَّحْرِ، وَشَرْطُ التَّعْجِيلِ مُجَاوَزَةُ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قَبْلَ غُرُوبِ الثَّانِي مِنْ أَيَّامِ الرَّمْيِ، فَإِنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ قَبْلَ مُجَاوَزَتِهَا لَزِمَهُ الْبَيَاتُ بِمِنًى؛ لِأَنَّ اللَّيْلَةَ إنَّمَا أُمِرَ بِالْمَقَامِ فِيهَا لِأَجْلِ الرَّمْيِ فِي النَّهَارِ، فَإِنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْبَيَاتُ لِأَجْلِهِ وَكَأَنَّهُ الْتَزَمَ رَمْيَ الثَّالِثِ؛ وَلِأَنَّ مَنْ غَرَبَتْ عَلَيْهِ شَمْسُ الثَّانِي لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ. (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ شَاءَ تَعَجَّلَ مُسَاوَاةُ التَّعْجِيلِ لِعَدَمِهِ، مَعَ أَنَّ عَدَمَ التَّعْجِيلِ فِيهِ كَثْرَةُ عَمَلٍ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الظَّاهِرِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 203] لِتَرْكِ رُخْصَةِ التَّعْجِيلِ، فَإِنْ قِيلَ: عَدَمُ الْإِثْمِ فِي التَّأْخِيرِ لَا يُتَوَهَّمُ حَتَّى يَنْفِيَهُ فِي الْآيَةِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ رَدٌّ عَلَى الْجَاهِلِيَّةِ الَّذِينَ كَانُوا يَقُولُونَ بِالْإِثْمِ عَلَى الْمُتَأَخِّرِينَ مَعَ تَعْجِيلِ غَيْرِهِ لِتَوَهُّمِهِمْ وُجُوبَ الْعَمَلِ بِرُخْصَةِ التَّعْجِيلِ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ رُخْصَةَ التَّعْجِيلِ عَامَّةٌ فِي حَقِّ كُلِّ حَاجٍّ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ هِيَ خَاصَّةٌ بِغَيْرِ أَمِيرِ الْحَاجِّ، وَأَمَّا هُوَ فَيُكْرَهُ لَهُ التَّعْجِيلُ لِقَوْلِ مَالِكٍ: لَا يُعْجِبُنِي لِأَمِيرِ الْحَاجِّ أَنْ يَتَعَجَّلَ. (فَإِذَا خَرَجَ) : أَيْ أَرَادَ الْخُرُوجَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ (مِنْ مَكَّةَ) لِكَالْجُحْفَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي أَحَدِ النُّسُكَيْنِ (طَافَ لِلْوَدَاعِ) : عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ سَبْعَةَ أَشْوَاطٍ (وَرَكَعَ) : أَيْ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ لِكُلِّ طَوَافٍ (وَانْصَرَفَ) : قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَطَوَافُ الْوَدَاعِ إنْ خَرَجَ لِكَالْجُحْفَةِ لَا كَالتَّنْعِيمِ، وَلَا يَنْصَرِفُ مِنْ الْمَسْجِدِ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ حَتَّى يُقَبِّلَ الْحَجَرَ وَلَا يَرْجِعُ الْقَهْقَرَى، وَإِذَا فَعَلَ الطَّوَافَ وَأَقَامَ بِمَكَّةَ وَلَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أَعَادَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَدْبِ طَوَافِ الْوَدَاعِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافَ» . (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: إنَّمَا جَعَلْنَا فَاعِلَ خَرَجَ مَنْ كَانَ بِمَكَّةَ لَا الْحَاجَّ، إشَارَةً إلَى أَنَّ طَوَافَ الْوَدَاعِ مَنْدُوبٌ لِكُلِّ خَارِجٍ مِنْ مَكَّةَ لِكَالْجُحْفَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ بَعْدِ الْمَوَاقِيتِ، سَوَاءٌ كَانَ مَكِّيًّا أَوْ غَيْرَهُ، قَدِمَ بِنُسُكٍ أَوْ تِجَارَةٍ، سَوَاءٌ كَانَ كَبِيرًا أَوْ صَغِيرًا، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ الْعَوْدِ أَمْ لَا، وَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ مَكَّةَ لِمَحَلٍّ قَرِيبٍ فَلَا يُنْدَبُ لَهُ طَوَافُ الْوَدَاعِ إلَّا إذَا خَرَجَ عَلَى نِيَّةِ الِانْتِقَالِ، وَمِمَّنْ لَا يُنْدَبُ فِي حَقِّهِ طَوَافُ الْوَدَاعِ الْمُتَرَدِّدُ فِي الْخُرُوجِ كَالْحَطَّابِ وَالْبَيَّاعِ وَكَذَلِكَ الْمُتَعَجِّلُ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الطَّوَافَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ كَطَوَافِ الْقُدُومِ، وَرُكْنٌ لَا يَسْقُطُ فَرْضُ الْحَجِّ إلَّا بِهِ كَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَمُسْتَحَبٌّ كَطَوَافِ الْوَدَاعِ. 1 - الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: مَنْ أَتَى بِأَعْمَالِ الْحَجِّ الْقَوْلِيَّةِ وَالْفِعْلِيَّةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ الَّذِي بَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ بَعْضَهَا فَرْضٌ وَبَعْضَهُمَا غَيْرُ فَرْضٍ وَلَكِنْ لَا يُمَيِّزُ الْفَرْضَ مِنْ غَيْرِهِ فَإِنَّ حَجَّهُ صَحِيحٌ عَلَى الْمَشْهُورِ فِي الْمَذْهَبِ، وَإِنْ اعْتَقَدَ أَنَّ جَمِيعَهَا فَرْضٌ فَإِنَّ حَجَّهُ لَا يَصِحُّ، كَذَا ذَكَرَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَحُكِيَ عَلَيْهِ الِاتِّفَاقُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ غَيْرِهِ أَنَّ حَجَّهُ صَحِيحٌ وَهُوَ الظَّاهِرُ، قَالَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ نَقْلًا عَنْ جَدِّهِ، وَبَقِيَ مَا لَوْ لَمْ يَعْتَقِدْ فَرْضِيَّةَ شَيْءٍ مِنْهُ وَأَتَى بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ: وَيُفْهَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ عَدَمِ نِيَّةِ النَّفْلِ فِي وُقُوعِهِ فَرْضًا أَنَّ مَنْ نَوَى فِعْلَ الْعِبَادَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا تَقَعُ صَحِيحَةً وَيَدْخُلُ فِيهِ مَنْ تَوَضَّأَ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ الْوُضُوءَ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَوْ نَوَى فِعْلَ الصَّلَاةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا، وَلَمْ يُخِلَّ بِشَيْءٍ مِنْ فَرَائِضِهِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنْ أَرْكَانِهَا وَلَا فَعَلَ فِيهَا مَا يُبْطِلُهَا، فَإِنَّ فِعْلَهُ صَحِيحٌ وَلَوْ اعْتَقَدَ فَرْضِيَّةَ إجْزَاءِ الْعِبَادَةِ لَا يُورِثُ بُطْلَانًا، وَمِثْلُهَا الطَّهَارَةُ وَكَذَا يَصِحُّ فِعْلُهُ، وَلَوْ اعْتَقَدَ فَرْضِيَّةَ جَمِيعِ أَفْعَالِ جَمِيعِ الْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ فَرْضِيَّةِ غَيْرِ الْفَرْضِ تُعَدُّ مُقَوِّيَةً لِغَيْرِ الْفَرْضِ لَا مُنَافِيَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ اعْتَقَدَ أَنَّ الْفَرْضَ سُنَّةٌ أَوْ نَافِلَةٌ أَوْ نَوَى بِالْفَرْضِ غَيْرَهُ لَا يَشُكُّ فِي عَدَمِ إجْزَائِهِ عَنْ الْفَرْضِ؛ لِأَنَّ غَيْرَ الْفَرْضِ لَا يُجْزِئُ عَنْ الْفَرْضِ لِلْمُنَافَاةِ، وَالضَّعِيفُ لَا يُؤَكِّدُ الْقَوِيَّ بِخِلَافِ الْعَكْسِ وَحَرِّرْ الْحُكْمَ فِي كُلِّ ذَلِكَ فَإِنِّي لَمْ أَجِدْهُ، وَالْمَوْجُودُ فِي كَلَامِ بَعْضِ الشُّيُوخِ مَا سَبَقَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْعُمْرَة وَأَرْكَانهَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الْحَجِّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَةِ فَقَالَ: (الْعُمْرَةُ) : لُغَةً الزِّيَادَةُ وَاصْطِلَاحًا عِبَادَةٌ يَلْزَمُهَا طَوَافٌ وَسَعْيٌ بَعْدَ إحْرَامٍ. (يُفْعَلُ فِيهَا) : الطَّوَافُ وَالسَّعْيُ بَعْدَ الْإِحْرَامِ. (كَمَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا) : فِي أَوَّلِ الْحَجِّ بِأَنْ يَتَجَرَّدَ وَيَغْتَسِلَ وَيَلْبَسَ الْإِزَارَ وَالرِّدَاءَ وَالنَّعْلَيْنِ وَيُصَلِّيَ الرَّكْعَتَيْنِ، ثُمَّ إذَا اسْتَوَى عَلَى رَاحِلَتِهِ أَوْ مَشَى يُحْرِمُ مَعَ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ وَيَمْضِي فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 أَوَّلًا إلَى تَمَامِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ ثُمَّ يَحْلِقُ رَأْسَهُ وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ وَالْحِلَاقُ أَفْضَلُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالتَّقْصِيرُ يُجْزِئُ وَالتَّقْصِيرُ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ وَسُنَّةُ الْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْحِلَاقُ وَتَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ جَمِيعِهِ طَوِيلِهِ وَقَصِيرِهِ وَالرَّجُلُ مِنْ قُرْبِ أَصْلِهِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ وَالْحَيَّةَ   [الفواكه الدواني] أَفْعَالِهَا. (إلَى تَمَامِ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) :؛ لِأَنَّ أَرْكَانَهَا الْإِحْرَامُ وَالطَّوَافُ وَالسَّعْيُ وَلَهَا مِيقَاتَانِ: زَمَانِيٌّ وَمَكَانِيٌّ كَالْحَجِّ، فَالزَّمَانِيُّ الْوَقْتُ كُلُّهُ وَلَوْ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ عَرَفَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْعُمْرَةِ أَبَدًا إلَّا مَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ بِهَا إلَّا بَعْدَ تَحَلُّلِهِ بِطَوَافِ الْإِفَاضَةِ، وَرَمْيِ الرَّابِعِ بَعْدَ الزَّوَالِ لِمَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ وَلَمْ يَتَعَجَّلْ أَوْ يَمْضِي قَدْرُ زَمَنِ رَمْيِ الرَّابِعِ إنْ تَعَجَّلَ، فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ ذَلِكَ لَمْ يَصِحَّ إحْرَامُهُ، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ صَحَّ إحْرَامُهُ لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ إنْ كَانَ قَبْلَ غُرُوبِ الرَّابِعِ، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُ شَيْئًا مِنْهَا قَبْلَ الْغُرُوبِ، فَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا لَمْ يُعْتَدَّ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِهَا بَعْدَ مَا ذُكِرَ بَعْدَ غُرُوبِ الرَّابِعِ صَحَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ أُخْرَى فَلَا يَصِحُّ إحْرَامُهُ إلَّا بَعْدَ تَحَلُّلِهِ مِنْهَا إذَا لَا تَدْخُلُ عُمْرَةٌ عَلَى أُخْرَى، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ بِعُمْرَةٍ قَبْلَ الْحِلَاقِ مِنْ الْحَجِّ لِمَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِحَجٍّ، أَوْ قَبْلَ الْحِلَاقِ مِنْ الْعُمْرَةِ لِمَنْ كَانَ مُحْرِمًا بِعُمْرَةٍ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ كَمَا قَالَهُ الْحَطَّابُ، وَأَمَّا مِيقَاتُهَا الْمَكَانِيُّ فَهُوَ الْحِلُّ سَوَاءً كَانَ آفَاقِيًّا أَوْ مُقِيمًا بِمَكَّةَ، وَمِثْلُ الْإِحْرَامِ بِالْعُمْرَةِ الْإِحْرَامُ بِهِمَا مَعًا، فَيَجِبُ أَنْ يَخْرُجَ لِلْحِلِّ وَهُوَ مَا جَاوَزَ الْحَرَمَ، فَيَخْرُجُ إلَى مَسَاجِدِ عَائِشَةَ وَيُحْرِمُ بِهِمَا أَوْ بِالْعُمْرَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِلُّ لِيَجْمَعَ فِي إحْرَامِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ مَكَّةَ أَوْ بِالْقِرَانِ لَمْ يَجْمَعْ فِي إحْرَامِهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعُمْرَةِ؛ لِأَنَّ أَفْعَالَهَا تَنْقَضِي فِي الْحَرَمِ؛ لِأَنَّ الْخُرُوجَ لِعَرَفَةَ إنَّمَا هُوَ لِلْحَجِّ، فَإِذَا خَالَفَ وَأَحْرَمَ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنْ أَحْرَمَ لِلْعُمْرَةِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ وَلَكِنْ لَا يَطُوفُ وَلَا يَسْعَى لَهَا حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ، فَإِنْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ خُرُوجِهِ أَعَادَهُمَا بَعْدَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ أَعَادَ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ بَعْدَهُ، وَأَمَّا لَوْ أَحْرَمَ قَارِنًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْخُرُوجُ أَيْضًا إلَى الْحِلِّ، وَإِنْ كَانَ لَا يَطُوفُ وَلَا يَسْعَى لِلْعُمْرَةِ لِانْدِرَاجِ طَوَافِهَا وَسَعْيِهَا فِي طَوَافِ وَسَعْيِ الْحَجِّ، فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ الْقَارِنُ إلَى الْحِلِّ حَتَّى خَرَجَ إلَى عَرَفَةَ فَطَافَ لِلْإِفَاضَةِ وَسَعَى فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَسَيَأْتِي أَنَّ حُكْمَهَا السُّنَّةُ الْمُؤَكَّدَةُ. (ثُمَّ) : بَعْدَ تَمَامِ عُمْرَتِهِ يَجِبُ أَنْ (يَحْلِقَ رَأْسَهُ) : وَلَوْ بِنُورَةٍ (وَقَدْ تَمَّتْ عُمْرَتُهُ) : وَالْمُرَادُ بِتَمَامِ الْعُمْرَةِ كَمَالُهَا، فَلَا يُنَافَى تَمَامَهَا بِالْفَرَاغِ مِنْ طَوَافِهَا وَسَعْيِهَا؛ لِأَنَّ الْحِلَاقَ مِنْ وَاجِبَاتِهَا وَلَا دَخْلَ لَهُ فِي حَقِيقَتِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْحِلَاقُ غَيْرَ مُتَعَيِّنٍ فِي التَّحَلُّلِ قَالَ: (وَالْحِلَاقُ أَفْضَلُ فِي) : التَّحَلُّلِ مِنْ (الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ وَالتَّقْصِيرُ يُجْزِئُ) : وَالدَّلِيلُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْحِلَاقِ حَدِيثُ: «رَحِمَ اللَّهُ الْمُحَلِّقِينَ» وَالدَّلِيلُ عَلَى إجْزَاءِ التَّقْصِيرِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلَقَ رَأْسَهُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ وَأُنَاسًا مِنْ أَصْحَابِهِ وَقَصَّرَ بَعْضُهُمْ» وَمَحَلُّ إجْزَاءِ التَّقْصِيرِ إذَا لَمْ يَكُنْ شَعْرُهُ مَضْفُورًا أَوْ مَعْقُوصًا أَوْ مُلَبَّدًا، وَإِلَّا تَعَيَّنَ الْحِلَاقُ لِعَدَمِ التَّمَكُّنِ مِنْ تَقْصِيرِ جَمِيعِ الشَّعْرِ، وَمَحَلُّ أَفْضَلِيَّةِ الْحِلَاقِ عَلَى التَّقْصِيرِ لِغَيْرِ الْمُتَمَتِّعِ، وَأَمَّا الْمُتَمَتِّعُ فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ عُمْرَتِهِ التَّقْصِيرُ اسْتِبْقَاءً لِلشَّعْرِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْ الْحَجِّ. (وَ) : صِفَةُ (التَّقْصِيرِ) أَنْ يَجُزَّ (مِنْ جَمِيعِ شَعْرِهِ) : طَوِيلِهِ وَقَصِيرِهِ مِنْ قَرُبَ أَصْلِهِ، فَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى جَزِّ بَعْضِهِ لَمْ يُجْزِهِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَيْسَ تَقْصِيرُ الرَّجُلِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهِ وَلَكِنْ يَجُزُّهُ جَزًّا، وَلَيْسَ كَالْمَرْأَةِ فَإِنْ أَخَذَ مِنْ أَطْرَافِهِ أَخْطَأَ وَيُجْزِئُهُ فَكَوْنُهُ مِنْ قُرْبِ أَصْلِهِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَوْ الْوُجُوبِ الْغَيْرِ الشَّرْطِيِّ ، وَلَمَّا كَانَ الْحِلَاقُ قَاصِرًا عَلَى الرِّجَالِ قَالَ: (وَسُنَّةُ الْمَرْأَةِ التَّقْصِيرُ: وَلَا يَجُوزُ لَهَا الْحِلَاقُ) : وَلَوْ بِنْتَ عَشْرِ سِنِينَ، وَأَمَّا الصَّغِيرَةُ جِدًّا فَيَحُوزُ لِوَلِيِّهَا حَلْقُ رَأْسِهَا، وَإِنَّمَا حُرِّمَ الْحَلْقُ عَلَى الْكَبِيرَةِ؛ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ فِي حَقِّهَا إلَّا إنْ كَانَ بِرَأْسِهَا أَذًى فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ إذْ يَجُوزُ لَهَا مَا كَانَ مُحَرَّمًا، وَصِفَةُ تَقْصِيرِهَا أَنْ تَأْخُذَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ رَأْسِهَا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ جَمِيعِهِ طَوِيلِهِ وَقَصِيرِهِ، لَكِنْ بَعْدَ زَوَالِ عَقْصِهِ أَوْ ضَفْرِهِ أَوْ تَلْبِيدِهِ لِمَنْعِهِ التَّقْصِيرَ كَمَا مَرَّ، وَالْمُرَادُ بِالسُّنَّةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الطَّرِيقَةُ؛ لِأَنَّ التَّقْصِيرَ وَاجِبٌ فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا الْحِلَاقُ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ حَلَقَهُ وَلَوْ بِنُورَةٍ إنْ عَمَّ رَأْسَهُ وَالتَّقْصِيرُ مُجْزٍ، وَيُكْرَهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَلْقِ وَالتَّقْصِيرِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَهُوَ سُنَّةُ الْمَرْأَةِ. (وَ) : بَيَّنَ صِفَةَ التَّقْصِيرِ لِلْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: (تَأْخُذُ الْمَرْأَةُ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِهَا قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ مِنْ جَمِيعِهِ طَوِيلِهِ وَقَصِيرِهِ) : وَلَوْ أَدْخَلَ الْكَافَ عَلَى الْأُنْمُلَةِ لَكَانَ حَسَنًا لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: رُوِيَ عَنْ ابْنِ حَبِيبٍ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ أَوْ فَوْقَهَا بِيَسِيرٍ أَوْ دُونَهَا، وَرِوَايَةُ الطِّرَازِ قَدْرَ الْأُنْمُلَةِ لَا أَعْرِفُهَا. (وَ) : صِفَةُ تَقْصِيرِ (الرَّجُلُ) أَنْ يَأْخُذَ مِنْ جَمِيعِ شَعْرِ رَأْسِهِ (مِنْ قُرْبِ أَصْلِهِ) : اسْتِحْبَابًا فَلَوْ أَخَذَ مِنْ أَطْرَافِ شَعْرِ رَأْسِهِ أَجْزَأَهُ 1 - . (خَاتِمَةٌ) : الْحِلَاقُ وَالتَّقْصِيرُ تَحَلُّلٌ وَنُسُكٌ أَيْ عِبَادَةٌ تُطْلَبُ فِي الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. قَالَ مَالِكٌ: فَمَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَلْقِ رَأْسِهِ وَلَا تَقْصِيرِهِ لِوَجَعٍ بِهِ: فَعَلَيْهِ هَدْيُ بَدَنَةٍ أَوْ بَقَرَةٍ أَوْ شَاةٍ، فَإِنْ عَجَزَ صَامَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ مِنْ مِنًى، فَهَذَا دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِ نُسُكًا، وَيَدُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَالْعَقْرَبَ وَشِبْهَهَا وَالْكَلْبَ الْعَقُورَ وَمَا يَعْدُو مِنْ الذِّئَابِ وَالسِّبَاعِ، وَنَحْوِهَا وَيَقْتُلُ مِنْ الطَّيْرِ مَا يُتَّقَى أَذَاهُ مِنْ الْغِرْبَانِ وَالْأَحْدِيَةِ فَقَطْ وَيَجْتَنِبُ فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ النِّسَاءَ وَالطِّيبَ وَمِخْيَطَ الثِّيَابِ وَالصَّيْدَ وَقَتْلَ الدَّوَابِّ وَإِلْقَاءَ التَّفَثِ وَلَا   [الفواكه الدواني] عَلَى كَوْنِهِ تَحَلُّلًا مَنَعُ الْوَطْءَ قَبْلَهُ وَلَوْ بَعْدَ طَوَافِ الْعُمْرَةِ أَوْ الْإِفَاضَةِ. وَفِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَوْ نَسِيَتْ الْمَرْأَةُ التَّقْصِيرَ فَذَكَرَتْهُ بِبَلَدِهَا بَعْدَ سِنِينَ قَصَّرَتْ وَعَلَيْهَا دَمٌ. [مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا لَا يَحْرُمُ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَمَا لَا يَحْرُمُ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ وَغَيْرِهِ مِنْ مُخَالَطَةِ النِّسَاءِ وَالطِّيبِ وَلُبْسِ الثِّيَابِ أَوْ غَيْرِهَا فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ) : أَيْ يَجُوزُ جَوَازًا مُسْتَوَى الطَّرَفَيْنِ (أَنْ يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الْفَأْرَةَ) : بِالْهَمْزَةِ وَتَرْكِهِ (وَالْحَيَّةَ وَالْعَقْرَبَ وَشَبَهَهَا) : أَيْ الْمَذْكُورَاتِ فِي الْأَذِيَّةِ مِنْ نَحْوِ ابْنِ عِرْسٍ وَالثُّعْبَانِ وَالرُّتَيْلَاءِ وَالزُّنْبُورِ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ لِاسْتِوَاءِ كُلٍّ فِي الْإِيذَاءِ. (وَ) : كَذَا لَا بَأْسَ بِقَتْلِ (الْكَلْبِ الْعَقُورِ وَ) : الْمُرَادُ بِهِ فِي الْحَدِيثِ بِاتِّفَاقِ الشُّيُوخِ كُلُّ (مَا يَعْدُو مِنْ الذِّئَابِ وَالسِّبَاعِ وَنَحْوِهِمَا) : مِنْ أَسَدٍ وَفَهْدٍ، وَلَا يَدْخُلُ الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَى قَاتِلِهِ شَيْءٌ وَلَوْ غَيْرَ عَقُورٍ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الصَّيْدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الشُّيُوخُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ عَلَى مَا يَعْدُو مِنْ السِّبَاعِ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ مِنْ دُعَائِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى عُتْبَةَ بْنِ أَبِي لَهَبٍ: «اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِك» فَعَدَا عَلَيْهِ الْأَسَدُ فَقَتَلَهُ، وَمَحَلُّ جَوَازِ قَتْلِ الْعَادِي مِنْ السِّبَاعِ أَنْ يَكُونَ كَبِيرًا أَيْ بَلَغَ حَدَّ الْإِيذَاءِ، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَإِنَّهُ يُكْرَهُ قَتْلُهُ وَلَا جَزَاءَ فِيهِ، وَأَمَّا نَحْوُ الْقِرْدِ وَالْخِنْزِيرِ فَلَا يَدْخُلُ فِي عَادِي السِّبَاعِ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ ضَرَرٌ. (وَ) : كَذَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ (يَقْتُلَ مِنْ الطَّيْرِ مَا يُتَّقَى) : أَيْ يُخْشَى (أَذَاهُ) : وَبَيَّنَ عُمُومَ مَا يَقُولُهُ: (مِنْ الْغِرْبَانِ وَالْأَحْدِيَةِ فَقَطْ) :؛ لِأَنَّ الْغُرَابَ يُؤْذِي الدَّوَابَّ وَغَيْرَهَا، وَالْحِدَأَةُ تَخْطَفُ الْأَمْتِعَةَ، وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى قَتْلِ كَبِيرِهَا، وَجَرَى الْخِلَافُ فِي صَغِيرِهَا، فَمَنْ نَظَرَ إلَى الْحَالِ مَنَعَ، وَمِنْ نَظَرَ إلَى الْمَآلِ أَجَازَ، وَعَلَى الْمَنْعِ لَا جَزَاءَ فِي قَتْلِهَا مُرَاعَاةً لِلْجَوَازِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَمْسٌ لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ قَتَلَهُنَّ فِي الْإِحْلَالِ وَالْإِحْرَامِ: الْفَأْرَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحِدَأَةُ وَالْعَقْرَبُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «خَمْسُ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَيَّةُ وَالْغُرَابُ الْأَبْقَعُ وَالْفَأْرَةُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ وَالْحُدَيَّا» فَأَسْقَطَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ الْعَقْرَبَ وَزَادَ الْحَيَّةَ، فَوَجَبَ الْجَمْعُ لِصِحَّةِ الْحَدِيثَيْنِ، وَتَرَدَّدَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي لَفْظِ الْغُرَابِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَيَّدَهُ بِالْأَبْقَعِ عَمَلًا بِالرِّوَايَةِ وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: جَوَازُ تَرْكِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مُقَيَّدٌ بِقَصْدِ دَفْعِ أَذِيَّتِهَا بِقَتْلِهَا، وَأَمَّا قَتْلُهَا بِقَصْدِ تَذْكِيَتِهَا لِيَأْكُلَهَا أَوْ بِغَيْرِ قَصْدٍ فَلَا يَجُوزُ وَلَا تُؤْكَلُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ. الثَّانِي: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الطَّيْرِ مِنْ الْغِرْبَانِ وَالْأَحْدِيَةِ فَقَطْ يُوهِمُ أَنَّ غَيْرَهُمَا مِنْ الطَّيْرِ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ كَذَلِكَ، فَكَانَ الْأَوْلَى إسْقَاطَ لَفْظِ فَقَطْ إلَّا أَنْ يُقَالَ إنَّ كَلَامَهُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ مِنْ نَحْوِ الْغِرْبَانِ إلَخْ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: كَطَيْرٍ خِيفَ إلَّا بِقَتْلِهِ، فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي عُمُومِ الطَّيْرِ الَّذِي يُخَافُ مِنْهُ عَلَى النَّفْسِ أَوْ الْمَالِ حَيْثُ لَا يَنْدَفِعُ أَذَاهُ إلَّا بِقَتْلِهِ. الثَّالِثُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: الْأَحْدِيَةُ خِلَافُ اللُّغَةِ وَالصَّوَابُ الْحِدَأَةُ بِالْهَمْزَةِ وَالْقَصْرِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِ الدَّالِ كَعِنَبَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ حِدَأٌ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَعَ الْهَمْزَةِ وَالْقَصْرِ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ مَا يُفِيدُ جَوَازَ تَسْكِينِ الدَّالِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ بَعْدَ تَصْوِيبِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ فَهُوَ كَسِدْرَةٍ وَسِدَرٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ فِعْلُهُ شَرَعَ فِيمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيَجْتَنِبُ) : الْمُحْرِمُ وُجُوبًا (فِي حَجِّهِ وَعُمْرَتِهِ النِّسَاءَ) : فَلَا يَقْرَبُهُنَّ بِجِمَاعٍ وَلَا بِمُقَدِّمَاتِهِ وَلَوْ عَلِمَ السَّلَامَةَ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ فَتُكْرَهُ الْمُقَدِّمَاتُ مَعَ عِلْمِ السَّلَامَةِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ يَسَارَةُ الصَّوْمِ وَعِظَمُ أَمْرِ الْحَجِّ، وَتُسْتَثْنَى قُبْلَةُ الْوَدَاعِ وَالرَّحْمَةِ. (تَنْبِيهٌ) : بَالَغَ الْمُصَنِّفُ فِي الِاخْتِصَارِ إذْ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ مَا إذَا جَامَعَ أَوْ تَسَبَّبَ فِي خُرُوجِ مَنِيِّهِ: وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْضًا كَيْفَ مَا يَفْعَلُ مَنْ أَفْسَدَ مَا هُوَ فِيهِ، وَمُحَصِّلُهُ إنْ جَامَعَ قَبْلَ تَحَلُّلِهِ أَوْ اسْتَدْعَى الْمَنِيَّ حَتَّى خَرَجَ وَلَوْ بِنَظَرٍ سَوَاءٌ فَعَلَ مَا ذُكِرَ عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ أَوْ نَاسِيًا عَالِمًا بِالْحُكْمِ أَوْ جَاهِلًا، جَامَعَ فِي قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ مِنْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِهِ، أَنْزَلَ أَمْ لَا، كَانَ الْجِمَاعُ مُوجِبًا لِلْغُسْلِ أَمْ لَا، فَيَفْسُدُ حَجُّ الْفَاعِلِ، وَلَوْ الصَّبِيَّ بِوَطْئِهِ، ذَكَرَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلِي فِي ذَلِكَ بَحْثٌ، إذْ كَيْفَ يَفْسُدُ حَجُّهُ بِوَطْئِهِ وَلَا يُنْتَقَضُ وُضُوءُهُ؟ وَيُشْتَرَطُ فِي حُصُولِ الْفَسَادِ بِخُرُوجِ الْمَنِيِّ إنْ كَانَ بِغَيْرِ لَمْسٍ الِاسْتِدَامَةُ بِأَنْ كَانَ بِالنَّظَرِ أَوْ الْفِكْرِ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ بِقُبْلَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ اللَّمْسِ فَيَفْسُدُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا الْخَارِجُ بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ أَوْ الْفِكْرِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ فَسَادٌ، وَإِنَّمَا يُوجِبُ الْهَدْيَ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يَفْسُدُ الْحَجُّ بِمَا ذُكِرَ إلَّا إذَا وَقَعَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مُطْلَقًا أَيْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ أَفْعَالِ الْحَجِّ أَوْ لَا، أَوْ بَعْدَ الْوُقُوفِ بِشَرْطِ أَنْ يَقَعَ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَقَبْلَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ فِي يَوْمِ النَّحْرِ، أَوْ قَبْلَ يَوْمِ النَّحْرِ وَهُوَ يَوْمُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 يُغَطِّي رَأْسَهُ فِي الْإِحْرَامِ وَلَا يَحْلِقُهُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ ثُمَّ يَفْتَدِي بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ إطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ   [الفواكه الدواني] الْوُقُوفِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ وَلَوْ قَبْلَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ أَوْ بَعْدَ الْإِفَاضَةِ: وَلَوْ قَبْلَ الرَّمْيِ لِلْعَقَبَةِ أَوْ بَعْدَهَا يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ قَبْلَهُمَا بَعْدَ يَوْمِ النَّحْرِ فَلَا فَسَادَ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ هَدْيٌ، وَيَلْزَمُهُ أَيْضًا عُمْرَةٌ إنْ وَقَعَ قَبْلَ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ وَيَأْتِي بِهَا بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى لِيَأْتِيَ بِطَوَافٍ وَسَعْيٍ لَا ثَلْمَ فِيهِمَا، وَأَمَّا الْعُمْرَةُ فَإِنْ حَصَلَ الْمُفْسِدُ قَبْلَ تَمَامِ سَعْيِهَا وَلَوْ بِشَرْطٍ فَسَدَتْ وَيَجِبُ قَضَاؤُهَا بَعْدَ إتْمَامِهَا؛ لِأَنَّ مَا فَسَدَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ يَجِبُ عَلَيْهِ إتْمَامُهُ وَعَلَيْهِ هَدْيٌ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ بَعْدَ تَمَامِ سَعْيِهَا وَقَبْلَ حِلَاقِهَا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَى الْهَدْيِ، وَإِذَا فَسَدَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ وَجَبَ إتْمَامُهُمَا وَقَضَاؤُهُمَا، وَإِنَّمَا يَجِبُ إتْمَامُ الْحَجِّ الْفَاسِدِ حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ الْوُقُوفِ عَامَ الْفَسَادِ وَإِلَّا تَحَلَّلَ مِنْهُ بِفِعْلِ عُمْرَةٍ. (وَ) : يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ وَلَوْ أُنْثَى اجْتِنَابُ (الطِّيبِ) : الْمُؤَنَّثِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ وَأَثَرُهُ بِالْبَدَنِ أَوْ بِالثَّوْبِ كَالْوَرْسِ وَالْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ، فَلَوْ لَمْ يَجْتَنِبْ الطِّيبَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ بِأَنْ مَسَّهُ وَجَبَ الْفِدْيَةُ وَلَوْ أَزَالَهُ سَرِيعًا وَلَوْ لَمْ يَعْلَقْ أَوْ كَانَ فِي طَعَامٍ حَيْثُ لَمْ يُمِتْهُ الطَّبْخُ، بِخِلَافِ مُذَكَّرِ الطِّيبِ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ رِيحُهُ وَيَخْفَى أَثَرُهُ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ مَسُّهُ وَلَا فِدْيَةَ، وَأَمَّا حَمْلُهُ فِي قَارُورَةٍ مَسْدُودَةٍ أَوْ أَكْلُهُ مَطْبُوخًا فِي طَعَامٍ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهِ وَلَوْ صَبَغَ الْفَمَ، وَاسْتَثْنَى أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْبَاقِيَ مِمَّا قَبْلَ الْإِحْرَامِ، وَالْمُصِيبُ مِنْ إلْقَاءِ الرِّيحِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْمُصِيبُ مِنْ خَلُوقِ الْكَعْبَةِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِيهِ وَلَا فِدْيَةَ حَيْثُ كَانَ يَسِيرًا، وَأَمَّا كَثِيرُهُ فَفِيهِ الْفِدْيَةُ إلَّا أَنْ يَنْزِعَهُ سَرِيعًا. (وَ) : كَذَا يَجِبُ عَلَى الذَّكَرِ أَنْ يَجْتَنِبَ فِي إحْرَامِهِ لُبْسَ (مَخِيطِ) : أَوْ مُحِيطِ (الثِّيَابِ) وَلَوْ بِنَسْجٍ أَوْ زِرٍّ أَوْ عَقْدٍ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِمُ مِنْ الثِّيَابِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا يَلْبَسُ الْقَمِيصَ وَلَا الْعَمَائِمَ وَلَا السَّرَاوِيلَاتِ وَلَا الْبَرَانِسَ وَلَا الْخِفَافَ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَيَلْبَسَ الْخُفَّيْنِ وَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ، وَلَا تَلْبِسُوا مِنْ الثِّيَابِ شَيْئًا مَسَّهُ زَعْفَرَانُ وَلَا وَرْسُ» وَقَيَّدْنَا بِالذَّكَرِ لِإِخْرَاجِ الْأُنْثَى فَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا. (وَ) : كَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحْرَمَ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ دَخَلَ الْحَرَمَ اجْتِنَابُ (الصَّيْدَ) وَهُوَ الْحَيَوَانُ الْبَرِّيُّ وَلَوْ غَيْرَ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَلَوْ مُتَأَنِّسًا فَرْخًا أَوْ بَيْضًا سِوَى مَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْفَوَاسِقِ. قَالَ تَعَالَى: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] أَيْ مُحْرِمِينَ أَوْ فِي الْحَرَمِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحُرِّمَ بِهِ وَبِالْحَرَمِ مِنْ نَحْوِ الْمَدِينَةِ أَرْبَعَةَ أَمْيَالٍ أَوْ خَمْسَةً لِلتَّنْعِيمِ، وَمِنْ الْعِرَاقِ ثَمَانِيَةَ لِلْمُنْقَطِعِ، وَمِنْ عَرَفَةَ تِسْعَةً، وَمِنْ جُدَّةَ عَشْرَةَ لِآخِرِ الْحُدَيْبِيَةِ، إلَى قَوْلِهِ: تَعَرُّضُ بَرِّيٍّ وَإِنْ تَأَنَّسَ أَوْ لَمْ يُؤْكَلْ أَوْ طَيْرُ مَاءٍ أَوْ جُزْءٌ وَلْيُرْسِلْهُ بِيَدِهِ أَوْ رُفْقَتِهِ وَزَالَ مِلْكُهُ عَنْهُ فَلَا يُسْتَحْدَثُ مِلْكُهُ وَلَا يَقْبَلْهُ وَدِيعَةً مِنْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا الْبَحْرِيُّ فَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ لِلْحَلَالِ وَالْمُحْرِمِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّعَرُّضُ لِصَيْدِ الْبَرِّ وَلَوْ فِي الْحِلِّ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَى كُلِّ مَنْ فِي الْحَرَمِ التَّعَرُّضُ لَهُ وَلَوْ حَلَالًا، وَمَا صَادَهُ الْمُحْرِمُ أَوْ صِيدَ لَهُ مَيْتَةً يَحْرُمُ أَكْلُهُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ. (وَ) : كَذَا يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُحْرِمٍ اجْتِنَابُ جَمِيعِ (قَتْلَ الدَّوَابِّ) كَالْقَمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ وَالْبَعُوضِ، فَإِنْ قَتَلَ شَيْئًا مِنْهَا لَزِمَهُ إطْعَامُ حُفْنَةٍ مِنْ طَعَامٍ وَهِيَ مِلْءُ الْيَدِ الْوَاحِدَةِ، إلَّا أَنْ يَكْثُرَ مَا قَتَلَهُ بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الْعَشَرَةِ وَمَا قَارَبَهَا فَتَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ، وَمَفْهُومُ الْقَتْلِ لَوْ طَرَحَ شَيْئًا مِنْ الدَّوَابِّ مِنْ غَيْرِ قَتْلٍ: فَإِنْ كَانَ قَمْلًا أَوْ قُرَادًا مِمَّا لَا يَعِيشُ فِي طَرْحِهِ فَكَالْقَتْلِ فَيَلْزَمُهُ حُفْنَةٌ فِي قَلِيلِهِ وَفِدْيَةٌ فِي كَثِيرِهِ، وَأَمَّا طَرْحُ نَحْوِ الْعَلَقَةِ وَالْبُرْغُوثِ مِمَّا يَعِيشُ فِي الْأَرْضِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ . (وَ) : كَذَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ اجْتِنَابُ (إلْقَاءَ) : أَيْ إزَالَةَ (التَّفَثِ) بِالْمُثَلَّثَةِ أَيْ الْوَسَخِ عَنْ نَفْسِهِ، فَلَا يَقُصُّ أَظْفَارَهُ لِغَيْرِ كَسْرٍ وَلَا يَغْتَسِلُ وَلَا يُتَدَلَّكُ لِغَيْرِ جَنَابَةٍ وَلَا يَنْتِفُ إبْطَهُ وَلَا يَحْلِقُ عَانَتَهُ، فَإِنْ أَزَالَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ أَطْعَمَ حُفْنَةً إذَا كَانَ الْمُزَالُ شَيْئًا قَلِيلًا كَعَشْرِ شَعَرَاتٍ وَمَا قَارَبَهَا حَيْثُ أَزَالَهَا لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى، وَإِلَّا بِأَنْ زَادَ الْمُزَالُ عَلَى الْعَشَرَةِ وَمَا قَارَبَهَا أَوْ كَانَتْ الْإِزَالَةُ لِإِمَاطَةِ الْأَذَى فَتَجِبُ الْفِدْيَةُ؛ لِأَنَّهَا تَجِبُ فِي فِعْلِ كُلِّ مَا يُتَرَفَّهُ بِهِ أَوْ يُزِيلُ أَذًى. 1 - (تَنْبِيهٌ) : يُسْتَثْنَى مِمَّا ذُكِرَ إزَالَةُ الشَّعْرِ عِنْدَ الْوُضُوءِ أَوْ الرُّكُوبِ وَقَتْلُ بَعْضِ الدَّوَابِّ وَإِزَالَةُ الْأَوْسَاخِ فِي غُسْلِ الْجَنَابَةِ وَقَلْمُ الظُّفْرِ الْمَكْسُورِ: حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى مَحَلِّ الْكَسْرِ، وَمِثْلُ الْوَاحِدِ الِاثْنَانِ وَالثَّلَاثَةُ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَأَمَّا قَلْمُهُ لِغَيْرِ كَسْرٍ فَإِنْ قَلَمَهُ لَا لِإِمَاطَةِ الْأَذَى فَفِيهِ فِدْيَةٌ وَإِلَّا فَحُقْنَةٌ وَهَذَا فِي غَيْرِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا مَا زَادَ فَفِي قَلْمِهِ الْفِدْيَةُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا قَلْمُ ظُفْرِ الْغَيْرِ فَلَغْوٌ . (وَ) : كَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ اجْتِنَابُ مَا سَبَقَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (لَا يُغَطِّيَ رَأْسَهُ فِي) حَالِ (الْإِحْرَامِ) إنْ كَانَ رَجُلًا، فَإِنْ غَطَّى وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ وَلَوْ بِطِينٍ كُلًّا أَوْ بَعْضًا افْتَدَى لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ. (وَ) : كَمَا لَا يُغَطِّي رَأْسَهُ (لَا يَحْلِقُهُ) : اسْتِبْقَاءً لِلشَّعَثِ (إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ) : تَلْحَقُهُ فِي حَالِ إحْرَامِهِ فَيَجُوزُ لَهُ فِعْلُ مَا يُزِيلُ ضَرُورَتَهُ مِنْ تَغْطِيَةِ رَأْسِهِ أَوْ حَلْقِهِ. (ثُمَّ يَفْتَدِي بِصِيَامِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) : وَلَوْ مُتَفَرِّقَةً؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ إنَّمَا تُسْقِطُ الْإِثْمَ. (أَوْ إطْعَامِ سِتَّةِ مَسَاكِينَ) : أَحْرَارٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ يَنْسُكُ بِشَاةٍ يَذْبَحُهَا حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْبِلَادِ وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ الْخُفَّيْنِ وَالثِّيَابَ فِي إحْرَامِهَا وَتَجْتَنِبُ مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الرَّجُلُ وَإِحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ وَلَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ الْخُفَّيْنِ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ وَالْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ عِنْدَنَا مِنْ   [الفواكه الدواني] مُسْلِمِينَ وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعْطِيَ (مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) : وَهُمَا نِصْفُ صَاعٍ يَكُونَانِ مِنْ غَالِبِ الْقُوتِ (أَوْ يَنْسُكُ) : أَيْ يَفْتَدِي (بِشَاةٍ) : فَأَعْلَى؛ لِأَنَّ الْفِدْيَةَ كَالضَّحِيَّةِ الْأَفْضَلُ فِيهَا طِيبُ اللَّحْمِ، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ (يَذْبَحَهَا حَيْثُ شَاءَ مِنْ الْبِلَادِ) : قَالَ خَلِيلٌ: الْفِدْيَةُ فِيمَا يُتَرَفَّهُ بِهِ أَوْ يُزِيلُ أَذًى كَقَصِّ الشَّارِبِ وَظُفْرٍ وَقَتْلِ قَمْلٍ كَثُرَ وَخَضْبٍ بِكَحِنَّاءٍ وَإِنْ رُقْعَةً إنْ كَبُرَتْ وَاتَّحَدَتْ إنْ ظَنَّ الْإِبَاحَةَ وَتَعَدَّدَ مُوجِبُهَا بِفَوْرٍ أَوْ نَوَى التَّكْرَارَ أَوْ قَدَّمَ الثَّوْبَ عَلَى السَّرَاوِيلِ، وَشَرْطُهَا فِي اللُّبْسِ انْتِفَاعٌ مِنْ حَرٍّ أَوْ بَرْدٍ إنْ نَزَعَ الثَّوْبَ مَكَانَ اللُّبْسِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} [البقرة: 196] الْآيَةَ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى فَلْيَفْعَلْ مَا يُزِيلُ أَذَاهُ وَعَلَيْهِ فِدْيَةٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْفِدْيَةَ تَجِبُ مَعَ الضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تُسْقِطْ إلَّا الْإِثْمَ كَمَا ذَكَرْنَا، وَعُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الْفِدْيَةَ مُخَيَّرَةٌ كَجَزَاءِ الصَّيْدِ كَمَا يَأْتِي. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّ إخْرَاجَهَا لَا يَخْتَصُّ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْ تَخْتَصَّ بِزَمَانٍ وَلَا مَكَان إلَّا أَنْ يَنْوِيَ بِالذَّبْحِ الْهَدْيَ بِأَنْ يُقَلِّدَهُ أَوْ يُشْعِرَهُ، فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ الْهَدْيِ يُذَكِّيهِ بِمِنًى إنْ سَاقَهُ فِي إحْرَامِ حَجٍّ وَوَقَفَ بِهِ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ جُزْءًا مِنْ اللَّيْلِ وَإِلَّا فَمَكَّةُ، وَأَمَّا جَزَاءُ الصَّيْدِ فَمَحَلُّهُ مِنًى أَوْ مَكَّةَ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ. الثَّالِثُ: عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِإِطْعَامِ بِمَعْنَى تَمْلِيكٍ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ فِي الْفِدْيَةِ الْغَدَاءُ وَالْعَشَاءُ إلَّا أَنْ يَسْتَوْفِيَ كُلُّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ وَلَوْ فِي غَدَاءٍ أَوْ عَشَاءٍ . ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالرَّجُلِ سَتْرُهُ فِي حَالِ الْإِحْرَامِ وَمَا لَا يَحْرُمُ بِقَوْلِهِ: (وَتَلْبَسُ الْمَرْأَةُ) : وَكَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ (الْخُفَّيْنِ) : وَلَوْ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ. (وَالثِّيَابَ) : وَالْحُلِيَّ (فِي) : حَالِ (إحْرَامِهَا) : بِالْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ (وَ) : يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تَجْتَنِبَ مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا يَجْتَنِبُهُ الرَّجُلُ) : مِنْ الْجِمَاعِ وَمُقَدِّمَاتِهِ وَإِلْقَاءِ التَّفَثِ وَمَسِّ الطِّيبِ وَالتَّعَرُّضِ لِلصَّيْدِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَرْأَةَ كَالرَّجُلِ فِي كُلِّ مَا يَجْتَنِبُهُ فِي الْإِحْرَامِ، سِوَى لُبْسِ الْمِخْيَطِ وَالْمُحِيطِ وَتَغْطِيَةِ الرَّأْسِ وَلُبْسِ الْخُفَّيْنِ مَعَ وُجُودِ النَّعْلَيْنِ، وَسِوَى رَفْعِ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ وَالرَّمَلِ فِي الْأَشْوَاطِ الثَّلَاثَةِ الْأُوَلِ، وَالْخَبَبِ فِي بَطْنِ الْمَسِيلِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَالْإِسْرَاعِ فِي بَطْنِ مُحَسِّرٍ وَحَلْقِ الرَّأْسِ. (وَ) : اعْلَمْ أَنَّ (إحْرَامَ الْمَرْأَةِ) : حُرَّةً أَوْ أَمَةً وَكَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ (فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا) : وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّ أَثَرَ الْإِحْرَامِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ بِالْإِحْرَامِ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ قُفَّازٍ وَسَتْرُ وَجْهٍ إلَّا لِسَتْرٍ بِلَا غَرْزٍ وَلَا رَبْطٍ فَلَا تَلْبَسُ نَحْوَ الْقُفَّازِ، وَأَمَّا الْخَاتَمُ فَيَجُوزُ لَهَا لُبْسُهُ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْحُلِيِّ، وَلَا تَلْبَسُ نَحْوَ الْبُرْقُعِ وَلَا اللِّثَامِ إلَّا أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ فَيَجِبُ عَلَيْهَا السَّتْرُ بِأَنْ تُسْدِلَ شَيْئًا عَلَى وَجْهِهَا مِنْ غَيْرِ غَرْزٍ وَلَا رَبْطٍ، فَإِنْ فَعَلَتْ شَيْئًا مِمَّا نُهِيَتْ عَنْهُ بِأَنْ لَبِسَتْ نَحْوَ الْقُفَّازَيْنِ أَوْ سَتَرَتْ وَجْهَهَا وَلَوْ بِطِينٍ لِغَيْرِ سَتْرٍ بَلْ فَعَلْته تَرَفُّهًا، أَوْ لِحَرٍّ أَوْ بَرْدٍ أَوْ لِأَجْلِ السَّتْرِ لَكِنْ مَعَ الْغَرْزِ أَوْ الرَّبْطِ لَزِمَتْهَا الْفِدْيَةُ، وَأَمَّا سَتْرُ الْكَفَّيْنِ بِغَيْرِ نَحْوِ الْقُفَّازَيْنِ مِمَّا لَيْسَ مُعَدًّا لِسَتْرِهِمَا فَلَا يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ تَجْرِيدَهُمَا مِنْ غَيْرِ نَحْوِ الْقُفَّازَيْنِ مَنْدُوبٌ، وَالْقُفَّازُ كَرُمَّانٍ مَا يُعْمَلُ عَلَى صِفَةِ الْكَفِّ مِنْ قُطْنٍ أَوْ كَتَّانٍ وَنَحْوِهِ لِيَقِيَ الْكَفَّ الشَّعَثَ. (وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ) : وَالْمَعْنَى: أَنَّ أَثَرَ إحْرَامِ الرَّجُلِ إنَّمَا يَظْهَرُ فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ سَتْرُهُمَا بِكُلِّ شَيْءٍ وَلَوْ طِينًا قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يَحْرُمُ وَسَتْرُ وَجْهِهِ أَوْ رَأْسٍ بِمَا يُعَدُّ سَاتِرًا كَطِينٍ، فَإِنْ سَتَرَ وَجْهَهُ أَوْ رَأْسَهُ أَوْ بَعْضَ أَحَدِهِمَا وَانْتَفَعَ بِهِ افْتَدَى، وَلَوْ فَعَلَ نَاسِيًا أَوْ جَاهِلًا أَوْ مُضْطَرًّا، إلَّا إنْ أَزَالَ السَّاتِرَ سَرِيعًا: فَلَا فِدْيَةَ؛ لِأَنَّ شَرْطَهَا فِي اللُّبْسِ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ التَّعْمِيمِ حَمْلُ مَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْ حَمْلِهِ عَلَى رَأْسِهِ: كَخُرْجِهِ وَجِرَابِهِ لِغَيْرِ تِجَارَةٍ أَوْ لَهَا لِتَمَعُّشِهِ وَإِلَّا افْتَدَى؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ كُلَّ مَا حَرُمَ فِيهِ الْفِدْيَةُ إلَّا حَمْلَ السَّيْفِ فِي رَقَبَتِهِ بِلَا عُذْرٍ فَيَحْرُمُ وَلَا فِدْيَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا فِدْيَةَ فِي سَيْفٍ وَلَوْ بِلَا عُذْرٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْوَجْهِ وَالرَّأْسِ مِنْ الرَّجُلِ فَلَا يَحْرُمُ سَتْرُهُ إلَّا بِالْمَخِيطِ، فَيَجُوزُ لَهُ الِاتِّزَارُ بِالْحِرَامِ وَالِارْتِدَاءُ بِالدَّلَقِ، وَلَا يَضُرُّ مَا فِيهِ مِنْ الْخِيَاطَةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مُحِيطًا بِعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَعْقِدَ طَرَفَيْهِ وَلَا يَغْرِزَهُمَا ، وَلَمَّا كَانَ الْمُحْرِمُ عَلَيْهِ فِي بَقِيَّةِ جَسَدِهِ إنَّمَا هُوَ الْمُحِيطُ قَالَ: (وَلَا يَلْبَسُ الرَّجُلُ الْخُفَّيْنِ فِي الْإِحْرَامِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ نَعْلَيْنِ) : أَوْ يَجِدَهُمَا لَكِنْ بِثَمَنٍ زَائِدٍ عَلَى الْمُعْتَادِ (فَلْيَقْطَعْهُمَا أَسْفَلَ مِنْ الْكَعْبَيْنِ) : قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ خُفٌّ قُطِعَ أَسْفَلَ مِنْ كَعْبٍ لِفَقْدِ نَعْلٍ أَوْ غُلُوِّهِ فَاحِشًا بِأَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَنِ الْمُعْتَادِ الثُّلُثُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَطْعِ مِنْهُ أَوْ مِنْ بَائِعِهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِثْلَ الْقَطْعِ ثَنِيَّةُ أَسْفَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 التَّمَتُّعِ وَمِنْ الْقِرَانِ فَمَنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ يَذْبَحُهُ أَوْ يَنْحَرُهُ بِمِنًى إنْ أَوْقَفَهُ بِعَرَفَةَ وَإِنْ لَمْ يُوقِفْهُ بِعَرَفَةَ فَلْيَنْحَرْهُ بِمَكَّةَ بِالْمَرْوَةِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ مِنْ الْحِلِّ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ هَدْيًا فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ يَعْنِي مِنْ وَقْتِ   [الفواكه الدواني] مِنْ كَعْبٍ وَلَا فِدْيَةَ فِي لُبْسِهِمَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، بِخِلَافِ لُبْسِهِمَا لِمَرَضٍ أَوْ دَوَا: فَعَلَيْهِ الْفِدْيَةُ وَلَوْ قَطَعَهُمَا أَوْ ثَنَاهُمَا. (تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: إحْرَامُ الْمَرْأَةِ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَإِحْرَامُ الرَّجُلِ فِي وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ فِي جَمِيعِ جَسَدِهِ لَا فِي خُصُوصِ وَجْهِهِ وَرَأْسِهِ، وَالْجَوَابُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ تَعَلُّقُ الْإِحْرَامِ بِالْوَجْهِ وَالرَّأْسِ أَشَدَّ مِنْ تَعَلُّقِهِ بِبَقِيَّةِ الْجَسَدِ إذْ يَحْرُمُ سَتْرُهُمَا بِكُلِّ سَاتِرٍ بِخِلَافِ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ، إنَّمَا يَحْرُمُ سَتْرُهُ بِالْمُحِيطِ جَعَلَ إحْرَامَهُ مُخْتَصًّا بِوَجْهِهِ وَرَأْسِهِ عَلَى سَبِيلِ الْمُبَالَغَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ إحْرَامَ الرَّجُلِ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَاصٍّ وَعَامٍّ، فَالْخَاصُّ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ، وَالْعَامُّ هُوَ الْمُتَعَلِّقُ بِجَمِيعِ أَعْضَائِهِ، وَالْمَرْأَةُ إنَّمَا لَهَا إحْرَامٌ خَاصٌّ فَقَطْ، وَالْمُنْقَسِمُ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إنَّمَا هُوَ الْخَاصُّ الْمُتَعَلِّقُ بِبَعْضِ الْأَعْضَاءِ 1 - (تَنْبِيهٌ آخَرُ) : لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا إذَا فَعَلَ الْمُحْرِمُ شَيْئًا مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّهُ يَفْتَدِي وَلَوْ لَبِسَ جَمِيعَ ثِيَابِهِ، وَكَذَا تَلْزَمُهُ الْفِدْيَةُ وَلَوْ لَبِسَ جَمِيعَ ثِيَابِهِ لِضَرُورَةٍ، وَتَتَّحِدُ إنْ ظَنَّ الْإِبَاحَةَ أَوْ تَعَدَّدَ مُوجِبُهَا بِفَوْرٍ أَوْ نَوَى التَّكْرَارَ أَوْ قَدَّمَ الثَّوْبَ عَلَى السَّرَاوِيلِ وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ، وَشَرْطُهَا فِي اللُّبْسِ الِانْتِفَاعُ مِنْ الْحَرِّ أَوْ الْبَرْدِ، وَأَمَّا لَوْ نَزَعَ مَا لَبِسَهُ قَبْلَ انْتِفَاعِهِ بِهِ فَلَا فِدْيَةَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا غَيْرُ اللُّبْسِ كَمَسِّ الطِّيبِ أَوْ حَلْقِ الشَّعْرِ فَلَا يُشْتَرَطُ لَهُ شَيْءٌ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [أَفْضَل أَنْوَاع الْحَجّ] وَلَمَّا كَانَ فِعْلُ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ بَيَّنَ الْأَفْضَلَ مِنْهَا: بِقَوْلِهِ: (وَالْإِفْرَادُ بِالْحَجِّ أَفْضَلُ عِنْدَنَا) : مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ (مِنْ التَّمَتُّعِ وَمِنْ الْقِرَانِ) : وَصِفَةُ الْإِحْرَامِ أَنْ يُحْرِمَ بِالْحَجِّ وَحْدَهُ، ثُمَّ إذَا فَرَغَ يُسَنُّ لَهُ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ، وَإِنْ شَاءَ أَخَّرَ الْعُمْرَةَ؛ لِأَنَّ الْإِفْرَادَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عُمْرَةٍ لَا قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ، بِخِلَافِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فَلَا بُدَّ فِي تَحَقُّقِهِمَا مِنْ فِعْلِ عُمْرَةٍ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَقِيقَةِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَكَانَ حَقُّهُ أَنْ يُقَدِّمَ بَيَانَ صِفَتِهَا عَلَى صِفَةِ الْإِحْرَامِ تَحَاشِيًا عَنْ تَقْدِيمِ التَّصْدِيقِ عَلَى التَّصَوُّرِ؛ لِأَنَّهُ حَكَمَ عَلَى الْإِفْرَادِ بِالْأَفْضَلِيَّةِ وَعَلَى التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ بالمفضولية قَبْلَ بَيَانِهِمَا، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الَّذِي فِي كَلَامِهِ إنَّمَا هُوَ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى التَّصْوِيرِ لَا عَلَى التَّصَوُّرِ وَالْمَمْنُوعُ الثَّانِي فَقَطْ، وَإِنَّمَا كَانَ الْإِفْرَادُ أَفْضَلَ لِمَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ إنَّمَا حَجَّ مُفْرِدًا» وَاتَّصَلَ عَمَلُ الْخُلَفَاءِ وَالْأَئِمَّةِ بِذَلِكَ، فَقَدْ أَفْرَدَ الصِّدِّيقُ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَعُمَرُ بَعْدَهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَعُثْمَانُ بَعْدَهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَيْضًا حَجُّ الْإِفْرَادِ لَا هَدْيَ فِيهِ، بِخِلَافِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ وَالْهَدْيُ يَنْشَأُ عَنْ النَّقْصِ، وَمَا جَاءَ مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ» فَأَجَابَ عَنْهُ الْإِمَامُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ أَمَرَ بَعْضَ الصَّحَابَةِ بِالْقِرَانِ وَأَمَرَ بَعْضًا بِالتَّمَتُّعِ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إلَيْهِ عَنْ طَرِيقِ الْمَجَازِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِذَلِكَ هَلْ الْأَفْضَلُ الْقِرَانُ أَوْ التَّمَتُّعُ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّ الْقِرَانَ أَفْضَلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إفْرَادٌ ثُمَّ قِرَانٌ ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ مَفْضُولِيَّةِ الْقِرَانِ وَالتَّمَتُّعِ بِقَوْلِهِ: (فَمَنْ قَرَنَ أَوْ تَمَتَّعَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ) : الْمُقِيمِينَ بِهَا وَقْتَ الْإِحْرَامِ (فَعَلَيْهِ هَدْيٌ) : قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُ دَمِهَا عَدَمُ إقَامَةٍ بِمَكَّةَ أَوْ ذِي طُوًى وَقْتَ فِعْلِهِمَا وَإِنْ بِانْقِطَاعٍ بِهَا أَوْ خَرَجَ لِحَاجَةٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ الْمُقِيمَ بِمَكَّةَ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا لَا يَلْزَمُهُ قِرَانٌ وَلَا تَمَتُّعٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَحَلَّ تَزْكِيَةِ الْهَدْيِ بِقَوْلِهِ: (يَذْبَحُهُ أَوْ يَنْحَرُهُ بِمِنًى) : وَكُلُّهَا تَصِحُّ الزَّكَاةُ فِيهَا إلَّا أَنَّ الْأَفْضَلَ عِنْدَ الْجَمْرَةِ الْأُولَى، وَلَا يَجُوزُ دُونَ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ مِمَّا يَلِي مَكَّةَ؛ لِأَنَّهُ خَرَجَ عَنْ مِنًى وَشَرْطُ ذَبْحِهِ أَوْ نَحْرِهِ بِمِنًى (إنْ أَوْقَفَهُ بِعَرَفَةَ) : هُوَ أَوْ نَائِبُهُ بِإِذْنِهِ سَاعَةَ لَيْلَةِ النَّحْرِ، وَبَقِيَ شَرْطَانِ آخَرَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَسُوقًا فِي إحْرَامِ حَجٍّ وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ فِي عُمْرَةٍ أَوْ كَانَ تَطَوُّعًا أَوْ جَزَاءَ صَيْدٍ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الذَّبْحُ فِي أَيَّامِ مِنًى فَتَخَلَّصَ أَنَّ الشُّرُوطَ ثَلَاثَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالنَّحْرُ بِمِنًى إنْ كَانَ فِي حَجٍّ وَوَقَفَ بِهِ هُوَ أَوْ نَائِبُهُ كَهُوَ بِأَيَّامِهَا. (وَ) : مَفْهُومُ كَلَامِهِ (إنْ لَمْ يُوقِفْهُ بِعَرَفَةَ) : أَوْ كَانَ غَيْرَ مَسُوقٍ فِي إحْرَامِ حَجٍّ أَوْ كَانَ بَعْدَ أَيَّامِ مِنًى (فَلْيَنْحَرْهُ) : أَوْ يَذْبَحْهُ (بِمَكَّةَ) : وَالْمُرَادُ الْبَلَدُ وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَنَازِلِ النَّاسِ وَلَكِنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَكُونَ (بِالْمَرْوَةِ) : لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ الْمَرْوَةِ: «هَذَا الْمَنْحَرُ وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ وَطُرُقِهَا مَنْحَرٌ» . فَإِنْ نَحَرَ خَارِجًا عَنْ بُيُوتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُجْزِئُ وَلَوْ بِلَوَاحِقِهَا، فَقَدْ نَصَّ ابْنُ الْقَاسِمِ عَلَى أَنَّهُ لَا يُجْزِئُ الذَّبْحُ أَوْ النَّحْرُ بِذِي طُوًى، وَلَمَّا كَانَ الْهَدْيُ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ قَالَ: فِيمَا يُذْبَحُ بِمَكَّةَ وَقَدْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْحَرَمِ (بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ بِهِ مِنْ الْحِلِّ) : وَأَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ اشْتَرَاهُ مِنْ الْحِلِّ فَالْجَمْعُ حَاصِلٌ فِيهِ قَطْعًا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ بَيْنَ الْهَدْيِ الْوَاجِبِ وَالتَّطَوُّعِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ تَذْكِيَةِ الْهَدْيِ فِي مِنًى مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ مَا إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 يُحْرِمُ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ صَامَ أَيَّامَ مِنًى وَسَبْعَةً إذَا رَجَعَ وَصِفَةُ التَّمَتُّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ ثُمَّ يَحِلَّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى أُفُقِهِ أَوْ إلَى مِثْلِ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ وَلِهَذَا أَنْ يُحْرِمَ مِنْ مَكَّةَ إنْ كَانَ بِهَا وَلَا يُحْرِمُ   [الفواكه الدواني] خَالَفَ الْمَطْلُوبَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا يُفِيدُ أَنَّ ذَكَاتَهُ فِي مِنًى مَعَ الشُّرُوطِ فِيهَا قَوْلَانِ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، وَعَلَى كِلَيْهِمَا لَوْ خَالَفَ وَذَبْحُهُ أَوْ نَحْرُهُ فِي مَكَّةَ مَعَ الشُّرُوطِ فَإِنَّهُ يُجْزِئُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ أَوْ نَحَرَ فِي مِنًى مَا يُطْلَبُ ذَبْحُهُ أَوْ نَحْرُهُ فِي مَكَّةَ. 1 - الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا سِنَّ الْهَدْيِ ولَا مَا الْأَفْضَلُ فِيهِ، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَسِنُّ الْجَمِيعِ وَعَيْبُهُ كَالضَّحِيَّةِ وَالْمُعْتَبَرُ السَّلَامَةُ مِنْ الْعُيُوبِ الْمَانِعَةِ الْإِجْزَاءِ وَقْتَ التَّقْلِيدِ وَالْإِشْعَارِ، فَلَا يَضُرُّ الْعَيْبُ الطَّارِئُ بَعْدَ ذَلِكَ بِخِلَافِ لَوْ قَلَّدَ أَوْ أَشْعَرَ مَعِيبًا فَلَا يُجْزِئُ وَلَوْ سَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَهَذَا فِي الْهَدْيِ الْوَاجِبِ وَمِنْهُ النَّذْرُ الْمَضْمُونُ، وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعُ بِهِ وَمِثْلُهُ الْمَنْذُورُ الْمُعَيَّنُ فَهَذَا يَجِبُ تَقْدِيمُهُ بِتَقْلِيدِهِ وَلَوْ مَعِيبًا بِعَيْبٍ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَالنَّهَارُ شَرْطٌ فِي ذَكَاةِ الْهَدْيِ كَالضَّحِيَّةِ أَيْضًا فَلَا تُجْزِئُ ذَكَاتُهُ لَيْلًا، وَالْأَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ مَا كَثُرَ لَحْمُهُ، فَالْأَفْضَلُ الْإِبِلُ وَيَلِيهَا الْبَقَرُ وَأَدْنَاهَا الْغَنَمُ، وَلَمَّا كَانَ غَيْرُ الْفِدْيَةِ وَجَزَاءُ الصَّيْدِ مُرَتَّبًا قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) : مَنْ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ فِي حَجِّهِ (هَدْيًا) وَلَوْ يَتَسَلَّفُ ثَمَنَهُ مِنْ الْغَيْرِ (فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ) : قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 196] وَبَيَّنَ دُخُولَ وَقْتِهَا بِقَوْلِهِ: (يَعْنِي) : أَيْ اللَّهُ تَعَالَى أَوْ الشَّارِعُ أَوْ الْإِمَامُ مَالِكٍ أَيْ يُرِيدُ أَنَّهُ يَدْخُلُ زَمَنُ صَوْمِهَا (مِنْ وَقْتِ يُحْرِمُ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ) : وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّقْصَ الْمُوجِبَ لِلْهَدْيِ إنْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ فَإِنَّهُ يَدْخُلُ زَمَنَ صَوْمِ الثَّلَاثَةِ مِنْ إحْرَامِهِ وَيَمْتَدُّ إلَى يَوْمِ عَرَفَةَ؛ لِأَنَّ لَهُ أَنْ يَصُومَهُ. (فَإِنْ فَاتَهُ ذَلِكَ) : أَيْ صَوْمُ الثَّلَاثَةِ فِي الْحَجِّ (صَامَ أَيَّامَ مِنًى) : وَهِيَ ثَانِي الْعِيدِ وَثَالِثُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَامَ أَيَّامَ مِنًى بِنَقْصٍ فِي حَجٍّ إنْ تَقَدَّمَ عَلَى الْوُقُوفِ، وَحُكْمُ تَأْخِيرِ الثَّلَاثَةِ إلَى أَيَّامِ مِنًى الْحُرْمَةُ إنْ أَخَّرَهَا عَمْدًا وَعَدَمُهَا إنْ أَخَّرَهَا لِعُذْرٍ (وَ) : صِيَامُ (سَبْعَةِ) : أَيَّامٍ أَيْ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ (إذَا رَجَعَ) : مِنْ مِنًى الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} [البقرة: 196] وَفَسَّرَهُ مَالِكٌ بِالرُّجُوعِ مِنْ مِنًى، وَالْمُرَادُ أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الرَّمْيِ لِيَشْمَلَ أَهْلَ مِنًى أَوْ مَنْ أَقَامَ بِهَا، فَلَوْ قَدَّمَ السَّبْعَةَ عَلَى وُقُوفِهِ بِعَرَفَةَ لَمْ تُجْزِهِ، وَكَذَا لَوْ صَامَ شَيْئًا مِنْ السَّبْعَةِ بِمِنًى؛ لِأَنَّ الرُّجُوعَ شَرْطٌ فِي صَوْمِهَا، وَإِذَا صَامَ الْعَشَرَةَ قَبْلَ رُجُوعِهِ: فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجْتَزِئُ مِنْهَا بِثَلَاثَةٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُتَرَتِّبَ مِنْ الدِّمَاءِ إنْ كَانَ لِنَقْصٍ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى هَدْيًا وَهُوَ مُرَتَّبٌ، فَلَا يَصُومُ الْعَشَرَةَ أَيَّامٍ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الْهَدْيِ، وَلَا يَصِحُّ الْإِطْعَامُ فِي الْهَدْيِ بِخِلَافِ الْفِدْيَةِ وَجَزَاءِ الصَّيْدِ:. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: مِنْ وَقْتِ يُحْرِمُ أَنَّ النَّقْصَ الْمُوجِبَ لِلْهَدْيِ سَابِقٌ عَلَى الْوُقُوفِ كَالتَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ أَوْ تَعَدِّي الْمِيقَاتِ كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُتَأَخِّرًا عَنْ الْوُقُوفِ أَوْ كَانَ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ كَتَرْكِ الْوُقُوفِ نَهَارًا أَوْ تَرْكِ النُّزُولِ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَوْ الْبَيَاتِ بِمِنًى فَإِنَّهُ يَصُومُ الْعَشَرَةَ أَيَّامٍ مَتَى شَاءَ، كَمَا أَنَّهُ يَصُومُ الثَّلَاثَةَ مَتَى شَاءَ إذَا لَمْ يَصُمْهَا فِي أَيَّامِ مِنًى. 1 - الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ مَا إذَا شَرَعَ فِي الصَّوْمِ لِلْعَجْزِ عَنْ الْهَدْيِ ثُمَّ أَيْسَرَ، وَمُحَصِّلُهُ: إنْ أَيْسَرَ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِيهِ وَقَبْلَ إكْمَالِ الْيَوْمِ يَجِبُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلْهَدْيِ، وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ إتْمَامِ الْيَوْمِ وَقَبْلَ كَمَالِ الثَّالِثِ يُسْتَحَبُّ لَهُ الرُّجُوعُ، وَإِنْ أَيْسَرَ بَعْدَ إتْمَامِ الثَّالِثِ لَا يُنْدَبُ لَهُ الرُّجُوعُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ التَّمَادِي عَلَى الصَّوْمِ وَالرُّجُوعُ، وَهَذَا فِيمَنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ عِنْدَ تَيَقُّنِ الْعَجْزِ عَنْ الْهَدْيِ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ مُطْلَقًا . وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْإِفْرَادَ أَفْضَلُ مِنْ التَّمَتُّعِ وَالْقِرَانِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهِمَا فَقَالَ: (وَصِفَةُ التَّمَتُّعِ أَنْ يُحْرِمَ بِعُمْرَةٍ) : فَقَطْ وَلَوْ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ (ثُمَّ يَحِلُّ مِنْهَا فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ عَامِهِ) : بِأَنْ يَحُجَّ (قَبْلَ الرُّجُوعِ إلَى أُفُقِهِ) : بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَالْفَاءِ وَسُكُونِهَا أَيْ بَلَدِهِ، فَإِنْ رَجَعَ بَعْدَ فِعْلِ عُمْرَتِهِ إلَى أُفُقِهِ (أَوْ إلَى مِثْلِ أُفُقِهِ فِي الْبُعْدِ) : عَنْ مَكَّةَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ مُتَمَتِّعًا وَلَوْ كَانَ بَلَدُهُ بِأَرْضِ الْحِجَازِ، وَأَمَّا لَوْ رَجَعَ إلَى أَقَلَّ مِنْ بَلَدِهِ حَجَّ فَإِنَّهُ يَكُونُ مُتَمَتِّعًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلتَّمَتُّعِ عَدَمُ عَوْدٍ إلَى بَلَدِهِ أَوْ مِثْلِهِ وَلَوْ بِالْحِجَازِ لَا أَقَلَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ بَلَدُهُ بَعِيدًا كَإِفْرِيقِيَّةَ، فَإِنَّ هَذَا إذَا رَجَعَ إلَى مِصْرَ بَعْدَ فِعْلِ عُمْرَتِهِ قَبْلَ حَجِّهِ وَعَادَ وَأَحْرَمَ بِالْحَجِّ لَا يَكُونُ مُتَمَتِّعًا مَعَ كَوْنِهِ رَجَعَ إلَى أَقَلَّ مِنْ بَلَدِهِ، وَهَذَا التَّقْيِيدُ لِلْمُصَنِّفِ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ وَقَبِلَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، فَمَفْهُومُ أَقَلَّ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ مَحَلُّهُ إذَا كَانَ يُدْرِكُ أُفُقَهُ إذَا رَجَعَ وَيَعُودُ يُدْرِكُ الْحَجَّ فِي ذَلِكَ الْعَامِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ الْمُتَمِّمُ لَهَا قَبْلَ فِعْلِ الْحَجِّ مُتَمَتِّعًا لِتَمَتُّعِهِ بِكُلِّ مَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ فِعْلُهُ أَوْ لِإِسْقَاطِهِ أَحَدَ السَّفَرَيْنِ. (وَ) : يَجُوزُ (لِهَذَا) : الَّذِي حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ (أَنْ يُحْرِمَ) : بِالْحَجِّ (مِنْ مَكَّةَ إنْ كَانَ) : مُقِيمًا (بِهَا) : سَوَاءٌ كَانَ آفَاقِيًّا أَوْ مُسْتَوْطِنًا، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 مِنْهَا مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا وَيَبْدَأُ بِالْعُمْرَةِ فِي نِيَّتِهِ وَإِذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَيَرْكَعَ فَهُوَ قَارِنٌ وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ فِي تَمَتُّعٍ وَلَا قِرَانٍ وَمَنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ وَمَنْ أَصَابَ صَيْدًا فَعَلَيْهِ جَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ   [الفواكه الدواني] الْإِحْرَامُ بِالْحَجِّ مِنْ مَكَّةَ:؛ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ خُرُوجِهِ لِلْحِلِّ فِي عَرَفَةَ فَيَحْصُلُ فِي إحْرَامِهِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ، وَلَمَّا كَانَ كُلُّ إحْرَامٍ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ الْجَمْعِ بَيْن الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَكَانَتْ أَفْعَالُ الْعُمْرَةِ تَنْقَضِي فِي الْحَرَمِ (وَلَا يُحْرِمُ مِنْهَا) : أَيْ مِنْ مَكَّةَ (مَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْتَمِرَ حَتَّى يَخْرُجَ إلَى الْحِلِّ) : وَهُوَ مَا جَاوَزَ الْحَرَمَ وَالْأُولَى مِنْهُ الْجِعْرَانَةُ وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ لِاعْتِمَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْهَا، ثُمَّ يَلِيهَا فِي الْفَضْلِ التَّنْعِيمُ وَهُوَ مَسَاجِدُ عَائِشَةَ، فَلَوْ أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ مِنْ الْحَرَمِ فَإِنَّهُ يَنْعَقِدُ إحْرَامُهُ لَكِنْ يَخْرُجُ قَبْلَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ، فَإِنْ طَافَ وَسَعَى قَبْلَ الْخُرُوجِ لَمْ يَعْتَدَّ بِهِمَا، قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ أَعَادَ طَوَافَهُ وَسَعْيَهُ بَعْدَهُ وَافْتَدَى إنْ حَلَقَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ فِي صِفَةِ التَّمَتُّعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْقِرَانِ فَقَالَ: (وَصِفَةُ الْقِرَانِ أَنْ يُحْرِمَ بِحَجَّةٍ وَعُمْرَةٍ مَعًا وَ) : يَجِبُ أَنْ (يَبْدَأَ) : أَيْ يُقَدِّمَ (الْعُمْرَةَ فِي نِيَّتِهِ) : قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ قِرَانٌ بِأَنْ يُحْرِمَ بِهِمَا وَقَدَّمَهَا وُجُوبًا فِي نِيَّتِهِ وَنَدْبًا فِي تَلَفُّظِهِ، وَأَشَارَ إلَى صِفَةٍ أُخْرَى لِلْقِرَانِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا) : أَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلًا، وَ (أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ قَبْلَ أَنْ يَطُوفَ وَيَرْكَعَ فَهُوَ قَارِنٌ) : وَكَذَا لَوْ أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَيْهَا فِي أَثْنَاءِ طَوَافِهَا، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُتِمَّ ذَلِكَ الطَّوَافَ وَيَنْقَلِبَ تَطَوُّعًا وَلَا يَسْعَى بَعْدَهُ لِانْدِرَاجِ أَفْعَالِهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَشَرْطُ الْإِرْدَافِ الْمَذْكُورِ صِحَّةُ الْعُمْرَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ يُرْدِفُهُ بِطَوَافِهَا إنْ صَحَّتْ وَكَمَّلَهُ وَلَا يَسْعَى، فَلَوْ أَرْدَفَ حَجَّةً عَلَى عُمْرَةٍ فَاسِدَةٍ لَمْ يَصِحَّ إرْدَافُهُ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى عُمْرَتِهِ وَلَا يَحُجُّ حَتَّى يَقْضِيَهَا، فَإِنْ أَحْرَمَ قَبْلَ قَضَائِهَا فَإِنْ كَانَ بَعْدَ إتْمَامِهَا صَحَّ إحْرَامُهُ. (تَنْبِيهٌ) : إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ قَوْلَهُ قَبْلَ طَوَافِهِ مُرَادُهُ قَبْلَ إتْمَامِ طَوَافِهِ فَيَصْدُقُ بِإِحْرَامِهِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَرْدَفَ بَعْدَ إكْمَالِ الطَّوَافِ: فَظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ إرْدَافُهُ وَلَا يَكُونُ قَارِنًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ قَبْلَ صَلَاةِ الرَّكْعَتَيْنِ صَحَّ الْإِرْدَافُ وَإِنْ كُرِهَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بَعْدَ الرَّكْعَتَيْنِ فَلَا يَصِحُّ الْإِرْدَافُ. (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: إذَا أَرْدَفَ الْحَجَّ عَلَى الْعُمْرَةِ عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ انْدَرَجَتْ أَفْعَالُهَا فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَحْضِرْ أَرْكَانَهَا عِنْدَ الْإِتْيَانِ بِطَوَافِ وَسَعْيِ الْحَجِّ بَلْ يَقَعَانِ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ. الثَّانِي: رُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ اشْتِرَاطِ تَقَدُّمِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ فِي الْإِرْدَافِ عَدَمُ صِحَّةِ إرْدَافِ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَثْرَةُ أَفْعَالِ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ، فَلِذَلِكَ صَحَّ إرْدَافُ الْحَجِّ عَلَى الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ إرْدَافُ الْعُمْرَةِ عَلَى الْحَجِّ لَا يَصِحُّ إرْدَافُ عُمْرَةٍ عَلَى عُمْرَةٍ وَلَا حَجٍّ عَلَى حَجٍّ. 1 - الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ الْإِحْرَامِ لِلْقِرَانِ وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَهَا وَلِلْقِرَانِ الْحِلُّ الْجِعْرَانَةُ أَوْلَى ثُمَّ التَّنْعِيمُ، فَلَوْ خَالَفَ وَأَحْرَمَ فِي مَكَّةَ بِالْعُمْرَةِ أَوَّلَهُمَا انْعَقَدَ إحْرَامُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ، لَكِنَّ الْعُمْرَةَ لَا تَصِحُّ أَرْكَانُهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يَخْرُجَ لِلْحِلِّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْقَارِنُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ لِلْحِلِّ وَإِنْ كَانَ يُؤَخِّرُ السَّعْيَ وَالطَّوَافَ لِإِرْدَافِهِ بِالْحَرَمِ، فَلَوْ لَمْ يَخْرُجْ لِلْحِلِّ قَبْلَ عَرَفَةَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُجْزِئُهُ طَوَافُهُ وَسَعْيُهُ الْوَاقِعَيْنِ لِلْحَجِّ بَعْدَ عَرَفَةَ وَيَكْفِيهِ خُرُوجُهُ لِعَرَفَةَ؛ لِأَنَّهَا حِلٌّ، وَأَفْعَالُ الْعُمْرَةِ انْدَرَجَتْ فِي أَفْعَالِ الْحَجِّ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الرَّابِعُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إفْرَادٌ وَقِرَانٌ وَتَمَتُّعٌ، وَبَقِيَ لَوْ أَحْرَمَ وَأَبْهَمَ أَوْ أَحْرَمَ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ، وَالْحُكْمُ الْمُبْهَمُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ فِي صَرْفِهِ لِأَحَدِ الثَّلَاثَةِ، وَالْأَحَبُّ عِنْدَ مَالِكٍ صَرْفُهُ لِلْإِفْرَادِ وَالْقِيَاسُ لِلْقِرَانِ، وَأَمَّا الْإِحْرَامُ بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ فَقِيلَ يَصِحُّ وَيَكُونُ مُحْرِمًا بِمَا أَحْرَمَ بِهِ زَيْدٌ، وَقِيلَ لَا يَصِحُّ لِعَدَمِ الْجَزْمِ بِالنِّيَّةِ، وَعَلَى الصِّحَّةِ لَوْ تَبَيَّنَ عَدَمَ إحْرَامِ زَيْدٍ يَكُونُ كَمَنْ أَحْرَمَ مُبْهَمًا، وَكَذَا لَوْ مَاتَ وَلَمْ يَعْلَمْ مَا أَحْرَمَ بِهِ أَوْ وَجَدَهُ مُحْرِمًا عَلَى الْإِبْهَامِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ مِنْ قَرْنٍ أَوْ تَمَتُّعٍ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ مَكَّةَ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ عَلَى أَهْلِ مَكَّةَ هَدْيٌ فِي تَمَتُّعٍ وَلَا) : فِي (قِرَانٍ) قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 196] وَقَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُ دَمِهِمَا عَدَمُ إقَامَةٍ بِمَكَّةَ أَوْ ذِي طُوًى وَقْتَ فِعْلِهِمَا، وَلِلتَّمَتُّعِ عَدَمُ عَوْدَةٍ لِبَلَدِهِ أَوْ مِثْلِهِ وَلَوْ بِالْحِجَازِ وَقَدَّمْنَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ، وَإِنَّمَا سَقَطَ عَنْهُمْ الْهَدْيُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَجِبُ لِمَسَاكِينِ مَكَّةَ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَبَقِيَ لَوْ كَانَ لِلْمُتَمَتِّعِ أَهْلَانِ أَهْلٌ بِمَكَّةَ وَأَهْلٌ بِغَيْرِهَا وَالْمَذْهَبُ اسْتِحْبَابُهُ وَلَوْ غَلَبَتْ إقَامَتُهُ فِي أَحَدِهِمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ لِذِي أَهْلَيْنِ وَأَهَلَّ إلَّا أَنْ يُقِيمَ بِأَحَدِهِمَا أَكْثَرَ فَيُعْتَبَرُ تَأْوِيلَانِ وَقَدْ عَلِمْت الْمَذْهَبَ مِنْهُمَا . وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ التَّمَتُّعِ أَنْ يَحِلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ حَلَّ مِنْ عُمْرَتِهِ) : بِأَنْ فَرَغَ مِنْ أَرْكَانِهَا (قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ) : وَلَوْ أَخَّرَ حِلَاقَهُ إلَى أَشْهُرِ الْحَجِّ (ثُمَّ حَجَّ مِنْ عَامِهِ) : الَّذِي اعْتَمَرَ فِيهِ وَأَوْلَى لَوْ حَجَّ فِي عَامٍ بَعْدَهُ (فَلَيْسَ بِمُتَمَتِّعٍ) : لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمُتَمَتِّعَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ذَوَا عَدْلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَمَحَلُّهُ مِنًى إنْ وَقَفَ بِهِ بِعَرَفَةَ وَإِلَّا فَمَكَّةُ وَيَدْخُلُ بِهِ مِنْ الْحِلِّ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ أَوْ كَفَّارَةَ طَعَامِ مَسَاكِينَ أَنْ يَنْظُرَ إلَى قِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا فَيَتَصَدَّقَ بِهِ أَوْ عَدْلَ ذَلِكَ صِيَامًا أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَلِكَسْرِ   [الفواكه الدواني] مَنْ تَحَلَّلَ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ مِنْ عُمْرَتِهِ وَحَجَّ مِنْ عَامِهِ ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُحْرِمَ يَجْتَنِبُ التَّعَرُّضَ لِلصَّيْدِ بَيَّنَ هُنَا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَصَابَ صَيْدًا) : فِي إحْرَامِهِ أَوْ فِي الْحَرَمِ وَقَتَلَهُ أَوْ جَرَحَهُ وَلَمْ يَتَحَقَّقْ سَلَامَتَهُ (فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنْ النَّعَمِ) : وَلَوْ قَتَلَهُ لِمَخْمَصَةٍ أَوْ لِجَهْلٍ أَوْ نِسْيَانٍ، إلَّا مَا تَقَدَّمَ اسْتِثْنَاؤُهُ مِنْ الْفَوَاسِقِ، وَالنَّعَمُ الْإِبِلُ وَالْبَقَرُ وَالْغَنَمُ، وَالْمُرَادُ بِالْمِثْلِ الْمُقَارِبِ لِلصَّيْدِ فِي قَدْرِهِ وَصُورَتِهِ، فَمِثْلُ النَّعَامَةِ بَدَنَةٌ وَالْفِيلُ بَدَنَةٌ خُرَاسَانِيَّةٌ ذَاتُ سَنَامَيْنِ، وَإِنْ لَمْ تُوجَدْ فَقِيمَتُهُ طَعَامًا بِأَنْ يُوزَنَ بِطَعَامٍ وَيُخْرَجَ مَا يُعَادِلُهُ، وَكَيْفِيَّةُ ذَلِكَ أَنْ يُجْعَلَ الْفِيلُ فِي مَرْكَبٍ وَيُنْظَرَ إلَى الْحَدِّ الَّذِي نَزَلَ فِي الْمَاءِ مِنْ الْمَرْكَبِ ثُمَّ يُخْرَجَ الْفِيلُ وَيُوضَعَ مَكَانَهُ الطَّعَامُ حَتَّى تَبْلُغَ الْمَرْكَبُ فِي الْمَاءِ مَا بَلَغَتْهُ مِنْ الْفِيلِ، وَقِيلَ يُوزَنُ بِالْقَبَّانِي وَأَظُنُّ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ حَيْثُ لَا إمْكَانَ وَإِلَّا فَالتَّحَرِّي كَافٍ، وَيَنْبَغِي إذَا تَعَذَّرَ الْإِطْعَامُ فَالصَّوْمُ، وَمِثْلُ الْبَقَرَةِ الْوَحْشِيَّةِ أَوْ مَا قَارَبَهَا وَهُوَ الْأُيَّلُ وَالْأُيَّلُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ حَيَوَانٌ وَحْشِيٌّ أَوْ حِمَارُ الْوَحْشِ بَقَرَةٌ إنْسِيَّةٌ، وَمِثْلُ الضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالظَّبْيِ شَاةٌ إنْسِيَّةٌ، وَيَجِبُ فِي صَغِيرِ الصَّيْدِ مَا يَجِبُ فِي كَبِيرِهِ، كَمَا يَجِبُ فِي الْمَعِيبِ مِنْهُ مَا يَجِبُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ كَوْنِهِ سَلِيمًا مِنْ الْعُيُوبِ، وَبَلَغَ سِنَّ الضَّحِيَّةِ كَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ سِنَّ الْهَدَايَا وَالْفِدْيَةِ وَالْجَزَاءِ كَسِنِّ الضَّحِيَّةِ وَفِي الْعَيْبِ كَذَلِكَ، وَأَمَّا نَحْوُ الضَّبِّ وَالْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ مِمَّا لَا مِثْلَ لَهُ مِنْ الْأَنْعَامِ فَالْوَاجِبُ فِيهِ الْقِيمَةُ طَعَامًا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ صَامَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَكَمَّلَ لِكَسْرِهِ، وَكَذَا جَمِيعُ الطُّيُورِ خَلَا حَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِمَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْوَاحِدَةِ شَاةٌ بِلَا حُكْمٍ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْهَا صَامَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَلَا يُخْرِجُ طَعَامًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِي حَمَامِ مَكَّةَ، وَالْحَرَمِ بِمَنْزِلَةِ الْهَدْيِ لَا يُجْزِئُ فِيهِ الْإِطْعَامُ، وَإِنَّمَا شَدَّدَ فِي حَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِمَا؛ لِأَنَّ النَّاسَ تُبَادِرُ إلَى قَتْلِهِمَا لِكَثْرَتِهِمَا وَعَدَمِ نُفُورِهِمَا مِنْ النَّاسِ. وَفِي جَنِينِ الصَّيْدِ الْغَيْرِ الْمُسْتَهِلِّ، وَفِي الْبَيْضَةِ الْغَيْرِ الْمَذِرَةِ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ، وَفِي الصَّيْدِ الْمُعَلَّمِ مَنْفَعَةُ شَرْعِيَّةِ الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ وَيَقْتُلُهُ الْمُحْرِمُ أَوْ الْحَلَالُ فِي الْحَرَمِ قِيمَتَانِ: إحْدَاهُمَا لِرَبِّهِ عَلَى الْحَالَةِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا مِنْ كَوْنِهِ مُعَلَّمًا صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا سَلِيمًا أَوْ مَعِيبًا، وَالثَّانِيَةُ لِمَسَاكِينِ مَحَلِّ الصَّيْدِ فَجَزَاؤُهُ كَجَزَاءِ الْكَبِيرِ فَيَكُونُ سِنُّهُ كَسِنِّ الضَّحِيَّةِ وَسَالِمًا مِنْ الْعُيُوبِ، وَلَمَّا كَانَ جَزَاءُ الصَّيْدِ مُخَالِفًا لِلْهَدْيِ وَالْفِدْيَةِ بَيَّنَ مَا انْفَرَدَ بِهِ الْجَزَاءُ: بِقَوْلِهِ: (يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ) : قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجَزَاءُ بِحُكْمِ عَدْلَيْنِ فَقِيهَيْنِ بِذَلِكَ مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ أَوْ إطْعَامٌ بِقِيمَةِ الصَّيْدِ يَوْمَ التَّلَفِ بِمَحَلِّهِ وَإِلَّا فَبِقُرْبِهِ وَلَا يُجْزِئُ بِغَيْرِهِ، فَالنَّعَامَةُ بَدَنَةٌ وَالْفِيلُ بِذَاتِ سَنَامَيْنِ وَحِمَارُ الْوَحْشِ وَبَقَرَةٌ وَالضَّبُعُ وَالثَّعْلَبُ شَاةٌ كَحَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِ بِلَا حُكْمٍ وَالْوَاجِبُ فِي حَمَامِ الْحِلِّ وَفِي الضَّبِّ وَالْأَرْنَبِ وَالْيَرْبُوعِ وَجَمِيعِ الطَّيْرِ الْقِيمَةُ طَعَامًا وَالصَّغِيرُ مِنْ الصَّيْدِ كَالْكَبِيرِ وَالْمَرِيضُ كَالسَّلِيمِ وَالْجَمِيلُ كَالْوَحْشِ؛ لِأَنَّهُ دِيَةٌ، وَاشْتِرَاطُ الْعَدَالَةِ يَسْتَلْزِمُ الْحُرِّيَّةَ وَالْبُلُوغَ وَمَعْرِفَةَ مَا يَحْكُمُ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ لَفْظِ الْحُكْمِ وَمِنْ عِلْمِهِمَا بِبَابِ الْجَزَاءِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ فُقَهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَلَا يُشْتَرَطُ عِلْمُهُمَا بِغَيْرِهِ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ فِي أَمْرٍ إنَّمَا يُشْتَرَطُ مَعْرِفَتُهُ بِمَا وَلِيَ فِيهِ وَلَوْ جَهِلَ سِوَاهُ، وَإِنَّمَا خَرَجَ عَنْ اشْتِرَاطِ الْحُكْمِ حَمَامُ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ لِلدَّلِيلِ وَهُوَ قَضَاءُ عُثْمَان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالشَّاةِ فِي الْوَاحِدَةِ، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ إلْحَاقُ الْقُمْرِيِّ وَالْفَوَاخِتِ وَشَبَهِهَا بِالْحَمَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَحَلَّ إخْرَاجِ الْجَزَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْحَاجِّ بِقَوْلِهِ: (وَمَحَلُّهُ) : أَيْ الْجَزَاءِ وَالْمُرَادُ مَوْضِعُ تَذْكِيَتِهِ (مِنًى إنْ وَقَفَ) : الَّذِي أَصَابَ الصَّيْدَ (بِهِ) : أَيْ بِالْجَزَاءِ (بِعَرَفَةَ) : جُزْءًا مِنْ اللَّيْل وَأَنْ تَكُونَ تَذْكِيَتُهُ فِي يَوْمِ النَّحْرِ أَوْ تَالِيَيْهِ لَا الرَّابِعِ (وَإِلَّا) : بِأَنْ لَمْ يَقِفْ بِهِ وَلَا نَائِبُهُ بِعَرَفَةَ أَوْ فَاتَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ الثَّلَاثَةُ (فَمَكَّةُ) : مَحَلُّ تَذْكِيَتِهِ وَالْمُرَادُ بِمَكَّةَ الْبَلَدُ وَمَا يَلِيهَا مِنْ مَنَازِلِ النَّاسِ وَأَفْضَلُهَا الْمَرْوَةُ. (وَ) : الْجَزَاءُ كَالْهَدْيِ (يَدْخُلُ بِهِ) : مَكَّةَ (مِنْ الْحِلِّ) : لِيَجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْحِلِّ وَالْحَرَمِ إنْ كَانَ اشْتَرَاهُ مِنْ الْحَرَمِ، وَقَيَّدْنَا الْمُتَرَتِّبَ عَلَى الْحَاجِّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْجَزَاءِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِعُمْرَةٍ أَوْ عَلَى الْحَلَالِ بِقَتْلِ صَيْدٍ فِي الْحَرَمِ فَإِنَّ مَحَلَّ تَذْكِيَتِهِ فِي حَقِّهِمَا مَكَّةُ،؛ لِأَنَّ مَحَلَّ ذَكَاةِ الْجَزَاءِ مَحَلُّ ذَكَاةِ الْهَدَايَا، بِخِلَافِ مَحَلِّ الْفِدْيَةِ يَذْبَحُهَا كَيْفَ شَاءَ إلَّا أَنْ يُقَلِّدَهَا وَيُشْعِرَهَا فَتَصِيرَ كَالْهَدْيِ وَلَمَّا كَانَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَالْفِدْيَةِ وَكَفَّارَةُ الصِّيَامِ غَيْرَ مُرَتَّبَةٍ قَالَ: (وَلَهُ) : أَيْ قَاتِلِ الصَّيْدِ (أَنْ يَخْتَارَ ذَلِكَ) : أَيْ إخْرَاجَ الْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ (أَوْ) : أَيْ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ (كَفَّارَةً) : بِالنَّصْبِ لِعَطْفِهِ عَلَى اسْمِ الْإِشَارَةِ (طَعَامَ مَسَاكِينَ) : وَيَجُوزُ فِي طَعَامِ الْحُرِّ لِإِضَافَةِ كَفَّارَةٍ إلَيْهِ وَتَكُونُ بَيَانِيَّةً وَبِالنَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ كَفَّارَةً عِنْدَ تَنْوِينِهَا، وَقَوْلُهُ أَنْ يَنْظُرَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وَصِفَةُ إخْرَاجِ الطَّعَامِ (أَنْ يَنْظُرَ) : الْقَاتِلُ لِلصَّيْدِ إنْ كَانَ عَارِفًا (إلَى قِيمَةِ الصَّيْدِ طَعَامًا) : أَيْ مِنْ الطَّعَامِ وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ يَوْمَ التَّلَفِ بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ الطَّعَامُ مِنْ جُلِّ عَيْشِ أَهْلِ مَحَلِّ التَّلَفِ فَيُقَالُ: كَمْ يُسَاوِي هَذَا الطَّيْرُ مِنْ هَذَا الطَّعَامِ؟ فَيَلْزَمُ إخْرَاجُهُ وَلَوْ زَادَ عَلَى إطْعَامِ سِتِّينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلصَّيْدِ قِيمَةٌ بِمَحَلِّ التَّلَفِ اُعْتُبِرَ قِيمَتُهُ فِي أَقْرَبِ الْمَوَاضِعِ إلَيْهِ. (فَيَتَصَدَّقُ بِهِ) : عَلَى مَسَاكِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ مَرَّةً فِي الْعُمُرِ [حُكْم الْحَجّ وَالْعُمْرَة] وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَقُولَ آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ صَدَقَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَنَصَرَ عَبْدَهُ وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ وَحْدَهُ.   [الفواكه الدواني] ذَلِكَ الْمَوْضِعِ فَيُعْطِي كُلَّ مِسْكِينٍ مُدًّا وَاحِدًا لَا أَكْثَرَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِمَوْضِعِ التَّلَفِ مَسَاكِينُ فَعَلَى مَسَاكِينِ أَقْرَبِ مَكَان إلَيْهِ، فَلَوْ لَمْ يُطْعِمْ حَتَّى رَجَعَ إلَى بَلَدِهِ وَأَرَادَ الْإِطْعَامَ فَإِنَّهُ يُحَكِّمُ اثْنَيْنِ مِمَّنْ يَجُوزُ تَحْكِيمُهُمَا وَيَصِفُ لَهُمَا الصَّيْدَ وَيَذْكُرُ لَهُمَا سِعْرَ الطَّعَامِ بِمَوْضِعِ الصَّيْدِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ عَلَيْهِمَا تَقْوِيمُهُ بِالطَّعَامِ قَوَّمَاهُ بِالدَّرَاهِمِ، وَيَبْعَثُ بِالطَّعَامِ إلَى مَوْضِعِ الصَّيْدِ كَمَا يَبْعَثُ بِالْهَدْيِ إلَى مَكَّةَ. (تَنْبِيهٌ) : عُلِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: قِيمَةُ الصَّيْدِ طَعَامًا أَنَّهُ لَا يُقَوَّمُ بِالدَّرَاهِمِ وَهُوَ الْأَصْوَبُ عِنْدَ مَالِكٍ فَلَوْ قُوِّمَ بِالدَّرَاهِمِ أَجْزَأَ، وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّ الْمُقَوَّمَ نَفْسُ الصَّيْدِ لَا مِثْلُهُ مِنْ النَّعَمِ، وَيُفْهَمُ مِنْ تَنْوِيعِ الْجَزَاءِ إلَى كَوْنِهِ مِنْ النَّعَمِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ الصَّوْمِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِيهِ التَّلْفِيقُ، وَقَيَّدْنَا بِمَحَلِّ التَّلَفِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُجْزِئُ بِغَيْرِهِ كَمَا لَا يُجْزِئُ الْإِطْعَامُ بِغَيْرِهِ مَعَ الْإِمْكَانِ بِهِ، وَلَا إعْطَاءُ الْمَسَاكِينِ دَرَاهِمَ وَلَا عَرْضًا، وَعُلِمَ مِنْ كَوْنِ الْإِطْعَامِ بِمَحَلِّ التَّلَفِ أَنَّهُ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَكَّةَ أَوْ مِنًى بِخِلَافِ الْمِثْلِ مِنْ النَّعَمِ كَمَا مَرَّ (أَوْ) : أَيْ وَلَهُ أَنْ يَخْتَارَ (عَدْلَ ذَلِكَ) : الطَّعَامِ (صِيَامًا) : وَصِفَةُ ذَلِكَ (أَنْ يَصُومَ عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْمًا وَ) : يَجِبُ أَنْ يَصُومَ (لِكَسْرِ الْمُدِّ يَوْمًا كَامِلًا) :؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ إلْغَاؤُهُ وَالصَّوْمُ لَا يَتَبَعَّضُ كَالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّخْيِيرِ بَيْنَ الْجَزَاءِ وَالْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ إذَا كَانَ لِلصَّيْدِ مِثْلٌ مِنْ النَّعَمِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ لَفْظُ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِثْلٌ كَالْأَرْنَبِ وَالطَّيْرِ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ الْإِطْعَامِ وَالصِّيَامِ، سِوَى حَمَامِ مَكَّةَ وَالْحَرَمِ وَيَمَامِهِمَا فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ وَلَا يَصِحُّ الْإِطْعَامُ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ شَاةً صَامَ عَشْرَةَ أَيَّامٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى حُكْمٍ فِيهِمَا. الثَّانِي: لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ اشْتِرَاطِ الْحَكَمَيْنِ وَتَخْيِيرِ الْقَاتِلِ لِلصَّيْدِ؛ لِأَنَّ الْحَكَمَيْنِ إنَّمَا يُطْلَبَانِ بَعْدَ اخْتِيَارِ الْقَاتِلِ أَحَدَ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ فِيمَا فِيهِ ثَلَاثَةٌ، فَإِذَا اخْتَارَ أَحَدَهَا طُلِبَ لَهُ الْحَكَمَانِ لِيَجْتَهِدَا فِيهِ وَإِنْ رُوِيَ فِيهِ شَيْءٌ عَنْ الشَّارِعِ، وَإِذَا أَرَادَ الِانْتِقَالَ عَمَّا حُكِمَ عَلَيْهِ بِهِ فَلَهُ الِانْتِقَالُ عَنْهُ وَلَوْ الْتَزَمَ إخْرَاجَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِيمَا وَقَعَ بِهِ الْحُكْمُ فَإِنَّهُ يُعَادُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِهِمَا كَمَا يُعَادُ إنْ تَبَيَّنَ الْخَطَأُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيَانِ صِفَةِ مَا يُفْعَلُ فِي الْحَجِّ وَفِي الْعُمْرَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِمَا: بِقَوْلِهِ: (وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ) : وَالْعُمْرَةُ لُغَةً الزِّيَادَةُ وَشَرْعًا عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَطَوَافٍ وَسَعْيٍ وَتَحْصُلُ السُّنَّةُ بِفِعْلِهَا (مَرَّةً فِي الْعُمُرِ) : وَتُنْدَبُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا لَكِنْ فِي عَامٍ آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي الْعَامِ الْوَاحِدِ، إلَّا أَنْ يَتَكَرَّرَ دُخُولُهُ مَكَّةَ مِنْ مَوْضِعٍ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَهُ الْإِحْرَامُ، كَمَا لَوْ خَرَجَ مَعَ الْحَجِّ وَرَجَعَ إلَى مَكَّةَ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ الْإِحْرَامَ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ مَكْرُوهٌ بِخِلَافِ الْعُمْرَةِ مِيقَاتُهَا الزَّمَانِيُّ الْأَبَدُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ سُنَّةِ الْعُمْرَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ لِخَبَرِ جَابِرٍ: «سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ الْحَجِّ أَفَرِيضَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، فَقِيلَ: وَالْعُمْرَةُ؟ قَالَ. لَا، وَلَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَك» وَلِخَبَرِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْحَجُّ جِهَادٌ وَالْعُمْرَةُ تَطَوُّعٌ» وَلَا يُشْكِلُ عَلَى الْمَشْهُورِ قَوْله تَعَالَى: لِقَوْلِهِ {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196] ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْإِتْمَامِ يَقْتَضِي الشُّرُوعَ فِي الْعِبَادَةِ، وَيَجِبُ الْإِتْمَامُ بَعْدَ الشُّرُوعِ وَلَوْ كَانَتْ الْعِبَادَةُ مَنْدُوبَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْلِهِ {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] وَقَدَّمْنَا مِنْ أَحْكَامِهَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. (تَنْبِيهٌ) : لَفْظُ مَرَّةً مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ الْمُبَيِّنَةِ لِلْعَدَدِ، وَقِيلَ فِي تَوْجِيهِ النَّصْبِ غَيْرُ ذَلِكَ . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى صِفَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ شَرَعَ فِيمَا يُطْلَبُ مِنْ الشَّخْصِ عِنْدَ انْصِرَافِهِ مِنْ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ انْصَرَفَ مِنْ مَكَّةَ) : بَعْدَ فَرَاغِهِ (مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَنْ يَقُولَ) : عِنْدَ الِانْصِرَافِ (آيِبُونَ) : مِنْ الْإِيَابِ أَيْ رَاجِعُونَ بِالْمَوْتِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى. (تَائِبُونَ) : إلَى اللَّهِ مِنْ الذُّنُوبِ (عَابِدُونَ) : مُحْسِنُونَ فِي أَعْمَالِنَا «؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنْ الْإِحْسَانِ فَقَالَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ» الْحَدِيثَ. (لِرَبِّنَا) : صِلَةُ (حَامِدُونَ) : قُدِّمَ الْمَعْمُولُ عَلَى الْعَامِلِ لِلْحَصْرِ، وَالْمَعْنَى: حَامِدُونَ لِرَبِّنَا عَلَى أَقْدَارِهِ لَنَا عَلَى أَدَاءِ مَا طَلَبَهُ مِنَّا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا صِلَةُ الْأَوْصَافِ الْمُتَقَدِّمَةِ فَمَحْذُوفَةٌ كَمَا بَيَّنَّا. (صَدَقَ اللَّهُ وَعَدَهُ) : أَيْ مَا وَعَدَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهِ فِي نَصْرِهِ لَهُ بِالرُّعْبِ مِنْ مَسِيرَةِ شَهْرٍ، وَأَنْجَزَ لَهُ مَا وَعَدَهُ بِهِ مِنْ دُخُولِهِ مَكَّةَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لِقَوْلِهِ {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27] (وَنَصَرَ عَبْدَهُ) : - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (وَهَزَمَ الْأَحْزَابَ) : أَيْ الْمُشْرِكِينَ حِينَ تَحَزَّبُوا عَلَيْهِ بِالْمَدِينَةِ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ الرِّيحَ وَهِيَ الشَّرْقِيَّةُ وَيُقَالُ لَهَا الصَّبَا. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نُصِرْت بِالصَّبَا وَأُهْلِكَتْ عَادٌ بِالدَّبُورِ» وَهِيَ الْغَرْبِيَّةُ، وَقَوْلُهُ: (وَحْدَهُ) : بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ مِنْ فَاعِلِ نَصَرَ أَوْ هَزَمَ وَهُوَ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ الْعَائِدُ عَلَى اللَّهِ، وَلَا يَصِحُّ كَوْنُهُ مُتَنَازَعًا فِيهِ لَهُمَا؛ لِأَنَّ التَّنَازُعَ لَا يَقَعُ فِي الْحَالِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) : تَشْتَمِلُ عَلَى فَوَائِدَ مِنْهَا: بَيَانُ فَائِدَةِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] عَلَيْهِمَا الْمُشَارِ إلَيْهَا بِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَجَّ هَذَا الْبَيْتَ وَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» وَالرَّفَثُ الْجِمَاعُ وَقِيلَ الْفُحْشُ مِنْ الْقَوْلِ وَالْفُسُوقُ الْمَعَاصِي، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «الْعُمْرَةُ إلَى الْعُمْرَةِ كَفَّارَةٌ لِمَا بَيْنَهُمَا، وَالْحَجُّ الْمَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلَّا الْجَنَّةَ» . قَالَ الْحَافِظُ الْمَبْرُورُ: الَّذِي لَمْ يَتَعَمَّدْ فِيهِ صَاحِبُهُ مَعْصِيَةً، وَقَالَ عِيَاضٌ: هُوَ الَّذِي لَمْ يُخَالِطْهُ شَيْءٌ مِنْ الْمَأْثَمِ، وَيَتَعَذَّرُ وُقُوعُهُ بِهَذَيْنِ الْمَعْنَيَيْنِ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ كَمَا شَاهَدْنَاهُ، وَقِيلَ الْمَقْبُوضُ 1 - وَمِنْ عَلَامَاتِ الْقَبُولِ أَنْ يَزْدَادَ الشَّخْصُ بَعْدَ فِعْلِهِ خَيْرًا، وَقَوْلُهُ: «خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ» قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ: أَيْ صَارَ بِلَا ذَنْبٍ وَظَاهِرُهُ غُفْرَانُ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ وَالتَّبِعَاتِ، وَقَالَ الْأَبِيُّ قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: أَمَّا الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فَلَا يَهْدِمَانِ إلَّا الصَّغَائِرَ وَفِي هَدْمِهِمَا لِلْكَبَائِرِ نَظَرٌ. قَالَ الْأَبِيُّ: قُلْت الْأَظْهَرُ هَدْمُهَا ذَلِكَ، وَذَكَرَ الْقَرَافِيُّ أَنَّ الَّذِي يُسْقِطُهُ الْحَجُّ إثْمَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ التَّشْبِيهَ بِيَوْمِ الْوِلَادَةِ يَقْتَضِي سُقُوطَ تَبِعَاتِ الْعِبَادِ وَقَضَاءِ الصَّلَوَاتِ وَالْكَفَّارَاتِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَأَجَابَ بِأَنَّ لَفْظَ الذُّنُوبِ لَا يَتَنَاوَلُهَا؛ لِأَنَّ حُقُوقَ اللَّهِ وَحُقُوقَ عِبَادِهِ فِي الذِّمَّةِ لَيْسَتْ ذَنْبًا إنَّمَا الذَّنْبُ الْمَطْلُ فِيهِ، فَيَتَوَقَّفُ حَقُّ الْآدَمِيِّ عَلَى إسْقَاطِ صَاحِبِهِ، فَاَلَّذِي يُسْقِطُهُ الْحَجُّ إثْمَ مُخَالَفَةِ اللَّهِ فَقَطْ، وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْأَعْيَانَ الْمَغْصُوبَةَ لَيْسَتْ ذَنْبًا، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ أَخْذُهَا مِنْ مَالِكِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ وَحَبْسُهَا عَنْهُ، وَكَذَا أَعْيَانُ الصَّلَوَاتِ وَالزَّكَوَاتِ لَيْسَتْ ذُنُوبًا، وَإِنَّمَا الذَّنْبُ تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَجَّ يُسْقِطُ الصَّغَائِرَ اتِّفَاقًا وَكَذَا الْكَبَائِرُ عَلَى مَا قَالَهُ الْحَافِظُ وَالْأَبِيُّ، وَأَمَّا التَّبِعَاتُ كَالْغَيْبَةِ وَالْقَذْفِ وَالْقَتْلِ: فَعِنْدَ الْحَافِظِ تَسْقُطُ وَعِنْد الْقَرَافِيِّ لَا تَسْقُطُ، وَأَمَّا الصَّلَوَاتُ الْمُتَرَتِّبَةُ فِي الذِّمَّةِ وَالْكَفَّارَاتُ وَالدُّيُونُ وَالْوَدَائِعُ وَنَحْوُهَا مِنْ الْأَعْيَانِ الْمُسْتَحَقَّةِ لِلْغَيْرِ فَلَا تَسْقُطُ بِالْحَجِّ وَلَا غَيْرِهِ بِإِجْمَاعِ الشُّيُوخِ، نَعَمْ إذَا عَجَزَ عَنْ اسْتِحْلَالِ الْمُسْتَحِقِّ لِمَوْتِهِ أَوْ لِلْخَوْفِ مِنْهُ فَلْيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ يُرْجَى مِنْ كَرَمِهِ أَنْ يُرْضِيَ خَصْمَهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ الْفَوَائِدِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِمُرِيدِ الْحَجِّ إخْلَاصُ النِّيَّةِ فِي سَفَرِهِ لِتَكُونَ جَمِيعُ حَرَكَاتِهِ لِلَّهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَكْتُبَ وَصِيَّتَهُ قَبْلَ شُرُوعِهِ فِي السَّفَرِ، ثُمَّ يَنْظُرَ فِي أَمْرِ الزَّادِ وَمَا يُنْفِقُهُ فَيَكُونَ مِنْ أَطْيَبِ جِهَةٍ؛ لِأَنَّ الْحَلَالَ يُعِينُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُكَسِّلُ عَنْ الْمَعْصِيَةِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَكْثِيرُ الزَّادِ لِيُوَاسِيَ مِنْهُ الْمُحْتَاجَ إلَيْهِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ النَّفَقَةَ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي الْجِهَادِ بِسَبْعِينَ ضِعْفًا، وَلِهَذَا يُسْتَحَبُّ عَدَمُ الْمُشَارَكَةِ فِي الزَّادِ؛ لِأَنَّ شَرِيكَهُ رُبَّمَا يَمْتَنِعُ مِنْ فِعْلِ الْمَعْرُوفِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَطْلُبَ رَفِيقًا صَالِحًا يُعِينُهُ عَلَى الْخَيْرِ وَيَرَى لَهُ عَلَيْهِ الْفَضْلُ، فَإِنْ تَغَيَّرَ حَالُهُ مَعَهُ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَارِقَهُ لِيَذْهَبَ مِنْ بَيْنِهِمَا الْحِقْدُ وَالْغِلُّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَنْبَغِي التَّفْتِيشُ عَلَى الرَّفِيقِ الصَّالِحِ الْحَافِظِ لِدِينِهِ الْمُتَحَرِّي فِي عَمَلِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسَافِرَ يَوْمَ الْخَمِيسِ فَإِذَا فَاتَهُ فَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ وَالتَّبْكِيرُ أَحْسَنُ لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا خَرَجَ مِنْ سَفَرِهِ إلَّا يَوْمَ خَمِيسٍ أَوْ اثْنَيْنِ» وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إذَا خَرَجَ أَنْ يُصَلِّيَ رَكْعَتَيْنِ لِمَا فِي الطَّبَرَانِيِّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا خَلَّفَ أَحَدٌ عِنْدَ أَهْلِهِ أَفْضَلَ مِنْ رَكْعَتَيْنِ يَرْكَعُهُمَا عِنْدَهُمْ حِينَ يُرِيدُ سَفَرًا» أَوْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَقْرَأَ بَعْدَ سَلَامِهِ مِنْ الرَّكْعَتَيْنِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ وَلِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ثَلَاثًا لِلْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ السَّلَفِ، وَيَدْعُو مَعَ حُضُورِ قَلْبِهِ بِحُصُولِ مَا يَطْلُبُهُ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَبِالتَّوْفِيقِ وَالْإِعَانَةِ فِي سَفَرِهِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُوَدِّعَ أَهْلَهُ وَجِيرَانَهُ فَيَقُولُ كُلٌّ مِنْهُمَا لِلْآخَرِ: أَسْتَوْدِعُ اللَّهَ دِينَك وَأَمَانَتَك وَخَوَاتِيمَ عَمَلِك، زَوَّدَك اللَّهُ التَّقْوَى وَغَفَرَ لَك ذَنْبَك وَيَسَّرَ لَك الْخَيْرَ حَيْثُمَا كُنْت، وَيَقُولُ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ، لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ يُقَالُ لَهُ: هُدِيت وَكُفِيت وَوُقِيت» وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ أَيْضًا عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ مَنْزِلِهِ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ، أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ، أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ، أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» . وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَوْ بِالْقَلِيلِ عِنْدَ خُرُوجِهِ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ عِنْدَ الشُّرُوعِ فِي الْأُمُورِ وَلَا سِيَّمَا حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ إظْهَارُ الِانْكِسَارِ وَالتَّضَرُّعِ إلَى اللَّهِ بِالْأَدْعِيَةِ الصَّالِحَةِ، وَيُسْتَحَبُّ الْإِكْثَارُ مِنْ دُعَاءِ الْكَرْبِ هُنَا وَفِي كُلِّ مَوْطِنٍ وَهُوَ مَا صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَ الْكَرْبِ: «لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ الْعَظِيمُ الْحَلِيمُ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ» وَفِي التِّرْمِذِيِّ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا كَرَبَهُ أَمْرٌ قَالَ «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ بِرَحْمَتِك أَسْتَغِيثُ» . قَالَ الْحَاكِمُ: إسْنَادُهُ صَحِيحٌ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَتْرُكَ مَا يَفْعَلُهُ جَهَلَةُ الْعَوَامّ مِنْ تَزْيِينِ الْجِمَالِ وَالْمَحْمَلِ بِالْحَرِيرِ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يُرِيحَ دَابَّتَهُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ الْعَقَبَاتِ، وَلَا يُكْثِرُ النَّوْمَ عَلَيْهَا وَلَا يُحَمِّلُهَا مَا لَا تُطِيقُ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ عَدَمُ زِيَادَةِ التَّنَعُّمِ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ لِيَتَذَكَّرَ مَا يَئُولُ إلَيْهِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ الرِّفْقُ فِي أَمْرِهِ كُلِّهِ، وَيَجْتَنِبُ مَا يَفْعَلُهُ الْجَهَلَةُ مِنْ الْمُخَاصَمَةِ وَالْمُشَاتَمَةِ عِنْدَ الْمِيَاهِ، وَيَحْرُمُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَبَّارِينَ مِنْ مَنْعِهِمْ غَيْرَهُمْ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] تَمْضِيَ جِمَالُهُمْ، كَمَا يَحْرُمُ مَا يَفْعَلُهُ بَعْضُهُمْ مِنْ تَقْطِيعِ جِمَالِ النَّاسِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَلْيَسْتَحْضِرْ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَجَّ وَلَمْ يَرْفُثْ» الْحَدِيثَ الْمُتَقَدِّمَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُكْرَهُ اسْتِصْحَابُ الْكِلَابِ أَوْ الْجَرَسِ لِمَا صَحَّ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَصْحَبُ رُفْقَةً فِيهَا ذَلِكَ. قَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ: وَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أَبْرَأُ إلَيْك مِمَّا يَفْعَلُهُ هَؤُلَاءِ فَلَا تَحْرِمْنِي ثَمَرَةَ صُحْبَةِ مَلَائِكَتِك. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إذَا أَشْرَفَ عَلَى مَحَلِّ النُّزُولِ أَوْ عَلَى قَرْيَةٍ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك خَيْرَهَا وَخَيْرَ مَا فِيهَا، وَأَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا، وَإِذَا نَزَلَ فَلْيَقُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: مَنْ قَالَ ذَلِكَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ، وَإِذَا انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ قَالَ: يَا عِبَادَ اللَّهِ احْبِسُوا مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ حَاضِرٌ، وَإِذَا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ فَلْيَقُلْ: يَا أَرْضُ رَبِّي وَرَبُّك اللَّهُ، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ شَرِّك وَشَرِّ مَا خُلِقَ فِيك وَشَرِّ مَا يَدِبُّ عَلَيْك، أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْ أَسَدٍ وَأَسْوَدَ، وَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ، وَمِنْ سَاكِنِ الْبَلَدِ، وَمِنْ وَالِدٍ وَمَا وَلَدَ، رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَغَيْرُهُ. وَالْأَسْوَدُ الشَّخْصُ كَمَا قَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَسَاكِنُ الْبَلَدِ الْجِنُّ، وَالْبَلَدُ الْأَرْضُ الَّتِي صَارَتْ مَأْوَى لِلْحَيَوَانَاتِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا بِنَاءٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوَالِدِ إبْلِيسُ، وَبِمَا وَلَدَ الشَّيَاطِينُ، وَلْيُكْثِرْ مِنْ الدُّعَاءِ لَهُ وَلِوَالِدَيْهِ وَلِأَصْحَابِهِ فِي السَّفَرِ لِمَا صَحَّ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٍ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ الْمُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ» . وَلْيَحْذَرْ مِمَّا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنْ التَّيَمُّمِ مَعَ وُجُودِ الْمَاءِ الْكَثِيرِ مَعَهُ لِظَنِّهِ أَنَّ مُجَرَّدَ السَّفَرِ مَسْحٌ لِلتَّيَمُّمِ، بَلْ إنْ كَانَ مَعَهُ مَاءٌ فَإِنْ كَانَ فِي الرُّفْقَةِ مَنْ يَضْطَرُّ لَهُ وَيَعْجَزُ عَنْ الشِّرَاءِ يَجِبُ عَلَيْهِ بَذْلُهُ لَهُ وَيَتَيَمَّمُ، فَإِنْ لَمْ تَسْمَحْ نَفْسُهُ اسْتَعْمَلَهُ مَعَ إثْمِهِ بِتَرْكِ الْمُوَاسَاةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ تَحْصِيلًا لِلْفَائِدَةِ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرَعَ فِي أُمُورٍ لَا غِنَى لِلشَّخْصِ عَنْهَا عَادَةً فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 بَابٌ فِي الضَّحَايَا وَالذَّبَائِحِ وَالْعَقِيقَةِ وَالصَّيْدِ وَالْخِتَانِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ وَالْأُضْحِيَّةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَهَا. وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا مِنْ الْأَسْنَانِ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ وَهُوَ ابْنُ سَنَةٍ   [الفواكه الدواني] [بَاب فِي الضَّحَايَا وَالذَّبَائِح وَالْعَقِيقَة وَالصَّيْد وَالْخِتَان] بَابٌ فِي أَحْكَامِ الضَّحَايَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا شَرَعَ فِي أُمُورٍ لَا غِنَى لِلشَّخْصِ عَنْهَا عَادَةً فَقَالَ: وَمَنْ يَخْطُبُ بِهَا، وَمَا يُجْزِئُ مِنْهَا، وَمَكَانُهَا وَزَمَانُهَا، وَهِيَ جَمْعُ ضَحِيَّةٍ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: مَا تُقَرِّبَ بِذَكَاتِهِ مِنْ جَذَعِ ضَأْنٍ أَوْ ثَنِيِّ سَائِرِ النَّعَمِ سَلِيمَيْنِ مِنْ بَيْنِ عَيْبٍ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ فِي نَهَارِ عَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ أَوْ تَالِيَيْهِ بَعْدَ صَلَاةِ إمَامٍ عِيدَهُ لَهُ، وَقَدْرَ زَمَنِ ذَبْحِهِ لِغَيْرِهِ وَلَوْ تَحَرِّيًا لِغَيْرِ حَاضِرِهِ، وَقَوْلُهُ: مَشْرُوطًا حَالٌ مِنْ الْمُتَقَرِّبِ لِإِخْرَاجِ الْعَقِيقَةِ وَالْهَدْيِ وَالنُّسُكِ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِهَا بِالْوَقْتِ الْمَذْكُورِ، وَالضَّمِيرُ فِي عِيدِهِ يَرْجِعُ لِعَاشِرِ ذِي الْحِجَّةِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهُ عَائِدٌ عَلَى الْإِمَامِ. وَقَوْلُهُ: بَعْدَ صَلَاةِ إمَامٍ عِيدِهِ لَهُ كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ وَخُطْبَتُهُ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ لَا يَذْبَحُ إلَّا بَعْدَ خُطْبَتِهِ. (وَ) فِي أَحْكَامِ (الذَّبَائِحِ) جَمْعُ ذَبِيحَةٍ، وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَقَبٌ لِمَا يَحْرُمُ بَعْضُ أَفْرَادِهِ مِنْ الْحَيَوَانِ لِعَدَمِ ذَكَاتِهِ أَوْ سَلْبِهَا عَنْهُ، وَمَا يُبَاحُ بِهَا مَقْدُورًا عَلَيْهِ، وَقَوْلُهُ: لِعَدَمِ ذَكَاتِهِ أَيْ مِمَّا يَقْبَلُهَا، وَقَوْلُهُ: أَوْ سَلْبِهَا عَنْهُ أَيْ لِكَوْنِهِ مِمَّا لَا يَقْبَلُهَا كَالْخِنْزِيرِ. (وَ) فِي أَحْكَامِ (الْعَقِيقَةِ وَالصَّيْدِ وَالْخِتَانِ، وَمَا يَحْرُمُ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَالْأَشْرِبَةِ) ، وَمَا لَا يَحْرُمُ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَوْلَهُ: وَالْأَشْرِبَةِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْهَا، وَأَجَابَ بَعْضٌ آخَرُ بِأَنَّهُ أَرَادَ بِالْأَشْرِبَةِ الْمَائِعَاتِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ الْآتِي: وَمَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عَسَلٍ، وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي تَفْصِيلِ مَا تَرْجَمَ لَهُ، وَإِنْ لَمْ يَلْتَزِمْ التَّرْتِيبَ فَقَالَ: (وَالْأُضْحِيَّةُ) حُكْمُهَا أَنَّهَا (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أُمِرْت بِالْأُضْحِيَّةِ فَهِيَ لَكُمْ سُنَّةٌ» ، وَإِنَّمَا تُسَنُّ (عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَهَا) ، وَهُوَ مَنْ لَا يَحْتَاجُ إلَى ثَمَنِهَا فِي عَامِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: سُنَّ لِحُرٍّ غَيْرِ حَاجٍّ بِمِنًى ضَحِيَّةٌ لَا تُجْحِفُ، وَإِطْلَاقُ الْحُرِّ يَتَنَاوَلُ الصَّغِيرَ وَالْأُنْثَى الْمُقِيمَ وَالْمُسَافِرَ، وَلِذَا قَالَ: وَإِنْ يَتِيمًا؛ لِأَنَّ مَالِكًا - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمَّا سُئِلَ عَنْ التَّضْحِيَةِ عَنْ يَتِيمٍ لَهُ ثَلَاثُونَ دِينَارًا قَالَ: يُضَحِّي عَنْهُ وَرِزْقُهُ عَلَى اللَّهِ، وَبِقَوْلِهِ: غَيْرِ حَاجٍّ يَعْلَمُ طَلَبَهَا مِنْ غَيْرِهِ وَلَوْ مُقِيمًا بِمِنًى؛ لِأَنَّ سُنَّةَ الْحَاجِّ الْهَدْيُ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَهَا أَنَّهُ لَا يُطَالَبُ غَيْرُ الْمُسْتَطِيعِ بِتَسَلُّفِهَا بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ؛ لِأَنَّ تِلْكَ فَرْضٌ وَالضَّحِيَّةُ سُنَّةٌ، وَإِطْلَاقُ الْحُرِّ يَشْمَلُ الْكَافِرَ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ خِطَابِهِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ لِفَقْدِ الْإِسْلَامِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: عَلَى مَنْ اسْتَطَاعَهَا إجْمَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ يُخَاطَبُ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَقَطْ أَوْ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ؟ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْضًا زَمَنَ الْخِطَابِ بِهَا، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ بِفَضْلِ اللَّهِ - تَعَالَى - فَنَقُولُ: لَا شَكَّ فِي خِطَابِهِ عَنْ نَفْسِهِ، وَكَذَا عَنْ أَوْلَادِهِ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَعَلَى الرَّجُلِ أَنْ يُضَحِّيَ عَنْ أَوْلَادِهِ الصِّغَارِ الْفُقَرَاءِ الذُّكُورِ حَتَّى يَحْتَمِلُوا، وَالْإِنَاثِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهِنَّ الْأَزْوَاجُ، وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَيُضَحِّي عَنْ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهَا الرَّجُلُ عَنْ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ خُوطِبَ بِزَكَاةِ فِطْرِهَا؛ لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِلنَّفَقَةِ وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَدِّ الزَّكَاةَ عَمَّنْ تُمَوِّنْهُ» وَزَمَنُ الْخِطَابِ بِهَا هُوَ زَمَنُ فِعْلِهَا، وَهُوَ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ، فَكُلُّ مَنْ وُجِدَ أَوْ أَسْلَمَ فِيهَا مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ تُسَنُّ فِي حَقِّهِ وَلِأَجْلِهِ فَلَيْسَتْ كَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَفِي الْحَطَّابِ: وَيُقَاتَلُ أَهْلُ الْبَلَدِ عَلَى تَرْكِهَا كَمَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِ الْأَذَانِ وَالْجَمَاعَةِ بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدِ لَا يُقَاتَلُونَ عَلَى تَرْكِهَا، وَعِنْدِي وَقْفَةٌ فِي كَلَامِ الْحَطَّابِ إذْ يَبْعُدُ قِتَالُهُمْ عَلَى تَرْكِ الضَّحِيَّةِ وَعَدَمُ قِتَالِهِمْ عَلَى تَرْكِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لِسُنَّةِ الضَّحِيَّةِ وَفَرْضِيَّةِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ. الثَّانِي: فُهِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ كُلَّ مُسْتَطِيعٍ يُطْلَبُ بِضَحِيَّةٍ مُسْتَقِلَّةٍ، فَلَا يَجُوزُ التَّشْرِيكُ فِيهَا كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْعَوَامّ فِي الْأَرْيَافِ مِنْ شِرَائِهِمْ نَحْوَ الْجَامُوسَةِ وَيَذْبَحُونَهَا ضَحِيَّةً عَنْ جَمِيعِهِمْ فَهَذِهِ لَا تُجْزِئُ، وَأَجَازَهُ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ حَيْثُ لَمْ يَزِدْ عَدَدُهُمْ عَلَى سَبْعٍ، وَأَمَّا التَّشْرِيكُ فِي الْأَجْرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَهُ صُورَتَانِ إحْدَاهُمَا أَنْ يُشْرِكَ الْمُضَحِّي جَمَاعَةً مَعَهُ، وَهَذِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وَقِيلَ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ وَقِيلَ ابْنُ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ وَهُوَ مَا أَوْفَى سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ وَلَا يُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا مِنْ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إلَّا الثَّنِيُّ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ. وَفُحُولُ الضَّأْنِ فِي الضَّحَايَا أَفْضَلُ مِنْ خُصْيَانِهَا، وَخُصْيَانُهَا أَفْضَلُ مِنْ إنَاثِهَا، وَإِنَاثُهَا أَفْضَلُ مِنْ ذُكُورِ الْمَعْزِ، وَمِنْ إنَاثِهَا وَفُحُولُ الْمَعْزِ أَفْضَلُ مِنْ إنَاثِهَا، وَإِنَاثُ الْمَعْزِ أَفْضَلُ مِنْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي الضَّحَايَا، وَأَمَّا فِي الْهَدَايَا فَالْإِبِلُ أَفْضَلُ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ شُرُوطٍ: أَحَدِهَا أَنْ يَكُونَ الَّذِي أَشْرَكَهُ مَعَهُ قَرِيبًا لَهُ وَلَوْ حُكْمًا لِتَدْخُلَ الزَّوْجَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ، وَأَنْ يَكُونَ فِي نَفَقَتِهِ، وَأَنْ يَكُونَ سَاكِنًا مَعَهُ، وَإِنْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ تَبَرُّعًا كَأَخِيهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ عَمِّهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ وُجُوبًا فَيَكْفِي الشَّرْطَانِ الْأَوَّلَانِ. ثَانِيهِمَا: أَنْ يُشْرِكَ جَمَاعَةً فِي ضَحِيَّةٍ وَلَا يُدْخِلَ نَفْسَهُ مَعَهُمْ، وَهَذِهِ جَائِزَةٌ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الصُّورَتَيْنِ عَدَدٌ بَلْ وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعَةٍ، وَفَائِدَةُ التَّشْرِيكِ سُقُوطُ الضَّحِيَّةِ عَنْ الْجَمِيعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْرَكُ بِالْفَتْحِ مَلِيًّا، وَلَكِنْ لَا حَقَّ لِلْمُشْرَكِ بِالْفَتْحِ فِي اللَّحْمِ، وَأَمَّا لَوْ شَرَكَ مَعَهُ مَنْ لَمْ يَجُزْ تَشْرِيكُهُ فَإِنَّهَا لَا تُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. الثَّالِثِ: كَثِيرًا مَا يَقَعُ السُّؤَالُ عَنْ جَمَاعَةٍ مُشْتَرِكِينَ فِي الْمُؤْنَةِ، وَالْحُكْمُ فِيهِمْ أَنْ يُضَحِّيَ كُلُّ وَاحِدٍ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَا تُجْزِئُ وَاحِدَةٌ عَنْ الْجَمِيعِ؛ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي ذَاتِهَا، وَلَا يُشْرِكُ وَاحِدٌ مِنْهُمْ غَيْرَهُ فِيهَا، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ خَالِصِ مَالِهِ؛ لِعَدَمِ إنْفَاقِهِ عَلَيْهِ، نَعَمْ لِكُلِّ وَاحِدٍ إنْ اسْتَقَلَّ بِضَحِيَّةٍ أَنْ يُشْرِكَ صِغَارَ أَوْلَادِهِ وَزَوْجَاتِهِ فِي أَجْرِ ضَحِيَّتِهِ، وَيَنْبَغِي إنْ شَحَّ الْجَمِيعُ فِي تَضْحِيَةِ كُلِّ وَاحِدٍ شَاةٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنْ يُقَلِّدَ الشَّافِعِيَّ أَوْ أَبَا حَنِيفَةَ، وَتُجْزِئُ وَاحِدَةٌ عَنْهُمْ إنْ لَمْ يَزِيدُوا عَنْ سَبْعَةٍ. الرَّابِعِ: لَفْظِ أُضْحِيَّةٍ فِي كَلَامِهِ لَيْسَ مُفْرَدُ الضَّحَايَا كَمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ ذِكْرِهِ بَعْدَ لَفْظِ الضَّحَايَا، بَلْ هُوَ مُفْرَدٌ لِجَمْعٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ فِيهِ أَرْبَعَ لُغَاتٍ: إحْدَاهَا أُضْحِيَّةٌ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَكَسْرِهَا مَعَ سُكُونِ الضَّادِ، وَكَسْرِ الْحَاءِ وَشَدِّ الْيَاءِ فَهَاتَانِ لُغَتَانِ وَالْجَمْعُ فِيهِمَا أَضَاحِيُّ بِشَدِّ الْيَاءِ. وَثَالِثُهَا ضَحِيَّةٌ بِفَتْحِ الضَّادِ وَالْيَاءِ مُشَدَّدَةٌ وَجَمْعُهَا ضَحَايَا. وَرَابِعَتُهَا أَضْحَاةٌ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ، وَإِسْكَانِ الضَّادِ كَأَرْطَاةٍ وَأَرْطَى وَجَمْعُهَا أَضَاحٍ وَأَضْحَى، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تُذْبَحُ يَوْمَ الْأَضْحَى وَقْتَ الضُّحَى، وَسُمِّيَ الْيَوْمُ يَوْمَ الْأَضْحَى؛ لِأَجْلِ صَلَاةِ الْعِيدِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُضَحِّي مِنْهُ وَبَيَانِ سِنِّهِ فَقَالَ: (وَأَقَلُّ مَا يُجْزِئُ فِيهَا) أَيْ الضَّحِيَّةِ (مِنْ الْأَسْنَانِ الْجَذَعُ مِنْ الضَّأْنِ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ ابْنُ سَنَةٍ) بِأَنْ وَفَّاهَا وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ دُخُولًا تَامًّا، وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ. (وَقِيلَ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَشْهُرٍ) وَيُرْوَى عَنْ مَالِكٍ. (وَقِيلَ) هُوَ (ابْنُ عَشَرَةِ أَشْهُرٍ) ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ وَهْبٍ وَلِسَحْنُونٍ ابْنُ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ أَرْبَعَةٌ أَرْجَحُهَا أَوَّلُهَا كَمَا قَرَّرْنَا (وَ) أَمَّا أَقَلُّ مَا يُجْزِئُ مِنْ غَيْرِ الضَّأْنِ فَهُوَ (الثَّنِيُّ مِنْ الْمَعْزِ، وَهُوَ مَا أَوْفَى سَنَةً وَدَخَلَ فِي الثَّانِيَةِ) دُخُولًا بَيِّنًا كَالشَّهْرِ (وَ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ (لَا يُجْزِئُ فِي الضَّحَايَا مِنْ الْمَعْزِ وَالْبَقَرِ وَالْإِبِلِ إلَّا الثَّنِيُّ) هَذَا عَلَى سَائِرِ الْمَذَاهِبِ الْمُعَوَّلِ عَلَيْهَا لِمَا فِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تَذْبَحُوا إلَّا الْمُسِنَّةُ فَإِنْ عَسَرَ عَلَيْكُمْ فَاذْبَحُوا الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ» وَالْمُسِنَّةُ هِيَ الثَّنِيَّةُ. قَالَ الْعُلَمَاءُ: وَالسِّرُّ فِي إجْزَاءِ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ يَصِحُّ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَنَّ الْجَذَعَ مِنْ الضَّأْنِ أَنْ يُلَقَّحَ أَيْ يَحْمِلَ، وَلَا يَصِحُّ فِي جَذَعٍ غَيْرِهِ. قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: يُؤْخَذُ مِنْ إجْزَاءِ الْجَذَعِ مِنْ الضَّأْنِ أَحْرَوِيَّةُ إجْزَاءِ الثَّنِيِّ، وَمِنْ إجْزَاءِ ثَنِيِّ الْمَعْزِ عَدَمُ إجْزَاءِ جَذَعِهَا، وَلَمَّا كَانَ الثَّنِيُّ يَخْتَلِفُ سِنُّهُ بِاخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ قَالَ:. (وَالثَّنِيُّ مِنْ الْبَقَرِ مَا) أَوْفَى ثَلَاثَ سِنِينَ وَ (دَخَلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ وَالثَّنِيُّ مِنْ الْإِبِلِ ابْنُ سِتِّ سِنِينَ) وَالْمُرَادُ تَمَّ خَمْسَ سِنِينَ، وَدَخَلَ فِي السَّادِسَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ حَصْرِ الْمُصَنِّفِ الضَّحِيَّةَ فِي تِلْكَ الْأَنْوَاعِ عَدَمُ إجْزَائِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ، وَلَا مِنْ الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْوَحْشِيِّ وَالْإِنْسِيِّ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْأُمُّ وَحْشِيَّةً، وَالْأَبُ إنْسِيٌّ أَوْ عَكْسُهُ عَلَى الْمَذْهَبِ، كَمَا لَا زَكَاةَ فِي الْمُتَوَلِّدِ بَيْنَ الْإِنْسِيِّ وَالْوَحْشِيِّ وَالْهَدَايَا وَالْجَزَاءُ وَالْفِدْيَةُ مِثْلُ الضَّحَايَا فِي اشْتِرَاطِ ذَلِكَ وَفِي اشْتِرَاطِ السِّنِّ الْمَذْكُورِ. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا مَا يُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ حِكْمَةَ اخْتِلَافِ الْأَسْنَانِ، وَهُوَ اخْتِلَافُ أَمَدِ الْحَمْلِ، وَالْمُرَادُ السُّنُونَ الْقَمَرِيَّةُ لَا الشَّمْسِيَّةُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْأَفْضَلِ مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ بِقَوْلِهِ: (وَفُحُولُ الضَّأْنِ فِي الضَّحَايَا أَفْضَلُ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا (مِنْ خُصْيَانِهَا) لِطِيبِ لَحْمِ الْفَحْلِ، وَقِيلَ لِبَقَاءِ كَمَالِ خِلْقَتِهِ، وَمَحَلُّ الْفَضْلِ مَا لَمْ يَكُنْ الْخَصِيُّ أَسْمَنَ، وَإِلَّا كَانَ أَفْضَلَ. (وَخُصْيَانُهَا) أَيْ الضَّأْنِ (أَفْضَلُ مِنْ إنَاثِهَا) لِفَضْلِ الذُّكُورِ عَلَى الْإِنَاثِ، وَهَذَا فِي الْخَصِيِّ الْمَقْطُوعِ الذَّكَرِ قَائِمِ الْأُنْثَيَيْنِ، وَأَمَّا مَقْطُوعُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ فَتُكْرَهُ التَّضْحِيَةُ كَالْمَخْلُوقِ بِغَيْرِهِمَا. (وَإِنَاثُهَا) أَيْ الضَّأْنِ (أَفْضَلُ مِنْ ذُكُورِ الْمَعْزِ، وَ) أَوْلَى (مِنْ إنَاثِهَا) لِطِيبِ لَحْمِ الضَّأْنِ، وَفُحُولُ الْمَعْزِ أَفْضَلُ مِنْ خُصْيَانِهَا، وَخُصْيَانُهَا أَفْضَلُ مِنْ إنَاثِهَا. (وَإِنَاثُ الْمَعْزِ أَفْضَلُ مِنْ) جَمِيعِ (الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فِي الضَّحَايَا) وَذَكَرُهُمَا أَفْضَلُ مِنْ إنَاثِهِمَا عَلَى نَسَقِ مَا مَرَّ، فَالْمَرَاتِبُ اثْنَتَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 الْبَقَرُ ثُمَّ الضَّأْنُ ثُمَّ الْمَعْزُ. وَلَا يَجُوزُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ عَوْرَاءُ وَلَا مَرِيضَةٌ، وَلَا الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضِلْعُهَا، وَلَا الْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا شَحْمَ فِيهَا وَيُتَّقَى فِيهَا الْعَيْبُ كُلُّهُ وَلَا الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا، وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ، وَمَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إنْ كَانَ يُدْمِي فَلَا يَجُوزُ، وَإِنْ لَمْ يُدْمِ فَذَلِكَ جَائِزٌ. وَلْيَلِ الرَّجُلُ ذَبْحَ أُضْحِيَّتِهِ بِيَدِهِ. بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ أَوْ نَحْرِهِ يَوْمَ النَّحْرِ ضَحْوَةً   [الفواكه الدواني] عَشْرَةَ أَعْلَاهَا فَحْلُ الضَّأْنِ وَأَدْنَاهَا أُنْثَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ عَلَى الْخِلَافِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ نَوْعَيْ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْأَطْيَبِ لَحْمًا مِنْهُمَا. ثُمَّ بَيَّنَ مُحْتَرَزَ قَوْلِهِ فِي الضَّحَايَا بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا فِي الْهَدَايَا فَالْإِبِلُ أَفْضَلُ) ؛ لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ فِيهَا كَثْرَةُ اللَّحْمِ بِخِلَافِ الضَّحَايَا الْمَطْلُوبُ فِيهَا طِيبُ اللَّحْمِ (ثُمَّ) يَلِي الْإِبِلَ فِي الْفَضْلِ (الْبَقَرُ ثُمَّ) يَلِي الْبَقَرَ (الضَّأْنُ ثُمَّ الْمَعْزُ) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقَرْنَيْنِ ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ» . وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ضَحَّى بِكَبْشٍ أَقْرَنَ يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَبْرُكُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ» زَادَ النَّسَائِيُّ: «وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ» . وَرُوِيَ أَنَّ هَذِهِ كَانَتْ صِفَةُ الْكَبْشِ الَّذِي فَدَى بِهِ سَيِّدُنَا إبْرَاهِيمُ وَلَدَهُ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - مِنْ الذَّبْحِ، وَأَفْضَلُ الضَّحَايَا الْأَبْيَضُ الْأَقْرَنُ الْأَعْيَنُ الَّذِي يَمْشِي فِي سَوَادٍ، وَالْعُفْرُ الْمَذْكُورَةُ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ هِيَ الْبَيْضَاءُ، وَالْأَعْيَنُ الْمُرَادُ بِهِ الْوَاسِعُ الْعَيْنِ، وَالْأَمْلَحُ الَّذِي بَيَاضُهُ أَكْثَرُ مِنْ سَوَادِهِ أَوْ الَّذِي لَوْنُهُ كَلَوْنِ الْمِلْحِ، وَمَعْنَى يَطَأُ فِي سَوَادٍ وَيَأْكُلُ فِي سَوَادٍ وَيَنْظُرُ فِي سَوَادٍ أَنَّ قَوَائِمَهُ وَبَطْنَهُ، وَمَا حَوْلَ عَيْنَيْهِ أَسْوَدُ. وَلَمَّا بَيَّنَ السِّنَّ الْمُجْزِئَ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْعُيُوبِ الَّتِي تَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تُجْزِئُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا (عَوْرَاءُ) بِالْمَدِّ، وَهِيَ فَاقِدَةُ جَمِيعِ أَوْ مُعْظَمِ نُورِ إحْدَى عَيْنَيْهَا، وَلَوْ بَقِيَتْ الْحَدَقَةُ، وَأَحْرَى فِي عَدَمِ الْإِجْزَاءِ الْعَمْيَاءُ، وَلَوْ كَانَتْ سَمِينَةً. (وَلَا) يُجْزِئُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا (مَرِيضَةٌ) مَرَضًا بَيِّنًا، وَهُوَ الَّذِي لَا تَتَصَرَّفُ مَعَهُ تَصَرُّفَ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّ الْمَرَضَ الْبَيِّنَ يُفْسِدُ اللَّحْمَ، وَمِنْهُ الْجَرَبُ الْكَثِيرُ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالْأَكْلِ (وَلَا) يُجْزِئُ أَيْضًا (الْعَرْجَاءُ) بِالْمَدِّ (الْبَيِّنُ) أَيْ الْفَاحِشُ (ضِلْعُهَا) يُرْوَى بِالضَّادِ وَالظَّاءِ أَيْ عَرَجُهَا بِحَيْثُ لَا تَلْحَقُ الْغَنَمَ (وَلَا) يُجْزِئُ أَيْضًا (الْعَجْفَاءُ) بِالْمَدِّ وَفَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: (الَّتِي لَا شَحْمَ فِيهَا) لِشِدَّةِ هُزَالِهَا وَالْأَكْثَرُ تَفْسِيرُهَا بِأَنَّهَا الَّتِي لَا مُخَّ فِي عِظَامِهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا كَانَ فِي عِظَامِهَا مُخٌّ تُجْزِئُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَحْمٌ، وَهَذِهِ الْعُيُوبُ الْأَرْبَعَةُ مُجْمَعٌ عَلَى وُجُوبِ اتِّقَائِهَا لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يُتَّقَى فِي الضَّحَايَا فَأَشَارَ بِيَدِهِ، وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ضِلْعُهَا وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنَقَّى أَيْ لَا مُخَّ فِي عِظَامِهَا لِشِدَّةِ هُزَالِهَا. قَالَهُ أَهْلُ اللُّغَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَطْلُوبُ سَلَامَةَ الضَّحِيَّةِ وَنَحْوِهَا مِنْ عَقِيقَةٍ، وَهَدْيٍ وَجَزَاءٍ وَفِدْيَةٍ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ لَا خُصُوصِ مَا سَبَقَ قَالَ: (وَ) كَذَلِكَ (يُتَّقَى فِيهَا) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ الضَّحَايَا وَالْهَدَايَا (الْعَيْبُ كُلُّهُ) وُجُوبًا حَيْثُ كَانَ فَاحِشًا كَالْجُنُونِ، وَهُوَ فَقْدُ الْإِلْهَامِ، وَالْبَشَمُ، وَهُوَ التُّخَمَةُ الَّتِي تَحْصُلُ لِلْحَيَوَانِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ، وَكَذَا نَقْصُ جُزْءٍ غَيْرِ خَصِيِّهِ، وَمِنْهُ صِغَرُ الْأُذُنِ الْفَاحِشُ، وَهِيَ الصَّمَّاءُ، وَيُقَالُ لَهَا عِنْدَ الْعَامَّةِ الْمَلْصَاءُ بِخِلَافِ صِغَرِ الْأُذُنِ الْخَفِيفِ، وَتُعْرَفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْكَرْتَاءِ فَلَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ. وَمِثْلُهُ لَوْ قُطِعَ مِنْ أُذُنِهَا الثُّلُثُ فَأَقَلُّ بِخِلَافِ الزَّائِدِ عَلَى الثُّلُثِ فَإِنَّهُ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَمِمَّا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ الْبَتْرُ، وَهُوَ عَدَمُ الذَّنَبِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضٍ مِنْهُ إنْ كَانَ لَهُ بَالٌ، وَلَوْ الثُّلُثُ فَأَقَلُّ مِنْ الثُّلُثِ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ ثُلُثِ الذَّنَبِ وَثُلُثِ الْأُذُنِ أَنَّ الذَّنَبَ مُشْتَمِلٌ عَلَى لَحْمٍ وَشَحْمٍ، بِخِلَافِ الْأُذُنِ فَإِنَّهَا مَحْضُ جِلْدٍ، وَهَذَا فِي ذَنَبِ الْغَنَمِ الَّتِي لَهَا لِيَّةٌ كَبِيرَةٌ، وَأَمَّا نَحْوُ الثَّوْرِ وَالْجَمَلِ وَالْغَنَمِ فِي بَعْضِ الْبِلَادِ مِمَّا لَا لَحْمَ، وَلَا شَحْمَ فِي ذَنَبِهِ فَاَلَّذِي يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ مِنْهُ مَا يُنْقِصُ الْجَمَالَ، وَلَا يَتَقَيَّدُ بِالثُّلُثِ، وَمِمَّا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ الْبَخَرُ، وَهُوَ تَغَيُّرُ رَائِحَةِ الْفَمِ لِتَنْقِيصِهِ الْجَمَالِ وَتَغْيِيرِهِ اللَّحْمِ حَيْثُ كَانَ عَارِضًا لَا مَا كَانَ أَصْلِيًّا. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَارِضَ نَشَأَ عَنْ مَرَضٍ بِبَاطِنِ الْحَيَوَانِ، وَمِمَّا يَمْنَعُ أَيْضًا الْإِجْزَاءَ الْبُكْمُ، وَهُوَ فَقْدُ الصَّوْتِ مِنْ الْحَيَوَانِ إلَّا لِعَارِضٍ كَالنَّاقَةِ بَعْدَ حَمْلِهَا فَلَا يَضُرُّ، وَمِمَّا يَضُرُّ أَيْضًا عَدَمُ اللَّبَنِ بِخِلَافِ قِلَّتِهِ فَلَا تَمْنَعُ، وَمِمَّا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ شَقُّ الْأُذُنِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنُ إلَّا أَنْ يَكُونَ) الشَّقُّ (يَسِيرًا) بِأَنْ يَكُونَ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ فَلَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَلَمَّا كَانَ الْقَطْعُ أَشَدَّ مِنْ الشَّقِّ فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مَنْعُهُ الْإِجْزَاءَ مُطْلَقًا قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْقَطْعُ) مِثْلُ الشَّقِّ فِي مَنْعِهِ الْإِجْزَاءِ إنْ كَثُرَ بِأَنْ زَادَ عَلَى الثُّلُثِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ شَقَّ الْأُذُنِ كَقَطْعِهَا فَإِنْ كَانَ الْمَشْقُوقُ أَوْ الْمَقْطُوعُ زَائِدًا عَلَى الثُّلُثِ مَنَعَ الْإِجْزَاءَ، وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ فِي الْأُذُنِ مِنْ حَيِّزِ الْيَسِيرِ، بِخِلَافِ الذَّنَبِ فَإِنَّ الثُّلُثَ كَثِيرٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْفَرْقَ، وَمِمَّا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ كَسْرُ الْقَرْنِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَ) كَذَلِكَ (مَكْسُورَةُ الْقَرْنِ إنْ كَانَ) قَرْنُهَا (يُدْمِي) أَيْ لَمْ يَبْرَأْ (فَلَا يَجُوزُ) ذَبْحُهَا ضَحِيَّةً، وَلَا هَدْيًا. (وَ) مَفْهُومُ يُدْمِي (إنْ لَمْ يُدْمِ) بِأَنْ بَرِئَ (فَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ تَضْحِيَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (جَائِزٌ) ، وَلَوْ انْكَسَرَ مِنْ أَصْلِهِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَمِنْ لَازِمِ الْجَوَازِ الْإِجْزَاءُ؛ لِأَنَّ ذَهَابَ الْقَرْنِ لَيْسَ نَقْصًا فِي الْخِلْقَةِ، وَلَا فِي اللَّحْمِ، إذْ لَا خِلَافَ فِي إجْزَاءِ الْجَمَّاءِ الَّتِي لَا قَرْنَ لَهَا بِالْأَصَالَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ أَوْ يَنْحَرَ أَعَادَ أُضْحِيَّتَهُ وَمَنْ لَا إمَامَ لَهُمْ فَلْيَتَحَرَّوْا صَلَاةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إلَيْهِمْ وَذَبْحَهُ. وَمَنْ   [الفواكه الدواني] وَمَفْهُومُ الْقَرْنِ أَنَّ كَسْرَ نَحْوِ الرِّجْلِ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ بِالْأَوْلَى. وَأَمَّا مَكْسُورَةُ السِّنِّ أَوْ مَقْلُوعَتُهَا فَفِيهَا تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ أَنَّ فَقْدَ الْوَاحِدَةِ وَأَوْلَى كَسْرُهَا لِغَيْرِ إثْغَارٍ، وَلِغَيْرِ كِبَرٍ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَذَهَابُ الِاثْنَيْنِ كَغَيْرِهِمَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ عَلَى الرَّاجِحِ، وَإِمَّا لِإِثْغَارٍ أَوْ كِبَرٍ فَلَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ، وَلَوْ الْجَمِيعُ، وَأَمَّا الْعُيُوبُ غَيْرُ الْفَاحِشَةِ فَالسَّلَامَةُ مِنْهَا مَنْدُوبَةٌ فِي الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا بِأَنْ لَا تَكُونَ خَرْقَاءَ حَيْثُ كَانَ الثُّلُثُ فَأَقَلُّ، وَأَنْ لَا تَكُونَ مُقَابَلَةً، وَهِيَ الْمَقْطُوعَةُ بَعْضِ الْأُذُنِ وَيُتْرَكُ الْمَقْطُوعُ مُعَلَّقًا قِبَلَ وَجْهِهَا فَإِنْ كَانَ مُؤَخَّرًا فَهِيَ الْمُدَابَرَةُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ شَرْقَاءُ، وَهُوَ الْمَشْقُوقَةُ الْأُذُنِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ حَسَنَةَ الصُّورَةِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ أَنْ تَكُونَ سَمِينَةً، وَأَنْ تَكُونَ بَيْضَاءَ وَقَرْنَاءَ كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا قَدَّمْنَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِتَذْكِيَتِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلْيَلِ الرَّجُلُ) أَيْ الْمُضَحِّي مُطْلَقًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (ذَبْحَ) الْمُرَادُ تَذْكِيَتَهُ (أُضْحِيَّتِهِ) أَوْ هَدْيِهِ أَوْ فِدْيَتِهِ (بِيَدِهِ) ، وَلَوْ كَانَ صَغِيرًا فَإِنْ لَمْ يُطِقْ إلَّا بِمُعِينٍ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ، وَإِنَّمَا نُدِبَتْ مُبَاشَرَةُ الذَّكَاةِ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَذْبَحُ أُضْحِيَّتَهُ بِيَدِهِ، وَلِمَا فِيهِ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَلِذَلِكَ تُكْرَهُ الِاسْتِنَابَةُ عَلَى ذَلِكَ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ الْمُبَاشَرَةَ صَحَّ إنَابَتُهُ مُسْلِمًا صَالِحًا، فَإِنْ، وَكَّلَ تَارِكَ الصَّلَاةِ صَحَّتْ ضَحِيَّتُهُ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِنْ، وَكَّلَ كَافِرًا لَمْ تَصِحَّ، وَلَوْ كِتَابِيًّا وَتَصِيرُ شَاةَ لَحْمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كِتَابِيًّا لَمْ تُؤْكَلْ، وَإِنْ كَانَ كِتَابِيًّا حَلَّ أَكْلُهَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ إنَابَةٌ بِلَفْظٍ إنْ أَسْلَمَ، وَلَوْ لَمْ يُصَلِّ أَوْ نَوَى عَنْ نَفْسِهِ أَوْ بِعَادَةٍ كَقَرِيبٍ، وَإِلَّا فَتَرَدُّدٌ لَا إنْ غَلِطَ فَلَا تُجْزِئُ عَنْ أَحَدِهِمَا. ثُمَّ بَيَّنَ زَمَنَ ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: (بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ) مَا يُذْبَحُ (أَوْ نَحْرِهِ) مَا يُنْحَرُ حَيْثُ كَانَ الذَّبْحُ (فِي) أَوَّلِ (يَوْمٍ) مِنْ أَيَّامِ (النَّحْرِ ضَحْوَةً) ، وَهُوَ وَقْتُ حِلِّ النَّافِلَةِ، وَهَذَا أَوَّلُ وَقْتِهَا لِغَيْرِ الْإِمَامِ، وَأَمَّا أَوَّلُ وَقْتِهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ فَبَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ صَلَاتِهِ وَخُطْبَتِهِ، وَالرَّاجِحُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِمَامِ إمَامُ الصَّلَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إمَامُ الطَّاعَةِ أَخْرَجَ أُضْحِيَّتَهُ فَيَكُونُ الْمُعْتَبَرُ ذَبْحَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] فَإِنَّ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ ذَبَحُوا قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَيَّدْنَا بِالضَّحِيَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْهَدْيِ فَلَا يَتَقَيَّدُ بِكَوْنِهِ بَعْدَ ذَبْحِ إمَامٍ؛ لِأَنَّ الْحَاجَّ لَا يُصَلِّي الْعِيدَ، وَمَفْهُومُ قَوْلِنَا أَوَّلَ يَوْمٍ أَنَّ مَا عَدَاهُ مِنْ الْيَوْمِ الثَّانِي وَالثَّالِثِ لَا يُرَاعَى قَدْرُ زَمَنِ ذَبْحِ الْإِمَامِ، بَلْ يَدْخُلُ وَقْتُ الذَّبْحِ أَوْ النَّحْرِ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ التَّأْخِيرُ لِحِلِّ النَّافِلَةِ. (تَنْبِيهٌ) إذَا عَلِمَ أَنَّ ذَبْحَ غَيْرِ الْإِمَامِ مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ فَيُسْتَحَبُّ لَهُ حِينَئِذٍ أَنْ يُبْرِزَ أُضْحِيَّتَهُ لِلْمُصَلَّى لِيَرَى النَّاسُ ذَبْحَهُ فَإِنْ لَمْ يُبْرِزْهَا فَسَيَأْتِي بَيَانُ حُكْمِهِ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا قَبْلَهُ قَوْلَهُ: (، وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ أَنْ يَذْبَحَ الْإِمَامُ أَوْ) قَبْلَ أَنْ (يَنْحَرَ أَعَادَ أُضْحِيَّتَهُ) لِشَرْطِيَّةِ تَأْخِيرِ ذَبْحِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ، سَوَاءٌ كَانَ صَلَّى الْعِيدَ مَعَ الْإِمَامِ أَمْ لَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْإِمَامُ أَخْرَجَ الضَّحِيَّةَ إلَى الْمُصَلَّى، سَوَاءٌ عَلِمَ الَّذِي ذَبَحَ قَبْلَهُ بِإِبْرَازِهَا أَوْ لَا، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ أَخْرَجَ أُضْحِيَّتَهُ إلَى الْمُصَلَّى فَإِنَّ غَيْرَهُ يَتَحَرَّى قَدْرَ ذَبْحِهِ بِمَنْزِلَةٍ وَيَذْبَحُ وَيُجْزِئُهُ ذَبْحُهُ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ ذَبَحَ قَبْلَهُ حَيْثُ كَانَ عَدِمَ ذَبْحَ الْإِمَامِ بَعْدَ وُصُولِهِ إلَى مَنْزِلِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَدِمَ مُبَادَرَتَهُ إلَى الذَّبْحِ لِعُذْرٍ كَاشْتِغَالِهِ بِقِتَالِ عَدُوٍّ وَنَحْوِهِ فَإِنَّهُ يَنْتَظِرُ ذَبْحَهُ إلَى أَنْ يَبْقَى لِلزَّوَالِ قَدْرَ ذَبْحِهِ فَيَذْبَحُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ أَنَّ التَّحَرِّيَ لِذَبْحِ الْإِمَامِ إنَّمَا هُوَ حَيْثُ لَمْ يُبْرِزْ أُضْحِيَّتَهُ، وَأَمَّا لَوْ أَبْرَزَهَا فَلَا يُعْتَبَرُ التَّحَرِّي مِنْ أَحَدٍ، وَلَا بُدَّ مِنْ إعَادَةِ الضَّحِيَّةِ حَيْثُ بَانَ السَّبْقُ صَلَّى السَّابِقُ مَعَ الْإِمَامِ أَمْ لَا، عَلِمَ إبْرَازَ الْإِمَامِ أَمْ لَا. الثَّانِي: مَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَمَنْ ذَبَحَ قَبْلَ إلَخْ يَقْتَضِي أَنَّ الذَّابِحَ مَعَهُ يَصِحُّ ذَبْحُهُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ الْمُسَاوَاةُ كَالسَّبْقِ، وَمِثْلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ قَوْلُ خَلِيلٍ وَأَعَادَ سَابِقُهُ إلَّا الْمُتَحَرِّيَ أَقْرَبَ إمَامٍ فَإِنْ لَمْ يُبْرِزْهَا وَتَوَانَى بِلَا عُذْرٍ قَدْرَهُ وَبِهِ انْتَظَرَ لِلزَّوَالِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ التَّأْخِيرُ عَنْ فِعْلِ الْإِمَامِ كَوُجُوبِ تَأْخِيرِ الْإِحْرَامِ وَالسَّلَامِ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ وَخَلِيلٌ: وَمَنْ ذَبَحَ مَعَ الْإِمَامِ أَعَادَ لَفُهِمَ مِنْهُ إعَادَةُ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَهُ بِالْأَوْلَى ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَبْحِ مَنْ لَهُ إمَامٌ شَرَعَ فِي وَقْتِ ذَبْحِ مَنْ لَا إمَامَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ لَا إمَامَ لَهُمْ) فِي صَلَاةِ الْعِيدِ (فَلْيَتَحَرَّوْا صَلَاةَ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إلَيْهِمْ وَذَبْحَهُ) بَعْدَ خُطْبَتِهِ، وَإِذَا تَحَرَّوْا وَبَانَ سَبْقُهُمْ لَهُ أَجْزَأَهُمْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَعَادَ سَابِقُهُ إلَّا الْمُتَحَرِّيَ أَقْرَبَ إمَامٍ أَيْ فَلَا يُعِيدُ، وَحَدَّ بَعْضُهُمْ الْقُرْبَ بِثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ مِنْ الْمَنَارِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَأْتِي لِصَلَاةِ الْعِيدِ مِنْهُ، وَأَمَّا مَا بَعُدَ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَمْيَالِ فَلَا يَلْزَمُهُ اتِّبَاعُهُ؛ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ تَبَعٌ لِلصَّلَاةِ. (تَنْبِيهٌ) بَقِيَ عَلَى الْمُصَنِّفِ مَنْ لَهُمْ إمَامٌ، وَلَيْسَ لَهُ أُضْحِيَّةٌ وَيَظْهَرُ أَنْ يَتَحَرَّوْا وَقْتَ فَرَاغِ ذَبْحِهِ بَعْدَ خُطْبَتِهِ وَصَلَاتِهِ أَنْ لَوْ كَانَ لَهُ أُضْحِيَّةٌ، وَكَذَا مَنْ لَيْسَ لَهُمْ إمَامٌ، وَلَيْسَ هُنَاكَ مَنْ يَتَحَرَّوْا ذَبْحَهُ يَجِبُ عَلَيْهِمْ أَنْ يَتَحَرَّوْا ذَبْحَ إمَامِهِمْ إنْ لَوْ كَانَ لَهُمْ إمَامٌ بَلْ هُوَ الْأَوْلَى بِالتَّحَرِّي، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ اكْتَفَى بِذَبْحِ مَنْ تَحَرَّى فِي مَحَلِّهِ وَتَبَيَّنَ سَبْقُهُ، وَلَمْ يَكْتَفِ بِصَلَاةِ أَوْ صَوْمِ مَنْ تَحَرَّى وَتَبَيَّنَ سَبْقُهُ لِلْفَجْرِ أَوْ لِزَمَنِ الصَّوْمِ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 ضَحَّى بِلَيْلٍ أَوْ أَهْدَى لَمْ يُجْزِهِ وَأَيَّامُ النَّحْرِ ثَلَاثَةٌ يُذْبَحُ فِيهَا أَوْ يُنْحَرُ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهَا وَأَفْضَلُ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوَّلُهَا وَمَنْ فَاتَهُ الذَّبْحُ فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى الزَّوَالِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ إلَى ضُحَى الْيَوْمِ الثَّانِي وَلَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ جِلْدٌ وَلَا غَيْرُهُ. وَتُوَجَّهُ الذَّبِيحَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ إلَى الْقِبْلَةِ. وَلْيَقُلْ الذَّابِحُ بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ   [الفواكه الدواني] فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْوَقْتَ لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ شَرْطٌ وَالْمَشْرُوطُ لَا يَصِحُّ بِدُونِ شَرْطِهِ، وَقِيلَ؛ لِأَنَّ الضَّحِيَّةَ مَالٌ، وَإِخْرَاجُهُ مِمَّا يَشُقُّ عَلَى النَّفْسِ غَالِبًا. ، وَلَمَّا كَانَ النَّهَارُ شَرْطًا فِي ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ، وَمَا مَاثَلَهَا فِي الشُّرُوطِ مِنْ الْهَدَايَا وَالْجَزَاءِ قَالَ: (وَمَنْ ضَحَّى) أَيْ ذَبَحَ (بِلَيْلٍ أَوْ أَهْدَى) أَوْ ذَبَحَ الْجَزَاءَ (لَمْ يُجْزِهِ) ؛ لِأَنَّ النَّهَارَ شَرْطٌ فِيهَا، وَالْمُرَادُ بِاللَّيْلِ هُنَا مِنْ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى طُلُوعِ الْفَجْرِ، وَبِالنَّهَارِ مَا بَعْدَ الْفَجْرِ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى ثَانِي النَّحْرِ وَثَالِثِهِ، وَأَمَّا الْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَأَوَّلُهُ بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ أَوْ تَحَرِّي ذَبْحِهِ عَلَى مَا مَرَّ، فَمَنْ ضَحَّى فِي الْيَوْمِ الثَّانِي أَوْ الثَّالِثِ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ كَانَ الْأَفْضَلُ التَّأْخِيرَ لِحِلِّ النَّافِلَةِ، بِخِلَافِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى شَرْطِيَّةِ النَّهَارِ مَا قِيلَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «، وَمَنْ ضَحَّى بِلَيْلٍ فَلْيُعِدْ» ، وَلَمْ يُرْوَ عَنْهُ أَيْضًا الذَّبْحُ لِهَدْيٍ، وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الْقُرْبِ فِي غَيْرِ النَّهَارِ، وَلِأَنَّ الْقَصْدَ إظْهَارُ الشَّعَائِرِ، وَأَيْضًا لَوْ ذَبَحَ الْهَدْيَ أَوْ الْجَزَاءَ لَيْلًا قَدْ لَا يَجِدُ الْمَسَاكِينَ فَيَفْسُدُ اللَّحْمُ بِتَأْخِيرِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ عِدَّةِ أَيَّامِ النَّحْرِ بِقَوْلِهِ: (وَأَيَّامُ النَّحْرِ) أَيْ الذَّبْحِ لِلضَّحِيَّةِ (ثَلَاثَةٌ) الْيَوْمُ الْأَوَّلُ وَتَالِيَاهُ يَجُوزُ أَنْ (يَذْبَحَ فِيهَا أَوْ يَنْحَرَ إلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ مِنْ آخِرِهَا) عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَرَدَّ بِقَوْلِهِ ثَلَاثَةً عَلَى الشَّافِعِيِّ حَيْثُ قَالَ: أَيَّامُ النَّحْرِ أَرْبَعَةٌ، وَقَوْلُنَا لِلضَّحِيَّةِ احْتِرَازًا مِنْ الْهَدَايَا، وَمَا فِي حُكْمِهَا فَإِنَّ وَقْتَ ذَبْحِهَا بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ يَوْمَ الْعِيدِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ الْحَجِّ (تَنْبِيهٌ) تَعَرَّضَ الْمُصَنِّفُ لِغَايَةِ الذَّبْحِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ هُنَا لِوَقْتِ الِابْتِدَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ مِمَّا سَبَقَ، وَقَدْ وَضَّحْنَاهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْإِمَامِ، وَلِغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ إمَامٌ، وَمَنْ لَا إمَامَ لَهُ فَرَاجِعْهُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الذَّبْحَ فِي الثَّلَاثَةِ مُسْتَوْفَى الْفَضْلِ قَالَ: (وَأَفْضَلُ أَيَّامِ النَّحْرِ أَوَّلُهَا) اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ، وَلِأَنَّ فِيهِ الْمُبَادَرَةَ لِلْقُرْبَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ابْتِدَاءَهُ فِي حَقِّ الْإِمَامِ بَعْدَ فَرَاغِهِ مِنْ خُطْبَتِهِ بَعْدَ صَلَاتِهِ وَفِي حَقِّ غَيْرِهِ بَعْدَ ذَبْحِ الْإِمَامِ، ، وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ بَيْنَ أَفْضَلِيَّةِ أَوَّلِ الثَّانِي وَآخِرِ الْأَوَّلِ قَالَ: (وَمَنْ فَاتَهُ الذَّبْحُ) أَوْ النَّحْرُ لِأُضْحِيَّتِهِ (فِي الْيَوْمِ الْأَوَّلِ إلَى) دُخُولِ (الزَّوَالِ فَقَدْ قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ) ، وَهُوَ ابْنُ حَبِيبٍ (يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَصْبِرَ) مِنْ غَيْرِ ذَبْحٍ (إلَى ضُحَى الْيَوْمِ الثَّانِي) وَقِيلَ: لَا يُسْتَحَبُّ لِفَضْلِ جَمِيعِ الْأَوَّلِ عَلَى أَوَّلِ الثَّانِي، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَرَجَّحَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَالْيَوْمُ الْأَوَّلُ فَجَزَمَ بِأَنَّ الْأَوَّلَ بِتَمَامِهِ أَفْضَلُ مِنْ الثَّانِي حَتَّى أَنْكَرَ الْقَابِسِيُّ رِوَايَةَ ابْنِ حَبِيبٍ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الرَّاجِحَ أَفْضَلِيَّةُ أَوَّلِ يَوْمٍ بِتَمَامِهِ عَلَى تَالِيَيْهِ، وَضَعُفَ قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَيُعْلَمُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ أَوَّلَ الثَّانِي مِنْ فَجْرِهِ إلَى زَوَالِهِ أَفْضَلُ مِنْ بَقِيَّةِ أَيَّامِ النَّحْرِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ بَيْنَ آخِرِ الثَّانِي وَأَوَّلِ الثَّالِثِ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَفِي أَفْضَلِيَّةِ أَوَّلِ الثَّالِثِ عَلَى آخِرِ الثَّانِي تَرَدُّدٌ، ، وَلَمَّا كَانَتْ الضَّحِيَّةُ قُرْبَةً، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَجُوزُ دَفْعُهُ بِعِوَضٍ قَالَ: (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ (يُبَاعَ شَيْءٌ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ جِلْدٌ، وَلَا غَيْرُهُ) ، وَلَا يَشْتَرِي بِشَيْءٍ مِنْهَا نَحْوَ مَاعُونٍ لِخُرُوجِهَا قُرْبَةً، وَهِيَ لَا يُعَاوَضُ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا أَبَاحَ اللَّهُ الِانْتِفَاعَ بِهَا مِنْ أَكْلٍ وَصَدَقَةٍ، وَلَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهَا ذُبِحَتْ قَبْلَ الْإِمَامِ بِحَيْثُ لَا تُجْزِئُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ الْبَيْعُ، وَإِنْ ذَبَحَ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ تَعَيَّبَتْ حَالَةَ الذَّبْحِ أَوْ قَبْلَهُ أَوْ ذَبَحَ مَعِيبًا جَهْلًا، وَمِثْلُ الضَّحِيَّةِ الْهَدْيُ وَالْفِدْيَةُ وَالْعَقِيقَةُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: بَنَى يُبَاعُ لِلْمَجْهُولِ، وَهُوَ يُوهِمُ حُرْمَةَ بَيْعِهَا، وَلَوْ مِنْ الْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَجُوزُ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بَيْعُهَا، وَلَوْ عَلِمَ الْمُتَصَدِّقُ بِالْكَسْرِ أَنَّ الْمِسْكِينَ يَبِيعُهَا، وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَكَذَلِكَ الْمُهْدَى لَهُ لِوَجْهِهِ فَلَا مَفْهُومَ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْبَيْعِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ الْفَسْخُ إنْ كَانَ الشَّيْءُ الْمُبَاعُ قَائِمًا، وَأَمَّا لَوْ فَاتَ فَإِنَّهُ يَجِبُ التَّصَدُّقُ بِالْعِوَضِ أَوْ بِبَدَلِهِ إنْ فَاتَ حَيْثُ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُضَحِّي أَوْ غَيْرُهُ بِإِذْنِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ حَيْثُ صَرَفَ الْعِوَضَ فِيمَا يَلْزَمُ الْمُضَحِّيَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْبَائِعُ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَصَرَفَهُ الْبَائِعُ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْمُضَحِّي، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَكَمَا يَجِبُ عَلَى الْمُضَحِّي التَّصَدُّقُ بِالْعِوَضِ كَمَا ذَكَرْنَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّصَدُّقُ بِأَرْشِ عَيْبٍ رَجَعَ بِهِ عَلَى بَائِعِ الضَّحِيَّةِ بَعْدَ تَعْيِينِهَا بِنَذْرٍ أَوْ ذَبْحٍ حَيْثُ كَانَ لَا يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ لِظُهُورِ كَوْنِهَا خَرْقَاءَ أَوْ شَرْقَاءَ، وَأَمَّا أَرْشُ عَيْبٍ يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ فَالتَّصَدُّقُ بِهِ مُسْتَحَبٌّ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ بَدَلَهَا. الثَّالِثُ: لَوْ فَعَلَ بِأُضْحِيَّتِهِ سَنَةَ عُرْسِهِ أَجْزَأَتْهُ بِخِلَافِ لَوْ عَقَّ بِهَا عَنْ مَوْلُودٍ لَمْ يُجْزِهِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْوَلِيمَةَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَبْحٌ أَصْلًا، بَلْ يَكْفِي فِيهَا مُجَرَّدُ طَعَامٍ، بِخِلَافِ الْعَقِيقَةِ فَإِنَّهَا يُشْتَرَطُ فِيهَا مَا يُشْتَرَطُ فِي الضَّحِيَّةِ، فَلَا تُجْزِئُ ضَحِيَّتُهُ إلَّا إذَا ذَبَحَهَا بِنِيَّةِ الضَّحِيَّةِ. ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 أَكْبَرُ. وَإِنْ زَادَ فِي الْأُضْحِيَّةِ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَمَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي ذَبْحِ أُضْحِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ. وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ لَمْ تُؤْكَلْ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ إرْسَالِ الْجَوَارِحِ عَلَى الصَّيْدِ. وَلَا يُبَاعُ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ وَالنُّسُكِ لَحْمٌ   [الفواكه الدواني] الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الضَّحِيَّةِ شَرَعَ فِي صِفَةِ ذَبْحِهَا كَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ: (وَتُوَجَّهُ الذَّبِيحَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (إلَى الْقِبْلَةِ) كَمَا يُسْتَحَبُّ إضْجَاعُهَا عَلَى جَنْبِهَا الْأَيْسَرِ؛ لِأَنَّهُ أَعْوَنُ لِلذَّبْحِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعْسَرَ فَيُضْجِعَهَا عَلَى شِقِّهَا الْأَيْمَنِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: السُّنَّةُ أَخْذُ الشَّاةِ بِرِفْقٍ وَتُضْجَعُ عَلَى شِقِّهَا الْأَيْسَرِ وَرَأْسُهَا مُشْرِفٌ بِالْفَاءِ وَتَأْخُذُ بِيَدِك الْيُسْرَى جِلْدَةَ حَلْقِهَا مِنْ اللَّحْيِ الْأَسْفَلِ بِالصُّوفِ أَوْ غَيْرِهِ فَتَمُدُّهُ حَتَّى تُبَيِّنَ الْبَشَرَةَ وَتَضَعَ السِّكِّينَ فِي الْمَذْبَحِ حَتَّى تَكُونَ الْجَوْزَةُ فِي الرَّأْسِ، ثُمَّ تُسَمِّيَ اللَّهَ وَتُمِرَّ السِّكِّينَ مَرًّا مُجْهِزًا مِنْ غَيْرِ تَرْدِيدٍ ثُمَّ تَرْفَعُ، وَلَا تَنْخَعُ، وَلَا تَضْرِبُ بِهَا الْأَرْضَ، وَلَا تَجْعَلْ رِجْلَك عَلَى عُنُقِهَا فَإِنْ خَالَفَ تِلْكَ الصِّفَةِ الْمُسْتَحَبَّةِ أَسَاءَ وَتُؤْكَلُ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَضَعَ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِهَا» ،؛ لِأَنَّ الدَّمِيرِيَّ قَالَ فِيهِ. إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ، وَعَلَى فَرْضِ ثُبُوتِهِ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَفْهُومُ الذَّبِيحَةِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بَلْ يَنْدُبُ تَوْجِيهُ الْمَنْحُورِ لِلْقِبْلَةِ أَيْضًا. (وَلْيَقُلْ الذَّابِحُ) أَوْ النَّاحِرُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ عِنْدَ شُرُوعِهِ (بِسْمِ اللَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ نِيَّتُهَا وَتَسْمِيَةٌ إنْ ذَكَرَ أَوْ قَدَرَ، وَاشْتِرَاطُ الذِّكْرِ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا يَأْتِي، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي صِفَةِ التَّسْمِيَةِ إنَّمَا هُوَ بَيَانٌ لِلْوَجْهِ الْأَكْمَلِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ قَالَ. بِسْمِ اللَّهِ فَقَطْ أَوْ اللَّهُ أَكْبَرُ أَوْ لَا حَوْلَ، وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ أَجْزَأَهُ، بَلْ فِي كَلَامِ سَنَدٍ مَا يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ قَالَ اللَّهَ مُقْتَصِرًا عَلَى لَفْظِ الْجَلَالَةِ أَجْزَأَهُ وَظَاهِرُهُ، وَلَوْ لَمْ يُلَاحِظْ لَهُ خَبَرًا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ ذِكْرُ اللَّهِ وَأَمَّا لَوْ قَالَ: بِسْمِ الرَّحْمَنِ أَوْ الْعَزِيزِ أَوْ الْخَالِقِ فَلَا يَكْفِي، وَقَيَّدْنَا بِالذِّكْرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ النَّاسِي، فَإِنَّ ذَكَاتَهُ تُؤْكَلُ كَمَا يَأْتِي، وَقَيَّدْنَا بِالْقَادِرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِ الْقَادِرِ كَالْأَخْرَسِ فَإِنَّ التَّسْمِيَةَ سَاقِطَةٌ عَنْهُ كَسُقُوطِ قِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ عَنْهُ فِي صَلَاتِهِ، فَلَوْ عَجَزَ عَنْ التَّسْمِيَةِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَقَدَرَ عَلَيْهَا بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: الظَّاهِرُ سُقُوطُهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ صِحَّةُ ذَبْحِ الْعَاجِزِ عَنْ التَّسْمِيَةِ، وَلَوْ مَعَ وُجُودِ الْقَادِرِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (وَإِنْ زَادَ) الذَّابِحُ عَلَى التَّسْمِيَةِ (فِي) ذَبْحِ (الْأُضْحِيَّةِ) أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرْبِ (رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أَيْ مُبَاحٌ، وَقَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: إنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: اللَّهُمَّ مِنْك، وَإِلَيْك فِي ذَبْحِ الضَّحِيَّةِ فَيُكْرَهُ عِنْدَ مَالِكٍ؛ لِأَنَّهُ بِدْعَةٌ، وَقَيَّدَهُ ابْنُ رُشْدٍ بِمَا إذَا كَانَ قَائِلُهُ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ لَوَازِمِ التَّسْمِيَةِ، وَإِلَّا فَلَا كَرَاهَةَ. (وَمَنْ نَسِيَ التَّسْمِيَةَ فِي) حَالِ (ذَبْحِ أُضْحِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا) وَاسْتَمَرَّ نَاسِيًا حَتَّى فَرَغَ مِنْ ذَكَاتِهَا (فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ) ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ التَّسْمِيَةِ مُقَيَّدٌ بِالذِّكْرِ كَمَا قَدَّمْنَا. (وَإِنْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ) إمَّا ابْتِدَاءً وَاسْتَمَرَّ عَلَى تَرْكِهَا حَتَّى أَنْفَذَ مَقْتَلَ الْحَيَوَانِ أَوْ بَعْدَ قَطْعِ بَعْضِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ إنْ نَسِيَهَا ابْتِدَاءً وَتَذَكَّرَهَا فِي الْأَثْنَاءِ وَتَرَكَهَا. (لَمْ تُؤْكَلْ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] لِحَمْلِهِ عَلَى التَّرْكِ عَمْدًا، وَمِنْ التَّعَمُّدِ تَرْكُهَا مُتَهَاوِنًا. وَأَمَّا لَوْ تَعَمَّدَ تَرْكَ التَّسْمِيَةِ ابْتِدَاءً ثُمَّ قَبْلَ قَطْعِ تَمَامِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ سَمَّى فَيَنْبَغِي الْإِجْزَاءُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ مَحَلَّ الْإِجْزَاءِ إنْ أَتَى بِالتَّسْمِيَةِ قَبْلَ إنْفَاذِ مَقْتَلِ الْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَعْمَلُ فِي مَنْفُوذِ الزَّمِنِ، وَهَذَا بِخِلَافِ لَوْ تَرَكَ التَّسْمِيَةَ نِسْيَانًا وَتَذَكَّرَهَا فِي أَثْنَاءِ الْفِعْلِ فَإِنَّهُ يُطَالَبُ بِهَا وَتُؤْكَلُ ذَبِيحَتُهُ، وَلَوْ كَانَ التَّذْكِرَةُ بَعْدَ إنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ، وَالْفَرْقُ لَا يَخْفَى عَلَى عَاقِلٍ، وَلَمَّا كَانَتْ التَّسْمِيَةُ مَطْلُوبَةً حَتَّى فِي الصَّيْدِ قَالَ: (وَكَذَلِكَ) تَرْكُ التَّسْمِيَةِ (عِنْدَ إرْسَالِ الْجَوَارِحِ) أَوْ السَّهْمِ (عَلَى الصَّيْدِ) فَإِنْ كَانَ نِسْيَانًا أُكِلَ، وَإِنْ كَانَ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ تَرْكِهَا عَمْدًا وَنِسْيَانًا، وَسَكَتَ عَنْ تَرْكِهَا جَهْلًا وَتَهَاوُنًا، وَمِنْهُ مَنْ يَكْثُرُ نِسْيَانُهُ لَهَا، وَالْحُكْمُ أَنَّهَا لَا تُؤْكَلُ كَتَرْكِهَا عَمْدًا وَأَمَّا تَرْكُهَا عَجْزًا أَوْ مُكْرَهًا فَتُؤْكَلُ إلْحَاقًا لَهُمَا بِالنِّسْيَانِ. الثَّانِي: ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُ التَّسْمِيَةِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ، وَسَكَتَ عَنْ نِيَّةِ الذَّكَاةِ وَحُكْمُهَا الْوُجُوبُ مِنْ غَيْرٍ قَيْدٍ مِمَّا قُيِّدَتْ بِهِ التَّسْمِيَةُ، وَالْمُرَادُ نِيَّةُ الْفِعْلِ، وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ التَّحْلِيلَ، وَلَا التَّقَرُّبَ، وَعَلَيْهِ فَمَنْ رَمَى صَيْدًا بِسِكِّينٍ فَقَطَعَ رَأْسَهُ مَثَلًا نَاوِيًا بِاصْطِيَادِهِ أُكِلَ،، وَإِنْ لَمْ يَنْوِ الِاصْطِيَادَ بِأَنْ نَوَى قَتْلَهُ أَوْ رَمَى حَجَرًا مِنْ غَيْرِ رُؤْيَةِ الصَّيْدِ فَأَصَابَهُ فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَمِثْلُهُ مَنْ رَمَى حَيَوَانًا بِمُدْيَةٍ فَقَطَعَتْ حُلْقُومَهُ وَوَدَجَهُ أُكِلَ مَعَ قَصْدِ ذَبْحِهِ فَقَطْ لَا مَعَ قَصْدِ زَجْرِهِ عَنْهُ أَوْ قَتْلِهِ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ طَلَبُ التَّسْمِيَةِ وَالنِّيَّةِ عِنْدَ الذَّكَاةِ مِنْ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: مَحَلُّ الْوُجُوبِ فِيهِمَا إذَا كَانَ الْمُذَكِّي مُسْلِمًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ كَافِرًا فَلَا يُعْتَبَرُ فِي أَكْلِ ذَكَاتِهِ نِيَّةٌ، وَلَا تَسْمِيَةٌ، وَقَالَ الشَّيْخُ إبْرَاهِيمُ اللَّقَانِيُّ: إنَّ نِيَّةَ الذَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْهَا حَتَّى فِي حَقِّ الْكَافِرِ، وَأَمَّا نِيَّةُ التَّقَرُّبِ فَتُطْلَبُ مِنْ الْمُسْلِمِ دُونَ الْكَافِرِ، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ نِيَّةَ الْفِعْلِ كَافِيَةٌ عَلَى الصَّوَابِ، وَلَوْ لَمْ يُلَاحِظْ التَّقَرُّبَ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ ذَكَاةِ الْكِتَابِيِّ، وَلَوْ لَمْ يُسَمِّ اللَّهَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 وَلَا جِلْدٌ وَلَا وَدَكٌ وَلَا عَصَبٌ وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ وَيَأْكُلُ الرَّجُلُ مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا أَفْضَلُ لَهُ وَلَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ وَلَا يَأْكُلُ مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى وَجَزَاءِ الصَّيْدِ وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ، وَمَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ قَبْلَ مَحِلِّهِ وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ إنْ شَاءَ. وَالذَّكَاةُ قَطْعُ الْحُلْقُومِ وَالْأَوْدَاجِ وَلَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِنْ رَفَعَ يَدَهُ بَعْدَ قَطْعِ بَعْضِ ذَلِكَ ثُمَّ أَعَادَ يَدَهُ   [الفواكه الدواني] قَيَّدَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ ذَكَّاهُ بِاسْمِ الصَّنَمِ، وَإِلَّا وَجَبَتْ التَّسْمِيَةُ عَلَيْهِ حَتَّى يَحِلَّ أَكْلُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ افْتِقَارِ ذَكَاةِ الْكِتَابِيِّ إلَى تَسْمِيَةٍ أَوْ نِيَّةٍ فِيمَا ذَكَّاهُ إلَى نَفْسِهِ وَيَحِلُّ لَنَا أَكْلُهُ، وَأَمَّا مَا ذَكَّاهُ لِمُسْلِمٍ فَفِي صِحَّتِهِ قَوْلَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي ذَبْحِ كِتَابِيٍّ لِمُسْلِمٍ قَوْلَانِ فِي جَوَازِ الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ فِي غَيْرِ الضَّحِيَّةِ، وَأَمَّا الضَّحِيَّةُ فَلَا تَصِحُّ ضَحِيَّتُهُ إذَا وَيُخْلَى الْكِتَابِيُّ اتِّفَاقًا وَيَجْرِي فِي أَكْلِهَا الْقَوْلَانِ. (وَ) قَوْلُهُ وَ (لَا يُبَاعُ شَيْءٌ مِنْ الْأُضْحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ وَالنُّسُكِ) أَيْ الْفِدْيَةِ (لَحْمٌ، وَلَا جِلْدٌ، وَلَا وَدَكٌ، وَلَا عَصَبٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ) مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا مَرَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ مَا سَبَقَ فِي خُصُوصٍ، وَهَذَا أَعَمُّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَنْدُبُ لِصَاحِبِ الْأُضْحِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَيَأْكُلُ الرَّجُلُ) الْمُرَادُ الْمُضَحِّي مُطْلَقًا (مِنْ أُضْحِيَّتِهِ وَيَتَصَدَّقُ مِنْهَا) عَلَى الْفُقَرَاءِ وَيُهْدِي مِنْهَا لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ (أَفْضَلُ لَهُ) مِنْ أَكْلِ جَمِيعِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَمْعُ أَكْلٍ وَصَدَقَةٍ، وَإِعْطَاءٍ بِلَا حَدٍّ، وَإِنَّمَا نُدِبَ ذَلِكَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج: 36] وَقَالَ أَيْضًا: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] وَالْقَانِعُ مَنْ لَا يَسْأَلُ بَلْ يَقْنَعُ بِمَا يَحْصُلُ لَهُ فِي مَنْزِلِهِ، وَالْمُعْتَرَّ الدَّائِرُ الْمُتَعَرِّضُ لَهُ يُعْطَى مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، وَالْبَائِسُ الْفَقِيرُ الزَّمِنُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ وَيُكْرَهُ التَّصَدُّقُ بِجَمِيعِ الضَّحِيَّةِ «؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحَرَ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ وَأَمَرَ مِنْ كُلِّ وَاحِدَةٍ بِقِطْعَةٍ فَطُبِخَتْ لِيَكُونَ قَدْ أَكَلَ مِنْ الْجَمِيعِ» ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى فَضْلِ الْجَمْعِ، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: بِلَا حَدٍّ لَا يُنَافِي أَنَّ الْمُخْتَارَ أَكْلُ الْأَقَلِّ، وَإِطْعَامُ الْأَكْثَرِ، وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُضَحِّي أَنْ لَا يَأْكُلَ يَوْمَ النَّحْرِ حَتَّى يَفْطُرَ عَلَى كَبِدِ أُضْحِيَّتِهِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ إطْعَامَ الْجَارِ النَّصْرَانِيِّ، وَأَمَّا أَكْلُهُ فِي بَيْتِ رَبِّهَا فَلَا يُكْرَهُ. (وَلَيْسَ) الْأَكْلُ مَعَ التَّصَدُّقِ (بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ) غَيْرَ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ مَعَ قَوْلِهِ أَفْضَلُ. ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ مُشَارَكَةِ الْفِدْيَةِ وَالْهَدْيِ لِلضَّحِيَّةِ فِي أَحْكَامٍ كَثِيرَةٍ مُشَارَكَتُهَا لَهُمَا فِي جَوَازِ الْأَكْلِ قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ لِمَنْ لَزِمَتْهُ فِدْيَةٌ أَنْ (يَأْكُلَ مِنْ فِدْيَةِ الْأَذَى) الْمَنْوِيِّ بِهَا الْهَدْيَ بِأَنْ قَلَّدَهَا أَوْ أَشْعَرَهَا (وَ) لَا مِنْ (جَزَاءِ الصَّيْدِ وَ) لَا مِنْ (نَذْرِ الْمَسَاكِينِ) الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لَا بِلَفْظٍ، وَلَا نِيَّةٍ إذَا وَصَلَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ لِمَحِلِّ ذَكَاتِهَا، وَهُوَ مِنًى إنْ وَقَفَ بِهَا، وَكَانَ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، أَوْ مَكَّةَ إنْ لَمْ يَكُنْ وَقَفَ بِهَا أَوْ خَرَجَتْ أَيَّامُ النَّحْرِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الْأَكْلُ مَعَ الْمَذْكُورَاتِ بَعْدَ الْوُصُولِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ سَمَّى الْفِدْيَةَ وَالْجَزَاءَ كَفَّارَةً، وَالْإِنْسَانُ لَا يَأْكُلُ مِنْ صَدَقَتِهِ، وَلَا كَفَّارَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ عَطِبَتْ هَذِهِ الثَّلَاثَةُ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى مَحِلِّهَا لَجَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِنْهَا؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْبَدَلَ (وَ) عَكْسُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ (مَا عَطِبَ مِنْ هَدْيِ التَّطَوُّعِ) أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ لَا بِقَيْدِ الْمَسَاكِينِ (قَبْلَ مَحِلِّهِ) فَإِنَّهُ يَحْرُمُ أَكْلُهُ لِاتِّهَامِهِ عَلَى إرَادَةِ أَكْلِهِ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ حِينَئِذٍ أَنْ يَنْحَرَهُ وَيُخَلِّيَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ وَيُلْقِيَ قِلَادَتَهُ بِدَمِهِ، وَأَمَّا نَذْرُ الْمَسَاكِينِ الْمُعَيَّنُ وَالْفِدْيَةُ الَّتِي لَمْ تُجْعَلْ هَدْيًا، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ الْمَجْعُولُ لِلْمَسَاكِينِ بِاللَّفْظِ أَوْ بِالنِّيَّةِ فَلَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهَا لَا قَبْلَ الْمَحِلِّ، وَلَا بَعْدَ الْمَحِلِّ. (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يَأْكُلَ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ قَبْلَ الْمَحِلِّ وَبَعْدَهُ كَهَدْيِ التَّمَتُّعِ أَوْ الْقِرَانِ أَوْ تَعَدِّي الْمِيقَاتِ وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ هَدْيٍ وَجَبَ لِنَقْصِ شَعِيرَةٍ، وَمِثْلُهَا فِي الْجَوَازِ مُطْلَقًا الْهَدْيُ الْمَضْمُونُ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ لِلْمَسَاكِينِ لَا بِلَفْظٍ، وَلَا نِيَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَقْسَامَ أَرْبَعَةٌ: قِسْمٌ لَا يُؤْكَلُ مِنْهُ لَا قَبْلُ، وَلَا بَعْدُ، وَهُوَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: نَذْرُ الْمَسَاكِينِ الْمُعَيَّنُ، وَالْفِدْيَةُ الَّتِي لَمْ تُجْعَلْ هَدْيًا، وَهَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالْمَجْعُولُ لِلْمَسَاكِينِ، وَقِسْمٌ يُؤْكَلُ مِنْهُ مُطْلَقًا، وَهُوَ مَا وَجَبَ لِنَقْصِ شَعِيرَةٍ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ عَكْسُ الْجَمِيعِ، وَقِسْمٌ يُؤْكَلُ مِنْهُ بَعْدُ وَيَحْرُمُ قَبْلُ، وَهُوَ هَدْيُ التَّطَوُّعِ وَالنَّذْرُ الْمُعَيَّنُ لَا بِقَيْدِ الْمَسَاكِينِ، وَقِسْمٌ يُؤْكَلُ مِنْهُ قَبْلُ وَيَحْرُمُ بَعْدُ، وَهُوَ نَذْرُ الْمَسَاكِينِ غَيْرُ الْمُعَيَّنِ، وَالْفِدْيَةُ الْمَجْعُولَةُ هَدْيًا، وَالْجَزَاءُ هَذَا هُوَ التَّحْرِيرُ، وَعِبَارَةُ التَّتَّائِيِّ فِيهَا بَعْضُ تَغْيِيرٍ يَظْهَرُ مِنْ تَحْرِيرِنَا، وَقَدْ أَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَمْ تُؤْكَلْ مِنْ نَذْرِ الْمَسَاكِينِ عَيْنٌ مُطْلَقًا عَكْسُ الْجَمِيعِ فَلَهُ إطْعَامُ الْغَنِيِّ وَالْقَرِيبِ، وَكُرِهَ لِذِمِّيٍّ إلَّا نَذْرًا لَمْ يُعَيَّنْ، وَالْفِدْيَةُ وَالْجَزَاءُ بَعْدَ الْمَحِلِّ، وَهَدْيِ تَطَوُّعٍ إنْ عَطِبَ قَبْلَ مَحِلِّهِ فَتَلْقَى قِلَادَتَهُ بِدَمِهِ وَيُخَلَّى لِلنَّاسِ كَرَسُولِهِ، وَانْظُرْ مَا يَتَعَلَّقُ بِأَكْلِهِ مِنْهُ أَوْ أَمَرَهُ غَيْرُهُ بِالْأَكْلِ فِي الْمُطَوَّلَاتِ. وَقَوْلُهُ: (إنْ شَاءَ) أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْهَدَايَا عَدَمُ الْأَكْلِ مِنْهَا خِلَافُ الضَّحِيَّةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الضَّحَايَا شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الذَّكَاةِ فَقَالَ: (وَالذَّكَاةُ) فِي اللُّغَةِ التَّمَامُ، يُقَالُ: ذَكَّيْت الذَّبِيحَةَ إذَا أَتْمَمْت ذَكَاتَهَا، وَأَمَّا فِي الشَّرْعِ فَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ وَضَّاحٍ السَّبَبُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى إبَاحَةِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ، وَتَحْتَ هَذَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: ذَبْحٌ وَنَحْرٌ فِي إنْسِيٍّ أَوْ وَحْشِيٍّ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ، وَعَقْرٌ فِي وَحْشِيٍّ مَعْجُوزٍ عَنْهُ، وَمَا يُعَجَّلُ الْمَوْتُ فِي نَحْوِ الْجَرَادِ، وَحَقِيقَةُ الذَّكَاةِ بِمَعْنَى الذَّبْحِ. (قَطْعُ) جَمِيعِ (الْحُلْقُومِ) ، وَهُوَ الْقَصَبَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فَأَجْهَزَ فَلَا تُؤْكَلُ. وَإِنْ تَمَادَى حَتَّى قَطَعَ الرَّأْسَ أَسَاءَ وَلْتُؤْكَلْ. وَمَنْ ذَبَحَ مِنْ الْقَفَا لَمْ تُؤْكَلْ. وَالْبَقَرُ تُذْبَحُ فَإِنْ نُحِرَتْ   [الفواكه الدواني] الَّتِي يَجْرِي فِيهَا النَّفَسُ. (وَ) قَطْعُ جَمِيعِ (الْأَوْدَاجِ) جَمْعُ وَدَجٍ، وَهُوَ الْعِرْقُ الْكَائِنُ فِي صَفْحَةِ الْعُنُقِ وَيَتَّصِلُ بِالْوَدَجِ أَكْثَرُ عُرُوقِ الْبَدَنِ وَيَتَّصِلُ بِالدِّمَاغِ وَالْحَيَوَانُ لَهُ وَدَجَانِ، وَإِنَّمَا جُمِعَ عَلَى طَرِيقِ مَنْ يُطْلِقُ الْجَمْعَ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الْوَاحِدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْمَشْهُورِ قَطْعُ الْمَرِيءِ، وَهُوَ الْعِرْقُ الْأَحْمَرُ الَّذِي تَحْتَ الْحُلْقُومِ، وَمُتَّصِلٌ بِالْفَمِ وَبِرَأْسِ الْمَعِدَةِ وَالْكِرْشُ يَجْرِي فِيهِ الطَّعَامُ مِنْهُ إلَيْهَا وَيُسَمَّى الْبُلْعُومُ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُجْزِئُ أَقَلُّ مِنْ ذَلِكَ) ، وَلَوْ بَقِيَ بَعْضُ وَدَجٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنْ شُهِرَ الْقَوْلُ بِالِاكْتِفَاءِ بِقَطْعِ نِصْفِ الْحُلْقُومِ وَتَمَامِ الْوَدَجَيْنِ قَالَ خَلِيلٌ: الذَّكَاةُ قَطْعٌ مُمَيَّزٌ يُنَاكَحُ تَمَامَ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ مِنْ الْمُقَدَّمِ بِلَا رَفْعٍ قَبْلَ التَّمَامِ، فَلَوْ ذَبَحَهُ مِنْ الْقَفَا أَوْ مِنْ إحْدَى صَفْحَتَيْ الْعُنُقِ أَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ مِنْ تَحْتِ الْعُرُوقِ وَقَطَعَهَا إلَى فَوْقٍ لَمْ تُؤْكَلْ، سَوَاءٌ أَدْخَلَ السِّكِّينَ مِنْ تَحْتِ الْعُرُوقِ ابْتِدَاءً أَوْ قَطَعَ بَعْضَ الْحُلْقُومِ مِنْ الْمُقَدَّمِ ابْتِدَاءً ثُمَّ لَمْ تُسَاعِدْهُ السِّكِّينُ فَأَدْخَلَهَا مِنْ تَحْتِهَا وَقَطَعَهَا إلَى فَوْقِهِ؛ لِقَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ أَيْضًا: وَالْقَطْعُ مِنْ فَوْقِ الْعُرُوقِ بَتَّهْ ... وَإِنْ يَكُنْ مِنْ تَحْتِهَا فَمَيْتَهْ وَسَوَاءٌ فَعَلَ مَا ذَكَرَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى بَعْضِ ذَلِكَ فِيمَا يَأْتِي، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَطْعُ الْحُلْقُومِ أَنَّ الْمُغَلْصَمَةَ لَا تُؤْكَلُ، وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي حِيزَتْ حَوْزَتَهَا لِبَدَنِهَا؛ لِأَنَّهَا الْغَلْصَمَةُ آخِرُ الْحُلْقُومِ مِنْ جِهَةِ الرَّأْسِ، فَلَوْ بَقِيَ مِنْ الْجَوْزَةِ مَعَ الرَّأْسِ قَدْرُ حَلَقَةِ الْخَاتَمِ أُكِلَتْ، وَأَمَّا لَوْ بَقِيَ لِجِهَةِ الرَّأْسِ قَدْرُ نِصْفِ حَلْقَةٍ فَلَا تُؤْكَلُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُنَا: حَقِيقَةُ الذَّكَاةِ بِمَعْنَى الذَّبْحِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الذَّكَاةِ بِمَعْنَى النَّحْرِ فَإِنَّهَا طَعْنٌ بِلَبَّةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالنَّحْرُ طَعْنٌ بِلَبَّةٍ، وَمَعْنَى الطَّعْنِ الدَّكُّ، وَاللَّبَّةُ مَحَلُّ الْقِلَادَةِ مِنْ الصَّدْرِ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ قَطْعٌ لِشَيْءٍ مِنْ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْآلَةِ فِي اللَّبَّةِ مُوجِبٌ لِلْمَوْتِ سَرِيعًا لِوُصُولِهَا لِلْقَلْبِ، وَحِكْمَةُ الذَّكَاةِ إزْهَاقُ الرُّوحِ بِسُرْعَةٍ وَاسْتِخْرَاجُ الْفَضَلَاتِ، وَلَمَّا قَضَى اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَى خَلْقِهِ بِالْفَنَاءِ وَشَرَّفَ بَنِي آدَمَ بِالْعَقْلِ أَبَاحَ لَهُمْ أَكْلَ الْحَيَوَانِ قُوَّةً لِأَجْسَادِهِمْ وَتَصْفِيَةً لِمِرْآةِ عُقُولِهِمْ لِيَسْتَدِلُّوا بِطِيبِ لَحْمِهَا عَلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ، وَيَنْتَبِهُوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ لِلْمَوْلَى بِهِمْ عِنَايَةً لِإِيثَارِهِمْ بِالْحَيَاةِ عَلَى غَيْرِهِمْ أَيْ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْمَأْكُولَةِ. وَلَمَّا كَانَ يُشْتَرَطُ فِي الذَّكَاةِ الْفَوْرِيَّةُ وَعَدَمُ رَفْعِ الْمُذَكِّي يَدَهُ قَبْلَ تَمَامِ الذَّكَاةِ بَيَّنَ مُحْتَرِزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ رَفَعَ) الْمُذَكِّي (يَدَهُ بَعْدَ قَطْعِ بَعْضِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ (ثُمَّ أَعَادَ يَدَهُ فَأَجْهَزَ) أَيْ تَمَّ الذَّكَاةَ (فَلَا تُؤْكَلُ) ذَبِيحَتُهُ حَيْثُ كَانَ رَفَعَ يَدَهُ بَعْدَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهَا وَعَادَ عَنْ بَعْدُ، وَلَوْ كَانَ رَفَعَ يَدَهُ عَلَى جِهَةِ الِاضْطِرَارِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهَا فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ، وَلَوْ عَادَ عَنْ بَعْدُ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَةَ ذَكَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَكَذَا تُؤْكَلُ مَعَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهَا حَيْثُ عَادَ عَنْ قُرْبٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يُنْفِذْ مَقْتَلَهَا تُؤْكَلُ مُطْلَقًا، وَكَذَا إنْ أَنْفَذَ حَيْثُ عَادَ مِنْ قُرْبٍ، وَالْقُرْبُ وَالْبُعْدُ بِالْعُرْفِ وَيَجِبُ مَعَ الْبُعْدِ النِّيَّةُ وَالتَّسْمِيَةُ، وَلَوْ كَانَ الْمُتَمِّمُ لِلذَّكَاةِ هُوَ الْأَوَّلُ لِتَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّ الثَّانِيَةَ ذَكَاةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، وَكَذَا مَعَ الْقُرْبِ حَيْثُ كَانَ الْمُتَمِّمُ لِلذَّكَاةِ غَيْرُ الْأَوَّلِ، وَلَوْ كَانَ الْمُذَكِّي حَصَلَ لَهُ إنْفَاذُ مَقْتَلٍ مِنْ فِعْلِ الْأَوَّلِ لَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهِمَا حَيْثُ تَمَّمَهَا غَيْرُ الْأَوَّلِ، كَاشْتِرَاكِ شَخْصَيْنِ فِي الذَّكَاةِ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ مِنْ كُلٍّ. (تَنْبِيهٌ) مِثْلُ الرَّفْعِ فِي التَّفْصِيلِ إبْقَاءُ الشَّفْرَةِ عَلَى مَحَلِّ الذَّكَاةِ مِنْ غَيْرِ إمْرَارٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا عَبَّرَ بِقَطْعِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ خَشِيَ تَوَهُّمَ عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ مُبَانِ الرَّأْسِ فَدَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ تَمَادَى) الذَّابِحُ (حَتَّى قَطَعَ) أَيْ أَبَانَ (الرَّأْسَ) مِنْ الْجَسَدِ (أَسَاءَ) أَيْ أَثِمَ بِتَعَمُّدِ ذَلِكَ. (وَلْتُؤْكَلْ) مَعَ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَتَعَمَّدَ إبَانَةَ رَأْسٍ وَتُؤُوِّلَتْ أَيْضًا عَلَى عَدَمِ الْأَكْلِ إنْ قَصَدَهُ، وَإِذَا كَانَتْ تُؤْكَلُ مَعَ التَّعَمُّدِ فَأَحْرَى مَعَ الْغَلَبَةِ وَالسَّهْوِ، وَلِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ نَظَائِرُ: مِنْهَا غَسْلُ الرَّأْسِ فِي الْوُضُوءِ بَدَلَ الْمَسْحِ، وَمِنْهَا مَنْ بِجَبْهَتِهِ قُرُوحٌ تَمْنَعُ السُّجُودَ فَتَكَلَّفَ السُّجُودَ عَلَى الْأَنْفِ، وَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى الْإِيمَاءِ. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الذَّكَاةِ الْقَطْعَ مِنْ الْمُقَدَّمِ قَالَ: (وَمَنْ ذَبَحَ مِنْ الْقَفَا) أَوْ مِنْ إحْدَى صَفْحَتَيْ الْعُنُقِ (لَمْ تُؤْكَلْ) ذَبِيحَتُهُ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ سَهْوًا أَوْ جَهْلًا؛ لِأَنَّ الذَّبْحَ مِنْ الْمُقَدَّمِ وَاجِبٌ، فَلَوْ أَدْخَلَ السِّكِّينَ مِنْ تَحْتِ الْحُلْقُومِ وَالْوَدَجَيْنِ وَقَطَعَهُمَا لِأَعْلَى لَمْ تُؤْكَلْ عَلَى الْمَذْهَبِ كَمَا قَالَهُ سَحْنُونٌ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ فِي مُقَدِّمَتِهِ: وَالْقَطْعُ مِنْ فَوْقِ الْعُرُوقِ بَتَّهْ ... وَإِنْ يَكُنْ مِنْ تَحْتِهَا فَمَيْتَهْ وَقَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا مِنْ الْمُقَدَّمِ، وَصَرِيحُ هَذَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَطْعِ مِنْ تَحْتِهَا ابْتِدَاءً أَوْ بَعْدَ ابْتِدَائِهِ مِنْ الْمُقَدَّمِ خِلَافًا لِمَنْ فَصَّلَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ تَصِحُّ ذَكَاتُهُ، وَمَنْ لَا تَصِحُّ، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ ذَلِكَ فَنَقُولُ: شَرْطُهُ التَّمْيِيزُ، وَكَوْنُهُ مِمَّنْ يَصِحُّ لَنَا وَطْءُ نِسَائِهِ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ خُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَلَوْ خَصِيًّا أَوْ فَاسِقًا، أَوْ مَجُوسِيًّا حَيْثُ تَنَصَّرَ أَوْ تَهَوَّدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 أُكِلَتْ، وَالْإِبِلُ تُنْحَرُ فَإِنْ ذُبِحَتْ لَمْ تُؤْكَلْ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهَا وَالْغَنَمُ تُذْبَحُ فَإِنْ نُحِرَتْ لَمْ تُؤْكَلْ وَقَدْ اُخْتُلِفَ أَيْضًا فِي ذَلِكَ وَذَكَاةُ مَا فِي الْبَطْنِ ذَكَاةُ أُمِّهِ إذَا تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ. وَالْمُنْخَنِقَةُ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ وَالْمَوْقُوذَةُ بِعَصًا وَشِبْهِهَا   [الفواكه الدواني] وَإِنْ كُرِهَتْ مِنْ الْخَصِيِّ وَالْفَاسِقِ وَالْأَغْلَفِ وَالْخُنْثَى، بِخِلَافِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ الْمُمَيِّزِ فَغَيْرُ الْمُمَيِّزِ لَا تَصِحُّ ذَكَاتُهُ سَوَاءٌ كَانَ عَدَمُ تَمَيُّزِهِ لِصِغَرٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ، وَلَوْ أَصَابَ وَجْهَ الذَّكَاةِ، وَكَذَا مَنْ شُكَّ فِي تَمْيِيزِهِ حِينَ تَذْكِيَتِهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ يُحَقِّقُ تَمْيِيزَهُ حِينَ الذَّكَاةِ، فَلَا تُؤْكَلُ ذَبِيحَةُ مُتَقَطِّعِ الْجُنُونِ حَيْثُ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَبْحُهُ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ. وَإِذَا ادَّعَى أَنَّهُ ذَبَحَ فِي حَالِ صَحْوِهِ لَمْ يُقْبَلْ بِالنِّسْبَةِ لِغَيْرِهِ وَيَدِينُ بِالنِّسْبَةِ لِنَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ فَيَنْبَغِي تَصْدِيقُهُ، وَلَوْ فِي حَقِّ غَيْرِهِ؟ وَقَوْلُنَا: وَلَوْ مَجُوسِيًّا تَنَصَّرَ أَيْ تَصِحُّ ذَكَاتُهُ وَيُؤْكَلُ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَمَّا لَوْ وَكَّلَهُ مُسْلِمٌ لِيَذْبَحَ لَهُ فَفِي صِحَّةِ ذَبْحِهِ قَوْلَانِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ آلَةَ الذَّبْحِ، وَهِيَ كُلُّ مَا لَهُ حَدٌّ بِحَيْثُ يَقْطَعُ مَا يُشْتَرَطُ قَطْعُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ حَدِيدًا، وَإِنْ اُسْتُحِبَّ الْحَدِيدُ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ احْتَاجَ إلَى أَنْ يَذْبَحَ بِمَرْوَةَ أَوْ عُودٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ عَظْمٍ أَوْ غَيْرِهِ أَجْزَأَهُ، وَلَوْ ذَبَحَ بِذَلِكَ، وَمَعَهُ سِكِّينٌ فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ إذَا أَفْرَى الْأَوْدَاجَ، أَبُو مُحَمَّدٍ: وَقَدْ أَسَاءَ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَلَا بَأْسَ بِالذَّبْحِ بِشَفْرَةٍ لَا نِصَابَ لَهَا وَالرُّمْحِ وَالْقَدُومِ وَالْمِنْجَلِ الْأَمْلَسِ الَّذِي يُؤَبَّرُ بِهِ، فَأَمَّا الْمُضَرَّسُ الَّذِي يُحْصَدُ بِهِ فَلَا خَيْرَ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَدَّدُ، وَلَوْ قَطَعَ كَقَطْعِ الشَّفْرَةِ فَلَا بَأْسَ بِهِ، وَلَكِنْ مَا أَرَاهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ. قَالَهُ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ فِي كَبِيرِهِ. وَتَنَاوَلَ مَا قَدَّمْنَاهُ السِّنَّ وَالظُّفُرَ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ ذَكَرَهَا خَلِيلٌ، وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ وَذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ فَكُلُوا لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» . فَلَعَلَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ، فَلَا يُنَافِيَ الْجَوَازَ فِي حَالِ الضَّرُورَةِ أَوْ عَلَى مَنْ لَا يُحْسِنُ الذَّبْحَ بِهِمَا. الثَّالِثِ: لَمْ نَرَ مَنْ شَرَطَ اتِّحَادَ الْمُذَكِّي بَلْ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِمْ عَلَى مَنْ رَفَعَ يَدَهُ قَبْلَ إتْمَامِ جَوَازِ التَّعَدُّدِ بِأَنْ يَضَعَ كُلَّ يَدِهِ عَلَى مُدْيَةٍ وَاحِدَةٍ نَاوِيًا مُسَمِّيًا، أَوْ يَضَعَ كُلَّ وَاحِدِ مُدْيَةٍ مُسْتَقِلَّةٍ وَيَحْصُلُ الْقَطْعُ دَفْعَةً وَاحِدَةً مَعَ نِيَّةِ كُلٍّ وَتَسْمِيَتِهِ. الرَّابِعِ: إذَا وُجِدَتْ الذَّكَاةُ عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا أُكِلَتْ الذَّبِيحَةُ، وَلَوْ ذُكِّيَتْ وَرَأْسُهَا فِي الْمَاءِ، وَلَوْ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ إخْرَاجِهَا مِنْ الْمَاءِ حَيْثُ تَحَقَّقَ أَنَّ مَوْتَهَا مِنْ الذَّكَاةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُذْبَحُ وَيُنْحَرُ، وَمَا يَجِبُ فِيهِ أَحَدُهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَالْبَقَرُ تُذْبَحُ) نَدْبًا بِدَلِيلٍ (فَإِنْ نُحِرَتْ) أَيْ طُعِنَتْ فِي لِيَّتِهَا (أُكِلَتْ) ، وَلَوْ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ (وَالْإِبِلُ تُنْحَرُ) وُجُوبًا بِدَلِيلٍ (فَإِنْ ذُبِحَتْ) اخْتِيَارًا (لَمْ تُؤْكَلْ) هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي أَكْلِهَا) فَإِنَّ هَذَا يُفْهَمُ مِنْهُ ضَعْفُ الْمُقَابِلِ، وَقَيَّدْنَا بِاخْتِيَارًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالَةِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ذَبْحُ مَا يُنْحَرُ وَنَحْرُ مَا يُذْبَحُ. (وَالْغَنَمُ) وَسَائِرُ الْحَيَوَانَاتِ سِوَى الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ وَالطَّيْرِ، وَلَوْ نَعَامًا (تُذْبَحُ) وُجُوبًا بِدَلِيلٍ (فَإِنْ نُحِرَتْ) اخْتِيَارًا، وَلَوْ سَهْوًا (لَمْ تُؤْكَلْ) عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُهُ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ أَيْضًا) ضَعِيفٌ فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْإِبِلَ تُنْحَرُ وَالْغَنَمَ، وَمَا شَابَهَهَا تُذْبَحُ، وَالْبَقَرَ يَجُوزُ فِيهَا الْأَمْرَانِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْوَاجِبِ: وَنَحْرُ إبِلٍ وَذَبْحُ غَيْرِهِ إنْ قَدَرَ وَجَازَ لِلضَّرُورَةِ إلَّا الْبَقَرَ فَيَنْدُبُ الذَّبْحُ، وَمِنْ الضَّرُورَةِ وُقُوعُ الْجَمَلِ فِي مُهْوَاةٍ بِحَيْثُ لَا يُتَوَصَّلُ إلَى مَحَلِّ النَّحْرِ، وَوُقُوعُ الْغَنَمِ فِي مُهْوَاةٍ بِحَيْثُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ ذَبْحِهَا، وَجَزَمَ فِي الشَّامِلِ بِأَنَّ عَدَمَ الْآلَةِ مِنْ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنْ عَكَسَ فِي الْأَمْرَيْنِ لِعُذْرٍ كَعَدَمِ مَا يَنْحَرُ بِهِ صَحَّ، وَلَا يُعْذَرُ بِنِسْيَانٍ، وَلَا بِجَهْلٍ بِالْحُكْمِ، وَفِي جَهْلِ الصِّفَةِ بِمَعْنَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ الذَّبْحِ فِيمَا يُذْبَحُ وَالنَّحْرِ فِيمَا يُنْحَرُ قَوْلَانِ. وَلَمَّا كَانَتْ الذَّكَاةُ الْحُكْمِيَّةُ كَالْحَقِيقَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْجَنِينِ يَخْرُجُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ مَيِّتًا بِسَبَبِ ذَكَاتِهَا قَالَ: (وَذَكَاةُ مَا) أَيْ الْجَنِينِ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْبَطْنِ (ذَكَاةُ أُمِّهِ) بِشَرْطَيْنِ أَشَارَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ: (إذَا تَمَّ خَلْقُهُ وَنَبَتَ شَعْرُهُ) وَفِي شَرْطٍ آخَرَ، وَهُوَ مُحَقَّقٌ مَوْتُهُ بِذَكَاةِ أُمِّهِ لَا إنْ لَمْ تُعْلَمْ حَيَاتُهُ عِنْدَ ذَبْحِ أُمِّهِ فَلَا يُؤْكَلُ كَمَا قَالَ فِي التَّحْقِيقِ عَنْ الْفَاكِهَانِيِّ، وَلَعَلَّهُ أَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: أَنَّ الْمَشْكُوكَ فِي حَيَاتِهِ قَبْلَ مَوْتِ أُمِّهِ مِثْلُ مُحَقَّقِهَا، وَالْمُرَادُ بِالشَّعْرِ الْمُشْتَرَطِ أَيْضًا نَبَاتُهُ شَعْرُ الْجَسَدِ لَا شَعْرُ عَيْنَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِتَمَامِ خَلْقِهِ تَنَاهِي خِلْقَتِهِ وَوُصُولُهَا إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَنْزِلُ عَلَيْهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، لَا كَمَالِ أَطْرَافِهِ فَيُؤْكَلُ نَاقِصَ رِجْلٍ، وَبَقِيَ شَرْطٌ أَيْضًا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِنْسِ مَا يُؤْكَلُ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْأُمِّ فَيُؤْكَلُ جَنِينُ الْبَقَرَةِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَوْ كَانَ شَاةً، وَعَكْسُهُ بِخِلَافِ لَوْ نَزَلَ جَنِينُ الْبَقَرَةِ أَوْ الشَّاةِ كَلْبًا أَوْ حِمَارًا فَلَا يُؤْكَلُ لِحُرْمَةِ نَوْعِهِ، كَمَا لَا يُؤْكَلُ جَنِينُ الْحِمَارَةِ أَوْ الْفَرَسِ، وَلَوْ كَانَ مِنْ نَوْعِ مَا يُؤْكَلُ لِخَبَرِ: «كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا» وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ، وَلَوْ نَزَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً وَتَمَكَّنَّا مِنْ ذَكَاتِهِ، وَأَشْعَرَ كَلَامُهُ عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَوْ خَرَجَ حَيًّا بَعْدَ ذَكَاةِ أُمِّهِ ثُمَّ مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ بِذَكَاةِ أُمِّهِ، وَلَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصِّلُهُ إنْ كَانَ مُحَقَّقَ الْحَيَاةِ أَوْ مَشْكُوكَهَا وَجَبَتْ ذَكَاتُهُ، وَإِنْ كَانَ مُتَوَهَّمًا نُدِبَتْ ذَكَاتُهُ فَلَوْ بَادَرْنَا إلَى ذَكَاتِهِ فَمَاتَ قَبْلَهَا لَمْ يُؤْكَلْ فِي الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ، وَيُؤْكَلُ مَا كَانَتْ حَيَاتُهُ مُتَوَهَّمَةً، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ «قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حِينَ سُئِلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ، وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ إنْ بَلَغَ ذَلِكَ مِنْهَا فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ مَبْلَغًا لَا تَعِيشُ مَعَهُ لَمْ تُؤْكَلْ بِذَكَاةٍ. وَلَا بَأْسَ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا. وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا إذَا دُبِغَ. وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] عَنْ الْبَقَرَةِ وَالنَّاقَةِ يَنْحَرُهَا أَحَدُنَا فَيَجِدُ فِي بَطْنِهَا جَنِينًا أَيَأْكُلُهُ أُمّ يُلْقِيهِ؟ : كُلُوا إنْ شِئْتُمْ ذَكَاةُ الْجَنِينِ ذَكَاةُ أُمِّهِ» رُوِيَ بِرَفْعِ ذَكَاةُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ قَاعِدَةِ حَصْرِ الْمُبْتَدَأِ فِي الْخَبَرِ أَيْ ذَكَاتُهُ مَحْصُورَةٌ فِي ذَكَاةِ أُمِّهِ فَلَا يَحْتَاجُ لِذَكَاةٍ ثَانِيَةٍ. وَبِرِوَايَةِ الرَّفْعِ أَخَذَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَيُرْوَى بِالنَّصْبِ فِي ذَكَاةٍ الثَّانِيَةِ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَالْعَامِلُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَنْ يُذَكَّى ذَكَاةً مِثْلَ ذَكَاةِ أُمِّهِ، وَأَخَذَ بِهَا أَبُو حَنِيفَةَ فَاشْتَرَطَ فِي حِلِّ أَكْلِهِ ذَكَاةً مُسْتَقِلَّةً. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَالْحَذْفُ خِلَافُ الْأَصْلِ وَرِوَايَةُ النَّصْبِ مُنْكَرَةٌ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْخَارِجِ مِنْ بَطْنِ الْمُذَكَّى، وَأَمَّا الْخَارِجُ مِنْ جَوْفِ الْحَيِّ أَوْ مِنْ جَوْفِ الْمَيِّتِ حَتْفَ أَنْفِهِ فَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّ الْخَارِجَ مَيِّتًا لَا يُؤْكَلُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَأَمَّا الْخَارِجُ حَيًّا فَإِنْ كَانَ مِثْلُهُ يَحْيَا فَإِنَّهُ يُذَكَّى وَيُؤْكَلُ، وَإِلَّا فَلَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَذَكَّى الزَّلِق إنْ حَيِيَ مِثْلَهُ وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا حُكْمُ الْخَارِجِ مَعَ الْجَنِينِ الْمَأْكُولِ بِذَكَاةِ أُمِّهِ مِنْ نَحْوِ الْمَشِيمَةِ وَيُقَالُ لَهَا السُّلَّا، وَهِيَ وِعَاءُ الْوَلَدِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَكْلُ مُطْلَقًا عَدَمُهُ مُطْلَقًا، ثَالِثُهَا يَتْبَعُ الْوَلَدَ فِي الْأَكْلِ وَعَدَمِهِ. وَلَمَّا كَانَتْ الذَّكَاةُ عِنْدَنَا لَا تَعْمَلُ فِي مَنْفُوذِ الْمَقْتَلِ وَتَعْمَلُ فِي غَيْرِهِ، وَإِنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ قَالَ: (وَالْمُنْخَنِقَةُ بِحَبْلٍ وَنَحْوِهِ وَالْمَوْقُوذَةُ) أَيْ الْمَضْرُوبَةُ (بِعَصًا وَشِبْهِهَا) مَحْجَرٌ (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أَيْ السَّاقِطَةُ مِنْ عُلُوٍّ إلَى أَسْفَلَ. (وَالنَّطِيحَةُ) أَيْ الَّتِي نَطَحَتْهَا أُخْرَى (وَأَكِيلَةُ السَّبُعِ) وَنَحْوِهِ (إنْ بَلَغَ ذَلِكَ) الْفِعْلُ الْمُتَقَدِّمُ مِنْ خَنْقٍ أَوْ غَيْرِهِ. (مِنْهَا) أَيْ الْمُنْخَنِقَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا بَعْدَهَا (فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ) الْخَمْسَةِ (مَبْلَغًا لَا تَعِيشُ مَعَهُ) بِأَنْ أَنْفَذَ مَقْتَلَهَا بِأَنْ قَطَعَ نُخَاعَهَا أَوْ نَثَرَ دِمَاغَهَا أَوْ نَثَرَ حَشْوَهَا (لَمْ تُؤْكَلْ بِذَكَاةٍ) هَذَا خَبَرُ الْمُنْخَنِقَةِ، وَمَا بَعْدَهَا، وَإِنَّمَا لَمْ تُؤْكَلْ لِشِبْهِهَا بِالْمَيْتَةِ، وَالذَّكَاةُ لَا تَعْمَلُ فِي الْمَيْتَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ تَعِيشَ مَعَ الْخَنْقِ وَنَحْوِهِ بِأَنْ لَمْ يَحْصُلْ بِالْفِعْلِ الْمَذْكُورِ إنْفَاذُ مَقْتَلٍ فَإِنَّهَا تُؤْكَلُ، وَبِهَذَا التَّقْرِيرِ يَصِحُّ فِي الِاسْتِثْنَاءِ الْوَاقِعِ فِي الْآيَةِ أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا عَلَى مَعْنَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] مِنْهَا وَذَلِكَ إنْ لَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلُهَا، وَمُنْقَطِعًا عَلَى مَعْنَى: {إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] مِنْ غَيْرِهَا، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا أَنْفَذَ مَقْتَلَهَا، وَهَذَا هُوَ التَّقْرِيرُ الْوَجِيهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجْزِمُ بِالِانْقِطَاعِ إلَّا بِدَعْوَى الْمُلَازَمَةِ بَيْنَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ، وَإِنْفَاذِ الْمَقَاتِلِ، وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ أَوْ بِدَعْوَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَكَاةِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ إنْفَاذِ مَقْتَلٍ، وَهُوَ خِلَافُ الْمُصَنِّفِ الَّذِي هُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ. (تَنْبِيهٌ) الْحَيَوَانُ الَّذِي يُرَادُ ذَكَاتُهُ عَلَى قِسْمَيْنِ: إمَّا غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ، وَهَذَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مَيْئُوسًا مِنْ حَيَاتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يُوجَدَ فِيهِ دَلِيلُ الْحَيَاةِ بِأَنْ يَتَحَرَّكَ حَرَكَةً قَوِيَّةٍ عِنْدَ الذَّبْحِ، أَوْ يَشْخُبَ دَمُهُ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَرَكَةِ الْقَوِيَّةِ، وَأَمَّا سَيَلَانُهُ مِنْ غَيْرِ شَخْبٍ فَلَا يَكْفِي فِي الْمَرِيضَةِ وَيَكْفِي فِي الصَّحِيحَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَكْلُ الْمُذَكَّى، وَإِنْ أَيِسَ مِنْ حَيَاتِهِ، وَقَالَ: وَكَفَى سَيْلُ دَمٍ إنْ صَحَّتْ، وَأَمَّا مَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ فَلَا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ عِنْدَنَا لَوْ تَحَرَّكَ حَرَكَةً قَوِيَّةً أَوْ شَخَبَ دَمُهُ، وَإِنْفَاذُ الْمَقْتَلِ يَكُونُ بِقَطْعِ النُّخَاعِ، وَهُوَ الْمُخُّ الْأَبْيَضُ الَّذِي فِي عَظْمِ الرَّقَبَةِ وَالصُّلْبِ وَقَطْعِ الْأَوْدَاجِ وَخَرْقِ الْمُصْرَانِ مِنْ أَعْلَاهُ وَنَثْرِ الْحَشْوَةِ مِنْ الْجَوْفِ عِنْدَ شَقِّهِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا، وَالْحَشْوَةُ مَا حَوَاهُ الْبَطْنُ مِنْ كَبِدٍ وَطِحَالٍ وَقَلْبٍ، وَالْمُرَادُ بِنَثْرِهَا تَفْرِقَتُهَا بَعْدَ اتِّصَالِهَا لَا خُرُوجُهَا مِنْ الْبَطْنِ مَعَ اتِّصَالِهَا؛ لِأَنَّهَا إذَا رُدَّتْ إلَى الْبَطْنِ يُمْكِنُ أَنْ يَعِيشَ وَيَنْثُرُ الدِّمَاغَ، وَهُوَ الدُّهْنُ الَّذِي تَحُوزُهُ الْجُمْجُمَةُ، وَأَمَّا ثَقْبُ الْكَرِشِ، وَكَذَا شَقُّ الْقَلْبِ، وَمِثْلُهُ الْكَبِدُ، وَكَسْرُ الرَّأْسِ أَوْ خَرْقُ خَرِيطَةِ الدِّمَاغِ أَوْ رَضُّ الْأُنْثَيَيْنِ أَوْ كَسْرُ عَظْمِ الصَّدْرِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْمَتَالِفِ فَلَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذِهِ بِمَقْتَلٍ، وَلِذَلِكَ أَفْتَى ابْنُ رِزْقٍ بِأَكْلِ ثَوْرٍ ذَكِيٍّ وَوُجِدَ كِرْشُهُ مَثْقُوبًا، وَمِمَّا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ الْحَيَوَانُ الَّذِي يَنْتَفِخُ مِنْ أَكْلِ خِلْفَةِ الْبِرْسِيمِ مَثَلًا، وَيَسْقُطُ وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ مِنْ حَيَاتِهِ، وَالْحَيَوَانُ الَّذِي يَبْلَعُ شَيْئًا وَيَقِفُ فِي حَلْقِهِ، وَيَحْصُلُ الْيَأْسُ مِنْ حَيَاتِهِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ شَيْءٌ مِمَّا ذُكِرَ إنْفَاذُ مَقْتَلٍ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ إبَاحَةَ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ مَشْرُوطَةٌ بِذَكَاتِهِ لِحُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ بِالْإِجْمَاعِ بَيَّنَ أَنَّ مَحِلَّ حُرْمَةِ أَكْلِهَا فِي حَالَةِ الِاخْتِيَارِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يُؤْذَنَ (لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ) غَيْرَ الْآدَمِيِّ، وَمِثْلُهَا ضَالَّةُ الْإِبِلِ، وَلَهُ أَنْ يَشْرَبَ كُلَّ مَائِعٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرٍ. (وَ) يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ حَتَّى (يَشْبَعَ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ خِلَافًا لِقَوْلِ خَلِيلٍ: يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَسُدُّ الرَّمَقَ أَيْ يَحْفَظُ الْحَيَاةَ، وَالْمُرَادُ بِالِاضْطِرَارِ خَوْفُ الْهَلَاكِ، وَلَوْ ظَنًّا، وَلَا يُشْتَرَطُ الْوُصُولُ إلَى حَدِّ الْإِشْرَافِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ لَا يَنْتَفِعُ بِالْأَكْلِ بَعْدَهُ. . (وَ) يَجُوزُ لَهُ (أَنْ يَتَزَوَّدَ) مِنْهَا حَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ وُجُودِ شَيْءٍ مِمَّا يَقْدَمُ عَلَى أَكْلِ الْمَيْتَةِ فِي مُدَّةِ سَفَرِهِ. (فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا) وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ الْآدَمِيِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ عَدَمُ جَوَازِهِ لِلْمُضْطَرِّ، وَلَوْ كَافِرًا مِمَّا لَا حُرْمَةَ لَهُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْحَرْبِيِّ، وَالْمَحْضُ إمَّا؛ لِأَنَّهُ يُؤْذِي أَكْلُهُ أَوْ لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ، وَقَوْلُنَا: وَمِثْلُهَا ضَالَّةُ الْإِبِلِ لِقَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَا يَقْرَبُ الْمُضْطَرُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 وَلَا يُبَاعُ. وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ وَبَيْعِهَا. وَيُنْتَفَعُ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا، وَمَا يُنْزَعُ مِنْهَا فِي حَالِ   [الفواكه الدواني] ضَالَّةَ الْإِبِلِ، وَقَيَّدْنَا الْمَشْرُوبَ بِغَيْرِ الْخَمْرِ؛ لِاسْتِمْرَارِ حُرْمَةِ الْخَمْرِ لِعَدَمِ إزَالَتِهَا الْعَطَشَ بَلْ رُبَّمَا تَزِيدُهُ، وَأَمَّا شُرْبُهَا لِلْغُصَّةِ فَيَجُوزُ عِنْدَ خَلِيلٍ وَيَحْرُمُ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ جَوَازُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَلَوْ مُسَافِرًا عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الرُّخْصَةَ لَا تَتَقَيَّدُ بِالسَّفَرِ. الثَّانِي: مَحَلُّ جَوَازِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ حَيْثُ لَمْ يَجِدْ طَعَامَ الْغَيْرِ، وَإِلَّا قَدَّمَهُ عَلَيْهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ ضَالَّةُ إبِلٍ، وَلَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ فِيمَا فِيهِ الْقَطْعُ أَوْ الضَّرْبَ الشَّدِيدَ فِيمَا لَا قَطْعَ فِيهِ، فَإِذَا أَكَلَ مِنْ طَعَامِ الْغَيْرِ عِنْدَ عَدَمِ خَوْفِ الْقَطْعِ أَوْ الضَّرْبِ فَقِيلَ: يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ مِنْ غَيْرِ شِبَعٍ وَتَزَوُّدٍ وَعَلَيْهِ الْمَوَّاقُ، وَقِيلَ: يَشْبَعُ، وَلَا يَتَزَوَّدُ وَعَلَيْهِ الْحَطَّابُ. وَفِي الذَّخِيرَةِ: إذَا عَلِمَ طُولَ سَفَرِهِ فَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّدَ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ صَاحِبُ الطَّعَامِ مِنْ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا يَكْفِيهِ فَلَهُ أَنْ يُقَاتِلَهُ عَلَيْهِ بَعْدَ إعْلَامِهِ بِالِاضْطِرَارِ وَبِالْمُقَاتَلَةِ إنْ مَنَعَهُ فَدَمُ صَاحِبِ الطَّعَامِ هَدَرٌ، بِخِلَافِ الْمُضْطَرِّ، وَحَيْثُ أَكَلَ طَعَامَ الْغَيْرِ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ، وَلَوْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ أَكْلِهِ بِأَنْ خَافَ الْقَطْعَ أَوْ الضَّرْبَ، وَكَانَ مَعَهُ مِنْ الْمَيْتَةِ مَا يُغْنِيهِ عَنْهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ مَيْتَةٌ أَكَلَ مِنْهُ، وَلَوْ خَافَ الْقَطْعَ لِوُجُوبِ حِفْظِ النَّفْسِ، وَلِصَاحِبِهِ الثَّمَنُ إنْ وُجِدَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَعَهُ مَيْتَةٌ، وَلَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ فَقِيلَ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا، وَقِيلَ يَلْزَمُهُ إنْ وُجِدَ رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّالِثُ: الظَّاهِرُ مِنْ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِلَا بَأْسٍ إبَاحَةُ أَكْلِ الْمَيْتَةِ، وَجَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَقِيلَ إنَّهَا مِنْ بَابِ النَّجَسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ فَهِيَ طَاهِرَةٌ، وَعَلَى الثَّانِي هِيَ بَاقِيَةٌ عَلَى نَجَاسَتِهَا، هَكَذَا قَالَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ وَفِيهِ تَأَمُّلٌ، إذْ الضَّرُورَةُ لَيْسَتْ مِمَّا يَرْفَعُ حُكْمَ الْخَبَثِ، غَايَتُهَا رَفْعُ الْحَرَجِ عِنْدَ التَّنَاوُلِ كَمَا فِي الْمَعْفُوَّاتِ، فَظَهَرَ أَنَّهَا مِنْ النَّجَسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ حُرْمَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الِاخْتِيَارِ حُرْمَةُ الِانْتِفَاعِ بِسَائِرِ أَجْزَائِهَا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا) أَيْ الْمَيْتَةِ، وَهِيَ كُلُّ مَا مَاتَ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ (إذَا دُبِغَ) أَيْ فُعِلَ بِهِ مَا يُزِيلُ الرِّيحَ وَالرُّطُوبَةَ وَيَحْفَظُهُ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ كَمَا تَحْفَظُهُ الْحَيَاةُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَرُخِّصَ فِيهِ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ خِنْزِيرٍ بَعْدَ دَبْغِهِ فِي يَابِسٍ، وَمَاءٍ، وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ كَانَ مِمَّا يَحِلُّ أَكْلُهُ أَوْ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ الْيَابِسَ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ، وَالْمَاءُ لَهُ قُوَّةُ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ فَيُخَزَّنُ فِي الْجُلُودِ نَحْوَ الْقَمْحِ وَالْفُولِ، وَلَا يُطْحَنُ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَنْفَصِلَ مِنْهُ شَيْءٌ، وَيَدْخُلُ فِي الِانْتِفَاعِ بِهِ لُبْسُهُ وَالْجُلُوسُ عَلَيْهِ فِي غَيْرِ وَقْتِ الصَّلَاةِ، وَلَا يَجُوزُ وَضْعُ نَحْوِ السَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَالزَّيْتِ فِيهِ لِضَعْفِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بِخِلَافِ الْمَاءِ، وَمَفْهُومُ دُبِغَ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْبُوغِ لَا يُسْتَعْمَلُ فِي شَيْءٍ، وَلَوْ يَابِسًا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْتَ مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْإِجْمَالَ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا إطْلَاقُهُ فِي الِانْتِفَاعِ مَعَ تَقْيِيدِهِ بِالْيَابِسِ وَالْمَاءِ. وَالثَّانِي شُمُولُهُ لِجِلْدِ الْخِنْزِيرِ وَالْآدَمِيِّ مَعَ أَنَّهُمَا لَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِمَا مُطْلَقًا لِقَذَارَةِ الْأَوَّلِ وَشَرَفِ الثَّانِي. الثَّانِي: إنَّمَا قَصَرَ الِانْتِفَاعَ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ عَلَى الْيَابِسِ وَالْمَاءِ لِعَدَمِ طَهَارَتِهَا عِنْدَنَا بِالدِّبَاغِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ» أَيْ جِلْدٍ «دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» فَالْمُرَادُ الطَّهَارَةُ اللُّغَوِيَّةُ بِمَعْنَى النَّظَافَةِ لَا الشَّرْعِيَّةُ، وَقَدْ أَسْلَفْنَا مَا يُعْرَفُ بِهِ حَقِيقَةُ الدِّبَاغِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إزَالَةُ الشَّعْرِ عَلَى أَظْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. وَلَمَّا كَانَ جِلْدُ الْمَيْتَةِ لَا يَطْهُرُ عِنْدَنَا بِالدِّبَاغِ قَالَ: (وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ) ، وَلَا فِيهِ إلَّا أَنْ لَا يَجِدَ مُرِيدُ الصَّلَاةِ سِوَاهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السَّتْرُ بِهِ؛ لِأَنَّ طَهَارَةَ الْخَبَثِ إنَّمَا تَجِبُ فِي الصَّلَاةِ مَعَ الذِّكْرِ وَالْقُدْرَةِ، وَأَفْهَمَ فَرْضُ الْكَلَامِ فِي الْجِلْدِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَيْهِ شَعْرٌ طَوِيلٌ بِحَيْثُ يَسْتُرُ الْجِلْدَ سَتْرًا قَوِيًّا بِحَيْثُ لَا يَظْهَرُ مِنْهُ شَيْءٌ وَأَيْقَنَ بِطَهَارَتِهِ فَإِنَّهُ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَلَوْ جِلْدَ كَلْبٍ أَوْ خِنْزِيرٍ؛ لِأَنَّ الشَّعْرَ عِنْدَنَا طَاهِرٌ فَيُشْبِهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْحَصِيرَ الْمُتَّصِلَ بِأَسْفَلِهِ نَجَاسَةٌ. (وَ) كَذَا (لَا يُبَاعُ) جِلْدُ الْمَيْتَةِ؛ لِأَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ عِنْدَنَا طَهَارَةُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ لَا تَجُوزُ إجَارَتُهُ، وَلَا دَفْعُهُ قِيمَةَ الشَّيْءِ، وَيَكُونُ ذَلِكَ جُرْحَةً فِي شَهَادَةِ الْفَاعِلِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَدْبُوغًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَدْبُوغًا فَلَا يُجْرَحُ لِلْخِلَافِ فِيهِ بَعْدَ الدَّبْغِ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ يُرَدُّ الْبَيْعُ مَا لَمْ يَفُتْ، وَإِلَّا يَرُدَّ الثَّمَنُ وَغَرِمَ الْمُشْتَرِي الْقِيمَةَ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ بَيْعِهِ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَغُرْمِ الْقِيمَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ حِلِّ الْبَيْعِ وَغُرْمِ الْقِيمَةِ، بِدَلِيلِ كَلْبِ الصَّيْدِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ فَإِنَّهَا لَا تُبَاعُ وَعَلَى مُتْلِفِهَا قِيمَتُهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى جُلُودِ الْمَيْتَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى جِلْدِ الْمُذَكَّى فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ) وَنَحْوِهَا مِنْ كُلِّ حَيَوَانٍ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ لِيَشْمَلَ الْفِيلَ وَالذِّئْبَ وَالثَّعْلَبَ وَالضَّبُعَ وَالْهِرَّ، وَبَيَّنَ شَرْطَ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: (إذَا ذُكِّيَتْ) ، وَلَوْ بِالْعُقْرِ عِنْدَ عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى ذَبْحِهَا سَوَاءٌ ذُبِحَتْ لِجِلْدِهَا أَوْ لِلَحْمِهَا بِنَاءً عَلَى عَدَمِ تَبَعُّضِ الذَّكَاةِ، وَارْتَضَاهُ الْبُرْهَانُ اللَّقَانِيُّ، وَأَمَّا عَلَى مَا ارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ. مِنْ أَنَّ الْمَذْهَبَ أَنَّهَا تَتَبَعَّضُ فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهَا إلَّا إذَا ذُكِّيَتْ لِأَخْذِ جِلْدِهَا، وَأَوْلَى لَوْ ذُكِّيَتْ لَهُمَا، وَمَفْهُومُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 الْحَيَاةِ، وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُغْسَلَ وَلَا يُنْتَفَعُ بِرِيشِهَا وَلَا بِقَرْنِهَا، وَأَظْلَافِهَا، وَأَنْيَابِهَا. وَكُرِهَ الِانْتِفَاعُ بِأَنْيَابِ الْفِيلِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَمَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عَسَلٍ ذَائِبٍ طُرِحَ، وَلَمْ يُؤْكَلْ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسْتَصْبَحَ بِالزَّيْتِ وَشِبْهِهِ فِي   [الفواكه الدواني] السِّبَاعِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا جِلْدٌ مُبَاحُ الْأَكْلِ بَعْدَ ذَكَاتِهِ تَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ بِالْأَوْلَى، وَثَانِيهِمَا مُحَرَّمُ الْأَكْلِ يُذَكَّى لِأَكْلِهِ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَلَا يَجُوزُ الصَّلَاةُ عَلَى جِلْدِهِ؛ لِأَنَّ مُحَرَّمَ الْأَكْلِ عِنْدَنَا لَا يَطْهُرُ بِتَذْكِيَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الطَّاهِرِ: وَمَا ذُكِّيَ وَجُزْؤُهُ إلَّا مُحَرَّمَ الْأَكْلِ. (وَ) كَمَا لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ (لَا بَأْسَ بِبَيْعِهَا) وَلَوْ كَانَتْ عَلَى ظُهُورِ السِّبَاعِ قَبْلَ ذَكَاتِهَا، بِخِلَافِ جُلُودِ الْغَنَمِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهَا عَلَى ظُهُورِهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَيَصِحُّ عَطْفُ بَيْعِهَا عَلَى الصَّلَاةِ، وَيَكُونُ الضَّمِيرُ لِلسِّبَاعِ لَا لِجُلُودِهَا، وَيُقَيَّدُ بِمَا إذَا كَانَ شِرَاؤُهَا لِجِلْدِهَا أَوْ عَظْمِهَا قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ هُوَ وَسَبُعٌ لِلْجِلْدِ، وَأَمَّا بَيْعُهَا لِلَحْمِهَا أَوْ لِلَحْمِهَا وَجِلْدِهَا فَمَكْرُوهٌ، وَإِذَا ذُكِّيَتْ لِجِلْدِهَا فَقَطْ فَيُؤْكَلُ لَحْمُهَا عَلَى عَدَمِ تَبْعِيضِ الذَّكَاةِ. وَلَمَّا كَانَ الشَّعْرُ عِنْدَنَا طَاهِرًا، وَلَوْ مِنْ مَيْتَةٍ قَالَ: (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يُنْتَفَعَ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا) الْمَنْزُوعِ مِنْهَا بَعْدَ الْمَوْتِ. (وَ) كَذَا (مَا) أَيْ الصُّوفُ وَالشَّعْرُ الَّذِي (يُنْزَعُ مِنْهَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الطَّاهِرِ: وَصُوفٍ وَوَبَرٍ وَزَغَبِ رِيشٍ وَشَعْرٍ، وَلَوْ مِنْ خِنْزِيرٍ، وَإِنْ جُزَّتْ، وَالْمُرَادُ بِالْجَزِّ مَا قَابَلَ النَّتْفَ، وَالْحُكْمُ بِطَهَارَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ الْمَيْتَةِ لَا يُنَافِي وُجُوبَ بَيَانِ حَالِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ إنْ جُزَّتْ مِنْ الْمَيْتَةِ لِضَعْفِ قُوَّةِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَيْتَةِ دُونَ غَيْرِهَا. (وَأَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ إذَا شَكَكْنَا فِي حِلِّ الشَّعْرِ أَوْ الصُّوفِ بَعْدَ الْجَزِّ (أَنْ يُغْسَلَ) ، وَلَوْ جُزَّ مِنْ حَيٍّ، وَأَمَّا عِنْدَ تَحَقُّقِ النَّجَاسَةِ فَلَا شَكَّ فِي وُجُوبِ غَسْلِهِ، وَعِنْدَ تَحَقُّقِ الطَّهَارَةِ النَّدْبُ فَالصُّوَرُ ثَلَاثٌ فِي الْمَجْزُوزِ، وَأَمَّا الْمَنْتُوفُ مِنْ غَيْرِ الْمُذَكَّى فَيَجِبُ أَنْ يُجَزَّ مَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَيْتَةِ. (وَ) مَفْهُومُ الصُّوفِ وَالشَّعْرِ أَنَّهُ (لَا يُنْتَفَعُ بِرِيشِهَا) أَيْ بِقَصَبَةِ الرِّيشِ (وَلَا بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَنْيَابِهَا) لِنَجَاسَتِهَا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ: وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَعَاجٍ وَظُفُرٍ وَقَصَبَةِ رِيشٍ، وَمَفْهُومُ مِنْ حَيٍّ، وَمَيِّتٍ أَنَّ الْمُبَانَ عَنْ الْمُذَكَّى ذَكَاةً شَرْعِيَّةً مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ طَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ جُزْءُ طَاهِرٍ. (تَنْبِيهٌ) عَبَّرَ الْمُصَنِّفُ بِالِانْتِفَاعِ وَسَكَتَ عَنْ الطَّهَارَةِ لِفَهْمِهَا مِنْ حِلِّ الِانْتِفَاعِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ؛ لِأَنَّ نَجَسَ الْعَيْنِ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيُنْتَفَعُ بِمُتَنَجِّسٍ لَا نَجِسٍ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَآدَمِيٍّ إلَّا الْجِلْدَ بَعْدَ دَبْغِهِ عَلَى مَا مَرَّ فَيُنْتَفَعُ بِهِ مَعَ نَجَاسَتِهِ فَهُوَ مُسْتَثْنًى، وَعَكَسَ مَعَ الْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ فَسَلَبَ الِانْتِفَاعَ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُنْتَفَعُ بِرِيشِهَا لِفَهْمِ نَجَاسَتِهَا مِنْ حُرْمَةِ الِانْتِفَاعِ بِهَا وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَأَنْيَابِهَا شَامِلًا لِنَابِ الْفِيلِ مَعَ أَنَّ فِيهِ خِلَافًا قَالَ: (وَكُرِهَ الِانْتِفَاعُ بِأَنْيَابِ الْفِيلِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْكَرَاهَةِ فَبَعْضُهُمْ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَهَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَصَرِيحُ الْمُدَوَّنَةِ الْقَرِيبُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْبَابِ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَيْتَةٍ؛ لِأَنَّ لَفْظَ الْمُدَوَّنَةِ: وَأَكْرَهُ الْأَدْهَانَ فِي أَنْيَابِ الْفِيلِ وَالتَّمَشُّطَ بِهَا وَالتِّجَارَةَ فِيهَا؛ لِأَنَّهَا مَيْتَةٌ فَتُحْمَلُ الْكَرَاهَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَمِثْلُ نَابِ الْمَيْتَةِ الْمُنْفَصِلِ مِنْ الْفِيلِ حَالَ حَيَاتِهِ، وَأَمَّا نَابُ الْفِيلِ الْمُذَكَّى، وَلَوْ بِالْعُقْرِ فَإِنَّهُ مَكْرُوهٌ وَالْكَرَاهَةُ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِي نَجَاسَةِ الزَّيْتِ الْمَوْضُوعِ فِي إنَاءِ الْعَاجِ، وَاَلَّذِي تَحَرَّرَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَا يَتَحَلَّلُ مِنْهُ شَيْءٌ يَقِينًا فَإِنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ كَعَظْمِ الْحِمَارِ الْبَالِي فَإِنَّهُ لَا يُنَجِّسُ مَا وَقَعَ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَلَّلَ مِنْهُ شَيْءٌ فَلَا شَكَّ فِي نَجَاسَتِهِ، وَقِسْ عَلَى ذَلِكَ سَائِرَ الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ الْجَافَّةِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ فِي حُكْمِ الطَّعَامِ إذَا حَلَّتْ فِيهِ نَجَاسَةٌ بِقَوْلِهِ: (وَمَا مَاتَتْ فِيهِ فَأْرَةٌ) بِالْهَمْزِ عَلَى الصَّوَابِ (مِنْ سَمْنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ عَسَلٍ ذَائِبٍ) رَاجِعٌ لِلسَّمْنِ وَالزَّيْتِ، وَكُلُّ مَائِعٍ مِنْ غَيْرِهَا كَذَلِكَ. (طُرِحَ، وَلَمْ يُؤْكَلْ) لِنَجَاسَةِ الطَّعَامِ عِنْدَنَا بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ قَالَ خَلِيلٌ: يَنْجُسُ كَثِيرُ طَعَامٍ مَائِعٍ بِنَجَسٍ قَلَّ كَجَامِدٍ إنْ أَمْكَنَ السَّرَيَانُ، وَإِلَّا فَبِحَسَبِهِ، وَلِلْمَاءِ الْمُضَافِ حُكْمُ الطَّعَامِ فِي التَّنْجِيسِ بِمُجَرَّدِ مُلَاقَاةِ النَّجَاسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ تَحَلُّلُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَلَا يُشْتَرَطُ التَّغَيُّرُ إلَّا فِي الْمَاءِ الْمُطْلَقِ؛ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «خَلَقَ اللَّهُ الْمَاءَ طَهُورًا لَا يُنَجِّسُهُ شَيْءٌ إلَّا مَا غَيَّرَ لَوْنَهُ أَوْ طَعْمَهُ أَوْ رِيحَهُ» ، وَلِأَنَّ الْمَاءَ لَهُ قُوَّةُ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ. وَمَفْهُومُ مَاتَتْ أَنَّهَا لَوْ أُخْرِجَتْ حَيَّةً لَا يُطْرَحُ وَيُؤْكَلُ لِطَهَارَةِ الْحَيِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى جَسَدِهَا نَجَاسَةٌ، وَمَفْهُومُ فَأْرَةٍ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ فِيهِ شَيْءٌ مِمَّا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ كَالْعَقْرَبِ وَالْخُنْفُسَاءِ فَلَا يُطْرَحُ مُطْلَقًا، بَلْ إنْ أَمْكَنَ إزَالَتُهُ أُزِيلَ، وَأُكِلَ نَحْوَ السَّمْنِ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ تَعَذَّرَ تَمْيِيزُهُ فَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ الطَّعَامِ أُكِلَ مَعَ الطَّعَامِ، وَإِنْ سَاوَى الطَّعَامَ فَقَوْلَانِ الْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا حُرْمَةُ أَكْلِهِ؛ لِأَنَّ نَحْوَ الْخُنْفُسِ مِمَّا لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ إلَّا بِذَكَاةٍ، وَهِيَ مَفْقُودَةٌ هُنَا، وَاغْتُفِرَ أَكْلُ الْقَلِيلِ تَبَعًا لِلطَّعَامِ كَسُوسِ الْفُولِ وَالْعَدَسِ وَالتَّمْرِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُفَتِّشُهُ فَلِإِعَافَةِ النَّفْسِ لَا لِحُرْمَةِ أَكْلِهِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ طَرْحُهُ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ طَهَارَةِ مَيْتَةِ الْحَيَوَانِ الْبَرِّيِّ الَّذِي لَا نَفْسَ لَهُ سَائِلَةٌ جَوَازُ أَكْلِهِ مِنْ غَيْرِ ذَكَاةٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا حَيَوَانُ الْبَحْرِ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى ذَكَاةٍ، وَلَمَّا قَالَ: طُرِحَ، وَلَمْ يُؤْكَلْ عُلِمَ مِنْهُ أَنَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 غَيْرِ الْمَسَاجِدِ وَلْيُتَحَفَّظْ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ جَامِدًا طُرِحَتْ، وَمَا حَوْلَهَا وَأُكِلَ مَا بَقِيَ قَالَ سَحْنُونٌ إلَّا أَنْ يَطُولَ مُقَامُهَا فِيهِ فَإِنَّهُ يُطْرَحُ كُلُّهُ. وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحِهِمْ. وَكُرِهَ أَكْلُ شُحُومِ الْيَهُودِ مِنْهُمْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ. وَلَا يُؤْكَلُ مَا ذَكَّاهُ   [الفواكه الدواني] الْمُحَرَّمَ أَكْلُهُ فَقَطْ فَلِذَا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يَجُوزُ (أَنْ يُسْتَصْبَحَ) أَيْ يُوقَدَ (بِالزَّيْتِ وَشِبْهِهِ) مِمَّا لَا يَقْبَلُ التَّطْهِيرَ (فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ) كَالْبُيُوتِ، وَمِثْلُهَا الْمَسَاجِدُ حَيْثُ كَانَ الدُّخَانُ يَخْرُجُ عَنْهَا. (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَصْبِحِ بِهِ أَنْ (يَتَحَفَّظَ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ نَجَسٌ) أَيْ مُتَنَجِّسٌ، وَلِذَا لَا يُوقَدُ بِهِ الْمَسْجِدُ حَيْثُ كَانَ يَنْعَكِسُ الدُّخَانُ فِيهِ، وَكَذَا لَا يُبْنَى بِمُونَةٍ عُجِنَتْ بِزَيْتٍ مُتَنَجِّسٍ، وَلَا بِطُوبٍ مُتَنَجِّسٍ، وَلَا يُسْقَفُ بِخَشَبٍ مُتَنَجِّسٍ؛ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ يَجِبُ تَنْزِيهُهَا عَنْ النَّجَاسَاتِ، فَإِنْ وَقَعَ وَبُنِيَ الْمَسْجِدُ بِطِينٍ أَوْ مُونَةٍ مَخْلُوطَةٍ بِنَجَاسَةٍ فَإِنَّهُ يُهْدَمُ، وَإِنَّمَا تُلْبَسُ الْأَشْيَاءُ الْمُتَنَجِّسَةُ بِشَيْءٍ طَاهِرٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيُنْتَفَعُ بِمُتَنَجِّسٍ لَا نَجَسٍ فِي غَيْرِ مَسْجِدٍ وَآدَمِيٍّ فَيُعْمَلُ الزَّيْتُ الْمُتَنَجِّسُ صَابُونًا، وَتُغْسَلُ بِهِ الثِّيَابُ وَتُغْسَلُ بَعْدَهُ بِمُطْلَقٍ، وَيُدْهَنُ بِهِ الْحَبْلُ وَالْعَجَلَةُ وَالطَّاحُونُ وَالدِّلَاءُ، وَيُعْلَفُ الْعَسَلُ لِلنَّحْلِ، وَيُطْعَمُ الطَّعَامُ لِلدَّوَابِّ، وَلَوْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ، وَاقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْمَسَاجِدِ؛ لِأَنَّ الْآدَمِيَّ أَحْرَى فِي عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِهٍ أَوْ ادِّهَانِهِ بِالزَّيْتِ الْمُتَنَجِّسِ، وَيُفْهَمُ مِنْ نَجَاسَةِ مَا ذَكَرَ عَدَمُ حِلِّ بَيْعِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطٌ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ طَهَارَةٌ لَا كَزِبْلٍ وَزَيْتٍ تَنَجَّسَ؛ لِعَدَمِ قَبُولِهَا الطَّهَارَةِ، فَأَشْبَهَتْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ مَا نَجَاسَتُهُ أَصْلِيَّةٌ، وَكَذَلِكَ يَجُوزُ بَيْعُ الثَّوْبِ الْمُتَنَجِّسِ مَعَ وُجُوبِ بَيَانِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي غَيْرَ مُصَلٍّ، وَلَوْ لَمْ يُفْسِدْهُ الْغُسْلُ لِكَرَاهَةِ النُّفُوسِ، ذَلِكَ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْجَدِيدِ وَالْمَلْبُوسِ، وَفُهِمَ مِنْ فَرْضِ الْمَسْأَلَةِ فِي الزَّيْتِ، وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ كُلِّ مَا أَصْلُهُ طَاهِرٌ وَتَطْرَأُ عَلَيْهِ النَّجَاسَةُ، أَنَّ الْأَعْيَانَ النَّجِسَةَ لَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهَا لَا فِي مَسْجِدٍ، وَلَا غَيْرِهِ إلَّا الْمَيْتَةُ لِلْكِلَابِ أَوْ الْإِيقَادِ بِهَا أَوْ بِعَظْمِهَا عَلَى طُوبٍ لِحَرْقِهِ، أَوْ لِتَخْلِيصِ نَحْوِ الْفِضَّةِ أَوْ دُهْنِ نَحْوِ الطَّاحُونِ أَوْ السَّاقِيَةِ بِشَحْمِ الْمَيْتَةِ، أَوْ جَعْلِ الْعَذِرَةِ فِي الْمَاءِ لِسَقْيِ الزَّرْعِ أَوْ الشَّجَرِ، أَوْ التَّبْخِيرِ بِلَحْمِ مَيْتَةِ السَّبُعِ إذَا لَمْ يَعْلَقْ دُخَّانُهَا بِالثِّيَابِ، وَالِاصْطِيَادِ بِهَا حَيْثُ كَانَتْ غَيْرَ خَمْرٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ جَائِزَةٌ، وَأَمَّا الْخَمْرُ فَلَا يَحِلُّ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِي شَيْءٍ، وَيَجِبُ إرَاقَةُ الْخَمْرِ، وَلَوْ قَصَدَ الْإِرَاقَةَ فَتَحَ بَالُوعَةً خِلَافًا لِبَحْثِ الْحَطَّابِ، رَاجِعْ شَرْحَ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ. (وَ) مَفْهُومُ السَّمْنِ أَوْ الْعَسَلِ أَوْ الزَّيْتِ الذَّائِبِ أَنَّهُ (إنْ كَانَ) الَّذِي مَاتَتْ فِيهِ الْفَأْرَةُ (جَامِدًا طُرِحَتْ) مِنْهُ (وَ) طُرِحَ (مَا حَوْلَهَا) مِمَّا يُظَنُّ فِيهِ سَرَيَانُ النَّجَاسَةِ (وَأُكِلَ) أَوْ بِيعَ (مَا بَقِيَ) مِنْهُ (قَالَ سَحْنُونٌ) ، وَمَحَلُّ الِاكْتِفَاءِ بِطَرْحِ مَا حَوْلَهَا (إلَّا أَنْ يَطُولَ مَقَامُهَا فِيهِ) بِحَيْثُ يُظَنُّ السَّرَيَانُ بِجَمِيعِهِ (فَإِنَّهُ يُطْرَحُ كُلُّهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيَنْجُسُ كَثِيرُ طَعَامٍ مَائِعٍ بِنَجَسٍ قَلَّ كَجَامِدٍ إنْ أَمْكَنَ السَّرَيَانُ، وَإِلَّا فَبِحَسَبِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا وَقَعَتْ الْفَأْرَةُ فِي السَّمْنِ فَإِنْ كَانَ جَامِدًا فَأَلْقُوهَا، وَمَا حَوْلَهَا، وَإِنْ كَانَ مَائِعًا فَلَا تَقْرَبُوهُ» . وَمِنْ ذَلِكَ مَسْأَلَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَهِيَ: مَنْ فَرَّغَ عَشَرَ قِلَالٍ سَمْنٍ فِي زِقَاقٍ ثُمَّ وَجَدَ بِقُلَّةٍ مِنْهَا فَأْرَةً يَابِسَةً لَا يَدْرِي فِي أَيِّ الزِّقَاقِ فَرَّغَهَا حَرُمَ أَكْلُ جَمِيعِ الزِّقَاقِ وَبَيْعُهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: يَنْجُسُ مِثْلُهُ لِمُتَنَجِّسٍ وَلِابْنِ عَرَفَةَ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ: مَنْ أَدْخَلَ يَدَهُ فِي آنِيَةُ زَيْتٍ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةٍ ثُمَّ بَانَ بِأَوَّلِهَا فَأْرَةٌ مَيِّتَةٌ فَالثَّلَاثَةُ نَجِسَةٌ وَفِي الرَّابِعِ فَمَا فَوْقَهُ خِلَافٌ، نَقَلَ ابْنُ الْحَارِثِ عَنْ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ قَائِلًا: وَلَوْ كَانَتْ مِائَةَ وَقَوْلُ أَصْبَغَ. اهـ. . (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مِثْلُ مَوْتِ الْفَأْرَةِ فِي الطَّعَامِ سُقُوطُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ أَنْوَاعِ مَا يُعْفَى عَنْهُ كَيَسِيرِ الدَّمِ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْفَأْرَةُ يَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا فَتْوَى ابْنِ عَرَفَةَ بِأَكْلِ طَعَامٍ طُبِخَ فِيهِ رَوْثُ الْفَأْرَةِ إذَا كَانَتْ كَثِيرَةً وَيَعْسُرُ الِاحْتِرَازُ مِنْهَا بِحَيْثُ يَغْلِبُ سُقُوطُ رَوْثِهَا فِيهِ، فَأَجَابَ عَنْهُ الْبُرْزُلِيُّ بِأَنَّهُ إمَّا لِلضَّرُورَةِ كَفَتْوَى سَحْنُونٍ فِي الْعَفْوِ عَنْ بَوْلِ الدَّوَابِّ عَلَى الزَّرْعِ فِي حَالِ دَرْسِهَا، أَوْ لِلْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي طَهَارَةِ فَضْلَتِهَا. الثَّانِي: مِثْلُ الزَّيْتِ فِي صَيْرُورَتِهِ نَجَسًا بِمُجَرَّدِ سُقُوطِ مَائِعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ، وَعَدَمِ قَبُولِهِ التَّطْهِيرِ اللَّحْمُ الْمَطْبُوخُ بِالنَّجَسِ، وَالْبَيْضُ الْمَسْلُوقُ بِهِ وَالزَّيْتُونُ يُمَلَّحُ بِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَطْهُرُ زَيْتٌ خُولِطَ، وَلَحْمٌ طُبِخَ وَزَيْتُونٌ مُلِّحَ وَبَيْضٌ سُلِقَ بِنَجَسٍ وَفَخَّارٌ بِغَوَّاصٍ، وَمِثْلُ سَلْقِ الْبَيْضِ بِالْمَاءِ النَّجَسِ أَوْ الْمُتَنَجِّسِ وُجُودُ وَاحِدَةِ مَذِرَةٍ فِيهِ بَعْدَ السَّلْقِ، وَمِثْلُ الزَّيْتُونِ الْمُمَلَّحِ بِالنَّجَاسَةِ الْجُبْنُ الْمُتَحَوْلِمُ مَعَ النَّجَاسَةِ، وَمِثْلُ طَبْخِ اللَّحْمِ مُصَاحِبًا لِلنَّجَاسَةِ وَضْعُهُ نِيًّا فِيهَا بِحَيْثُ يُظَنُّ سَرَيَانُهَا فِيهِ. وَمَفْهُومُ مَا ذَكَرَ أَنَّ سُقُوطَ النَّجَاسَةِ عَلَى اللَّحْمِ بَعْدَ تَنَاهِي طَبْخِهِ، أَوْ عَلَى الزَّيْتُونِ بَعْدَ تَنَاهِي تَمْلِيحِهِ، أَوْ عَلَى الْجُبْنِ بَعْدَ تَحَوْلُمِهِ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ يَلِ يُغْسَلُ وَيُؤْكَلُ، وَإِنْ كَانَ اللَّحْمُ فِي طَبِيخٍ تَنَجَّسَ الطَّبِيخُ وَيُغْسَلُ اللَّحْمُ كَمَا يَتَنَجَّسُ الزَّيْتُ أَوْ مِشُّ الْجُبْنِ، وَيُغْسَلُ الزَّيْتُونُ وَالْجُبْنَةُ غَيْرُ الْقَرِيشَةِ، كَمَا أَنَّ الرَّأْسَ وَالْأَكَارِعَ إذَا شُوِيَتْ بِدَمِهَا عَلَى النَّارِ لَا تُنَجَّسُ بَلْ تُغْتَسَلُ وَتُؤْكَلُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا وَضْعُ الْفِرَاخِ فِي الْمَاءِ السُّخْنِ أَوْ فِي مَحَلِّ الْخَبْزِ بَعْدَ بَلِّهَا وَبَعْدَ ذَبْحِهَا وَقَبْلَ غَسْلِ دَمِهَا لِيَسْهُلَ نَتْفُ رِيشِهَا فَلَا يُنَجِّسُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الْمَجُوسِيُّ ، وَمَا كَانَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذَكَاةٌ مِنْ طَعَامِهِمْ فَلَيْسَ بِحَرَامٍ وَالصَّيْدُ لِلَّهْوِ مَكْرُوهٌ وَالصَّيْدُ لِغَيْرِ اللَّهْوِ مُبَاحٌ. وَكُلُّ مَا   [الفواكه الدواني] فَيَكْفِي غَسْلُهَا قَبْلَ طَبْخِهَا، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. [أَكْلُ ذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ تَنَاوُلِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ طَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ) وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَجُوزُ لَنَا مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ أَكْلُ ذَبِيحَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَهِيَ الْمُرَادَةُ بِطَعَامِهِمْ. وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ: لَا بَأْسَ بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَذَبَائِحهمْ، وَعَلَيْهِ يَكُونُ عَطْفُ ذَبَائِحهمْ عَلَى طَعَامِهِمْ عَطْفَ تَفْسِيرٍ، وَأَهْلُ الْكِتَابِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الصَّغِيرُ مِنْهُمْ وَالْكَبِيرُ وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] الْآيَةَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: حَمَلُوا طَعَامَهُمْ عَلَى ذَبَائِحِهِمْ فَلَا بَأْسَ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ، وَلَا بُدَّ لِلْجَوَازِ مِنْ شُرُوطٍ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: إنْ ذَبَحَ لِنَفْسِهِ مُسْتَحِلَّةً، وَإِنْ أَكَلَ الْمَيْتَةَ إنْ لَمْ يَغِبْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَذْبَحَهُ بِحَضْرَةِ مُسْلِمٍ يَعْرِفُ صِفَةَ الذَّكَاةِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنْ لَا يَذْبَحَهُ بِاسْمٍ نَحْوِ الصَّنَمِ فَإِنْ ذَبَحَهُ بِاسْمِ الصَّنَمِ فَقَطْ حَرُمَ عَلَيْنَا أَكْلُهُ، كَمَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَكْلُ مَا ذَبَحَهُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ فِي شَرْعِنَا كَذَوَاتِ الظُّفُرِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ذَبَحَ مَا هُوَ حَلَالٌ لَهُ بِشَرْعِنَا، وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ فِي شَرْعِهِ فَقَطْ كَالطَّرِيفَةِ فَلَا يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَكْلُهُ بَلْ يُكْرَهُ فَقَطْ، فَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ ثَلَاثَةٌ: أَنْ يَذْبَحَ مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَذْبُوحُهُ حَلَالًا لَهُ بِشَرْعِنَا، وَأَنْ لَا يَذْبَحَهُ بِاسْمِ الصَّنَمِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي إبَاحَةِ أَكْلِ مَا ذَكَّاهُ مَعَ الشُّرُوطِ نِيَّةٌ، وَلَا تَسْمِيَةٌ، وَأَمَّا لَوْ اسْتَنَابَهُ مُسْلِمٌ وَذَبَحَ لَهُ فَحَكَى فِيهِ خَلِيلٌ قَوْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ: وَفِي ذَبْحِ كِتَابِيٍّ لِمُسْلِمٍ قَوْلَانِ. (وَكُرِهَ) لِلْمُسْلِمِ (أَكْلُ شُحُومِ) ذَبَائِحِ (الْيَهُودِ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِمْ بِشَرْعِنَا، كَشَحْمِ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ الْخَالِصِ كَالثَّرْبِ بِالْمُثَلَّثَةِ الشَّحْمُ الرَّقِيقُ الَّذِي يَغْشَاهُ الْكِرْشُ وَالْأَمْعَاءُ، وَلَمَّا خَشِيَ مِنْ حَمْلِ الْكَرَاهَةِ عَلَى التَّحْرِيمِ قَالَ: (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ) فَإِنْ قِيلَ: الشَّحْمُ الْمَذْكُورُ مُحَرَّمٌ عَلَى الْيَهُودِ بِشَرْعِنَا فَلِمَ لَمْ يَكُنْ حَرَامًا؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ جُزْءٌ مُذَكَّى حَلَالٌ لَهُ لَكِنْ لِحُرْمَتِهِ عَلَيْهِ كُرِهَ لَنَا أَكْلُهُ، وَأَيْضًا لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ الشَّحْمَ بِالتَّذْكِيَةِ أَشْبَهَ الدَّمَ الَّذِي لَمْ يَقْصِدْهُ الْمُسْلِمُ. (وَ) مَفْهُومُ أَهْلِ الْكِتَابِ أَنَّهُ (لَا يُؤْكَلُ مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ) وَغَيْرُهُ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَوْ ذَكَّى مَا هُوَ مِلْكٌ لَهُ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَتَنَصَّرَ أَوْ يَتَهَوَّدَ أَوْ يَأْمُرَهُ الْمُسْلِمُ بِالذَّبْحِ وَيَقُولُ لَهُ قُلْ: بِسْمِ اللَّهِ وَيَقُولُهَا فَإِنَّ ذَكَاتَهُ تُؤْكَلُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْنَا أَكْلُ مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ سَوَاءٌ ذَكَّى مَا يَمْلِكُهُ أَوْ ذَبَحَ مِلْكَ مُسْلِمٍ نِيَابَةً عَنْهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، بِخِلَافِ الْكِتَابِيِّ فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَنَا أَكْلٌ مِمَّا ذَكَّاهُ لِنَفْسِهِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَفِي جَوَازِ أَكْلِ مَا ذَكَّاهُ لِمُسْلِمٍ نِيَابَةً عَنْهُ خِلَافٌ، وَلَعَلَّهُ مَا لَمْ يَأْمُرْهُ الْمُسْلِمُ بِالتَّسْمِيَةِ وَيُسَمِّي اللَّهَ فَيَحِلُّ أَكْلُهُ بِالْأَوْلَى مِنْ أَكْلِ مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ مَعَ التَّسْمِيَةِ عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَرُبَّمَا يَبْحَثُ فِي كَلَامِ الْعَلَّامَةِ ابْنِ عُمَرَ بِمَفْهُومِ آيَةِ: {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] فَإِنَّ الْمُرَادَ ذَبَائِحُهُمْ، وَبِصَرِيحِ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ، وَلَا يُؤْكَلُ مَا ذَكَّاهُ الْمَجُوسِيُّ وَبِاشْتِرَاطِهِمْ فِي صِحَّةِ الذَّكَاةِ كَوْنُ الْمُذَكِّي مِمَّنْ تُوطَأُ نِسَاؤُهُ، وَلَوْ كَانَ مُجَرَّدُ التَّسْمِيَةِ كَافٍ فِي جَوَازِ أَكْلِ مُذَكَّى الْمَجُوسِيِّ لَجَعَلَتْ الْفُقَهَاءُ الشَّرْطَ تَسْمِيَةَ الذَّابِحِ فَقَطْ، وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (تَنْبِيهٌ) مِثْلُ الْمَجُوسِيِّ فِي عَدَمِ أَكْلِ ذَبِيحَتِهِ مَنْ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ لِصَبًى أَوْ جُنُونٍ أَوْ سُكْرٍ، وَمِثْلُهُمْ الْمُرْتَدُّ، وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا، وَالْكِتَابِيُّ إذَا ذَبَحَ شَيْئًا بِاسْمِ الصَّنَمِ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ فِيمَا سَبَقَ. (وَ) أَمَّا (مَا كَانَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ ذَكَاةٌ مِنْ طَعَامِهِمْ) كَالْخُبْزِ وَالْعَسَلِ وَالزَّيْتِ (فَلَيْسَ بِحَرَامٍ) وَالضَّمِيرُ فِي طَعَامِهِمْ لِلْمَجُوسِيِّينَ وَغَيْرِهِمْ بِالْأَوْلَى، فَيَجُوزُ لَنَا أَكْلُ خُبْزِ الْمَجُوسِيِّينَ وَزَيْتِهِمْ حَيْثُ تُيُقِّنَتْ طَهَارَتُهُ، لَا إنْ شُكَّ فِي طَهَارَتِهِ فَيَحْرُمُ عَلَيْنَا أَكْلُهُ حَيْثُ غَلَبَ مُخَالَطَتُهُ لِلنَّجَاسَةِ كَجُبْنِهِمْ؛ لِأَنَّ ابْنَ رُشْدٍ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ الْوَاقِعَةَ فِي الْعُتْبِيَّةِ عَلَى التَّحْرِيمِ؛ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَنْفَعَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ ذَبَائِحِهِمْ، حَتَّى قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى تَحْرِيمِهِ حَتَّى قَالَ: لَا يَنْبَغِي الشِّرَاءُ مِنْ حَانُوتٍ فِيهِ جُبْنُهُمْ لِتَنْجِيسِهِ الْمِيزَانَ وَيَدَ بَائِعِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ذَكَاةِ الْحَيَوَانِ الْإِنْسِيِّ، وَمِثْلُهُ الْوَحْشِيُّ الْمَقْدُورُ عَلَيْهِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَحْشِيِّ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الصَّيْدُ، وَحَقِيقَتُهُ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ أَخْذُ مُبَاحٍ أَكْلُهُ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ مِنْ وَحْشِ طَيْرٍ أَوْ بَرٍّ أَوْ حَيَوَانِ بَحْرٍ بِقَصْدٍ أَيْ نِيَّةِ الِاصْطِيَادِ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ فَهُوَ مَا أُخِذَ مِنْ وَحْشِ طَيْرٍ أَوْ بَرٍّ إلَخْ، وَحُكْمُهُ الْأَصْلِيُّ الْجَوَازُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ وَالْحُرْمَةُ وَالْكَرَاهَةُ وَالنَّدْبُ فَأَحْكَامُهُ خَمْسَةٌ، فَالْمَكْرُوهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالصَّيْدُ لِلَّهْوِ) بِقَصْدِ الذَّكَاةِ (مَكْرُوهٌ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ. (وَ) أَمَّا حُكْمُ (الصَّيْدِ لِغَيْرِ اللَّهْوِ) ، وَلِغَيْرِ مَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ أَوْ النَّدْبَ أَوْ الْحُرْمَةَ فَهُوَ (مُبَاحٌ) وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يُنْفِقُهُ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ فَالْوُجُوبُ، وَأَمَّا لِقَصْدِ التَّصَدُّقِ بِذَاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 قَتَلَهُ كَلْبُك الْمُعَلَّمُ أَوْ بَازُك الْمُعَلَّمُ فَجَائِزٌ أَكْلُهُ إذَا أَرْسَلْته عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ مَا أَنْفَذَتْ الْجَوَارِحُ مَقَاتِلَهُ قَبْلَ قُدْرَتِك عَلَى ذَكَاتِهِ، وَمَا أَدْرَكْته قَبْلَ إنْفَاذِهَا لِمَقَاتِلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا بِذَكَاةٍ. وَكُلُّ مَا صِدْته بِسَهْمِك أَوْ رُمْحِك فَكُلْهُ فَإِنْ أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ   [الفواكه الدواني] أَوْ ثَمَنِهِ أَوْ التَّوْسِيعِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عِيَالِهِ فَالنَّدْبُ، وَأَمَّا لِقَصْدِ حَبْسِهِ لِلْفُرْجَةِ عَلَيْهِ فَالْحُرْمَةُ دَلَّ عَلَى حُكْمِهِ الْأَصْلِيِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة: 96] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا أَرْسَلْتَ كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْتَ اسْمَ اللَّهِ فَكُلْ مَا أَمْسَكَ عَلَيْك» ، وَإِنَّمَا قُلْت بِقَصْدِ الذَّكَاةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِاصْطِيَادِ لَا بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ فَإِنَّهُ حَرَامٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ اصْطِيَادُ مَأْكُولٍ لَا بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَلِلصَّيْدِ أَرْكَانٌ وَشُرُوطٌ، فَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ: صَائِدٌ، وَمَصِيدٌ، وَمَصِيدٌ بِهِ، وَشَرْطُ الصَّائِدِ الْإِسْلَامُ وَالتَّمْيِيزُ فَلَا يُؤْكَلُ مَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ كِتَابِيًّا، وَلَا مَا صَادَهُ غَيْرُ الْمُمَيِّزِ إلَّا أَنْ يُدْرِكَهُ غَيْرَ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ فَيُذَكِّيَهُ الْمُسْلِمُ، وَلَوْ كَانَ الصَّائِدُ لَهُ مَجُوسِيًّا، وَشَرْطُ الصَّيْدِ أَنْ يَكُونَ وَحْشِيًّا مَرْئِيًّا لِلصَّائِدِ، أَوْ يَكُونَ فِي مَكَان مَحْصُورٍ كَغَارٍ أَوْ غَيْضَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ جُمْلَةً أَوْ فِي الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَشَقَّةٌ، كَكَوْنِهِ فِي شَاهِقِ جَبَلٍ أَوْ عَلَى شَجَرَةٍ، وَلَا يُتَوَصَّلُ إلَيْهِ إلَّا بِأَمْرٍ يَخَافُ عَلَيْهِ مِنْ الْعَطَبِ، أَوْ كَانَ فِي جَزِيرَةٍ كَبِيرَةٍ فَلَا يُؤْكَلُ الْإِنْسِيُّ بِالْعُقْرِ، وَلَوْ فِي حَالِ الْعَجْزِ عَنْهُ كَفَحْلِ الْجَامُوسِ عِنْدَ كِبَرِهِ، وَلَا الْوَحْشِيِّ الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَشَقَّةٍ فَادِحَةٍ، وَشَرْطُ الْمَصِيدِ بِهِ أَنْ يَكُونَ سِلَاحًا مَحْدُودًا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ حَدِيدٍ، أَوْ حَيَوَانًا مُعَلَّمًا، وَإِنْ كَانَ كَلْبًا، وَتَعْلِيمُهُ بِأَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا أُرْسِلَ أَطَاعَ، وَإِذَا زُجِرَ انْزَجَرَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ طَيْرًا فَيَكْفِي فِيهِ الْإِطَاعَةُ عِنْدَ إرَادَةِ إرْسَالِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ الِانْزِجَارِ بَعْدَ الْإِرْسَالِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ، فَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَاطِفًا عَلَى الذَّكَاةِ بِمَعْنَى الذَّبْحِ أَوْ الْعُقْرِ بِقَوْلِهِ: وَجُرْحُ مُسْلِمٍ مُمَيِّزٍ وَحْشِيًّا، وَإِنْ تَأَنَّسَ عَجَزَ عَنْهُ إلَّا بِعُسْرٍ لَا نَعَمْ شَرَدَ أَوْ تَرَدَّى بِكَهُوَّةٍ بِسِلَاحٍ مُحَدَّدٍ أَوْ حَيَوَانٍ عُلِّمَ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا يُفِيدُ شُرُوطَ الْمَصِيدِ بِهِ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ) أَيْ جَمِيعُ (مَا قَتَلَهُ كَلْبُك الْمُعَلَّمُ) قَدْ مَرَّ مَعْنَى التَّعْلِيمِ (أَوْ) قَتَلَهُ (بَازُك الْمُعَلَّمُ فَجَائِزٌ أَكْلُهُ) فَاعِلُ جَائِزٍ الْوَاقِعُ خَبَرُ كُلٍّ؛ لِأَنَّهُ مُبْتَدَأٌ، وَقَرَنَ الْخَبَرَ هُنَا بِالْفَاءِ لِشِبْهِ الْمُبْتَدَأِ هُنَا بِالشَّرْطِ فِي الْعُمُومِ، وَمَا يُقَالُ: الْخَبَرُ الَّذِي يُقْرَنُ بِالْفَاءِ يَكُونُ جُمْلَةً، وَمَا هُنَا مُفْرَدٌ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْمُفْرَدُ هُنَا شَبِيهٌ بِالْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ وُصِفَ مَعَ مَرْفُوعِهِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ جَمِيعَ مَا مَاتَ بِجُرْحِ الْحَيَوَانِ الْمُعَلَّمِ أَوْ السِّلَاحِ الْمُحَدَّدِ بَعْدَ النِّيَّةِ وَالتَّسْمِيَةِ وَوُجُودِ مَا يُشْتَرَطُ مِنْ الشُّرُوطِ يَحِلُّ أَكْلُهُ، وَلَوْ تَعَدَّدَ حَيْثُ نَوَى الْجَمِيعَ، وَيُشْتَرَطُ فِي صَيْدِ الْحَيَوَانِ (إذَا أَرْسَلْته) أَيْ الْجَارِحَ (عَلَيْهِ) وَذَهَبَ إلَيْهِ بِإِرْسَالِك مِنْ غَيْرِ ظُهُورِ تَرْكٍ. قَالَ: خَلِيلٌ: بِإِرْسَالٍ مِنْ يَدِهِ بِلَا ظُهُورِ تَرْكٍ، وَلَوْ تَعَدَّدَ مَصِيدُهُ، وَقَوْلُنَا حَيْثُ نَوَى الْجَمِيعَ احْتِرَازًا مِمَّا إذَا نَوَى مُعَيَّنًا، فَلَا يُؤْكَلُ إلَّا ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ إذَا قَتَلَهُ أَوَّلًا وَعَلِمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْأَوَّلُ أَوْ قَتَلَ غَيْرَهُ قَبْلَهُ فَلَا يُؤْكَلُ هُوَ وَلَا غَيْرُهُ، وَأَمَّا لَوْ رَأَى جَمَاعَةً وَنَوَى وَاحِدًا لَا بِعَيْنِهِ فَلَا يُؤْكَلُ إلَّا الْأَوَّلُ حَيْثُ عُلِمَ أَنَّهُ الْأَوَّلُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: إذَا أَرْسَلْته أَنَّك لَوْ لَمْ تُرْسِلْهُ لَا يُؤْكَلُ مَا جَرَحَهُ أَوْ أَرْسَلَهُ، لَكِنْ لَمْ يَذْهَبْ بِإِرْسَالِهِ بِأَنْ أَظْهَرَ التَّرْكَ بِأَنْ وَجَدَ جِيفَةً فِي الطَّرِيقِ فَاشْتَغَلَ بِالْأَكْلِ مِنْهَا ثُمَّ ذَهَبَ إلَى الصَّيْدِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. قَالَ خَلِيلٌ: بِإِرْسَالِهِ مِنْ يَدِهِ بِلَا ظُهُورِ تَرْكٍ ثُمَّ قَالَ فِي مُحْتَرَزِهِ لَا إنْ أَغْرَى فِي الْوَسَطِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا يَجْرَحُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ مَاتَ بِمُجَرَّدِ الْعَضِّ أَوْ الصَّدْمِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ. (وَ) كَمَا يَجُوزُ أَكْلُ مَا قَتَلَهُ الْكَلْبُ أَوْ الْبَازُ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ (كَذَلِكَ) يَجُوزُ أَكْلُ (مَا أَنْفَذَتْ الْجَوَارِحُ) أَوْ الْكِلَابُ شَيْئًا مِنْ (مَقَاتِلِهِ قَبْلَ قُدْرَتِك عَلَى ذَكَاتِهِ) ، وَلَوْ أَدْرَكْته حَيًّا حَيْثُ لَمْ تَتَرَاخَ فِي اتِّبَاعِهِ إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهُ لَمْ يَلْحَقْهُ قَبْلَ إنْفَاذِهَا، وَلَوْ لَمْ يَتَرَاخَ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ الْإِجْهَازُ عَلَى مَا أَدْرَكَهُ حَيًّا بَعْدَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَفَرْيُ وَدَجَيْ صَيْدٍ أَنْفَذَ مَقْتَلَهُ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ: أَنْفَذَتْ الْجَوَارِحُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا أَدْرَكْته) أَوْ أَدْرَكَهُ غَيْرُك مِمَّنْ تَصِحَّ ذَكَاتُهُ وَتَمَكَّنَ مِنْ ذَكَاتِهِ (قَبْلَ إنْفَاذِهَا) أَيْ الْجَوَارِحِ (لِمَقَاتِلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ إلَّا بِذَكَاةٍ) حَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ تَخْلِيصِهِ مِنْ الْكَلْبِ أَوْ الْبَازِ قَبْلَ قَتْلِهِ أَوْ إنْفَاذِ مَقْتَلِهِ؛ لِأَنَّهُ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ تَخْلِيصِهِ صَارَ مِنْ الْمَقْدُورِ عَلَى ذَكَاتِهِ، فَلَوْ تَرَكَهُ حَتَّى قَتَلَهُ الْجَارِحُ لَمْ يُؤْكَلْ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ يَنْهَشُهُ مَا قَدَرَ عَلَى خَلَاصِهِ مِنْهُ، وَقَوْلُنَا: أَوْ أَدْرَكَهُ غَيْرُك إشَارَةٌ إلَى أَنَّ كُلَّ مَنْ مَرَّ عَلَى صَيْدٍ قَبْلَ إنْفَاذِ الْجَارِحِ شَيْئًا مِنْ مَقَاتِلِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَذْكِيَتُهُ، فَإِنْ تَرَكَهَا مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهَا ضَمِنَ قِيمَتَهُ، قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَ مَارٌّ أَمْكَنَتْهُ ذَكَاتُهُ وَتَرَكَ؛ لِأَنَّهُ فَوَّتَهُ عَلَى رَبِّهِ، فَيَضْمَنُ قِيمَتَهُ مَجْرُوحًا لِلصَّائِدِ لِحُرْمَةِ أَكْلِهِ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ مُرُورَ غَيْرِ رَبِّهِ بِمَنْزِلَةِ مُرُورِ رَبِّهِ، وَرَبُّهُ إذَا مَرَّ بِهِ قَبْلَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ، وَتَرَكَهُ حَتَّى قَتَلَهُ الْجَارِحُ يَصِيرُ مَيْتَةً. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْمَصِيدِ بِهِ الْحَيَوَانَ شَرَعَ فِي السِّلَاحِ الْمُحَدَّدِ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ) أَيْ جَمِيعُ (مَا صِدْته بِسَهْمِك أَوْ رُمْحِك) أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مُحَدَّدٍ، وَلَوْ غَيْرَ حَدِيدٍ وَقَتَلَهُ السَّهْمُ أَوْ الرُّمْحُ أَوْ جَرَحَهُ، وَمَاتَ قَبْلَ قُدْرَتِك عَلَى ذَكَاتِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 فَذَكِّهِ، وَإِنْ فَاتَ بِنَفْسِهِ فَكُلْهُ إذَا قَتَلَهُ سَهْمُك مَا لَمْ يَبِتْ عَنْك، وَقِيلَ إنَّمَا ذَلِكَ فِيمَا بَاتَ عَنْك مِمَّا قَتَلَتْهُ الْجَوَارِحُ، وَأَمَّا السَّهْمُ يُوجَدُ فِي مَقَاتِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ. وَلَا تُؤْكَلُ الْإِنْسِيَّةُ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الصَّيْدُ. وَالْعَقِيقَةُ سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ وَيُعَقُّ عَنْ الْمَوْلُودِ   [الفواكه الدواني] (فَكُلْهُ) حَيْثُ نَوَيْت وَسَمَّيْت عِنْدَ رَمْيِ السَّهْمِ أَوْ الرُّمْحِ (فَإِنْ أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ) قَبْلَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ (فَذَكِّهِ) وُجُوبًا، وَأَمَّا إنْ أَدْرَكْته حَيًّا بَعْدَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ نُدِبَ لَك تَذْكِيَتُهُ كَمَا قَدَّمْنَا. (وَ) مَفْهُومُ أَدْرَكْت ذَكَاتَهُ (إنْ مَاتَ بِنَفْسِهِ) بِأَنْ أَدْرَكْته مَيِّتًا (فَكُلْهُ إذَا قَتَلَهُ سَهْمُك) أَوْ رُمْحُك (مَا لَمْ يَبِتْ عَنْك) ، وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْك أَكْلُهُ، وَلَوْ بَاتَ عَنْك بَعْضَ اللَّيْلِ، وَلَوْ وَجَدْت السَّهْمَ فِي مَقَاتِلِهِ مَعَ إنْفَاذِهَا، وَلَوْ مَعَ الْجَدِّ فِي اتِّبَاعِهِ، وَلَا مَفْهُومَ لِلسَّهْمِ فِي عَدَمِ جَوَازِ أَكْلِ مَا بَاتَ عَنْك. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: إذَا بَاتَ الصَّيْدُ عَنْ الصَّائِدِ وَوَجَدَهُ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالْكَلْبُ وَالسَّهْمُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَوَجْهُ الْمَنْعِ أَنَّ اللَّيْلَ تَكْثُرُ فِيهِ الْهَوَامُّ بِخِلَافِ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الصَّيْدَ يَمْنَعُ نَفْسَهُ فِيهِ، وَجَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَجُلًا يَصِيدُ جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ: إنِّي رَمَيْته مِنْ اللَّيْلِ فَأَعْيَانِي وَوَجَدْت سَهْمِي فِيهِ مِنْ الْغَدِ وَعَرَفْت سَهْمِي، فَقَالَ: اللَّيْلُ خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ عَظِيمٌ لَعَلَّهُ أَعَانَك عَلَيْهِ شَيْءٌ أَنْفَذَهَا عَنْك» . وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا أَصْمَيْتَ وَدَعْ مَا أَنْمَيْتَ وَالْإِصْمَاءُ مَا حَضَرْت مَوْتَهُ، وَالْإِنْمَاءُ مَا غَابَ عَنْك مَوْتُهُ، وَهَذَا التَّعْلِيلُ يُفِيدُ أَنَّهُ لَوْ رَمَاهُ نَهَارًا، وَغَابَ عَنْهُ يَوْمًا كَامِلًا وَوَجَدَهُ مَيِّتًا بِجُرْحِ السَّهْمِ أَنَّهُ يُؤْكَلُ، وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ لَمْ يَتَرَاخَ فِي اتِّبَاعِهِ، ثُمَّ إنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ مِنْ حُرْمَةِ أَكْلِ مَا بَاتَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَنَسَبَهُ بَعْضُهُمْ فِيهِ إلَى الْوَهْمِ وَرَجَحَ الْقَوْلُ بِأَكْلِهِ حَيْثُ وُجِدَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَرَ الصَّائِدُ إنْفَاذَ السَّهْمِ أَوْ الْجَارِحُ إنْفَاذَ مَقْتَلِهِ قَبْلَ الْبَيَاتِ، وَإِلَّا أُكِلَ اتِّفَاقًا، وَمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ مِنْ مُسَاوَاةِ الْجَارِحِ لِلسَّهْمِ فِي الْأَحْكَامِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَمُقَابِلُهُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ) أَيْ وَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ (إنَّمَا حُرْمَةُ ذَلِكَ) أَيْ أَكْلُ مَا مَاتَ (فِيمَ بَاتَ عَنْك مِمَّا قَتَلَهُ الْجَوَارِحُ وَأَمَّا) الصَّيْدُ الَّذِي يُضْرَبُ (بِالسَّهْمِ فَيُوجَدُ فِي مَقَاتِلِهِ فَلَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) أَيْ يَجُوزُ أَكْلُهُ، وَوَجْهُ تَفْرِقَةِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنَّ السَّهْمَ إذَا وُجِدَ فِي مَقَاتِلِهِ وَقَدْ أَنْفَذَهَا يَغْلِبُ مَعَهُ الظَّنُّ بِأَنَّ الْمَوْتَ لِلصَّيْدِ مِنْ السَّهْمِ، بِخِلَافِ الْجَارِحِ كَالْكَلْبِ أَوْ الصَّقْرِ يَجْرَحُ الصَّيْدَ وَيَبِيتُ عِنْدَ رَبِّهِ وَيُوجَدُ الصَّيْدُ مُنْفَصِلًا عَنْ الْجَارِحِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَيَّدْنَا السَّهْمَ وَالرُّمْحَ بِالْمُحَدَّدِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِ الْمُحَدَّدِ، كَالْبُنْدُقِ وَالشَّرَكِ وَالشَّبَكَةِ وَالْعَصًا الَّتِي لَا حَدَّ لَهَا، فَلَا يُؤْكَلُ مَا صِيدَ بِشَيْءٍ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، وَلَوْ وُجِدَ حَيًّا بَعْدَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَدْرَكَ حَيًّا قَبْلَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مَقَاتِلِهِ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ بِالذَّكَاةِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الَّذِي يُدْرَكُ حَيًّا، وَلَوْ بَعْدَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهِ بِالْبُنْدُقِ مَثَلًا تَعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ لَيْسَ مَذْهَبًا لَنَا. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي أَكْلِ الصَّيْدِ أَنْ يَجْرَحَهُ الْكَلْبُ أَوْ السَّهْمُ، وَلَا يَكْفِي مَوْتُهُ بِمُجَرَّدِ الْعَضِّ، وَالْمُرَادُ بِالْجُرْحِ مَا يَشْمَلُ قَطْعَ الرِّجْلِ أَوْ الْأُذُنِ. وَفِي كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: الْمُرَادُ بِالْجُرْحِ سَيَلَانُ الدَّمِ، وَإِنْ لَمْ يَشُقَّ الْجِلْدَ، وَحَكَى قَوْلَيْنِ فِي شَقِّ الْجِلْدِ مِنْ غَيْرِ سَيَلَانِ دَمٍ، وَأَقُولُ: مُقَابَلَتُهُمْ لِلْجُرْحِ بِالصَّدْمِ وَالْعَضِّ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّ شَقَّ الْجِلْدِ يَكْفِي فِي جَوَازِ أَكْلِ الصَّيْدِ، وَإِنْ لَمْ يَسِلْ مَعَهُ دَمٌ وَحَرَّرَهُ، بَلْ شَقُّ الْجِلْدِ أَوْلَى مِنْ سَيَلَانِ الدَّمِ مِنْ غَيْرِ شَقٍّ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ أَكْلِ مَا يَنْفَصِلُ مِنْ الصَّيْدِ عِنْدَ الِاصْطِيَادِ وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ انْفَصَلَ شَيْءٌ وَحَصَلَ بِهِ إنْفَاذُ مَقْتَلٍ أُكِلَ سَوَاءٌ كَانَ نِصْفًا أَوْ أَقَلَّ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ بِهِ إنْفَاذُ مَقْتَلٍ أُكِلَ إنْ كَانَ نِصْفًا لَا أَقَلَّ. قَالَ خَلِيلٌ. وَدُونَ نِصْفٍ أُبِينَ مَيْتَةٌ إلَّا الرَّأْسَ. وَلِمَا قَدَّمْنَا أَنَّ الصَّيْدَ مُخْتَصٌّ بِالْوَحْشِيِّ شَرَعَ هُنَا فِي بَيَانِ مُحْتَرَزِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تُؤْكَلُ) الذَّاتُ (الْإِنْسِيَّةُ) أَصَالَةً، وَإِنْ تَوَحَّشَتْ (بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الصَّيْدُ) مِنْ الْجُرْحِ قَالَ خَلِيلٌ: لَا نَعَمَ شَرَدَ أَوْ تَرَدَّى بِكَهُوَّةٍ فَلَا يُؤْكَلُ الْفَحْلُ الْجَامُوسُ الَّذِي نَفَرَ، وَلَا الْجَمَلُ الشَّارِدُ، وَمِثْلُ النَّعَمِ الْحَيَوَانُ الْوَحْشِيُّ إذَا تَأَنَّسَ أَوْ صَارَ مَقْدُورًا عَلَيْهِ كَالْغَزَالَةِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ يُصَادَانِ مِنْ غَيْرِ جُرْحٍ فَلَا يُؤْكَلُ شَيْءٌ مِنْهُمَا بِالْعُقْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْكَلَانِ بِمَا يُؤْكَلُ بِهِ الْحَيَوَانُ الْإِنْسِيُّ، وَهُوَ الذَّبْحُ. (تَنْبِيهٌ) لَيْسَ مِنْ الْإِنْسِيِّ الَّذِي يُذْبَحُ نَحْوَ الْجَرَادِ بَلْ ذَكَاتُهُ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُ أَوْ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ مَا يُعَجِّلُ مَوْتَهُ، بَلْ سَائِرُ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ ذَكَاتُهَا مَا يُعَجِّلُ مَوْتَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَافْتَقَرَ نَحْوُ الْجَرَادِ لَهَا بِمَا يَمُوتُ بِهِ، وَلَوْ لَمْ يُعَجِّلْ كَقَطْعِ جُنَاحٍ أَوْ إلْقَاءٍ فِي نَارٍ، فَمُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِالْإِنْسِيِّ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ، وَمَا شَابَهَهَا مِنْ نَحْوِ الدَّجَاجِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الذَّكَاةَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: ذَبْحٍ وَنَحْرٍ وَعُقْرٍ، وَمَا يُعَجِّلُ الْمَوْتَ وَقَدْ بَيَّنَّاهَا فِيمَا سَبَقَ أَتَمَّ بَيَانٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَقِيَّةِ مَا تَرْجَمَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْعَقِيقَةُ) فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ فَهِيَ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهَا الذَّبِيحَةُ الَّتِي تُفْعَلُ فِي سَابِعِ وِلَادَةِ الْمَوْلُودِ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: مَا تُقَرِّبَ بِذَكَاتِهِ مِنْ جَذَعِ ضَأْنٍ أَوْ ثَنِيِّ سَائِرِ النَّعَمِ سَلِيمَيْنِ مِنْ بَيْنِ عَيْبٍ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ فِي نَهَارِ سَابِعِ وِلَادَةِ آدَمِيٍّ حَيٍّ عُقَّ عَنْهُ فَلَيْسَتْ قَاصِرَةً عَلَى الْغَنَمِ خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ، وَبَيَّنَ حُكْمَهَا بِقَوْلِهِ: (سُنَّةٌ مُسْتَحَبَّةٌ) مُرَادُهُ أَنَّهَا سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ غَيْرُ مُؤَكَّدَةٍ أَوْ أَرَادَ بِالسُّنَّةِ الطَّرِيقَةَ فَلَا يُنَافِي الْوَصْفَ بِمُسْتَحَبَّةٍ، فَإِنْ قِيلَ: الْمُسْتَحَبُّ فَعَلَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا أَنَّ الْمَسْنُونَ فَعَلَهُ أَيْضًا فَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 يَوْمَ سَابِعِهِ بِشَاةٍ مِثْلَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ سَنِّ الْأُضْحِيَّةِ وَصِفَتِهَا وَلَا يُحْسَبُ فِي السَّبْعَةِ الْأَيَّامِ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ. وَتُذْبَحُ ضَحْوَةً. وَلَا يُمَسُّ الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا. وَيُؤْكَلُ مِنْهَا وَيَتَصَدَّقُ وَتُكْسَرُ عِظَامُهَا. وَإِنْ حُلِقَ شَعْرُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ وَتُصُدِّقَ بِوَزْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ حَسَنٌ وَإِنْ خُلِّقَ رَأْسُهُ بِخَلُوقٍ بَدَلًا مِنْ الدَّمِ الَّذِي كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ فَلَا   [الفواكه الدواني] وَجْهُ التَّفْرِقَةِ؟ فَالْجَوَابُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّفْرِقَةَ اصْطِلَاحٌ فِقْهِيٌّ لِمُعْظَمِ الْفُقَهَاءِ مِنْ أَنَّ الَّذِي فَعَلَهُ وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ يُعَبِّرُونَ عَنْهُ بِالسُّنَّةِ، وَمَا سِوَاهُ مِمَّا لَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ إنْ حَضَّ عَلَى فِعْلِهِ يُسَمَّى رَغِيبَةً، وَمَا لَمْ يَحُضَّ عَلَى فِعْلِهِ يُسَمَّى مُسْتَحَبًّا، وَمُقَابَلُ الْمُعْظَمِ مِنْ الْفُقَهَاءِ يُسَمُّونَ غَيْرَ الْوَاجِبِ بِالسُّنَّةِ، وَهُمْ الْبَغْدَادِيُّونَ؛ لِأَنَّ الْجَمِيعَ فَعَلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ خَلِيلٌ أَنَّ الْعَقِيقَةَ مَنْدُوبَةٌ فَإِنَّهُ قَالَ: وَنُدِبَ ذَبْحُ وَاحِدَةٍ تُجْزِئُ ضَحِيَّةً فِي سَابِعِ الْوِلَادَةِ نَهَارًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «كُلُّ غُلَامٍ مَرْهُونٌ بِعَقِيقَتِهِ» وَبَيَّنَ زَمَنَهَا بِقَوْلِهِ: (وَيُعَقُّ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (عَنْ الْمَوْلُودِ يَوْمَ سَابِعِهِ) فَلَا يُعَقُّ عَنْهُ قَبْلَ السَّابِعِ اتِّفَاقًا، وَلَا بَعْدَهُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِسُقُوطِهَا بِمُضِيِّ زَمَنِهَا كَالضَّحِيَّةِ، بِخِلَافِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ لَا تَسْقُطُ بِمُضِيِّ زَمَنِهَا؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ بِخِلَافِهِمَا، وَإِطْلَاقُ الْمَوْلُودِ يَشْمَلُ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى وَالْخُنْثَى وَالْحُرَّ وَالْعَبْدَ، لَكِنَّ ابْنَ الْعَبْدِ يَعُقُّ عَنْهُ أَبُوهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ كَالْحَدِيثِ أَنَّ الْعَقِيقَةَ لَا تَتَعَدَّدُ، بَلْ الْوَاحِدَةُ كَافِيَةٌ فِي كُلِّ مَوْلُودٍ الذَّكَرِ كَالْأُنْثَى، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَتِلْمِيذِهِ ابْنِ حَنْبَلٍ حَيْثُ قَالَ: يُعَقُّ عَنْ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ، لَنَا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ بِكَبْشٍ، وَكَذَا عَنْ الْحُسَيْنِ» وَمَالَ ابْنُ حَبِيبٍ لِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ؛ لِأَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ فَهُوَ حَسَنٌ لِمَنْ فَعَلَهُ. حَتَّى قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: مَنْ عَمِلَ بِمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ مَا أَخْطَأَ، وَلَقَدْ أَصَابَ لِخَبَرِ التِّرْمِذِيِّ وَصَحَّحَهُ: «أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُعَقَّ عَنْ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ مُتَكَافِئَتَيْنِ وَعَنْ الْجَارِيَةِ بِشَاةٍ» ، وَلَمْ نَطَّلِعْ لِمَشْهُورِ مَذْهَبِنَا عَلَى جَوَابٍ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ أَمْرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْعَقِّ عَنْ الْغُلَامِ بِشَاتَيْنِ إنَّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الزِّيَادَةِ فِي الْقُرْبَةِ لَا لِتَوَقُّفِ حُصُولِ النَّدْبِ عَلَيْهِ، بِدَلِيلِ اقْتِصَارِهِ عَلَى شَاةٍ حِينَ عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ. (تَنْبِيهٌ) بَنَى يُعَقُّ لِلْمَجْهُولِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْفَاعِلَ لِلْعَقِيقَةِ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَالْمُخَاطَبُ بِهَا الْأَبُ، وَلَوْ كَانَ لِلْمَوْلُودِ مَالٌ، وَأَمَّا الْيَتِيمُ فَعَقِيقَتُهُ مِنْ مَالِهِ، وَلَا يُخَاطَبُ بِهَا الْأَخُ، وَلَا الْعَمُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأَبَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَا يُسَلَّفُهَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ بِأَوْكَدَ مِنْ الضَّحِيَّةِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا يُجْزِئُ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (بِشَاةٍ) أَوْ ثَنِيِّ بَقَرٍ أَوْ إبِلٍ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ الشَّاةُ أَوْ الثَّنِيُّ مِنْ سَائِرِ النَّعَمِ. (مِثْلَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ سِنِّ الْأُضْحِيَّةِ وَصِفَتِهَا) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْهَدَايَا وَالضَّحَايَا وَالنُّسُكَ وَالْعَقِيقَةَ وَالْجَزَاءَ فِي السَّلَامَةِ مِنْ بَيْنِ الْعَيْبِ وَالسِّنِّ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ بُلُوغِ الشَّاةِ سَنَةً وَدُخُولِهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَدُخُولِ ثَنِيِّ الْبَقَرِ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ وَالْإِبِلِ فِي السَّنَةِ السَّادِسَةِ، وَلَمَّا كَانَ يُشْتَرَطُ كَمَالُ السَّبْعَةِ أَيَّامٍ قَالَ: (وَلَا يُحْسَبُ فِي السَّبْعَةِ أَيَّامِ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدَ فِيهِ) حَيْثُ سُبِقَ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَلْغَى يَوْمَهَا إنْ سُبِقَ بِالْفَجْرِ، وَأَمَّا لَوْ وُلِدَ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ حُسِبَ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَيُشْتَرَطُ حَيَاةُ الْوَلَدِ فِي السَّابِعِ لَا إنْ مَاتَ يَوْمَ السَّابِعِ قَبْلَ فِعْلِهَا، وَيَدْخُلُ زَمَنُ ذَكَاتِهَا بِطُلُوعِ فَجْرِ السَّابِعِ. (وَ) لَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ أَنْ (تُذْبَحَ ضَحْوَةً) ، وَهَذَا عَلَى أَظْهَرِ الْأَقْوَالِ إلْحَاقًا لَهَا بِالْهَدَايَا؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ تَابِعَةً لِصَلَاةٍ حَتَّى تُلْحَقَ بِالضَّحَايَا، فَإِنْ فُعِلَتْ بَعْدَ الْفَجْرِ وَقَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَجْزَأَتْ مَعَ مُخَالَفَةِ الْمُسْتَحَبِّ. (وَلَا يُمَسُّ الصَّبِيُّ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِهَا) لِكَرَاهَةِ ذَلِكَ خِلَافًا لِمَا كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَلَطْخُهُ بِدَمِهِ فَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَعَ الْغُلَامِ عَقِيقَةٌ فَأَهْرِيقُوا عَنْهُ دَمًا وَأَمِيطُوا عَنْهُ الْأَذَى» وَفَسَّرَ بَعْضُهُمْ إمَاطَةَ الْأَذَى بِتَرْكِ التَّلْطِيخِ الْمَذْكُورِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْأُنْثَى تُسَاوِي الذَّكَرَ فِي كَرَاهَةِ مَا ذَكَرَ؛ لِأَنَّ النَّجَاسَةَ يُكْرَهُ التَّلَطُّخُ بِهَا لِكُلِّ أَحَدٍ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُؤْكَلَ) أَيْ يُطْعَمَ (مِنْهَا) أَهْلُ الْبَيْتِ وَالْجِيرَانُ (وَيُتَصَدَّقُ) مِنْهَا بَعْدَ الطَّبْخِ وَقَبْلَهُ، وَيُكْرَهُ جَعْلُهَا وَلِيمَةً وَيَدْعُو لَهَا النَّاسَ كَمَا تَفْعَلُهُ النَّاسُ مِنْ جَعْلِهِمْ لَهَا كَالْعُرْسِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ لِمُخَالَفَةِ فِعْلِ السَّلَفُ، وَلِخَوْفِ الْمُبَاهَاةِ وَالْمُفَاخَرَةِ، بَلْ الْمَطْلُوبُ إطْعَامُ كُلِّ أَحَدٍ فِي مَحَلِّهِ، فَلَوْ وَقَعَ عَمَلُهَا وَلِيمَةً أَجْزَأَتْ، وَإِنْ كُرِهَتْ، وَلَا يُطَالَبُ بِإِعَادَتِهَا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَتَحْرُمُ الْمُعَاوَضَةُ بِهَا كَسَائِرِ الْقُرَبِ، فَلَا يُبَاعُ جِلْدُهَا، وَلَا شَيْءٌ مِنْ لَحْمِهَا، وَلَا يُعْطَى الْجَزَّارُ فِي نَظِيرِ جِزَارَتِهِ، وَلَا الْقَابِلَةُ فِي نَظِيرِ وِلَادَةِ الْمَرْأَةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ الصَّدَقَةِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُتَصَدَّقَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ الضَّحِيَّةِ يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ، وَيَظْهَرُ هُنَا أَوْ أَوْلَى كَذَلِكَ. (وَ) يَجُوزُ أَنْ (تُكْسَرَ عِظَامُهَا) هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَقِيلَ يُسْتَحَبُّ مُخَالَفَةً لِلْجَاهِلِيَّةِ فِي عَدَمِ كَسْرِهَا، وَإِنَّمَا كَانُوا يَقْطَعُونَهَا مِنْ الْمَفَاصِلِ مَخَافَةَ إصَابَةِ الْوَلَدِ فَنَسَخَهُ الْإِسْلَامُ. (وَ) أَمَّا (أَنْ حُلِقَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (شَعْرُ رَأْسِ الْمَوْلُودِ) ، وَلَوْ أُنْثَى يَوْمَ السَّابِعِ قَبْلَ ذَبْحِ الْعَقِيقَةِ إنْ عُقَّ عَنْهُ (وَتُصُدِّقَ بِوَزْنِهِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ فَذَلِكَ مُسْتَحَبٌّ) عَلَى الْمَشْهُورِ فَقَوْلُهُ: (حَسَنٌ) لِمُجَرَّدِ التَّأْكِيدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَصَدُّقٌ بِزِنَةِ شَعْرِهِ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 بَأْسَ بِذَلِكَ. وَالْخِتَانُ سُنَّةٌ فِي الذُّكُورِ وَاجِبَةٌ. وَالْخِفَاضُ فِي النِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ.   [الفواكه الدواني] وَزَنَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَعْرَ الْحُسَيْنِ وَالْحَسَنِ وَزَيْنَبَ وَأُمَّ كُلْثُومٍ وَتَصَدَّقَتْ بِزِنَةِ ذَلِكَ فِضَّةٍ، وَمَا فِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ عَلِيٍّ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَقَّ عَنْ الْحَسَنِ بِكَبْشٍ وَقَالَ: يَا فَاطِمَةُ احْلِقِي رَأْسَهُ وَتَصَدَّقِي بِزِنَةِ شَعْرِهِ فِضَّةً» . وَلَمَّا قَدَّمَ كَرَاهَةَ تَلْطِيخِ رَأْسِ الْمَوْلُودِ بِشَيْءٍ مِنْ دَمِ الْعَقِيقَةِ خِلَافًا لِلْجَاهِلِيَّةِ بَيَّنَ الْمُسْتَحَبَّ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَمَّا (إنْ خُلِّقَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَشَدِّ اللَّامِ أَيْ طُيِّبَ (رَأْسُهُ) أَيْ الْمَوْلُودِ (بِخَلُوقٍ) بِفَتْحِ الْخَاءِ أَيْ طِيبٍ كَزَعْفَرَانٍ مَعْجُونٍ بِوَرْدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الطِّيبِ (بَدَلًا مِنْ الدَّمِ الَّذِي كَانَتْ تَفْعَلُهُ الْجَاهِلِيَّةُ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) ، وَلَوْ قِيلَ بِنَدْبِهِ لَمَا بَعُدَ لِعُمُومِ طَلَبِ مُخَالَفَةِ الْجَاهِلِيَّةِ. 1 - (خَاتِمَةٌ) بَقِيَ أَشْيَاءُ يُسْتَحَبُّ فِعْلُهَا يَوْمَ السَّابِعِ، مِنْهَا: تَسْمِيَتُهُ إنْ عَقَّ عَنْهُ، وَإِلَّا سَمَّى قَبْلَ ذَلِكَ، وَإِنْ مَاتَ مَنْ أُرِيدَ الْعَقُّ عَنْهُ قَبْلَ الْعَقِيقَةِ فَفِي تَسْمِيَتِهِ قَوْلَانِ: مَالِكٌ لَا يُسَمَّى وَابْنُ حَبِيبٍ يُسَمَّى يَوْمَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ وَلَدٌ تُرْجَى شَفَاعَتُهُ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ عَدَمَ تَسْمِيَةِ السِّقْطِ، وَالتَّسْمِيَةُ حَقٌّ لِلْأَبِ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: بَعْضُ شُيُوخِنَا، وَمُقْتَضَى الْقَوَاعِدِ وُجُوبُ التَّسْمِيَةِ فَيَخْتَارُ لَهُ أَفْضَلَ الْأَسْمَاءِ. قَالَ الْبَاجِيُّ: أَفْضَلُ الْأَسْمَاءِ ذُو الْعُبُودِيَّةِ لِخَبَرِ: «أَحَبُّ أَسْمَائِكُمْ إلَيَّ عَبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ» «وَقَدْ سَمَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِحَسَنٍ وَحُسَيْنٍ» . قَالَ الْبَاجِيُّ: وَتُمْنَعُ بِمَا قَبَحَ كَحَرْبٍ وَحَزَنٍ وَبِمَا فِيهِ تَزْكِيَةٌ كَبَرَكَةٍ، وَقَالَ أَيْضًا: وَتَحْرُمُ بِمِلْكِ الْأَمْلَاكِ. وَفِي سَمَاعِ أَشْهَبَ: لَا يَنْبَغِي بِيَاسِين أَوْ حَكِيمٍ أَوْ عَزِيزٍ، وَوَقَعَتْ التَّسْمِيَةُ بِعَلِيٍّ، وَلَمْ يُنْكِرْ، وَإِقْرَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَافٍ فِي الْجَوَازِ، وَكَرِهَ مَالِكٌ التَّسْمِيَةَ بِجِبْرِيلَ، وَكَرِهَهَا الْحَارِثُ بِأَسْمَاءِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِمَّا يُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْوِلَادَةِ الْأَذَانُ وَالْإِقَامَةُ فِي أَذَانِ الْمَوْلُودِ، وَكَذَا يُسْتَحَبُّ أَنْ يُسْبَقَ إلَى جَوْفِهِ الْحَلَاوَةُ، وَلَمَّا كَانَ الْخِتَانُ وَالْخِفَاضُ مِنْ مُنَاسَبَاتِ الضَّحِيَّةِ وَالْعَقِيقَةِ لِاشْتِرَاكِ الْجَمِيعِ فِي الطَّلَبِ الْغَيْرِ الْجَازِمِ ذَكَرَهُمَا عَقِبَهُمَا فَقَالَ: (وَالْخِتَانُ فِي الذَّكَرِ) ، وَهُوَ قَطْعُ الْجِلْدَةِ السَّاتِرَةِ لِلْحَشَفَةِ بِحَيْثُ يَنْكَشِفُ جَمِيعُهَا. (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ مَنْ تَرَكَهَا لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ تَجُزْ إمَامَتُهُ، وَلَا شَهَادَتُهُ، بَلْ قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: لَا يَتِمُّ الْإِسْلَامُ إلَّا بِالْخِتَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى سُنِّيَّتِهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْفِطْرَةُ خَمْسٌ: الْخِتَانُ وَالِاسْتِحْدَادُ وَقَصُّ الشَّارِبِ وَتَقْلِيمُ الْأَظَافِرِ وَنَتْفُ الْإِبْطِ» وَزَمَنُ الْخِتَانِ الْمُسْتَحَبُّ عِنْدَ مَالِكٍ الْإِثْغَارُ، وَهُوَ زَمَنُ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ وَيُكْرَهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَأَحْرَى يَوْمُ الْوِلَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ فِعْلِ الْيَهُودِ إلَّا إذَا كَانَ يَخَافُ عَلَى الصَّبِيِّ مِنْهُ عِنْدَ تَأَخُّرِهِ لِزَمَنِ الْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا هَلْ يَجْرِي عَلَيْهِ الْمُوسَى أَوْ لَا؟ وَانْظُرْ لِمَ لَمْ يَجْزِمْ بِإِجْرَائِهَا كَمَا قِيلَ فِيمَنْ تَحَلَّلَ مِنْ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يُمِرُّ الْمُوسَى عَلَى مَحَلِّ الشَّعْرِ إلَّا أَنْ يُفَرَّقَ بِوُجُوبِ الْحِلَاقِ عِنْدَ الْإِحْلَالِ دُونَ الْخِتَانِ. (الْخِفَاضُ) الْمَطْلُوبُ (فِي النِّسَاءِ) ، وَهُوَ إزَالَةُ مَا بِالْفَرْجِ مِنْ الزِّيَادَةِ (مَكْرُمَةٌ) أَيْ خَصْلَةٌ مُسْتَحَبَّةٌ كَمَا جَزَمَ بِهِ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا وَاعْتَمَدَهُ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هُنَا لِمُغَايَرَتِهِ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ، وَقِيلَ إنَّهُ سُنَّةٌ كَخِتَانِ الذُّكُورِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ وَجِيهٌ؛ لِأَنَّ النِّسَاءَ شَقَائِقُ الرِّجَالِ، وَلِلْحَدِيثِ: «كَانَ بِالْمَدِينَةِ امْرَأَةٌ يُقَالُ لَهَا أُمُّ عَطِيَّةَ تَخْفِضُ الْجَوَارِيَ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا أُمَّ عَطِيَّةَ اخْفِضِي، وَلَا تَنْهَكِي فَإِنَّهُ أَسْرَى لِلْوَجْهِ وَأَحْظَى عِنْدَ الزَّوْجِ» ، وَمَعْنَى لَا تَنْهَكِي لَا تُبَالِغِي فِي الْقَطْعِ. (خَاتِمَةٌ) سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ بَيَانِ حَالِ الْخُنْثَى الَّذِي لَهُ ذَكَرٌ، وَلَهُ فَرْجٌ هَلْ يُخْتَنُ أَوْ يُخْفَضُ؟ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ لِأَصْحَابِنَا نَصًّا، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ: يُخْتَنُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَيَنْظُرُ حِينَئِذٍ مَنْ يَتَوَلَّى خِتَانَهُ قَبْلَ اتِّضَاحِهِ، وَقِيلَ لَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ، ابْنُ نَاجِي: لَا يُخْتَنُ لِمَا عَلِمْت مِنْ قَاعِدَةِ تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ أَيْ؛ لِأَنَّ الْخِتَانَ سُنَّةٌ، وَالنَّظَرُ لِعَوْرَةِ الْكَبِيرِ الْمُرَاهِقِ أَوْ الْبَالِغِ حَرَامٌ لِقَوْلِ اللَّخْمِيِّ: الْمُرَاهِقُ كَكَبِيرٍ، وَلَا يُرْتَكَبُ مُحَرَّمٌ لِفِعْلِ سُنَّةٍ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يُؤْمَرُ بِخَتْنِ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مَأْمُورٌ بِفِعْلِ مَا يَكْمُلُ بِهِ إسْلَامُهُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ بِهِ كَمَالَ الْإِسْلَامِ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى رَقِيقًا بَعْدَ بُلُوغِهِ أَوْ مُرَاهِقَةً؛ لِأَنَّهَا سُنَّةٌ يُمْكِنُ الْمُكَلَّفُ تَحْصِيلُهَا مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ تَقْتَضِي إسْقَاطَهَا وَحَرَّرَ ذَلِكَ، فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ لَكِنَّ الْقَوَاعِدَ تَقْتَضِيهِ، وَسَكَتَ أَيْضًا عَنْ الْخَاتِنِ وَالْخَافِضِ لِوُضُوحِ الْأَمْرِ فِي ذَلِكَ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: يَخْتِنُ الرِّجَالُ الصِّبْيَانَ وَيَخْفِضُ النِّسَاءُ الْجَوَارِيَ لِمَنْعِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى ذَلِكَ، وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - صَرَّحَ بِحُكْمِ الْخِتَانِ وَالْخِفَاضِ، وَالْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَهْمَلَهَا، فَكَمْ مِنْ كِتَابٍ صَغِيرٍ كَهَذَا الْكِتَابِ يُوجَدُ فِيهِ مَا لَيْسَ فِي أَكْبَرَ مِنْهُ. [بَاب فِي الْجِهَاد] وَلَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ الْعَيْنِيَّةِ، وَمَا مَعَهَا مِنْ السُّنَنِ وَالْمَنْدُوبَاتِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَاجِبَاتِ الْكِفَائِيَّةِ وَبَدَأَ بِأَهَمِّهَا فَقَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 بَابٌ فِي الْجِهَادِ وَالْجِهَادُ فَرِيضَةٌ يَحْمِلُهُ بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ. وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ لَا يُقَاتَلَ الْعَدُوُّ حَتَّى يُدْعَوْا إلَى دِينِ اللَّهِ إلَّا أَنْ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (الْجِهَادِ) وَهُوَ لُغَةً: التَّعَبُ وَالْمَشَقَّةُ لِأَخْذِهِ مِنْ الْجَهْدِ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: قِتَالُ مُسْلِمٍ كَافِرًا غَيْرَ ذِي عَهْدٍ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ أَوْ حُضُورُهُ لَهُ أَوْ دُخُولُهُ أَرْضِهِ لَهُ، فَيَخْرُجُ قِتَالُ الذِّمِّيِّ إذَا حَارَبَ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّهُ غَيْرُ نَقْضٍ، وَقَوْلُهُ: أَوْ حُضُورُهُ أَوْ دُخُولُهُ بِالرَّفْعِ عَطْفٌ عَلَى قِتَالٍ، فَأَوْ لِلتَّنْوِيعِ وَالضَّمِيرُ فِي حُضُورِهِ وَدُخُولِهِ لِلْمُسْلِمِ، وَفِي لَهُ فِي الْمَوْضِعَيْنِ لِلْقِتَالِ، وَأَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّ الْجِهَادَ أَعَمُّ مِنْ الْمُقَاتَلَةِ فَيُسْهِمُ لِمَنْ حَضَرَ الْمُنَاشَبَةَ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، وَقَوْلُهُ: لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِلْغَنِيمَةِ أَوْ لِإِظْهَارِ الشَّجَاعَةِ لَمْ يَكُنْ مُجَاهِدًا فَلَا يَسْتَحِقُّ الْغَنِيمَةَ حَيْثُ أَظْهَرَ ذَلِكَ، وَلَا يَجُوزُ تَنَاوُلُهَا حَيْثُ عَلِمَ مِنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَانْظُرْهُ مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَقَسَّمَ الْأَرْبَعَةَ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ حَاضِرٍ كَتَاجِرِ وَأَجِيرٍ إنْ قَاتَلَا أَوْ خَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي عَدَمَ اشْتِرَاطِ كَوْنِهِ قَاتَلَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ، إذْ لَوْ كَانَ شَرْطًا لَزَادُوهُ عَلَى تِلْكَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الْجِهَادِ حَتَّى يُسْهَمَ لَهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّرْطُ فِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ مُعْتَبَرًا بِالنَّظَرِ لِلثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْجِهَادِ الَّذِي وَرَدَتْ فِيهِ الْأَحَادِيثُ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُسْهَمَ لَهُ وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّ الْفِقْهَ نَقْلِيٌّ لَا عَقْلِيٌّ، وَعَلَى مُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ يَكُونُ شَهِيدُ الْحَرْبِ أَعَمَّ مِنْ الْمُجَاهِدِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنَّ شَهِيدَ الْحَرْبِ يَشْمَلُ مَنْ قَاتَلَ لِخُصُوصِ الْغَنِيمَةِ وَيُقَالُ لَهُ شَهِيدُ دُنْيَا فَقَطْ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّهُ يَشْمَلُ مَنْ قَتَلَهُ الْحَرْبِيُّ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَلَوْ لَمْ يُقَاتِلْ، اُنْظُرْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: وَلَا يُغَسَّلُ شَهِيدُ مُعْتَرَكٍ فَقَطْ، وَلَوْ بِبَلَدِ الْإِسْلَامِ أَوْ لَمْ يُقَاتِلْ. وَالْجِهَادُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ، فَقَدْ وَرَدَ: «أَنَّ الشَّهِيدَ يَوَدُّ أَنْ يَرْجِعَ إلَى الدُّنْيَا فَيُقْتَلَ مَرَّةً أُخْرَى فِي الْجِهَادِ لِمَا يَرَاهُ مِنْ فَضْلِ الشَّهَادَةِ» . وَرُوِيَ أَيْضًا: «مَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ، وَمَا جَمِيعُ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» ، وَإِنَّمَا كَانَ الْجِهَادُ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْعَظِيمَةِ، وَإِنْ كَانَ فِيهِ قَتْلُ عِبَادِ اللَّهِ وَتَعْذِيبُهُمْ وَتَخْرِيبُ بِلَادِ اللَّهِ، لِمَا فِيهِ مِنْ إعْزَازِ الدِّينِ؛ لِأَنَّ الْكَافِرَ عَدُوٌّ لِلَّهِ وَلِلْمُسْلِمِينَ، فَشُرِعَ إعْدَامًا لِلْكَافِرِينَ، وَإِحْيَاءً لِدِينِ الْإِسْلَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْجِهَادَ مِنْ حَيْثُ هُوَ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: جِهَادٍ بِالْقَلْبِ، وَهُوَ مُجَاهَدَةُ الشَّيْطَانِ وَالنَّفْسِ عَنْ الشَّهَوَاتِ الْمُحَرَّمَةِ. وَجِهَادٍ بِاللِّسَانِ، وَهُوَ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ. وَجِهَادٍ بِالْيَدِ، وَهُوَ زَجْرُ الْأُمَرَاءِ أَهْلَ الْمُنَاكِرِ بِالْأَدَبِ وَالضَّرْبِ بِاجْتِهَادِهِمْ، وَمِنْهُ إقَامَةُ الْحُدُودِ. وَجِهَادٍ بِالسَّيْفِ، وَلَا يَنْصَرِفُ حَيْثُ أُطْلِقَ إلَّا إلَيْهِ، وَهُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: (وَالْجِهَادُ) أَيْ الْخُرُوجُ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ الْحَرْبِيِّينَ (فَرِيضَةٌ) فِي كُلِّ سَنَةٍ عَلَى كُلِّ ذَكَرٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ حُرٍّ، وَلَوْ غَيْرَ مُسْلِمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ خِطَابِهِمْ مُسْتَطِيعٍ لِلْقِتَالِ وَوَاجِدٍ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ. . (يَحْمِلُهُ) أَيْ الْجِهَادَ (بَعْضُ النَّاسِ عَنْ بَعْضٍ) ؛ لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ وَحَقِيقَتُهُ مُهِمٌّ يُقْصَدُ حُصُولُهُ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى فَاعِلِهِ بِالذَّاتِ مَعَ الْإِثْمِ بِتَرْكِهِ، فَيَخْرُجُ فَرْضُ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ مَنْظُورٌ بِالذَّاتِ إلَى فَاعِلِهِ حَيْثُ قَصَدَ الشَّارِعُ حُصُولَهُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ بِعَيْنِهِ، أَوْ مَنْ عَيَّنَهُ الشَّارِعُ بِخُصُوصِهِ كَالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا فُرِضَ عَلَيْهِ دُونَ أُمَّتِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ عَلَى عُمُومِ النَّاسِ - إنْ لَمْ يَكُنْ إمَامٌ - إخْرَاجُ طَائِفَةٍ لِقِتَالِ الْكُفَّارِ فِي كُلِّ سَنَةٍ وَيَتَوَجَّهُونَ إلَى الْجِهَةِ الَّتِي كَثُرَ الْعَدُوُّ فِيهَا دُونَ غَيْرِهَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ الْجِهَاتُ خَوْفًا، فَالنَّظَرُ لِلْإِمَامِ فِي الْخُرُوجِ فِي أَيِّ جِهَةٍ إنْ لَمْ يُمْكِنْ سَدُّ الْجَمِيعِ، وَإِلَّا وَجَبَ سَدُّ الْجِهَاتِ كُلِّهَا بِالْمُجَاهِدِينَ. قَالَ خَلِيلٌ: الْجِهَادُ فِي أَهَمِّ جِهَةٍ كُلَّ سَنَةٍ، وَإِنْ خَافَ مُحَارِبًا، كَزِيَارَةِ الْكَعْبَةِ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَلَوْ مَعَ وَالٍ جَائِرٍ؛ لِأَنَّ ضَرَرَ الْكُفَّارِ لَا يُعَادِلُهُ ضَرَرٌ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ الْجِهَادُ إلَّا بِشُرُوطٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهِيَ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورَةُ وَالِاسْتِطَاعَةُ بِصِحَّةِ الْبَدَنِ وَوُجُودُ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ الْمَالِ، وَفِي الْإِسْلَامِ خِلَافٌ وَيَسْقُطُ بِأَضْدَادِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ بِمَرَضٍ وَصِبًى وَجُنُونٍ وَعَمًى وَعَرَجٍ وَأُنُوثَةٍ وَعَجْزٍ عَنْ مَا سَيَحْتَاجُ وَرِقٍّ وَدَيْنٍ حَلَّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ، وَلَكِنْ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إيصَالِهِ إلَى رَبِّهِ لِغَيْبَتِهِ، وَلَا وَكِيلَ مِنْ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ لَا مَا لَا يَحِلُّ فِي غَيْبَتِهِ وَيُوَكِّلُ فِي قَضَاءِ مَا يَحِلُّ وَيَخْرُجُ مَعَ الْعَجْزِ عَنْ الْوَفَاءِ قَهْرًا عَلَى صَاحِبِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 يُعَاجِلُونَا فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ، وَإِلَّا قُوتِلُوا. وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إذَا كَانُوا حَيْثُ تَنَالُهُمْ أَحْكَامُنَا فَأَمَّا إنْ بَعُدُوا   [الفواكه الدواني] كَخَلِيلٍ فَرْضِيَّةُ الْجِهَادِ، وَلَوْ سَدَّ الْمُسْلِمُونَ ثُغُورَهُمْ وَحُصُونَهُمْ، خِلَافًا لِعَبْدِ الْوَهَّابِ وَصَاحِبِ الْمُقَدِّمَاتِ مِنْ أَنَّهُ إذَا حُمِيَتْ أَطْرَافُ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَسُدَّتْ ثُغُورُهُمْ سَقَطَ فَرْضُ الْكِفَايَةِ عَنْ سَائِرِهِمْ وَيُسْتَحَبُّ فَقَطْ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْمَشْهُورِ أَنَّ عَدَمَ الْجِهَادِ يُؤَدِّي إلَى قِيَامِ الْحَرْبِيِّينَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ. الثَّانِي: يُشَارِكُ الْجِهَادَ فِي الْفَرْضِيَّةِ الْكِفَائِيَّةِ إقَامَةُ الْمَوْسِمِ أَيْ الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَمِثْلُهُ الْقِيَامُ بِعُلُومِ الشَّرْعِ كَالْفِقْهِ، وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَأُصُولٍ، وَكَلَامٍ وَنَحْوٍ وَالْفَتْوَى وَالْقَضَاءِ وَالشَّهَادَةِ وَرَدِّ السَّلَامِ، وَفَكِّ الْأُسَارَى وَتَجْهِيزِ الْأَمْوَاتِ، وَدَفْعِ الضَّرَرِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالْإِمَامَةِ الْكُبْرَى عَلَى مَنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُهَا، وَلَا يَجُوزُ تَعَدُّدُ السُّلْطَانِ إلَّا إذَا تَنَاءَتْ الْأَقْطَارُ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَالْحِرَفِ الْمُهِمَّةِ كَالْحِيَاكَةِ وَالْخِبَازَةِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ صَلَاحُ الْعَامَّةِ. الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ قَوْله تَعَالَى: {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] أَيْ الْجَنَّةَ، فَلَمَّا وَعَدَ اللَّهُ - تَعَالَى - الْقَاعِدَ وَالْمُجَاهِدَ بِالْحُسْنَى، عُلِمَ أَنَّ الْخِطَابَ بِهِ لِلْجَمِيعِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، وَأَنَّهُ يَسْقُطُ بِفِعْلِ الْبَعْضِ، وَلَوْ كَانَ عَلَى الْأَعْيَانِ لَكَانَ الْقَاعِدُ بِلَا ضَرُورَةٍ عَاصِيًا، وَمَا تَوَاتَرَ فِي السُّنَّةِ مِنْ «إرْسَالِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَوْمًا دُونَ آخَرِينَ» . الرَّابِعُ: فَرْضُ الْكِفَايَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ مُخَاطَبٌ بِهِ الْجَمِيعُ حَتَّى يَقُومَ بِهِ الْبَعْضُ، وَاخْتُلِفَ هَلْ لِمَنْ لَمْ يَفْعَلْ أَجْرٌ قَوْلَانِ، هَكَذَا قَالَ بَعْضٌ، وَلَا يُعَارِضُهُ آيَةُ: {وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} [النساء: 95] ؛ لِأَنَّ الْخِلَافَ فِي الْأَجْرِ الْمُرَتَّبِ عَلَى الْفِعْلِ. الْخَامِسُ: مَحَلُّ كَوْنِ الْجِهَادِ فَرْضَ كِفَايَةٍ بِحَسَبِ الْأَصْلِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا عَلَى الْأَعْيَانِ إذَا غَزَا الْعَدُوُّ عَلَى قَوْمٍ كَمَا يَأْتِي آخِرَ الْبَابِ، فَيَتَعَيَّنُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى النِّسَاءِ وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا وَبِتَعْيِينِ الْإِمَامِ وَبِالنَّذْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ بِفَجْأِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ أَوْ عَبْدٍ وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا أَوْ بِتَعْيِينِ الْإِمَامِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ فَرْضِيَّةِ الْجِهَادِ جَوَازُ قِتَالِ الْكُفَّارِ بِمُجَرَّدِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قِتَالُهُمْ ابْتِدَاءً بِقَوْلِهِ: (وَأَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ (أَنْ لَا يُقَاتَلَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالنَّائِبُ عَنْ الْفَاعِلِ (الْعَدُوُّ) عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى قِتَالِهِمْ (حَتَّى يُدْعَوْا إلَى دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ يُطْلَبَ مِنْهُمْ أَنْ يَقُولُوا: نَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا} [آل عمران: 64] ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمُعَاذٍ: إنَّك سَتَأْتِي قَوْمًا أَهْلَ كِتَابٍ فَإِذَا جِئْتَهُمْ فَادْعُهُمْ إلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ» وَقِصَّةُ سُلَيْمَانَ مَعَ بِلْقِيسَ بِنْتِ شُرَحْبِيلَ مَلِكَةَ سَبَأٍ، وَكِتَابُهُ إلَيْهَا مَعَ الْهُدْهُدِ: {أَلا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} [النمل: 31] وَصِفَةُ الدَّعْوَى مُخْتَلِفَةٌ بِحَسَبِ كُفْرِ الْكَافِرِ، فَمَنْ أَنْكَرَ الْإِلَهَ يُدْعَى إلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، وَمَنْ اعْتَقَدَ الشُّرَكَاءَ يُدْعَى إلَى الِاعْتِرَافِ بِالتَّوْحِيدِ، وَمَنْ أَنْكَرَ عُمُومَ الرِّسَالَةِ يُدْعَى إلَى الِاعْتِرَافِ بِعُمُومِهَا، وَمَنْ أَنْكَرَ الْبَعْثَ يُدْعَى إلَى الْإِيمَانِ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ كَفَرَ بِشَيْءٍ يُدْعَى إلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ، وَلَا تُفَصَّلَ لَهُ أَحْكَامُ الشَّرِيعَةِ إلَّا أَنْ يَسْأَلَ عَنْ تَفْصِيلِهَا. وَوُجُوبُ الدَّعْوَى مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَشَارَ لَهُ بِقَوْلِهِ: (مَا لَمْ يُعَاجِلُونَا) بِالْقِتَالِ، وَإِلَّا قُوتِلُوا. وَالْقَيْدِ الثَّانِي أَنْ يَكُونُوا بِمَحَلٍّ تُؤْمَنُ غَوْلَتُهُمْ، وَإِلَّا قُوتِلُوا. قَالَ خَلِيلٌ: وَدُعُوا لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ جِزْيَةٌ بِمَحَلٍّ يُؤْمَنُ، وَإِلَّا قُوتِلُوا وَقُتِلُوا إلَّا الْمَرْأَةَ وَالصَّبِيَّ، وَمَا مَعَهُمَا مِمَّا يَأْتِي فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ إلَخْ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَأَحَبُّ إلَيْنَا إلَخْ أَنَّ الدَّعْوَةَ مُسْتَحَبَّةٌ مَعَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا وَاجِبَةٌ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ أَرَادَ الْأَحَبَّ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ مَحْبُوبٌ، كَمَا أَنَّ الْجَائِزَ بِالْمَعْنَى الْأَعَمِّ يَصْدُقُ بِالْوَاجِبِ لَا الْأَحَبِّ بِمَعْنَى الْمَنْدُوبِ حَتَّى يُعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ فِيمَنْ بَلَغَتْهُ الدَّعْوَةُ، وَلَمْ يُجِبْ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ فَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِهَا فِي حَقِّهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ مَنْ قَرُبَتْ دَارُهُ أَوْ بَعُدَتْ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هَلْ تُكَرَّرُ الدَّعْوَةُ أَوْ لَا، وَبَيَّنَهُ الْفَاكِهَانِيُّ بِقَوْلِهِ: وَأَقَلُّهَا ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ مُتَوَالِيَةٍ كَالْمُرْتَدِّ، وَيُفْهَمُ مِنْ التَّشْبِيهِ بِالْمُرْتَدِّ أَنَّهَا ثَلَاثُ مَرَّاتٍ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِذَا دُعُوا (فَإِمَّا أَنْ يُسْلِمُوا) فَيَجِبُ كَفُّنَا عَنْهُمْ لِعِصْمَةِ دِمَائِهِمْ كَأَمْوَالِهِمْ بِالْإِسْلَامِ. (أَوْ) يَرْضُوَا بِأَنْ (يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ) فَيَجِبُ كَفُّنَا عَنْهُمْ أَيْضًا. (وَإِلَّا) يُسْلِمُوا أَوْ يُؤَدُّوا الْجِزْيَةَ (قُوتِلُوا) وَقُتِلُوا بِالْفِعْلِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِ الْقِتَالِ، وَلَوْ بِقَطْعِ الْمَاءِ وَرَمْيِ النَّارِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ غَيْرُهَا، وَلَمْ يَكُنْ فِيهِمْ مُسْلِمٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَاجِبَ دَعْوَتُهُمْ إلَى الْإِسْلَامِ فَقَطْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي قِتَالِهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا مِنْهُ يُدْعَوْا إلَى الْجِزْيَةِ لَا أَنَّا نُخَيِّرُهُمْ ابْتِدَاءً بَيْنَ الْإِسْلَامِ وَالْجِزْيَةِ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَدُعُوا لِلْإِسْلَامِ ثُمَّ جِزْيَةٌ بِمَحَلٍّ يُؤْمَنُ، وَإِلَّا قُوتِلُوا وَقُتِلُوا إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ الشَّارِعُ وَيَأْتِي فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا تُقْتَلُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ إلَى آخِرِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ. (وَإِنَّمَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ) عِنْدَ رِضَاهُمْ بِدَفْعِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 مِنَّا فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ إلَّا أَنْ يَرْتَحِلُوا إلَى بِلَادِنَا، وَإِلَّا قُوتِلُوا. وَالْفِرَارُ مِنْ الْعَدُوِّ مِنْ الْكَبَائِرِ إذَا كَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَلَّ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ. وَيُقَاتَلُ الْعَدُوُّ مَعَ كُلِّ بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ الْوُلَاةِ. وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ مَنْ أُسِرَ   [الفواكه الدواني] (إذَا كَانُوا) فِي مَحَلٍّ قَرِيبٍ (بِحَيْثُ تَنَالُهُمْ أَحْكَامُنَا) وَتَمْضِي عَلَيْهِمْ بِحَيْثُ يَدْفَعُونَ الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ، وَهُمْ صَاغِرُونَ. (فَأَمَّا إنْ بَعُدُوا مِنَّا فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُمْ الْجِزْيَةُ) لِتَعَذُّرِ أَخْذِهَا مِنْهُمْ (إلَّا أَنْ يَرْتَحِلُوا إلَى بِلَادِنَا، وَإِلَّا قُوتِلُوا) ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ الرِّضَا بِالْجِزْيَةِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْجِزْيَةِ الْعَنْوِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا مَا لَزِمَ الْكَافِرَ مِنْ مَالٍ لِأَمْنِهِ بِاسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ وَصَوْنِهِ، وَأَمَّا الصُّلْحِيَّةُ، وَهِيَ مَا الْتَزَمَ الْكَافِرَ الَّذِي مَنَعَ نَفْسَهُ أَدَاءَهُ عَلَى إبْقَائِهِ بِبَلَدِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ بِحَيْثُ تَجْرِي عَلَيْهِ أَحْكَامُهُ فَتُقْبَلُ مِنْهُمْ، وَلَوْ بَعُدَتْ أَمَاكِنُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ صَالَحُونَا عَلَى الْبَقَاءِ فِيهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ جَوَازِ أَخْذٍ الْجِزْيَةِ مِنْهُمْ بِشَرْطِهِ جَوَازُ الْمُهَادَنَةِ، وَيُقَالُ لَهَا الْمُسَالَمَةُ وَالْمُتَارَكَةُ عَلَى تَرْكِ الْقِتَالِ مُدَّةً بِالْأَوْلَى، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَقْدُهَا مِنْ الْإِمَامِ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُمْ عَجْزٌ عَنْ قِتَالِ الْكُفَّارِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَأَنْ يُخْلُوا عَقْدَهَا عَنْ ارْتِكَابِ أَمْرٍ مُحَرَّمٍ، كَشَرْطِهِمْ بَقَاءَ أَسِيرٍ مُسْلِمٍ تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، أَوْ قَرْيَةً لِلْمُسْلِمِينَ تَبْقَى تَحْتَ أَيْدِيهِمْ، إلَّا أَنْ يَعْظُمَ الْخَوْفُ مِنْهُمْ فَيَجُوزُ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ الْبَقَاءُ فِي دَارِ الْحَرْبِ أَوْ يُهَاجِرُ مِنْهَا إلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ؟ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَسْلَمَ قَوْمٌ كُفَّارٌ فَإِنْ كَانُوا حَيْثُ تَنَالُهُمْ أَحْكَامُ الْكُفَّارِ وَجَبَ عَلَيْهِمْ الِارْتِحَالُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَرْتَحِلُوا مِنْهُ يَكُونُوا عَاصِينَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِسْلَامُهُمْ صَحِيحٌ؛ لِأَنَّ الْهِجْرَةَ إنَّمَا كَانَتْ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْإِسْلَامِ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحِ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ» ، وَكَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لَا يَتِمُّ إسْلَامُ مَنْ أَسْلَمَ حَتَّى يَرْتَحِلَ إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَتَحَ مَكَّةَ قَالَ: «لَا هِجْرَةَ بَعْدَ الْفَتْحِ.» وَلَمَّا كَانَ لِلْجِهَادِ فَرَائِضُ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهَا، وَهِيَ طَاعَةُ الْإِمَامِ وَتَرْكُ الْغُلُولِ، وَالْوَفَاءُ بِالْأَمَانِ، وَالثَّبَاتُ عِنْدَ الزَّحْفِ، وَأَنْ لَا يَفِرَّ أَحَدٌ مِنْ اثْنَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَالْفِرَارُ) بِكَسْرِ الْفَاءِ أَيْ الْهُرُوبُ (مِنْ الْعَدُوِّ) أَيْ الْكَافِرِ مَعْدُودٌ (مِنْ الْكَبَائِرِ) ؛ لِأَنَّ الذُّنُوبَ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ قِسْمَانِ، وَالْفِرَارُ مِنْ الْمُوبِقَاتِ السَّبْعِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْتَنِبُوا الْمُوبِقَاتِ السَّبْعَ» أَيْ الْمُهْلِكَاتِ وَشَرْطُ كَوْنِهِ مِنْ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ. (إذَا كَانُوا) أَيْ الْكُفَّارُ الْمُعَبَّرُ عَنْهُمْ بِالْعَدُوِّ (مِثْلَ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ فَأَقَلَّ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْحَرَامِ: وَفِرَارٌ إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] ، وَهَذِهِ الْآيَةُ نَاسِخَةٌ لِآيَةِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ؛ لِأَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ يَحْرُمُ الْفِرَارُ مِنْ الْكُفَّارِ مُطْلَقًا، ثُمَّ نُسِخَ بِقَوْلِهِ: {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} [الأنفال: 65] الْآيَةَ. ثُمَّ نُسِخَ بِآيَةِ: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66] الْآيَةَ. فَتَكَرَّرَ فِيهِ النَّسْخُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُرَاعَى الْعَدَدُ، وَلَوْ كَانَ الْمُسْلِمُونَ أَضْعَفَ قُوَّةً مِنْ الْكُفَّارِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَظَاهِرِ الْآيَةِ، لَكِنْ يَنْبَغِي التَّقْيِيدُ بِمَا إذَا كَانَ مَعَ الْمُسْلِمِينَ سِلَاحٌ، وَكَانَ فِي ثَبَاتِهِمْ نِكَايَةٌ لِلْعَدُوِّ، وَبِأَنْ لَا يَتَّصِلَ مَدَدُ الْكُفَّارِ مَعَ انْقِطَاعِ مَدَدِ الْمُسْلِمِينَ، وَبِأَنْ لَا تَخْتَلِفَ كَلِمَةُ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْ هَذَا جَازَ الْفِرَارُ. ثُمَّ بَيَّنَ مَفْهُومَ قَوْلِهِ مِثْلَيْ عَدَدِ الْمُسْلِمِينَ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانُوا) أَيْ الْكُفَّارُ (أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) بِأَنْ زَادُوا عَلَى مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ (فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أَيْ يَجُوزُ الْفِرَارُ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ بَلَغَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يُقَيَّدُ الْجَوَازُ بِأَنْ لَا يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِلَّا حَرُمَ الْفِرَارُ مُطْلَقًا، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ خَلِيلٍ: وَفِرَارٌ إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ، وَلَمْ يَبْلُغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا إلَّا تَحَرُّفًا وَتَحَيُّزًا، فَإِنَّ قَوْلَهُ: وَلَمْ يَبْلُغُوا رَاجِعٌ إلَى مَفْهُومِ إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ لِلْعَارِفِ بِكَلَامِ خَلِيلٍ وَغَيْرِهِ، وَحُرْمَةُ الْفِرَارِ عِنْدَ بُلُوغِهِمْ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا مُقَيَّدَةٌ أَيْضًا بِالْقُيُودِ السَّابِقَةِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَدْ ذَكَرْنَا لَك أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي بُلُوغِ الْمُسْلِمِينَ نِصْفَ الْكُفَّارِ أَوْ الِاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا الْعَدَدُ لَا الْقُوَّةُ عَلَى قَوْلِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَالْجُمْهُورِ، وَيَكْفِي بُلُوغُهُمْ هَذَا الْعَدَدَ، وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ أَوْ الْوَهْمِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْقُرْطُبِيِّ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَى الْفِرَارِ مِنْ وَهَنِ الْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ حُرْمَةُ الْفِرَارِ مِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ عَدَدٍ. الثَّانِي: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ كَوْنُ الْجَمِيعِ مِمَّنْ تَوَفَّرَتْ فِيهِمْ شُرُوطُ الْجِهَادِ، بَلْ وَلَوْ كَانَ فِيهِمْ عَبِيدٌ أَوْ صِبْيَانٌ، لَكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ قُدْرَةٌ عَلَى الْجِهَادِ. قَالَ جَمِيعَهُ الْأُجْهُورِيُّ. الثَّالِثُ: قَالَ الْأُجْهُورِيُّ أَيْضًا: وَهَذَا التَّفْصِيلُ جَارٍ فِي الْجِهَادِ، وَلَوْ كَانَ مَنْدُوبًا، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا سُدَّتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 مِنْ الْأَعْلَاجِ. وَلَا يُقْتَلُ أَحَدٌ بَعْدَ أَمَانٍ وَلَا يُخْفَرُ لَهُمْ بِعَهْدٍ وَلَا يُقْتَلُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ وَيُجْتَنَبُ قَتْلُ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ إلَّا أَنْ   [الفواكه الدواني] ثُغُورُ الْمُسْلِمِينَ وَحُمِيَتْ أَطْرَافُهُمْ. قَالَ فِي الْمُقَدِّمَاتِ: إذَا حُمِيَتْ أَطْرَافُ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَسُدَّتْ ثُغُورُهُمْ سَقَطَ فَرْضُهُ عَنْ سَائِرِهِمْ، نَقَلَهُ الثُّنَائِيُّ، وَلَكِنْ قَدَّمْنَا أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ الْوُجُوبُ مُطْلَقًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ. الرَّابِعُ: حُكْمُ الْفِرَارِ مِنْ الزَّحْفِ أَنَّهُ فِي حَالِ عَدَمِ جَوَازِهِ كَبِيرَةٌ تَجِبُ مِنْهُ التَّوْبَةُ فَوْرًا كَسَائِرِ الْكَبَائِرِ، وَتَوْبَتُهُ كَغَيْرِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ إلَّا بِتَكَرُّرِ جِهَادٍ مَعَ عَدَمِ فِرَارٍ، وَاعْتَرَضَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِقَوْلِهِ غَيْرَ مَنْقُولٍ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَلَامَهُ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِكَلَامِ غَيْرِهِ لِحَمْلِ قَوْلِهِ: لَا تُعْرَفُ تَوْبَتُهُ عَلَى مَعْنَى لَا تَظْهَرُ بِحَيْثُ تُعْلَمُ تَوْبَتُهُ إلَّا بِتَكَرُّرِ جِهَادٍ مَعَ ثَبَاتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَمْ تَصِحَّ تَوْبَتُهُ؛ لِأَنَّ مِثْلَ ابْنِ عَرَفَةَ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ التَّقَوُّلُ، وَإِنْ كَانَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ. الْخَامِسُ: إذَا وَقَعَ الْفِرَارُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ تَعَلَّقَ الْإِثْمُ بِالْجَمِيعِ إذَا وَقَعَ مِنْ جَمِيعِهِمْ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَإِلَّا اخْتَصَّتْ الْحُرْمَةُ بِمَنْ فَرَّ مَعَ بَقَاءِ الْعَدُوِّ الَّذِي يَحْرُمُ مَعَهُ الْفِرَارُ لَا مَنْ فَرَّ بَعْدَ النَّقْصِ عَنْهُ. ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً كَانَ الْأَوْلَى ذِكْرَهَا أَوَّلَ الْبَابِ عِنْدَ بَيَانِ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ أَنْ (يُقَاتَلَ الْعَدُوُّ مَعَ كُلِّ) إمَامٍ (بَرٍّ وَفَاجِرٍ مِنْ الْوُلَاةِ) قَالَ خَلِيلٌ: الْجِهَادُ فَرْضُ كِفَايَةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَلَوْ مَعَ وَالٍ جَائِرٍ، وَالْبَارُّ هُوَ الْعَادِلُ وَالْفَاجِرُ هُوَ الْجَائِرُ الَّذِي لَا يَضَعُ الْخُمُسَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَا يَفِي بِعَهْدٍ؛ ارْتِكَابًا لِأَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ، إعَانَتِهِمْ عَلَى جَوْرِهِمْ وَتَرْكِ الْغَزْوِ مَعَهُمْ؛ لِأَنَّ فِيهِ وَهْنًا لِلدِّينِ، وَالْوُلَاةُ جَمْعُ وَالٍ وَالْمُرَادُ بِهِ أَمِيرُ الْجَيْشِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْجِهَادِ مَعَ الْجَائِرِ خَبَرُ: «الْجِهَادُ مَاضٍ مُنْذُ بَعَثَ اللَّهُ نَبِيَّهُ إلَى آخِرِ عِصَابَةٍ تُقَاتِلُ الدَّجَّالَ لَا يَنْقُضُهُ جَوْرُ مَنْ جَارَ وَلَا غَدْرُ مَنْ غَدَرَ» وَقَوْلُ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - حِينَ أَدْرَكُوا مَا حَدَثَ مِنْ الظُّلْمِ: اُغْزُ مَعَهُمْ عَلَى حَظِّك مِنْ الْآخِرَةِ، وَلَا تَفْعَلْ مَا يَفْعَلُونَ مِنْ فَسَادٍ وَخِيَانَةٍ وَغُلُولٍ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِلْجَائِرِ شُمُولُهُ لِمَنْ كَانَ جَوْرُهُ بِالْغَدْرِ الَّذِي هُوَ عَدَمُ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ، خِلَافًا لِمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَنَّهُ لَا يُقَاتِلُ مَعَ الْإِمَامِ الْغَادِرِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ وَاَلَّذِي لَا يَعْدِلُ فِي الْخُمُسِ، وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ الْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْجِهَادِ الْوَاجِبِ، وَلَوْ كِفَايَةً، وَأَمَّا الْمَنْدُوبُ عَلَى الْقَوْلِ بِنَدْبِهِ بَعْدَ حِمَايَةِ أَطْرَافِ الْبِلَادِ وَسَدِّ الثُّغُورِ فَلَا وَجْهَ لِلْقِتَالِ مَعَ الْجَائِرِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِمَامِ، وَمَنْ مَعَهُ قِتَالُ مَنْ أَبَى الْإِسْلَامَ وَالْجِزْيَةَ، وَكَانَ مِنْ الْكُفَّارِ مَنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَمَنْ لَا يَجُوزُ، شَرَعَ فِي بَيَانِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِقَتْلِ مَنْ أُسِرَ) أَيْ أُخِذَ وَصَارَ فِي أَيْدِينَا (مِنْ الْأَعْلَاجِ) جَمْعُ عِلْجٍ، وَهُوَ الرَّجُلُ الْأَعْجَمِيُّ الْكَافِرُ، وَمَحَلُّ جَوَازِ قَتْلِهِ إذَا كَانَ فِي قَتْلِهِ مَصْلَحَةٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَإِنْ أَسَرُوا عَجَمًا أَوْ عَرَبًا فَالْإِمَامُ مُخَيَّرٌ فِي خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: الْقَتْلِ وَالِاسْتِرْقَاقِ وَضَرْبِ الْجِزْيَةِ وَالْمُفَادَاةِ وَالْمَنِّ بِنَظَرِ الْإِمَامِ وَذَلِكَ قَبْلَ قَسْمِ الْغَنِيمَةِ، فَيَنْظُرُ مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَا يَنْظُرُ لِلْهَوَى، فَإِنْ كَانَ الْأَسِيرُ مِنْ أَهْلِ النَّجْدَةِ وَالْفُرُوسِيَّةِ وَالنِّكَايَةِ لِلْمُسْلِمِينَ قَتَلَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأُمِنَتْ غَائِلَتُهُ، وَلَهُ قِيمَةٌ اُسْتُرِقَّ لِلْمُسْلِمِينَ وَقَبِلَ فِيهِ الْفِدَاءَ إنْ بَذَلَ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قِيمَةٌ، وَلَا فِيهِ قُدْرَةٌ عَلَى أَدَاءِ جِزْيَةٍ كَالْأَعْمَى وَالزَّمِنِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي أَعْتَقَهُ حَيْثُ لَا رَأْيَ، وَلَا تَدْبِيرَ، وَاَلَّذِي يُقْتَلُ يُحْسَبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِمِلْكِهَا بِمُجَرَّدِ الْأَخْذِ، وَاَلَّذِي يُمَنُّ عَلَيْهِ وَيُخَلَّى سَبِيلُهُ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يُحْسَبُ مِنْ الْخُمُسِ، وَكَذَا مَا فُدِيَ، وَكَانَ فِدَاؤُهُ بِأُسَارَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِي كَانُوا عِنْدَهُمْ. قَالَ الْحَطَّابُ: وَمَنْ يُمَنُّ عَلَيْهِ أَوْ يُفْدَى أَوْ تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْخُمُسِ بِنَاءً عَلَى مِلْكِ الْغَنِيمَةِ بِمُجَرَّدِ أَخْذِهَا، وَالْقَتْلُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَالِاسْتِرْقَاقُ رَاجِعٌ إلَى جُمْلَةِ الْغَانِمِينَ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الَّذِي يُمَنُّ عَلَيْهِ أَوْ يُفْدَى أَوْ تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ تُجْعَلُ قِيمَتُهُ فِيمَا يُخَمَّسُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَلَكِنَّهَا تُحْسَبُ مِنْ الْخُمُسِ الَّذِي لِآلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُمَّ لِلْمَصَالِحِ، وَخَالَفَ ابْنُ رُشْدٍ فِي ذَلِكَ وَقَالَ: الَّذِي يُمَنُّ عَلَيْهِ، وَمَنْ تُضْرَبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَا تُجْعَلُ قِيمَتُهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ الْخُمُسِ، وَأَمَّا الْفِدَاءُ الْمَأْخُوذُ فَيُجْعَلُ مِنْ جُمْلَةِ الْغَنِيمَةِ، وَالنَّظَرُ بَيْنَ الْوُجُوهِ الْخَمْسَةِ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَسْرَى الْمُقَاتِلَةِ. وَأَمَّا الذَّرَارِيُّ وَالنِّسَاءُ فَلَيْسَ إلَّا الِاسْتِرْقَاقُ أَوْ الْمُفَادَاةُ، وَلَا فَرْقَ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ بَيْنَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ وَغَيْرِهِمْ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ خِلَافًا لِابْنِ وَهْبٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُقْتَلَ أَحَدٌ) مِنْ الْكُفَّارِ (بَعْدَ أَمَانٍ) مِنْ الْإِمَامِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّ قَتْلَهُ بَعْدَ الْأَمَانِ خِيَانَةٌ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} [الأنفال: 58] وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يُنْصَبُ لِلْغَادِرِ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُقَالُ هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ» . (وَ) كَذَا (لَا يُخْفَرُ) أَيْ لَا يُتْرَكُ (لَهُمْ) أَيْ الْعَدُوِّ الْوَفَاءُ (بِعَهْدٍ) وَالْمَعْنَى أَنَّ الْعَدُوَّ إذَا أُعْطُوا أَسِيرًا عَهْدًا عَلَى أَنْ لَا يَخُونَ، وَلَا يَهْرَبَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ نَقْضُ عَهْدِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ خِيَانَةُ أَسِيرٍ اُؤْتُمِنَ طَائِعًا، وَلَوْ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ الْهُرُوبُ، وَلَا أَخْذُ شَيْءٍ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ، وَسَوَاءٌ حَلَفَ لَهُمْ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُؤْتَمَنْ فَلَهُ الْخِيَانَةُ اتِّفَاقًا، وَكَذَا لَوْ أُمِنَ مُكْرَهًا سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُعَاهَدَةِ بِأَنْ أَعْطَاهُمْ عَهْدًا كَقَوْلِهِ لَهُمْ: لَكُمْ عَلَيَّ عَهْدٌ أَنْ لَا أَخُونَ أَوْ لَا أَهْرُبَ، أَوْ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُعَاهَدَةِ بِأَنْ قَالُوا لَهُ: أَمَّنَّاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 يُقَاتِلُوا، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ تُقْتَلُ إذَا قَاتَلَتْ. وَيَجُوزُ أَمَانُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَقِيَّتِهِمْ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَالصَّبِيُّ إذَا عَقَلَ الْأَمَانَ   [الفواكه الدواني] عَلَى كَذَا. (تَنْبِيهٌ) يَكْثُرُ السُّؤَالُ عَمَّا لَوْ اقْتَرَضَ الْأَسِيرُ مِنْ بَعْضِ الْحَرْبِيِّينَ مَالًا مِنْ غَيْرِ إكْرَاهٍ لَهُ عَلَى الِاقْتِرَاضِ لِيَدْفَعَهُ فِي خَلَاصِ نَفْسِهِ فَيُقْرِضُهُ الْحَرْبِيُّ عَلَى شَرْطِ الْإِتْيَانِ بِضَامِنٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ فَيَفْعَلُ، فَهَلْ لِلضَّامِنِ الطَّلَبُ عَلَى الْمُقْتَرِضِ بِمَا ضَمِنَهُ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ ائْتَمَنَهُ عَلَى مَا أَقْرَضَهُ لَهُ طَائِعًا أَمْ لَا؟ اسْتَظْهَرَ الْأُجْهُورِيُّ أَنَّ لَهُ الطَّلَبَ عَلَى الْمُقْتَرِضِ، وَأَفْتَى بَعْضُ الشُّيُوخِ بِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ مِمَّا اقْتَرَضَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ؛ لِأَنَّهُ مَالٌ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ الْحَنَفِيَّةِ، وَعَلَى فَتْوَى بَعْضِ الشُّيُوخِ لَيْسَ لِلضَّامِنِ طَلَبٌ عَلَى الْمُقْتَرِضِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (فَرْعٌ) ذَكَرَ ابْنُ حَبِيبٍ عَنْ مُطَرِّفٍ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ أَنَّ الْأَسِيرَ إذَا أَطْلَقَهُ الْعَدُوُّ عَلَى أَنْ يَأْتِيَهُ بِفِدَائِهِ فَلَهُ بَعْثُ الْمَالِ دُونَ رُجُوعِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ فِدَاءً فَعَلَيْهِ أَنْ يَرْجِعَ، وَأَمَّا لَوْ عُوهِدَ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ بِالْمَالِ فَعَجَزَ عَنْهُ فَلْيَجْتَهِدْ فِيهِ أَبَدًا، وَلَا يَرْجِعْ، وَقَالَ أَصْبَغُ: وَلَمَّا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا امْتَنَعَ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ مِنْ أَدَاءِ الْجِزْيَةِ يَجُوزُ قِتَالُهُ وَقَتْلُهُ، وَكَانَ الشَّارِعُ اسْتَثْنَى أَفْرَادًا لَا يَجُوزُ قَتْلُهَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تُقْتَلَ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ) اللَّذَانِ لَمْ يُقَاتِلَا؛ لِأَنَّهُ «- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ قَتْلِ الصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ» ، وَكَذَا لَا تُؤْخَذُ مِنْهُمَا جِزْيَةٌ، وَيُخَيَّرُ فِيهِمَا الْإِمَامُ بَيْنَ الِاسْتِرْقَاقِ وَالْفِدَاءِ، وَسَيَأْتِي مُحْتَرِزُ قَوْلِنَا اللَّذَانِ لَمْ يُقَاتِلَا. (وَ) كَذَا يَجِبُ أَنْ (يُجْتَنَبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (قَتْلُ الرُّهْبَانِ) بِالْأَدْيِرَةِ أَوْ الصَّوَامِعِ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَأْيٌ، وَلَا تَدْبِيرٌ، بِخِلَافِ رُهْبَانِ الْكَنَائِسِ قَتْلُهُمْ فِي الْحَرْبِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ لِمُخَالَطَتِهِمْ أَهْلِ دِينِهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ رَأْيٌ، وَلَا تَدْبِيرٌ، وَإِنَّمَا لَمْ تُقْتَلْ الرُّهْبَانُ الْمَذْكُورَةُ؛ لِأَنَّ انْقِطَاعَهُمْ بِالْأَدْيِرَةِ وَالصَّوَامِعِ أَلْحَقَهُمْ بِالنِّسَاءِ، أَمَّا لَوْ كَانَ لَهُمْ رَأْيٌ أَوْ تَدْبِيرٌ لَجَازَ قَتْلُهُمْ. (وَ) كَذَا يَجِبُ أَنْ يُجْتَنَبَ قَتْلُ (الْأَحْبَارِ) جَمْعُ حِبْرٍ بِكَسْرِ الْحَاءِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَهُمْ عُلَمَاءُ الْكُفَّارِ، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ الْأُجَرَاءُ جَمْعُ أَجِيرٍ أَيْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ، فَفِي الشَّيْخِ زَرُّوقٍ الْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ قَتْلِ الْفَلَّاحِ وَالْأَجِيرِ وَالصَّانِعِ إذَا لَمْ يُقَاتِلُوا وَقَدَرَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا عِنْدَ ابْنِ حَبِيبٍ، وَعِنْدَ سَحْنُونٍ يُقْتَلُونَ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ إذْ لَمْ يَسْتَثْنِهِمْ مِمَّنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ، وَيَدُلُّهُ عَلَى جَوَازِ قَتْلِهِمْ أَيْضًا مَا يُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِنْ قَوْلِهِ: (وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ إنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ الْحَدِيثُ الَّذِي ذُكِرَ فِيهِ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ الْأَجِيرِ وَيُقْتَلُ هُوَ وَغَيْرُهُ) وَقَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: وَأَكْثَرُ النُّسَخِ إسْقَاطُ قَوْلِهِ وَقَدْ قَالَ إلَخْ، وَمَحَلُّ عَدَمِ جَوَازِ قَتْلِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الرُّهْبَانِ وَالْأَحْبَارِ وَالْأُجَرَاءِ وَالصُّنَّاعِ. (إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا) ، وَإِلَّا جَازَ قَتْلُهُمْ وَظَاهِرُهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْتُلُوا أَحَدًا. (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) يَجُوزُ أَنْ (تُقْتَلَ إذَا قَاتَلَتْ) عَلَى تَفْصِيلٍ مُحَصَّلُهُ: إنْ قَتَلَتْ أَحَدًا قُتِلَتْ، وَإِنْ بَعْدَ أَسْرِهَا، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَقْتُلْ أَحَدًا فَإِنْ قَاتَلَتْ بِالسِّلَاحِ وَنَحْوِهِ كَالرِّجَالِ قُتِلَتْ أَيْضًا، وَلَوْ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَإِنْ قَاتَلَتْ بِالْحِجَارَةِ لَمْ تُقْتَلْ، وَإِنْ أُخِذَتْ فِي حَالِ الْمُقَاتَلَةِ عَلَى الرَّاجِحِ، وَيَجْرِي هَذَا التَّفْصِيلُ فِي الصَّبِيِّ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى مَا يَحِلُّ قَتْلُهُ مِمَّنْ ذُكِرَ بِقَوْلِهِ: إلَّا الْمَرْأَةَ إلَّا فِي مُقَاتَلَتِهَا، وَالصَّبِيُّ وَالْمَعْتُوهُ كَشَيْخٍ فَانٍ وَزَمِنٍ وَأَعْمَى وَرَاهِبٍ مُنْعَزِلٍ بِدَيْرٍ أَوْ صَوْمَعَةٍ بِلَا رَأْيٍ، وَتَرَكَ لَهُمْ الْكِفَايَةَ فَقَطْ وَاسْتَغْفَرَ قَاتِلَهُمْ كَمَنْ لَمْ تَبْلُغْهُ دَعْوَةٌ أَيْ فَلَا شَيْءَ عَلَى قَاتِلِهِ إلَّا التَّوْبَةُ، وَكُلُّ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ سِوَى الرَّاهِبِ وَالرَّاهِبَةِ بَعْدَ حَوْزِهِ فِي أَيْدِي الْغَانِمِينَ لَزِمَهُ قِيمَتُهُ يَجْعَلُهَا الْإِمَامُ فِي الْغَنِيمَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ خُيِّرُوا فَقِيمَتُهُمْ، وَقَاتِلُ الرَّاهِبِ وَالرَّاهِبَةِ يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ لِأَهْلِ دِينِهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ نَهَى عَنْ قَتْلِهِ مِنْ نَحْوِ صَبِيٍّ أَوْ امْرَأَةٍ وَشَيْخٍ فَانٍ أَوْ زَمِنٍ أَوْ أَعْمَى يَجُوزُ أَسْرُهُ وَيَرَى الْإِمَامُ فِيهِ رَأْيَهُ إلَّا الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ فَإِنَّهُمَا حُرَّانِ لَا يُسْتَرَقَّانِ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤْسَرَانِ. الثَّانِي: مَنْ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ الرَّاهِبِ، وَمَنْ مَعَهُ مِمَّنْ ذُكِرَ فَإِنَّهُ يُتْرَكُ لَهُ قُوتُهُ مِنْ مَالِهِ أَوْ مَالِ غَيْرِهِ مِنْ الْكُفَّارِ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مُوَاسَاتُهُ بِمَا يَعِيشُ بِهِ، وَقَدَّمْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَى مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ أَحَدًا قَبْلَ الْحَوْزِ إلَّا التَّوْبَةُ وَبَعْدَهُ يَلْزَمُهُ غُرْمُ الْقِيمَةِ إلَّا الرَّاهِبَ وَالرَّاهِبَةَ فَيَلْزَمُهُ دِيَتُهُمَا تُدْفَعُ لِأَهْلِ دِينِهِمَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْأَمَانِ، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: رَفْعُ اسْتِبَاحَةِ دَمِ الْحَرْبِيِّ وَرِقِّهِ، وَمَالِهِ حِينَ قِتَالِهِ مَعَ الْعَزْمِ عَلَيْهِ مَعَ اسْتِقْرَارِهِ تَحْتَ حُكْمِ الْإِسْلَامِ مُدَّةً مَا بِقَوْلِهِ: (وَيَجُوزُ أَمَانٌ) أَيْ تَأْمِينُ (أَدْنَى) وَأَدْلَى أَشْرَفُ (الْمُسْلِمِينَ) بَعْضَ الْكُفَّارِ حَيْثُ كَانَ عَدْلًا عَارِفًا بِمَصْلَحَةِ الْأَمَانِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عَدْلَ شَهَادَةٍ بِأَنْ يَكُونَ خَسِيسًا لَا يُسْأَلُ عَنْهُ إنْ غَابَ، وَلَا يُشَاوَرُ إنْ حَضَرَ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِأَدْنَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَفَائِدَةُ جَوَازِ الْأَمَانِ مِنْ بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِذَلِكَ الْأَمَانِ حَتَّى (عَلَى يَقِينِهِمْ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ التَّعَرُّضُ لِذَلِكَ الْحَرْبِيِّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ وَيَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ» فَأَمَانُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ إلَى فَاعِلِهِ، وَالْمَفْعُولُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ بَعْضُ الْكُفَّارِ كَمَا قَدَّمْنَا. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا جَعَلْنَا مَفْعُولَ الْمَصْدَرِ لَفْظَ بَعْضٍ الَّذِي هُوَ الْعَدَدُ الْمَحْصُورُ؛ لِأَنَّ الْعَدَدَ غَيْرَ الْمَحْصُورِ كَالْإِقْلِيمِ إنَّمَا يَقَعُ تَأْمِينُهُ مَعَ الْإِمَامِ، فَإِنْ أَمَّنَّهُ غَيْرُهُ كَانَ لَهُ النَّظَرُ فِيهِ، كَمَا يَنْظُرُ فِي التَّأْمِينِ الْوَاقِعِ مِنْ غَيْرِ الْعَدْلِ أَوْ الْجَاهِلِ فَإِنْ رَآهُ صَوَابًا أَمْضَاهُ، وَإِلَّا رَدَّهُ. وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ لِبَعْضِ الْحَرْبِيِّينَ لَا يَجُوزُ. (وَ) كَمَا يَجُوزُ أَمَانُ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الرِّجَالِ (كَذَلِكَ) يَجُوزُ أَمَانُ (الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ) الْمُسْلِمَيْنِ (إذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وَقِيلَ إنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ جَازَ. وَمَا غَنَمَ الْمُسْلِمُونَ بِإِيجَافٍ فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ خُمُسَهُ وَيَقْسِمُ الْأَرْبَعَةَ الْأَخْمَاسَ بَيْنَ أَهْلِ الْجَيْشِ. وَقَسْمُ ذَلِكَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ أَوْلَى. ، وَإِنَّمَا يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ مَا أُوجِفَ عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ، وَمَا غُنِمَ بِقِتَالٍ. وَلَا بَأْسَ أَنْ   [الفواكه الدواني] عَقَلَ) كُلٌّ مَصْلَحَةَ (الْأَمَانِ) وَالْمُرَادُ بِعَقْلِهِ الْأَمَانَ كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنْ يَعْلَمَ ثُبُوتَهُ إنْ وَقَعَ، وَأَنَّ فَاعِلَهُ يُثَابُ عَلَيْهِ إنْ وَفَّى بِهِ، وَإِنْ نَقَضَهُ يَأْثَمُ، وَقَوْلُنَا: كُلٌّ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ قَيْدَ الْعَقْلِ بِمَصْلَحَةِ الْأَمَانِ لَا يَخْتَصُّ بِالصَّبِيِّ، وَمَا صَدَرَ بِهِ مِنْ جَوَازِ أَمَانِ الْمَرْأَةِ وَالصَّبِيِّ مَعَ عَقْلِهِمَا مَصْلَحَةَ الْأَمَانِ هُوَ الْأَكْثَرُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْإِمَامِ، وَأَشَارَ إلَى مُقَابِلِهِ بِقَوْلِهِ: (قِيلَ) لَا يَجُوزُ مِنْهُمَا ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ إذْنٍ بَلْ (إنْ أَجَازَ ذَلِكَ الْإِمَامُ جَازَ) أَيْ مَضَى، وَإِلَّا رُدَّ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْأَمَانَ إنْ وَقَعَ مِنْ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْعَارِفِ بِمَصْلَحَةِ الْأَمَانِ الْغَيْرِ الْخَائِفِ مِمَّنْ أَمَّنَّهُ يَكُونُ جَائِزًا مَاضِيًا اتِّفَاقًا، وَلَوْ وَقَعَ مِنْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ، وَلَوْ كَانَ خَارِجًا عَنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ حِينَ تَأْمِينِهِ حَيْثُ أَمَّنَ دُونَ الْإِقْلِيمِ، وَأَمَّا لَوْ أَمَّنَ الْبَالِغُ إقْلِيمًا لَنَظَرَ فِيهِ الْإِمَامُ. وَأَمَّا إنْ وَقَعَ الْأَمَانُ مِنْ امْرَأَةٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ صَبِيٍّ عَاقِلِي مَصْلَحَةِ الْأَمَانِ فَقِيلَ: يَجُوزُ ابْتِدَاءً وَيَمْضِي وَعَلَيْهِ الْأَكْثَرُ، وَقِيلَ: يَتَوَقَّفُ إمْضَاؤُهُ عَلَى إجَازَةِ الْإِمَامِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا الْمُسْلِمُ الْغَيْرُ الْخَائِفُ؛ لِأَنَّ أَمَانَ الذِّمِّيِّ، وَمِثْلُهُ الْمُسْلِمُ الْخَائِفُ لَا يَمْضِي، وَلَا يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُخَالَفَةَ فِي الذِّمِّيِّ تُحْمَلُ عَلَى عَدَمِ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَمْرُ الْخَائِفِ ظَاهِرٌ. الثَّانِي: ثَمَرَةُ الْأَمَانِ الْعَائِدَةُ عَلَى الْمُؤَمَّنِ حُرْمَةُ قَتْلِهِ وَاسْتِرْقَاقِهِ وَعَدَمِ ضَرْبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ إنْ وَقَعَ الْأَمَانُ قَبْلَ الْفَتْحِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْفَتْحِ فَإِنَّمَا يَسْقُطُ بِهِ الْقَتْلُ فَقَطْ وَيَرَى الْإِمَامُ رَأْيَهُ فِي غَيْرِهِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ صِيغَةَ التَّأْمِينِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّهُ يَقَعُ بِكُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَلَوْ الْإِشَارَةِ مِنْ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَحْرَى الْكِتَابَةُ، وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ الْمُؤَمَّنُ مِنْهُ الْأَمَانَ. الرَّابِعُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ تَأْمِينِ الْإِمَامِ لِوُضُوحِهِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَمِّنُ حَتَّى الْقَبِيلَةَ وَالْإِقْلِيمَ، وَيَصِيرُ مَنْ أَمَّنَهُ الْإِمَامُ فِي أَمَانٍ فِي سَائِرِ الْبِلَادِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى وُجُوبِ الْوَفَاءِ وَبِأَمَانِ الْإِمَامِ مُطْلَقًا. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَمِثْلُ الْإِمَامِ أَمِيرُ الْجَيْشِ، وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ كَانَ فِي بَلَدِ السُّلْطَانِ الَّذِي أَمَّنَهُ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَمَالُهُ وَدَمُهُ مَعْصُومَانِ كَانَ تَأْمِينُهُ قَبْلَ الْفَتْحِ أَوْ بَعْدَهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ لَا بُدَّ أَنْ لَا يَكُونَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ رَدُّ مَا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَا فِيهِ ضَرَرٌ فِي الْحَالِ، وَتَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مَصْلَحَةٌ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَمْوَالِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ الْكُفَّارِ، وَهِيَ إمَّا فَيْءٌ، وَإِمَّا غَنِيمَةٌ، وَإِمَّا مُخْتَصٌّ، فَالْغَنِيمَةُ مَا أُخِذَ بِالْقِتَالِ، وَلِذَلِكَ تُخَمَّسُ، وَالْفَيْءُ مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ بِأَنْ انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ، وَهَذَا لَا يُخَمَّسُ بَلْ يُوضَعُ جَمِيعُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَالْمُخْتَصُّ كَالْمَالِ الَّذِي يَهْرَبُ بِهِ الْأَسِيرُ أَوْ التَّاجِرُ أَوْ الْمُتَلَصِّصُ فَإِنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْمُسْتَنِدُ لِلْجَيْشِ كَهُوَ، وَإِلَّا فَلَهُ كَمُتَلَصِّصٍ: وَخُمِّسَ مُسْلِمٌ، وَلَوْ عَبْدًا عَلَى الْأَصَحِّ لَا ذِمِّيٌّ، وَابْتَدَأَ بِالْغَنِيمَةِ فَقَالَ: (وَمَا غَنِمَ الْمُسْلِمُونَ) مِنْ أَمْوَالِ الْحَرْبِيِّينَ فَإِنْ كَانَ (بِإِيجَافٍ) أَيْ تَحْرِيكٍ وَتَعَبٍ فِي السَّيْرِ لِلْقِتَالِ (فَلْيَأْخُذْ الْإِمَامُ خُمُسَهُ) أَيْ جُزْءًا مِنْ خَمْسَةِ أَجْزَاءٍ قَالَ - تَعَالَى -: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] وَيَأْخُذُهُ الْإِمَامُ بِالْقُرْعَةِ كَمَا يَأْخُذُ خُمُسَ نُدْرَةِ الْمَعْدِنِ، وَكَمَا يَأْخُذُ جَمِيعَ الْفَيْءِ وَالْجِزْيَةِ بِقِسْمَيْهَا وَعُشُورِ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَخَرَاجِ الْأَرْضِ، وَيَضَعُ كُلَّ ذَلِكَ فِي بَيْتِ الْمَالِ يَصْرِفُهُ بِاجْتِهَادِهِ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ كَبِنَاءِ الْقَنَاطِرِ وَالْمَسَاجِدِ، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ أَنْ يَبْدَأَ مِنْهُ بِالدَّفْعِ لِآلِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُعْطَوْنَ مِنْ الزَّكَاةِ، ثُمَّ بَعْدَ الدَّفْعِ لَهُمْ يَصْرِفُ عَلَى مَا فِيهِ مَصْلَحَةٌ لِعُمُومِ النَّاسِ كَالْمَسَاجِدِ وَالْقَنَاطِرِ وَالْغَزْوِ، وَعِمَارَةِ الثُّغُورِ، وَأَرْزَاقِ الْقُضَاةِ وَالْفُقَهَاءِ، وَقَضَاءِ الدُّيُونِ وَعَقْلِ الْجِرَاحِ، وَتَزْوِيجِ الْأَعْزَبِ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: يَبْدَأُ مِنْهُ بِسَدِّ مَخَاوِفِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ مِنْهُ الْمَالُ، وَإِصْلَاحِ حُصُونِ سَوَاحِلِهِ، وَيَشْتَرِي مِنْهُ السِّلَاحَ وَالْكُرَاعَ إذَا كَانَتْ لَهُمْ حَاجَةٌ إلَى ذَلِكَ، وَغُزَاةِ ذَلِكَ الْبَلَدِ الَّذِي جُبِيَ مِنْهُ الْمَالُ وَعَامِلِيهِ وَفُقَهَائِهِ وَقُضَاتِهِ، فَإِنْ فَضَلَ شَيْءٌ أُعْطِيَ لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ وَقَفَ شَيْءٌ وَقَفَ عُشْرَهُ لِنَوَائِبِ الْمُسْلِمِينَ، وَوَقَعَ خِلَافٌ هَلْ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْدَأَ مِنْ الْخُمُسِ بِنَفَقَةِ نَفْسِهِ وَعِيَالِهِ أَوْ لَا؟ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: لَيْسَ لَهُ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: يَبْدَأُ بِنَفَقَتِهِ وَنَفَقَةِ عِيَالِهِ مِنْ غَيْرِ تَقْدِيرٍ، وَلَوْ أَتَى عَلَى جَمِيعِهِ. (وَ) يَجِبُ أَنْ (يَقْسِمَ) الْإِمَامُ بَاقِيَ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ، وَهُوَ (أَرْبَعَةُ أَخْمَاسِهِ بَيْنَ أَهْلِ الْجَيْشِ) أَيْ الْمُجَاهِدِينَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ عَاقِلٍ بَالِغٍ حَاضِرٍ لِلْمُنَاشَبَةِ كَتَاجِرٍ وَأَجِيرٍ إنْ قَاتَلَا أَوْ خَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ أَيْ وَحَضَرَ الْقِتَالَ لَا ضِدَّهُمْ، فَلَا يُسْهَمُ لِعَبْدٍ، وَلَوْ قَاتَلَ، وَلَا لِغَيْرِ عَاقِلٍ إلَّا الصَّبِيَّ فَفِيهِ إنْ أُجِيزَ وَقَاتَلَ خِلَافٌ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي الْمَقْسُومِ فَقِيلَ الْأَثْمَانُ وَقِيلَ الْأَعْيَانُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ يَبِيعُ لِيَقْسِمَ قَوْلَانِ، وَعَلَى قَسْمِ الْأَعْيَانِ يُفْرِدُ كُلَّ صِنْفٍ فَيَقْسِمُ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ إنْ أَمْكَنَ شَرْعًا وَحِسًّا، فَالْإِمْكَانُ الشَّرْعِيُّ بِأَلَّا يُفَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا، وَالْإِمْكَانُ الْحِسِّيُّ بِأَنْ يَكُونَ كُلُّ صِنْفٍ يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ، وَإِلَّا ضُمَّ إلَى غَيْرِهِ، كَمَا تُبَاعُ الْأُمُّ مَعَ وَلَدِهَا إلَى مَالِكٍ وَاحِدٍ، وَيَقْسِمُ ثَمَنَهَا وَعِنْدَ الْقِسْمَةِ تُضْرَبُ الْقُرْعَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 يُؤْكَلَ مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ لِمَنْ احْتَاجَ إلَى ذَلِكَ. وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ أَوْ تَخَلَّفَ عَنْ الْقِتَالِ فِي شُغْلِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْرِ جِهَادِهِمْ وَيُسْهَمُ لِلْمَرِيضِ وَلِلْفَرَسِ الرَّهِيصِ. وَيُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَسَهْمٌ لِرَاكِبِهِ. وَلَا يُسْهَمُ   [الفواكه الدواني] وَيَكْتُبُ عَلَى سَهْمِ الْخُمُسِ: هَذَا لِلَّهِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْخِلَافِ فِي الْمَقْسُومِ هَلْ الْأَثْمَانُ أَوْ الْأَعْيَانُ جَارٍ حَتَّى فِي الْخُمُسِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ خَلِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمَحَلَّ الَّذِي يَطْلُبُ فِيهِ قَسْمَ الْغَنِيمَةِ بِقَوْلِهِ: (وَقَسْمٌ) بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ مُبْتَدَأٌ (ذَلِكَ) أَيْ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِالْقِتَالِ (بِبَلَدِ الْحَرْبِ أَوْلَى) خَبَرُ قَسْمٍ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالشَّأْنُ الْقَسْمُ بِبَلَدِهِمْ، وَمَعْنَى أَوْلَى أَنَّهُ مَنْدُوبٌ، وَقِيلَ سُنَّةٌ لِكَرَاهَةِ مَالِكٍ تَأْخِيرَهُ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا لِخَوْفٍ فَيُؤَخَّرُ، وَإِنَّمَا طُلِبَ الْقَسْمُ فِي أَرْضِ الْحَرْبِ لِفَوَائِدَ: مِنْهَا نِكَايَةُ الْعَدُوِّ، وَمِنْهَا تَطْيِيبُ قُلُوبِ الْمُجَاهِدِينَ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ السُّرُورِ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا زِيَادَةُ الْحِفْظِ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ تَمَيَّزَ نَصِيبُهُ يَشْتَدُّ حِرْصُهُ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هَلْ يُشْتَرَطُ الْحَاكِمُ عِنْدَ الْقَسْمِ أَمْ لَا؟ وَقَدْ نَصَّ ابْنُ فَرْحُونٍ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ، إذْ لَوْ فَوَّضَ ذَلِكَ لِجَمِيعِ النَّاسِ لَدَخَلَ الطَّمَعُ وَأَحَبَّ كُلٌّ لِنَفْسِهِ مِنْ كَرَائِمِ الْأَمْوَالِ مَا يَطْلُبُهُ غَيْرُهُ، وَهُوَ مُؤَدٍّ لِلْفِتَنِ كَمَا لَا يَخْفَى. ثُمَّ أَشَارَ إلَى تَفْسِيرِ مَا غَنِمَهُ الْمُسْلِمُونَ بِإِيجَافٍ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا يُخَمَّسُ وَيُقْسَمُ) بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ (مَا أُوجِفَ) أَيْ حُمِلَ (عَلَيْهِ بِالْخَيْلِ وَالرِّكَابِ) أَيْ الْإِبِلِ (وَمَا غُنِمَ بِقِتَالٍ) أَيْ بِسَبَبِهِ هَذَا تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ أَوْ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَأَمَّا مَا لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ بِأَنْ انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ فَهَذَا هُوَ الْمُسَمَّى بِالْفَيْءِ يُوضَعُ جَمِيعُهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَأَمَّا مَا يَهْرَبُ بِهِ الْأَسِيرُ أَوْ التَّاجِرُ أَوْ يَأْخُذُهُ الْمُتَلَصِّصُ فَيَخْتَصُّ بِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْمُخْتَصِّ؛ لِأَنَّهُ يَخْتَصُّ بِهِ حَائِزُهُ، وَلَا يُقْسَمُ، وَلَا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَكِنَّ الْمُسْلِمَ يُخْرِجُ خُمُسَهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (تَنْبِيهٌ) يُسْتَثْنَى مِمَّا أُخِذَ بِسَبَبِ الْقِتَالِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالْغَنِيمَةِ أَرْضُ الزِّرَاعَةِ الْمَفْتُوحُ بَلَدُهَا عَنْوَةً أَيْ بِالْقَهْرِ كَأَرْضِ مِصْرَ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ لِصَيْرُورَتِهَا وَقْفًا بِمُجَرَّدِ فَتْحِ بَلَدِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى صِيغَةِ وَقْفٍ، وَلَا إلَى رِضَا الْجَيْشِ، وَهَذَا كَالتَّخْصِيصِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: بِحُبِسَتْ وَوُقِفَتْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوُقِفَتْ الْأَرْضُ كَمِصْرِ وَالشَّامِ وَالْعِرَاقِ وَخُمِّسَ غَيْرُهَا إنْ أُوجِفَ عَلَيْهِ. فَخَرَاجُهَا وَالْخُمُسُ وَالْجِزْيَةُ يُوضَعُ كُلٌّ مِنْهَا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ كَبَقِيَّةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُجْعَلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمِثْلُ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ فِي الْوَقْفِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْفَتْحِ دُورُ الْكُفَّارِ فَلَا يَجُوزُ قَسْمُهَا إلَّا أَنَّ الْأَرْضَ تُزْرَعُ وَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا، بِخِلَافِ دُورِهِمْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ لَهَا كِرَاءٌ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الدُّورِ الَّتِي صَادَفَهَا الْفَتْحُ، وَأَمَّا لَوْ تَهَدَّمَ بِنَاؤُهُمْ وَجُدِّدَ غَيْرُهُ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِلْكًا، وَحَيْثُ قَالَ مَالِكٌ: لَا تُكْرَى دُورُ مَكَّةَ أَرَادَ مَا كَانَ فِي زَمَانِهِ بَاقِيًا مِنْ بِنَائِهِمْ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي فَتْوَاهُ: وَقَيَّدْنَا بِأَرْضِ الزِّرَاعَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مَوَاتِ أَرْضِ الْعَنْوَةِ فَلَا يَصِيرُ وَقْفًا، بَلْ كُلُّ مَنْ أَحْيَا مِنْهُ شَيْئًا يَمْلِكُهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى اسْتِثْنَاءِ أَرْضِ الزِّرَاعَةِ مِنْ أَرْضِ الْعَنْوَةِ مَا ثَبَتَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَنَّهُ غَنِمَ غَنَائِمَ كَثِيرَةً وَأَرَاضِيَ، وَلَمْ يَثْبُتْ أَنَّهُ قَسَمَ مِنْهَا شَيْئًا إلَّا خَيْبَرَ» ، وَأَيْضًا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَالْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ امْتَنَعُوا عَنْ قَسْمِهَا حِينَ سُئِلُوا فِي ذَلِكَ، فَلَوْ وَقَعَ أَنَّ الْإِمَامَ قَسَمَهَا لَا يَمْضِي قَسْمُهُ إلَّا أَنْ كَانَ مِمَّنْ يَرَى قَسْمَهَا. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ اشْتِرَاكِ الْمُجَاهِدِينَ فِي الْغَنِيمَةِ عَدَمُ جَوَازِ أَخْذِ شَيْءٍ مِنْهَا لِبَعْضِهِمْ قَبْلَ قَسْمِهَا، وَلَوْ مُحْتَاجًا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَيْ يَجُوزُ (أَنْ يُؤْكَلَ) وَيُعْلَفَ (مِنْ الْغَنِيمَةِ قَبْلَ أَنْ يُقْسَمَ الطَّعَامُ وَالْعَلَفُ إنْ احْتَاجَ) مُرِيدُ الْأَكْلِ وَالْعَلَفِ (إلَى ذَلِكَ) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَجَازَ أَخْذُ مُحْتَاجٍ نَعْلًا أَوْ حِزَامًا أَوْ إبْرَةً أَوْ طَعَامًا، وَإِنْ نَعَمًا عَلَفًا كَثَوْبٍ وَسِلَاحٍ وَدَابَّةٍ لِيَرُدَّ، وَرَدَّ الْفَضْلَ إنْ كَثُرَ فَإِنْ تَعَذَّرَ تَصَدَّقَ بِهِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ الْمُحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْإِمَامِ بَلْ، وَلَوْ نَهَاهُمْ عَنْ ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ إنْ احْتَاجَ أَنَّ الْغَنِيَّ لَا يَجُوزُ لَهُ أَخْذُ شَيْءٍ مِنْهَا، وَمُطْلَقُ الْحَاجَةِ كَافٍ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الضَّرُورَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يُسْهَمُ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا يُسْهَمُ لِمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ) مِنْ الذُّكُورِ وَالْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَسَمَ الْأَرْبَعَةَ لِحُرٍّ مُسْلِمٍ بَالِغٍ عَاقِلٍ حَاضِرٍ كَتَاجِرٍ وَأَجِيرٍ إنْ قَاتَلَا أَوْ خَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: أَيْ وَحَضَرَ الْقِتَالَ فَلَا يُسْهَمُ لِمَنْ مَاتَ قَبْلَ الْمُنَاشَبَةِ لِلْقِتَالِ. (أَوْ) لَمْ يَحْضُرْ الْقِتَالَ، وَلَكِنْ (تَخَلَّفَ عَنْ الْقِتَالِ فِي شُغْلِ الْمُسْلِمِينَ) الْكَائِنِ (مِنْ أَمْرِ جِهَادِهِمْ) كَكَشْفٍ عَنْ طَرِيقٍ أَوْ طَلَبِ جَمَاعَةٍ أَوْ حَاجَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُ كَمَنْ حَضَرَ الْقِتَالَ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي عَدَمِ الْإِسْهَامِ كَمَيِّتٍ قَبْلَ اللِّقَاءِ أَوْ أَعْمَى أَوْ أَعْرَجَ وَأَشَلَّ، وَمُتَخَلِّفٍ لِحَاجَةٍ إنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ بِالْجَيْشِ وَضَالٍّ بِبَلَدِنَا، وَإِنْ بِرِيحٍ بِخِلَافِ بَلَدِهِمْ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: إنَّ مَنْ ضَلَّ مِنْ الْمُجَاهِدِينَ عَنْ الطَّرِيقِ، وَلَمْ يَجْتَمِعْ بِهِمْ إلَّا بَعْدَ حَوْزِ الْغَنِيمَةِ يُسْهَمُ لَهُ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ تَاهَ وَضَلَّ فِي بِلَادِ الْكُفَّارِ أَوْ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا مَنْ رُدَّ لِبَلَدِنَا فَإِنْ كَانَ بِرِيحٍ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ رِيحٍ، فَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ أُسْهِمَ لَهُ، وَإِنْ كَانَ بِاخْتِيَارِهِ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ. (وَ) كَذَا (يُسْهَمُ لِلْمَرِيضِ) الَّذِي شَهِدَ الْقِتَالَ مَرِيضًا (وَ) كَذَا (الْفَرَسُ الرَّهِيصُ) يُسْهَمُ لَهُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يُسْهَمُ لَهُ: وَمَرِيضٌ شَهِدَ كَفَرَسٍ رَهِيصٍ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لِعَبْدٍ وَلَا لِامْرَأَةٍ وَلَا لِصَبِيٍّ إلَّا أَنْ يُطِيقَ الصَّبِيُّ الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ الْقِتَالَ وَيُجِيزُهُ الْإِمَامُ وَيُقَاتِلَ فَيُسْهَمُ لَهُ وَلَا يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ   [الفواكه الدواني] كَخَلِيلٍ أَنَّ الْمَرِيضَ شَهِدَ الْقِتَالَ مِنْ أَوَّلِهِ مَرِيضًا وَاسْتَمَرَّ كَذَلِكَ إلَى أَنْ انْهَزَمَ الْعَدُوُّ، وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَلَعَلَّهُ الصَّوَابُ. لِأَنَّ حُضُورَهُ الْقِتَالَ مِنْ أَوَّلِهِ إلَى آخِرِهِ صَيَّرَهُ كَالصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ الْقِتَالُ بِالْفِعْلِ، وَإِنْ كَانَ الْحَطَّابُ حَمَلَ قَوْلَ خَلِيلٍ: وَمَرِيضٌ شَهِدَ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ شَهِدَ أَوَّلَهُ صَحِيحًا ثُمَّ مَرِضَ وَاسْتَمَرَّ مَرِيضًا إلَى تَمَامِ الْقِتَالِ، وَإِنَّمَا أَسْهَمَ لِلْفَرَسِ الرَّهِيصِ، وَهُوَ الَّذِي بِبَاطِنِ حَافِرِهِ وَقْرَةٌ مِنْ ضَرْبَةِ حَجَرٍ مَثَلًا؛ لِأَنَّهُ بِصِفَةِ الصَّحِيحِ، فَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ الْمَرِيضُ الْقِتَالَ فَلَا يُسْهَمُ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ، وَإِلَّا أَسْهَمَ لَهُ، وَمِثْلُهُ الْمُقْعَدُ وَالْأَعْمَى وَالْأَعْرَجُ وَالْأَشَلُّ فَإِنَّهُ يُسْهَمُ لَهُمْ حَيْثُ كَانُوا مِنْ ذَوِي الرَّأْيِ، وَقَيَّدْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ بِالْمَرِيضِ الَّذِي شَهِدَ الْقِتَالَ جَمِيعَهُ مَرِيضًا تَبَعًا لِخَلِيلٍ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي الْإِسْهَامِ لَوْ خَرَجَ الشَّخْصُ صَحِيحًا، وَمَرِضَ بَعْدَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْغَنِيمَةِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا، وَأَمَّا لَوْ مَرِضَ وَانْقَطَعَ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْغَنِيمَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَهُوَ شَامِلٌ لِمَنْ خَرَجَ صَحِيحًا، وَمَرِضَ قَبْلَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ أَوْ بَعْدَ دُخُولِ أَرْضِ الْعَدُوِّ وَقَبْلَ ابْتِدَاءِ الْقِتَالِ، وَلَوْ بِيَسِيرٍ، وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ مَرِيضًا وَاسْتَمَرَّ مَرِيضًا حَاضِرًا حَتَّى انْقَضَى الْقِتَالُ فَعَلَى كَلَامِ الْحَطَّابِ فِيهِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ وَجَمَاعَةٍ مِنْ شُرَّاحِهِ فَيُسْهَمُ لَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَمَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: وَيَجْرِي فِي مَرَضِ الْفَرَسِ مَا يَجْرِي فِي مَرَضِ الْآدَمِيِّ مِنْ التَّفْصِيلِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ جَمِيعَهُ، وَهُوَ مَرِيضٌ يُسْهَمُ لَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ وَالْمُصَنِّفِ أَيْضًا، وَبَيَّنَ مَنْ فِيهِ الْقَوْلَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ شَهِدَ الْقِتَالَ، وَاَلَّذِي فِيهِ الْقَوْلَانِ لَمْ يَشْهَدْ جَمِيعَهُ بَلْ انْقَطَعَ عَنْهُ فِي الْأَثْنَاءِ، وَبِهَذَا عَلِمْت مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمُجَاهِدَ الَّذِي حَصَلَ لَهُ الْمَرَضُ إنْ اسْتَمَرَّ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ حَتَّى انْقَضَى الْقِتَالُ يُسْهَمُ لَهُ، وَإِنْ انْقَطَعَ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْغَنِيمَةِ فَفِيهِ قَوْلَانِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَلَى مَنْ خَرَجَ مِنْ بَلَدِهِ مَرِيضًا ثُمَّ صَحَّ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْغَنِيمَةِ، وَهَذَا يُسْهَمُ لَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَلَعَلَّ عَدَمَ كَلَامِهِمَا عَلَيْهِ لِظُهُورِ أَمْرِهِ فَافْهَمْ رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ قَدْرِ سَهْمِ الْفَرَسِ بِقَوْلِهِ: (وَيُسْهَمُ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ وَ) يُسْهَمُ (سَهْمٌ لِرَاكِبِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْفَرَسِ مِثْلَا فَارِسِهِ، وَإِنْ بِسَفِينَةٍ أَوْ بِرْذَوْنًا، وَهَجِينًا وَصَغِيرًا يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لِلْفَرَسِ سَهْمَانِ لِعِظَمِ مُؤْنَتِهِ، وَإِمَّا لِقُوَّةِ الْمَنْفَعَةِ بِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ، وَلَوْ كَانَ الْفَرَسُ لِأَمِيرِ الْجَيْشِ، وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ، حَيْثُ كَانَ أَمِيرُ الْجَيْشِ غَيْرَ الْإِمَامِ الْأَكْبَرِ فَلَا يُسْهَمُ لِفَرَسِهِ، كَمَا لَا يُسْهَمُ لَهُ فِي الَّذِي يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ، وَهُوَ الْأَرْبَعَةُ أَخْمَاسٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ لِي مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ إلَّا الْخُمُسُ وَالْخُمُسُ مَرْدُودٌ فِيكُمْ» . وَأَمَّا النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَيَتْبَعُهُ سَائِرُ السَّلَاطِينِ فَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ مِنْهُمْ شَيْئًا مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُونَ مِنْ الْخُمُسِ مَا يَحْتَاجُونَ إلَيْهِ، وَلَوْ جَمِيعَهُ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ عَبْدِ الْوَهَّابِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ الْإِسْهَامِ لِلْفَرَسِ، وَلَوْ كَانَ بِسَيْفِهِ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ لِرَاكِبِهِ غَيْرُ قَيْدٍ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِرَاكِبِهِ مَنْ أَعَدَّهُ لِرُكُوبِهِ إنْ خَرَجَ إلَى الْبَرِّ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَيُفْهَمُ مِنْ ذِكْرِ الْفَرَسِ أَنَّ نَحْوَ الْحِمَارِ وَالْبَغْلِ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الْمُجَاهِدُ يَرْكَبُهُ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: يَقْدِرُ بِهَا عَلَى الْكَرِّ وَالْفَرِّ أَنَّ الْعَجُوزَ الَّذِي لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَرِّ لَا يُسْهَمُ لَهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: لَا أَعْجَفَ أَوْ كَبِيرًا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَبَغْلٌ وَبَعِيرٌ أَوْ أَتَانٌ. الثَّانِي: إنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ لِرَاكِبِهِ، وَلَمْ يَقُلْ لِمَالِكِهِ لِيَشْمَلَ الْمَالِكَ لِذَاتِهِ أَوْ مَنْفَعَتِهِ أَوْ غَاصِبِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ الْجَيْشِ، وَلَكِنْ عَلَيْهِ أُجْرَتُهُ لِلْجَيْشِ فِي الْأُولَى، وَلِرَبِّهِ فِي الثَّانِيَةِ، وَالْمَغْصُوبُ مِنْ الْغَنِيمَةِ شَامِلٌ لِمَا إذَا أَخَذَهُ مِنْ خَيْلِ الْعَدُوِّ وَقَبْلَ الْقِتَالِ وَقَاتَلَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَغْصُوبًا أَوْ هَارِبًا مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْجَيْشِ لَكَانَ سَهْمَاهُ لِرَبِّهِ لَا لِلْمُقَاتِلِ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَ رَبِّهِ غَيْرُهُ، وَإِلَّا كَانَ الْمَفْرُوضُ لِلْفَرَسِ لِمَنْ قَاتَلَ عَلَيْهِ وَعَلَيْهِ أُجْرَتُهُ لِرَبِّهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ السَّهْمَانِ لِرَبِّهِ فَلَا أُجْرَةَ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ. قَالَهُ شَيْخُنَا فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ أَنَّ عَلَى رَبِّهِ أُجْرَةً لِلرَّاكِبِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ أَنَّهُ مُتَعَدٍّ، وَأَمَّا لِلْفَرَسِ الْمُعَارِ لِلْجِهَادِ عَلَيْهِ فَقِيلَ سَهْمَاهُ لِلْمُقَاتِلِ عَلَيْهِ، وَقِيلَ لِلْمُغِيرِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَنْ شَهِدَ الْقِتَالَ يُسْهَمُ لَهُ، وَلَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ عَلَى عُمُومِهِ بَيَّنَ هُنَا مَنْ يُسْهَمُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُسْهَمُ لِعَبْدٍ، وَلَا لِامْرَأَةٍ) ، وَلَوْ قَاتَلَا عَلَى الْمَشْهُورِ لِمَا فِي مُسْلِمٍ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ لَمْ يُسْهِمْ لِعَبْدٍ، وَلَا امْرَأَةٍ؛ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ» . (وَلَا) يُسْهَمُ أَيْضًا (لِصَبِيٍّ إلَّا أَنْ يُطِيقَ الصَّبِيُّ) ، وَهُوَ عُرْفًا (الَّذِي لَمْ يَحْتَلِمْ الْقِتَالَ وَيُجِيزَهُ الْإِمَامُ وَيُقَاتِلَ فَيُسْهَمُ لَهُ) عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: إلَّا الصَّبِيَّ فَفِيهِ إنْ أُجِيزَ وَقَاتَلَ خِلَافٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَى سَمُرَةُ بْنُ جُنْدُبٍ أَنَّهُ قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُعْرَضُ عَلَيْهِ غِلْمَانُ الْأَنْصَارِ فَيُلْحِقُ مَنْ أَرَادَ مِنْهُمْ فَعُرِضْتُ عَلَيْهِ عَامًا فَأَلْحَقَ غُلَامًا وَرَدَّنِي فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلْحَقْتَهُ وَرَدَدْتَنِي، وَلَوْ صَارَعَنِي صَرَعْتُهُ. قَالَ: فَصَارَعَنِي فَصَرَعْتُهُ فَأَلْحَقَنِي» وَاقْتِصَارُ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْإِسْهَامِ لِلصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ يَقْتَضِي أَرْجَحِيَّةَ هَذَا الْقَوْلِ، وَقَالَ التَّتَّائِيُّ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَنَقَلَهُ فِي النَّوَادِرِ وَالْمَوَّازِيَّةِ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: لَا يُسْهَمُ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ. وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَدُوِّ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْهَا مِنْ مَالِ   [الفواكه الدواني] قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَمَّا اخْتَلَفَ التَّشْهِيرُ قَالَ خَلِيلٌ خِلَافٌ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْمُحَقَّقِ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ وَسَكَتَ عَنْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ إذْ قَاتَلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ الثَّمَانِيَ عَشْرَةَ، وَقَاتَلَ أَوْ حَضَرَ الْقِتَالَ، وَفِيهِ خِلَافٌ. فَقِيلَ: لَهُ رُبُعُ سَهْمِ الذَّكَرِ، وَلَا وَجْهَ لَهُ، وَقِيلَ: لَهُ نِصْفُ سَهْمِ الذَّكَرِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ؛ لِأَنَّهُ إنْ قُدِّرَ أُنْثَى لَا شَيْءَ لَهُ، وَإِنْ قُدِّرَ ذَكَرًا فَلَهُ سَهْمٌ، فَيَسْتَحِقُّ نِصْفَ نَصِيبِهِ كَالْمِيرَاثِ إذَا كَانَ يَرِثُ بِتَقْدِيرٍ دُونَ آخَرَ. (وَ) كَذَا (لَا يُسْهَمُ لِلْأَجِيرِ) ، وَلَوْ كَانَتْ مَنْفَعَتُهُ لِجَمِيعِ الْمُجَاهِدِينَ (إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ) ، وَمِثْلُهُ التَّاجِرُ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ: كَتَاجِرٍ وَأَجِيرٍ إنْ قَاتَلَا أَوْ خَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ؛ لِأَنَّهُمَا كَثَّرَا سَوَادَ الْمُسْلِمِينَ، لَكِنْ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَخَرَجَا بِنِيَّةِ غَزْوٍ بِشَرْطِ حُضُورِهِمَا الْقِتَالَ لِاشْتِرَاطِ الْحُضُورِ فِي حَقِّ مَنْ خَرَجَ ابْتِدَاءً لِلْجِهَادِ فَأَوْلَى هُمَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ نِيَّةِ الْغَزْوِ تَابِعَةً أَوْ مُتَنَوِّعَةً، وَسَوَاءٌ كَانَتْ التِّجَارَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالْجَيْشِ أَمْ لَا، وَالسَّهْمُ لِلْأَجِيرِ لَا لِمُسْتَأْجِرِهِ، لَكِنْ قَالَ سَحْنُونٌ: يَبْطُلُ مِنْ أُجْرَتِهِ بِقَدْرِ مَا عَطَّلَ قَالَهُ التَّتَّائِيُّ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ إلَّا لِلذُّكُورِ الْأَحْرَارِ الْبَالِغِينَ أَوْ الصِّبْيَانِ عَلَى الْوَجْهِ الْمُتَقَدِّمِ، الْمُسْلِمِينَ الْحَاضِرِينَ لِلْقِتَالِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَالْمُتَخَلِّفِ لِحَاجَةٍ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْجَيْشِ، وَكَالضَّالِّ مُطْلَقًا أَوْ الْمَرْدُودِ إلَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ بِالرِّيحِ أَوْ لِغَيْرِهَا بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ. وَمَعْنَى الْإِطْلَاقِ كَانَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ أَوْ بِلَادِ الْعَدُوِّ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ وَقَدَّمْنَاهُ أَيْضًا، وَكُلُّ مَنْ لَا يُسْهَمُ لَهُ لَا يُرْضَخُ لَهُ، وَالرَّضْخُ شَرْعًا مَالٌ يُعْطِيهِ الْإِمَامُ مِنْ الْخُمُسِ كَالنَّفَلِ مَصْرُوفٌ قَدْرُهُ لِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوْ صَرِيحُهُ وَقَوْلُ خَلِيلٍ أَيْضًا أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ السَّهْمِ لِمَنْ قَاتَلَ أَوْ حَضَرَ الْقِتَالَ كَوْنُ خُرُوجِهِ مِنْ بَلَدِهِ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ التَّتَّائِيِّ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُسْهَمُ إلَّا لِمَنْ اشْتَمَلَ عَلَى ثَمَانِيَةِ أَوْصَافٍ، وَهِيَ: الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْبُلُوغِ الْعَقْلِ وَحُضُورِ الْقِتَالِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِ وَأَنْ يَخْرُجَ بِنِيَّةِ الْجِهَادِ مُسْتَطِيعًا، فَلَا يُسْهَمُ لِامْرَأَةٍ، وَلَا عَبْدٍ إلَى أَنْ قَالَ: وَلَا لِمَنْ خَرَجَ تَاجِرًا، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ، وَلَوْ قَاتَلَ أَوْ حَضَرَ الْقِتَالَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَتَى قَاتَلَ الْأَجِيرُ أُسْهِمَ لَهُ، وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْجِهَادَ حِينَ خُرُوجِهِ، وَمِثْلُهُ التَّاجِرُ، وَمَنْ خَرَجَ مَعَ عَدَمِ الِاسْتِطَاعَةِ وَقَاتَلَ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَمْوَالِ الْكُفَّارِ الَّتِي اسْتَوْلَى عَلَيْهَا الْمُسْلِمُونَ مِنْ قَسْمِ مَا أُخِذَ غَنِيمَةً، وَمَا أُخِذَ لَا بِالْقِتَالِ يَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَمَا أَخَذَهُ اللِّصُّ يَخْتَصُّ بِهِ بَعْدَ تَخْمِيسِهِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يُوجَدُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ تَحْتَ يَدَا الْكَافِرِ مِنْ سَرِقَةٍ أَوْ غَصْبٍ وَيُسْلِمُ، وَهُوَ بِيَدِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَسْلَمَ مِنْ الْعَدُوِّ) الْحَرْبِيِّ حَالَةَ كَوْنِهِ مُسْتَوْلِيًا (عَلَى شَيْءٍ فِي يَدِهِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ) أَوْ مَنْ فِي حُكْمِهِمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ (فَهُوَ لَهُ حَلَالٌ) إنْ كَانَ الْمَالُ الْمَذْكُورُ يَمْلِكُهُ بِالْأَمَانِ، بِأَنْ كَانَ أَخَذَهُ قَبْلَ دُخُولِهِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ لَا مَا أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ سَرِقَةً يُنْزَعُ مِنْهُمْ قَهْرًا عَلَيْهِمْ، وَلَوْ لَمْ يَعُودُوا إلَيْنَا بِهِ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَانْتُزِعَ مَا سُرِقَ ثُمَّ عِيدَ بِهِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَمَلَكَ بِإِسْلَامِهِ غَيْرُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، قَالَ شُرَّاحُهُ: سَوَاءٌ قَدِمَ بِهَا أَوْ أَقَامَ بِبَلَدِهِ، وَمِثْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمُ فِي عَدَمِ مِلْكِهِ اللُّقَطَةِ وَالْحَبْسِ حَيْثُ ثَبَتَ أَنَّهُ حَبْسٌ؛ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ تَحْبِيسُهُ لِمُسْلِمٍ لَا يَبْطُلُ تَحْبِيسُهُ بِغُنْمِ الْكُفَّارِ لَهُ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَإِنَّمَا مَلَكَ بِإِسْلَامِهِ غَيْرَ مَا ذُكِرَ تَأْلِيفًا لَهُ عَلَى الْإِسْلَامِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فَهُوَ لَهُ» ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ خَلِيلٍ: غَيْرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ أَنَّهُمْ يَمْلِكُونَ مَا بِأَيْدِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْأَصَحِّ؛ لِأَنَّ الذِّمَّةَ حَقٌّ عَلَيْنَا لَا عَلَى أَهْلِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِيَدِهِ مِمَّا لَا يَمْلِكُهُ بِالْأَمَانِ بِأَنْ أَخَذَهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بَعْدَ الْأَمَانِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بِإِسْلَامِهِ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ يُنْزَعُ مِنْهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى كُفْرِهِ. وَأَوْلَى لَوْ أَسْلَمَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَمْلِكُ بِالْإِسْلَامِ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا مَا يَمْلِكُهُ بِالْأَمَانِ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخَذَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَيْنَا؛ لِأَنَّهُ غَنِيمَةٌ لَهُ يَتَحَقَّقُ مِلْكُهُ لَهُ بِأَمَانِهِ، وَأَوْلَى بِإِسْلَامِهِ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ بَعْدَ الْأَمَانِ الْتَزَمَ شَرْعَ الْمُسْلِمِينَ، وَشَرْعُ الْمُسْلِمِينَ لَا يَجُوزُ فِيهِ أَخْذُ مَالِ الْمُسْلِمِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِغَيْرِ سَبَبٍ شَرْعِيٍّ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: يَدْخُلُ فِي أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ مَنَافِعُ الرَّقِيقِ الَّذِي فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ وَالْمُكَاتَبِ، لَكِنَّ أُمَّ الْوَلَدِ قَوِيَ شَبَهُهَا بِالْحُرَّةِ فَيَجِبُ عَلَى سَيِّدِهَا أَنْ يَفْدِيَهَا مِمَّنْ أَسْلَمَ عَلَيْهَا بِقِيمَتِهَا عَلَى أَنَّهَا قِنٌّ وَيَغْرَمُهَا سَيِّدُهَا حَالًّا مِنْ مَالِهِ إنْ كَانَ مَلِيًّا، وَإِلَّا اتَّبَعَتْ ذِمَّتَهُ إلَّا أَنْ تَمُوتَ هِيَ أَوْ سَيِّدُهَا، وَالْمُدَبَّرُ يَخْدُمُ مَنْ أَسْلَمَ، وَهُوَ بِيَدِهِ أَوْ يُؤَجِّرُهُ مُدَّةَ حَيَاةِ السَّيِّدِ الَّذِي دَبَّرَهُ، فَإِذَا مَاتَ سَيِّدُهُ عَتَقَ إنْ حَمَلَهُ الثُّلُثُ كُلَّهُ أَوْ بَعْضَهُ، وَمَا رُقَّ يَكُونُ مِلْكًا لِمَنْ أَسْلَمَ، وَالْمُعْتَقُ لِأَجَلٍ يَخْدُمُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ وَيَخْرُجُ حُرًّا بَعْدَ ذَلِكَ قَهْرًا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ عَلَيْهِ، وَالْمُكَاتَبُ يُؤَدِّي مَا عَلَيْهِ لِمَنْ أَسْلَمَ عِنْدَهُ وَيَخْرُجُ حُرًّا، وَإِنْ عَجَزَ رُقَّ لِمَنْ أَسْلَمَ وَوَلَّاهُ الَّذِي يَخْرُجُ حُرًّا مِمَّنْ ذُكِرَ لِمَنْ عَقَدَ فِيهِ الْحُرِّيَّةَ. الثَّانِي: مَفْهُومُ أَسْلَمَ أَنَّ الْحَرْبِيَّ، وَلَوْ بَقِيَ عَلَى دِينِهِ وَدَخَلَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الْعَدُوِّ لَمْ يَأْخُذْهُ رَبُّهُ إلَّا بِالثَّمَنِ. وَمَا وَقَعَ فِي الْمَقَاسِمِ مِنْهَا فَرَبُّهُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ، وَمَا لَمْ يَقَعْ فِي الْمَقَاسِمِ فَرَبُّهُ أَحَقُّ بِهِ بِلَا   [الفواكه الدواني] عِنْدَنَا بِأَمَانٍ وَبِيَدِهِ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ أَوْ بَعْضِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ إنْ كَانَ أَخَذَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ غَنِيمَةٌ لَهُ يَمْلِكُهُ بِالْأَمَانِ، مِثَالُهُ سَوَاءٌ كَانَ أَخَذَهُ مِنَّا فِي الْإِسْلَامِ أَوْ بِلَادِ الْكُفْرِ، وَلَا يُوصَفُ بِأَنَّهُ سَرِقَةٌ، وَلَا وُصُولَ لِرَبِّهِ إلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ بَعْدَ رِضَا الْحَرْبِيِّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ شِرَاؤُهُ مِنْ الْحَرْبِيِّ الدَّاخِلِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ، وَأَمَّا مَا يَأْخُذُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَيْنَا بِأَمَانِ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ بَلْ يُنْزَعُ مِنْهُ ثُمَّ عَادَ بِهِ أَمْ لَا، وَلَا يَكُونُ لَهُ إذَا أَسْلَمَ كَمَا بَيَّنَّاهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَانْتُزِعَ مَا سُرِقَ ثُمَّ عِيدَ بِهِ عَلَى الْأَظْهَرِ وَلَا مَفْهُومَ لِعِيدَ. الثَّالِثُ: مَفْهُومُ أَمْوَالٍ أَنَّ غَيْرَهَا مِنْ الْأَحْرَارِ الْمُسْلِمِينَ لَا يَمْلِكُهَا بِالْإِسْلَامِ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ خَلِيلٍ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ فَلَا يُنْزَعُ مِنْهُ، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ إلَيْنَا بِأَمَانٍ وَبِيَدِهِ أَحْرَارٌ مُسْلِمُونَ فَحُكْمُهُمْ حُكْمُ الْأَمْوَالِ، فَإِنْ كَانَ أَخَذَهُمْ قَبْلَ الدُّخُولِ إلَيْنَا بِأَمَانٍ فَلَا يُنْزَعُونَ مِنْهُمْ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لَا أَحْرَارَ مُسْلِمُونَ قَدِمُوا بِهِمْ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ الْقَوْلَيْنِ أَنَّهُمْ يُنْزَعُونَ مِنْهُمْ بِالْقِيمَةِ عَلَى مَا عَلَيْهِ جَمِيعُ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَبِهِ الْعَمَلُ؛ لِأَنَّا إنَّمَا أَعْطَيْنَاهُمْ الْأَمَانَ عَلَى إقَامَةِ شَرْعِنَا، وَشَرْعُنَا لَا يَقْضِي بِتَمَلُّكِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ لَا يُنْزَعُونَ مِنْ الدَّاخِلِ بِالْأَمَانِ عَلَى مَا مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لَا أَحْرَارَ مُسْلِمُونَ قَدِمُوا بِهِمْ،؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ قَدِمُوا بِأَمَانٍ وَيُنْزَعُونَ مِمَّا أَسْلَمَ اتِّفَاقًا، وَكَانَ الْقِيَاسُ الْعَكْسَ أَوْ النَّزْعَ فِي الْجَمِيعِ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ الْتَزَمَ اتِّبَاعَ شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ فَلَمْ يُبْقُوا بِيَدِهِ، فَإِنْ قِيلَ: الدَّاخِلُ بِأَمَانٍ الْتَزَمَ اتِّبَاعَ شَرْعِ الْمُسْلِمِينَ أَيْضًا، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الدَّاخِلَ بِالْأَمَانِ يُطْلَبُ تَرْغِيبُهُ فِي الْإِسْلَامِ بِدَلِيلِ اسْتِحْقَاقِهِ مَالَ الْمُسْلِمِ الَّذِي أَخَذَهُ مِنَّا قَهْرًا لَا مَا أَخَذَهُ بَعْدَ الْأَمَانِ. الرَّابِعُ: مِثْلُ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى شَيْءٍ فِي يَدَيْهِ مَنْ ضُرِبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ أَوْ هُوَ دُونَ أَوْ اُشْتُرِيَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ بِبَلَدِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا كَانَتْ دَارُ الْحَرْبِ تُمْلَكُ قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ (مِنْ الْعَدُوِّ) بِأَرْضِ الْحَرْبِ ثُمَّ قَدِمَ بِلَادَ الْمُسْلِمِينَ بِمَا اشْتَرَاهُ (لَمْ يَأْخُذْهُ رَبُّهُ) مِنْ مُشْتَرِيهِ (إلَّا بِالثَّمَنِ) الَّذِي بَذَلَهُ الْمُشْتَرِي لِلْحَرْبِيِّ إنْ كَانَ يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، لَا إنْ اشْتَرَاهُ بِنَحْوِ خَمْرٍ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ رَبُّهُ مَجَّانًا. (تَنْبِيهَاتٌ) . الْأَوَّلُ: أَجْمَلَ فِي قَوْلِهِ بِالثَّمَنِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمِثْلُ إنْ كَانَ عَيْنًا، وَإِنْ كَانَ مُقَوَّمًا فَبِقِيمَتِهِ بِمَوْضِعِ أَخْذِهِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَكِيلًا أَوْ مَوْزُونًا فَإِنْ أَمْكَنَهُ الرُّجُوعُ إلَى بَلَدِ الْحَرْبِ أَعْطَاهُ الْمِثْلَ هُنَاكَ، وَإِلَّا أَعْطَاهُ الْقِيمَةَ بِمَوْضِعِ افْتِكَاكِهِ لِتَعَذُّرِ الْمِثْلِ، وَيَصْدُقُ الْمُشْتَرِي فِي قَدْرِ الثَّمَنِ إنْ أَشْبَهَ وَيَأْخُذُهُ، وَلَوْ جَبْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي كَالْمَأْخُوذِ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي مِنْ الْمُقَاسِمِ. الثَّانِي: مَفْهُومُ اشْتَرَى أَنَّ مَنْ وَهَبَهُ الْحَرْبِيُّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الذِّمِّيِّينَ لَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ الْهِبَةَ إنْ كَانَتْ لِلثَّوَابِ فَكَالْبَيْعِ، وَإِنْ كَانَتْ لِغَيْرِهِ فَيَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ مَجَّانًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ أَخْذُ مَا وَهَبُوهُ بِدَرَاهِمَ مَجَّانًا، وَبِعِوَضٍ بِهِ إنْ لَمْ يُبَعْ فَيَمْضِي، وَلِمَالِكِهِ الثَّمَنُ أَوْ الزَّائِدُ. الثَّالِثُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الشِّرَاءَ بِدَارِ الْحَرْبِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الشِّرَاءِ مِنْ الْحَرْبِيِّينَ بِدَارِ الْإِسْلَامِ فِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ وُقُوعِ الشِّرَاءِ قَبْلَ إعْطَائِهِ الْأَمَانِ، فَيَكُونُ كَالْبَيْعِ الْوَاقِعِ فِي دَارِ الْحَرْبِ فَلَا وُصُولَ لِرَبِّهِ إلَيْهِ إلَّا بِالثَّمَنِ فَيَأْخُذُهُ، وَلَوْ جَبْرًا عَلَى مُشْتَرِيهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ إعْطَائِهِ الْأَمَانَ فَإِنَّهَا تَفُوتُ عَلَى رَبِّهَا، وَلَا وُصُولَ لَهُ إلَيْهَا إلَّا بِالشِّرَاءِ بَعْدَ رِضَا الْمُشْتَرِي لَهَا، إذْ لَا جَبْرَ لَهُ إلَّا فِي الْمُشْتَرِي بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ الْإِسْلَامِ قَبْلَ إعْطَائِهِ الْأَمَانَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ لِغَيْرِ الْمَالِكِ اشْتَرَاهُ سِلْعَةً وَفَاتَتْ بِهِ وَبِهِبَتِهِمْ لَهَا. الرَّابِعُ: مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: مِنْ الْعَدُوِّ الْحَرْبِيِّ أَنَّ مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ أَيْدِي اللُّصُوصِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ مِلْكٌ لِغَيْرِ بَائِعِهِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، بَلْ يَأْخُذُهُ صَاحِبُهُ مَجَّانًا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي عَلَى بَائِعِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ إنَّمَا اشْتَرَاهُ لِيَرُدَّهُ إلَى مَالِكِهِ، فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مِنْهُ بِالثَّمَنِ إنْ لَمْ يُمْكِنْ شِرَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْهُ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْأَحْسَنُ فِي الْمُفْدَى مِنْ لِصٍّ أَخَذَهُ بِالْفِدَاءِ حَيْثُ فَدَاهُ؛ لِيَرُدَّهُ إلَى رَبِّهِ لَا عَلَى نِيَّةِ تَمَلُّكِهِ، وَأَنْ لَا يُمْكِنَ أَخْذُهُ إلَّا بِالْفِدَاءِ لِكَوْنِ اللِّصِّ لَا تَنَالُهُ الْأَحْكَامُ، وَأَنْ لَا يُمْكِنَ فِدَاؤُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ، وَإِلَّا لَزِمَ الْقَدْرَ الَّذِي يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الْخَلَاصُ لَا الزَّائِدُ، وَالْمُرَادُ بِالْأَحْسَنِ الْأَرْجَحُ لَا الْمَنْدُوبُ كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ النَّاسِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي تُوجَدُ فِي يَدِ مُشْتَرِيهَا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، شَرَعَ فِي حُكْمِ مَا يُوجَدُ مِنْهَا فِي الْغَنِيمَةِ فَقَالَ: (وَمَا وَقَعَ) أَوْ وُجِدَ (فِي الْمَقَاسِمِ مِنْهَا) أَيْ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وَأَهْلِ الذِّمَّةِ بَعْدَ قَسْمِ أَعْيَانِهَا أَوْ أَثْمَانِهَا جَهْلًا بِحَالِهَا. (فَرَبُّهُ أَحَقُّ بِهِ بِالثَّمَنِ) أَوْ بِمَا قُوِّمَ بِهِ عِنْدَ الْقَسْمِ، وَفُهِمَ مِنْ كَوْنِ رَبِّهِ أَحَقُّ بِهِ أَنَّهُ يَأْخُذُهُ، وَلَوْ بِالْقَهْرِ عَلَى مَنْ وَقَعَ فِي سَهْمِهِ، وَقَوْلُنَا جَهْلًا بِحَالِهِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ قُسِمَ مَعَ مَعْرِفَةِ مَالِكِهِ فَإِنَّهُ لَا يَمْضِي قَسْمُهُ عَلَى الرَّاجِحِ، وَلِرَبِّهِ أَخْذُهُ مَجَّانًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَسَمَهُ مُتَأَوِّلًا أَيْ مُقَلِّدًا قَوْلَ مَنْ يَقُولُ: إنَّ دَارَ الْحَرْبِ تَمْلِكُ مَالَ الْمُسْلِمِ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ أَمَانٍ أَوْ إسْلَامِ مَنْ هُوَ بِيَدِهِ فَلَا يَأْخُذُهُ رَبُّهُ إلَّا بِالثَّمَنِ. (وَ) مَفْهُومُ وَقَعَ فِي الْمَقَاسِمِ أَنَّ (مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْمَقَاسِمِ) بِأَنْ عُرِفَ مَالِكُهُ قَبْلَ قَسْمِهِ. (فَرَبُّهُ أَحَقُّ بِهِ بِلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 ثَمَنٍ. وَلَا نَفَلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ عَلَى الِاجْتِهَادِ مِنْ الْإِمَامِ. وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ الْقَسْمِ. وَالسَّلَبُ مِنْ النَّفَلِ. وَالرِّبَاطُ فِيهِ فَضْلٌ   [الفواكه الدواني] ثَمَنٍ) إنْ كَانَ حَاضِرًا. وَأَمَّا إنْ كَانَ غَائِبًا فَيُحْمَلُ لَهُ إنْ كَانَ الْحَمْلُ خَيْرًا لَهُ، وَإِلَّا بِيعَ وَحُمِلَ لَهُ ثَمَنُهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَأَخْذُ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ ذِمِّيًّا مَا عُرِفَ لَهُ قَبْلَهُ مَجَّانًا وَحَلَفَ أَنَّهُ مِلْكُهُ وَحُمِلَ لَهُ إنْ كَانَ خَبَرًا، وَإِلَّا بِيعَ، وَلَمْ يَمْضِ قَسْمُهُ إلَّا لِتَأَوُّلٍ عَلَى الْأَحْسَنِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَا يُعْطِي لِرَبِّهِ إلَّا بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهُ مَا بَاعَهُ، وَلَا وَهَبَهُ، وَلَا خَرَجَ عَنْ مِلْكِهِ بِنَاقِلٍ شَرْعِيٍّ بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ إلَى الْآنِ، فَهُوَ كَالِاسْتِحْقَاقِ فِي حَلِفِهِ مَعَ بَيِّنَتِهِ، وَالْمُسْلِمُ كَالذِّمِّيِّ وَقَرَائِنُ الْأَحْوَالِ تَقُومُ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ فِي هَذَا الْمَحَلِّ عَلَى الْمَشْهُورِ، خِلَافًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ تَعْبِيرِ ابْنِ الْحَاجِبِ بِالثُّبُوتِ الْمُوهِمِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْبَيِّنَةِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ، وَهُوَ مَا عُرِفَ أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ لِذِمِّيٍّ، وَلَكِنْ لَمْ تُعْرَفْ عَيْنُ الْمَالِكِ فَإِنَّهُ يَمْضِي قَسْمُهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: أَنْ تُعْرَفَ عَيْنُ الْمَالِكِ قَبْلَ الْقَسْمِ وَيَحْضُرُ فَيَأْخُذُهُ مَجَّانًا، وَإِنْ غَابَ يُحْمَلُ لَهُ إنْ كَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِلَّا بِيعَ لَهُ. الثَّانِيَةَ: أَنْ يُعْرَفَ أَنَّهُ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ، وَلَمْ تُعْرَفْ عَيْنُ الْمَالِكِ فَهَذَا يُقْسَمُ بَيْنَ الْمُجَاهِدِينَ وَيَمْضِي قَسْمُهُ. الثَّالِثَةَ: أَنْ لَا يُعْرَفَ الْمَالِكُ إلَّا بَعْدَ الْقَسْمِ، وَهَذَا يَأْخُذُهُ مَالِكُهُ بِالثَّمَنِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ وَلَمَّا كَانَ لِلْإِمَامِ أَنْ يُنَفِّلَ بَعْضَ الْمُجَاهِدِينَ بَيَّنَ مَا مِنْهُ النَّفَلُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا نَفَلَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ أَوْ تَسْكِينِهَا أَيْ لَا زِيَادَةَ هَذَا مَعْنَاهُ لُغَةً، وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَهُوَ مَالٌ مَوْكُولٌ عِلْمُ قَدْرِهِ إلَى الْإِمَامِ. (إلَّا مِنْ الْخُمُسِ) لَا فِي أَصْلِ الْغَنِيمَةِ وَقَدْرُهُ (عَلَى) قَدْرِ (الِاجْتِهَادِ مِنْ الْإِمَامِ) زِيَادَةً عَلَى سَهْمِهِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لِمَصْلَحَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَفَلَ مِنْهُ السَّلَبَ لِمَصْلَحَةٍ كَقُوَّةِ بَطْشِ الْآخِذِ وَشَجَاعَتِهِ، أَوْ يَرَى ضَعْفًا مِنْ الْجَيْشِ فَيُرَغِّبُهُمْ بِذَلِكَ فِي الْقِتَالِ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِيمَا يَقْتَضِي التَّنْفِيلَ جَازَ تَنْفِيلُهُمْ جَمِيعًا، وَالْحَصْرُ فِي قَوْلِهِ:، وَلَا نَفَلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّنْفِيلُ مِنْ نَحْوِ الْجِزْيَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَعَ أَنَّ لَهُ ذَلِكَ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ الْحَصْرَ إضَافِيٌّ أَيْ لَا مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَخْمَاسٍ الْبَاقِيَةِ لِلْمُجَاهِدِينَ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ النَّفَلُ مِمَّا يَظْهَرُ أَثَرُهُ عَلَى الْمُنَفَّلِ كَالْفَرَسِ وَالثَّوْبِ وَالْعِمَامَةِ وَالسَّيْفِ؛ لِأَنَّهَا أَعْظَمُ فِي النُّفُوسِ، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْفَلُ مِنْ السَّلَبِ الْمُعْتَادِ لَا سِوَارَ، وَلَا صَلِيبَ، وَلَا غَيْرَهُ لِعَدَمِ اعْتِيَادِهَا. (وَلَا يَكُونُ) أَيْ لَا يَجُوزُ التَّنْفِيلُ (قَبْلَ) أَخْذِ (الْغَنِيمَةِ) بِأَنْ يَكُونَ بِالْوَعْدِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَمْ يَجُزْ إنْ لَمْ يَنْقُضْ الْقِتَالَ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلْبُهُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إلَى إبْطَالِ نِيَّتِهِمْ، وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى اتِّبَاعِ صَاحِبِ الْمَالِ وَتَرْكِ قِتَالِ الشُّجَاعِ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ ذَلِكَ بَعْدَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ لَجَازَ، وَلِلْقَاتِلِ إنْ كَانَ مُسْلِمًا سَلَبُ كُلِّ مَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَ أَوْ لَمْ يَسْمَعْ قَوْلَ الْإِمَامِ قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمُسْلِمِ فَقَطْ سَلَبٌ اُعْتِيدَ لَا سِوَارَ، وَلَا صَلِيبَ، وَلَا عَيْنَ، وَلَا دَابَّةَ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْ أَوْ تَعَدَّدَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ وَنَفَلَ قَبْلَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ بِأَنْ قَالَ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمَضَى إنْ لَمْ يُبْطِلْهُ قَبْلَ الْمَغْنَمِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ حُكْمٍ بِمُخْتَلَفٍ فِيهِ، فَلِلْقَاتِلِ سَلَبُ كُلِّ مَنْ قَتَلَهُ، وَإِنْ تَعَدَّدَ مَقْتُولُهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْإِمَامُ عَيَّنَ قَاتِلًا، وَأَمَّا لَوْ عَيَّنَ بِأَنْ قَالَ: يَا زَيْدُ إنْ قَتَلْت قَتِيلًا فَلَكَ سَلَبُهُ فَقَتَلَ جَمَاعَةً فَلَيْسَ لَهُ إلَّا سَلَبُ الْأَوَّلِ إنْ عَرَفَ، فَإِنْ جَهِلَ فَقِيلَ لَهُ سَلَبُ أَقَلِّهِمْ، وَإِلَّا شَارَكَ بِنِسْبَةِ وَاحِدٍ لَهُمْ، فَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ فَلَهُ النِّصْفُ، وَهَكَذَا. وَهَذَا إذَا قَتَلَ وَاحِدًا بَعْدَ آخَرَ، وَأَمَّا لَوْ قَتَلَ الْمُعَيَّنُ اثْنَيْنِ دَفْعَةً وَاحِدَةً فَقِيلَ لَهُ سَلَبُهُمَا مَعًا، وَقِيلَ لَهُ سَلَبُ أَكْثَرِهِمَا، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْمَقْتُولِ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ قَتْلُهُ لَا نَحْوَ امْرَأَةٍ أَوْ صَبِيٍّ إلَّا أَنْ يُقَاتِلَ. الثَّانِي: وَهَذَا الَّذِي يَتَعَيَّنُ مُسْتَحَقُّهُ يُسَمَّى السَّلَبُ الْكُلِّيُّ؛ لِأَنَّ السَّلَبَ يَنْقَسِمُ إلَى كُلِّيٍّ وَجُزْئِيٍّ، فَالْجُزْئِيُّ مَا يَتَعَيَّنُ آخِذُهُ، وَمِنْهُ مَا تَقَدَّمَ بِأَنْ يُعْطِيَ الْإِمَامُ شَخْصًا مُعَيَّنًا شَيْئًا، وَأَمَّا الْكُلِّيُّ فَهُوَ الَّذِي لَمْ يَتَعَيَّنْ آخِذُهُ بِأَنْ يَقُولَ الْإِمَامُ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ. الثَّالِثُ: تَلَخَّصَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ أَنَّ كُلَّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، فَلَهُ أَخْذُ سَلَبِ مَقْتُولِهِ، وَإِنْ تَعَدَّدَ، وَإِنْ كَانَ الْقَاتِلُ الْإِمَامَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْمُتَكَلِّمَ يَدْخُلُ فِي عُمُومِ كَلَامِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِمَامُ قَالَ مِنْكُمْ أَوْ يَخُصَّ نَفْسَهُ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الصُّورَتَيْنِ لِإِخْرَاجِهِ نَفْسَهُ فِي الْأُولَى، وَلِمُحَابَاتِهِ فِي الثَّانِيَةِ. الرَّابِعُ: بَقِيَ لَوْ تَعَدَّدَ الْقَاتِلُ وَاتَّحَدَ الْمَقْتُولُ أَوْ تَعَدَّدَ فَالسَّلَبُ بَيْنَهُمْ عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ رَاجِلًا وَبَعْضُهُمْ رَاكِبًا، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي الَّذِي يَأْتِي بِرَأْسِ شَخْصٍ وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَقِيلَ يُصَدَّقُ، وَلَهُ سَلَبُهُ، وَقِيلَ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، بِخِلَافِ مَنْ قَدِمَ بِسَلَبِ شَخْصٍ وَيَدَّعِي أَنَّهُ قَتَلَهُ، فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّورَتَيْنِ أَنَّ وُجُودَ الرَّأْسِ مَعَهُ فِي الصُّورَةِ الْأُولَى يُرَجِّحُ جَانِبَهُ فِي الْخِلَافِ، بِخِلَافِ الثَّانِيَةِ. قَالَ ابْنُ سَحْنُونٍ: وَلَوْ قَالَ لِعَشَرَةٍ: إنْ قَتَلْتُمْ هَؤُلَاءِ فَلَكُمْ أَسْلَابُهُمْ، لَمْ يَخْتَصَّ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ بِسَلَبِ قَتِيلِهِ بَلْ تَكُونُ أَسْلَابُهُمْ شَرِكَةً بَيْنَهُمْ بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ قَتَلَ تِسْعَةٌ مِنْهُمْ تِسْعَةَ أَعْلَاجٍ وَقَتَلَ عَاشِرُ الْأَعْلَاجِ عَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ فَالْأَسْلَابُ لِلْقَاتِلِينَ فَقَطْ، وَلَوْ بَقِيَ عَاشِرُ الْمُسْلِمِينَ شَرَكَهُمْ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ قُلْت: فَيَلْزَمُ لَوْ مَاتَ بَعْضُ الْقَاتِلِينَ لَمْ يَكُنْ لِوَارِثِهِ شَيْءٌ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لِلْحَيِّ الْعَاشِرِ، رَاجِعْ التَّتَّائِيَّ. (وَالسَّلَبُ) بِفَتْحِ اللَّامِ، وَهُوَ مَا يَسْلُبُهُ الْقَاتِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 كَبِيرٌ وَذَلِكَ بِقَدْرِ كَثْرَةِ خَوْفِ أَهْلِ ذَلِكَ الثَّغْرِ، وَكَثْرَةِ تَحَرُّزِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ. وَلَا يُغْزَى بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ إلَّا أَنْ يَفْجَأَ الْعَدُوُّ   [الفواكه الدواني] مِنْ الْحَرْبِيِّ مِمَّا يُعْتَادُ أَخْذُهُ فِي الْحَرْبِ كَفَرَسِهِ وَدِرْعِهِ وَسَيْفِهِ وَرُمْحِهِ، وَمِنْطَقَتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي فَرَسِهِ الْمَمْسُوكِ بِيَدِهِ أَوْ بِيَدِ غُلَامِهِ لِلْقِتَالِ، وَسُمِّيَ سَلَبًا لِسَلَبِهِ مِنْهُمْ فَهُوَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الْمَفْعُولِ، وَيَسْتَحِقُّهُ كُلُّ مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا بَعْدَ قَوْلِ الْإِمَامِ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْمَعْهُ أَوْ تَعَدَّدَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ وَخَبَرُ السَّلَبِ كَائِنٌ. (مِنْ النَّفَلِ) الَّذِي مَرَّ تَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ مَالٌ مَوْكُولٌ عِلْمُ قَدْرِهِ لِلْإِمَامِ فَلَا يَكُونُ إلَّا مَحْسُوبًا مِنْ الْخُمُسِ، وَهَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِقَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ: وَلَا نَفَلَ إلَّا مِنْ الْخُمُسِ، وَالسَّلَبُ مِنْ جُمْلَةِ النَّفَلِ. [وَالرِّبَاطُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ] وَلَمَّا كَانَ الرِّبَاطُ شَبِيهًا بِالْجِهَادِ ذَكَرَهُ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالرِّبَاطُ) بِكَسْرِ الرَّاءِ لُغَةً: مُطْلَقُ الْإِقَامَةِ. وَشَرْعًا: الْإِقَامَةُ فِي ثَغْرٍ مِنْ الثُّغُورِ لِحِرَاسَةِ مَنْ بِهَا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَالثَّغْرُ بِالْمُثَلَّثَةِ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُخَافُ فِيهِ مِنْ الْكُفَّارِ كَدِمْيَاطَ وَعَسْقَلَانَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّة مِنْ الْبِلَادِ الْقَرِيبَةِ مِنْ بِلَادِ الْكَفَرَةِ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ الْمِلْحِ، وَخَبَرُ الرِّبَاطِ كَائِنٌ. (فِيهِ فَضْلٌ) أَيْ ثَوَابٌ (كَثِيرٌ) بِالْمُثَلَّثَةِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ هُنَا، وَسَيَأْتِي فِي بَابِ جُمَلٍ يَنُصُّ عَلَى أَنَّهُ وَاجِبٌ بِقَوْلِهِ: وَالرِّبَاطُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَحِيَاطَتُهَا وَاجِبٌ يَحْمِلُهُ مَنْ قَامَ بِهِ فَهُوَ كَالْجِهَادِ، وَوَرَدَ فِي فَضْلِهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ فَمِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» . وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حُرِّمَتْ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ» . وَمِنْهَا: «رِبَاطُ لَيْلَةٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ لَيْلَةٍ تَقُومُ لَيْلَهَا فَلَا تَفْتُرُ وَتَصُومُ نَهَارَهَا فَلَا تُفْطِرُ» . وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى كَثْرَةِ ثَوَابِهِ، وَظَاهِرُ تِلْكَ الْأَحَادِيثِ أَنَّ ذَلِكَ الْفَضْلَ إنَّمَا يَحْصُلُ لِمَنْ رَابَطَ لِمُجَرَّدِ سَدِّ الثَّغْرِ لَا مَنْ سَكَنَ بِأَهْلِهِ، وَأَقَامَ فِيهِ لِمُجَرَّدِ التِّجَارَةِ، لِقَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ: مَنْ سَكَنَ الثَّغْرَ بِأَهْلِهِ وَوَلَدِهِ لَمْ يَكُنْ مُرَابِطًا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ سُكْنَاهُ تَبَعًا لِلرِّبَاطِ، وَلَوْلَاهُ لَمَا سَكَنَهُ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْبَاجِيُّ وَرَجَّحَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي تَفْضِيلِهِ عَلَى الْجِهَادِ، وَيَظْهَرُ لِي فَضْلُ الْجِهَادِ عَلَى الرِّبَاطِ لِمَزِيَّةِ مَنْ ذَهَبَ لِلْقِتَالِ عَلَى مَنْ مَكَثَ فِي مَحَلِّ الْخَوْفِ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا أَيْ أَشَقُّهَا. (تَنْبِيهٌ) الْأَنْسَبُ التَّعْبِيرُ بِعَظِيمٍ بَدَلَ كَثِيرٍ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْكَثْرَةَ وَالْقِلَّةَ مِنْ عَوَارِضِ الْكَمِّيَّاتِ، وَأَمَّا الْعَظَمَةُ وَالْحَقَارَةُ فَمِنْ عَوَارِضِ الْكَيْفِيَّاتِ، فَيُقَالُ: اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ وَالثَّوَابِ الْعَظِيمِ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقْصِدْ فِي هَذَا الْكِتَابِ إلَّا الْعِبَارَةَ الْمَأْلُوفَةَ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ فَضْلَهُ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ شِدَّةِ الْخَوْفِ وَقِلَّتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) الْفَضْلُ بِمَعْنَى الثَّوَابِ مُتَفَاوِتٌ بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ. (بِقَدْرِ) أَيْ بِحَسَبِ (كَثْرَةِ خَوْفِ أَهْلِ ذَلِكَ الثَّغْرِ) الْوَاقِعِ فِيهِ الرِّبَاطُ (وَ) بِقَدْرِ (كَثْرَةِ تَحَرُّزِهِمْ مِنْ عَدُوِّهِمْ) ، وَإِذَا كَانَ الْخَوْفُ بِمَحَلٍّ ثُمَّ زَالَ فَلَا يُنْدَبُ الرِّبَاطُ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّحَصُّنُ وَالتَّحَفُّظُ مِنْ سَطْوَةِ الْعَدُوِّ، وَإِذَا حَصَلَ الْأَمْنُ مِنْهُ فَلَا حَاجَةَ لِلرِّبَاطِ. وَلَمَّا كَانَتْ طَاعَةُ الْوَالِدَيْنِ مِنْ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ قَالَ: (وَلَا يُغْزَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ يَحْرُمُ عَلَى الْوَلَدِ الْغَزْوُ (بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ) أَيْ الْقَرِيبَيْنِ لَا الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ؛ لِأَنَّ الْغَزْوَ الْأَصْلُ فِيهِ الْوُجُوبُ كِفَايَةً، وَإِطَاعَتُهُمَا عَيْنِيَّةٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ، وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ لَيْسَ لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ مَنْعُ وَلَدِهِمَا مِنْ الْجِهَادِ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالْكَافِرُ كَغَيْرِهِ فِي غَيْرِهِ، لَكِنْ قَيَّدَهُ الْمَوَّاقُ بِمَا إذَا عَلِمَ أَنَّ مَنْعَهُمَا مِنْهُ إنَّمَا هُوَ لِكَرَاهَتِهِمَا إعَانَةَ الْإِسْلَامِ وَنُصْرَتَهُ وَإِلَّا كَانَا كَالْمُسْلِمِينَ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْغَزْوِ، بَلْ سَائِرُ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ لَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الْخُرُوجُ إلَى شَيْءٍ مِنْهَا بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي مُسْقِطَاتِ الْجِهَادِ: وَسَقَطَ بِمَرَضٍ وَصِبًى وَجُنُونٍ وَعَمًى وَعَرَجٍ وَأُنُوثَةٍ وَعَجْزٍ عَنْ مُحْتَاجٍ لَهُ وَرِقٍّ وَدَيْنٍ حَلَّ كَوَالِدَيْنِ فِي فَرْضِ كِفَايَةٍ، وَكَتَجْرٍ بِبَحْرٍ أَوْ خَطَرٍ عَلَى مَا صَوَّبَهُ بَعْضُهُمْ، فَشَمِلَ الْخُرُوجَ لِطَلَبِ الْعِلْمِ الزَّائِدِ عَلَى الْعَيْنِيِّ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَإِنَّمَا يَمْنَعُ الْوَالِدَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ مِنْ الْخُرُوجِ لِفَرْضِ الْكِفَايَةِ إذَا كَانَ عِلْمًا إذَا كَانَا فِي مَحَلِّهِمَا مَنْ يَقُومُ بِفَرْضِ الْكِفَايَةِ. وَأَمَّا إذَا خَلَا عَنْ ذَلِكَ فَلَا يَمْنَعَانِهِ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ فَرْضَ الْكِفَايَةِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ يُخَاطَبُ بِهِ كُلُّ أَحَدٍ فَيُشْبِهُ الْفَرْضَ الْعَيْنِيَّ، وَهُمَا لَا يَمْنَعَانِ الْوَلَدَ مِنْهُ، وَقَالَ الطُّرْطُوشِيُّ: لَوْ مَنَعَهُ أَبَوَاهُ مِنْ الْخُرُوجِ لِلْفِقْهِ وَالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَمَعْرِفَةِ الْإِجْمَاعِ وَالْخِلَافِ، وَمَرَاتِبِهِ، وَمَرَاتِبِ الْقِيَاسِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَوْجُودًا فِي بَلَدِهِ لَمْ يَخْرُجْ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَإِلَّا خَرَجَ، وَلَا طَاعَةَ لَهُمَا فِي مَنْعِهِ؛ لِأَنَّ تَحْصِيلَ دَرَجَاتِ الْمُجْتَهِدِينَ فَرْضُ كِفَايَةٍ، وَقَيَّدْنَا بِالزَّائِدِ عَلَى الْعَيْنِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَمْنَعَانِ الْوَلَدَ مِنْ الْخُرُوجِ لِمَعْرِفَتِهِ كَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَعَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْفُرُوضِ الْعَيْنِيَّةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: وَإِذَا خَرَجَ بِإِذْنِهِمَا فَالْمُعْتَبَرُ مِنْهُ الْإِذْنُ بِاللِّسَانِ وَالْبَاطِنِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْخُرُوجُ بِمُجَرَّدِ إذْنِهِمَا بِاللِّسَانِ حَتَّى يَكُونَ الْقَلْبُ كَذَلِكَ، فَلَا يَخْرُجُ إذَا أَذِنَا بِلِسَانِهِمَا، وَهُمَا يَبْكِيَانِ، وَإِذَا اخْتَلَفَا فِي الْإِذْنِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَجُوزُ الْخُرُوجُ حَتَّى يَتَّفِقَا عَلَيْهِ، كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ الْأَبَوَيْنِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ مِثْلَ الْغَزْوِ كُلُّ سَفَرٍ مَخُوفٍ؛ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: يُغْزَى، وَمِثْلُ الْوَالِدَيْنِ أَوْ أَحْرَى مِنْهُمَا السَّيِّدُ مَعَ عَبْدِهِ إذْ لَهُ مَنْعُهُ مِنْ بَعْضِ الْمُبَاحَاتِ، وَكَذَا صَاحِبُ الدَّيْنِ لَهُ مَنْعُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 مَدِينَةَ قَوْمٍ وَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ دَفْعُهُمْ وَلَا يُسْتَأْذَنُ الْأَبَوَانِ فِي مِثْلِ هَذَا.   [الفواكه الدواني] مُطْلَقِ السَّفَرِ إذَا كَانَ يَحِلُّ فِي غَيْبَتِهِ، وَأَوْلَى الْحَالُ بِشَرْطِ الْقُدْرَةِ عَلَى أَدَائِهِ حَتَّى يُؤَدِّيَهُ أَوْ يُوَكِّلَ مَنْ يُؤَدِّيهِ إذَا كَانَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ أَدَائِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ أَوْ يَأْذَنُ لَهُ الدَّيِّنُ فِي السَّفَرِ؛ لِأَنَّ أَمْرَ الدَّيْنِ شَدِيدٌ، فَقَدْ قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: الشَّهَادَةُ تُكَفِّرُ كُلَّ شَيْءٍ إلَّا الدَّيْنَ لِمَا رُوِيَ: «أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ مَاتَ مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ أَيْ مَاتَ عَلَى كَلِمَةِ الْإِيمَانِ أَيُكَفِّرُ اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فَوَلَّى الرَّجُلُ، فَدَعَاهُ وَأَمَرَ مَنْ دَعَاهُ فَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَقَالَتَك، فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَقَالَ لَهُ: نَعَمْ إلَّا مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ» . انْتَهَى. لَكِنْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: قَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَا رُوِيَ: أَنَّ اللَّهَ - عَزَّ وَجَلَّ - يَقْضِي عَنْ دِينِهِ، وَوَرَدَ أَيْضًا: أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السُّلْطَانِ وَفَاءُ دَيْنِ مَنْ مَاتَ مُعْسِرًا بَعْدَ أَنْ كَانَ وَاجِبًا عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ مِنْ الْغَزْوِ بِغَيْرِ إذْنِ الْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْغَزْوِ الْوَاجِبِ كِفَايَةً قَالَ: (إلَّا أَنْ يَفْجَأَ الْعَدُوُّ) أَيْ بِغَيْرِ أَنْ يَنْزِلَ، وَإِنْ لَمْ يَغْزُ (مَدِينَةَ قَوْمٍ وَيُغِيرُونَ عَلَيْهِمْ) تَفْسِيرٌ لِيَفْجَأَ، وَلِذَا كَانَ الْوَاجِبُ حَذْفَ النُّونِ مِنْ يُغِيرُونَ؛ لِأَنَّ مُفَسِّرَ الشَّيْءِ يُعْرَبُ بِإِعْرَابِهِ (فَفَرْضٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ (دَفْعُهُمْ) أَيْ الْعَدُوِّ (وَلَا) يَجِبُ أَنْ (يُسْتَأْذَنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الْأَبَوَانِ فِي مِثْلِ هَذَا) ، وَلَا الرِّجَالُ، وَلَا السَّادَاتُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ بِفَجْأِ الْعَدُوِّ، وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ. قَالَ شُرَّاحُهُ: أَوْ عَبْدٍ وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ الْجِهَادُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ، وَلَوْ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا أَوْ مِدْيَانًا، وَعَلَى هَذَا فَيُسْهَمُ لِلْعَبْدِ لِخِطَابِهِ إذْ ذَاكَ، وَمَحَلُّ التَّعْيِينِ وَحُرْمَةُ الْفِرَارِ إنْ بَلَغَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ النِّصْفَ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا، وَإِلَّا جَازَ الْفِرَارُ كَمَا تَقَدَّمَ. وَالْقُيُودُ الْمُتَقَدِّمَةُ تَأْتِي هُنَا، وَلَا يُقَالُ: إنَّ مَا تَقَدَّمَ فِي الْجِهَادِ الْكِفَائِيِّ، وَهَذَا عَيْنِيٌّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إذَا حَصَلَ الشُّرُوعُ فِي الْقِتَالِ صَارَ عَيْنًا فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِدَلِيلِ حُرْمَةِ الْفِرَارِ فَافْهَمْ. (خَاتِمَةٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ لِحُكْمِ مَا إذَا تَرَكَ النَّاسُ الْقِتَالَ مَعَ أَهْلِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ الَّتِي فَجَأَ الْعَدُوُّ عَلَى أَهْلِهَا، هَلْ يَضْمَنُونَ لِتَرْكِهِمْ الْوَاجِبِ عَلَيْهِمْ وَيَصِيرُونَ مِنْ أَفْرَادِ مَنْ تَرَكَ تَخْلِيصَ الْمُسْتَهْلَكِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَضَمِنَ مَارٌّ، إلَى قَوْلِهِ: كَتَرْكِ تَخْلِيصِ مُسْتَهْلَكٍ مِنْ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ أَمْ لَا؟ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ هَؤُلَاءِ كَذَلِكَ، حَيْثُ تَمَكَّنُوا مِنْ تَخْلِيصِهِمْ وَزَجْرِ الْعَدُوِّ عَنْهُمْ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. [بَاب فِي الْأَيْمَان وَالنُّذُور] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ ذِكْرَهُ مِنْ فُرُوعِ الْجِهَادِ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْأَيْمَانِ بِقَوْلِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 بَابٌ فِي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ «، وَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . وَيُؤَدَّبُ مَنْ حَلَفَ بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ وَيَلْزَمُهُ وَلَا ثُنْيَا وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا فِي   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانِ (الْأَيْمَانِ) ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، وَهِيَ جَمْعُ يَمِينٍ مُؤَنَّثَةٍ، وَيُرَادِفُهَا الْحَلِفُ وَالْإِيلَاءُ، وَهِيَ أَهَمُّ مِنْ الْقَسَمِ، وَسُمِّيَ الْحَلِفُ يَمِينًا لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ عَادَةِ الْعَرَبِ إذَا حَلَفَ شَخْصٌ صَاحِبُهُ يَضَعُ يَمِينَهُ فِي يَمِينِهِ وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَسَّمَهَا ابْنُ عَرَفَةَ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ بِقَوْلِهِ: الْيَمِينُ قَسَمٌ أَوْ الْتِزَامُ مَنْدُوبِ غَيْرِهِ مَقْصُودٌ بِهِ الْقُرْبَةَ أَوْ مَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ لَا يَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ تَعَلَّقَ بِأَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ فَيَخْرُجُ نَحْوُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ طَلَاقُ فُلَانَةَ أَوْ عِتْقُ عَبْدِي فُلَانٍ، ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ قُرْبَةٍ، وَيَلْزَمُ الْعِتْقُ، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّهُ نَذْرٌ لَا وَفَاءَ بِهِ إلَّا بِنِيَّتِهِ، وَمَا يُكْرَهُ عَلَيْهِ غَيْرُ مَنْوِيٍّ. قَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: النَّذْرُ كَيْفَ مَا صَدَقَتْ أَحْوَالُهُ لَا يُقْضَى بِهِ، وَإِنْ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ، وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ غَيْرُ يَمِينٍ، مَعَ أَنَّ التَّعْرِيفَ يَقْتَضِي أَنَّهَا يَمِينٌ؛ لِأَنَّ قَائِلَهَا لَمْ يَقْصِدْ بِهَا الْقُرْبَةَ بَلْ قَصَدَ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ، وَقَدْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِ النَّذْرِ: لَا لِامْتِنَاعِ مَنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ. وَصَرِيحُ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ الْأُجْهُورِيُّ يَقْتَضِي أَنَّهَا لَيْسَتْ يَمِينًا مَعَ أَنَّهَا مُعَلَّقَةٌ عَلَى أَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ، وَعَلَّلَ ذَلِكَ بِأَنَّهَا صِيغَةٌ صَرِيحَةٌ فِي النَّذْرِ لَا تَخْرُجُ عَنْهُ، وَلَوْ عُلِّقَتْ. إذَا عَلِمْت هَذَا ظَهَرَ لَك أَنَّ الْيَمِينَ أَعَمُّ مِنْ الْقَسَمِ؛ لِأَنَّ الْقَسَمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَالْيَمِينُ تَشْمَلُ هَذَا وَتَشْمَلُ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ أَوْ صَدَقَةٌ، وَهُوَ الْتِزَامُ الْمَنْدُوبِ. وَتَشْمَلُ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ أَوْ حُرٌّ مِنْ كُلِّ مَا يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ، وَعَلَّقَ عَلَى أَمْرٍ مَقْصُودٍ عَدَمُهُ، وَلَوْ بِحَسَبِ الْمَعْنَى نَحْوَ: إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ الطَّلَاقَ تَعَلَّقَ فِي الْمَعْنَى عَلَى عَدَمِ الْعَدَمِ، وَعَدَمُ الْعَدَمِ إثْبَاتٌ، وَقَيَّدَ ابْنُ عَرَفَةَ الَّذِي يَجِبُ بِإِنْشَاءٍ بِقَوْلِهِ: لَا يَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا يَجِبُ بِالْإِنْشَاءِ، وَيَفْتَقِرُ لِقَبُولٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِيَمِينٍ نَحْوَ: بِعْت وَأَنْكَحْت وَوَهَبْت لِمُعَيَّنٍ وَسَائِرِ صِيَغِ الْعُقُودِ. وَأَمَّا قَوْلُ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ: الْيَمِينُ تَحْقِيقُ مَا لَمْ يَجِبْ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ فَإِنَّهُ قَاصِرٌ عَلَى أَحَدِ الْأَقْسَامِ، وَهِيَ الْيَمِينُ الَّتِي تُكَفَّرُ الَّتِي تُسَمَّى قَسَمًا، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ إفَادَةً لِلطَّالِبِ؛ لِأَنَّهُ قَلَّ أَنْ يَجِدَهَا عَلَى هَذَا الْإِيضَاحِ. (وَ) بَابٌ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ (النُّذُورِ) جَمْعُ نَذْرٍ، وَهُوَ لُغَةً: الِالْتِزَامُ وَالْوُجُوبُ وَشَرْعًا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: النَّذْرُ الْأَعَمُّ مِنْ الْجَائِزِ إيجَابُ امْرِئٍ عَلَى نَفْسِهِ لِلَّهِ أَمْرٍ. الْحَدِيثَ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ» فَأَطْلَقَ عَلَى الْمُحَرَّمِ نَذْرًا، وَالْأَخَصُّ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ الْتِزَامُ طَاعَةٍ بِنِيَّةِ قُرْبَةٍ لَا لِامْتِنَاعٍ مِنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ حَسْبَمَا مَرَّ، فَيَخْرُجُ بِطَاعَةٍ الْتِزَامُ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ وَالْحَرَامِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: بِنِيَّةِ قُرْبَةِ الْتِزَامِ الطَّاعَةِ لِأَجْلِ الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ يَمِينًا نَحْوَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَلَاةٌ أَوْ صَدَقَةُ دِينَارٍ، وَإِطْلَاقُهُ فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ يَتَنَاوَلُ مَا كَانَ بِصِيغَتِهِ الصَّرِيحَةِ نَحْوَ: إنْ كَلَّمْت فُلَانًا فَلِلَّهِ عَلَيَّ عِتْقُ عَبْدِي أَوْ صَوْمُ سَنَةٍ، وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنْ الْأُجْهُورِيِّ مَا يُعَيِّنُ أَنَّهَا لَا تَخْرُجُ عَنْ النَّذْرِ، وَلَوْ قَصَدَ بِهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ. وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ يَقْتَضِي أَنَّهَا يَمِينٌ إذَا قَصَدَ بِهَا الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ، فَانْظُرْ أَيَّ الْكَلَامَيْنِ هُوَ الصَّوَابُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحَدِ أَقْسَامِ الْيَمِينِ، وَهُوَ الْقَسَمُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ كَانَ حَالِفًا) أَيْ مُرِيدَ الْحَلِفِ (فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ) أَيْ بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ نَحْوَ: بِاَللَّهِ أَوْ الْعَلِيمِ أَوْ الْخَالِقِ أَوْ الرَّزَّاقِ أَوْ الصَّبُورِ مِنْ كُلِّ مَا دَلَّ عَلَى الذَّاتِ، أَوْ بِذِكْرِ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ كَالْحَيَاةِ وَالْقُدْرَةِ وَالْعِلْمِ وَالسَّمْعِ وَالْبَصَرِ وَالْكَلَامِ، أَوْ بِذِكْرِ الصِّفَةِ الْجَامِعَةِ كَجَلَالِ اللَّهِ أَوْ عَظَمَتِهِ، وَالصِّفَةِ النَّفْسِيَّةِ كَالْوُجُودِ أَوْ السَّلْبِيَّةِ كَالْوَحْدَانِيَّةِ وَالْقِدَمِ، وَنَظَرَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي الصِّفَاتِ الْمَعْنَوِيَّةِ (أَوْ لِيَصْمُتْ) أَيْ لَا يَحْلِفُ، إذْ لَا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَالنَّبِيِّ وَالْكَعْبَةِ وَحَيَاةِ الْأَبِ أَوْ تُرْبَتِهِ أَوْ نِعَمِهِ أَوْ رَأْسِ السُّلْطَانِ مِمَّا يَحْلِفُ بِهِ الْجَهَلَةُ فَإِنَّهُ حَرَامٌ لِخَبَرِ: «إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ فَمَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاَللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ، وَمُسْلِمٍ فَبَيَّنَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الدَّلِيلَ وَالْحُكْمَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الصِّفَاتِ بِمَا مَرَّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ كَالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَا يَمِينٌ بِلَا خِلَافٍ لِرُجُوعِهَا لِلْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 الْيَمِينِ بِاَللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ. ، وَمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ إذَا قَصَدَ الِاسْتِثْنَاءَ وَقَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ   [الفواكه الدواني] الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ اشْتِرَاطُ ذِكْرِ الِاسْمِ أَوْ الصِّفَةِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَفِيهِ خِلَافٌ، وَاَلَّذِي لِصَاحِبِ الْوَقَارِ عَدَمُ الِاشْتِرَاطِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَمَنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ بِشَيْءٍ مِنْ اللُّغَاتِ وَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَمَنْ حَلَفَ بِوَجْهِ اللَّهِ وَحَنِثَ كَفَّرَ، وَمَنْ حَلَفَ بِعَرْشِ اللَّهِ وَحَنِثَ فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَأَقُولُ: مِمَّا لَا كَفَّارَةَ فِي الْحَلِفِ بِهِ الْحَلِفُ بِالْعِلْمِ الشَّرِيفِ مُرَادًا بِهِ عِلْمَ الشَّرَائِعِ أَوْ أَطْلَقَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ بِاَللَّهِ، وَلَا بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ. الثَّالِثُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا بِذِكْرِ اسْمِ اللَّهِ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَلَا بِلَفْظٍ مُبَايِنٍ مُرَادٌ بِهِ اسْمُ اللَّهِ كَقَوْلِهِ: بِزَيْدٍ مَا فَعَلْت كَذَا يُرِيدُ بِهِ بِاَللَّهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ مَنْ أَسْقَطَ الْهَاءَ مِنْ لَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَيَظْهَرُ لِي إلَّا أَنْ يُسْقِطَهَا عَجْزًا وَحَرَّرَهُ. الرَّابِعُ: الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ أَيْضًا جَوَازُ الْإِقْدَامِ عَلَى الْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ الشَّرْعِيَّةِ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الْيَمِينُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُبَاحَةٍ كَالْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَجُوزُ الْحَلِفُ بِهِ. وَمَكْرُوهَةٍ كَالْحَلِفِ بِالْآبَاءِ وَالْمَسْجِدِ وَالرَّسُولِ، وَمَكَّةَ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ. وَمَحْظُورَةٍ كَالْحَلِفِ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى، وَإِنْ اعْتَقَدَ تَعْظِيمَ هَذِهِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، وَمَا قَالَ فِيهِ: إنَّهُ مَكْرُوهٌ اسْتَظْهَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ حُرْمَتَهُ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَلَفَ بِالْمَخْلُوقِ بَعْضَ الْأَحْيَانِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ أَوْ مَنْسُوخٌ «بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ: إنَّ اللَّهَ يَنْهَاكُمْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ مَنْ كَانَ حَالِفًا» الْحَدِيثَ. الْخَامِسُ: فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ عَلَى حَصْرِ الِاسْمِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَصِفَاتِهِ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَحْوِ: وَالنَّجْمِ وَالشَّمْسِ وَاللَّيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَهَذَا أَقْسَامٌ بِبَعْضِ الْمَخْلُوقَاتِ فَالْجَوَابُ: أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثَ بِالنِّسْبَةِ إلَى إقْسَامَاتِ الْبَشَرِ، وَمَا فِي الْقُرْآنِ أَقْسَامٌ مِنْ اللَّهِ عَلَى بَعْضِ خَلْقِهِ بِبَعْضِ مَا يُعَظِّمُونَهُ مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَلَهُ - تَعَالَى - أَنْ يُقْسِمَ بِمَا شَاءَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ مَخْلُوقَاتٍ، وَإِنْ أَجَابَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِأَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ الْمُقْسَمُ بِهِ مَحْذُوفًا تَقْدِيرُهُ: وَرَبِّ النَّجْمِ أَوْ خَالِقِ النَّجْمِ فَخِلَافُ الظَّاهِرِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَصَرَّحَ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ، وَلَمْ يَثْبُتْ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ كَالدَّلِيلِ عَلَى حُرْمَةِ الْحَلِفِ بِغَيْرِ اللَّهِ وَصِفَاتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤَدَّبُ) بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ كُلُّ (مَنْ حَلَفَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (بِطَلَاقٍ أَوْ عَتَاقٍ) لِخَبَرِ: «لَا تَحْلِفُوا بِالطَّلَاقِ وَلَا بِالْعَتَاقِ فَإِنَّهُمَا مِنْ أَيْمَانِ الْفُسَّاقِ» وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَانَ الْحَالِفُ مُتَزَوِّجًا، وَمَالِكًا أَمْ لَا؟ أَكْثَرَ مِنْ الْحَلِفِ بِذَلِكَ أَمْ لَا؟ . وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْإِمَامَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَزِّرَ كُلَّ مَنْ ارْتَكَبَ مَعْصِيَةً كَرَّرَهَا أَمْ لَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ جَاهِلًا فَيُنْهَى، وَلَا يُؤَدَّبُ، وَقَوْلُنَا بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ، وَلِأَنَّ التَّعَازِيرَ لَيْسَ لَهَا حَدٌّ، فَإِنَّ مِنْهُمْ مَنْ تَأْدِيبُهُ بِالضَّرْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ تَعْزِيرُهُ بِقَلْعِ الْعِمَامَةِ، وَالْمَحْدُودُ بِحَدٍّ إنَّمَا هُوَ الْحَدُّ كَحَدِّ الزِّنَا لِلْبِكْرِ، وَكَحَدِّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ كِنَايَتُهُ كَالْحَلِفِ بِالْحَرَامِ أَوْ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ، وَيَلْزَمُهُ فِي الْحَلِفِ بِالْأَيْمَانِ اللَّازِمَةِ مَا نَوَاهُ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ، وَحَيْثُ لَا نِيَّةَ، وَلَا عُرْفَ لِأَهْلِ بَلَدِهِ أَوْ لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْأَدَبُ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَدَبِ مَنْ حَلَفَ بِحَيَاةِ الْأَبِ أَوْ رَأْسِ السُّلْطَانِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهُ يُؤَدَّبُ عَلَى الْقَوْلِ بِحُرْمَةِ الْحَلِفِ بِهَا لَا عَلَى الْقَوْلِ بِالْكَرَاهَةِ وَحَرَّرَ الْحُكْمَ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ عَدَمُ اللُّزُومِ قَالَ: (وَيَلْزَمُهُ) أَيْ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعَتَاقِ حَيْثُ حَنِثَ فِي الطَّلَاقِ وَاحِدَةً إلَّا بِنِيَّةِ أَكْثَرَ، وَفِي الْعِتْقِ عَتَقَ مَنْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ، وَإِنْ أَطْلَقَ، وَكَانَ ذَا عَبِيدٍ اخْتَارَ وَاحِدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَبِيدٌ وَقْتَ الْحَلِفِ لَمْ يَلْزَمْهُ كَالْحَالِفِ بِالطَّلَاقِ، وَلَا زَوْجَةَ لَهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ رُكْنَ الطَّلَاقِ الْمَحَلُّ الْمَمْلُوكُ لِلزَّوْجِ وَقْتَ الْحَلِفِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ لِامْرَأَةٍ حِينَ عَرَضَهَا عَلَيْهِ: إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ. ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا ثُنْيَا، وَلَا كَفَّارَةَ) مُفِيدَتَانِ (إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ أَسْمَائِهِ) كَالْعَلِيمِ وَالسَّمِيعِ فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ. (أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ صِفَاتِهِ) أَوْ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْحَالِفَ إذَا حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ وَاسْتَثْنَى بِأَنْ قَالَ بِأَثَرِ الْيَمِينِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَضَى اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ، أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ أَوْ يَقْضِيَ أَوْ يُرِيدَ أَوْ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِطَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ مُعَيَّنٍ لَا يُفِيدُهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ نَذْرٍ مُبْهَمٍ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ الَّذِي لَمْ يُسَمِّ النَّاذِرُ لَهُ مَخْرَجًا بِأَنْ لَمْ يُعَيِّنْ الشَّيْءَ الْمَنْذُورَ، فَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرٌ وَفَعَلَ الشَّيْءَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ قَالَ عَقِبَ يَمِينِهِ أَوْ نَذْرِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ قَالَ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، أَوْ يُرِيدَ، أَوْ قَالَ: إنْ كَلَّمْت زَيْدًا فَعَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ إلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْيَمِينُ، وَلَمْ يُفِدْهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَعُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ مُنَجَّزًا أَوْ مُعَلَّقًا بِأَنْ قَالَ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ قَالَ لِلْعَبْدِ: إنْ دَخَلْت الدَّارَ فَأَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ حَصَلَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ اسْتَثْنَى، وَالْمُنَجَّزُ كَقَوْلِهِ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وَوَصَلَهَا بِيَمِينِهِ قَبْلَ أَنْ يَصْمُتَ، وَإِلَّا لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ وَالْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ أَرْبَعَةٌ فَيَمِينَانِ تُكَفَّرَانِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت أَوْ   [الفواكه الدواني] طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ إنْ شَاءَ اللَّهُ، لَمْ يُفِدْهُ، وَلَا يَنْفَعُهُ الِاسْتِثْنَاءُ، وَلَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ عَلَى الْمَشْهُورِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الطَّلَاقِ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يُنَجَّزُ فِيهِ الطَّلَاقُ: أَوْ صَرَفَ الْمَشِيئَةَ عَلَى مُعَلَّقٍ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَدْ عَرَفْت مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالثُّنْيَا الِاسْتِثْنَاءُ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ، أَوْ أَرَادَ، أَوْ قَضَى، عَلَى مَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ، وَإِطْلَاقُ الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى التَّعْلِيقِ بِالْمَشِيئَةِ مَجَازٌ بِحَسَبِ اللُّغَةِ؛ لِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لُغَةً مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ وَالتَّقْيِيدُ بِالشَّرْطِ بِقَوْلِنَا: إنْ شَاءَ اللَّهُ مُخْرِجٌ لِبَعْضِ أَحْوَالِ الشُّرُوطِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الِاصْطِلَاحِ هُوَ الْإِخْرَاجُ بِإِلَّا أَوْ إحْدَى أَخَوَاتِهَا، فَالْعَلَاقَةُ بَيْنَ اللُّغَوِيِّ وَالِاصْطِلَاحِيِّ مُطْلَقُ الْإِخْرَاجِ. الثَّانِي: شَرَطَ ابْنُ الْحَاجِبِ فِي إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ كَوْنُهُ فِي أَمْرٍ مُسْتَقْبَلٍ حَيْثُ قَالَ: الِاسْتِثْنَاءُ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ لَا يَنْفَعُ فِي غَيْرِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ عَلَى مُسْتَقْبَلٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي شَرْحِهِ: إنَّمَا اخْتَصَّتْ الْمَشِيئَةُ بِالْمُسْتَقْبَلِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى مَاضٍ إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ، وَلَا تَكُونُ الْكَفَّارَةُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَضَّحَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمَاضِي لَا تُكَفَّرُ؛ لِأَنَّهَا إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ صَادِقَةٌ، وَأَنَّ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْمُسْتَقْبَلِ تُكَفَّرُ، وَلَوْ لَغْوًا أَوْ غَمُوسًا، وَأَنَّ الْمُتَعَلِّقَةَ بِالْحَالِ تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ غَمُوسًا، وَلَا تُكَفَّرُ إنْ كَانَتْ لَغْوًا. الثَّالِثُ: قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ وَاللَّغْوِ النَّذْرُ الْمُبْهَمُ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعَيَّنْ فِيهِ الشَّيْءُ الْمَنْذُورُ، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ مَالِكٍ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا ثُنْيَا، وَلَا لَغْوَ فِي طَلَاقٍ، وَلَا مَشْيَ وَلَا صَدَقَةَ، وَلَا غَيْرَهَا إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ نَذْرٍ لَا مَخْرَجَ لَهُ، وَزَادَ الْأُجْهُورِيُّ: كُلُّ مَا فِيهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ كَحَلِفِهِ بِالْكَفَّارَةِ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَفْهُومِ، وَلَا ثُنْيَا، وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ وَقَوْلُهُ: (وَمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى) بِأَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا إنْ شَاءَ اللَّهُ أَوْ إلَّا أَنْ يَشَاءَ أَوْ يُرِيدَ أَوْ يَقْضِيَ ثُمَّ فَعَلَهُ اخْتِيَارًا. (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) لِوُجُودِ الِاسْتِثْنَاءِ الْمُوجِبِ لِعَدَمِ الْكَفَّارَةِ بِشُرُوطٍ أَحَدِهَا. (إذَا قَصَدَ) بِقَوْلِهِ: إنْ شَاءَ اللَّهُ (الِاسْتِثْنَاءَ) أَيْ حِلَّ الْيَمِينِ لَا إنْ قَصَدَ التَّبَرُّكَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ بِأَنْ جَرَى عَلَى لِسَانِهِ. (وَ) ثَانِيهَا إنْ تَلَفَّظَ بِهِ بِأَنْ (قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ) ، وَإِنْ سِرًّا بِحَرَكَةِ لِسَانِهِ فَلَا تَكْفِي النِّيَّةُ مِنْ غَيْرِ تَلَفُّظٍ. (وَ) ثَالِثِهَا أَنْ يَكُونَ قَدْ (وَصَلَهَا) أَيْ كَلِمَةَ إنْ شَاءَ (اللَّهُ بِيَمِينِهِ قَبْلَ أَنْ يَصْمُتَ) ، وَلَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الِاضْطِرَارِيُّ لِعُطَاسٍ أَوْ سُعَالٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَفَادَ أَيْ الِاسْتِثْنَاءُ بِكَإِلَّا فِي الْجَمِيعِ إنْ اتَّصَلَ إلَّا لِعَارِضٍ وَنَوَى الِاسْتِثْنَاءَ وَقَصَدَ وَنَطَقَ بِهِ، وَإِنْ سِرًّا بِحَرَكَةِ لِسَانِهِ. (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَقْصِدَ الِاسْتِثْنَاءَ أَوْ لَمْ يَتَلَفَّظْ أَوْ فَصَلَ اخْتِيَارًا بَيْنَ قَوْلِهِ بِاَللَّهِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. (لَمْ يَنْفَعْهُ ذَلِكَ) الِاسْتِثْنَاءُ وَتَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ رَأَى خَيْرًا مِنْهُ فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ» . فَلَوْ كَانَ الِاسْتِثْنَاءُ يَنْفَعُهُ بَعْدَ حِينٍ لَمَا كَانَ لِلْكَفَّارَةِ فَائِدَةٌ؛ لِأَنَّ أَمْرَهُ الْمُخَالِفَ بِالتَّكْفِيرِ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ مِنْ الْحَلِفِ دَلِيلٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ بَعْدَ الْفَصْلِ الِاخْتِيَارِيِّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَثْنَى مَنْوِيَّ الْخُرُوجِ قَبْلَ الْفَرَاغِ مِنْ الْيَمِينِ، بَلْ لَوْ طَرَأَتْ نِيَّتُهُ بَعْدَ تَمَامِ الْيَمِينِ وَاتَّصَلَتْ بِاللَّفْظِ نَفَعَتْ عَلَى الْمَشْهُورِ، بِخِلَافِ الْمُحَاشَاةِ فَيُشْتَرَطُ تَقَدُّمُ نِيَّتِهَا قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ فِي الْمُحَاشَاةِ لَا بُدَّ أَنْ تَسْبِقَ النِّيَّةُ لَفْظَهُ بِالْحَلِفِ، وَأَمَّا فِي الِاسْتِثْنَاءِ فَتَنْفَعُهُ النِّيَّةُ الْوَالِيَةُ لِتَمَامِ الْحَلِفِ، وَلَوْ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ لَا يَضُرُّ الْفَصْلُ الِاضْطِرَارِيُّ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الِاسْتِثْنَاءِ وَالْمُحَاشَاةِ أَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّلَفُّظِ، وَأَمَّا الْمُحَاشَاةُ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى التَّلَفُّظِ بِمَا نَوَى إخْرَاجَهُ، فَلِذَا اشْتَرَطَ تَقَدُّمَ نِيَّةَ إخْرَاجِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْيَمِينِ، فَإِذَا قَالَ الْحَلَالُ عَلَيْهِ حَرَامٌ بَعْدَ إخْرَاجِ الزَّوْجَةِ مِنْ الْحَلَالِ بِنِيَّتِهِ لَمْ تُطْلَقْ عَلَيْهِ وَتُفِيدُهُ نِيَّتُهُ. وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْحَلِفِ بِالْحَلَالِ عَلَيْهِ حَرَامٌ وَفَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَكِنْ يَحْلِفُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ الْمُحَاشَاةِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُشْتَرَطْ التَّلَفُّظُ بِمَا حَاشَاهُ وَأَخْرَجَهُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا أَخْرَجَهُ ابْتِدَاءً لَمْ يَدْخُلْ فِي لَفْظِ الْحَلَالِ حَتَّى يَحْتَاجَ إلَى إخْرَاجِهِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُحَاشَاةَ تُخَالِفُ الِاسْتِثْنَاءَ فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: اشْتِرَاطُ التَّلَفُّظِ بِالْمُسْتَثْنَى فِي الِاسْتِثْنَاءِ فِي نَحْوِ قَوْلِك: قَامَ الْقَوْمُ إلَّا زَيْدًا بِخِلَافِ الْمُحَاشَاةِ. وَالثَّانِي: عَدَمُ اشْتِرَاطِ نِيَّةِ إخْرَاجِهِ قَبْلَ التَّلَفُّظِ بِالْمُسْتَثْنَى مِنْهُ، فَالْمُحَاشَاةُ مِنْ بَابِ الْعَامِّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصُ وَالِاسْتِثْنَاءُ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ، وَإِيضَاحُ الْفَرْقِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ الْخُصُوصَ يُسْتَعْمَلُ اللَّفْظُ الْعَامُّ مُرَادًا بِهِ بَعْضَ أَفْرَادِهِ مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ، فَعُمُومُهُ لَمْ يُرَدْ تَنَاوُلًا، وَلَا حُكْمًا، بَلْ لَفْظُ الْكُلِّيِّ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْضِ جُزْئِيَّاتِهِ، بِخِلَافِ الْعَامِّ الْمَخْصُوصِ عُمُومُهُ مُرَادٌ تَنَاوُلًا أَيْ لَفْظًا لَا حَقِيقَةً بِدَلِيلِ الِاسْتِثْنَاءِ، فَالْحَلَالُ مِنْ قَوْلِ الْحَالِفِ الْحَلَالُ عَلَيْهِ حَرَامٌ مُحَاشِيًا الزَّوْجَةَ مُسْتَعْمَلٌ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ، فَاللَّفْظُ الْعَامُّ فِي الْمُحَاشَاةِ مِنْ قَبِيلِ الْمَجَازِ، وَفِي الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْحَقِيقَةِ فَافْهَمْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ إفَادَةِ الِاسْتِثْنَاءِ بِإِنْ شَاءَ اللَّهُ مَا لَمْ تَكُنْ الْيَمِينُ فِي وَثِيقَةِ حَقٍّ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْكَافِي: الِاسْتِثْنَاءُ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 يَحْلِفَ لَيَفْعَلَنَّ، وَيَمِينَانِ لَا تُكَفَّرَانِ إحْدَاهُمَا لَغْوُ الْيَمِينِ وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ كَذَلِكَ فِي يَقِينِهِ ثُمَّ يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ   [الفواكه الدواني] وَثِيقَةِ الْحَقِّ لَا يَنْفَعُ، وَلَوْ جَهَرَ بِهِ. وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ نِيَّةَ الْحَالِفِ لَا تُعْتَبَرُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ الْمُحَلِّفِ نِيَّةٌ تُخَالِفُهَا، وَهُوَ وَاضِحٌ لِاشْتِرَاطِ التَّلَفُّظِ بِصِيغَةِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَأَمَّا الْمُحَاشَاةُ فَوَقَعَ خِلَافٌ فِي إفَادَتِهَا، إذَا كَانَتْ الْيَمِينُ فِي وَثِيقَةِ حَقٍّ فَقِيلَ تَنْفَعُ وَقِيلَ لَا تَنْفَعُ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ فِي شَامِلِهِ أَنَّ الْأَصَحَّ عَدَمُ إفَادَتِهَا. الثَّانِي: وَقَعَ خِلَافٌ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، هَلْ هُوَ رَافِعٌ لِلْكَفَّارَةِ أَوْ حَلٌّ لِلْيَمِينِ؟ وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَنْ حَلَفَ وَاسْتَثْنَى ثُمَّ حَلَفَ أَنَّهُ لَمْ يَحْلِفْ أَوْ حَلَفَ لَا يَحْلِفُ وَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى، فَإِنَّهُ يَحْنَثُ فِيهِمَا عَلَى الْأَوَّلِ لَا الثَّانِي، بِخِلَافِ لَوْ حَلَفَ لَا يُكَفِّرُ فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ، هَكَذَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعِنْدِي وَقْفَةٌ فِي قَوْلِهِمْ أَنَّهُ لَا يَحْنَثُ عَلَى الثَّانِي إذَا حَلَفَ لَا يَحْلِفُ فَحَلَفَ وَاسْتَثْنَى إذْ قَدْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ انْحَلَّ بِالِاسْتِثْنَاءِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَسْتَثْنِ لَحَنِثَ؟ فَتَأَمَّلْهُ مُنْصِفًا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُكَفَّرُ مِنْ الْأَيْمَانِ، وَمَا لَا يُكَفَّرُ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَيْمَانُ بِاَللَّهِ) أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ (أَرْبَعَةٌ) وَفِي نُسْخَةٍ أَرْبَعٌ، وَكُلٌّ صَحِيحٌ لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ، بِخِلَافِ لَوْ ذُكِرَ لَوَجَبَ حَذْفُهَا؛ لِأَنَّ الْمَعْدُودَ مُؤَنَّثٌ، وَهُوَ الْيَمِينُ، وَإِنْ أَرَدْت تَفْصِيلَهَا. (فَيَمِينَانِ تُكَفَّرَانِ) بِالتَّاءِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُؤَنَّثَةٌ وَالتَّاءُ تَلْزَمُ الْمُضَارِعَ الْمُسْنَدَ إلَى الْمُؤَنَّثِ الْحَقِيقِيِّ الْغَائِبِ الْمُظْهَرِ وَالْمُضْمَرِ الْمُفْرَدِ وَغَيْرِهِ مِنْ مُثَنًّى وَجَمْعٍ. (وَهُوَ) أَيْ أَحَدُ الْيَمِينَيْنِ الْيَمِينُ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ. (أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا) أَيْ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ لَا فَعَلْت كَذَا، فَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ لَهَا صِيغَتَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ بِأَنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت ثُمَّ يَفْعَلُ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْكَفَّارَةُ، فَإِنْ نَافِيَةٌ إنْ لَمْ يُذْكَرْ لَهَا جَوَابٌ، وَشَرْطِيَّةٌ إنْ ذُكِرَ لَهَا جَوَابٌ نَحْوَ: وَاَللَّهِ إنْ فَعَلْت كَذَا مَا جَلَسْت فِي الدَّارِ، أَوْ: وَاَللَّهِ إنْ قَامَ زَيْدٌ مَا قُمْت. (أَوْ) أَيْ وَالثَّانِي مِنْهُمَا (يَحْلِفُ) بِاَللَّهِ (لَيَفْعَلَنَّ) كَذَا أَوْ إنْ لَمْ أَفْعَلْ، وَلَمْ يُؤَجِّلْ، وَهِيَ الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى حِنْثٍ لَهَا صِيغَتَانِ أَيْضًا كَصِيغَتَيْ الْبِرِّ فَالْيَمِينَانِ اللَّذَانِ تُكَفَّرَانِ هُمَا يَمِينُ الْبِرِّ وَيَمِينُ الْحِنْثِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفِي النَّذْرِ الْمُبْهَمِ وَالْيَمِينِ وَالْكَفَّارَةِ وَالْمُنْعَقِدَةِ عَلَى بِرٍّ بِأَنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت، أَوْ حَنِثَ بِلَأَفْعَلَنَّ، أَوْ: إنْ لَمْ أَفْعَلْ إنْ لَمْ يُؤَجِّلْ إطْعَامَ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلٍّ مَدٌّ. وَأَمَّا لَوْ أَجَّلَ بِأَنْ قَالَ: بِاَللَّهِ أَوْ وَاَللَّهِ لَا أُكَلِّمَنَّ زَيْدًا فِي هَذَا الشَّهْرِ مَثَلًا، أَوْ إنْ لَمْ أُكَلِّمْهُ، فَإِنَّهُ يَكُونُ عَلَى بِرٍّ، وَلَا يَحْنَثُ إلَّا بِمُضِيِّ الْأَجَلِ، وَلَمْ يَفْعَلْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ مَنَعَهُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ تَرَكَهُ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ أَوْ عَادِيٍّ لَا عَقْلِيٍّ، مِثَالُ الْمَانِعِ الشَّرْعِيِّ: حَيْضُ مَنْ حَلَفَ لَيَطَأَنَّهَا فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ أَوْ الْيَوْمِ، وَمِثَالُ الْمَانِعِ الْعَادِيِّ سَرِقَةُ مَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَثَلًا، وَمِثَالُ الْمَانِعِ الْعَقْلِيِّ مَوْتُ مَا حَلَفَ لَيَذْبَحَنَّهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَثَلًا، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إنْ بَادَرَهُ إلَى فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُفَرِّطْ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ بِحَيْثُ تَمَكَّنَ مِنْ الْفِعْلِ وَتَرَاخَى حَتَّى تَعَذَّرَ فِعْلُهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ بِالْعَقْلِيِّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَنِثَ إنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ، وَلَا بِسَاطٌ بِفَوْتِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ، وَلَوْ لِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ لَا بِكَمَوْتِ حَمَامٍ فِي لَيَذْبَحَنَّهُ، فَلَوْ تَجَرَّأَ وَوَطِئَ الْحَائِضَ فَفِي بِرِّهِ قَوْلَانِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ إذَا أَقَّتَ أَوْ لَمْ يُؤَقِّتْ وَبَادَرَ، وَأَمَّا لَوْ فَرَّطَ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، وَلَوْ بِالْعَقْلِيِّ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: لَكِنَّ الشَّرْعِيَّ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ سَابِقًا عَلَى الْيَمِينِ، بِخِلَافِ الْعَادِيِّ وَالْعَقْلِيِّ فَلَا يَحْنَثُ بِهِمَا إلَّا إذَا طَرَأَ عَلَى الْيَمِينِ، لَكِنَّ الْعَادِيَّ يَحْنَثُ بِهِ، وَلَوْ بَادَرَ سَوَاءٌ أَقَّتَ أَمْ لَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَقْلِيًّا. فَإِنَّمَا يَحْنَثُ بِهِ إذَا لَمْ يُؤَقِّتْ وَفَرَّطَ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَانِعُ الْعَقْلِيُّ الْحَاصِلُ بَعْدَ الْيَمِينِ لَا يَحْنَثُ بِهِ حَيْثُ بَادَرَ بَعْدَ الْحَلِفِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ، وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَسُمِّيَتْ الْأُولَى يَمِينُ بِرٍّ؛ لِأَنَّ مَنْ حَلَفَ لَا يَفْعَلُ كَذَا عَلَى بِرٍّ حَتَّى يَفْعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ اخْتِيَارًا. وَالثَّانِيَةُ تُسَمَّى يَمِينُ حِنْثٍ؛ لِأَنَّ الْحَالِفَ لَيَفْعَلَنَّ أَوْ إنْ لَمْ يَفْعَلْ كَذَا عَلَى حِنْثٍ، وَلَا يَبَرُّ إلَّا بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، فَإِذَا حَلَفَ: لَيُكَلِّمَنَّ زَيْدًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَلَمْ يُكَلِّمْهُ فِيهِ لِمَانِعٍ حَصَلَ أَوْ عَزَمَ عَلَى عَدَمِ كَلَامِهِ حَنِثَ. . (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْحِنْثَ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ بِاخْتِيَارِهِ لَا مَعَ الْإِكْرَاهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْإِكْرَاهُ شَرْعِيًّا، كَوَاللَّهِ لَا أَدْخُلُ الْحَبْسَ فَيُحْبَسُ لِغَرِيمِهِ أَوْ زَوْجَتِهِ، وَلَا يُعْذَرُ عِنْدَنَا بِالنِّسْيَانِ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ، وَلَا الْغَلَطِ، وَلَا الْجَهْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالنِّسْيَانِ إنْ أَطْلَقَ، وَأَمَّا فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَيَحْصُلُ بِتَعَذُّرِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَالْمَانِعُ عَادِيٌّ، وَلَوْ بَادَرَ أَوْ عَقْلِيٌّ لَكِنْ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ كَشَرْعِيٍّ، وَلَوْ كَانَ سَابِقًا مِنْ الْيَمِينِ. الثَّانِي: قَدَّمْنَا أَنْ فِي صِيغَةِ الْبِرِّ كَشَرْطِيَّةِ إنْ ذُكِرَ لَهَا جَوَابٌ، وَإِلَّا كَانَتْ نَافِيَةً لَهَا، بِخِلَافِهَا فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَهِيَ شَرْطِيَّةٌ دَائِمًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُذْكَرْ مَعَهَا يَكُونُ مُقَدَّرًا، فَإِذَا قَالَ: وَاَللَّهِ إنْ لَمْ أَدْخُلْ الدَّارَ مَثَلًا، فَتَقْدِيرُ الْجَوَابِ: يَلْزَمُنِي الْكَفَّارَةُ. وَأَشَارَ إلَى بَقِيَّةِ الْأَيْمَانِ الْأَرْبَعِ بِقَوْلِهِ: (وَيَمِينَانِ لَا تُكَفَّرَانِ أَحَدُهُمَا) الْأَوَّلُ إحْدَاهُمَا؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ مُؤَنَّثَةٌ إلَّا أَنْ يُقَالَ ذُكِرَ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُمَا فَرْدَانِ. (لَغْوُ الْيَمِينِ) أَيْ الْيَمِينُ اللَّغْوُ (وَهُوَ أَنْ يَحْلِفَ) الْمُكَلَّفُ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ أَوْ بِنَذْرٍ مُبْهَمٌ (عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ) أَيْ يَتَيَقَّنُهُ (كَذَا) مُعْتَمِدًا عَلَى مَا (فِي يَقِينِهِ ثُمَّ) بَعْدَ الْحَلِفِ (يَتَبَيَّنُ لَهُ خِلَافُهُ) أَيْ خِلَافُ مَا كَانَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ، وَلَا إثْمَ وَالْأُخْرَى الْحَالِفُ مُتَعَمِّدًا لِلْكَذِبِ أَوْ شَاكًّا فَهُوَ آثِمٌ وَلَا تُكَفِّرُ ذَلِكَ الْكَفَّارَةُ وَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. وَالْكَفَّارَةُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مُدًّا لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ   [الفواكه الدواني] يَعْتَقِدُهُ. (فَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مُنْعَقِدَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا كَفَّارَةَ فِيهِ: وَلَا لَغْوَ عَلَى مَا يَعْتَقِدُهُ، فَظَهَرَ نَفْيُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} [البقرة: 225] فَمَنْ اعْتَقَدَ عَدَمَ مَجِيءِ زَيْدٍ فَحَلَفَ بِاَللَّهِ مَا جَاءَ ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَاءَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ حِينَ الْحَلِفِ قَادِرًا عَلَى الْكَشْفِ وَعَلِمَ مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا حَمَلْنَا الْحَلِفَ عَلَى الْحَلِفِ بِاَللَّهِ أَوْ صِفَتِهِ أَوْ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ؛ لِأَنَّ اللَّغْوَ لَا يُفِيدُ فِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ نَذْرٍ غَيْرِ مُبْهَمٍ، وَفَسَّرْنَا الظَّنَّ فِي كَلَامِهِ بِالْيَقِينِ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الظَّنِّ غَيْرِ الْقَوِيِّ، أَوْ عَلَى الشَّكِّ مِنْ قَبِيلِ الْغَمُوسِ كَمَا يَأْتِي. وَاعْلَمْ أَنَّ شَرْطَ عَدَمِ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ فِي لَغْوِ الْيَمِينِ يُعَلِّقُهَا بِالْمَاضِي أَوْ الْحَالِ لَا بِالْمُسْتَقْبَلِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ (وَ) الْيَمِينُ (الْآخَرُ) الْأَوْلَى الْأُخْرَى مِمَّا لَا يُكَفَّرُ الْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ (الْحَالِفُ مُتَعَمِّدًا الْكَذِبَ أَوْ شَاكًّا) فِيمَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ أَنَّهُ مَا نَظَرَ زَيْدًا فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ عَالِمٌ بِأَنَّهُ نَظَرَهُ أَوْ شَاكٌّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَمُوسٌ بِأَنْ شَكَّ أَوْ ظَنَّ وَحَلَفَ بِلَا تَبَيُّنٍ صَدَقَ بِأَنْ تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى خِلَافِ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَتَبَيَّنْ شَيْءٌ، وَأَمَّا لَوْ تَبَيَّنَ لَهُ صِدْقُ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ غَمُوسًا فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلَمَّا كَانَ الْحَلِفُ عَلَى غَيْرِ يَقِينٍ حَرَامًا قَالَ: (فَهُوَ) أَيْ الْحَالِفُ عَلَى شَكٍّ أَوْ مُتَعَمِّدِ الْكَذِبِ (آثِمٌ) إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُهُ (وَلَا يُكَفِّرُ ذَلِكَ) الْإِثْمَ (الْكَفَّارَةُ) فَاعِلُ يُكَفِّرُ لِعِظَمِ أَمْرِهَا وَعَدَمِ انْعِقَادِهَا. قَالَ ابْنُ يُونُسَ: الْغَمُوسُ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفِّرَهُ الْكَفَّارَةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلا} [آل عمران: 77] الْآيَةَ، وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ اقْتَطَعَ مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِيَمِينِهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَأَوْجَبَ لَهُ النَّارَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَإِنْ بِشَيْءٍ يَسِيرٍ؟ قَالَ وَإِنْ سِوَاكًا» . رَوَاهُ الْحَاكِمُ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مَالِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِغَيْرِ حَقِّهِ لَقِيَ اللَّهَ، وَهُوَ عَلَيْهِ غَضْبَانُ» الْحَدِيثَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ: وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ تَدَعُ الدِّيَارَ بَلَاقِعَ أَيْ خَالِيَةً. (وَلْيَتُبْ) وُجُوبًا الْحَالِفُ يَمِينَ الْغَمُوسِ (مِنْ ذَلِكَ) الْحَلِفِ (إلَى رَبِّهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -) ؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ الْغَمُوسَ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالتَّوْبَةُ وَاجِبَةٌ مِنْهَا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَتَقَرَّبَ إلَى خَالِقِهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صِيَامٍ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ غَمُوسًا لِغَمْسِهَا صَاحِبِهَا فِي الْإِثْمِ أَوْ فِي النَّارِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَحَلَّ إثْمِ الْحَالِفِ عَلَى ظَنٍّ أَوْ شَكٍّ إذْ لَمْ يَتَبَيَّنْ صِدْقُهُ، وَإِلَّا فَلَا إثْمَ. قَالَ مَالِكٌ:، وَمَنْ قَالَ: وَاَللَّهِ مَا لَقِيتُ فُلَانًا أَمْسِ، وَهُوَ لَا يَدْرِي أَلَقِيَهُ أَمْ لَا ثُمَّ عَلِمَ بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّهُ كَمَا حَلَفَ بَرَّ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَ ذَلِكَ أَثِمَ، وَكَانَ كَتَعَمُّدِ الْكَذِبِ، وَهِيَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تُكَفَّرَ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْإِمَامِ بَرَّ أَنَّهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الثَّانِي: مَحَلُّ كَوْنِ الظَّنِّ كَالشَّكِّ مَا لَمْ يَكُنْ قَوِيًّا، وَإِلَّا فَلَا يَكُونُ غَمُوسًا، وَلَا إثْمَ عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَاعْتَمَدَ الْبَابُ عَلَى ظَنٍّ قَوِيٍّ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا إذَا أَطْلَقَ فِي يَمِينِهِ، وَأَمَّا إنْ قَيَّدَهَا بِأَنْ يَقُولَ فِي ظَنِّيِّ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: ظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ الْيَمِينَ اللَّغْوَ وَالْغَمُوسَ لَا كَفَّارَةَ فِيهِمَا مُطْلَقًا، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ فِي الْمَسْأَلَةِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالْمَاضِي لَا كَفَّارَةَ فِيهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا إمَّا لَغْوٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ صَادِقَةٌ، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِالْمُسْتَقْبَلِ تُكَفَّرُ، وَلَوْ لَغْوًا أَوْ غَمُوسًا، وَإِنْ تَعَلَّقَتْ الْيَمِينُ بِالْحَالِ لَمْ تُكَفَّرْ إنْ كَانَتْ لَغْوًا. وَفِي تَكْفِيرِ الْغَمُوسِ إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ خِلَافٌ، فَمُقْتَضَى كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ أَكْثَرِ الشُّيُوخِ مَا يُفِيدُ عَدَمَ تَعَلُّقِهَا بِهِ، وَفَائِدَةُ عَدَمِ التَّعَلُّقِ التَّكْفِيرُ. قَالَ جَمِيعَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ وَنَظَمَهُ بِقَوْلِهِ: كَفِّرْ غَمُوسًا بِلَا مَاضٍ تَكُونُ كَذَا ... لَغْوٌ بِمُسْتَقْبَلٍ لَا غَيْرُ فَامْتَثِلَا (فَإِنْ قِيلَ) الْمُنْعَقِدَةُ عَلَى بِرٍّ بِإِنْ فَعَلْت أَوْ لَا فَعَلْت مَاضٍ، وَالْيَمِينُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالْمَاضِي قُلْتُمْ لَا كَفَّارَةَ فِيهَا مُطْلَقًا؛ لِأَنَّهَا إمَّا صَادِقَةٌ أَوْ غَمُوسٌ أَوْ لَغْوٌ فَمَا الْجَوَابُ؟ . (وَالْجَوَابُ) أَنْ يُقَالَ: الْحَلِفُ مِنْ بَابِ الْإِنْشَاءِ فَفِعْلٌ، وَإِنْ كَانَ مَاضِيًا إنْشَاءً فَهُوَ مُسْتَقْبَلٌ، وَالْكَفَّارَةُ تَتَعَلَّقُ بِالْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا سِيَّمَا إنْ جُعِلَتْ إنْ شَرْطِيَّةً بِذِكْرِ الْجَوَابِ، وَالشَّرْطُ لَا يَكُونُ إلَّا مُسْتَقْبَلًا، وَإِنْ جُعِلَتْ نَافِيَةً الصَّارِفُ لَهَا إلَى الِاسْتِقْبَالِ الْحَلِفُ؛ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ، وَقَدْ جَعَلَ النُّحَاةُ مِنْ صَوَارِفِ الْمَاضِي إلَى الِاسْتِقْبَالِ الْإِنْشَاءَ، فَإِذَا قَالَ الْحَالِفُ: وَاَللَّهِ لَا كَلَّمْت فُلَانًا، فَمَعْنَاهُ لَأَتْرُكَنَّ كَلَامَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَإِذَا قَالَ لِزَوْجَتِهِ: وَاَللَّهِ لَا دَخَلْت الدَّارَ، فَمَعْنَاهُ اُتْرُكِي دُخُولَهَا، وَهَكَذَا. هَذَا إيضَاحُ مَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ. وَأَقُولُ: الْأَحْسَنُ فِي الْجَوَابِ أَنْ يُقَالَ الْمَشْرُوطُ كَوْنُهُ مُسْتَقْبَلًا مُتَعَلِّقُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 لَوْ زَادَ عَلَى الْمُدِّ مِثْلَ ثُلُثِ مُدٍّ أَوْ نِصْفِ مُدٍّ. وَذَلِكَ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ مِنْ وَسَطِ عَيْشِهِمْ فِي غَلَاءٍ أَوْ رُخْصٍ، وَمَنْ أَخْرَجَ مُدًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ أَجْزَأَهُ. وَإِنْ كَسَاهُمْ كَسَاهُمْ لِلرَّجُلِ قَمِيصٌ وَلِلْمَرْأَةِ قَمِيصٌ وَخِمَارٌ. أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ ذَلِكَ وَلَا   [الفواكه الدواني] الْيَمِينِ، وَهُوَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ، فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ يَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لَا مَا وَقَعَ فِي الْمَاضِي، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي صِيغَةِ الْيَمِينِ إذْ قَدْ يَكُونُ لَفْظُهَا مَاضِيًا، وَمُتَعَلِّقُهَا وَقَعَ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَافْهَمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْكَفَّارَةُ) اللَّازِمَةُ بِالْحِنْثِ أَوْ بِنَذْرِهَا أَرْبَعَةُ أَنْوَاعٍ: ثَلَاثَةٌ عَلَى التَّخْيِيرِ، وَهِيَ الْإِطْعَامُ وَالْكِسْوَةُ وَالْعِتْقُ، وَالرَّابِعُ مُرَتَّبٌ لَا يَنْتَقِلُ إلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْعَجْزِ عَنْ الثَّلَاثِ، وَهُوَ الصَّوْمُ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ ابْتِدَاءً مُرَتَّبَةٌ انْتِهَاءً وَأَفْضَلُهَا أَوَّلُهَا، وَجُزْءُ الْكَفَّارَةِ (إطْعَامُ) أَيْ تَمْلِيكُ الْمُكَفِّرِ أَوْ نَائِبِهِ بِإِذْنِهِ (عَشَرَةَ مَسَاكِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مُدًّا) مَفْعُولُ إطْعَامِ الثَّانِي (لِكُلِّ مِسْكِينٍ بِمُدِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) ، وَهُوَ رَطْلٌ وَثُلُثٌ بِالْبَغْدَادِيِّ، وَمِقْدَارُهُ بِالْكَيْلِ حَفْنَتَانِ بِكَفَّيْ الرَّجُلِ الَّذِي لَيْسَ بِعَظِيمِ الْكَفَّيْنِ، وَلَا صَغِيرِهِمَا، وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمُتَوَسِّطِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَمْسَةُ شُرُوطٍ الْعَدَدُ، فَلَا يُجْزِئُ دَفْعُهَا لِأَقَلَّ مِنْ عَشَرَةٍ لَا دَفْعُ أَقَلَّ مِنْ مُدٍّ إلَّا أَنْ يُكْمِلَ الْعَدَدَ فِي الْأَوَّلِ، وَالْمُدَّ فِي الثَّانِي، وَلَا لِغِنًى، وَلَا رُجُوعَ عَلَيْهِ بِهِ إنْ دَفَعَهُ لَهُ مَعَ عِلْمِهِ بِغِنَاهُ إذَا اسْتَهْلَكَهُ؛ لِأَنَّهُ الْمُسَلَّطُ لَهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا بِغِنَاهُ رَجَعَ عَلَيْهِ بِهِ إنْ كَانَ بَاقِيًا، فَإِنْ فَاتَ رَجَعَ عَلَيْهِ إنْ غَرَّهُ بِأَنْ أَوْهَمَهُ أَنَّهُ مِسْكِينٌ، وَإِنْ لَمْ يَغُرَّهُ فَقِيلَ يُجْزِئُهُ وَقِيلَ لَا يُجْزِئُهُ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ، وَعَلَى الْإِجْزَاءِ فَيَلْزَمُ الْآخِذَ دَفْعُ مَا أَخَذَهُ لِلْمَسَاكِينِ، وَعَلَى عَدَمِ الْإِجْزَاءِ يَلْزَمُ الْمُكَفِّرَ دَفْعُهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَهَلْ لَهُ رُجُوعٌ عَلَى الْمَدْفُوعِ لَهُ أَوْ لَا؟ . قَوْلَانِ، وَلَا تُدْفَعُ لِفُقَرَاءِ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا لِلْأَرِقَّاءِ لِغِنَائِهِمْ بِالسَّادَاتِ، وَزِيدَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنْ لَا يَكُونَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ مِمَّنْ يَلْزَمُ الْمُكَفِّرَ نَفَقَتُهُ، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا لَهُ كَالزَّكَاةِ. (وَأَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ (أَنْ لَوْ زَادَ) الْمُكَفِّرُ (عَلَى الْمُدِّ) وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ بِالِاجْتِهَادِ عِنْدَ مَالِكٍ وَعِنْدَ أَشْهَبَ تَحْدِيدُهَا بِكَوْنِهَا (مِثْلَ ثُلُثِ مُدٍّ) وَحَدَّهَا ابْنُ وَهْبٍ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ نِصْفِ مُدٍّ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ زِيَادَةُ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ، وَأَمَّا الْمَدِينَةُ فَلَا تُنْدَبُ الزِّيَادَةُ لِقَنَاعَةِ أَهْلِهَا وَقِلَّةِ الْأَقْوَاتِ بِهَا، وَمُقْتَضَى التَّعْلِيلِ مُسَاوَاةُ مَكَّةَ لِلْمَدِينَةِ فِي عَدَمِ الزِّيَادَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ الْمُخْرَجَ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) أَيْ الْمُخْرَجُ فِي الْكَفَّارَةِ يَكُونُ (بِقَدْرِ) أَيْ بِحَسَبِ (مَا يَكُونُ مِنْ وَسَطِ عَيْشِهِمْ) أَيْ الْمُكَفِّرِينَ فَلَا يُخْرِجُ أَدْنَى مِنْ الْوَسَطِ (فِي غَلَاءٍ أَوْ) أَيْ، وَلَا يُكَلَّفُ أَعْلَى لِأَجْلِ (رُخْصٍ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وَالْمُرَادُ بِوَسَطِ عَيْشِهِمْ الْحَبُّ الْمُعْتَادُ غَالِبًا، فَتَخْرُجُ الْكَفَّارَةُ مِمَّا تَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ، وَالْمُعْتَبَرُ عَيْشُ أَهْلِ الْبَلَدِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَمُقَابِلُهُ اعْتِبَارُ عَيْشِ الْمُكَفِّرِ، وَهُوَ لِابْنِ حَبِيبٍ وَفِي كِتَابِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَيْضًا: وَيَدُلُّ عَلَيْهِ لَفْظُ أَهْلِ؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْبَلَدِ لَا يُقَالُ لَهُمْ أَهْلُ زَيْدٍ مَثَلًا، وَاَلَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ صَدَقَةُ الْفِطْرِ الْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ وَالْأُرْزُ وَالدُّخْنُ وَالذُّرَةُ وَالتَّمْرُ وَالزَّبِيبُ وَالْأَقِطُ تِسْعَةُ أَنْوَاعٍ، فَلَا تَخْرُجُ الْكَفَّارَةُ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ مَعَ وُجُودِ وَاحِدٍ مِنْهَا، أَمَّا إذَا عُدِمَتْ التِّسْعَةُ فَيَجُوزُ إخْرَاجُهَا مِنْ غَالِبِ الْمُقْتَاتِ، وَلَوْ لَبَنًا أَوْ لَحْمًا. (تَنْبِيهٌ) يَقُومُ مَقَامَ الْمُدِّ شَيْئَانِ عَلَى سَبِيلِ الْبَدَلِيَّةِ، أَحَدُهُمَا رَطْلَانِ مِنْ الْخُبْزِ بِالرَّطْلِ الْبَغْدَادِيِّ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْإِدَامِ لَحْمٍ أَوْ لَبَنٍ أَوْ زَيْتٍ أَوْ قُطْنِيَّةٍ أَوْ بَقْلٍ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَثَانِيهِمَا إشْبَاعُ الْعَشَرَةِ مَرَّتَيْنِ كَغَدَاءٍ وَعَشَاءٍ أَوْ غَدَاءَيْنِ أَوْ عَشَاءَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَوْفِ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ الْمُدِّ وَسَوَاءٌ كَانُوا مُجْتَمَعِينَ أَوْ مُتَفَرِّقِينَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْكَفَّارَةُ إطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ لِكُلِّ مُدٍّ، وَنُدِبَ بِغَيْرِ الْمَدِينَةِ زِيَادَةُ ثُلُثِهِ أَوْ نِصْفِهِ أَوْ رَطْلَانِ خُبْزٍ بِإِدَامٍ كَشِبَعِهِمْ أَوْ كِسْوَتِهِمْ الرَّجُلَ ثَوْبًا وَالْمَرْأَةَ دِرْعًا وَخِمَارًا، وَلَوْ غَيْرَ وَسَطِ أَهْلِهِ، وَالرَّضِيعُ كَالْكَبِيرِ فِيهِمَا، أَوْ عِتْقُ رَقَبَةٍ كَالظِّهَارِ، ثُمَّ صَوْمُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةٌ، وَلَا مُكَرَّرٌ، وَلِمِسْكِينٍ، وَلَا نَاقِصٌ كَعِشْرِينَ لِكُلٍّ نِصْفٌ إلَّا أَنْ يُكْمِلَ، وَهَلْ إنْ بَقِيَ تَأْوِيلَانِ، وَلَهُ نَزْعُهُ إنْ بَيَّنَ بِالْقُرْعَةِ وَقَوْلُهُ: (وَإِنْ أَخْرَجَ) مَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ (مُدًّا عَلَى كُلِّ حَالٍ) أَيْ، وَلَوْ فِي زَمَنِ الرُّخْصِ (أَجْزَأَهُ) ، وَلَوْ فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ مَحْضُ تَكْرَارٍ. وَلَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةُ الْيَمِينِ مُخَيَّرَةً ابْتِدَاءً بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ وَقَدَّمَ وَاحِدًا مِنْهَا ذَكَرَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَسَاهُمْ) أَيْ الْعَشَرَةِ مَسَاكِينَ الْمَذْكُورِينَ وَالْمُرَادُ أَرَادَ كِسْوَتَهُمْ (كَسَاهُمْ لِلرَّجُلِ قَمِيصٌ) أَوْ إزَارٌ تَحِلُّ بِهِ الصَّلَاةُ عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ (وَلِلْمَرْأَةِ دِرْعٌ) أَيْ قَمِيصٌ (وَخِمَارٌ) ، وَلَوْ مِنْ غَيْرِ وَسَطِ كِسْوَةِ أَهْلِهِ، وَلَوْ عَتِيقًا وَالْمُرَادُ بِالرَّجُلِ الذَّكَرُ وَبِالْمَرْأَةِ الْأُنْثَى؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ فِي إعْطَاءِ الْكِسْوَةِ وَالْأَمْدَادِ وَالْأَرْطَالِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي إعْطَاءِ الْأَمْدَادِ وَالْأَرْطَالِ أَنْ يَكُونَ الصَّغِيرُ يَأْكُلُ الطَّعَامَ، وَلَوْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْطَى مِثْلُ الْكَبِيرِ، وَأَمَّا فِي الْغَدَاءِ وَالْعَشَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ اسْتِغْنَائِهِ عَنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ لَمْ يُسَاوِ الْكَبِيرَ فِي الْأَكْلِ وَفِي الْكِسْوَةِ يُعْطَى كِسْوَةَ كَبِيرٍ مِنْ أَوْسَاطِ الرِّجَالِ، وَلَوْ كَانَ رَضِيعًا. وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمُخَيَّرِ فِيهَا الْمُكَفِّرُ الْحُرُّ بِقَوْلِهِ: (أَوْ عِتْقٌ) بِالرَّفْعِ لِعَطْفِهِ عَلَى إطْعَامٌ، وَهُوَ مُضَافٌ إلَى (رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) سَلِيمَةٍ مِنْ بَيْنِ عَيْبٍ يَمْنَعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 إطْعَامًا فَلْيَصُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ يُتَابِعُهُنَّ فَإِنْ فَرَّقَهُنَّ أَجْزَأَهُ. وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَبَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا. ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ   [الفواكه الدواني] الْكَسْبَ كَعَمًى وَجُنُونٍ، وَهَرَمٍ وَعَرَجٍ شَدِيدَيْنِ لَا مَا خَفَّ كَقَطْعِ ظُفُرٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ عَرَجٍ خَفِيفَيْنِ، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا سَلَامَتُهَا مِنْ شَوَائِبِ الْحُرِّيَّةِ، فَلَا يُجْزِئُ عِتْقُ مُكَاتَبٍ، وَلَا مُدَبَّرٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ، كَمَا يُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ مِمَّنْ يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا بَعْدَ الشِّرَاءِ احْتِرَازًا مِمَّنْ تُعْتَقُ بِالشِّرَاءِ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً لَا الرَّقَبَةَ الْمُشْتَرَكَةَ، وَلَا يُشْتَرَطُ كِبَرُهَا لِإِجْزَاءِ الرَّضِيعِ، وَقَوْلُنَا الْمُكَفِّرُ الْحُرُّ لِإِخْرَاجِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ لَهُ سَيِّدُهُ فِي الْإِطْعَامِ فَيُجْزِئُهُ، وَإِنْ كَانَ الصَّوْمُ أَحَبَّ إلَى مَالِكٍ، وَلَا يُجْزِئُهُ الْعِتْقُ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ سَيِّدُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَى مَنْ أَعْتَقَهُ إنَّمَا وَلَاؤُهُ لِسَيِّدِهِ، وَلَا يُعْتَقُ إلَّا مَنْ يَسْتَقِرُّ لَهُ الْوَلَاءُ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْآيَةِ الشَّرِيفَةِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ فِي كَفَّارَةِ الْيَمِينِ إخْرَاجُ دَرَاهِمَ، وَلَا عُرُوضَ، كَمَا لَا يَصِحُّ ذَلِكَ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ بِصِحَّةِ ذَلِكَ، فَيَنْبَغِي لِمَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْإِطْعَامَ قِيمَةُ الطَّعَامِ أَوْ قِيمَةُ الْكِسْوَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْمُخَيَّرِ فِيهِ شَرَعَ فِيمَا يَجِبُ تَرَتُّبُهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنَّ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ (فَإِنْ فَرَّقَهُنَّ أَجْزَأَهُ) فَلَا يَصِحُّ صِيَامٌ مِنْ حُرٍّ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ لِوُجُوبِ التَّرْتِيبِ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الصَّوْمِ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي عَجْزِهِ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْمَوَّازِ أَنْ لَا يَجِدَ إلَّا قُوتَهُ أَوْ كِسْوَتَهُ بِبَلَدٍ لَا يَعْطِفُ عَلَيْهِ فِيهِ وَيَخَافُ الْجُوعَ، وَهَكَذَا يُحْكَى عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْعَجْزُ حَالَ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ كَانَ مَلِيًّا حِينَ الْحَلِفِ أَوْ الْحِنْثِ، فَإِنْ شَرَعَ فِي الصَّوْمِ لِعَجْزِهِ عَنْ أَقَلِّ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ أَيْسَرَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ لِلتَّكْفِيرِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ كَمَالِ الْيَوْمِ الْأَوَّلِ وَقَبْلَ كَمَالِ الثَّالِثِ نُدِبَ لَهُ الرُّجُوعُ لِلتَّكْفِيرِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ إتْيَانِ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ التَّنْوِيعِيَّةِ أَنَّهُ لَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةً، قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تُجْزِئُ مُلَفَّقَةً بِأَنْ يُطْعِمَ خَمْسَةً وَيُكْسِيَ خَمْسَةً مَثَلًا، وَالْكَفَّارَةُ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْخِلَافِ لَكِنْ بَعْدَ الْحِنْثِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ إجْزَائِهَا إنْ أَخْرَجَهَا قَبْلَ الْحِنْثِ قَالَ: (وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ قَبْلَ الْحِنْثِ أَوْ بَعْدَهُ، وَ) لَكِنَّ التَّكْفِيرَ (بَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَأَجْزَأَتْ قَبْلَ حِنْثِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْيَمِينُ يَمِينَ بِرٍّ أَوْ حِنْثٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَلِفُ عَلَى فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ لَكِنْ تَقَيَّدَ يَمِينُ الْحِنْثِ بِأَنْ لَا تَكُونَ مُؤَجَّلَةً فَلَا تُكَفِّرُهَا حَتَّى يَمْضِيَ الْأَجَلُ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَهُ أَنْ يُكَفِّرَ أَنَّ الْيَمِينَ مِمَّا يُمْكِنُ تَكْفِيرُهَا قَبْلَ الْحِنْثِ، وَذَلِكَ فِي الْيَمِينِ بِاَللَّهِ أَوْ بِالْعِتْقِ الْمُعَيَّنِ أَوْ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَنَظِيرُهَا فِي الْإِجْزَاءِ، وَإِنْ لَمْ يُعِدْ تَكْفِيرَ الطَّلَاقِ الْبَالِغِ الْغَايَةِ، وَأَمَّا الْيَمِينُ بِصَدَقَةِ شَيْءٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ بِعِتْقٍ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ بِطَلَاقٍ لَمْ يَبْلُغْ الْغَايَةَ، فَلَا يُجْزِئُ فِعْلُ شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَإِنْ فَعَلَ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ مَا حَلَفَ بِهِ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ غَيْرِهِمَا زِيَادَةً عَلَى مَا عَجَّلَهُ. الثَّانِي: اسْتَشْكَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَبَعْدَ الْحِنْثِ أَحَبُّ إلَيْنَا، مَعَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَتَجِبُ بِالْحِنْثِ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ الْأَحَبِّيَّةِ وَالْوُجُوبِ، إذْ قَدْ تُحْمَلُ الْأَحَبِّيَّةُ عَلَى الْوُجُوبِ، وَذَلِكَ فِي أَمَاكِنَ كَثِيرَةٍ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا، أَوْ أَنَّ الْأَحَبِّيَّةَ مِنْ حَيْثُ كَوْنُ الْإِخْرَاجِ بَعْدَ الْوُجُوبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْإِخْرَاجَ وَاجِبٌ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْإِقْدَامِ عَلَى فِعْلِ مَا يُوجِبُ الْحِنْثَ، وَلَهُ خَمْسَةُ أَحْكَامٍ: الْوُجُوبُ وَذَلِكَ بِأَنْ يَحْلِفَ عَلَى تَرْكِ وَاجِبٍ كَصِلَةِ رَحِمٍ، أَوْ صَلَاةِ فَرْضٍ يَحْلِفُ لَا يَفْعَلُهُ، فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُحْنِثَ نَفْسَهُ خُرُوجًا مِنْ الْمَعْصِيَةِ، وَالنَّدْبُ كَحَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ مَنْدُوبٍ كَصَلَاةِ الضُّحَى أَوْ زِيَارَةِ صَالِحٍ، فَيُسْتَحَبُّ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ بِالْجَوَازِ، كَحَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ مُبَاحٍ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ مَشَقَّةٌ فَيُبَاحُ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَلْحَقْهُ مَشَقَّةٌ بِتَرْكِهِ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ لَهُ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ، وَالْحُرْمَةُ كَأَنْ يَحْلِفَ لَا يَشْرَبُ خَمْرًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْنِيثُ نَفْسِهِ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكَفُّ عَنْهُ، وَيُحْنِثُ نَفْسَهُ عِنْدَ حَلِفِهِ لَيَشْرَبَنَّهُ وَيُكَفِّرُ فَإِنْ تَجَرَّأَ وَشَرِبَهُ أَثِمَ، وَلَا كَفَّارَةَ لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي هَذَا الْقِسْمُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. الرَّابِعُ: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ يَمِينَ الْبِرِّ لَا يَحْنَثُ الْحَالِفُ فِيهَا إلَّا لِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ اخْتِيَارًا، وَلَوْ فَعَلَهُ مَعَ النِّسْيَانِ أَوْ الْجَهْلِ أَوْ الْغَلَطِ أَوْ مُكْرَهًا إكْرَاهًا شَرْعِيًّا لَا إنْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا أَوْ إكْرَاهًا غَيْرَ شَرْعِيٍّ، فَلَا يَحْنَثُ إلَّا أَنْ يَأْمُرَ بِالْإِكْرَاهِ أَوْ يَكُونَ الْمُكْرَهُ هُوَ الْحَالِفَ، كَأَنْ يَحْلِفَ عَلَى غَيْرِهِ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَأَكْرَهَهُ الْحَالِفُ عَلَى فِعْلِهِ، أَوْ يَكُونُ الْحَالِفُ يَعْلَمُ أَنَّ غَيْرَهُ يُكْرِهُهُ عَلَى فِعْلِ مَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ فَإِنَّهُ يَحْنَثُ، رَاجِعْ شَرْحَ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ. وَأَمَّا الْبِرُّ فِي صِيغَةِ الْحِنْثِ فَيَحْصُلُ بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى فِعْلِهِ طَوْعًا، وَأَمَّا لَوْ فَعَلَهُ مُكْرَهًا فَفِي عِتْقِهَا لَا يَبَرُّ، وَتُحْمَلُ يَمِينُهُ عَلَى الطَّوْعِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ نِيَّةَ فِعْلِهِ، وَلَوْ مُكْرَهًا فَيُصَدَّقُ فِي الْفَتْوَى، وَهَذَا فِي حَلِفِهِ عَلَى فِعْلِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَلِفُهُ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهِ كَحَلِفِهِ لَيَقُومَنَّ زَيْدٌ ثُمَّ أَكْرَهَهُ عَلَى الْقِيَامِ فَإِنَّهُ لَا يَبَرُّ، إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ قِيَامٌ طَائِعًا أَوْ مُكْرَهًا فَيَبَرُّ وَتَنْفَعُهُ نِيَّتُهُ فِي الْفَتْوَى فَقَطْ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ يَمِينُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ أَوْ عِتْقٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ نِيَّةٌ لَا يَبَرُّ؛ لِأَنَّ يَمِينَهُ تُحْمَلُ عَلَى قَصْدِ فِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الِاخْتِيَارِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ. وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمَنْ نَذَرَ صَدَقَةَ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ عِتْقَ عَبْدِ غَيْرِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ   [الفواكه الدواني] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ الْأَيْمَانِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّذْرِ وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ عَلَى تَعْرِيفِهِ فِي أَوَّلِ الْبَابِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ) بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ أَوْ صَوْمُ يَوْمٍ أَوْ شَهْرٍ أَوْ زِيَارَةُ صَالِحٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ. (فَلْيُطِعْهُ) وُجُوبًا بِفِعْلِ مَا نَذَرَهُ، وَلَوْ نَذَرَهُ فِي حَالِ غَضَبٍ عَلَى الْمَعْرُوفِ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِنَذْرِ اللَّجَاجِ أَوْ قَصَدَ بِهِ دَفْعَ الضَّرَرِ عَنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ الْمُسَمَّى بِنَذْرِ التَّبَرُّمِ بِالْمِيمِ، كَمَنْ نَذَرَ عِتْقَ عَبْدِهِ لِكَرَاهَةِ إقَامَتِهِ عِنْدَهُ لِكَثْرَةِ أَكْلِهِ مَثَلًا، فَيَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ، وَإِنْ قِيلَ بِكَرَاهَةِ بَعْضِهِ؛ لِأَنَّ فِعْلَ مَا ذُكِرَ قُرْبَةٌ فِي نَفْسِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: النَّذْرُ الْتِزَامُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ، وَلَوْ غَضْبَانَ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَلَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِ إنْ أَسْلَمَ، وَإِنَّمَا يُنْدَبُ لَهُ فَقَطْ، وَكَذَا الصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَلْزَمُهُمَا الْوَفَاءُ بِهِ بَلْ يُسْتَحَبُّ لَهُمَا الْوَفَاءُ إذَا بَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَدَخَلَ فِي الْمُكَلَّفِ السَّكْرَانُ بِحَرَامٍ وَأَمَّا بِغَيْرِهِ فَكَالْمَجْنُونِ، كَمَا تَدْخُلُ الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ حَيْثُ كَانَ نَذَرُهُمَا بِغَيْرِ مَالٍ أَوْ بِهِ، وَلَمْ يَزِدْ عَلَى الثُّلُثِ، كَمَا يَدْخُلُ الرَّقِيقُ سَوَاءٌ نَذَرَ مَالًا أَوْ غَيْرَهُ، لَكِنَّ الْمَالَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ إنْ عَتَقَ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ الْآنَ إلَّا أَنْ يَمْنَعَهُ سَيِّدُهُ لِإِضْرَارِهِ بِهِ فِي عَمَلِهِ حَيْثُ نَذَرَهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ أَوْ بِإِذْنِهِ، وَكَانَ مَضْمُونًا، وَيَدْخُلُ السَّفِيهُ أَيْضًا، وَلَوْ نَذَرَ مَالًا حَيْثُ اسْتَمَرَّ بِيَدِهِ حَتَّى رَشَدَ، وَلَمْ يُبْطِلْهُ عَنْهُ وَلِيُّهُ فِي حَالِ سَفَهِهِ، وَإِلَّا يَسْقُطْ عَنْهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِأَنَّ رَدَّهُ لِفِعْلِهِ إبْطَالٌ، وَالْمُرَادُ بِالطَّاعَةِ فِي كَلَامِهِ كُلُّ مَأْمُورٍ بِهِ غَيْرِ وَاجِبٍ بِالْأَصَالَةِ، فَيَدْخُلُ الْمَنْدُوبُ وَالْمَسْنُونُ، وَلَوْ نَذَرَ بَعْضَ الْعِبَادَةِ كَلِلَّهِ عَلَيَّ بَعْضُ صَلَاةٍ أَوْ رَكْعَةٌ أَوْ صَوْمُ بَعْضِ يَوْمٍ، يَلْزَمُهُ الْإِكْمَالُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ خِلَافًا لِسَحْنُونٍ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَشْمَلُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ بِهِ مَا نُدِبَ، وَلَا يُقَالُ: كَمَا يُتَوَهَّمُ خُرُوجُ السُّنَّةِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ يُتَوَهَّمُ دُخُولُ الْوَاجِبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: إذَا أُطْلِقَ لَفْظُ الطَّاعَةِ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا إلَى الْمَطْلُوبِ عَلَى غَيْرِ جِهَةِ الْفَرْضِيَّةِ فَافْهَمْ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْإِطَاعَةِ وُجُوبُ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ، لَكِنْ لَا يَلْزَمُ مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ بِهِ الْقَضَاءُ لِمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ كَيْفَ مَا صَدَقَتْ أَحْوَالُهُ لَا يَقْضِي بِهِ، وَلَوْ كَانَ بِعِتْقِ عَبْدٍ مُعَيَّنٍ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ بِهِ لَا يَكُونُ إلَّا بِنِيَّتِهِ، وَلَا نِيَّةَ مَعَ الْقَضَاءِ وَالْإِكْرَاهِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِبَتٍّ مُعَيَّنٍ كَأَنْ يَقُولَ الرَّشِيدُ: ابْتِدَاءً عَبْدِي فُلَانٌ حُرٌّ، وَمِثْلُ النَّذْرِ فِي وُجُوبِ الْوَفَاءِ وَعَدَمِ الْقَضَاءِ الْهِبَةُ وَالْوَقْفُ إذَا كَانَتْ فِي يَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا لِغَيْرِ شَيْءٍ مُعَيَّنٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَالَ دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ وَقْفٌ أَوْ هِبَةٌ فِي يَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ فِي غَيْرِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لِمُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ يَمِينٍ فَيُقْضَى بِهِ كَقَوْلِهِ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ وَقْفٌ عَلَى زَيْدٍ. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ عَلَى مَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ فِي غَيْرِ يَمِينٍ فَقَوْلَانِ. (وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ) - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِشَيْءٍ كَسَرِقَةٍ أَوْ زِنًا أَوْ قَتْلٍ (فَلَا يَعْصِهِ) بِالْوَفَاءِ بِنَذْرِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ ارْتِكَابِ الْمَعَاصِي، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَفْظُ حَدِيثٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لَيْسَ مِنْ الْحَدِيثِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ نَاذِرَ الْمَعْصِيَةِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ سِوَى الْإِثْمِ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: يَلْزَمُهُ كَفَّارَةُ يَمِينٍ لِتَمَسُّكِهِ بِمَا وَرَدَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ضَعَّفَهَا غَيْرُهُ، فَإِنْ قِيلَ: يَشْكُلُ عَلَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَنْ قَالَ عَلَيَّ نَحْرُ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا أَوْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ وَذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ وَلَدِهِ أَوْ لَفَظَ بِالْهَدْيِ أَوْ نَوَاهُ يَلْزَمُهُ الْهَدْيُ مَعَ أَنَّ نَذْرَ مَا ذَكَرَ مَعْصِيَةٌ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذِهِ خَرَجَتْ عَنْ الْأَصْلِ، فَهِيَ كَالْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ نَذْرِ الْمَعْصِيَةِ وَبَقِيَ مَا عَدَاهَا عَلَى الْمَنْعِ، وَبِأَنَّ النَّاذِرَ أَوْ الْحَالِفَ لَمَّا لَفَظَ بِالْهَدْيِ أَوْ نَوَاهُ أَوْ ذَكَرَ قِصَّةَ إبْرَاهِيمَ مَعَ وَلَدِهِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ الْمَعْصِيَةَ، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْقُرْبَةَ بِنَحْرِ الْهَدْيِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ بِنَحْرِ فُلَانٍ قَتْلَهُ حَقِيقَةً لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ، كَمَا لَا يَلْزَمُ نَاذِرِ صَوْمِ يَوْمِ الْعِيدِ أَوْ تَالِيَيْ عِيدِ النَّحْرِ إلَّا لِمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ نَقْصٌ فِي حَجٍّ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نَذْرِ الطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ، وَلَمْ يُعْلَمْ حُكْمُ نَذْرِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، لِمَا أَنَّ فِيهِ خِلَافًا بِأَنَّ نَذْرَ كُلِّ وَاحِدٍ تَابِعٌ لِحُكْمِهِ وَبِالْحُرْمَةِ فِيهِمَا، وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ، وَلَيْسَ مِنْ الْمَكْرُوهِ الْجَارِي فِي نَذْرِهِ الْخِلَافُ نَذْرُ صَوْمِ رَابِعِ يَوْمِ النَّحْرِ، وَنَذْرُ الْإِحْرَامِ بِالْحَجِّ قَبْلَ أَشْهُرِهِ، وَنَذْرُ مَا يَشُقُّ فِعْلُهُ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ، فَإِنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ يَجِبُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهَا؛ لِأَنَّ كَرَاهَتَهَا لَا لِذَاتِهَا، بِخِلَافِ نَذْرِ صَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ صَلَاةِ الْعَصْرِ أَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الْفَجْرِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهِمَا، وَإِنْ كُرِهَا، لِئَلَّا يَتَطَرَّقَ النَّاذِرُ بِفِعْلِهِمَا إلَى إيقَاعِهِمَا فِي وَقْتِ الطُّلُوعِ أَوْ الْغُرُوبِ، وَمِنْ الْمَكْرُوهِ الَّذِي يَجِبُ الْوَفَاءُ بِهِ نَذْرُ يَوْمٍ مُكَرَّرٍ كَكُلِّ خَمِيسٍ، وَأَمَّا الْمُعَلَّقُ نَحْوَ: إنْ شَفَى اللَّهُ مَرِيضِي أَوْ إنْ زَنَيْت أَوْ قَتَلْت فُلَانًا فَعَلَيَّ صَوْمُ سَنَةٍ فَفِي كَرَاهَتِهِ تَرَدُّدٌ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ إذَا فَعَلَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ مُحَرَّمًا. وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ مِنْهُ إلَّا مَا كَانَ قُرْبَةً، وَالتَّصَدُّقُ بِمَالِ الْغَيْرِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ) أَيْ الْتَزَمَ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (صَدَقَةَ مَالِ غَيْرِهِ أَوْ) نَذَرَ (عِتْقَ عَبْدِ غَيْرِهِ) ، وَلَمْ يَقْصِدْ إنْ مَلَكَهُ (لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ) ، وَلَوْ مَلَكَهُ عِنْدَ عَدَمِ الْقَصْدِ لِخَبَرِ: «لَيْسَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 شَيْءٌ. وَمَنْ قَالَ إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ مِنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَدَقَةِ شَيْءٍ سَمَّاهُ فَذَلِكَ يَلْزَمُهُ إنْ حَنِثَ كَمَا يَلْزَمُهُ لَوْ نَذَرَهُ مُجَرَّدًا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ. ، وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا مِنْ الْأَعْمَالِ فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ ، وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ شِبْهِهِ أَوْ مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ وَلَا مَعْصِيَةٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ.   [الفواكه الدواني] عَلَى ابْنِ آدَمَ نَذْرٌ فِيمَا لَا يَمْلِكُ» أَيْ حِينَ نَذَرَهُ، وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ التَّصَدُّقَ بِهِ أَوْ عِتْقَهُ عَلَى تَقْدِيرِ إنْ مَلَكَهُ لَلَزِمَهُ إنْ مَلَكَهُ التَّصَدُّقُ بِهِ أَوْ عِتْقُهُ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْإِقْدَامِ عَلَى نَذْرِ التَّصَدُّقِ بِمَالِ الْغَيْرِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِ الْغَيْرِ. وَفِي الشَّاذِلِيِّ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، وَبَحَثَ فِيهِ الْأُجْهُورِيُّ وَارْتَضَى حُرْمَتَهُ، وَلَعَلَّ هَذَا كُلَّهُ عِنْدَ عَدَمِ التَّقْيِيدِ بِمِلْكِهِ، وَأَمَّا إنْ أَرَادَ إنْ مَلَكَهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مَنْدُوبٌ. وَلَمَّا كَانَ النَّذْرُ يَنْقَسِمُ إلَى يَمِينٍ وَغَيْرِ يَمِينٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ فِعْلِ أَمْرٍ أَوْ لَا قَالَ: (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (إنْ فَعَلْت نَذْرَ كَذَا، وَكَذَا فَعَلَيَّ نَذْرُ كَذَا، وَكَذَا لِشَيْءٍ يَذْكُرُهُ) بِلِسَانِهِ أَوْ يَنْوِيهِ بِقَلْبِهِ وَبَيَّنَ ذَلِكَ الشَّيْءَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ فِعْلِ الْبِرِّ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ) أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ زِيَارَةِ رَجُلٍ صَالِحٍ، وَلَوْ مَيِّتًا (أَوْ) مِنْ تَطَوُّعِ (حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ صَدَقَةِ شَيْءٍ سَمَّاهُ) مِنْ مَالِهِ كَدِينَارٍ أَوْ شَاةٍ مَثَلًا (فَذَلِكَ) الَّذِي نَذَرَهُ وَسَمَّاهُ، وَإِنْ مُعَيَّنًا اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ (يَلْزَمُهُ إنْ حَنِثَ) بِفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَلَوْ مُحَرَّمًا (كَمَا يَلْزَمُهُ) مَا سَمَّاهُ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِهَا (لَوْ نَذَرَهُ مُجَرَّدًا) أَيْ (مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ) بِأَنْ اقْتَصَرَ عَلَى صِيغَةِ النَّذْرِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ صَوْمٌ أَوْ صَوْمُ شَهْرٍ، أَوْ لِلَّهِ عَلَيَّ هَذَا الدِّينَارُ أَوْ التَّصَدُّقُ بِهَذَا الدِّينَارِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّذْرَ إنْ عُلِّقَ عَلَى أَمْرٍ لِقَصْدِ الِامْتِنَاعِ مِنْهُ كَانَ يَمِينًا لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: لَا لِامْتِنَاعٍ مِنْ أَمْرٍ هَذَا يَمِينٌ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ مِنْهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ لَمْ يَكُنْ يَمِينًا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: النَّاذِرُ لِشَيْءٍ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ تَارَةً يُعَيِّنُ قَدْرًا فَيَلْزَمُ، وَتَارَةً يُعَيِّنُ مَا مِنْهُ النَّذْرُ أَوْ الصَّدَقَةُ فَيَلْزَمُ أَقَلُّ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ النَّوْعِ الْمُسَمَّى مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ نَذْرٍ، كَصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الصَّلَاةِ، أَوْ صَوْمِ يَوْمٍ عِنْدَ تَسْمِيَةِ الصَّوْمِ،، وَهَكَذَا الصَّدَقَةُ أَقَلُّ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ اسْمُهَا، وَلَوْ رُبُعَ دِرْهَمٍ حَيْثُ لَمْ يَقُلْ مَالِي، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ صَدَقَةُ مَالِي فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُهُ كَمَا يَأْتِي. وَأَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِدَارِي أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يُسَمِّيهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ يَمْلِكُ سِوَى الدَّارَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا سَمَّى، وَإِنْ مُعَيَّنًا أَتَى عَلَى الْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ نَوَى بِقَلْبِهِ شَيْئًا أَوْ تَلَفَّظَ بِغَيْرِهِ فَالْمُعْتَبَرُ مَا نَوَاهُ بِقَلْبِهِ لَا مَا تَلَفَّظَ بِهِ بِلِسَانِهِ كَالْمُخَالَفَةِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ بِصَلَاةٍ أَوْ حَجٍّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تَخَالَفَا فَالْعَقْدُ وَفِي الْحَجِّ، وَإِنَّمَا يَنْعَقِدُ بِالنِّيَّةِ، وَإِنْ خَالَفَهَا لَفْظُهُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ مَنْ سَمَّى دَارًا يَلْزَمُهُ إخْرَاجُهَا قَالَ التَّتَّائِيُّ: وَلَهُ أَنْ يُخْرِجَ قِيمَتَهَا لِلْمَسَاكِينِ، وَلَيْسَ مِنْ شِرَاءِ الصَّدَقَةِ. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّذْرَ سَوَاءٌ وَقَعَ عَلَى وَجْهِ الْيَمِينِ بِأَنْ قَصَدَ مِنْهُ الِامْتِنَاعَ مِنْ أَمْرٍ أَوْ لَا، وَإِنْ وَجَبَ الْوَفَاءُ بِهِ لَا يُقْضَى بِهِ، وَلَوْ كَانَ عَبْدًا مُعَيَّنًا؛ لِأَنَّهُ لَا وَفَاءَ إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، وَمَعَ الْقَضَاءِ لَا نِيَّةَ، وَمِثْلُ النَّذْرِ فِي عَدَمِ الْقَضَاءِ لَوْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ أَوْ حَبْسٌ عَلَى الْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ فِي يَمِينٍ وَحَنِثَ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَالَ: دَارِي صَدَقَةٌ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا، وَلَمْ يُعَيِّنْ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يَقْضِي بِبَتٍّ مُعَيَّنٍ نَحْوَ: عَبْدِي مَرْزُوقٌ حُرٌّ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ بَتَّ عِتْقَ عَبْدٍ عَتَقَ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ، وَلَوْ نَذَرَ عِتْقَهُ لَمْ يُقْضَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ عِدَةٌ جَعَلَهَا اللَّهُ مِنْ أَعْمَالِ الْبِرِّ فَيُؤْمَرُ بِهَا، وَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا، اُنْظُرْ التَّتَّائِيَّ وَغَيْرَهُ. الثَّالِثُ: إذَا نَذَرَ حَجًّا أَوْ حَلَفَ بِهِ وَحَنِثَ لَمْ يَلْزَمْهُ الْمَشْيُ إلَّا مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، وَأَمَّا لَوْ عَجَزَ عَنْ التَّوَجُّهِ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ لَا مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ بِنَذْرِهِ؛ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ نَذْرِ غَيْرِ الْمَنْدُوبِ؛ لِأَنَّ الْمَنْذُورَ لَيْسَ بِأَقْوَى مِنْ الْفَرْضِ الْأَصْلِيِّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حُكْمِ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ شَرَعَ فِي حُكْمِ النَّذْرِ الْمُبْهَمِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ) النَّاذِرُ (لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا) أَيْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا (مِنْ الْأَعْمَالِ) الْمَعْدُودَةِ لِلْبِرِّ، وَلَا مِنْ الذَّوَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ أَوْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ نَذْرٌ ثُمَّ فَعَلَهُ (فَعَلَيْهِ كَفَّارَةُ يَمِينٍ) ؛ لِأَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ عِنْدَ مَالِكٍ حُكْمُهُ حُكْمُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ كَفَّارَةً، وَلَغْوًا وَاسْتِثْنَاءً، فَمَحِلُّ لُزُومِ الْكَفَّارَةِ بِهِ مَا لَمْ يَسْتَثْنِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ لَغْوًا. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: النَّذْرُ الْمُبْهَمُ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ فِي الِاسْتِثْنَاءِ وَاللَّغْوِ وَالْغَمُوسِ وَالْكَفَّارَةِ، وَإِنَّمَا يَتَخَالَفَانِ فِي أَنَّهُ إذَا كَرَّرَ لَفْظَ النَّذْرِ تَكَرَّرَتْ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الِاتِّحَادَ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَقَدْ سَمِعَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْحَلِفِ بِعِشْرِينَ نَذْرًا عِشْرِينَ كَفَّارَةً، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى لِنَذْرِهِ مَخْرَجًا بِأَنْ عَيَّنَ مَا نَذَرَهُ بِلَفْظٍ أَوْ نِيَّةٍ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا عَيَّنَهُ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ مَا هُنَا مَفْهُومُ مَا سَبَقَ. (فَرْعٌ) قَالَ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: إنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ نَذْرٌ لَا يُكَفِّرُهُ صِيَامٌ، وَلَا صَدَقَةٌ، وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَيُكَفِّرْ كَفَّارَةَ يَمِينٍ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ لَا كَفَّارَةَ لَهُ فَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ وَيُخْرِجَ كَفَّارَةَ يَمِينٍ. وَمَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً مِنْ قَتْلِ نَفْسٍ) يَحْرُمُ قَتْلُهَا، وَلَوْ بِالِافْتِيَاتِ عَلَى الْإِمَامِ. (أَوْ) مِنْ (شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ شِبْهِهِ) مِنْ كُلِّ مُغَيِّبٍ لِلْعَقْلِ (أَوْ) نَذَرَ فِعْلَ (مَا لَيْسَ بِطَاعَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 وَإِنْ حَلَفَ بِاَللَّهِ لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ وَلَا يَفْعَلْ ذَلِكَ، وَإِنْ تَجَرَّأَ وَفَعَلَهُ أَثِمَ وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِيَمِينِهِ. وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ، وَمِيثَاقُهُ فِي يَمِينٍ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ. وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَكَّدَ الْيَمِينَ فَكَرَّرَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ غَيْرُ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ. وَمَنْ قَالَ أَشْرَكْت بِاَللَّهِ وَهُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ إنْ فَعَلَ كَذَا فَلَا يَلْزَمُهُ غَيْرُ الِاسْتِغْفَارِ. وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا   [الفواكه الدواني] وَلَا مَعْصِيَةٍ) كَالْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ مِثَالُ الْمُبَاحِ عَلَيَّ نَذْرُ بَيْعِ هَذِهِ السِّلْعَةِ أَوْ لُبْسِ هَذَا الثَّوْبِ، وَمِثَالُ الْمَكْرُوهِ نَذْرُ عَلَيَّ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْفَجْرِ أَوْ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ بِالنَّذْرِ إلَّا مَا كَانَ مَنْدُوبًا وَطَاعَةً فِي الْأَصْلِ، وَإِنْ كُرِهَ لِعَارِضٍ فَيَدْخُلُ نَذْرُ يَوْمٍ مُكَرَّرٍ وَرَابِعِ النَّحْرِ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ، وَإِنَّمَا ذَكَرَهُ هُنَا لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (وَلْيَسْتَغْفِرْ اللَّهَ) أَيْ يَتُوبُ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا قَدَرَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِصَدَقَةٍ بِفَلْسٍ، وَظَاهِرُ إطْلَاقِ الْمُصَنِّفِ رُجُوعُ الِاسْتِغْفَارِ إلَى كُلِّ مَا لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ حَتَّى الْمُبَاحِ وَالْمَكْرُوهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ عَلَى حُرْمَةِ نَذْرِهِمَا، وَفَسَّرْنَا الِاسْتِغْفَارَ بِالتَّوْبَةِ؛ لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ إذَا أَطْلَقَتْهُ تُرِيدُ بِهِ التَّوْبَةَ، وَالظَّاهِرُ وُجُوبُهَا إنْ كَانَ مَا اقْتَرَفَهُ مَعْصِيَةً، وَنَدْبُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ وَحَرَّرَهُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ نَذَرَ مَعْصِيَةً شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَنْ حَلَفَ عَلَى فِعْلِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ حَلَفَ) الْمُكَلَّفُ (بِاَللَّهِ) أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ (لَيَفْعَلَنَّ مَعْصِيَةً) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ لَأَشْرَبَنَّ الْخَمْرَ أَوْ لَأَقْتُلَنَّ زَيْدًا (فَلْيُكَفِّرْ) وُجُوبًا (عَنْ يَمِينِهِ، وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَنْ (يَفْعَلَ ذَلِكَ) الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ. وَمِثْلُ الْحَلِفِ بِاَللَّهِ الْحَلِفُ بِالنَّذْرِ الْمُبْهَمِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ مِمَّا لَا تُكَفَّرُ كَالْحَلِفِ بِالطَّلَاقِ أَوْ الْعِتْقِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ طَلَاقُ الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ الْعَبْدِ لَكِنْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَوْ فَعَلَ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْحُكْمِ عَلَيْهِ لَبَرَّ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ تَجَرَّأَ وَفَعَلَهُ) أَيْ الْمَحْلُوفَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي (أَثِمَ، وَلَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ لِيَمِينِهِ) إنْ كَانَتْ يَمِينُهُ مِمَّا تُكَفَّرُ، وَلَا يَلْزَمُهُ طَلَاقٌ، وَلَا عِتْقٌ لِفِعْلِ الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ. (وَمَنْ قَالَ عَلَيَّ) بِشَدِّ الْيَاءِ (عَهْدُ اللَّهِ) أَيْ بَقَاؤُهُ (وَمِيثَاقُهُ فِي يَمِينٍ) وَاحِدَةٍ أَيْ فِي الْحَلِفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ لَا فَعَلْت كَذَا أَوْ إنْ فَعَلْت كَذَا (فَحَنِثَ) بِفِعْلِ الْمَحْلُوفِ عَلَى تَرْكِهِ (فَعَلَيْهِ كَفَّارَتَانِ) ؛ لِأَنَّ عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ يَمِينٌ، وَمِيثَاقُهُ يَمِينٌ أُخْرَى، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَبْنِيٌّ عَلَى تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ بِتَعَدُّدِ الصِّيَغِ الْمَحْلُوفِ بِهَا سَوَاءٌ تَرَادَفَ مَعْنَاهَا كَمَا هُنَا؛ لِأَنَّ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ يَرْجِعَانِ لِكَلَامِ اللَّهِ وَإِلْزَامِهِ، وَكَالْقُرْآنِ وَالْمُصْحَفِ وَالْكِتَابِ، أَوْ اخْتَلَفَ كَالْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَالْمُعْتَمَدُ فِي الْمَذْهَبِ خِلَافُ مَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَلَوْ كَانَتْ الْيَمِينُ بِأَلْفَاظٍ مُخْتَلِفَةِ الْمَعَانِي أَوْ بِجَمِيعِ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، سَوَاءٌ قَصَدَ الْحَالِفُ بِتَعَدُّدِهَا التَّأْكِيدَ أَوْ الْإِنْشَاءَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ كَفَّارَاتٍ فَتَتَعَدَّدُ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى مَا تَعَدَّدَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: وَتَكَرَّرَتْ إنْ قَصَدَ تَكَرُّرَ الْحِنْثِ أَوْ كَانَ الْعُرْفُ كَعَدَمِ تَرْكِ الْوِتْرِ أَوْ نَوَى كَفَّارَاتٍ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَا تَتَعَدَّدُ فِيهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: فِي يَمِينٍ وَاحِدَةٍ بِالْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ وَحْدَةُ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ عَمَّا لَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ بِأَنْ قَالَ: عَلَيَّ عَهْدُ اللَّهِ مَا أُكَلِّمُ زَيْدًا، وَعَلَيَّ مِيثَاقٌ أَوْ عَهْدٌ لَا أُكَلِّمُ عَمْرًا فَيَفْعَلُ الْجَمِيعَ وَيُكَلِّمُهُمَا فَتَتَعَدَّدُ الْكَفَّارَةُ. (وَلَيْسَ عَلَى مَنْ وَكَّدَ) أَيْ قَوَّى (الْيَمِينَ فَكَرَّرَهَا فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ) أَيْ فِي الْحَلِفِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ (غَيْرُ كَفَّارَةٍ وَاحِدَةٍ) مِثْلَ أَنْ يَقُولَ: وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ لَا أَفْعَلُ كَذَا وَفَعَلَهُ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ، وَمُقْتَضَى كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ قَصَدَ التَّأْسِيسَ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا تَتَعَدَّدُ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَصَدَ التَّأْسِيسَ وَالْإِنْشَاءَ وَأَوْلَى إنْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا فِيهِ كَفَّارَةٌ وَاحِدَةٌ: وَوَاللَّهِ ثُمَّ وَاَللَّهِ، وَإِنْ قَصَدَهُ أَيْ التَّأْسِيسَ وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي مَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ، وَالظِّهَارُ مِثْلُ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ بِخِلَافِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ فَإِنَّهُ يَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهَا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ التَّأْكِيدَ إذَا كَرَّرَهَا بِغَيْرِ عَطْفٍ، وَكَانَ فِسْقًا؛ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ يُشَدَّدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ غَيْرِهَا، وَلِأَنَّ الطَّلَاق الثَّانِيَ أَوْ الثَّالِثَ يَحْصُلُ بِهِ مَا لَا يَحْصُلُ بِمَا قَبْلَهُ، وَمَفْهُومٌ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ أَنَّهُ لَوْ تَعَدَّدَ الْمَحْلُوفُ عَلَيْهِ لَتَعَدَّدَتْ الْكَفَّارَةُ بِتَعَدُّدِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَكَذَا الْيَمِينُ. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّذْرَ الْمُبْهَمَ كَالْيَمِينِ بِاَللَّهِ إلَّا فِي تَعَدُّدِ الْكَفَّارَةِ فِيهِ عِنْدَ تَعَدُّدِهِ بِخِلَافِ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَإِذَا قَالَ: عَلَيَّ نَذْرٌ وَنَذْرٌ لَزِمَهُ كَفَّارَتَانِ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الِاتِّحَادَ، وَأَمَّا الْيَمِينُ فَلَا يَلْزَمُ عِنْدَ التَّعَدُّدِ إلَّا كَفَّارَةٌ إلَّا فِي مَسَائِلَ أَشَارَ إلَيْهَا الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَتَكَرَّرَتْ إنْ قَصَدَ تَكَرُّرَ الْحِنْثِ أَوْ كَانَ الْعُرْفُ كَعَدَمِ تَرْكِ الْوِتْرِ أَوْ نَوَى كَفَّارَاتٍ بِحَلِفِهِ عَلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَكَرَّرَ الْيَمِينَ وَنَوَى إنْ فَعَلَهُ فَعَلَيْهِ كَفَّارَاتٌ بِعَدَدِ الْمُقْسَمِ بِهِ فَإِنَّ الْكَفَّارَةَ تَتَعَدَّدُ بِتَعَدُّدِهِ، أَوْ قَالَ لَا، وَلَا عَلَيَّ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَكَرَّرَ لَفْظَ الْقَسَمِ أَوْ حَلَفَ أَنْ لَا يَحْنَثَ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أَلْفَاظٍ تَسْتَعْمِلُهَا الْعَوَامُّ عِنْدَ قَصْدِهَا الِامْتِنَاعِ مِنْ أَمْرٍ، وَلَيْسَتْ مِنْ أَلْفَاظِ الْيَمِينِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ (أَشْرَكْت بِاَللَّهِ) أَوْ كَفَرْت بِاَللَّهِ (أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ) قَاصِدًا نَفْسَهُ (أَوْ) قَالَ هُوَ (نَصْرَانِيٌّ) أَوْ يَكُونُ عَابِدَ صَنَمٍ أَوْ يَكُونُ خِنْزِيرًا (إنْ فَعَلَ كَذَا) أَيْ لَا يَفْعَلُ كَذَا وَفَعَلَهُ (فَلَا يَلْزَمُهُ) شَيْءٌ (غَيْرُ الِاسْتِغْفَارِ) ؛ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ إنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَيْمَانِ الْمُنْعَقِدَةِ، وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ إلَّا فِي زَوْجَتِهِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ. وَمَنْ جَعَلَ مَالَهُ صَدَقَةً أَوْ هَدْيًا أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ. وَمَنْ   [الفواكه الدواني] ذَكَرَهُ لَمْ يَنْعَقِدْ بِهِ يَمِينٌ، وَالْمُرَادُ بِالِاسْتِغْفَارِ التَّوْبَةُ لِارْتِكَابِهِ أَمْرًا مُحَرَّمًا، وَيَطْلُبُ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى التَّوْبَةِ التَّقَرُّبَ بِشَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ كَعِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ صَوْمٍ، وَلَا يَلْزَمُهُ إعَادَةُ الشَّهَادَتَيْنِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ فَعَلَ كَذَا يَكُونُ مُرْتَدًّا أَوْ عَلَى غَيْرِ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوْ يَكُونُ وَاقِعًا فِي حَقِّ رَسُولِ اللَّهِ، بِخِلَافِ مَنْ حَلَفَ بِنَحْوِ اللَّاتِ وَالْعُزَّى مَعَ قَصْدِ تَعْظِيمِهَا فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَصَدَ بِكَالْعُزَّى التَّعْظِيمَ فَكَفَرَ فَلَا بُدَّ مِنْ إتْيَانِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ، وَأَمَّا مَا يَقَعُ مِنْ بَعْضِ الْعَوَامّ مِنْ قَوْلِهِ: إنْ فَعَلَ كَذَا يَكُونُ دَاخِلًا عَلَى أَهْلِهِ زَانِيًا فَاسِقًا وَيَفْعَلُهُ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَكُونُ زَانِيًا بِمَنْ كَانَتْ زَوْجَةً إذَا كَانَ طَلَاقُهَا ثَلَاثًا، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّ هَذَا بَحْثٌ لِبَعْضِ شُيُوخِنَا. (تَنْبِيهٌ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ ارْتِدَادِ الْمُتَكَلِّمِ بِهَذَا اللَّفْظِ فِي الْيَمِينِ يَقْتَضِي بِحَسَبِ مَفْهُومِهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: أَشْرَكَ بِاَللَّهِ أَوْ هُوَ يَهُودِيٌّ أَوْ نَصْرَانِيٌّ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ يَكُونُ مُرْتَدًّا يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ تَابَ، وَإِلَّا قُتِلَ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ يَحْصُلُ بِهَا الِارْتِدَادُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ فِي بَابِ الرِّدَّةِ. (وَمَنْ حَرَّمَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئًا مِمَّا أَحَلَّ اللَّهُ لَهُ) مِنْ طَعَامٍ أَوْ مِنْ شَرَابٍ أَوْ لُبْسِ ثَوْبٍ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) سِوَى الِاسْتِغْفَارِ لِإِثْمِهِ بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، وَلَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ مَا حَرَّمَهُ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْمُحَرِّمَ وَالْمُحَلِّلَ إنَّمَا هُوَ اللَّهُ - تَعَالَى - وَقَدْ ذَمَّ اللَّهُ فَاعِلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلالا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} [يونس: 59] وَقَالَ - تَعَالَى -: وَ {لا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ} [المائدة: 87] ، وَإِنَّمَا نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى ذَلِكَ لِلرَّدِّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِهِ الْكَفَّارَةَ عَلَى قَائِلِ هَذَا اللَّفْظِ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ، وَكَانَ تَحْرِيمُهَا لَيْسَ لَغْوًا قَالَ: (إلَّا) التَّحْرِيمَ الْوَاقِعَ مِنْ الْمُكَلَّفِ (فِي زَوْجَتِهِ فَإِنَّهَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّ تَحْرِيمَهَا طَلَاقُهَا، وَاَللَّهُ - تَعَالَى - جَعَلَ لِلْأَزْوَاجِ الطَّلَاقَ فَتَطْلُقُ عَلَيْهِ بِذَلِكَ ثَلَاثًا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ (إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ) ، وَلَا يَنْوِي فِي الدُّخُولِ بِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهَا فَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ، وَأَمَّا تَحْرِيمُ الْأَمَةِ فَكَتَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ لَا يَلْزَمُ بِتَحْرِيمِهِ إلَّا الِاسْتِغْفَارُ، إلَّا أَنْ يَقْصِدَ بِتَحْرِيمِ الْأَمَةِ عِتْقَهَا فَتُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَلَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَّا بِعَقْدِ نِكَاحٍ بِرِضَاهَا وَبِصَدَاقٍ وَشُهُودٍ كَالْأَجْنَبِيَّةِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَتَحْرِيمُ الْحَلَالِ فِي غَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ لَغْوٌ، وَمَا يُقَالُ مِنْ لُزُومِ كَفَّارَةِ يَمِينٍ فِي الْأَمَةِ؛ «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَفَّرَ فِي الْأَمَةِ» فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا كَفَّرَ لِحَلِفِهِ بِاَللَّهِ أَنْ لَا يَقْرَبَ أُمَّ وَلَدِهِ إبْرَاهِيمَ؛ لِأَنَّهُ حَرَّمَهَا. (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: مَنْ قَالَ أَيْمَانَ الْمُسْلِمِينَ تَلْزَمُهُ أَوْ الْأَيْمَانَ تَلْزَمُهُ أَوْ كُلَّ الْأَيْمَانِ تَلْزَمُهُ مِنْ كُلِّ لَفْظٍ يَدُلُّ عَلَى عُمُومِ الْأَيْمَانِ أَنْ لَا يَفْعَلَ كَذَا وَحَنِثَ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْأَيْمَانِ حَتَّى صَوْمِ سَنَةٍ إنْ اُعْتِيدَ الْحَلِفُ بِهِ، وَيَلْزَمُهُ فِي الزَّوْجَةِ الطَّلَاقُ الثَّلَاثُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَزِيدَ فِي الْأَيْمَانِ تَلْزَمُنِي صَوْمُ سَنَةٍ إنْ اُعْتِيدَ حَلِفٌ بِهِ، وَهَذَا إذَا اقْتَصَرَ عَلَى هَذَا اللَّفْظِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ الْأَيْمَانُ تَلْزَمُهُ وَامْرَأَتُهُ طَالِقٌ فَقَالَ الْمَغْرِبِيُّ: يَلْزَمُهُ فِي الزَّوْجَةِ طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَكْثَرَ. الثَّانِيَةُ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ: عَلَيَّ أَشَدُّ مَا أَخَذَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ إنْ فَعَلْت كَذَا وَفَعَلَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْبَتَاتُ فِي الزَّوْجَةِ وَعِتْقُ مَنْ يَمْلِكُهُ يَوْمَ يَمِينِهِ وَالتَّصَدُّقُ بِثُلُثِ مَالِهِ وَالْحَجُّ مَاشِيًا، وَكَفَّارَةُ يَمِينٍ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ مَا ذُكِرَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ؛ لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِالطَّلَاقِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِالْمَشْيِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَتَوَثَّقُ عَلَى غَيْرِهِ بِغَيْرِ ذَلِكَ فَاحْتِيطَ وَأُلْزِمَ الْحَالِفُ بِهَذَا اللَّفْظِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ الَّتِي اُعْتِيدَ الْحَلِفُ بِهَا، إمَّا لِلْحَالِفِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ بَشِيرٍ، أَوْ لِأَهْلِ الْبَلَدِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ، لَا مَا لَا يُعْرَفُ الْحَلِفُ بِهِ لِأَحَدٍ كَمَشْيٍ لِمَسْجِدِ الْمَدِينَةِ أَوْ رِبَاطٍ أَوْ اعْتِكَافٍ أَوْ تَرْبِيَةِ أَيْتَامٍ فَلَا يَلْزَمُ قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: وَيَنْبَغِي اعْتِبَارُ الْعَادَةِ فِي الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَمِثْلُهُ لِابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنِ فَرْحُونٍ وَالْجَمِيعُ تَابِعُونَ لِلْقَرَافِيِّ حَتَّى قَالَ: إنَّ مَنْ أَفْتَى بِمَا فِي الْكُتُبِ حَيْثُ تَغَيَّرَتْ الْعَادَةُ فَقَدْ خَالَفَ الْإِجْمَاعَ؛ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ بِالْعَادَةِ الْمُتَجَدِّدَةِ حَيْثُ تَغَيَّرَتْ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ الْمَبْنِيَّةِ عَلَى الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ فَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي السُّؤَالُ عَنْ عُرْفِ بَلَدِ الْحَالِفِ، وَيَعْمَلُ بِعُرْفِ بَلَدِهِ، وَلَوْ خَالَفَ الْمُسَطَّرَ فِي الْكُتُبِ. وَأَمَّا الْأَحْكَامُ الْمَنْصُوصَةُ عَنْ الشَّارِعِ كَتَحْرِيمِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يَنْظُرُ إلَّا لِمَا وَرَدَ عَنْ الشَّارِعِ، وَلَوْ خَالَفَهُ الْعُرْفُ وَالْعَادَةُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْعَوَائِدِ الْفَاسِدَةِ، وَالْعُرْفُ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ إلَّا فِيمَا هُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْعُرْفِ فَافْهَمْ فَإِنَّهَا قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّالِثَةُ: لَوْ قَالَ شَخْصٌ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا حَلَلْت حُرِّمْت فَهَلْ تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ زَوْجٍ أَمْ لَا؟ . فِي جَوَابِهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ إنْ قَصَدَ كُلَّمَا حَلَّ لِي الْعَقْدُ عَلَيْك فَهُوَ حَرَامٌ لَمْ يَلْزَمْهُ شَيْءٌ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ تَحْرِيمِ الطَّعَامِ وَبِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ لِأَجْنَبِيَّةٍ أَنْتِ حَرَامٌ، وَلَمْ يَقْصِدْ بَعْدَ نِكَاحِهَا، وَإِنْ قَصَدَ كُلَّمَا حَلَلْت وَتَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ حَرَامٌ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا، وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ وَاحِدًا مِنْ هَذَيْنِ فَالظَّاهِرُ حَمْلُهُ عَلَى الثَّانِي لِكَثْرَةِ قَصْدِ النَّاسِ لَهُ. (وَمَنْ جَعَلَ) أَيْ صَيَّرَ (مَا لَهُ صَدَقَةً أَوْ) جَعَلَهُ (هَدْيًا) إلَى بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ سَوَاءٌ جَعَلَهُ عَلَى جِهَةِ النَّذْرِ أَوْ الْحَلِفِ وَحَنِثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ فَإِنْ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ أَهْدَى هَدْيًا يُذْبَحُ بِمَكَّةَ وَتُجْزِئُهُ شَاةٌ، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ حَلِفِهِ فَلْيَمْشِ إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ رَكِبَ   [الفواكه الدواني] (أَجْزَأَهُ ثُلُثُهُ) حِينَ يَمِينِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَثُلُثُهُ حِينَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِيَ بِمَا لِي فِي كَسَبِيلِ اللَّهِ، وَهُوَ الْجِهَادُ وَالرِّبَاطُ بِمَحَلٍّ خِيفَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ أَبَا لُبَابَةَ حِينَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَهْجُرُ دَارَ قَوْمِي الَّتِي أَصَبْت الذَّنْبَ فِيهَا وَأُجَاوِرُك وَأَنْخَلِعُ مِنْ مَالِي صَدَقَةً لِلَّهِ، وَلِرَسُولِهِ؟ فَقَالَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يُجْزِئُك مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ» فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يُجْزِئُكَ مِنْ ذَلِكَ الثُّلُثُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ الْتَزَمَ الصَّدَقَةَ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لِأَنَّ الْإِجْزَاءَ فَرْعُ شُغْلِ الذِّمَّةِ، وَمَالُهُ يَشْمَلُ عَرَضَهُ وَدَيْنَهُ وَقِيمَةَ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَلَيْسَ مِنْهُ أُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرُ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ثُلُثُ مَالِهِ بَعْدَ أَدَائِهِ دُيُونَهُ وَمَهْرَ زَوْجَتِهِ، وَإِنَّمَا الثُّلُثُ بِحِينِ يَمِينِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ وَعِنْدَهُ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَحْنَثْ حَتَّى نَقَصَ فَالْمُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْبَاقِي، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْإِخْرَاجُ حَتَّى ضَاعَ الْمَالُ، وَلَوْ جَمِيعُهُ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَلَوْ بِتَفْرِيطٍ عَلَى مَا فِي هِبَاتِ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافًا لِشَارِحِهَا أَبِي الْحَسَنِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ جَعَلَ مَالَهُ أَنَّهُ لَوْ سَمَّى شَيْئًا كَمَا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِالشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ كَبَيْتٍ أَوْ سِلْعَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ، وَلَوْ اسْتَغْرَقَ جَمِيعَ مَالِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا سَمَّى، وَإِنْ مُعَيَّنًا أَتَى عَلَى الْجَمِيعِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا قَالَ: عَلَيَّ التَّصَدُّقُ بِمَالِي إلَّا كَذَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ إلَّا مَا اسْتَثْنَاهُ، وَلَوْ قَلَّ الْفَرْقُ بَيْنَ مَالِي فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ يَلْزَمُهُ الثُّلُثُ وَبَيْنَ مَنْ سَمَّى يَلْزَمُهُ جَمِيعُ مَا سَمَّاهُ، إنَّ مَنْ سَمَّى لَمْ يُضَيِّقْ عَلَى نَفْسِهِ بَلْ أَبْقَى لِنَفْسِهِ شَيْئًا، وَلَوْ ثِيَابَ ظَهْرِهِ، وَمَنْ قَالَ مَالِي، وَلَمْ يَسْتَثْنِ شَيْئًا ضَيَّقَ عَلَى نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ لَفْظَ مَالِي يَسْتَغْرِقُ جَمِيعَ مَا يَمْلِكُهُ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَخَفَّفَ عَنْهُ وَاكْتَفَى مِنْهُ بِثُلُثِهِ. الثَّانِي: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَجْزَأَهُ أَنَّهُ لَا يُقْضَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ، وَإِنْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْإِخْرَاجُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ النَّذْرَ، وَلَوْ لِمُعَيَّنٍ لَا يُقْضَى بِهِ، وَمِثْلُهُ الصَّدَقَةُ أَوْ الْحَبْسُ إذَا كَانَتْ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهَا عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بِغَيْرِ يَمِينٍ، وَلِمُعَيَّنٍ لَقَضَى بِهَا؛ لِأَنَّهُ الْتِزَامٌ مَعْرُوفٌ، وَقَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ الْتَزَمَ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ، فَالْهِبَةُ وَنَحْوُهَا إذَا كَانَتْ لِمُعَيَّنٍ وَبِغَيْرِ يَمِينٍ يُقْضَى بِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ خَلِيلٍ. الثَّالِثُ: لَوْ حَلَفَ بِصَدَقَةِ جَمِيعِ مَا يَسْتَفِيدُهُ أَبَدًا أَوْ قَالَ: جَمِيعُ مَا أَسْتَفِيدُهُ صَدَقَةٌ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِلْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ عَيَّنَ زَمَانًا أَوْ مَكَانًا فَيَلْزَمُهُ ثُلُثُ مَا يَكْتَسِبُهُ أَوْ يَسْتَفِيدُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ أَوْ الْمَكَانِ يَدْفَعُهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا. (وَمَنْ حَلَفَ بِنَحْرِ وَلَدِهِ) أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَقَارِبِهِ أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَحَنِثَ أَوْ نَذَرَ ذَلِكَ أَوْ نَذَرَ نَحْرَ نَفْسِهِ. (فَإِنْ ذَكَرَ) الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ أَوْ نَوَى فِي قَلْبِهِ (مَقَامَ إبْرَاهِيمَ) الْخَلِيلِ أَيْ قِصَّتَهُ مَعَ وَلَدِهِ فِي الْتِزَامِهِ ذَبْحِهِ وَفَدَاهُ بِالْهَدْيِ لَا مَقَامَ الصَّلَاةِ. (أَهْدَى) أَيْ أَخْرَجَ وُجُوبًا (هَدْيًا) يُجْزِئُ ضَحِيَّةً (يَذْبَحُ) أَوْ يَنْحَرُ (بِمَكَّةَ) إنْ لَمْ يَسُقْ فِي حَجٍّ وَيُوقَفُ بِهِ فِي عَرَفَةَ عَلَى مَا مَرَّ، وَإِلَّا ذُكِّيَ فِي مِنًى، وَيُسْتَحَبُّ إخْرَاجُ الْأَعْلَى كَبَدَنَةٍ، وَإِلَّا فَبَقَرَةٍ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَيُجْزِئُهُ شَاةٌ) لَكِنْ مَعَ الْكَرَاهَةِ حَيْثُ قَدَرَ عَلَى أَعْلَى مِنْهَا. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا لَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ ذَكَرَ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ بَلْ مِثْلُهُ لَوْ نَوَى أَوْ ذَكَرَ مَوْضِعَ النَّحْرِ كَمَكَّةَ أَوْ مِنًى أَوْ مَوْضِعًا مِنْ مَوَاضِعِهَا أَوْ لَفَظَ بِالْهَدْيِ فَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ فِي الْقَرِيبِ وَالْأَجْنَبِيِّ؛ لِأَنَّ نِيَّةَ الْهَدْيِ أَوْ ذِكْرَهُ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْقُرْبَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ النَّذْرِ وَالْحَلِفِ. (وَ) مَفْهُومُ مَا تَقَدَّمَ (إنْ لَمْ يَذْكُرْ الْمَقَامَ) ، وَلَا نَوَاهُ، وَلَا لَفَظَ بِالْهَدْيِ، وَلَا ذَكَرَ مَوْضِعَ الذَّبْحِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ الْقُرْبَةَ بَلْ قَصَدَ قَتْلَ وَلَدِهِ أَوْ لَمْ يَقْصِدْ شَيْئًا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ هَدْيٍ، وَلَا كَفَّارَةٍ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ وَالتَّوْبَةُ مِنْ ذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَنْ نَذَرَ نَحْرَهُ أَوْ حَلَفَ بِنَحْرِهِ عَبْدَهُ فَعَلَيْهِ هَدْيٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَلَا يَلْزَمُ فِي مَالِي فِي الْكَعْبَةِ أَوْ بَابِهَا أَوْ كُلِّ مَا أَكْتَسِبُهُ أَوْ هَدْيٍ لِغَيْرِ مَكَّةَ أَوْ مَالِ غَيْرٍ إنْ لَمْ يُرِدْ إنْ مَلَكَهُ أَوْ عَلَى نَحْرِ فُلَانٍ، وَلَوْ قَرِيبًا إنْ لَمْ يَلْفِظْ بِالْهَدْيِ أَوْ يَنْوِهِ أَوْ يَذْكُرْ مَقَامَ إبْرَاهِيمَ، فَالْأَحَبُّ حِينَئِذٍ بَدَنَةٌ كَنَذْرِ الْهَدْيِ ثُمَّ بَقَرَةٌ. (وَمَنْ حَلَفَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ) ، وَلَمْ يَنْوِ حَجًّا، وَلَا عُمْرَةً، وَلَا صَلَاةً، وَلَا صِيَامًا بِأَنْ قَالَ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَعَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ الْبَيْتِ أَوْ إلَى جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ كَالْحَجَرِ وَالْمُلْتَزَمِ وَالرُّكْنِ وَالْبَابِ (فَحَنِثَ فَعَلَيْهِ الْمَشْيُ) ، وَمِثْلُ الْحَلِفِ لَوْ نَذَرَ بِأَنْ قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى مَكَّةَ أَوْ إلَى الْبَيْتِ، وَكُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ يَمْشِي (مِنْ مَوْضِعٍ) نَوَاهُ فِي النَّذْرِ وَالْحَلِفِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ نِيَّةٌ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْ مَوْضِعِ نَذْرِهِ، وَفِي الْحَلِفِ مِنْ مَوْضِعِ (حَلِفِهِ) فَإِنْ حَنِثَ بِمَوْضِعٍ غَيْرِ مَوْضِعِ الْحَلِفِ؛ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ مِنْهُ إنْ كَانَ مِثْلَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ فِي الْبُعْدِ، وَإِنْ كَانَ دُونَ مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَلَوْ يَسِيرًا رَجَعَ إلَى مَوْضِعِ الْحَلِفِ، وَمَشَى مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَسْتَطِيعُ مَشْيَ جَمِيعِ الطَّرِيقِ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِهِ وَيُهْدِي، وَقَوْلُنَا فِي الْبُعْدِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْمِثْلِيَّةُ فِي الْمَسَافَةِ لَا فِي الصُّعُوبَةِ وَالسُّهُولَةِ، وَيَتَعَيَّنُ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ مَوْضِعًا لِمَشْيِهِ الْمَشْيُ مِنْ الْمَوْضِعِ الْمُعْتَادِ لِلْحَالِفِينَ، وَلِغَيْرِهِمْ أَوْ لِلْحَالِفِينَ فَقَطْ، وَإِنْ اخْتَلَفَ طَرِيقُ الْحَالِفِينَ فِي الْقُرْبِ وَالْبُعْدِ فَيَجُوزُ الْمَشْيُ، وَلَوْ مِنْ الْقَرِيبَةِ حَيْثُ اُعْتِيدَ الْمَشْيُ مِنْهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْحَالِفِينَ مَوْضِعٌ مَعْرُوفٌ فَيَمْشِي مِنْ مَوْضِعِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ثُمَّ يَرْجِعُ ثَانِيَةً إنْ قَدَرَ فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ فَإِنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ قَعَدَ، وَأَهْدَى وَقَالَ عَطَاءٌ: لَا يَرْجِعُ ثَانِيَةً، وَإِنْ قَدَرَ وَيُجْزِئُهُ الْهَدْيُ، وَإِذَا كَانَ صَرُورَةً جَعَلَ ذَلِكَ فِي عُمْرَةٍ فَإِذَا طَافَ وَسَعَى وَقَصَّرَ أَحْرَمَ مِنْ مَكَّةَ بِفَرِيضَةٍ، وَكَانَ مُتَمَتِّعًا وَالْحِلَاقُ فِي   [الفواكه الدواني] نَذْرِهِ أَوْ حَلِفِهِ. وَإِذَا خَرَجَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ فَإِنْ لَمْ يُعَيِّنْ شَيْئًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ (فَلْيَمْشِ) أَيْ يَجْعَلْ مَشْيَهُ (إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ) ؛ لِأَنَّ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ اُعْتِيدَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَلِأَنَّ الْمَشْيَ إلَيْهَا يَسْتَلْزِمُ دُخُولَ الْحَرَمِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مُجَاوَزَتُهُ مِنْ غَيْرِ إحْرَامٍ إلَّا الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَالْمُتَرَدِّدُ عَلَيْهَا كَالْحَطَّابِ وَالْفَكَّاهِ وَغَيْرِهِمَا، وَأَمَّا لَوْ عَيَّنَ نَذْرَهُ حِينَ حَلِفِهِ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِذَلِكَ الْمُعَيَّنِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَلْزَمُ: وَمَشَى لِمَسْجِدِ مَكَّةَ، وَلَوْ لِصَلَاةٍ وَلَوْ نَافِلَةً. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ نَاذِرَ الْمَشْيِ أَوْ الْحَالِفَ بِهِ غَيْرُنَا وَشَيْئًا يُخَيَّرُ فِي إحْرَامِهِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ قَيَّدَهُ اللَّخْمِيُّ بِمَنْ كَانَ مَحَلُّهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يَقْصِدُ بِمَشْيِهِ إلَّا الْحَجَّ فَهَذَا يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِي حَجٍّ فَقَطْ لَا عُمْرَةٍ. الثَّانِي: الْمُصَنِّفُ بَيَّنَ مَبْدَأَ الْمَشْيِ وَلَمْ يَتَعَرَّضْ لِغَايَتِهِ، وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لِتَمَامِ الْإِفَاضَةِ وَسَعْيِهَا أَيْ فَيَمْشِي لِتَمَامِ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ إنْ جَعَلَ مَشْيَهُ فِي حَجٍّ، وَإِنْ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ يَمْشِي حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ سَعْيِهَا. الثَّالِثُ: مَفْهُومُ قَوْلِهِ: حَلَفَ بِالْمَشْيِ أَنَّ مَنْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ بِالْمَسِيرِ أَوْ الذَّهَابِ لَا يَكُونُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، أَيْ لَا يَلْزَمُهُ مَشْيٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ حَجًّا أَوْ عُمْرَةً فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ، وَلَهُ أَنْ يَرْكَبَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ مَاشِيًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَغَى عَلَى الْمَسِيرِ وَالذَّهَابِ وَالرُّكُوبِ لِمَكَّةَ، وَمُطْلَقِ الْمَشْيِ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمَكَّةَ، وَلَا الْبَيْتِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصَدَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ الْحَجَّ أَوْ الْعُمْرَةَ فَيَلْزَمُهُ ذَلِكَ رَاكِبًا إلَّا أَنْ يَنْوِيَ الْمَشْيَ. (فَإِنْ قِيلَ) الْمَسِيرُ وَالذَّهَابُ كَالْمَشْيِ فَلِمَ لَزِمَ الْحَجُّ أَوْ الْعُمْرَةُ فِي الْمَشْيِ دُونَ غَيْرِهِ؟ . فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْعُرْفَ اُشْتُهِرَ فِيهِ اسْتِعْمَالُ لَفْظِ الْمَشْيِ فِي الْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ بِخِلَافِ لَفْظِ نَحْوِ الْمَسِيرِ أَوْ الرُّكُوبِ، وَأَيْضًا السُّنَّةُ جَاءَتْ بِذَلِكَ. الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِثْلَ تَسْمِيَةِ مَكَّةَ تَسْمِيَةُ الْبَيْتِ أَوْ جُزْءٍ مُتَّصِلٍ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ: عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى الصَّفَا أَوْ الْمَرْوَةِ أَوْ عَرَفَةَ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَحَدَ النُّسُكَيْنِ أَوْ يَنْوِيَ الْحَجَّ عِنْدَ قَوْلِهِ إلَى عَرَفَةَ فَيَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ. الْخَامِسُ: كُلُّ مَنْ لَزِمَهُ الْمَشْيُ لَا يَجُوزُ لَهُ الرُّكُوبُ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ الرُّكُوبَ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا رُكُوبُ الْبَحْرِ، وَلَوْ اُعْتِيدَ لِسَفَرِ الْحَجِّ إلَّا لِضَرُورَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَحْرٌ اُضْطُرَّ لَهُ لَا اُعْتِيدَ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَصُورَةُ الِاضْطِرَارِ أَنْ يَنْذُرَ الْمَشْيَ إلَى مَكَّةَ وَالْحَالُ أَنَّهُ فِي جَزِيرَةٍ فِي الْبَحْرِ مَثَلًا. السَّادِسُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ النَّاذِرِ مِنْ بَلَدِهِ وَسَكَتَ عَمَّا لَوْ كَانَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ بِالْمَشْيِ قَاطِنًا بِمَكَّةَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَخَرَجَ مَنْ بِهَا وَأَتَى بِعُمْرَةٍ، فَإِذَا قَالَ: لِلَّهِ عَلَيَّ الْمَشْيُ إلَى بَيْتِ اللَّهِ أَوْ إلَى مَكَّةَ، وَهُوَ سَاكِنٌ بِهَا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْخُرُوجُ إلَى الْحِلِّ، وَيُحْرِمُ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ قَصْدَ النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ الْإِتْيَانُ مِنْ غَيْرِهَا إلَيْهَا وَأَوَّلُ ذَلِكَ الْحِلُّ. السَّابِعُ: يَجِبُ حَمْلُ قَوْلِهِ: فَلْيَمْشِ إنْ شَاءَ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ حَجَّةَ الصَّرُورَةِ وَاجِبَةٌ عَلَى التَّرَاخِي أَوْ أَنَّ مَا هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى غَيْرِ الصَّرُورَةِ، وَحِينَئِذٍ فَلَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا هُنَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ الْآتِي وَعَلَى الصَّرُورَةِ جَعَلَ مَشْيَهُ فِي عُمْرَةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ التَّحْقِيقِ. (فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْمَشْيِ) النَّاذِرُ أَوْ الْحَالِفُ إلَى مَكَّةَ بَعْدَ خُرُوجِهِ مُعْتَقِدًا الْقُدْرَةَ عَلَى مَشْيِ جَمِيعِ الطَّرِيقِ (رَكِبَ) فِي بَقِيَّةِ الْمَسَافَةِ وَيَمْضِي عَلَى فِعْلِهِ (ثُمَّ يَرْجِعُ) مَرَّةً (ثَانِيَةً إنْ قَدَرَ فَيَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ) بِشَرْطَيْنِ: أَحَدِهِمَا أَنْ يَكُونَ رَكِبَ كَثِيرًا أَوْ يَكُونَ رَكِبَ الْمَنَاسِكَ فَقَطْ، وَهِيَ أَفْعَالُ الْحَجِّ مِنْ حِينِ خُرُوجِهِ مِنْ مَكَّةَ إلَى رُجُوعِهِ مِنْ عَرَفَةَ إلَى مِنًى وَالْكَثْرَةُ بِحَسَبِ مَسَافَتِهِ. وَالشَّرْطِ الثَّانِي مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنْ قَدَرَ عَلَى الْمَشْيِ حِينَ رُجُوعِهِ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ يَمْشِي أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ أَنَّهَا مَعْرُوفَةٌ لَهُ وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ أَمَاكِنَ رُكُوبِهِ بَلْ الْتَبَسَتْ عَلَيْهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ فِي رُجُوعِهِ أَنْ يَمْشِيَ الْجَمِيعَ، وَلَا هَدْيَ عَلَيْهِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ إنْ قَدَرَ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا عَلِمَ) مَنْ أَلْزَمْنَاهُ الرُّجُوعَ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ (أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ) عَلَى الْمَشْيِ إذَا رَجَعَ سَقَطَ عَنْهُ الرُّجُوعُ، وَ (قَعَدَ وَأَهْدَى) كَمَا لَوْ نَذَرَ الْمَشْيَ مَعَ عَجْزِهِ فَإِنَّهُ يَرْكَبُ وَيُهْدِي، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ نَوَى أَنَّهُ لَا يَمْشِي إلَّا مَا لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ فِي مَشْيِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُكَلَّفُ مَشْيُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ وَيَرْكَبُ، وَلَوْ كَانَ شَابًّا وَيُهْدِي وَتَبْرَأُ ذِمَّتُهُ. (وَقَالَ عَطَاءُ) بْنُ أَبِي رَبَاحٍ الْفَقِيهُ لَا الْمُحَدِّثُ (لَا يَرْجِعُ ثَانِيَةً، وَإِنْ قَدَرَ) عَلَى الْمَشْيِ فِي رُجُوعِهِ (وَيُجْزِئُهُ الْهَدْيُ) عَنْ الْمَشْيِ، وَهَذَا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَرَجَعَ وَأَهْدَى إنْ رَكِبَ كَثِيرًا، وَإِذَا رَجَعَ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِي مِثْلِ الْمُعَيَّنِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَيَّنَ شَيْئًا لَا بِلَفْظٍ، وَلَا نِيَّةٍ فَلَهُ الْمُخَالَفَةُ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ قَوْلِهِ: فَإِنْ عَجَزَ إلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ يَرْجِعُ ثَانِيَةً وُجُوبُ الرُّجُوعِ، وَلَوْ كَانَ مَحَلُّهُ بَعِيدًا جِدًّا كَإِفْرِيقِيَّةَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ مَحَلُّ لُزُومِ الرُّجُوعِ ثَانِيَةً إنْ كَانَ مَنْزِلُهُ قَرِيبًا مِنْ مَكَّةَ كَالْمِصْرِيِّ، وَمَنْ قَارَبَهُ لَا مَنْ بَعُدَ جِدًّا كَالْإِفْرِيقِيِّ، وَمَنْ يُقَارِبُهُ مِمَّنْ بَعُدَ عَنْ الْمِصْرِيِّ فَلَا يَلْزَمُهُ رُجُوعٌ، وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْهَدْيُ، كَمَا لَا يَلْزَمُ مَنْ رَكِبَ قَلِيلًا كَالْإِفَاضَةِ أَوْ كَانَ الْعَامَّ مُعَيِّنًا وَرَكِبَ جَمِيعَ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ يُهْدِي، وَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 غَيْرِ هَذَا أَفْضَلُ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّقْصِيرُ فِي هَذَا اسْتِبْقَاءً لِلشَّعَثِ فِي الْحَجِّ. وَمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُمَا رَاكِبًا إنْ نَوَى الصَّلَاةَ بِمَسْجِدَيْهِمَا، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَسَاجِدَ فَلَا يَأْتِيهَا مَاشِيًا وَلَا   [الفواكه الدواني] يَرْجِعُ، وَكَذَا لَوْ فَاتَهُ الْحَجُّ فِي الْعَامِ الَّذِي عَيَّنَهُ لِعُذْرٍ، بِخِلَافِ لَوْ عَيَّنَ الْعَامَ وَتَرَكَ الْمَشْيَ فِيهِ اخْتِيَارًا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ فِي ثَانِي عَامٍ. (وَإِذَا كَانَ) الْحَالِفُ بِالْمَشْيِ الْمُبْهَمِ أَوْ النَّاذِرُ (صَرُورَةً) أَيْ لَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ (جَعَلَ ذَلِكَ) الْمَشْيَ (فِي عُمْرَةٍ) يُوَفِّي بِهَا نَذْرَهُ (فَإِذَا طَافَ وَسَعَى) لَهَا (وَقَصَّرَ أَحْرَمَ بِالْحَجِّ) وُجُوبًا (مِنْ مَكَّةَ بِفَرْضِهِ) لِبَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ مِنْ النَّذْرِ بِالتَّحَلُّلِ مِنْ الْعُمْرَةِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى وُجُوبِ الْحَجِّ عَلَى الْفَوْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الصَّرُورَةِ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ ثُمَّ يَحُجُّ مِنْ مَكَّةَ عَلَى الْفَوْرِ، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ عَلَى جِهَةِ الْإِبْهَامِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ أَوْ نَذَرَ شَيْئًا مُعَيَّنًا مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ فَإِنَّهُ يَجْعَلُ مَشْيَهُ فِيمَا عَيَّنَهُ، وَمَفْهُومُ صَرُورَةٍ أَنَّ غَيْرَ الصَّرُورَةِ يَجْعَلُ مَشْيَهُ الْمُبْهَمَ فِيمَا شَاءَ مِنْ حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ. (تَنْبِيهٌ) أَشْعَرَ قَوْلُهُ جَعَلَهُ فِي عُمْرَةٍ وَبَعْدَ طَوَافِهِ وَسَعْيِهِ وَتَقْصِيرِهِ يُحْرِمُ بِحَجٍّ أَنَّهُ لَا يُحْرِمُ بِالْحَجِّ نَاوِيًا نَذْرَهُ وَفَرْضَهُ مُفْرِدًا أَوْ قَارِنًا فَإِنْ فَعَلَ أَجْزَأَهُ عَنْ النَّذْرِ، وَهَلْ إجْزَاؤُهُ عَنْ نَذْرِهِ فَقَطْ مُقَيَّدٌ بِأَنْ لَا يَكُونَ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ حَجًّا بِأَنْ نَذَرَ عُمْرَةً أَوْ مَشْيًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَيَّنَ فِي نَذْرِهِ أَوْ يَمِينِهِ حَجًّا فَلَا يُجْزِئُ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، أَوْ إجْزَاؤُهُ عَنْ النَّذْرِ فَقَطْ غَيْرُ مُقَيَّدٍ فِي ذَلِكَ تَأْوِيلَانِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ حَجّ نَاوِيًا نَذْرَهُ وَفَرْضَهُ قَارِنًا أَجْزَأَ عَنْ النَّذْرِ، وَهَلْ إنْ لَمْ يَنْذِرْ حَجًّا تَأْوِيلَانِ. (وَ) حَيْثُ جَعَلَ الْحَالِفُ أَوْ النَّاذِرُ مَشْيَهُ الْمُبْهَمَ فِي عُمْرَةٍ (كَانَ مُتَمَتِّعًا) أَيْ صَارَ مُتَمَتِّعًا لِإِتْمَامِ عُمْرَتِهِ فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ وَحَجِّهِ فِي عَامِهِ وَيَلْزَمُهُ الْهَدْيُ حَيْثُ كَانَ آفَاقِيًّا. (وَالْحِلَاقُ فِي) حَقِّ (غَيْرِ هَذَا أَفْضَلُ مِنْ التَّقْصِيرِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهُ التَّقْصِيرُ فِي هَذَا) الَّذِي جَعَلَ مَشْيَهُ فِي عُمْرَةٍ (اسْتِبْقَاءً لِلشَّعَثِ فِي الْحَجِّ) الْوَاجِبِ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِهِ فِي عَامِهِ؛ لِأَنَّهُ بِتَمَامِ عُمْرَتِهِ يُحْرِمُ بِالْحَجِّ فَيُطْلَبُ مِنْهُ بَقَاءُ شَعَثِهِ حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَاجُّ أَشْعَثُ أَغْبَرُ» وَغَيْرُ النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ الْمَذْكُورِ الْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ الْحِلَاقُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُطْلَبُ مِنْهُ بَقَاءُ الشَّعَثِ (تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِمَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ أَوْ نَذَرَهُ، مِنْهَا: مَنْ حَلَفَ بِالْمَشْيِ أَوْ نَذَرَهُ وَنَوَى الرُّجُوعَ مِنْهَا بِغَيْرِ إحْرَامٍ فَفِي هَذَا خِلَافٌ قِيلَ يَلْزَمُهُ الِاسْتِغْفَارُ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِ مَكَّةَ بِلَا إحْرَامٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِحْرَامُ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ إنْ مَشَى فِي أَشْهُرِ الْحَجِّ أَوْ بِعُمْرَةٍ إنْ مَشَى قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ. وَمِنْهَا: مَنْ نَوَى عِنْدَ نَذْرِهِ أَوْ حَلِفِهِ فِعْلَ خُصُوصِ الطَّوَافِ فَقِيلَ إنَّهُ يَلْزَمُهُ مَا نَوَاهُ فَقَطْ بِنَاءً عَلَى جَوَازِ دُخُولِهَا بِلَا إحْرَامٍ، وَأَيْضًا الطَّوَافُ عِبَادَةٌ يَجُوزُ انْفِرَادُهَا، وَالْمَشْهُورُ خِلَافُ هَذَا، وَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ الْإِحْرَامُ بِالْعُمْرَةِ. وَأَمَّا لَوْ نَوَى السَّعْيَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ خَاصَّةً فَيَنْبَنِي عَلَى نَاذِرِ طَاعَةٍ نَاقِصَةٍ، فَمَنْ أَلْزَمَ نَذْرَ الطَّاعَةِ النَّاقِصَةِ يَقُولُ بِلُزُومِ الْإِحْرَامِ بِعُمْرَةٍ؛ لِأَنَّ السَّعْيَ لَا يَكُونُ إلَّا أَثَرَ طَوَافٍ، وَمُقَابِلُهُ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَالِفِ أَوْ النَّذْرِ بِالْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ شَرَعَ فِي النَّاذِرِ أَوْ الْحَالِفِ بِالْمَشْيِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ نَذَرَ مَشْيًا إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ) نَذَرَ الْمَشْيَ (إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَتَاهُمَا) ، وَلَوْ (رَاكِبًا) ؛ لِأَنَّ لُزُومَ الْمَشْيِ إنَّمَا يَجِبُ فِي نَذْرِهِ إلَى مَكَّةَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ، وَلَوْ كَانَ حِينَ النَّذْرِ فِي أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَهَلَّ وَإِنْ كَانَ بِبَعْضِهَا أَوْ إلَّا لِكَوْنِهِ بِأَفْضَلَ خِلَافٌ، ثُمَّ بَيَّنَ شَرْطَ لُزُومِ الْإِتْيَانِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ بِقَوْلِهِ: (إنْ نَوَى) بِمَشْيِهِ أَيْ سَيْرِهِ إلَيْهِمَا (الصَّلَاةَ) ، وَلَوْ نَفْلًا، وَمِثْلُ الصَّلَاةِ الصَّوْمُ وَالِاعْتِكَافُ (بِمَسْجِدَيْهِمَا) وَيَقُومُ مَقَامَ نِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي هَذَيْنِ الْمَسْجِدَيْنِ تَسْمِيَتُهُمَا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَلْزَمُ: وَمَشَى لِلْمَدِينَةِ أَوْ إيلْيَاءَ إنْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةً بِمَسْجِدَيْهِمَا أَوْ يُسَمِّهِمَا فَيَرْكَبُ (، وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَنْوِ الصَّلَاةَ، وَمَا مَعَهَا بِمَسْجِدَيْهِمَا، وَلَا سَمَّاهُمَا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) مِنْ هَدْيٍ، وَلَا غَيْرِهِ؛ لِتَرْكِهِ الْإِتْيَانِ إلَيْهِمَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْمَشْيِ لَا قُرْبَةَ فِيهِ، بِخِلَافِ نَاذِرِهِ إلَى مَكَّةَ فَإِنَّهُ اُشْتُهِرَ فِي الْإِتْيَانِ إلَيْهَا لِلْحَجِّ أَوْ الْعُمْرَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ الْمَشْيُ إلَى مَسْجِدِ مَكَّةَ، وَلَوْ لِصَلَاةٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ نَاذِرَ الْمَشْيِ إلَى مَكَّةَ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ لَمْ يَنْوِ صَلَاةً، وَلَا صَوْمًا، وَلَا غَيْرَهُمَا وَيَجْعَلُهُ عِنْدَ التَّعْيِينِ فِيمَا عَيَّنَهُ، وَعِنْدَ عَدَمِ التَّعْيِينِ فِي حَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَأَمَّا نَاذِرُ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِهَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ إلَى الْمَدِينَةِ أَوْ إيلْيَاءَ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ فِيهِمَا. وَشَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِهِ فِي غَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا) نَاذِرُ الْمَشْيِ إلَى أَحَدِ الْمَسَاجِدِ (غَيْرِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ مَسَاجِدَ) مَسْجِدُ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَإِيلْيَاءَ (فَلَا) يَلْزَمُهُ أَنْ (يَأْتِيَهَا) مِنْ مَوْضِعِ نَذْرِهِ لَا (مَاشِيًا، وَلَا رَاكِبًا لِصَلَاةٍ نَذَرَهَا) فِيهَا، وَلَا لِاعْتِكَافٍ، وَلَا لِصَوْمٍ. (وَلْيُصَلِّ) أَوْ يَعْتَكِفْ أَوْ يَصُمْ (بِمَوْضِعِهِ) ، وَلَا يَتْرُكُ فِعْلَ مَا نَذَرَهُ؛ لِأَنَّهُ طَاعَةٌ وَيَسْقُطُ عَنْهُ السَّعْيُ؛ لِأَنَّهُ لَا قُرْبَةَ فِيهِ إلَى غَيْرِ مَكَّةَ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلْيُصَلِّ بِمَوْضِعِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْضِعُ الَّذِي نَذَرَ الصَّلَاةَ فِيهِ قَرِيبًا لِمَوْضِعِهِ، وَهَذَا قَوْلٌ وَمُقَابِلُهُ يُحْكَى الْخِلَافُ فِي الْقَرِيبِ جِدًّا، فَقِيلَ: يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ إلَيْهِ، وَقِيلَ: يَفْعَلُ مَا نَذَرَهُ بِمَوْضِعِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ الْإِتْيَانُ إلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ قَرُبَ جِدًّا كَالْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يُلْغَى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 رَاكِبًا لِصَلَاةٍ نَذَرَهَا وَلْيُصَلِّ بِمَوْضِعِهِ. وَمَنْ نَذَرَ رِبَاطًا بِمَوْضِعٍ مِنْ الثُّغُورِ فَذَلِكَ عَلَيْهِ أَنْ يَأْتِيَهُ.   [الفواكه الدواني] وَمَشْيٌ لِمَسْجِدٍ، وَإِنْ لِاعْتِكَافٍ إلَّا الْقَرِيبَ جِدًّا فَقَوْلَانِ. قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ إنَّ مَنْ نَذَرَ الْمَشْيَ إلَى مَسْجِدٍ غَيْرِ الثَّلَاثَةِ وَلَوْ لِاعْتِكَافٍ أَوْ صَلَاةٍ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ مَا نَذَرَهُ فِيهِ وَإِنَّمَا يَفْعَلُهُ بِمَوْضِعِ نَذْرِهِ إلَّا الْقَرِيبُ جِدًّا فَفِيهِ قَوْلَانِ بِالْإِتْيَانِ إلَيْهِ وَعَدَمِهِ وَيَفْعَلُ مَنْذُورَهُ بِمَوْضِعِهِ كَالْبَعِيدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ خَبَرُ مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلَّا إلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَالْمَسْجِدُ الْحَرَامُ وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى» ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ خَبَرُ: «مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ» ؛ لِأَنَّهُ عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ وَخُصَّتْ لِزِيَادَةِ الْفَضْلِ بِهَا فَلَا يَلْحَقُ بِهَا غَيْرَهَا. (تَنْبِيهٌ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ لُزُومِ الْمَشْيِ إلَى غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ، وَبَيْنَ مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ نَاذِرَ زِيَارَةَ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ زِيَارَةَ رَجُلٍ صَالِحٍ حَيٍّ أَوْ مَيِّتٍ يَلْزَمُهُ، وَلَوْ كَانَ بِمَوْضِعٍ بَعِيدٍ عَنْ النَّاذِرِ، وَلَكِنْ لَا يَلْزَمُهُ الْمَشْيُ؛ لِتَوَقُّفِ الْوَفَاءِ بِالنَّذْرِ عَلَى السَّعْيِ إلَيْهِ، بِخِلَافِ نَاذِرِ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ فِي أَيِّ مَسْجِدٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُرِدْ تَفَاضُلَهَا فِي غَيْرِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ. وَلَكِنْ وَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ بَعْدَ الِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ بَيْتَ الْمَقْدِسِ دُونَهُمَا فِي الْفَضْلِ، فَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ مَالِكٌ أَنَّ الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ وَوَافَقَهُ عَلَى هَذَا أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ فِي أَشْهَرِ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ: إنَّ مَكَّةَ أَفْضَلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ، ثُمَّ مَكَّةُ أَفْضَلُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبَيْتُ الْمَقْدِسِ أَفْضَلُ مِنْ جَمِيعِ الْمَسَاجِدِ الْمَنْسُوبَةِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَسْجِدِ قُبَاءَ وَمَسْجِدِ الْفَتْحِ، وَمَسْجِدِ الْعِيدِ، وَمَسْجِدِ ذِي الْحُلَيْفَةِ وَغَيْرِهَا، اُنْظُرْ التَّتَّائِيَّ وَالْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَالتَّفْضِيلُ مَبْنِيٌّ عَلَى كَثْرَةِ الثَّوَابِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِمَا، وَالْخِلَافُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي غَيْرِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ عَلَى سَائِرِ بِقَاعِ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتِ وَعَلَى الْكَعْبَةِ وَعَلَى الْعَرْشِ كَمَا نَقَلَهُ السُّبْكِيُّ لِضَمِّهِ أَجْزَاءِ الْمُصْطَفَى الَّذِي هُوَ أَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَعَلَّ مَعْنَى فَضْلِ الْقَبْرِ عَلَى غَيْرِهِ أَنَّهُ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ غَيْرِهِ، لَا لِمَا قَالَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي تَفْضِيلِ الْمَسَاجِدِ عَلَى بَعْضِهَا فَافْهَمْ. وَلَمَّا كَانَ الرِّبَاطُ كَالْجِهَادِ فِي الثَّوَابِ فِي الْجُمْلَةِ قَالَ: (وَمَنْ نَذَرَ رِبَاطًا) أَيْ إقَامَةً (بِمَوْضِعٍ مِنْ الثُّغُورِ) بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَغْرٍ مَحَلُّ الْخَوْفِ كَدِمْيَاطَ وَعَسْقَلَانَ، وَإِسْكَنْدَرِيَّة (فَذَلِكَ) الرِّبَاطُ الْمَذْكُورُ (عَلَيْهِ) أَيْ النَّاذِرِ (أَنْ يَأْتِيَهُ) ؛ لِأَنَّ الرِّبَاطَ قُرْبَةٌ يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِنَذْرِهَا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ نَذَرَ الرِّبَاطَ بِمَحَلٍّ، وَهُوَ بِثَغْرٍ آخَرَ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ مَا نَذَرَ الرِّبَاطَ فِيهِ مُسَاوِيًا لِمَا هُوَ بِهِ فِي الْخَوْفِ أَوْ أَقَلَّ رَابَطَ بِمَحَلِّ نَذْرِهِ، وَإِنْ كَانَ مَا نَذَرَ الرِّبَاطَ فِيهِ أَشَدَّ خَوْفًا انْتَقَلَ إلَيْهِ لِفَضْلِ الرِّبَاطِ فِيمَا كَثُرَ فِيهِ الْخَوْفُ عَلَى مَا هُوَ دُونَهُ فِي الْخَوْفِ، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ. (تَنْبِيهٌ) كَمَا يَلْزَمُ الْإِتْيَانُ لِلثَّغْرِ لِلرِّبَاطِ فِيهِ، يَلْزَمُ الْإِتْيَانُ لِنَذْرِ صَوْمٍ أَوْ صَلَاةٍ بِهِ، وَلَوْ كَانَ حِينَ النَّذْرِ بِمَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ لَا لِنَذْرِ اعْتِكَافٍ، لِأَنَّ مَحَلَّ الرِّبَاطِ لَيْسَ مَحَلًّا لِلِاعْتِكَافِ، وَأَيْضًا الْمُرَابَطَةُ تُنَافِي الِاعْتِكَافَ؛ لِقِصَرِهِ عَلَى مُلَازَمَةِ الصَّلَاةِ وَالتِّلَاوَةِ وَالذِّكْرِ، بِخِلَافِ نَذْرِهِ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ فَيَلْزَمُ كَلُزُومِ الْإِتْيَانِ إلَيْهَا لِلصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ بِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ بَابٌ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالْخُلْعِ وَالرَّضَاعِ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالظِّهَارِ وَالْإِيلَاءِ وَاللِّعَانِ وَالْخُلْعِ وَالرَّضَاعِ] [أَرْكَان النِّكَاح] وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ مَسَائِلِ النَّذْرِ وَالْيَمِينِ شَرَعَ فِي النِّكَاحِ وَتَوَابِعِهِ بِقَوْلِهِ: (بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (النِّكَاحِ، وَ) أَحْكَامِ (الطَّلَاقِ وَ) أَحْكَامِ (الرَّجْعَةِ وَ) أَحْكَامِ (الظِّهَارِ وَ) أَحْكَامِ (الْإِيلَاءِ وَ) أَحْكَامِ (اللِّعَانِ وَ) أَحْكَامِ (الْخُلْعِ وَ) أَحْكَامِ (الرَّضَاعِ) . فَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ جَمَعَهَا فِي تَرْجَمَةٍ اخْتِصَارًا وَذَكَرَهَا مُفَصَّلَةً، وَنَحْنُ نُبَيِّنُ حَقِيقَةَ كُلِّ وَاحِدٍ فِي مَحَلِّهِ اللُّغَوِيَّةَ وَالْعُرْفِيَّةَ عَلَى حَسَبِ مَا ذَكَرَهُ فَنَقُولُ: حَقِيقَةُ النِّكَاحِ فِي اللُّغَةِ الدُّخُولُ إذْ يُقَالُ: نَكَحَ النَّوْمُ الْعَيْنَ بِمَعْنَى دَخَلَ فِيهَا، وَنَكَحَتْ الْحَصَى أَخْفَافَ الْإِبِلِ دَخَلَ فِيهَا، وَالْبَذْرُ الْأَرْضَ وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْعَقْدِ مَجَازًا لِعَلَاقَةِ السَّبَبِيَّةِ وَالْمُسَبَّبِيَّة وَعَلَى الْوَطْءِ حَقِيقَةً، وَفِي الشَّرْعِ عَلَى الْعَكْسِ فَإِطْلَاقُهُ فِيهِ عَلَى الْوَطْءِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ، وَعَلَى الْعَقْدِ مِنْ بَابِ الْحَقِيقَةِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: النِّكَاحُ عَقْدٌ عَلَى مُجَرَّدِ مُتْعَةِ التَّلَذُّذِ بِآدَمِيَّةٍ غَيْرُ مُوجِبٍ قِيمَتَهَا بِبَيِّنَةٍ قَبْلَهُ، غَيْرُ عَالِمٍ عَاقِدُهَا حُرْمَتَهَا إنْ حُرِّمَتْ بِالْكِتَابِ عَلَى الْمَشْهُورِ أَوْ الْإِجْمَاعِ عَلَى الْآخَرِ، فَيَخْرُجُ بِغَيْرِ مُوجِبٍ قِيمَتَهَا عَقْدُ تَحْلِيلِ الْأَمَةِ إنْ وَقَعَ بِبَيِّنَةٍ، وَيَدْخُلُ نِكَاحُ الْخَصِيِّ وَالطَّارِئَيْنِ لِأَنَّهُ بِبَيِّنَةٍ صِدْقًا فِيهَا، وَيَخْرُجُ بِغَيْرِ عَالِمٍ عَاقِدُهَا حُرْمَتَهَا الْعَقْدُ عَلَى مَنْ تَحْرُمُ عَلَى الْعَاقِدِ مَعَ عِلْمِهِ، فَإِنْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ بِالْكِتَابِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنْ الزِّنَا وَمُقَابِلُهُ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ، وَإِنْ كَانَ الْحُرْمَةُ بِالْإِجْمَاعِ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ مِنْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ وَمُقَابِلُهُ مِنْ الزِّنَا، وَالْحُرْمَةُ بِالْكِتَابِ كَالْأُمِّ دَنِيَّةٌ فَإِنَّ حُرْمَتَهَا بِنَصِّ الْكِتَابِ، وَالْمُحَرَّمَةُ بِالْإِجْمَاعِ كَأُمِّ الْأُمِّ كَمَا قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الرِّسَالَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ بِآدَمِيَّةٍ يَقْتَضِي عَدَمَ صِحَّةِ نِكَاحِ الْجِنِّيَّةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ سُئِلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ نِكَاحِ الْجِنِّ فَقَالَ: لَا أَرَى بِهِ بَأْسًا فِي الدِّينِ، وَلَكِنْ أَكْرَهُ أَنْ تُوجَدَ امْرَأَةٌ حَامِلَةٌ فَتَدَّعِي أَنَّهُ مِنْ زَوْجِهَا الْجِنِّيِّ فَيَكْثُرُ الْفَسَادُ، فَقَوْلُهُ لَا بَأْسَ يَقْتَضِي الْجَوَازَ، وَالتَّعْلِيلُ يَقْتَضِي الْمَنْعَ وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْعَكْسِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ الْأَصْلِيَّ وَهُوَ النَّدْبُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَفِي رِوَايَةٍ «أُبَاهِي بَدَلَ مُكَاثِرٌ» ، وَلِحَدِيثِ: «أَرْبَعٌ مِنْ سُنَنِ الْمُرْسَلِينَ» وَعَدَّ مِنْهَا النِّكَاحَ وَمَحَلُّ نَدْبِهِ إنْ رَجَّى النَّسْلَ أَوْ كَانَتْ نَفْسُهُ تَشْتَاقُ النِّكَاحَ دُونَ خَشْيَةِ زِنًا بِتَرْكِهِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ الْمُضَيِّقُ وَذَلِكَ إذَا خَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ وَلَا يَدْفَعُ عَنْهُ صَوْمٌ وَلَا تَسَرٍّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَنْدَفِعُ عَنْهُ بِالصَّوْمِ أَوْ التَّسَرِّي فَالْوَاجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَلَكِنَّ الزَّوَاجَ أَفْضَلُ لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ فَإِنَّهُ لَهُ وِجَاءٌ» فَقَدَّمَ النِّكَاحَ عَلَى الصَّوْمِ، وَالسَّرَارِي تَنْتَقِلُ طِبَاعُهُنَّ لِلْوَلَدِ، وَيُبَاحُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَرْجُو النَّسْلَ وَلَا تَمِيلُ نَفْسُهُ إلَيْهِ وَلَا يَقْطَعُهُ عَنْ فِعْلِ خَيْرٍ، وَيَكْرَهُ فِي حَقِّ مَنْ يَقْطَعُهُ عَنْ فِعْلِ الْعِبَادَةِ غَيْرِ الْوَاجِبَةِ، وَيَحْرُمُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يَخْشَى بِتَرْكِهِ زِنًا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ أَوْ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا مِنْ الْحَرَامِ، وَالْمَرْأَةُ كَالرَّجُلِ إلَّا فِي التَّسَرِّي، وَالْبَاءَةُ بِالْمَدِّ وَالْهَاءِ مَعْنَاهَا هُنَا الْجِمَاعُ، وَالْوِجَاءُ بِكَسْرِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ الْمُرَادُ بِهِ هُنَا كَسْرُ الشَّهْوَةِ وَلَهُ فَوَائِدُ أَعْظَمُهَا دَفْعُ غَوَائِلِ الشَّهْوَةِ وَيَلِيهَا أَنَّهُ سَبَبٌ لِحَيَاتَيْنِ: فَانِيَةٌ وَهِيَ تَكْثِيرُ النَّسْلِ، وَبَاقِيَةٌ هِيَ الْحِرْصُ عَلَى الدَّارِ الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ يُنَبِّهُ عَلَى لَذَّةِ الْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ إذَا ذَاقَ لَذَّتَهُ يُسْرِعُ إلَى فِعْلِ الْخَيْرِ الْمُوصِلِ إلَى اللَّذَّةِ الْأُخْرَوِيَّةِ الَّتِي هِيَ أَعْظَمُ وَلَا سِيَّمَا النَّظَرُ إلَى وَجْهِهِ الْكَرِيمِ، وَيَلِيهَا تَنْفِيذُ مَا أَرَادَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَأَحَبَّهُ مِنْ بَقَاءِ النَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَامْتِثَالُ أَمْرِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» الْحَدِيثَ وَيَلِيهَا بَقَاءُ الذِّكْرِ وَرَفْعِ الدَّرَجَاتِ بِسَبَبِ دُعَاءِ الْوَلَدِ الصَّالِحِ بَعْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِ أَبِيهِ بِمَوْتِهِ وَلَهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 وَلَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشَاهِدَيْ عَدْلٍ فَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا فِي الْعَقْدِ فَلَا يَبْنِي بِهَا حَتَّى يُشْهِدَا. وَأَقَلُّ الصَّدَاقِ رُبُعُ   [الفواكه الدواني] الْوَلِيُّ وَالْمَحَلُّ وَالصِّيغَةُ وَالصَّدَاقُ الْمَفْرُوضُ وَلَوْ حُكْمًا، وَأَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَرُكْنُهُ وَلِيٌّ وَصَدَاقٌ وَمَحَلٌّ وَصِيغَةٌ، وَقَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الْوَلِيِّ اهْتِمَامًا بِهِ لِمُخَالَفَةِ بَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي اعْتِبَارِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا نِكَاحَ) صَحِيحٌ عِنْدَ الْأَئِمَّةِ سِوَى أَبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ (إلَّا بِ) مُبَاشَرَةِ (وَلِيٍّ) وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَنْ لَهُ عَلَى الْمَرْأَةِ مِلْكٌ أَوْ أُبُوَّةٌ أَوْ تَعْصِيبٌ أَوْ إيصَاءٌ أَوْ كَفَالَةٌ أَوْ سَلْطَنَةٌ أَوْ ذُو إسْلَامٍ وَشُرُوطُهُ سِتَّةٌ: الْإِسْلَامُ إذَا كَانَتْ الزَّوْجَةُ مُسْلِمَةً وَأَنْ يَكُونَ حَلَالًا لِأَنَّ الْإِحْرَامَ مِنْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ يَمْنَعُ صِحَّةَ الْعَقْدِ، وَالذُّكُورَةُ فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْأُنْثَى وَلَوْ عَلَى ابْنَتِهَا أَوْ أَمَتِهَا، وَالْحُرِّيَّةُ فَلَا يُزَوِّجُ الرَّقِيقُ ابْنَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَالْبُلُوغُ فَلَا يُزَوِّجُ الصَّبِيُّ أُخْتَهُ أَوْ أَمَتَهُ، وَالْعَقْلُ فَلَا يُزَوِّجُ الْمَجْنُونُ ابْنَتَهُ، فَهَذِهِ سِتَّةُ شُرُوطٍ فِي وَلِيِّ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا الْعَدَالَةُ فَهِيَ شَرْطُ كَمَالٍ فَيُسْتَحَبُّ وُجُودُهَا كَمَا يُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ رَشِيدًا، فَيَعْقِدُ السَّفِيهُ ذُو الرَّأْيِ عَلَى ابْنَتِهِ وَيُسْتَحَبُّ لَهُ اسْتِئْذَانُ وَلِيِّهِ، فَإِنْ عَقَدَ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لَمْ يُفْسَخْ عَقْدُهُ، بِخِلَافِ ضَعِيفِ الرَّأْيِ يَعْقِدُ لِنَحْوِ ابْنَتِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ عَقْدُهُ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى بَعْضِ تِلْكَ الشُّرُوطِ فِي أَثْنَاءِ الْبَابِ، وَأَمَّا وَكِيلُ الزَّوْجِ فِي الْعَقْدِ فَلَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إلَّا التَّمْيِيزُ وَعَدَمُ الْإِحْرَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ تَوْكِيلُ زَوْجِ الْجَمِيعِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى رُكْنِيَّةِ الْوَلِيِّ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} [البقرة: 232] وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ مِنْ الْآيَةِ نَهْيُ الْأَوْلِيَاءِ عَنْ الْعَضْلِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَقْدُ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا جَائِزًا لَمْ يَكُنْ الْوَلِيُّ عَاضِلًا بِامْتِنَاعِهِ مِنْ الْعَقْدِ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَعْقِدُ عَلَى نَفْسِهَا وَلَا تُبَالِي بِمَنْعِ الْوَلِيِّ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَخَبَرُ: «لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ وَلَا الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا» وَخَبَرُ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» قَالَهُ ثَلَاثًا، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تُزَوِّجُ نَفْسَهَا قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا، وَتُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى نَحْوِ الصَّغِيرَةِ، فَإِنْ وَقَعَ النِّكَاحُ عِنْدَنَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ فُسِخَ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ، وَهَلْ بِطَلَاقٍ أَوْ لَا قَوْلَانِ، وَلَهَا بِالدُّخُولِ الْمُسَمَّى إنْ كَانَ حَلَالًا وَإِلَّا فَصَدَاقُ الْمِثْلِ (وَ) لَا نِكَاحَ إلَّا بِ (صَدَاقٍ) سُمِّيَ وَلَوْ حُكْمًا وَالْمُضِرُّ إنَّمَا هُوَ الدُّخُولُ عَلَى إسْقَاطِ الصَّدَاقِ فَإِنَّهُ يَقْتَضِي فَسْخَ الْعَقْدِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَإِنْ ثَبَتَ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَوْ حُكْمًا لِيَدْخُلَ نِكَاحُ التَّفْوِيضِ وَهُوَ عَقْدٌ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ فَإِنَّهُ صَحِيحٌ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ حَتَّى يُسَمِّيَ لَهَا صَدَاقًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى رُكْنِيَّتِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} [النساء: 4] وَالْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ حَقِيقَتِهِ وَقَدْرِهِ: (وَ) لَا نِكَاحَ إلَّا بِشَهَادَةِ (شَاهِدَيْ عَدْلٍ) وَيُسْتَحَبُّ إشْهَادُهُمَا عِنْدَ الْعَقْدِ (فَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ الْأَلِفُ ضَمِيرُ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ (فِي) حَضْرَةِ (الْعَقْدِ فَلَا يَبْنِ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْتَلِيَ (بِهَا حَتَّى يُشْهِدَ) أَيْ الزَّوْجُ وَهَذِهِ النُّسْخَةُ مُنَاسَبَةٌ لِقَوْلِهِ فَلَا يَبْنِ، وَنُسْخَةُ يُشْهِدَا بِأَلِفِ الِاثْنَيْنِ مُنَاسِبَةٌ لِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ يُشْهِدَا بِضَمِيرِ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، فَإِنْ وَجَدَا رَجُلَيْنِ عَدْلَيْنِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَأَشْهَدَاهُمَا عَلَى وُقُوعِ الْعَقْدِ كَفَى فِي الْوُجُوبِ، وَكَذَا إنْ لَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ شَاهِدَيْنِ وَأَشْهَدَهُمَا، بِخِلَافِ لَوْ أَشْهَدَ أَحَدُهُمَا شَاهِدَيْنِ ثُمَّ لَقِيَهُمَا الْآخَرُ وَحْدَهُ وَأَشْهَدَهُمَا فَإِنَّهُ لَا يَكْفِي، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ أَرْبَعَةٍ عِنْدَ التَّفَرُّقِ وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِلْبِكْرِ، وَأَمَّا لَوْ عَقَدَ عَلَى ثَيِّبٍ مِنْ غَيْرِ شُهُودٍ وَأَشْهَدَا مُتَفَرِّقَيْنِ فَلَا بُدَّ مِنْ سِتَّةٍ شَاهِدَيْنِ عَلَى الزَّوْجِ وَشَاهِدَيْنِ عَلَى الْوَلِيِّ وَشَاهِدَيْنِ عَلَى الزَّوْجَةِ، وَهَذِهِ تُسَمَّى شَهَادَةُ الْإِبْدَادِ أَيْ التَّفَرُّقِ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الْإِشْهَادِ وَاجِبٌ، وَأَمَّا حُضُورُهُمَا عِنْدَ الْعَقْدِ فَمُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا عِنْدَ الدُّخُولِ فَوَاجِبٌ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَإِشْهَادُ عَدْلَيْنِ غَيْرِ الْوَلِيِّ بِعَقْدِهِ وَفُسِخَ إنْ دَخَلَا بِلَاهُ، وَلِأَحَدٍ إنْ فَشَا وَلَوْ عَلِمَ كُلُّ وَاحِدٍ بِحُرْمَةِ الدُّخُولِ بِلَا إشْهَادٍ، وَالْفَسْخُ بِطَلْقَةٍ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ وَتَكُونُ بَائِنَةً لِحُرْمَةِ الْوَطْءِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الْفُشُوِّ شَهَادَةُ وَاحِدٍ بِالْعَقْدِ أَوْ الْبِنَاءِ، وَيَحْصُلُ الْفُشُوُّ بِالْوَلِيمَةِ وَضَرْبِ الدُّفِّ وَالدُّخَانِ، وَشَرْطُ الشَّاهِدِ فِي النِّكَاحِ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ وَلِيٍّ لِلْمَرْأَةِ، فَلَا يَصِحُّ شَهَادَةُ وَلِيِّهَا لِاتِّهَامِهِ بِالسَّتْرِ عَلَيْهَا، كَمَا لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ أَنَّهَا أَذِنَتْ فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا لِاتِّهَامِهِ عَلَى تَصَحُّحِ فِعْلِ نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ وَلِيٍّ لَا خُصُوصُ الْمُبَاشِرِ لِعَقْدِ نِكَاحِهَا، وَشَرْطُهُ أَيْضًا الْعَدَالَةُ وَقْتَ تَحَمُّلِ شَهَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَدَالَةُ لَا تُشْتَرَطُ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ إلَّا وَقْتَ الْأَدَاءِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ الْعُدُولُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ الدُّخُولِ اُسْتُكْثِرَ الشُّهُودُ كَالثَّلَاثِينَ وَالْأَرْبَعِينَ. (تَتِمَّةٌ) بَقِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ الْمَحَلُّ وَالصِّيغَةُ، أَمَّا الْمَحَلُّ فَهُوَ الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ الْخَالِيَانِ مِنْ الْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ كَالْإِحْرَامِ وَالْمَرَضِ وَالْعِدَّةِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ وَالصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ أَوْ مِنْ وَكِيلِهِمَا، كَأَنْكَحْتُ وَزَوَّجْت أَوْ وَهَبْت أَوْ تَصَدَّقْت أَوْ مَنَحْت أَوْ أَعْطَيْت مِنْ ذِكْرِ الصَّدَاقِ، وَيَدْخُلُ فِي الدَّالِّ الْكِتَابَةُ وَالْإِشَارَةُ وَلَوْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ فِي حَقِّ الْأَخْرَسِ إذَا كَانَ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، وَأَمَّا مِنْ النَّاطِقِ فَتَكْفِي مِنْ أَحَدِهِمَا إنْ وَقَعَ فِي الْمُبْتَدِئِ لَفْظُ الْإِنْكَاحِ أَوْ التَّزْوِيجِ، سَوَاءٌ كَانَتْ الْإِشَارَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَوْ الْوَلِيِّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ إنَّمَا ابْتَدَأَ بِلَفْظٍ نَحْوِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ مَعَ ذِكْرِ الصَّدَاقِ فَإِنَّمَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 دِينَارٍ. وَلِلْأَبِ إنْكَاحُ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ بِغَيْرِ إذْنِهَا وَإِنْ بَلَغَتْ وَإِنْ شَاءَ شَاوَرَهَا وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبِ فِي الْبِكْرِ وَصِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ فَلَا   [الفواكه الدواني] الزَّوْجِ، بِخِلَافِ عَكْسِهِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمُبْتَدِئُ بِلَفْظٍ نَحْوِ الْهِبَةِ الزَّوْجَ فَلَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ مِنْ الْوَلِيِّ، وَالضَّابِطُ أَنَّ الْمُبْتَدِئَ إنْ نَطَقَ بِالْإِنْكَاحِ أَوْ الزَّوَاجِ صَحَّتْ الْإِشَارَةُ مِنْ غَيْرِهِ زَوْجًا أَوْ وَلِيًّا إنْ نَطَقَ الْمُبْتَدِئُ بِنَحْوِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بُنِيَ عَلَى كَوْنِ الْمُبْتَدِئِ الْوَلِيَّ، فَلَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ مِنْ الزَّوْجِ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْحَطَّابِ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى ابْنِ الْحَاجِبِ أَنْ تَكْفِيَ الْإِشَارَةُ مِنْ الزَّوْجِ أَيْضًا. قَالَ جَمِيعَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ بِنَحْوِ الْهِبَةِ الزَّوْجَ لَا تَكْفِي الْإِشَارَةُ مِنْ الْوَلِيِّ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَقَوْلُهُ وَهَذَا فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَى النُّطْقِ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ فَيَجُوزُ الْإِشَارَةُ مِنْهُ وَلَوْ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، يَقْضِي أَنَّ الْقَادِرَ لَا تَجُوزُ الْإِشَارَةُ مِنْهُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، فَلَا يَجُوزُ الْفَصْلُ بَيْنَهُمَا بِغَيْرِ الْخُطْبَةِ لِيَسَارَتِهِمَا، بِخِلَافِ التَّرْتِيبِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ، وَيَلْزَمُ النِّكَاحُ بِمُجَرَّدِ حُصُولِ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَلَوْ قَالَ الْأَوَّلُ بَعْدَ رِضَا الْآخَرِ: لَا أَرْضَى أَنَا كُنْت هَازِلًا لِأَنَّ هَزْلَ النِّكَاحِ جَدٌّ وَلَوْ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى إرَادَةِ الْهَزْلِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ جَرَيَانُ الْعَادَةِ بِمُسَاوَمَةِ السِّلَعِ لِمُجَرَّدِ اخْتِبَارِ ثَمَنِهَا، وَمِثْلُ النِّكَاحِ الطَّلَاقُ وَالرَّجْعَةُ وَالْعِتْقُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، رَاجِعْ شَرْحَ الْأُجْهُورِيِّ عَلَى خَلِيلٍ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي جَوَازِ وَطْءِ الزَّوْجِ بَعْدَ قَوْلِهِ: لَمْ أُرِدْ النِّكَاحَ وَإِنَّمَا كُنْت هَازِلًا، وَظَهَرَ لَنَا جَوَازُهُ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشَّرْعَ رَتَّبَ صِحَّةَ النِّكَاحِ عَلَى وُجُوبِ الصِّيغَةِ الصَّرِيحَةِ وَقَدْ وُجِدَتْ، وَسَلَّمَ لَنَا شُيُوخُنَا هَذَا الِاسْتِظْهَارَ حِينَ صَدَرَ الْبَحْثُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْفَوْرِيَّةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ يُسْتَثْنَى مِنْهُ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ فِي مَرَضِهِ: إنْ مِتّ فَقَدْ زَوَّجْت ابْنَتِي فُلَانَةَ مِنْ فُلَانٍ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ وَصَحَّ: إنْ مِتّ فَقَدْ زَوَّجْت ابْنَتِي بِمَرَضٍ، وَهَلْ إنْ قِيلَ بِقُرْبِ مَوْتِهِ تَأْوِيلَانِ، فَنَصَّ أَصْبَغُ عَلَى جَوَازِهَا سَوَاءٌ طَالَ زَمَانُ الْمَرَضِ أَوْ قَصُرَ، وَخُرُوجُهَا عَنْ الْأَصْلِ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يُقَاسُ عَلَيْهَا السَّيِّدُ يَقُولُ فِي مَرَضِهِ لِأَمَتِهِ: إنْ مِتّ مِنْ مَرَضِي فَقَدْ زَوَّجْت أَمَتِي مِنْ فُلَانٍ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِكَثْرَةِ وُقُوعِ النِّكَاحِ، وَمَا كَانَ ذَلِكَ يَنْبَغِي الْإِحَاطَةُ بِعِلْمِ أَحْكَامِهِ لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إلَيْهَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَنْ ثَانِي الْأَرْكَانِ وَهُوَ الصَّدَاقُ بِقَوْلِهِ: (وَأَقَلُّ الصَّدَاقِ رُبُعُ دِينَارٍ) مِنْ خَالِصِ الذَّهَبِ وَهُوَ وَزْنُ ثَمَانَ عَشَرَةَ حَبَّةً مِنْ مُتَوَسِّطِ الشَّعِيرِ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا أَكْثَرُهُ فَلَا حَدَّ لَهُ، وَالصَّدَاقُ بِفَتْحِ الصَّادِ وَكَسْرِهَا مُشْتَقٌّ مِنْ الصِّدْقِ لِأَنَّ وُجُودَهُ يَدُلُّ عَلَى صِدْقِ الزَّوْجَيْنِ، وَيُقَالُ لَهُ الْمَهْرُ وَالطَّوْلُ وَالنِّحْلَةُ، وَلَمْ أَرَ حَدَّهُ لِابْنِ عَرَفَةَ وَلَا غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ خَلِيلٌ: الصَّدَاقُ كَالثَّمَنِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ تَعْرِيفُهُ بِأَنَّهُ مُتَمَوَّلٌ يُمَلَّكُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا لِمُحَقَّقَةِ الْأُنُوثَةِ مِمَّنْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا عِنْدَ إرَادَةِ نِكَاحِهَا، فَقَوْلُنَا: مُتَمَوَّلٌ جِنْسٌ يَشْمَلُ الذَّوَاتِ وَالْمَنَافِعَ، وَيَخْرُجُ بِهِ مَا لَيْسَ كَذَلِكَ كَالْقِصَاصِ وَالْقِرَاءَةِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا صَدَاقًا، وَقَوْلُنَا: يُمَلَّكُ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا يُدْخِلُ نَحْوَ هِبَةِ أَبِيهَا لِفُلَانٍ أَوْ عِتْقِهِ عَنْهُ أَوْ عَنْهَا، لِأَنَّ الشَّارِعَ يُقَدَّرُ دُخُولَهُ فِي مَلَكَتِهَا قَبْلَ هِبَتِهِ أَوْ قَبْلَ عِتْقِهِ، وَقَوْلُنَا: لِمُحَقَّقَةِ الْأُنُوثَةِ لِإِخْرَاجِ الْأُنْثَى الْمُشْكِلِ لِأَنَّهُ لَا يَنْكِحُ وَلَا يُنْكَحُ، وَقَوْلُنَا: مِمَّنْ يَجُوزُ نِكَاحُهَا دُونَ آدَمِيَّةٍ لِيَشْمَلَ الْجِنِّيَّةَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا لِظَاهِرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي جَوَابِ سَائِلِهِ عَنْهُ: لَا بَأْسَ بِهِ فِي الدِّينِ، وَاعْتَمَدَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي كَوْنِ أَقَلِّهِ رُبُعَ دِينَارٍ عَلَى أَنَّهُ عِوَضٌ قِيَاسًا عَلَى إبَاحَةِ الْقَطْعِ فِي السَّرِقَةِ، فَلَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَقَلَّ مِنْ أَقَلِّهِ فَسَدَ إنْ لَمْ يُتِمَّهُ، وَيُفْسَخُ إنْ أَرَادَ الدُّخُولَ قَبْلَ إتْمَامِهِ، فَإِنْ أَتَمَّهُ قَبْلَ الدُّخُولِ فَلَا فَسَادَ، وَإِنْ دَخَلَ قَبْلَ إتْمَامِهِ ثَبَتَ النِّكَاحُ وَلَزِمَهُ إتْمَامُ الرُّبُعِ دِينَارٍ، وَكَانَ الْقِيَاسُ لُزُومَ صَدَاقِ الْمِثْلِ بِالدُّخُولِ، فَخَرَجَتْ هَذِهِ مِنْ الْقَاعِدَةِ فِي الْفَاسِدِ لِصَدَاقِهِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي الْفَسَادِ لَوْ عَقَدَ عَلَى إسْقَاطِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَكَذَلِكَ لَوْ وَقَعَ بِمَا لَا يُقْبَلُ شَرْعًا كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ جِلْدِ أُضْحِيَّةٍ، فَإِنَّهُ وَإِنْ صَحَّ تَمَلُّكُهُ لَا يَقْبَلُ النَّقْلَ بِالْبَيْعِ، وَالصَّدَاقُ كَالثَّمَنِ فِي الْجُمْلَةِ وَإِنْ أَجَازُوا فِيهِ الْغَرَرَ الْخَفِيفَ، كَأَنْ يَتَزَوَّجَهَا عَلَى شُورَتِهَا أَوْ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا أَوْ عَلَى عَدَدٍ مِنْ إبِلٍ أَوْ بَقَرٍ، وَلَوْ لَمْ يُوصَفْ لَهَا ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ مَشُورَةِ مِثْلِهَا فِي الْحَاضِرَةِ أَوْ فِي الْمِصْرِ، وَالْمُرَادُ بِشُورَتِهَا جِهَازُهَا وَمَتَاعُ بَيْتِهَا، وَلَهَا الْوَسَطُ مِنْ الْإِبِلِ أَوْ الْبَقَرِ بِاعْتِبَارِ رَغْبَةِ الزَّوْجِ فِيهَا، لِأَنَّ صَدَاقَ الْمِثْلِ مَا يَرْغَبُ بِهِ الزَّوْجُ فِي الزَّوْجَةِ بِاعْتِبَارِ دِينِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا وَبَلَدِهَا، وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَقَلَّ الصَّدَاقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ أَكْثَرَهُ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَكِنْ كَرِهَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْإِفْرَاطَ فِي كَثْرَةِ الصَّدَاقِ لِمَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مِنْ يُمْنِ الْمَرْأَةِ تَسْهِيلُ أَمْرِهَا وَقِلَّةُ صَدَاقِهَا» قَالَ عُرْوَةُ: وَأَنَا أَقُولُ عِنْدِي وَمِنْ شُؤْمِهَا تَعْسِيرُ أَمْرِهَا وَكَثْرَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 يُزَوِّجُهَا حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا. وَلَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ أَبٌ وَلَا غَيْرُهُ إلَّا بِرِضَاهَا وَتَأْذَنُ بِالْقَوْلِ وَلَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ إلَّا   [الفواكه الدواني] صَدَاقِهَا. وَلَمَّا كَانَ الْوَلِيُّ يَتَنَوَّعُ إلَى مُجْبِرٍ وَغَيْرِ مُجْبِرٍ بَلْ يَتَوَقَّفُ عَلَى مَشُورَةِ الْمَرْأَةِ وَإِجَازَتِهَا شَرَعَ فِي ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلِلْأَبِ) الَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُ (إنْكَاحُ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ) قَهْرًا عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ بِهَا الَّتِي لَمْ تَذْهَبْ عُذْرَتُهَا لِمُقَابَلَتِهَا بِالثَّيِّبِ وَيُقَالُ لَهَا الْعَذْرَاءُ إنْ لَمْ تَبْلُغْ اتِّفَاقًا بَلْ (وَإِنْ بَلَغَتْ) وَصَارَتْ عَانِسًا عَلَى الْمَشْهُورِ (بِغَيْرِ إذْنِهَا) وَبِغَيْرِ رِضَاهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبْرُ الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ وَلَوْ عَانِسًا إلَّا لِكَخَصِيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَأَدْخَلَتْ الْكَافُ كُلَّ ذِي عَيْبٍ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلزَّوْجَةِ كَالْعِنِّينِ وَالْمَجْذُومِ وَالْمَجْنُونِ بِذِي عَيْبٍ لَا يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَلَهُ جَبْرُهَا عَلَيْهِ، كَأَعْمَى أَوْ قَبِيحِ الْمَنْظَرِ أَوْ دُونِهَا فِي النَّسَبِ، لِأَنَّ الْمَوْلَى وَغَيْرَ الشَّرِيفِ وَالْأَقَلَّ جَاهًا كُفُؤٌ وَيُجْبِرُهَا وَلَوْ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يُقَيَّدُ بِالْبِكْرِ الَّتِي لَمْ تُزَوَّجْ أَصْلًا أَوْ زُوِّجَتْ وَطَلُقَتْ قَبْلَ إقَامَةِ سَنَةٍ، وَأَمَّا لَوْ أَقَامَتْ سَنَةً وَلَمْ يَمَسَّهَا الزَّوْجُ ثُمَّ مَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا فَإِنَّهَا لَا تُجْبَرُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إقْرَارِهَا بِالْمَسِّ أَوْ إنْكَارِهَا، لِأَنَّ إقَامَةَ السَّنَةِ عِنْدَ الزَّوْجِ مِنْ بُلُوغِهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَطْءِ فِي تَكْمِيلِ الصَّدَاقِ وَعَدَمِ جَبْرِ الْأَبِ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ بِالْعَطْفِ عَلَى مَنْ لَمْ يُجْبِرْ: أَوْ أَقَامَتْ بِبَيْتِهَا سَنَةً وَأَنْكَرَتْ أَيْ الْمَسِيسَ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ اسْتِحْقَاقُ الْجَبْرِ لَا يُنَافِي نَدْبَ الْمُشَاوَرَةِ قَالَ: (وَإِنْ شَاءَ) أَيْ أَرَادَ الْأَبُ (شَاوَرَهَا) أَيْ الْبِكْرَ الْبَالِغَ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهَا وَلِأَنَّهُ أَدْوَمُ لِلْعِشْرَةِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْبَالِغِ فَلَا يُنْدَبُ مُشَاوَرَتُهَا، وَقَيَّدْنَا الْأَبَ بِاَلَّذِي لَا وَلِيَّ لَهُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ أَبٍ لَهُ وَلِيٌّ فَالْجَبْرُ لِوَلِيِّهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ فَإِنَّهُ يَجْرِي فِي جَبْرِ ابْنَتِهِ عَلَى النِّكَاحِ، الْخِلَافُ الْجَارِي فِي مُعَامَلَاتِهِ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لَا ابْنِ الْقَاسِمِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَمَا يُجْبِرُ الْأَبُ الْبِكْرَ يُجْبِرُ الثَّيِّبَ الْمَجْنُونَةَ وَلَوْ ذَاتَ أَوْلَادٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبْرُ الْمَجْنُونَةِ وَالْبِكْرِ وَلَوْ عَانِسًا إلَّا لِكَخَصِيٍّ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالثَّيِّبُ إنْ صَغُرَتْ أَوْ بِعَارِضٍ أَوْ بِحَرَامٍ، وَهَلْ إنْ لَمْ تُكَرِّرْ الزِّنَا تَأْوِيلَانِ، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ الْكَبِيرَةِ فَلَا جَبْرَ لَهُ وَلَوْ ثِيبَتْ بِنِكَاحٍ فَاسِدٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِفَاسِدٍ وَلَا إنْ رَشَدَتْ بَعْدَ بُلُوغِهَا أَوْ أَقَامَتْ بِبَيْتِهَا سَنَةً ابْتِدَاؤُهَا مِنْ بُلُوغِهَا لِتَنْزِيلِهَا مَنْزِلَةَ الْوَطْءِ، وَسَوَاءٌ أَقَرَّتْ بِالْوَطْءِ أَوْ أَنْكَرَتْهُ، وَأَمَّا لَوْ أَقَامَتْ أَقَلَّ مِنْ سَنَةٍ كَسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يُجْبِرُهَا إذَا أَنْكَرَتْ الْوَطْءَ، وَكَلَامُ خَلِيلٍ فِي الْمَجْنُونَةِ الَّتِي لَا تُفِيقُ وَيُجْبِرُهَا وَلَوْ مَعَ وَلَدِهَا، وَيُشَارِكُ الْأَبَ فِي جَبْرِهَا الْحَاكِمُ حَيْثُ عَدَمُ الْأَبِ أَوْ كَانَ مَجْنُونًا، وَأَمَّا الَّتِي تُفِيقُ فَتُنْتَظَرُ إفَاقَتُهَا، وَحَصَلَ عِنْدِي تَوَقُّفٌ فِي جَبْرِ الْأَبِ أَوْ الْحَاكِمِ الْمَجْنُونَةَ هَلْ هُوَ مُقَيَّدٌ بِاحْتِيَاجِهَا إلَى النِّكَاحِ كَمَا قُيِّدَ بِهِ جَبْرُ الْمَجْنُونِ الذَّكَرِ؟ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَبْرُ أَبٍ وَوَصِيٍّ وَحَاكِمٍ مَجْنُونًا احْتَاجَ أَمْ لَا، لَمْ أَرَ فِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ، وَمِنْ الثَّيِّبَاتِ بِالنِّكَاحِ مَنْ تُجْبَرُ وَهِيَ الثَّيِّبُ الْكَبِيرَةُ إذَا ظَهَرَ فَسَادُهَا وَعَجَزَ وَلِيُّهَا عَنْ صَوْنِهَا فَيُجْبِرُهَا الْوَلِيُّ وَلَوْ غَيْرَ أَبٍ، لَكِنْ يُسْتَحَبُّ فِي حَقِّ الْوَلِيِّ غَيْرِ الْأَبِ رَفْعُ أَمْرِهَا لِلْحَاكِمِ قَبْلَ جَبْرِهَا، فَإِنْ لَمْ يَرْفَعْ وَزَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ مَضَى؟ ذَكَرَ هَذَا الْفَرْعَ التَّتَّائِيُّ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ عَنْ اللَّخْمِيِّ رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّانِي: قَدَّمْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ لَا يُجْبِرُ الْبِكْرَ الْمُرْشِدَةَ بَعْدَ بُلُوغِهَا وَأَلْحَقُوا بِهَا الْبِكْرَ الَّتِي يُرِيدُ أَبُوهَا أَنْ يُزَوِّجَهَا مِنْ ذِي عَيْبٍ يُوجِبُ لَهَا الْخِيَارَ فِيهِ كَالْمَجْنُونِ وَالْمَجْذُومِ. الثَّالِثُ: إذَا كَانَ لِلْأَبِ جَبْرُ ابْنَتِهِ فَالْمَالِكُ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَقْوَى لِأَنَّهُ الذَّكَرُ الْكَبِيرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبَرَ الْمَالِكُ أَمَةً وَعَبْدًا بِلَا إضْرَارٍ، فَلَا يُجْبِرُ الْأَمَةَ الرَّفِيعَةَ عَلَى النِّكَاحِ مِنْ قَبِيحِ الْمَنْظَرِ، وَلَا يُجْبِرُ الْعَبْدَ عَلَى النِّكَاحِ بِمَنْ صَدَاقُهَا يَضُرُّ بِهِ، وَلَكِنْ يُقَيَّدُ جَبْرُ السَّيِّدِ لِرَقِيقِهِ بِمَنْ لَيْسَ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، فَلَا يُجْبِرُ أُمَّ الْوَلَدِ وَلَا مُكَاتَبَةً وَلَا مُدَبَّرًا وَلَا مُدَبَّرَةً حَيْثُ مَرِضَ السَّيِّدُ وَلَا مُعْتَقًا لِأَجَلٍ إذَا قَرُبَ الْأَجَلُ، لَا إنْ لَمْ يَمْرَضْ أَوْ لَمْ يَقْرُبْ الْأَجَلُ، فَلَهُ جَبْرُ الْمُدَبَّرِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَالْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ الْمَالِكُ أَقْوَى عَدَمُ جَبْرِهِ لِلرَّقِيقِ إذَا تَضْمَنَّ جَبْرُهُ مَا لَا يَرْضَاهُ الرَّقِيقُ مِمَّا يَضُرُّهُ وَجَبْرُهُ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ مِنْ نَحْوِ خَصِيٍّ وَمَجْذُومٍ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: الْأَبُ مَعَهُ مِنْ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ عَلَى وَلَدِهِ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ إضْرَارِهِ بِخِلَافِ السَّيِّدِ مَعَ رَقِيقِهِ (وَأَمَّا غَيْرُ الْأَبِ) مِنْ الْأَوْلِيَاءِ (فِي الْبِكْرِ) وَبَيَّنَ غَيْرَ الْأَبِ بِقَوْلِهِ: (وَصِيٌّ أَوْ غَيْرُهُ) مِنْ أَخٍ أَوْ عَمٍّ أَوْ قَاضٍ (فَلَا) يَحِلُّ لَهُ أَنْ (يُزَوِّجَهَا) بِغَيْرِ إذْنِهَا (حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ) لِذَلِكَ الْغَيْرِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ فِي النِّكَاحِ، وَيُعَيَّنُ لَهَا الزَّوْجَ وَيُسَمِّي لَهَا الصَّدَاقَ وَتَرْضَى بِهِمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ وَكَّلَتْهُ مِمَّنْ أَحَبَّ عَيَّنَ وَإِلَّا فَلَهَا الْإِجَازَةُ وَلَوْ بَعْدُ لَا الْعَكْسُ (وَ) يَكْفِي فِي (إذْنِهَا صُمَاتُهَا) أَيْ سُكُوتُهَا وَلَوْ جَهِلَتْ الْحُكْمَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرِضَا الْبِكْرِ صَمْتٌ لِأَنَّ شَأْنَ الْأَبْكَارِ الْحَيَاءُ، وَأَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ عَلَى الرِّضَا صُنْعُهَا الطَّعَامَ حِينَ يُقَالُ لَهَا: اللَّيْلَةُ يَحْضُرُ فُلَانٌ لِنَعْقِدَ لَهُ عَلَيْك، فَتَفْرِشُ الْمَحَلَّ وَتَصْنَعُ الطَّعَامَ أَوْ الشَّرْبَاتِ كَمَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْأَمْصَارِ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى الْوَصِيِّ إذَا لَمْ يَكُنْ وَصِيُّ الْأَبِ الَّذِي أَمَرَهُ بِالْإِجْبَارِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجَ، وَأَمَّا هَذَا فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِئْذَانُ لِأَنَّهُ لَهُ جَبْرُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبَرَ وَصِيٌّ أَمَرَهُ أَبٌ بِهِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجَ وَإِلَّا فَخِلَافٌ، وَسَيَأْتِي النَّصُّ عَلَى هَذَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِإِنْكَاحِهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: حَتَّى تَبْلُغَ الْيَتِيمَةُ وَهِيَ الَّتِي مَاتَ أَبُوهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ نِكَاحُهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 بِإِذْنِ وَلِيِّهَا أَوْ ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا كَالرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهَا أَوْ السُّلْطَانِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الدَّنِيَّةِ أَنْ تُوَلِّيَ أَجْنَبِيًّا. وَالِابْنُ   [الفواكه الدواني] الْفَسَادُ، أَوْ كَانَتْ فَقِيرَةً لَا مَالَ لَهَا وَلَا مُنْفِقَ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ النَّصِّ عَلَى الْمُجْبِرِينَ: ثُمَّ لَا جَبْرَ فَالْبَالِغُ إلَّا يَتِيمَةً خِيفَ فَسَادُهَا وَبَلَغَتْ عَشْرًا وَشُووِرَ الْقَاضِي، وَالْمُرَادُ أَنْ يَثْبُتَ عِنْدَ الْقَاضِي مُوجِبَاتُ التَّزْوِيجِ، وَتَأْذَنَ لِلْوَلِيِّ بِالْقَوْلِ، وَأَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ كُفُؤًا لَهَا مِنْ جِهَةِ الدِّينِ وَالنَّسَبِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْحَالِ وَالْمَالِ، وَكَوْنُ الصَّدَاقِ صَدَاقَ مِثْلِهَا، وَتَرْضَى بِالزَّوْجِ، فَإِنْ زُوِّجَتْ مَعَ فَقْدِ تِلْكَ الشُّرُوطِ أَوْ بَعْضِهَا فُسِخَ نِكَاحُهَا إلَّا أَنْ يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ مَعَ الطُّولِ الَّذِي يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ فِيهِ الْأَوْلَادَ، وَمِثْلُ الْيَتِيمَةِ مَجْهُولَةُ الْأَبِ لِغُرْبَتِهَا بِالْجَلَاءِ فَيُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ بِشُرُوطِ الْيَتِيمَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَمَّا لَوْ خِيفَ عَلَى الْيَتِيمَةِ الضَّيَاعُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ فَقَالَ ابْنُ حَارِثٍ: لَا خِلَافَ أَنَّهَا تُزَوَّجُ، وَيَنْبَغِي أَنَّ مَجْهُولَةَ الْأَبِ كَذَلِكَ، وَمِثْلُهُمَا ذَاتُ الْأَبِ الَّتِي يَقْطَعُ عَنْهَا النَّفَقَةَ وَيَغِيبُ غَيْبَةً بَعِيدَةً وَيَخْشَى عَلَيْهَا الضَّيَاعَ، فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ يُزَوِّجُهَا السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ لَا غَيْرُهُمَا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ تَبْلُغْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ الْعَشْرَ وَإِلَّا أَذِنَتْ بِالْقَوْلِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِذْنُهَا صُمَاتُهَا أَبْكَارٌ سَبْعٌ لَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهِنَّ. الْأُولَى: الْبِكْرُ الْمُرْشِدَةُ بَعْدَ بُلُوغِهَا لَا يُزَوِّجُهَا أَبُوهَا وَأَوْلَى غَيْرُهُ إلَّا بِرِضَاهَا بِنُطْقِهَا. الثَّانِيَةُ: الْمَعْضُولَةُ تَرْفَعُ أَمْرَهَا لِلْحَاكِمِ فَيَأْمُرُ الْحَاكِمُ وَلِيَّهَا بِالْعَقْدِ عَلَيْهَا أَوْ يَعْقِدُ لَهَا الْحَاكِمُ لَا بُدَّ مِنْ إذْنِهَا بِالْقَوْلِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ أَبٍ وَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِإِنْكَاحِهَا فَلَا تَحْتَاجُ إلَى إذْنِهَا لِبَقَاءِ جَبْرِهِ. الثَّالِثَةُ: الَّتِي تُزَوَّجُ بِعَرْضٍ أَوْ حَيَوَانٍ وَلَا أَبَ لَهَا وَلَا وَصِيَّ، وَلَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِي الْبَلَدِ بِدَفْعِهِ صَدَاقًا فَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا لِأَنَّهَا بَائِعَةٌ مُشْتَرِيَةٌ، وَالْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ لَا يَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الصَّمْتِ. الرَّابِعَةُ: الَّتِي زُوِّجَتْ بِرَقِيقٍ وَلَوْ بَعْضَهُ وَلَوْ رَقِيقَ أَبِيهَا فَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا وَلَوْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لَهَا أَبَاهَا، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْعَبْدَ كُفُؤٌ لِلْحُرَّةِ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِعَبْدِ أَبِيهَا لِمَا يَلْحَقُهَا عِنْدَ تَزَوُّجِهَا بِعَبْدِ أَبِيهَا مِنْ الْمَعَرَّةِ. الْخَامِسَةُ: الَّتِي تُزَوَّجُ بِنَحْوِ خَصِيٍّ مِنْ كُلِّ ذِي عَيْبٍ يُوجِبُ لَهَا الْخِيَارَ بِهِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ وَلَوْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لَهَا أَبًا كَمَا تَقَدَّمَ. السَّادِسَةُ: الْيَتِيمَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ ذَاتُ الشُّرُوطِ. السَّابِعَةُ: الْمُفْتَاتُ عَلَيْهَا وَهِيَ الَّتِي يَعْقِدُ لَهَا نَحْوُ أَخِيهَا بِدَعْوَى إذْنِهَا ثُمَّ يَسْتَأْذِنُهَا بَعْدَ الْعَقْدِ فَلَا بُدَّ مِنْ نُطْقِهَا، وَيَتَنَاوَلُ هَذَا جَمِيعَ الْمَذْكُورَاتِ إذَا زُوِّجْنَ بِغَيْرِ إذْنٍ ثُمَّ يُسْتَأْذَنَّ بَعْدَ الْعَقْدِ، فَلَا يَمْضِي نِكَاحُهُنَّ إلَّا بِرِضَاهُنَّ بِالْقَوْلِ بِشَرْطِ كَوْنِ الْعَقْدِ فِي الْبَلَدِ وَكَوْنِ الْمُزَوَّجَةِ فِي الْبَلَدِ أَيْضًا، وَأَنْ يَقْرُبَ مَا بَيْنَ الْعَقْدِ وَالْإِجَازَةِ، وَأَنْ لَا يُقِرَّ الْعَاقِدُ بِالِافْتِيَاتِ حَالَ الْعَقْدِ، وَأَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهَا رَدٌّ قَبْلَ الرِّضَا، وَأَنْ لَا يَحْصُلَ الِافْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجِ مَعَ الِافْتِيَاتِ عَلَيْهَا، وَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا فُسِخَ الْعَقْدُ أَبَدًا، وَمِثْلُ الِافْتِيَاتِ عَلَى الْمَرْأَةِ الِافْتِيَاتُ عَلَى الزَّوْجِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْأَبْكَارِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِنَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الثَّيِّبَاتِ الْغَيْرِ الْمُلْحَقَاتِ بِالْأَبْكَارِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُزَوِّجُ الثَّيِّبَ) الْحُرَّةَ الَّتِي لَا تُجْبَرُ (أَبٌ وَلَا غَيْرُهُ) مِمَّنْ لَهُ عَلَيْهَا وِلَايَةٌ (إلَّا بِرِضَاهَا وَتَأْذَنُ بِالْقَوْلِ) لِخَبَرِ: «الثَّيِّبُ يُعْرِبُ عَنْهَا لِسَانُهَا» وَقَيَّدْنَا بِاَلَّتِي لَا تُجْبَرُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ وَمِنْ أُلْحِقَ بِهَا مِمَّنْ تُجْبَرُ عَلَى النِّكَاحِ فَلَا تُسْتَأْذَنُ، وَبِالْحُرَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأَمَةِ فَإِنَّ السَّيِّدَ يُجْبِرُهَا، وَفِيمَا قَدَّمْنَاهُ مَا يُغْنِي عَنْ الْإِطَالَةِ هُنَا. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ اعْتِبَارِ رِضَا الثَّيِّبِ الْمَذْكُورَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ اسْتِئْذَانِ الْوَلِيِّ قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ أَنْ (تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ) الشَّرِيفَةُ غَيْرُ الْمُجْبَرَةِ (إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهَا) الْخَاصِّ كَأَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا (أَوْ) بِإِذْنِ (ذِي الرَّأْيِ مِنْ أَهْلِهَا) وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِ: (كَالرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهَا) أَيْ عَصَبَتِهَا مِنْ النَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ كَالْمَوْلَى الْأَعْلَى وَعَصَبَتِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ. قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُرَادَ بِذِي الرَّأْيِ الْمُسْتَوْفِي شُرُوطَ الْوَلِيِّ السِّتَّةَ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا وَهِيَ: الْحُرِّيَّةُ وَالذُّكُورِيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَعَدَمُ الْإِحْرَامِ وَالْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ، انْتَهَى لَفْظُهُ وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ، إذْ شُرُوطُ الْوَلِيِّ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي صِحَّةِ النِّكَاحِ فِي كُلِّ الْمَسَائِلِ، وَلَوْ كَانَ الْعَاقِدُ سَيِّدًا أَوْ أَبًا، فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِذِي الرَّأْيِ الْكَامِلُ فِي الْعَقْلِ، وَجَزَالَةُ الرَّأْيِ بِمَعْرِفَةِ مَنْ يَصْلُحُ لِلنِّكَاحِ بِالْمُزَوَّجَةِ، وَلِذَا قَالَ التَّتَّائِيُّ: وَذُو الرَّأْيِ مَنْ تُرَدُّ إلَيْهِ الْأُمُورُ يَعْنِي الْمُشْكِلَاتِ وَيُشَاوِرُ فِيهَا لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ إذَا تَعَدَّدَتْ وَتَسَاوَتْ مَرْتَبَتُهَا وَحَصَلَ تَنَازُعٌ فِيمَنْ يَتَوَلَّى الْعَقْدَ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ فِيمَنْ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهُ فَيُقَدِّمُهُ، الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ تَنَازَعَ الْأَوْلِيَاءُ الْمُتَسَاوُونَ فِي الْعَقْدِ أَوْ الزَّوْجُ نَظَرَ الْحَاكِمُ فِي الْأَصْلَحِ لِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ لِجَزَالَةِ رَأْيِهِ وَحُسْنِ دِينِهِ وَعِلْمِهِ بِالْمَصَالِحِ، قَالَ ابْنُ نَاجِي: عِنْدَ تَنَازُعِهِمْ فِي الْعَقْدِ يُقَدَّمُ أَفْضَلُهُمْ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْفَضْلِ فَيُقَدَّمُ الْأَسَنُّ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي السِّنِّ أَيْضًا زَوَّجَ الْجَمِيعَ، وَفِي تَنَازُعِهِمْ فِي الزَّوْجِ يُقَدَّمُ الْأَصْلَحُ مِنْ الْأَزْوَاجِ لِلزَّوْجَةِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي وَجْهِ اشْتِرَاطِ الْوَلِيِّ فَقِيلَ: مَحْضُ تَعَبُّدٍ، وَقِيلَ: لِدَفْعِ الْمَعَرَّةِ الَّتِي تَلْحَقُ الْوَلِيَّ إنْ زَوَّجَتْ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا، وَعَلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَهْلِ وَالْعَشِيرَةِ الْعَصَبَةُ، فَإِنْ قِيلَ: الرَّجُلُ مِنْ عَشِيرَتِهَا وَلِيٌّ فَمَا فَائِدَةُ ذِكْرِهِ حِينَئِذٍ بَعْدَ قَوْلِهِ وَلِيِّهَا؟ فَالْجَوَابُ: يُفْهَمُ مِمَّا ذَكَرْنَا وَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْوَلِيِّ أَكِيدُ الْقَرَابَةِ كَأَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا، وَيُرَادُ بِالرَّجُلِ مِنْ عَشِيرَتِهَا مَا هُوَ أَعَمُّ مِنْ كَوْنِهِ مِنْ عَصَبَةِ النَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ وَمَا يَلِيهِمْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 أَوْلَى مِنْ الْأَبِ وَالْأَبُ أَوْلَى مِنْ الْأَخِ وَمَنْ قَرُبَ مِنْ الْعَصَبَةِ أَحَقُّ وَإِنْ زَوَّجَهَا الْبَعِيدُ مَضَى ذَلِكَ. . وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يُزَوِّجَ   [الفواكه الدواني] بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ الْخَاصَّةِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى السُّلْطَانِ لِأَنَّهُ آخِرُ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: (أَوْ) يَأْذَنُ (السُّلْطَانُ) أَوْ الْقَاضِي لِأَنَّ الْمُرَادَ الْحَاكِمُ حَيْثُ كَانَ مُعْتَنِيًا بِأَمْرِ الشَّرِيعَةِ، فَأَوْفَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِلتَّنْوِيعِ لَا لِلتَّخْيِيرِ، لِأَنَّ مَرْتَبَةَ الْحَاكِمِ مُتَأَخِّرَةٌ عَمَّنْ قَبْلَهُ مِمَّنْ ذَكَرْنَا، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ الْمُقَدَّمَةِ عَلَى السُّلْطَانِ وَلَا حَاكِمٌ أَيْضًا فَوِلَايَةٌ عَامَّةٌ مُسَلَّمٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وَلَوْ كَانَتْ شَرِيفَةً، وَلِلْوَلِيِّ مِنْ ذِي الْوِلَايَةِ الْعَامَّةِ أَنْ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ إذَا زَوَّجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بَعْدَ أَنْ يَسْتَأْذِنَهَا وَتَرْضَى بِهِ كَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ مِنْ أَهْلِ الْوِلَايَةِ الْخَاصَّةِ إذَا وَكَّلَتْهُ فِي أَنْ يُزَوِّجَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِابْنِ عَمٍّ وَنَحْوِهِ إنْ عَيَّنَ تَزْوِيجَهَا مِنْ نَفْسِهِ بِتَزَوَّجْتُكِ بِكَذَا وَتَرْضَى وَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، وَنَظِيرُهُ السَّيِّدُ يُعْتِقُ أَمَتَهُ وَيُرِيدُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَإِذَا أَعْلَمَهَا وَرَضِيَتْ بِهِ وَبِمَا عَيَّنَهُ لَهَا مِنْ الصَّدَاقِ أَنْ يَتَوَلَّى الطَّرَفَيْنِ، وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَلِيِّ الْخَاصِّ إنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الشَّرِيفَةِ كَمَا أَشَرْنَا لَهُ فِي صَدْرِ الْمَسْأَلَةِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ غَيْرُ الشَّرِيفَةِ فَفِي جَوَازِ نِكَاحِهَا بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا خِلَافٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي) الثَّيِّبِ (الدَّنِيئَةِ) بِالْهَمْزِ لِأَنَّهَا مَنْسُوبَةٌ لِلدَّنَاءَةِ، وَالدَّنِيئَةُ غَيْرُ الشَّرِيفَةِ وَهِيَ الَّتِي لَا يُرْغَبُ فِيهَا لِعَدَمِ مَالِهَا وَجَمَالِهَا وَحَسَبِهَا هَلْ يَجُوزُ لَهَا (أَنْ تُوَلِّيَ) أَيْ تُوَكِّلَ رَجُلًا (أَجْنَبِيًّا) مَعَ وُجُودِ وَلِيِّهَا الْخَاصِّ الْغَيْرِ مُجْبِرِ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ يَجُوزُ ابْتِدَاءً وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَالثَّانِي لِأَشْهَبَ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً وَيَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَصَحَّ بِهَا فِي دَنِيئَةٍ مَعَ خَاصٍّ لَمْ يُجْبَرْ، وَأَمَّا لَوْ وَكَّلَتْ الْأَجْنَبِيَّ مَعَ وُجُودِ الْمُجْبِرِ يُفْسَخُ نِكَاحُهَا أَبَدًا وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ، وَأَمَّا الشَّرِيفَةُ تُوَكِّلُ أَجْنَبِيًّا مَعَ الْخَاصِّ غَيْرِ الْمُجْبِرِ فَيُفْسَخُ، إلَّا أَنْ يَدْخُلَ وَيُطَوِّلَ بِحَيْثُ تَلِدُ الْأَوْلَادَ أَوْ يَمْضِي مَا يُمْكِنُ أَنْ تَلِدَ فِيهِ الْأَوْلَادَ وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَصَحَّ بِهَا دَنِيئَةً مَعَ خَاصٍّ: لَمْ يُجْبِرْ كَشَرِيفَةٍ دَخَلَ وَطَالَ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَحْصُلْ طُولٌ خُيِّرَ الْقَرِيبُ أَوْ الْحَاكِمُ مَعَ الْقَرِيبُ فِي الْفَسْخِ وَالْإِمْضَاءِ، وَأَمَّا إنْ حَصَلَ طُولٌ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ فَقِيلَ يَتَحَتَّمُ الْفَسْخُ، وَقِيلَ يُخَيِّرُ الْوَلِيُّ وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ قَرُبَ فَلِلْأَقْرَبِ، أَوْ الْحَاكِمِ إنْ غَابَ الرَّدُّ، وَفِي تَحَتُّمِهِ إنْ طَالَ قَبْلَهُ تَأْوِيلَانِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَلِيَّ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُجْبِرٌ وَغَيْرُ مُجْبِرٍ، وَغَيْرُ الْمُجْبِرِ عَلَى قِسْمَيْنِ: خَاصٌّ وَعَامٌّ، وَالْمَنْكُوحَةُ فِي كُلٍّ إمَّا شَرِيفَةٌ أَوْ دَنِيئَةٌ، فَتَزْوِيجُ غَيْرِ الْمُجْبِرِ مَعَ وُجُودِ الْمُجْبِرِ بَاطِلٌ مُطْلَقًا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ شَرِيفَةً أَمْ لَا، كَانَ الزَّوْجُ خَاصًّا أَوْ عَامًّا، وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْخَاصِّ مَعَ الْخَاصِّ غَيْرِ الْمُجْبِرِ إلَّا أَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْهُ فَصَحِيحٌ مُطْلَقًا أَيْ فِي شَرِيفَةٍ أَوْ دَنِيئَةٍ لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَاطِفًا عَلَى مَا يَصِحُّ: وَبِأَبْعَدَ مَعَ أَقْرَبَ إنْ لَمْ يُجْبِرْ وَإِنْ كُرِهَ ابْتِدَاءً عَلَى مَا ارْتَضَاهُ شُيُوخُ الْمُدَوَّنَةِ وَعِنْدَ غَيْرِهِمْ يَحْرُمُ، وَأَمَّا تَزْوِيجُ الْعَامِّ مَعَ وُجُودِ الْخَاصِّ الْغَيْرِ الْمُجْبِرِ فَصَحِيحٌ فِي الدَّنِيئَةِ مُطْلَقًا كَالشَّرِيفَةِ إنْ دَخَلَ وَطَالَ، وَتَقَدَّمَ تَفْسِيرُ الطُّولِ وَبَيَانُ مَفْهُومِ الْقَيْدَيْنِ أَعْنِي الدُّخُولَ وَالطُّولَ فَافْهَمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يُقَدَّمُ مِنْ أَوْلِيَاءِ الثَّيِّبِ غَيْرِ الْمُجْبَرَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالِابْنُ) وَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ (أَوْلَى مِنْ الْأَبِ) فِي الْعَقْدِ عَلَى أُمِّهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ ابْنٌ فَابْنُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ عُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ إذْ قَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «قُمْ يَا عُمَرُ فَزَوِّجْ أُمَّك» أَيْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَفِي ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ: «أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ قَالَتْ لِابْنِهَا: قُمْ يَا عُمَرُ زَوِّجْ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَزَوَّجَهَا» قَالَ: وَفِي بَعْضِ رُوَاةِ الْحَدِيثِ جَهَالَةٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ الْبِسَاطِيُّ: فَإِنْ قِيلَ: هُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُبَاحُ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَكَوْنُ عُمَرَ زَوَّجَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ، قُلْنَا: مُسَلَّمٌ لَكِنْ تَزْوِيجٌ مِنْ غَيْرِ وَلِيٍّ وَكَوْنُهُ يُبَاحُ لَهُ ذَلِكَ لَا يَلْزَمُ أَنْ لَا يَقَعَ إلَّا كَذَلِكَ؟ وَقَوْلُهُمْ: كَوْنُ عُمَرَ زَوَّجَهُ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَلِيٌّ كَلَامٌ سَاقِطٌ انْتَهَى بَلْ يَدُلُّ، وَلِأَنَّ الْوِلَايَةَ بِالنَّسَبِ تَفْتَقِرُ إلَى التَّعْصِيبِ وَالِابْنُ أَقْوَى مِنْ الْأَبِ تَعْصِيبًا لِأَنَّهُ يَحْجُبُ الْأَبَ نَقْصًا، وَلِأَنَّهُ أَحَقُّ بِمَوَالِي مَوَالِيهَا مِنْ الْأَبِ، وَأَوْلَى بِالصَّلَاةِ عَلَيْهَا مِنْ الْأَبِ (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ تَقْدِيمَ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ مِنْ بَابِ الْأَوْلَى هُوَ مَا فَهِمَهُ جُلُّ شُيُوخِ الْمُدَوَّنَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِيمَا يَأْتِي: فَإِنْ زَوَّجَهَا الْبَعِيدُ مَعَ أَقْرَبَ مَضَى وَصَحَّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ بِأَبْعَدَ مَعَ أَقْرَبَ إنْ لَمْ يُجْبِرْ. الثَّانِي: مَحَلُّ تَقْدِيمِ الِابْنِ عَلَى الْأَبِ مَا لَمْ تَكُنْ الثَّيِّبُ فِي حِجْرِ أَبِيهَا أَوْ وَصِيِّهَا أَوْ مُقَدَّمَ قَاضٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ فِي مَنْزِلَةِ الْأَبِ وَإِلَّا فَيُقَدَّمُ كُلٌّ عَلَى الِابْنِ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا مَا لَمْ يَكُنْ الِابْنُ مِنْ زِنًا وَلَمْ تُثَيَّبْ قَبْلَهُ بِنِكَاحٍ وَإِلَّا قُدِّمَ الْأَبُ لِبَقَاءِ جَبْرِهِ عَلَيْهَا، وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَتْ مَجْنُونَةً؛ لِأَنَّ أَبَاهَا يُجْبِرُهَا وَلَوْ مَعَ وُجُودِ وَلَدِهَا، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ بِنِكَاحٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ مِنْ زِنًا بَعْدَ ذَلِكَ فَالِابْنُ يُقَدَّمُ فِي هَذِهِ عَلَى أَبِيهَا فَافْهَمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلثَّيِّبِ ابْنٌ فَالْأَقْرَبُ إلَيْهَا أَحَقُّ بِنِكَاحِهَا وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَبُ) الشَّرْعِيُّ (أَوْلَى مِنْ الْأَخِ) فِي الْعَقْدِ عَلَى أُخْتِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْأَبُ عَلَى أَخِ الْمَنْكُوحَةِ لِأَنَّ أَخَاهَا إنَّمَا يُدْلِي إلَيْهَا بِأَبِيهَا، وَالْمُدْلِي إلَى شَخْصٍ بِوَاسِطَةٍ يُحْجَبُ بِهَا، وَقَيَّدْنَا الْأَبَ بِالشَّرْعِيِّ لِأَنَّ الْمَخْلُوقَةَ مِنْ الزِّنَا مَقْطُوعَةُ النَّسَبِ، فَلَا حَقَّ لِصَاحِبِ الْمَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 الطِّفْلَ فِي وِلَايَتِهِ وَلَا يُزَوِّجَ الصَّغِيرَةَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِإِنْكَاحِهَا وَلَيْسَ ذَوُو الْأَرْحَامِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءُ مِنْ   [الفواكه الدواني] فِي الْوِلَايَةِ عَلَيْهَا وَإِنْ حَرُمَ التَّزْوِيجُ بِهَا لِقُبْحِ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَبٌ فَيُزَوِّجُهَا أَخُوهَا الشَّقِيقُ أَوْ لِأَبِيهَا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخٌ وَلَا ابْنُهُ فَجَدُّهَا أَبٌ أَبِهَا دَنِيَّةً لَا جَدُّ جَدِّهَا، فَعَمُّهَا ابْنُ الْجَدِّ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَمٌّ فَابْنُهُ وَإِنْ سَفَلَ، ثُمَّ عَمُّ الْأَبِ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ عَمُّ الْجَدِّ كَذَلِكَ صُعُودًا أَوْ هُبُوطًا، وَيُقَدَّمُ الشَّقِيقُ مِنْ الْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَالْأُخْتَانِ عَلَى غَيْرِهِ قِيَاسًا عَلَى الْإِرْثِ وَالْوَلَاءِ وَالصَّلَاةِ، وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْأَخَ وَابْنَهُ يُقَدَّمَانِ عَلَى الْجَدِّ هُنَا، كَمَا يُقَدَّمَانِ عَلَيْهِ فِي الْوَلَاءِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الْمَيِّتِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ كُلِّهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَرُبَ مِنْ الْعَصَبَةِ) فَهُوَ (أَحَقُّ) وَقَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ ابْنٌ فَابْنُهُ فَأَخٌ فَابْنُهُ فَجَدٌّ فَعَمٌّ فَابْنُهُ، وَقُدِّمَ شَقِيقٌ عَلَى غَيْرِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهِ أَحَقَّ أَنَّهُ أَوْلَى بِمُبَاشَرَةِ الْعَقْدِ عَلَى وَلِيَّتِهِ لَا أَنَّهُ أَمْرٌ وَاجِبٌ، فَلَا يُخَالِفُ مَا مَرَّ مِنْ قَوْلِهِ أَوْلَى وَهُوَ الَّذِي اخْتَارَهُ شُيُوخُ الْمُدَوَّنَةِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّ مَعْنَى أَحَقَّ أَنَّهُ وَاجِبٌ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَإِنْ زَوَّجَهَا الْبَعِيدُ مَضَى لِأَنَّهُ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ مِنْ الْعَصَبَةِ عَنْ الْأَخِ لِلْأُمِّ وَالْجَدِّ لِلْأُمِّ فَلَا دَخْلَ لَهُمَا فِي النِّكَاحِ إلَّا بِطَرِيقِ وِلَايَةِ الْإِسْلَامِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمُرِيدَةِ النِّكَاحِ وَلَوْ بِكْرًا أَوْلَى مِنْ النَّسَبِ فَالْمَوْلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْمُعْتِقُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي الْأَسْفَلِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوْلًى فَالْكَافِلُ وَهُوَ الذَّكَرُ الَّذِي رَبَّى الْمَكْفُولَةَ وَحَضَنَهَا لِفَقْدِ أَبِيهَا حَتَّى بَلَغَتْ وَطَلَبَتْ النِّكَاحَ، لَكِنْ اُخْتُلِفَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الْكَافِلُ الْوِلَايَةَ، فَقِيلَ عَشْرُ سِنِينَ وَقِيلَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ مُدَّةٌ بِحَيْثُ يُعَدُّ فِيهَا مُشْفِقًا، وَلَكِنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْكَافِلَ لَا وِلَايَةَ لَهُ إلَّا عَلَى الدَّنِيَّةِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهَا وَلِيٌّ وَلَا كَافِلٌ فَالْحَاكِمُ الْمُعْتَنِي بِالسُّنَّةِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَهُوَ آخِرُ الْأَوْلِيَاءِ الْخَاصَّةِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ كَانَ وَلَكِنْ لَا اعْتِنَاءَ لَهُ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ تُوَكِّلُ مَنْ تَخْتَارَهُ مِنْهُمْ وَيُزَوِّجُهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَلَوْ بِكْرًا. (وَإِنْ زَوَّجَهَا) أَيْ الثَّيِّبَ غَيْرَ الْمُجْبَرَةِ الْوَلِيُّ الْخَاصُّ (الْبَعِيدُ) مَعَ وُجُودِ أَقْرَبَ مِنْهُ كَتَزْوِيجِ أَخِيهَا غَيْرِ الْمُفَوَّضِ مَعَ وُجُودِ أَبِيهَا أَوْ عَمِّهَا مَعَ وُجُودِ أَخِيهَا (مَضَى ذَلِكَ) قَالَ خَلِيلٌ وَصَحَّ بِأَبْعَدَ مَعَ أَقْرَبَ إنْ لَمْ يُجْبِرْ وَإِلَّا فُسِخَ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ، وَقَوْلُنَا غَيْرِ الْمُفَوَّضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأَخِ الَّذِي فَوَّضَ إلَيْهِ أَبُوهُ التَّصَرُّفَ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ مِنْ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَسَائِرِ أُمُورِ الدُّنْيَا سِوَى الْعَقْدِ عَلَى أُخْتِهِ ثُمَّ تَعَدَّى وَعَقَدَ عَلَى أُخْتِهِ الْبِكْرِ وَزَوَّجَهَا بِغَيْرِ إذْنِ أَبِيهَا وَأَعْلَمَهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الْعَقْدِ وَأَجَازَهُ فَإِنَّهُ يَمْضِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ جَازَ يُجْبِرُ فِي ابْنٍ وَأَخٍ وَجَدٍّ فَوَّضَ لَهُ أُمُورَهُ بِبَيِّنَةٍ جَازَ، وَلَوْ كَانَتْ الشُّهُودُ لَمْ تَسْمَعْ صِيغَةَ تَفْوِيضِهِ لَهُ، وَإِنَّمَا شَهِدَتْ بِمُشَاهَدَةِ التَّصَرُّفِ الْمُشْبِهِ لِتَصَرُّفِ الْمُفَوِّضِ لَهُ بِالصِّيغَةِ (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَغْيِيرُ الْمُصَنِّفِ بِمُضِيِّ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَحْرُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ، وَأَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْرَبِ مِنْ بَابِ الْأَوْجَبِ وَهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَصَحَّ بِأَبْعَدَ مَعَ أَقْرَبَ إنْ لَمْ يُجْبِرْ وَلَمْ يَجُزْ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الَّذِي عَلَيْهِ جُلُّ شُيُوخِ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ التَّرْتِيبَ إنَّمَا هُوَ عَلَى جِهَةِ الْأَوْلَوِيَّةِ فَقَطْ، وَأَنَّ مُخَالَفَتَهُ مَكْرُوهٌ فَقَطْ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ تَقْدِيمَ الْأَقْرَبِ فِيهِ تَأْوِيلَانِ بِالْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ، فَأَوَّلُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا ظَاهِرٌ فِيمَا عَلَيْهِ جُلُّ شُيُوخِ الْمُدَوَّنَةِ، وَقَوْلُهُ هُنَا ظَاهِرٌ فِي مُوَافَقَةِ كَلَامِ خَلِيلٍ أَيْ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ فَافْهَمْ. الثَّانِي: مَفْهُومُ قَوْلِ زَوْجِهَا الْبَعِيدِ إلَخْ أَنَّهُ لَوْ زَوَّجَهَا أَحَدُ الْمُتَسَاوِيَيْنِ مَعَ وُجُودِ مُسَاوِيهِ أَحْرَى بِالْمُضِيِّ لِجَوَازِ الْإِقْدَامِ عَلَى ذَلِكَ ابْتِدَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ، وَمَحَلُّ الْمُضِيِّ إذَا زَوَّجَهَا الْبَعِيدُ لِكُفُؤٍ، فَإِنْ زَوَّجَهَا مِنْ غَيْرِ كُفُؤٍ فَيَصِلُ فِيهِ إنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ فَاسِقًا بِالِاعْتِقَادِ رُدَّ نِكَاحُهُ وَلَوْ رَضِيَتْ بِهِ الْمَرْأَةُ لِأَنَّ الْكَفَاءَةَ فِي الدِّينِ حَقٌّ لِلَّهِ لَيْسَ لِأَحَدٍ إسْقَاطُهَا، بِخِلَافِ لَوْ زَوَّجَهَا لِدَنِيءٍ فِي النَّسَبِ أَوْ فَقِيرٍ أَوْ فَاسِقٍ بِجَارِحَةٍ أَوْ بِذِي عَيْبٍ يُوجِبُ الْخِيَارَ لِلزَّوْجَةِ فَلَا يَرُدُّ بِهِ مُطْلَقًا، بَلْ إنْ أَسْقَطَتْهَا الْمَرْأَةُ مَعَ الْوَلِيِّ سَقَطَتْ مُرَاعَاتُهَا، وَإِنْ أَسْقَطَهَا أَحَدُهُمَا فَحَقُّ الْآخَرِ بَاقٍ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَالْكَفَاءَةُ الدِّينُ وَالْحَالُ وَلَهَا وَلِلْوَلِيِّ تَرْكُهَا أَيْ الْكَفَاءَةِ فِي التَّدَيُّنِ، وَمَا ذُكِرَ مَعَهُ مِنْ عَدَمِ الْفِسْقِ بِالْجَارِحَةِ فَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالدِّينِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ الْإِسْلَامَ، إذْ لَيْسَ لِلزَّوْجَةِ وَلَا لِلْوَلِيِّ تَرْكُ الْإِسْلَامِ وَالرِّضَا بِالْكَافِرِ فَافْهَمْ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى نَائِبِ الْأَبِ وَهُوَ الْوَصِيُّ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ (لِلْوَصِيِّ) الذَّكَرِ (أَنْ يُزَوِّجَ الطِّفْلَ) الذَّكَرَ (الَّذِي فِي وِلَايَتِهِ) إذَا طَلَبَ الطِّفْلُ ذَلِكَ وَكَانَ فِي تَزْوِيجِهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا يُجْبِرُهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَبُ أَمَرَهُ بِالْإِجْبَارِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنَّمَا يُجْبِرُهُ الْوَصِيُّ إذَا كَانَ لَهُ جَبْرُ الْأُنْثَى وَذَلِكَ إذَا أَمَرَهُ بِالْإِجْبَارِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبَرَ وَصِيٌّ أَمَرَهُ أَبٌ بِهِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجُ وَإِلَّا فَخِلَافٌ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْمَصْلَحَةِ كَتَزْوِيجِهِ مِنْ مُوسِرَةٍ أَوْ شَرِيفَةٍ أَوْ ابْنَةِ عَمٍّ، وَمِثْلُ الْوَصِيِّ فِي اعْتِبَارِ الْمَصْلَحَةِ الْأَبُ أَيْضًا وَالْحَاكِمُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبَرَ أَبٌ وَوَصِيٌّ وَحَاكِمٌ مَجْنُونًا احْتَاجَ وَصَغِيرًا، وَفِي السَّفِيهِ خِلَافٌ، وَالْمُرَادُ بِحَاجَةِ الْمَجْنُونِ حَاجَتُهُ إلَى النِّكَاحِ لِإِقْبَالِهِ عَلَى الْفَسَادِ، وَكَذَا لِلْخِدْمَةِ عِنْدَ ابْنِ فَرْحُونٍ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ الْخِدْمَةُ الَّتِي لَا تَكُونُ إلَّا مِنْ نَحْوِ الزَّوْجَةِ، وَهَذَا فِي الْمَجْنُونِ الَّذِي لَا يُفِيقُ أَصْلًا، وَأَمَّا مُتَقَطِّعُ الْجُنُونِ فَتُنْتَظَرُ إفَاقَتُهُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي جَبْرِ الْمَجْنُونَةِ، وَمَعْلُومٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 الْعَصَبَةِ. وَلَا يَخْطُبُ أَحَدٌ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ وَذَلِكَ إذَا رَكَنَا وَتَقَارَبَا. وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الشِّغَارِ وَهُوَ   [الفواكه الدواني] أَنَّ الْأَبَ إنَّمَا يُجْبِرُ الْمَجْنُونَ الَّذِي بَلَغَ مَجْنُونًا لِأَنَّ وِلَايَتَهُ بَاقِيَةٌ، وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ عَاقِلًا رَشِيدًا ثُمَّ طَرَأَ جُنُونُهُ فَلَا وِلَايَةَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا وِلَايَتُهُ لِلْحَاكِمِ وَالذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيَّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ يَدْفَعُ الصَّدَاقَ عَنْ الطِّفْلِ وَمَنْ ذُكِرَ مَعَهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَصَدَاقُهُمْ إنْ أُعْدِمُوا عَلَى الْأَبِ وَإِنْ مَاتَ أَوْ أَيْسَرُوا بَعْدُ وَلَوْ شُرِطَ ضِدُّهُ وَإِلَّا فَعَلَيْهِمْ إلَّا لِشَرْطٍ، وَالضَّمِيرُ لِلْمَجْنُونِ وَالسَّفِيهِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لَهُمْ الْوَصِيَّ أَوْ الْحَاكِمَ فَصَدَاقُهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ أَوْ عَلَى مَنْ تَحَمَّلَ عَنْهُمْ بِهِ، لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَصِيُّ وَلَا الْحَاكِمُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِمَا. الثَّانِي: قَيَّدْنَا الْوَصِيَّ بِالذِّكْرِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى إذَا كَانَتْ وَصِيَّةً فَإِنْ كَانَتْ وَصِيَّةً عَلَى ذَكَرٍ فَلَهَا مُبَاشَرَةُ عَقْدِ نِكَاحِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ وَصِيَّةً عَلَى أُنْثَى لَوَجَبَ عَلَيْهَا التَّوَكُّلُ فِي مُبَاشَرَةِ عَقْدِهَا لِوُجُوبِ ذُكُورَةِ وَلِيِّهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَكَّلَتْ مَالِكَةٌ وَوَصِيَّةٌ وَمُعْتَقَةٌ وَإِنْ أَجْنَبِيًّا كَعَبْدٍ أَوْ وَصِيٍّ، وَلَهَا اخْتِيَارُ الزَّوْجِ وَتَقْرِيرُ الصَّدَاقِ. ثُمَّ صَرَّحَ بِحُكْمِ الطِّفْلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُزَوِّجُ) الْوَصِيُّ مُطْلَقًا (الصَّغِيرَةَ) الَّتِي فِي وِلَايَتِهِ (إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِإِنْكَاحِهَا) أَوْ يُعَيِّنَ لَهُ الزَّوْجُ وَالْفَرْقُ بَيْنَ الطِّفْلِ يَجُوزُ لِلْوَلِيِّ تَزْوِيجُهُ إذَا طَلَبَ وَكَانَ فِي نِكَاحِهِ مَصْلَحَةٌ دُونَ الطِّفْلَةِ، أَنَّ الطِّفْلَ إذَا بَلَغَ وَكَرِهَ النِّكَاحَ لَهُ الْفَسْخُ عَنْ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْأُنْثَى لَا قُدْرَةَ لَهَا عَلَى ذَلِكَ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ مِلْكٌ لِلزَّوْجِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَصِيَّ إنْ أَمَرَهُ الْأَبُ بِالْإِجْبَارِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجَ كَانَ لَهُ جَبْرُ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَأْمُرْهُ بِالْإِجْبَارِ وَلَا عَيَّنَ الزَّوْجَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ نِكَاحُ الْأُنْثَى حَتَّى تَبْلُغَ وَتَأْذَنَ بِالْقَوْلِ، وَأَمَّا الذَّكَرُ فَيَجُوزُ لِلْوَصِيِّ وَلَوْ أُنْثَى أَنْ يُزَوِّجَهُ إذَا طَلَبَ وَكَانَ فِي نِكَاحِهِ مَصْلَحَةٌ وَلَا يَجُوزُ جَبْرُهُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الَّذِي فِي وِلَايَتِهِ أَنَّ الْوَصِيَّ عَلَى الضَّيْعَةِ أَوْ عَلَى التَّرِكَةِ أَوْ عَلَى تَفْرِقَةِ الثُّلُثِ لَيْسَ كَالْوَصِيِّ عَلَى ذَاتِ الصَّغِيرِ أَوْ الصَّغِيرَةِ وَهُوَ كَذَلِكَ فَلَيْسَ لَهُ تَزْوِيجُ الْأَطْفَالِ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: أَنَّ الْوَصِيَّ عَلَى بَيْعِ التَّرِكَةِ أَوْ عَلَى قَبْضِ الدُّيُونِ لَا يُجْبِرَانِ، وَلَكِنَّهُ إنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَجَبَرَ وَاحِدٌ مِنْ هَؤُلَاءِ مَضَى، ثُمَّ قَالَ: وَكُلُّ الْمَسَائِلِ الَّتِي لَا يُجْبِرُ فِيهَا الْوَصِيُّ لَوْ جَبَرَ مَضَى بَعْدَ الْوُقُوعِ، ثُمَّ قَالَ أَيْضًا: وَلَعَلَّ وَجْهَ الصِّحَّةِ أَنَّهُ وَصِيٌّ فِي الْجُمْلَةِ فَرَاجِعْهُ، وَفِي شَرْحِ شَيْخِنَا مُحَمَّدٍ الْخَرَشِيِّ عِنْدَ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ زَوَّجَ مُوصًى عَلَى بَيْعِ تَرِكَتِهِ وَقَبْضِ دَيْنِهِ صَحَّ مَا نَصَّهُ قَوْلُهُ صَحَّ أَيْ بَعْدَ الْوُقُوعِ إذَا زَوَّجَ مَنْ لَمْ تُجْبَرْ، إذْ لَيْسَ لَهُ جَبْرُ بَنَاتِهِ اتِّفَاقًا، فَالْمُرَادُ زَوَّجَ مِنْهُنَّ مَنْ لَمْ تُجْبَرْ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ بِإِذْنِهَا، وَأَمَّا لَوْ زَوَّجَ مَنْ تُجْبَرُ لَفُسِخَ أَبَدًا، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِهِ فَانْظُرْ مَا بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ فِي الْوَصِيِّ فِيهِ الْخِلَافُ وَهُوَ الَّذِي أَوْصَاهُ عَلَى بُضْعِ بَنَاتِهِ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَنَا وَصِيٌّ عَلَى بُضْعِ بَنَاتِي أَوْ عَلَى عَقْدِ بَنَاتِي أَوْ عَلَى بَنَاتِي، فَقِيلَ لَهُ الْجَبْرُ وَرُجِّحَ، وَقِيلَ لَا جَبْرَ، وَوَصِيُّ الْوَصِيِّ كَالْوَصِيِّ وَإِنْ بَعُدَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَإِذَا قَالَ وَصِيٌّ فَقَطْ أَوْ وَصِيٌّ عَلَى مَالِي، وَقُلْنَا لَا يُجْبِرُ فَإِنْ فَعَلَ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَمْضِي، كَمَا فِي مَسْأَلَةِ وَإِنْ زَوَّجَ مُوصًى عَلَى بَيْعِ تَرِكَتِهِ وَقَبْضِ دُيُونِهِ صَحَّ، انْتَهَى لَفْظُ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ عِنْدَ وَجَبَرَ وَصِيٌّ أَمَرَهُ أَبٌ إلَى قَوْلِهِ خِلَافٌ، وَرَاجَعْت كَلَامَهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ فَوَجَدْته مُخَالِفًا لِمَا فِي بَابِ النِّكَاحِ، وَإِنَّ كَلَامَهُ فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ كَالصَّرِيحِ فِي مُوَافَقَةِ كَلَامِ شَيْخِنَا الْخَرَشِيِّ، وَأَيْضًا قَوْلُ خَلِيلٍ: ثُمَّ لَا جَبْرَ فَالْبَالِغُ أَيْ لَا تُزَوَّجُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهَا وَإِذْنِهَا فَرَاجِعْهُ: ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ الْعَصَبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ ذَوُو الْأَرْحَامِ) وَهُمْ قَرَابَاتُ الْأُنْثَى مِنْ جِهَةِ أُمِّهَا كَأَخِيهَا لِأُمِّهَا وَجَدِّهَا لِأُمِّهَا وَخَالِهَا وَأَبْنَائِهِمْ (مِنْ الْأَوْلِيَاءِ) الْخَاصَّةِ (وَ) إنَّمَا تَكُونُ (الْأَوْلِيَاءُ مِنْ) جِهَةِ الْقَرَابَةِ (الْعَصَبَةِ) كَالْأُصُولِ وَالْفُرُوعِ وَالْإِخْوَةِ بِغَيْرِ الْأُمِّ وَالْأَعْمَامِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ لَا يَرُدُّ الْمُعْتِقَ وَلَا الْكَامِلَ وَكُلَّ مَنْ لَهُ وِلَايَةٌ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا بِقَوْلِهِ (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَخْطُبَ أَحَدٌ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ) وَالْخِطْبَةُ بِكَسْرِ الْخَاءِ الْتِمَاسُ التَّزَوُّجِ، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ لِلنَّهْيِ الْوَارِدِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا يَخْطُبُ الرَّجُلُ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيهِ حَتَّى يَتْرُكَ الْخَاطِبُ قَبْلَهُ أَوْ يَأْذَنَ لَهُ الْخَاطِبُ» وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَالْأَخُ لَيْسَ بِقَيْدٍ فَتَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْكَافِرِ. وَلَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ الْخِطْبَةِ عَلَى خِطْبَةِ الْغَيْرِ تَرَتَّبَ الْعَدَاوَةُ وَكَانَتْ مَوْجُودَةً فِي سَوْمِ الشَّخْصِ عَلَى سَوْمِ غَيْرِهِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: «وَلَا يَسُومُ عَلَى سَوْمِهِ» وَذَلِكَ النَّهْيُ الْمَذْكُورُ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ (إذَا رَكَنَا وَتَقَارَبَا) التَّقَارُبُ تَفْسِيرٌ لِلتَّرَاكُنِ، وَمَعْنَى التَّقَارُبِ الْمِيلُ إلَى الْأَوَّلِ وَالرِّضَا بِهِ، وَالضَّمِيرُ فِي الْخِطْبَةِ لِلْخَاطِبِ وَالْمَخْطُوبَةِ إنْ كَانَتْ مِمَّا يُعْتَبَرُ رُكُونُهَا، وَإِلَّا فَالْمُعْتَبَرُ كَوْنُ وَلِيِّهَا بِأَنْ كَانَتْ مُجْبَرَةً أَوْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ حَيْثُ رَضِيَتْ بِرُكُونِ الْوَلِيِّ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ الْحُرْمَةَ بِالتَّرَاكُنِ لِفَهْمِهِ مِنْ حَدِيثِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فَإِنَّهَا جَاءَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِتَسْتَشِيرَهُ فِيمَنْ تَنْكِحُهُ وَقَالَتْ لَهُ: إنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمِ بْنَ هِشَامٍ خَطَبَانِي. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ أَيْ لِكَثْرَةِ أَسْفَارِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ فَانْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْحُرْمَةَ مَشْرُوطَةٌ بِالرُّكُونِ بِالْخَاطِبِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا لَمْ يَأْمُرْهَا بِأَنْ تَنْكِحَ أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 الْبُضْعُ بِالْبُضْعِ. وَلَا نِكَاحٌ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَهُوَ النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ. وَلَا النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ وَلَا مَا جَرَّ إلَى غَرَرٍ   [الفواكه الدواني] مِنْ الْحَدِيثِ أَنَّهَا لَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِخِطْبَتِهِمَا فَإِنْ كَانَا مُجْتَمِعَيْنِ فَقَدْ خَطَبَ أُسَامَةُ عَلَى خِطْبَتِهِمَا، وَإِنْ كَانَا مُتَعَاقِبَيْنِ فَالثَّانِي خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ الْأَوَّلِ وَأُسَامَةُ خَطَبَ عَلَى خِطْبَتِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ بِإِرْشَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهَا إلَى أُسَامَةَ صَرِيحٌ فِي الْجَوَازِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُعْتَبَرَ رُكُونُ مَنْ لَهُ الْكَلَامُ، وَمِثْلُهُ رُكُونُ أُمِّهَا حَيْثُ لَمْ تُرِدْ، وَمَحَلُّ الْحُرْمَةِ إذَا اسْتَمَرَّ الرُّكُونُ، فَلَوْ رَجَعَتْ الْمَخْطُوبَةُ أَوْ وَلِيُّهَا عَنْ الرُّكُونِ قَبْلَ خِطْبَةِ الْغَيْرِ لَمْ تَحْرُمُ خِطْبَتُهَا، وَصَرَّحَ ابْنُ عَسْكَرٍ فِي شَرْحِ الْعُمْدَةِ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهَا أَنْ يَرْجِعَا بَعْدَ الرُّكُونِ، وَعَدَمُ الْحُرْمَةِ لَا يُنَافِي الْكَرَاهَةَ لِأَنَّهُ مِنْ إخْلَافِ الْوَعْدِ وَهُوَ مَوْجُودٌ فِي رُجُوعِ الزَّوْجَةِ أَوْ وَلِيِّهَا. الثَّانِي: مَحَلُّ الْحُرْمَةِ إذَا كَانَ الرُّكُونُ لِغَيْرِ فَاسِقٍ وَالْخَاطِبُ الثَّانِي صَالِحًا قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ خِطْبَةُ رَاكِنَةٍ لِغَيْرِ فَاسِقٍ وَلَوْ لَمْ يُقَدَّرْ صَدَاقٌ وَفُسِخَ إنْ لَمْ يُبَيَّنْ، وَأَمَّا خِطْبَةُ الرَّاكِنَةِ لِلْفَاسِقِ فَلَا تَحْرُمُ إلَّا مِنْ فَاسِقٍ مِثْلِ الْأَوَّلِ، وَإِنَّمَا لَمْ تَحْرُمْ خِطْبَةُ غَيْرِ الْفَاسِقِ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ لِأَنَّ غَيْرَ الْفَاسِقِ يُعَلِّمُهَا أُمُورَ دِينِهَا، فَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ كُلًّا مِنْ الصَّالِحِ وَمَجْهُولِ الْحَالِ يَجُوزُ لَهُمَا الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الْفَاسِقِ، وَالْمُحَرَّمُ خِطْبَةُ الْفَاسِقِ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ مُطْلَقًا، أَيْ سَوَاءٌ كَانَ صَالِحًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ مَجْهُولَ حَالٍ. (فَإِنْ قِيلَ) : إنَّ قَيْدَ الْأَخِ لَاغٍ فَحِينَئِذٍ تَحْرُمُ الْخِطْبَةُ عَلَى خِطْبَةِ الذِّمِّيِّ مَعَ أَنَّ الذِّمِّيَّ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ الْفَاسِقِ عِنْدَ اللَّهِ. (فَالْجَوَابُ) : أَنَّ الْفَاسِقَ عَلَى حَالِهِ لَا يُقَرُّ عَلَيْهَا شَرْعًا، بِخِلَافِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ عَلَى حَالٍ يُقَرُّ عَلَيْهِ بِخِلَافِ الْفَاسِقِ بِغَيْرِ الْكُفْرِ: الثَّالِثُ: إذَا حَصَلَتْ الْخِطْبَةُ الْمُحَرَّمَةُ فَإِنَّ عَقْدَ الثَّانِي يُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ وَلَوْ لَمْ يَقُمْ الْخَاطِبُ الْأَوَّلُ: فَإِنْ بَنَى بِهَا فَلَا فَسْخَ، وَكَذَا لَوْ حَكَمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ لَا يُفْسَخُ. الرَّابِعُ: يَخْطُبُ وَيَسُومُ بِالرَّفْعِ عَلَى مَا رَوَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ عَنْ الْمُصَنِّفِ، فَيَكُونُ مِنْ ذِكْرِ النَّهْيِ بِصِيغَةِ الْخَبَرِ. الْخَامِسُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ إلَّا الْخِطْبَةَ بِالْكَسْرِ وَهِيَ الْتِمَاسُ التَّزْوِيجِ، وَأَمَّا بِالضَّمِّ وَهِيَ الْكَلَامُ الْمُسَجَّعُ الْمُشْتَمِلُ عَلَى الْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَلَمْ يَذْكُرْهَا مَعَ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ عِنْدَ الْخِطْبَةِ بِالْكَسْرِ، وَتَكُونُ مِنْ الزَّوْجِ وَالْوَلِيِّ، وَتُسْتَحَبُّ مِنْهُمَا أَيْضًا عِنْدَ الْعَقْدِ فَهِيَ أَرْبَعُ خُطَبٍ، وَيُسْتَحَبُّ إخْفَاؤُهَا وَتَقْلِيلُهَا، وَالْمُبْتَدِئُ بِهَا الْخَاطِبُ عِنْدَ الْخِطْبَةِ وَالْوَلِيُّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَصِيغَتُهَا أَنْ يَقُولَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّ فُلَانًا أَوْ أَنَا أُرِيدُ الِاتِّصَالَ بِكُمْ أَوْ أُرِيدُ نِكَاحَ فُلَانَةَ، ثُمَّ يُجِيبُهُ الْآخَرُ بَعْدَ الْخُطْبَةِ بِمِثْلِ هَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بِأَكْثَرَ مِنْ أَلْفَاظِ الْخُطْبَةِ بَيْنَ الْإِيجَابِ وَالْقَبُولِ، وَكَذَلِكَ تُسْتَحَبُّ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَيَقُولُ الزَّوْجُ: قَبِلْت نِكَاحَهَا، وَالْوَلِيُّ يَقُولُ: أَنْكَحْتُك إيَّاهَا، وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُ الْخُطْبَةِ وَالْعَقْدِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ بَعْدَ صَلَاةِ الْعَصْرِ لِقُرْبِهِ مِنْ اللَّيْلِ، كَمَا يُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا فِي شَوَّالٍ، وَيُسْتَحَبُّ إظْهَارُ الْعَقْدِ وَالدُّعَاءُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ: يُبَارَكُ اللَّهُ لِكُلٍّ مِنْكُمَا فِي صَاحِبِهِ، وَنَحْوُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْأَنْكِحَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ يَحْرُمُ (نِكَاحُ الشِّغَارِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا شِغَارَ فِي الْإِسْلَامِ» وَهُوَ بِكَسْرِ الشِّينِ وَبِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ لُغَةً مُطْلَقُ الرَّفْعِ لِقَوْلِهِمْ: شَغَرَ الْكَلْبُ رِجْلَهُ إذَا رَفَعَهَا لِيَبُولَ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ الرِّجْلِ هَذَا الْجِمَاعُ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي رَفْعِ الصَّدَاقِ، وَلِذَلِكَ فَسَّرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ الْبُضْعُ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَسُكُونِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ وَبَعْدَهَا عَيْنٌ مُهْمَلَةٌ (بِالْبُضْعِ) أَيْ بِالْفَرْجِ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: زَوَّجَتْك ابْنَتِي أَوْ أُخْتِي عَلَى أَنْ تُزَوِّجَنِي ابْنَتَك أَوْ أُخْتَك مِنْ غَيْرِ صَدَاقٍ، وَهَذَا صَرِيحُ الشِّغَارِ لِأَنَّهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَرِيحٌ وَوَجْهٌ وَمُرَكَّبٌ، فَالصَّرِيحُ الْخَالِي مِنْ الصَّدَاقِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْوَجْهُ الْمُسَمَّى فِيهِ الصِّدْقُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَالْمُرَكَّبُ الْمُسَمَّى فِيهِ الْوَاحِدَةُ دُونَ الْأُخْرَى، وَحُكْمُ صَرِيحِ الشِّغَارِ الْفَسْخُ مُطْلَقًا وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَرْأَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَهَا بَعْدَهُ صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَوْنِ فَسْخِهِ بِطَلَاقٍ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ مَرَّةً أَوْ بِغَيْرِهِ، وَهُوَ الَّذِي قَالَهُ سَحْنُونٌ قَائِلًا عَلَيْهِ أَكْثَرُ الرُّوَاةِ: وَحُكْمُ الْوَجْهِ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَهُ وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِالْأَكْثَرِ مِنْ الْمُسَمَّى وَصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَحُكْمُ الْمُرَكَّبِ مِنْ الصَّرِيحِ، وَالْوَجْهُ فَسْخُ نِكَاحِ كُلٍّ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَيُفْسَخُ نِكَاحُ مَنْ لَمْ يُسَمَّ لَهَا، وَلَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَيَثْبُتُ نِكَاحُ الْمُسَمَّى لَهَا بِالْأَكْثَرِ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ فَسَادِ نِكَاحِ الشِّغَارِ إذَا تَوَقَّفَ نِكَاحُ إحْدَاهُمَا عَلَى نِكَاحِ الْأُخْرَى، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَتَوَقَّفْ وَسَمَّيَا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ وَدَخَلَا عَلَى التَّفْوِيضِ فَلَا فَسَادَ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُجْبَرَتَيْنِ وَغَيْرِهِمَا. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا الْخِلَافَ فِي الْفَسْخِ فِي كَوْنِهِ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَتَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِيمَا إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، فَإِنَّهَا تَكُونُ عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى طَلْقَتَيْنِ وَعَلَى الثَّانِي عَلَى عِصْمَةٍ كَامِلَةٍ، وَيَظْهَرُ أَيْضًا فِيمَا لَوْ خَالَعَهَا عَلَى شَيْءٍ، فَعَلَى أَنَّ الْفَسْخَ بِطَلَاقٍ لَا تَرْجِعُ بِهِ، وَعَلَى أَنَّ الْفَسْخَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ تَرْجِعُ بِهِ (وَلَا) يَجُوزُ أَيْ يَحْرُمُ (نِكَاحٌ بِغَيْرِ صَدَاقٍ) بِأَنْ دَخَلَا عَلَى إسْقَاطِهِ وَيَكُونُ فَاسِدًا لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الصَّدَاقَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ فِي النِّكَاحِ، وَحُكْمُ هَذَا النِّكَاحِ بَعْدَ الْوُقُوعِ الْفَسْخُ قَبْلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 فِي عَقْدٍ أَوْ صَدَاقٍ وَلَا بِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا فَسَدَ مِنْ النِّكَاحِ لِصَدَاقِهِ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَإِنْ دَخَلَ بِهَا مَضَى وَكَانَ فِيهِ   [الفواكه الدواني] الْبِنَاءِ وَالثُّبُوتُ بَعْدُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، كَكُلِّ نِكَاحٍ فَاسِدٍ لِصَدَاقِهِ كَخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ أَوْ أَبَقٍ أَوْ قِصَاصٍ وَجَبَ لَهُ عَلَيْهَا. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْفَسْخِ: أَوْ بِمَا لَا يُمْلَكُ كَخَمْرٍ وَحُرٍّ أَوْ كَقِصَاصٍ أَوْ عَلَى إسْقَاطِهِ، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الدُّخُولِ عَلَى شَرْطِ إسْقَاطِ الصَّدَاقِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ سَكَتَا عِنْدَ وَقْتِ الْعَقْدِ، أَوْ دَخَلَا عَلَى التَّفْوِيضِ بِاللَّفْظِ، أَوْ عَلَى تَحْكِيمِ الْغَيْرِ فِي بَيَانِ قَدْرِهِ فَلَا فَسَادَ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ (نِكَاحُ الْمُتْعَةِ وَهُوَ النِّكَاحُ إلَى أَجَلٍ) لِمَا رُوِيَ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَامَ الْفَتْحِ عَنْهُ» ، وَحَكَى الْمَازِرِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى حُرْمَتِهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كَمَا فِي الرِّوَايَاتِ، إذْ لَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلَّا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ، وَشَرْطُ فَسَادِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ إعْلَامُ الزَّوْجَةِ بِأَنَّهُ إنَّمَا يَنْكِحُهَا مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُعْلِمْهَا وَإِنَّمَا قَصَدَ ذَلِكَ فِي نَفْسِهِ فَلَا يَفْسُدُ وَإِنْ فَهِمَتْ مِنْهُ ذَلِكَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْمُدَوَّنَةِ وَلَوْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِحَيْثُ لَا يَبْلُغُهُ عُمْرُ أَحَدِهِمَا؟ وَمُقْتَضَى إلْغَاءِ الطَّلَاقِ إلَيْهِ إلْغَاءَ مَا نَعَيْته فَلَا يَكُونُ فِيهِ نِكَاحُ مُتْعَةٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ أَنَّ الْأَجَلَ الْبَعِيدَ الَّذِي لَا يَبْلُغُهُ عُمْرُهُمَا لَا يَكُونُ النِّكَاحُ إلَيْهِ نِكَاحَ مُتْعَةٍ، بِخِلَافِ مَا يَبْلُغُهُ عُمْرُهَا أَوْ عُمْرُ أَحَدِهِمَا، وَإِذَا وَقَعَ نِكَاحُ الْمُتْعَةِ فَإِنَّهُ يَفْسَخُ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَفْسَخُ: وَمُطْلَقًا كَالنِّكَاحِ لِأَجَلٍ، وَفَسْخُهُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَقِيلَ بِطَلَاقٍ، وَيُعَاقَبُ فِيهِ الزَّوْجَانِ بِغَيْرِ الْحَدِّ، وَلَوْ كَانَا عَالِمَيْنِ بِحُرْمَةِ النِّكَاحِ، وَالْوَلَدُ لَاحِقٌ بِالزَّوْجِ، وَلِلْمَرْأَةِ فِيهِ الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ، وَقِيلَ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ، وَعَدَمُ الْحَدِّ فِي نِكَاحِ الْمُتْعَةِ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ نِكَاحِ الْمُتْعَةِ بِأَنَّهُ النِّكَاحُ لِأَجَلٍ مَعَ وُجُودِ الْوَلِيِّ وَالشُّهُودِ وَتَسْمِيَةِ الصَّدَاقِ وَهُوَ تَفْسِيرُ ابْنِ رُشْدٍ، وَفَسَادُهُ إنَّمَا هُوَ مِنْ ضَرْبِ الْأَجَلِ خَاصَّةً، وَأَمَّا عَلَى تَفْسِيرِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ بِأَنَّهُ مَا ضُرِبَ فِيهِ الْأَجَلُ وَتُرِكَ فِيهِ الْإِشْهَادُ وَالْوَلِيُّ وَالصَّدَاقُ فَالْحَدُّ فِيهِ، رَاجِعْ التَّحْقِيقَ. (تَنْبِيهٌ) نِكَاحُ الْمُتْعَةِ كَانَ جَائِزًا فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ لِمَنْ اُضْطُرَّ إلَيْهِ كَالْمَيْتَةِ، ثُمَّ حُرِّمَ عَامَ خَيْبَرَ، ثُمَّ رُخِّصَ فِيهِ عَامَ الْفَتْحِ وَقِيلَ عَامَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، ثُمَّ حُرِّمَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. قَالَ الْمُنْذِرِيُّ: نُسِخَ مَرَّتَيْنِ كَالْقِبْلَةِ وَلُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ (النِّكَاحُ فِي الْعِدَّةِ) مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ، وَكَذَا يَحْرُمُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ فِيهَا وَكَذَا الْمُوَاعَدَةَ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمِ: وَصَرِيحُ خِطْبَةٍ مُعْتَدَّةٍ وَمُوَاعَدَتِهَا كَوَلِيِّهَا، وَسَوَاءٌ كَانَتْ عِدَّةَ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ وَلَوْ رَجْعِيًّا، دَلَّ عَلَى حُرْمَتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} [البقرة: 235] وَفِي الْمُوَطَّإِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ لِلْفُرَيْعَةِ بِنْتِ مَالِكِ بْنِ سِنَانٍ حِينَ مَاتَ زَوْجُهَا: «اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» . وَفِي الْمُوَطَّإِ أَيْضًا: أَنَّ صُلَيْحَةَ الْأَسَدِيَّةَ كَانَتْ زَوْجَةَ رَشِيدٍ الثَّقَفِيِّ وَطَلَّقَهَا فَنَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَضَرَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ وَضَرَبَ زَوْجَهَا بِالْمِخْفَقَةِ ضَرَبَاتٍ وَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ قَالَ: أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ فِي عِدَّتِهَا فَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا الَّذِي تَزَوَّجَهَا لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ عِدَّتَهَا مِنْ زَوْجِهَا الْأَوَّلِ وَكَانَ الْآخَرُ خَاطِبًا مِنْ الْخُطَّابِ، وَإِنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ اعْتَدَّتْ بَقِيَّةَ عِدَّتِهَا مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ اعْتَدَّتْ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا. وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا صَاحِبُ الْعِدَّةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَتْ الْعِدَّةُ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ دُونَ الثَّلَاثِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مُبَانَةً بِالثَّلَاثِ فَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ، فَإِنْ تَزَوَّجَهَا قَبْلَهُ حُدَّ مَعَ فَسْخِ نِكَاحِهِ؟ وَلَكِنْ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَيْهِ، كَالْمَنْكُوحَةِ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ مِنْ غَيْرِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعَقْدَ الْوَاقِعَ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ يُفْسَخُ مُطْلَقًا وَلَوْ عِدَّةَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ وَفَسْخُهَا بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَيَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجَيْنِ، وَأَمَّا تَأْيِيدُ تَحْرِيمِهَا عَلَيْهِ فَمَشْرُوطٌ بِكَوْنِهَا مُعْتَدَّةً مِنْ وَفَاةٍ أَوْ مِنْ طَلَاقٍ بَائِنٍ، وَبِالدُّخُولِ بِهَا وَلَوْ بَعْدَ الْعِدَّةِ أَوْ بِتَقْبِيلِهَا أَوْ التَّلَذُّذِ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ دَاخِلَ الْعِدَّةِ، وَكَمَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرُمُ عَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ. الثَّانِي: مِثْلُ الْمُعْتَدَّةِ فِي حُرْمَةِ خِطْبَتِهَا وَنِكَاحِهَا الْمَحْبُوسَةُ لِلِاسْتِبْرَاءِ مِنْ زِنًا أَوْ غَصْبٍ أَوْ غَلَطٍ وَلَوْ مِنْ مُرِيدِ النِّكَاحِ إلَّا تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ فَمَشْرُوطٌ بِكَوْنِ الِاسْتِبْرَاءِ مِنْ غَيْرِهِ، وَالْفَسْخُ الْوَاقِعُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى فَسْخِهِ، وَيَجِبُ لَهَا الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ. الثَّالِثُ: مِثْلُ الْمُعْتَدَّةِ فِي فَسْخِ النِّكَاحِ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ الْمَنْكُوحَةُ فِي زَمَنِ الْإِحْرَامِ مِنْهَا أَوْ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ وَلِيِّهَا وَلَكِنْ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا، وَمِثْلُهَا فِي الْفَسْخِ أَبَدًا الَّتِي يُفْسِدُهَا عَلَى زَوْجِهَا وَيَتَزَوَّجُهَا، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا مِنْ الْأَنْكِحَةِ (مَا جَرَّ) أَيْ وَصَّلَ (إلَى غَرَرٍ فِي عَقْدِ) النِّكَاحِ كَالنِّكَاحِ عَلَى خِيَارِ التَّرَوِّي وَلَوْ لِغَيْرِ الزَّوْجَيْنِ، أَوْ عَلَى إنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّدَاقِ لِكَذَا فَلَا نِكَاحَ وَجَاءَ بِهِ عِنْدَ الْأَجَلِ أَوْ قَبْلَهُ، وَالْحُكْمُ فِي هَذَا الْفَسْخِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِالْمُسَمَّى وَإِنَّمَا ثَبَتَ بِالدُّخُولِ وَإِنْ فَسَدَ لِعَقْدِهِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ فِيهِ أَثَّرَ خَلَلًا فِي الصَّدَاقِ، فَأَشْبَهَ مَا فَسَدَ لِصَدَاقِهِ فِي ثُبُوتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 صَدَاقُ الْمِثْلِ. وَمَا فَسَدَ مِنْ النِّكَاحِ لِعَقْدِهِ وَفُسِخَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَفِيهِ الْمُسَمَّى وَتَقَعُ بِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا تَقَعُ بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ   [الفواكه الدواني] بِالدُّخُولِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَأْتِ بِالصَّدَاقِ حَتَّى فَاتَ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَأْتِ بِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَأَمَّا الْعَقْدُ عَلَى الْخِيَارِ فِي الْمَجْلِسِ كَأَنْ يَشْتَرِطَ أَحَدُهُمَا أَنَّ لَهُ الْخِيَارَ مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْعَقْدُ فَإِنَّهُ يَصِحُّ النِّكَاحُ وَلَا يَفْسُدُ بِذَلِكَ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلِي فِيهِ بَحْثٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي بَابِ الْخِيَارِ: إنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي حَالِ عَقْدِ الْبَيْعِ يُفْسِدُهُ مَعَ أَنَّهُ يُشَدِّدُ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ مَا يُفْتَقَرُ مِثْلُهُ فِي الْبَيْعِ. (تَنْبِيهٌ) إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ فِي نِكَاحِ الْخِيَارِ قَبْلَ الْفَسْخِ لَا إرْثَ فِيهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ مَعَ أَنَّ التَّوَارُثَ يَقَعُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِي فَسَادِهِ أَنَّ نِكَاحَ الْخِيَارِ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِيهِ الْإِرْثُ وَالضَّمِيرُ لِلْمُخْتَلَفِ فِيهِ الْإِنْكَاحُ الْمَرِيضُ وَزَادُوا عَلَيْهِ نِكَاحُ الْخِيَارِ، فَإِنَّهُ لَا إرْثَ فِيهِ لِوَاحِدٍ مِنْ الزَّوْجَيْنِ إذَا مَاتَ صَاحِبُهُ قَبْلَ فَسْخِ النِّكَاحِ (وَ) أَيْ وَلَا يَجُوزُ مِنْ النِّكَاحِ مَا جَرَّ إلَى غَرَرٍ فِي (صَدَاقٍ) كَالنِّكَاحِ عَلَى عَبْدٍ آبِقٍ أَوْ عَلَى جَنِينٍ أَوْ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا عَلَى شَرْطِ إبْقَائِهَا، أَوْ عَلَى بَيْتٍ يَبْنِيهِ لَهَا فِي مِلْكِ الْغَيْرِ أَوْ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يَصِفْهُ لَهَا (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا عَقْدُ النِّكَاحِ (بِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ) وَإِنْ حَلَّ تَمَلُّكُهُ كَجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ وَكَلْبِ الصَّيْدِ، وَأَوْلَى مَا لَا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ أَحْسَنَ مِنْ تَعْبِيرِ مَنْ عَبَّرَ بِمَا لَا يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ كَخَلِيلٍ لِمَا ذَكَرْنَا، وَكَذَلِكَ لَوْ تَضَمَّنَ إثْبَاتُهُ وَدَفْعُهُ كَدَفْعِ الْعَبْدِ فِي صَدَاقِ زَوْجَتِهِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَتَمْلِكُهُ بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَكَذَا لَوْ وَقَعَ عَلَى شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ كَشَرْطِ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا فِي الْبَيْتِ مَعَ غَيْرِهَا، أَوْ لَا إرْثَ لَهَا مِنْهُ، أَوْ عَلَى أَنَّ لَهَا نَفَقَةً مُسَمَّاةً فِي كُلِّ شَهْرٍ، أَوْ عَلَى شَرْطِ أَنَّ نَفَقَةَ زَوْجَةِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ أَوْ الْعَبْدِ عَلَى الْأَبِ أَوْ السَّيِّدِ، أَوْ عَلَى نَفَقَةِ زَوْجَةِ الْكَبِيرِ الْمَالِكِ لِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَالْحُكْمُ فِي النِّكَاحِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى الشَّرْطِ الْمُنَاقِضِ الْفَسْخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَالثُّبُوتُ بَعْدَهُ بِمَهْرِ الْمِثْلِ وَيَسْقُطُ الْعَمَلُ بِالشَّرْطِ، وَيَجِبُ الْعَمَلُ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ مِنْ وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجِ الْبَالِغِ وَوُجُوبِ الْقَسْمِ ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ إذَا وَقَعَ هَلْ يُفْسَخُ مُطْلَقًا أَوْ قَبْلَ الْبِنَاءِ، وَعَلَى الْفَسْخِ هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمَرْأَةُ شَيْئًا أَمْ لَا؟ وَعَلَى اسْتِحْقَاقِهَا هَلْ تَسْتَحِقُّ الْمُسَمَّى أَوْ صَدَاقَ الْمِثْلِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا فَسَدَ مِنْ النِّكَاحِ لِصَدَاقِهِ) إمَّا لِمُجَرَّدِ غَرَرٍ أَوْ لِوُقُوعِهِ بِمَا لَا يَصِحُّ بَيْعُهُ أَوْ تَمَلُّكُهُ فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ (فُسِخَ) وُجُوبًا (قَبْلَ الْبِنَاءِ) وَلَا شَيْءَ فِيهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَسَقَطَ بِالْفَسْخِ قَبْلَهُ وَإِنْ كَانَتْ قَبَضَتْهُ الْمَرْأَةُ رَدَّتْهُ وَيَكُونُ فَسْخُهُ طَلَاقًا. (وَإِنْ دَخَلَ بِهَا مَضَى) أَيْ ثَبَتَ (وَكَانَ فِيهِ صَدَاقُ الْمِثْلِ) وَهُوَ مَا يَرْغَبُ بِهِ مِثْلُهُ فِيهَا بِاعْتِبَارِ دِينٍ وَجَمَالٍ وَحَسَبٍ وَمَالٍ وَبَلَدٍ وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ، فَاعْتِبَارُ أُخْتِهَا شَقِيقَتِهَا أَوْ لِأَبِيهَا لَا أُمِّهَا وَلَا أُخْتِهَا لِأُمِّهَا، وَهَذَا مِنْ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى قَاعِدَةٍ وَهِيَ أَنَّ مَا فَسَدَ مِنْ النِّكَاحِ لِصَدَاقِهِ أَوْ لِعَقْدِهِ الْمُوجِبِ خَلَلًا فِي الصَّدَاقِ لَا شَيْءَ فِيهِ إنْ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بِالدُّخُولِ وَلَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ، (وَأَشَارَ إلَى الْفَاسِدِ لِعَقْدِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا فَسَدَ مِنْ النِّكَاحِ لِعَقْدِهِ) كَوُقُوعِهِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ أَوْ كَانَ الْوَلِيُّ صَبِيًّا أَوْ أُنْثَى أَوْ رَقِيقًا، أَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْعِدَّةِ أَوْ الْإِحْرَامِ، أَوْ وَقَعَ لِأَجَلٍ، أَوْ كَانَ صَرِيحَ شِغَارٍ، فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، لَكِنَّ الْمُتَّفَقَ عَلَى فَسَادِهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَالْمُخْتَلَفَ فِيهِ بِطَلَاقٍ، فَإِنْ فُسِخَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا شَيْءَ فِيهِ. (وَ) أَمَّا إذَا (فُسِخَ بَعْدَ الْبِنَاءِ فَفِيهِ الْمُسَمَّى) إنْ كَانَ وَهُوَ حَلَالٌ، وَإِلَّا فَصَدَاقُ الْمِثْلِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ دُخُولُهُ وَبِنَاؤُهُ لَا إنْ كَانَ صَبِيًّا، فَوَطْؤُهُ كَالْعَدَمِ لَا يَلْزَمُ بِهِ صَدَاقٌ، وَبِمَا قَرَّرْنَا مِنْ دَعْوَى حَذْفِ الْخَبَرِ إلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ، فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى قَوْلِ بَعْضٍ إنَّ وَاوَ فُسِخَ زَائِدَةٌ لِصِحَّتِهَا عَلَى مَا قَرَّرْنَا أَوْ تُجْعَلُ لِلْحَالِ، وَقَوْلُهُ: فَفِيهِ الْمُسَمَّى الْخَبَرُ وَكَذَا لَا حَاجَةَ إلَى تَقْدِيرِ وَعُثِرَ عَلَيْهِ إلَخْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ كُلَّ مَنْ فُسِخَ نِكَاحُهَا قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا شَيْءَ لَهَا، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ تَلَذَّذَ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ لَهَا الْمُسَمَّى بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ وَلَوْ تَصَادَقَا عَلَى عَدَمِ الْوَطْءِ أَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ وَطْءُ الصَّبِيِّ كَلَا وَطْءٍ، وَإِنْ تَصَادَقَا عَلَى نَفْيِ الْوَطْءِ لَا صَدَاقَ لَهَا، وَعِنْدَ التَّنَازُعِ فِي حُصُولِ الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجَةِ فِي خَلْوَةِ الِاهْتِدَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصُدِّقَتْ فِي خَلْوَةٍ وَإِنْ بِمَانِعٍ شَرْعِيٍّ، وَإِذَا كَانَ الْبَالِغُ تَلَذَّذَ بِهَا بِغَيْرِ الْوَطْءِ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ إقَامَتِهَا عِنْدَهُ سَنَةً فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَوِّضَهَا شَيْئًا بِحَيْثُ يَرَاهُ الْإِمَامُ أَوْ النَّاسُ حَيْثُ لَا إمَامَ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ، قَالَ خَلِيلٌ: وَتُعَاضُ الْمُتَلَذَّذُ بِهَا. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ كَوْنَ الْفَسْخِ بِطَلَاقٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَمُحَصَّلُ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْأَنْكِحَةَ الْمُتَعَرِّضَةَ لِلْفَسْخِ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يُفْسَخُ بِطَلَاقٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَهُوَ كُلُّ نِكَاحٍ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ الْوَلِيَّيْنِ أَوْ لِلسَّيِّدِ أَوْ لِلسُّلْطَانِ فَسْخُهُ فَالْفَسْخُ فِيهِ بِطَلَاقٍ، وَذَلِكَ إذَا زَوَّجَهَا الْبَعِيدُ مَعَ وُجُودِ الْقَرِيبِ عَلَى الْقَوْلِ بِفَسْخِهِ، أَوْ وُجِدَ بِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ مَا يُوجِبُ لِلْآخَرِ فَسْخَ النِّكَاحِ، وَكَالْعَبْدِ إذَا تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنَّ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَرُدَّ نِكَاحَهُ أَوْ يُجِيزَهُ، فَإِنْ فُسِخَ فَإِنَّهُ يَكُونُ بِطَلَاقٍ وَكَذَا إذَا فَسَخَهُ السُّلْطَانُ. وَقِسْمٌ يُفْسَخُ بِغَيْرِ طَلَاقٍ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَذَلِكَ كُلُّ نِكَاحٍ مُتَّفَقٍ عَلَى فَسَادِهِ كَنِكَاحِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ بِنَسَبٍ أَوْ صِهْرٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَكَالْمُعْتَدَّةِ وَكَالْمَنْكُوحَةِ بِغَيْرِ صَدَاقٍ، وَكَنِكَاحِ الْمُتْعَةِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا وَلَا يُحَصَّنُ بِهِ الزَّوْجَانِ. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ النِّسَاءِ سَبْعًا بِالْقَرَابَةِ وَسَبْعًا بِالرَّضَاعِ   [الفواكه الدواني] وَقِسْمٌ فِيهِ الْخِلَافُ هَلْ يُفْسَخُ بِطَلَاقٍ أَوْ بِغَيْرِهِ؟ وَهُوَ نِكَاحُ الشِّغَارِ، وَكَالنِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ. أَوْ نِكَاحِ الْمَرِيضِ أَوْ الْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ، وَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ أَنَّ فَسْخَهُ بِطَلَاقٍ، بَلْ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ نَقْلًا عَنْ الْحَطَّابِ: إنَّ فَسْخَ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ طَلَاقٌ وَلَوْ وَقَعَ بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ وَهُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَهُوَ طَلَاقٌ إنْ اُخْتُلِفَ فِيهِ كَمُحَرَّمٍ وَشِغَارٍ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا كَخَلِيلٍ كَوْنَ الْفَسْخِ يَتَوَقَّفُ عَلَى الْحُكْمِ أَوْ لَا، وَبَيَّنَهُ الْأُجْهُورِيُّ بِمَا مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ مُخْتَلَفًا فِي فَسَادِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ فَسْخِهِ مِنْ حُكْمِ حَاكِمٍ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَى مَنْ نَكَحَتْ فَاسِدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ قَبْلَ الْحُكْمِ بِفَسْخِهِ لَمْ يَصِحَّ الْعَقْدُ، هَكَذَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ، وَلِي فِيهِ بَحْثٌ مَعَ قَوْلِهِ: إنَّ مُجَرَّدَ فَسْخِهِ يَكُونُ طَلَاقًا وَلَوْ لَمْ يُلْفَظْ فِيهِ بِطَلَاقٍ، وَالطَّلَاقُ يَحُلُّ الْعِصْمَةَ فِي الصَّحِيحِ فَكَيْفَ بِالْفَاسِدِ الَّذِي الْأَصْلُ فِيهِ عَدَمُ الِانْعِقَادِ وَحُرِّرَ مُنَصَّفًا، وَأَمَّا الْمُتَّفَقُ عَلَى فَسَادِهِ فَلَا يَتَوَقَّفُ فَسْخُهُ عَلَى حُكْمٍ لِمَا عَرَفْت مِنْ فَسْخِهِ بِغَيْرِ طَلَاقٍ وَلَوْ لُفِظَ فِيهِ بِالطَّلَاقِ، وَمِنْ ثَمَرَةِ ذَلِكَ صِحَّةُ الْعَقْدِ عَلَى مَنْ عُقِدَ عَلَيْهَا عَقْدًا فَاسِدًا مِنْ غَيْرِ لَفْظٍ بِحُكْمٍ وَلَا طَلَاقٍ، لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَى فَسَادِهِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ تَحْرُمُ عَلَى أُصُولِ الزَّوْجِ وَفُرُوعِهِ بِسَبَبِ النِّكَاحِ بَيَّنَ مَا تَقَعُ بِهِ الْحُرْمَةُ مِنْ الْعَقْدِ أَوْ الْوَطْءِ بِقَوْلِهِ: (وَتَقَعُ بِهِ) أَيْ النِّكَاحِ الْفَاسِدِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الْفَسْخُ بَعْدَ الْبِنَاءِ (الْحُرْمَةُ) أَيْ حُرْمَةُ الْمَنْكُوحَةِ عَلَى أُصُولِ الْعَاقِدِ وَعَلَى فُصُولِهِ، وَكَذَا حُرْمَةُ أُصُولِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا أَوْ فُصُولِهَا عَلَى الْعَاقِدِ الْمَذْكُورِ. (كَمَا تَقَعُ) تِلْكَ الْحُرْمَةُ (بِالنِّكَاحِ الصَّحِيحِ) وَالتَّشْبِيهُ فِي تَرْتِيبِ الْحُرْمَةِ عَلَى كُلٍّ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ التَّحْرِيمُ فِي الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ إنَّمَا يَحْصُلُ بِالتَّلَذُّذِ، وَأَمَّا الصَّحِيحُ فَيَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَمِثْلُ الصَّحِيحِ الْفَاسِدُ الْمُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْفَاسِدِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ: وَالتَّحْرِيمُ بِعَقْدِهِ وَفِيهِ الْإِرْثُ إلَّا نِكَاحَ الْمَرِيضِ، ثُمَّ قَالَ: لَا أُنْفِقُ عَلَى فَسَادِهِ فَلَا طَلَاقَ وَلَا إرْثَ كَخَامِسَةٍ وَحَرُمَ وَطْؤُهُ فَقَطْ أَيْ لَا الْعَقْدُ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْمُقَدِّمَاتِ يَحْصُلُ بِهَا التَّحْرِيمُ كَمَا يَحْصُلُ بِالْوَطْءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ كَالصَّحِيحِ فِي حُصُولِ التَّحْرِيمِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ فِيمَا يَحْرُمُ بِالْعَقْدِ وَفِي التَّوَارُثِ بِهِ وَفِي تَوَقُّفِ فَسْخِهِ عَلَى طَلَاقٍ عَلَى مَا فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُتَّفَقِ عَلَى فَسَادِهِ لَا تَوَارُثَ بِعَقْدِهِ، وَلَا طَلَاقَ فِي فَسْخِهِ، وَلَا تَحْرِيمَ بِعَقْدِهِ، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ التَّحْرِيمُ بِالتَّلَذُّذِ الْمُسْتَنَدِ إلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) كُلُّ مَا يَحْصُلُ التَّحْرِيمُ بِعَقْدِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجِ صَاحِبِ الْعَقْدِ بُلُوغُهُ بِخِلَافِ مَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عَلَى التَّلَذُّذِ فَيُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ وَكَوْنُ وَطْئِهِ يَدْرَأُ الْحَدَّ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَعْقُودُ عَلَيْهَا مُعْتَدَّةً أَوْ ذَاتَ مَحْرَمٍ أَوْ رَضَاعٍ مَعَ عَدَمِ عِلْمِ الزَّوْجِ بِحُرْمَتِهَا، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَدْرَأْ الْحَدَّ لَمْ يُنْشَرْ كَالتَّزْوِيجِ بِوَاحِدَةٍ مِمَّا ذَكَرْنَا مَعَ عِلْمِهِ بِتَحْرِيمِهَا، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ تَشْبِيهِ الْمَفْسُوخِ لِفَسَادِهِ بِالصَّحِيحِ فِي حُصُولِ التَّحْرِيمِ مُسَاوَاتُهُ لَهُ فِي حِلِّ الْمَبْتُوتَةِ اسْتَدْرَكَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ بِهِ) أَيْ بِالْوَطْءِ الْمُسْتَنِدِ لِلْعَقْدِ الَّذِي فُسِخَ بَعْدَ الْبِنَاءِ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى فَسَادِهِ وَلَوْ تَكَرَّرَ وَطْؤُهُ (الْمُطَلَّقَةَ ثَلَاثًا) أَوْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا، وَأَمَّا لَوْ نُكِحَتْ الْمَبْتُوتَةُ نِكَاحًا فَاسِدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ وَطَلُقَتْ بَعْدَ الْوَطْءِ، فَإِنْ تَكَرَّرَ وَطْؤُهُ بِحَيْثُ ثَبَتَ النِّكَاحُ حَلَّتْ، وَأَمَّا لَوْ طَلُقَتْ بَعْدَ أَوَّلِ وَطْئِهِ فَفِي حِلِّهَا تَرَدُّدٌ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ النَّزْعَ هَلْ هُوَ وَطْءٌ أَوْ غَيْرُ وَطْءٍ، وَإِنَّمَا حَصَلَ التَّحْرِيمُ بِالْوَطْءِ دُونَ التَّحْلِيلِ احْتِيَاطًا فِي الْجَانِبَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَبْتُوتَةُ حَتَّى يُولِجَ بَالِغٌ قَدْرَ الْحَشَفَةِ بِلَا مَنْعٍ وَلَا نُكْرَةَ فِيهِ بِانْتِشَارٍ فِي نِكَاحٍ لَازِمٍ إلَى أَنْ قَالَ: لَا بِفَاسِدٍ إنْ لَمْ يَثْبُتْ بَعْدَهُ بِوَطْءٍ ثَانٍ، وَفِي الْأَوَّلِ تَرَدُّدٌ (وَ) كَمَا لَا تَحِلُّ الْمَبْتُوتَةُ بِالْفَاسِدِ (لَا يُحَصَّنُ بِهِ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الزَّوْجَانِ) لِأَنَّ التَّحْصِينَ كَالتَّحْلِيلِ فِي التَّوَقُّفِ عَلَى النِّكَاحِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ الَّذِي حَلَّ وَطْؤُهُ مِنْ الْبَالِغِ وَبِانْتِشَارٍ مَعَ إبَاحَةِ الْوَطْءِ. (تَنْبِيهٌ) تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا يَفْسُدُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ لِأَجْلِ الصَّدَاقِ أَوْ لِخَلَلٍ فِي الْعَقْدِ، وَسَكَتَ عَمَّا يَفْسُدُ لِذِكْرِ بَعْضِ شُرُوطِهِ، قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: إنَّمَا سَكَتَ عَمَّا يَفْسُدُ بِالشَّرْطِ لِمَا فِي الشُّرُوطِ مِنْ التَّفْصِيلِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: الشُّرُوطُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: الْأَوَّلُ مَا يَقْتَضِيهِ الْعَقْدُ وَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ كَشَرْطِ الْإِنْفَاقِ أَوْ الْمَبِيتِ فَهَذَا اشْتِرَاطُهُ وَعَدَمُهُ سِيَّانِ، أَيْ لَا يُوقِعُ فِي الْعَقْدِ خَلَلًا وَلَا يُكْرَهُ اشْتِرَاطُهُ وَيُحْكَمُ بِهِ ذُكِرَ أَوْ تُرِكَ. النَّوْعُ الثَّانِي: عَكْسُ هَذَا وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مُنَاقِضًا لِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، كَشَرْطِ أَنْ لَا يَقْسِمَ لَهَا أَوْ يُؤْثِرَ عَلَيْهَا أَوْ لَا يُنْفِقَ، وَهَذَا النَّوْعُ يُمْنَعُ اشْتِرَاطُهُ وَيُؤَدِّي إلَى الْخَلَلِ فِي الْعَقْدِ، فَيُفْسَخُ لِأَجْلِهِ قَبْلَ الْبِنَاءِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ وَيُلْغَى. الشَّرْطُ الثَّالِثُ: مَا لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْعَقْدِ وَلَا يَنْفِيهِ وَلَا يَقْتَضِيه، كَشَرْطِ أَنْ لَا يَتَزَوَّجَ عَلَيْهَا، أَوْ لَا يَتَسَرَّى عَلَيْهَا، أَوْ لَا يُخْرِجَهَا مِنْ بَلَدِهَا أَوْ بَيْتِهَا، وَهَذَا يُكْرَهُ اشْتِرَاطُهُ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِهِ وَلَا يُفْسَخُ لِأَجْلِهِ لَا قَبْلُ وَلَا بَعْدُ، أَيْ وَلَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ، رَاجِعْ التَّحْقِيقَ بِبَعْضِ التَّصَرُّفِ [الْمُحْرِمَات فِي النِّكَاح] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُكَلَّفِ نِكَاحُهُ سِوَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ الْمَنْكُوحَةِ عَلَى وَجْهِ الْمُتْعَةِ أَوْ الْمُعْتَدَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى عَلَى مُرِيدِ النِّكَاحِ مِنْ الرِّجَالِ لِمُنَاسَبَةِ قَوْلِهِ: (سَبْعًا مِنْ النِّسَاءِ بِالْقَرَابَةِ) حَرَّمَ عَلَيْهِ أَيْضًا (سَبْعًا) بَعْضُهُنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 وَالصِّهْرِ فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الأَخِ وَبَنَاتُ الأُخْتِ} [النساء: 23] فَهَؤُلَاءِ مِنْ الْقَرَابَةِ. وَاَللَّوَاتِي مِنْ الرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ   [الفواكه الدواني] (بِالرَّضَاعِ وَ) بَعْضُهُنَّ تَحْرِيمُهُ بِسَبَبِ (الصِّهْرِ) وَهُنَّ قَرَابَاتُ الزَّوْجَةِ وَحَلِيلَةُ الْأَبِ وَحَلِيلَةُ الِابْنِ كَمَا يَأْتِي، فَعُلِمَ مِنْ تَقْدِيرِنَا لَفْظَ بَعْضٍ فِي الْمَوْضِعَيْنِ أَنَّ السَّبْعَ مِنْ مَجْمُوعِ الرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ، فَلَا تَفْهَمْ أَنَّ الْمُرَادَ سَبْعٌ بِالرَّضَاعِ وَسَبْعٌ بِالصِّهَارَةِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ، لِأَنَّ الَّذِي حَرَّمَهُ اللَّهُ بِالرَّضَاعِ اثْنَتَانِ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَبَقِيَّةُ السَّبْعِ حَرَّمَهَا اللَّهُ بِالصِّهْرِ، وَقَوْلُنَا: حَرَّمَهُ اللَّهُ لَا يُنَافِي مَا يَأْتِي مِنْ أَنَّهُ يَحْرُمُ بِالرَّضَاعِ مِثْلُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ وَهُنَّ سَبْعٌ، لِأَنَّ مَا يَأْتِي فِي الْمُحَرَّمِ بِالسُّنَّةِ، وَمَا هُنَا فِي الْمُحَرَّمِ بِنَصِّ اللَّهِ تَعَالَى وَهُنَّ سَبْعٌ بَعْضُهُنَّ بِالرَّضَاعِ وَبَعْضُهُنَّ بِالصِّهْرِ، وَالصِّهْرُ وَاحِدُ الْأَصْهَارِ وَهُمْ أَهْلُ بَيْتِ الْمَرْأَةِ، وَمِنْ الْعَرَبِ مَنْ يَجْعَلُ الصِّهْرَ مِنْ الْأَحْمَاءِ وَالْأَخْتَانِ جَمِيعًا، يُقَالُ: صَاهَرْت فِيهِمْ إذَا تَزَوَّجْت مِنْهُمْ قَالَهُ فِي التَّحْقِيقِ، وَقَالَ فِي الْجَلَالَيْنِ: الصِّهْرُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الذَّكَرُ أَوْ الْأُنْثَى طَلَبًا لِلتَّنَاسُلِ، وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ: الْمُحَرَّمُ بِالصِّهْرِ أَرْبَعٌ: زَوْجَةُ الِابْنِ وَزَوْجَةُ الْأَبِ وَأُمُّ الزَّوْجَةِ وَابْنَتُهَا، وَيُمْكِنُ ضَابِطُهُ بِأَنْ يُقَالَ: كُلُّ مَنْ حَرُمَ عَلَيْك بِسَبَبِ عَقْدِك عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ حَرُمَ عَلَيْك بِسَبَبِ عَقْدِ أَصْلِك عَلَيْهِ أَوْ عَقْدِ فَرْعِك، وَهَذَا شَامِلٌ لِلْأَرْبَعِ مِنْ كَلَامِ صَاحِبِ الْقَبَسِ، إلَّا أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الضَّابِطِ الْجَمْعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، فَإِنَّ الْمُصَنِّفَ جَعَلَهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُحَرَّمِ بِالصِّهْرِ وَفِيهِ شَيْءٌ، إلَّا أَنْ يُقَالَ السُّنَّةُ جَعَلَتْ الْمُحَرَّمَ بِالْجَمْعِ مُلْحَقًا بِالْمُحَرَّمِ بِالصِّهْرِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى السَّبْعِ اللَّاتِي مِنْ الْقَرَابَاتِ بِقَوْلِهِ: (فَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ) مُعَاشِرَ الرِّجَالِ (أُمَّهَاتُكُمْ) وَهِيَ مَنْ لَهَا عَلَيْك يَا مُرِيدَ النِّكَاحِ وِلَادَةٌ وَلَوْ بِوَسَائِطَ لِتَشْمَلَ الْجَدَّاتِ وَلَوْ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ فَيَحْرُمُ عَلَيْك نِكَاحُ الْجَمِيعِ (وَ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أَيْضًا (بَنَاتُكُمْ) جَمْعُ بِنْتٍ وَهِيَ كُلُّ أُنْثَى لَك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ، وَلَوْ كَانَتْ الْبِنْتُ تَخَلَّقَتْ مِنْ مَائِك الْفَاسِدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ أُصُولُهُ وَفُصُولُهُ وَلَوْ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الشَّخْصِ أَصْلُهُ وَإِنْ عَلَا، وَفَرْعُهُ وَإِنْ سَفَلَ، وَيَلْزَمُ مِنْ حُرْمَةِ أَصْلِك عَلَيْك حُرْمَتُك عَلَيْهِ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ، فَتَحْرُمُ عَلَى أُمِّك كَمَا تَحْرُمُ هِيَ عَلَيْك وَهَكَذَا (وَ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ (أَخَوَاتُكُمْ) جَمْعُ أُخْتٍ وَهِيَ كُلُّ مَنْ لِأَبِيك أَوْ أُمِّك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْأَخَوَاتُ مَنْ اجْتَمَعْت مَعَهُنَّ فِي صُلْبٍ وَرَحِمٍ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا. (وَ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ (عَمَّاتُكُمْ) جَمْعُ عَمَّةٍ وَهِيَ كُلُّ مَنْ اجْتَمَعَ مَعَ أَبِيك فِي صُلْبٍ وَرَحِمٍ أَوْ فِي أَحَدِهِمَا (وَ) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ (خَالَاتُكُمْ) جَمْعُ خَالَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَنْ اجْتَمَعَتْ مَعَ أُمِّك فِي صُلْبٍ أَوْ رَحِمٍ. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْأَبِ وَخَالَتُهُ وَعَمَّةُ الْأُمِّ وَخَالَتُهَا، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْعَمَّةِ، وَأَمَّا خَالَةُ الْعَمَّةِ فَإِنْ كَانَتْ الْعَمَّةُ أُخْتَ أَبٍ لِأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ وَأُمٍّ فَلَا تَحِلُّ خَالَةُ الْعَمَّةِ لِأَنَّهَا أُخْتُ الْجَدَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَمَّةُ إنَّمَا هِيَ أُخْتُ أَبٍ لِأَبٍ فَقَطْ فَخَالَتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أَخِيهَا فَتَحِلُّ لَهُ، وَكَذَلِكَ عَمَّةُ الْخَالَةِ فَإِنْ كَانَتْ الْخَالَةُ أُخْتَ أُمٍّ لِأَبٍ فَعَمَّتُهَا حَرَامٌ لِأَنَّهَا أُخْتُ جَدٍّ، وَإِنْ كَانَتْ الْخَالَةُ أُخْتَ الْأُمِّ لِأُمٍّ فَقَطْ فَعَمَّتُهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْ بَنِي أَخِيهَا، وَضَابِطُ الْعَمَّاتِ وَالْخَالَاتِ أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ يَرْجِعُ نَسَبُك إلَيْهِ بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهُ عَمَّتُك، وَكُلَّ أُنْثَى يَرْجِعُ نَسَبُك إلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ فَأُخْتُهَا خَالَتُك، ذَكَرَهُ فِي التَّحْقِيقِ (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (بَنَاتُ الْأَخِ) وَبِنْتُ الْأَخِ كُلُّ أُنْثَى لِأَخِيك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ وَإِنْ سَفَلَتْ، كَانَ الْأَخُ شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَيْضًا (بَنَاتُ الْأُخْتِ) وَهِيَ كُلُّ أُنْثَى لِأُخْتِك عَلَيْهَا وِلَادَةٌ وَإِنْ سَفَلَتْ، كَانَتْ الْأُخْتُ شَقِيقَةً أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ (فَهَؤُلَاءِ) السَّبْعُ اللَّوَاتِي يَحْرُمْنَ (مِنْ الْقَرَابَةِ) وَأَشَارَ إلَيْهِنَّ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَحَرُمَ أُصُولُهُ وَفُصُولُهُ وَلَوْ خُلِقَتْ مِنْ مَائِهِ، وَفُصُولُ أَوَّلِ أُصُولِهِ، وَأَوَّلُ فَصْلٍ مِنْ كُلِّ أَصْلٍ غَيْرِ الْأَصْلِ الْأَوَّلِ، فَالْأُصُولُ الْأُمَّهَاتُ وَالْجَدَّاتُ فَيَحْرُمْنَ وَإِنْ عَلَوْنَ، وَالْفُصُولُ الْأَوْلَادُ فَيَحْرُمْنَ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَفُصُولُ الْأُصُولِ الْأَخَوَاتُ وَأَوْلَادُهُنَّ فَيَحْرُمْنَ وَإِنْ سَفُلْنَ، وَالْأَصْلُ غَيْرُ الْأَوَّلِ الْجَدُّ، وَفُرُوعُهُ عَمَّاتٌ وَخَالَاتٌ وَبَنَاتُهُنَّ غَيْرُ مُحَرَّمَاتٍ، وَالْحَرَامُ فَصْلُ الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَتَجُوزُ بِنْتُ الْعَمَّةِ وَبِنْتُ الْخَالَةِ (وَ) السَّبْعُ (اللَّوَاتِي) يَحْرُمْنَ (مِنْ الرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ) يَجْمَعُهَا قَوْله تَعَالَى: وَأُمَّهَاتُكُمْ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَلَوْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ صَغِيرَةً لَا يُولَدُ لَهَا، أَوْ كَانَتْ مَيِّتَةً حَيْثُ كَانَ فِي ثَدْيِهَا لَبَنٌ وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ عَلَى الْأَظْهَرِ، أَوْ كَانَتْ الذَّاتُ الْمُرْضِعَةُ خُنْثَى مُشْكِلًا كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَيْضًا (أَخَوَاتُكُمْ مِنْ الرَّضَاعَةِ) كَانَ رَضْعُكُمْ مُصَاحِبًا لِرَضْعِهِنَّ أَوْ سَابِقًا أَوْ مُتَأَخِّرًا، لِأَنَّ الَّذِي يَرْضِعُ مِنْ امْرَأَةٍ يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ نَزَلَ مِنْ بَطْنِهَا، فَجَمِيعُ أَوْلَادِهَا إخْوَةٌ لَهُ، كَمَا يَأْتِي فِي بَابِهِ، وَلَمْ يُنَصَّ فِي الْقُرْآنِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعِ إلَّا عَلَى الْأُمَّهَاتِ وَالْأَخَوَاتِ وَبِوَاقِي السَّبْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 قَوْله تَعَالَى {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} [النساء: 23] . الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ {بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 23]   [الفواكه الدواني] بِالصِّهْرِ، وَأَشَارَ إلَيْهِنَّ بِقَوْلِهِ: (وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ) وَهِيَ كُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا عَلَى زَوْجَتِك وِلَادَةٌ أَوْ رَضَاعٌ وَلَوْ بِوَاسِطَةٍ، فَيَشْمَلُ جَدَّةَ الزَّوْجَةِ وَإِنْ عَلَتْ سَوَاءٌ جَدَّتُهَا مِنْ قِبَلِ أَبِيهَا أَوْ أُمِّهَا مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَالْمُرَادُ زَوْجَتُك مَنْ عَقَدْت عَلَيْهَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ تَلَذُّذٌ بِهَا، لِأَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّهَاتِ، وَسَوَاءٌ عُقِدَ لَهُ عَلَيْهَا فِي حَالِ بُلُوغِهِ أَوْ صِبَاهُ (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَيْضًا (رَبَائِبُكُمْ) وَهِيَ بَنَاتُ الزَّوْجَةِ (اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ) وَوَصْفُ الرَّبَائِبِ بِاَللَّاتِي فِي الْحُجُورِ طَرْدِيٌّ أَوْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، بِخِلَافِ وَصْفِ الْأُمَّهَاتِ بِقَوْلِهِ: (اللَّاتِي دَخَلْتُمْ) أَيْ تَلَذَّذْتُمْ (بِهِنَّ) لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَقْدِ غَيْرُ مُحَرِّمٍ لِلْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ مِنْ أَنَّ التَّلَذُّذَ بِالْأُمَّهَاتِ يُحَرِّمُ الْبَنَاتِ، وَالْعَقْدَ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّهَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى حُرِّمَ: وَبِتَلَذُّذِهِ وَإِنْ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَوْ بِنَظَرٍ فُصُولُهَا. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ: وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً بِحَيْثُ لَا تُشْتَهَى، أَوْ كَانَ النَّظَرُ إلَيْهَا مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ يَصِفُ حَيْثُ كَانَ النَّظَرُ لِغَيْرِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَأَمَّا لَوْ انْضَمَّ لِلنَّظَرِ فِعْلٌ كَلَمْسٍ فَيَنْبَغِي الْحُرْمَةُ وَلَوْ لِلْوَجْهِ أَوْ الْكَفَّيْنِ حَيْثُ وُجِدَتْ اللَّذَّةُ لَا إنْ لَمْ تُوجَدْ، وَلَوْ قُصِدَتْ فَلَا تَحْرُمُ، كَمَا لَا يَحْرُمُ الِالْتِذَاذُ بِالْكَلَامِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ قُوَّةُ الِالْتِذَاذِ بِالنَّظَرِ دُونَ الْكَلَامِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ دَخَلْتُمْ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ) أَيْ بِنِسَائِكُمْ بَلْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَ صَحِيحًا (فَلَا جُنَاحَ) أَيْ لَا حَرَجَ (عَلَيْكُمْ) فِي نِكَاحِ بَنَاتِهِنَّ لِمَا عَرَفْته مِنْ أَنَّ الْبَنَاتِ إنَّمَا تُحَرَّمُ بِالتَّلَذُّذِ بِالْأُمَّهَاتِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالدُّخُولِ فِي كَلَامِ اللَّهِ تَعَالَى التَّلَذُّذُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ اخْتِلَاءٍ بِالزَّوْجَةِ، لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ أَشَارَ بِهَذَا وَمَا قَبْلَهُ إلَى الْقَاعِدَةِ الْمَشْهُورَةِ عِنْدَ فُقَهَائِنَا وَهِيَ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّهَاتِ وَلَوْ فَاسِدًا حَيْثُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَالتَّلَذُّذُ بِالْأُمَّهَاتِ بَعْدَ الْعَقْدِ عَلَيْهِمْ يُحَرِّمُ بَنَاتِهِنَّ، وَلَعَلَّ الْحِكْمَةَ فِي ذَلِكَ قُوَّةُ مَحَبَّةِ الْأُمِّ لِلْبِنْتِ بِخِلَافِ الْعَكْسِ، فَالْأُمُّ أَشَدُّ بِرًّا بِالْبِنْتِ دُونَ الْعَكْسِ، فَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ الْعَقْدُ عَلَيْهَا بِمُجَرَّدِهِ مُحَرِّمًا بِنْتَهَا. (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ (حَلَائِلُ) جَمْعُ حَلِيلَةٍ وَهُنَّ زَوْجَاتُ (أَبْنَائِكُمْ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ) وَالْمُرَادُ مَنْ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ الْأَبْنَاءُ وَلَوْ فَاسِدًا حَيْثُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ لَهُ صَغِيرًا جِدًّا وَالْمُرَادُ الْفَرْعُ وَإِنْ سَفُلَ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: مِنْ أَصْلَابِكُمْ مِنْ الِابْنِ بِالتَّبَنِّي، فَلَا تُحَرَّمُ عَلَيْك حَلِيلَتُهُ وَلَوْ كَانَ قَدْ دَخَلَ بِهَا، فَقَدْ «تَزَوَّجَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ زَوْجَةَ زَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَبَنَّاهُ حَتَّى كَانَ يُدْعَى زَيْدُ بْنُ مُحَمَّدٍ» ، حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} [الأحزاب: 5] وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ وَالْيَهُودَ لَمَّا تَزَوَّجَهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالُوا: تَزَوَّجَ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَلِيلَةَ ابْنِهِ وَكَانَ يَنْهَى النَّاسَ عَنْ ذَلِكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى قَوْلَهُ: {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ} [الأحزاب: 37] الْآيَةَ، تَكْذِيبًا لَهُمْ وَتَصْرِيحًا بِالْجَوَازِ (تَنْبِيهَاتٌ) : الْأَوَّلُ: جَعَلْنَا مُحْتَرِزَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ ابْنَ التَّبَنِّي فَقَطْ، لِأَنَّ الِابْنَ مِنْ الرَّضَاعِ حُكْمُ ابْنِ الصُّلْبِ فِي حُرْمَةِ حَلِيلَتِهِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَةُ حَلِيلَةِ ابْنِ الرَّضَاعِ مُسْتَنِدَةً لِلْإِجْمَاعِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ ابْنَ الرَّضَاعِ يُقَدَّرُ كَأَنَّهُ مِنْ ظَهْرِ الرَّجُلِ صَاحِبِ اللَّبَنِ، وَمِنْ بَطْنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ، فَلَا يَحِلُّ لِأَبِيهِ فَرْعُهُ وَإِنْ سَفُلَ، وَلَا يَحْرُمُ لَهُ هُوَ أَخْذُ أُمِّ أَوْ جَدَّةِ أَبِيهِ، وَلَا أَوْلَادِ أَبِيهِ، وَلَا أَوْلَادِ أُمِّهِ وَإِنْ سَفُلْنَ لِأَنَّهُنَّ أَخَوَاتٌ وَأَوْلَادُ أَخَوَاتٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّرَ الطِّفْلُ خَاصَّةً وَلَدًا لِصَاحِبَةِ اللَّبَنِ وَلِصَاحِبِهِ مِنْ وَطْئِهِ لِانْقِطَاعِهِ وَإِنْ بَعْدَ سِنِينَ. الثَّانِي: مَفْهُومُ حَلَائِلِ الْأَبْنَاءِ أَنَّ جِوَارِي الْأَبْنَاءِ لَا تَحْرُمُ عَلَى الْآبَاءِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ التَّلَذُّذُ وَلَوْ بِغَيْرِ الْوَطْءِ حَيْثُ تَلَذَّذَ بِهِنَّ بَعْدَ بُلُوغِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِأَنَّ الضَّابِطَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ بِالْعَقْدِ وَهُوَ التَّحْرِيمُ بِالْمُصَاهَرَةِ لَا يَشْتَرِطُ فِي الْمَعْقُودِ لَهُ الْبُلُوغَ، بِخِلَافِ مَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عَلَى التَّلَذُّذِ، فَيُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغُ الْمُتَلَذِّذِ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مَالِكٍ، وَمِثْلُ الْوَطْءِ مُقَدَّمَاتُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ تَحَقُّقِ التَّلَذُّذِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ فِيهِ الشَّكُّ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ قَالَ الْأَبُ نَكَحْتهَا أَوْ وَطِئْت أُمَّهُ عِنْدَ قَصْدِ الِابْنِ ذَلِكَ وَأَنْكَرَ نُدِبَ التَّنَزُّهُ، وَفِي وُجُوبِهِ إنْ فَشَا تَأْوِيلَانِ، وَفِي الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: مَنْ مَلَكَ جَارِيَةَ ابْنِهِ أَوْ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ هَلْ وَطِئَهَا أَمْ لَا؟ فَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: لَا تَحِلُّ، وَاسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ فِي الْعَلِيِّ وَقَالَ: يُنْدَبُ فِي مَا لَوْ خَشِيَ أَنْ لَا يُصِيبَ وَلَا تَحْرُمَ، وَكَذَا إنْ بَاعَهَا الْأَبُ لِابْنِهِ وَالِابْنُ لِأَبِيهِ ثُمَّ غَابَ الْبَائِعُ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَ. الثَّالِثُ: الْوَطْءُ الْمُسْتَنِدُ لِلْبَيْعِ الْفَاسِدِ كَالْوَطْءِ الْمُسْتَنِدِ لِلنِّكَاحِ الْفَاسِدِ، فَيُفَرَّقُ بَيْنَ مَا اُخْتُلِفَ فِيهِ فَيَحْرُمُ وَطْؤُهُ، وَمَا اُتُّفِقَ عَلَيْهِ لَا يَحْرُمُ وَطْؤُهُ إلَّا إنْ دَرَأَ الْحَدَّ، قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ. الرَّابِعُ: قَدْ قَدَّمْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِي التَّحْرِيمِ بِالْعَقْدِ الْعَقْدُ الْفَاسِدُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَالصَّحِيحِ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْإِكْرَاهِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ بِالْإِكْرَاهِ فَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: الَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وَقَالَ تَعَالَى {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَحَرَّمَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ. وَنَهَى أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا   [الفواكه الدواني] يَنْبَغِي الْجَزْمُ بِهِ أَنَّهُ لَا يُحَرِّمُ، وَأَمَّا لَوْ وَطِئَ مَعَ الْإِكْرَاهِ فَعَلَى عَدَمِ الْحَدِّ يُحَرِّمُ، وَعَلَى الْحَدِّ يَجْرِي فِيهِ الْخِلَافُ فِي الزِّنَا (وَ) حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أَيْضًا (أَنْ تَجْمَعُوا) أَيْ الْجَمْعُ فِي النِّكَاحِ (بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وَلَوْ مِنْ الرَّضَاعِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْمِلْكِ فَقَطْ، أَوْ وَاحِدَةٍ لِلْوَطْءِ وَالْأُخْرَى لِلْخِدْمَةِ، أَوْ وَاحِدَةٍ بِالنِّكَاحِ وَالْأُخْرَى لِلْخِدْمَةِ فَلَا حَرَجَ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا لِلْوَطْءِ، قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: فَمَنْ فِي مِلْكِهِ أُخْتَانِ لَمْ يَتَلَذَّذْ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُمَا ثُمَّ أَرَادَ التَّلَذُّذَ بِإِحْدَاهُمَا فَلَهُ أَنْ يَتَلَذَّذَ بِهَا وَيَمْتَنِعَ مِنْ التَّلَذُّذِ بِالْأُخْرَى، وَلَا يَتَوَقَّفُ جَوَازُ تَلَذُّذِهِ بِمَنْ أَرَادَ التَّلَذُّذَ بِهَا عَلَى تَحْرِيمِ الْأُخْرَى بِمَا سَبَقَ، أَيْ مِنْ زَوَالِ مِلْكٍ أَوْ عِتْقٍ وَإِنْ لِأَجَلٍ. (إلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) أَيْ وَقَعَ قَبْلَ الْإِسْلَامِ وَفَسَخَهُ الْإِسْلَامُ فَلَا يُؤَاخَذُ فَاعِلُهُ بِهِ لِأَنَّهُ يُغْفَرُ بِالْإِسْلَامِ لِأَنَّهُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. قَالَ تَعَالَى: {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَالِاسْتِثْنَاءُ فِي الْآيَةِ مُنْقَطِعٌ، وَالْمَعْنَى: لَكِنْ مَا قَدْ سَلَفَ لَا إثْمَ فِيهِ، وَحُرْمَةُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ مِنْ جُمْلَةِ السَّبْعِ اللَّاتِي يُحَرِّمْنَ بِالرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ هِيَ السَّادِسَةُ، وَأَشَارَ إلَى تَمَامِ السَّبْعِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ} [النساء: 22] أَيْ عَقَدَ عَلَيْهِ {آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22] وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى فَرْعِ الْإِنْسَانِ وَإِنْ سَفُلَ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِمَنْ عَقَدَ عَلَيْهِ أَصْلُهُ وَإِنْ عَلَا، وَلَوْ كَانَ الْعَقْدُ فَاسِدًا حَيْثُ اُخْتُلِفَ فِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الْأَصْلِ تَلَذُّذٌ بِهِ، لِأَنَّ التَّحْرِيمَ بِالصِّهَارَةِ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَلَذُّذٍ بَلْ يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، إلَّا فِي تَحْرِيمِ الْبِنْتِ بِسَبَبِ نِكَاحِ أُمِّهَا فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى التَّلَذُّذِ بِأُمِّهَا، وَحُرْمَةُ حَلِيلَةِ الْأَبِ عَلَى الِابْنِ وَلَوْ كَانَ عَقَدَ الْأَبُ عَلَيْهَا فِي حَالِ صِغَرِهِ، وَقَيَّدْنَا الْفَاسِدَ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ لِأَنَّ الْمُجْمَعَ عَلَيْهِ لَا يُحَرِّمُ إلَّا وَطْؤُهُ إنْ دَرَأَ الْحَدَّ، وَمِثْلُ حَلِيلَةِ الْأَصْلِ فِي تَحْرِيمِهَا عَلَى فَرْعِهِ وَإِنْ سَفُلَ مَوْطُوءَتُهُ بِالْمِلْكِ حَيْثُ تَلَذَّذَ بِهَا الْأَصْلُ وَلَوْ مُسْتَنِدًا لِعَقْدٍ فَاسِدٍ حَيْثُ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي تَسْمِيَتِهَا حَلِيلَةً قَبْلَ التَّلَذُّذِ، وَلَكِنْ تُقَيَّدُ الْحُرْمَةُ بِأَنْ يَكُونَ الْأَصْلُ تَلَذَّذَ بِهَا بَعْدَ بُلُوغِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ كُلَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ بِالْعَقْدِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغُ الزَّوْجِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ حَقِيقَةٌ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَمَجَازٌ فِي الْوَطْءِ، وَأَمَّا مَا يَتَوَقَّفُ فِيهِ التَّحْرِيمُ عَلَى التَّلَذُّذِ فَلَا بُدَّ مِنْ بُلُوغِ الْمُتَلَذِّذِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ تَتْمِيمُ الْآيَةِ بِقَوْلِهِ: {إِلا مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] إلَّا أَنَّ هَذَا لَيْسَ كَالْمُتَقَدِّمِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ، لِأَنَّ نِكَاحَ حَلِيلَةِ الْأَبِ لَمْ تَسْبِقْ بِهِ شَرِيعَةٌ، وَإِنَّمَا كَانَ الْوَلَدُ يَعْقِدُ عَلَى حَلِيلَةِ أَبِيهِ جَهْلًا، خِلَافَ نِكَاحِ الْأُخْتَيْنِ فَإِنَّهُ كَانَ شَرِيعَةَ قَوْمٍ وَنَسَخَهُ شَرِيعَةُ الْإِسْلَامِ. قَالَهُ فِي التَّحْقِيقِ وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ مَعَ قَوْلِهِمْ فِيهِ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يَجُبُّهُ، لِأَنَّ مَا كَانَ شَرِيعَةً لِقَوْمٍ لَا يُؤَاخَذُونَ بِهِ حَتَّى يُقَالَ الْإِسْلَامُ يَجُبُّهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّ مَنْ يُعَلِّلُ غُفْرَانَ حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ بِجَبِّ الْإِسْلَامِ لَا يُسَلِّمُ أَنَّهُ كَانَ شَرِيعَةً وَتَأَمَّلْهُ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا مَرَّ بَيَانُ عِدَّةِ السَّبْعِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالْقَرَابَةِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا السَّبْعُ الْمُحَرَّمَاتُ بِالصِّهْرِ وَالرَّضَاعِ فَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالرَّضَاعِ مِنْهُنَّ بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْأُمَّهَاتُ وَالْأَخَوَاتُ فَقَطْ، وَالْخَمْسُ بِالصِّهْرِ وَهُنَّ: بِنْتُ الزَّوْجَةِ وَأُمُّهَا وَحَلِيلَةُ الْأَبِ وَحَلِيلَةُ الِابْنِ، وَعَدَّ مِنْهُنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُخْتِهَا، مَعَ أَنَّ الْمُحَرَّمَةَ بِالصِّهْرِ هِيَ الْمُحَرَّمَةُ بِسَبَبِ عَقْدِ أَصْلِك أَوْ فَرْعِك عَلَيْهَا، أَوْ عَقْدِك عَلَى غَيْرِهَا كَأُمِّ الزَّوْجَةِ، وَأُمِّ الْمُحَرَّمَةِ بِالْجَمْعِ فَلَا يَنْطَبِقُ هَذَا الضَّابِطُ عَلَيْهَا، وَلَكِنَّ السُّنَّةَ الْمُتَوَاتِرَةَ أَلْحَقَتْهَا بِالْمُحَرَّمَةِ بِالصِّهْرِ وَمَضَى عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ قَالَهُ الْفَاكِهَانِيُّ، فَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ غَلَّبَ الْمُحَرَّمَ بِالصِّهْرِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالْجَمْعِ، فَأُطْلِقَ عَلَى مَا عَدَا الْمُحَرَّمِ بِالنَّسَبِ وَالْمُحَرَّمِ بِالرَّضَاعِ أَنَّهُ مُحَرَّمٌ بِالصِّهْرِ، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَمْرٍو لِمَا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ آيَةِ: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} [النساء: 23] عَدَمُ حُرْمَةِ غَيْرِهِنَّ، مَعَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ بِالرَّضَاعِ سَبْعٌ عَلَى عَدَدِ الْمُحَرَّمِ بِالنَّسَبِ قَالَ: (وَحَرَّمَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ) أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَزْكَى (السَّلَامِ) مِنْ النِّسَاءِ (بِالرَّضَاعِ) مِثْلَ (مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ) وَهُنَّ السَّبْعُ اللَّاتِي فِي الْآيَةِ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] إلَى آخِرِهَا، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَعْنَى حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعَةِ مَا يَحْرُمُ مِنْ الْوِلَادَةِ» . فَكَمَا يَحْرُمُ بِالنَّسَبِ الْأُمَّهَاتُ وَالْبَنَاتُ وَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ وَالْخَالَاتُ وَبَنَاتُ الْإِخْوَةِ وَبَنَاتُ الْأَخَوَاتِ كَذَلِكَ يَحْرُمْنَ مِنْ الرَّضَاعِ، فَأُمُّك رَضَاعًا كُلُّ مَنْ أَرْضَعَتْك أَوْ أَرْضَعَتْ مَنْ وَلَدَتْك بِوَاسِطَةٍ أَوْ غَيْرِهِ وَأُمَّهَاتُهُمَا، وَبِنْتُك كُلُّ مَنْ رَضَعَتْ عَلَى زَوْجَتِك بِابْنِك أَوْ أَرْضَعَتْهَا بِنْتُك مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ، وَأَخَوَاتُك كُلُّ مَنْ وَلَدَتْهُ مَنْ أَرْضَعَتْك أَوْ وُلِدَ لِفَحْلِهَا، فَإِنْ جَاءَ مِنْ أُمِّك وَفَحْلِهَا وَلَدٌ فَهُوَ أَخٌ شَقِيقٌ لَك مِنْ الرَّضَاعِ، وَإِنْ وُلِدَ لِأُمِّك مِنْ غَيْرِ ذَلِكَ الْفَحْلِ وَلَدٌ فَهُوَ أَخٌ لِأُمٍّ، وَإِنْ وُلِدَ لِأَبِيك مِنْ أُمِّك مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ سُرِّيَّةٍ فَهُوَ أَخُوك لِأَبِيك، وَأَخَوَاتُ الْفَحْلِ عَمَّاتُ الرَّضِيعِ، وَأَخَوَاتُ أُمِّ الرَّضِيعِ خَالَاتٌ لَهُ، وَبَنَاتُ الْأَخِ مَنْ أَرْضَعَتْهُنَّ امْرَأَةُ أَخِيك بِلَبَنِهِ، وَبَنَاتُ الْأَخَوَاتِ مَنْ أَرْضَعَتْهُنَّ الْأَخَوَاتُ، وَكُلُّ هَذَا دَخَلَ تَحْتَ الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ، نَعَمْ اسْتَثْنَى الْعُلَمَاءُ مِنْ الْحَدِيثِ بَعْضَ إنَاثٍ تَحْرُمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 فَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً حُرِّمَتْ بِالْعَقْدِ دُونَ أَنْ تُمَسَّ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا حَتَّى يَدْخُلَ بِالْأُمِّ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِهَا بِنِكَاحٍ أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ مِلْكٍ وَلَا يَحْرُمُ بِالزِّنَا حَلَالٌ. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَطْءَ   [الفواكه الدواني] مِنْ النَّسَبِ وَلَا تَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ، الْأُولَى: أُمُّ أَخِيك أَوْ أُخْتُك. الثَّانِيَةُ: أُمُّ وَلَدِ وَلَدِك. الثَّالِثَةُ: جَدَّةُ وَلَدِك. الرَّابِعَةُ: أُخْتُ وَلَدِك. الْخَامِسَةُ: أُمُّ عَمِّك وَعَمَّتِك. وَالسَّادِسَةُ: أُمُّ خَالِك وَخَالَتِك، وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: إلَّا أُمَّ أَخِيك أَوْ أُخْتِك، وَأُمَّ وَلَدِ وَلَدِك، وَجَدَّةَ وَلَدِك، وَأُخْتَ وَلَدِك، وَأُمَّ عَمِّك وَعَمَّتِك، وَأُمَّ خَالِك وَخَالَتِك، فَقَدْ لَا يَحْرُمْنَ مِنْ الرَّضَاعِ أَيْ وَيَحْرُمْنَ مِنْ النَّسَبِ وَقَدْ وَفَّى كَلَامَهُ لِلتَّحْقِيقِ وَلَمَّا كَانَ الْمُحَرَّمُ بِالْجَمْعِ بِنَصِّ الْقُرْآنِ مُخْتَصًّا بِالْأُخْتَيْنِ وَأَلْحَقَتْ السُّنَّةُ الْمُتَوَاتِرَةُ بِالْأُخْتَيْنِ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا وَخَالَتِهَا قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمِ بِالسُّنَّةِ: (وَنَهَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ (أَنْ تُنْكَحَ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا أَوْ) عَلَى (خَالَتِهَا) أَوْ عَلَى بِنْتِ أَخِيهَا أَوْ أُخْتِهَا وَالنَّهْيُ لِلتَّحْرِيمِ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ: «لَا تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلَا عَلَى خَالَتِهَا» ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ بِقَوْلِهِ: وَجَمْعُ خَمْسٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ لَوْ قُدِّرَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرًا حَرُمَ أَيْ نِكَاحُ الْأُخْرَى، وَهَذَا الضَّابِطُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ امْتِنَاعُ الْجَمْعِ بِالْقَرَابَةِ وَالرَّضَاعِ أَوْ الصِّهَارَةِ، فَلَا يَرِدُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأَمَتِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَبِنْتِ زَوْجِهَا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَأُمِّ زَوْجِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِأَنَّ الْحُرْمَةَ مِنْ جَانِبٍ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا لَوْ قُدِّرَتْ كُلٌّ ذَكَرًا حَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ الْأُخْرَى، لِأَنَّ الشَّخْصَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نِكَاحُ عَمَّتِهِ، وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ وَبِنْتُ أَخِيهَا لَوْ قُدِّرَتْ الْمَرْأَةُ ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ بِنْتُ أَخِيهِ، وَلَوْ قُدِّرَتْ بِنْتُ الْأَخِ ذَكَرًا لَحَرُمَ عَلَيْهِ نِكَاحُ عَمَّتِهِ، وَضَابِطُ خَلِيلٍ رُبَّمَا يَشْمَلُ الْعَمَّتَيْنِ وَالْخَالَتَيْنِ وَالْعَمَّةَ وَالْخَالَةَ، وَمِثَالُ الْعَمَّتَيْنِ يُوجَدُ فِي بِنْتَيْ رَجُلَيْنِ تَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا أُمَّ الْآخَرِ، وَالْخَالَتَيْنِ يُتَصَوَّرُ فِي بِنْتَيْ رَجُلَيْنِ تَزَوَّجَ كُلٌّ مِنْهُمَا بِنْتَ الْآخَرِ، وَالْخَالَةُ وَالْعَمَّةُ يُتَصَوَّرُ فِي بِنْتَيْ رَجُلَيْنِ تَزَوَّجَ أَحَدُهُمَا أُمَّ الْآخَرِ، وَالْآخَرُ بِنْتَ الْآخَرِ اُنْظُرْ التَّتَّائِيُّ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ جَمَعَ بَيْنَ مُحَرَّمَتَيْ الْجَمْعِ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ وَحُكْمُهُ الْفَسْخُ وَلَوْ حَصَلَ دُخُولٌ بِهِمَا بِلَا طَلَاقٍ وَلَا مَهْرٍ لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَأَمَّا إنْ تَرَتَّبَتَا فِي الْعَقْدِ فَإِنْ عُلِمَتْ الْأُولَى فُسِخَ نِكَاحُ الثَّانِيَةِ وَثَبَتَ نِكَاحُ الْأُولَى، وَمِثْلُ الْعِلْمِ لَوْ صُدِّقَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهَا ثَانِيَةٌ وَإِنْ اخْتَلَفَا فَالْقَوْلُ لِلزَّوْجِ بِيَمِينٍ لِيَسْقُطَ عَنْهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَيُفْسَحُ نِكَاحُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهَا ثَانِيَةٌ لَكِنْ بِطَلَاقٍ، وَإِنْ لَمْ تُعْلَمْ الْأُولَى مِنْ الثَّانِيَةِ وَلَمْ يَدَّعِ الزَّوْجُ الْعِلْمَ بِأَوَّلِيَّةِ إحْدَاهُمَا فَإِنَّهُ يُفْسَخُ نِكَاحُهُمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَ نِكَاحُ ثَانِيَةٍ صُدِّقَتْ وَإِلَّا حَلَفَ لِلْمَهْرِ بِلَا طَلَاقٍ كَأُمٍّ وَابْنَتِهَا بِعَقْدٍ. الثَّانِي: الْوَطْءُ بِالْمِلْكِ يَنْشُرُ الْحُرْمَةَ كَالْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ كَمَا قَدَّمْنَا، فَتَحْرُمُ أُصُولُ الْمَوْطُوءَةِ بِالْمِلْكِ وَفُرُوعُهَا عَلَى وَاطِئِهَا، وَكَذَا تَحْرُمُ الْمَوْطُوءَةُ عَلَى أُصُولِ الْوَاطِئِ وَفُرُوعِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَى وَاطِئِهَا الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ عَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي الْوَطْءِ، وَمِثْلُ الْوَطْءِ التَّلَذُّذُ، فَلَوْ تَلَذَّذَ بِأَمَةٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ مَنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ حَتَّى يُحَرِّمَ فَرْجَ الْأُولَى حَيْثُ أَرَادَ اتِّخَاذَهَا لِلْوَطْءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَّتْ الْأُخْتُ بِبَيْنُونَةِ السَّابِقَةِ أَوْ زَوَالِ مِلْكٍ بِعِتْقٍ وَإِنْ لِأَجَلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ نِكَاحٍ يُحِلُّ الْمَبْتُوتَةَ وَقَدَّمْنَا ذَلِكَ أَيْضًا، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ حَلِيلَةَ الِابْنِ مُحَرَّمَةٌ عَلَى أُصُولِهِ وَفُصُولِهِ بِالصِّهَارَةِ أَعَادَهَا لَيُبَيِّنَ أَنَّ الْحُرْمَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بِقَوْلِهِ: (فَمَنْ نَكَحَ امْرَأَةً) أَيْ عَقَدَ عَلَيْهَا (حُرِّمَتْ بِالْعَقْدِ) وَلَوْ فَسَدَ إنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ (دُونَ أَنْ تُمَسَّ عَلَى آبَائِهِ) أَيْ أُصُولِهِ وَإِنْ عَلَوْا (وَ) حُرِّمَتْ أَيْضًا عَلَى (أَبْنَائِهِ) أَيْ فُرُوعِهِ وَإِنْ سَفُلُوا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] (وَحُرِّمَتْ عَلَيْهِ) أَيْ الزَّوْجِ (أُمَّهَاتُهَا) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبَنَاتِ مُحَرِّمٌ الْأُمَّهَاتِ (وَلَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ بَنَاتُهَا) أَيْ فُرُوعُهَا (حَتَّى يَدْخُلَ بِالْأُمِّ أَوْ يَتَلَذَّذَ بِهَا بِنِكَاحٍ) أَيْ بِسَبَبِهِ (أَوْ مِلْكِ يَمِينٍ) وَلَوْ كَانَ التَّلَذُّذُ بِالنَّظَرِ لِبَاطِنِ الْجَسَدِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَأُصُولِ زَوْجَتِهِ وَبِتَلَذُّذِهِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا وَلَوْ بِنَظَرِ فُصُولِهَا، وَهَذَا إشَارَةٌ لِلْقَاعِدَةِ الْمَطْرُوقَةِ وَهِيَ الْعَقْدُ عَلَى الْبَنَاتِ يُحَرِّمُ الْأُمَّهَاتِ، وَالتَّلَذُّذُ بِالْأُمَّهَاتِ يُحَرِّمُ الْبَنَاتِ، وَالْمُرَادُ بِالْعَقْدِ مَا يَشْمَلُ الْفَاسِدَ إنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَى فَسَادِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَحْرُمْ إلَّا وَطْؤُهُ إنْ دَرَأَ الْحَدَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. وَلَمَّا كَانَتْ شُبْهَةُ النِّكَاحِ كَالنِّكَاحِ قَالَ: (أَوْ بِشُبْهَةٍ مِنْ نِكَاحٍ) عَطْفٌ عَلَى بِنِكَاحٍ أَيْ إنْ تَلَذَّذَ الشَّخْصُ بِالْمَرْأَةِ بِسَبَبِ شُبْهَةِ النِّكَاحِ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ لِأُصُولِ الْمُتَلَذِّذِ بِهَا وَفُرُوعِهَا عَلَى الْمُتَلَذِّذِ وَعَلَى أُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ، وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَطَأَ امْرَأَةً يَظُنُّهَا زَوْجَتَهُ أَوْ يَتَزَوَّجَ تَزْوِيجًا فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ لَكِنْ يَدْرَأُ الْحَدَّ، كَأَنْ يَتَزَوَّجَ بِمُعْتَدَّةٍ أَوْ خَامِسَةٍ أَوْ ذَاتِ مَحْرَمٍ غَيْرَ عَالِمٍ وَيَتَلَذَّذَ بِهَا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ فَرْعُ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ وَأَصْلُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ الْعَقْدُ وَإِنْ فَسَدَ إنْ لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ وَإِلَّا فَوَطْؤُهُ إنْ دَرَأَ الْحَدَّ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْعَقْدُ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ أَنْ يَكُونَ لَازِمًا، فَلَا عِبْرَةَ بِعَقْدِ الْمُكْرَهِ وَلَا عَقْدِ صَبِيٍّ أَوْ عَبْدٍ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِ الْعَبْدِ وَوَلِيِّ الصَّبِيِّ، وَمِثْلُ الْوَطْءِ الْمُقَدِّمَاتُ وَقَدْ قُدِّمَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 الْكَوَافِرِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ وَيَحِلُّ وَطْءُ الْكِتَابِيَّاتِ بِالْمِلْكِ وَيَحِلُّ وَطْءُ حَرَائِرِهِنَّ بِالنِّكَاحِ وَلَا يَحِلُّ وَطْءُ إمَائِهِنَّ بِالنِّكَاحِ لِحُرٍّ وَلَا لِعَبْدٍ. وَلَا تَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا وَلَا عَبْدَ وَلَدِهَا، وَلَا الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَلَا أَمَةَ وَلَدِهِ وَلَهُ أَنْ   [الفواكه الدواني] الْإِشَارَةَ إلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ التَّلَذُّذُ بِشُبْهَةِ الْمِلْكِ يَحْصُلُ بِهِ التَّحْرِيمُ قَالَ: (أَوْ) يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشُبْهَةِ (مِلْكٍ) كَأَنْ يَشْتَرِيَ أَمَةً وَيَتَلَذَّذَ مِنْهَا وَلَوْ بِقِبْلَةٍ ثُمَّ تُسْتَحَقَّ أَوْ يَظْهَرَ بِهَا عَيْبٌ فَيَرُدَّهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ أُصُولُهَا وَلَا فُرُوعُهَا، كَحُرْمَةِ أُصُولِ وَفُرُوعِ الزَّوْجَةِ عَلَى زَوْجِهَا بِتَلَذُّذِهِ بِهَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ التَّلَذُّذِ وَالنِّكَاحِ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ الْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَحْرُمُ بِالزِّنَا حَلَالٌ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ وَلَوْ تَكَرَّرَ زِنَاهُ بِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ بِهِ أُصُولُهَا وَلَا فُرُوعُهَا، بَلْ يَحِلُّ لَهُ التَّزَوُّجُ بِأُمِّهَا أَوْ ابْنَتِهَا الَّتِي لَمْ تَتَخَلَّقُ مِنْ مَائِهِ لِحُرْمَتِهَا عَلَيْهِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى يَجُوزُ لِأُصُولِهِ وَفُرُوعِهِ نِكَاحُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ، هَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ مَنْ زَنَى بِامْرَأَةٍ يَجُوزُ لَهُ بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا نِكَاحُهَا لِأَنَّ هَذَا غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ وَلَمْ يَقَعْ فِيهِ نِزَاعٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَهُوَ قَوْلُ الْإِمَامِ مَالِكٍ فِي الْمُوَطَّإِ. قَالَ سَحْنُونٌ؟ وَأَصْحَابُ مَالِكٍ كُلُّهُمْ عَلَيْهِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِيهِ إلَّا ابْنَ الْقَاسِمِ فَإِنَّهُ رَوَى فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ مَنْ زَنَى بِأُمِّ امْرَأَتِهِ فَإِنَّهُ يُفَارِقُهَا، وَاخْتَلَفُوا فِي الْمُفَارَقَةِ هَلْ عَلَى الْوُجُوبِ أَوْ النَّدْبِ؟ قَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: وَاخْتَلَفَ الْأَشْيَاخُ فِي الْمُعْتَمَدِ هَلْ هُوَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ أَوْ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ؟ وَاخْتَصَرَ الْبَرَادِعِيُّ عَلَيْهِ، وَلِأَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ عَنْ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَأَفْتَى بِالتَّحْرِيمِ إلَى أَنْ مَاتَ، فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إلَى تَصْحِيحِ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَجَمَاعَةٌ إلَى تَصْحِيحِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ، وَوُجُوبِ التَّعْوِيلِ عَلَيْهِ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ عَلَيْهِ كُلَّ الْأَصْحَابِ خَلَا ابْنَ الْقَاسِمِ، فَلِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ حَيْثُ اقْتَصَرَ عَلَى الرَّاجِحِ الْمُوَافِقِ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَلَوْ ثَبَتَ رُجُوعُ الْإِمَامِ عَمَّا فِيهِ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَكُونُ الرَّاجِحُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَهُوَ عَدَمُ نِسْبَةِ التَّحْرِيمِ بِالزِّنَا مَعَ رُجُوعِ الْإِمَامِ عَنْهُ؟ مَعَ أَنَّ الْمَرْجُوعَ عَنْهُ لَا يُنْسَبُ إلَى قَائِلِهِ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ رَاجِحًا؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَصْحَابَهُ أَخَذَتْ مِنْ قَوَاعِدِهِ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ فَصَارَ عَدَمُ التَّحْرِيمِ مَذْهَبًا لِمَالِكٍ وَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مُخَالِفًا لَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَا يَسْتَنْبِطُهُ أَصْحَابُ الْإِمَامِ مِنْ قَوَاعِدِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ يُنْسَبُ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَقُلْهُ وَلَا تَكَلَّمَ بِهِ، فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْمَسَائِلِ لَمْ يَكُنْ لِلْإِمَامِ فِيهَا نَصٌّ، وَإِنَّمَا هِيَ مَنْقُولَةٌ عَنْ أَصْحَابِهِ وَتُنْسَبُ إلَى مَذْهَبِهِ كَغَالِبِ مَسَائِلِ الْإِقْرَارِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالنَّسَبِ وَالصِّهْرِ وَالرَّضَاعِ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمُحَرَّمَاتِ بِالدِّينِ بِقَوْلِهِ: (وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى) عَلَى الْمُسْلِمِ (وَطْءَ الْكَوَافِرِ) جَمْعُ كَافِرَةٍ (مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ) كَالْمَجُوسِيَّاتِ وَالصَّابِئَاتِ وَعَابِدَاتِ الْأَوْثَانِ وَنَحْوِهِنَّ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ كِتَابٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] فَإِنَّهَا مَحْمُولَةٌ عَلَى غَيْرِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالنَّهْيُ عَامٌّ فِي الْوَطْءِ (بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ) وَالْمُرَادُ بِالْوَطْءِ سَائِرُ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِقَوْلِهِ: (وَيَحِلُّ) لِلْمُسْلِمِ (وَطْءُ) الْإِمَاءِ (الْكِتَابِيَّاتِ بِالْمِلْكِ) لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 3] (وَيَحِلُّ لَنَا) مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ (وَطْءُ حَرَائِرِهِنَّ) أَيْ الْكِتَابِيَّاتِ (بِالنِّكَاحِ) لِلْقَاعِدَةِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ جَازَ لَنَا وَطْءُ إمَائِهِمْ بِالْمِلْكِ يَجُوزُ لَنَا وَطْءُ حَرَائِرِهِمْ بِالنِّكَاحِ وَلَوْ يَهُودِيَّةً تَنَصَّرَتْ وَبِالْعَكْسِ، وَكَذَا الْمَجُوسِيَّةُ إذَا تَهَوَّدَتْ أَوْ تَنَصَّرَتْ عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِأَنَّهَا تُقَرُّ عَلَى مَا انْتَقَلَتْ إلَيْهِ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 5] إلَى قَوْلِهِ: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُحْصَنَاتِ فِي الْآيَةِ الْحَرَائِرُ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُشْرِكَاتِ فِي آيَةِ: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ} [البقرة: 221] غَيْرُ الْكِتَابِيَّاتِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: وَلَمَّا تَشَرَّفَ أَهْلُ الْكِتَابِ بِتَمَسُّكِهِمْ بِالْكِتَابِ وَأَضَافَهُمْ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} [آل عمران: 64] أُبِيحَتْ لَنَا نِسَاؤُهُمْ وَحَلَّ لَنَا طَعَامُهُمْ أَيْ ذَبَائِحُهُمْ (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِتَعْبِيرِهِ بِيَحِلُّ جَوَازُ نِكَاحِهِنَّ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِالْحِلِّ عَدَمَ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنَافِي الْكَرَاهَةَ، وَمَشَى عَلَيْهَا خَلِيلٌ لِأَنَّهَا قَوْلُ ذَلِكَ حَيْثُ قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمِ: وَالْكَافِرَةُ إلَّا الْحُرَّةَ الْكِتَابِيَّةَ بِكُرْهٍ وَتَأَكَّدَ بِدَارِ الْحَرْبِ، وَإِنَّمَا كُرِهَ نِكَاحُهَا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَيْسَ لَهُ مَنْعُهَا مِنْ أَكْلِ الْخِنْزِيرِ وَلَا مِنْ شُرْبِ الْخَمْرِ وَلَا مِنْ الذَّهَابِ إلَى الْكَنِيسَةِ، وَهَذَا يُؤَدِّي إلَى تَرْبِيَةِ الْوَلَدِ عَلَى دِينِهَا، وَأَيْضًا رُبَّمَا تَمُوتُ وَهِيَ حَامِلٌ فَتُدْفَنُ فِي مَقْبَرَةِ أَهْلِ الشِّرْكِ، وَالْوَلَدُ الْكَائِنُ فِي بَطْنِهَا مَحْكُومٌ لَهُ بِالْإِسْلَامِ، وَلِأَنَّ النِّكَاحَ مَظِنَّةُ الْمَوَدَّةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] الْآيَةَ، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ الْمِلْكِ فِي الْإِمَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَحِلُّ) لَنَا (وَطْءُ إمَائِهِنَّ) أَيْ الْكِتَابِيَّاتِ (بِالنِّكَاحِ لِحُرٍّ وَلَا لِعَبْدٍ) وَالْمُرَادُ بِإِمَائِهِنَّ الْكَائِنَاتُ عَلَى دِينِهِنَّ، فَلَيْسَتْ الْإِضَافَةُ عَلَى مَعْنَى اللَّازِمِ، وَحُرْمَةُ نِكَاحِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 يَتَزَوَّجَ أَمَةَ وَالِدِهِ وَأَمَةَ أُمِّهِ وَلَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةِ أَبِيهِ مِنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ وَتَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةُ ابْنَ زَوْجَةِ أَبِيهَا مِنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ.   [الفواكه الدواني] الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ الزِّنَا إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْهَا وَلَوْ عَجَزَ عَنْ صَدَاقِ الْحُرَّةِ، لِأَنَّ حِلَّ الْأَمَةِ لِمَنْ عَدِمَ صَدَاقَ الْحُرَّةِ وَخَشِيَ عَلَى نَفْسِهِ الْعَنَتَ مَشْرُوطٌ بِإِسْلَامِ الْأَمَةِ، لِأَنَّ الْأَمَةَ الْكَافِرَةَ وَلَدُهَا رَقِيقٌ، فَيَلْزَمُ عَلَى نِكَاحِ الْمُسْلِمِ لَهَا اسْتِرْقَاقُ الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ لِلْكَافِرِ، لِأَنَّ الْوَلَدَ يَتْبَعُ أُمَّهُ فِي الرِّقِّ وَالْحُرِّيَّةِ، وَأَبَاهُ فِي الدِّينِ وَالنَّسَبِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَوْ تَزَنْدَقَتْ الْيَهُودِيَّةُ أَوْ النَّصْرَانِيَّةُ بِأَنْ أَظْهَرَتْ الْيَهُودِيَّةَ أَوْ النَّصْرَانِيَّةَ وَأَخْفَتْ الْمَجُوسِيَّةَ لَا يَجُوزُ لَنَا نِكَاحُهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً وَلَا وَطْؤُهَا بِالْمِلْكِ إنْ كَانَتْ أَمَةً، بِخِلَافِ لَوْ أَظْهَرَتْ النَّصْرَانِيَّةَ وَأَخْفَتْ الْيَهُودِيَّةَ أَوْ عَكْسِهِ فَإِنَّهَا لَا تَحْرُمُ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَنْ تَزَوَّجَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِمَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ، كَأَنْ يَتَزَوَّجَ الْأَمَةَ الْيَهُودِيَّةَ أَوْ النَّصْرَانِيَّةَ أَوْ الْحُرَّةَ الْمَجُوسِيَّةَ، وَالْحُكْمُ فَسْخُ النِّكَاحِ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ أَوْ أَسْلَمَتْ، وَيُرْجَمُ الزَّوْجُ فِي نِكَاحِ الْمَجُوسِيَّةِ لِقَوْلِ مُحَمَّدٍ: لَوْ تَعَمَّدَ الْمُسْلِمُ نِكَاحَ الْمَجُوسِيَّةِ بِخِلَافِ لَوْ تَزَوَّجَتْ الْحُرَّةُ الْمُسْلِمَةُ بِمَجُوسِيٍّ أَوْ بِكَافِرٍ غَيْرِهِ لَمْ يَحُدَّا وَإِنْ تَعَمَّدَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ يُحَدُّ فِي تَزَوُّجِهِ بِالْمَجُوسِيَّةِ بِخِلَافِ الْمُسْلِمَةِ الْمُتَزَوِّجَةِ بِالْمَجُوسِيِّ لَا حَدَّ عَلَيْهَا، أَنَّ إسْنَادَ النِّكَاحِ إلَى الرَّجُلِ عَلَى جِهَةِ الْحَقِيقَةِ، وَإِسْنَادَهُ إلَى الْمَرْأَةِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ أَوْ الْحَقِيقَةِ الضَّعِيفَةِ، وَانْظُرْ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ هَلْ يُحَدُّ أَمْ لَا؟ لَمْ أَرَ فِي ذَلِكَ نَصًّا، وَالظَّاهِرُ لَا حَدَّ لِحِلِّ وَطْءِ الْأَمَةِ فِي الْجُمْلَةِ دُونَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، فَتَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْكَوَافِرَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَنْ لَا تَحِلُّ حَرَائِرُهُنَّ وَلَا إمَاؤُهُنَّ وَهُنَّ غَيْرُ الْكِتَابِيَّاتِ، وَمَنْ يَحِلُّ حَرَائِرُهُنَّ بِالنِّكَاحِ وَإِمَاؤُهُنَّ بِالْمِلْكِ وَهُنَّ الْكِتَابِيَّاتُ (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ (تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ عَبْدَهَا وَلَا عَبْدَ وَلَدِهَا) لِأَنَّهُ كَعَبْدِهَا وَالْمِلْكُ يُنَافِي الزَّوْجِيَّةَ، لِأَنَّ الزَّوْجَةَ تُطَالِبُ الزَّوْجَ بِنَفَقَةِ الزَّوْجِيَّةِ وَخِدْمَةِ الرِّقِّ، وَهُوَ يُطَالِبُهَا بِنَفَقَةِ الرِّقِّ وَخِدْمَةِ الزَّوْجِيَّةِ؟ وَالْمُرَادُ بِالْوَلَدِ الْجِنْسُ فَيَشْمَلُ ابْنَ ابْنِهَا وَإِنْ نَزَلَ، وَيَشْمَلُ الْأُنْثَى أَيْضًا. (تَنْبِيهٌ) لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ حُرْمَةِ تَزَوُّجِ الْمَرْأَةِ عَبْدَهَا وَجَوَازِ تَمْكِينِهَا لَهُ مِنْ نَظَرِهِ شَعْرَهَا الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلِعَبْدٍ بِلَا شِرْكٍ وَمُكَاتَبٍ وَغْدَيْنِ نَظَرُ شَعْرِ السَّيِّدَةِ كَخَصِيٍّ وَغْدٍ لِزَوْجٍ، وَأُلْحِقَ بِشَعْرِهَا بَقِيَّةُ أَطْرَافِهَا الَّتِي يَنْظُرُ إلَيْهِ مَحْرَمُهَا، وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ الْخَلْوَةُ بِهَا، وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِعَدَمِ مَيْلِ النُّفُوسِ إلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ، وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ نَظَرِ عَبْدِ زَوْجِهَا لِأَطْرَافِهَا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِهِ خَصِيًّا وَوَغْدًا أَيْ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ، لَا إنْ كَانَ فَحْلًا أَوْ حَسَنَ الْمَنْظَرِ. (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ يَتَزَوَّجَ (الرَّجُلُ أَمَتَهُ وَلَا أَمَةَ وَلَدِهِ) قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَحْرَمِ وَمِلْكِهِ: أَوْ لِوَلَدِهِ وَفُسِخَ وَإِنْ طَرَأَ بِلَا طَلَاقٍ كَمَرْأَةٍ فِي زَوْجِهَا وَلَوْ بِدَفْعِ مَالٍ لِيُعْتَقَ عَنْهَا، وَلَا فَرْقَ فِي حُرْمَةِ تَزَوُّجِ الرَّجُلِ بِمِلْكِهِ بَيْنَ الْمِلْكِ الْكَامِلِ وَالْبَعْضِ، وَلَا بَيْنَ الْقَبَّةِ الْمَحْضَةِ وَذَاتِ الشَّائِبَةِ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَةِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ ذَلِكَ لِأَنَّ الْمِلْكَ سَبَبٌ لِلْإِبَاحَةِ، فَهُوَ مِنْ مَوَانِعِ النِّكَاحِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَالِكِ، وَلَا فَرْقَ فِي الرَّجُلِ بَيْنَ كَوْنِهِ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَإِنَّمَا حُرِّمَتْ أَمَةُ الْوَلَدِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ أَمَةِ نَفْسِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» . أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَبَ لَا يُقْطَعُ بِسَرِقَتِهِ مِنْ مَالِ ابْنِهِ وَلَا يُحَدُّ بِوَطْءِ أَمَتِهِ وَتَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ إنْ احْتَاجَ، فَإِنْ وَقَعَ هَذَا الْمَمْنُوعُ بِأَنْ تَزَوَّجَ الْمَالِكُ أَمَتَهُ أَوْ أَمَةَ فَرْعِهِ أَوْ تَزَوَّجَتْ الْأَمَةُ مَمْلُوكَهَا أَوْ مَمْلُوكَ فَرْعِهَا فُسِخَ مِنْ غَيْرِ طَلَاقٍ، كَمَا يُفْسَخُ لَوْ كَانَ سَابِقًا وَطَرَأَ عَلَيْهِ الْمِلْكُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَ وَإِنْ طَرَأَ بِلَا طَلَاقٍ، كَمَا إذَا اشْتَرَى زَوْجَتَهُ أَوْ اشْتَرَتْ زَوْجَهَا أَوْ مَلَكَ الزَّوْجُ أَوْ الزَّوْجَةُ الْآخَرَ بِالْهِبَةِ وَنَحْوِهَا، وَمِلْكُ الْبَعْضِ كَمِلْكِ الْكُلِّ فِي الْفَسْخِ (وَ) لَمَّا لَمْ يَكُنْ لِلْوَلَدِ فِي مَالِ وَالِدِهِ شُبْهَةٌ جَازَ (لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ وَالِدِهِ وَأَمَةَ أُمِّهِ) الْحُرَّيْنِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ أَصْلِهِ وَإِنْ دَنَا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ شَرْطُ نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ حَيْثُ كَانَتْ مُسْلِمَةً لِتَخَلُّقِ الْوَلَدِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَلِذَلِكَ قَيَّدْنَا الْوَالِدَ وَالْوَالِدَةَ بِالْحُرَّيْنِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الرَّقِيقَيْنِ، فَلَا يَجُوزُ لِلْوَلَدِ الْحُرِّ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَمَتِهَا لِأَنَّ وَلَدَهُ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِمَا لِأَنَّهُمَا لَمْ يَمْلِكَاهُ وَإِنَّمَا هُوَ مَمْلُوكٌ لِسَيِّدِهِمَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ عَبْدًا لَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَ أَمَةَ وَالِدِهِ وَأُمِّهِ وَلَوْ رَقِيقَيْنِ. (تَنْبِيهٌ) يُؤْخَذُ مِنْ تَعْلِيلِ جَوَازِ نِكَاحِ أَمَةِ الْوَالِدِ وَالْأُمِّ الْحُرَّيْنِ بِتَخَلُّقِ الْوَلَدِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ مَنْعُ نِكَاحِ الْحُرِّ أَمَةَ أَخِيهِ أَوْ أُخْتِهِ لِأَنَّهُ وَلَدُهُ لَا يُعْتَقُ عَلَى أَخِيهِ وَلَا عَلَى أُخْتِهِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ الْحُرَّ الرَّشِيدَ لَا يُعْتَقُ عَلَيْهِ بِالْمِلْكِ إلَّا الْأَصْلُ وَإِنْ عَلَا وَالْفَرْعُ وَإِنْ سَفُلَ، وَالْحَاشِيَةُ الْقَرِيبَةُ وَهِيَ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ لَا أَوْلَادُهُمْ وَلَا الْأَعْمَامُ وَلَا الْعَمَّاتُ. وَلَمَّا كَانَتْ بِنْتُ زَوْجَةِ الْأَبِ مِنْ غَيْرِ أَبِيهِ وَلَمْ تُرْضَعْ مِنْ لَبَنِ أَجْنَبِيَّةٍ قَالَ: (وَلَهُ) أَيْ مُرِيدِ النِّكَاحِ (أَنْ يَتَزَوَّجَ بِنْتَ امْرَأَةِ أَبِيهِ) الْمَخْلُوقَةَ (مِنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ) حَيْثُ لَمْ تَشْرَبْ مِنْ لَبَنِ أُمِّهَا بَعْدَ نِكَاحِ أَبِيهِ وَإِلَّا حَرُمَتْ لِأَنَّهَا صَارَتْ أُخْتَهُ مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا أَبُوهُ بَعْدَ وَطْئِهَا وَتَزَوَّجَهَا آخَرُ وَوَلَدَتْ مِنْهُ لِأَنَّ اللَّبَنَ لَهُمَا حَيْثُ لَمْ يَتَحَقَّقْ انْقِطَاعُ اللَّبَنِ مِنْ الْأَوَّلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاشْتَرَكَ مَعَ الْقَدِيمِ وَلَوْ بِحَرَامٍ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ بِهِ فَتَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِ الْمُطَلِّقِ، كَمَا تَحْرُمُ عَلَى أَوْلَادِ مَنْ هِيَ فِي عِصْمَتِهِ. (وَ) كَذَا يَحِلُّ أَنْ (تَتَزَوَّجَ الْمَرْأَةُ ابْنَ زَوْجَةِ أَبِيهَا) الْكَائِنَ (مِنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ أَبِيهَا بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ نِكَاحُ أَرْبَعِ حَرَائِرَ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ وَلِلْعَبْدِ نِكَاحُ أَرْبَعِ إمَاءٍ مُسْلِمَاتٍ وَلِلْحُرِّ ذَلِكَ إنْ خَشِيَ الْعَنَتَ وَلَمْ يَجِدْ لِلْحَرَائِرِ طَوْلًا. وَلْيَعْدِلْ بَيْنَ نِسَائِهِ وَعَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالسُّكْنَى بِقَدْرِ وُجْدِهِ وَلَا قَسْمَ فِي الْمَبِيتِ لِأَمَتِهِ وَلَا   [الفواكه الدواني] انْقَطَعَ رَضَاعُهُ قَبْلَ وَطْءِ أَبِيهَا، وَأَمَّا لَوْ تَزَوَّجَهَا وَهِيَ تُرْضِعُهُ فَلَا لِأَنَّهُ صَارَ وَلَدًا لَهُ وَأَخَاهَا مِنْ الرَّضَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ فِي الْعُقُوبَاتِ وَمِثْلُهُ فِي الْعِبَادَاتِ قَالَ: (وَيَجُوزُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ) الْمُسْلِمَيْنِ (نِكَاحُ أَرْبَعِ حَرَائِرَ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْعَبْدِ الرَّابِعَةُ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْعِبَادَاتِ وَالتَّلَذُّذَاتِ فَيُشَارِكُهُ فِيهَا كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، بِخِلَافِ الْعُقُوبَاتِ كَالطَّلَاقِ وَالْحَدِّ فَهُوَ عَلَى النِّصْفِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَالذَّكَرُ كَالْأُنْثَى لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الرِّقِّ، وَتَحْرُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الْأَرْبَعِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ، وَلَا نَظَرَ لِمَا عَلَيْهِ بَعْضُ الْمُبْتَدِعَةِ مُسْتَنِدِينَ لِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] مِنْ إبْقَاءِ الْوَاوِ عَلَى بَابِهَا فَإِنَّهُمْ مُخْطِئُونَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ الْمُخَالِفِ لِلْإِجْمَاعِ لِعَدَمِ فَهْمِهِمْ الْآيَةَ عَلَى مُقْتَضَى الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ اثْنَتَيْنِ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا ثَلَاثًا أَوْ أَرْبَعًا أَرْبَعًا، قَالُوا: وَبِمَعْنَى أَوْ فَالْآيَةُ حُجَّةٌ لِلْمَشْهُورِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْوَاوَ بِمَعْنَى أَوْ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ الْخَامِسَةِ، وَأَنَّ جَوَازَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ خَصَائِصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَالَ لِغَيْلَانَ حِينَ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرٍ: «اخْتَرْ أَرْبَعًا وَفَارِقْ سَائِرَهُنَّ» ، أَيْ بَاقِيهِنَّ، وَكُلُّ مَنْ تَزَوَّجَ خَامِسَةً عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ يُحَدُّ حَدَّ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا لَمْ يُحَدَّ، وَإِنْ وَقَعَ نِكَاحُ الْخَمْسِ دَفْعَةً وَاحِدَةً بَطَلَ فِيهِنَّ، وَمِنْ دَخَلَ بِهَا مِنْهُنَّ كَانَ لَهَا صَدَاقُهَا، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا لِفَسَادِ الْعَقْدِ، وَإِنْ تَرَتَّبَ الْعَقْدُ فُسِخَ نِكَاحُ الْخَامِسَةِ فَقَطْ، وَلَمَّا كَانَ الْمَانِعُ مِنْ نِكَاحِ الْحُرِّ الَّذِي يُولَدُ لَهُ أَمَةُ الْأَجَانِبِ رِقَّ وَلَدِهِ قَالَ: (وَ) يَحِلُّ (لِلْعَبْدِ نِكَاحُ أَرْبَعِ إمَاءٍ مُسْلِمَاتٍ) وَلَوْ كَانَ قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ الْحَرَائِرِ لِأَنَّ الْإِمَاءَ مِنْ نِسَائِهِ، وَالْوَلَدُ لَا يَكُونُ أَشْرَفَ مِنْ أَبِيهِ. (وَ) كَذَا يَحِلُّ (لِلْحُرِّ ذَلِكَ) أَيْ نِكَاحُ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ بِشَرْطَيْنِ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (إنْ خَشِيَ الْعَنَتَ) أَيْ الزِّنَا إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ (وَلَمْ يَجِدْ لِلْحَرَائِرِ) وَلَوْ الْكِتَابِيَّاتِ (طَوْلًا) أَيْ مَهْرًا يَتَزَوَّجُ بِهِ الْحُرَّةَ غَيْرَ الْمُغَالِيَةِ، وَتَفْسِيرُنَا الطَّوْلَ بِالْمَهْرِ هُوَ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَلِابْنِ حَبِيبٍ عَنْ أَصْبَغَ أَنَّ الطَّوْلَ هُوَ الْمَالُ الَّذِي يَقْدِرُ بِهِ عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ وَالنَّفَقَةِ. قَالَ بَعْضٌ: وَهُوَ أَصَحُّ، وَيَدْخُلُ فِي الطَّوْلِ الَّذِي يُعَدُّ بِهِ قَادِرًا عَلَى نِكَاحِ الْحُرَّةِ الدَّيْنُ الْكَائِنُ عَلَى مَلَأٍ، وَمَا يُمْكِنُ بَيْعُهُ مِنْ كِتَابَةٍ وَخِدْمَةِ مُعْتَقٍ لِأَجَلٍ وَدَابَّةِ رُكُوبِهِ وَكُتُبِ الْفِقْهِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهَا، وَمِنْ الطَّوْلِ أَيْضًا لَوْ وَجَدَ حُرَّةً تَتَزَوَّجُ بِمَالٍ فِي ذِمَّتِهِ لَا دَارِ سُكْنَاهُ وَلَا خِدْمَةِ مُدَبَّرٍ لِأَنَّهُمَا لَيْسَا مِنْ الطَّوْلِ، كَمَا أَنَّ وُجُودَ الْحُرَّةِ الَّتِي فِي عِصْمَتِهِ وَلَا تُعِفُّهُ لَا يُعَدُّ طَوْلًا، وَالْمُرَادُ بِالْمُغَالِيَةِ الَّتِي تَطْلُبُ زِيَادَةً عَلَى مَهْرِ مِثْلِهَا زِيَادَةً لَا يُغْتَفَرُ مِثْلُهَا فِي التَّيَمُّمِ وَفِي شِرَاءِ النَّعْلَيْنِ لِلْإِحْرَامِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ ثَالِثٌ لِجَوَازِ نِكَاحِ الْحُرِّ الْأَمَةَ أَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً وَأَشَرْنَا لَهُ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحُرَّ الَّذِي يُولَدُ لَهُ لَا يَحِلُّ لَهُ نِكَاحُ أَمَةِ غَيْرِ أَصْلِهِ إلَّا بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ يَخْشَى الْعَنَتَ، وَأَنْ يَعْجَزَ عَنْ صَدَاقِ الْحُرَّةِ، وَأَنْ تَكُونَ مُسْلِمَةً كَمَا ذَكَرْنَا، أَمَّا لَوْ كَانَ لَا يُولَدُ لَهُ أَوْ كَانَتْ أَمَةَ أَصْلِهِ كَأَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ الْأَحْرَارِ لَجَازَ لَهُ نِكَاحُهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ اسْمَ الْإِشَارَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلِلْحُرِّ ذَلِكَ رَاجِعٌ لِنِكَاحِ الْإِمَاءِ بِقَيْدِ الْأَرْبَعِ، لِأَنَّ مَا أُجِيزَ لِلضَّرُورَةِ يَتَحَدَّدُ بِزَوَالِهَا وَلَا يَحِلُّ لَهُ أَزْيَدَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِخِلَافِ الْعَبْدِ. الثَّانِي: لَوْ تَزَوَّجَ الْحُرُّ الْأَمَةَ بِشَرْطِهِ ثُمَّ زَالَ الْمُبِيحُ بِأَنْ طَرَأَ لَهُ الْمَالُ أَوْ أَمِنَ مِنْ الزِّنَا لَمْ يُفْسَخْ نِكَاحُهُ لِوُقُوعِهِ عَلَى وَجْهٍ جَائِزٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُفْسَخُ إذَا تَزَوَّجَ بِالْأَمَةِ بِشَرْطِهِ عَلَى حَسَبِ اعْتِقَادِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ثُمَّ تَبَيَّنَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِهِ، بِخِلَافِ لَوْ تَزَوَّجَ مَعَ فَقْدِ الشُّرُوطِ وَلَوْ بَعْضِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ فَسْخِهِ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ نِكَاحَ الْحُرِّ لِلْأَمَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ جَائِزٌ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ: إحْدَاهَا: نِكَاحُهُ أَمَةَ أَصْلِهِ الْحُرِّ، ثَانِيَتُهَا: نِكَاحُهُ أَمَةَ الْغَيْرِ وَهُوَ لَا يُولَدُ لَهُ، ثَالِثُهَا نِكَاحُ أَمَةِ الْغَيْرِ وَهُوَ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ مَعَ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ. وَقِسْمٌ غَيْرُ جَائِزٍ بِاتِّفَاقٍ وَذَلِكَ فِي صُورَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا تَزَوُّجُهُ بِأَمَةِ نَفْسِهِ أَوْ أَمَةٍ كِتَابِيَّةٍ أَوْ مَجُوسِيَّةٍ. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيهِ الْخِلَافُ وَالْمَشْهُورُ مَنْعُهُ وَهُوَ نِكَاحُ أَمَةِ الْفَرْعِ أَوْ أَمَةِ الْأَجْنَبِيِّ، وَالزَّوْجُ مِمَّنْ يُولَدُ لَهُ وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ الشُّرُوطُ. (خَاتِمَةٌ) إذَا صَحَّ نِكَاحُ الْحُرِّ الْأَمَةَ فَنَفَقَتُهَا عَلَى الزَّوْجِ لِوُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ عَلَى الْأَزْوَاجِ وَلَوْ عَبِيدًا، وَيُنْفِقُ الْعَبْدُ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ غَيْرِ خَرَاجٍ وَكَسْبٍ كَالْمَهْرِ إلَّا لِعُرْفٍ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَأَمَّا نَفَقَةُ أَوْلَادِ الْأَمَةِ مِنْ الزَّوْجِ الْحُرِّ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ عِتْقِهِمْ فَعَلَى سَيِّدِهِمْ وَهُوَ سَيِّدُ أُمِّهِمْ، وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَهُمْ السَّيِّدُ فَنَفَقَتُهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ كَإِرْضَاعِهِمْ إلَّا أَنْ يَعْدَمَ الْأَبُ أَوْ يَمُوتَ فَعَلَى السَّيِّدِ، لِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ صَغِيرًا يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْكَسْبِ، وَأَمَّا أَوْلَادُ الْعَبِيدِ فَإِنْ كَانُوا أَرِقَّاءَ فَنَفَقَتُهُمْ عَلَى سَيِّدِهِمْ، وَإِنْ كَانُوا أَحْرَارًا فَعَلَى بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا يَلْزَمُهُ أَوْلَادُهُ مُطْلَقًا لِأَنَّ الْأَرِقَّاءَ يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ سَيِّدُهُمْ، وَالْأَحْرَارُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ كَمَا ذَكَرْنَا، [الْقَسْمُ بَيْن الزَّوْجَاتِ] وَلَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] كَانَ يَجُوزُ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ تَعَدُّدُ الزَّوْجَاتِ وَكَانَ الْقَسْمُ بَيْنَهُنَّ فِي الْمَبِيتِ وَاجِبًا شَرَعَ فِي بَابِ الْقَسْمِ بِقَوْلِهِ: (لِيَعْدِلْ) الزَّوْجُ (بَيْنَ نِسَائِهِ) فِي الْمَبِيتِ وَإِنْ امْتَنَعَ وَطْؤُهُنَّ. قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا يَجِبُ الْقَسْمُ لِلزَّوْجَاتِ فِي الْمَبِيتِ وَإِنْ امْتَنَعَ الْوَطْءُ شَرْعًا أَوْ عَادَةٍ أَوْ عَقْلًا دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأَمَةِ، سَوَاءٌ كُنَّ حَرَائِرَ أَوْ إمَاءَ مُسْلِمَاتٍ أَوْ كِتَابِيَّاتٍ صَحِيحَاتٍ أَوْ مَرِيضَاتٍ كَبِيرَاتٍ أَوْ صَغِيرَاتٍ، كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ حُرًّا أَوْ عَبْدًا صَحِيحًا أَوْ مَرِيضًا حَيْثُ كَانَ يَقْدِرُ عَلَى الِانْتِقَالِ، وَأَمَّا مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِانْتِقَالِ فَيَمْكُثُ عِنْدَ مَنْ شَاءَ، وَعَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ أَنْ يَطُوفَ بِهِ عَلَيْهِنَّ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِنَّ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ لَكِنْ بِشَرْطِ انْتِفَاعِهِنَّ بِحُضُورِهِ وَعَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ عَلَيْهِنَّ، وَإِلَّا فَلَا وُجُوبَ عَلَى الْوَلِيِّ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ إطَاقَةُ الصَّبِيِّ عَلَيْهِنَّ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى} [النساء: 3] وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا كَانَ عِنْدَ الرَّجُلِ امْرَأَتَانِ فَلَمْ يَعْدِلْ بَيْنَهُمَا جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَشِقُّهُ سَاقِطٌ» رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ: فَقَدْ أَجْمَعَ الْمُجْتَهِدُونَ عَلَى وُجُوبِهِ وَعَلَى عِصْيَانِ تَارِكِهِ، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ وَلَا إمَامَتُهُ عِنْدَ بَعْضِ الشُّيُوخِ، وَمَنْ جَحَدَ وُجُوبَهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لِارْتِدَادِهِ بِجَحْدِهِ، فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْقَسْمَ لَا يَجِبُ إلَّا عَلَى الزَّوْجِ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ أَوْ عَلَى وَلِيِّ الْمَجْنُونِ لَا عَلَى وَلِيِّ صَبِيٍّ لِعَدَمِ انْتِفَاعِهَا بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي الزَّوْجَاتِ الدُّخُولُ بِهِنَّ وَإِطَاقَتُهُنَّ الْوَطْءَ؛ فَلَا يَجِبُ الْقَسْمُ لِغَيْرِ مَدْخُولٍ بِهَا وَلَا لِصَغِيرَةٍ لَمْ تُطِقْ الْوَطْءَ وَإِنْ دَخَلَ بِهَا. الثَّانِي: إطْلَاقُهُ فِي النِّسَاءِ شَامِلٌ لِلْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ وَالْمُجْمَعِ مِنْهُمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْأَمَةُ أَيْ الزَّوْجَةُ الْأَمَةُ كَالْحُرَّةِ، وَسَيَأْتِي كَلَامُ الْمُصَنِّفِ بِالْإِشَارَةِ إلَى ذَلِكَ. الثَّالِثُ: تَعْبِيرُهُ بِالنِّسَاءِ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الْوَاحِدَةَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْبَيَاتُ عِنْدَهَا وَهُوَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ وُجُوبَ الْبَيَاتِ عِنْدَهَا أَوْ يُحْضِرَ لَهَا مُؤْنِسَةً لِأَنَّ تَرْكَهَا وَحْدَهَا ضَرَرٌ بِهَا، وَلَا سِيَّمَا إذَا كَانَ الْمَحَلُّ يُتَوَقَّعُ مِنْهُ الْفَسَادُ أَوْ الْخَوْفُ مِنْ نَحْوِ اللُّصُوصِ. وَفِي التَّوْضِيحِ: إذَا اشْتَكَتْ الْمَرْأَةُ الْوَحْدَةَ ضُمَّتْ إلَى جَمَاعَةٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ تَزَوَّجَهَا عَلَى ذَلِكَ هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْبَيَاتِ، وَأَمَّا الْوَطْءُ فَقَدْ قَالَ صَاحِبُ الْقَبَسِ: الْوَطْءُ وَاجِبٌ عَلَى الزَّوْجِ لِلْمَرْأَةِ عِنْدَ مَالِكٍ إذَا انْتَفَى الْعُذْرُ، وَقَالَ ابْنُ حَنْبَلٍ وَالْأُجْهُورِيُّ: يَجِبُ عَلَى الرَّجُلِ وَطْءُ زَوْجَتِهِ وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِهِ حَيْثُ تَضَرَّرَتْ الْمَرْأَةُ بِتَرْكِهِ وَقَدَرَ عَلَيْهِ الزَّوْجُ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يُكَلَّفُ مَا لَا يُطِيقُهُ، وَالرَّاجِحُ أَنَّهَا إذَا شَكَتْ قِلَّةَ الْوَطْءِ يُقْضَى لَهَا فِي كُلِّ أَرْبَعِ لَيَالٍ بِلَيْلَةٍ، كَمَا أَنَّ الصَّحِيحَ إذَا شَكَا الزَّوْجُ مِنْ قِلَّةِ الْجِمَاعِ أَنْ يُقْضَى لَهُ عَلَيْهَا بِمَا تُطِيقُهُ كَالْأَجِيرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: يُقْضَى بِأَرْبَعِ مَرَّاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فَقَدْ لَا تُطِيقُ الْمَرْأَةُ ذَلِكَ. الرَّابِعُ: إنَّمَا جَعَلْنَا وُجُوبَ الْعَدْلِ فِي الْمَبِيتِ فَقَطْ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا يَجِبُ فِي غَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ نَفَقَةٍ وَكِسْوَةٍ وَمَحَبَّةٍ قَلْبِيَّةٍ، وَلَا فِي وَطْءٍ إلَّا عِنْدَ قَصْدِ إضْرَارِ الْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَمِيلَ نَفْسُهُ إلَى وَطْءِ وَاحِدَةٍ فَيَكُفَّ عَنْ وَطْئِهَا لِيُوَفِّرَ لَذَّتَهُ وَقُوَّتَهُ إلَى غَيْرِهَا فَهَذَا حَرَامٌ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ تَرْكُ الْكَفِّ وَيُحْمَلُ عِنْدَ الْكَفِّ عَلَى قَصْدِ الْإِضْرَارِ وَإِنْ لَمْ يُلَاحَظْ ذَلِكَ وَقْتَ الْكَفِّ لِأَنَّ الْكَفَّ مَظِنَّةُ قَصْدِ الضَّرَرِ. قَالَ خَلِيلٌ مُخَرِّجًا لَهُ مِنْ الْوَاجِبِ لَا فِي الْوَطْءِ إلَّا الْإِضْرَارَ كَكَفِّهِ لِتَتَوَفَّرَ لَذَّتُهُ لِأُخْرَى. الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مُدَّةَ الْإِقَامَةِ عِنْدَ كُلِّ وَاحِدَةٍ، وَأَقَلُّهَا الَّذِي لَا زِيَادَةَ عَلَيْهِ وَلَا نَقْصَ عَنْهُ إلَّا بِرِضَاهُنَّ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. قَالَ الْبَاجِيُّ: الْأَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ أَصْحَابِنَا الْبُدَاءَةُ بِاللَّيْلِ وَيُكَمَّلُ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ. قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: يُقِيمُ الْقَادِمُ مِنْ السَّفَرِ نَهَارًا عِنْدَ أَيَّتِهِنَّ أَحَبَّ وَلَا يَحْسِبُ وَيَسْتَأْنِفُ الْقَسْمَ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ اللَّيْلُ، قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ الِابْتِدَاءُ بِاللَّيْلِ كَنَدْبِ الْبَيَاتِ عِنْدَ الْوَاحِدَةِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الزَّوْجَاتُ فِي بَلْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ فِي حُكْمِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا إذَا تَفَرَّقْنَ فِي أَمَاكِنَ بِبُلْدَانٍ مُتَبَاعِدَةٍ فَإِنَّ الْإِقَامَةَ عِنْدَهُنَّ بِحَسَبِ الْإِمْكَانِ مِنْ جُمُعَةٍ أَوْ شَهْرٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْخُلَ فِي يَوْمِ ضَرَّةٍ مَحَلَّ أُخْرَى إلَّا لِحَاجَةٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُفْرِدَ كُلَّ وَاحِدَةٍ بِمَسْكَنٍ ذِي مَرَافِقَ بِحَيْثُ تَسْتَغْنِي عَنْ مَحَلِّ الْأُخْرَى، وَيَجُوزُ جَمْعُهُنَّ فِي دَارٍ وَاحِدَةٍ بِرِضَاهُنَّ، وَالْمُحَرَّمُ مُطْلَقًا إنَّمَا هُوَ الْجَمْعُ وَلَوْ بَيْنَ اثْنَيْنِ فِي فَرْشٍ وَاحِدٍ وَلَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ وَلَوْ بِرِضَاهُنَّ، وَإِنْ لَازَمَ الْبَيَاتَ عِنْدَ وَاحِدَةٍ عَلَى الْوَجْهِ الْمُحَرَّمِ فَإِنَّ لَيْلَةَ الْمَظْلُومَةِ تَفُوتُ عَلَيْهَا وَلَا تُحَاسَبُ بِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتَ إنْ ظَلَمَ فِيهِ وَتَجِبُ التَّسْوِيَةُ بَعْدَ ذَلِكَ. السَّادِسُ: مَنْ تَزَوَّجَ وَاحِدَةً بَعْدَ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَقْضِي لِلثَّانِيَةِ بِسَبْعِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا إنْ كَانَتْ بِكْرًا وَبِثَلَاثٍ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَأَمَّا تَزَوُّجُ اثْنَتَيْنِ فِي اثْنَتَيْنِ فِي لَيْلَةٍ فَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ تَقْدِيمَ السَّابِقَةِ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ اسْتَوَيَتَا فَالسَّابِقَةُ عَقْدًا، فَإِنْ اسْتَوَيَا بِالْقُرْعَةِ وَكُلُّ مَنْ قُدِّمَتْ اسْتَحَقَّ مَا يُقْضَى لَهَا بِهِ مِنْ سَبْعٍ أَوْ ثَلَاثٍ. السَّابِعُ: لَوْ أَرَادَ الزَّوْجُ السَّفَرَ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ وَاحِدَةً إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّفَرُ لِقُرْبَةٍ كَحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ فَيُقْرِعُ بَيْنَهُنَّ، وَكَذَلِكَ إذَا مَرِضَ بِحَيْثُ لَا يَسْتَطِيعُ الدَّوَرَانَ عَلَيْهِنَّ فَإِنَّهُ يَخْتَارُ الْإِقَامَةَ عِنْدَ أَيَّتِهِنَّ شَاءَ. الثَّامِنُ: كُلُّ مَنْ امْتَنَعَتْ مِنْ إطَاعَةِ الزَّوْجِ فِي أَمْرٍ مِنْ شَأْنِهَا فَلَهُ وَعْظُهَا وَهَجْرُهَا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 لِأُمِّ وَلَدِهِ. وَلَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا أَوْ يُدْعَى إلَى الدُّخُولِ وَهِيَ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا. [شَرْطَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ] وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ وَهُوَ أَنْ   [الفواكه الدواني] وَإِنْ لَمْ تَمْتَثِلْ فَلَهُ ضَرْبُهَا إنْ ظَنَّ إفَادَتَهُ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ بِأَنْ لَا يَكْسِرَ عَظْمًا وَلَا يَشِينُ لَحْمًا، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ فِي أَنَّهُ ضَرَبَهَا لِوَجْهٍ، كَمَا يُصَدَّقُ السَّيِّدُ فِي ضَرْبِ الْعَبْدِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ائْتَمَنَ الرِّجَالَ عَلَى النِّسَاءِ وَالسَّادَاتِ عَلَى الْعَبِيدِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ وَحِرْصًا عَلَى الْإِفَادَةِ. وَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّوْجَاتِ مُشَارِكًا لِلْقَسْمِ فِي الْوُجُوبِ قَالَ: (وَعَلَيْهِ) أَيْ الزَّوْجِ الْبَالِغِ الْمُوسِرِ وَلَوْ عَبْدًا (النَّفَقَةُ) وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَا بِهِ قِوَامُ مُعْتَادِ حَالِ الْآدَمِيِّ دُونَ سَرَفٍ. قَالَ خَلِيلٌ: يَجِبُ لِمُمَكَّنَةِ مُطِيقَةِ الْوَطْءِ عَلَى الْبَالِغِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُشْرِفًا قُوتٌ وَإِدَامٌ وَكِسْوَةٌ (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا (السُّكْنَى) وَيَكُونُ كُلٌّ مِنْ النَّفَقَةِ وَالسُّكْنَى (بِقَدْرِ وُجْدِهِ) أَيْ وُسْعِهِ أَيْ الزَّوْجِ وَحَالِ الْمَرْأَةِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَمَسْكَنٌ بِالْعَادَةِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَحَالِهَا وَالسِّعْرِ وَإِنْ أَكُولَةً، وَتُزَادُ الْمُرْضِعُ مَا تَتَقَوَّى بِهِ إلَّا الْمَرِيضَةُ وَقَلِيلَةُ الْأَكْلِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا مَا تَأْكُلُ، وَعَلَيْهِ الْمَاءُ لِشُرْبِهَا وَطَهَارَتِهَا، وَالزَّيْتُ وَالْحَطَبُ وَالْمِلْحُ وَاللَّحْمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ، وَالْحَصِيرُ وَالسَّرِيرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَأُجْرَةُ الْقَابِلَةِ وَالزِّينَةُ الَّتِي تَتَضَرَّرُ الْمَرْأَةُ بِتَرْكِهَا كَالْكُحْلِ وَالدُّهْنِ الْمُعْتَادَيْنِ، وَالْإِخْدَامُ إنْ كَانَ الزَّوْجُ مَلِيًّا وَهِيَ أَهْلٌ لِلْإِخْدَامِ أَوْ كَانَ مَلِيًّا، وَالْحَالُ أَنَّهُ مِنْ الَّذِينَ لَا يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُخْدِمَهَا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَهْلًا، وَلَا يَلْزَمُهُ لَهَا الدَّوَاءُ لِمَرَضِهَا وَلَا أُجْرَةُ نَحْوِ الْحِجَامَةِ وَلَا الْمُعَالَجَةُ فِي الْمَرَضِ وَلَا كِسْوَتُهَا الْحَرِيرَ وَلَا ثِيَابُ الْمَخْرَجِ، وَلَوْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى مَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا تَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ مُطْلَقًا عَلَى الزَّوْجِ الْبَالِغِ الْمُوسِرِ، سَوَاءٌ كَانَ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، سَوَاءٌ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، صَحِيحَةً أَوْ مَرِيضَةً، وَلَوْ ذَاتَ مَانِعٍ مِنْ الْوَطْءِ كَرَتَقٍ أَوْ جُذَامٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَسَيَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُهَا. الثَّانِي: الدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ قَوْله تَعَالَى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} [الطلاق: 7] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «ابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ، الزَّوْجَةُ تَقُولُ: إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ أَيْضًا عَلَى وُجُوبِهَا، فَهِيَ وَاجِبَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى الْمُوسِرِ، وَأَمَّا الْمُعْسِرُ فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْوَاجِبِ فَقِيلَ الْأَعْيَانُ لَا الْأَثْمَانُ، وَيَدُلُّ عَلَى الْأَوَّلِ قَوْلُ خَلِيلٍ: يَجِبُ لِلْمَرْأَةِ قُوتٌ وَإِدَامٌ وَهُوَ وَجِيهٌ فِي النَّظَرِ، إذْ قَدْ تَتَعَذَّرُ الْأَثْمَانُ عَلَى الزَّوْجِ وَذَلِكَ كَأَهْلِ الْبَوَادِي وَالْقُرَى، وَأَيْضًا الْقَصْدُ تَحْصِيلُ مَا بِهِ قِوَامُ الْآدَمِيِّ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْقَسْمَ إنَّمَا يَجِبُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ، بَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ بَيْنَ الزَّوْجَاتِ وَالسَّرَارِي الْمَوْطُوآتِ بِالْمِلْكِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا قَسْمَ) وَاجِبٌ عَلَى السَّيِّدِ (فِي الْمَبِيتِ لِأَمَتِهِ) الْقِنِّ (وَلَا لِأُمِّ وَلَدِهِ) لِأَنَّ الرَّقِيقَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي الْوَطْءِ، وَإِنَّمَا لِلْمَمْلُوكِ عَلَى السَّيِّدِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَلِسَيِّدِهِ عَلَيْهِ الْخِدْمَةُ الَّتِي يُطِيقُهَا كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَلَوْ تَضَرَّرَتْ الْجَارِيَةُ مِنْ تَرْكِ الْوَطْءِ وَاحْتَاجَتْ لِلزَّوَاجِ لَا يُجْبَرُ سَيِّدُهَا وَكَذَلِكَ الْعَبْدُ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» فَإِنَّمَا هُوَ فِيمَا يَجِبُ لِلشَّخْصِ وَمِنْ حَقِّهِ، وَالْوَطْءُ لَا حَقَّ فِيهِ لِلرَّقِيقِ عَلَى سَيِّدِهِ فَافْهَمْ، نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ خَلِيلٍ. ثُمَّ بَيَّنَ شَرْطَ وُجُوبِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا نَفَقَةَ لِلزَّوْجَةِ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا) وَلَوْ غَيْرَ مُطِيقَةٍ أَوْ بِهَا مَانِعٌ مِنْ رَتَقٍ وَنَحْوِهِ: (أَوْ يُدْعَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ لِيُدْعَى وَفَاعِلُ يَدْخُلَ (الزَّوْجُ) عَلَى طَرِيقِ التَّنَازُعِ وَصِلَةُ يُدْعَى (إلَى الدُّخُولِ وَهِيَ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا) وَالزَّوْجُ بَالِغٌ وَمُوسِرٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَهَا النَّفَقَةُ بِشَرْطِ بُلُوغِ الزَّوْجِ وَيُسْرِهِ، وَلَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُطِيقَةٍ لِلْوَطْءِ لِصِغَرِهَا أَوْ مَرَضِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَإِنَّمَا يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ إذَا دُعِيَتْ إلَى الدُّخُولِ مَعَ إطَاقَتِهَا وَبُلُوغِ الزَّوْجِ، لَا إنْ كَانَتْ غَيْرَ مُطِيقَةٍ لِصِغَرِهَا أَوْ مَرَضِهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا مَانِعٌ مِنْ رَتَقٍ وَنَحْوِهِ أَوْ اشْتَدَّ مَرَضُهَا بِحَيْثُ أَخَذَتْ فِي السِّيَاقِ وَالدَّعْوَى إلَى الدُّخُولِ إمَّا مِنْهَا أَوْ مِنْ وَلِيِّهَا الْمُجْبِرِ إذَا كَانَ زَوْجُهَا حَاضِرًا أَوْ فِي حُكْمِ الْحَاضِرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَيَكْفِي فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهَا أَنْ تَكُونَ بِحَيْثُ لَوْ طُلِبَتْ لِلدُّخُولِ لَمُكِّنَتْ، وَلَا يُشْتَرَطُ طَلَبُهَا بِالْفِعْلِ لِتَعَذُّرِهِ عَلَيْهَا فِي غَيْبَةِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا عَلَيْهِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهِ، وَلَوْ دَخَلَ بِهَا وَلَوْ كَانَتْ بِكْرًا وَافْتَضَّهَا لِأَنَّهَا الْمُسَلِّطَةُ لَهُ عَلَى نَفْسِهَا إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً أَوْ وَلِيُّهَا إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ وُجُوبُ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ نَفَقَةَ الْمَدْخُولِ بِهَا تَجِبُ بِشَرْطَيْنِ: بُلُوغُ الزَّوْجِ، وَيُسْرُهُ، وَغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِأَرْبَعِ شُرُوطٍ: بُلُوغُ الزَّوْجِ، وَإِطَاقَتُهَا، وَالدَّعْوَى لِلدُّخُولِ، وَيُسْرُ الزَّوْجِ، وَيُفْهَمُ مِنْ الْإِطَاقَةِ عَدَمُ الْمَانِعِ مِنْ الْوَطْءِ، وَالدَّعْوَى حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا كَمَا بَيَّنَّا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنَّفُ عَنْ الْوَاجِبِ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْوَاجِبَ لَهَا، وَبَيَّنَ خَلِيلٌ الْوَاجِبَ عَلَيْهَا لِلرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: وَعَلَيْهَا الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وَكَنْسٍ وَفَرْشٍ وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ مِنْ الدَّارِ أَوْ مِنْ الصَّحْرَاءِ إنْ كَانَتْ عَادَةُ بَلَدِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 يَعْقِدَاهُ وَلَا يَذْكُرَانِ صَدَاقًا ثُمَّ لَا يَدْخُلُ بِهَا حَتَّى يَفْرِضَ لَهَا فَإِنْ فَرَضَ لَهَا صَدَاقَ الْمِثْلِ لَزِمَهَا وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ فَإِنْ كَرِهَتْهُ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ يُرْضِيَهَا أَوْ يَفْرِضَ لَهَا صَدَاقَ مِثْلِهَا فَيَلْزَمُهَا. وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ انْفَسَخَ   [الفواكه الدواني] كَذَلِكَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأَشْرَافِ الَّذِينَ لَا يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ، وَإِلَّا لَزِمَهُ إخْدَامُهَا لِذَلِكَ إنْ كَانَ مَلِيًّا وَإِنْ لَمْ تَكُنْ أَهْلًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا يَلْزَمُهَا مَا كَانَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّكَسُّبَاتِ كَالْغَزْلِ وَالنَّسْجِ، وَأَمَّا غَسْلُ الثِّيَابِ وَخِيَاطَتِهَا فَيَنْبَغِي فِيهِ اتِّبَاعُ الْعُرْفِ، قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا. الثَّانِي: قَدْ يَعْرِضُ لِلنَّفَقَةِ مَا يُسْقِطُهَا عَنْ الزَّوْجِ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَيْهَا وَالدُّخُولِ بِالْمَرْأَةِ، وَذَلِكَ كَنُشُوزِ الْمَرْأَةِ بِأَنْ تَمْنَعَهُ الِاسْتِمْتَاعَ بِهَا وَلَوْ غَيْرَ الْوَطْءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ بِهَا، وَكَخُرُوجِهَا مِنْ مَحَلِّ زَوْجِهَا وَإِقَامَتِهَا فِي غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَرِضَاهُ، وَلِغَيْرِ ظُلْمٍ لَحِقَهَا، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَلَا بِالْحَاكِمِ لَا إنْ خَرَجَتْ بِإِذْنِهِ أَوْ لِظُلْمٍ لَحِقَهَا، وَلَوْ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا أَوْ خَرَجَتْ بِاخْتِيَارِهَا وَكَانَ يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهَا وَلَوْ بِالْحَاكِمِ فَتَجِبُ وَلَا تَسْقُطُ فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ لِمَنْ فِي الْعِصْمَةِ، وَأَمَّا الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا فَلَهَا النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجِهَا وَلَوْ خَرَجَتْ بِاخْتِيَارِهَا وَعَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، وَمِمَّا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا أَيْضًا أَكْلُهَا مَعَهُ وَلَوْ كَانَتْ مُقَرِّرَةً بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَوْ كَانَتْ سَفِيهَةً، وَالْكِسْوَةُ كَالنَّفَقَةِ إلَّا إذَا كَانَتْ غَيْرَ رَشِيدَةٍ وَكَانَتْ مُقَرِّرَةً فَلَا يَبْرَأُ مِنْهَا الزَّوْجُ بِكِسْوَتِهَا مَعَهُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَطْلُقَ عَلَى زَوْجِهَا إنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَتِهَا إنْ كَانَ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا غَيْرَ عَالِمَةٍ بِفَقْرِهِ، لَا إنْ تَزَوَّجَتْهُ عَالِمَةً بِفَقْرِهِ، أَوْ أَنَّهُ مِنْ السُّؤَالِ إلَّا بِتَرْكِهِ، أَوْ يَكُونُ مَشْهُورًا بِالْعَطَاءِ وَيَنْقَطِعُ عَنْهُ، وَإِنْ طَلُقَتْ عَلَيْهِ يَكُونُ طَلَاقُهَا رَجْعِيًّا وَلَوْ أَوْقَعَهُ الْحَاكِمُ، وَلَا تَصِحُّ رَجْعَتُهُ لَهَا إلَّا إذَا وَجَدَ يَسَارًا يَظُنُّ مَعَهُ دَوَامَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْإِنْفَاقِ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى نِكَاحِ التَّسْمِيَةِ شَرَعَ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ بِقَوْلِهِ: (وَنِكَاحُ التَّفْوِيضِ جَائِزٌ) الْإِقْدَامُ عَلَيْهِ وَلَوْ مِنْ الْقَادِرِ عَلَى الْمَالِ فِي الْحَالِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ أَنْ يَعْقِدَاهُ وَ) الْحَالُ أَنَّهُمَا (لَا يَذْكُرَانِ صَدَاقًا) وَأَوْضَحُ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: نِكَاحُ التَّفْوِيضِ مَا عُقِدَ دُونَ تَسْمِيَةِ مَهْرٍ وَلَا إسْقَاطِهِ وَلَا صَرْفِهِ لِحُكْمِ أَحَدٍ، وَأَمَّا لَوْ عَقَدَا عَلَى إسْقَاطِهِ لَكَانَ فَاسِدًا يُفْسَخُ قَبْلَ الدُّخُولِ وَيَثْبُتُ بَعْدَهُ بِصَدَاقِ الْمِثْلِ، وَمَا عُقِدَ عَلَى صَرْفِ قَدْرِهِ لِحُكْمِ شَخْصٍ فَإِنَّهُ يُسَمَّى نِكَاحَ التَّحْكِيمِ وَهُوَ جَائِزٌ أَيْضًا كَنِكَاحِ التَّفْوِيضِ، وَلَوْ كَانَ الْمُحَكَّمُ فِي صَرْفِ قَدْرِهِ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ قَوْله تَعَالَى: {لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} [البقرة: 236] فَإِنْ طَلَّقَ فِيهِ قَبْلَ الدُّخُولِ لَا صَدَاقَ لَهَا، وَبَعْضُهُمْ قَاسَهُ عَلَى هِبَةِ الثَّوَابِ حَيْثُ تَجُوزُ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةِ قَدْرِ الثَّوَابِ مَعَ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْجَوَابُ عَنْ مُعَارَضَةِ جَوَازِ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ مَعَ كَوْنِ الصَّدَاقِ رُكْنًا مِنْ أَرْكَانِ النِّكَاحِ، وَالشَّيْءُ لَا يُوجَدُ بِدُونِ رُكْنِهِ، وَهُوَ أَنَّ الرُّكْنِيَّةَ أَنْ لَا يَدْخُلَا عَلَى إسْقَاطِهِ فَيَصْدُقُ بِأَنْ يُسَمِّيَاهُ وَقْتَ الْعَقْدِ أَوْ يَذْكُرَا التَّفْوِيضَ أَوْ يَسْكُتَانِ بِالْمَرَّةِ، وَالْمُضِرُّ اشْتِرَاطُ إسْقَاطِهِ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا التَّفْوِيضُ فَهُوَ فِي حُكْمِ التَّسْمِيَةِ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا يَدْخُلُ بِهَا) الزَّوْجُ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (حَتَّى يَفْرِضَ لَهَا) صَدَاقًا لِأَنَّهُ يُكْرَهُ تَمْكِينُهَا مِنْ نَفْسِهَا قَبْلَ قَبْضِ شَيْءٍ مِنْ الصَّدَاقِ وَلَوْ رُبُعَ دِينَارٍ، ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ جَوَازِ الْفَرْضِ إذَا كَانَ الزَّوْجُ صَحِيحًا، وَأَمَّا لَوْ طَرَأَ لَهُ الْمَرَضُ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهُوَ صَحِيحٌ فَفِي جَوَازِ فَرْضِهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجَةِ وَارِثَةً فَلَا يَجُوزُ الْفَرْضُ لَهَا قَوْلًا وَاحِدًا، وَكَوْنِهَا غَيْرَ وَارِثَةٍ فَقَوْلَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ فَرَضَ فِي مَرَضِهِ فَوَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ وَارِثَةٍ كَالذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ فَقَوْلَانِ: قِيلَ: يَصِحُّ وَيَكُونُ الْمَفْرُوضُ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ، وَقِيلَ: يَبْطُلُ فَرْضُهُ لِأَنَّهُ لِأَجْلِ الْوَطْءِ وَلَمْ يَحْصُلْ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ تَفْوِيضًا إنَّمَا تَسْتَحِقُّ الصَّدَاقَ بِالْوَطْءِ لَا بِالْمَوْتِ وَلَا بِالطَّلَاقِ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُهَا مِنْ الْمَفْرُوضِ وَمَا لَا يَلْزَمُهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ فَرَضَ) الزَّوْجُ (لَهَا) أَيْ لِلْمَنْكُوحَةِ تَفْوِيضًا فِي حَالِ صِحَّتِهِ (صَدَاقَ مِثْلِهَا لَزِمَهَا) الرِّضَا بِهِ لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَةِ الْوَاهِبِ لِلثَّوَابِ، وَهُوَ إنَّمَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الثَّوَابِ إنْ كَانَ قَدْرَ الْقِيمَةِ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ أَنْ يَفْرِضَ الْمِثْلَ بَلْ لَا يَلْزَمُهُ أَصْلُ الْفَرْضِ (وَإِنْ كَانَ) مَا فَرَضَهُ (أَقَلَّ) مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا وَلَوْ أَكْثَرَ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ (فَهِيَ مُخَيَّرَةٌ) بَيْنَ الرِّضَا بِهِ إنْ كَانَتْ رَشِيدَةً وَعَدَمِ الرِّضَا بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الرَّشِيدَةِ فَلَا يَجُوزُ لَهَا الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَالرِّضَا بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِلْمُرَشِّدَةِ وَلِلْأَبِ فِي مُجْبَرَتِهِ (فَإِنْ كَرِهَتْ) الرَّشِيدَةُ الْأَقَلَّ أَوْ كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ تَفْوِيضًا غَيْرَ رَشِيدَةٍ وَامْتَنَعَ الزَّوْجُ مِنْ فَرْضِ الْمِثْلِ لَهُمَا (فُرِّقَ بَيْنَهُمَا) إنْ شَاءَتْ الرَّشِيدَةُ وَوَلِيُّ غَيْرِهَا (إلَّا أَنْ يُرْضِيَهَا) أَيْ الرَّشِيدَةَ أَوْ وَلِيَّ غَيْرِهَا (أَوْ) إلَّا أَنْ يَرْضَى الزَّوْجُ بِأَنْ (يَفْرِضَ لَهَا صَدَاقَ مِثْلِهَا) قَبْلَ فِرَاقِهَا (فَيَلْزَمُهَا) وَلَا خِيَارَ لَهَا وَمِثْلُهَا وَلِيُّ غَيْرِ الرَّشِيدَةِ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ بِهَذَا بَعْدَ قَوْلِهِ: فَإِنْ فَرَضَ صَدَاقَ الْمِثْلِ لَزِمَهَا لِحَمْلِ مَا سَبَقَ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 النِّكَاحُ بِطَلَاقٍ وَقَدْ قِيلَ بِغَيْرِ طَلَاقٍ. . وَإِذَا أَسْلَمَ الْكَافِرَانِ ثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا وَإِنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَذَلِكَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ   [الفواكه الدواني] فَرْضِهِ لَهَا ابْتِدَاءً، وَهَذَا فِي حُكْمِ الْفَرْضِ بَعْدَ الِامْتِنَاعِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي اعْتِبَارِ صَدَاقِ الْمِثْلِ فَقِيلَ يَوْمَ الْعَقْدِ، وَقِيلَ يَوْمَ الْحُكْمِ إنْ لَمْ يَبْنِ، وَيَوْمَ الدُّخُولِ إنْ بَنَى. (تَنْبِيهٌ) قَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا جَوَازُ نِكَاحِ التَّحْكِيمِ وَالتَّفْوِيضِ، وَذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَحْكَامَ الْفَرْضِ فِي التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا فِي التَّحْكِيمِ فَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ فِيهِ: إنْ كَانَ الْمُحَكَّمُ الزَّوْجَ وَفَرَضَ صَدَاقَ الْمِثْلِ لَزِمَهَا الْقَبُولُ، وَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ لَا يَلْزَمُهُ فَرْضُهُ، وَاخْتُلِفَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمُحَكَّمَةُ أَوْ أَجْنَبِيٌّ فَقِيلَ كَذَلِكَ، وَقِيلَ إنْ فَرَضَ الْمِثْلَ لَزِمَهُمَا وَأَقَلَّ لَزِمَهُ وَأَكْثَرَ فَالْعَكْسُ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الزَّوْجِ وَالْمُحَكَّمِ وَهُوَ الْأَظْهَرُ، وَقِيلَ: إنَّ التَّحَكُّمَ عَكْسُ التَّفْوِيضِ، وَلَمَّا اشْتَهَرَ أَنَّ النِّكَاحَ الصَّحِيحَ اللَّازِمَ لَا يُزِيلُ الْعِصْمَةَ فِيهِ إلَّا الطَّلَاقُ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ انْحِلَالِهِ بِالرِّدَّةِ قَالَ: (وَإِذَا ارْتَدَّ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ) الْمُسْلِمَيْنِ أَيْ قَطَعَ إسْلَامَهُ لِأَنَّ الرِّدَّةَ هِيَ قَطْعُ الْإِسْلَامِ بِكَلِمَةٍ مُكَفِّرَةٍ أَوْ بِإِلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَاذُورَاتٍ وَأَوْلَى رِدَّتُهُمَا مَعًا (انْفَسَخَ النِّكَاحُ) اللَّازِمُ بَيْنَهُمَا (بِطَلَاقٍ) بِأَنْ وَلَوْ ارْتَدَّ الزَّوْجُ الْمُسْلِمُ لِدِينِ زَوْجَتِهِ النَّصْرَانِيَّةِ أَوْ الْيَهُودِيَّةِ، وَالْمُرَادُ أَنَّ الِارْتِدَادَ نَفْسَهُ يُعَدُّ طَلَاقًا بَائِنًا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَسَخَ لِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بِلَا طَلَاقٍ لَا رِدَّتِهِ فَبَائِنَةٌ وَلَوْ لِدِينِ زَوْجَتِهِ، وَقِيلَ يُعَدُّ الِارْتِدَادُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا، وَثَمَرَةُ الْقَوْلَيْنِ تَظْهَرُ فِي عَوْدِهَا عَلَى الْأَوَّلِ بِعَقْدٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكْفِي الرَّجْعَةُ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ عَلَى الْمَشْهُورِ بَيْنَ الرِّدَّةِ يُقَدَّرُ فَسْخُهَا طَلَاقًا، وَإِسْلَامُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ لَا يُقَدَّرُ فَسْخُهُ طَلَاقًا؟ فَيُجَابُ: بِأَنَّ الرِّدَّةَ طَرَأَتْ عَلَى نِكَاحٍ صَحِيحٍ بِخِلَافِ إسْلَامِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ، وَأَيْضًا الْمُسْلِمُ يَصِحُّ طَلَاقُهُ بِخِلَافِ الْكَافِرِ. (وَقَدْ قِيلَ) إنَّ الِارْتِدَادَ فَسْخٌ (بِغَيْرِ طَلَاقٍ) أَيْ لَا يُعَدُّ طَلَاقًا، وَعَلَيْهِ لَوْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ لِلْإِسْلَامِ وَعَقْدُ الزَّوْجِ يَكُونُ لَهُ فِيهَا ثَلَاثُ طَلْقَاتٍ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ السَّابِقَيْنِ يَبْقَى لَهُ فِيهَا طَلْقَتَانِ، فَنُلَخِّصُ أَنَّ الْأَقْوَالَ ثَلَاثَةٌ أَرْجَحُهَا أَوَّلُهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُقُوعُ الْفَسْخِ بِمُجَرَّدِ الِارْتِدَادِ وَلَوْ قَصَدَ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا بِرِدَّتِهِ فَسْخَ النِّكَاحِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَقْصِدْ الْمُرْتَدُّ بِرِدَّتِهِ فَسْخَ النِّكَاحِ وَإِلَّا عُومِلَ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ وَلَا يُفْسَخُ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَلَيْهِ لَوْ أَسْلَمَ الْمُرْتَدُّ الزَّوْجِيَّةُ بَاقِيَةٌ وَلَا يَحْتَاجُ الزَّوْجُ إلَى عَقْدٍ وَلَا رَجْعَةٍ لِبَقَاءِ الْعِصْمَةِ كَامِلَةً، وَنَظِيرُهُ لَوْ قَصَدَ الْمُرْتَدُّ بِرِدَّتِهِ حِرْمَانَ وَارِثِهِ أَنَّهُ يَرِثُهُ، وَيُعَامَلُ الْمُرْتَدُّ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ فِي الْإِرْثِ، وَإِنْ كَانَ الْمُرْتَدُّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا وَحَرَّرَهُ، وَنَظِيرُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا: لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: إنْ فَعَلْت كَذَا فَأَنْتِ طَالِقٌ فَفَعَلَتْهُ قَاصِدَةً تَحْنِيثَهُ فَإِنَّهُ لَا يَحْنَثُ مُعَامَلَةً لَهَا بِنَقِيضِ قَصْدِهَا، وَاخْتَارَ هَذَا أَشْهَبُ، وَخَالَفَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَالَ بِالْحِنْثِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ لِأَنَّهُ قَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ، وَلَمْ تَزَلْ أَشْيَاخُنَا وَأَشْيَاخُهُمْ تُرَجِّحُهُ وَتُضَعِّفُ كَلَامَ أَشْهَبَ الْمُوَافِقَ لِكَلَامِ مَالِكٍ فِي عَدَمِ فَسْخِ نِكَاحِ الْمَرْأَةِ الْقَاصِدَةِ بِرِدَّتِهَا فَسْخَ نِكَاحِهَا، وَفَرَّقَ الشُّيُوخُ بَيْنَ مَسْأَلَةِ الرِّدَّةِ وَمَسْأَلَةِ الطَّلَاقِ، بِأَنَّ مَسْأَلَةَ تَعْلِيقِ الطَّلَاقِ عَلَى فِعْلِ الزَّوْجَةِ أَمْرٌ وَقَعَ مِنْ الزَّوْجِ بِاخْتِيَارِهِ فَلِذَلِكَ قُلْنَا: يَحْنَثُ بِفِعْلِهَا وَلَوْ قَصَدَتْ تَحْنِيثَهُ لِأَنَّهُ الْمُعَلِّقُ لِلطَّلَاقِ فَكَأَنَّهُ الْمَوْقِعُ لَهُ، لِأَنَّهُ حِينَ التَّعْلِيقِ مُجَوِّزٌ فِعْلَهَا لِلْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ رِدَّتِهَا وَقَعَتْ مِنْهَا بِاخْتِيَارِهَا قَاصِدَةً طَلَاقَهَا وَالْعِصْمَةُ لَيْسَتْ بِيَدِهَا فَلَمْ يَقَعْ عَلَى الرَّجُلِ، وَلَوْ وَقَعَ لَتَوَاطَأَتْ النِّسَاءُ عَلَى فِرَاقِ الْأَزْوَاجِ قَهْرًا عَلَيْهِمْ، فَافْهَمْ هَذَا الْفَرْقَ بِإِيضَاحٍ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَيْنُونَةُ الزَّوْجَةِ بِالرِّدَّةِ وَلَوْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ بَالِغٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَقَدْ قَيَّدَ ذَلِكَ الْأَقْفَهْسِيُّ بِمَا إذَا كَانَ الزَّوْجَانِ بَالِغَيْنِ أَوْ الْمُرْتَدُّ مِنْهُمَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَا غَيْرَ بَالِغَيْنِ أَوْ الْمُرْتَدُّ فَقَوْلَانِ لِسَحْنُونٍ لَا تُعْتَبَرُ رِدَّتُهُمَا فَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُعْتَبَرُ رِدَّتُهُمَا وَيُحَالُ بَيْنَهُمَا، وَالِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَعَدَمِ تَوْبَتِهِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ هَلْ لِلْمَرْأَةِ شَيْءٌ إذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ قَبْلَ الدُّخُولِ أَمْ لَا؟ وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ تَفْصِيلٍ مُحَصَّلُهُ: إذَا كَانَتْ الرِّدَّةُ مِنْ الزَّوْجِ غَرِمَ لَهَا النِّصْفَ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ الزَّوْجَةِ فَلَا شَيْءَ لَهَا لِأَنَّ الْفِرَاقَ مِنْ قِبَلِهَا. الرَّابِعُ: إنْ ادَّعَى رَجُلٌ رِدَّةَ زَوْجَتِهِ وَخَالَفَتْهُ بَانَتْ مِنْهُ لِإِقْرَارِهِ بِرِدَّتِهَا، وَلَوْ شَكَّ هَلْ تَزَوَّجَهَا فِي حَالِ رِدَّتِهَا أَوْ بَعْدَ إسْلَامِهَا، فَإِنْ كَانَ الشَّكُّ مِنْ كُلٍّ فُرِّقَ بَيْنَهُمَا، وَإِنْ ادَّعَى أَحَدُهُمَا وُقُوعَ الْعَقْدِ بَعْدَ الرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ وَالْآخَرُ قَبْلَهُ، الْقَوْلُ قَوْلُ مَنْ ادَّعَى أَنَّهُ وَقَعَ بَعْدَ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ، وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ هُوَ الَّذِي ادَّعَى وُقُوعَ الْعَقْدِ حَالَ الرِّدَّةِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَيَغْرَمُ لَهَا النِّصْفَ. الْخَامِسُ: لَوْ طَلَبَتْ الْمَرْأَةُ مُفَارَقَةَ زَوْجِهَا فَامْتَنَعَ فَأَفْتَاهَا رَجُلٌ عَالِمٌ تَرْتَدُّ فَارْتَدَّتْ لِتَبِينَ مِنْهُ فَإِنَّهَا لَا تَبِينُ مِنْهُ وَلَكِنْ تُسْتَتَابُ؟ فَإِنْ رَجَعَتْ إلَى الْإِسْلَامِ لَمْ يَحْتَجْ زَوْجُهَا إلَى عَقْدٍ لِعَدَمِ فَسْخِ نِكَاحِهَا، وَيَرْتَدُّ الْمُفْتِي لِرِضَاهُ بِالْكُفْرِ وَيُسْتَتَابُ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ [إسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ ارْتِدَادِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ شَرَعَ فِي حُكْمِ إسْلَامِ الزَّوْجَيْنِ الْكَافِرَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ كَانَ أَحَقَّ بِهَا إنْ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ وَكَانَتْ كِتَابِيَّةً ثَبَتَ عَلَيْهَا فَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً فَأَسْلَمَتْ بَعْدَهُ مَكَانَهَا كَانَا زَوْجَيْنِ وَإِنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ. وَإِذَا أَسْلَمَ مُشْرِكٌ وَعِنْدَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ فَلْيَخْتَرْ أَرْبَعًا وَيُفَارِقْ بَاقِيَهُنَّ. وَمَنْ لَاعَنَ زَوْجَتَهُ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا وَكَذَلِكَ الَّذِي يَتَزَوَّجُ الْمَرْأَةَ فِي عِدَّتِهَا وَيَطَؤُهَا فِي عِدَّتِهَا. . وَلَا نِكَاحَ لِعَبْدٍ وَلَا   [الفواكه الدواني] أَسْلَمَ) الزَّوْجَانِ (الْكَافِرَانِ) فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بِحَضْرَتِنَا أَوْ جَاءَا إلَيْنَا مُسْلِمَيْنِ، وَلَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ الْآخَرِ حَيْثُ كَانَ إسْلَامُهُمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ (ثَبَتَا عَلَى نِكَاحِهِمَا) لِأَنَّ الْإِسْلَامَ يُصَحِّحُ أَنْكِحَتَهُمْ الْفَاسِدَةَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ إسْلَامِهِمَا الْوَاقِعِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِمَا كِتَابِيَّيْنِ أَوْ مَجُوسِيَّيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ حَيْثُ اتَّحَدَ وَقْتُ إسْلَامِهِمَا، وَشَرْطُ ثُبُوتِ نِكَاحِهِمَا بِإِسْلَامِهِمَا أَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مَا يُوجِبُ الْفُرْقَةَ فِي الْإِسْلَامِ، فَلَا يُقَرَّانِ إنْ كَانَا أَخَوَيْنِ أَوْ كَانَتْ أَمَةً أَوْ مَحْرَمًا مِنْ مَحَارِمِهِ. (وَ) أَمَّا (إنْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا) عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَام بِأَنْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ مَحَارِمِهِ مَثَلًا (فَذَلِكَ) أَيْ الْفَسْخُ (فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَ لِإِسْلَامِ أَحَدِهِمَا بِلَا طَلَاقٍ قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ حَيْثُ وَجَبَ الْفَسْخُ لِإِسْلَامِهِمَا أَوْ إسْلَامِ أَحَدِهِمَا لِأَجْلِ مَانِعٍ مِنْ الْمَوَانِعِ كَكَوْنِهَا غَيْرَ كِتَابِيَّةٍ أَوْ مَحْرَمًا فَهُوَ فَسْخٌ بِغَيْرِ طَلَاقٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبِقَوْلِنَا عَلَى وَجْهٍ لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ سَقَطَ مَا أَوْرَدَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ قَوْلِهِ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْفَسْخُ بِمُجَرَّدِ الْإِسْلَامِ، وَهُوَ مُنَافٍ لِقَوْلِهِ بَعْدُ: إنْ تَقَدَّمَ إسْلَامُ الْمَرْأَةِ وَأَسْلَمَ الزَّوْجُ فِي زَمَنِ اسْتِبْرَائِهَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا، وَإِنْ أَسْلَمَ قَبْلَهَا يُقَرُّ عَلَيْهَا إنْ كَانَتْ كِتَابِيَّةً، وَلَوْ امْتَنَعَتْ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً وَأَسْلَمَتْ بِالْقُرْبِ مِنْ إسْلَامِهِ، وَوَجْهُ الِانْدِفَاعِ أَنَّ مَا قَالَ فِيهِ يُفْسَخُ سَرِيعًا مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا أَسْلَمَا عَلَى حَالٍ لَا يُقَرَّانِ عَلَيْهِ بِوَجْهٍ فِي الْإِسْلَامِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا عَلَى وَجْهٍ بِحَيْثُ يَجُوزُ إقْرَارُهُمَا عَلَيْهِ فِي الْإِسْلَامِ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ أَسْلَمَتْ هِيَ) دُونَهُ وَكَانَ إسْلَامُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ (كَانَ أَحَقَّ بِهَا إنْ أَسْلَمَ فِي الْعِدَّةِ) اتِّفَاقًا وَإِنْ أَسْلَمَ بَعْدَهَا لَا يُقَرُّ عَلَيْهَا، لِأَنَّ إسْلَامَهُ كَالرَّجْعَةِ وَلَا رَجْعَةَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ أَسْلَمَتْ ثُمَّ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا، وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْإِسْلَامَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إلَّا بِبَيِّنَةٍ، فَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ وَيَتَلَذَّذْ بِهَا مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ بِإِسْلَامِ زَوْجِهَا فِي عِدَّتِهَا وَإِلَّا تَفُوتَ كَذَاتِ الْوَلِيَّيْنِ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِي الْعِدَّةِ أَنَّهَا مَدْخُولٌ بِهَا كَمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا لَمْ يُقِرَّ عَلَيْهَا لِبَيْنُونَتِهَا بِمُجَرَّدِ إسْلَامِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَبْلَ الْبِنَاءِ بَانَتْ مَكَانَهَا. (وَإِنْ أَسْلَمَ هُوَ) أَيْ الزَّوْجُ دُونَهَا (وَكَانَتْ) حُرَّةً (كِتَابِيَّةً ثَبَتَ عَلَيْهَا) قَالَ خَلِيلٌ: قُرِّرَ عَلَيْهَا إنْ أَسْلَمَ وَالضَّمِيرُ لِلْحُرَّةِ الْكِتَابِيَّةِ. (فَإِنْ كَانَتْ مَجُوسِيَّةً) وَأَسْلَمَ قَبْلَهَا (فَأَسْلَمَتْ بَعْدَهُ مَكَانَهَا) أَيْ بِقُرْبِ إسْلَامِهِ بِأَنْ لَمْ يَتَأَخَّرْ إسْلَامُهَا فَوْقَ الشَّهْرِ. (كَانَا زَوْجَيْنِ) أَيْ اسْتِمْرَارٌ عَلَى الزَّوْجِيَّةِ، وَلَوْ كَانَتْ الْمَجُوسِيَّةُ الَّتِي أَسْلَمَتْ أَمَةً؛ لِأَنَّهَا تَصِيرُ أَمَةً مُسْلِمَةً تَحْتَ مُسْلِمٍ، وَلَوْ لَمْ تُوجَدْ بَقِيَّةُ شُرُوطِ تَزَوُّجِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الْأَمَةَ عَلَى الرَّاجِحِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّوَامَ لَيْسَ كَالِابْتِدَاءِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِثْلَ إسْلَامِ الْمَجُوسِيَّةِ تَهَوُّدُهَا أَوْ تَنَصُّرُهَا وَمَفْهُومُ مَكَانِهَا (إنْ تَأَخَّرَ ذَلِكَ) أَيْ إسْلَامُهَا عَنْ إسْلَامِهِ فَوْقَ الشَّهْرِ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنْ ذَلِكَ (فَقَدْ بَانَتْ مِنْهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الْأَمَةِ وَالْمَجُوسِيَّةِ إنْ عَتَقَتْ وَأَسْلَمَتْ وَلَمْ يَبْعُدْ كَالشَّهْرِ، وَهَلْ إنْ غَفَلَ أَوْ مُطْلَقًا تَأْوِيلَانِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْكَافِرَيْنِ إنْ أَسْلَمَا فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ يُقَرَّانِ عَلَى نِكَاحِهِمَا وَلَوْ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ كَانَا مَجُوسَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ فَإِنَّهُ يُقَرُّ عَلَى الْكِتَابِيَّةِ مُطْلَقًا، وَعَلَى الْمَجُوسِيَّةِ حُرَّةً أَوْ أَمَةً إنْ أَسْلَمَتْ وَلَوْ لَمْ تُعْتَقْ الْأَمَةُ، وَمِثْلُ إسْلَامِ الْأَمَةِ الْمَجُوسِيَّةِ عِتْقُ الْأَمَةِ الْكِتَابِيَّةِ، وَأَمَّا لَوْ أَسْلَمَتْ الزَّوْجَةُ ابْتِدَاءً فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ بَانَتْ مَكَانَهَا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبِنَاءِ أُقِرَّ عَلَيْهَا إنْ أَسْلَمَ فِي عِدَّتِهَا لَا إنْ تَأَخَّرَ إسْلَامُهُ عَنْ عِدَّتِهَا فَلَا يُقَرَّ عَلَيْهَا لِبَيْنُونَتِهَا بِانْقِضَاءِ عِدَّتِهَا ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الْكَافِرِ يُسْلِمُ وَتَحْتَهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ مِنْ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَسْلَمَ مُشْرِكٌ) الْمُرَادُ كَافِرٌ (وَ) الْحَالُ أَنَّ (عِنْدَهُ) الْمُرَادَ فِي عِصْمَتِهِ (أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعٍ) مِنْ الزَّوْجَاتِ (فَلْيَخْتَرْ) إنْ شَاءَ بِنَفْسِهِ إنْ كَانَ بَالِغًا أَوْ وَلِيِّهِ إنْ كَانَ صَبِيًّا (أَرْبَعًا وَيُفَارِقُ بَاقِيَهُنَّ) وَلَوْ كَانَ عَقَدَ عَلَيْهِنَّ فِي مَرَّةٍ أَوْ كَانَ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَوْ أَحْرَمَ أَوْ مَرِضَ بَعْدَ إسْلَامِهِ وَقَبْلَ اخْتِيَارِهِ، وَلَوْ كَانَتْ تِلْكَ النِّسَاءُ إمَاءً حَيْثُ أَسْلَمْنَ مَعَهُ، وَلَوْ فُقِدَتْ شُرُوطُ تَزَوُّجِ الْأَمَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَدَّمْنَا أَوْ كُنَّ كِتَابِيَّاتٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاخْتَارَ الْمُسْلِمُ أَرْبَعًا وَإِنْ أَوَاخِرَ وَإِحْدَى أُخْتَيْنِ مُطْلَقًا، وَإِحْدَى أُمٍّ وَابْنَتِهَا لَمْ يَمَسَّهُمَا وَإِنْ مَسَّهُمَا حَرُمَتَا وَإِحْدَاهُمَا تَعَيَّنَتْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ اخْتِيَارِ مَنْ أَسْلَمَ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ أَنْ يُسْلِمْنَ مَعَهُ أَوْ بَعْدَهُ بِالْقُرْبِ أَوْ يَكُنَّ كِتَابِيَّاتٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَيَكُونُ اخْتِيَارُهُ إمَّا بِصَرِيحِ اللَّفْظِ أَوْ بِالطَّلَاقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاخْتَارَ بِطَلَاقٍ أَوْ ظِهَارٍ أَوْ إيلَاءٍ أَوْ وَطْءٍ أَوْ لِعَانٍ مِنْ الرَّجُلِ فَقَطْ لِأَنَّهُ مِنْهُمَا فَسْخٌ وَلَهُ الِاخْتِيَارُ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِ الْمُخْتَارَةِ، وَفَائِدَتُهُ إرْثُهَا إنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً. الثَّانِي: لَا شَيْءَ لِمَنْ لَمْ يَخْتَرْهَا إنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا، قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا شَيْءَ لِغَيْرِهِنَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهِ وَهَذَا مَعَ اخْتِيَارِ بَعْضِهِنَّ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَخْتَرْ أَحَدًا فَلَيْسَ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ لِأَرْبَعٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 لِأَمَةٍ إلَّا أَنْ يَأْذَنَ السَّيِّدُ. وَلَا تَعْقِدُ امْرَأَةٌ وَلَا عَبْدٌ وَلَا مَنْ عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ نِكَاحَ امْرَأَةٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ   [الفواكه الدواني] مِنْهُنَّ غَيْرِ مُعَيَّنَاتٍ صَدَاقَانِ صَحِيحَانِ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ نِصْفُ صَدَاقِهَا وَهُنَّ غَيْرُ مُعَيَّنَاتٍ، فَيُقْسَمُ الصَّدَاقَانِ عَلَى عَشَرَةٍ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ خُمُسُ صَدَاقِهَا، لِأَنَّ نِسْبَةَ الِاثْنَيْنِ لِلْعَشَرَةِ خَمْسٌ، وَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يَخْتَرْ لَزِمَهُ أَرْبَعَةُ أَصْدِقَةٍ، أَوْ لَيْسَ فِي عِصْمَتِهِ سِوَى أَرْبَعٍ وَلَكِنْ غَيْرِ مُعَيَّنَاتٍ فَتَقْسِمُ الْعَشْرُ عَلَى الْأَرْبَعِ يَخُصُّ كُلَّ وَاحِدَةٍ خُمُسَا صَدَاقِهَا، وَهَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ لِمَنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَلَوْ دَخَلَ بِغَيْرِهَا، وَالْمَدْخُولُ بِهَا يَكُونُ لَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا وَلَوْ دَخَلَ بِثَالِثَةٍ وَرَابِعَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ أَرْبَعُ صَدَاقَاتٍ إنْ مَاتَ وَلَمْ يَخْتَرْ. الثَّالِثُ: لَوْ أَسْلَمَ عَلَى عَشْرِ كِتَابِيَّاتٍ وَأَسْلَمَ مِنْهُنَّ سِتٌّ وَتَخَلَّفَ أَرْبَعٌ فَلَا إرْثَ لِلْمُسْلِمَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا إرْثَ إنْ تَخَلَّفَ أَرْبَعُ كِتَابِيَّاتٍ عَنْ الْإِسْلَامِ لِجَوَازِ اخْتِيَارِهِنَّ أَنْ لَوْ كَانَ حَيًّا دُونَ الْمُسْلِمَاتِ، وَأَمَّا لَوْ تَخَلَّفَ أَقَلُّ مِنْ أَرْبَعٍ فَالْإِرْثُ وَهُوَ الرَّابِعُ حَيْثُ لَا فَرْعَ، وَالثُّمُنُ مَعَ وُجُودِهِ يُقْسَمُ عَلَى الْمُسْلِمَاتِ، فَإِنْ كَانَ الْمُتَخَلِّفُ عَنْ الْإِسْلَامِ وَاحِدَةً قُسِمَ عَلَى تِسْعٍ، وَلَهُنَّ ثَلَاثَةُ أَصْدِقَةٍ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةُ أَتْسَاعِ صَدَاقِهَا، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ تَأْيِيدَ التَّحْرِيمِ يَحْصُلُ بِالْقَرَابَةِ وَبِالصِّهَارَةِ وَبِالرَّضَاعِ. ذَكَرَ هُنَا أَنَّهُ يَحْصُلُ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَاللِّعَانِ وَكَالنِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ لَاعَنَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ (زَوْجَتَهُ) الْمُسْلِمَةَ وَلَاعَنَتْهُ (لَمْ تَحِلَّ لَهُ أَبَدًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَبِلِعَانِهَا تَأْبِيدُ حُرْمَتِهَا وَإِنْ مُلِكَتْ أَوْ انْفَشَّ حَمْلُهَا، وَأَمَّا مُجَرَّدُ لِعَانِهِ مِنْ غَيْرِ لِعَانِهَا فَلَمْ يَتَأَبَّدْ بِهِ تَحْرِيمٌ وَلَا يُفْسَخُ بِهِ النِّكَاحُ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُسْلِمِينَ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكُفْرِ فَلَا يَصِحُّ اللِّعَانُ مِنْهُمْ، إلَّا أَنْ يَتَرَافَعَ الزَّوْجَانِ إلَيْنَا رَاضِيَيْنِ بِحُكْمِنَا فَإِنَّا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّأْبِيدِ بِاللِّعَانِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا لَاعَنَ بَيْنَ هِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ وَامْرَأَتِهِ فَلَمَّا الْتَعَنَتْ فَرَقَّ بَيْنَهُمَا وَقَالَ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا» قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: نَصَّتْ السُّنَّةُ فِي الْمُتَلَاعِنَيْنِ أَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَهُمَا ثُمَّ لَا يَجْتَمِعَانِ أَبَدًا: وَسَيَأْتِي حَقِيقَةُ اللِّعَانِ وَصِفَتُهُ فِي بَابِهِ، لِأَنَّ ذِكْرَ حُكْمِهِ الْمُتَرَتِّبِ عَلَيْهِ هُنَا قَبْلَ مَحَلِّهِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِطْرَادِ، وَهُوَ ذِكْرُ الشَّيْءِ قَبْلَ مَحَلِّهِ لِمُنَاسَبَةٍ (كَذَلِكَ) أَيْ لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا (الَّذِي يَتَزَوَّجُ) أَيْ يَعْقِدُ عَلَى (الْمَرْأَةِ فِي) زَمَنِ (عِدَّتِهَا) مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا أَوْ مِنْ طَلَاقِ غَيْرِ الْمُتَزَوِّجِ لَهَا الْبَائِنِ (وَيَطَؤُهَا) بَعْدَ ذَلِكَ الزَّوَاجِ وَلَوْ بَعْدَ خُرُوجِهَا مِنْ الْعِدَّةِ، وَمِثْلُ الْوَطْءِ التَّلَذُّذُ بِهَا بِشَيْءٍ مِنْ الْمُقَدِّمَاتِ لَكِنْ (فِي عِدَّتِهَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأَبَّدَ تَحْرِيمُهَا بِوَطْءٍ وَإِنْ بِشُبْهَةٍ وَلَوْ بَعْدَهَا وَبِمُقَدِّمَتِهِ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَكَمَ بِذَلِكَ بِحَضْرَةِ جَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَكَانَ إجْمَاعًا سُكُوتِيًّا، وَقَيَّدْنَا الطَّلَاقَ بِالْبَائِنِ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ ذَاتُ زَوْجٍ وَإِنْ كَانَ تَزَوَّجَهَا لِغَيْرِ زَوْجِهَا حَرَامًا وَيُفْسَخُ لَكِنْ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهَا عَلَى مَنْ تَزَوَّجَهَا، وَقَيَّدْنَا الْعِدَّةَ بِكَوْنِهَا مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ مُتَزَوِّجَ الْبَائِنِ مِنْهُ بِدُونِ الثَّلَاثِ جَائِزٌ، وَالْمَبْتُوتَةُ وَإِنْ حَرُمَ نِكَاحُهُ لَهَا قَبْلَ زَوْجٍ وَإِنْ كَانَ يُفْسَخُ وَيَجِدُ لَا يَتَأَبَّدُ تَحْرِيمُهُ عَلَيْهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ قَبْلَ هَذَا الْمَحَلِّ. (تَنْبِيهٌ) مِثْلُ الْوَطْءِ بِالنِّكَاحِ الْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ أَوْ بِالْمِلْكِ أَوْ شُبْهَتِهِ، وَمِثْلُ الْمُعْتَدَّةِ الْمُسْتَبْرِئَةُ مِنْ زِنًى أَوْ غَصْبٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَتُوطَأُ بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَةٍ وَلَهَا الْمَهْرُ عَلَى وَاطِئِهَا وَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا لِلْإِجْمَاعِ عَلَى فَسَادِ الْعَقْدِ فِي الْعِدَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ صُوَرَ تَأْبِيدِ التَّحْرِيمِ سِتَّ عَشْرَةَ صُورَةً بَيَانُهَا أَنَّ الْمَحْبُوسَةَ إمَّا فِي عِدَّةِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ فِي اسْتِبْرَاءٍ مِنْ وَطْءٍ بِمِلْكٍ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ فِي اسْتِبْرَاءٍ مِنْ زِنًا أَوْ غَصْبٍ وَيَطَؤُهَا شَخْصٌ آخَرُ فِي الْجَمِيعِ إمَّا بِنِكَاحٍ أَوْ شُبْهَتِهِ فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً، أَوْ تَكُونُ مُعْتَدَّةً مِنْ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَتِهِ وَيَطَؤُهَا شَخْصٌ بِمِلْكٍ أَوْ شُبْهَةٍ فَهَذِهِ أَرْبَعٌ أَيْضًا كَمَّلَتْ السِّتَّ عَشْرَةَ، وَالصُّوَرُ الَّتِي لَا يَتَأَبَّدُ فِيهَا التَّحْرِيمُ عِشْرُونَ بَيَانُهَا أَنْ يَطَأَهَا شَخْصٌ بِزِنًا أَوْ غَصْبٍ وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ بِعِدَّةِ نِكَاحٍ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ مِنْ وَطْءٍ بِمِلْكٍ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ مِنْ زِنًا أَوْ غَصْبٍ مِنْ غَيْرِهِ فَهَذِهِ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً، وَكَذَلِكَ لَوْ وُطِئَتْ بِمِلْكٍ أَوْ شُبْهَتِهِ وَهِيَ مَحْبُوسَةٌ بِوَطْءٍ بِمِلْكٍ أَوْ شُبْهَتِهِ أَوْ مِنْ زِنًا أَوْ غَصْبٍ فَهَذِهِ ثَمَانٌ تَضُمُّ لِمَا قَبْلَهَا الْجُمْلَةُ عِشْرُونَ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَلَمَّا كَانَ الرَّقِيقُ مَحْجُورًا عَلَيْهِ لَحِقَ السَّيِّدَ قَالَ: (وَلَا نِكَاحَ) جَائِزٌ (لِعَبْدٍ وَلَا لِأَمَةٍ) وَلَوْ بِشَائِبَةِ حُرِّيَّةٍ كَمُكَاتَبٍ وَمُكَاتَبَةٍ (إلَّا بِإِذْنِ السَّيِّدِ) لِأَنَّ تَزْوِيجَ الرَّقِيقِ عَيْبٌ، وَإِذَا وَقَعَ تَحَتَّمَ فَسْخُ نِكَاحِ الْأَمَةِ وَلَوْ وَكَّلَتْ رَجُلًا فِي عَقْدِ نِكَاحِهَا، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلِسَيِّدِهِ رَدُّ نِكَاحِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلسَّيِّدِ رَدُّ نِكَاحِ عَبْدِهِ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ، وَوَارِثُ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَتِهِ، وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْوَرَثَةُ فِي الرَّدِّ وَالْإِمْضَاءِ لَكَانَ الْقَوْلُ لِمُرِيدِ الرَّدِّ، وَلَا شَيْءَ لِلْمَرْأَةِ فِي الْفَسْخِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَلَهَا إنْ دَخَلَ رُبُعُ دِينَارٍ وَتَرُدُّ الزَّائِدَ إنْ قَبَضَتْهُ، وَرُبُعُ الدِّينَارِ مِنْ مَالِ الْعَبْدِ وَفِي حُكْمِ الْعَبْدِ الْمُكَاتَبِ وَالْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ، وَمَا زَادَ عَلَى الرُّبْعِ دِينَارٍ يُتْبَعُ بِهِ الْمُكَاتَبُ وَالْعَبْدُ إنْ غَرِمَا لَمْ يَكُنْ السَّيِّدُ أَسْقَطَ ذَلِكَ عَنْ الْعَبْدِ قَبْلَ عِتْقِهِ، أَوْ السُّلْطَانُ بِأَنْ رَفَعَ السَّيِّدُ الْأَمْرَ إلَيْهِ أَوْ يَكُونُ غَائِبًا لِأَنَّ السُّلْطَانَ يَذُبُّ عَنْ مَالِ الْغَائِبِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلسَّيِّدِ إسْقَاطَ الزَّائِدِ عَنْ الْعَبْدِ مُطْلَقًا، وَعَنْ الْمُكَاتَبِ إنْ لَمْ يَغِرَّ أَوْ غَرَّ وَرَجَعَ رَقِيقًا إلَّا إنْ خَرَجَ حُرًّا، وَأَمَّا الرَّقِيقُ الْمُشْتَرَكُ فَلَا يَتَزَوَّجُ إلَّا بِرِضَا الشَّرِيكَيْنِ، فَإِنْ زَوَّجَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا بُدَّ مِنْ فَسْخِهِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا تُنْكَحُ أَمَةٌ وَلَا عَبْدٌ بَيْنَ رَجُلَيْنِ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، فَإِنْ عَقَدَ لِلْأَمَةِ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ بِصَدَاقٍ مُسَمًّى لَمْ يَجُزْ وَإِنْ أَجَازَهُ الْآخَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 امْرَأَةً لِيُحِلَّهَا لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا يُحِلُّهَا ذَلِكَ. وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ الْمُحْرِمِ لِنَفْسِهِ وَلَا يَعْقِدُ نِكَاحًا لِغَيْرِهِ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُ   [الفواكه الدواني] وَيُفْسَخُ وَلَوْ دَخَلَ بِهَا، وَيَكُونُ الْمُسَمَّى بَعْدَ الدُّخُولِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ، وَإِنْ نَقَصَ الْمُسَمَّى عَنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ أَتَمَّ لِلْغَائِبِ نِصْفَ صَدَاقِ الْمِثْلِ حَيْثُ لَمْ يَرْضَ بِالْمُسَمَّى، اُنْظُرْ الْأُجْهُورِيَّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ تَحَتُّمِ فَسْخِ نِكَاحِ الْأَمَةِ مُخَالِفٌ لِمَا إذَا بَاعَهَا الْغَيْرُ أَوْ بَاعَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ فَإِنَّهُ فِي الْبَيْعِ يُخَيَّرُ السَّيِّدُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِالْفَرْقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالنِّكَاحِ وَهُوَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْبَيْعِ لِلسَّيِّدِ، وَكَوْنُ عَقْدِ النِّكَاحِ وَاقِعًا مِنْ السَّيِّدِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى. الثَّانِي: إنْ قِيلَ السَّيِّدُ لَهُ جَبْرُ الرَّقِيقِ مُطْلَقًا، فَمَا الْفَرْقُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى حَيْثُ خُيِّرَ فِي فَسْخِ نِكَاحِ الذَّكَرِ وَوَجَبَ فَسْخُ نِكَاحِ الْأُنْثَى بِحَيْثُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِجَازَةُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: شِدَّةُ الِاعْتِنَاءِ وَالْحَثِّ عَلَى مُرَاعَاةِ شُرُوطِ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ دُونَ الرَّجُلِ، وَلِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِرْصِ عَلَى الْمُحَافَظَةِ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ، لِأَنَّ زَوَاجَ الرَّقِيقِ عَيْبٌ، وَلَوْ خُيِّرَ السَّيِّدُ فِي نِكَاحِ الْأَمَةِ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ كَالذَّكَرِ لَبَادَرَتْ النَّاسُ إلَى تَزَوُّجِ الْجَوَارِي بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ بَلْ إلَى الزِّنَا، وَيَدَّعُونَ النِّكَاحَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، هَذَا مَا ظَهَرَ لَنَا فِي وَجْهِ الْفَرْقِ ثُمَّ شَرَعَ فِي شَرْطِ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ فِي النِّكَاحِ بِذِكْرِ الْأَضْدَادِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (تَعْقِدَ امْرَأَةٌ) نِكَاحَ نَفْسِهَا وَلَا امْرَأَةَ غَيْرِهَا وَلَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَتَهَا أَوْ مَنْ فِي وَصِيَّتِهَا، وَيَجِبُ أَنْ تُوَكِّلَ رَجُلًا يَعْقِدُ عَلَى مَمْلُوكَتِهَا أَوْ مَنْ فِي وَصِيَّتِهَا، لِأَنَّ شَرْطَ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ الذُّكُورَةُ، فَإِنْ عَقَدَتْ وَلَوْ عَلَى نَفْسِهَا كَانَ بَاطِلًا لِحَدِيثِ: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ وَلِيٍّ فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» وَحَمَلَهُ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى الصَّغِيرَةِ قِيَاسًا عَلَى بَيْعِهَا وَشِرَائِهَا. (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ يَعْقِدَ (عَبْدٌ) نِكَاحَ امْرَأَةٍ أَيْضًا وَلَوْ كَانَتْ بِنْتَه أَوْ أَمَتَهُ، لِأَنَّ شَرْطَ الْوَلِيِّ الْحُرِّيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَكَّلَتْ مَالِكَةٌ وَوَصِيَّةٌ وَمُعْتَقَةٌ وَلَوْ أَجْنَبِيًّا كَعَبْدٍ أَوْ وَصِيٍّ وَمُكَاتَبٍ فِي أَمَةٍ طَلَبَ فَضْلًا وَإِنْ كَرِهَ سَيِّدُهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّقِيقَ لَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَى بَنَاتِهِ وَلَا إمَائِهِ وَالْحَقُّ لِسَيِّدِهِ إلَّا الْمُكَاتَبَ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُزَوِّجَ أَمَتَهُ قَهْرًا عَلَى سَيِّدِهِ؛ لِأَنَّهُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ فِي نِكَاحِ أَمَتِهِ غِبْطَةٌ وَمَصْلَحَةٌ، بِأَنْ دَفَعَ لَهَا الزَّوْجُ صَدَاقًا وَاسِعًا بِحَيْثُ يُجْبَرُ عَيْبَ التَّزْوِيجِ وَيَزِيدُ عَلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوَكِّلَ مَنْ يُبَاشِرُ الْعَقْدَ، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، كَمَا يَجِبُ عَلَى الرَّقِيقِ الْوَصِيِّ التَّوْكِيلُ فِي عَقْدِ مَنْ فِي وَصِيَّتِهِ (وَلَا) يَصِحُّ أَيْضًا أَنْ يَعْقِدَ (مَنْ كَانَ) مِنْ الرِّجَالِ (عَلَى غَيْرِ دِينِ الْإِسْلَامِ) وَمَفْعُولُ يَعْقِدَ (نِكَاحَ امْرَأَةٍ) فَهُوَ مَحْذُوفٌ مِنْ الْأَوَّلَيْنِ لِدَلَالَةِ الثَّالِثِ كَمَا بَيَّنَّاهُ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ الْإِسْلَامُ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمُسْلِمَةِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ فِي وَلِيِّهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} [النساء: 141] وَأَمَّا الْكَافِرَةُ فَيُزَوِّجُهَا وَلِيُّهَا الْكَافِرُ وَلَوْ لِمُسْلِمٍ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْكَافِرَةِ وَلِيٌّ خَاصٌّ كَافِرٌ فَأَسَاقِفَتُهُمْ، فَإِنْ امْتَنَعُوا وَرَفَعَتْ أَمْرَهَا لِلسُّلْطَانِ جَبَرَهُمْ عَلَى تَزْوِيجِهَا لِأَنَّهُ مِنْ رَفْعِ التَّظَالُمِ، وَلَا يُجْبِرُهُمْ عَلَى تَزْوِيجِهَا مِنْ خُصُوصِ مُسْلِمٍ، وَأَمَّا الْمُسْلِمُ لَوْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مَالِكًا لِكَفَّارَةٍ فَلَا وِلَايَةَ لَهُ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] إلَّا أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْكَافِرَةُ أَمَةً لَهُ أَوْ مُعْتَقَتَهُ حَيْثُ أَعْتَقَهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ فَلَهُ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا وَيُزَوِّجُهَا، لَكِنَّ الْأَمَةَ إنَّمَا يُزَوِّجُهَا لِكَافِرٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَمَةَ الْكَائِنَةَ عَلَى دِينِ أَهْلِ الْكِتَابِ لَا يَطَؤُهَا الْمُسْلِمُ إلَّا بِالْمِلْكِ، وَأَمَّا مُعْتَقَتُهُ الَّتِي لَوْ قُدِّرَتْ ذَكَرًا لَمْ تُضْرَبْ عَلَيْهِ جِزْيَةٌ بِأَنْ أَعْتَقَهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَبَعْدَ إسْلَامِهِ أَيْضًا إنْ كَانَ كَافِرًا فِي الْأَصْلِ فَيُزَوِّجُهَا وَلَوْ لِمُسْلِمٍ، وَأَمَّا الْكَافِرَةُ غَيْرُ الْأَمَةِ وَغَيْرُ الْمُعْتَقَةِ فَلَا يَتَوَلَّى عَقْدَهَا لَا لِكَافِرٍ وَلَا لِمُسْلِمٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ} [الأنفال: 72] لَكِنْ إنْ تَجَرَّأَ وَعَقَدَ لَهَا فَإِنْ كَانَ عَلَى كَافِرٍ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُ لِأَنَّا لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ فِي الزِّنَا إذَا لَمْ يُعْلِنُوهُ فَأَوْلَى النِّكَاحُ، وَأَمَّا لَوْ عَقَدَ لَهَا عَلَى مُسْلِمٍ لَفُسِخَ أَبَدًا، وَإِلَى هَذِهِ الْأَحْكَامِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ مُشَبِّهًا فِي الْحُرْمَةِ: كَكُفْرٍ لِمُسْلِمَةٍ وَعَكْسِهِ إلَّا لِأَمَةٍ وَمُعْتَقَةٍ مِنْ غَيْرِ نِسَاءِ الْجِزْيَةِ وَزَوَّجَ الْكَافِرُ لِمُسْلِمٍ، وَإِنْ عَقَدَ مُسْلِمٌ لِكَافِرٍ تُرِكَ، وَتَلَخَّصَ أَنَّ الْوَلِيَّ إمَّا مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ وَمَنْ فِي وِلَايَتِهِ إمَّا مُسْلِمَةٌ أَوْ كَافِرَةٌ، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا أَحْكَامَ الْجَمِيعِ بِفَضْلِ اللَّهِ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ جَعْلِ الذُّكُورَةِ وَالْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ شُرُوطًا فِي وَلِيِّ الْمَرْأَةِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ فِي وَلِيِّ الرَّجُلِ إنْ وَكَّلَ غَيْرَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَيَصِحُّ لِلزَّوْجِ أَنْ يُوَكِّلَ عَبْدًا أَوْ نَصْرَانِيًّا أَوْ امْرَأَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ تَوْكِيلُ زَوْجٍ الْجَمِيعَ سِوَى الْمُحَرَّمِ وَالْمَعْتُوهِ لَا وَلِيٍّ إلَّا كَهُوَ، أَيْ أَنَّ وَلِيَّ الْمَرْأَةِ لَا يَصِحُّ أَنْ يُوَكِّلَ إلَّا مَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي جَمِيعِ شُرُوطِهِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً مُنَاسِبَةً لِمَا قَبْلَهَا فِي عَدَمِ الْجَوَازِ فَقَالَ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ وَلَا يَصِحُّ (أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةً) مَبْتُوتَةً (لِيُحِلَّهَا لِمَنْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا) إنْ كَانَ حُرًّا أَوْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ عَبْدًا (وَ) إنْ وَقَعَ تَزَوُّجُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (لَا يُحِلُّهَا ذَلِكَ) لِفَسَادِهِ فَيُفْسَخُ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ وَلَوْ بَعْدَ الْبِنَاءِ وَلَهَا الْمُسَمَّى بِالدُّخُولِ، وَيُسَمَّى هَذَا النِّكَاحُ نِكَاحَ الدُّلْسَةِ بِضَمِّ الدَّالِ، وَالزَّوْجُ فِيهِ يُسَمَّى بِالتَّيْسِ الْمُسْتَعَارِ، وَقَالَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْمُحَلِّلَ وَالْمُحَلَّلَ لَهُ» وَإِنَّمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 الْمَرِيضِ وَيُفْسَخُ وَإِنْ بَنَى فَلَهَا الصَّدَاقُ فِي الثُّلُثِ مُبَدَّأً وَلَا مِيرَاثَ لَهَا وَلَوْ طَلَّقَ الْمَرِيضُ امْرَأَتَهُ لَزِمَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَهَا   [الفواكه الدواني] لَمْ يُحِلَّهَا لِأَنَّ الْمَبْتُوتَةَ لَا يُحِلُّهَا إلَّا نِكَاحُ الرَّغْبَةِ وَهُوَ النِّكَاحُ عَلَى قَصْدِ الدَّوَامِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَحْرَمِ وَالْمَبْتُوتَةِ: حَتَّى يُولِجَ بَالِغٌ قَدْرَ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرَهَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ عَاقِلًا مُسْلِمًا، وَأَنْ يَكُونَ النِّكَاحُ صَحِيحًا لَازِمًا، وَيَطَؤُهَا مُبَاحًا بِلَا مَنْعٍ وَلَا نُكْرَةَ فِيهِ بِانْتِشَارٍ فِي نِكَاحٍ لَازِمٍ وَعِلْمِ خَلْوَةٍ وَلَوْ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَعِلْمِ زَوْجَةٍ بِالْوَطْءِ فَلَا تَحِلُّ بِوَطْئِهَا فِي حَالِ نَوْمِهَا أَوْ جُنُونِهَا وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَالِمًا، بِخِلَافِ لَوْ وَطِئَهَا حَالَ جُنُونِهِ أَوْ إغْمَائِهِ فَإِنَّهَا تَحِلُّ حَيْثُ كَانَتْ عَاقِلَةً، لِأَنَّ الْحِلْيَةَ وَعَدَمَهَا مِنْ أَوْصَافِهَا فَلِذَا اُعْتُبِرَ عِلْمُهَا فَقَطْ، وَحُصُولُ الْحِلِّ بِوَطْءِ الْمَجْنُونِ لَا يُنَافِي اشْتِرَاطَ كَوْنِهِ عَاقِلًا زَمَنَ الْعَقْدِ حَتَّى يَتَأَتَّى كَوْنُ النِّكَاحِ رَغْبَةً، وَيَحْصُلُ التَّحْلِيلُ مَعَ وُجُودِ تِلْكَ الشُّرُوطِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ خَصِيًّا أَوْ عَبْدًا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ إنْزَالٌ، لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُسَيْلَةِ فِي الْحَدِيثِ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ، وَالْمُوجِبُ لِلْفَسَادِ إنَّمَا هُوَ قَصْدُ الزَّوْجِ، وَأَمَّا قَصْدُ الْمَبْتُوتَةِ وَلَوْ مَعَ قَصْدِ الْبَاتِّ لَهَا فَهُوَ لَغْوٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنِيَّةُ الْمُطَلَّقِ وَنِيَّتُهَا لَغْوٌ أَيْ لَا تُوجِبُ فَسَادًا وَلَا تُنَافِي الْحِلْيَةَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا تَحْصُلُ الْحِلْيَةُ إلَّا بِثُبُوتِ النِّكَاحِ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَعِلْمِ الْخَلْوَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَوْ بِامْرَأَتَيْنِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَهُمَا مُنَاكَرَةٌ لِلْوَطْءِ فَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ النِّكَاحُ، فَإِنْ كَانَتْ الْمَرْأَةُ طَارِئَةً وَالْبَاتُّ لَهَا حَاضِرٌ عِنْدَنَا وَادَّعَتْ التَّزْوِيجَ الْمُوجِبَ لِحِلِّهَا فَإِنَّهَا تُصَدَّقُ لِمَشَقَّةِ الْإِثْبَاتِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْحَاضِرَةُ بِالْبَلَدِ فَتُصَدَّقُ أَيْضًا بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَأْمُونَةً، وَأَنْ يَطُولَ الزَّمَانُ مِنْ يَوْمِ طَلَاقِهَا وَدَعْوَاهَا التَّزْوِيجَ بِحَيْثُ يَكُونُ الزَّمَانُ يُمْكِنُ أَنْ تَمُوتَ فِيهِ الشُّهُودُ وَالْعَارِفُونَ بِالنِّكَاحِ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ وَيَنْدَرِسُ الْعِلْمُ بِذَلِكَ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ الْمَرْأَةُ مَأْمُونَةً وَلَمْ يَطُلْ الزَّمَانُ فَقَوْلَانِ فِي تَصْدِيقِ الْمَرْأَةِ وَعَدَمِ تَصْدِيقِهَا، فَقَوْلُهُمْ: لَا بُدَّ فِي الْإِحْلَالِ مِنْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى النِّكَاحِ وَامْرَأَتَيْنِ عَلَى الْخَلْوَةِ، وَاتِّفَاقُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْوَطْءِ مَخْصُوصٌ بِهَذِهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ وَلَا يَصِحُّ (نِكَاحُ الْمُحْرِمِ) وَلَوْ بِعُمْرَةٍ (لِنَفْسِهِ وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (يَعْقِدَ نِكَاحًا لِغَيْرِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَمَنَعَ إحْرَامٌ مِنْ أَحَدِ الثَّلَاثَةِ وَهُمْ: الزَّوْجُ وَالزَّوْجَةُ وَالْوَلِيُّ، فَلَا يُقْبَلُ الزَّوْجُ وَلَا تَأْذَنُ الزَّوْجَةُ وَلَا يُجِيبُ الْوَلِيُّ وَهُمْ مُحْرِمُونَ، وَلَا يُوَكِّلُونَ وَلَا يُجِيزُونَ، وَالْمُعْتَبَرُ فِي ذَلِكَ وَقْتُ الْعَقْدِ، فَإِذَا صَدَرَ الْعَقْدُ وَوَاحِدٌ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُحْرِمٌ كَانَ يُفْسَخُ وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَوْلَادَ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُحْرِمِ أَنْ يَعْقِدَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَخْطُبَ أَوْ يَحْضُرَ نِكَاحًا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ خَبَرُ الْبُخَارِيِّ بَاطِلًا: «لَا يَنْكِحُ الْمُحْرِمُ وَلَا يُنْكَحُ» . وَيَسْتَمِرُّ النَّهْيُ حَتَّى يَتَحَلَّلَ مِنْ حَجِّهِ أَوْ عُمْرَتِهِ، فَإِنْ عَقَدَ بَعْدَ السَّعْيِ وَطَوَافِ الْإِفَاضَةِ وَصَلَاةِ رَكْعَتَيْ الطَّوَافِ كَانَ عَقْدًا صَحِيحًا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ، وَإِنْ حَصَلَ بَعْدَ السَّعْيِ وَالطَّوَافِ وَقَبْلَ الرَّكْعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إنْ قَرُبَ لَا إنْ بَعُدَ وَهَذَا فِي الْحَجِّ، وَأَمَّا فِي الْعُمْرَةِ فَيَصِحُّ بَعْدَ تَمَامِ سَعْيِهَا، وَيُنْدَبُ تَأَخُّرُهُ حَتَّى يَحْلِقَ وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ عَدَمُ الْإِحْرَامِ زَمَنَ الْعَقْدِ، أَنَّهُ لَوْ وَكَّلَ بَعْضُ الثَّلَاثَةِ مُحْرِمًا وَالْجَمِيعُ مُحْرِمُونَ وَلَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعَقْدُ حَتَّى تَحَلَّلَ كُلٌّ مِنْهُمْ وَتَحَلَّلَ الْوَكِيلُ أَيْضًا صَحَّ الْعَقْدُ، وَإِنْ وَكَّلَ الزَّوْجُ أَوْ الْوَلِيُّ وَهُوَ حَلَالٌ شَخْصًا حَلَالًا وَلَكِنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعَقْدُ حَتَّى أَحْرَمَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ كَانَ الْعَقْدُ بَاطِلًا. الثَّانِي: هَذَا حُكْمُ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ وَالْوَلِيِّ الْخَاصِّ، وَأَمَّا الْوَلِيُّ الْعَامُّ كَالْحَاكِمِ يَكُونُ مُحْرِمًا وَوَكَّلَ حَلَالًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ لِمُحْرِمِ السُّلْطَانِ صَحَّ عَقْدُ نَائِبِهِ الْحَلَالِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ هُوَ الْقَاضِي فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ نَائِبِهِ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ السُّلْطَانِ، بِخِلَافِ نَائِبِ الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِهِ، وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ أَنَّ نَائِبَ الْقَاضِي لَا يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْقَاضِي أَيْضًا، فَيَكُونُ كَنَائِبِ السُّلْطَانِ فِي صِحَّةِ عَقْدِهِ حَالَةَ كَوْنِهِ حَلَالًا وَإِنْ كَانَ مَنْ أَنَابَهُ مُحْرِمًا، وَمَفْهُومُ النِّكَاحِ أَنَّ شِرَاءَ الْجَوَارِي جَائِزٌ لِلْمُحْرِمِ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ مُرَاجَعَةُ الزَّوْجَةِ، وَإِنَّمَا جَازَ النِّكَاحُ لِلْمُعْتَكِفِ وَحَرُمَ عَلَى الْمُحْرِمِ مَعَ أَنَّ كُلًّا مُتَلَبِّسٌ بِعِبَادَةٍ، لِأَنَّ الْمُعْتَكِفَ مَعَهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ الْوُصُولِ لِلْمَرْأَةِ بِخِلَافِ الْمُحْرِمِ، وَلِأَنَّ فَسَادَ الْإِحْرَامِ أَشَدُّ مِنْ فَسَادِ الِاعْتِكَافِ، وَلَمَّا كَانَ نِكَاحُ الْمَرِيضِ مُشَارِكًا لِمَا قَبْلَهُ مِنْ الْأَنْكِحَةِ مِنْ عَدَمِ الْجَوَازِ ذُكِرَ عَقِبَهُ، بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) وَلَا يَصِحُّ أَيْضًا (نِكَاحُ الْمَرِيضِ) مَرَضًا مَخُوفًا رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ الْوَارِثِ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ يَمْنَعُ مَرَضُ أَحَدِهِمَا الْمَخُوفُ وَإِنْ أَذِنَ الْوَارِثُ أَوْ إنْ لَمْ يَحْتَجْ خِلَافٌ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: وَالْمَشْهُورُ الْمَنْعُ مُطْلَقًا، وَيُلْحَقُ بِالْمَرَضِ فِي الْمَنْعِ كُلُّ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ مِنْ حَاضِرِ صَفِّ الْقِتَالِ وَمُقَرَّبٍ لِقَطْعٍ وَمَحْبُوسٍ لِلْقَتْلِ وَحَامِلِ سِتَّةٍ بِأَنْ يَكُونَ زَوْجُهَا طَلَّقَهَا بَائِنًا دُونَ الثَّلَاثِ وَأَرَادَ أَنْ يَعْقِدَ عَلَيْهَا بَعْدَ مُضِيِّ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرَ مِنْ حَمْلِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ وَلَا لَهَا لِأَنَّهَا مَحْجُورٌ عَلَيْهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. (وَ) إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ فِي الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ أَوْ فِيهِمَا أُلْحِقَ بِهِ فَإِنَّهُ (يُفْسَخُ) وُجُوبًا (وَإِنْ بَنَى بِهَا) الزَّوْجُ (فَلَهَا) عَلَيْهِ جَمِيعُ (الصَّدَاقِ) الْمُسَمَّى حَالَةَ كَوْنِهِ (فِي الثُّلُثِ مَبْدَأً) عَلَى الْوَصَايَا بَعْدَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 الْمِيرَاثُ مِنْهُ إنْ مَاتَ فِي مَرَضِهِ ذَلِكَ وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا لَمْ تَحِلَّ لَهُ بِمِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ   [الفواكه الدواني] الْمَرِيضِ مِنْ ثُلُثِهِ الْأَقَلُّ مِنْهُ وَمِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَقَوْلُهُ فِي الثُّلُثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ قَدْ مَاتَ قَبْلَ فَسْخِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا لَوْ صَحَّ فِي مَرَضِهِ لَصَحَّ نِكَاحُهُ، وَأَمَّا لَوْ فَسَخَ فِي حَيَاتِهِ فَإِنْ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَا شَيْءَ لِلْمَرْأَةِ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْبِنَاءِ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّ لَهَا الْمُسَمَّى تَأْخُذُهُ مِنْ ثُلُثِهِ مُبَدَّأً، وَإِنْ صَحَّ بَعْدَ الْفَسْخِ وَالْبِنَاءِ فَإِنَّهَا تَأْخُذُهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ، فَقَوْلُهُ فِي الثُّلُثِ يُفِيدُ أَنَّ عَلَى الْمَرِيضِ بَعْدَ بِنَائِهِ بِالْأَقَلِّ مِنْ ثُلُثِهِ وَمِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ حَيْثُ مَاتَ بَعْدَ دُخُولِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ مَاتَ الْمَرِيضُ قَبْلَ فَسْخِ نِكَاحِهِ وَقَبْلَ بِنَائِهِ لَا شَيْءَ لِلْمَرْأَةِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ فِيهِ إذَا مَاتَ أَوْ مَاتَتْ قَبْلَ الدُّخُولِ الصَّدَاقُ لِأَنَّ هَذَا مِمَّا فَسَدَ لِعَقْدِهِ وَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَمْ يُؤْثِرْ خَلَلًا فِي الصَّدَاقِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ فِيهِ الصَّدَاقُ بِالْمَوْتِ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَمُرَادُهُ بِالصَّدَاقِ الْأَقَلِّ مِنْ الْمُسَمَّى وَالثُّلُثِ وَصَدَاقِ الْمِثْلِ، إذْ لَا يُوجِبُ الْمَوْتُ أَكْثَرَ مِمَّا يُوجِبُهُ الدُّخُولُ، وَهَذَا حُكْمُ مَرَضِ الزَّوْجِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَرِيضُ الزَّوْجَةَ فَإِنَّهُ يُعَجَّلْ بِفَسْخِهِ، وَإِنْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ فَلَهَا الْمُسَمَّى. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمَرِيضَةِ بِالدُّخُولِ الْمُسَمَّى يُقْضَى لَهَا بِهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ، لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَتُقَرَّرُ بِالْوَطْءِ وَإِنْ حَرُمَ، وَكَذَا لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يَدْخُلَ بِهَا فَإِنَّهُ لَا يُقَرَّرُ لَهَا بِهِ لِأَنَّهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا حُكْمُ مَرَضِ الزَّوْجَةِ فَقَطْ وَالزَّوْجِ فَقَطْ، وَبَقِيَ حُكْمُ مَا لَوْ كَانَ الزَّوْجَانِ مَرِيضَيْنِ وَالْحُكْمُ فِيهِمَا أَنَّهُ يُغَلَّبُ جَانِبُ الزَّوْجِ، فَعَلَيْهِ إنْ دَخَلَ الْأَقَلُّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ الثُّلُثِ وَالْمُسَمَّى وَمَهْرِ الْمِثْلِ، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ الزَّوْجُ بِالْمَرَضِ وَبَقِيَ أَيْضًا لَوْ تَنَازَعَ الزَّوْجَانِ فِي وُقُوعِ الْعَقْدِ فِي الْمَرَضِ أَوْ الصِّحَّةِ وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِأَحَدِهِمَا بِوُقُوعِ الْعَقْدِ فِي الْمَرَضِ، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِلْآخَرِ بِوُقُوعِهِ فِي حَالِ الصِّحَّةِ وَتَعَادَلَتْ الْبَيِّنَتَانِ، فَالظَّاهِرُ عَلَى جَرْيِ الْقَوَاعِدِ تُقَدَّمُ بَيِّنَةُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي عُقُودِ الْمُسْلِمِينَ الصِّحَّةُ. (وَ) إذَا مَاتَ الزَّوْجُ الْمَرِيضُ قَبْلَ فَسْخِ النِّكَاحِ (لَا مِيرَاثَ لَهَا) لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْ النِّكَاحِ فِي الْمَرَضِ إنَّمَا هُوَ لِمَا فِيهِ مِنْ إدْخَالِ وَارِثٍ، وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ إدْخَالِهِ كَمَا نَهَى عَنْ إخْرَاجِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ (وَلَوْ طَلَّقَ الْمَرِيضُ) مَرَضًا مَخُوفًا (امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا) أَوْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ عَبْدًا (لَزِمَهُ ذَلِكَ وَكَانَ لَهَا الْمِيرَاثُ مِنْهُ إذَا مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ) الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ مُعَامَلَةً لَهُ بِنَقِيضِ قَصْدِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَفَذَ خُلْعُ الْمَرِيضِ وَوَرَثَتِهِ دُونَهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَوَرِثَتْ أَزْوَاجًا وَإِنْ فِي عِصْمَةٍ، وَأَمَّا لَوْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ صِحَّةً بَيِّنَةً ثُمَّ مَاتَ فَلَا مِيرَاثَ لَهَا، كَمَا أَنَّ الْمَرْأَةَ لَوْ مَاتَتْ فِي زَمَنِ مَرَضِهِ لَمْ يَرِثْهَا، وَقَيَّدْنَا الْمَرَضَ بِالْمَخُوفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَفِيفِ فَلَا إرْثَ لَهَا إنْ مَاتَ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمِيرَاثِ مِنْ الْأَحْكَامِ فَحُكْمُ الْمُطَلَّقَةِ فِي الْمَرَضِ حُكْمُ غَيْرِهَا مِمَّنْ طَلُقَتْ فِي غَيْرِهِ مِنْ وُجُوبِ جَمِيعِ الصَّدَاقِ إنْ كَانَ دَخَلَ بِهَا، وَالنِّصْفِ إنْ لَمْ يَدْخُلْ، وَعَدَمِ صِحَّةِ الْوَصِيَّةِ لَهَا، وَإِنْ قَتَلَتْهُ خَطَأً وَرِثَتْ مِنْ الْمَالِ دُونَ الدِّيَةِ، وَإِنْ قَتَلَتْهُ عَمْدًا عُدْوَانًا لَمْ تَرِثْهُ مِنْ مَالٍ وَلَا دِيَةٍ، وَمَفْهُومُ ثَلَاثًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ الطَّلَاقُ دُونَ الثَّلَاثِ فَإِنْ كَانَ بَائِنًا فَكَالثَّلَاثِ فَتَرِثُهُ دُونَهُ، وَإِنْ كَانَ رَجْعِيًّا فَمَا دَامَتْ فِي الْعِدَّةِ يَتَوَارَثَانِ، وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا تَرِثُهُ وَلَا يَرِثُهَا، وَمَفْهُومُ الْمَرِيضِ أَنَّ الصَّحِيحَ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ مِنْ صَاحِبِ الْمَرَضِ الْخَفِيفِ إذَا طَلَّقَ طَلَاقًا بَائِنًا وَلَوْ دُونَ الثَّلَاثِ لَا تَوَارُثَ وَرَجْعِيًّا يَتَوَارَثَانِ. [الطَّلَاق] ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً يُعْلَمُ عِلْمُهَا مِمَّا مَرَّ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ) الْمُرَادُ زَوْجَتُهُ (ثَلَاثًا) إنْ كَانَ حُرًّا أَوْ اثْنَتَيْنِ إنْ كَانَ عَبْدًا سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً فِي الصُّورَتَيْنِ، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الطَّلَاقِ الزَّوْجُ عَكْسُ الْعِدَّةِ لِأَنَّ الْعِدَّةَ وَصْفُ الْمَرْأَةِ وَفَاعِلُ الطَّلَاقِ الرَّجُلُ: (لَمْ تَحِلَّ لَهُ) بَعْدَ ذَلِكَ (بِمِلْكٍ وَلَا نِكَاحٍ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ وَالْمَبْتُوتَةِ: حَتَّى يُولِجَ بَالِغٌ قَدْرَ الْحَشَفَةِ بِلَا مَنْعٍ، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] وَفِي حَدِيثِ الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: جَاءَتْ امْرَأَةُ رِفَاعَةَ الْقُرَظِيِّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: إنِّي كُنْت عِنْدَ رِفَاعَةَ فَطَلَّقَنِي فَبَتَّ طَلَاقِي فَتَزَوَّجْت بَعْدَهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ الزَّبِيرِ بِفَتْحِ الزَّايِ وَإِنَّمَا مَعَهُ مِثْلُ هُدْبَةِ الثَّوْبِ. وَفِي رِوَايَةٍ: فَاعْتَرَضَ وَلَمْ يُصِبْهَا فَفَارَقَهَا، فَتَبَسَّمَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلَى رِفَاعَةَ؟ لَا حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَك» وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعُسَيْلَةِ مَغِيبُ الْحَشَفَةِ، وَلَا يُشْتَرَطُ الْإِنْزَالُ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، فَهِيَ هُنَا مَجَازٌ عَلَاقَتُهُ السَّبَبِيَّةُ وَالْمُسَبَّبِيَّة. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ النِّكَاحِ، شَرَعَ فِي الطَّلَاقِ وَهُوَ لُغَةً إزَالَةُ الْقَيْدِ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِي إرْسَالِ الْعِصْمَةِ لِأَنَّ الزَّوْجَةَ كَالْمُوثَقَةِ وَالْمُطَلِّقُ لَهَا كَأَنَّهُ أَطْلَقَهَا مِنْ وَثَاقِهَا، وَلِذَلِكَ تَقُولُ النَّاسُ لِلزَّوْجِ: هِيَ فِي حِبَالِك إذَا كَانَتْ تَحْتَ يَدِك وَفِي عِصْمَتِك، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ إصْلَاحًا فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تَرْفَعُ حَلِيَّةَ مُتْعَةِ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ مُوجِبًا، تَكَرُّرُهَا مَرَّتَيْنِ لِلْحُرِّ، وَمَرَّةً لِذِي رِقٍّ حُرْمَتَهَا عَلَيْهِ قَبْلَ زَوْجٍ، فَقَوْلُهُ مُوجِبًا بِالنَّصْبِ حَالٌ إمَّا مِنْ ضَمِيرِ تَرْفَعُ أَوْ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 وَطَلَاقُ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِدْعَةٌ وَيَلْزَمُ إنْ وَقَعَ وَطَلَاقُ السُّنَّةِ مُبَاحٌ وَهُوَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَقْرَبْهَا فِيهِ طَلْقَةً ثُمَّ لَا يُتْبِعَهَا طَلَاقًا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الَّتِي تَحِيضُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فِي الْحُرَّةِ أَوْ الثَّانِيَةِ   [الفواكه الدواني] الْمُبْتَدَأِ، وَيَنْقَسِمُ إلَى بِدْعِيٍّ وَإِلَى سُنِّيٍّ، وَالْبِدْعِيُّ إلَى مَكْرُوهٍ وَإِلَى مُحَرَّمٍ، وَأَشَارَ إلَى الْبِدْعِيِّ بِقَوْلِهِ: (وَطَلَاقُ الثَّلَاثِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ بِدْعَةٌ) أَيْ مُحْدَثَةٌ، وَفِي حُكْمِ الْكَلِمَةِ لَوْ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا فِي كَلِمَاتٍ نَسَقًا كَأَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ أَنْتِ طَالِقٌ، أَوْ طَالِقٌ طَالِقٌ طَالِقٌ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَوْكِيدٍ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ بِدْعَةً، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} [البقرة: 229] وَأَيْضًا قَدْ وَقَعَ أَنَّ رَجُلًا قَدْ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ ثَلَاثًا بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَغَيَّظَ وَقَالَ: «أَتَهْزَأُ بِكِتَابِ اللَّهِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟» وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْبِدْعَةِ فَقِيلَ الْكَرَاهَةُ وَقِيلَ التَّحْرِيمُ (وَ) عَلَى كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ (يَلْزَمُ إنْ وَقَعَ) وَاعْلَمْ أَنَّ أَرْكَانَ الطَّلَاقِ أَرْبَعَةٌ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَرُكْنُهُ أَهْلٌ وَقَصْدٌ وَمَحَلٌّ وَلَفْظٌ، فَالْأَهْلُ الْمَوْقِعُ وَإِلَيْهِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَكِرَ حَرَامًا، وَالْمَحَلُّ الْعِصْمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِلزَّوْجِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، كَقَوْلِهِ لَهُ لِامْرَأَةٍ عِنْدَ خِطْبَتِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ؛ لِأَنَّ مُرَادَهُ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ، الْقَصْدُ الْمُرَادُ بِهِ قَصْدُ التَّلَفُّظِ بِالصِّيغَةِ الصَّرِيحَةِ أَوْ الْكِنَايَةِ، أَوْ قَصْدُ حِلِّ الْعِصْمَةِ بِالْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ وَالصِّيغَةُ الصَّرِيحَةُ: أَنْتِ طَالِقٌ، وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ: كَأَنْتِ بَتَّةٌ أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك، وَالْخَفِيَّةُ نَحْوُ: اذْهَبِي أَوْ كَلِّمِي أَوْ اشْرَبِي مِنْ كُلِّ مَا لَمْ يُوضَعْ لِلطَّلَاقِ وَلَا يَدُلُّ عَلَيْهِ، وَسَيَأْتِي فِي كَلَامِهِ الْإِشَارَةُ إلَى بَيَانِ ذَلِكَ مَعَ بَسْطِنَا الْكَلَامَ الْمُشْتَمِلَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ السُّنِّيِّ وَيُعْلَمُ مِنْهُ بَقِيَّةُ أَقْسَامِ الْبِدْعِيِّ بِقَوْلِهِ: (وَطَلَاقُ السُّنَّةِ) أَيْ الَّذِي أَذِنَتْ فِيهِ السُّنَّةُ (مُبَاحٌ) أَيْ جَائِزٌ جَوَازًا مُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ الطَّلَاقَ سُنَّةٌ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَبْغَضُ الْحَلَالِ إلَى اللَّهِ الطَّلَاقُ» وَأَضَافَهُ إلَى السُّنَّةِ، وَإِنْ جَاءَ الْإِذْنُ فِيهِ أَيْضًا مِنْ الْكِتَابِ فِي قَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] لِأَنَّ قُيُودَهُ مِنْ السُّنَّةِ وَأَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَ) أَيْ طَلَاقُ السُّنَّةِ (أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ طَلْقَةً) وَاحِدَةً قَالَ خَلِيلٌ: طَلَاقُ السُّنَّةِ وَاحِدَةٌ بِطُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ بِلَا عِدَّةٍ. قَالَ شُرَّاحُهُ: بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الطَّلْقَةُ كَامِلَةً وَأَنْ يُوقِعَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَرْأَةِ وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ سُنِّيًّا لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَأُدِّبَ الْمُجَزِّئُ كَمُطَلَّقِ جُزْءٍ وَإِنْ كَيَدٍ، وَمِنْ الشُّرُوطِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ لَا يُتْبِعَهَا) أَيْ الطَّلْقَةَ الْوَاحِدَةَ (طَلَاقًا حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ) فَلَوْ أَرْدَفَ عَلَيْهَا فِي الْعِدَّةِ طَلْقَةً أُخْرَى كَانَ بِدْعِيًّا مَكْرُوهًا، وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا ثُمَّ يُطَلِّقَهَا لِتَطْوِيلِهِ الْعِدَّةَ إنْ كَانَتْ نِيَّتُهُ عِنْدَ الرَّجْعَةِ الْفِرَاقَ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْقُيُودَ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الطَّلَاقُ سُنِّيًّا أَنْ يَقَعَ فِي طُهْرٍ وَأَنْ لَا يَمَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ، وَأَنْ يَكُونَ وَاحِدَةً، وَأَنْ تَكُونَ كَامِلَةً، وَأَنْ يُوقِعَهَا عَلَى جَمِيعِ الْمَرْأَةِ، وَأَنْ لَا يُرْدِفَ عَلَيْهَا طَلْقَةً دَاخِلَ الْعِدَّةِ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ مِنْهَا كَانَ الطَّلَاقُ بِدْعِيًّا، وَالْبِدْعِيُّ مَكْرُوهٌ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ وَحَرَامٌ فِي زَمَنِهِ، وَيُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ إنْ طَلَّقَهَا فِيهِ، كَمَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا إذَا طَلَّقَهَا بَيْنَ دَمَيْنِ تَلَفَّقَ ثَانِيهِمَا لِمَا قَبْلَهُ، وَإِنْ كَانَ الطَّلَاقُ غَيْرَ حَرَامٍ لِعَدَمِ عِلْمِهِ بِمُعَاوَدَةِ الدَّمِ، وَإِلَى ذَلِكَ كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَكُرِهَ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى الرَّجْعَةِ، كَقَبْلِ الْغُسْلِ مِنْهُ أَوْ التَّيَمُّمِ الْجَائِزِ وَمُنِعَ فِيهِ وَوَقَعَ وَأُجْبِرَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَلَوْ لِمُعَاوَدَةِ الدَّمِ لِمَا يُضَافُ فِيهِ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْأَرْجَحِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى مَا ذُكِرَ إمَّا صَرِيحًا أَوْ تَلْوِيحًا. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الطَّلَاقَ يَنْقَسِمُ إلَى أَقْسَامٍ: الْإِبَاحَةُ وَالسُّنِّيَّةُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْحُرْمَةُ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، وَذَلِكَ بِأَنْ يَكُونَ يَلْزَمُ عَلَى عَدَمِهِ الْإِضْرَارُ بِالْمَرْأَةِ، إمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهَا مَعَ عَدَمِ رِضَاهَا بِتَرْكِهَا مِنْ الزَّوْجِ، أَوْ الْعَجْزِ عَنْ الْوَطْءِ مَعَ طَلَبِهَا لَهُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ النَّدْبُ وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ زَانِيَةً أَوْ تَارِكَةَ الصَّلَاةِ وَلَا تَنْزَجِرُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُنْدَبُ لَهُ فِرَاقُهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بِحُبِّهَا فَلَهُ مَسْكُهَا وَلَوْ زَانِيَةً لِخَبَرِ: «إنَّ لِي زَوْجَةً لَا تَرُدُّ يَدَ لَامِسٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَارِقْهَا. قَالَ: إنِّي أُحِبُّهَا، قَالَ: فَأَمْسِكْهَا» صَحَّحَهُ النَّسَائِيُّ، فَيَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الطَّلَاقَ يُحَرِّمُ الْمَرْأَةَ عَلَى زَوْجِهَا لِإِزَالَةِ الْعِصْمَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبٌ لِلْحِلِّ. 1 - شَرَعَ يَذْكُرُ مَا يَرْفَعُ الْحُرْمَةَ وَتَحِلُّ بِهِ الْمُطَلَّقَةُ وَهُوَ الرَّجْعَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ) أَيْ مَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا طَلَاقًا غَيْرَ بَائِنٍ بِحِلِّ وَطْئِهِ (الرَّجْعَةُ) وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: رَفْعُ الزَّوْجِ أَوْ الْحَاكِمِ حُرْمَةَ الْمُتْعَةِ بِالزَّوْجَةِ لِطَلَاقِهَا فَتَخْرُجُ الْمُرَاجَعَةُ وَهِيَ لِلْعَقْدِ عَلَى الْبَائِنِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ الْحَاكِمِ ذَكَرَهُ لِإِدْخَالِ رَجْعَةِ الْحَاكِمِ زَوْجَةَ مَنْ طَلَّقَهَا فِي الْحَيْضِ وَامْتَنَعَ مِنْ رَجْعَتِهَا، فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَرْتَجِعُ لَهُ قَهْرًا كَمَا يَأْتِي، وَتَعْتَرِيهَا أَحْكَامٌ خَمْسَةٌ كَمَا تَعْتَرِي الطَّلَاقَ وَالنِّكَاحَ، وَأَمْثِلَتُهَا تُعْرَفُ مِنْ أَمْثِلَةِ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَلَمَّا كَانَ حُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ الْجَوَازَ عَبَّرَ بِقَوْلِهِ: وَلَهُ الرَّجْعَةُ وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُحْرِمًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ مُفْلِسًا أَوْ سَفِيهًا أَوْ عَبْدًا لَمْ يَأْذَنْ لَهُ سَيِّدُهُ لِقَوْلِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: خَمْسَةٌ تَجُوزُ رَجْعَتُهُمْ وَلَا يَجُوزُ نِكَاحُهُمْ وَشَرْطُهَا (فِي) الْمَرْأَةِ الْمُطَلَّقَةِ (الَّتِي تَحِيضُ) وَطَلُقَتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فِي الْأَمَةِ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ أَوْ مِمَّنْ قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ طَلَّقَهَا مَتَى شَاءَ وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ وَتُرْتَجَعُ الْحَامِلُ مَا لَمْ تَضَعْ وَالْمُعْتَدَّةُ بِالشُّهُورِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَالْأَقْرَاءُ هِيَ الْأَطْهَارُ. وَيُنْهَى أَنْ يُطَلِّقَ فِي الْحَيْضِ فَإِنْ طَلَّقَ لَزِمَهُ   [الفواكه الدواني] دُونَ الثَّلَاثِ فِي غَيْرِ زَمَنِ حَيْضٍ (مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ فِي) الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ (الْحُرَّةِ) وَإِنْ كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا (أَوْ) أَيْ وَمَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَيْضَةِ (الثَّانِيَةِ فِي) حَقِّ الزَّوْجَةِ (الْأَمَةِ) وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعِدَّةِ بِالزَّوْجَةِ، فَإِنْ دَخَلَتْ الْحُرَّةُ فِي الثَّالِثَةِ وَالزَّوْجَةُ الْأَمَةُ فِي الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ لَمْ تَصِحَّ رَجْعَتُهَا لِبَيْنُونَتِهَا وَحِلِّهَا لِلْأَزْوَاجِ، فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ كَلَامِهِ انْقِضَاءُ عِدَّتِهَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ وَهُوَ يُخَالِفُ مَا قَالُوهُ فِي أَقَلِّ الْحَيْضِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعِدَّةِ هَلْ هُوَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إذَا رَأَتْ الْمَرْأَةُ دَمَ الْحَيْضِ الْأَصْلُ اسْتِمْرَارُهُ وَانْقِطَاعُهُ قَبْلَ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ نَادِرٌ، فَإِطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْأَصْلِ الْغَالِبِ، وَإِنْ فُرِضَ انْقِطَاعُهُ قَبْلَ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا مِنْ غَيْرِ رُجُوعٍ إلَى النِّسَاءِ الْعَارِفَاتِ، وَإِنْ انْقَطَعَ فِي بَعْضِ يَوْمٍ رُجِعَ إلَى قَوْلِ النِّسَاءِ الْعَارِفَاتِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْمُطَلَّقَةِ فِي غَيْرِ الْحَيْضِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ فِي الْحَيْضِ، وَحُكْمُهَا أَنَّ لِزَوْجِهَا رَجْعَتَهَا مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الرَّابِعَةِ إنْ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ الثَّالِثَةِ إنْ كَانَتْ أَمَةً، فَإِنْ دَخَلَتْ الْحُرَّةُ فِي الرَّابِعَةِ وَالْأَمَةُ فِي الثَّالِثَةِ حَلَّتْ لِلْأَزْوَاجِ، لَكِنْ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ لَا تُعَجِّلَ الزَّوَاجَ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ لِاحْتِمَالِ انْقِطَاعِهِ قَبْلَ حُصُولِ مَا يُعَدُّ حَيْضَةً فِي بَابِ الْعِدَّةِ وَهُوَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الرَّجْعَةِ كَوْنُ الطَّلَاقِ رَجْعِيًّا، وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ صِحَّةَ النِّكَاحِ وَلَوْ كَانَ فَاسِدًا ابْتِدَاءً وَفَاتَ بِالدُّخُولِ وَحَصَلَ وَطْءٌ مُبَاحٌ بَعْدَ الْفَوَاتِ، فَالْبَائِنُ بِدُونِ الثَّلَاثِ لَا تَحِلُّ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ، وَصَدَاقٍ وَرِضَا الزَّوْجَةِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بِلَفْظِ الْخُلْعِ أَوْ الْمُطَلَّقَةِ بِعِوَضٍ وَلَوْ مَعَ إبْرَاءٍ أَوْ لَمْ تَصِحَّ الْبَرَاءَةُ أَوْ عِنْدَ حَاكِمٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَوْقَعَهُ عَلَى مُولٍ أَوْ مُعْسِرٍ فَإِنَّهُ رَجْعِيٌّ، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ الرَّجْعَةِ الْكَامِلَةِ وَهِيَ مَا كَانَتْ بِالنِّيَّةِ وَالْقَوْلِ، كَارْتَجَعْتُ زَوْجَتِي، وَأَعَدْت حِلَّهَا لِعِصْمَتِي، وَهَذِهِ رَجْعَةٌ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَتْ بِالْقَوْلِ فَقَطْ فَإِنْ كَانَ صَرِيحًا فَتَصِحُّ وَذَلِكَ كَارْتَجَعْتُ زَوْجَتِي مِنْ غَيْرِ نِيَّةٍ، لَكِنْ فِي الظَّاهِرِ فَقَطْ، وَصَحَّحَ ابْنُ رُشْدٍ الرَّجْعَةَ بِالنِّيَّةِ فَقَطْ لَكِنْ فِي الْبَاطِنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْقَوْلُ مُحْتَمِلًا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ رَجْعَةٍ فَلَا يَكْفِي فِي الرَّجْعَةِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: أَعَدْت حِلَّهَا أَوْ رَفَعْت التَّحْرِيمَ عَنْهَا، لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ رَفَعْت تَحْرِيمَهَا عَلَى الْغَيْرِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: يَرْتَجِعُ مَنْ يَنْكِحُ وَإِنْ بِكَإِحْرَامٍ وَعَدَمِ إذْنِ سَيِّدٍ طَالِقًا غَيْرَ بَائِنٍ فِي عِدَّةِ صَحِيحٍ حَلَّ وَطْؤُهُ بِقَوْلٍ مَعَ نِيَّةٍ كَرَجَعْتُ وَأَمْسَكْتهَا، أَوْ نِيَّةٍ عَلَى الْأَظْهَرِ، أَوْ بِقَوْلٍ صَرِيحٍ وَلَوْ هَزْلًا فِي الظَّاهِرِ لَا الْبَاطِنِ، لَا بِقَوْلٍ مُحْتَمَلٍ بِلَا نِيَّةٍ كَأَعَدْتُ الْحِلَّ أَوْ رَفَعْت التَّحْرِيمَ، وَلَا يَفْعَلُ دُونَهَا كَوَطْءٍ، وَشَرْطُهَا أَيْضًا عِلْمُ الْخَلْوَةِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ وَلَوْ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ، وَتَقَارُنُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى الْوَطْءِ، فَإِذَا لَمْ يُعْلَمْ دُخُولُهُمَا لَمْ تَصِحَّ الرَّجْعَةُ، وَمِنْ شُرُوطِ الرَّجْعَةِ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ بِالنِّسْبَةِ لِلطَّلَاقِ مِنْ الْمُولِي أَنْ يَنْحَلَ عَنْهُ الْإِيلَاءُ، وَبِالنِّسْبَةِ لِلطَّلَاقِ عَلَى الْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ وُجُودُ الْيَسَارِ الَّذِي يَقُومُ بِوَاجِبِ مِثْلِهَا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ وَيَكُونُ مُخَصِّصًا لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الرَّجْعَةِ: أَنَّ الرَّجْعَةَ الْكَامِلَةَ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَالنِّيَّةِ أَوْ الْقَوْلِ الصَّرِيحِ فَقَطْ أَوْ النِّيَّةِ وَحْدَهَا عَلَى الْأَظْهَرِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ زَمَنِ الطَّلَاقِ السُّنِّيِّ لِمَنْ تَحِيضُ شَرَعَ فِي زَمَنِ بَيَانِهِ لِغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانَتْ) الْمَرْأَةُ الَّتِي أَرَادَ زَوْجُهَا أَنْ يُطَلِّقَهَا (مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ) لِصِغَرٍ (أَوْ) كَانَتْ (مِمَّنْ قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ) لِكِبَرِ سِنِّهَا (طَلَّقَهَا مَتَى شَاءَ) إذْ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا فِي طَلْقَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ، إذْ لَا يَكُونُ الْبِدْعِيُّ مِنْهَا إلَّا الزَّائِدَ عَلَى الثِّنْتَيْنِ لِلْحُرِّ أَوْ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِلرَّقِيقِ، لِأَنَّ طَلَاقَ ذَاتِ الْأَشْهُرِ لَا يُوجِبُ تَطْوِيلَ عِدَّةٍ. (وَكَذَلِكَ الْحَامِلُ) يَجُوزُ أَنْ يُطَلِّقَهَا زَوْجُهَا مَتَى شَاءَ لِلْأَمْنِ مِنْ تَطْوِيلِ الْعِدَّةِ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ مُتَلَبِّسَةً بِالْحَيْضِ وَمِمَّنْ يَجُوزُ طَلَاقُهَا مَتَى شَاءَ الزَّوْجُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَوْ فِي حَالِ حَيْضِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ النَّهْيَ لِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَلَمَّا كَانَتْ عِدَّةُ الْحَامِلِ وَلَوْ فِي وَفَاةِ حَمْلِهَا قَالَ: (وَتُرْتَجَعُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الْحَامِلُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِمُطَلِّقِ الْحَامِلِ أَنْ يَرْتَجِعَهَا (مَا لَمْ تَضَعْ) الْحَمْلَ كُلَّهُ فَتَنْقَضِي عِدَّتُهَا وَتَفُوتُ رَجْعَتُهَا، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَمْلِ الْكَبِيرِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوْ دَمًا مُجْتَمِعًا، فَلَوْ وَضَعَتْ إحْدَى التَّوْأَمَيْنِ أَوْ بَعْضَ وَاحِدٍ لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا فَلَهُ رَجْعَتُهَا. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَوَاتُ الرَّجْعَةِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَاحِقًا بِالزَّوْجِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ لَاحِقًا وَلَوْ احْتِمَالًا حَتَّى تَنْقَضِيَ بِوَضْعِهِ الْعِدَّةُ، فَلَوْ طَلَّقَهَا طَلَاقًا رَجْعِيًّا وَهِيَ حَامِلٌ حَمْلًا غَيْرَ لَاحِقٍ بِهِ بِأَنْ وَضَعَتْهُ لِأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهُ رَجْعَتُهَا مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا بِالْأَقْرَاءِ وَتُعِدُّ نِفَاسَهَا حَيْضَةً، وَقَوْلُنَا: وَلَوْ احْتِمَالًا لِإِدْخَالِ الْمَنْفِيِّ بِاللِّعَانِ لِأَنَّهُ كَاللَّاحِقِ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَلْحَقَهُ لَحِقَ بِهِ. (وَ) تُرْتَجَعُ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا (الْمُعْتَدَّةُ بِالشُّهُورِ) إمَّا لِصِغَرِهَا أَوْ يَأْسِهَا أَوْ لِاسْتِحَاضَتِهَا، وَلَمْ تُمَيِّزْ دَمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وَيُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا يُطَلِّقُهَا مَتَى شَاءَ وَالْوَاحِدَةُ تُبِينُهَا وَالثَّلَاثُ تُحَرِّمُهَا إلَّا بَعْدَ   [الفواكه الدواني] الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ، أَوْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا لِمَرَضٍ، أَوْ تَأَخَّرَ بِلَا سَبَبٍ بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَرِيضَةً وَلَا مُرْضِعَةً. (مَا لَمْ تَنْقَضِ عِدَّتُهَا) أَيْ مُدَّةُ عَدَمِ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا بِانْقِضَاءِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إذَا كَانَتْ صَغِيرَةً مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ، أَوْ يَائِسَةً أَوْ بِمُضِيِّ سَنَةٍ تِسْعَةٌ مِنْهَا اسْتِبْرَاءٌ لِزَوَالِ الرِّيبَةِ، وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِلْعِدَّةِ إنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ تُمَيِّزْ أَوْ تَأَخَّرَ بِلَا سَبَبٍ أَوْ مَرِضَتْ تَرَبَّصَتْ تِسْعَةً ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةٍ كَعِدَّةِ مَنْ لَمْ تَرَ الْحَيْضَ وَالْيَائِسَةِ، وَلَا فَرْقَ فِي الِاعْتِدَادِ بِالشُّهُودِ بَيْنَ الزَّوْجَةِ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ كَالِاعْتِدَادِ بِوَضْعِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الزَّوْجَةُ الْحُرَّةُ مِنْ الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ فِي الِاعْتِدَادِ بِالْأَقْرَاءِ، وَقَوْلُنَا فِي الْمُسْتَحَاضَةِ وَلَمْ تُمَيِّزْ لِأَنَّ الَّتِي تُمَيِّزُ دَمَ الْحَيْضِ مِنْ دَمِ الِاسْتِحَاضَةِ إمَّا بِرَائِحَةٍ أَوْ لَوْنٍ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ كَغَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَلَهُ الرَّجْعَةُ فِي الَّتِي تَحِيضُ مَا لَمْ تَدْخُلْ فِي الْحَيْضَةِ إلَخْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ فِي الْآيَةِ الْحَيْضُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ فَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْأَقْرَاءُ) فِي آيَةِ: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] (هِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ) وَهَذَا عَلَيْهِ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمُرَادُ بِهَا الْحِيَضُ جَمْعُ حَيْضَةٍ، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ أَنَّ لَفْظَ الْقُرُوءِ مَوْضُوعٌ بِالِاشْتِرَاكِ بَيْنَ الْأَطْهَارِ وَالدِّمَاءِ فَهُوَ حَقِيقَةٌ فِيهِمَا، وَدَلِيلُ مَالِكٍ وَمَنْ وَافَقَهُ قَوْله تَعَالَى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أَيْ فِي زَمَانِ عِدَّتِهِنَّ، وَبَيَّنَ ذَلِكَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِقَوْلِهِ: «بِأَنْ يُطَلِّقَهَا فِي طُهْرٍ لَمْ يَمَسَّهَا فِيهِ» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الطُّهْرَ الَّذِي طَلَّقَهَا فِيهِ تَعْتَدُّ بِهِ وَأَنَّهُ مِنْ أَقْرَائِهَا، وَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضَ كَمَا قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ لَكَانَ الْمُطَلِّقُ مُطَلِّقًا لِغَيْرِ الْعِدَّةِ، وَمِنْ ثَمَرَةِ الْخِلَافِ حِلُّهَا بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ الْأَخِيرِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ الْأَطْهَارُ وَعَدَمُ حِلِّهَا حَتَّى تَتِمَّ الْحَيْضَةُ بِرُؤْيَةِ عَلَامَةِ الطُّهْرِ، عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَقْرَاءِ الْحَيْضُ، وَالْأَقْرَاءُ جَمْعُ قَرْءٍ بِالْفَتْحِ وَالضَّمِّ، فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى تَفْسِيرِ الْأَقْرَاءِ بِالْأَطْهَارِ عَدَمَ حِلِّهَا بِقُرْأَيْنِ وَبَعْضِ قُرْءٍ مَعَ أَنَّهَا لَوْ طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ طُهْرٍ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِهِ وَلَوْ لَحْظَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَاعْتَدَّتْ بِطُهْرِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَحْظَةً، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْجَمْعَ يُطْلَقُ عَلَى مَا زَادَ عَلَى الِاثْنَيْنِ وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ بَعْضَ وَاحِدٍ نَحْوَ: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] مَعَ أَنَّ الْمُرَادَ شَهْرَانِ وَعَشَرَةٌ وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الطَّلَاقَ السُّنِّيَّ مُبَاحٌ لِوُقُوعِهِ فِي طُهْرٍ ذَكَرَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيُنْهَى) الزَّوْجُ الْمُكَلَّفُ نَهْيَ تَحْرِيمٍ عَنْ (أَنْ يُطَلِّقَ) زَوْجَتَهُ الْمَدْخُولَ بِهَا وَهِيَ غَيْرُ حَامِلٍ (فِي) حَالِ (الْحَيْضِ) أَوْ النِّفَاسِ حَتَّى تَطْهُرَ بِالْمَاءِ أَوْ التَّيَمُّمِ الْجَائِزِ لِمَا وَرَدَ: أَنَّ عَبْدَ اللَّهَ بْنَ عُمَرَ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ، فَسَأَلَ عُمَرُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ فَتَغَيَّظَ وَقَالَ لَهُ: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا ثُمَّ يُمْسِكْهَا حَتَّى تَطْهُرَ ثُمَّ تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ ثُمَّ إنْ شَاءَ أَمْسَكَهَا وَإِنْ شَاءَ طَلَّقَهَا قَبْلَ أَنْ يَمَسَّهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ تَطْلُقَ لَهَا النِّسَاءُ» . وَأَخَذَ الْعُلَمَاءُ بِظَاهِرِ هَذَا الْحَدِيثِ، وَأَجْمَعُوا عَلَى تَحْرِيمِ طَلَاقِ الْحَائِضِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمَدْخُولِ بِهَا لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّ غَيْرَهَا يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا مَتَى شَاءَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ طَلَاقُ الْحَامِلِ مَتَى شَاءَ كَمَا تَقَدَّمَ. (فَإِنْ طَلَّقَ) فِي زَمَنِ حَيْضِهَا عَالِمًا بِهِ (لَزِمَهُ) الطَّلَاقُ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ فِيهِ وَوَقَعَ (وَيُجْبَرُ عَلَى الرَّجْعَةِ) أَيْ يُجْبِرُهُ الْحَاكِمُ إذَا أَوْقَعَ أَقَلَّ مِنْ الثَّلَاثِ أَوْ أَوْقَعَ وَاحِدَةً إنْ كَانَ عَبْدًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُجْبِرَ عَلَى الرَّجْعَةِ وَلَوْ لِمُعْتَادَةِ الدَّمِ لِمَا يُضَافُ فِيهِ لِلْأَوَّلِ عَلَى الْأَرْجَحِ، فَإِنْ أَبَى هَدَّدَهُ بِالسِّجْنِ، فَإِنْ أَبَى سَجَنَهُ، فَإِنْ أَبَى هَدَّدَهُ بِضَرْبٍ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ ضَرَبَهُ إنْ ظَنَّ إفَادَتَهُ، وَيَكُونُ كُلُّ ذَلِكَ فِي مَجْلِسٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِمَعْصِيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَلْزَمَهُ الرَّجْعَةَ وَيَرْتَجِعُهَا لَهُ بِأَنْ يَقُولَ: ارْتَجَعْت لَك زَوْجَتَك، وَتَصِحُّ تِلْكَ الرَّجْعَةُ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الزَّوْجِ قَوْلٌ وَلَا نِيَّةٌ، وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِرَجْعَةِ الْحَاكِمِ وَيَتَوَارَثَانِ، لِأَنَّ نِيَّةَ الْحَاكِمِ تَقُومُ مَقَامَ نِيَّتِهِ، وَنَظِيرُ هَذَا مَنْ يُجْبِرُهُ أَبُوهُ أَوْ وَصِيُّهُ أَوْ الْحَاكِمُ عَلَى النِّكَاحِ، فَلَوْ ارْتَجَعَ لَهُ الْحَاكِمُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُجْبِرَهُ عَلَيْهَا بَلْ ارْتَجَعَ لَهُ ابْتِدَاءً، فَاسْتَظْهَرَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ أَنَّهُ إنْ فَهِمَ مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يَرْتَجِعُ، وَلَوْ فَعَلَ مَعَهُ جَمِيعَ مَا سَبَقَ صَحَّتْ رَجْعَتُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي وَإِلَّا لَمْ تَصِحَّ؛ لِأَنَّ جَبْرَهُ ابْتِدَاءً عَلَى الرَّجْعَةِ بِمَا سَبَقَ مِنْ الْأَمْرِ الْوَاجِبِ وَغَايَةُ الْجَبْرِ عَلَى الرَّجْعَةِ. (مَا لَمْ تَنْقَضِ الْعِدَّةُ) فَإِنْ انْقَضَتْ بَانَتْ وَلَمْ تَحِلَّ إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَرِضَاهَا كَابْتِدَاءِ نِكَاحِ أَجْنَبِيَّةٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ الْحَدِيثِ السَّابِقِ أَنَّهُ إنْ رَاجَعَهَا يَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَصْطَلِحَ وَيَزُولَ مِنْهَا الْغَيْظُ الْحَاصِلُ بِطَلَاقِهَا فِي حَيْضِهَا، وَلَا تَصْطَلِحُ إلَّا بِوَطْءٍ فِي طُهْرٍ مِنْ الْحَيْضِ الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَحِيضَ ثُمَّ تَطْهُرَ، لِأَنَّهُ بَعْدَ الْوَطْءِ لَا يُطَلِّقُ لِأَنَّهُ مَسَّهَا فِي ذَلِكَ الطُّهْرِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إمْسَاكُهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَةٍ أُخْرَى غَيْرِ حَيْضَةِ الطَّلَاقِ؛ الثَّانِي: مَحَلُّ الْجَبْرِ الْمَذْكُورِ إذَا تَصَادَقَ الزَّوْجَانِ عَلَى الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ أَوْ النِّفَاسِ، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَا بِأَنْ قَالَتْ الْمَرْأَةُ وَقَعَ فِي الْحَيْضِ، وَقَالَ الرَّجُلُ بَلْ طَلُقَتْ فِي الطُّهْرِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهَا مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى نَظَرِ النِّسَاءِ، خِلَافًا لِابْنِ يُونُسَ لِأَنَّ النِّسَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 زَوْجٍ. وَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ فَهِيَ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَنْوِيَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ. وَالْخُلْعُ طَلْقَةٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ طَلَاقًا إذَا أَعْطَتْهُ شَيْئًا فَخَلَعَهَا بِهِ مِنْ نَفْسِهِ. وَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ فَهِيَ ثَلَاثٌ دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ وَإِنْ قَالَ بَرِيَّةٌ أَوْ   [الفواكه الدواني] يُصَدَّقْنَ فِي ذَلِكَ كَمَا يُصَدَّقْنَ فِي انْقِضَاءِ عِدَّةِ الْقُرْءِ وَالْوَضْعِ بِلَا يَمِينٍ مَا أَمْكَنَ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ مَا لَمْ يَتَرَافَعَا فِي حَالِ طُهْرِ الْمَرْأَةِ، وَإِلَّا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الزَّوْجِ، وَلَمَّا قِيلَ إنْ عِلَّةَ النَّهْيِ عَنْ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ تَطْوِيلُ الْعِدَّةِ وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا قَالَ: (وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا) يَجُوزُ لِزَوْجِهَا أَنْ (يُطَلِّقَهَا مَتَى شَاءَ) وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ نُفَسَاءَ وَمَنَعَهُ أَشْهَبُ فِي الْحَيْضِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَنْعَ الطَّلَاقِ فِي الْحَيْضِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي عِلَّةِ الْمَنْعِ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: مُعَلَّلٌ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ، وَقَالَ أَشْهَبُ: لِمَحْضِ التَّعَبُّدِ. (وَ) إنَّمَا كَانَ لَهُ طَلَاقُ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا مَتَى شَاءَ لِأَنَّ (الْوَاحِدَةَ تُبِينُهَا) لِأَنَّ الرَّجْعِيَّ إنَّمَا يَكُونُ فِي طَلَاقِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَلَا تَحِلُّ لَهُ بَعْدَ بَيْنُونَتِهَا إلَّا بِعَقْدٍ جَدِيدٍ وَرِضَاهَا وَلَوْ قَبْلَ زَوْجٍ. (وَالثَّلَاثُ) فِي كَلِمَةٍ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا كَالْبَتَّةِ أَوْ بِتَكْرَارِ لَفْظِ الطَّلَاقِ نَسَقًا (تُحَرِّمُهَا) عَلَى زَوْجِهَا وَلَا تَحِلُّ لَهُ (إلَّا بَعْدَ زَوْجٍ) بَالِغٍ يَنْكِحُهَا رَغْبَةً مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُكَرَّرَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ [أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (لِزَوْجَتِهِ) وَلَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا (أَنْتِ طَالِقٌ) أَوْ طَلَّقْتُك أَوْ أَنَا طَالِقٌ مِنْك أَوْ أَنْتِ مُطَلَّقَةٌ أَوْ الطَّلَاقُ لِي لَازِمٌ (فَهِيَ وَاحِدَةٌ حَتَّى يَنْوِيَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ) فَيَلْزَمُ وَلَوْ لَمْ يَنْوِ حَلُّ الْعِصْمَةِ بِهَذَا اللَّفْظِ لِأَنَّهُ صَرِيحٌ يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَوْ هَزْلًا، وَأَمَّا أَنْتِ مُنْطَلِقَةٌ أَوْ مَطْلُوقَةٌ فَلَا يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ إلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ صَارَ مِنْ الْكِنَايَةِ الْخَفِيَّةِ، فَإِنْ قِيلَ: صَرِيحُ الطَّلَاقِ مَا فِيهِ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ، وَمُنْطَلِقَةٌ وَمَطْلُوقَةٌ فِيهِ الطَّاءُ وَاللَّامُ وَالْقَافُ فَمَا وَجْهُ خُرُوجِهِ مِنْ الصَّرِيحِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَصْلَ فِي جَمِيعِ تِلْكَ الْأَلْفَاظِ الْخَبَرُ، إلَّا أَنَّ الْعُرْفَ نَقَلَ أَنْتِ طَالِقٌ وَنَحْوَهُ لِلْإِنْشَاءِ، وَاسْتَمَرَّ غَيْرُهُ عَلَى الْخَبَرِ فَافْتَرَقَا. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ كَخَلِيلٍ عَلَى حُكْمِ اللَّحْنِ فِي لَفْظِهِ كَمَا لَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقًا بِالنَّصْبِ أَوْ أَنْتِ طَالِقٍ بِالْخَفْضِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ كَمَا قَالَ الْقَرَافِيُّ؛ لِأَنَّهُ عَلَى فَرْضِ عِلْمِهِ بِالنَّحْوِ هَازِلٌ، وَالْهَازِلُ يَلْزَمُهُ مَا لَفَظَ بِهِ، لِأَنَّ هَزْلَ الطَّلَاقِ جِدٌّ، وَأَمَّا لَوْ أَسْقَطَ بَعْضَ حُرُوفِهِ بِأَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِ وَلَمْ يَأْتِ بِالْقَافِ فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ، وَمِثْلُهُ إذَا قَالَ: أَنْتِ تَالِقٌ بِإِبْدَالِ الطَّاءِ تَاءً حَيْثُ لَمْ تَكُنْ لُغَتُهُ كَذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ الطَّلَاقُ فَهَلْ يَحْلِفُ وَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا مَا نَوَاهُ أَوْ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِلْمُتَيْطِيِّ وَالثَّانِي لِأَصْبَغَ [الخلع] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْخُلْعِ وَهُوَ لُغَةً الْإِزَالَةُ، وَشَرْعًا إزَالَةُ الْعِصْمَةِ بِعِوَضٍ مِنْ الزَّوْجَةِ أَوْ غَيْرِهَا هَكَذَا قَالَ بَعْضُهُمْ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ يَصِحُّ بِلَفْظِ الْخُلْعِ، وَأُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّهُ تَعْرِيفٌ بِالنَّظَرِ الْغَالِبِ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ جَازَ الْخُلْعُ وَهُوَ الطَّلَاقُ بِعِوَضٍ وَبِلَا حَاكِمٍ، وَبَعُوضٍ مِنْ غَيْرِهَا إنْ تَأَهَّلَ لَا مِنْ صَغِيرَةٍ وَسَفِيهَةٍ وَذَاتِ رِقٍّ، وَرَدَّ الْمَالَ وَبَانَتْ وَبَيَّنَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَالْخُلْعُ طَلْقَةٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا) لِأَنَّهَا بَائِنَةٌ وَهَذَا وَاضِحٌ إنْ سَمَّى الزَّوْجُ طَلَاقًا بَلْ (وَإِنْ لَمْ يُسَمِّ) الزَّوْجُ (طَلَاقًا) بِأَنْ طَلَّقَهَا بِلَفْظِ الْخُلْعِ وَلَوْ لَمْ تَدْفَعْ لَهُ عِوَضًا وَأُخْرَى (إذَا أَعْطَتْهُ شَيْئًا فَخَلَعَهَا بِهِ مِنْ نَفْسِهِ) وَمِثْلُ دَفْعِ الْعِوَضِ لَوْ وَقَعَ مِنْ الْمَرْأَةِ إبْرَاءٌ وَلَوْ جَهِلَتْ مَا أَبْرَأَتْ مِنْهُ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ إذَا أَخَذَ مِنْهَا شَيْئًا وَانْقَلَبَ بِهِ وَقَالَ: ذَاكَ بِذَاكَ وَإِنْ لَمْ يُسَمِّيَا طَلَاقًا فَهُوَ طَلَاقُ الْخُلْعِ، فَإِنْ سَمَّيَا طَلَاقًا لَزِمَ مَا سَمَّيَاهُ، وَكَذَا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى كَوْنِ الْعِوَضِ مِنْ الزَّوْجَةِ بَلْ وَلَوْ مِنْ وَلِيِّهَا أَوْ أَجْنَبِيٍّ، وَلَكِنْ لَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُ الزَّوْجِ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ دَافِعُهُ رَشِيدًا لَا إنْ كَانَ دَافِعُهُ سَفِيهًا أَوْ صَغِيرًا أَوْ رَقِيقًا، فَلَا يَسْتَقِرُّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْخُلْعِ قَوْله تَعَالَى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} [البقرة: 229] وَخَبَرُ الْمُوَطَّإِ مِنْ حَدِيثِ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ لَمَّا أَرَادَتْ فِرَاقَ زَوْجِهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّ مَا أَعْطَانِي عِنْدِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: خُذْ مِنْهَا فَأَخَذَ مِنْهَا وَجَلَسَتْ فِي أَهْلِهَا» فَلَوْلَا أَنَّهُ جَائِزٌ لَمَا أَبَاحَ لَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَخْذَ مِنْهَا، وَسَيَأْتِي تَتِمَّةُ الْخُلْعِ بَعْدَ بَابِ اللِّعَانِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذِهِ الْجُمْلَةَ هُنَا لِمُنَاسَبَتِهَا لِمَا قَبْلَهَا فِي الْبَيْنُونَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي كِنَايَاتِ الطَّلَاقِ الظَّاهِرَةِ الَّتِي تَنْصَرِفُ إلَيْهِ بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِهَا وَلَا تَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَأَمَّا الْخَفِيَّةُ فَلَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَلْفَاظَهُ الْمُسْتَعْمَلَةَ فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: صَرِيحَةٌ وَكِنَايَةٌ ظَاهِرَةٌ وَكِنَايَةٌ خَفِيَّةٌ، وَالصَّرِيحَةُ لَا تَنْصَرِفُ عَنْهُ وَلَوْ نَوَى غَيْرَهُ، وَالْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ تَنْصَرِفُ إلَيْهِ وَلَا تَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِالنِّيَّةِ، وَالْخَفِيَّةُ لَا تَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ، فَمِنْ الظَّاهِرِ قَوْلُهُ: (وَمَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ طَالِقٌ أَلْبَتَّةَ) بِقَطْعِ الْهَمْزَةِ (فَهِيَ ثَلَاثٌ) وَلَوْ ادَّعَى أَقَلَّ وَسَوَاءٌ (دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا) لِأَنَّ الْبَتَّ هُوَ الْقَطْعُ، فَكَأَنَّ الزَّوْجَ قَطَعَ الْعِصْمَةَ الَّتِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ زَوْجَتِهِ وَلَمْ يُبْقِ بِيَدِهِ مِنْهَا شَيْئًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَلْزَمَ أَلْبَتَّةَ مَنْ طَلَّقَ بِهَا وَأَلْزَمَ الثَّلَاثَةَ مَنْ طَلَّقَ بِهَا» وَقَدْ قَضَى عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِيهَا بِالثَّلَاثِ، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 خَلِيَّةٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَيُنَوَّى فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا. وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ إلَّا أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ هِيَ إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا وَإِنْ كَانَتْ بِكْرًا فَذَلِكَ إلَى أَبِيهَا وَكَذَلِكَ السَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ وَمَنْ طَلَّقَ   [الفواكه الدواني] فَرْقَ بَيْنَ قَوْلِهِ: أَنْتِ بَتَّةٌ أَوْ أَنْتِ الْبَتَّةُ، فَإِنْ قِيلَ: الْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ إذَا ادَّعَى صَرْفَ اللَّفْظِ إلَى غَيْرِ الطَّلَاقِ يُقْبَلُ فَكَيْفَ لَا يُقْبَلُ فِي الْبَتَّةِ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا الضَّابِطَ أَغْلَبِيٌّ فَلَا يُنَافِي أَنَّ أَلْبَتَّةَ يَلْزَمُ بِهَا الثَّلَاثُ وَلَا تُقْبَلُ لَهَا نِيَّةُ أَقَلَّ، لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ صَارَتْ مَدْلُولَاتِهَا عُرْفًا وَشَرْعًا. وَلَمَّا فَرَغَ مِمَّا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ وَلَا يَنْوِي مُطْلَقًا ذَكَرَ مَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ وَيَنْوِي فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ قَالَ) الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ أَنْتِ (بَرِيَّةٌ أَوْ خَلِيَّةٌ أَوْ حَرَامٌ أَوْ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك) أَيْ كَتِفِك أَوْ كَالدَّمِ أَوْ كَالْمَيْتَةِ أَوْ وَهَبْتُك أَوْ رَدَدْتُك لِأَهْلِك أَوْ مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلٍ حَرَامٌ، أَوْ أَنَا بَائِنٌ أَوْ أَنْتِ بَائِنٌ (فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي الَّتِي دَخَلَ بِهَا) بَعْدَ بُلُوغِهِ وَإِطَاقَتِهَا وَلَا تُقْبَلُ نِيَّةُ أَقَلَّ (وَيَنْوِي فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا) أَيْ تُقْبَلُ نِيَّتُهُ أَقَلَّ فِي الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مُوَافِقٌ لِلْمُدَوَّنَةِ، إلَّا فِي قَوْلِهِ: حَبْلُك عَلَى غَارِبِك فَإِنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ مُسَاوٍ لِلْبَتَّةِ فِي لُزُومِ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ تَنْوِيَةٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَالثَّلَاثُ فِي بَتَّةٌ حَبْلُك عَلَى غَارِبِك، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ الْمَدْخُولِ بِهَا: أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً بَائِنَةً لِأَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا إنَّمَا يُبِينُهَا الثَّلَاثُ أَوْ الطَّلَاقُ عَلَى وَجْهِ الْخُلْعِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِحَبْلِك عَلَى غَارِبِك إذَا كَانَ الْعُرْفُ يَسْتَعْمِلُهَا فِي الطَّلَاقِ، وَإِلَّا صَارَتْ فِي الْكِنَايَاتِ الْخَفِيَّةِ لَا يَلْزَمُ الطَّلَاقُ بِهَا إلَّا مَعَ النِّيَّةِ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُفْتِي أَنْ يَسْأَلَ عَنْ عَادَةِ الْحَالِفِ، فَإِنْ اعْتَادَ ذَلِكَ أَوْ اعْتَادَهُ أَهْلُ بَلَدِهِ، وَأَوْلَى لَوْ كَانَ عَادَةَ الْجَمِيعِ لَزِمَ الطَّلَاقُ بِهِ وَإِلَّا فَلَا حَتَّى يَدَّعِيَ أَنَّهُ نَوَى بِهِ الطَّلَاقَ، وَلَا يَجُوزُ لِلْمُفْتِي أَنْ يُفْتِيَ بِمُجَرَّدِ الْمُسَطَّرِ فِي الْكُتُبِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ السُّؤَالُ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الْمَبْنِيَّةَ عَلَى الْأَلْفَاظِ الْعُرْفِيَّةِ يَتَغَيَّرُ فِيهَا الْحُكْمُ بِتَغَيُّرِ الْعُرْفِ، كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقَرَافِيُّ وَغَيْرُهُ كَخَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ فِي بَابِ الْيَمِينِ: إنْ اُعْتِيدَ حَلِفٌ بِهِ، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ يَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ ابْتِدَاءً حَتَّى يَدَّعِيَ نِيَّةَ أَقَلَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ وَيَلْزَمُهُ الثَّلَاثُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَلَا يَنْوِي، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالثَّلَاثُ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ إنْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا فِي كَالْمَيِّتَةِ وَالدَّمِ، وَوَهَبْتُك وَرَدَدْتُك لِأَهْلِك، وَأَنْتِ أَوْ مَا أَنْقَلِبُ إلَيْهِ مِنْ أَهْلٍ حَرَامٌ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْكِنَايَةَ الظَّاهِرَةَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ مَا يَلْزَمُهُ فِيهِ الثَّلَاثُ مُطْلَقًا وَلَا يَنْوِي وَذَلِكَ فِي بَتَّةٌ وَحَبْلُك عَلَى غَارِبِك عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَمَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ ابْتِدَاءً حَتَّى يَدَّعِيَ نِيَّةَ أَقَلَّ فِي غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَمَا يَلْزَمُ فِيهِ الثَّلَاثُ ابْتِدَاءً حَتَّى يَدَّعِيَ نِيَّةَ أَقَلَّ فَتُقْبَلُ حَتَّى فِي الْمَدْخُولِ بِهَا وَهُوَ مَا أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَثَلَاثٌ إلَّا أَنْ يَنْوِيَ أَقَلَّ مُطْلَقًا فِي خَلَّيْت سَبِيلَك. (فَرْعٌ) مَنْ قَالَ لِزَوْجَتِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ طَلْقَةً وَاحِدَةً تَمْلِكِينَ بِهَا نَفْسَك. قَالَ ابْنُ سَلْمُونٍ: فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ أَنَّهَا طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَحَكَاهُ مُحَمَّدٌ عَنْ مَالِكٍ وَبِهِ الْقَضَاءُ. الثَّانِي: أَنَّهَا طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ قَالَ بَعْضٌ وَبِهِ الْفَتْوَى. الثَّالِثُ: أَنَّهَا الْبَتَّةُ وَهُوَ ضَعِيفٌ شَرْحُ الشَّيْخِ سَالِمٍ السَّنْهُورِيِّ. (تَنْبِيهٌ) جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّرِيحِ وَالْكِنَايَةِ حَيْثُ لَا بِسَاطَ، وَأَمَّا لَوْ رَفَعَتْهُ بَيِّنَةٌ أَوْ كَانَ عِنْدَ الْمُفْتِي وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الطَّلَاقَ بِهَذَا اللَّفْظِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ إنْ دَلَّ بِسَاطٌ عَلَى نَفْيِ الطَّلَاقِ، لَكِنْ إنْ رَفَعَتْهُ بَيِّنَةٌ يُصَدَّقُ بِيَمِينٍ عِنْدَ الْقَاضِي، وَإِنْ جَاءَ مُسْتَفْتِيًا يُصَدَّقُ بِغَيْرِ يَمِينٍ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: إنْ قَالَ لِمَنْ طَلَّقَهَا هُوَ أَوْ غَيْرُهُ قَبْلَهُ: يَا مُطَلَّقَةُ وَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ طَلَاقًا، وَإِنَّمَا قَصَدَ الْإِخْبَارَ بِمَا حَصَلَ إذَا أَكْثَرَتْ فِي مُرَاجَعَتِهِ عَلَى غَيْرِ شَيْءٍ فَقَالَ لَهَا عَلَى طَرِيقِ التَّشْبِيهِ: يَا مُطَلَّقَةُ وَادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ يَا مِثْلَ الْمُطَلَّقَةِ فِي طُولِ اللِّسَانِ وَقِلَّةِ الْأَدَبِ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، وَكَذَلِكَ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ كَالْمَيْتَةِ أَوْ الدَّمِ وَادَّعَى أَنَّهُ أَرَادَ فِي الرَّائِحَةِ وَقَالَ: أَرَدْت بِبَائِنٍ مُنْفَصِلَةً مِنِّي إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا فُرْجَةٌ، أَوْ أَنْتِ كَالدَّمِ فِي الِاسْتِقْذَارِ إذَا كَانَتْ رَائِحَتُهَا قَذِرَةً أَوْ كَرِيهَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَدِينَ فِي نَفْيِهِ إنْ دَلَّ بِسَاطٌ عَلَيْهِ أَيْ عَلَى نَفْيِهِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ يَدِينُ مَعَ قَوْلِهِمْ: إنَّ الصَّرِيحَ يَلْزَمُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَوْ هَزْلًا، لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا حَيْثُ لَا بِسَاطَ وَإِلَّا فَيُصَدَّقُ، كَمَا لَوْ كَانَتْ مُوثَقَةً وَقَالَتْ أَطْلِقْنِي فَقَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ [مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ بِالطَّلَاقِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ بِالطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُطَلَّقَةُ قَبْلَ الْبِنَاءِ) الْمُسَمَّى لَهَا صَدَاقٌ حَلَالٌ وَوَقَعَ عَقْدُهَا عَلَى الْوَجْهِ الصَّحِيحِ (يَجِبُ لَهَا نِصْفُ الصَّدَاقِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَتُشْطَرُ وَمَزِيدٌ بَعْدَ الْعَقْدِ وَهَدِيَّةٌ اُشْتُرِطَتْ لَهَا أَوْ لِوَلِيِّهَا قَبْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ بِالطَّلَاقِ قَبْلَ الْمَسِّ وَهَذَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ (إلَّا أَنْ تَعْفُوَ عَنْهُ) أَيْ عَنْ النِّصْفِ (هِيَ) أَيْ الْمُطَلَّقَةِ (إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا) رَشِيدَةً فَيَسْقُطُ عَنْ زَوْجِهَا بِعَفْوِهَا عَنْهُ، وَالدَّالُ عَلَى كَوْنِهَا رَشِيدَةً التَّعْبِيرُ بِالْعَفْوِ وَأَيْضًا قَوْلُهُ: (وَ) أَمَّا (إنْ كَانَتْ بِكْرًا) أَوْ ثَيِّبًا مَحْجُورَةً (فَذَلِكَ) أَيْ الْعَفْوُ مُفَوَّضٌ (إلَى أَبِيهَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ عَفْوُ أَبِي الْبِكْرِ عَنْ نِصْفِ الصَّدَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَ الطَّلَاقِ، ابْنُ الْقَاسِمِ وَقَبْلَ الطَّلَاقِ لِمَصْلَحَةٍ وَهَلْ وِفَاقٌ تَأْوِيلَانِ، فَمَنْ قَالَ خِلَافٌ اكْتَفَى بِظَاهِرِ اللَّفْظِ، وَمَنْ وَقَفَ حَمَلَ قَوْلَ مَالِكٍ عَلَى عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا يَتَّفِقَانِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْعَفْوِ عِنْدَ تَحَقُّقِ عَدَمِ الْمَصْلَحَةِ، وَعَلَى الْجَوَازِ عِنْدَ تَحَقُّقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 فَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُمَتِّعَ وَلَا يُجْبَرُ وَاَلَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا وَقَدْ فَرَضَ لَهَا فَلَا مُتْعَةَ لَهَا وَلَا لِلْمُخْتَلِعَةِ. وَإِنْ مَاتَ عَنْ الَّتِي لَمْ يَفْرِضْ لَهَا وَلَمْ يَبْنِ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ وَلَا صَدَاقَ لَهَا. وَلَوْ دَخَلَ بِهَا كَانَ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ إنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيَتْ بِشَيْءٍ   [الفواكه الدواني] الْمَصْلَحَةِ، وَكَذَا عِنْدَ جَهْلِ الْحَالِ عَلَى الْقَوْلِ بِالْوِفَاقِ، وَأَمَّا عَلَى الْقَوْلِ بِالْخِلَافِ فَمَالِكٌ يَقُولُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِسْقَاطِ عَدَمُ الْمَصْلَحَةِ، وَابْنُ الْقَاسِمِ يَقُولُ بِالْجَوَازِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي أَفْعَالِ الْأَبِ فِي حَقِّ ابْنَتِهِ الْبِكْرِ الْمَصْلَحَةُ حَتَّى يَظْهَرَ خِلَافُهَا (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ أَبِي الْبِكْرِ (السَّيِّدُ) لَهُ الْعَفْوُ عَنْ الزَّوْجِ (فِي أَمَتِهِ) الَّتِي زَوَّجَهَا وَطَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] يَجِبُ لِلزَّوْجَاتِ الْمُطَلَّقَاتِ وَيَرْجِعُ لَكُمْ الزَّائِدُ {إِلا أَنْ يَعْفُونَ} [البقرة: 237] أَيْ الزَّوْجَاتُ الرَّشِيدَاتُ فَيَتْرُكُونَهُ {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} [البقرة: 237] وَهُوَ عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ وَلَوْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ: الزَّوْجُ وَعَفْوُهُ أَنْ يَدْفَعَ النِّصْفَ الَّذِي لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ لِلْمَرْأَةِ فَتَأْخُذَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ، وَرَجَّحَ جَمَاعَةٌ مَا عَلَيْهِ مَالِكٌ مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِاَلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ الْوَلِيُّ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ بِالْبِنَاءِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْوَطْءُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْمَسِّ فِي الْآيَةِ لَا مُجَرَّدَ الِاخْتِلَاءِ بِهَا، وَمَفْهُومُ قَبْلَ الْبِنَاءِ أَنَّ الْمُطَلَّقَةَ بَعْدَهُ يَجِبُ لَهَا جَمِيعُ الصَّدَاقِ، لِأَنَّهُ يَتَقَرَّرُ بِوَطْءِ الزَّوْجِ الْبَالِغِ مِنْ إطَاقَةِ الزَّوْجَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقَرَّرَ بِوَطْءٍ وَإِنْ حَرُمَ كَوَطْئِهَا فِي حَيْضِهَا أَوْ دُبُرِهَا، كَمَا يَتَقَرَّرُ بِمَوْتِ أَحَدِهِمَا أَوْ مَوْتِهِمَا، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا وَهِيَ غَيْرُ مُطِيقَةٍ، وَلَوْ كَانَ مَوْتُهَا بِقَتْلِهَا نَفْسَهَا كَرَاهِيَةً فِي زَوْجِهَا، أَوْ بِقَتْلِ سَيِّدِهَا لَهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً، كَمَا يَتَقَرَّرُ بِإِقَامَةِ سَنَةٍ بَعْدَ الِاخْتِلَاءِ بِهَا حَيْثُ كَانَ الزَّوْجُ بَالِغًا وَهِيَ مُطِيقَةٌ لِتَنْزِلَ إقَامَةُ سَنَةٍ مَقَامَ الْوَطْءِ. الثَّانِي: لَوْ اخْتَلَى الزَّوْجُ بِزَوْجَتِهِ وَطَلَّقَهَا قَبْلَ إقَامَةِ سَنَةٍ وَتَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ، فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ إنْ كَانَتْ خَلْوَةَ اهْتِدَاءٍ، وَلَوْ كَانَتْ حَائِضًا أَوْ مَحْجُورَةً، وَأَمَّا خَلْوَةُ الزِّيَارَةِ فَفِيهَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِهِ هُوَ الزَّائِرُ فَيُصَدَّقُ فِي عَدَمِ الْوَطْءِ، وَكَوْنِهَا الزَّائِرَةَ لَهُ فِي بَيْتِهِ فَتُصَدَّقُ فِي الْوَطْءِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ يَنْشَطُ فِي بَيْتِهِ، وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا زَائِرًا لِلْغَيْرِ. وَاجْتَمَعَا فِي مَحَلِّ الْغَيْرِ فَالظَّاهِرُ تَصْدِيقُ الزَّوْجِ، كَمَا يُرْشِدُ إلَيْهِ التَّعْلِيلُ، بِخِلَافِ لَوْ اخْتَلَيَا فِي مَحَلٍّ لَيْسَ بِهِ أَحَدٌ وَتَنَازَعَا فِي الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ فَالظَّاهِرُ قَبُولُ قَوْلِهَا، وَلَمَّا وَقَعَ فِي الْمُتْعَةِ وَهِيَ مَا يُعْطِيهِ الْمُطَلِّقُ لِمُطَلَّقَتِهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ بَيَّنَ مُخْتَارَ إمَامِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ طَلَّقَ زَوْجَتَهُ) بَعْدَ الْبِنَاءِ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا وَانْقَضَتْ عِدَّتُهَا (فَيَنْبَغِي لَهُ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (أَنْ يُمَتِّعَ) مُطَلَّقَتَهُ وَلَوْ كِتَابِيَّةً أَوْ أَمَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ بَعْدَ الْعِدَّةِ الرَّجْعِيَّةِ أَوْ وَرَثَتَهَا كَكُلِّ مُطَلَّقَةٍ فِي نِكَاحٍ لَازِمٍ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، وَشَرْعًا مَا يُعْطِيهِ الزَّوْجُ لِزَوْجَتِهِ عِنْدَ الْفِرَاقِ تَسْلِيَةً لَهَا لِمَا يَحْصُلُ لَهَا مِنْ أَلَمِ الْفِرَاقِ، وَتَكُونُ عَلَى قَدْرِ حَالِ الزَّوْجِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا، وَتُدْفَعُ لِلرَّجْعِيَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، وَلِلْبَائِنِ إثْرَ طَلَاقِهَا لِأَنَّ الْوَحْشَةَ إنَّمَا تَحْصُلُ بَعْدَ الْبَيْنُونَةِ، وَإِنْ مَاتَتْ قَبْلَ أَنْ تُمَتَّعَ فَتُدْفَعُ لِوَرَثَتِهَا حَيْثُ مَاتَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ فِي الرَّجْعِيَّةِ، بِخِلَافِ لَوْ مَاتَ الزَّوْجُ قَبْلَ أَنْ يُمَتِّعَهَا أَوْ رَدَّهَا لِعِصْمَتِهِ قَبْلَ دَفْعِهَا لَهَا فَإِنَّهَا تَسْقُطُ وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا، وَلَمَّا كَانَ لَفْظُ يَنْبَغِي قَدْ يُرَادُ بِهِ الْوُجُوبُ قَالَ: (وَلَا يُجْبَرُ) الْمُطَلِّقُ عَلَى الْمُتْعَةِ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى نَدْبِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] وَقَالَ تَعَالَى: {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 241] وَالتَّعْبِيرُ بِالْإِحْسَانِ صَرَفَ الْحَقَّ عَنْ الْوُجُوبِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ لَا يَتَقَيَّدُ بِالْمُحْسِنِينَ وَلَا بِالْمُتَّقِينَ وَأَيْضًا الْحَقُّ قَدْ يُرَادُ بِهِ الثَّابِتُ الْمُقَابِلُ لِلْبَاطِلِ وَلَمَّا كَانَتْ لِجَبْرِ أَلَمِ الْفِرَاقِ وَغَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا لَمْ تَتَأَنَّسْ بِالزَّوْجِ حَتَّى تَتَأَلَّمَ قَالَ: (وَ) الْمُطَلَّقَةُ (الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ بِهَا) الزَّوْجُ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ فَرَضَ لَهَا) صَدَاقًا (فَلَا مُتْعَةَ لَهَا) لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ تَأَلُّمِهَا بِفِرَاقِهِ، أَوْ لِأَنَّهَا أَخَذَتْ نِصْفَ صَدَاقِهَا مَعَ بَقَاءِ سِلْعَتِهَا، وَمَفْهُومُ فَرَضَ لَهَا أَنَّ الْمَنْكُوحَةَ تَفْوِيضًا إذَا طَلُقَتْ قَبْلَ الْفَرْضِ لَهَا الْمُتْعَةُ وَهُوَ كَذَلِكَ. (وَلَا) مُتْعَةَ أَيْضًا (لِلْمُخْتَلِعَةِ) وَلَوْ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِهَا، لِأَنَّ الْغَالِبَ رِضَاهَا بِالْفِرَاقِ فَلَا تَأَلُّمَ عِنْدَهَا، وَمِثْلُهَا الْمُخَيَّرَةُ وَالْمُمَلَّكَةُ وَالْمُعْتَقَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ تَخْتَارُ الْفِرَاقَ، أَوْ الَّتِي مَلَكَتْ زَوْجَهَا أَوْ مَلَكَهَا، أَوْ الَّتِي اخْتَارَتْ فِرَاقَ زَوْجِهَا لِعَيْبِهِ وَأَوْلَى وَلَوْ اخْتَارَ فِرَاقَهَا لِعَيْبِهَا لِأَنَّهَا غَارَّةٌ، بِخِلَافِ الَّتِي اخْتَارَتْ فِرَاقَهُ لِتَزْوِيجٍ عَلَيْهَا أَوْ لِعِلْمِهَا بِوَاحِدَةٍ فَأَلْفَتْ أَكْثَرَ فَإِنَّ لَهَا الْمُتْعَةَ لِأَنَّ الطَّلَاقَ بِسَبَبِهِ وَلَمَّا كَانَ الصَّدَاقُ الَّذِي يَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ وَيَتَقَرَّرُ بِالْمَوْتِ إنَّمَا هُوَ الْمَفْرُوضُ قَالَ: (وَإِنْ مَاتَ) الزَّوْجُ (عَنْ) زَوْجَتِهِ (الَّتِي) نَكَحَهَا تَفْوِيضًا وَمَاتَ وَ (لَمْ يَفْرِضْ لَهَا) صَدَاقًا رَضِيَتْ بِهِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهَا (لَمْ يَبْنِ بِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ) لِاسْتِحْقَاقِهَا إيَّاهُ بِالْعَقْدِ وَلَوْ فَاسِدًا حَيْثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 مَعْلُومٍ. وَتُرَدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَدَاءِ الْفَرْجِ. فَإِنْ دَخَلَ بِهَا وَلَمْ يَعْلَمْ وَأَدَّى صَدَاقَهَا وَرَجَعَ بِهِ عَلَى   [الفواكه الدواني] اُخْتُلِفَ فِيهِ. (وَلَا صَدَاقَ لَهَا) كَمَا لَوْ طَلُقَتْ قَبْلَ الْبِنَاءِ لِأَنَّهُ لَا يَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ وَلَا يَتَكَمَّلُ بِالْمَوْتِ إلَّا الْمَفْرُوضُ، وَأَمَّا لَوْ فَرَضَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا أَوْ أَقَلَّ وَرَضِيَتْ بِهِ لَوَجَبَ لَهَا بِالْمَوْتِ كَالْمِيرَاثِ كَمَا يَتَشَطَّرُ بِالطَّلَاقِ، وَقَيَّدْنَا الْفَرْضَ بِالصِّحَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْفَرْضِ فِي حَالِ الْمَرَضِ الْكَائِنِ بِالزَّوْجِ فَإِنَّهُ بَاطِلٌ حَيْثُ كَانَتْ الزَّوْجَةُ وَارِثَةً بِأَنْ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً وَالزَّوْجُ حُرٌّ مُسْلِمٌ، وَفِي الذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ قَوْلَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ فَرَضَ فِي مَرَضِهِ لِوَارِثٍ، قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ حُكْمُ فَرْضِ الْمَرِيضِ لِزَوْجَتِهِ الَّتِي عَقَدَ عَلَيْهَا فِي حَالِ صِحَّتِهِ عَقْدًا صَحِيحًا حُكْمُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ، فَهُوَ تَشْبِيهٌ بَلِيغٌ لِحَذْفِ الْأَدَاةِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الذِّمِّيَّةِ وَالْأَمَةِ، فَقِيلَ: يَصِحُّ فَرْضُهُ وَيَكُونُ وَصِيَّةً مِنْ الثُّلُثِ لِأَنَّهُ لِغَيْرِ وَارِثٍ، وَقِيلَ: فَرْضُهُ بَاطِلٌ لِأَنَّهُ لَأَجْلِ الْوَطْءِ وَلَمْ يَحْصُلْ (وَ) أَمَّا (لَوْ دَخَلَ بِهَا) أَيْ الْمَنْكُوحَةِ تَفْوِيضًا وَلَمْ يُفْرَضْ لَهَا وَمَاتَ (لَكَانَ لَهَا صَدَاقُ الْمِثْلِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَطْءِ لَا بِمَوْتٍ أَوْ طَلَاقٍ. (إنْ لَمْ تَكُنْ رَضِيَتْ بِشَيْءٍ مَعْلُومٍ) فَرَضَهُ لَهَا وَلَوْ أَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا حَيْثُ كَانَتْ رَشِيدَةً، لِأَنَّهَا الَّتِي يَجُوزُ لَهَا الرِّضَا بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْجَائِزِ وَالرِّضَا بِدُونِهِ: لَلْمُرْشَدَةِ وَلِلْأَبِ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلِلْوَصِيِّ قَبْلَهُ لَا الْمُهْمَلَةِ، وَحَاصِلُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ أَنَّ الرَّشِيدَةَ الْمَنْكُوحَةَ تَفْوِيضًا يَجُوزُ لَهَا الرِّضَا بِدُونِ صَدَاقِ الْمِثْلِ وَلَوْ بَعْدَ الْبِنَاءِ، كَمَا يَجُوزُ لِأَبِي الْمَحْجُورَةِ الرِّضَا بِالْأَقَلِّ وَلَوْ بَعْدَ الْبِنَاءِ، بِخِلَافِ الْوَصِيِّ فَإِنَّهُ لَا يُجَوِّزُ لَهُ بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ لِمَحْجُورَتِهِ بَعْدَ الْبِنَاءِ بِهَا، وَلَهُ ذَلِكَ قَبْلَ دُخُولِ الزَّوْجِ بِهَا حَيْثُ كَانَ الرِّضَا بِالْأَقَلِّ مَصْلَحَةً لِلزَّوْجَةِ، وَأَمَّا الْمُهْمَلَةُ وَهِيَ الَّتِي لَا أَبَ لَهَا وَلَا وَصِيَّ وَلَا مُقَدَّمَ وَلَا يُعْلَمُ رُشْدُهَا مِنْ سَفَهِهَا وَأُخْرَى مُحَقَّقَةُ السَّفَهِ، فَلَيْسَ لَهَا الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ مِثْلِهَا، وَإِنْ رَضِيَتْ بِهِ لَا يَلْزَمُهَا وَلَهَا رَدُّهُ بَعْدَ رُشْدِهَا كَمَا لِلْحَاكِمِ رَدُّهُ قَبْلَهُ. (تَنْبِيهٌ) كَمَا يَجُوزُ لِأَبِي الْمَحْجُورَةِ الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ فِي نِكَاحِ التَّفْوِيضِ، يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا فِي نِكَاحِ التَّسْمِيَةِ، وَأَوْلَى مِنْ الْأَبِ فِي جَوَازِ الرِّضَا بِالْأَقَلِّ السَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ، وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ سِوَى الْأَبِ فِي مُجْبَرَتِهِ، وَالسَّيِّدِ فِي أَمَتِهِ الرِّضَا بِأَقَلَّ مِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ فِي نِكَاحِ التَّسْمِيَةِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ غَيْرُ الْأَبِ، السَّيِّدُ فِي النِّكَاحِ كَالْوَكِيلِ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَالْوَكِيلُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ الْمِثْلِ [عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجِبَةِ لِخِيَارِ كُلٍّ فِي صَاحِبِهِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ الْمُوجِبَةِ لِخِيَارِ كُلٍّ فِي صَاحِبِهِ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ قَبْلَ الْعَقْدِ السَّلَامَةَ مِنْهَا وَهِيَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالرِّجَالِ، وَقِسْمٌ مُخْتَصٌّ بِالنِّسَاءِ، وَقِسْمٌ مُشْتَرِكٌ بَيْنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، فَالْمُخْتَصُّ بِالرِّجَالِ مَا لَا يُمْكِنُ قِيَامُهُ إلَّا بِهِمْ وَهُوَ الْخِصَاءُ وَالْجَبُّ وَالِاعْتِرَاضُ وَالْعُنَّةُ كُلُّهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِذَكَرِهِ، وَالْمُخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ مَا يَتَعَلَّقُ بِفُرُوجِهِنَّ كَالرَّتْقِ وَالْعَفَلِ وَالْإِفْضَاءِ وَالْبَخَرِ وَالْقَرَنِ، وَالْمُشْتَرِكُ مَا يُمْكِنُ قِيَامُهَا بِالرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَتَرُدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ الْجُنُونِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَقَدَ عَلَى امْرَأَةٍ مُعْتَقِدًا سَلَامَتَهَا مِمَّا يُوجِبُ لَهُ الْخِيَارَ فِيهَا ثُمَّ تَبَيَّنَ بَعْدَ الْعَقْدِ أَنَّهَا مَجْنُونَةٌ جُنُونًا سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ فَلَهُ الْخِيَارُ فِي إبْقَائِهَا وَرَدِّهَا، إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاءٍ بِهَا كَتَلَذُّذِهِ بِهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِجُنُونِهَا فَلَا خِيَارَ لَهُ، وَإِنْ طَلَّقَهَا لَزِمَهُ نِصْفُ الصَّدَاقِ، وَلَوْ حَصَلَ مِنْهُ التَّلَذُّذُ مَعَ الْجَهْلِ بِالْخِيَارِ أَوْ بِأَنَّ التَّلَذُّذَ يَقْطَعُ خِيَارَهُ لَا يُعْذَرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: الْخِيَارُ إنْ لَمْ يَسْبِقْ الْعِلْمُ أَوْ لَمْ يَرْضَ أَوْ يَتَلَذَّذْ، وَحَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ أَيْ الْعِلْمِ أَوْ الرِّضَا إنْ اُدُّعِيَ عَلَيْهِ بِهِ بِبَرَصٍ وعذيطة وَجُنُونٍ وَجُذَامٍ إلَخْ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ كَانَ السَّالِمُ صَغِيرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْجُنُونُ مُطْبِقًا أَوْ مُنْقَطِعًا وَلَوْ فِي كُلِّ شَهْرٍ مَرَّةً لِنُفْرَةِ النُّفُوسِ مِنْ ذَلِكَ، وَعَكْسُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَذَلِكَ أَيْ فَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَرُدَّ الزَّوْجَ إذَا وَجَدَتْهُ مَجْنُونًا إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهَا بِهِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: تَمْكِينُهَا عَالِمَةً بِعَيْبِهِ رِضًا وَظَاهِرُهَا وَلَوْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ عَقَدَ مَعَ الْعِلْمِ بِهِ فَلَا رَدَّ لَهُ. (وَ) كَذَا تُرَدُّ الْمَرْأَةُ مِنْ (الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ) وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ أَيْ يُرَدُّ الزَّوْجُ بِالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ بِشَرْطِ كَوْنِهِمَا مُحَقَّقَيْنِ وَلَوْ قَلَّا، وَلَا فَرْقَ فِي الْبَرَصِ بَيْنَ أَسْوَدِهِ وَأَبْيَضِهِ وَعَلَامَتُهُ التَّفْلِيسُ بِأَنْ يَكُونَ عَلَيْهِ قِشْرٌ يُشْبِهُ الْفُلُوسَ، وَكَمَا يُرَدُّ كُلٌّ مِنْ الزَّوْجَيْنِ بِالْجُنُونِ أَوْ الْجُذَامِ أَوْ الْبَرَصِ، يُرَدُّ أَحَدُهُمَا بِالْعِذْبَطَةِ وَهِيَ التَّغَوُّطُ عِنْدَ الْجِمَاعِ وَهِيَ بِكَسْرِ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَسُكُونِ الذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ، بِخِلَافِ الرِّيحِ فَلَا رَدَّ بِهِ قَوْلًا وَاحِدًا، وَفِي الْبَوْلِ قَوْلَانِ، وَأَمَّا جُذَامُ الْأَبِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأُصُولِ فَلَا رَدَّ بِهِ وَإِنْ كَانَ عَيْبًا فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ النِّكَاحَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمُكَارَمَةِ وَالْبَيْعَ عَلَى الْمُشَاحَّةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الرَّقِيقَ يَرُدُّ فِي الْبَيْعِ بِوُجُودِهِ أَكُولًا، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ لَا تُرَدُّ بِكَثْرَةِ أَكْلِهَا، وَإِنْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ غَرِمَ لَهَا النِّصْفَ أَوْ الْجَمِيعَ، بِخِلَافِ ذَاتِ الْخِيَارِ تُرَدُّ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا شَيْءَ لَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى الرَّدِّ بِمَا ذُكِرَ مِنْ تِلْكَ الْعُيُوبِ مَا وَرَدَ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَزَوَّجَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي بَيَاضَةَ فَوَجَدَ بِكَشْحِهَا بَيَاضًا فَرَدَّهَا وَقَالَ لِأَهْلِهَا: دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ» وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَغَيْرِهِمْ مِنْ الصَّحَابَةِ رَدُّ النِّسَاءِ مِنْ هَذِهِ الْعُيُوبِ الْأَرْبَعِ أَعْنِي: الْجُنُونَ وَالْجُذَامَ وَالْبَرَصَ والعذيطة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 أَبِيهَا وَكَذَلِكَ إنْ زَوَّجَهَا أَخُوهَا وَإِنْ زَوَّجَهَا وَلِيٌّ وَلَيْسَ بِقَرِيبِ الْقَرَابَةِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَلَا يَكُونُ لَهَا إلَّا رُبُعُ دِينَارٍ.   [الفواكه الدواني] وَلَمْ يُعْرَفْ لَهُمْ مُخَالِفٌ فَكَانَ إجْمَاعًا، وَالْكَشْحُ مَا بَيْنَ الْخَاصِرَةِ إلَى الضِّلْعِ الْخَلْفِ. (تَنْبِيهٌ) الْخِيَارُ ثَابِتٌ لِأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ فِي صَاحِبِهِ بِوُجُودِ أَحَدِ هَذِهِ الْعُيُوبِ وَلَوْ وُجِدَ بِمُرِيدِ الرَّدِّ مِنْهُمَا مِثْلُهُ، لِأَنَّهُ يَتَزَايَدُ بِوَاسِطَةِ الِاجْتِمَاعِ عَادَةً لَا لِتَأْثِيرِهَا، فَالْأَجْذَمُ لَهُ رَدُّ الْجَذْمَى مَثَلًا لِمَا أَجْرَى اللَّهُ مِنْ الْعَادَةِ فِي خَلْقِهِ مِنْ كَرَاهَةِ الْمَعِيبِ، وَإِنْ كَانَ نَظِيرُ ذَلِكَ الْعَيْبِ قَائِمًا بِهِ، وَالْمُقْتَضِي لِلْخِيَارِ كَرَاهَةُ النَّفْسِ لِذِي الْعَيْبِ، فَالْأَبْرَصُ لَا يُحِبُّ الْأَبْرَصَ وَهَكَذَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْعَيْبِ الْمُخْتَصِّ بِالْمَرْأَةِ بِقَوْلِهِ: (وَ) تُرَدُّ الْمَرْأَةُ أَيْضًا مِنْ دَاءِ (الْفَرْجِ) الَّذِي لَا يَتَأَتَّى مَعَهُ الْجِمَاعُ عُرْفًا إمَّا لِتَعَذُّرِهِ أَوْ لِعَدَمِ طِيبِ النَّفْسِ مَعَهُ، وَذَلِكَ كَرَتْقِهَا وَعَفَلِهَا وَإِفْضَائِهَا وَقَرَنِهَا وَبَخَرِهَا، (فَالرَّتْقُ) هُوَ انْسِدَادُ الْمَحَلِّ إمَّا بِاللَّحْمِ أَوْ الْعَظْمِ، وَالْعَفَلُ لَحْمٌ يَبْرُزُ فِي فَرْجِ الْمَرْأَةِ يُشْبِهُ أُدْرَةَ الرَّجُلِ وَقِيلَ رَغْوَةٌ تَحْدُثُ عِنْدَ الْجِمَاعِ، وَالْإِفْضَاءُ اخْتِلَاطُ مَسْلَكِ الذَّكَرِ بِمَسْلَكِ الْبَوْلِ، وَأَحْرَى اخْتِلَاطُ مَسْلَكِ الْبَوْلِ وَالْغَائِطِ، وَالْقَرَنُ شَيْءٌ يَبْرُزُ فِي الْفَرْجِ كَقَرْنِ الشَّاةِ، وَالْبَخَرُ هُوَ نَتْنُ الْفَرْجِ، وَأَمَّا غَيْرُ هَذِهِ كَالِاسْتِحَاضَةِ وَحَرْقِ الْفَرْجِ وَنَتْنِ الْفَمِ وَالسَّوَادُ وَالْكِبَرُ وَالصِّغَرُ الْفَادِحُ وَالْعَمَى وَالثُّيُوبَةُ فَلَا رَدَّ بِهَا، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ يَظُنُّهَا بِصِفَةِ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا يَخْلُفُ الظَّنُّ كَالْقَرَعِ وَالسَّوَادِ مِنْ بَيْضٍ وَنَتْنِ الْفَمِ وَالثُّيُوبَةِ وَالْعَوَرِ وَالْمَرَضِ وَكَوْنِهَا رَشْحَاءَ أَوْ زَلَّاءَ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ شَرَطَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِغَيْرِهَا إنْ شَرَطَ السَّلَامَةَ وَلَوْ بِوَصْفِ الْوَلِيِّ عِنْدَ الْخِطْبَةِ، وَأَمَّا الْعُيُوبُ الْمُتَقَدِّمَةُ فَيَثْبُتُ بِهَا الْخِيَارُ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ مَنْ كَرِهَ صَاحِبُهُ مِنْ أَجْلِهَا السَّلَامَةَ مِنْهَا، وَقَدَّمْنَا مَا يُعْلَمُ مِنْهُ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ غَيْرِهَا مِنْ شِدَّةِ النَّفْسِ لِلْمُتَّصِفِ بِهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَتَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَى عُيُوبِ الزَّوْجِ الْمُخْتَصَّةِ بِهِ بِقَوْلِهِ: وَيُؤَجَّلُ الْمُعْتَرِضُ سَنَةً إلَخْ، وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَبِخِصَائِهِ وَجَبِّهِ وَعُنَّتِهِ وَاعْتِرَاضِهِ، فَالْخِصَاءُ قَطْعُ الذَّكَرِ أَوْ الْأُنْثَيَيْنِ فَقَطْ حَيْثُ لَمْ يُنْزِلْ، وَالْجَبُّ قَطْعُ الذَّكَرِ مَعَ الْأُنْثَيَيْنِ وَأَحْرَى لَوْ خُلِقَ بِغَيْرِهِمَا، وَالْعُنَّةُ صِغَرُ الذَّكَرِ جِدًّا، وَلَا يُرَدُّ الزَّوْجُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ نَحْوِ كِبَرِ سِنٍّ أَوْ عَمًى أَوْ عَرَجٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعَاهَاتِ الَّتِي تَكْرَهُهَا النَّفْسُ كَالْجَرَبِ وَالصُّنَانِ إلَّا بِشَرْطِ السَّلَامَةِ مِنْهَا، لِأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا اشْتَرَطَتْ سَلَامَةَ الزَّوْجِ مِنْ الْكِبَرِ أَوْ الْعَمَى أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعُيُوبِ غَيْرِ الْمُتَقَدِّمَةِ يَجِبُ أَنْ يُوَفَّى لَهَا بِشَرْطِهَا، بَلْ هِيَ أَحْرَى مِنْ وُجُوبِ الْوَفَاءِ لِلزَّوْجِ بِشَرْطِهِ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ مَحْبُوسَةٌ لِلرَّجُلِ بِخِلَافِهِ لِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِيَدِهِ، وَيَدُلُّك عَلَى هَذَا أَنَّ الْعَيْبَ الْحَادِثَ بَعْدَ الْعَقْدِ أَوْ الدُّخُولِ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ وَحَرَّرَهُ. الثَّانِي: عُلِمَ قَرَّرَنَا أَنَّ مَحَلَّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ بِالشَّرْطِ، أَنْ يَكُونَ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ، وَأَنْ لَا يَحْصُلَ مِمَّنْ يُرِيدُ الرَّدَّ عِلْمٌ بِهِ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَلَا فِعْلٌ بَعْدَ الْعِلْمِ يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا بِهِ كَتَلَذُّذٍ أَوْ طُولِ إقَامَةٍ هِيَ مَظِنَّةٌ لِلْعِلْمِ بِهِ وَإِلَّا سَقَطَ الْخِيَارُ، إلَّا الْمَرْأَةَ تَجِدُ الرَّجُلَ مُعْتَرِضًا وَتُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا رَاجِيَةً زَوَالَ عُذْرِهِ فَلَمْ يَزُلْ عُذْرُهُ فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا، وَتُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهَا أَنَّهَا إنَّمَا مَكَّنَتْهُ رَاجِيَةً زَوَالَ عُذْرِهِ، بِخِلَافِ زَوْجَةِ نَحْوِ الْخَصِيِّ وَالْمَجْبُوبِ تُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِعَيْبِهِ فَلَا يُقْبَلُ لَهَا كَلَامٌ بَعْدَ ذَلِكَ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ إمْكَانُ زَوَالِ الِاعْتِرَاضِ مَعَ وُجُودِ آلَةِ الْوَطْءِ، بِخِلَافِ زَوْجَةِ الْخَصِيِّ أَوْ الْمَجْبُوبِ تُمَكِّنُهُ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِعَيْبِهِ فَلَا يُقْبَلُ اعْتِذَارُهَا لِاسْتِحَالَةِ زَوَالِ نَحْوِ الْخِصَاءِ بِخِلَافِ الِاعْتِرَاضِ. الثَّالِثُ: إذَا تَنَازَعَا فِي الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الْعَقْدِ فَإِنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْعِلْمَ يَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ عِلْمِهِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ فَإِنْ حَلَفَ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ، وَإِنْ نَكَلَ حَلَفَ الْآخَرُ وَسَقَطَ الْخِيَارُ لِصَاحِبِهِ. الرَّابِعُ: بَقِيَ قِسْمٌ يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ لِلزَّوْجَةِ دُونَ الزَّوْجِ فِي الزَّوْجَةِ وَهُوَ الْجُذَامُ أَوْ الْبَرَصُ أَوْ الْجُنُونُ الْحَاصِلُ بِالرَّجُلِ بَعْدَ الْعَقْدِ وَلَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، فَيَجِبُ لِلْمَرْأَةِ الْخِيَارُ فِي الزَّوْجِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا فَقَطْ الرَّدُّ بِالْجُذَامِ الْبَيِّنِ وَالْبَرَصِ الْمُضِرِّ الْحَادِثَيْنِ بَعْدَهُ وَإِنْ شَكَّ فِي ذَلِكَ فَالْأَصْلُ السَّلَامَةُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ قُدْرَةُ الرَّجُلِ عَلَى الْفِرَاقِ دُونَ الْمَرْأَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا تَسْتَحِقُّهُ الْمَرْأَةُ بَعْدَ اخْتِيَارِهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ دَخَلَ) الزَّوْجُ الْبَالِغُ (بِهَا) أَيْ بِزَوْجَتِهِ الْمُطِيقَةِ ذَاتِ الْعَيْبِ الَّذِي تُرَدُّ بِهِ بِغَيْرِ شَرْطٍ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَعْلَمْ) بِعَيْبِهَا إلَّا بَعْدَ دُخُولِهِ بِهَا وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ بَعْدَ عِلْمِهِ بِعَيْبِهَا مَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بَلْ كَفَّ عَنْهَا وَطَلَّقَهَا. (أَدَّى صَدَاقَهَا) أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهَا جَمِيعَ مَا سَمَّاهُ لَهَا لِأَنَّهَا اسْتَحَقَّتْهُ بِالْوَطْءِ، وَيُصَدَّقُ الزَّوْجُ فِي عَدَمِ الْعِلْمِ بِالْعَيْبِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ لَهَا الصَّدَاقَ بِالدُّخُولِ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عِنِّينًا أَوْ مَجْنُونًا وَهُوَ طَرِيقَةُ ابْنِ الْحَاجِبِ قَائِلًا: لِأَنَّ الَّذِي عَقَدَ لِأَجْلِهِ قَدْ حَصَلَ، خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ حَيْثُ قَصَرَ الْكَلَامَ عَلَى مَنْ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْوَطْءُ الْكَامِلُ كَالْأَجْذَمِ لَا مَنْ ذَكَرُهُ صَغِيرٌ جِدًّا أَوْ لَا ذَكَرَ لَهُ كَالْمَجْبُوبِ. (وَ) إذَا أَدَّى الزَّوْجُ الصَّدَاقَ لَهَا (رَجَعَ بِهِ) كُلِّهِ (عَلَى أَبِيهَا وَكَذَلِكَ إنْ زَوَّجَهَا أَخُوهَا) يَرْجِعُ الزَّوْجُ عَلَيْهَا بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ الَّذِي أَدَّاهُ لَهَا، وَكُلُّ مَنْ غَرِمَ مِنْ الْأَبِ أَوْ الْأَخِ الصَّدَاقَ لَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَتَفُوزُ بِمَا قَبَضَهُ لِأَنَّهَا لَمْ تَحْضُرْ الْعَقْدَ، وَالْغَارِمُ هُوَ الْوَلِيُّ الَّذِي لَمْ يَخَفْ عَلَيْهِ أَمْرُهَا، وَمَفْهُومُ دَخَلَ أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وَيُؤَخَّرُ الْمُعْتَرِضُ سَنَةً فَإِنْ وَطِئَ وَإِلَّا فُرِّقَ بَيْنَهُمَا إنْ شَاءَتْ. وَالْمَفْقُودُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلُ أَرْبَعِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُ ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] السَّالِمُ بِعَيْبِ الْآخَرِ قَبْلَ الدُّخُولِ وَفَارَقَ فَإِنَّهُ لَا شَيْءَ لِلزَّوْجَةِ مِنْ الصَّدَاقِ، لِأَنَّ الْعَيْبَ إنْ كَانَ بِالزَّوْجَةِ فَهِيَ غَارَةٌ، وَإِنْ كَانَ فِي بِالزَّوْجِ فَالْفِرَاقُ جَاءَ مِنْ قِبَلِهَا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَيْبُ يُوجِبُ الرَّدَّ مُطْلَقًا أَوْ بِمُقْتَضَى الشَّرْطِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَعَ الرَّدِّ قَبْلَ الْبِنَاءِ فَلَا صَدَاقَ وَبَعْدَهُ فَمَعَ عَيْبِهِ الْمُسَمَّى، وَمَعَهَا رَجَعَ بِجَمِيعِهِ عَلَى وَلِيٍّ لَمْ يَغِبْ كَابْنٍ وَأَخٍ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا، وَمَا ذَكَرَهُ خَلِيلٌ مِنْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْمَرْأَةِ مَعَ الرَّدِّ قَبْلَ الْبِنَاءِ ظَاهِرُهُ كَانَ الْعَيْبُ بِهَا أَوْ بِهِ كَانَ الرَّدُّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ أَمْ بِغَيْرِهِ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ مَا مُحَصَّلُهُ: هَذَا إنْ كَانَ الْعَيْبُ بِالزَّوْجِ لِأَنَّهَا الَّتِي اخْتَارَتْ مُفَارَقَتَهُ، وَكَذَا إنْ كَانَ بِالزَّوْجَةِ وَرَدَّهَا بِغَيْرِ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَأَمَّا لَوْ رَدَّهَا بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لَلَزِمَهُ النِّصْفُ لَهَا، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ الرَّدَّ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ يَقْتَضِي الرِّضَا بِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَلَكِنْ تَقَدَّمَ لَنَا مَا يَقْتَضِي أَنَّ الرَّدَّ هُنَا إنَّمَا يَكُونُ بِلَفْظِ الطَّلَاقِ لِأَنَّهُ نِكَاحٌ صَحِيحٌ، فَلَمْ يَحْصُلْ فِيهِ الرَّدُّ إلَّا بِالطَّلَاقِ فَرَاجِعْ مَا قَدَّمْنَاهُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْوَلِيَّ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا إذَا غَرِمَ جَمِيعَ الصَّدَاقِ لِلزَّوْجِ لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا بِشَيْءٍ مَحَلُّهُ إذَا لَمْ تَكُنْ حَاضِرَةً بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا لَوْ حَضَرَتْ مَجْلِسَ الْعَقْدِ فَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَعَلَيْهِ وَعَلَيْهَا إنْ زَوَّجَهَا بِحُضُورِهَا كَاتِمَيْنِ، ثُمَّ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا إنْ أَخَذَهُ مِنْهُ لَا الْعَكْسُ، وَلَمَّا مَرَّ حُكْمُ مَا إذَا زَوَّجَهَا قَرِيبُهَا الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا، شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَا إذَا زَوَّجَهَا وَلِيُّهَا الْبَعِيدُ الَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ زَوَّجَهَا) أَيْ ذَاتَ الْعَيْبِ (وَلِيٌّ لَيْسَ بِقَرِيبِ الْقَرَابَةِ) كَابْنِ الْعَمِّ وَنَحْوِهِ مِمَّنْ يَخْفَى عَلَيْهِ أَمْرُهَا وَدَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ غَيْرَ عَالِمٍ بِعَيْبِهَا ثُمَّ فَارَقَهَا (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَخَذَتْهُ الزَّوْجَةُ مِنْ الصَّدَاقِ (وَ) إنَّمَا يَرْجِعُ عَلَى الزَّوْجَةِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ بِحَيْثُ (لَا يَكُونُ لَهَا) مِنْهُ (إلَّا رُبُعُ دِينَارٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَرَجَعَ عَلَيْهَا فِي كَابْنِ الْعَمِّ إلَى رُبُعِ دِينَارٍ، فَإِنْ عَلِمَ بِأَمْرِهَا فَكَقَرِيبِ الْقَرَابَةِ فِي التَّفْصِيلِ السَّابِقِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ إذَا رَجَعَ عَلَى الْوَلِيِّ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ مِنْ غَيْرِ تَرْكِ رُبُعِ دِينَارٍ، وَإِذَا رَجَعَ عَلَيْهَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتْرُكَ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ لَوْ رَجَعَ عَلَيْهَا بِجَمِيعِهِ لَزِمَ عُرُوُّ الْبُضْعِ عَنْ الصَّدَاقِ وَهُوَ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ رُبُعَ الدِّينَارِ حَقُّ اللَّهِ. وَثَانِيهِمَا إذَا رَجَعَ عَلَى الْوَلِيِّ تَفُوزُ هِيَ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ فَلَمْ يَعْرُ بُضْعُهَا عَنْ صَدَاقٍ، وَأَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْعِلْمِ فَيَرْجِعُ عَلَيْهِ وَعَدَمِهِ فَلَا يَرْجِعُ عَلَيْهِ، مَنْ أَكْرَى مَطْمُورَةً يُخَزِّنُ فِيهَا الْحَبَّ مَثَلًا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ مَا يُوضَعُ فِيهَا يُسَوَّسُ فَسَاسَ جَمِيعُ مَا وَضَعَهُ الْمُكْتَرِي يَرْجِعُ عَلَيْهِ، كَمَا يَرْجِعُ عَلَى الْوَلِيِّ الْعَالِمِ بِعَيْبِ الْمَنْكُوحَةِ، وَبِذَلِكَ حَكَمَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَأَمَّا لَوْ بَاعَ الْمَطْمُورَةَ لَمَا رَجَعَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ، وَمِثْلُ مَا حَكَمَ بِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ نَوَازِلِ الشَّعْبِيِّ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ الْخَوْلَانِيِّ فِيمَا إذَا بَاعَ أَوْ أَكْرَى خَابِيَةً دَلَّسَ فِيهَا بِالْكَسْرِ وَعَلِمَ أَنَّ الْمُكْتَرِيَ يَجْعَلُ فِيهَا زَيْتًا جَعَلَهُ فِيهَا فَانْهَرَقَ مِنْ كَسْرِهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ فِي الْكِرَاءِ لَا فِي الْبَيْعِ، مِنْ التَّتَّائِيِّ بِتَصَرُّفٍ لِلْإِيضَاحِ: وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكِرَاءِ وَالْبَيْعِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ مُقَصِّرٌ بِعَدَمِ الْفَحْصِ عَنْ حَالِهَا بِخِلَافِ الْكِرَاءِ لَا تَقْصِيرَ عِنْدَ الْمُكْتَرِي، لِأَنَّ الْمُكْرِيَ أَكْرَاهَا لِمَنْ لَهُ انْتِفَاعٌ بِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ فَالْمُكْرِي غَارٌّ، وَلَا يُقَالُ: كَذَلِكَ الْبَائِعُ، لِأَنَّا نَقُولُ: يُمْكِنُ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ اشْتَرَاهَا لَا لِيَضَعَ فِيهَا شَيْئًا بَلْ لِيَتَمَلَّكَ مَحَلَّهَا، وَحَرِّرْهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْوَلِيَّ الْبَعِيدَ إذَا عَلِمَ بِعَيْبِهَا يَكُونُ كَالْقَرِيبِ جِدًّا، فَإِنْ تَنَازَعَ الزَّوْجُ مَعَ الْبَعِيدِ فِي الْعِلْمِ وَعَدَمِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْوَلِيِّ الْبَعِيدِ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ لَا يَعْلَمُ عَيْبَهَا، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكَلَ غَرِمَ لِلزَّوْجِ جَمِيعَ الصَّدَاقِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ فِي دَعْوَى الِاتِّهَامِ وَبَعْدَ حَلِفِهِ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ، وَإِذَا بَرِئَ الْوَلِيُّ مِنْ الصَّدَاقِ إمَّا بِحَلِفِهِ أَوْ بِنُكُولِ الزَّوْجِ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ فَإِنَّهُ يُضَيِّعُ الصَّدَاقَ عَلَى الزَّوْجِ إذْ لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ عَلَى الْمَرْأَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، كَمَا لَا يَرْجِعُ عَلَيْهَا إذَا لَا يَبْرَأُ الْوَلِيُّ وَلَكِنْ أَعَسَرَ. الثَّانِي: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الرَّدَّ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا شَيْءَ فِيهِ لِلْمَرْأَةِ، سَوَاءٌ كَانَ بِعَيْبٍ يُوجِبُ الْخِيَارَ مُطْلَقًا أَوْ بِالشَّرْطِ وَاضِحٌ، وَعَلَيْهِ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، وَأَمَّا بَعْدَ الْبِنَاءِ فَيَجِبُ قَصْرُ الْحُكْمِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ عَلَى الرَّدِّ بِمَا يُوجِبُ الْخِيَارَ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَأَمَّا مَا لَا يُوجِبُهُ إلَّا بِشَرْطٍ كَعَدَمِ الْبَيَاضِ وَنَحْوِهِ مِمَّا لَا خِيَارَ فِيهِ إلَّا بِالشَّرْطِ، فَإِنَّهُ إذَا دَخَلَ الزَّوْجُ وَلَمْ يَجِدْ مَا شَرَطَهُ فَإِنَّهَا تُرَدُّ إلَى صَدَاقِ مِثْلِهَا وَيَسْقُطُ عَنْهُ مَا زَادَهُ لِأَجْلِ مَا اشْتَرَطَهُ، أَيْ مَا لَمْ يَكُنْ صَدَاقُ مِثْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ الْمُسَمَّى، فَيَدْفَعُ لَهَا الْمُسَمَّى وَلَا يَرْجِعُ بِجَمِيعِ الصَّدَاقِ، فَلَيْسَ كَالْعَيْبِ الَّذِي يَثْبُتُ بِهِ الْخِيَارُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ مَا يَخْتَصُّ بِالرَّجُلِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤَجَّلُ الْمُعْتَرِضُ سَنَةً) بَعْدَ الصِّحَّةِ مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ وَإِنْ مَرِضَ وَالْعَبْدُ نِصْفَهَا. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّوْجَ إذَا وَجَدَتْهُ الْمَرْأَةُ مُعْتَرِضًا وَهُوَ الْمُسَمَّى عِنْدَ الْعَامَّةِ مَرْبُوطًا أَيْ لَهُ آلَةٌ لَكِنْ لَا تَنْتَشِرُ عِنْدَ الْوَطْءِ إمَّا بِسِحْرٍ أَوْ مَرَضٍ، فَإِنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ أَجَلٌ يَتَحَيَّلُ فِيهِ عَلَى إزَالَةِ اعْتِرَاضِهِ وَقَدْرُهُ سَنَةً إنْ كَانَ الزَّوْجُ حُرًّا، وَنِصْفُهَا إنْ كَانَ عَبْدًا، وَابْتِدَاءُ تِلْكَ الْمُدَّةِ مِنْ يَوْمِ قِيَامِ الزَّوْجَةِ إنْ كَانَ الزَّوْجُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] صَحِيحًا، فَإِنْ قَامَتْ وَهُوَ مَرِيضٌ فَابْتِدَاؤُهَا بَعْدَ الصِّحَّةِ وَالْحُكْمِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى طَرَيَانِ الْمَرَضِ بَعْدَ ذَلِكَ. (فَإِنْ وَطِئَ) الزَّوْجُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى ذَلِكَ أَوْ لَمْ تُصَدِّقْهُ وَلَكِنْ حَلَفَ عَلَى الْوَطْءِ فِي السَّنَةِ سَقَطَ خِيَارُهَا بِمَنْزِلَةِ مَا إذَا حَصَلَ لَهُ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ وَطْئِهَا (وَإِلَّا) بِأَنْ انْقَضَتْ السَّنَةُ لِلْحُرِّ وَالنِّصْفُ لِلْعَبْدِ وَلَمْ يَطَأْ مَعَ تَصْدِيقِهَا لَهُ، أَوْ لَمْ يَحْلِفْ عَلَى الْوَطْءِ مَعَ إنْكَارِهَا. (فُرِّقَ بَيْنَهَا) بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ. (إنْ شَاءَتْ) الزَّوْجَةُ الْفِرَاقَ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الطَّلَاقِ فَهَلْ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ أَوْ يَأْمُرُهَا بِالطَّلَاقِ ثُمَّ يَحْكُمُ بِهِ؟ قَوْلَانِ: فَلَوْ رَضِيَتْ بَعْدَ الْأَجَلِ بِالْإِقَامَةِ مُدَّةً مَعَ بَقَاءِ الِاعْتِرَاضِ ثُمَّ أَرَادَتْ الْقِيَامَ فَلَهَا ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ ضَرْبِ أَجَلٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا فِرَاقُهُ بَعْدَ الرِّضَا بِلَا أَجَلٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: رَضِيت بِالْبَقَاءِ مَعَهُ مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِمُدَّةٍ، أَوْ قَالَتْ: أَقْعُدُ مَعَهُ الْأَبَدَ، فَلَيْسَ لَهَا فِرَاقُهُ بَعْدَ ذَلِكَ، وَيَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّ زَوْجَةَ الْمَجْذُومِ لَهَا الْفِرَاقُ وَإِنْ رَضِيَتْ بِالْإِقَامَةِ مَعَهُ طُولَ عُمْرِهَا أَوْ أَطْلَقَتْ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ شِدَّةُ الضَّرَرِ اللَّاحِقِ لَهَا دُونَ زَوْجَةِ الْمُعْتَرِضِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الْمُعْتَرِضِ الَّذِي لَمْ يَتَقَدَّمْ مِنْهُ وَطْءٌ قَبْلَ اعْتِرَاضِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلَا فَرْقَ حِينَئِذٍ بَيْنَ كَوْنِ اعْتِرَاضِهِ سَابِقًا عَلَى الْعَقْدِ أَوْ مُتَأَخِّرًا عَنْهُ، وَأَمَّا لَوْ وَطِئَهَا سَلِيمًا ثُمَّ حَصَلَ لَهُ الِاعْتِرَاضُ بَعْدَ وَطْئِهِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّهَا مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِهَا، كَحُصُولِ أُدْرَةٍ لَهُ مَانِعَةٍ لَهُ مِنْ الْوَطْءِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْقَيْلِيطِ، أَوْ حَصَلَ لَهُ هَرَمٌ بَعْدَ الْوَطْءِ فَلَا خِيَارَ لِلْمَرْأَةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا الزِّنَا فَلَهَا التَّطْلِيقُ، لِأَنَّ لِلْمَرْأَةِ التَّطْلِيقَ بِالضَّرَرِ الثَّابِتِ وَلَوْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ. الثَّانِي: إذَا تَنَازَعَ الْمُعْتَرِضُ مَعَ الزَّوْجَةِ فِي الْوَطْءِ وَعَدَمِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ فَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصَدَّقُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصُدِّقَ إنْ ادَّعَى فِيهَا الْوَطْءَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ وَلَهَا التَّطْلِيقُ، وَإِنْ نَكَلَتْ لَزِمَهَا الْبَقَاءُ، بِخِلَافِ لَوْ ادَّعَى بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْوَطْءَ بَعْدَهُ فَلَا يُصَدَّقُ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ التَّنَازُعُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَبْطُلُ اخْتِيَارُهَا، فَإِنْ نَكَلَ بَقِيَتْ زَوْجَةً إلَى الْأَجَلِ، وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تَحْلِفَ لِأَنَّ بَقِيَّةَ الْأَجَلِ مِنْ حَقِّهِ، فَإِنْ حَلَفَ أَوْ وَطِئَ عِنْدَهُ بَطَلَ خِيَارُهَا، وَإِنْ تَمَادَى عَلَى إنْكَارِهِ حَلَفَتْ وَإِلَّا بَقِيَتْ زَوْجَةً فَالصُّوَرُ ثَلَاثٌ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى صَدَاقِهَا، وَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَسْتَحِقُّهُ بِالْوَطْءِ أَوْ بِانْقِضَاءِ السَّنَةِ لِأَنَّ إقَامَةَ السَّنَةِ عِنْدَنَا كَالْوَطْءِ. الرَّابِعُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى النَّفَقَةِ لَزَوْجَةِ الْمُعْتَرِضِ، وَقَدْ اضْطَرَبَ فِيهَا كَلَامُ الشُّيُوخِ، فَاسْتَظْهَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ عَدَمَ النَّفَقَةِ لَهَا، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ خِلَافُهُ وَأَنَّ لَهَا النَّفَقَةَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ مَا مُحَصَّلُهُ: أَنَّ كُلًّا مِنْ امْرَأَةِ الْمَجْنُونِ وَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمُعْتَرِضِ مُتَسَاوِيَاتٌ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِالدُّخُولِ أَوْ بِالتَّمْكِينِ مِنْهُ، وَإِذَا مَنَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ نَفْسَهَا مِنْ الزَّوْجِ بَعْدَ وُجُوبِ النَّفَقَةِ بِمَا ذَكَرْنَا فَإِنَّهَا تَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا امْرَأَةَ الْمَجْنُونِ فَلَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهَا وَلَوْ مَنَعَتْ نَفْسَهَا مِنْهُ لِمَا يَلْحَقُهَا مِنْ الضَّرَرِ، وَمِثْلُهَا زَوْجَةُ الْمُعْسِرِ بِالصَّدَاقِ إذَا مَنَعَتْ نَفْسَهَا حَتَّى يُؤَدِّيَ صَدَاقَهَا لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَالٌ فَكَتَمَهُ. الْخَامِسُ: مَفْهُومُ الْمُعْتَرِضِ يَقْتَضِي أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ ذَوِي الْعُيُوبِ لَا يُؤَجَّلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ كُلُّ مَنْ يُمْكِنُ زَوَالُ عَيْبِهِ كَالْأَجْذَمِ وَالْأَبْرَصِ وَالْمَجْنُونِ يُؤَجَّلُ سَنَةً عِنْدَ رَجَاءِ بُرْئِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُجِّلَا فِيهِ وَفِي بَرَصٍ وَجُذَامٍ رُجِيَ بُرْؤُهُمَا سَنَةً، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وَلَا بَيْنَ الْعَيْبِ السَّابِقِ عَلَى الْعَقْدِ وَالْحَادِثِ بَعْدَهُ، لَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ السَّابِقَ عَلَى الْعَقْدِ فِيهِ الْخِيَارُ لِكُلٍّ مِنْهُمَا، وَالْمُتَأَخِّرَ عَلَى الْعَقْدِ إنَّمَا يَجِبُ بِهِ الْخِيَارُ لِلزَّوْجَةِ فَقَطْ، وَقَيَّدْنَا بِمَنْ يُمْكِنُ زَوَالُ عُذْرِهِ احْتِرَازًا عَنْ الْخَصِيِّ وَالْعِنِّينِ فَلَا فَائِدَةَ مِنْ تَأْجِيلِهِمَا. السَّادِسُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ إذَا طَلَبَتْ التَّأْخِيرَ لِمُدَاوَاةِ عَيْبِهَا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهَا إذَا كَانَ يُمْكِنُ زَوَالُ عَيْبِهَا بِمُعَالَجَةٍ فَإِنَّهَا تُؤَجَّلُ لَهُ مُدَّةً بِاجْتِهَادِ أَهْلِ الْخِبْرَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُجِّلَتْ الرَّتْقَاءُ لِلدَّوَاءِ بِالِاجْتِهَادِ وَلَا تُجْبَرُ عَلَيْهِ إنْ كَانَ خِلْقَةً. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَلَا مَفْهُومَ لِلرَّتْقَاءِ بَلْ ذَاتُ الْقَرَنِ وَالْعَفَلِ مِمَّا يُمْكِنُ مُدَاوَاتُهُ، كَذَلِكَ وَيَلْزَمُ الرَّجُلَ الصَّبْرُ حَيْثُ لَمْ يَلْزَمْ عَلَى مُدَاوَاتِهَا حُصُولُ عَيْبٍ فِي فَرْجِهَا، كَمَا أَنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى ذَلِكَ إذَا طَلَبَهُ الزَّوْجُ إذَا كَانَ لَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي الْمُدَاوَاةِ، فَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ لِلْمُتَأَمِّلِ. السَّابِعُ: لَمْ يَذْكُرْ مَا إذَا ادَّعَى أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ عَيْبًا بِصَاحِبِهِ وَالْآخَرُ يُنْكِرُ وَمُحَصَّلُهُ: أَنَّهُ إنْ كَانَ يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى مَحَلِّهِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ مِنْ الرِّجَالِ كَانَ بِرَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ، كَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ حَيْثُ كَانَ فِي ظَهْرِ أَوْ بَطْنِ الرَّجُلِ أَوْ فِي كَفِّ أَوْ وَجْهِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ مَا ذُكِرَ فَإِنْ كَانَ فِي دُبُرٍ أَوْ فَرْجٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُ صَاحِبِهِ بِيَمِينِهِ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، إلَّا إنْ كَانَ يُمْكِنُ عِلْمُهُ بِغَيْرِ نَظَرٍ كَالْخِصَاءِ وَالْجَبِّ فَإِنَّهُ يُجَسُّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجُسَّ عَلَى ثَوْبِ مُنْكِرِ الْجَبِّ وَنَحْوِهِ، وَصُدِّقَ فِي الِاعْتِرَاضِ كَالْمَرْأَةِ فِي دَائِهَا أَيْ فِي نَفْيِ دَائِهَا، وَلَا يَنْظُرُهَا النِّسَاءُ إلَّا بِرِضَاهَا، وَلَا بُدَّ مِنْ حَلِفِهَا عَلَى مَا ادَّعَتْهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَيْبُهَا دَاخِلَ الثِّيَابِ وَفِي غَيْرِ الْفَرْجِ وَالدُّبُرِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ بَيِّنَةٍ مِنْ النِّسَاءِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ عُيُوبَ النِّسَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالرِّجَالِ كَالْمُتَعَلِّقِ بِالْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، وَمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالنِّسَاءِ وَهُوَ مَا كَانَ بِنَحْوِ بَطْنِهَا أَوْ ظَهْرِهَا، وَمَا يُرْجَعُ فِيهِ لِقَوْلِهِنَّ بَعْدَ حَلِفِهِنَّ وَهُوَ دَاءُ الْفَرْجِ، وَقَوْلُنَا: إلَّا بِرِضَاهَا نَصَّ عَلَيْهِ شُرَّاحُ خَلِيلٍ عِنْدَ قَوْلِهِ: فَإِنْ أَتَى بِامْرَأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ لَهُ قُبِلَتَا، وَلَنَا فِيهِ بَحْثٌ مُحَصَّلُهُ: كَيْفَ يُبَاحُ النَّظَرُ إلَى الْعَوْرَةِ بِرِضَا صَاحِبِهَا مَعَ تَصْدِيقِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 وَيَنْتَهِي الْكَشْفُ عَنْهُ ثُمَّ تَعْتَدُّ كَعِدَّةِ الْمَيِّتِ ثُمَّ تَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ. وَلَا يُورَثُ مَالُهُ حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّمَانِ مَا لَا يَعِيشُ   [الفواكه الدواني] فِي نَفْيِ الْعَيْبِ، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ جَوَازُ نَظَرِنَا إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ إذَا رَضِيَ عِنْدَ دَعْوَاهَا أَوْ بِدُبُرِهِ بَرَصًا أَوْ جُذَامًا، بَلْ كَانَ الرَّجُلُ أَوْلَى بِالْجَوَازِ مِنْ الْمَرْأَةِ، وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لِذَلِكَ فَحَرِّرْهُ [أَحْكَامِ الزَّوْجِ الْمَفْقُودِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى عُيُوبِ الزَّوْجَيْنِ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى أَحْكَامِ الزَّوْجِ الْمَفْقُودِ فَقَالَ: (وَالْمَفْقُودُ) وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَنْ انْقَطَعَ خَبَرُهُ مُمْكِنُ الْكَشْفِ عَنْهُ، فَالْأَسِيرُ وَنَحْوُهُ مِمَّا لَا يُمْكِنُ الْكَشْفُ عَنْهُ لَا يُسَمَّى مَفْقُودًا فِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَفْقُودُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، كَمَا يُعْلَمُ مِنْ إمْكَانِ الْكَشْفِ عَنْهُ وَلَمْ يُعْلَمْ لَهُ مَوْضِعٌ وَكَانَ فَقْدُهُ فِي غَيْرِ مَجَاعَةٍ وَلَا وَبَاءٍ، فَإِنْ لَمْ تَرْضَ زَوْجَتُهُ بِالصَّبْرِ إلَى قُدُومِهِ فَلَهَا أَنْ تَرْفَعَ أَمْرَهَا إلَى الْخَلِيفَةِ أَوْ الْقَاضِي أَوْ مَنْ يَقُومُ مَقَامَهُ فِي عَدَمِهِ، أَوْ وَالِي الْمَاءِ وَهُوَ الَّذِي يُجْبِي الزَّكَاةَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ وَاحِدًا مِنْ هَؤُلَاءِ رَفَعَتْ لِصَالِحِي جِيرَانِهَا لِيَفْحَصُوا عَنْ حَالِ زَوْجِهَا، لَكِنْ بَعْدَ أَنْ تُثْبِتَ الزَّوْجِيَّةَ وَغَيْبَةَ الزَّوْجِ وَالْبَقَاءَ فِي الْعِصْمَةِ إلَى الْآنَ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ عِنْدَهُ كَتَبَ كِتَابًا مُشْتَمِلًا عَلَى اسْمِهِ وَنَسَبِهِ وَصِفَتِهِ إلَى حَاكِمِ الْبَلَدِ الَّذِي يَظُنُّ وُجُودَهُ فِيهِ، وَإِنْ لَمْ يَظُنَّ وُجُودَهُ فِي بَلَدٍ بِعَيْنِهِ كَتَبَ إلَى الْبَلَدِ الْجَامِعِ، وَاسْتَصْوَبَ ابْنُ نَاجِي أَنَّ أُجْرَةَ الرَّسُولِ الَّذِي يَفْحَصُ عَنْ الْمَفْقُودِ عَلَى الزَّوْجَةِ، فَإِذَا انْتَهَى الْكَشْفُ وَرَجَعَ إلَيْهِ الرَّسُولُ وَأَخْبَرَهُ بِعَدَمِ وُقُوفِهِ عَلَى خَبَرِهِ فَالْوَاجِبُ أَنْ (يُضْرَبَ لَهُ أَجَلٌ) قَدْرُهُ (أَرْبَعُ سِنِينَ) لِلْحُرِّ وَسَنَتَانِ لِلْعَبْدِ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّ هَذَا التَّحْدِيدَ مَحْضُ تَعَبُّدٍ لَفِعْلِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ، وَمَحَلُّ التَّأْجِيلِ الْمَذْكُورِ إنْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ مَالٌ تُنْفِقُ مِنْهُ الْمَرْأَةُ عَلَى نَفْسِهَا فِي الْأَجَلِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ بِالْإِعْسَارِ مِنْ غَيْرِ تَأْجِيلٍ لَكِنْ بَعْدَ إثْبَاتِ مَا تَقَدَّمَ، وَتُزِيدُ إثْبَاتَ الْعَدَمِ وَاسْتِحْقَاقَهَا لِلنَّفَقَةِ وَتَحْلِفُ مَعَ الْبَيِّنَةِ الشَّاهِدَةِ لَهَا أَنَّهَا لَمْ تَقْبِضْ مِنْهُ نَفَقَةَ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا أَسْقَطَتْهَا عَنْهُ، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُمَكِّنُهَا الْحَاكِمُ مِنْ تَطْلِيقِ نَفْسِهَا بِأَنْ تُوقِعَهُ وَيَحْكُمَ بِهِ أَوْ يُوقِعَهُ الْحَاكِمُ، وَمِثْلُ الْمَفْقُودِ مَنْ عُلِمَ مَوْضِعُهُ وَشَكَتْ زَوْجَتُهُ مِنْ عَدَمِ النَّفَقَةِ يُرْسِلُ إلَيْهِ الْقَاضِي: وَإِمَّا أَنْ تَحْضُرَ أَوْ تُرْسِلَ النَّفَقَةَ أَوْ تُطَلِّقَهَا، وَإِلَّا طَلَّقَهَا الْحَاكِمُ، بَلْ لَوْ كَانَ حَاضِرًا وَعَدِمَتْ النَّفَقَةُ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا الْفَسْخُ إنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ لَا مَاضِيَةٍ، ثُمَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ تَعْتَدُّ عِدَّةَ طَلَاقٍ بِثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ لِلْحُرَّةِ وَقُرْأَيْنِ لِلْأَمَةِ فِيمَنْ تَحِيضُ، وَإِلَّا فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ لِلْحُرَّةِ وَالزَّوْجَةِ الْأَمَةِ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْأَشْهُرِ. ثُمَّ بَيَّنَ ابْتِدَاءَ الْأَجَلِ بِقَوْلِهِ: (مِنْ يَوْمِ تَرْفَعُ) زَوْجَتُهُ (ذَلِكَ) أَيْ أَمْرَ زَوْجِهَا وَيُرْسِلُ الْحَاكِمُ فِي النَّوَاحِي لِلْكَشْفِ عَنْهُ. (وَيَنْتَهِي الْكَشْفُ عَنْهُ) فَحِينَئِذٍ يَضْرِبُ لَهُ الْأَجَلَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَضْرِبُ لَهُ الْأَجَلَ بِمُجَرَّدِ الرَّفْعِ بَلْ بَعْدَ تَمَامِ الْكَشْفِ، وَإِلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِزَوْجَةِ الْمَفْقُودِ الرَّفْعُ لِلْقَاضِي وَالْوَلِيِّ وَوَالِي الْمَاءِ وَإِلَّا فَلِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُؤَجَّلُ أَرْبَعَ سِنِينَ إنْ دَامَتْ نَفَقَتُهَا، وَالْعَبْدُ نِصْفُهَا مِنْ الْعَجْزِ عَنْ خَبَرِهِ، ثُمَّ اعْتَدَّتْ كَالْوَفَاةِ كَمَا يَأْتِي. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَنُصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ تَرْفَعُ لَهُ زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ الْقَاضِي أَوْ الْوَالِي أَوْ جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ الثَّلَاثَةِ لَا تَرْفَعُ إلَّا لِلْقَاضِي لَا لِغَيْرِهِ، فَإِنْ رَفَعَتْ لِغَيْرِهِ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْ الرَّفْعِ لَهُ حَرُمَ عَلَيْهَا ذَلِكَ، وَإِنْ مَضَى مَا فَعَلَهُ إنْ كَانَ هُوَ الْوَالِي أَوْ وَالِي الْمَاءِ لَا جَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، هَذَا مَا يَظْهَرُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ كَمَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَأَمَّا لَوْ رَفَعَتْ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ مَعَ وُجُودِ الْوَالِي أَوْ وَالِي الْمَاءِ فَالظَّاهِرُ مُضِيُّ فِعْلِهِمْ. وَفِي السَّنْهُورِيِّ وَتَبِعَهُ اللَّقَانِيُّ أَنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ الثَّلَاثَ فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ أَضْبَطُ، وَوُجُودُ الْقَاضِي أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا ذُكِرَ مَعَ كَوْنِهِ يَجُوزُ أَوْ يَأْخُذُ الْمَالَ الْكَثِيرَ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ فَتَرْفَعُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ سَوَاءٌ كَانَتْ الزَّوْجَةُ مَدْخُولًا بِهَا أَمْ لَا، لِوُجُوبِ لَوَازِمِ الزَّوْجِيَّةِ بِإِطَاقَتِهَا وَبُلُوغِ زَوْجِهَا وَتَمْكِينِهَا مِنْ نَفْسِهَا وَلَوْ بِالْقُوَّةِ كَمَا مَرَّ. الثَّالِثُ: لَوْ كَانَ لِلْمَفْقُودِ زَوْجَاتٌ وَرَفَعَتْ وَاحِدَةٌ لِنَحْوِ الْقَاضِي، ثُمَّ رَفَعَتْ وَاحِدَةٌ أُخْرَى، فَإِنَّ الْأَجَلَ الْمَضْرُوبَ لِلْأُولَى يَكُونُ أَجَلًا لِلْبَاقِيَاتِ إنْ طَلَبْنَ الْفِرَاقَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالضَّرْبُ لِوَاحِدَةٍ ضَرْبٌ لِبَقِيَّتِهِنَّ. (ثُمَّ) بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ بَعْدَ تَمَامِ الْكَشْفِ عَنْ حَالِهِ وَلَمْ يَظْهَرْ (تَعْتَدُّ) زَوْجَتُهُ (كَعِدَّةِ) زَوْجَةِ (الْمَيِّتِ) وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا لِلْحُرَّةِ، وَشَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ مَعَ أَيَّامِهَا إنْ كَانَتْ رَقِيقَةً، وَيَلْزَمُهَا مَا يَلْزَمُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا مِنْ الْإِحْدَادِ. زَمَنَ عِدَّتِهَا، وَلَا تَحْتَاجُ إلَى إذْنِ الْحَاكِمِ عِنْدَ شُرُوعِهَا فِي الْعِدَّةِ، وَلَا نَفَقَةَ لَهَا فِي زَمَنِ عِدَّتِهَا، وَأَمَّا فِي مُدَّةِ الْأَجَلِ فَتُنْفِقُ مِنْ مَالِ الزَّوْجِ، وَإِنَّمَا قَالَ كَعِدَّةِ الْمَيِّتِ لِأَنَّ مَوْتَهُ غَيْرُ مُحَقَّقٍ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ اعْتَدَّتْ كَالْوَفَاةِ وَسَقَطَتْ بِهَا النَّفَقَةُ وَلَا تَحْتَاجُ فِيهَا إلَى إذْنٍ وَلَيْسَ لَهَا الْبَقَاءُ بَعْدَهَا. (ثُمَّ) بَعْدَ الْعِدَّةِ (تَتَزَوَّجُ إنْ شَاءَتْ) وَلَيْسَ لَهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ الْبَقَاءُ فِي عِصْمَةِ الْمَفْقُودِ لِأَنَّهَا أُبِيحَتْ لِغَيْرِهِ، وَلَا حُجَّةَ لَهَا فِي أَنَّهُ يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا إنْ قَدِمَ لِأَنَّهَا عَلَى حُكْمِ الْفِرَاقِ حَتَّى تَظْهَرَ حَيَاتُهُ، إذْ لَوْ مَاتَتْ بَعْدَ الْعِدَّةِ لَمْ يُوقَفْ لَهُ إرْثٌ مِنْهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ مَا لَوْ جَاءَ الْمَفْقُودُ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ وَحُكْمُهَا حِينَئِذٍ كَذَاتِ الْوَلِيَّيْنِ، فَإِنْ جَاءَ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَاتَ وَهِيَ فِي عِدَّتِهَا أَوْ بَعْدَهَا وَقَبْلَ الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَ الْعَقْدِ وَقَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَ الدُّخُولِ، وَلَكِنْ عَلِمَ الْمُتَزَوِّجُ بِهَا بِأَنَّ زَوْجَهَا الْمَفْقُودَ جَاءَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ لَكِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 إلَى مِثْلِهِ. وَلَا تُخْطَبُ الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ. وَمَنْ نَكَحَ بِكْرًا فَلَهُ أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا   [الفواكه الدواني] كَانَ عَقْدُهُ فَاسِدًا مُجْمَعًا عَلَى فَسَادِهِ، فَلَا تَفُوتُ عَلَى الْمَفْقُودِ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ، بِخِلَافِ لَوْ جَاءَ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَاتَ بَعْدَ تَلَذُّذِ الثَّانِي بِهَا غَيْرَ عَالِمٍ فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ أَوْ يَفُوتُ بِالدُّخُولِ فَإِنَّهَا تَفُوتُ عَلَى الْمَفْقُودِ. قَالَ خَلِيلٌ: فَإِنْ جَاءَ أَوْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حَيٌّ أَوْ مَاتَ فَكَالْوَلِيَّيْنِ. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ وَلَمْ يَتَكَلَّمَ عَلَى أُمِّ وَلَدِهِ، وَحُكْمُهَا كَمَا لَهُ فِي الْوَقْفِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّعْمِيرِ حَيْثُ كَانَ لِسَيِّدِهَا مَالٌ تُنْفِقُ مِنْهُ، وَإِلَّا تُجِزْ عِتْقَهَا عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ وَتَتَزَوَّجُ بَعْدَ حَيْضَةٍ لِأَنَّهَا عِدَّتُهَا مِنْ سَيِّدِهَا، فَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَأَشَارَ إلَى حُكْمِ مَالِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُوَرَّثُ مَالُهُ) أَيْ الْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِيهِ (حَتَّى يَأْتِيَ عَلَيْهِ مِنْ الزَّمَانِ مَا لَا يَعِيشُ إلَى مِثْلِهِ) وَهِيَ مُدَّةُ التَّعْمِيرِ وَاخْتُلِفَ فِيهَا فَقِيلَ سَبْعُونَ سَنَةً وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَقِيلَ: ثَمَانُونَ سَنَةً، وَحَكَمَ بِخَمْسٍ وَسَبْعِينَ، وَإِنْ اخْتَلَفَ الشُّهُودُ فِي سَنَةٍ فَالْأَقَلُّ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي شَهَادَتِهِمْ تَحْقِيقٌ بَلْ تَجُوزُ عَلَى التَّقْدِيرِ وَغَلَبَةِ الظَّنِّ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا مَرَّ مِنْ ضَرْبِ الْأَجَلِ إنَّمَا هُوَ فِي زَوْجَةِ الْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا زَوْجَةُ مَفْقُودِ أَرْضِ الشِّرْكِ وَمِثْلُهَا زَوْجَةُ الْأَسِيرِ فَإِنَّهُمَا يَبْقَيَانِ لِانْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّعْمِيرِ وَأَوْلَى مَالُهُمَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُضْرَبْ لَهُمَا أَجَلٌ كَزَوْجَةِ مَفْقُودِ أَرْضِ الْإِسْلَامِ لِتَعَذُّرِ الْكَشْفِ عَنْ زَوْجِهِمَا وَمَحَلُّ بَقَائِهِمَا إنْ دَامَتْ نَفَقَتُهُمَا كَغَيْرِهِمَا وَإِلَّا فَلَهُمَا التَّطْلِيقُ: قَالَ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: وَإِذَا جَازَ لَهَا التَّطْلِيقُ بِعَدَمِ النَّفَقَةِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا إذَا خَشِيَتْ عَلَى نَفْسِهَا الزِّنَا بِالْأَوْلَى لِشِدَّةِ ضَرَرِ تَرْكِ الْوَطْءِ النَّاشِئِ عَنْهُ الزِّنَا، أَلَا تَرَى أَنَّهَا لَوْ أَسْقَطَتْ النَّفَقَةَ عَنْ زَوْجِهَا يَلْزَمُهَا الْإِسْقَاطُ، وَإِنْ أَسْقَطَتْ عَنْهُ حَقَّهَا فِي الْوَطْءِ لَا يَلْزَمُهَا وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ فِيهِ، وَأَيْضًا النَّفَقَةُ يُمْكِنُ تَحْصِيلُهَا مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ بِتَسَلُّفٍ وَنَحْوِهِ بِخِلَافِ الْوَطْءِ، فَإِذَا مَضَتْ مُدَّةُ التَّعْمِيرِ يُحْكَمُ بِمَوْتِ مَنْ ذُكِرَ وَتَعْتَدُّ زَوْجَتُهُ عِدَّةَ وَفَاةٍ، وَيُقْسَمُ مَالُهُ عَلَى وَرَثَتِهِ حِينَئِذٍ لَا عَلَى وَرَثَتِهِ حِينَ فَقْدِهِ مَا لَمْ يَثْبُتْ مَوْتُهُ يَوْمَ الْفَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ، فَالْمُعْتَبَرُ وَرَثَتُهُ يَوْمَ ثُبُوتِ الْمَوْتِ، فَإِنْ جَاءَ بَعْدَ قَسْمِ تَرِكَتِهِ فَإِنَّ الْقَسْمَ لَا يَمْضِي وَيَرْجِعُ لَهُ مَتَاعُهُ، وَلَا يُقَاسُ هَا هُنَا عَلَى مَا ذَكَرُوهُ فِي مَسْأَلَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيمَنْ اشْتَهَرَ بِجِزْيَةٍ وَأَوْصَى وَمَاتَ فَإِنَّ الْوَصِيَّ لَا يَضْمَنُ، وَيَمْضِي بَيْعُ الْوَصِيِّ إنْ عُذِّرَتْ بَيِّنَتُهُ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمُعَاوَضَةٍ. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ نَقْلًا عَنْ خَطِّ بَعْضِ أَشْيَاخِهِ، وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ فِي مُعْتَرَكِ الْمُسْلِمِينَ فَتَعْتَدُّ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ الْقِتَالِ وَالِاسْتِقْصَاءِ فِي التَّكَشُّفِ عَنْهُ، وَلَا يُضْرَبُ لَهَا أَجَلٌ لِأَنَّهُ يُحْمَلُ أَمْرُهُ عَلَى الْمَوْتِ، وَلِذَلِكَ يُقْسَمُ مَالُهُ حِينَ شُرُوعِهَا فِي الْعِدَّةِ، أَمَّا لَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْجَيْشِ وَلَمْ تُشَاهِدْهُ فِي الْمُعْتَرَكِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَالْمَفْقُودِ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَيَجْرِي فِي زَوْجَتِهِ مَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ فِي زَمَنِ الْمَجَاعَةِ أَوْ الْوَبَاءِ أَوْ الْكُبَّةِ أَوْ السُّعَالِ فَتَعْتَدُّ بَعْدَ ذَهَابِ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَأَمَّا زَوْجَةُ الْمَفْقُودِ فِي الْقِتَالِ الْوَاقِعِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بَعْدَ مُضِيِّ سَنَةٍ كَائِنَةً بَعْدَ الْفَحْصِ عَنْ حَالِهِ وَبَقِيَ مَنْ شَكَّ فِي حَالِهِ هَلْ فُقِدَ فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ الْكُفَّارِ؟ لَا نَصَّ فِي حَالِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي الْعَمَلُ بِالْأَحْوَطِ، فَتُعَامَلُ زَوْجَتُهُ مُعَامَلَةَ زَوْجَةِ مَفْقُودِ أَرْضِ الشِّرْكِ، بِخِلَافِ مَنْ سَافَرَ فِي الْبَحْرِ فَانْقَطَعَ خَبَرُهُ فَسَبِيلُهُ سَبِيلُ الْمَفْقُودِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ فُقِدَ فِي شِدَّةِ رِيحٍ وَالْمَرَاكِبُ فِي الْمَرْسَى وَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ خَبَرٌ، فَيُحْكَمُ بِمَوْتِهِ لِغَلَبَةِ الظَّنِّ بِغَرَقِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمَفْقُودَ عَلَى سِتَّةِ أَقْسَامٍ وَقَدْ مَرَّتْ مُفَصَّلَةَ الْأَحْكَامِ. الثَّانِي: لَوْ مَاتَ مُورِثُ الْغَائِبِ وُقِفَ نَصِيبُ ذَلِكَ الْغَائِبِ مِنْهُ، فَإِنْ قَدِمَ أَخَذَهُ وَإِنْ مَاتَ بِالتَّعْمِيرِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ الْمَوْقُوفُ لِوَرَثَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ حِينَ مَاتَ الْمُعَمِّرُ، وَيَرِثُ الْمُعَمِّرَ وَرَثَتُهُ حِينَ مَاتَ بِالتَّعْمِيرِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ يُؤَيِّدُ التَّحْرِيمَ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَحْرُمُ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي زَمَنِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ (أَنْ تُخْطَبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الْمَرْأَةُ فِي عِدَّتِهَا) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى غَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ لِلْمُعْتَدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَرِيحُ خِطْبَةِ مُعْتَدَّةٍ وَمُوَاعَدَتِهَا كَوَلِيِّهَا وَلَوْ عِدَّةَ طَلَاقٍ رَجْعِيٍّ، وَإِنْ كَانَ الدُّخُولُ بِهَا فِي عِدَّتِهَا لَا يُؤَبِّدُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْمُوَاعَدَةُ مُفَاعَلَةٌ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ الْوَعْدُ مِنْ أَحَدِهِمَا لَكُرِهَ فَقَطْ وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ صَاحِبِ الْعِدَّةِ، لِأَنَّ صَاحِبَ الْعِدَّةِ مِنْ الطَّلَاقِ الْبَائِنِ بِدُونِ الثَّلَاثِ يَجُوزُ لَهُ الْعَقْدُ عَلَيْهَا مِنْ عِدَّتِهَا فَضْلًا عَنْ الْخِطْبَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مِثْلُ الْمُعْتَدَّةِ الْمُسْتَبْرَأَةُ مِنْ الزِّنَا تُحْرَمُ خِطْبَتُهَا فِي زَمَنِ اسْتِبْرَائِهَا وَلَوْ مِنْهُ وَكَذَا مُوَاعَدَتُهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُعْتَدَّةِ وَالْمُسْتَبْرَأَةُ وَاضِحٌ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ اقْتَحَمَ النَّهْيَ وَخَطَبَهَا فِي عِدَّتِهَا أَوْ اسْتِبْرَائِهَا وَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ أَوْ الِاسْتِبْرَاءِ اُسْتُحِبَّ لَهُ فِرَاقُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ عِدَةٌ مِنْ أَحَدِهِمَا وَتَزْوِيجُ زَانِيَةٍ أَوْ مُصَرَّحٍ بِهَا بَعْدَهَا وَنُدِبَ فِرَاقُهَا وَإِنْ عَقَدَ عَلَيْهَا زَمَنَ عِدَّتِهَا وَدَخَلَ بِهَا وَلَوْ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا، فَلَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا إنْ كَانَتْ عِدَّةَ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ بَائِنٍ وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ التَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالتَّعْرِيضِ) مِنْ مُرِيدِ النِّكَاحِ أَوْ وَلِيِّهِ لِلْمُعْتَدَّةِ فِي زَمَنِ عِدَّتِهَا (بِالْقَوْلِ الْمَعْرُوفِ) أَيْ الْحَسَنِ الْمُقْتَضِي لِتَرْغِيبِهَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 دُونَ سَائِرِ نِسَائِهِ وَفِي الثَّيِّبِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَلَا يَجْمَعُ بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ فَإِنْ شَاءَ وَطْءَ الْأُخْرَى فَلْيُحَرِّمْ عَلَيْهِ فَرْجَ الْأُولَى بِبَيْعٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَشِبْهِهِ مِمَّا تَحْرُمُ بِهِ وَمَنْ وَطِئَ أَمَةً بِمِلْكٍ لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا وَلَا ابْنَتُهَا   [الفواكه الدواني] نِكَاحِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ تَعْرِيضٌ: كَفِيك رَاغِبٌ، وَأَنَا لَك مُحِبٌّ، وَأَبْشِرِي بِالْخَيْرِ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يُرَغِّبُهَا فِي نِكَاحِهِ مِنْهُ، وَمَحَلُّ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ التَّصْرِيحِ وَالتَّعْرِيضِ فِيمَنْ يَعْرِفُ الْفَرْقَ بَيْنَهُمَا كَأَهْلِ الْعِلْمِ وَالصَّلَاحِ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَعْرِفُ الْفَرْقَ فَيَحْرُمُ عَلَيْهِ كُلٌّ مِنْهُمَا، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا فِي الْمُعْتَدَّةِ مِنْ طَلَاقِ غَيْرِهِ الْبَائِنِ لَا الرَّجْعِيِّ، فَيَحْرُمُ التَّعْرِيضُ لَهَا إجْمَاعًا كَمَا نَقَلَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَعَزَاهُ الْقُرْطُبِيُّ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِ إرْسَالِ الْهَدِيَّةِ لِلْمُعْتَدَّةِ، وَنَصَّ خَلِيلٌ عَلَى جَوَازِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمَوَدَّةِ الْمَطْلُوبَةِ شَرْعًا بَيْنَ سَائِرِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ نَاجِي: الْهَدِيَّةُ فِي زَمَانِنَا أَقْوَى مِنْ الْمُوَاعَدَةِ، فَالصَّوَابُ حُرْمَتُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ مِثْلُهَا، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ فَعَلَهَا لَا لِإِرَادَةِ النِّكَاحِ، وَأَمَّا إجْرَاءُ النَّفَقَةِ عَلَيْهَا فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ فَلَا نِزَاعَ فِي حُرْمَتِهِ لِأَنَّهُ كَالتَّصْرِيحِ بِالْخِطْبَةِ بَلْ أَقْوَى. الثَّانِي: لَوْ أَهْدَى أَوْ أَنْفَقَ وَتَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ ثُمَّ أَرَادَ الرُّجُوعَ عَلَيْهَا فَلَا رُجُوعَ لَهُ بِمَا أَهْدَاهُ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَفِي التَّوْضِيحِ لِلْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ: أَنَّ غَيْرَ الْمُعْتَدَّةِ لَا رُجُوعَ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَ، وَذَكَرَ الشَّمْسُ اللَّقَانِيُّ تَفْصِيلًا مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ عَدَمُ النِّكَاحِ مِنْ جِهَةِ الرَّجُلِ لَا يَرْجِعُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الْمَرْأَةِ رَجَعَ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَهَذَا حَيْثُ لَا عُرْفَ وَلَا شَرْطَ وَإِلَّا عُمِلَ بِهِ، وَأَقُولُ: الْعُرْفُ فِي زَمَانِنَا عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً كَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرُهَا فِي بَابِ الْقَسْمِ فَقَالَ: (وَمَنْ نَكَحَ) عَلَى زَوْجَتِهِ (بِكْرًا) وَلَوْ صَغِيرَةً أَوْ أَمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً (فَلَهَا) عَلَيْهِ (أَنْ يُقِيمَ عِنْدَهَا سَبْعًا) أَيْ سَبْعَةَ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا (دُونَ سَائِرِ نِسَائِهِ) وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى وَاحِدَةٍ مِنْهُمْ فِي خِلَالِ السَّبْعَةِ. (وَ) أَمَّا لَوْ تَزَوَّجَ (الثَّيِّبَ) عَلَى غَيْرِهَا لَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالْإِقَامَةِ عِنْدَهَا (ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) بِلَيَالِيِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ لِلْبِكْرِ بِسَبْعٍ وَلِلثَّيِّبِ بِثَلَاثٍ، وَإِنَّمَا تَمَيَّزَتْ الْبِكْرُ مِنْ الثَّيِّبِ بِطُولِ الْإِقَامَةِ عِنْدَهَا لِمَا عِنْدَهَا مِنْ الْوَحْشَةِ بِفِرَاقِ أَهْلِهَا وَأَيْضًا لِتَتَأَنَّسَ مِنْ الزَّوْجِ، بِخِلَافِ الثَّيِّبِ وَالْإِقَامَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تُنَافِي الْخُرُوجَ لِقَضَاءِ مَصَالِحِهِ وَصَلَاتِهِ الْجُمُعَةَ وَحُضُورِ الْجَمَاعَةِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ لَهَا مَنْعُهُ فَلَيْسَ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبَعْدَ تَمَامِ الْمُدَّةِ يَجِبُ الْقَسْمُ وَيَبْدَأُ بِأَيَّتِهِنَّ أَحَبَّ، وَاسْتَحَبَّ ابْنُ الْمَوَّازِ الْبُدَاءَةَ بِالْقَدِيمَةِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ الَّتِي تَزَوَّجَهَا ابْتِدَاءً فَلَا يَلْزَمُهُ الْإِقَامَةُ عِنْدَهَا وَلَا الْبَيَاتُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ إضْرَارَهَا، فَعَلَيْهِ إزَالَةُ الضَّرَرِ بِالْبَيَاتِ عِنْدَهَا أَوْ بِالْمُؤَانَسَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ قَدَّمْنَا لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ فِي لَيْلَةٍ أَنَّهُ يَبْدَأُ فِي السَّابِقَةِ فِي الدَّعْوَةِ لِلدُّخُولِ أَوْ بِالْعَقْدِ إنْ تَسَاوَيَا فِي الدَّعْوَةِ وَإِلَّا أَقْرَعَ، وَهَذَا عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَنَّ الْحَقَّ لِلْمَرْأَةِ، وَأَمَّا عَلَى مُقَابِلِهِ فَالْخِيَارُ لِلزَّوْجِ ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرَهَا عِنْدَ الْكَلَامِ عَلَى الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ فَقَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ أَنْ (يُجْمَعَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ) وَنَحْوِهِمَا كَعَمَّتَيْنِ أَوْ خَالَتَيْنِ أَوْ امْرَأَةٍ وَأُمِّهَا. (فِي مِلْكِ الْيَمِينِ فِي الْوَطْءِ) أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء: 23] وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْأُخْتَيْنِ، وَأَمَّا الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا فِي الْخِدْمَةِ أَوْ وَاحِدَةٌ لِلْخِدْمَةِ وَوَاحِدَةٌ لِلْوَطْءِ فَلَا حَرَجَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ تَحْتَهُ وَاحِدَةٌ وَوَطِئَهَا وَأَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ مَعَهَا غَيْرَهَا مِمَّنْ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَهَا فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ شَاءَ) بَعْدَ تَلَذُّذِهِ بِوَاحِدَةٍ (وَطْءَ الْأُخْرَى) أَيْ الَّتِي يَحْرُمُ جَمْعُهَا مَعَ الَّتِي تَلَذَّذَ بِهَا (فَلْيُحَرِّمْ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى نَفْسِهِ (فَرْجَ الْأُولَى) الَّتِي تَلَذَّذَ بِهَا إمَّا (بِبَيْعٍ) بَتَّ وَلَوْ بِعَيْبٍ دَلَّسَ بِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي (أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ عِتْقٍ) وَلَوْ لِأَجَلٍ (وَشِبْهِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ (مِمَّا يَحْرُمُ بِهِ) مِنْ كُلِّ فِعْلٍ يُحَرِّمُ فَرْجَ الْمَوْطُوءَةِ عَلَيْهِ كَإِخْدَامِهَا الزَّمَنَ الطَّوِيلَ كَالْأَرْبَعِ سِنِينَ، أَوْ عَقْدِ نِكَاحِهَا اللَّازِمِ، أَوْ أَسْرِهَا أَوْ إبَاقِهَا الْمُوجِبَيْنِ لِلْإِيَاسِ مِنْ عَوْدِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَّتْ الْأُخْتُ بِبَيْنُونَةِ السَّابِقَةِ، أَوْ زَوَالِ مِلْكٍ بِعِتْقٍ وَإِنْ لِأَجَلٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ إنْكَاحٍ بِحِلِّ الْمَبْتُوتَةِ، وَقَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: تَحِلُّ لَهُ أُخْتُهَا بِكُلِّ عَقْدٍ لَيْسَ لَهُ حَلُّهُ، فَلَا تَحِلُّ بِفَاسِدٍ لَمْ يَفُتْ، وَلَا بِبَيْعِ خِيَارٍ أَوْ عُهْدَةِ ثَلَاثٍ أَوْ إخْدَامِ مُدَّةٍ قَصِيرَةٍ، وَلَا بِحَيْضٍ وَلَا نِفَاسٍ، أَوْ اسْتِبْرَاءٍ مِنْ وَطْءٍ فَاسِدٍ، وَلَا بِرِدَّةٍ وَلَا بِإِحْرَامٍ وَلَا ظِهَارٍ وَلَا هِبَةٍ لِمَنْ يَعْتَصِرُهَا مِنْهُ، وَلَا بِبَيْعِهَا أَوْ هِبَتِهَا لِعَبْدِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ وَطِئَ الثَّانِيَةَ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْأُولَى عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُعَاقَبُ بِغَيْرِ الْحَدِّ، وَيُوقَفُ عَنْهُمَا مَعًا حَتَّى يَخْتَارَ وَاحِدَةً مِنْهُمَا لِلْوَطْءِ وَيُحَرِّمَ الْأُخْرَى، فَإِنْ حَرَّمَ الْأُولَى فَلَا يَطَأُ الثَّانِيَةَ حَتَّى يَسْتَبْرِئَهَا لِفَسَادِ مَائِهِ الْحَاصِلِ فِيهَا، وَإِنْ حَرَّمَ الثَّانِيَةَ لَمْ يَسْتَبْرِئْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا زَمَنَ الْإِيقَافِ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوُقِفَ إنْ وَطِئَهُمَا لِيُحَرِّمَ فَإِنْ أَبْقَى الثَّانِيَةَ اسْتَبْرَأَهَا. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ حَلَّتْ لَهُ الثَّانِيَةُ بِشَيْءٍ مِمَّا سَبَقَ مِمَّا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْأُولَى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 وَتَحْرُمُ عَلَى آبَائِهِ وَأَبْنَائِهِ كَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ بِيَدِ الْعَبْدِ دُونَ السَّيِّدِ وَلَا طَلَاقَ لِصَبِيٍّ وَالْمُمَلَّكَةُ وَالْمُخَيَّرَةُ لَهُمَا أَنْ   [الفواكه الدواني] ثُمَّ رَجَعَتْ الْأُولَى إلَى حَالَتِهَا الْأُولَى الْخَالِيَةِ عَنْ الْمُحَرَّمِ فَلَا تَرْجِعُ الْحُرْمَةُ فِيمَنْ حَلَّتْ، كَمَا لَوْ عَجَزَتْ الْمُكَاتَبَةُ أَوْ رَجَعَتْ الْمَأْسُورَةُ أَوْ رَجَعَتْ الْمَبِيعَةُ. قَالَ الْحَطَّابُ: مَنْ زَوَّجَ أُمَّ وَلَدِهِ ثُمَّ اشْتَرَى أُخْتَهَا فَوَطِئَهَا ثُمَّ رَجَعَتْ إلَيْهِ أُمُّ وَلَدِهِ أَقَامَ عَلَى وَطْءِ الْأَمَةِ، وَلَوْ وَلَدَتْ الْأَمَةُ مِنْهُ ثُمَّ زَوَّجَهَا وَأُخْتَهَا ثُمَّ رَجَعَتَا إلَيْهِ جَمِيعًا وَطِئَ أَيَّتَهُمَا شَاءَ إلَّا أَنْ يَطَأَ أُولَاهُمَا رُجُوعًا، وَقَالَ أَيْضًا: مَنْ بَاعَ أَمَةً بَعْدَ وَطْئِهَا ثُمَّ تَزَوَّجَ أُخْتَهَا وَلَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ وَطْءٌ حَتَّى اشْتَرَى الْمَبِيعَةَ لَمْ يَطَأْ إلَّا الزَّوْجَةَ، لِأَنَّ عَقْدَ النِّكَاحِ كَالْوَطْءِ فِي الْمِلْكِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ عَقَدَ فَاشْتَرَى فَالْأُولَى أَيْ مُتَعَيَّنَةٌ لِلْبَقَاءِ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى أَنَّ وَطْءَ الْمِلْكِ يَحْصُلُ بِهِ تَحْرِيمُ الْمَوْطُوءَةِ عَلَى أَصْلِ الْوَاطِئِ وَفَرْعِهِ كَمَا يَحْرُمُ بِعَقْدِ النِّكَاحِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ وَطِئَ) مِنْ الْبَالِغِينَ (أَمَةً بِمِلْكٍ) وَلَوْ فَاسِدًا أَوْ تَلَذَّذَ مِنْهَا بِشَيْءٍ مِنْ مُقَدِّمَاتِهِ (لَمْ تَحِلَّ لَهُ أُمُّهَا) وَإِنْ عَلَتْ (وَلَا ابْنَتُهَا) وَإِنْ سَفَلَتْ قِيَاسًا عَلَى الزَّوْجَةِ، وَأَمَّا وَطْءُ غَيْرِ الْبَالِغِ فَلَا يُحَرِّمُ عَلَيْهِ أُمَّ مَوْطُوءَتِهِ وَلَا ابْنَتَهَا لِلْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ مَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ بِالْوَطْءِ أَوْ التَّلَذُّذِ يُعْتَبَرُ فِيهِ بُلُوغُ الْوَاطِئِ، وَمَا يَحْصُلُ فِيهِ التَّحْرِيمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغُ الْعَاقِدِ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (وَتَحْرُمُ) أَيْضًا تِلْكَ الْمَوْطُوءَةُ أَوْ الْمُتَلَذَّذُ بِهَا (عَلَى آبَائِهِ) أَيْ الْوَاطِئِ وَالْمُرَادُ أُصُولُهُ وَإِنْ عَلَوْا (وَ) تَحْرُمُ أَيْضًا عَلَى (أَبْنَائِهِ) الْمُرَادُ فُرُوعُهُ وَإِنْ سَفُلُوا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ تَحْرِيمَ الْمُصَاهَرَةِ بِالتَّلَذُّذِ بِالْمِلْكِ (كَتَحْرِيمِ النِّكَاحِ) أَيْ الْعَقْدِ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} [النساء: 22] وَقَالَ تَعَالَى أَيْضًا: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ} [النساء: 23] وَمَفْهُومُ وَطِئَ أَنَّ مُجَرَّدَ عَقْدِ الْمِلْكِ لَا يُحَرِّمُ أَصْلَ الْمَمْلُوكَةِ وَلَا فَرْعَهَا عَلَى أُصُولِهِ وَلَا عَلَى فُرُوعِهِ، بَلْ وَلَا تَحْرُمُ ذَاتُهَا عَلَى أَصْلِ الْمَالِكِ وَلَا عَلَى فَرْعِهِ، بِخِلَافِ عَقْدِ النِّكَاحِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ كَمَا قَدَّمْنَا. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْوَطْءِ بَلْ مُطْلَقُ التَّلَذُّذِ وَلَوْ بِالنَّظَرِ، كَمَا فُهِمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ بِمِلْكٍ أَنَّهُ لَوْ وَطِئَهَا بِزِنًا لَمْ يَحْصُلْ التَّحْرِيمُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالزِّنَا حَلَالٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَإِطْلَاقُهُ الْوَطْءَ فِي الْمَمْلُوكَةِ يَتَنَاوَلُ الْوَطْءَ الْحَرَامَ كَمَا لَوْ كَانَتْ الْمَمْلُوكَةُ مَجُوسِيَّةً، وَبِهِ أَفْتَى بَعْضُ شُيُوخِ الْأُجْهُورِيِّ ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ كَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمُهَا عِنْدَ مَسَائِلِ الطَّلَاقِ بِقَوْلِهِ: (وَالطَّلَاقُ) كَائِنٌ (بِيَدِ الْعَبْدِ) الْمُكَلَّفِ الَّذِي تَزَوَّجَ بِإِذْنِ السَّيِّدِ أَوْ أَمْضَاهُ لَهُ (دُونَ السَّيِّدِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا يَمْلِكُ الطَّلَاقَ مَنْ أَخَذَ بِالسَّاقِ» وَهُوَ الزَّوْجُ، وَأَمَّا الْمُتَزَوِّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَفَسْخُ نِكَاحِهِ بِيَدِ سَيِّدِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلسَّيِّدِ رَدُّ نِكَاحِ عَبْدِهِ بِطَلْقَةٍ وَتَكُونُ بَائِنَةً، بِخِلَافِ الْأَمَةِ تَتَزَوَّجُ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهَا فَيَتَحَتَّمُ عَلَى سَيِّدِهَا رَدُّ نِكَاحِهَا كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْعَبْدَ بِالْمُكَلَّفِ لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: (وَلَا طَلَاقَ) صَحِيحٌ (لِصَبِيٍّ) حُرٍّ أَوْ عَبْدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ وَلَوْ سَكِرَ حَرَامًا بِحَيْثُ صَارَ لَا تَمْيِيزَ عِنْدَهُ وَلَوْ بِأَكْلِ حَشِيشَةٍ، وَكَمَا لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الصَّبِيِّ لَا يَصِحُّ طَلَاقُ الْمَجْنُونِ وَالْمُكْرَهِ وَلَا السَّكْرَانِ بِحَلَالٍ وَلَا الْكَافِرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنَّمَا يُطَلِّقُ عَلَى الصَّبِيِّ وَلِيُّهُ لِمَصْلَحَةٍ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي طَلَاقِ الشَّخْصِ لَزَوْجَةِ نَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ طَلَّقَ زَوْجَةَ غَيْرِهِ فَيَصِحُّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَطَلَاقُ الْفُضُولِيِّ كَبَيْعِهِ أَيْ فَيَصِحُّ بِإِجَازَةِ الزَّوْجِ وَلَوْ كَانَ الْمُطَلِّقُ صَبِيًّا أَوْ كَافِرًا لِأَنَّ الْمُطَلِّقَ حَقِيقَةً الزَّوْجُ، وَلِذَلِكَ تَعْتَدُّ الْمُطَلَّقَةُ مِنْ يَوْمِ إجَازَتِهِ لَا مِنْ يَوْمِ الطَّلَاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَبْلُغَ، وَعَنْ الْمَعْتُوهِ حَتَّى يَعْقِلَ» وَلِأَنَّ مَنْ طَلَّقَ تَحْرُمُ عَلَيْهِ زَوْجَتُهُ بِطَلَاقِهِ، وَفِعْلُ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ لَا يُوصَفُ بِتَحْرِيمٍ وَلَا تَجْوِيزٍ، وَلِذَلِكَ لَوْ أُكْرِهَ الشَّخْصُ عَلَى طَلْقَةٍ فَأَوْقَعَ أَكْثَرَ أَوْ عَلَى الْعِتْقِ فَطَلَّقَ أَوْ عَكْسُهُ وَعَلَى أَنْ يَهَبَ أَوْ يَبِيعَ الْبَعْضَ فَوَهَبَ أَوْ بَاعَ الْكُلَّ لَا يَلْزَمُهُ لِشَبَهِهِ بِالْمَجْنُونِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ كَوْنُهُ غَيْرَ شَرْعِيٍّ، وَغَلَبَةُ الظَّنِّ بِوُقُوعِ الْمَخُوفِ بِهِ إنْ لَمْ يَفْعَلْ، وَقُدْرَةُ الْمُكْرِهِ بِالْكَسْرِ عَلَى فِعْلِ مَا خَوَّفَ بِهِ الْمُكْرَهَ بِالْفَتْحِ. [النِّيَابَةِ فِي الطَّلَاقِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النِّيَابَةِ فِي الطَّلَاقِ وَهِيَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: تَوْكِيلٌ وَرِسَالَةٌ وَتَخْيِيرٌ وَتَمْلِيكٌ، فَالتَّوْكِيلُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ جَعْلُ إنْشَائِهِ بِيَدِ الْمُخَيَّرِ بَاقِيًا مَنَعَ الزَّوْجَ مِنْ إنْشَائِهِ، فَلَهُ عَزْلُ الْوَكِيلِ مِنْهُ قَبْلَ إيقَاعِهِ اتِّفَاقًا، وَحَقِيقَةُ الرِّسَالَةِ جَعْلُ الزَّوْجِ إعْلَامَ الزَّوْجَةِ ثُبُوتَهُ لِغَيْرِهِ إنْ كَانَا اثْنَيْنِ كَفَى أَحَدُهُمَا، وَالْمُرَادُ بِثُبُوتِهِ حُصُولُهُ مِنْ الزَّوْجِ، وَحَقِيقَةُ التَّمْلِيكِ جَعْلُ إنْشَائِهِ حَقًّا لِغَيْرِهِ رَاجِحًا فِي الثَّلَاثِ يُخَصُّ بِمَا دُونَهَا بِنِيَّةٍ، وَحَقِيقَةُ التَّخْيِيرِ جَعْلُ الزَّوْجِ إنْشَاءَ الطَّلَاقِ لِغَيْرِهِ ثَلَاثًا حُكْمًا، أَوْ نَصًّا عَلَيْهَا حَقًّا لِغَيْرِهِ فَقَالَ: (وَ) الْمَرْأَةُ (الْمُمَلَّكَةُ) أَيْ الَّتِي مَلَّكَهَا زَوْجُهَا عِصْمَتَهَا تَمْلِيكًا مُطْلَقًا أَيْ عَارِيًّا عَنْ التَّقْيِيدِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِأَنْ قَالَ لَهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ الْمُكَلَّفُ: مَلَّكْتُك أَمْرَك، أَوْ طَلَاقَك أَوْ أَمْرُك بِيَدِك، أَوْ طَلِّقِي نَفْسَك، أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت (وَ) الزَّوْجَةُ (الْمُخَيَّرَةُ) أَيْ الَّتِي خَيَّرَهَا زَوْجُهَا فِي اخْتِيَارِ نَفْسِهَا أَوْ الْبَقَاءِ فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا تَخْيِيرًا مُطْلَقًا عَارِيًّا عَنْ التَّقْيِيدِ بِالزَّمَانِ وَالْمَكَانِ بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِينِي أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 يَقْضِيَا مَا دَامَتَا فِي الْمَجْلِسِ وَلَهُ أَنْ يُنَاكِرَ الْمُمَلَّكَةَ خَاصَّةً فِيمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ وَلَيْسَ لَهَا فِي التَّخْيِيرِ أَنْ تَقْضِيَ إلَّا بِالثَّلَاثِ ثُمَّ لَا نُكْرَةَ لَهُ فِيهَا. وَكُلُّ حَالِفٍ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَهُوَ مُولٍ. وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ الطَّلَاقُ إلَّا بَعْدَ   [الفواكه الدواني] وَخَبَرُ الْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ جُمْلَةُ. (لَهُمَا أَنْ يَقْضِيَا) بِالْفِرَاقِ أَوْ الْبَقَاءِ (مَا دَامَتَا فِي الْمَجْلِسِ) الَّذِي وَقَعَ فِيهِ التَّخْيِيرُ أَوْ التَّمْلِيكُ مَا لَمْ تُوقَفْ أَوْ تُوطَأْ، فَإِنْ تَفَرَّقَا بِأَبْدَانِهِمَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ بَعْدَ التَّمَكُّنِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، أَوْ أَوْقَفَهَا قَاضٍ أَوْ وُطِئَتْ أَوْ طَالَ الْمَجْلِسُ بِحَيْثُ خَرَجَا عَمَّا كَانَا فِيهِ سَقَطَ مَا بِيَدِهَا، إلَّا أَنْ يَهْرُبَ الزَّوْجُ مُرِيدًا قَطْعَ مَا بِيَدِهِمَا قَبْلَ مُضِيِّ زَمَانٍ تَخْتَارُ فِي مِثْلِهِ وَلَمْ تَخْتَرْ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ خِيَارُهَا، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ الْأَوَّلُ الَّذِي رَجَعَ عَنْهُ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ. قَالَ الْمُتَيْطِيُّ: وَمَا أَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ بِهِ الْقَضَاءُ، وَعَلَيْهِ جُمْهُورُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ، وَالْمَرْجُوعُ إلَيْهِ أَنَّهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى مَا جَعَلَ لَهُمَا مَا لَمْ يُوقَفَا عِنْدَ قَاضٍ أَوْ يَحْصُلُ مِنْ الزَّوْجِ تَمْكِينٌ، وَلَوْ حَصَلَ مُفَارَقَةٌ وَخُرُوجٌ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَرَجَعَ مَالِكٌ إلَى بَقَائِهِمَا بِيَدِهَا فِي الْمُطْلَقِ مَا لَمْ تُوقَفْ أَوْ تُوطَأْ، وَأَخَذَ ابْنُ الْقَاسِمِ بِالسُّقُوطِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُمَا قَوْلَانِ لِلْإِمَامِ وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا الْمَرْجُوعُ عَنْهُ، وَجَرَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ رَجَعَ إلَيْهِ آخِرَ أَمْرِهِ وَاسْتَمَرَّ عَلَيْهِ إلَى أَنْ مَاتَ، وَإِنْ كَانَ كَلَامُ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ مُوهِمًا عَدَمَ الرُّجُوعِ إلَيْهِ، وَمَفْهُومُ الْمُطْلَقِ أَنَّ التَّخْيِيرَ أَوْ التَّمْلِيكَ الْمُقَيَّدَ بِزَمَانٍ، كَخَيَّرْتُكِ أَوْ مَلَّكْتُك فِي هَذَا الْيَوْمِ مَثَلًا، أَوْ بِالْمَكَانِ كَخَيَّرْتُكِ أَوْ مَلَّكْتُك فِي هَذَا الْمَكَانِ أَوْ الْمَجْلِسِ، فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ بِهِ وَلَوْ طَالَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ اطَّلَعَ عَلَى ذَلِكَ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُوقِفَهَا وَلَا يُمْهِلَهَا، قَالَ خَلِيلٌ: وَوُقِفَتْ وَإِنْ قَالَ إلَى سَنَةٍ مَتَى عُلِمَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: لَهُمَا أَنْ يَقْضِيَا مَا دَامَتَا فِي الْمَجْلِسِ، أَنَّهُ لَيْسَ لِلزَّوْجِ عَزْلُهُمَا وَهُوَ كَذَلِكَ، بِخِلَافِ لَوْ وَكَّلَهَا فِي طَلَاقِهَا فَلَهُ عَزْلُهَا قَبْلَ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا، إلَّا أَنْ يَتَعَلَّقَ لَهَا بِذَلِكَ حَقٌّ فَلَيْسَ لَهُ عَزْلُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: إنْ فَوَّضَهُ لَهَا تَوْكِيلًا فَلَهُ الْعَزْلُ إلَّا لِتَعَلُّقِ حَقٍّ لَا تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ التَّوْكِيلِ وَغَيْرِهِ أَنَّ الْوَكِيلَ يَفْعَلُ بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ عَنْ الْمُوَكِّلِ، بِخِلَافِ الْمُخَيَّرِ وَالْمُمَلَّكِ فَإِنَّمَا يَفْعَلُ عَنْ نَفْسِهِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ جَوَابَ الْمَرْأَةِ الْمُخَيَّرَةِ وَالْمُمَلَّكَةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَعُمِلَ بِجَوَابِهَا الصَّرِيحِ فِي الطَّلَاقِ كَطَلَاقِهِ وَرَدِّهِ كَتَمْكِينِهَا طَائِعَةً، فَإِنْ أَجَابَتْ بِالطَّلَاقِ بِأَنْ قَالَتْ: أَنَا طَالِقٌ مِنْك، أَوْ طَلَّقْت نَفْسِي، أَوْ أَنَا بَائِنَةٌ، أَوْ أَنْتَ بَائِنٌ مِنِّي، عُمِلَ بِهِ وَتَطْلُقُ مِنْهُ كَمَا تَطْلُقُ مِنْ الزَّوْجِ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ صَرِيحُ طَلَاقٍ، وَإِنْ أَجَابَتْ بِرَدِّ مَا جَعَلَهُ لَهَا عُمِلَ بِهِ كَقَوْلِهَا: رَدَدْت مَا جَعَلْته لِي أَوْ لَا أَقْبَلُ ذَلِكَ مِنْك، وَمِثْلُ الرَّدِّ بِاللَّفْظِ الرَّدُّ بِغَيْرِهِ، كَمُضِيِّ زَمَنِ تَخْيِيرِهَا، وَكَتَمْكِينِهَا مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا وَطَوْعِهَا وَلَوْ مَعَ جَهْلِهَا بِالْحُكْمِ، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلْ مَا مَكَّنَتْهُ مِنْهُ مِنْ قُبْلَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، لَا إنْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا غَيْرَ عَالِمَةٍ بِالتَّخْيِيرِ أَوْ التَّمْلِيكِ فَلَا يَبْطُلُ مَا جَعَلَهُ لَهَا وَلَوْ وَطِئَهَا بِالْفِعْلِ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي عَدَمِ الْعِلْمِ، وَإِنْ أَجَابَتْ بِمَا يَحْتَمِلُ الْقَبُولَ وَالرَّدَّ بِأَنْ قَالَتْ: قَبِلْت أَوْ قَبِلْت أَمْرِي أَوْ مَا مَلَّكْتنِي وَطُلِبَ مِنْهَا التَّفْسِيرُ وَيُقْبَلُ مَا فَسَّرَتْ بِهِ، فَتَحَصَّلَ أَنَّهُ يُعْمَلُ بِمَا أَجَابَتْ بِهِ، سَوَاءٌ صَرِيحُ اللَّفْظِ أَوْ الْكِنَايَةُ الظَّاهِرَةُ لَا الْخَفِيَّةُ، فَلَا تُعْتَبَرُ هُنَا وَإِنْ اُعْتُبِرَتْ مِنْ الزَّوْجِ فِي الطَّلَاقِ، لِأَنَّ الْعِصْمَةَ بِيَدِهِ أَصَالَةً فَيُقْبَلُ مِنْهُ قَصْدُ حِلِّهَا وَلَوْ بِاسْقِنِي الْمَاءَ ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا لَوْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ مِنْ طَلْقَةٍ وَنَازَعَهَا الزَّوْجُ مُدَّعِيًا إرَادَةَ أَقَلَّ فَقَالَ: (وَلَهُ) أَيْ الزَّوْجِ الَّذِي فَوَّضَ لِزَوْجَتِهِ أَمْرَهَا (أَنْ يُنَاكِرَ الْمُمَلَّكَةَ خَاصَّةً) إنْ أَوْقَعَتْ طَلْقَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا. (فِيمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا أَوْ لَا، وَمِثْلُ الْمُمَلَّكَةِ الْمُخَيَّرَةُ غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا قَالَ خَلِيلٌ: وَنَاكَرَ مُخَيَّرَةً لَمْ تَدْخُلْ وَمُمَلَّكَةً مُطْلَقًا، وَإِنَّمَا يُنَاكِرُ الزَّوْجُ كُلًّا مِنْهُمَا بِشُرُوطٍ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مِنْهَا وَاحِدًا بِقَوْلِهِ: فِيمَا فَوْقَ الْوَاحِدَةِ الْمُشَارُ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إنْ زَادَ عَلَى طَلْقَةٍ وَأَنْ يَكُونَ نَوَى الْوَاحِدَةَ عِنْدَ التَّخْيِيرِ أَوْ التَّمْلِيكِ لَا إنْ نَوَى أَكْثَرَ أَوْ أَطْلَقَ، وَأَنْ يُبَادِرَ بِالْمُنَاكَرَةِ عِنْدَ سَمَاعِ الزَّائِدَةِ، لَا إنْ تَأَخَّرَ بَعْدَ السَّمَاعِ فَلَا مُنَاكَرَةَ لَهُ وَإِنْ كَانَ جَاهِلًا، وَأَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّائِدَ، وَتَكُونُ يَمِينُهُ عِنْدَ الْمُنَاكَرَةِ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا لِيَرْتَجِعَهَا، وَعِنْدَ إرَادَةِ الْعَقْدِ عَلَى غَيْرِهَا، وَأَنْ لَا يَكُونَ كَرَّرَ قَوْلَهُ: أَمْرُك بِيَدِك مَثَلًا مَعَ عَدَمِ قَصْدِ التَّأْكِيدِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ التَّخْيِيرُ أَوْ التَّمْلِيكُ مُشْتَرَطًا لِلزَّوْجَةِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ، وَإِلَّا فَلَا مُنَاكَرَةَ لَهُ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ لَهَا) أَيْ الْمُخَيَّرَةِ الْمَدْخُولِ بِهَا (فِي التَّخْيِيرِ) الْمُطْلَقِ الْعَارِي عَنْ التَّقْيِيدِ بِعَدَدٍ. (أَنْ تَقْضِيَ إلَّا بِالثَّلَاثِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ فِي الْمُطْلَقِ إنْ قَضَتْ بِدُونِ الثَّلَاثِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَبْطُلُ مَا بِيَدِهَا وَتَبْقَى فِي عِصْمَةِ زَوْجِهَا بَعْدُ، وَلَهَا عَمَّا جَعَلَهُ الشَّارِعُ لَهَا مِنْ إيقَاعِ الثَّلَاثِ، وَقَيَّدْنَا التَّخْيِيرَ بِالْمُطْلَقِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُقَيَّدِ بِعَدَدٍ فَلَا تُوقِعُ أَكْثَرَ مِنْهُ، فَإِنْ أَوْقَعَتْ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ الَّذِي سَمَّاهُ فَإِنَّمَا يَبْطُلُ مَا قَضَتْ بِهِ وَتَسْتَمِرُّ عَلَى تَخْيِيرِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ إنْ قَضَتْ بِوَاحِدَةٍ فِي اخْتِيَارِ تَطْلِيقَتَيْنِ أَوْ فِي تَطْلِيقَتَيْنِ وَمِنْ تَطْلِيقَتَيْنِ، فَلَا تَقْضِي إلَّا بِوَاحِدَةٍ، لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ وَإِنْ أَوْقَعَتْ أَكْثَرَ لَزِمَهُ وَاحِدَةٌ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مَحَلَّ مُنَاكَرَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْمُخَيَّرَةِ حَيْثُ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا ذَكَرَ الْمَدْخُولَ بِهَا بِقَوْلِهِ: (ثُمَّ الْمُخَيَّرَةُ) تَخْيِيرًا مُطْلَقًا بَعْدَ الدُّخُولِ (لَا نُكْرَةَ لَهُ فِيهَا) عِنْدَ إيقَاعِهَا الثَّلَاثَ لِبُطْلَانِ مَا بِيَدِهَا إنْ قَضَتْ بِأَقَلَّ مِنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا نُكْرَةَ لَهُ إنْ دَخَلَ فِي تَخْيِيرٍ مُطْلَقٍ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْمُمَلَّكَةِ يُنَاكِرُهَا وَلَوْ مَدْخُولًا بِهَا، وَالْمُخَيَّرَةِ لَا يُنَاكِرُهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا دَلَالَةُ اخْتَارِي نَفْسَك عَلَى قَطْعِ الْعِصْمَةِ، وَلَا تَنْقَطِعُ بَعْدَ الدُّخُولِ إلَّا بِالثَّلَاثِ بِخِلَافِ مَلَّكْتُك أَمْرَك. (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ التَّخْيِيرِ، وَفِيهِ خِلَافٌ بِالْإِبَاحَةِ وَعَدَمِهَا، وَأَمَّا التَّمْلِيكُ فَمُبَاحٌ اتِّفَاقًا، إلَّا إنْ قُيِّدَ بِالثَّلَاثِ فَيَنْبَغِي جَرَيَانُ الْخِلَافِ فِيهِ، وَأَمَّا التَّوْكِيلُ فَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ كَرَاهَتَهُ إنْ قُيِّدَ بِالثَّلَاثِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِهِ عِنْدَ عَدَمِ التَّقْيِيدِ، وَلَعَلَّ حُكْمَهُ الْجَوَازُ كَجَوَازِ التَّوْكِيلِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَرُبَّمَا يُفْهِمُ خِفَّةُ أَمْرِهِ عَنْ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ بِجَوَازِ عَزْلِهَا فِيهِ دُونَ التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ. قَالَ خَلِيلٌ: إنْ فَوَّضَ لَهَا تَوْكِيلًا فَلَهُ الْعَزْلُ إلَّا لِتَعَلُّقِ حَقٍّ لَا تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا. الثَّانِيَةُ: لَمْ يَنُصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى اشْتِرَاطِ بُلُوغِ الزَّوْجِ فِي التَّخْيِيرِ وَالتَّمْلِيكِ لِعِلْمِهِ مِمَّا سَبَقَ مِنْ عَدَمِ صِحَّةِ طَلَاقِ الصَّبِيِّ، بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ تَخْيِيرُهَا وَتَمْلِيكُهَا، وَيَصِحُّ مَا قَضَتْ بِهِ حَيْثُ كَانَتْ مُمَيِّزَةً مُطْلَقًا، وَقِيلَ إنْ أَطَاقَتْ الْوَطْءَ، وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ فِي عَدَمِ اشْتِرَاطِ الْبُلُوغِ الْأَجْنَبِيُّ، يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُفَوِّضَ لَهُ أَمْرَ الزَّوْجَةِ تَخْيِيرًا أَوْ تَمْلِيكًا أَوْ تَوْكِيلًا، وَلَوْ كَانَ الصَّبِيُّ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً، وَلَكِنْ لَا يَفْعَلُ إلَّا مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، وَيَصِيرُ بِمَنْزِلَتِهَا فِي سَائِرِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ مُنَاكَرَةٍ وَعَدَمِهَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ حُضُورُهَا، وَقُرْبُ غَيْبَتِهِ كَالْيَوْمَيْنِ لَا أَكْثَرَ فَيَصِيرُ لَهَا مَا جَعَلَهُ لِلْبَعِيدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ التَّفْوِيضُ لِغَيْرِهَا وَلَهُ النَّظَرُ وَصَارَ كَهِيَ إنْ حَضَرَ أَوْ كَانَ غَائِبًا غَيْبَةً كَيَوْمَيْنِ لَا أَكْثَرَ فَيَنْتَقِلُ لَهَا النَّظَرُ، إلَّا أَنْ تُمَكِّنَ مِنْ نَفْسِهَا فَيَسْقُطُ مَا كَانَ بِيَدِهَا، أَوْ مَا كَانَ بِيَدِ الْغَيْرِ إذَا عَلِمَ بِتَمْكِينِهَا وَرَضِيَ بِذَلِكَ، وَكَذَا يَسْقُطُ حَقُّ الْمَجْعُولِ لَهُ أَمْرُهَا إذَا كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَابَ وَلَمْ يَشْهَدْ أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى حَقِّهِ، فَإِنْ أَشْهَدَ فَفِي بَقَائِهِ بِيَدِهِ أَوْ يَنْتَقِلُ لِلزَّوْجَةِ قَوْلَانِ. الثَّالِثَةُ: لَوْ مَلَّكَ أَمْرَ امْرَأَتِهِ لِرَجُلَيْنِ وَأَمَرَهُمَا بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ قَالَ لَهُمَا: طَلِّقَاهَا إنْ شِئْتُمَا فَلَيْسَ لِوَاحِدٍ الِاسْتِقْلَالُ بِطَلَاقِهَا إلَّا أَنْ يَجْعَلَ لَهُ ذَلِكَ كَالْوَكِيلَيْنِ عَلَى الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُمَا: طَلِّقَاهَا وَلَمْ يَقُلْ إنْ شِئْتُمَا لَكَانَ لِكُلٍّ الِاسْتِقْلَالُ بِطَلَاقِهَا، وَأَمَّا لَوْ فَوَّضَ لَهُمَا فِي إعْلَامِهَا بِطَلَاقِهَا فَإِنَّهُ يَكْفِي أَحَدُهُمَا فِي إخْبَارِهَا وَتَعْتَمِدُ عَلَى إخْبَارِهِ وَتَعْتَدُّ لِأَنَّ الطَّلَاقَ وَقَعَ مِنْهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ لَهُمَا: أَعْلِمَاهَا بِأَنِّي طَلَّقْتهَا أَوْ بِطَلَاقِهَا. هَذَا تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا يَشْهَدُ لَهُ كَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ وَبَحْثُ الْأُجْهُورِيُّ. [الْإِيلَاء] وَلَمَّا قِيلَ: إنَّ الْإِيلَاءَ كَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَتَسَبَّبُ عَنْهُ الطَّلَاقُ فِي الْإِسْلَامِ، ذَكَرَ غَالِبَ مَسَائِلِهِ عَقِبَ الطَّلَاقِ وَحَقِيقَتُهُ لُغَةً مُطْلَقُ الِامْتِنَاعِ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ فِيمَا كَانَ الِامْتِنَاعُ مِنْهُ بِيَمِينٍ وَشَرْعًا حَلِفُ زَوْجٍ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ يُوجِبُ خِيَارَهَا فِي طَلَاقِهِ بَعْدَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ التَّرَبُّصِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [البقرة: 226] الْآيَةَ فَقَالَ: (وَكُلُّ حَالِفٍ) مِنْ زَوْجٍ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ يُتَصَوَّرُ مِنْهُ الْجِمَاعُ وَلَوْ سَكْرَانَ سُكْرًا حَرَامًا أَوْ أَخْرَسَ إذَا فُهِمَ مِنْهُ بِإِشَارَةٍ وَنَحْوِهَا كَكِتَابَةٍ وَالْأَعْجَمِيِّ بِلِسَانِهِ وَلَا يَنْعَقِدُ مِنْ كَافِرٍ لِآيَةِ: {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] سَوَاءٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ أَوْ بِصِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ لِأَنَّهَا الَّتِي يَنْعَقِدُ بِهَا الْيَمِينُ، أَوْ بِمَا فِيهِ الْتِزَامٌ مِنْ عِتْقٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ) لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ عَلَى مَا يَسْتَلْزِمُ تَرْكُهُ، كَحَلِفِهِ أَنَّهُ لَا يَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ لَا يَلْتَقِي مَعَهَا وَمَفْعُولُ تَرْكِ (أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ) لِلْحُرِّ وَأَكْثَرَ مِنْ شَهْرَيْنِ لِلْعَبْدِ. قَالَ خَلِيلٌ: الْإِيلَاءُ يَمِينُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ يُتَصَوَّرُ وِقَاعُهُ، وَإِنْ مَرِيضًا يَمْنَعُ وَطْءَ زَوْجَتِهِ غَيْرِ الْمُرْضِعَةِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ شَهْرَيْنِ لِلْعَبْدِ، وَظَاهِرُهُ كَالْمُصَنِّفِ وَلَوْ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. (فَهُوَ مُولٍ) الْجُمْلَةُ خَبَرُ " كُلُّ " الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً وَقَرَنَهُ بِالْفَاءِ لِمَا فِي الْمُبْتَدَأِ مِنْ الْعُمُومِ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالشَّرْطِ، وَقَوْلُنَا مِنْ زَوْجٍ؛ لِأَنَّ الْإِيلَاءَ إنَّمَا هُوَ حَلِفُ الزَّوْجِ، وَأَمَّا حَلِفُ السَّيِّدِ عَلَى وَطْءِ أَمَتِهِ فَلَا يُعَدُّ إيلَاءً لِآيَةِ: {يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} [البقرة: 226] وَقَوْلُنَا مُسْلِمٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْكَافِرِ فَلَا يَنْعَقِدُ مِنْهُ إيلَاءٌ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ لَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] فَإِنَّ الْغُفْرَانَ إنَّمَا هُوَ لِلْمُسْلِمِ لِآيَةِ: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] وَقَوْلُنَا مُكَلَّفٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْخَصِيِّ الْمَجْبُوبِ وَالشَّيْخِ الْفَانِي فَلَا يَصِحُّ مِنْهُمْ إيلَاءٌ، وَقَوْلُنَا لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْءِ زَوْجَتِهِ الْمُرْضِعِ مُدَّةَ رَضَاعِهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مُولِيًا، إلَّا إذَا قَصَدَ بِتَرْكِ الْوَطْءِ إضْرَارَهَا، لَا إنْ قَصَدَ إصْلَاحَ الْوَلَدِ، أَوْ لَا قَصْدَ لَهُ لِحَمْلِهِ عَلَى قَصْدِ الْإِصْلَاحِ، لِمَا أَنَّ وَطْءَ الْمُرْضِعِ يُؤْذِي الْوَلَدَ غَالِبًا، وَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا الْقَيْدِ اشْتِرَاطُ إطَاقَةِ الزَّوْجَةِ، لَا إنْ لَمْ تُطِقْهُ لِصِغَرٍ أَوْ رَتَقٍ أَوْ شِدَّةِ مَرَضٍ فَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ إيلَاءٌ بِحَلِفِهِ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ أَكْثَرُ يَقْتَضِي أَنَّ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ عَلَى الْأَرْبَعِ يَقَعُ بِهِ الْإِيلَاءُ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَا، كَمَا أَنَّ مُطْلَقَ الزِّيَادَةِ عَلَى الشَّهْرَيْنِ فِي حَقِّ الْعَبْدِ يَكْفِي، وَإِنَّمَا اقْتَصَرَ الْمُصَنِّفُ عَلَى أَجَلِ الْحُرِّ اعْتِمَادًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 أَجَلِ الْإِيلَاءِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحُرِّ وَشَهْرَانِ لِلْعَبْدِ حَتَّى يُوقِفَهُ السُّلْطَانُ. وَمَنْ تَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ   [الفواكه الدواني] عَلَى مَا اُشْتُهِرَ مِنْ أَنَّ الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ فِي هَذَا كَالْحُدُودِ وَالطَّلَاقِ الثَّانِي، لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْإِيلَاءِ، وَيَظْهَرُ مِنْ اشْتِرَاطِ قَصْدِ الضَّرَرِ الْحُرْمَةُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الزَّمَنِ الَّذِي يَكُونُ بِالْحَلِفِ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِيهِ مُولِيًا. شَرَعَ فِي بَيَانِ الزَّمَنِ الَّذِي يَضْرِبُ لَهُ وَيُطَلَّقُ عَلَيْهِ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَقَعُ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُولِي (الطَّلَاقُ) إلَّا (بَعْدَ مُضِيِّ أَجَلِ الْإِيلَاءِ) الَّذِي ضَرَبَهُ الْقَاضِي لِلزَّوْجِ بَعْدَ إيلَائِهِ (وَهُوَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحُرِّ) ابْتِدَاؤُهَا مِنْ يَوْمِ الْحَلِفِ إنْ كَانَتْ يَمِينُهُ صَرِيحَةً فِي تَرْكِ الْوَطْءِ الْمُدَّةَ الْمَذْكُورَةَ، كَوَاللَّهِ لَا أَطَؤُك فَوْقَ خَمْسَةِ أَشْهُرٍ، أَوْ مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ وَالْحُكْمِ إنْ احْتَمَلَتْ الْمُدَّةُ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُقَدَّرِ وَعَدَمَهَا، كَوَاللَّهِ لَا أَطَؤُك حَتَّى يَقْدَمَ زَيْدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْأَجَلُ مِنْ الْيَمِينِ إنْ كَانَتْ يَمِينُهُ صَرِيحَةً فِي تَرْكِ الْوَطْءِ، لَا إنْ احْتَمَلَتْ مُدَّةُ يَمِينِهِ أَقَلَّ أَوْ حَلَفَ عَلَى حِنْثٍ، فَمِنْ الرَّفْعِ وَالْحُكْمِ لِأَنَّهُ فِي الْأَجَلِ الَّذِي لَهَا الْقِيَامُ بَعْدَ مُضِيِّهِ. (وَشَهْرَانِ لِلْعَبْدِ) لِأَنَّهُ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ (حَتَّى) تَرْفَعَهُ الزَّوْجَةُ، وَ (يُوقِفُهُ السُّلْطَانُ) أَوْ الْقَاضِي وَيَأْمُرُهُ بِالْفَيْئَةِ وَهِيَ الرُّجُوعُ إلَى الْوَطْءِ الَّذِي حَلَفَ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِنْ وَطِئَ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ وَعَدَ بِهِ أُمْهِلَ وَاخْتُبِرَ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ بِاجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، فَإِنْ لَمْ يَطَأْ طَلَّقَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَعِدْ بِالْوَطْءِ بِأَنْ قَالَ بِلَفْظِهِ: لَا أَطَأُ وَلَا يُتَلَوَّمُ لَهُ، فَإِنْ ادَّعَى الْوَطْءَ صُدِّقَ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ نَكَلَ حَلَفَتْ الْمَرْأَةُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ، وَيُطَلِّقُ عَلَيْهِ الْحَاكِمُ إنْ شَاءَتْ الْمَرْأَةُ بِأَنْ يَأْمُرَهُ الْحَاكِمُ بِطَلَاقِهَا، فَإِنْ لَمْ يُطَلِّقْهَا فَهَلْ يُطَلِّقُ الْحَاكِمُ أَوْ يَأْمُرُهَا بِهِ ثُمَّ يَحْكُمُ قَوْلَانِ، وَتَقَعُ عَلَيْهِ طَلْقَةٌ رَجْعِيَّةٌ، وَلَوْ حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لِمَا اُشْتُهِرَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ الطَّلَاقَ عَلَى الْمُولِي وَالْمُعْسِرِ بِالنَّفَقَةِ رَجْعِيٌّ، وَفُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ عَلَى الْمُولِي بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ، وَأَنَّ الْحَقَّ لِلْمَرْأَةِ فِي الْبَقَاءِ وَالْفِرَاقِ وَلَوْ صَغِيرَةً أَوْ سَفِيهَةً، فَلَهَا إسْقَاطُ حَقِّهَا فِي الْوَطْءِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الزَّوْجَةُ أَمَةً يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَا سَيِّدِهَا عِنْدَ إرَادَتِهَا الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ لَهُ حَقًّا فِي الْوَلَدِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 226] وَمَعْنَى فَاءُوا رَجَعُوا إلَى الْوَطْءِ بَعْدَ امْتِنَاعِهِمْ مِنْهُ، وَتَحْصُلُ الْفَيْئَةُ بِمُجَرَّدِ مَغِيبِ الْحَشَفَةِ فِي قُبُلِ الثَّيِّبِ، وَافْتِضَاضِ الْبِكْرِ عَلَى وَجْهٍ مُبَاحٍ، وَلَوْ مَعَ جُنُونِ الرَّجُلِ لَا مَعَ إكْرَاهِهِ، فَلَا تَحْصُلُ بِوَطْئِهِ مُكْرَهًا لِقَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: وَطْءُ الْمُكْرَهِ لَغْوٌ؛ لِأَنَّ الْوَطْءَ مَعَ الْإِكْرَاهِ لَا يَنْتَفِي مَعَهُ قَصْدُ الضَّرَرِ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ حَتَّى يُوقِفَهُ السُّلْطَانُ لِلرَّدِّ عَلَى أَشْهَبَ، فَإِنَّهُ رَوَى عَنْ مَالِكٍ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِمُجَرَّدِ مُرُورِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ وَهُوَ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ لِلْحُرِّ وَالشَّهْرَانِ لِلْعَبْدِ، وَتَمَسَّكَ مَنْ قَالَ بِالْمَشْهُورِ بِمَا تُعْطِيهِ الْفَاءُ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ فَاءُوا} [البقرة: 226] فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِمُ تَأَخُّرَ مَا بَعْدَهَا عَمَّا قَبْلَهَا فَتَكُونُ الْفَيْئَةُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ السُّلْطَانَ لَا يُوقِفُ الْمُولِي إلَّا مَعَ عَدَمِ انْحِلَالِ الْإِيلَاءِ عَنْ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَانْحَلَّ الْإِيلَاءُ بِزَوَالِ مِلْكِ مَنْ حَلَفَ بِعِتْقِهِ وَلَمْ يَعُدْ بِغَيْرِ إرْثٍ، وَكَتَعْجِيلِ الْحِنْثِ، وَتَكْفِيرِ مَا يُكَفَّرُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ الِانْحِلَالُ فَلَهَا وَلِسَيِّدِهَا إنْ لَمْ يَمْتَنِعْ وَطْؤُهَا الْمُطَالَبَةُ بَعْدَ الْأَجَلِ بِالْفَيْئَةِ وَهِيَ تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي الْقُبُلِ إلَى آخِرِهِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ الْمُولِيَ لَهُ أَجَلَانِ: أَحَدُهُمَا الَّذِي يَحْلِفُ عَلَى تَرْكِ الْوَطْءِ فِيهِ، وَالثَّانِي الَّذِي يَضْرِبُهُ الْحَاكِمُ لِلْمُولِي حِينَ إخْبَارِ الزَّوْجَةِ لَهُ بِأَنَّ زَوْجَهَا حَلَفَ عَلَى تَرْكِ وَطْئِهَا تِلْكَ الْمُدَّةَ الْمُتَقَدِّمَةَ [الظِّهَار] وَلَمَّا فَرَغَ الْمُصَنِّفُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْإِيلَاءِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الظِّهَارِ، وَعَرَّفَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: تَشْبِيهُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ مَنْ تَحِلُّ أَوْ أَجْزَاءَهَا بِظَهْرٍ مُحَرَّمٍ أَوْ جُزْئِهِ ظِهَارٌ، وَالْمُسْلِمُ يَشْمَلُ الزَّوْجَ وَالسَّيِّدَ، فَلَا يَلْزَمُ الْكَافِرَ ظِهَارٌ وَلَوْ رَفَعَ أَمْرَهُ إلَيْنَا، بِخِلَافِ إيلَائِهِ فَإِنَّنَا نَحْكُمُ بَيْنَهُمْ عِنْدَ الرَّفْعِ، وَالْمُكَلَّفُ يَشْمَلُ الْعَبْدَ وَالسَّكْرَانَ، وَتَذْكِيرُ الْأَوْصَافِ يَقْتَضِي أَنَّ الظِّهَارَ لَا يَقَعُ مِنْ الْمَرْأَةِ وَحُكْمُهُ الْحُرْمَةُ لِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَتِهِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] إلَى قَوْلِهِ {مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا} [المجادلة: 2] وَكَانَ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَأَوَّلِ الْإِسْلَامِ، حَتَّى ظَاهَرَ أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ مِنْ امْرَأَتِهِ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ وَنَزَلَتْ سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ حِينَ جَادَلَتْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَاخْتَلَفَتْ الْأَحَادِيثُ فِي اللَّفْظِ الَّذِي جَادَلَتْهُ بِهِ فَقِيلَ: «إنَّهَا قَالَتْ لَهُ: أَكَلَ شَبَابِي وَفَرَشْت لَهُ بَطْنِي فَلَمَّا كَبِرَ سِنِّي ظَاهَرَ مِنِّي، وَلِي صِبْيَةٌ مِنْهُ صِغَارٌ إنْ ضَمَمْتهمْ إلَيْهِ ضَاعُوا وَإِنْ ضَمَمْتهمْ إلَيَّ جَاعُوا، وَهُوَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ لَهَا: اتَّقِي اللَّهَ فِي ابْنِ عَمِّك» فَمَا بَرِحْت حَتَّى نَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} [المجادلة: 1] إلَى قَوْلِهِ {تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة: 1] أَيْ تَرَاجُعَكُمَا، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لِيُعْتِقْ رَقَبَةً. قَالَتْ: لَا يَجِدُ. قَالَ: فَيَصُومُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ، قَالَ: فَيُطْعِمُ سِتِّينَ مِسْكِينًا، قَالَتْ: مَا عِنْدَهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَصَدَّقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 بِعِتْقِ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ لَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا طَرَفٌ مِنْ حُرِّيَّةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أَطْعَمَ سِتِّينَ مِسْكِينًا مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ. وَلَا يَطَؤُهَا فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْكَفَّارَةُ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَلْيَتُبْ   [الفواكه الدواني] بِهِ، قَالَ: فَإِنِّي سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ، قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنَا سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ، قَالَ: قَدْ أَحْسَنْت فَاذْهَبِي وَأَطْعِمِي سِتِّينَ مِسْكِينًا وَارْجِعِي لِابْنِ عَمِّك» . وَالْعَرَقُ بِالتَّحْرِيكِ سِتَّةَ عَشَرَ رِطْلًا، وَبِالتَّسْكِينِ سَبْعُمِائَةٍ وَعِشْرُونَ رِطْلًا، وَسُمِّيَ ظِهَارًا لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الظَّهْرِ، لِأَنَّ الْوَطْءَ رُكُوبٌ وَالرُّكُوبُ إنَّمَا يَكُونُ غَالِبًا عَلَى الظَّهْرِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَظَاهَرَ) مِنْ الْأَزْوَاجِ أَوْ السَّادَاتِ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (مِنْ امْرَأَتِهِ) وَلَوْ الْمُطَلَّقَةَ طَلَاقًا رَجْعِيًّا أَوْ مِنْ أَمَتِهِ وَلَوْ مُدَبَّرَةً أَوْ أُمِّ وَلَدٍ وَنَوَى الْعُودَ لِوَطْئِهَا (فَلَا يَطَؤُهَا) وَلَا يَسْتَمْتِعُ بِهَا (حَتَّى يُكَفِّرَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَمَعْنَى الْمُظَاهَرَةِ أَنْ يُشَبِّهَ مَنْ تَحِلُّ كَزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ أَبَدًا بِأَنْ يَقُولَ لَهَا: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ الدَّابَّةِ، وَقَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {مِنْ نِسَائِهِمْ} [المجادلة: 3] لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَقَوْلُهُ فِيهَا: {ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3] الْمُرَادُ لِنَقِيضِ مَا قَالُوا، لِأَنَّ الَّذِي قَالُوهُ التَّحْرِيمُ وَنَقِيضُهُ التَّحْلِيلُ، وَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ بَدَلَ قَوْلِهِ فَلَا يَطَؤُهَا فَلَا يَمَسُّهَا لَفُهِمَ الْوَطْءُ بِالْأُولَى، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ قَبْلَهَا الِاسْتِمْتَاعُ وَعَلَيْهَا مَنْعُهُ وَوَجَبَ إنْ خَافَتْهُ رَفْعُهَا لِلْحَاكِمِ، وَجَازَ كَوْنُهُ مَعَهَا إنْ أَمِنَ، وَيَلْزَمُهَا خِدْمَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْهَا بِشَرْطِ الِاسْتِتَارِ بِغَيْرِ وَجْهِهَا وَرَأْسِهَا وَأَطْرَافِهَا لِجَوَازِ نَظَرِهِ لِهَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ بِغَيْرِ لَذَّةٍ، وَإِنَّمَا تَجِبُ الْكَفَّارَةُ بِالْعَوْدِ وَتَتَحَتَّمُ بِالْوَطْءِ وَلَا يُجْزِئُ إخْرَاجُهَا قَبْلَ الْعُودِ، وَهُوَ الْعَزْمُ عَلَى الْوَطْءِ أَوْ مَعَ نِيَّةِ الْإِمْسَاكِ. (بِعِتْقِ رَقَبَةٍ) لَا جَنِينٍ فَلَا يُجْزِئُ وَلَكِنْ يُعْتَقُ بَعْدَ وَضْعِهِ، وَبَيَّنَ وَصْفَهَا اللَّازِمَ بِقَوْلِهِ: (مُؤْمِنَةٍ) لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْعِتْقِ الْقُرْبَةُ، وَعِتْقُ الْكَافِرِ يُنَافِيهَا، فَإِنْ قِيلَ الْآيَةُ: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَلَمْ يُقَيِّدْهَا بِمُؤْمِنَةٍ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الرَّقَبَةَ قُيِّدَتْ بِالْإِيمَانِ فِي كَفَّارَةِ الْقَتْلِ فَحُمِلَ الْمُطْلَقُ عَلَى الْمُقَيَّدِ. (سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ) فَلَا يُجْزِئُ رَقِيقٌ مَقْطُوعُ الْأُصْبُعِ وَلَا أَعْمَى وَلَا أَبْكَمُ، وَلَا مَجْنُونٌ وَإِنْ قَلَّ زَمَنُ جُنُونِهِ، وَلَا مَرِيضٌ مُشْرِفٌ، وَلَا مَقْطُوعُ أُذُنَيْنِ، وَلَا أَصَمُّ، وَلَا ذُو هَرَمٍ وَعَرَجٍ شَدِيدَيْنِ، وَلَا مُجْذَمٌ وَلَا أَبْرَصُ وَلَا أَفْلَجُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ ذِي الْعُيُوبِ الْمُنَقِّصَةِ نَقْصًا مُتَفَاحِشًا، بِخِلَافِ ذِي الْمَرَضِ الْخَفِيفِ أَوْ الْعَرَجِ الْخَفِيفِ أَوْ الْعَوَرِ. (وَلَيْسَ فِيهَا شِرْكٌ وَلَا طَرَفٌ مِنْ حُرِّيَّةٍ) فَلَا يُجْزِئُ الرَّقِيقُ الْمُكَاتَبُ أَوْ الْمُدَبَّرُ وَنَحْوُهُمَا مِنْ كُلِّ مَا فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ أَوْ اُشْتُرِيَ لِلْعِتْقِ، لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الرَّقَبَةُ مُحَرَّرَةً لِأَجْلِ الظِّهَارِ، لَا إنْ اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ، وَلَا الْمُشْتَرَاةُ عَلَى شَرْطِ حُرِّيَّتِهَا بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ، وَلَا بُدَّ أَنْ تَكُونَ كَامِلَةً، وَأَنْ تَكُونَ مُحَقَّقَةَ الصِّحَّةِ، لَا إنْ كَانَتْ غَائِبَةً مَقْطُوعَةَ الْخَبَرِ، فَإِنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً مُتَّصِفَةً بِتِلْكَ الْأَوْصَافِ أَجْزَأَتْ وَلَوْ كَانَ مُعْسِرًا بِحَيْثُ يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، وَلَكِنْ كَلَّفَ نَفْسَهُ وَتَدَايَنَهَا فَإِنَّهَا تُجْزِئُهُ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ فَرْضُهُ التَّيَمُّمُ فَتَكَلَّفَ الْغُسْلَ، وَكَمَنْ فَرْضُهُ الْجُلُوسُ فَصَلَّى قَائِمًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَوْ تَكَلَّفَهُ الْمُعْسِرُ جَازَ، وَيُجْزِئُ عِتْقُ الْغَيْرِ عَنْهُ وَلَوْ لَمْ يَأْذَنْ إنْ عَادَ وَرَضِيَهُ، وَلَمَّا كَانَتْ كَفَّارَةُ الظِّهَارِ كَكَفَّارَةِ الْقَتْلِ مُرَتَّبَةً بِنَصِّ الْقُرْآنِ قَالَ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) عِنْدَهُ رَقَبَةً تُجْزِئُ وَلَا ثَمَنَهَا (صَامَ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) وَيَنْوِي تَتَابُعَهُمَا وَيَنْوِي بِهِمَا الْكَفَّارَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: يَنْوِي التَّتَابُعَ وَالْكَفَّارَةَ فَإِنْ ابْتَدَأَهُمَا بِالْهِلَالِ اكْتَفَى بِهِمَا وَإِنْ كَانَا نَاقِصَيْنِ، وَإِنْ ابْتَدَأَ الصَّوْمَ مِنْ أَثْنَاءِ شَهْرٍ صَحَّ وَتَمَّمَ الْمُنْكَسِرُ مِنْ الثَّالِثِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ الصَّوْمِ الْعَجْزُ عَنْ الْعِتْقِ وَقْتَ الْأَدَاءِ أَيْ إخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ، فَلَا يُجْزِئُ الصَّوْمُ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الرَّقَبَةِ، وَأَنْ يَمْلِكَ مُحْتَاجٌ إلَيْهِ لِكَمَرَضٍ أَوْ مَنْصِبٍ أَوْ بِمِلْكِ رَقَبَةٍ فَقَطْ ظَاهَرَ مِنْهَا فَيُعْتِقُهَا عَنْ ظِهَارِهِ مِنْهَا وَيَتَزَوَّجُهَا بَعْدَ عِتْقِهَا مِنْ غَيْرِ كَفَّارَةٍ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَظَاهِرِ الْمَالِكِ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ لَا يُجْزِئُهُ الصَّوْمُ، وَعَادِمِ الْمَاءِ الْوَاجِدِ لِثَمَنِهِ لَكِنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ يُجْزِئُهُ التَّيَمُّمُ مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ الْعَدَمَ فِي كُلٍّ حَيْثُ قَالَ فِي التَّيَمُّمِ: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً} [المائدة: 6] وَقَالَ فِي الظِّهَارِ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} [المجادلة: 4] قِيلَ: الْفَرْقُ أَنَّ الْمَظَاهِرَ فَعَلَ كَبِيرَةً بِارْتِكَابِهِ الظِّهَارَ فَشُدِّدَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ الْغَالِبُ فِيهِ فَقْدُ الْمَاءِ لِضَرُورَةِ سَفَرٍ أَوْ مَرَضٍ، وَأَيْضًا تَكَرُّرُ الْوُضُوءِ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوْجَبَ التَّخْفِيفَ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُنَبِّهْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا إذَا حَصَلَ لَهُ الْيَسَارُ بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الصَّوْمِ، وَنَبَّهَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ أَيْسَرَ فِيهِ تَمَادَى إلَّا أَنْ يُفْسِدَهُ فَيَتَعَيَّنَ الْعِتْقُ، وَنُدِبَ الْعِتْقُ فِي كَالْيَوْمَيْنِ وَنَحْوِهِمَا، وَإِنْ حَصَلَ لَهُ الْيَسَارُ بَعْدَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لَمْ يُنْدَبْ لَهُ الرُّجُوعُ إلَى الْعِتْقِ بَلْ يَجُوزُ لَهُ، وَمِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ فِي ذَلِكَ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ، بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْيَمِينِ لِغِلَظِ أَمْرِهِمَا (فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ) الْمَظَاهِرُ التَّكْفِيرَ بِالصَّوْمِ لِمَرَضٍ وَنَحْوِهِ (أَطْعَمَ) أَيْ مَلَّكَ (سِتِّينَ مِسْكِينًا) أَحْرَارًا مُسْلِمِينَ وَمَفْعُولُ أَطْعَمَ الثَّانِي (مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكِينٍ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُ بَعْدَ أَنْ فَعَلَ بَعْضَ الْكَفَّارَةِ بِإِطْعَامٍ أَوْ صَوْمٍ فَلْيَبْتَدِئْهَا. وَلَا بَأْسَ بِعِتْقِ الْأَعْوَرِ فِي الظِّهَارِ   [الفواكه الدواني] بِمُدِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَدْفَعُهُمَا بُرًّا إنْ اقْتَاتُوهُ أَوْ مُخْرَجًا فِي الْفِطْرِ فَعَدْلُهُمَا قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا} [المجادلة: 4] وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا مِنْهُ الْإِطْعَامُ، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ الَّذِي يُخْرَجُ مِنْ الطَّعَامِ فِي الْكَفَّارَاتِ هُوَ الَّذِي يُخْرَجُ فِي صَدَقَةِ الْفِطْرِ، كَالشَّعِيرِ وَالْقَمْحِ وَالسُّلْتِ وَالزَّبِيبِ وَالْأَقِطِ وَالذُّرَةِ وَالْأُرْزِ وَالدَّخَنِ وَالتَّمْرِ، وَالْمُرَادُ بِعَدْلِهِمَا أَيْ فِي الشِّبَعِ بِأَنْ يُقَالَ: إذَا شَبِعَ الرَّجُلُ مِنْ الْمُدَّيْنِ الْكَائِنَيْنِ مِنْ الْبُرِّ كَمْ يُشْبِعُهُ مِنْ غَيْرِ الْبُرِّ فَيُقَالُ كَذَا فَيُخْرَجُ ذَلِكَ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْعَدَدِ الْمَذْكُورِ، فَلَا يَجُوزُ إعْطَاءُ تِلْكَ الْأَمْدَادِ لِأَقَلَّ مِنْ السِّتِّينَ وَلَا لِأَكْثَرَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّهُ يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُدَّيْنِ خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَالْمَشْهُورُ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٌ وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ: أَنَّ الْوَاجِبَ لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ بِمُدِّ هِشَامٍ وَهُوَ قَدْرُ مُدٍّ وَثُلُثَيْنِ مِنْ أَمْدَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ بَنَى كَلَامَهُ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ مُدَّ هِشَامٍ قَدْرُ مُدَّيْنِ مِنْ أَمْدَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ: شَاهَدْت بِالْمَدِينَةِ مُدَّ هِشَامٍ وَحَقَّقْته فَوَجَدْته قَدْرَ مُدَّيْنِ مِنْ أَمْدَادِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، نَقَلَ ذَلِكَ خَلِيلٌ فِي التَّوْضِيحِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ كَفَّارَةَ الظِّهَارِ كَغَيْرِهَا لَا تَصِحُّ مُلَفَّقَةً كَصَوْمِ الشَّهْرِ وَإِطْعَامِ ثَلَاثِينَ مِسْكِينًا، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِهِ أَيْضًا وَمِنْ نَصِّ الْقُرْآنِ أَنَّهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ لَكِنْ فِي حَقِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا الْعَبْدُ فَلَا يُكَفِّرُ إلَّا بِالصَّوْمِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ لِذِي الرِّقِّ وَلِمَنْ طُولِبَ بِالْفَيْئَةِ وَقَدْ الْتَزَمَ عِتْقَ مَنْ يَمْلِكُهُ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ إنَّمَا يَصُومُ إذَا قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ صَوْمُهُ يَضُرُّ بِسَيِّدِهِ مِنْ جِهَةِ خِدْمَتِهِ إنْ كَانَ عَبْدَ خِدْمَةٍ، أَوْ مِنْ جِهَةِ خَرَاجِهِ إنْ كَانَ عَبْدَ خَرَاجٍ، وَإِلَّا أَخَّرَ الصَّوْمَ حَتَّى يَقْوَى عَلَيْهِ وَيَأْذَنَ لَهُ، وَإِنْ أَذِنَ لَهُ السَّيِّدُ فِي الْإِطْعَامِ جَازَ لَهُ التَّفْكِيرُ بِهِ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: تَعَيَّنَ لِذِي الرِّقِّ مَعْنَاهُ لَا الْعِتْقُ فَلَا يَصِحُّ التَّكْفِيرُ بِهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَصِحُّ بِالْإِطْعَامِ بِإِذْنِ السَّيِّدِ وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا مَرَّ: وَمَنْ تَظَاهَرَ مِنْ امْرَأَتِهِ فَلَا يَطَؤُهَا حَتَّى يُكَفِّرَ جَوَازُ الْوَطْءِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِالشُّرُوعِ فِي الْكَفَّارَةِ قَالَ: (وَلَا يَطَؤُهَا) أَيْ يَحْرُمُ عَلَى الْمُظَاهِرِ أَنْ يَمَسَّ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا وَلَوْ بِالْقُبْلَةِ. (فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ وَحَتَّى تَنْقَضِيَ الْكَفَّارَةُ) سَوَاءٌ كَانَتْ بِالصَّوْمِ أَوْ بِالْإِطْعَامِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: حَتَّى يُكَفِّرَ حَتَّى تَتِمَّ الْكَفَّارَةُ، قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ قَبْلَهَا الِاسْتِمْتَاعُ وَعَلَيْهَا مَنْعُهُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: وَلَا يَطَؤُهَا يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ وَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ إنْ كَانَ التَّكْفِيرُ بِالْإِطْعَامِ فَلَهُ وَطْؤُهَا وَلَوْ نَهَارًا، وَإِنْ كَانَ بِالصَّوْمِ فَلَهُ وَطْءُ غَيْرِهَا لَيْلًا لِأَنَّهُ بِالنَّهَارِ صَائِمٌ (فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ مَسَّ الْمُظَاهَرُ مِنْهَا وَلَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْكَفَّارَةِ (فَلْيَتُبْ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) لِمُخَالَفَتِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَوُجُوبُ التَّوْبَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ ارْتَكَبَ الْمَنْهِيَّ عَنْهُ عَمْدًا لِأَنَّ الْإِثْمَ مَرْفُوعٌ عَنْ النَّاسِي، وَقَيَّدْنَا بِقَبْلِ الشُّرُوعِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانَ وَطْؤُهُ) لِلْمُظَاهَرِ مِنْهَا أَوْ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا. (بَعْدَ أَنْ فَعَلَ بَعْضَ الْكَفَّارَةِ بِإِطْعَامٍ أَوْ صَوْمٍ) وَلَوْ كَانَ الْبَاقِي مِنْهَا يَسِيرًا، كَصَوْمِ يَوْمٍ أَوْ إطْعَامِ مِسْكِينٍ، سَوَاءٌ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ غَلَطًا أَوْ نِسْيَانًا، فِي لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} [المجادلة: 3] وَجَوَابُ الشَّرْطِ (فَلْيَبْتَدِئْهَا) أَيْ الْكَفَّارَةَ لِانْقِطَاعِ التَّتَابُعِ وَلِبُطْلَانِ الْإِطْعَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَانْقَطَعَ تَتَابُعُهُ بِوَطْءِ الْمُظَاهَرَ مِنْهَا أَوْ وَاحِدَةٍ مِمَّنْ فِيهِنَّ كَفَّارَةٌ وَإِنْ لَيْلًا نَاسِيًا، وَمِثْلُ وَطْءِ الْمُقَدَّمَاتِ عَلَى الْمَشْهُورِ، لِأَنَّ الْآيَةَ فِيهَا الْمَسُّ وَهُوَ أَعَمُّ مِنْ الْوَطْءِ، كَبُطْلَانِ الْإِطْعَامِ وَيُفْطِرُ السَّفَرُ أَوْ بِمَرَضٍ هَاجَهُ، لَا إنْ لَمْ يُهِجْهُ فَلَا يُقْطَعُ كَالْفِطْرِ نِسْيَانًا أَوْ لِأَجْلِ إكْرَاهٍ أَوْ ظَنِّ غُرُوبٍ، فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ بِبُطْلَانِ الصَّوْمِ وَالْإِطْعَامِ بِالْوَطْءِ مُشْكِلٌ، لِأَنَّ سَبْقِيَّةَ بَعْضِ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْوَطْءِ أَوْلَى مِنْ تَأْخِيرِ جَمِيعِهَا وَقَدْ قِيلَ بِالْإِجْزَاءِ لَوْ تَقَدَّمَ الْوَطْءُ عَلَى الْجَمِيعِ، فَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُمَاسَّةَ الَّتِي يُطْلَبُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَيْهَا هِيَ الْمُمَاسَّةُ الْمُبَاحَةُ، لِأَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ} [المجادلة: 4] مِنْ قَبْلِ أَنْ تُبَاحَ لَهُ الْمُمَاسَّةُ، وَالْمُمَاسَّةُ الْوَاقِعَةُ فِي خِلَافِ الْكَفَّارَةِ لَيْسَتْ مُبَاحَةً، فَاسْتُؤْنِفَتْ كَفَّارَةٌ أُخْرَى لِقَصْدِ كَفَّارَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى مُمَاسَّةٍ مُبَاحَةٍ، وَأَمَّا وَطْءُ غَيْرِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا فَلَا حَرَجَ فِيهِ حَيْثُ وَقَعَ فِي اللَّيْلِ وَلَا يُبْطِلُ الصَّوْمَ وَلَوْ عَالِمًا، كَمَا لَا يُبْطِلُهُ نَهَارًا مَعَ النِّسْيَانِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ اشْتِرَاطِ سَلَامَةِ الرَّقَبَةِ مِنْ الْعُيُوبِ عَدَمُ إجْزَاءِ كُلِّ ذِي عَيْبٍ وَالْوَاقِعُ خِلَافُ ذَلِكَ، وَأَنَّ الَّذِي يَمْنَعُ الْإِجْزَاءَ الْعَيْبُ الْفَاحِشُ لَا الْخَفِيفُ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِعِتْقِ الْأَعْوَرِ) وَهُوَ مَا ذَهَبَ نُورُ إحْدَى عَيْنَيْهِ (فِي الظِّهَار) قَالَ خَلِيلٌ: وَيُجْزِئُ أَعْوَرُ وَمَغْصُوبٌ وَمَرْهُونٌ وَجَانٍ إنْ افْتَدَيَا وَذُو مَرَضٍ وَعَرَجٍ خَفِيفَيْنِ وَمَقْطُوعُ بَعْضِ أُصْبُعٍ، وَكَذَا مَقْطُوعُ بَعْضِ الْأُذُنِ أَوْ الْأَنْفِ، كَمَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْغَيْرِ بِشَرْطِهِ الَّذِي قَدَّمْنَاهُ، وَمِثْلُ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ غَيْرُهَا، فَلَا بَأْسَ هُنَا لِلْإِبَاحَةِ لِقَوْلِ مَالِكٍ: وَجَازَ، وَقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: وَأَجَازَ مَالِكٌ عِتْقَ الْأَعْوَرِ لِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 وَوَلَدِ الزِّنَا وَيُجْزِئُ الصَّغِيرُ وَمَنْ صَلَّى وَصَامَ أَحَبُّ إلَيْنَا. وَاللِّعَانُ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ فِي نَفْيِ حَمْلٍ يُدَّعَى قَبْلَهُ الِاسْتِبْرَاءُ   [الفواكه الدواني] الْعَيْنَ الْوَاحِدَةَ تَسُدُّ مَسَدَّ الْعَيْنَيْنِ وَتُغْنِي عَنْهُمَا، وَلِذَلِكَ وَجَبَ فِيهَا الدِّيَةُ كَامِلَةً. (وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِعِتْقِ (وَلَدِ الزِّنَا) فِي الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْكَفَّارَاتِ، وَكَذَا السَّابِقُ وَالْآبِقُ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ فِي ذَلِكَ. (وَ) كَذَا يَجُوزُ (يُجْزِئُ) عِتْقُ (الصَّغِيرِ) فِي الظِّهَارِ وَغَيْرِهِ وَلَوْ صَغِيرًا جِدًّا وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا لِجَبْرِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَلِصِدْقِ اسْمِ الرَّقَبَةِ عَلَيْهِ وَهَذَا بِاتِّفَاقٍ، وَأَمَّا الْكِتَابِيُّ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الْإِجْزَاءُ، وَأَمَّا الْكَافِرُ الْكَبِيرُ الَّذِي يُجْبَرُ عَلَى الْإِسْلَامِ وَهُوَ الْمَجُوسِيُّ فَفِي إجْزَاءٍ عِتْقِهِ وَعَدَمِهِ خِلَافٌ، وَعَلَى الْإِجْزَاءِ فَقِيلَ: يُوقَفُ عَنْ وَطْءِ الْمُظَاهَرِ مِنْهَا حَتَّى يُسْلِمَ، وَقِيلَ: لَا، وَعَلَى الْوَقْفِ لَوْ مَاتَ قَبْلَ إسْلَامِهِ لَا يَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا بِدُونِ كَفَّارَةٍ، وَعَلَى عَدَمِهِ تَحِلُّ لَهُ لِأَنَّهُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ عَلَى دِينِ مُشْتَرِيهِ، وَإِنَّمَا جَازَ عِتْقُ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا يَقْدِرُ عَلَى الْكَسْبِ حَالًا دُونَ الشَّيْخِ الزَّمِنِ، لِأَنَّ الصَّغِيرَ تُرْجَى قُدْرَتُهُ عَلَى الْكَسْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، بِخِلَافِ الشَّيْخِ الْفَانِي فَهُوَ كَذِي الْمَرَضِ الشَّدِيدِ. (وَ) عِتْقُ الصَّغِيرِ وَإِنْ كَانَ مُجْزِئًا لَكِنْ عِتْقُ (مَنْ صَلَّى وَصَامَ أَحَبُّ إلَيْنَا) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ أَنْ يُصَلِّيَ وَيَصُومَ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي كُلِّ كَفَّارَةِ عِتْقٍ مَنْ عَرَفَ الْإِسْلَامَ وَعَقَلَ الصَّلَاةَ وَالصَّوْمَ أَيْ عَرَفَ أَنَّهُمَا مِنْ الْقُرَبِ بِأَنْ بَلَغَ حَدَّ التَّمْيِيزِ وَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الِاحْتِلَامِ، لِأَنَّهُ إذَا بَلَغَ حَدَّ التَّمْيِيزِ وَعَرَفَ مَا سَبَقَ يَصِيرُ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَالْعَمَلِ بِحَيْثُ يَتَمَعَّشُ مِنْ كَسْبِهِ. (خَاتِمَةٌ) مِنْ أَعْتَقَ صَغِيرًا لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْكَسْبِ أَوْ أَعْتَقَ كَبِيرًا زَمِنًا لَزِمَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِمَا، حَتَّى يَبْلُغَ الصَّغِيرُ الْقُدْرَةَ عَلَى الْكَسْبِ وَيَمُوتَ الْكَبِيرُ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ [اللِّعَان] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الظِّهَارِ شَرَعَ فِي اللِّعَانِ هُوَ لُغَةً الْبُعْدُ فَيُقَالُ: لَعَنَهُ اللَّهُ أَبْعَدَهُ عَنْ رَحْمَتِهِ، وَكَانَتْ الْعَرَبُ تَطْرُدُ الشِّرِّيرَ وَتُسَمِّيهِ لَعَيْنًا لِئَلَّا تُؤَاخَذَ بِجَرَائِرِهِ، وَلِذَا اُشْتُقَّ اللِّعَانُ مِنْ اللَّعْنَةِ الَّتِي فِي خَامِسَةِ الزَّوْجِ لِسَبْقِهِ فِي اللِّعَانِ وَكَوْنِهِ أَقْوَى وَسَبَبًا فِي لِعَانِ الْمَرْأَةِ، وَأَمَّا شَرْعًا فَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: حَلِفُ زَوْجٍ عَلَى زِنَى زَوْجَتِهِ، أَوْ نَفْيِ حَمْلِهَا اللَّازِمِ لَهُ وَحَلِفُهَا عَلَى تَكْذِيبِهِ إنْ أَوْجَبَ نُكُولُهَا حَدَّهَا بِحُكْمِ قَاضٍ، وَاحْتُرِزَ بِاللَّازِمِ عَنْ غَيْرِ اللَّازِمِ، كَمَا لَوْ أَتَتْ بِهِ لِدُونِ مُدَّةِ الْحَمْلِ، أَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ خَصِيًّا، فَهَذَا الْوَلَدُ مَنْفِيٌّ عَنْ الزَّوْجِ بِغَيْرِ لِعَانٍ مَعَ فَسْخِ النِّكَاحِ لِتَبَيُّنِ وُقُوعِهِ فِي الْعِدَّةِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ: وَحَلِفُهَا مَا إذَا حَلَفَ وَنَكَلَتْ وَلَمْ يُوجِبْ النُّكُولُ حَدَّهَا، كَمَا إذَا غُصِبَتْ فَأَنْكَرَ وَلَدَهَا وَثَبَتَ الْغَصْبُ فَلَا لِعَانَ عَلَيْهَا، وَاللِّعَانُ عَلَيْهِ وَحْدَهُ لِنَفْيِ الْوَلَدِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ بِحُكْمِ قَاضٍ عَنْ لِعَانِ الزَّوْجَيْنِ بِغَيْرِ حُكْمٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ بِلِعَانٍ شَرْعِيٍّ، وَحُكْمُ اللِّعَانِ الْوُجُوبُ إنْ كَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ، وَالْجَوَازُ إنْ كَانَ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا، وَالسَّتْرُ أَوْلَى قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَسَبَبُهُ: إمَّا رُؤْيَةُ الزِّنَا أَوْ نَفْيُ الْحَمْلِ وَهُوَ مُخْتَصٌّ بِالزَّوْجَيْنِ وَلِذَا قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَاللِّعَانُ) مَشْرُوعٌ (بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ) وَلَوْ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا أَوْ فَسَقَا أَوْ رَقَّا لَا كَفَرَا، بِشَرْطِ إسْلَامِ الزَّوْجِ وَتَكْلِيفِهِ وَلَوْ عِنِّينًا أَوْ هَرَمًا، أَوْ خَصِيًّا مَقْطُوعَ الذَّكَرِ أَوْ الْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ ذَاهِبَ الْبَيْضَةِ الْيُسْرَى، أَوْ مَجْبُوبًا، لَكِنْ فِي الرُّؤْيَةِ وَالْقَذْفِ، وَأَمَّا فِي نَفْيِ الْحَمْلِ فَلَا لِعَانَ عَلَى الْمَجْبُوبِ، بَلْ يَنْتَفِي بِغَيْرِ لِعَانٍ، كَحَمْلِ زَوْجَةِ الصَّبِيِّ وَكَذَا الْخَصِيُّ بِقِسْمَيْهِ عَلَى كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَابْنِ حَبِيبٍ لِأَنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ، وَقَالُوا فِي الْعِدَدِ: يَرْجِعُ فِيهِ النِّسَاءُ وَشَرْطُهُ إطَاقَةُ الزَّوْجَةِ وَلَوْ كِتَابِيَّةً وَغَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا، لَكِنَّ الْبَالِغَ تُلَاعِنُ كَالزَّوْجِ، وَالْمُطِيقَةُ إنَّمَا يُلَاعِنُ زَوْجُهَا دُونَهَا، وَغَيْرُ الْمُطِيقَةِ لَا لِعَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَلَا حَدَّ عَلَى الزَّوْجِ لِعَدَمِ لُحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهَا، وَقَوْلُنَا: وَلَوْ فَسَدَ نِكَاحُهُمَا إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي اللِّعَانِ صِحَّةُ النِّكَاحِ، فَفِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ: كُلُّ نِكَاحٍ يَلْحَقُ فِيهِ الْوَلَدُ فَفِيهِ اللِّعَانُ وَإِنْ فُسِخَ بَعْدَ ذَلِكَ. وَفِي الْمَوَّازِيَّةِ وَالْعُتْبِيَّةِ، وَمَنْ نَكَحَ ذَاتَ مَحْرَمٍ أَوْ أُخْتَهُ غَيْرَ عَالِمٍ وَقَدْ حَمَلَتْ وَأَنْكَرَ الْوَلَدَ فَإِنَّهُمَا يَتَلَاعَنَانِ لِأَنَّهُ نِكَاحُ شُبْهَةٍ، فَإِنْ نَكَلَتْ حُدَّتْ، وَإِنْ نَكَلَ حُدَّ لِلْقَذْفِ، وَيَلْزَمُهُ الْوَلَدُ، وَلَا يُشَكِّلُ عَلَى حَصْرِ اللِّعَانِ فِي الزَّوْجَيْنِ مَا قَالَهُ أَبُو عِمْرَانَ مِنْ أَنَّهُ يَقَعُ فِي شُبْهَةِ النِّكَاحِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ زَوْجَتُهُ، لِأَنَّ وَطْءَ الشُّبْهَةِ شَبِيهٌ بِوَطْءِ النِّكَاحِ مِنْ حَيْثُ لُحُوقِ الْوَلَدِ وَعَدَمِ الْحَدِّ، وَاحْتُرِزَ بِالزَّوْجَيْنِ عَنْ السَّيِّدِ مَعَ أَمَتِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] فَابْنُ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا لَاحِقٌ بِهِ حَيْثُ اعْتَرَفَ بِوَطْئِهَا مِنْ غَيْرِ دَعْوَى اسْتِبْرَاءٍ وَلَا يَصِحُّ نَفْيُهُ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِوَطْئِهَا وَاسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ وَأَتَتْ بِوَلَدٍ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ نَفْيُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، كَمَا هُوَ مُوَضَّحٌ فِي بَابِ أُمِّ الْوَلَدِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] إلَى قَوْلِهِ {إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ مُلَاعَنَةِ عُوَيْمِرِ الْعَجْلَانِيِّ زَوْجَتَهُ وَهِلَالِ بْنِ أُمَيَّةَ أَيْضًا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ الْفَاكِهَانِيُّ وَغَيْرُهُ. (تَنْبِيهٌ) يُؤْخَذُ مِنْ تَعْرِيفِ الْمُبْتَدَأِ الَّذِي هُوَ اللِّعَانُ حَصْرُهُ فِي الزَّوْجَيْنِ، لِأَنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ مَحْصُورٌ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ الْكَرَمُ فِي الْعَرَبِ، وَالْخَبَرُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُتَعَلِّقُ الطَّرَفِ الَّذِي قَدَّرْنَاهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 أَوْ رُؤْيَةُ الزِّنَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَاخْتُلِفَ فِي اللِّعَانِ فِي الْقَذْفِ. وَإِذَا افْتَرَقَا بِاللِّعَانِ لَمْ يَتَنَاكَحَا أَبَدًا. وَيَبْدَأُ الزَّوْجُ   [الفواكه الدواني] بِمَشْرُوعٍ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: (فِي نَفْيِ حَمْلٍ) فَهُوَ حَالٌ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ فِي الْخَبَرِ وَالتَّقْدِيرُ: وَاللِّعَانُ مَشْرُوعٌ بَيْنَ كُلِّ زَوْجَيْنِ حَالَ كَوْنِهِ فِي نَفْيِ حَمْلٍ؛ لِأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى أَحَدِ سَبَبَيْ اللِّعَانِ، وَيَصِحُّ اللِّعَانُ لِنَفْيِ الْحَمْلِ وَلَوْ مَيِّتًا أَوْ مُتَعَدِّدًا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ (يُدَّعَى قَبْلَهُ الِاسْتِبْرَاءُ) وَلَوْ بِحَيْضَةٍ، وَمِثْلُ الِاسْتِبْرَاءِ دَعْوَاهُ عَدَمَ وَطْئِهَا بَعْدَ وَضْعِهَا الْحَمْلَ الْأَوَّلَ الَّذِي قَبْلَ هَذَا الْمَنْفِيِّ، وَالْحَالُ أَنَّ بَيْنَ الْوَضْعَيْنِ مَا يَقْطَعُ الثَّانِيَ عَنْ الْأَوَّلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: يُدَّعَى قَبْلَهُ الِاسْتِبْرَاءُ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ نَفْيُ حَمْلِ زَوْجَتِهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ إلَّا إذَا اعْتَمَدَ عَلَى أَمْرٍ قَوِيٍّ، وَأَمَّا مُجَرَّدُ شَكِّهِ فِي أَنَّهُ لَيْسَ مِنْهُ مَعَ اسْتِمْرَارِهِ عَلَى وَطْئِهَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ نَفْيُهُ مَعَ إمْكَانِ كَوْنِهِ مِنْهُ وَلَا يَصِحُّ لِعَانُهُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ فِي نَفْيِهِ عَلَى عَزْلِهِ، وَلَا عَدَمِ مُشَابَهَتِهِ لَهُ، وَلَا سَوَادِهِ مَعَ كَوْنِهِ أَبْيَضَ، وَلَا عَلَى كَوْنِهِ كَانَ يَطَؤُهَا بَيْنَ فَخِذَيْهَا حَيْثُ كَانَ يُنْزِلُ، وَلَا عَلَى وَطْءٍ بِغَيْرِ إنْزَالٍ حَيْثُ وَطِئَ قَبْلَهُ وَلَمْ يَبُلَّ حَتَّى وَطِئَهَا لِاحْتِمَالِ بَقَاءِ الْمَنِيِّ فِي قَصَبَةِ الذَّكَرِ، وَأَشَارَ إلَى السَّبَبِ الْآخَرِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ) فِي دَعْوَاهُ (رُؤْيَةَ الزِّنَا) وَلَوْ لَمْ يَقُلْ: رَأَيْت فَرْجَ الزَّانِي فِي فَرْجِهَا (كَالْمِرْوَدِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ (فِي الْمُكْحُلَةِ) وَحَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ وَصْفُهُ كَالشُّهُودِ بِأَنْ يَقُولَ: رَأَيْت فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، بَلْ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: رَأَيْتهَا تَزْنِي، قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ إذَا تَحَقَّقَ الْبَصِيرُ زِنَاهَا لَاعَنَ وَإِنْ لَمْ يَرَهَا وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الرُّؤْيَةَ لَيْسَتْ بِقَيْدٍ بَلْ يَكْفِي التَّيَقُّنُ وَلَوْ مِنْ الْبَصِيرِ، فَلَوْ قَالَ: أَوْ فِي الزِّنَا الْمُتَيَقَّنِ لَشَمِلَ الْأَعْمَى فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ حَتَّى فِي دَعْوَى الزِّنَا حَيْثُ تَيَقُّنِهِ بِحِسٍّ أَوْ جَسٍّ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُوهِمِ قَصْرَهُ عَلَى الْبَصِيرِ مِنْ تَعْبِيرِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُشْتَرَطُ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ بَلْ يَكْفِي التَّيَقُّنُ، وَإِذَا لَاعَنَ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يَنْتَفِي بِذَلِكَ اللِّعَانِ مَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ فَصَاعِدًا عَنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ، وَإِنْ أَتَتْ بِوَلَدِ سَقْطٍ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهُ يَلْحَقُ بِهِ لِأَنَّ اللِّعَانَ إنَّمَا كَانَ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَانْتَفَى مَا وُلِدَ لِسِتَّةِ أَشْهُرٍ وَإِلَّا لَحِقَ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ الِاسْتِبْرَاءَ قَبْلَ الرُّؤْيَةِ فَإِنَّهُ لَا يَلْحَقُ بِهِ، وَيَنْتَفِي بِاللِّعَانِ الْأَوَّلِ حَيْثُ كَانَ بَيْنَ اسْتِبْرَائِهِ وَوَضْعِهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ، وَأَمَّا لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ كَانَ مَوْجُودًا فِي بَطْنِهَا حَالَ اسْتِبْرَائِهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: شَرْطُ اللِّعَانِ بِالرُّؤْيَةِ أَنْ لَا يَطَأَهَا بَعْدَهَا، كَمَا أَنَّ شَرْطَهُ لِنَفْيِ الْحَمْلِ الْمُبَادَرَةُ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِلِعَانٍ مُعَجَّلٍ، ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ وَطِئَ أَوْ أَخَّرَ بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَضْعٍ أَوْ حَمْلٍ بِلَا عُذْرٍ امْتَنَعَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْوَطْءِ وَالتَّأْخِيرِ يَمْنَعُ اللِّعَانَ إذَا كَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا فَإِنَّمَا يَمْنَعُهُ الْوَطْءُ لَا التَّأْخِيرُ. الثَّانِي: شَرْطُ اللِّعَانِ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا أَنْ تَرْفَعَهُ إلَى الْحَاكِمِ وَأَنْ يَقْذِفَهَا صَرِيحًا، وَأَمَّا بِالتَّعْرِيضِ فَقَوْلَانِ، وَعَلَى عَدَمِ اللِّعَانِ يَحُدُّ، وَشَرْطُ لِعَانِهَا أَنْ لَا يَثْبُتَ غَضَبُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَلَاعَنَا إنْ رَمَاهَا بِغَضَبٍ أَوْ وَطْءِ شُبْهَةٍ وَأَنْكَرَتْهُ أَوْ صَدَّقَتْهُ وَلَمْ يَثْبُتْ وَلَمْ يَظْهَرْ وَإِلَّا الْتَعَنَ فَقَطْ. الثَّالِثُ: اللِّعَانُ إنْ كَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ لَا يَتَقَيَّدُ بِكَوْنِ الْمَرْأَةِ فِي الْعِصْمَةِ أَوْ فِي الْعِدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَاعَنَ فِي الْحَمْلِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ لِدَعْوَى الزِّنَا فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ كُلٍّ مِنْ الدَّعْوَةِ أَوْ الرُّؤْيَةِ أَوْ التَّيَقُّنِ فِي الْعِدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الرُّؤْيَا فِي الْعِدَّةِ وَإِنْ مِنْ بَائِنٍ لَا إنْ ادَّعَى بَعْدَ الْعِدَّةِ أَنَّهُ رَآهَا أَوْ تَيَقَّنَ زِنَاهَا فِي الْعِدَّةِ، وَأَحْرَى أَنَّهُ رَآهَا بَعْدَهَا فَلَا لِعَانَ وَإِنَّمَا يُحَدُّ فَقَطْ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ سَبَبَ اللِّعَانِ إمَّا نَفْيُ الْحَمْلِ أَوْ دَعْوَى رُؤْيَةٍ أَوْ تَيَقُّنُ الزِّنَا، أَشَارَ إلَى حُكْمِ الْقَذْفِ الْمُجَرَّدِ عَنْ دَعْوَى الرُّؤْيَةِ أَوْ التَّيَقُّنِ بِقَوْلِهِ: (وَاخْتُلِفَ فِي اللِّعَانِ) وَعَدَمِهِ (فِي الْقَذْفِ) الْمُجَرَّدِ عَنْ دَعْوَى الرُّؤْيَةِ أَوْ تَيَقُّنِ الزِّنَا أَوْ نَفْيِ الْحَمْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي حَدِّهِ بِمُجَرَّدِ الْقَذْفِ أَوْ لِعَانِهِ خِلَافٌ بِأَنْ قَالَ: يَا زَانِيَةُ أَوْ أَنْتِ زَنَيْت، وَلَمْ يُقَيِّدْ ذَلِكَ بِرُؤْيَةٍ أَوْ نَفْيِ حَمْلٍ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يُلَاعَنُ وَالْأَكْثَرُ يُحَدُّ فَقَطْ ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى لِعَانِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا افْتَرَقَا) أَيْ الزَّوْجَانِ (بِاللِّعَانِ) مِنْهُمَا (لَمْ) يَحِلَّ لَهُمَا أَنْ (يَتَنَاكَحَا أَبَدًا) وَلَا بَعْدَ زَوْجٍ لِأَنَّ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُؤَيِّدُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ عَلَى الزَّوْجِ لِعَانُهَا بَعْدَ لِعَانِهِ أَوْ قَبْلَهُ، وَقُلْنَا بِعَدَمِ إعَادَتِهَا بَعْدَ لِعَانِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِلِعَانِهَا تَأْبِيدُ حُرْمَتِهَا وَإِنْ مُلِكَتْ أَوْ انْفَشَّ حَمْلُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِلْمُتَلَاعِنَيْنِ: «حِسَابُكُمَا عَلَى اللَّهِ أَحَدُكُمَا كَاذِبٌ لَا سَبِيلَ لَك عَلَيْهَا» . قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَالِي، قَالَ: «لَا مَالَ لَك إنْ كُنْت صَدَقْت عَلَيْهَا فَهُوَ بِمَا اسْتَحْلَلْت مِنْ فَرْجِهَا، وَإِنْ كُنْت كَذَبْت عَلَيْهَا فَذَاكَ أَبْعَدُ، وَأَبْعَدُ لَك مِنْهَا» قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: فَفِي الْحَدِيثِ دَلَالَةٌ عَلَى ثُبُوتِ مَهْرِ الْمُلَاعَنَةِ بِالدُّخُولِ وَهَذَا مُجْمَعٌ عَلَيْهِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: السُّنَّةُ عِنْدَنَا أَنَّ الْمُتَلَاعِنَيْنِ لَا يَتَنَاكَحَانِ أَبَدًا، وَإِنْ أَكْذَبَ نَفْسَهُ جُلِدَ الْحَدَّ وَأُلْحِقَ بِهِ الْوَلَدُ وَلَمْ تَرْجِعْ إلَيْهِ أَبَدًا. وَفُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ الْفُرْقَةَ لَا تَحْصُلُ كَالْحُرْمَةِ إلَّا بِتَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجَةِ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ الْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمُقَابِلُهُ لِسَحْنُونٍ أَنَّ الْفُرْقَةَ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ لِعَانِ الزَّوْجِ، وَيَنْبَنِي عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 فَيَلْتَعِنُ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ ثُمَّ يُخَمِّسُ بِاللَّعْنَةِ ثُمَّ تَلْتَعِنُ هِيَ أَرْبَعًا أَيْضًا وَتُخَمِّسُ بِالْغَضَبِ كَمَا ذَكَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ رُجِمَتْ إنْ كَانَتْ حُرَّةً مُحْصَنَةً بِوَطْءٍ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ أَوْ زَوْجٍ غَيْرِهِ وَإِلَّا جُلِدَتْ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ جُلِدَ حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ. وَلِلْمَرْأَةِ أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْ زَوْجِهَا بِصَدَاقِهَا أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ إذَا لَمْ   [الفواكه الدواني] الْخِلَافِ التَّوَارُثُ، إذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا بَعْدَ لِعَانِ الزَّوْجِ وَقَبْلَ لِعَانِهَا فَعَلَى الْمَشْهُورِ يَتَوَارَثَانِ لَا عَلَى مُقَابِلِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا مَرَّ أَنَّهُ لَا يَكُونُ لِعَانًا شَرْعِيًّا بِحَيْثُ تَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ تِلْكَ الْأَحْكَامُ إلَّا إذَا وَقَعَ بِحُكْمِ قَاضٍ [صِفَةِ اللِّعَانِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ اللِّعَانِ بِقَوْلِهِ: (وَ) صِفَتُهُ أَنْ (يَبْدَأَ الزَّوْجُ فَيَلْتَعِنَ) أَيْ يَذْكُرَ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاَللَّهِ) بِأَنْ يَقُولَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، إنْ كَانَ اللَّعْنُ لِنَفْيِ الْحَمْلِ، وَهَذَا أَنْسَبُ مِنْ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ إنَّهُ يَقُولُ فِي اللِّعَانِ لِنَفْيِ الْحَمْلِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَزَنَتْ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الزِّنَا كَوْنُ الْحَمْلِ مِنْ الزَّانِي، وَأَمَّا لَوْ كَانَ اللِّعَانُ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا فَإِنَّهُ يَقُولُ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْتهَا تَزْنِي، وَلَا يَحْتَاجُ إلَى زِيَادَةِ: الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ عَلَى أَشْهَدُ بِاَللَّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنْ وَجَبَتْ فِي الْحَلِفِ عَلَى الْحُقُوقِ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَشَهِدَ بِاَللَّهِ أَرْبَعًا لَرَأَيْتهَا تَزْنِي، أَوْ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وَقَوْلُ الْمَلَاعِنِ لَرَأَيْتهَا لَعَلَّهُ فِي الرُّؤْيَةِ، وَأَمَّا عِنْدَ تَيَقُّنِ الزِّنَا بِحِسٍّ أَوْ جَسٍّ فَيَظْهَرُ أَنَّهُ يَقُولُ: تَيَقَّنْتهَا تَزْنِي بَدَلَ رَأَيْتهَا، وَحَرِّرْهُ (ثُمَّ) بَعْدَ الْأَرْبَعِ شَهَادَاتٍ (يُخَمِّسُ بِاللَّعْنَةِ) بِأَنْ يَقُولَ: وَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ، أَوْ يَقُولَ: وَأَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ كَمَا فِي الْقُرْآنِ وَهُوَ الْأَوْلَى، وَلَيْسَ فِي الْخَامِسَةِ لَفْظُ أَشْهَدُ بَلْ هِيَ لَفْظُ اللَّعْنَةِ فَقَطْ خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ قَوْلُ خَلِيلٍ وَوَصْلُ خَامِسَةٍ وَلِأَنَّهُ يُوهِمُ ذِكْرَ أَشْهَدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ. (ثُمَّ) بَعْدَ تَمَامِ لِعَانِ الزَّوْجِ (تَلْتَعِنُ هِيَ) أَيْ الزَّوْجَةُ بِأَنْ تَذْكُرَ (أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ أَيْضًا) تَرُدُّ بِهَا شَهَادَاتِ الرَّجُلِ بِأَنْ تَقُولَ فِي كُلِّ مَرَّةٍ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا رَآنِي أَزْنِي إنْ كَانَ لِرُؤْيَةِ الزِّنَا، وَإِنْ كَانَ لِنَفْيِ الْحَمْلِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ مَا زَنَيْت، إنْ كَانَ قَالَ فِي شَهَادَاتِهِ لَزَنَتْ، وَإِنْ كَانَ قَالَ: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، تَقُولُ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ هَذَا الْحَمْلَ مِنْهُ. (وَتُخَمِّسُ بِالْغَضَبِ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ) بِأَنْ تَقُولَ: وَ {غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ} [النور: 9] أَوْ لَقَدْ كَذَبَ فِيهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ بُدَاءَةِ الزَّوْجِ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ حُكْمَهُ الْوُجُوبُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ حُكْمَ مَا لَوْ بَدَأَتْ الْمَرْأَةُ مِنْ الْخِلَافِ فِي إعَادَتِهَا وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ أَيْضًا حُكْمُ ذِكْرِ أَشْهَدُ وَحُكْمُهُ الْوُجُوبُ فِي حَقِّ النَّاطِقِ، فَلَا يَكْفِي أَحْلِفُ وَلَا أُقْسِمُ، كَمْ يَجِبُ لَفْظُ اللَّعْنِ فِي خَامِسَةِ الرَّجُلِ، وَالْغَضَبِ فِي خَامِسَةِ الْمَرْأَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ أَشْهَدُ وَاللَّعْنُ وَالْغَضَبُ وَبِأَشْرَفِ الْبَلَدِ كَالْمَسْجِدِ لِلْمُسْلِمَةِ وَالْكَنِيسَةِ لِلذِّمِّيَّةِ، وَيُجْبَرُ الزَّوْجُ عَلَى الدُّخُولِ مَعَهَا فِي الْكَنِيسَةِ، وَلَا تَدْخُلُ هِيَ مَعَهُ الْمَسْجِدَ، وَيَجِبُ كَوْنُهُ بِحُضُورِ جَمَاعَةٍ أَقَلُّهَا أَرْبَعَةٌ لِتَظْهَرَ الشَّعِيرَةُ، وَيُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ إثْرَ صَلَاةِ الْعَصْرِ، وَقَيَّدْنَا وُجُوبَ أَشْهَدُ بِالنَّاطِقِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الْأَخْرَسِ فَإِنَّهُ يُلَاعِنُ بِالْكِتَابَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيُلَاعِنُ الْأَخْرَسُ بِالْكِتَابَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ إنْ فُهِمَ، كَمَا يَصِحُّ بَيْعُهُ وَشِرَاؤُهُ وَنِكَاحُهُ وَطَلَاقُهُ، وَالزَّوْجَةُ الْخَرْسَاءُ كَذَلِكَ، وَالصَّمَّاءُ يَقْذِفُهَا زَوْجُهَا تُلَاعِنُ بِمَا يُفْهَمُ مِنْهَا. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَلَوْ قَالَ بَعْدَ الطَّلَاقِ اللِّسَانُ لَمْ أُرِدْ ذَلِكَ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ، فَلَوْ اُعْتُقِلَ لِسَانُ النَّاطِقِ قَبْلَ اللِّعَانِ فَإِنْ كَانَ يُرْجَى زَوَالُ عُذْرِهِ عَنْ قُرْبٍ أُمْهِلَ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يُرْجَ بُرْؤُهُ أَوْ يُرْجَى عَنْ بُعْدٍ فَيُلَاعِنُ بِالْكِتَابَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْ اللِّعَانِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ نَكَلَتْ هِيَ) أَيْ الزَّوْجَةُ بَعْدَ إتْيَانِ الزَّوْجِ بِشَهَادَاتِهِ (رُجِمَتْ) أَيْ ضُرِبَتْ بِالْحِجَارَةِ إلَى أَنْ تَمُوتَ. (إنْ كَانَتْ حُرَّةً مُحْصَنَةً) بِفَتْحِ الصَّادِ (بِوَطْءٍ تَقَدَّمَ مِنْ هَذَا الزَّوْجِ) الْمَلَاعِنِ (أَوْ) مِنْ (زَوْجٍ غَيْرِهِ) فِي نِكَاحٍ صَحِيحٍ لَازِمٍ، وَحَصَلَ فِيهِ وَطْءٌ مُبَاحٌ بِانْتِشَارِ الزَّوْجِ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ. (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مُحْصَنَةً (جُلِدَتْ مِائَةَ جَلْدَةٍ) حَيْثُ كَانَتْ حُرَّةً مُسْلِمَةً مُكَلَّفَةً، فَإِنْ كَانَتْ أَمَةً فَنِصْفُ الْحَدِّ، وَالذِّمِّيَّةُ يَلْزَمُهَا الْأَدَبُ لِأَذِيَّتِهَا لِزَوْجِهَا وَرُدَّتْ لِحُكَّامِ مِلَّتِهَا بَعْدَ تَأْدِيبِهَا لِاحْتِمَالِ اسْتِحْقَاقِهَا الْحَدَّ عِنْدَهُمْ بِنُكُولِهَا. (وَإِنْ نَكَلَ الزَّوْجُ) بَعْدَ رَمْيِهِ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا أَوْ قَوْلِهِ لَهَا: مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي وَامْتَنَعَ مِنْ اللِّعَانِ وَالْحَالُ أَنَّ زَوْجَتَهُ عَفِيفَةٌ (جُلِدَ) أَيْ حُدَّ لِقَذْفِهَا (حَدَّ الْقَذْفِ ثَمَانِينَ) جَلْدَةً حَيْثُ كَانَ حُرًّا مُكَلَّفًا، وَكَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً مُسْلِمَةً عَفِيفَةً. (وَلَحِقَ بِهِ الْوَلَدُ) لِأَنَّ الْوَلَدَ لِلْفِرَاشِ لَا يَنْتَفِي إلَّا بِلِعَانٍ، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا وَالزَّوْجَةُ بَالِغَةً فَإِنْ رَمَاهَا بِالزِّنَا فَلَا لِعَانَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ انْتَفَى عَنْهُ بِغَيْرِ لِعَانٍ وَعَلَيْهَا الْحَدُّ، وَإِنْ كَانَ بَالِغًا وَهِيَ صَغِيرَةٌ فَإِنْ لَمْ تُطِقْ الْوَطْءَ فَلَا حَدَّ وَلَا لِعَانَ أَيْضًا، وَإِنْ كَانَتْ مُطِيقَةً اُلْتُعِنَ دُونَهَا إلَّا أَنْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ فَيَتَلَاعَنَانِ، فَإِنْ نَكَلَ حُدَّ، وَإِنْ لَاعَنَ وَنَكَلَتْ حُدَّتْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 يَكُنْ عَنْ ضَرَرٍ بِهَا فَإِنْ كَانَ عَنْ ضَرَرٍ بِهَا رَجَعَتْ بِمَا أَعْطَتْهُ وَلَزِمَهُ الْخُلْعُ وَالْخُلْعُ طَلْقَةٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ بِرِضَاهَا. وَالْمُعْتَقَةُ تَحْتَ الْعَبْدِ لَهَا الْخِيَارُ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ أَوْ تُفَارِقَهُ وَمَنْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ. وَطَلَاقُ الْعَبْدِ   [الفواكه الدواني] الْبِكْرُ إذَا لَمْ يَثْبُتْ الْوَطْءُ بَعْدَ بُلُوغِهَا، فَإِنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا مُكَلَّفًا وَالزَّوْجَةُ حُرَّةً مُكَلَّفَةً تَلَاعَنَا، فَإِنْ نَكَلَ حُدَّ لِلْقَذْفِ حَيْثُ كَانَتْ كِتَابِيَّةً وَأَمَةً فَلَا يُحَدُّ لَهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النَّاكِلَ مِنْ الزَّوْجَيْنِ يُحَدُّ بِمُجَرَّدِ امْتِنَاعِهِ مِنْ اللِّعَانِ وَلَوْ قَالَ أَرْجِعُ لِلِّعَانِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ: وَلَوْ عَادَ إلَيْهِ قَبْلُ كَالْمَرْأَةِ عَلَى الْأَظْهَرِ، وَاعْتَرَضَهُ الْأُجْهُورِيُّ قَائِلًا: الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ التَّفْصِيلُ، الرَّجُلُ لَا يَقْبَلُ وَالْمَرْأَةُ تَقْبَلُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ نُكُولَهَا كَإِقْرَارِهَا بِالزِّنَا وَلَهَا أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ، وَنُكُولُ الرَّجُلِ كَإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِقَذْفِ غَيْرِهِ وَلَيْسَ لَهُ رُجُوعٌ عَنْ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَالتَّفْصِيلُ طَرِيقَةُ ابْنِ رُشْدٍ. الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ الثَّمَرَةَ الْمُتَرَتِّبَةَ عَلَى اللِّعَانِ سِتَّةُ أَشْيَاءَ، ثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجِ، أَوَّلُهَا: رَفْعُ الْحَدِّ عَنْهُ إذَا كَانَتْ زَوْجَتُهُ حُرَّةً مُسْلِمَةً، أَوْ الْأَدَبُ إذَا كَانَتْ أَمَةً أَوْ ذِمِّيَّةً. ثَانِيهَا: إيجَابُ الْحَدِّ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُسْلِمَةِ وَلَوْ أَمَةً، أَوْ الْأَدَبِ عَلَى الذِّمِّيَّةِ إنْ لَمْ يُلَاعِنْ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ كَالْمُصَدَّقَةِ. ثَالِثُهَا: قَطْعُ نَسَبِ الْوَلَدِ. وَثَلَاثَةٌ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى لِعَانِ الزَّوْجَةِ، أَوَّلُهَا: رَفْعُ الْحَدِّ عَنْهَا. ثَانِيهَا: فَسْخُ نِكَاحِهَا اللَّازِمِ. ثَالِثُهَا: تَأْبِيدُ حُرْمَتِهَا ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَسْأَلَةٍ مِنْ مَسَائِلِ الْخُلْعِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابِهِ الْوَعْدُ بِهَا فَقَالَ: (وَ) يَجُوزُ (لِلْمَرْأَةِ) الرَّشِيدَةِ (أَنْ تَفْتَدِيَ مِنْ زَوْجِهَا) وَلَوْ سَفِيهًا أَوْ صَبِيًّا (بِصَدَاقِهَا) جَمِيعِهِ (أَوْ) بِ (أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ) بِنَصٍّ لِلْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَآيَةُ: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} [النساء: 4] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَحَدِيثُ حَبِيبَةَ بِنْتِ سَهْلٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى جَوَازِهِ لِنَصِّ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ عَلَيْهِ، وَيَفُوزُ الزَّوْجُ بِكُلِّ مَا افْتَدَتْ بِهِ وَلَا رُجُوعَ لَهَا عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْهُ. (إذَا لَمْ يَكُنْ) الِافْتِدَاءُ نَاشِئًا (عَنْ ضَرَرٍ بِهَا) غَيْرِ شَرْعِيٍّ (فَإِنْ كَانَ) مُسَبَّبًا (عَنْ ضَرَرٍ) أَوْقَعَهُ (بِهَا) فَلَا يَفُوزُ بِهِ وَ (رَجَعَتْ) عَلَيْهِ (بِمَا أَعْطَتْهُ) لَهُ (وَلَزِمَهُ الْخُلْعُ) بَعْدَ إثْبَاتِهَا الضَّرَرَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُدَّ الْمَالُ بِشَهَادَةِ سَمَاعٍ عَلَى الضَّرَرِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي هَذَا السَّمَاعِ كَوْنُهُ مِنْ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ، بَلْ لَوْ ذَكَرَتْ الْبَيِّنَةُ أَنَّهَا سَمِعَتْ مِمَّنْ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ كَالْخَدَمِ وَنَحْوِهِمْ عُمِلَ بِشَهَادَتِهَا أَوْ امْرَأَتَيْنِ، وَقَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا: وَرُدَّ الْمَالُ بِيَمِينِهَا مَعَ شَاهِدٍ أَوْ امْرَأَتَيْنِ، وَلَا يَضُرُّهَا إسْقَاطُ بَيِّنَةِ الضَّرَرِ، وَقَيَّدْنَا بِالرَّشِيدَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الصَّغِيرَةِ وَالسَّفِيهَةِ وَالرَّقِيقَةِ يُطَلِّقُهَا زَوْجُهَا عَلَى مَالٍ فَيَلْزَمُ الطَّلَاقُ وَيُرَدُّ الْمَالُ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا مِنْ صَغِيرَةٍ وَسَفِيهَةٍ وَذَاتِ رِقٍّ وَرُدَّ الْمَالُ وَبَانَتْ كَمَا يُرَدُّ بِتَبَيُّنِ كَوْنِهَا بَائِنًا مِنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ الْخُلْعِ، أَوْ فَاسِدَةَ النِّكَاحِ الْمُجْمَعِ عَلَى فَسَادِهِ كَخَامِسَةٍ أَوْ مُعْتَدَّةٍ أَوْ مُتَّصِفَةٍ بِعَيْبٍ مُوجِبٍ لِلْخِيَارِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْعَيْبَ الْمُطَّلَعَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ كَالْعَدَمِ غَيْرُ مُعَوَّلٍ عَلَيْهِ عَلَى مَا بَيَّنَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَقَيَّدْنَا الضَّرَرَ بِغَيْرِ الشَّرْعِيِّ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ ضَرَبَهَا عَلَى تَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ أَوْ شَتَمَتْهُ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ فِي إمْسَاكِهَا مَعَ تَأْدِيبِهَا أَوْ يُفَارِقُهَا وَلَوْ بِشَيْءٍ يَأْخُذُهُ مِنْهَا، فَإِنَّهُ يَحِلُّ لَهُ أَخْذُهُ وَلَا تَرْجِعُ بِهِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَلَا خَلِيلٌ حُكْمَ مَا لَوْ كَانَ الْمَالُ الْمُخَالَعُ بِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ ثُمَّ يَثْبُتُ أَنَّ الطَّلَاقَ لِضَرَرٍ بِهَا، فَهَلْ لِلْأَجْنَبِيِّ الرُّجُوعُ بِهِ كَالزَّوْجَةِ أَوْ لَا؟ وَاسْتَظْهَرَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ الرُّجُوعَ إلَى قَصْدِ الدَّافِعِ، فَإِنْ قَصَدَ بِدَفْعِهِ الصَّدَقَةَ لَا رُجُوعَ لَهُ بِهِ، وَنَظِيرُ تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مَنْ دَفَعَ لِعَبْدٍ مَالًا يُوفِي بِهِ نُجُومَ الْكِتَابَةِ وَإِنْ قَصَدَ تَخْلِيصَهَا أَوْ تَجَرَّدَ دَفْعُهُ عَنْ قَصْدٍ فَلَهُ الرُّجُوعُ بِهِ نَظَرًا إلَى مَا يَغْلِبُ قَصْدُ النَّاسِ إلَيْهِ. (وَالْخُلْعُ طَلْقَةٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا) وَهَذَا مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَالْخُلْعُ طَلْقَةٌ بَائِنَةٌ لَا رَجْعَةَ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ أَعَادَهُ لِيُرَتَّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (إلَّا بِنِكَاحٍ جَدِيدٍ) فَلَهُ مُرَاجَعَتُهَا بِوَلِيٍّ وَصَدَاقٍ وَشُهُودٍ (بِرِضَاهَا) إذَا كَانَتْ غَيْرَ مُجْبَرَةٍ وَإِلَّا اُعْتُبِرَ رِضَا الْمُجْبِرِ، وَيَصِحُّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا وَلَوْ فِي الْعِدَّةِ وَلَوْ قَبْلَ زَوْجٍ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الطَّلَاقَ الثَّلَاثَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْبَيْنُونَةَ تَحْصُلُ بِدَفْعِ الْعِوَضِ وَلَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ وَلَوْ بِغَيْرِ رِضَاهَا وَعِلْمِهَا، وَمِثْلُهُ لَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْخُلْعِ فَإِنَّهُ يَكُونُ بَائِنًا، كَمَا أَنَّهُ يَقَعُ بَائِنًا إذَا وَقَعَ بِعِوَضٍ، وَلَوْ شَرَطَ أَنَّهُ رَجْعِيٌّ لَا بِشَرْطِ نَفْيِ الرَّجْعَةِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ بَائِنًا، بَلْ يَكُونُ رَجْعِيًّا بِشَرْطِ عَدَمِ النَّصِّ عَلَى الْخُلْعِ، وَعَدَمِ دَفْعِ عِوَضٍ عِنْدَهُ كَمَا فِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلَمَّا كَانَ فِرَاقُ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ بِطَلَاقٍ بَائِنٍ نَاسَبَ ذِكْرَهُ عَقِبَ مَسْأَلَةِ الْخُلْعِ بِقَوْلِهِ: (وَ) الزَّوْجَةُ الْأَمَةُ (الْمُعْتَقَةُ) كُلُّهَا عِتْقًا نَاجِزًا وَهِيَ (تَحْتَ الْعَبْدِ لَهَا الْخِيَارُ) فِي (أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ) تَحْتَهُ بَعْدَ عِتْقِهَا (أَوْ) أَيْ وَلَهَا الْخِيَارُ فِي أَنْ (تُفَارِقَهُ) وَتَسْتَقِلَّ بِالنَّظَرِ فِي أَمْرِ نَفْسِهَا إنْ كَانَتْ رَشِيدَةً وَغَيْرُهَا يَنْظُرُ لَهَا السُّلْطَانُ، فَإِنْ نَظَرَتْ فِي نَفْسِهَا مَضَى إنْ كَانَ صَوَابًا وَيَجِبُ وَقْفُهَا وَالْحَيْلُولَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الزَّوْجِ حَتَّى تَخْتَارَ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ أَوْ طَلْقَتَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمَنْ كَمُلَ عِتْقُهَا فِرَاقُ الْعَبْدِ فَقَطْ بِطَلْقَةٍ بَائِنَةٍ أَوْ اثْنَتَيْنِ، ثُمَّ إنْ كَانَ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا نِصْفَ لَهَا لِمَجِيءِ الْفِرَاقِ مِنْ قِبَلِهَا، كَزَوْجَةِ الْأَبْرَصِ أَوْ الْأَجْذَمِ وَقَيَّدْنَا بِكُلِّهَا، وَبِنَاجِزٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 طَلْقَتَانِ وَعِدَّةُ الْأَمَةِ حَيْضَتَانِ وَكَفَّارَاتُ الْعَبْدِ كَالْحُرِّ بِخِلَافِ مَعَانِي الْحُدُودِ وَالطَّلَاقِ. وَكُلُّ مَا وَصَلَ إلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي الْحَوْلَيْنِ مِنْ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ وَإِنْ مَصَّةً وَاحِدَةً وَلَا يُحَرِّمُ مَا أُرْضِعَ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَّا مَا قَرُبَ مِنْهُمَا   [الفواكه الدواني] لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُدَبَّرَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ، وَالْمُعْتَقَةِ لِأَجَلٍ أَوْ الْمُبَعَّضَةِ فَإِنَّهَا لَا خِيَارَ لَهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ثُبُوتِ خِيَارِ الْمُعْتَقَةِ تَحْتَ الْعَبْدِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ فِي بَرِيرَةَ ثَلَاثُ سُنَنٍ؟ فَكَانَتْ إحْدَى السُّنَنِ أَنَّهَا عَتَقَتْ فَخُيِّرَتْ فِي زَوْجِهَا» الْحَدِيثَ، وَفِي مُسْلِمٍ وَغَيْرِهِ: «كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا فَخَيَّرَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا» وَلَوْ كَانَ حُرًّا لَمْ يُخَيِّرْهَا، وَمَا فِي الْبُخَارِيِّ مِنْ أَنَّ زَوْجَ بَرِيرَةَ كَانَ حُرًّا فَهُوَ مِنْ كَلَامِ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ، وَقَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ فِيهِ: إنَّهُ مُخَالِفٌ لِلنَّاسِ، أَيْ وَاَلَّذِي قَالَهُ النَّاسُ أَنَّهُ كَانَ عَبْدًا، وَمَحَلُّ خِيَارِهَا مَا لَمْ يُعْتِقْهُ سَيِّدُهُ قَبْلَ اخْتِيَارِهَا إلَّا سَقَطَ خِيَارُهَا كَسُقُوطِهِ مَعَ زَوْجِهَا الْحُرِّ أَصَالَةً. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ وُجُوبِ وَقْفِهَا بَعْدَ عِتْقِهَا عَدَمُ جَوَازِ تَأْخِيرِهَا بِالِاخْتِيَارِ، إلَّا لِأَجْلِ حَيْضٍ أَوْ لِأَجْلِ النَّظَرِ فِي الْأَصْلَحِ مِنْ الْبَقَاءِ، فَتُؤَخَّرُ مُدَّةَ النَّظَرِ بِالِاجْتِهَادِ مِنْ الْحَاكِمِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُمَكِّنَهُ مِنْ نَفْسِهَا بَعْدَ عِلْمِهَا بِعِتْقِهَا إلَّا بَعْدَ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا، فَلَوْ مَكَّنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا طَائِعَةً بَعْدَ عِلْمِهَا بِالْعِتْقِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ اخْتِيَارُهَا، فَلَوْ تَنَازَعَا فِي الْعِلْمِ بِالْعِتْقِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهَا وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْجَهْلَ، وَلَمَّا كَانَ الْفَسْخُ يُشْبِهُ الطَّلَاقَ لِحُصُولِ الْفِرَاقِ عَقِبَ كُلٍّ مِنْهُمَا قَالَ: (وَمَنْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ) أَوْ مَلَكَهَا بِسَبَبٍ غَيْرِ الشِّرَاءِ كَهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ إرْثٍ. (انْفَسَخَ نِكَاحُهُ) وَلَوْ بِمِلْكِ بَعْضِهَا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِذَا مَلَكَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ انْفَسَخَ نِكَاحُهُ، لِأَنَّهَا إذَا طَالَبَتْهُ بِحَقِّ الزَّوْجِيَّةِ يُطَالِبُهَا بِحَقِّ الْمِلْكِ فَيَتَعَارَضَانِ فَتَسْقُطُ النَّفَقَةُ وَغَيْرُهَا مِنْ الْحُقُوقِ، وَذَلِكَ خِلَافُ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَ وَإِنْ طَرَأَ بِلَا طَلَاقٍ كَمَرْأَةٍ فِي زَوْجِهَا وَلَوْ بِدَفْعِ مَالٍ لِيُعْتِقَ عَنْهَا، وَإِذَا حَصَلَ الْمِلْكُ قَبْلَ الْبِنَاءِ لَا صَدَاقَ لَهَا وَلَهُ وَطْؤُهَا بِالْمِلْكِ بَعْدَ الشِّرَاءِ مِنْ غَيْرِ اسْتِبْرَاءٍ لِأَنَّ الْمَاءَ مَاؤُهُ [طَلَاقُ الْعَبْدِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسَائِلَ يُخَالِفُ الْعَبْدُ الْحُرَّ فِيهَا بِقَوْلِهِ: (وَطَلَاقُ الْعَبْدِ) وَلَوْ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ. (طَلْقَتَانِ) وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ حُرَّةً لِأَنَّ الطَّلَاقَ مُعْتَبَرٌ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ، فَطَلَاقُ الْحُرِّ ثَلَاثٌ وَلَوْ كَانَتْ زَوْجَتُهُ أَمَةً، وَلِأَنَّ الْعَبْدَ عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ فَيَكْمُلُ النِّصْفُ عَلَيْهِ بِالشَّرْعِ (وَعِدَّةُ) الزَّوْجَةِ (الْأَمَةِ) وَلَوْ فِيهَا شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ (حَيْضَتَانِ) وَلَوْ كَانَ زَوْجُهَا حُرًّا لِأَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْمَرْأَةِ عَكْسُ الطَّلَاقِ وَعَبَّرَ بِحَيْضَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَا إمَامُنَا اخْتَارَ تَفْسِيرَ الْأَقْرَاءِ بِالْأَطْهَارِ لِاسْتِلْزَامِ الْحَيْضِ لِلطُّهْرِ فَسَقَطَ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ كَانَ الصَّوَابُ طُهْرَانِ بَدَلَ حَيْضَتَانِ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْحَيْضِ، وَإِلَّا اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ لِأَنَّ الِاعْتِدَادَ بِالْأَشْهُرِ تَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْكَلَامَ عَلَى الْعِدَّةِ قَبْلَ بَابِهَا جَمْعًا لِلنَّظِيرِ مَعَ نَظِيرِهِ. (وَكَفَّارَاتُ الرَّقِيقِ) الْمُرَادُ مَنْ فِيهِ شَائِبَةُ الرِّقِّ وَلَوْ أُنْثَى. (كَالْحُرِّ) فِي الْجُمْلَةِ فَمَا يَصِحُّ لِلْحُرِّ إخْرَاجُ الْكَفَّارَةِ مِنْهُ يُخْرَجُ مِنْهُ لِلرَّقِيقِ، وَمَا لَا يَصِحُّ لِلرَّقِيقِ، وَقَوْلُنَا فِي الْجُمْلَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ التَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ فَإِنَّمَا يُكَفِّرُ بِهِ الْحُرُّ لَا الرَّقِيقُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحُرُّ مِدْيَانًا فَيَسْتَوِيَانِ فِي عَدَمِ التَّكْفِيرِ بِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مَعْنَى كَلَامِهِ: أَنَّ الْعَبْدَ لَيْسَ عَلَى النِّصْفِ فِي الْكَفَّارَةِ كَالطَّلَاقِ وَالْحَدِّ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ كَالْحُرِّ فِي الْمُوجِبَاتِ لِلْكَفَّارَةِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِهِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: بِخِلَافِ مَعَانِي الْحُدُودِ الِاحْتِمَالُ الثَّانِي. (بِخِلَافِ مَعَانِي الْحُدُودِ وَالطَّلَاقِ) فَإِنَّ الْعَبْدَ بِمَعْنَى الرَّقِيقِ فِيهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ الْحُرِّ، وَإِضَافَةُ مَعَانِي الْحُدُودِ بَيَانِيَّةٌ أَوْ أَنَّهَا زَائِدَةٌ، فَيُعَدُّ فِي الزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ نِصْفُ الْحُرِّ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُمَرَ: مَا يُسَاوِي الْعَبْدُ الْحُرَّ فِيهِ وَمَا لَا يُسَاوِيهِ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجِبُ عَلَى الْحُرِّ دُونَ الْعَبْدِ كَالْحَجِّ وَالْغَزْوِ وَالْجُمُعَةِ وَالزَّكَاةِ، وَقِسْمٌ يَجِبُ عَلَيْهِمَا عَلَى التَّسَاوِي كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْكَفَّارَاتِ وَتَحْلِيلِ الْمُحَلَّلَاتِ وَتَحْرِيمِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَقِسْمٌ يُشَاطِرُ الرَّقِيقُ الْحُرَّ فِيهِ كَالْحُدُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِدَّةِ، وَقِسْمٌ فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ النِّكَاحُ وَأَجَلُ الْمَفْقُودِ انْتَهَى، وَالْمَشْهُورُ التَّسَاوِي فِي النِّكَاحِ، فَيَجُوزُ لِلْعَبْدِ الْجَمْعُ بَيْنَ أَرْبَعٍ مِنْ النِّسَاءِ، وَعَلَى النِّصْفِ فِي أَجَلِ الْمَفْقُودِ وَالْمُعْتَرِضِ [الرَّضَاع] ثُمَّ شَرَعَ فِي الرَّضَاعِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وُصُولُ لَبَنِ آدَمِيَّةٍ لِمَحَلٍّ مَظِنَّةَ غِذَاءِ آخَرَ لِلتَّحْرِيمِ بِالسَّعُوطِ وَالْحُقْنَةِ، وَلَا دَلِيلَ إلَّا مُسَمًّى الرَّضَاعِ.، وَعَقَّبَ مَا سَبَقَ مِنْ الطَّلَاقِ وَالْفَسْخِ لِلِّعَانِ، أَوْ مِلْكِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ صَاحِبَهُ لِحُصُولِ الْمُنَاسَبَةِ بَيْنَ كُلٍّ لِتَحْرِيمِ الْمَرْأَةِ بِالْجَمِيعِ فِي الْجُمْلَةِ فَقَالَ: (وَكُلُّ مَا وَصَلَ) وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ كَالْخَطَّابِ وَتَبِعَهُ السَّنْهُورِيِّ (إلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ فِي) دَاخِلِ (الْحَوْلَيْنِ مِنْ اللَّبَنِ) وَلَوْ خُلِطَ بِغَيْرِ طَالِبٍ عَلَيْهِ، وَفَرْعُ اللَّبَنِ كَالْجُبْنِ وَالسَّمْنِ كَهُوَ، وَاحْتُرِزَ بِاللَّبَنِ عَنْ الْمَاءِ الْأَصْفَرِ فَلَا يَحْصُلُ بِهِ تَحْرِيمٌ وَخَبَرُ " كُلُّ " الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً. (فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ) مِثْلَ مَا حَرَّمَهُ النَّسَبُ (وَإِنْ) كَانَ الْوَاصِلُ إلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ (مَصَّةً وَاحِدَةً) عَلَى قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ لِأَنَّ الدَّلِيلَ عَلَى التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 كَالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ وَقِيلَ وَالشَّهْرَيْنِ وَلَوْ فُصِلَ قَبْلَ الْحَوْلَيْنِ فِصَالًا اسْتَغْنَى فِيهِ بِالطَّعَامِ لَمْ يُحَرِّمْ مَا أُرْضِعَ بَعْدَ ذَلِكَ وَيُحَرِّمُ بِالْوَجُورِ وَالسَّعُوطِ. وَمَنْ أَرْضَعَتْ صَبِيًّا فَبَنَاتُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ وَبَنَاتُ فَحْلِهَا مَا تَقَدَّمَ أَوْ تَأَخَّرَ إخْوَةٌ لَهُ وَلِأَخِيهِ نِكَاحُ بَنَاتِهَا   [الفواكه الدواني] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ» لَا تَحْدِيدَ فِيهِ بِعَشْرٍ وَلَا خَمْسِ رَضَعَاتٍ، وَمَا وَرَدَ مِنْ التَّحْدِيدِ فَمَنْسُوخٌ بِمَا قَدَّمْنَا. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُقَيِّدْ الْمُصَنِّفُ صَاحِبَةَ اللَّبَنِ بِكَوْنِهَا حَيَّةً أَوْ مَيِّتَةً، إشَارَةً أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَّةِ وَالْمَيِّتَةِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ فِي الْآيَةِ: {أَرْضَعْنَكُمْ} [النساء: 23] فَبِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ، فَإِذَا شَرِبَ الصَّغِيرُ لَبَنَ الْمَيِّتَةِ أَوْ النَّائِمَةِ صَارَ ابْنًا لَهَا فَلَا يَتَزَوَّجُ أُصُولَهَا وَلَا فُرُوعَهَا، وَلَمْ يُقَيِّدْهَا أَيْضًا بِكَوْنِهَا آدَمِيَّةً، مَعَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْهُ كَمَا قَدَّمْنَا عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ، وَالْآيَةُ وَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ. فَلَوْ ارْتَضَعَ صَغِيرَانِ عَلَى بَهِيمَةٍ فَلَا يَحْرُمُ أَحَدُهُمَا عَلَى الْآخَرِ، وَلَمْ يُقَيِّدْ أَيْضًا ذَاتَ اللَّبَنِ بِكَوْنِهَا كَبِيرَةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ لِلْإِشَارَةِ إلَى عَدَمِ اشْتِرَاطِ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: حُصُولُ لَبَنِ امْرَأَةٍ وَإِنْ مَيِّتَةً أَوْ صَغِيرَةً وَلَوْ غَيْرَ مُطِيقَةٍ، إلَى قَوْلِهِ: مُحَرِّمٌ، ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي الْحَوْلَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُحَرِّمُ مَا) أَيْ اللَّبَنُ الَّذِي (أُرْضِعَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ عَلَى ضَمِيرِ مَا (بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ إلَّا) مَا رَضَعَهُ فِي (مَا قَرُبَ مِنْهُمَا كَالشَّهْرِ وَنَحْوِهِ) فَإِنَّهُ لَا يُحَرِّمُ (وَقِيلَ وَالشَّهْرَيْنِ) وَهَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ، لِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَشَرْطُ التَّحْرِيمِ بِالرَّضْعِ مُطْلَقًا عَدَمُ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ بِالطَّعَامِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَلَوْ فُصِلَ) أَوْ مُنِعَ الرَّضِيعُ مِنْ لَبَنِ أُمِّهِ (قَبْلَ) تَمَامِ (الْحَوْلَيْنِ فِصَالًا) بَيِّنًا بِحَيْثُ (اسْتَغْنَى فِيهِ) الرَّضِيعُ (بِالطَّعَامِ) عَنْ اللَّبَنِ بِحَيْثُ لَا يَتَضَرَّرُ بِتَرْكِ اللَّبَنِ (لَمْ يُحَرِّمْ مَا) أَيْ اللَّبَنُ الَّذِي (اُرْتُضِعَ) بِلَفْظِ الْمَجْهُولِ (بَعْدَ ذَلِكَ) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: إنْ حَصَلَ فِي الْحَوْلَيْنِ أَوْ زِيَادَةِ الشَّهْرَيْنِ إلَّا أَنْ يَسْتَغْنِيَ وَلَوْ فِيهِمَا، فَلَا تَحْرِيمَ بِالرَّضَاعِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ إلَّا أَنْ يَكُونَ زَمَانُ الرَّضَاعِ قَرِيبًا مِنْ زَمَنِ الْفِطَامِ بِنَحْوِ الْيَوْمَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ فَإِنَّهُ يُحَرِّمُ، وَلِأَنَّهُ لَوْ أُعِيدَ لِلرَّضَاعِ لَكَانَ قُوَّةً فِي غِذَائِهِ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: فِصَالًا بَيِّنًا. (تَنْبِيهٌ) لَوْ تَنَازَعَتْ الْأُمُّ مَعَ الْأَبِ فِي فِطَامِ الصَّغِيرِ لَمْ يُلْتَفَتْ لِمَنْ أَرَادَ الْفِطَامَ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِلْأَبَوَيْنِ مَعًا، فَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا ذَلِكَ وَامْتَنَعَ الْآخَرُ لَمْ يُلْتَفَتْ لَهُ وَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُمَا مَعًا. قَالَهُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي أَحْكَامِهِ. قَالَهُ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ، وَلَمَّا كَانَ الرَّضَاعُ عُرْفًا شُرْبَ الْوَلَدِ بِفَمِهِ وَكَانَ التَّحْرِيمُ يَحْصُلُ بِوُصُولِهِ إلَى الْجَوْفِ وَلَوْ مِنْ الْأَنْفِ أَوْ مِنْ الدُّبُرِ قَالَ: (وَيُحَرِّمُ) اللَّبَنُ الْوَاصِلُ إلَى الْجَوْفِ (بِالْوَجُورِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَضَمِّ الْجِيمِ وَهُوَ الصَّبُّ فِي الْحَلْقِ. (وَالسَّعُوطِ) بِفَتْحِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الصَّبُّ فِي الْأَنْفِ. قَالَ خَلِيلٌ: حُصُولُ لَبَنِ امْرَأَةٍ وَإِنْ مَيِّتَةً أَوْ صَغِيرَةً بِوَجُورٍ أَوْ سَعُوطٍ أَوْ حُقْنَةٍ تَكُونُ غِذَاءً أَوْ خَلْطُ الْأَغْلَبِ وَلَا كَمَاءٍ أَصْفَرَ، إلَى قَوْلِهِ مُحَرِّمًا مَا حَرَّمَ النَّسَبُ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ، وَتَوَقَّفَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فِي الْأَصْلِ إلَى الْجَوْفِ مِنْ ثُقْبَةٍ تَحْتَ الْمَعِدَةِ وَفَوْقَهَا وَيَظْهَرُ لِي التَّحْرِيمُ، لِأَنَّ الثُّقْبَةَ النَّافِذَةَ إلَى مَحَلِّ الْغِذَاءِ تُشْبِهُ الدُّبُرَ، وَالْوَاصِلُ مِنْهُ إلَى مَحَلِّ الْغِذَاءِ مُحَرِّمٌ، لِأَنَّهُمْ عَوَّلُوا عَلَى الْوُصُولِ إلَى الْجَوْفِ مِنْ غَيْرِ الْأُذُنِ وَالْعَيْنِ وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ، نَعَمْ جَرَى التَّرَدُّدُ فِي الْحَاصِلِ بِالْحُقْنَةِ هَلْ يُشْتَرَطُ حُصُولُ الْغِذَاءِ مِنْهُ بِالْفِعْلِ أَوْ لَا؟ وَكَلَامُ خَلِيلٍ يَقْتَضِي اشْتِرَاطَ ذَلِكَ، وَكَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ لَا، وَيَظْهَرُ لِي مِنْ التَّحْرِيمِ بِالْمَصَّةِ رُجْحَانُ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي لَبَنِ الْخُنَثِي الْمُشْكِلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُحَرِّمُ قِيَاسًا عَلَى مَنْ تَيَقَّنَ الطَّهَارَةَ وَشَكَّ فِي الْحَدَثِ، قَالَهُ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ تَحْرِيمَ الرَّضَاعِ مِثْلُ تَحْرِيمِ الْوِلَادَةِ، وَيَحْرُمُ لَهُ مِثْلُ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ نَحْوِ أُمِّ أَخِيك الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إلَّا أُمَّ أَخِيك وَأُخْتِك، أَوْ أُمَّ وَلَدِك وَجَدَّةَ وَلَدِك وَأُخْتَ وَلَدِك وَأُمَّ عَمِّك وَعَمَّتِك وَأُمَّ خَالِك وَخَالَتِك فَقَدْ لَا يَحْرُمْنَ مِنْ الرَّضَاعِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: وَقَدْ فِي كَلَامِهِ لِلتَّحْقِيقِ وَنَاقَشَهُ بَعْضٌ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيُّ (وَمَنْ أَرْضَعَتْ) مِنْ الْآدَمِيَّاتِ (صَبِيًّا) لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ اللَّبَنِ. (فَبَنَاتُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ) وَلَوْ مِنْ زَوْجٍ غَيْرِ فَحْلِهَا الْيَوْمَ (وَبَنَاتُ فَحْلِهَا) الْيَوْمَ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ الرَّضَاعُ بِلَبَنِهِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ تِلْكَ الْمَرْأَةِ الْمُرْضِعَةِ. (مَا تَقَدَّمَ) عَلَى رَضَاعِهِ (أَوْ تَأَخَّرَ) عِنْدَ الْجَمِيعِ (أُخُوَّةٌ لَهُ) أَيْ لِهَذَا الصَّبِيِّ، وَاعْلَمْ أَنَّ أُصُولَ التَّحْرِيمِ بِالرَّضَاعِ ثَلَاثَةٌ: الرَّضِيعُ وَالْمُرْضِعَةُ وَفَحْلُهَا، وَإِنْ كَانَ الرَّضِيعُ ذَكَرًا حُرِّمَتْ عَلَيْهِ لِأَنَّهَا أُمُّهُ مِنْ الرَّضَاعِ وَجَمِيعُ أَقَارِبِهَا إلَّا بَنَاتَ إخْوَتِهَا وَأَخَوَاتِهَا لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ خَالَاتٍ وَبَنَاتُ أَخْوَالٍ، وَكَذَلِكَ يَحْرُمُ عَلَيْهِ جَمِيعُ أَقَارِبِ الزَّوْجِ صَاحِبِ اللَّبَنِ إلَّا بَنَاتَ إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ لِأَنَّهُنَّ بَنَاتُ أَعْمَامٍ وَعَمَّاتٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّضِيعُ أُنْثَى حُرِّمَتْ عَلَى أَقَارِبِ الْمُرْضِعَةِ إلَّا بَنِي إخْوَتِهَا وَأَخَوَاتُهَا، وَكَذَا تَحْرُمُ عَلَى أَقَارِبِ الزَّوْجِ إلَّا عَلَى بَنِي إخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ، وَتَحْرُمُ الرَّضِيعَةُ عَلَى صَاحِبِ اللَّبَنِ وَمَا تَنَاسَلَ مِنْهَا لِأَنَّهَا بِنْتُهُ، وَمَا يَتَنَاسَلُ مِنْهَا حَفَدَةٌ، وَمِنْ الْأُصُولِ الثَّلَاثَةِ تَنْتَشِرُ الْحُرْمَةُ إلَى الْأَطْرَافِ، ثُمَّ يَحْرُمُ مِنْ الرَّضَاعِ مَا يَحْرُمُ مِنْ النَّسَبِ، بَيَانُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إذَا حُرِّمَتْ الْمُرْضِعَةُ عَلَى الرَّضِيعِ حُرِّمَتْ عَلَيْهِ أُمَّهَاتُهَا نَسَبًا وَرَضَاعًا لِأَنَّهُنَّ جَدَّاتٌ، وَأَخَوَاتُهَا نَسَبًا وَرَضَاعًا، وَأَوْلَادُهَا مِنْ الْجِهَتَيْنِ إخْوَةٌ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ الْإِخْوَةِ، وَكَذَلِكَ أَوْلَادُ الرَّضِيعِ أَحْفَادُ الْمُرْضِعَةِ، وَلَا تَحْرُمُ الْمُرْضِعَةُ عَلَى أَبِي الرَّضِيعِ وَلَا عَلَى أَخِيهِ، وَكَذَلِكَ زَوْجُ الْمُرْضِعَةِ أَوْ الْمُرْتَضِعِ، وَأَبُوهُ جَدُّهُ، وَأَخُوهُ عَمٌّ، وَوَلَدُهُ أَخٌ، وَعَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي لَبَنِ الْفَحْلِ أَنْ يَكُونَ مِنْ وَطْءٍ حَلَالٍ وَلَوْ مِنْ حَرَامٍ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ مِنْهُ بِصَاحِبِهِ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الرَّضِيعَ يَصِيرُ أَخًا لِأَوْلَادِ فَحْلِ الْمُرْضِعَةِ، وَلَوْ كَانَ رَضَعَ عَلَيْهَا قَبْلَ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ذَلِكَ الْفَحْلُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا يَكُونُ أَخًا لِبَنَاتِ ذَلِكَ الْفَحْلِ مِنْ الرَّضَاعِ إلَّا إذَا كَانَ قَدْ وَطِئَ الْمُرْضِعَةَ وَأَنْزَلَ قَبْلَ الْإِرْضَاعِ حَتَّى يَصْدُقَ عَلَيْهِ أَنَّهُ شَرِبَ مِنْ لَبَنِ ذَلِكَ الْفَحْلِ، وَأَمَّا لَوْ رَضَعَ عَلَيْهِ قَبْلَ نِكَاحِهِ إيَّاهَا ثُمَّ عَقَدَ عَلَيْهَا بَعْدَ انْقِطَاعِ الرَّضَاعِ فَلَا تَكُونُ بَنَاتُهُ أَخَوَاتٍ لَهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَشْرَبْ مِنْ لَبَنِهِ حَتَّى يَكُونَ ابْنًا لَهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ مِنْ قَوْلِهِمْ: يَجُوزُ لِلرَّبِيبِ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِبِنْتِ امْرَأَةِ أَبِيهِ مِنْ رَجُلٍ غَيْرِهِ حَيْثُ شَرَطُوا عَدَمَ رَضَاعِهَا مِنْ لَبَنِ أَبِيهِ بِأَنْ فُطِمَتْ قَبْلَ نِكَاحِ أَبِيهِ لِأُمِّهَا. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمَنْ أَرْضَعَ كَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ: أَرْضَعَتْ بِالتَّاءِ لِأَنَّ الْفَاعِلَ ضَمِيرُ الْمُؤَنَّثِ، وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنَّمَا تَلْزَمُ فِعْلَ مُضْمِرٍ ... مُتَّصِلٍ أَوْ مُفْهِمٍ ذَاتَ حَرْ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ ذَكَرَ الضَّمِيرَ نَظَرًا إلَى لَفْظِ مَنْ فَاتَهُ يَجُوزُ مُرَاعَاةُ لَفْظِهَا كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ} [الأحزاب: 31] إذْ لَوْ رَاعَى الْمَعْنَى لَقَالَ: وَمَنْ تَقْنُتْ لِأَنَّ التَّاءَ مَعَ الْمُضَارِعِ كَالتَّاءِ مَعَ الْمَاضِي فِي اللُّزُومِ، وَقَوْلُهُ: فَبَنَاتُهَا وَبَنَاتُ فَحْلِهَا إخْوَةٌ، كَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: أَخَوَاتٌ لِأَنَّهُ جَمْعُ أُخْتٍ وَإِخْوَةً جَمْعُ أَخٍ الْمَذْكُورِ، وَجَوَابُهُ أَنَّهُ رَاعَى لَفْظَ مَا مِنْ قَوْلِهِ مَا تَقَدَّمَ فَإِنَّهُ مُفْرَدٌ مُذَكَّرٌ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ بَنَاتِهَا أَخَوَاتٍ لِلرَّضِيعِ وَعَدَمِ حِلِّهِنَّ لِإِخْوَتِهِ قَالَ: (وَ) يَجُوزُ (لِأَخِيهِ) أَيْ ذَلِكَ الصَّبِيِّ نَسَبًا (نِكَاحُ بَنَاتِهَا) لِأَنَّ الَّذِي يُقَدَّرُ وَلَدًا لِلْمُرْضِعَةِ خُصُوصُ الرَّضِيعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّرَ الطِّفْلُ خَاصَّةً وَلَدًا لِصَاحِبَةِ اللَّبَنِ وَلِصَاحِبِهِ مِنْ وَطْئِهِ، فَكَأَنَّهُ حَاصِلٌ مِنْ بَطْنِهَا وَمِنْ ظَهْرِهِ وَفُرُوعُهُ كَهُوَ فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْمُرْضِعَةُ وَأُمَّهَاتُهَا وَبَنَاتُهَا وَعَمَّاتُهَا وَخَالَاتُهَا كَمَا تَحْرُمُ عَلَى فُصُولِهِ، وَلَا تَحْرُمُ عَلَى أُصُولِهِ وَلَا عَلَى إخْوَتِهِ، وَيَسْتَمِرُّ كُلُّ مَنْ رَضَعَ وَلَدًا لِصَاحِبِ اللَّبَنِ لِانْقِطَاعِهِ وَإِنْ بَعْدَ سِنِينَ وَاشْتَرَكَ مَعَ الْقَدِيمِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ أُصُولَ الرَّضِيعِ مَعَ النَّسَبِ، وَكَذَلِكَ إخْوَتُهُ أَجَانِبُ فِي تِلْكَ الْمُرْضِعَةِ فَتَحِلُّ لَهُنَّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّرَ الطِّفْلُ خَاصَّةً وَلَدًا لِصَاحِبَةِ اللَّبَنِ وَلِصَاحِبِهِ مَنْ وَطْئِهِ لِانْقِطَاعِهِ وَإِنْ بَعْدَ سِنِينَ فَمُحْتَرِزٌ خَاصَّةً أُصُولُهُ وَإِخْوَتُهُ، وَأَمَّا فُصُولُهُ فَلَمْ يُحْتَرَزْ بِخَاصَّةٍ عَنْهَا بَلْ هُمْ مِثْلُهُ فِي الْحُرْمَةِ كَمَا ذَكَرْنَا. (تَتِمَّتَانِ) الْأُولَى: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا يَثْبُتُ بِهِ الرَّضَاعُ، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَيَثْبُتُ بِرَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَبِامْرَأَتَيْنِ إنْ فَشَا قَبْلَ الْعَقْدِ، سَوَاءٌ كَانَتَا أَجْنَبِيَّتَيْنِ أَوْ أُمَّهَاتِهِمَا، قَالَهُ أَبُو الْحَسَنِ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ، لَا بِامْرَأَةٍ وَلَوْ فَشَا وَلَوْ كَانَتْ عِدْلَةً، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الرَّضَاعِ حَصَلَ فِي زَمَنِ إسْلَامِ الْمَرْأَةِ أَوْ كُفْرِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَضَاعُ الْكُفْرِ مُعْتَبَرٌ، فَلَا يَحِلُّ لِمَنْ رَضَعَ عَلَى كَافِرَةٍ أَنْ يَتَزَوَّجَ بِأَوْلَادِهَا وَلَوْ بَعْدَ إسْلَامِهِنَّ. الثَّانِيَةُ: الرَّضَاعُ عَلَى الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ مُحَرِّمٌ، كَمَا أَنَّ الشَّكَّ فِي وُصُولِ اللَّبَنِ إلَى جَوْفِ الرَّضِيعِ مُحَرِّمٌ كَمَا عِنْدَ ابْنِ نَاجِي وَتَبِعَهُ الْخَطَّابُ وَالسَّنْهُورِيُّ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. [بَابٌ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ] [أَسْبَابُ الْعِدَّةِ] وَلَمَّا كَانَ الِاسْتِبْرَاءُ قَدْ يَتَسَبَّبُ عَنْ ثُبُوتِ الرَّضَاعِ نَاسَبَ ذِكْرَ بَابِ الْعِدَّةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 بَابٌ فِي الْعِدَّةِ وَالنَّفَقَةِ وَالِاسْتِبْرَاءِ وَعِدَّةِ الْحُرَّةِ الْمُطَلَّقَةِ ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ كَانَتْ مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً. وَالْأَمَةُ وَمَنْ فِيهَا بَقِيَّةُ رِقٍّ قُرْءَانِ كَانَ الزَّوْجُ فِي جَمِيعِهِنَّ حُرًّا أَوْ عَبْدًا وَالْأَقْرَاءُ هِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ. فَإِنْ كَانَتْ مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ أَوْ مِمَّنْ قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ فَثَلَاثَةُ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانُ أَحْكَامِ (الْعِدَّةِ) وَقَدْرِهَا، وَمَنْ تَلْزَمُهَا، وَمَنْ لَا تَلْزَمُهَا، وَمَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ تَرْكُهُ زَمَنَهَا. وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مُدَّةُ مَنْعِ النِّكَاحِ لِفَسْخِهِ أَوْ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقِهِ، وَالْمُرَادُ مَنْعُ الْمَرْأَةِ؛ لِأَنَّ مُدَّةَ مَنْعِ مَنْ طَلَّقَ رَابِعَةً مِنْ نِكَاحِ غَيْرِهَا لَا يُقَالُ لَهُ عِدَّةٌ لَا لُغَةً وَلَا شَرْعًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ مِنْ النِّكَاحِ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَزَمَنِ الْإِحْرَامِ أَوْ الْمَرَضِ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ: إنَّهُ مُعْتَدٍ (وَ) فِي بَيَانِ أَحْكَامِ (النَّفَقَةِ) وَهِيَ مَا بِهِ قَوَامُ مُعْتَادِ حَالِ الْآدَمِيِّ دُونَ سَرَفٍ. (وَ) فِي بَيَانِ (الِاسْتِبْرَاءِ) وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الِاسْتِقْصَاءُ وَالْبَحْثُ عَنْ كُلِّ أَمْرٍ غَامِضٍ، وَشَرْعًا الْكَشْفُ عَنْ حَالِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ مُرَاعَاةً لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ. وَأَسْبَابُ الْعِدَّةِ ثَلَاثَةٌ: مَوْتٌ أَوْ طَلَاقٌ أَوْ فَسْخٌ، كَمَا أَنَّ أَنْوَاعَهَا ثَلَاثَةٌ أَقْرَاءٌ وَشُهُورٌ وَوَضْعُ حَمْلٍ. وَبَدَأَ بِالنَّوْعِ الْأَوَّلِ فَقَالَ: (وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ) الْبَالِغِ غَيْرِ الْحَامِلِ (الْمُطَلَّقَةِ) بَعْدَ خَلْوَةِ زَوْجِهَا الْبَالِغِ غَيْرِ الْمَجْبُوبِ خَلْوَةً يُمْكِنُ وَطْؤُهَا فِيهَا (ثَلَاثَةُ قُرُوءٍ) جَمْعُ قَرْءٍ بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ أَطْهَارٍ، وَتَحِلُّ لِغَيْرِ الْمُطَلِّقِ بِأَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ إنْ طَلُقَتْ فِي طُهْرٍ، أَوْ الرَّابِعَةِ إنْ طَلُقَتْ فِي حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ، وَلَكِنْ تُسْتَحَبُّ لَهَا أَنْ لَا تَتَعَجَّلَ بِالْعَقْدِ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ الثَّالِثِ أَوْ الرَّابِعِ، بَلْ حَتَّى يَمْضِيَ يَوْمٌ أَوْ بَعْضُهُ؛ لِعَدَمِ الِاكْتِفَاءِ فِي الْعِدَّةِ بِأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ: مُقْتَضَى التَّعْلِيلِ وُجُوبُ التَّأْخِيرِ وَعَدَمُ الْحِلِّ بِمُجَرَّدِ رُؤْيَةِ الدَّمِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَصْلُ الِاسْتِمْرَارُ وَعَدَمُ الِانْقِطَاعِ قَبْلَ مُضِيِّ يَوْمٍ أَوْ بَعْضِهِ، وَقَيَّدْنَا الْحُرَّةَ بِالْبَالِغِ لِقَوْلِهِ ثَلَاثُ أَقْرَاءٍ، وَبِغَيْرِ الْحَامِلِ؛ لِأَنَّ عِدَّتَهَا وَضْعُ حَمْلِهَا كَمَا يَأْتِي، وَبِالزَّوْجِ الْبَالِغِ؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ الصَّبِيِّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا فِي الطَّلَاقِ بِخِلَافِ الْمَوْتِ، وَبِغَيْرِ الْمَجْبُوبِ؛ لِأَنَّ زَوْجَتَهُ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا مِنْ طَلَاقِهِ كَالْمُطَلَّقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ، وَقِيلَ: عَلَيْهَا الْعِدَّةُ إنْ كَانَ يُعَالِجُ وَيُنْزِلُ، وَعَلَى الْأَوَّلِ خَلِيلٌ، وَعَلَى الثَّانِي عِيَاضٌ، وَإِلَى هَذِهِ الْقُيُودِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: تَعْتَدُّ حُرَّةٌ وَإِنْ كِتَابِيَّةً بِخَلْوَةِ بَالِغٍ غَيْرِ مَجْبُوبٍ أَمْكَنَ شَغْلُهَا مِنْهُ إنْ نَفَيَاهُ. وَأَمَّا مَقْطُوعُ الْأُنْثَيَيْنِ قَائِمُ الذَّكَرِ فَيَجِبُ عَلَى زَوْجَتِهِ الْعِدَّةُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَإِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الْقُيُودُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْعِدَّةِ سَوَاءٌ (كَانَتْ) تِلْكَ الْحُرَّةُ الْمُطَلَّقَةُ (مُسْلِمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً) طَلَّقَهَا زَوْجُهَا الْمُسْلِمُ أَوْ أَرَادَ مُسْلِمٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا. (وَ) أَمَّا عِدَّةُ الزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ (الْأَمَةُ وَ) كُلُّ (مَنْ فِيهَا بَقِيَّةُ رِقٍّ) كَمُبَعَّضَةٍ وَأَوْلَى الْمُكَاتَبَةُ وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةُ فَهِيَ (قَرْءَانِ) بِفَتْحِ الْقَافِ أَيْ طُهْرَانِ، فَتَحِلُّ بِأَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّانِيَةِ إنْ طَلُقَتْ فِي طُهْرٍ، أَوْ الثَّالِثَةِ إنْ طَلُقَتْ فِي حَيْضٍ، وَإِنَّمَا اعْتَدَّتْ بِقَرْأَيْنِ مَعَ أَنَّ الرَّقِيقَ عَلَى النِّصْفِ؛ لِأَنَّ الْقَرْءَ لَا يَتَبَعَّضُ وَسَوَاءٌ (كَانَ الزَّوْجُ فِي جَمِيعِهِنَّ) أَيْ الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ الْقِنِّ، وَمَنْ فِيهَا بَقِيَّةُ رِقٍّ (حُرًّا أَوْ عَبْدًا) لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْعِبْرَةَ فِي الْعِدَّةِ بِالْمَرْأَةِ، وَفِي الطَّلَاقِ بِالزَّوْجِ، وَالْفَرْقُ وَاضِحٌ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْ الْمَرْأَةِ وَالطَّلَاقَ مِنْ الزَّوْجِ. ثُمَّ فَسَّرَ الْأَقْرَاءَ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَقْرَاءُ) مَعْنَاهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَجَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ (هِيَ الْأَطْهَارُ الَّتِي) تَحْصُلُ (بَيْنَ الدَّمَيْنِ) خِلَافًا لِمَنْ أَرَادَ بِهَا الْحَيْضَ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ بِلَفْظِ الْأَقْرَاءِ الدِّمَاءَ؛ لِأَنَّ الَّذِي بَيْنَ الدَّمَيْنِ قَرْءٌ وَاحِدٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْأَقْرَاءِ، وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهَا الْحَيْضَ فِي كُلِّ سَنَةٍ مَرَّةً أَوْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا لِرَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ أَوْ اسْتِحَاضَةٍ وَهُوَ كَذَلِكَ، حَيْثُ كَانَتْ تُمَيِّزُ دَمَ الِاسْتِحَاضَةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَإِلَّا كَانَتْ مُرْتَابَةً، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَيْهَا. (تَنْبِيهٌ) . مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنَّ الْأَقْرَاءَ هِيَ الْأَطْهَارُ يَلْزَمُ عَلَيْهِ إشْكَالٌ لَا يَتَوَجَّهُ عَلَى مَنْ فَسَّرَهَا بِالدِّمَاءِ وَهُوَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَبَيَانُ الْإِشْكَالِ أَنَّهُ يَلْزَمُ عَلَيْهَا حِلُّهَا قَبْلَ الثَّلَاثَةِ أَقْرَاءٍ إذَا كَانَ طَلَاقُهَا فِي آخِرِ طُهْرٍ؛ لِأَنَّهَا تَحِلُّ بِأَوَّلِ الْحَيْضَةِ الثَّالِثَةِ، وَالْمُنْقَضِي طُهْرَانِ وَبَعْضُ طُهْرٍ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَنَّ الْجَمْعَ قَدْ أُطْلِقَ فِي كَلَامِهِ - تَعَالَى - عَلَى مُعْظَمِ الْمُدَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 أَشْهُرٍ فِي الْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ. وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَوْ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ سَنَةٌ. وَعِدَّةُ الْحَامِلِ فِي وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ وَضْعُ حَمْلِهَا كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً. وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِي لَمْ يُدْخَلْ بِهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. و َعِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ   [الفواكه الدواني] كَ {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] مَعَ أَنَّهُ فِي شَهْرَيْنِ وَعَشْرِ لَيَالٍ، أَوْ أَنَّ بَعْضَ الطُّهْرِ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ طُهْرٍ كَامِلٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاعْتَدَّتْ بِطُهْرِ الطَّلَاقِ وَإِنْ لَحْظَةً. لَمَّا فَرَغَ مِنْ عِدَّةِ ذَاتِ الْحَيْضِ شَرَعَ فِي عِدَّةِ غَيْرِهَا فَقَالَ: (فَإِنْ كَانَتْ) الْمُطَلَّقَةُ (مِمَّنْ لَمْ تَحِضْ) لِصِغَرٍ وَلَكِنْ مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ (أَوْ) كَانَتْ كَبِيرَةً لَكِنْ (قَدْ يَئِسَتْ مِنْ الْمَحِيضِ) بِأَنْ جَاوَزَتْ السَّبْعِينَ (فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) عِدَّتُهَا (فِي) حَقِّ (الْحُرَّةِ، وَ) مِثْلُهَا (الْأَمَةُ) عَلَى الْمَشْهُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] أَيْ عِدَّتُهُنَّ كَذَلِكَ فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْحُرَّةِ وَالْأَمَةِ، وَأَيْضًا الْحَمْلُ لَا يَظْهَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَتُعْتَبَرُ الشُّهُورُ بِالْأَهِلَّةِ، وَإِذَا طَلُقَتْ فِي أَثْنَاءِ شَهْرٍ عَمِلَتْ مِنْ الثَّانِي وَالثَّالِثِ عَلَى الْأَهِلَّةِ وَكَمَّلَتْ الْمُنْكَسِرَ ثَلَاثِينَ يَوْمًا مِنْ الرَّابِعِ، وَلَوْ كَانَ الْمُنْكَسِرُ نَاقِصًا، وَلَا تَحْسُبُ يَوْمَ الطَّلَاقِ إنْ طَلُقَتْ بَعْدَ فَجْرِهِ، وَقَيَّدْنَا الصَّغِيرَ بِالْمُطَلَّقَةِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا لَا عِدَّةَ طَلَاقٍ عَلَيْهَا. فَإِنْ قِيلَ: زَوْجَةُ الصَّبِيِّ لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا وَلَوْ كَبِيرَةً وَهُوَ مُطِيقٌ، وَالْمُطِيقَةُ الَّتِي لَمْ تَحِضْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ حَيْثُ كَانَ زَوْجُهَا بَالِغًا. فَالْجَوَابُ: أَنَّ الصَّبِيَّ لَا مَاءَ لَهُ قَطْعًا فَعَدَمُ الْحَمْلِ مِنْ وَطْئِهِ مُحَقَّقٌ، وَأَمَّا الْمُطِيقَةُ فَلَا يُقْطَعُ بِعَدَمِ حَمْلِهَا لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْبَنَاتِ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا تَعْتَدُّ الصَّغِيرَةُ بِشَرْطِهَا بِالْأَشْهُرِ حَيْثُ لَمْ تَرَ الْحَيْضَ فِي آخِرِهَا وَإِلَّا انْتَقَلَتْ لِلْأَقْرَاءِ، وَالْآيِسَةُ إذَا رَأَتْ الْحَيْضَ فِي أَثْنَاءِ أَشْهُرِهَا يَنْظُرُهَا النِّسَاءُ. [عِدَّةُ الْحُرَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَوْ الْأَمَةِ فِي الطَّلَاقِ] وَمِمَّا تَسْتَوِي فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ أَيْضًا عِدَّةُ الْمُسْتَحَاضَةِ وَأَشَارَ إلَيْهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (وَعِدَّةُ) الزَّوْجَةِ (الْحُرَّةِ الْمُسْتَحَاضَةِ أَوْ الْأَمَةِ) الْمُسْتَحَاضَةِ أَيْضًا يَسْتَرْسِلُ عَلَيْهَا الدَّمُ زِيَادَةً عَلَى أَيَّامِ الْحَيْضِ الْمُعْتَادِ لَهُمَا (فِي الطَّلَاقِ سَنَةٌ) بِشَرْطِ عَدَمِ التَّمْيِيزِ، وَمِثْلُهُمَا فِي الِاعْتِدَادِ بِسَنَةٍ مَنْ تَأَخَّرَ حَيْضُهَا بِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ لِمَرَضٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ تُمَيِّزْ أَوْ تَأَخَّرَ بِلَا سَبَبٍ أَوْ مَرِضَتْ تَرَبَّصَتْ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ ثُمَّ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةٍ، فَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ كُلَّ السَّنَةِ لَيْسَ بِعِدَّةٍ بَلْ تِسْعَةٌ اسْتِبْرَاءٌ وَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ عِدَّةٌ، وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ أَطْلَقَ عَلَى كُلِّ السَّنَةِ عِدَّةً، وَأَمَّا الْمُسْتَحَاضَةُ إذَا مَيَّزَتْ فَإِنَّهَا تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ لَا بِالْأَشْهُرِ؛ لِأَنَّ الدَّمَ الْمُمَيَّزَ بَعْدَ طُهْرٍ تَامٍّ يُعَدُّ حَيْضًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُمَيَّزُ بَعْدَ طُهْرٍ تَمَّ حَيْضًا كَمَا قَدَّمْنَاهُ. [عِدَّةُ الْحَامِلِ] وَمِمَّا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ أَيْضًا وَضْعُ الْحَمْلِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَعِدَّةُ الْحَامِلِ مِنْ وَفَاةٍ أَوْ طَلَاقٍ وَضْعُ حَمْلِهَا) كُلِّهِ حَيْثُ كَانَ لَاحِقًا أَوْ يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ، وَسَوَاءٌ كَانَ كَامِلًا أَوْ دَمًا مُجْتَمِعًا سَوَاءٌ (كَانَتْ) تِلْكَ الْمُعْتَدَّةُ (حُرَّةً أَوْ أَمَةً) مُسْلِمَةً (أَوْ كِتَابِيَّةً) وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَهَذِهِ مُخَصَّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وقَوْله تَعَالَى أَيْضًا: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] ، وَإِنَّمَا خَصَّصَتْ آيَةُ الْحَوَامِلِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ الْعِدَّةِ الِاسْتِدْلَال عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَوَضْعُ الْحَمْلِ أَقْوَى فِي الدَّلَالَةِ مِنْ الزَّمَانِ وَالْحَيْضِ، وَقَوْلُنَا اللَّاحِقُ بِالْفِعْلِ أَوْ يَصِحُّ اسْتِلْحَاقُهُ؛ لِيَدْخُلَ حَمْلُ الْمُلَاعَنَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ صَبِيًّا أَوْ مَجْبُوبًا فَلَا تَنْقَضِي عِدَّةُ زَوْجَتِهِ بِوَضْعِ حَمْلِهَا لَا مِنْ مَوْتٍ وَلَا طَلَاقٍ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ فِي الطَّلَاقِ تَعُدُّ نَفْسَهَا حَيْضَةً، وَعَلَيْهَا فِي الْوَفَاءِ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ، وَهُوَ الْمُتَأَخِّرُ مِنْ الْوَضْعِ، أَوْ تَمَامُ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ فِي الْحُرَّةِ، أَوْ الشَّهْرَيْنِ وَالْخَمْسِ لَيَالٍ فِي الزَّوْجَةِ الْأَمَةِ، وَقَوْلُنَا كُلُّهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا لَوْ كَانَ فِي بَطْنِهَا وَلَدَانِ فَلَا تَحِلُّ إلَّا بِوَضْعِهِمَا، فَلَوْ نَزَلَ بَعْضُ الْوَاحِدِ وَبَقِيَ بَعْضُهُ وَلَوْ الثُّلُثُ فَلَا تَنْقَضِي عِدَّتُهَا، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ لَوْ مَاتَ الْحَمْلُ بَعْدَ خُرُوجِ بَعْضِهِ وَبَقِيَ فِي بَطْنِهَا نَحْوُ عُضْوٍ مُنْفَصِلٍ كَمَا لَوْ تَقَطَّعَ الْحَمْلُ وَتَأَخَّرَ ذَلِكَ أَنَّ عِدَّتَهَا تَنْقَضِي، وَهُوَ مُخَالِفٌ لِتَوْكِيدِ خَلِيلٍ بِكُلِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْبَعْضِ الْبَاقِي الْمُتَّصِلِ أَوْ الْمُنْفَصِلِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. نَعَمْ ظَهَرَ لَنَا حُكْمٌ آخَرُ، وَهُوَ انْقِضَاءُ الْعِدَّةِ بِتَمَامِ وَضْعِ الْحَمْلِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ نَوْعِ الْأُمِّ وَالْأَبِ، كَأَنْ تَضَعَ حَيَوَانًا بَهِيمًا، وَرُبَّمَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَأُولاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَلَمَّا كَانَ مُوجِبُ عِدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ الدُّخُولَ بِهَا قَالَ: (وَالْمُطَلَّقَةُ الَّتِي لَمْ يَدْخُلْ) مُطَلِّقُهَا الْبَالِغُ (بِهَا) أَوْ دَخَلَ وَلَكِنْ لَمْ يُمْكِنْ وَطْؤُهَا (لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا) إلَّا أَنْ تُقِرَّ الزَّوْجَةُ بِهِ أَوْ يَظْهَرَ بِهَا حَمْلٌ، وَلَمْ يَنْفَعْهُ فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] وَلَا مَفْهُومَ لِلْمُؤْمِنَاتِ، وَلِأَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً. وَفِي الْأَمَةِ وَمَنْ فِيهَا بَقِيَّةُ رِقٍّ شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ   [الفواكه الدواني] الْعِدَّةَ شُرِعَتْ لِبَرَاءَةِ الرَّحِمِ، وَلِذَلِكَ لَا عِدَّةَ عَلَى زَوْجَةِ الصَّغِيرِ، وَلَا عَلَى مَنْ لَمْ تُطِقْ الْوَطْءَ، وَإِنَّمَا وَجَبَتْ فِي الْوَفَاةِ مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ بُلُوغِ زَوْجٍ أَوْ إطَاقَةِ زَوْجَةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا ضَرْبًا مِنْ التَّعَبُّدِ. [عِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا غَيْرِ الْحَامِلِ بِقَوْلِهِ: (وَعِدَّةُ الْحُرَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ) لِزَوْجِهَا وَلَوْ عَبْدًا (أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ) بِرَفْعِ أَرْبَعَةُ وَعَشْرٌ خَبَرُ عِدَّةُ الْوَاقِعَةُ مُبْتَدَأٌ سَوَاءٌ (كَانَتْ) الزَّوْجَةُ (صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً) وَلَوْ كَانَتْ الصَّغِيرَةُ غَيْرَ مُطِيقَةٍ أَوْ الْكَبِيرَةُ لَا يُولَدُ لِمِثْلِهَا وَسَوَاءٌ (دَخَلَ بِهَا أَوْ لَمْ يَدْخُلْ مُسْلِمَةً كَانَتْ أَوْ كِتَابِيَّةً) حَيْثُ كَانَ زَوْجُ الْكِتَابِيَّةِ مُسْلِمًا كَانَ الزَّوْجُ يُولَدُ لِمِثْلِهِ، أَوْ لَا كَصَبِيٍّ أَوْ مَجْبُوبٍ حَيْثُ كَانَ النِّكَاحُ صَحِيحًا أَوْ فَاسِدًا مُخْتَلَفًا فِيهِ قَالَ - تَعَالَى -: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234] وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ صَغِيرَةٍ وَكَبِيرَةٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ النِّكَاحُ مُتَّفَقًا عَلَى فَسَادِهِ كَخَامِسَةٍ أَوْ مُعْتَدَّةٍ فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، إلَّا إنْ كَانَ الزَّوْجُ الْبَالِغُ قَدْ دَخَلَ بِهَا وَهِيَ مُطِيقَةٌ فَتَعْتَدُّ كَالْمُطَلَّقَةِ، وَكَذِمِّيَّةٍ تَحْتَ ذِمِّيٍّ يَمُوتُ عَنْهَا وَيُرِيدُ مُسْلِمٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا فَعَلَيْهَا الِاسْتِبْرَاءُ بِثَلَاثِ حِيَضٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً تَحِيضُ، أَوْ بِحَيْضَةٍ إنْ كَانَتْ أَمَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِلَّا فَكَالْمُطَلَّقَةِ إنْ فَسَدَ. قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ، وَإِنْ تَكُنْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا حَامِلًا وَالْحَالُ أَنَّ زَوْجَهَا قَدْ مَاتَ عَنْهَا وَنِكَاحُهَا مُجْمَعٌ عَلَى فَسَادِهِ فَحُكْمُهَا حُكْمُ الْمُطَلَّقَةِ، فَعِدَّتُهَا ثَلَاثَةُ أَقْرَاءٍ إنْ كَانَتْ حُرَّةً، وَقَرْءَانِ إنْ كَانَتْ أَمَةً وَهَذَا إنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، وَإِلَّا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَإِنْ كَانَتْ صَغِيرَةً مُطِيقَةً لِلْوَطْءِ أَوْ آيِسَةً اُسْتُبْرِئَتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: كَالذِّمِّيَّةِ تَحْتَ ذِمِّيٍّ تَشْبِيهٌ فِي حُكْمِ الْمُطَلَّقَةِ، وَاحْتُرِزَ بِتَحْتِ ذِمِّيٍّ عَمَّا لَوْ كَانَتْ تَحْتَ مُسْلِمٍ، وَمَاتَ فَإِنَّهَا تُجْبَرُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ وَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا حَيْثُ كَانَتْ حُرَّةً، وَعَلَى الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا إنْ كَانَتْ رَقِيقَةً. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا تَحِلُّ لِلْأَزْوَاجِ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ تَنْقَضِي قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا أَوْ لَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ لَا تَحِلُّ إلَّا إنْ تَمَّتْ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: إنْ تَمَّتْ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا، وَقَالَ النَّسَائِيُّ: لَا رِيبَةَ بِهَا، وَإِلَّا انْتَظَرَتْهَا أَيْ، وَإِنْ كَانَتْ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ لَا تَتِمُّ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا بِأَنْ كَانَتْ عَادَتُهَا الْحَيْضَ فِي كُلِّ شَهْرَيْنِ وَتَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا إمَّا لِغَيْرِ سَبَبٍ أَوْ اسْتِحَاضَةٍ وَلَمْ تُمَيِّزْ، أَوْ كَانَتْ تَتِمُّ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ مَجِيءِ زَمَنِ حَيْضَتِهَا وَلَكِنْ قَالَتْ النِّسَاءُ بِهَا رِيبَةٌ مِنْ جَسِّ بَطْنٍ انْتَظَرَتْ الْحَيْضَةَ؛ لِأَنَّ تَأَخُّرَ الْحَيْضَةِ عَنْ عَادَتِهَا، وَكَذَا قَوْلُ النِّسَاءِ يُوجِبُ الشَّكَّ فِي بَرَاءَةِ رَحِمِهَا، فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَيْضَةِ أَوْ تَمَامِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ زَالَتْ الرِّيبَةُ أَوْ لَمْ تَزُلْ حَلَّتْ، وَإِنْ زَادَتْ بَعْدَ التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ انْتَظَرَتْ أَقْصَى الْأَمَدِ، إلَّا أَنْ تَزُولَ الرِّيبَةُ قَبْلَ الْأَقْصَى، وَإِلَّا حَلَّتْ، وَالْأَقْصَى قِيلَ أَرْبَعٌ وَقِيلَ خَمْسُ سِنِينَ، فَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَدْخُولِ بِهَا ذَاتِ الْحَيْضِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَتَحِلُّ بِتَمَامِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَمِثْلُهَا الْمَأْمُونَةُ الْحَمْلِ إمَّا لِصِغَرِهَا أَوْ يَأْسِهَا أَوْ كَوْنِ الزَّوْجِ لَا يُولَدُ لَهُ تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ فَرَاغِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ، وَكَذَا غَيْرُ مَأْمُونَةِ الْحَمْلِ وَلَكِنْ تَتِمُّ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ مَجِيءِ زَمَنِ حَيْضَتِهَا، أَوْ لَا تَتِمُّ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضِهَا وَلَكِنْ أَتَاهَا الْحَيْضُ فِيهَا أَوْ تَأَخَّرَ لِرَضَاعٍ، وَأَمَّا إنْ تَأَخَّرَ لِمَرَضٍ أَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ أَوْ اُسْتُحِيضَتْ، وَلَمْ تُمَيِّزْ فَلَا بُدَّ مِنْ الْحَيْضَةِ أَوْ تَمَامِ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَتَحِلُّ، إلَّا أَنْ تَظْهَرَ رِيبَةٌ بَعْدَ التِّسْعَةِ فَتَمْكُثُ أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ تَأَخُّرَ الْحَيْضِ لِمَرَضٍ كَالتَّأَخُّرِ لِغَيْرِ سَبَبٍ فِي انْتِظَارِ الْحَيْضِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرِوَايَتُهُ عَنْ مَالِكٍ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ، وَحَكَى عَلَيْهِ ابْنُ بَشِيرٍ الِاتِّفَاقَ أَنَّهُ كَالتَّأْخِيرِ لِلرَّضَاعِ فَتَحِلُّ بِتَمَامِ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ حَيْثُ قَالَتْ النِّسَاءُ لَا رِيبَةَ بِهَا. الثَّانِي: إنَّمَا تَرَكَ التَّاءَ مِنْ عَشْرٍ حَيْثُ قَالَ أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ؛ إمَّا لِأَنَّ الْمُرَادَ عَشْرُ مُدَدٍ كُلَّ مُدَّةٍ وَلَيْلَةٍ، وَالْمُدَّةُ مُؤَنَّثَةٌ وَالتَّاءُ تُتْرَكُ مِنْ الْمَعْدُودِ الْمُؤَنَّثِ مِنْ الثَّلَاثِ إلَى الْعَشَرَةِ أَوْ تَغْلِيبًا لِلَّيَالِيِ عَلَى الْأَيَّامِ لِسَبْقِهَا عَلَيْهَا، فَلَوْ زُوِّجَتْ بَعْدَ عَشْرِ لَيَالٍ وَقَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ فُسِخَ عَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْعِدَّةُ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا؛ لِأَنَّ الْأَرْبَعَةَ يَتَحَرَّكُ فِيهَا الْحَمْلُ، وَزِيدَتْ الْعَشْرُ لِاحْتِمَالِ نَقْصِ الشُّهُورِ أَوْ تَأَخُّرِ الْحَرَكَةِ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّ تَأْنِيثَ الْعَشْرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اللَّيْلِيُّ فَقَطْ، وَعَلَيْهِ فَيَصِحُّ الْعَقْدُ بَعْدَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرِ لَيَالٍ قَبْلَ مُضِيِّ الْيَوْمِ الْعَاشِرِ ضَعِيفٌ، وَإِنْ ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ. ثُمَّ ذَكَرَ مُحْتَرَزَ الْحُرَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَ) قَدْرُ زَمَنِ عِدَّةِ الْوَفَاةِ (فِي) حَقِّ الزَّوْجَةِ (الْأَمَةِ وَمَنْ فِيهَا بَقِيَّةُ رِقٍّ) كَمُبَعَّضَةٍ وَأُمِّ وَلَدٍ (شَهْرَانِ وَخَمْسُ لَيَالٍ) مَعَ أَيَّامِهَا حَيْثُ كَانَتْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ صَغِيرَةً أَوْ آيِسَةً أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ مَجْبُوبٍ أَوْ صَغِيرٍ، أَوْ رَأَتْ الْحَيْضَ فِي دَاخِلِهَا، أَوْ تَأَخَّرَ لِرَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ عَلَى قَوْلِ ابْنِ بَشِيرٍ، وَمَنْ وَافَقَهُ، وَإِلَّا مَكَثَتْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ وَتَحِلُّ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ فَتَمْكُثَ تَمَامَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ وَتَحِلَّ، إلَّا تَزِيدُ الرِّيبَةُ فَتَمْكُثُ أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 مَا لَمْ تَرْتَبْ الْكَبِيرَةُ ذَاتُ الْحَيْضِ بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ فَتَقْعُدُ حَتَّى تَذْهَبَ الرِّيبَةُ. وَأَمَّا الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ وَقَدْ بُنِيَ بِهَا فَلَا تُنْكِحُ فِي الْوَفَاةِ إلَّا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ. وَالْإِحْدَادُ أَنْ لَا تَقْرَبَ الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْوَفَاةِ شَيْئًا مِنْ الزِّينَةِ بِحُلِيٍّ أَوْ كُحْلٍ أَوْ غَيْرِهِ وَتَجْتَنِبَ الصِّبَاغَ كُلَّهُ إلَّا الْأَسْوَدَ وَتَجْتَنِبَ الطِّيبَ كُلَّهُ وَلَا تَخْتَضِبَ بِحِنَّاءٍ وَلَا تَقْرَبُ دُهْنًا مُطَيِّبًا وَلَا تَمْتَشِطُ   [الفواكه الدواني] مُكْثُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ عِنْدَ عَدَمِ الْحَيْضِ مِنْ الْمَدْخُولِ بِهَا، وَإِنْ تَمَّتْ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ لِقِصَرِ مُدَّةِ عِدَّةِ الْأَمَةِ فَلَا يَظْهَرُ الْحَمْلُ فِيهَا قَالَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَنَصَّفَتْ بِالرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ فَتِسْعَةٌ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ ذَاتَ الْحَيْضِ الْمَدْخُولَ بِهَا إنْ لَمْ تَحِضْ دَاخِلَهَا تَمْكُثُ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ، سَوَاءٌ تَمَّتْ قَبْلَ زَمَنِ حَيْضَتِهَا أَمْ لَا، وَلَوْ تَأَخَّرَ لِرَضَاعٍ أَوْ مَرَضٍ فَرَاجِعْهُ، وَلَمَّا كَانَ حِلُّ الْمُعْتَدَّةِ بِانْقِضَاءِ زَمَنِ عِدَّتِهَا مَشْرُوطًا بِعَدَمِ رِيبَتِهَا قَالَ: (مَا لَمْ تَرْتَبْ الْكَبِيرَةُ ذَاتُ الْحَيْضِ) سَوَاءٌ كَانَتْ حُرَّةً أَوْ أَمَةً (بِتَأْخِيرِهِ عَنْ وَقْتِهِ) ، وَإِلَّا (فَتَقْعُدْ حَتَّى تَذْهَبَ الرِّيبَةُ) إمَّا بِحَيْضَةٍ أَوْ بِتَمَامِ مُضِيِّ التِّسْعَةِ أَشْهُرٍ، هَذَا حُكْمُ الْمُرْتَابَةِ بِتَأَخُّرِ الْحَيْضِ، وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّهَا مَدْخُولٌ بِهَا وَتَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا عَنْ عَادَتِهَا وَزَوْجُهَا يُولَدُ لَهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ رِيبَتُهَا بِجَسِّ بَطْنٍ فَإِنَّهَا تَمْكُثُ أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ أَرْبَعَ أَوْ خَمْسَ سِنِينَ، وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ ذَاتَ الرِّيبَةِ تَسْتَوِي فِيهَا الْحُرَّةُ وَالْأَمَةُ. وَلَمَّا قَدَّمَ حُكْمَ الْأَمَةِ ذَاتِ الْحَيْضِ شَرَعَ فِي حُكْمِ غَيْرِهَا بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا) الزَّوْجَةُ الْأَمَةُ وَلَوْ بِشَائِبَةٍ (الَّتِي لَا تَحِيضُ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ وَ) الْحَالُ أَنَّ الزَّوْجَ كَانَ (قَدْ بَنَى بِهَا فَلَا) يَحِلُّ أَنْ (تُنْكِحَ فِي الْوَفَاةِ إلَّا بَعْدَ) مُضِيِّ (ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ) مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ، وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَالْمَذْهَبُ أَنَّهَا تَحِلُّ بِمُضِيِّ شَهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَنَّ الَّتِي يَتَوَقَّفُ حِلُّهَا عَلَى الثَّلَاثَةِ أَشْهُرٍ إنَّمَا هِيَ الَّتِي دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الَّذِي يُولَدُ لَهُ، وَهِيَ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَلَمْ تَرَ الْحَيْضَ فِي الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَنَصَّفَتْ بِالرِّقِّ، وَإِنْ لَمْ تَحِضْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ إلَّا أَنْ تَرْتَابَ فَتِسْعَةٌ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَحِضْ لِصِغَرٍ أَوْ يَأْسٍ أَوْ حَاضَتْ فِيهَا أَوْ كَانَ زَوْجُهَا صَغِيرًا أَوْ مَجْبُوبًا فَإِنَّهَا تَحِلُّ بِمُجَرَّدِ انْقِضَاءِ الشَّهْرَيْنِ وَخَمْسِ لَيَالٍ بِأَيَّامِهَا، فَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ضَعِيفٌ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ شُرَّاحُ خَلِيلٍ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى تَوَابِعِ الْعِدَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِحْدَادُ) لُغَةً الِامْتِنَاعُ مِنْ حَدَدْت الرَّجُلَ مِنْ كَذَا إذَا مَنَعْتَهُ مِنْهُ وَأَحَدَّتْ الْمَرْأَةُ امْتَنَعَتْ مِنْ الزِّينَةِ، وَمِنْهُ الْحُدُودُ؛ لِأَنَّهَا تَمْنَعُ الْجَانِيَ مِنْ الْعَوْدِ لِمِثْلِ مَا فَعَلَ مِمَّا يُوجِبُ الْحَدَّ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هُوَ تَرْكُ مَا هُوَ زِينَةٌ وَلَوْ مَعَ غَيْرِهِ، وَفَسَّرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (أَنْ لَا تَقْرَبَ) الْمَرْأَةُ (الْمُعْتَدَّةُ مِنْ الْوَفَاةِ شَيْئًا مِنْ الزِّينَةِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَرَكَتْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَقَطْ، وَإِنْ صَغُرَتْ وَلَوْ كِتَابِيَّةً، وَمَفْقُودًا زَوْجُهَا التَّزَيُّنَ بِالْمَصْبُوغِ، وَلَوْ أَدْكَنَ إنْ وَجَدَتْ غَيْرَهُ إلَّا الْأَسْوَدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَى الْمُعْتَدَّةِ مِنْ الْوَفَاةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُحِدُّ امْرَأَةٌ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلَاثٍ إلَّا عَلَى زَوْجٍ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَلَا تَلْبَسُ ثَوْبًا مَصْبُوغًا إلَّا ثَوْبَ عَصْبٍ وَلَا تَكْتَحِلُ وَلَا تَمَسُّ طِيبًا إلَّا إذَا طَهُرَتْ نُبْذَةً مِنْ قُسْطٍ أَوْ أَظْفَارٍ» . قِيلَ: الْعَصْبُ ثِيَابٌ مِنْ الْيَمَنِ فِيهَا بَيَاضٌ وَسَوَادٌ، وَالنُّبْذَةُ بِضَمِّ النُّونِ الْقِطْعَةُ وَالشَّيْءُ الْيَسِيرُ، وَالْقُسْطُ بِضَمِّ الْقَافِ، وَالْأَظْفَارُ نَوْعَانِ مِنْ الْبَخُورِ رَخَّصَ فِيهِ فِي الطُّهْرِ مِنْ الْحَيْضِ لِتَطْهِيرِ الْمَحَلِّ، وَإِزَالَةِ كَرَاهِيَتِهِ، وَلِهَذَا الْحَدِيثِ قَصَرَ مَالِكٌ الْإِحْدَادَ عَلَى عِدَّةِ الْوَفَاةِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهِ الْإِبْعَادُ عَمَّا تُرَادُ الْمَرْأَةُ لَهُ صَوْنًا لِلْأَنْسَابِ، وَإِنْ ارْتَابَتْ فَعَلَيْهَا الْإِحْدَادُ حَتَّى تَنْقَضِيَ الرِّيبَةُ، وَصِلَةُ الزِّينَةِ (بِحُلِيٍّ أَوْ كُحْلٍ أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ نَحْوِ إزَالَةٍ لِشُعْثٍ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا تَكْتَحِلُ إلَّا مِنْ ضَرُورَةٍ فَتَسْتَعْمِلُهُ لَيْلًا وَتَمْسَحُهُ نَهَارًا لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِامْرَأَةٍ مُعْتَدَّةٍ اشْتَكَتْ عَيْنُهَا: اكْتَحِلِي بِكُحْلِ الْجَلَاءِ بِاللَّيْلِ وَامْسَحِيهِ نَهَارًا» وَعَيْنُهَا بِضَمِّ النُّونِ فَاعِلُ اشْتَكَتْ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ لَازِمٌ بِمَعْنَى مَرِضَتْ عَيْنُهَا، وَالْحُلِيُّ يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مُفْرَدٌ فَيَكُونُ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَسُكُونِ اللَّامِ مَعَ تَخْفِيفِ الْيَاءِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّهُ جَمْعٌ فَيَكُونُ بِضَمِّ الْحَاءِ وَكَسْرِ اللَّامِ وَشَدِّ الْيَاءِ جَمْعُ حَلْيٍ وَهُوَ كُلُّ مَا تَتَحَلَّى بِهِ الْمَرْأَةُ مِنْ قُرْطٍ وَسِوَارٍ وَخَاتَمِ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَعْنَى لَا تَقْرَبُ الزِّينَةَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ، فَإِنْ اسْتَعْمَلَتْ شَيْئًا مِنْ الزِّينَةِ زَمَنَ عِدَّتِهَا عَصَتْ وَوَجَبَ عَلَيْهَا التَّوْبَةُ، وَإِنْ اكْتَفَتْ بِعِدَّتِهَا. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تَجْتَنِبَ) لُبْسَ سَائِرِ الثِّيَابِ الْمَصْبُوغَةِ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ (الصِّبَاغِ كُلِّهِ إلَّا) الْمَصْبُوغَةَ بِنَوْعِ (الْأَسْوَدِ) فَإِنَّهَا لَا تَجْتَنِبُهُ، وَإِنْ وَجَدَتْ غَيْرَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ زِينَةً لَهَا لِشِدَّةِ بَيَاضِهَا. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (تَجْتَنِبَ الطِّيبَ كُلَّهُ) الْمُذَكَّرَ وَهُوَ مَا يَظْهَرُ لَوْنُهُ وَيَخْفَى أَثَرُهُ كَالْوِرْدِ وَالْيَاسَمِينِ، وَمُؤَنَّثِهِ وَهُوَ مَا يَخْفَى لَوْنُهُ وَتَظْهَرُ رَائِحَتُهُ كَالْمِسْكِ وَالزُّبْدَةِ، وَعَبَّرَ بِتَجْتَنِبُ إشَارَةً لِلتَّعْمِيمِ فَلَا تَتَطَيَّبُ بِهِ وَلَا تَتَّجِرُ بِهِ، وَإِنْ احْتَاجَتْ إلَى ذَلِكَ فِي تَمَعُّشِهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ بِحَيْثُ تَخْشَى عَلَى نَفْسِهَا الضَّيَاعَ بِتَرْكِ ذَلِكَ، وَإِلَّا انْبَغَى الْجَوَازُ عَلَى مَا يَظْهَرُ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (لَا تَخْتَضِبَ بِحِنَّاءٍ) قَالَ خَلِيلٌ: فَلَا تَمْتَشِطُ بِحِنَّاءٍ أَوْ كَتَمٍ بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّاءِ وَهُوَ شَيْءٌ أَسْوَدُ يُصْبَغُ بِهِ الشَّعْرُ يُذْهِبُ حُمْرَتَهُ وَلَا يُسَوِّدُهُ. (وَ) كَذَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ (لَا تَقْرَبَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 بِمَا يُخْتَمَرُ فِي رَأْسِهَا وَعَلَى الْأَمَةِ وَالْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ الْإِحْدَادُ. وَاخْتُلِفَ فِي الْكِتَابِيَّةِ وَلَيْسَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ إحْدَادٌ وَتُجْبَرُ الْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنْ الْمُسْلِمِ فِي الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ. وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا حَيْضَةٌ وَكَذَلِكَ إذَا أَعْتَقَهَا فَإِنْ قَعَدَتْ عَنْ الْحَيْضِ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَاسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ حَيْضَةٌ انْتَقَلَ الْمِلْكُ بِبَيْعٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ سَبْيٍ   [الفواكه الدواني] دُهْنًا مُطَيِّبًا وَلَا تَمْتَشِطُ بِمَا تُخْتَمَرُ) أَيْ تَبْقَى رَائِحَتُهُ (فِي رَأْسِهَا) بِخِلَافِ نَحْوِ الزَّيْتِ وَالسِّدْرِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا تَبْقَى لَهُ رَائِحَةٌ فَيَجُوزُ لَهَا اسْتِعْمَالُهُ، وَلَمَّا كَانَ الْإِحْدَادُ مُتَحَتِّمًا عَلَى كُلِّ مُتَوَفًّى عَنْهَا قَالَ: (وَ) يَجِبُ (عَلَى الْأَمَةِ) الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا (وَالْحُرَّةِ الصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ الْإِحْدَادُ) لَكِنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ لِلصَّغِيرَةِ الْوَلِيُّ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُجَنِّبَهَا كُلَّ مَا يُزَيِّنُ زَمَنَ عِدَّتِهَا. (وَاخْتُلِفَ فِي) الْمُتَوَفَّى عَنْهَا (الْكِتَابِيَّةِ) فِي وُجُوبِ الْإِحْدَادِ عَلَيْهَا وَعَدَمِهِ، وَالْمَذْهَبُ الْوُجُوبُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَتُرِكَتْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَقَطْ، وَإِنْ صَغُرَتْ وَلَوْ كِتَابِيَّةً، وَمَفْقُودًا زَوْجُهَا التَّزَيُّنَ، وَعُمُومُ الْحَدِيثِ لَا تَلْبَسُ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْمُعَصْفَرَ، وَلَمَّا كَانَ الْإِحْدَادُ مَشْرُوعًا خَوْفَ اخْتِلَاطِ الْأَنْسَابِ، خُصَّ بِالْمُتَوَفَّى عَنْهَا دُونَ الْمُطَلَّقَةِ وَلِذَا قَالَ: (وَلَيْسَ عَلَى الْمُطَلَّقَةِ) زَمَنَ عِدَّتِهَا (حَدَّادٌ) وَلَوْ كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا؛ لِأَنَّهَا لَوْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ لَأَمْكَنَ الزَّوْجُ أَنْ يَنْفِيَهُ إنْ لَمْ يَكُنْ مِنْهُ بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا. (وَتُجْبَرُ) الزَّوْجَةُ (الْحُرَّةُ الْكِتَابِيَّةُ عَلَى الْعِدَّةِ مِنْ) زَوْجِهَا (الْمُسْلِمِ فِي الْوَفَاةِ وَالطَّلَاقِ) فَتَتَرَبَّصُ فِي الْوَفَاةِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا، وَفِي الطَّلَاقِ ثَلَاثَةَ أَقْرَاءٍ أَوْ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ أَوْ كَبِيرَةً لَا تَحِيضُ، وَمَفْهُومُ الْمُسْلِمِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ زَوْجُهَا كَافِرًا لَا يَكُونُ حُكْمُهَا كَذَلِكَ، وَالْحُكْمُ أَنَّهَا إنْ أَرَادَ مُسْلِمٌ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْرَاءٍ وَلَوْ فِي الْوَفَاةِ حَيْثُ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا، أَوْ ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دَخَلَ بِهَا فَلَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْعِدَّةُ مُخْتَصَّةً بِالزَّوْجَةِ. [عِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا] شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَمَةِ الْمَوْطُوءَةِ بِالْمِلْكِ يَمُوتُ عَنْهَا سَيِّدُهَا أَوْ يُعْتِقُهَا بِبَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ) وَهِيَ الْحُرَّةُ حَمْلُهَا مِنْ وَطْءِ مَالِكِهَا عَلَيْهِ جَبْرًا (مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا حَيْضَةٌ) ؛ لِأَنَّهَا فِي حَقِّهَا كَالْعِدَّةِ فِي حَقِّ الْحُرَّةِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ تَكُونَ حَامِلًا فَعِدَّتُهَا وَضْعُ حَمْلِهَا؛ لِأَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ يَحْصُلُ بِهِ الِاسْتِبْرَاءُ وَتَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَلَوْ عِدَّةَ حُرَّةٍ وَلَوْ مِنْ وَفَاةٍ. (كَذَلِكَ) تَعْتَدُّ بِحَيْضَةٍ (إنْ أَعْتَقَهَا) قَبْلَ مَوْتِهِ، وَأَرَادَ الْغَيْرُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا، وَلَا مَفْهُومَ لِأُمِّ الْوَلَدِ بَلْ كُلُّ أَمَةٍ أَعْتَقَهَا سَيِّدُهَا لَا تَتَزَوَّجُ إلَّا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا بِحَيْضَةٍ، وَإِنَّمَا خَصَّ أُمَّ الْوَلَدِ؛ لِأَنَّ فِيهَا شَائِبَةَ حُرِّيَّةٍ، فَرُبَّمَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الْحَيْضَةَ غَيْرُ كَافِيَةٍ فِيهَا، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَيْهَا تِلْكَ الْحَيْضَةُ فِي الْمَوْتِ أَوْ عِنْدَ عِتْقِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَكُونَ قَدْ وَطِئَهَا سَيِّدُهَا، وَلِذَلِكَ لَوْ كَانَتْ مُتَزَوِّجَةً بِالْغَيْرِ عِنْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهَا تِلْكَ الْحَيْضَةُ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الْحَيْضَةِ بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا وَلَوْ كَانَ اسْتَبْرَأَهَا قَبْلَ مَوْتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ اُسْتُبْرِئَتْ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا اسْتَأْنَفَتْ أُمُّ الْوَلَدِ فَقَطْ؛ لِأَنَّهَا كَالْحُرَّةِ تَطْهُرُ مِنْ الْحَيْضِ ثُمَّ يَمُوتُ الزَّوْجُ قَبْلَ وَطْئِهَا فَإِنَّهَا تَسْتَأْنِفُ الْعِدَّةَ، وَأَمَّا غَيْرُ أُمِّ الْوَلَدِ يَسْتَبْرِئُهَا سَيِّدُهَا بِحَيْضَةٍ أَوْ تَنْقَضِي عِدَّتُهَا مِنْ مُطَلِّقِهَا فَفِيهَا تَفْصِيلٌ، فَإِنْ أَعْتَقَهَا فَلَا تَحْتَاجُ إلَى حَيْضَةٍ بَلْ تَحِلُّ مَكَانَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ أُمِّ الْوَلَدِ يَسْتَبْرِئُهَا سَيِّدُهَا الْوَارِثُ اسْتِبْرَاؤُهَا بِحَيْضَةٍ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَبِمَوْتِ سَيِّدٍ، وَإِنْ اُسْتُبْرِئَتْ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَمَةَ تَسْتَأْنِفُ حَيْضَةً بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَلَوْ اُسْتُبْرِئَتْ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا أُمَّ وَلَدٍ أَوْ غَيْرَهَا، وَأَمَّا لَوْ أُعْتِقَتْ بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ أَوْ انْقَضَتْ عِدَّتُهَا فَتَسْتَأْنِفُ إنْ كَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ لَا إنْ كَانَتْ غَيْرَهَا، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ خَلِيلٍ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُمِّ الْوَلَدِ وَغَيْرِهَا شَبَّهَ أُمَّ الْوَلَدِ بِالْحُرَّةِ، وَالْحُرَّةُ تَسْتَأْنِفُ عِدَّةً بِمَوْتِ الزَّوْجِ وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ غَيْرَ مَدْخُولٍ بِهَا. (فَإِنْ قَعَدَتْ) أُمُّ الْوَلَدِ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهَا أَوْ صَغُرَتْ (عَنْ الْحَيْضِ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) عِدَّتُهَا مِنْ سَيِّدِهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ إطْلَاقِ الْعِدَّةِ عَلَى الْحَيْضَةِ مِنْ أُمِّ الْوَلَدِ بَعْدَ سَيِّدِهَا فِيهِ تَجَوُّزٌ، إذْ هُوَ اسْتِبْرَاءٌ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّهَا مُدَّةُ مَنْعِ النِّكَاحِ لِفَسْخِهِ أَوْ مَوْتِ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقِهِ، فَهِيَ مُخْتَصَّةٌ بِالزَّوْجَةِ وَلَوْ أَمَةً، وَأَيْضًا الْعِدَّةُ عِنْدَ مَالِكٍ هِيَ الْأَطْهَارُ لَا الْحَيْضُ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّهُ إنَّمَا تَجُوزُ بِإِطْلَاقِ الْعِدَّةِ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ تَبَعًا لِلْمُدَوَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ فِيهَا: وَعِدَّةُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ وَفَاةِ سَيِّدِهَا أَوْ عِتْقِهِ إيَّاهَا حَيْضَةٌ. الثَّانِي: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ أُمِّ الْوَلَدِ الَّتِي مَاتَ سَيِّدُهَا وَزَوْجُهَا، وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ مِنْهُمَا، وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: إنْ مَاتَ السَّيِّدُ وَالزَّوْجُ وَلَمْ يُعْلَمْ السَّابِقُ فَإِنْ كَانَ بَيْنَ مَوْتَيْهِمَا أَكْثَرُ مِنْ عِدَّةِ الْأَمَةِ أَوْ جُهِلَ فَعِدَّةُ حُرَّةٍ، وَمَا تُسْتَبْرَأُ بِهِ الْأَمَةُ وَفِي الْأَقَلِّ عِدَّةُ حُرَّةٍ، وَهَلْ قَدْرُهَا كَأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ قَوْلَانِ. [وَاسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ] ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الِاسْتِبْرَاءِ وَهُوَ أَحَدُ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَرْجَمَ لَهَا وَهُوَ لُغَةً الِاسْتِقْصَاءُ وَالْبَحْثُ وَالْكَشْفُ عَلَى الْأَمْرِ الْغَامِضِ، وَشَرْعًا الْكَشْفُ عَنْ حَالِ الْأَرْحَامِ عِنْدَ انْتِقَالِ الْأَمْلَاكِ مُرَاعَاةً لِحِفْظِ الْأَنْسَابِ وَهُوَ وَاجِبٌ كَوُجُوبِ الْعِدَّةِ فِي الزَّوْجَاتِ لِخَبَرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَمَنْ هِيَ فِي حِيَازَتِهِ قَدْ حَاضَتْ عِنْدَهُ ثُمَّ إنَّهُ اشْتَرَاهَا فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهَا إنْ لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ. وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ فِي الْبَيْعِ إنْ كَانَتْ تُوطَأُ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، وَاَلَّتِي لَا تُوطَأُ فَلَا اسْتِبْرَاءَ فِيهَا. وَمَنْ ابْتَاعَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ أَوْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ فَلَا يَقْرَبُهَا وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشَيْءٍ حَتَّى تَضَعَ. وَالسُّكْنَى لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا وَلَا نَفَقَةَ إلَّا لِلَّتِي طَلُقَتْ دُونَ   [الفواكه الدواني] سَبَايَا أَوْطَاسٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَلَا لَا تُوطَأُ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ، وَلَا حَائِلٌ حَتَّى تَحِيضَ» . فَقَالَ: (وَاسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ فِي انْتِقَالِ الْمِلْكِ) لِمَنْ لَمْ تَتَيَقَّنْ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا، وَكَانَتْ تَحِلُّ لَهُ مُسْتَقْبَلًا، وَلَمْ تَكُنْ زَوْجَةً لَهُ قَبْلَ حُصُولِ مِلْكِهَا (حَيْضَةٌ) وَاحِدَةٌ حَيْثُ كَانَتْ تَحِيضُ سَوَاءٌ (انْتَقَلَ الْمِلْكُ بِبَيْعٍ) مِنْ الْغَيْرِ لَهُ (أَوْ) بِقَبُولٍ مِنْ (هِبَةٍ) أَوْ وَصِيَّةٍ (أَوْ) انْتَقَلَ مِلْكُهَا لَهُ (بِسَبْيٍ) لَهَا مِنْ أَرْضِ الْحَرْبِ (أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ) كَإِرْثٍ مِمَّنْ لَمْ يَكُنْ اسْتَمْتَعَ بِهَا أَوْ لَمْ يَكُنْ اسْتِمْتَاعُهُ بِهَا مُحَرَّمًا لَهَا عَلَيْهِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: يَجِبُ الِاسْتِبْرَاءُ بِحُصُولِ الْمِلْكِ إنْ لَمْ تُوقَنْ الْبَرَاءَةُ وَلَمْ يَكُنْ وَطْؤُهَا مُبَاحًا وَلَمْ تَحْرُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَوْ تَأَخَّرَتْ حَيْضَتُهَا فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَأَخَّرَتْ أَوْ أَرْضَعَتْ أَوْ مَرِضَتْ أَوْ اُسْتُحِيضَتْ، وَلَمْ تُمَيِّزْ فَثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ كَالصَّغِيرَةِ وَالْيَائِسَةِ، وَنَظَرَ النِّسَاءُ فَإِنْ ارْتَابَتْ فَتِسْعَةٌ أَيْ تَمْكُثُ تَمَامَ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ، فَإِنْ لَمْ تَزِدْ الرِّيبَةُ أَوْ ذَهَبَتْ حَلَّتْ، وَإِنْ زَادَتْ تَرَبَّصَتْ أَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ، ثُمَّ ذَكَرَ مُحْتَرَزَ مَا قَدَّمْنَاهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ هِيَ) أَيْ الْأَمَةُ (فِي حِيَازَتِهِ) بِرَهْنٍ أَوْ وَدِيعَةٍ، وَالْحَالُ أَنَّهَا (قَدْ حَاضَتْ عِنْدَهُ) وَعُلِمَ بِذَلِكَ بِخَبَرِ مَنْ يَثِقُ بِهِ وَلَوْ امْرَأَةً (ثُمَّ إنَّهُ اشْتَرَاهَا) أَوْ مَلَكَهَا بِوَجْهٍ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ (فَلَا اسْتِبْرَاءَ عَلَيْهِ) لِتَيَقُّنِهِ بَرَاءَةَ رَحِمِهَا (إنْ لَمْ تَكُنْ تَخْرُجُ) خُرُوجًا يُمْكِنُ وَطْؤُهَا فِيهِ أَوْ يَلِجُ سَيِّدُهَا عَلَيْهَا، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ اسْتِبْرَاؤُهَا لِسُوءِ الظَّنِّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تُسْتَبْرَأُ بِهِ مَنْ لَا تَحِيضُ بِقَوْلِهِ: (وَاسْتِبْرَاءُ الصَّغِيرَةِ فِي الْبَيْعِ) أَيْ إذَا أَرَادَ سَيِّدُهَا أَنْ يَبِيعَهَا أَوْ اسْتَحْدَثَ مِلْكَهَا بِبَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ وُجُوهِ الْمِلْكِ (إنْ كَانَتْ تُوطَأُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ) قَبْلَ بَيْعِهَا أَوْ قَبْلَ وَطْئِهَا؛ لِأَنَّ الْحَمْلَ لَا يَظْهَرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ وَهِيَ لَمْ يُقْطَعْ بِعَدَمِ حَمْلِهَا. (وَ) كَذَلِكَ اسْتِبْرَاءُ الْأَمَةِ (الْيَائِسَةِ مِنْ الْمَحِيضِ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ) وَكَذَا الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَمْ تُمَيِّزْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الَّتِي تُمَيِّزُ فَتُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ كَغَيْرِ الْمُسْتَحَاضَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ إنْ كَانَتْ تُوطَأُ بِقَوْلِهِ: (وَاَلَّتِي لَا تُوطَأُ) لِصِغَرِهَا كَبِنْتِ خَمْسِ سِنِينَ (فَلَا اسْتِبْرَاءَ فِيهَا) عَلَى مَالِكِهَا عِنْدَ إرَادَةِ بَيْعِهَا، وَلَا عَلَى مُشْتَرِيهَا عِنْدَ اشْتِرَائِهَا، لِلْعِلْمِ بِبَرَاءَةِ رَحِمِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا اسْتِبْرَاءَ إنْ تُطِقْ الْوَطْءَ أَوْ حَاضَتْ تَحْتَ يَدِهِ كَمُودَعَةٍ، وَمَبِيعَةٍ بِالْخِيَارِ وَلَمْ تَخْرُجْ وَلَمْ يَلِجْ عَلَيْهَا سَيِّدُهَا أَوْ أَعْتَقَ وَتَزَوَّجَ أَوْ اشْتَرَى زَوْجَتَهُ، وَإِنْ بَعُدَ الْبِنَاءُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَطِيَّةَ لِلْوَطْءِ يَجِبُ اسْتِبْرَاؤُهَا وَلَوْ كَانَتْ وَخْشَةً وَلَا تَحْمِلُ عَادَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ صَغِيرَةً أَطَاقَتْ الْوَطْءَ أَوْ كَبِيرَةً لَا تَحْمِلَانِ عَادَةً أَوْ وَخْشًا أَوْ بِكْرًا أَوْ رَجَعَتْ مِنْ غَصْبٍ أَوْ سَبْيٍ أَوْ غَنِيمَةٍ، أَوْ اُشْتُرِيَتْ وَهِيَ مُتَزَوِّجَةٌ، وَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ بِنَائِهِ بِهَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تُسْتَبْرَأُ بِهِ الْحَامِلُ فَقَالَ: (وَمَنْ ابْتَاعَ حَامِلًا مِنْ غَيْرِهِ) كَزَوْجٍ أَوْ زَانٍ (أَوْ مَلَكَهَا بِغَيْرِ الْبَيْعِ) كَإِرْثٍ أَوْ صَدَقَةٍ (فَلَا يَقْرَبُهَا) بِوَطْءٍ (وَلَا يَتَلَذَّذُ مِنْهَا بِشَيْءٍ) مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ (حَتَّى تَضَعَ) حَمْلُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالْوَضْعِ كَالْعِدَّةِ، وَحَرُمَ فِي زَمَنِهِ الِاسْتِمْتَاعُ، فَإِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا حَرُمَ وَطْؤُهَا فَقَطْ حَتَّى تَخْرُجَ مِنْ دَمِ النِّفَاسِ، بِخِلَافِ الْمُقَدِّمَاتِ؛ لِأَنَّ كُلَّ ذَاتٍ حَرُمَ وَطْؤُهَا يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا بِسَائِرِ وُجُوهِ الِاسْتِمْتَاعِ، إلَّا الْحَائِضَ وَالنُّفَسَاءَ فَإِنَّمَا يَحْرُمُ وَطْؤُهُمَا، وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِمَا بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ لَا بِأَعْلَاهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَائِضُ تَشُدُّ إزَارَهَا وَشَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا» وَإِلَّا الْمَزْنِيَّ بِهَا وَالْمُغْتَصَبَةَ وَهِيَ حَامِلٌ مِنْ زَوْجِهَا أَوْ مِنْ سَيِّدِهَا فَلَا يَحْرُمُ عَلَى زَوْجِهَا وَلَا سَيِّدِهَا الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَلَوْ وَطْئًا. فَيُفِيدُ قَوْلُ خَلِيلٍ بَعْدَ بَيَانِ عِدَّةِ الْحُرَّةِ: وَقَدْرُ عِدَّةِ الْأَمَةِ مِنْ زَوْجِهَا وَوَجَبَ إنْ وُطِئَتْ بِزِنًى أَوْ غَصْبٍ قَدْرُهَا بِغَيْرِ الْحَامِلِ فَرَاجِعْ شُرَّاحَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ مَا ذُكِرَ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ بِالْمَمْلُوكَةِ الْحَامِلِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْقِيَ مَاءَهُ زَرْعَ غَيْرِهِ» يَعْنِي لَا يَحِلُّ لَهُ إتْيَانُ الْحَبَالَى مِنْ غَيْرِهِ، وَمَفْهُومُ هَذَا أَنَّ زَوْجَتَهُ أَوْ أَمَتَهُ الْحَامِلَ مِنْهُ لَوْ زَنَتْ بِغَيْرِهِ زَمَنَ حَمْلِهَا لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِ وَطْؤُهَا، وَإِنَّمَا قِيلَ يُكْرَهُ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا تَحْتَاجُ إلَيْهِ الْمُعْتَدَّةُ زَمَنَ عِدَّتِهَا مِنْ سُكْنَى أَوْ نَفَقَةٍ بِقَوْلِهِ: (وَالسُّكْنَى) وَاجِبَةٌ (لِكُلِّ مُطَلَّقَةٍ مَدْخُولٍ بِهَا) سَوَاءٌ كَانَ طَلَاقًا بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا، سَوَاءٌ كَانَ الْمَسْكَنُ لَهُ أَوْ نَقَدَ كِرَاءَهُ أَوْ لَا؛ لِأَنَّهَا مَحْبُوسَةٌ بِسَبَبِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمُعْتَدَّةِ الْمُطَلَّقَةِ أَوْ الْمَحْبُوسَةِ بِسَبَبِهِ فِي حَيَاتِهِ السُّكْنَى فَتَدْخُلُ الْمَحْبُوسَةُ بِزِنَاهُ، أَوْ فُسِخَ نِكَاحُهُ الْفَاسِدُ لِقَرَابَةٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهَارَةٍ أَوْ لِعَانٍ، وَلَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى الْفَسَادِ أَوْ نَحْوِهِ إلَّا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ الْحَبْسِ بِسَبَبِهِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي التَّقْيِيدِ بِحَيَاتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ بَعْدَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ قَوْله تَعَالَى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6] وَلَمْ يُقَيَّدْ بِكَوْنِ الْمَسْكَنِ لَهُ بِخِلَافِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا سُكْنَى لَهَا؛ لِأَنَّهَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا، وَكَذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 الثَّلَاثِ وَلِلْحَامِلِ كَانَتْ مُطَلَّقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا. وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُخْتَلِعَةِ إلَّا فِي الْحَمْلِ. وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُلَاعَنَةِ وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا وَلَا نَفَقَةَ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ وَفَاةٍ وَلَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَتْ الدَّارُ لِلْمَيِّتِ أَوْ قَدْ نَقَدَ كِرَاءَهَا. وَلَا تَخْرُجُ مِنْ بَيْتِهَا فِي طَلَاقٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] الْمَدْخُولُ بِهَا غَيْرُ الْمُطِيقَةِ كَزَوْجَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْبُوبِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا لَا عِدَّةَ عَلَيْهَا. (وَلَا نَفَقَةَ) لِلزَّوْجَةِ الْمُطَلَّقَةِ (إلَّا الَّتِي طَلُقَتْ دُونَ الثَّلَاثِ) حَيْثُ كَانَ الطَّلَاقُ رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ إلَّا فِي تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا وَالْأَكْلِ مَعَهَا. (وَ) إلَّا (لِلْحَامِلِ كَانَتْ مُطَلَّقَةً وَاحِدَةً أَوْ ثَلَاثًا) قَالَ - تَعَالَى -: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ نَفَقَةِ الْحَامِلِ كَوْنُ الزَّوْجِ حُرًّا وَالزَّوْجَةُ حُرَّةً لَا إنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا فَلَا نَفَقَةَ لَهَا؛ لِأَنَّهَا إنْ كَانَا رَقِيقَيْنِ النَّفَقَةُ عَلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ الْوَلَدَ رَقِيقٌ لَهُ، وَكَذَا إنْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَهِيَ حُرَّةٌ لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لِلسَّيِّدِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ نَفَقَةُ وَلَدِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً وَالزَّوْجُ حُرًّا لَا نَفَقَةَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمِلْكَ لِلسَّيِّدِ فَتَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ إلَّا أَنْ يُعْتِقَهُ فَيَلْزَمَ إيَّاهُ رَضَاعُهُ وَنَفَقَتُهُ، إلَّا أَنْ يَعْدَمَ الْأَبُ أَوْ يَمُوتَ فَعَلَى السَّيِّدِ؛ لِأَنَّ مَنْ أَعْتَقَ صَغِيرًا لَيْسَ لَهُ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ يَلْزَمُ سَيِّدَهُ نَفَقَتُهُ حَتَّى يَقْدِرَ عَلَى الْكَسْبِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إسْقَاطِ نَفَقَتِهِ بِعِتْقِهِ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا ادَّعَتْ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا بَائِنًا أَنَّهَا حَامِلٌ لِتَأْخُذَ النَّفَقَةَ لَمْ تُصَدَّقْ حَتَّى يَظْهَرَ بِحَرَكَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا نَفَقَةَ بِدَعْوَاهَا بَلْ بِظُهُورِ الْحَمْلِ وَحَرَكَتِهِ فَتَجِبُ مِنْ أَوَّلِهِ، وَمِثْلُ ظُهُورِهِ بِحَرَكَتِهِ أَوْ شَهِدَتْ امْرَأَتَانِ بِحَمْلِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَوْ أُنْفِقَ عَلَيْهَا مُدَّةً بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ الْحَرَكَةِ أَوْ شَهَادَةِ النِّسَاءِ ثُمَّ ظَهَرَتْ غَيْرَ حَامِلٍ لَرَجَعَ عَلَيْهَا بِمَا أَنْفَقَهُ عَلَيْهَا سَوَاءٌ أَنْفَقَ بِحُكْمٍ أَمْ لَا. الثَّانِي: لَوْ طَلَّقَ طَلَاقًا بَائِنًا وَهُوَ غَائِبٌ، وَأَنْفَقَتْ الزَّوْجَةُ مِنْ مَالِهِ فِي غَيْبَتِهِ غَيْرَ عَالِمَةٍ بِطَلَاقِهِ، فَقِيلَ يَرْجِعُ عَلَيْهَا، وَقِيلَ لَا رُجُوعَ لَهُ؛ لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ إعْلَامِهَا بِالطَّلَاقِ، وَعَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فَإِنَّهُ قَالَ: وَلَا يَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَتْ الْمُطَلَّقَةُ وَيَغْرَمُ مَا تَسَلَّفَتْ، وَكَلَامُ خَلِيلٍ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُخْبِرْهَا مَنْ يَثْبُتُ بِخَبَرِهِ الطَّلَاقُ وَهُوَ عَدْلَانِ، وَإِلَّا رَجَعَ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُطَلَّقَةُ بَائِنًا لَا نَفَقَةَ لَهَا إلَّا الْحَامِلُ قَالَ: (وَلَا نَفَقَةَ لِلْمُخْتَلِعَةِ) لِبَيْنُونَتِهَا (إلَّا فِي) زَمَنِ (الْحَمْلِ) اللَّاحِقِ بِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَتُهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ خَالَعَهَا عَلَى إسْقَاطِهَا فَتَسْقُطُ، كَمَا تَسْقُطُ لَوْ خَالَعَهَا عَلَى إسْقَاطِ أُجْرَةِ رَضَاعِهَا إيَّاهُ بَعْدَ وَضْعِهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَازَ شَرْطُهُ نَفَقَةَ وَلَدِهَا مُدَّةَ رَضَاعِهِ فَلَا نَفَقَةَ لِلْحَمْلِ. (وَ) كَذَا (لَا نَفَقَةَ لِلْمُلَاعَنَةِ) لِانْقِطَاعِ عِصْمَتِهَا بِلِعَانِهَا (وَإِنْ كَانَتْ حَامِلًا) ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْحَامِلِ شَرْطُهَا كَوْنُ الْحَمْلِ لَاحِقًا بِصَاحِبِ الْعِدَّةِ، وَلِذَا لَوْ اسْتَلْحَقَ الْمَلَاعِنُ الْوَلَدَ الَّذِي نَفَاهُ حُدَّ وَلَحِقَ بِهِ، وَتَرْجِعُ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ بِالنَّفَقَةِ قَبْلَ الِاسْتِلْحَاقِ كَانَ مُوسِرًا فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا نَفَقَةَ لِحَمْلِ مُلَاعَنَةٍ وَأَمَةٍ وَلَا عَلَى عَبْدٍ إلَّا الرَّجْعِيَّةَ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمُعْتَدَّةُ فِي الْوَفَاةِ وَارِثَةً وَالْوَارِثُ لَا نَفَقَةَ لَهُ فِي التَّرِكَةِ إلَّا بَعْدَ قَسْمِهَا قَالَ: (وَلَا) تَجِبُ (نَفَقَةٌ لِكُلِّ مُعْتَدَّةٍ مِنْ وَفَاةٍ) وَلَوْ كَانَتْ حَامِلًا وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا لَا نَفَقَةَ لَهَا فَلَيْسَ لَهَا كِسْوَةٌ لِدُخُولِهَا فِي مَفْهُومِ النَّفَقَةِ وُجُودًا وَعَدَمًا (وَ) إنَّمَا تَجِبُ (لَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَتْ الدَّارُ) مَمْلُوكَةً (لِلْمَيِّتِ أَوْ) كَانَتْ مُسْتَأْجَرَةً وَالْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ نَقَدَ كِرَاءَهَا) وَهِيَ أَحَقُّ مِنْ الْوَرَثَةِ وَالْغُرَمَاءِ بِذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا إنْ دَخَلَ بِهَا وَالسَّكَنُ لَهُ أَوْ نَقَدَ كِرَاءَهُ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْمَسْكَنُ لَهُ وَلَا نَقَدَ كِرَاءَهُ فَقِيلَ: لَا سُكْنَى لَهَا مُطْلَقًا، وَقِيلَ: لَهَا السُّكْنَى إنْ كَانَ الْكِرَاءُ وَجِيبَةً، فَالْخِلَافُ فِي الْوَجِيبَةِ، وَالرَّاجِحُ الْقَوْلُ بِالْإِطْلَاقِ. وَأَمَّا غَيْرُ الْمَدْخُولِ بِهَا يَمُوتُ عَنْهَا زَوْجُهَا فَلَا سُكْنَى لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَسْكَنَهَا مَعَهُ وَضَمَّهَا إلَيْهِ فَلَهَا السُّكْنَى، وَإِنْ صَغِيرَةً لَا يُجَامَعُ مِثْلُهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ زَوْجُهَا إنَّمَا أَسْكَنَهَا؛ لِيَحْفَظَهَا عَمَّا يَكْرَهُ فَلَا سُكْنَى لَهَا حَيْثُ كَانَتْ غَيْرَ مُطِيقَةٍ لِلْوَطْءِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَدْخُولَ بِهَا لَهَا السُّكْنَى بِشَرْطِهِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَلَا سُكْنَى لَهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ سُكْنُهَا مَعَهُ فِي حَيَاتِهِ؛ لِأَجْلِ الزَّوْجِيَّةِ مُطْلَقًا، أَوْ أَسْكَنَهَا؛ لِيَحْفَظَهَا عَمَّا يَكْرَهُ حَيْثُ كَانَتْ مُطِيقَةً، وَإِلَّا فَلَا، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ خَلِيلٍ مَعَ التَّحْقِيقِ فَرَاجِعْهُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ لِلْمُعْتَدَّةِ السُّكْنَى زَمَنَ عِدَّتِهَا إمَّا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطٍ بَيَّنَ مَحِلَّهَا وَصِفَةَ إقَامَتِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَيْ يَحْرُمُ أَنْ (تَخْرُجَ) الْمُعْتَدَّةُ (مِنْ بَيْتِهَا) الَّذِي كَانَتْ فِيهِ قَبْلَ عِدَّتِهَا، بَلْ لَوْ نَقَلَهَا مِنْهُ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ وَاتُّهِمَ عَلَى النَّقْلِ لَوَجَبَ عَلَيْهَا الرُّجُوعُ، أَوْ كَانَتْ بِغَيْرِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ، وَإِنْ بِشَرْطٍ فِي إجَارَةِ رَضَاعٍ أَوْ خِدْمَةٍ، وَتُفْسَخُ الْإِجَارَةُ إنْ لَمْ يَرْضَ أَهْلُ الطِّفْلِ بِإِرْضَاعِهِ فِي مَحَلِّهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَكَنَتْ عَلَى مَا كَانَتْ تَسْكُنُ وَرَجَعَتْ لَهُ إنْ نَقَلهَا وَاتُّهِمَ أَوْ كَانَتْ بِغَيْرِهِ، وَإِنْ لِشَرْطٍ فِي إجَارَةِ رَضَاعٍ وَانْفَسَخَتْ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهَا أَنْ تَرْجِعَ إنْ خَرَجَتْ لِحَجِّ الصَّرُورَةِ وَبَلَغَهَا مَوْتُ الزَّوْجِ أَوْ طَلَاقُهَا إنْ كَانَتْ قَرِيبَةً عَلَى مَسِيرَةِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ وَوَجَدَتْ ثِقَةً تَرْجِعُ مَعَهُ حَيْثُ كَانَتْ تُدْرِكُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَفَاةٍ حَتَّى تُتِمَّ الْعِدَّةَ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا رَبُّ الدَّارِ وَلَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْكِرَاءِ مَا يُشْبِهُ فَلْتَخْرُجْ وَتُقِيمُ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إلَيْهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ. وَالْمَرْأَةُ تُرْضِعُ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا لَا يُرْضِعُ وَلِلْمُطَلَّقَةِ رَضَاعُ وَلَدِهَا عَلَى أَبِيهِ   [الفواكه الدواني] شَيْئًا مِنْ الْعِدَّةِ بَعْدَ رُجُوعِهَا، لَا إنْ كَانَتْ قَرِيبَةَ الْوَضْعِ بِحَيْثُ لَا تُدْرِكُ شَيْئًا إنْ رَجَعَتْ، وَأَمَّا فِي حَجِّ التَّطَوُّعِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْقُرَبِ كَالْخُرُوجِ لِرِبَاطٍ أَوْ زِيَارَةِ صَالِحٍ فَتَرْجِعُ، وَلَوْ وَصَلَتْ بَلْ وَلَوْ بَعْدَ إقَامَتِهَا نَحْوَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ. وَأَمَّا لَوْ خَرَجَتْ لِلِانْتِقَالِ فَبَلَغَهَا الْمَوْتُ أَوْ الطَّلَاقُ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ فَلَهَا الْخِيَارُ فِي الِاعْتِدَادِ بِأَيِّ مَحَلٍّ شَاءَتْ، وَمَعْنَى قَوْلِ الْمُصَنِّفِ لَا تَخْرُجُ أَيْ خُرُوجَ انْتِقَالٍ، وَأَمَّا الْخُرُوجُ لِقَضَاءِ حَوَائِجِهَا فَيَجُوزُ لَهَا لَكِنْ فِي الْأَوْقَاتِ الْمَأْمُونَةِ، وَذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْبِلَادِ وَالْأَزْمِنَةِ، فَفِي الْأَمْصَارِ فِي وَسَطِ النَّهَارِ وَفِي غَيْرِهَا فِي طَرَفَيْ النَّهَارِ، وَلَكِنْ لَا تَبِيتُ إلَّا فِي مَسْكَنِهَا، كَمَا إذَا كَانَتْ تَتَكَسَّبُ مِنْ شَيْءٍ خَارِجٍ عَنْ مَحَلِّهَا كَالْقَابِلَةِ وَالْمَاشِطَةِ، فَلَوْ خَرَجَتْ لِلِانْتِقَالِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهَا قَهْرًا عَلَيْهَا وَلَوْ بِالْأَدَبِ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْمَرْأَةِ (فِي) عِدَّةِ (طَلَاقٍ أَوْ وَفَاةٍ) فَيَجِبُ أَنْ تَمْكُثَ (حَتَّى تُتِمَّ الْعِدَّةَ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْمُطَلَّقَةِ وَ {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} [الطلاق: 1] «وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ لِلْفُرَيْعَةِ لَمَّا أَخْبَرَتْهُ بِوَفَاةِ زَوْجِهَا وَأَرَادَتْ أَنْ تَذْهَبَ إلَى مَحَلِّ أَهْلِهَا: اُمْكُثِي فِي بَيْتِك حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ» اللَّهُمَّ (إلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا رَبُّ الدَّارِ) السَّاكِنَةُ بِهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْعَارِيَّةِ الْمَحْدُودَةِ بِالشَّرْطِ أَوْ الْعَادَةِ أَوْ مُدَّةِ الْإِجَارَةِ. (وَ) الْحَالُ أَنَّ رَبَّ الدَّارِ (لَمْ يَقْبَلْ مِنْ الْكِرَاءِ مَا يُشْبِهُ) أَنْ يَكُونَ كِرَاءً لَهَا بَلْ طَلَبَ أَزْيَدَ مِنْ كِرَاءِ مِثْلِهَا (فَلْتَخْرُجْ) وَلَا يَلْزَمُهَا وَلَا زَوْجَهَا الْإِقَامَةُ بِدَفْعِ أَكْثَرَ مِنْ كِرَاءِ مِثْلِهَا، كَمَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ لِعُذْرٍ لَا يُمْكِنُهَا الْإِقَامَةُ مَعَهُ، كَخَوْفِ سُقُوطِ الْمَحَلِّ أَوْ اللُّصُوصِ أَوْ ضَرَرِ الْجِيرَانِ وَلَا حَاكِمَ بِالْبَلَدِ، وَإِلَّا رَفَعَتْ لَهُ، فَمَنْ تَبَيَّنَ ضَرَرَهُ زَجَرَهُ الْحَاكِمُ عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنْ أُشْكِلَ أَقْرَعَ بَيْنَهُمْ فِيمَنْ يَخْرُجُ، هَكَذَا قَالَ خَلِيلٌ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مُخَالِفًا لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ: يُخْرِجُ غَيْرَ الْمُعْتَدَّةِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إلَّا أَنْ يُخْرِجَهَا رَبُّ الدَّارِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ الْأَعْذَارِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، أَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ وَأَرَادَتْ الْغُرَمَاءُ بَيْعَ الدَّارِ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ إخْرَاجُهَا وَهُوَ كَذَلِكَ وَأَوْلَى الْوَرَثَةُ، وَإِنَّمَا يَبِيعُونَهَا إنْ أَرَادُوا ذَلِكَ مَعَ الْبَيَانِ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْغُرَمَاءِ بَيْعُ الدَّارِ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا، وَمِثْلُ الْغُرَمَاءِ الْوَرَثَةُ حَيْثُ يَكُونُ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ بِشَرْطِ اسْتِثْنَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ، وَإِلَّا ثَبَتَ لِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ، فَإِنْ ارْتَابَتْ فَهِيَ أَحَقُّ، وَلِلْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي الصَّبْرِ وَالْفَسْخِ. وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ بِالْحَمْلِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ بَيْعُهَا، بِخِلَافِ الْغُرَمَاءِ فَإِنَّهُمْ يَجُوزُ بَيْعُهَا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ كَالْوَارِثَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلدَّيْنِ، وَأَمَّا بِالْأَشْهُرِ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا حَتَّى لِلزَّوْجِ لَكِنْ بِشَرْطِ اسْتِثْنَاءِ مُدَّةِ الْعِدَّةِ. الثَّانِي: قَالَ الْأَقْفَهْسِيُّ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ لِرَبِّ الدَّارِ إخْرَاجَ الْمُعْتَدَّةِ لِطَلَبِ الزِّيَادَةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا لَهُ ذَلِكَ إذَا زَادَ غَيْرُهُ عَلَى الْأُجْرَةِ الْأُولَى النَّاقِصَةِ عَنْ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَطَالَبَهَا بِدَفْعِ الزِّيَادَةِ فَأَبَتْ، وَأَمَّا لَوْ رَضِيَتْ بِدَفْعِهَا فَلَا يَجُوزُ لَهُ إخْرَاجُهَا. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهَا بَعْدَ خُرُوجِهَا لِلِانْتِقَالِ عِنْدَ حُصُولِ سَبَبِهِ أَنْ (تُقِيمَ بِالْمَوْضِعِ الَّذِي تَنْتَقِلُ إلَيْهِ حَتَّى تَنْقَضِيَ الْعِدَّةُ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْأَوَّلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَتْ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ يُطَالَبُ بِأُجْرَةِ الْمَحَلِّ الثَّانِي، وَهُوَ الزَّوْجُ فِي عِدَّةِ الطَّلَاقِ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّكْنَى مُطْلَقًا، فَيَلْزَمُهُ إبْدَالُ الْمُنْهَدِمِ وَالْمُعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَأُبْدِلَتْ فِي الْمُنْهَدِمِ وَالْمُعَارِ وَالْمُسْتَأْجَرِ الْمُنْقَضِي الْمُدَّةِ، وَأَمَّا فِي عِدَّةِ الْوَفَاةِ فَإِنَّمَا تَجِبُ لَهَا السُّكْنَى إذَا كَانَ الْمَسْكَنُ مَمْلُوكًا لَهُ، أَوْ نَقَدَ كِرَاءَهُ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ، وَإِذَا انْهَدَمَ سَقَطَ حَقُّهَا مِنْ السُّكْنَى، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمَا وَلَوْ كَانَ لَهُ مَوْضِعٌ آخَرُ يَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهِ لِغَيْرِهِ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى امْرَأَةِ نَحْوِ الْقَاضِي وَالْأَمِيرِ مِنْ كُلِّ سَاكِنٍ بِمَحَلٍّ مَوْقُوفٍ عَلَى صَاحِبِ هَذَا الْوَصْفِ وَيَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ زَوْجَتَهُ وَيَنْتَصِبُ غَيْرُهُ مَكَانَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَامْرَأَةُ الْأَمِيرِ وَنَحْوِهِ لَا يُخْرِجُهَا الْقَادِمُ، وَإِنْ ارْتَابَتْ، بَلْ تَسْتَحِقُّ السُّكْنَى زَمَنَ الْعِدَّةِ، وَلَوْ تَوَلَّى غَيْرُ الْمَيِّتِ الْمُطَلِّقِ وَتَسْتَمِرُّ وَلَوْ لِأَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ، وَكَذَا امْرَأَةُ مَنْ حُبِسَتْ عَلَيْهِ دَارُ حَيَاتِهِ وَبَعْدُ تَصِيرُ حَبْسًا عَلَى غَيْرِهِ وَيَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ الْأَوَّلُ وَتَنْتَقِلُ لِغَيْرِهِ، فَلَا يَجُوزُ لِمَنْ انْتَقَلَ الْحَبْسُ لَهُ إخْرَاجُهَا، وَلَوْ لِأَقْصَى أَمَدِ الْحَمْلِ كَخَمْسِ سِنِينَ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَبَسَ دَارِهِ عَلَى ذُرِّيَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَلِزَوْجَتِهِ السُّكْنَى، وَلَا يَجُوزُ لِلذُّرِّيَّةِ مُعَارِضَتُهَا زَمَنَ الْعِدَّةِ. 1 - وَأَمَّا زَوْجَةُ نَحْوِ إمَامِ الْمَسْجِدِ أَوْ خَطِيبِهِ يَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُهَا فَفِي اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى خِلَافٌ. اقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهَا السُّكْنَى زَمَنَ عِدَّتِهَا حَيْثُ قَالَ: بِخِلَافِ حَبْسِ مَسْجِدٍ بِيَدِهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ زَوْجَةِ الْقَاضِي وَالْأَمِيرِ بِأَنَّ دَارَ الْإِمَارَةِ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَزَوْجَةُ نَحْوِ الْأَمِيرِ لَهَا حَقٌّ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَلَوْ بِالتَّبَعِ لِزَوْجِهَا، بِخِلَافِ خَادِمِ الْمَسْجِدِ، وَظَاهِرُهُ، وَلَوْ كَانَ بَيْتُ الْمَسْجِدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وَلَهَا أَنْ تَأْخُذَ أُجْرَةَ رَضَاعِهَا إنْ شَاءَتْ. وَالْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ بَعْدَ الطَّلَاقِ إلَى احْتِلَامِ الذَّكَرِ وَنِكَاحِ الْأُنْثَى وَدُخُولِهَا، وَذَلِكَ   [الفواكه الدواني] مَوْقُوفًا عَلَى خُصُوصِ مَنْ مَاتَ مِنْ نَحْوِ إمَامٍ، خِلَافًا لِابْنِ زَرْقُونٍ فِي تَقْيِيدِهِ بِالدَّارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى الْمَسْجِدِ، وَأَمَّا الْمَوْقُوفَةُ عَلَى خُصُوصِ الْإِمَامِ أَوْ الْمُؤَذِّنِ وَيَمُوتُ أَوْ يُطَلِّقُ فَيَكُونُ لَهَا السُّكْنَى كَزَوْجَةِ الْأَمِيرِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَارْتَضَاهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَخَالَفَهُ تِلْمِيذُهُ ابْنُ عَرَفَةَ، وَإِطْلَاقُ خَلِيلٍ أَيْضًا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الِاسْتِبْرَاءِ وَسُكْنَى الْمُعْتَدَّةِ أَوْ نَفَقَتِهَا، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَنْ يَلْزَمُهُ إرْضَاعُ الصَّغِيرِ مِنْ الزَّوْجَيْنِ، وَمَنْ يَسْتَحِقُّ حَضَانَتَهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى (الْمَرْأَةِ) أَنْ (تُرْضِعَ وَلَدَهَا) مِنْ غَيْرِ أُجْرَةٍ مَا دَامَتْ (فِي الْعِصْمَةِ) أَيْ أَبِيهِ وَلَوْ حُكْمًا؛ لِتَدْخُلَ الْمُطَلَّقَةُ طَلَاقًا رَجْعِيًّا؛ لِأَنَّهَا فِي حُكْمِ غَيْرِ الْمُطَلَّقَةِ فِي ذَلِكَ لِلُزُومِ نَفَقَتِهَا، وَغَايَةُ ذَلِكَ حَتَّى يَسْتَغْنِيَ عَنْ الرَّضَاعِ قَالَ - تَعَالَى -: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] هَذَا أَكْثَرُهُ، وَالصَّحِيحُ لَا حَدَّ لِأَقَلِّهِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِيمَنْ هُوَ حَقُّهُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْأُمِّ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرْأَةِ الَّتِي طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ وَلَدَهَا مِنْهَا: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مِنْهُ مَا لَمْ تَنْكِحِي» . وَبَعْضُهُمْ صَحَّحَ أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِمَا، وَلِذَا لَا يَجُوزُ فِطَامُ الْوَلَدِ إلَّا بِتَرَاضِيهِمَا عَلَى ذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ لُزُومُ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ مُقَيَّدًا بِغَيْرِ ذَاتِ الْقَدْرِ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ مِثْلُهَا لَا يُرْضِعُ) وَلَدَهُ لِعُلُوِّ قَدْرٍ أَوْ مَرَضٍ نَزَلَ بِهَا فَلَا يَلْزَمُهَا فَعَالِيَةُ الْقَدْرِ، مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ عُمُومِ " الْوَالِدَاتُ " فِي الْآيَةِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: اخْتَصَّ مَالِكٌ دُونَ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ بِاسْتِثْنَاءِ عَالِيَةِ الْقَدْرِ مِنْ عُمُومِ الْآيَةِ؛ لِأَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَصْلَحَةِ ؛ وَلِأَنَّ الْعُرْفَ عَدَمُ تَكْلِيفِهَا بِذَلِكَ، وَهُوَ كَالشَّرْطِ، فَإِنْ رَضِيَتْ بِالْإِرْضَاعِ فَلَهَا الْأَجْرُ عَلَى الْأَبِ، كَمَا قَالَ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ بَشِيرٍ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ سُقُوطِ الرَّضَاعِ عَنْ عَالِيَةِ الْقَدْرِ كَوْنُ الْأَبِ أَوْ الْوَلَدِ غَنِيًّا مَعَ وُجُودِ مَنْ يُرْضِعُهُ غَيْرُ أُمِّهِ وَقَبُولُهُ إيَّاهَا، وَإِلَّا لَزِمَهَا الْإِرْضَاعُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَعَلَى الْأُمِّ الْمُتَزَوِّجَةِ وَالرَّجْعِيَّةِ رَضَاعُ وَلَدِهَا بِلَا أَجْرٍ إلَّا لِعُلُوِّ قَدْرٍ كَالْبَائِنِ إلَّا أَنْ لَا يَقْبَلَ غَيْرَهَا، أَوْ يَعْدَمَ الْأَبُ أَوْ يَمُوتَ وَلَا مَالَ لِلصَّبِيِّ، وَإِذَا لَمْ يَقْبَلْ إلَّا أُمَّهُ لَزِمَهَا إرْضَاعُهُ وَلَهَا الْأَجْرُ مِنْ مَالِهِ حَيْثُ يَكُونَ لَهُ مَالٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَكُلُّ مَنْ يَلْزَمُهَا الْإِرْضَاعُ وَلَا لَبَنَ لَهَا يَلْزَمُهَا اسْتِئْجَارُ مَنْ يُرْضِعُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَأْجَرَتْ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا لَبَنٌ، وَفَاعِلُ اسْتَأْجَرَتْ مَنْ يَلْزَمُهَا الْإِرْضَاعُ مَجَّانًا؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ عَلَيْهَا بِحَسَبِ الْأَصْلِ مَجَّانًا وَجَبَ عَلَيْهَا خَلَفُهُ وَلَا رُجُوعَ لَهَا بِمَا تَدْفَعُهُ فِي الْأُجْرَةِ، وَيَجِبُ فِيمَنْ تَسْتَأْجِرُ أَنْ لَا يَكُونَ فِي لَبَنِهَا عَيْبٌ كَكَوْنِهَا حَمْقَاءَ أَوْ جَذْمَاءَ؛ لِأَنَّهُ يَضُرُّ بِالرَّضِيعِ. وَمَفْهُومٌ فِي الْعِصْمَةِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلِلْمُطَلَّقَةِ) الْبَائِنِ (رَضَاعُ وَلَدِهَا) بِالْأُجْرَةِ وَتَرْجِعُ بِهَا (عَلَى أَبِيهِ) الْمُوسِرِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ أَبِيهِ مَنْ يُرْضِعُهُ مَجَّانًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا إنْ قَبِلَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَلَوْ وَجَدَ مَنْ يُرْضِعُهُ عِنْدَهُ أَوْ عِنْدَ أُمِّهِ مَجَّانًا عَلَى الْأَرْجَحِ فِي التَّأْوِيلِ، وَالضَّمِيرُ فِي لَهَا لِلْأُمِّ الَّتِي لَا يَلْزَمُهَا الرَّضَاعُ مِنْ شَرِيفَةِ قَدْرٍ أَوْ بَائِنٍ إذَا قَبِلَ غَيْرَهَا أَنْ تُرْضِعَ بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ مِنْ مَالِ الْأَبِ أَوْ مَالِ الْوَالِدَانِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَبِ مَالٌ، وَالْقَوْلُ قَوْلُهَا فِي طَلَبِ الْأُجْرَةِ، وَلَوْ كَانَ عِنْدَ الْأَبِ مُتَبَرِّعَةً لِئَلَّا يَلْزَمَ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أُمِّهِ، وَهِيَ حَرَامٌ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الَّتِي مِثْلُهَا لَا تُرْضِعُ وَلَدَهَا لَا يَلْزَمُهَا الْإِرْضَاعُ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّهَا لَوْ أَرْضَعَتْهُ لَا يَجُوزُ لَهَا طَلَبُ الْأَجْرِ دَفَعَ ذَلِكَ الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَلَهَا) أَيْ الَّتِي لَا يَلْزَمُهَا الْإِرْضَاعُ لِعُلُوِّ قَدْرِهَا (أَنْ) تُرْضِعَ وَلَدَهَا وَ (تَأْخُذَ أُجْرَةَ رَضَاعِهَا) مِنْ أَبِيهِ (إنْ شَاءَتْ) وَلَوْ كَانَتْ فِي عِصْمَةِ أَبِيهِ، وَلَوْ لَمْ يَقْبَلْ غَيْرَهَا عَلَى الْمَذْهَبِ فَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَهَا إنْ قَبِلَ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَعَلَى حَمْلِ هَذَا عَلَى مَنْ فِي الْعِصْمَةِ انْدَفَعَ تَكْرَارُ هَذِهِ مَعَ مَا قَبْلَهَا. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْحَضَانَةِ، وَإِنْ كَانَ زَائِدًا عَلَى التَّرْجَمَةِ؛ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْمُتَرْجِمِ لَهُ مَمْدُوحَةٌ فَقَالَ: (وَالْحَضَانَةُ) بِفَتْحِ الْحَاءِ عَلَى الْأَشْهَرِ مِنْ كَسْرِهَا مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْحِضْنِ بِكَسْرِ الْحَاءِ مَا دُونَ الْإِبْطِ كِفَايَةُ الطِّفْلِ وَتَرْبِيَتُهُ وَالْإِشْفَاقُ عَلَيْهِ، وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ هِيَ مَحْصُولُ قَوْلِ الْبَاجِيِّ: حِفْظُ الْوَلَدِ فِي مَبِيتِهِ، وَمُؤْنَةِ طَعَامِهِ وَلِبَاسِهِ، وَمَضْجَعِهِ وَتَنْظِيفِ جِسْمِهِ حَقٌّ (لِلْأُمِّ بَعْدَ الطَّلَاقِ) مِنْ أَبِي الْمَحْضُونِ أَوْ مَوْتِهِ غَايَتِهَا. (إلَى احْتِلَامِ الذَّكَرِ) الْمُحَقَّقِ (وَ) إلَى (نِكَاحِ الْأُنْثَى وَدُخُولِهَا) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ الرَّضَاعِ حَيْثُ «طَلَّقَ شَخْصٌ زَوْجَتَهُ، وَأَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ ابْنَهَا فَأَتَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ لَهَا: أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي» قَالَ خَلِيلٌ: وَحَضَانَةُ الذَّكَرِ لِلْبُلُوغِ وَالْأُنْثَى كَالنَّفَقَةِ لِلْأُمِّ وَلَوْ لِأُمِّهِ عِتْقُ وَلَدِهَا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، وَقَيَّدْنَا الذَّكَرَ بِالْمُحَقَّقِ؛ لِأَنَّ الْخُنْثَى الْمُشْكِلَ تَسْتَمِرُّ حَضَانَتُهُ مَا دَامَ مُشْكِلًا، وَالْمُعْتَبَرُ الْبُلُوغُ هُنَا بِغَيْرِ الْإِنْبَاتِ بَلْ بِالسِّنِّ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعَلَامَاتِ، وَلَا يُعْتَبَرُ بُلُوغُ الذَّكَرِ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، خِلَافًا لِابْنِ شَعْبَانَ فَتَنْتَهِي حَضَانَةُ الذَّكَرِ بِبُلُوغِهِ وَلَوْ مَجْنُونًا أَوْ زَمِنًا، وَإِنْ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهُ عَنْ أَبِيهِ لِبُلُوغِهِ مَجْنُونًا أَوْ زَمِنًا، وَتَنْتَهِي حَضَانَةُ الْأُنْثَى بِدُخُولِ الزَّوْجِ وَلَوْ صَغِيرَيْنِ، وَإِنْ اسْتَمَرَّتْ نَفَقَتُهُمَا عَلَى أَبِيهِمَا؛ لِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ سُقُوطِ النَّفَقَةِ وَالْحَضَانَةِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الدُّخُولَ بِالصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 بَعْدَ الْأُمِّ إنْ مَاتَتْ أَوْ نُكِحَتْ لِلْجَدَّةِ ثُمَّ لِلْخَالَةِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَوِي رَحِمِ الْأُمِّ أَحَدٌ فَالْأَخَوَاتُ وَالْعَمَّاتُ. فَإِنْ لَمْ   [الفواكه الدواني] الْمُعْسِرِ مُسْقِطٌ لِلْحَضَانَةِ دُونَ النَّفَقَةِ، وَالزَّوَاجُ بِالْبَالِغِ الْمُوسِرِ مِنْ غَيْرِ دُخُولٍ مُسْقِطٌ لِلنَّفَقَةِ حَيْثُ دُعِيَ لِلدُّخُولِ مَعَ إطَاقَتِهَا الْوَطْءَ مَعَ بَقَاءِ الْحَضَانَةِ، فَالصُّوَرُ ثَلَاثٌ، وَبِبَيَانِهَا يُعْلَمُ مَا فِي عِبَارَةِ خَلِيلٍ مِنْ تَشْبِيهِ الْحَضَانَةِ بِالنَّفَقَةِ السَّاقِطَةِ بِدُخُولِ الزَّوْجِ الْبَالِغِ أَوْ الْمُوسِرِ، أَوْ الْمَدْعُوِّ إلَى الدُّخُولِ مَعَ بُلُوغِهِ، وَإِطَاقَتِهَا وَاسْتِمْرَارِ حَضَانَتِهَا، وَعِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ سَلِيمَةٌ مِنْ إيهَامِ، خِلَافِ الْمُرَادِ لِتَصْرِيحِهَا بِسُقُوطِ الْحَضَانَةِ بِالدُّخُولِ، وَيُفْهَمُ مِنْهَا عَدَمُ سُقُوطِهَا بِالْعَقْدِ دُونَ الدُّخُولِ، وَإِنْ سَقَطَتْ النَّفَقَةُ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ أَمَةً عَتَقَ وَلَدُهَا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ، إلَى قَوْلِ مَالِكٍ: إذَا أُعْتِقَ وَلَدُ الْأَمَةِ وَزَوْجُهَا حُرٌّ فَطَلَّقَهَا فَهِيَ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ وَلَدِهَا إلَّا أَنْ تُبَاعَ فَتَظْعَنَ إلَى غَيْرِ بَلَدِ الْأَبِ فَالْأَبُ أَحَقُّ بِهِ، أَوْ يُرِيدُ الْأَبُ انْتِقَالًا عَنْ بَلَدِ الْأُمِّ فَلَهُ أَخْذُهُ، وَالْعِتْقُ نَصٌّ عَلَى الْمُتَوَهِّمِ وَأَوْلَى إنْ لَمْ يُعْتَقْ، وَكَذَا أُمُّ الْوَلَدِ أَحَقُّ بِحَضَانَةِ وَلَدِهَا مِنْ زَوْجِهَا بَعْدَ طَلَاقِهَا، وَكَذَا وَلَدُ الْأَمَةِ أَوْ أُمُّ الْوَلَدِ مِنْ سَيِّدِهِمَا فَلَهُمَا حَضَانَتُهُ إذَا عَتَقَا أَوْ مَاتَ سَيِّدُهُمَا، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي اسْتِحْقَاقِ الْأَمَةِ حَضَانَةَ ابْنِهَا مِنْ زَوْجِهَا أَنْ لَا يَتَسَرَّرَهَا لِسَيِّدٍ أَيْ يَتَّخِذُهَا لِلْوَطْءِ؛ لِأَنَّ تَسَرُّرَ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَةِ دُخُولِ الزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ بِالْحَضَانَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُصَرِّحْ الْمُصَنِّفُ بِحُكْمِ الْحَضَانَةِ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ حَقٌّ لِلْأُمِّ، وَمَنْ هُوَ بِمَنْزِلَتِهَا وَهُوَ الْوُجُوبُ الْعَيْنِيُّ، إنْ لَوْ يُوجَدْ إلَّا الْحَاضِنُ وَلَوْ أَجْنَبِيًّا مِنْ الْمَحْضُونِ وَالْكِفَائِيُّ عِنْدَ تَعَدُّدِهِ، وَلِذَا إذَا وَجَدَ جَمَاعَةٌ طِفْلًا مَنْبُوذًا وَجَبَ عَلَيْهِمْ الْتِقَاطُهُ وَحَضْنُهُ، فَإِذَا قَامَ بِهِ الْبَعْضُ سَقَطَ عَنْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَالْحَضَانَةُ لِلْأُمِّ ظَاهِرَةٌ وَلَوْ مَجُوسِيَّةً أَوْ أَسْلَمَ زَوْجُهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا حَصْرُ الْحَضَانَةِ فِي الْأُمِّ لِمَا تَقَرَّرَ فِي النَّحْوِ مِنْ أَنَّ الْمُبْتَدَأَ الْمُعَرَّفَ فَاللَّامُ الْجِنْسِ مَحْصُورٌ فِي الْخَبَرِ نَحْوُ: الْكَرَمُ فِي الْعَرَبِ، وَالْمَجْدُ فِي قُرَيْشٍ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ فِقْهًا؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا يَحْضُنُ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ حَصْرٌ إضَافِيٌّ، وَهُوَ مَا يَكُونُ بِالنَّظَرِ إلَى بَعْضِ الْأَفْرَادِ؛ لِأَنَّ الْمَعْنَى: الْحَضَانَةُ بَعْدَ طَلَاقِ الْأُمِّ لَهَا لَا لِلْأَبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ غَيْرَهَا لَهُ الْحَضَانَةُ إذَا سَقَطَتْ حَضَانَةُ مَنْ قَبْلَهُ فِي الْمَرْتَبَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) أَيْ اسْتِحْقَاقُ حَضَانَةِ الْوَلَدِ (بَعْدَ الْأُمِّ إنْ مَاتَتْ أَوْ نَكَحَتْ) أَيْ تَزَوَّجَتْ بِأَجْنَبِيٍّ وَدَخَلَ بِهَا يَنْتَقِلُ (لِلْجَدَّةِ) أُمِّ أُمِّ الْمَحْضُونِ، وَإِنْ عَلَتْ لِقُرْبِ شَفَقَتِهَا عَلَى وَلَدِ ابْنَتِهَا. وَمِثْلُهَا فِي الِاسْتِحْقَاقِ أُمُّ أَبِ الْأُمِّ، فَالْمُرَادُ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ الشَّامِلَةِ لِجِهَةِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَإِنْ قُدِّمَتْ الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ الْإِنَاثِ. (ثُمَّ) إنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْضُونِ جَدَّةٌ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ أَوْ كَانَتْ وَلَكِنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهَا تَنْتَقِلُ الْحَضَانَةُ (لِلْخَالَةِ) أَيْ خَالَةِ الْمَحْضُونِ، وَهِيَ أُخْتُ أُمِّهِ مُطْلَقًا (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ) أَيْ يُوجَدُ (مِنْ ذَوِي رَحِمٍ) أَيْ قَرَابَاتِ (الْأُمِّ أَحَدٌ فَالْأَخَوَاتُ) يَحْضُنَّ الطِّفْلَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بَلْ صَرِيحُهُ أَنَّ مَرْتَبَةَ الْأَخَوَاتِ بَعْدَ خَالَةِ الْمَحْضُونِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ أَسْقَطَ بَعْدَ الْخَالَةِ خَالَةَ الْخَالَةِ، وَعَمَّةَ أُمِّهِ، وَعَمَّةَ خَالَتِهِ، وَهُمَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، وَبَعْدَهُمَا الْجَدَّةُ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ كَأُمِّ أَبِيهِ وَأُمِّ أَبِ أَبِيهِ، وَبَعْدَ الْجَدَّةِ مِنْ جِهَةِ أَبِ الْأَبِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى أَخَوَاتِ الْمَحْضُونِ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ: ثُمَّ الْخَالَةُ ثُمَّ خَالَتُهَا ثُمَّ جَدَّةُ الْأَبِ ثُمَّ الْأَبُ، وَإِنْ كَانَ خَلِيلٌ أَسْقَطَ أَيْضًا عَمَّةَ الْأُمِّ وَعَمَّةَ الْخَالَةِ، وَبِالْجُمْلَةِ جَعْلُ الْمُصَنِّفِ الْأَخَوَاتِ بَعْدَ الْخَالَاتِ لَيْسَ بِظَاهِرٍ، إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِمَّنْ يُقَدَّمُ عَلَيْهِنَّ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ إمَامٌ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ مِثْلُ هَذَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: يَجِبُ تَقْيِيدُ الرَّحِمِ بِالْمَحْرَمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِ الْمَحْرَمِ كَبِنْتِ عَمَّةِ الْمَحْضُونِ أَوْ بِنْتِ خَالَتِهِ وَنَحْوِهِمَا فَلَا حَقَّ لَهُنَّ فِي الْحَضَانَةِ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: اعْلَمْ أَنَّ الْحَضَانَةَ مِنْ النِّسَاءِ مَنْ اشْتَمَلَتْ عَلَى وَصْفَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ رَحِمٍ، وَالثَّانِي أَنْ تَكُونَ مُحَرَّمَةً عَلَى الْمَحْضُونِ، فَإِنْ كَانَتْ ذَاتَ رَحِمٍ وَلَمْ تَكُنْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ كَبِنْتِ الْخَالَةِ وَبِنْتِ الْعَمَّةِ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا حَقٌّ فِي الْحَضَانَةِ، وَكَذَا لَوْ كَانَتْ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ وَلَمْ تَكُنْ ذَاتَ رَحِمٍ لَهُ كَالْمُحَرَّمَةِ عَلَيْهِ بِالصِّهَارَةِ أَوْ الرَّضَاعِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ وَهُوَ انْفِرَادُ الْحَاضِنِ فِي السُّكْنَى عَمَّنْ سَقَطَتْ حَضَانَتُهُ. (وَ) يَلِي مَرْتَبَةَ أَخَوَاتِ الطِّفْلِ (الْعَمَّاتُ) الْمُرَادُ عَمَّتُهُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، سَوَاءٌ كَانَتْ أُخْتَ الْأَبِ أَوْ أُخْتَ أَبِ الْأَبِ، وَبَعْدَ الْعَمَّةِ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ الْخَالَةُ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ، وَهِيَ بَعْدَ عَمَّةِ الْأَبِ، وَسَوَاءٌ أُخْتُ أُمِّ الْأَبِ أَوْ أُخْتُ أُمِّ أَبِيهِ، وَإِنْ عَلَتْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَحْضُونِ مِنْ جِهَةِ أَبِيهِ عَمَّةٌ وَلَا خَالَةٌ أَوْ كَانَتْ وَسَقَطَتْ حَضَانَتُهَا فَقِيلَ: تَلِيهَا بِنْتُ الْأَخِ شَقِيقَةً أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ، وَقِيلَ: بِنْتُ الْأُخْتِ شَقِيقَةً أَوْ لِأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ، وَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ، وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَ ابْنِ رُشْدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ هَلْ بِنْتُ الْأَخِ أَوْ الْأُخْتِ أَوْ الْأَكْفَاءِ مِنْهُنَّ أَيْ أَوْ هُمَا فِي الْمَرْتَبَةِ سَوَاءٌ، وَيَنْظُرُ الْإِمَامُ فِي شَأْنِهِمَا فَيَقْضِي لِأَحْرَزِهِمَا، وَمَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ مِنْهُمَا بِالْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْضُونِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ بَعْدَ الْإِنَاثِ السَّابِقَاتِ عَلَى الْأَبِ وَالْمُتَأَخِّرَات عَنْهُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 يَكُونُوا فَالْعَصَبَةُ. وَلَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ النَّفَقَةُ إلَّا عَلَى زَوْجَتِهِ كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً. وَعَلَى أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ. وَعَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ   [الفواكه الدواني] يَكُونُوا) أَيْ الْإِنَاثُ السَّابِقَاتُ اللَّاتِي لَهُنَّ الْحَضَانَةُ بَعْدَ أُمِّ الْمَحْضُونِ، وَلِذَا قَالَ بَعْدُ: الصَّوَابُ يَكُنْ بَنُونَ الْإِنَاثِ؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لِلْأَخَوَاتِ وَالْعَمَّاتِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ رَاعَى الْأَشْخَاصَ فَذَكَّرَ الضَّمِيرَ، وَالْمَعْنَى: فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ أَحَدٌ مِنْ النِّسَاءِ؛ لِأَنَّهُنَّ يُقَدَّمْنَ فِي الْحَضَانَةِ لِرِفْقِهِنَّ (فَالْعَصَبَةُ) غَيْرُ الْأَبِ هُمْ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ الْحَضَانَةَ، وَالْمُرَادُ مُطْلَقُ الْعَصَبَةِ الشَّامِلُ لِعَصَبَةِ الْوَلَاءِ، وَإِنْ قُدِّمَتْ عَصَبَةُ النَّسَبِ عَلَى عَصَبَةِ الْوَلَاءِ، وَمَحَلُّ اسْتِحْقَاقِ الْعَصَبَةِ بَعْدَ الْإِنَاثِ السَّابِقَاتِ حَيْثُ لَا وَصِيَّ، وَإِلَّا قُدِّمَ عَلَى الْعَصَبَةِ فِي الْإِنَاثِ الصِّغَارِ، وَفِي الذُّكُورِ مُطْلَقًا، وَلَهُ حَضَانَةُ الْإِنَاثِ الْكِبَارِ ذَوَاتِ الْمَحَارِمِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذَوَاتُ مَحَارِمَ فَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي حَضَانَتِهِ لَهُنَّ، وَاسْتَظْهَرَ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ الْخِلَافَ فِي حَالٍ، فَإِنْ ظَهَرَتْ أَمَارَاتُ الشَّفَقَةِ فَهُوَ أَحَقُّ، وَإِلَّا فَلَا، وَمِثْلُ الْوَصِيِّ وَصِيُّ الْوَصِيِّ، وَمُقَدَّمُ الْقَاضِي، وَيُقَدَّمُ بَعْدَ الْوَصِيِّ أَخُ الْمَحْضُونِ، وَيُقَدَّمُ الشَّقِيقُ عَلَى غَيْرِهِ؟ قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ ابْنُهُ ثُمَّ الْعَمُّ ثُمَّ ابْنُهُ لَا جَدٌّ لِأُمٍّ وَاخْتَارَ خِلَافَهُ، وَالْمُرَادُ ثُمَّ بَعْدَ الْوَصِيِّ الْأَخُ، وَكَانَ يَنْبَغِي لِخَلِيلٍ أَنْ يَقُولَ: ثُمَّ الْأَخُ ثُمَّ الْجَدُّ ثُمَّ ابْنُ الْأَخِ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ أَبُ الْأَبِ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْأَخِ وَابْنِهِ عَلَى الصَّوَابِ، وَأَمَّا الْجَدُّ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَعَلَى أَنَّهُ لَهُ الْحَضَانَةُ عَلَى اخْتِيَارِ اللَّخْمِيِّ. وَاسْتَظْهَرَ فِي الشَّامِلِ أَنَّ مَرْتَبَتَهُ تَلِي مَرْتَبَةَ الْجَدِّ أَبِ الْأَبِ، ثُمَّ الْمَوْلَى الْأَعْلَى وَهُوَ الْمُعْتِقُ بِكَسْرِ التَّاءِ وَعَصَبَتُهُ مِنْ مَوَالِي النَّسَبِ، ثُمَّ الْمَوْلَى الْأَسْفَلُ وَهُوَ الْمُعْتَقُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَصُورَتُهُ إنْسَانٌ انْتَقَلَتْ إلَيْهِ الْحَضَانَةُ وَهُوَ مَوْلًى أَعْلَى فَوُجِدَ قَدْ مَاتَ وَلَهُ عَتِيقٌ فَإِنَّ الْحَضَانَةَ تَنْتَقِلُ لِعَتِيقِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ الشَّقِيقَ يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ يَدْخُلُ فِيهِمْ الشِّقَاقَةُ، ثُمَّ الَّذِي لِلْأُمِّ عَلَى ذِي الْأَبِ لَا فِي نَحْوِ الْوَصِيِّ وَلَا الْمَوْلَى. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الْعَصَبَةَ بِقَوْلِنَا غَيْرِ الْأَبِ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ مَرْتَبَةَ أَبِ الْمَحْضُونِ قَبْلَ أَخَوَاتِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا فِي خَلِيلٍ، خِلَافًا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُوهِمِ أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي الْعَصَبَةِ الْمُؤَخَّرِينَ فِي الْمَرْتَبَةِ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ أَنَّ الْوَصِيَّ لَا حَضَانَةَ لَهُ، إذْ جَعَلَ مَرْتَبَةَ الْعَصَبَةِ وَالِيَةً لِمَرْتَبَةِ الْإِنَاثِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْوَصِيَّ مُقَدَّمٌ عَلَى سَائِرِ الْعَصَبَةِ وَيَلِيهِ الْإِخْوَةُ كَمَا ذَكَرْنَا تَبَعًا لِخَلِيلٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الثَّانِي: إذَا اجْتَمَعَ شَخْصَانِ مُسْتَوِيَانِ فِي الْمَرْتَبَةِ قُدِّمَ مَنْ لَهُ صِيَانَةٌ وَشَفَقَةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَإِذَا انْفَرَدَ كُلُّ وَاحِدٍ بِوَصْفٍ قُدِّمَ صَاحِبُ الشَّفَقَةِ عَلَى ذِي الصِّيَانَةِ، فَإِنْ اسْتَوَيَا فِي جَمِيعِ الْأَوْصَافِ قُدِّمَ بِالسَّوَاءِ، فَإِذَا اسْتَوَيَا فِي الْجَمِيعِ فَالظَّاهِرُ الْقُرْعَةُ. 1 - الثَّالِثُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى شُرُوطِ الْحَاضِنِ، وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَشَرْطُ الْحَاضِنِ الْعَقْلُ وَالْكَفَاءَةُ بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِأَمْرِ الْمَحْضُونِ، فَالزَّمِنُ وَالْمُسِنُّ وَالْأَعْمَى وَالْأَخْرَسُ وَالْأَصَمُّ لَا حَضَانَةَ لَهُمْ، وَالسَّلَامَةُ مِنْ نَحْوِ الْجُذَامِ وَالْبَرَصِ وَالْحَكَّةِ وَالْجَرَبِ، لِمَا أَجْرَى اللَّهُ الْعَادَةَ مِنْ حُصُولِ مِثْلِ ذَلِكَ الْمَرَضِ الْمُتَّصِلِ بِصَاحِبِهِ، وَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ نَوْعٌ مِنْ الرُّشْدِ وَالضَّبْطِ بِحَيْثُ يَحْفَظُ مَا عِنْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَالِغًا؛ لِأَنَّ الصَّغِيرَ قَدْ يَكُونُ عِنْدَهُ الْحِفْظُ، وَيَكْتَفِي بِحَضْنِ حَاضِنِهِ بِحَيْثُ يَكُونُ عِنْدَهُ حَاضِنٌ، وَعَدَمُ الْقَسْوَةِ فَمَنْ عُلِمَ مِنْهُ قِلَّةُ الْحَنَانِ وَالْعِطْفِ إمَّا لِطَبْعِهِ أَوْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنِ أَبَوَيْ الْمَحْضُونِ قُدِّمَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وَكَوْنُ الْمَكَانِ الَّذِي يَسْكُنُ فِيهِ الْحَاضِنُ حِرْزًا بِأَنْ لَا يُخْشَى عَلَى الْبِنْتِ الْفَسَادُ فِيهِ، وَكَذَا الذَّكَرُ إنْ كَانَ يُخْشَى عَلَيْهِ الْفَسَادُ أَيْضًا. وَهَذَا يَتَضَمَّنُ اشْتِرَاطَ أَمَانَةِ الْحَاضِنِ عَلَى الْمَحْضُونِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ الْحَاضِنِ الذَّكَرِ أُنْثَى تَحْضُنُ كَامْرَأَةٍ خَالِيَةٍ مِنْ الْأَزْوَاجِ يَسْتَأْجِرُهَا، أَوْ أَمَةٍ لَمْ يَتَّخِذْهَا لِلْوَطْءِ، وَكَوْنُ الْأُنْثَى الْحَاضِنَةِ خَالِيَةً عَنْ دُخُولِ الزَّوْجِ الْأَجْنَبِيِّ بِهَا، وَإِلَّا انْتَقَلَتْ الْحَضَانَةُ لِمَنْ بَعْدَهَا، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ بِالدُّخُولِ وَيَسْكُتَ الْعَامَ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّتْ حَضَانَتُهَا، كَمَا لَوْ كَانَ الزَّوْجُ مُحَرَّمًا لِلْمَحْضُونِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَضَانَةٌ كَخَالَةٍ وَتَزَوَّجَ بِالْحَضَانَةِ غَيْرِ الْأُمِّ أَوْ كَانَ وَالِيًا لِلْمَحْضُونِ كَابْنِ عَمِّهِ، أَوْ كَانَ لَا يَقْبَلُ غَيْرَ الْحَاضِنَةِ، أَوْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُرْضِعُهُ عِنْدَ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْحَضَانَةَ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّتْ الْحَضَانَةُ لِذَاتِ الزَّوْجِ، وَهَذِهِ الشُّرُوطُ مُعْتَبَرَةٌ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُبَاشَرَةِ، فَمَنْ اتَّصَفَ بِضِدِّهَا سَقَطَ حَقُّهُ جُمْلَةً إلَّا الْقُدْرَةَ فَإِنَّهَا شَرْطٌ فِي الْمُبَاشَرَةِ، فَالْحَاضِنُ الْمُسِنُّ لَوْ طَلَبَ أَنْ يَسْتَنِيبَ مَنْ يَحْضُنُ لَمْ يَسْقُطْ حَقُّهُ، بِخِلَافِ نَحْوِ الْأَجْذَمِ أَوْ صَاحِبِ الْقَسْوَةِ فَلَا حَقَّ لَهُ. الرَّابِعُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ يَقْبِضُ نَفَقَةَ الْمَحْضُونِ، وَاَلَّذِي يَقْبِضُهَا الْحَاضِنُ قَهْرًا عَلَى أَبِيهِ؛ لِأَنَّ الْأَطْفَالَ لَمْ يَنْضَبِطْ لَهُمْ حَالٌ، وَلَكِنْ قَبْضُهَا مَوْكُولٌ إلَى اجْتِهَادِ الْحَاكِمِ، لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ بِالسَّعَةِ وَعَدَمِهَا، فَتَكُونُ بِالْجُمُعَةِ أَوْ الشَّهْرِ، وَإِذَا ادَّعَى الْحَاضِنُ ضَيَاعَهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ إلَّا لِبَيِّنَةٍ عَلَى الضَّيَاعِ مِنْ غَيْرِ تَفْرِيطٍ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالسُّكْنَى تَابِعَةٌ لِلنَّفَقَةِ، وَأُجْرَةُ مَحَلِّ الْحَاضِنِ عَلَى أَبِ الْمَحْضُونِ، وَلَا يَلْزَمُ الْحَاضِنَةَ شَيْءٌ خِلَافًا لِظَاهِرِ خَلِيلٍ، وَلَا تَسْتَحِقُّ الْحَاضِنَةُ شَيْئًا لِأَجْلِ حَضَانَتِهَا لَا نَفَقَةَ وَلَا أُجْرَةَ حَضَانَةٍ، إلَّا أَنْ تَكُونَ الْحَاضِنَةُ أُمَّ الْمَحْضُونِ وَهِيَ فَقِيرَةٌ وَالْمَحْضُونُ مُوسِرٌ، وَإِلَّا وَجَبَ لَهَا أُجْرَةُ الْحَضَانَةِ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ النَّفَقَةَ فِي مَالِهِ مِنْ حَيْثُ فَقْرِهَا، وَلَوْ لَمْ تَحْضُنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [النَّفَقَةُ وَأَسْبَابُهَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَضَانَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ثَالِثِ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَرْجَمَ لَهَا وَهُوَ بَابُ النَّفَقَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَا بِهِ قِوَامُ مُعْتَادِ حَالِ الْآدَمِيِّ دُونَ سَرَفٍ وَأَسْبَابُهَا ثَلَاثَةٌ: الزَّوْجِيَّةُ وَالْمِلْكُ وَالْقَرَابَةُ، فَقَالَ: (وَلَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ) الْمُوسِرَ (النَّفَقَةُ) عَلَى أَحَدٍ مِنْ الْأَحْرَارِ غَيْرِ الْأَقَارِبِ بِغَيْرِ اضْطِرَارٍ أَوْ الْتِزَامٍ (إلَّا عَلَى زَوْجَتِهِ) الَّتِي دَخَلَ بِهَا وَلَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَرِيضَةً وَلَوْ مُشْرِفَةً، أَوْ الَّتِي دَعَتْهُ لِلدُّخُولِ بِهَا، وَهِيَ مُطِيقَةٌ لِوَطْئِهِ مَعَ بُلُوغِهِ وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُشْرِفًا، فَتَجِبُ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ عَلَيْهَا سَوَاءٌ (كَانَتْ غَنِيَّةً أَوْ فَقِيرَةً) قَالَ خَلِيلٌ: يَجِبُ لِلْمُمَكِّنَةِ مُطِيقَةِ الْوَطْءِ عَلَى الْبَالِغِ، وَلَيْسَ أَحَدُهُمَا مُشْرِفًا قُوتٌ وَإِدَامٌ وَكِسْوَةٌ، وَمَسْكَنٌ بِالْعَادَةِ بِقَدْرِ وُسْعِهِ وَحَالِهَا وَالْبَلَدِ وَالسِّعْرِ، وَإِنْ أَكُولَةً، وَتُزَادُ الْمُرْضِعُ مَا تَتَقَوَّى بِهِ، إلَّا الْمَرِيضَةَ وَقَلِيلَةَ الْأَكْلِ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا مَا تَأْكُلُ إلَّا الْمُقَرَّرُ لَهَا شَيْءٌ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ يَرَاهُ، فَيَلْزَمُ الْمُقَرَّرَ، وَلَا يَلْزَمُ الزَّوْجَ الْحَرِيرُ، قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ فِي حَقِّ الْمَدَنِيَّةِ لِقَنَاعَتِهَا، فَيُفْرَضُ لَهَا الْمَاءُ وَالزَّيْتُ وَالْحَطَبُ وَالْمِلْحُ وَاللَّحْمُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ لِلْقَادِرِ، وَيَلْزَمُهُ الْحَصِيرُ وَالسَّرِيرُ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، وَيَلْزَمُهُ أُجْرَةُ الْقَابِلَةِ، وَيَلْزَمُهُ لَهَا الزِّينَةُ الَّتِي تَتَضَرَّرُ بِتَرْكِهَا كَالْكُحْلِ وَالدُّهْنِ الْمُعْتَادَيْنِ، وَلَا يَلْزَمُهُ لَهَا مُكْحُلَةٌ وَلَا دَوَاءٌ إذَا مَرِضَتْ، وَلَا أُجْرَةُ حِجَامَةٍ وَلَا ثِيَابُ مَخْرَجٍ، وَيَلْزَمُهَا لَهُ الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وَكَنْسٍ وَفَرْضٍ وَاسْتِقَاءِ مَاءٍ إنْ كَانَتْ مِنْ نِسَاءِ الْبَوَادِي اللَّاتِي اعْتَدْنَ ذَلِكَ، لَا إنْ كَانَ زَوْجُهَا عَادَةُ زَوْجَتِهِ خِلَافَ ذَلِكَ، كَبَعْضِ الْأَكَابِرِ الَّذِينَ لَا يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ فَعَلَيْهِ ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ هِيَ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْدَارِ وَلَا يَلْزَمُهَا التَّكَسُّبُ لَهُ كَغَزْلٍ أَوْ حَرْثٍ أَوْ نَسْجٍ وَلَوْ كَانَ عُرْفُ بَلَدِهَا ذَلِكَ، وَقَالَ بَعْضٌ: إلَّا أَنْ يَعْتَادُوا ذَلِكَ، وَأَمَّا نَحْوُ الْخِيَاطَةِ وَغَسْلُ الثِّيَابِ فَيَجْرِي عَلَى الْعُرْفِ، قَالَهُ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَشْعَرَ قَوْلُهُ الرَّجُلُ أَنَّ الزَّوْجَ لَا يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَى زَوْجَتِهِ إلَّا إذَا كَانَ بَالِغًا وَهُوَ كَذَلِكَ، إذْ لَا يَلْزَمُ الصَّبِيَّ نَفَقَةُ زَوْجَتِهِ، وَإِنْ اتَّسَعَ فِي الْمَالِ وَافْتَضَّهَا؛ لِأَنَّهَا أَوْ وَلِيَّهَا هِيَ الْمُسَلَّطَةُ لَهُ عَلَيْهَا، وَكَذَا لَا يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ لِغَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا الَّتِي لَمْ تُطِقْ الْوَطْءَ أَوْ تُطِيقُهُ، لَكِنْ لَمْ تُمَكِّنْهُ مِنْ الدُّخُولِ أَوْ مَكَّنَتْهُ وَدَعَتْهُ لَكِنَّهُ صَبِيٌّ أَوْ بَالِغٌ إلَّا أَنَّهَا مُشْرِفَةٌ عَلَى الْمَوْتِ بِأَنْ أَخَذَتْ فِي النَّزْعِ، بِخِلَافِ الْمَدْخُولِ بِهَا فَلَا يُسْقِطُ نَفَقَتَهَا إلَّا مَوْتُهَا. الثَّانِي: قَيَّدْنَا الرَّجُلَ بِالْمُوسِرِ؛ لِأَنَّ الْمُعْسِرَ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةٌ، بَلْ تَسْقُطُ عَنْهُ كَمَا تَسْقُطُ بِأَكْلِهَا مَعَهُ، وَلَوْ مُقَرَّرَةً، وَلَوْ صَغِيرَةً أَوْ مَحْجُورَةً لِسَفَهِهَا؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي نَفَقَتِهِ، وَكَذَا تَسْقُطُ إذَا مَنَعَتْهُ الْوَطْءَ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الِاسْتِمْتَاعِ لِغَيْرِ عُذْرٍ، أَوْ خَرَجَتْ مِنْ مَحَلِّهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى رَدِّهَا بِوَجْهٍ، وَإِلَّا وَجَبَ لَهَا النَّفَقَةُ، كَمَا يَجِبُ لَهَا النَّفَقَةُ إذَا خَرَجَتْ لِضَرَرٍ بِهَا مِنْهُ عَجَزَ عَنْ رَدِّهَا، وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَرْأَةِ الْحَاضِرِ زَوْجُهَا وَهِيَ فِي عِصْمَتِهِ، لَا إنْ كَانَ غَائِبًا وَخَرَجَتْ مِنْ مَنْزِلِهِ مُدَّةَ سَفَرِهِ، أَوْ كَانَتْ مُطَلَّقَةً طَلَاقًا رَجْعِيًّا مُطْلَقًا أَوْ بَائِنًا، وَهِيَ حَامِلٌ، وَإِلَّا فَلَهَا النَّفَقَةُ، وَإِنْ خَرَجَتْ مِنْ مَحَلِّ طَاعَتِهِ، وَإِذَا وُجِدَ شَرْطُ الْإِنْفَاقِ وَجَبَتْ النَّفَقَةُ، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ عَبْدًا وَنَفَقَتُهُ مِنْ غَيْرِ خَرَاجِهِ وَكَسْبِهِ إلَّا لِعُرْفٍ بِأَنَّهَا عَلَى السَّيِّدِ. 1 - الثَّالِثُ: لَوْ عَجَزَ الزَّوْجُ عَنْ النَّفَقَةِ فَلَهَا التَّطْلِيقُ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا الْفَسْخُ إنْ عَجَزَ عَنْ نَفَقَةٍ حَاضِرَةٍ لَا مَاضِيَةٍ إلَّا أَنْ تَتَزَوَّجَهُ عَالِمَةً بِفَقْرِهِ وَرَاضِيَةً بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا إنْ عَلِمَتْ فَقْرَهُ أَوْ أَنَّهُ مِنْ السُّؤَالِ إلَّا أَنْ يَتْرُكَهُ أَوْ يَشْتَهِرَ بِالْعَطَاءِ وَيَنْقَطِعَ، وَإِلَّا فَلَهَا الْفَسْخُ، وَصِفَةُ الْفَسْخِ يُفْصَلُ فِيهَا بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ ثَابِتَ الْعُسْرِ وَالْمَرْأَةِ ثَابِتَةَ الزَّوْجِيَّةِ، وَلَوْ بِالشُّهْرَةِ أَوْ يَكُونَانِ طَارِئَيْنِ فَيَأْمُرُهُ الْحَاكِمُ بِالطَّلَاقِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ثَابِتِ الْعُسْرِ فَيَأْمُرُهُ بِالْإِنْفَاقِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَإِنْ أَنْفَقَ أَوْ طَلَّقَ فَلَا إشْكَالَ، وَإِلَّا طُلِّقَ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّلَوُّمِ عَلَيْهِ بِاجْتِهَادِهِ بِأَنْ يَأْمُرَهَا بِطَلَاقِهِ أَوْ يَقُولَ طَلَّقْتهَا مِنْك. وَبَعْدَ الْحُكْمِ بِالطَّلَاقِ تَعْتَدُّ بِالْأَقْرَاءِ أَوْ الْأَشْهُرِ، وَلَا يُمَكَّنُ مِنْ رَجْعَتِهَا إلَّا إنْ وَجَدَ فِي زَمَنِ الْعِدَّةِ يَسَارًا يَقُومُ بِوَاجِبِ مِثْلِهَا، بِحَيْثُ يَجِدُ شَيْئًا يَظُنُّ مَعَهُ إدَامَةُ النَّفَقَةِ، وَيَحْصُلُ الْأَمْنُ مِنْ الْعَجْزِ عَنْهَا مَعَهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَأَمَّا لَوْ تَجَمَّدَ لَهَا عَلَيْهِ نَفَقَةٌ فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ فَلَهَا الطَّلَبُ بِهَا حَيْثُ تَجَمَّدَتْ فِي زَمَنِ يُسْرِهِ، وَلَكِنْ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَنْهَا كَمَا لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِالْعَجْزِ عَنْ صَدَاقِهَا بَعْدَ الدُّخُولِ بِهَا، بِخِلَافِ عَجْزِهِ عَنْ الْحَالِ مِنْهُ قَبْلَ الدُّخُولِ بِهَا فَلَهَا التَّطْلِيقُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ التَّطْلِيقُ مِنْ الْحَاكِمِ أَوْ جَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ إذَا لَمْ يَكُنْ حَاكِمٌ أَوْ تَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ أَسْبَابَ النَّفَقَةِ ثَلَاثَةٌ وَقَدَّمَ الْآكَدَ مِنْهَا وَهُوَ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ، شَرَعَ فِي ثَانِي الْأَسْبَابِ، وَهُوَ الْقَرَابَةُ بِقَوْلِهِ: (وَ) لَا يَلْزَمُ الشَّخْصَ الْحُرَّ الْمُوسِرَ النَّفَقَةُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ قَرَابَاتِهِ (عَلَى أَبَوَيْهِ) دُنْيَةِ الْحُرَّيْنِ (الْفَقِيرَيْنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالْقَرَابَةِ عَلَى الْمُوسِرِ نَفَقَةٌ وَالْوَالِدَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الشَّخْصُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ الْمُطَالَبَ بِالنَّفَقَةِ إنْ كَانَ زَوْجًا اُشْتُرِطَ بُلُوغُهُ وَيَسَارُهُ، وَإِنْ كَانَ قَرِيبًا أَوْ مَالِكًا لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ بُلُوغٌ، وَقَيَّدْنَا بِالْحُرَّيْنِ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَيْنِ غَنِيَّانِ بِسَيِّدِهِمَا بِدِنْيَةٍ؛ لِأَنَّ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ لَا تَلْزَمُ نَفَقَتُهُمْ وَلَدَ الْوَلَدِ، لِلْأَبَوَيْنِ إثْبَاتُ فَقْرِهِمَا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ تَحْلِيفُهُمَا لِمَا فِيهِ مِنْ الْعُقُوقِ، وَإِنْ كَانَ الْعُسْرُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ وَيَمِينٍ، وَاخْتُلِفَ فِي حَمْلِ الْوَلَدِ عَلَى الْمَلَأِ أَوْ الْعَمِّ إذَا طَلَبَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ عَلَى الذُّكُورِ حَتَّى يَحْتَلِمُوا وَلَا زَمَانَةَ بِهِمْ وَعَلَى الْإِنَاثِ حَتَّى يُنْكَحْنَ وَيَدْخُلَ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ وَلَا نَفَقَةَ   [الفواكه الدواني] الْأَبَوَانِ، وَادَّعَى الْعَجْزَ عَلَى قَوْلَيْنِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ أَخٌ مَلِيءٌ، وَإِلَّا اتَّفَقَ عَلَى حَمْلِهِ عَلَى الْمَلَأِ حَتَّى يَثْبُتَ الْعَدَمُ، وَقَيَّدْنَا الْوَلَدَ بِالْحُرِّ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ لَا يَلْزَمُهُ الْإِنْفَاقُ عَلَى أَبَوَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، وَإِنْ كَانَا يَقْدِرَانِ عَلَى الْكَسْبِ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْبَاجِيِّ وَخَالَفَهُ اللَّخْمِيُّ، وَإِذَا كَانَ لِلْوَالِدَيْنِ نَحْوُ دَارٍ لِأَفْضَلَ فِي ثَمَنِهَا فَكَالْعَدِمِ، وَكَمَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ الْمُوسِرَ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ خَادِمِهِمَا وَظَاهِرُهُ، وَإِنْ كَانَا غَيْرَ مُحْتَاجَيْنِ إلَيْهِ، نَعَمْ يَظْهَرُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ اتِّخَاذُ خَادِمٍ لَهُمَا إنْ احْتَاجَا إلَيْهِ وَحَرِّرْهُ. وَكَذَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ نَفَقَةُ خَادِمِ زَوْجَةِ أَبِيهِ، وَكَذَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ إعْفَافُ أَبِيهِ بِزَوْجَةٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْقُوتِ، فَلَا يَلْزَمُهُ شِرَاءُ أَمَةٍ لَهُ وَلَا أَكْثَرُ مِنْ زَوْجَةٍ إلَّا إذَا لَمْ تُعِفَّهُ الْوَاحِدَةُ، وَإِذَا تَعَدَّدَتْ زَوْجَةُ الْأَبِ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا نَفَقَةٌ وَاحِدَةٌ وَيَخْتَارُهَا الْأَبُ، إلَّا أَنْ تَكُونَ إحْدَاهُنَّ أُمَّهُ فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا دُونَ غَيْرِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَتَعَدَّدُ إنْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا أُمَّهُ عَلَى ظَاهِرِهَا بَلْ يُنْفِقُ عَلَى أُمِّهِ فَقَطْ حَيْثُ كَانَتْ تُعِفُّهُ، وَإِلَّا تَعَدَّدَتْ عَلَى الْوَلَدِ. الْأُمُّ يُنْفِقُ عَلَيْهَا بِالْقَرَابَةِ وَالْأُخْرَى بِالزَّوْجِيَّةِ، فَلَوْ لَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى الْإِنْفَاقِ عَلَى وَاحِدَةٍ فَالزَّوْجِيَّةُ، وَالْقَوْلُ لِلْأَبِ فِيمَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهَا الْوَلَدُ حَيْثُ لَمْ تَكُنْ إحْدَاهُمَا أُمَّهُ وَطَلَبَ الْأَبُ النَّفَقَةَ عَلَى مَنْ نَفَقَتُهَا أَكْثَرُ، وَإِلَّا تَعَيَّنَتْ الْأُمُّ وَلَوْ كَانَتْ غَنِيَّةً؛ لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَا لِلزَّوْجَةِ لَا لِلْقَرَابَةِ. 1 - (فَرْعٌ) لَوْ تَزَوَّجَتْ الْأُمُّ الْفَقِيرَةُ بِفَقِيرٍ لَمْ تَسْقُطْ نَفَقَتُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُسْقِطُهَا تَزْوِيجُهَا بِفَقِيرٍ، وَمِثْلُهَا الْبِنْتُ لَوْ تَزَوَّجَتْ بِفَقِيرٍ تَسْتَمِرُّ نَفَقَتُهَا عَلَى أَبِيهَا، وَلَوْ قَدَرَ زَوْجُ الْأُمِّ أَوْ الْبِنْتِ عَلَى بَعْضِ النَّفَقَةِ لَزِمَ الْوَلَدَ وَالْأَبَ إكْمَالُهَا. (تَنْبِيهٌ) إذَا كَانَ الْوَلَدُ مُتَعَدِّدًا وَوَجَبَ عَلَيْهِ نَفَقَةُ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّهَا تُوَزَّعُ عَلَى الْأَوْلَادِ حَسَبَ الْيَسَارِ عَلَى أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ. (وَ) كَمَا يَلْزَمُ الْوَلَدَ الْمُوسِرَ إجْرَاءُ النَّفَقَةِ عَلَى أَبَوَيْهِ الْفَقِيرَيْنِ يَلْزَمُ الْوَلَدَ الْمُوسِرَ إجْرَاؤُهَا (عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ الَّذِينَ لَا مَالَ لَهُمْ) الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَيَسْتَمِرُّ وُجُوبُ الْإِنْفَاقِ (عَلَى الذُّكُورِ حَتَّى يَحْتَلِمُوا وَ) الْحَالُ أَنَّهُمْ (لَا زَمَانَةَ) أَيْ لَا عَجْزَ قَائِمٌ (بِهِمْ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنَفَقَةُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ وَتَجِبُ نَفَقَةُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ الْحُرِّ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا سَعَةَ تَقُومُ بِهِ عَلَى الْأَبِ الْحُرِّ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ وَيَجِدُ مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ صَنْعَةٌ لَا مَعَرَّةَ فِيهَا تَقُومُ بِهِ لَسَقَطَتْ نَفَقَتُهُ عَنْ أَبِيهِ، وَإِلَّا أَنْ يَنْفَدَ بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ يَفْرُغَ مَالُهُ قَبْلَ بُلُوغِهِ يَدْفَعُهُ الْأَبُ قِرَاضًا وَيُسَافِرُ الْعَامِلُ وَلَا يُوجَدُ مُسَلِّفٌ فَتَعُودُ عَلَى الْأَبِ. وَأَمَّا الْوَلَدُ الرَّقِيقُ فَنَفَقَتُهُ عَلَى سَيِّدِهِ لَا عَلَى أَبِيهِ وَلَوْ حُرًّا، وَلَا عَلَى الْأَبِ الرَّقِيقِ نَفَقَةٌ وَلَهُ وَلَوْ حُرًّا، وَنَفَقَةُ وَلَدِهِ الْحُرِّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَيْثُ كَانَ مُتَخَلِّفًا عَلَى الْحُرِّيَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ حُرِّيَّتُهُ بِالْعِتْقِ فَنَفَقَتُهُ عَلَى مُعْتِقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَأَمَّا مَنْ بَلَغَ زَمِنًا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ أَعْمَى، أَوْ لَمْ يَجِدْ مَا يَكْتَسِبُ فِيهِ عِنْدَ بُلُوغِهِ أَوْ يَلْحَقُهُ بِهِ الْمَعَرَّةُ لَمْ يَسْقُطْ نَفَقَتُهُ عَنْ أَبِيهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ بَلَغَ صَحِيحًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ بِحَيْثُ سَقَطَتْ نَفَقَتُهُ ثُمَّ طَرَأَتْ زَمَانَتُهُ أَوْ جُنُونُهُ لَمْ تَعُدْ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ عَلَى الْمَشْهُورِ. (تَنْبِيهٌ) . عُلِمَ مِنْ مَفْهُومِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الصَّغِيرَ الَّذِي لَهُ مَالٌ لَا تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَى أَبِيهِ، وَإِنَّمَا يُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِهِ، كَمَا عُلِمَ أَنَّ مِثْلَ الصَّغِيرِ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ مَنْ بَلَغَ زَمِنًا أَوْ مَجْنُونًا وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ، وَلَا مَالَ لَهُ أَنَّهُ فِي حُكْمِ الصَّغِيرِ فِي وُجُوبِ نَفَقَتِهِ عَلَى أَبِيهِ. (وَ) يَجِبُ عَلَى الْأَبِ الْإِنْفَاقُ (عَلَى الْإِنَاثِ) الْفَقِيرَاتِ وَلَوْ كَبِرْنَ وَجَاوَزْنَ حَدَّ التَّعْنِيسِ (حَتَّى يُنْكَحْنَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ يُعْقَدُ عَلَيْهِنَّ (وَيَدْخُلُ بِهِنَّ أَزْوَاجُهُنَّ) الْبَالِغُونَ الْمُوسِرُونَ، وَمِثْلُ الدُّخُولِ الدَّعْوَى لِلدُّخُولِ حَيْثُ كَانَ بَالِغًا وَهِيَ مُطِيقَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَفَقَةُ الْأُنْثَى حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا، وَأَمَّا لَوْ دَخَلَ بِهَا الزَّوْجُ الصَّبِيُّ أَوْ الْفَقِيرُ فَإِنَّ نَفَقَتَهَا لَا تَسْقُطُ عَنْ أَبِيهَا لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ نَفَقَةَ الْأُمِّ الْفَقِيرَةِ، وَمِثْلُهَا الْبِنْتُ لَا تَسْقُطُ بِالزَّوَاجِ لِلْفَقِيرِ، فَلَوْ طَلَّقَهَا زَوْجُهَا قَبْلَ بُلُوغِهَا، وَلَوْ بَعْدَ زَوَالِ بَكَارَتِهَا فَإِنَّ نَفَقَتَهَا تَعُودُ عَلَى أَبِيهَا، بِخِلَافِ لَوْ طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا بَعْدَ بُلُوغِهَا ثِيبَةً صَحِيحَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتَمَرَّتْ إنْ دَخَلَ زَمِنَةً ثُمَّ طَلَّقَ لَا إنْ عَادَتْ بَالِغَةً أَوْ عَادَتْ الزَّمَانَةُ، وَالْمَعْنَى: إنْ عَادَتْ إلَى الْأَبِ بِطَلَاقٍ أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ ثَيِّبٌ بَالِغَةٌ صَحِيحَةٌ قَادِرَةٌ عَلَى الْكَسْبِ مِنْ غَيْرِ سُؤَالٍ، أَوْ عَادَتْ الزَّمَانَةُ عِنْدَ الزَّوْجِ بَعْدَ بُلُوغِهَا صَحِيحَةً فَلَا تَعُودُ نَفَقَتُهَا عَلَى الْأَبِ؛ لِأَنَّ الضَّابِطَ فِي ذَلِكَ إنْ ثِيبَتْ عِنْدَ الزَّوْجِ مَعَ بُلُوغِهَا وَصِحَّتِهَا سَقَطَتْ نَفَقَتُهَا عَنْ أَبِيهَا، وَلَوْ طَرَأَتْ عَلَيْهَا الزَّمَانَةُ بَعْدَ ذَلِكَ وَطَلُقَتْ، بِخِلَافِ لَوْ دَخَلَ بِهَا زَوْجُهَا زَمِنَةً وَاسْتَمَرَّتْ حَتَّى طَلَّقَهَا أَوْ مَاتَ عَنْهَا فَإِنَّهَا تَعُودُ عَلَى الْأَبِ كَعَوْدِهَا بِطَلَاقِهَا أَوْ مَوْتِ زَوْجِهَا وَهِيَ بِكْرٌ أَوْ صَغِيرَةٌ وَلَوْ ثَيِّبًا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَنْ الْكَلَامِ عَلَى نَفَقَةِ خَادِمِ الْأَوْلَادِ أَوْ اتِّخَاذِهِ عِنْدِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَفِيهِ خِلَافٌ، فَعِنْدَ الْقَرَوِيِّينَ لَا يَلْزَمُ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يَلْزَمُ الْأَبَ أَنْ يَخْدُمَ الْوَلَدَ إنْ احْتَاجَ وَكَانَ مَلِيًّا قَالَ فِيهَا: وَإِنْ أَخَذَ الْوَلَدَ مَنْ لَهُ الْحَضَانَةُ فَعَلَى الْأَبِ النَّفَقَةُ وَالْكِسْوَةُ وَالسُّكْنَى مَا بَقُوا فِي الْحَضَانَةِ وَيَخْدُمُهُمْ إنْ اتَّسَعَ إلَى ذَلِكَ. 1 - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 لِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ مِنْ الْأَقَارِبِ وَإِنْ اتَّسَعَ فَعَلَيْهِ إخْدَامُ زَوْجَتِهِ. وَعَلَيْهِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبِيدِهِ وَيُكَفِّنَهُمْ إذَا مَاتُوا وَاخْتُلِفَ   [الفواكه الدواني] الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى النَّفَقَةِ الْكَامِلَةِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ مِنْ أَوْلَادٍ أَوْ أَبَوَيْنِ، وَالصَّوَابُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ تَقْدِيمُ نَفَقَةِ الْأَوْلَادِ عَلَى نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْهُمَا؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْأَوْلَادِ بِالْأَصَالَةِ وَنَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ بِالْعُرُوضِ، كَمَا تَقَدَّمَ نَفَقَةُ الْأُمِّ عَلَى نَفَقَةِ الْأَبِ، وَنَفَقَةُ الصَّغِيرِ عَلَى نَفَقَةِ الْكَبِيرِ، وَنَفَقَةُ الْأُنْثَى عَلَى نَفَقَةِ الذَّكَرِ، وَعِنْدَ التَّسَاوِي يَقَعُ التَّحَاصُصُ كَمَا يَقَعُ التَّحَاصُصُ فِي الزَّوْجَاتِ عِنْدَ ذَلِكَ، وَكَذَا تُقَدَّمُ نَفَقَةُ الزَّوْجَةِ عَلَى نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ الْأَوْلَادِ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الزَّوْجَاتِ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْأَقَارِبِ، وَأَمَّا نَفَقَةُ نَفْسِهِ فَتُقَدَّمُ وَلَوْ عَلَى نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ لِسُقُوطِ الْوُجُوبِ عَنْهُ لِغَيْرِهِ حِينَئِذٍ. الثَّالِثُ: مُقْتَضَى لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ الْإِنْفَاقُ إلَّا عَلَى زَوْجَتِهِ وَأَبَوَيْهِ وَأَوْلَادِهِ أَنَّ الْأُنْثَى لَيْسَتْ كَالذَّكَرِ، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَفْصِيلًا بَيْنَ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ فَتُسَاوِي الرَّجُلَ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ عَلَى الْأَبَوَيْنِ، وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْأَوْلَادِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَالْمَعْرُوفُ لَا نَفَقَةَ عَلَى الْأُمِّ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ الْيَتِيمِ الْفَقِيرِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي آخِرِ سُورَةِ الطَّلَاقِ: نَفَقَةُ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ دُونَ الْأُمِّ خِلَافًا لِابْنِ الْمَوَّازِ، وَلَا يَرُدُّ عَلَى هَذَا لُزُومُ اسْتِئْجَارِ مَنْ لَزِمَهَا الرَّضَاعُ وَلَا لَبَنَ لَهَا؛ لِجَرَيَانِ الْعُرْفِ بِذَلِكَ كَجَرَيَانِهِ بِلُزُومِ الْإِرْضَاعِ لِغَيْرِ عَالِيَةِ الْقَدْرِ مَا دَامَتْ نَفَقَتُهَا عَلَى أَبِيهِ وَالْعُرْفُ كَالشَّرْطِ. 1 - الرَّابِعُ: مُقْتَضَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ، بَلْ صَرِيحُ الْآيَةِ أَنَّ نَفَقَةَ الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ وَاجِبَةٌ عَلَى الْوَلَدِ الْمُوسِرِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمٍ حَيْثُ كَانَ فَقْرُهُمَا ثَابِتًا، نَعَمْ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهَا مِنْ جُمْلَةِ الدَّيْنِ الْمُسْقِطِ لِزَكَاةِ مَا عِنْدَ الْوَلَدِ مِنْ الْمَالِ الْحُكْمِ مَعَ التَّسَلُّفِ، وَأَمَّا أَصْلُ الْوُجُوبِ عَلَى الْوَلَدِ فَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمٍ، وَكَذَلِكَ نَفَقَةُ الْوَلَدِ الْفَقِيرِ عَلَى وَالِدِهِ، وَلَفْظُ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الزَّكَاةِ بَعْدَ تَنْظِيرِهِ فِي تَقْرِيرِ بَعْضِ الشُّيُوخِ، إذْ يَأْتِي فِي بَابِ النَّفَقَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ الْمُعْسِرِ تَجِبُ عَلَى وَالِدِهِ الْمُوسِرِ بِمُجَرَّدِ الْعُسْرِ وَكَذَلِكَ عَكْسُهُ فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت. وَالْمَفْهُومُ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ بَلْ صَرِيحُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ وَعَكْسُهُ، وَهُوَ أَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ وَاجِبَةٌ بِالْأَصَالَةِ فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمٍ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الْوَالِدِ كَانَتْ سَاقِطَةً فَلَا تَجِبُ إلَّا بِالْحُكْمِ. 1 - الْخَامِسُ: لَوْ تَرَكَ الْوَلَدُ الْإِنْفَاقَ عَلَى أَحَدِ أَبَوَيْهِ مُدَّةً مَعَ وُجُوبِهَا أَوْ عَكْسُهُ لَمْ يَرْجِعْ بِهَا مَنْ وَجَبَتْ لَهُ عَلَى مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ إلَّا بِشَرْطٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَسْقُطُ عَنْ الْمُوسِرِ بِمُضِيِّ الزَّمَنِ إلَّا لِقَضِيَّةٍ أَوْ يُنْفِقُ غَيْرَ مُتَبَرِّعٍ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْحَاجِبِ وَنَازَعَ فِيهَا ابْنُ عَرَفَةَ، وَهَذَا بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ فَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ عَنْ الْمُوسِرِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمٍ؛ لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ بِالْقَرَابَةِ مُخْتَصَّةً بِالْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ فَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ أَنَّ النَّفَقَةَ بِالْقَرَابَةِ مَحْصُورَةُ الْأُبُوَّةِ وَهِيَ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّهَا إمَّا وَاجِبَةً عَلَى الْأَبِ أَوْ لَهُ قَالَ: (وَلَا نَفَقَةَ) وَاجِبَةٌ عَلَى الْحُرِّ الْمُوسِرِ (لِمَنْ سِوَى هَؤُلَاءِ) الْمَذْكُورِينَ مِنْ الْأَبَوَيْنِ وَالْأَوْلَادِ (مِنْ الْأَقَارِبِ) فَلَا تَجِبُ النَّفَقَةُ عَلَى الْأَجْدَادِ وَالْجَدَّاتِ، وَلَا عَلَى أَوْلَادِ الْأَوْلَادِ، وَلَا عَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ الْقَائِلِ بِوُجُوبِهَا عَلَى الْأُصُولِ وَعَلَى الِابْنِ وَابْنِهِ وَعَلَى الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ، وَخِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي إيجَابِهَا عَلَى كُلِّ ذِي رَحِمٍ. ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالزَّوْجَةِ وَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ اتَّسَعَ) الزَّوْجُ الْأَهْلَ لِلْإِخْدَامِ (فَعَلَيْهِ إخْدَامُ زَوْجَتِهِ) الْمُتَأَهِّلَةِ لِلْإِخْدَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِخْدَامُ أَهْلِهِ، وَإِنْ بِكِرَاءٍ وَلَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدَةٍ وَقَضَى لَهَا بِخَادِمِهَا إنْ أَحَبَّتْ إلَّا لِرِيبَةٍ، وَإِخْدَامُهَا إنَّمَا يَكُونُ بِأُنْثَى أَوْ بِذَكَرٍ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ، فَفِي كَلَامِ خَلِيلٍ التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ إخْدَامُهَا إلَّا إذَا كَانَ هُنَاكَ أَهْلِيَّةً فِي الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ، وَإِذَا اشْتَرَى لَهَا خَادِمًا يَخْدُمُهَا فَإِنَّهَا لَا تَمْلِكُ إلَّا بِهِبَةٍ، بِخِلَافِ الْمُشْتَرَطِ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ فَإِنَّهَا تَمْلِكُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْمَهْرِ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ خَلِيلٍ الْمُفِيدِ لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا انْتَفَتْ الْأَهْلِيَّةُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا لَا يَلْزَمُهُ إخْدَامُهَا وَلَوْ كَثُرَ مَالُهُ، إلَّا إذَا اشْتَرَطَ عَلَيْهِ ذَلِكَ أَوْ كَانَ مِنْ الَّذِينَ لَا يَمْتَهِنُونَ نِسَاءَهُمْ، وَمَفْهُومُ إنْ اتَّسَعَ أَنَّ غَيْرَ الْمُتَّسَعِ لَا يَلْزَمُهُ إخْدَامٌ، وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَهْلًا وَعَلَيْهَا الْخِدْمَةُ بِنَفْسِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهَا الْخِدْمَةُ الْبَاطِنَةُ مِنْ عَجْنٍ وَكَنْسٍ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَأَشَارَ إلَى السَّبَبِ الثَّالِثِ مِنْ أَسْبَابِ النَّفَقَةِ بِقَوْلِهِ: (وَعَلَيْهِ) أَيْ الْمَالِكِ وَلَوْ رَقِيقًا (أَنْ يُنْفِقَ عَلَى عَبِيدِهِ) وَلَوْ بِشَائِبَةِ حُرِّيَّةٍ كَمُدَبَّرَةٍ أَوْ مُعْتَقٍ لِأَجَلٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ وَلَوْ أَشْرَفَ الرَّقِيقُ عَلَى الْمَوْتِ، بِخِلَافِ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ غَيْرِ الْمَدْخُولِ بِهَا وَيَكُونُ الْإِنْفَاقُ بِقَدْرِ كِفَايَتِهِمْ، فَلَا يُسْرِفُ وَلَا يَقْتُرُ وَيَنْظُرُ لِوُسْعِهِ وَحَالِ الْعَبِيدِ فَلَيْسَ النَّجِيبُ كَالْوَغْدِ، فَإِنْ امْتَنَعَ السَّيِّدُ مِنْ الْإِنْفَاقِ الْوَاجِبِ بِيعَ مَا يُبَاعُ إلَّا أَنْ يُعْتِقَهُ سَيِّدُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا تَجِبُ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ وَدَابَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَرْعًى، وَإِلَّا بِيعَ كَتَكْلِيفِهِ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ، وَأَمَّا مَنْ لَا يُبَاعُ كَأُمِّ الْوَلَدِ فَقِيلَ يُنْجِزُ عِتْقَهَا وَقِيلَ تُزَوَّجُ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فَإِنْ كَانَ فِي خِدْمَتِهِ مَا يَكْفِيهِ خُدِمَ وَأُنْفِقَ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَإِلَّا نَجَّزَ عِتْقَهُ، وَإِنَّمَا قُلْنَا وَلَوْ رَقِيقًا؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَا يَلْزَمُهُ النَّفَقَةُ عَلَى عَبِيدِ عَبِيدِهِ، وَإِنَّمَا يُنْفِقُ عَلَيْهِمْ سَيِّدُهُمْ الْأَسْفَلُ (وَ) كَمَا تَجِبُ عَلَيْهِ نَفَقَةُ عَبِيدِهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يُكَفِّنَهُمْ إذَا مَاتُوا) وَسَائِرُ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ تَوَابِعِ النَّفَقَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ عَلَى الْمُنْفِقِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رِقٍّ لَا زَوْجِيَّةٍ، وَالْفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 فِي كَفَنِ الزَّوْجَةِ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي مَالِهَا، وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ فِي مَالِ الزَّوْجِ وَقَالَ سَحْنُونٌ إنْ كَانَتْ مَلِيَّةً فَفِي مَالِهَا وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَفِي مَالِ الزَّوْجِ. .   [الفواكه الدواني] فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِ مَا سَبَقَ مِنْ وُجُوبِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالْأَصْلِ الدَّانِي وَالْفَرْعِ الْقَرِيبِ وَالرَّقِيقِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا كَانَ عَنْ غِنًى وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى، وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ» . تَقُولُ الْمَرْأَةُ: إمَّا أَنْ تُطْعِمَنِي أَوْ تُطَلِّقَنِي، وَيَقُولُ الْعَبْدُ: أَطْعِمْنِي وَاسْتَعْمِلْنِي، وَيَقُولُ الْوَلَدُ: أَطْعِمْنِي إلَى مَنْ تَدْعُنِي، فَجَعَلَ الَّذِي يَعُولُهُ الشَّخْصُ زَوْجَتَهُ وَرَقِيقَهُ وَوَلَدَهُ، وَقَالَ - تَعَالَى -: {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] وَيُؤْخَذُ مِنْ الْحَدِيثِ مَسْأَلَةٌ حَسَنَةٌ وَهِيَ مَنْ قَالَ: الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ وَقْفٌ عَلَى عِيَالِي، أَوْ هَذِهِ الْعُلُوفَةُ عَلَى الْعِيَالِ تَدْخُلُ زَوْجَتُهُ فِي الْعِيَالِ، وَقَلَّ أَنْ يَعْرِفَهَا الطَّالِبُ مِنْ غَيْرِ هَذَا فَافْهَمْ. وَحَكَى ابْنُ الْمُنْذِرِ الْإِجْمَاعَ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَالِدَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ، وَالْآيَةُ ظَاهِرَةٌ فِي الْوُجُوبِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْفَاقُ عَلَى الزَّوْجَةِ فِي مُقَابَلَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَقَدْ تَعَذَّرَ بِمَوْتِهَا جَرَى فِي الْكَفَنِ خِلَافٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَاخْتُلِفَ فِي كَفَنِ الزَّوْجَةِ) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. (فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ) كَفَنُهَا وَسَائِرُ مُؤَنِ تَجْهِيزِهَا (فِي مَالِهَا) وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَجِبُ بِهِ الْفَتْوَى، وَعَلَيْهِ اقْتَصَرَ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَهُوَ عَلَى الْمُنْفِقِ إلَى قَوْلِهِ: لَا زَوْجِيَّةَ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ فَقِيرَةً لِانْقِطَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا بِمَوْتِهَا، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مِنْ مَالِهَا أَنَّهَا حُرَّةٌ، وَأَمَّا الْأَمَةُ فَعَلَى سَيِّدِهَا. (وَقَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ) كَفَنُهَا، وَمُؤَنُ تَجْهِيزِهَا (فِي مَالِ زَوْجِهَا) إنْ كَانَ بِحَيْثُ يَلْزَمُهُ لَهَا النَّفَقَةُ لِبُلُوغِهِ وَيُسْرِهِ لِبَقَاءِ أَثَرِ الزَّوْجِيَّةِ لِجَوَازِ التَّغْسِيلِ وَالنَّظَرِ لِلْعَوْرَةِ وَعُزِيَ لِمَالِكٍ، وَظَاهِرُ هَذَا الْقَوْلِ: وَلَوْ كَانَتْ الزَّوْجَةُ أَمَةً (وَقَالَ سَحْنُونٌ: إنْ كَانَتْ غَنِيَّةً) بِحَيْثُ يُوجَدُ عِنْدَهَا مَا تُكَفَّنُ بِهِ (فَفِي مَالِهَا) كَسَائِرِ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ. (وَإِنْ كَانَتْ فَقِيرَةً فَفِي مَالِ الزَّوْجِ) وَيَتَفَرَّعُ عَلَى الْمَشْهُورِ أَنَّ الزَّوْجَ لَوْ كَفَّنَهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ فِي مَالِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَبَرِّعًا. (فَائِدَةٌ) سَحْنُونٌ: لُقِّبَ بِهِ لِحِدَّةِ فَهْمِهِ وَاسْمُهُ عَبْدُ السَّلَامِ وَفِي سِينِهِ وَجْهَانِ الْفَتْحُ وَالضَّمُّ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: الْكَثِيرُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ الْفَتْحُ وَأَمَّا فِي اللُّغَةِ فَالضَّمُّ. 1 - (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: سَكَتَ عَنْ كَفَنِ مَنْ يَلْزَمُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ سِوَى الزَّوْجَةِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ تَابِعٌ لِلنَّفَقَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ عَلَى الْمُنْفِقِ بِقَرَابَةٍ أَوْ رِقٍّ لَا زَوْجِيَّةٍ، وَالْفَقِيرُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِلَّا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ إنْ كَانَ الْمَيِّتُ حُرًّا، وَلِذَلِكَ لَوْ مَاتَ شَخْصٌ وَرَقِيقُهُ وَلَمْ يُوجَدْ عِنْدَ السَّيِّدِ إلَّا مَا يُكَفِّنُ أَحَدَهُمَا قُدِّمَ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّهُ لَا حَقَّ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ بِخِلَافِ سَيِّدِهِ. 1 - الثَّانِيَةُ: لَوْ مَاتَ أَبُو شَخْصٍ أَوْ أَحَدُهُمَا وَوَلَدُهُ وَنَفَقَةُ كُلٍّ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ، وَعَجَزَ عَنْ تَكْفِينِ الْجَمِيعِ فَحُكْمُهُ كَالنَّفَقَةِ، فَيُقَدَّمُ الْوَلَدُ؛ لِأَنَّ نَفَقَةَ الْوَلَدِ بِالْأَصَالَةِ، وَيَنْظُرُ لَوْ لَمْ يَقْدِرْ إلَى عَلَى تَكْفِينِ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ أَوْ بَعْضِ الْأَوْلَادِ، وَمُقْتَضَى الْإِجْرَاءِ عَلَى النَّفَقَةِ تَقْدِيمُ الْأُمِّ عَلَى الْأَبِ، وَالْأُنْثَى عَلَى الذَّكَرِ، وَالصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، وَلْتُحَرَّرْ الْمَسْأَلَةُ. وَيَظْهَرُ الِاقْتِرَاعُ عِنْدَ تَسَاوِي الْوَلَدَيْنِ، وَلَمْ يُوجَدْ إلَّا مَا يُكَفِّنُ أَحَدَهُمَا لَا بِعَيْنِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْكَفَنُ الْمَوْجُودُ لَا يَكْفِي إلَّا أَحَدَهُمَا بِعَيْنِهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ، وَيَظْهَرُ أَنَّ الْمُرَادَ يَكْفِي فِي السَّتْرِ الْوَاجِبِ، وَإِلَّا قُسِمَ بَيْنَهُمَا وَحَرِّرْهُ فَإِنِّي لَمْ أَرَهُ مَنْقُولًا. الثَّالِثَةُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَمْلُوكِ الْبَهِيمِيِّ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ عَلَفُهُ الْمُعْتَادُ، وَلَوْ بِالشِّرَاءِ أَوْ يَبْعَثُهُ لِلْمَرْعَى، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ لَا يُكَلِّفَهُ مِنْ الْعَمَلِ إلَّا مَا يُطِيقُهُ، فَإِنْ لَمْ يُطْعِمْهُ أَوْ كَلَّفَهُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُهُ بِيعَ عَلَيْهِ مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ، وَأَمَّا مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ بَيْعِهِ أَوْ ذَبْحِهِ. 1 - الرَّابِعَةُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ أَيْضًا عَلَى مَا إذَا كَانَ لَهُ كَرْمٌ أَوْ زَرْعٌ يَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ بِحَيْثُ يَتْلَفُ بِتَرْكِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِهِ، إمَّا بِنَفْسِهِ أَوْ يَدْفَعُهُ لِمَنْ يَعْمَلُ فِيهِ وَلَوْ بِجَمِيعِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ أَثِمَ لِمَا فِي تَرْكِهِ مِنْ إضَاعَةِ الْمَالِ وَلَمْ يَثْبُتْ نَصٌّ بِبَيْعِهِ. [بَابٌ فِي الْبُيُوعِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَبَقِيَّةِ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامِ الذَّبَائِحِ وَالْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ وَالْجِهَادِ وَالْأَنْكِحَةِ، وَمَا يَطْرَأُ لَهَا مِنْ طَلَاقٍ وَعِدَّةٍ وَسُكْنَى وَنَفَقَةٍ، شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْمُعَامَلَاتِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 بَابٌ فِي الْبُيُوعِ، وَمَا شَاكَلَ الْبُيُوعَ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: 275] وَكَانَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي الدُّيُونِ إمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ وَإِمَّا أَنْ يُرْبَى لَهُ فِيهِ. وَمِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (الْبُيُوعِ) جَمْعُ بَيْعٍ مَصْدَرُ بَاعَ، وَيَتَنَوَّعُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، وَلِذَا صَحَّ جَمْعُهُ، بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ لِعَامِلِهِ لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَحَقِيقَتُهُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَاصْطَلَحَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ: الْإِخْرَاجُ عَكْسُ اشْتَرَى، يُقَالُ: بَاعَ الشَّيْءَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَاشْتَرَاهُ إذَا أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا شَرَى فَيُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، وَمِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَاعُوهُ، وَالضَّمِيرُ فِي بَاعُوهُ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ مِنْ السَّيَّارَةِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ عَبْدُهُمْ وَأَبَقَ مِنْهُمْ ثُمَّ بَاعُوهُ لَهُمْ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْبَيْعُ الْأَعَمُّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ، فَيَخْرُجُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالنِّكَاحِ، وَيَدْخُلُ هِبَةُ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: وَالْغَالِبُ عُرْفًا أَخَصُّ مِنْهُ بِزِيَادَةِ ذُو مُكَايَسَةِ أَحَدِ عِوَضَيْهِ غَيْرِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الْعَيْنِ فِيهِ لِتَخْرُجَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ الدَّاخِلَةُ فِي الْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لِلثَّوَابِ لَا مُكَايَسَةَ أَيْ لَا مُغَالَبَةَ فِيهَا، وَالصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ الْعِوَضَانِ فِيهَا مِنْ الْعَيْنِ وَالسَّلَمِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ الْعَيْنُ، وَهِيَ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَمَّا غَيْرُ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَإِنَّهُ فِي الذِّمَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُعَيَّنًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الذِّمَّةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ تَعْبِيرَ ابْنِ عَرَفَةَ بِالْعَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا، وَيَنْقَسِمُ الْبَيْعُ الْأَعَمُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُسَاوَمَةٍ، وَمُزَايَدَةٍ، وَهُمَا جَائِزَانِ اتِّفَاقًا، وَبَيْعِ مُرَابَحَةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ جَوَازًا مَرْجُوحًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى الصِّدْقِ الْمَتِينِ، وَبَيْعِ اسْتِئْمَانٍ وَاسْتِرْسَالٍ، وَحَقِيقَةِ بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ أَنْ يَتَرَاضَى الشَّخْصَانِ عَلَى ثَمَنٍ وَلَا تَقْبَلُ زِيَادَةً بَعْدَهُ، وَلَوْ تَضَمَّنَ غَبْنًا، وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ أَنْ يُطْلِقَ الرَّجُلُ سِلْعَتَهُ فِي يَدِ الدَّلَّالِ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَعْطَى فِيهَا ثَمَنًا لَزِمَهُ إنْ رَضِيَ مَالِكُهَا وَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى وَيَطْلُبَ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ هَذَا يُورِثُ الضَّغَائِنَ فِي الْقُلُوبِ. وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ وَيَبِيعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الِاسْتِئْمَانِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الِاسْتِرْسَالُ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ قَدْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ لِعِلْمِ صَاحِبِهِ بِجَهْلِ الصَّارِفِ بِهِ أَيْ بِقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ الْجَاهِلُ لِلْعَالِمِ: اشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنْ النَّاسِ، أَوْ بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسُ، وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ عَلَى طَرِيقِ الْأَكْثَرِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْجَاهِلِ إذَا كَذَبَ عَلَيْهِ الْعَالِمُ بِأَنْ غَرَّهُ، وَمُقَابِلُ الْأَكْثَرِ سَمَاعُ عِيسَى بْنِ الْقَاسِمِ لَا يَصِحُّ، وَيُفْسَخُ إنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا، وَإِنْ فَاتَ رَدَّ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ، وَقِيمَةَ الْمُقَوَّمِ (وَ) فِي بَيَانِ أَحْكَامِ (مَا شَاكَلَ) أَيْ شَابَهُ (الْبُيُوعَ) مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ، كَالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِقَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْإِجَارَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ التَّرْجَمَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَا تَرْجَمَ لَهُ مُبْتَدِئًا بِحُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْجَوَازُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَاسِدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ بَيْعٌ إلَّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخَصُّصُ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ. وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: وَأَحَلَّ اللَّهُ كُلَّ بَيْعٍ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَنْ اُضْطُرَّ لِشِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالنَّدْبُ كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا؛ لِأَنَّ إبْرَارَ الْقَسَمِ مَنْدُوبٌ، وَالْكَرَاهَةُ كَبَيْعِ الْهِرِّ وَالسَّبُعِ؛ لِأَخْذِ جِلْدِهِ، وَالتَّحْرِيمُ كَبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْ بَيْعِهِ نَحْوِ الْكَلْبِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْبَيْعَ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ، وَكَمَا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ الْكِتَابُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 النَّسِيئَةِ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَلَا يَجُوزُ فِضَّةٌ بِفِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٌ بِذَهَبٍ إلَّا مِثْلًا.   [الفواكه الدواني] دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» وَالْبَيْعُ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ صَاحِبُهُ بِهِ وَلَا فِيهِ وَلَا مَعَهُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِأَرْكَانِ الْبَيْعِ وَلَا لِشُرُوطِ عَاقِدِهِ، وَلَا الْمَقْعُودِ عَلَيْهِ، وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ: الْعَاقِدُ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالصِّيغَةُ، وَشَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِ الْعَاقِدِ مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ التَّمْيِيزُ بِأَنْ يَفْهَمَ السُّؤَالَ وَيَرُدَّ جَوَابَهُ، وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا، وَشَرْطُ اللُّزُومِ التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى الرُّشْدِ وَالطَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَلَا السَّفِيهِ وَلَا الْمُكْرَهِ إكْرَاهًا حَرَامًا، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي حَيْثُ كَانَ رَشِيدًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُ عَاقِدِهِ تَمْيِيزٌ، وَلُزُومُهُ تَكْلِيفٌ لَا إنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ جَبْرًا حَرَامًا وَرَدَّ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُ الْعَاقِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ مُصْحَفًا، بَلْ يَقَعُ الْعَقْدُ لَازِمًا وَيُجْبَرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ إدَامَةِ الْمِلْكِ، وَشَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا الطَّهَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً حَيْثُ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى اللُّزُومِ، وَإِلَّا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ وَلَا نَوْعَهُ، وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ. وَالرُّكْنُ الثَّالِثُ الصِّيغَةُ، وَيَكْفِي فِيهَا كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَلَوْ مُعَاطَاةً، خِلَافًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: وَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْكَلَامِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ كُلَّمَا يُفْهَمُ مَعَهُ الْمُرَادُ وَلَوْ إشَارَةً؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْقَوْلِ وَعَلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفَادَةُ مِنْ إشَارَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ تَقَدُّمُ إيجَابٍ عَلَى قَبُولٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى الرِّبَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْهُ بَعْضُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (وَحَرَّمَ) اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (الرِّبَا) بِالْقَصْرِ بِقِسْمَيْهِ النَّسَاءُ بِالْمَدِّ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْفَضْلُ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ، وَفِي مُسْلِمٍ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ» فَمَنْ اسْتَحَلَّ الرِّبَا كَفَرَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَكَانَ مَنْ بَاعَ بِالرِّبَا فَهُوَ فَاسِقٌ يُؤَدَّبُ بَعْدَ فَسْخِ بَيْعِهِ، وَيَلْزَمُهُ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ الْفَوَاتِ، وَمَنْ قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ رَدَّهُ لِرَبِّهِ إنْ عَرَفَهُ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ كَافِرٌ فَهُوَ لَهُ إنْ قَبَضَهُ قَبْلَ إسْلَامِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ يَسْقُطُ عَمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ. (وَكَانَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ) ، وَهِيَ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ (فِي الدُّيُونِ) إذَا تَمَّ أَجَلُ الدَّيْنِ يَقُولُ لَهُ مَنْ لَهُ التَّكَلُّمُ فِي شَأْنِهِ (إمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ) مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ (وَإِمَّا أَنْ يُرْبِيَ) أَيْ يَزِيدَ (لَهُ فِيهِ) وَيُؤَخِّرَهُ وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ هَذَا سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ أَوْ الصِّفَةِ. مِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَيَدْفَعَ لَهُ عَنْ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ بَدَلَ عَدَدِ الْكِلَابِ رِيَالَاتٍ، أَوْ عَنْ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَنَادِقَةً، فَإِنْ وَقَعَ وَأَخَّرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الدَّيْنِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ. وَفِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْحُرْمَةِ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ رَهْنًا أَوْ يُقِيمَ لَهُ حَمْلًا؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، وَمِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرِ مُخَالِفٍ لِجِنْسِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ سَارَتْ قِيمَتُهُ حِينَ التَّأْخِيرِ قَدْرَ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا وَحَلَّ أَجَلُهَا فَأَخَّرَهُ بِهَا أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا طَعَامًا أَوْ عَرَضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ وَلَوْ مُعَيَّنًا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَغَائِبٍ أَوْ مُوَاضَعَةٍ أَوْ مَنَافِعِ عَيْنٍ. وَأَمَّا لَوْ أَخَّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَوْ تَرَكَ لَهُ بَعْضَ الْحَقِّ وَأَخَّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ) كَخَطِيئَةٍ فَهُوَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ الزِّيَادَةُ وَيُقَالُ لَهَا رِبًا أَيْ زِيَادَةُ الْفَضْلِ (بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ) حَالَ كَوْنِهِ (يَدًا بِيَدٍ) أَيْ مُنَاجَزَةً وَحَالَ كَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ) أَيْ مِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ (الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ) مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ سَوَاءٌ كَانَا مَسْكُوكَيْنِ أَوْ مَصُوغَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ؛ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ» ، وَمَعْنَى لَا تُشِفُّوا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ لَا تُفَضِّلُوا. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ حُرْمَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا وَلَوْ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ قَدْ أَجَازُوا الزِّيَادَةَ الْيَسِيرَةَ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: الْأُولَى الْمُبَادَلَةُ. وَهِيَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا عَدَدًا فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِشُرُوطٍ أَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَجَازَتْ مُبَادَلَةُ الْقَلِيلِ الْمَعْدُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ بِأَنْ تَكُونَ سِتَّةً فَأَقَلَّ، وَأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسَ فَأَقَلَّ، وَأَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِالزِّيَادَةِ الْمَعْرُوفُ. وَالثَّانِيَةُ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ غَيْرَ مَسْكُوكَةٍ، وَلَا تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُسَافِرُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا لِلسَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا مَسْكُوكًا، وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ السِّكَّةِ، وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ زَائِدَةٌ وَعَلَى كَوْنِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَالْفِضَّةُ بِالذَّهَبِ رِبًا إلَّا يَدًا بِيَدٍ. وَالطَّعَامُ مِنْ الْحُبُوبِ وَالْقُطْنِيَّةِ وَشَبَهِهَا مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَوْ إدَامٍ لَا يَجُوزُ الْجِنْسُ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ. وَلَا يَجُوزُ طَعَامٌ بِطَعَامٍ إلَى أَجَلٍ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ أَوْ مِنْ   [الفواكه الدواني] عَرَضًا تُفْرَضُ مَعَ الْعَيْنِ عَيْنًا، وَإِنَّمَا أُجِيزَتْ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ تَمَكُّنِ الْمُسَافِرِ مِنْ السَّفَرِ عِنْدَ تَأْخِيرِهِ لِضَرْبِهَا. الثَّالِثَةُ: الشَّخْصُ يَكُونُ مَعَهُ الدِّرْهَمُ الْفِضَّةُ وَيَحْتَاجُ إلَى نَحْوِ الْغِذَاءِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهُ لِنَحْوِ الزَّيَّاتِ وَيَأْخُذَ بِبَعْضِهِ طَعَامًا أَوْ جُدُدًا، وَبِالنِّصْفِ الْآخَرِ فِضَّةً حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ الْبَيْعِ أَوْ عِوَضَ كِرَاءٍ بَعْدَ تَامِّ الْعَمَلِ لِوُجُوبِ تَعْجِيلِ الْجَمِيعِ، وَكَوْنُ الْمَدْفُوعِ دِرْهَمًا فَأَقَلَّ لَا أَكْثَرَ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ وَالْمَدْفُوعُ مَسْكُوكَيْنِ، وَأَنْ يَجْرِيَ التَّعَامُلُ بِالْمَدْفُوعِ وَالْمَأْخُوذِ وَلَوْ لَمْ تَتَّحِدَ السِّكَّةُ، وَأَنْ يَتَّحِدَا فِي الرَّوَاجِ بِأَنْ تَكُونَ الْفِضَّةُ الْمَأْخُوذَةُ تَرُوجُ بِنِصْفِ الدِّرْهَمِ وَأَنْ يَتَعَجَّلَ الدِّرْهَمَ، وَمُقَابَلَةٌ مِنْ عَيْنٍ، وَمَا مَعَهَا. وَوَجْهُ التَّفَاضُلِ فِي هَذِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ يُفْرَضُ مَعَهَا عَيْنًا، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى الْأُولَى بِقَوْلِهِ: وَجَازَتْ مُبَادَلَةُ الْقَلِيلِ الْمَعْدُودِ إلَخْ. وَإِلَى الثَّانِيَةِ بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ تِبْرٍ يُعْطِيهِ الْمُسَافِرُ وَأُجْرَتُهُ دَارَ الضَّرْبِ؛ لِيَأْخُذَ زِنَتَهُ. وَإِلَى الثَّالِثَةِ بِقَوْلِهِ: وَبِخِلَافِ دِرْهَمٍ بِنِصْفٍ وَفُلُوسٍ إلَخْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ مُتَفَاضِلًا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) بَيْعُ (ذَهَبٍ بِذَهَبٍ وَلَا) بَيْعُ (فِضَّةٍ بِفِضَّةٍ) لَا مُرَاطَلَةَ وَلَا مُبَادَلَةَ فِي أَكْثَرَ مِنْ سِتَّةٍ. (إلَّا) أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ (مِثْلًا بِمِثْلٍ) ، وَمَقْبُوضًا (يَدًا بِيَدٍ) فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَهِيَ: مُبَادَلَةُ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ، وَإِعْطَاءُ الْمُسَافِرِ نَحْوَ التِّبْرِ وَيَأْخُذُ مَسْكُوكًا، وَمَسْأَلَةُ الدِّرْهَمِ، وَإِذَا تَحَقَّقَتْ الْمُمَاثَلَةُ وَوُجِدَتْ الْمُنَاجَزَةُ جَازَ الْبَيْعُ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ أَوْ الْمُرَاطَلَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ بِصَنْجَةٍ أَوْ كِفَّتَيْنِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الْعَيْنِ بِنَوْعِهَا شَرَعَ فِي بَيْعِهَا بِغَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) بَيْعُ (الْفِضَّةِ بِالذَّهَبِ رِبًا) فَيَحْرُمُ فِي كُلِّ حَالٍ (إلَّا يَدًا بِيَدٍ) أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَجْهِ الْمُقَابَضَةِ وَالْمُنَاجَزَةِ فَيَجُوزُ، وَلَوْ اخْتَلَفَا فِي الْوَزْنِ وَالْعَدَدِ لِمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» وَتَلَخَّصَ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَدْخُلُ فِي الْعَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ الْجِنْسُ وَاحِدًا، وَأَمَّا النَّسَاءُ فَيَدْخُلُ فِيهِ مُطْلَقًا مُخْتَلِفًا أَوْ مُتَّفِقًا مَسْكُوكًا أَوْ غَيْرَهُ. 1 - (تَنْبِيهٌ) بَيْعُ الْعَيْنِ بِالْعَيْنِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: إمَّا مُرَاطَلَةٌ، وَإِمَّا مُبَادَلَةٌ، وَإِمَّا صَرْفٌ، فَالْمُرَاطَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ وَزْنًا، وَالْمُبَادَلَةُ بَيْعُ النَّقْدِ بِمِثْلِهِ عَدَدًا، وَالصَّرْفُ بَيْعُ الذَّهَبِ بِالْفِضَّةِ أَوْ أَحَدِهِمَا بِفُلُوسٍ، وَتَجِبُ الْمُنَاجَزَةُ فِي الْجَمِيعِ، وَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ بِعَدَمِهَا وَلَوْ قَرِيبًا أَوْ غَلَبَةً، وَأَمَّا الْمُسَاوَاةُ فَتَجِبُ فِي الْمُرَاطَلَةِ، وَكَذَا فِي الْمُبَادَلَةِ إذَا زَادَ الْعَدَدُ عَلَى سِتَّةٍ أَوْ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا أَوْ بَعْضِهَا أَكْثَرَ مِنْ السُّدُسِ. 1 - (فَرْعٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِلْإِنَاءِ الْمَصْنُوعِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَحْرُمُ إقْنَاؤُهُ وَاسْتِعْمَالُهُ وَلَوْ فِي حَقِّ الْأُنْثَى، وَلَكِنْ يَجُوزُ بَيْعُهُ لِمَنْ يَكْسِرُهُ أَوْ يَصْنَعُهُ حُلِيًّا بِعَرَضٍ أَوْ نَقْدٍ، لَكِنْ إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ اُشْتُرِطَتْ الْمُنَاجَزَةُ فَقَطْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِ اُشْتُرِطَتْ الْمُمَاثَلَةُ فِي الْوَزْنِ وَالْمُنَاجَزَةُ، وَأَمَّا الْمُصَنَّعُ مِنْ النَّقْدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ إلَّا بِالْعَرَضِ، وَلَا يَجُوزُ بِهِمَا أَوْ بِأَحَدِهِمَا وَلَوْ التَّابِعُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا الْمُحَلَّى بِالنَّقْدَيْنِ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ حُلِّيَ بِهِمَا لَمْ يَجُزْ بِأَحَدِهِمَا إلَّا إنْ تَبِعَا الْجَوْهَرَ بِأَنْ كَانَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الثُّلُثَ، وَالْجَوْهَرُ الثُّلُثَيْنِ فَإِنَّهُ يُبَاعُ بِجِنْسِ الْأَقَلِّ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ، فَإِنْ كَانَ الذَّهَبُ قَدْرَ الْفِضَّةِ لَمْ يَجُزْ بَيْعُهُ إلَّا بِالْعَرَضِ. (خَاتِمَةٌ) وَقَعَ خِلَافٌ فِي عِلَّةِ الرِّبَا فِي النُّقُودِ، فَقِيلَ غَلَبَةُ الثَّمَنِيَّةِ، وَقِيلَ مُطْلَقُ الثَّمَنِيَّةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ تَخْرُجُ الْفُلُوسُ الْجُدُدُ فَلَا يَدْخُلُهَا الرِّبَا وَيَدْخُلُهَا عَلَى الثَّانِي. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الرِّبَا فِي النَّقْدَيْنِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَطْعِمَةِ وَبَيَانِ مَا يَدْخُلُ فِيهِ الرِّبَا مِنْهَا، وَمَا لَا يَدْخُلُ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَالطَّعَامُ) الْكَائِنُ (مِنْ الْحُبُوبِ) ذَاتِ السُّنْبُلِ كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ وَأُلْحِقَ بِهِمَا السُّلْتُ (وَ) الْكَائِنُ مِنْ (الْقُطْنِيَّةِ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَوْ ضَمِّهَا وَسُكُونِ الطَّاءِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِ النُّونِ وَالْيَاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا، وَتُجْمَعُ عَلَى قَطَانِيٍّ كَالْفُولِ وَالْحِمَّصِ وَالْبَسِيلَةِ وَالْجُلْبَانِ وَالتُّرْمُسِ وَاللُّوبِيَا وَالْكِرْسِنَّةِ، وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنْ الْبَسِيلَةِ وَفِي لَوْنِهَا حُمْرَةٌ، وَالْبَاجِيُّ يَقُولُ: هِيَ الْبَسِيلَةُ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهَا تَقْطُنُ بِالْمَحَلِّ وَلَا تَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ. (وَ) مِنْ (شَبَهِهَا) أَيْ الْقُطْنِيَّةِ (مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ) كَزَبِيبٍ أَوْ لَحْمٍ (أَوْ إدَامٍ) كَسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَخُبْزٍ الطَّعَامُ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً. (لَا يَجُوزُ) بَيْعُ (الْجِنْسِ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ) لِلسَّلَامَةِ مِنْ رِبَا الْفَضْلِ، وَلِلسَّلَامَةِ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ اُشْتُرِطَ كَوْنُهُ (يَدًا بِيَدٍ) وَقَوْلُهُ (وَلَا يَجُوزُ فِيهِ تَأْخِيرٌ) بَيَانٌ لِقَوْلِهِ يَدًا بِيَدٍ، وَيَفْسُدُ الْبَيْعُ بِالتَّأْخِيرِ وَلَوْ قَرِيبًا، وَتُعْتَبَرُ الْمُمَاثَلَةُ بِالْمِعْيَارِ الشَّرْعِيِّ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ إنْ وُجِدَ مِعْيَارٌ شَرْعِيٌّ، وَإِلَّا فَالْمِعْيَارُ لِأَهْلِ مَحَلِّ الْبَيْعِ، فَإِنْ جَرَتْ الْعَادَةُ عِنْدَهُمْ بِأَمْرَيْنِ اُعْتُبِرَ الْغَالِبُ، وَإِلَّا اُعْتُبِرَ أَحَدُهُمَا، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ الْعَادَةُ فِيمَا يُوزَنُ بِشَيْءٍ وَجَبَ الْمَصِيرُ إلَى التَّحَرِّي إنْ أَمْكَنَ، وَأَمَّا نَحْوُ الْمَكِيلِ وَالْمَعْدُودِ فَلَا يَحْصُلُ فِيهِمَا تَعَذُّرٌ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَاعْتُبِرَتْ الْمُمَاثَلَةُ بِمِعْيَارِ الشَّرْعِ، وَإِلَّا فَبِالْعَادَةِ، فَإِنْ عَسُرَ الْوَزْنُ جَازَ التَّحَرِّي عِنْدَ إمْكَانِهِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ وَيَجِبُ اعْتِبَارُ الْوَزْنِ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: مِمَّا يُدَّخَرُ مِنْ قُوتٍ أَنَّ عِلَّةَ أَيْ عَلَامَةَ كَوْنِ الطَّعَامِ رِبَوِيًّا أَنْ يَكُونَ يَحْصُلُ بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 خِلَافِهِ كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ أَوْ لَا يُدَّخَرُ وَلَا بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ وَالْبُقُولِ، وَمَا لَا يُدَّخَرُ مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ كَانَ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنْ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ. وَسَائِرِ الْإِدَامِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ إلَّا الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ، وَمِنْ سَائِرِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ وَالطَّعَامِ فَلَا بَأْسَ بِالتَّفَاضُلِ فِيهِ يَدًا بِيَدٍ وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ إلَّا فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ. وَالْقَمْحُ وَالشَّعِيرُ وَالسُّلْتُ كَجِنْسٍ وَاحِدٍ فِيمَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ   [الفواكه الدواني] الِاقْتِيَاتُ وَيُمْكِنَ ادِّخَارُهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: عِلَّةُ طَعَامِ الرِّبَا اقْتِيَاتٌ وَادِّخَارٌ، وَهَلْ لِغَلَبَةِ الْعَيْشِ تَأْوِيلَانِ، وَلِذَلِكَ جَرَى الْخِلَافُ فِي رِبَوِيَّةِ التِّينِ وَالزَّيْتِ وَالْجَرَادِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الطَّعَامِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ الْمُتَّحِدِ الْجِنْسِ كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، وَمَعْنَى الِاقْتِيَاتِ قِيَامُ بِنْيَةِ الْآدَمِيِّ بِهِ، وَمَعْنَى الْإِدْخَارِ عَدَمُ فَسَادِهِ بِالتَّأْخِيرِ الْمَعْرُوفِ فِيهِ. وَلَمَّا كَانَ رِبَا النَّسَاءِ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ مُحَرَّمًا وَلَوْ فِي مُطْلَقِ الْجِنْسَيْنِ الْمَطْعُومَيْنِ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ) بَيْعُ (طَعَامٍ بِطَعَامٍ إلَى أَجَلٍ) وَلَوْ قَرِيبًا (كَانَ مِنْ جِنْسِهِ) كَقَمْحٍ بِمِثْلِهِ (أَوْ مِنْ خِلَافِهِ) سَوَاءٌ (كَانَ مِمَّا يُدَّخَرُ) كَالْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ (أَوْ لَا يُدَّخَرُ) كَالْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ؛ لِدُخُولِ رِبَا النَّسَاءِ فِي كُلِّ الْمَطْعُومَاتِ، فَتَخَلَّصَ أَنَّ رِبَا الْفَضْلِ إنَّمَا يَدْخُلُ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ، وَأَمَّا رِبَا النَّسَاءِ الَّذِي هُوَ التَّأْخِيرُ فَيَدْخُلُ فِي مُتَّحِدِ الْجِنْسِ، وَمُخْتَلِفِهِ وَلَوْ غَيْرَ مُقْتَاتٍ غَالِبًا كَالْخِيَارِ وَالْفَوَاكِهِ؛ لِأَنَّ رِبَا النَّسَاءِ يَدْخُلُ فِي كُلِّ مَا فِيهِ الطَّعْمِيَّةُ، وَلَمَّا كَانَ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَدْخُلُ إلَّا فِي الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالْفَوَاكِهِ) أَيْ بِبَيْعِ الْفَوَاكِهِ كَالْخَوْخِ وَالْمِشْمِشِ (وَالْبُقُولِ) كَالْخَسِّ وَالْهُنْدُبَا مِنْ كُلِّ مَا يُجَزُّ مِنْ أَصْلِهِ. (وَ) كُلُّ (مَا لَا يُدَّخَرُ) مِنْ الْخُضَرِ، وَهِيَ كُلُّ مَا يُجَزُّ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ كَالْمُلُوخِيَّةِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ وَلَوْ (مُتَفَاضِلًا، وَإِنْ كَانَ) جَمِيعُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ) حَيْثُ وَقَعَ التَّنَاجُزُ (يَدًا بِيَدٍ) وَلَمَّا قَدَّمَ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ عَلَامَةَ الطَّعَامِ الَّذِي يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ الِاقْتِيَاتُ وَالِادِّخَارُ، ذَكَرَ أَنَّ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ كَافٍ فَقَالَ: (وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ مِنْ الْفَوَاكِهِ الْيَابِسَةِ) كَالْبُنْدُقِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ الْإِدْخَارُ فَقَطْ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، بَلْ الْعِلَّةُ مُرَكَّبَةٌ مِنْ الِاقْتِيَاتِ وَالْإِدْخَارِ، وَقِيلَ كَوْنُهُ مُتَّخَذًا لِلْعَيْشِ غَالِبًا، فَالْمُفْتَى بِهِ مَا عَلَيْهِ خَلِيلٌ مِنْ أَنَّ الْفَوَاكِهَ لَا يَدْخُلُهَا رِبَا الْفَضْلِ فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا. قَالَ خَلِيلٌ: لَا خَرْدَلَ وَزَعْفَرَانَ وَخُضَرَ وَدَوَاءَ وَتِينَ، وَمَوْزَ وَفَاكِهَةَ وَلَوْ اُدُّخِرَتْ بِقُطْرٍ، أَيْ فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهَا بِشَرْطِ الْمُنَاجَزَةِ، وَرَجَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ رِبَوِيَّةَ التِّينِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْإِدْخَارِ كَوْنُهُ لِلْعَيْشِ غَالِبًا. (وَ) كَذَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ (سَائِرِ) أَنْوَاعِ (الْإِدَامِ) كَالسَّمْنِ وَالزَّيْتِ، فَقَوْلُهُ: وَسَائِرِ بِالْجَرِّ لِعَطْفِهِ عَلَى قَوْلِهِ: فِيمَا يُدَّخَرُ (وَ) كَذَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيمَا اتَّحَدَ مِنْ سَائِرِ أَنْوَاعِ (الطَّعَامِ) الْكَائِنَةِ مِنْ غَيْرِ الْحُبُوبِ كَاللَّحْمِ وَالْمَرَقِ فَلَا يَتَكَرَّرُ مَعَ مَا سَبَقَ. (وَ) كَذَا لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي كُلِّ مَا اتَّحَدَ مِنْ أَنْوَاعِ (الشَّرَابِ) الْمُتَّخَذَةِ مِمَّا هُوَ رِبَوِيٌّ كَالشَّرَابِ الْمُتَّخَذِ مِنْ الْعِنَبِ أَوْ التَّمْرِ. وَاعْلَمْ أَنَّ اتِّحَادَ الْجِنْسِيَّةِ تَابِعٌ لِلْغَرَضِ، فَنَحْوُ الْأَنْبِذَةِ كُلِّهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أُصُولُهَا؛ لِأَنَّ الْقَصْدَ وَالْغَرَضَ مِنْهَا الْحَلَاوَةُ، كَمَا أَنَّ الْخُلُولَ كُلَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ؛ لِأَنَّ الْغَرَضَ مِنْهَا الْحُمُوضَةُ، وَكَذَا سَائِرُ الْأَلْبَانِ وَلَوْ مِنْ بَهِيمَةٍ وَآدَمِيٍّ، بِخِلَافِ الْعُسُولِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأُصُولِ فَإِنَّهَا أَجْنَاسٌ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا فِي اسْتِعْمَالِهَا. ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ الشَّرَابِ قَوْلَهُ: (إلَّا الْمَاءَ وَحْدَهُ) فَيَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ وَلَوْ مُتَفَاضِلًا، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِالطَّعَامِ لِأَجَلٍ وَلَوْ مَاءَ زَمْزَمَ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ الطَّعَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْعَذْبُ، وَهُوَ مَا يُمْكِنُ شُرْبُهُ وَلَوْ عِنْدَ الضَّرُورَةِ، وَهَذَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَثَانِيهمَا الْأُجَاجُ، وَهُوَ مَا لَا يُشْرَبُ لِمَرَارَتِهِ كَالْبَحْرِ الْمَالِحِ، وَهُوَ جِنْسٌ آخَرُ، فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِ الْجِنْسَيْنِ بِالْآخَرِ وَلَوْ مُتَفَاضِلًا إلَى أَجَلٍ، وَأَمَّا بَيْعُ الْمَاءِ بِمَاءٍ مِنْ جِنْسِهِ فَإِنْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ جَازَ، وَلَوْ إلَى أَجَلٍ، وَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا يَدًا بِيَدٍ وَيَمْتَنِعُ إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ الْقَلِيلَ إنْ كَانَ هُوَ الْمُعَجَّلُ فَفِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا، وَإِنْ كَانَ الْمُعَجَّلُ هُوَ الْكَثِيرَ فَفِيهِ تُهْمَةُ ضَمَانٍ بِجُعْلٍ، وَهَكَذَا يُقَالُ فِي كُلِّ مَا اتَّحَدَ جِنْسُهُ، وَهُوَ غَيْرُ رِبَوِيٍّ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ فِيمَا يُدَّخَرُ بِقَوْلِهِ: (، وَمَا اخْتَلَفَتْ أَجْنَاسُهُ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ طَعَامٍ وَشَرَابٍ مِنْ غَيْرِ الْحُبُوبِ. (وَمِنْ سَائِرِ) أَيْ جَمِيعِ (أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ) وَلَوْ الْمُقْتَاتَةَ الْمُدَّخَرَةَ (وَمِنْ) سَائِرِ أَنْوَاعِ (الثِّمَارِ وَالطَّعَامِ) وَخَبَرُ مَا الْوَاقِعَةِ مُبْتَدَأً قَوْلُهُ: (فَلَا بَأْسَ) أَيْ فَلَا حَرَجَ فِي بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضِ الْآخَرِ (بِالتَّفَاضُلِ فِيهِ) حَالَةَ كَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (يَدًا بِيَدٍ) أَيْ مُنَاجَزًا فِيهِ «لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِيهِ الرِّبَا: فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ، وَإِنَّمَا كَرَّرَ قَوْلَهُ: (وَلَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ) أَيْ مِنْ مُطْلَقِ الطَّعَامِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (إلَّا فِي الْخُضَرِ وَالْفَوَاكِهِ) وَلَوْ اُدُّخِرَتْ بِقُطْرٍ؛ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ حُرْمَةَ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مُقَيَّدَةٌ بِمَا إذَا كَانَ الْجِنْسُ مِمَّا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بِشَرْطِ الْمُنَاجَزَةِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْجِنْسَ الْوَاحِدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَالتَّمْرُ كُلُّهُ صِنْفٌ وَالْقُطْنِيَّةُ أَصْنَافٌ فِي الْبُيُوعِ وَاخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ فِي الزَّكَاةِ أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. وَلُحُومُ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْأَنْعَامِ وَالْوَحْشِ صِنْفٌ وَلُحُومُ الطَّيْرِ كُلُّهُ صِنْفٌ وَلُحُومُ دَوَابِّ   [الفواكه الدواني] لَا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِيهِ بِشَرْطِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَمَا هُوَ أَجْنَاسٌ بِقَوْلِهِ: (وَالْقَمْحُ) مُبْتَدَأٌ (وَالشَّعِيرُ) ، وَهُمَا مُعَرَّفَانِ (وَالسُّلْتُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَضْمُومَةِ وَاللَّامِ السَّاكِنَةِ حَبٌّ بَيْنَ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ لَا قِشْرَ لَهُ وَخَبَرُ الْقَمْحِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً (كَجِنْسٍ وَاحِدٍ) عَلَى الْمُعْتَمَدِ (فِي) كُلِّ (مَا يَحِلُّ مِنْهُ وَيَحْرُمُ) ؛ لِتَقَارُبِهِمَا فِي الْمَنْفَعَةِ، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ أَوْ السُّلْتِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ، خِلَافًا لِلسُّيُورِيِّ وَعَبْدِ الْحَمِيدِ الصَّائِغِ وَتَبِعَهُمَا ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ أَخْذًا بِظَاهِرِ الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ» إلَخْ وَدَلِيلُ أَهْلِ الْمَذْهَبِ عَلَى الْمَشْهُورِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ لِفَتًى عَلَفَ حِمَارَهُ: خُذْ مِنْ حِنْطَةِ أَهْلِك فَابْتَعْ بِهَا شَعِيرًا وَلَا تَأْخُذْ إلَّا مِثْلَهُ وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْأَسْوَدِ وَغَيْرِهِ مِثْلُهُ، وَأَيْضًا اُشْتُهِرَ بَيْنَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ اتِّحَادُ الْقَمْحِ وَالشَّعِيرِ فِي الْجِنْسِيَّةِ، وَالنَّاسُ تَبَعٌ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ نَزَلَتْ عَلَيْهِمْ قَبْلَ النَّاسِ. وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْقَمْحَ وَالشَّعِيرَ صِنْفٌ وَاحِدٌ فَإِنَّ السُّلْتَ يَلْحَق بِهِمَا بِلَا خِلَافٍ فِي الْمَذْهَبِ، وَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّ الْمَعْنَى قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: كَجِنْسٍ وَاحِدٍ أَيْ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ، وَأَمَّا اتِّحَادُ جِنْسِيَّةِ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَفِيهَا خِلَافٌ فَلَمْ يَزُلْ اتِّحَادُ الْمُشَبَّهِ وَالْمُشَبَّهِ بِهِ. (وَالزَّبِيبُ كُلُّهُ) أَحْمَرُهُ وَأَسْوَدُهُ رَدِيئُهُ وَجَيِّدُهُ جَدِيدُهُ وَعَتِيقُهُ (صِنْفٌ وَاحِدٌ) وَكَذَا كُلُّ أَفْرَادِ التِّينِ جِنْسٌ وَاحِدٌ (وَ) كَذَلِكَ (التَّمْرُ كُلُّهُ) بَرْنِيُّ وَصَيْحَانِيٌّ وَعَجْوَةٌ (صِنْفٌ) وَاحِدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَمْرٌ وَزَبِيبٌ وَلَحْمُ طَيْرٍ، وَهُوَ جِنْسٌ أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ جِنْسٌ، فَيَجِبُ التَّمَاثُلُ فِي بَيْعِ الشَّيْءِ بِجِنْسِهِ وَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ وَلَوْ شَكًّا، كَأَنْ يَكُونَ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ رَطْبًا وَالْآخَرُ يَابِسًا، وَأَمَّا الْبَلَحُ قَبْلَ أَنْ يَتَتَمَّرَ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَالصَّغِيرُ الَّذِي لَا يُؤْكَلُ عَلَفٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَلَوْ بِالطَّعَامِ لِأَجَلٍ، وَأَمَّا الْبَلَحُ الْكَبِيرُ، وَهُوَ الرَّامِخُ أَوْ الْبُسْرُ، وَهُوَ الزَّهْوُ أَوْ الرُّطَبُ فَيَجُوزُ بَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا بِمِثْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبَلَحِ الصَّغِيرِ بِجَمِيعِهَا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِطَعَامٍ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْبُسْرِ بِالزَّهْوِ؛ لِأَنَّهُمَا شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا بِالرُّطَبِ وَلَا بِالتَّمْرِ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيْعِ الرُّطَبِ بِالْيَابِسِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ يَجُوزُ بَيْعُهُ بِنَوْعِهِ بِشَرْطِ التَّمَاثُلِ وَالتَّنَاجُزِ إلَّا الرَّطْبَ بِالْيَابِسِ، فَلَا يُبَاعُ الْقَمْحُ الْيَابِسُ بِالْبَلِيلَةِ، وَلَا الْفُولُ الْيَابِسُ بِالْحَارِّ، وَلَا النَّبِيذُ بِالتَّمْرِ أَوْ الزَّبِيبِ وَلَوْ مُتَمَاثِلًا، بِخِلَافِ الْخَلِّ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ بِهِمَا وَلَوْ مُتَفَاضِلًا لِبُعْدِ الْخَلِّ عَنْ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَأَمَّا الْخَلُّ وَالنَّبِيذُ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ مَعَ التَّمَاثُلِ وَالتَّنَاجُزِ لَا مَعَ التَّفَاضُلِ أَوْ عَدَمِ التَّنَاجُزِ، وَلَعَلَّ وَجْهَهُ لِقُرْبِ الْخَلِّ مِنْ النَّبِيذِ، فَلَا يُشْكَلُ عَلَيْهِ أَنَّ الشَّيْءَ إذَا انْتَقَلَ عَنْ أَصْلِهِ صَارَ كَالْجِنْسِ الْآخَرِ،؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَ الْبُعْدِ كَاللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ مَعَ النِّيءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ. (وَالْقُطْنِيَّةُ) بِكَسْرِ الْقَافِ أَوْ ضَمِّهَا وَاحِدَةُ الْقَطَانِيِّ كُلُّ مَا لَهُ غِلَافٌ يُخْزَنُ بِهِ كَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَالْبَسِيلَةِ وَالْحِمَّصِ وَالْجُلْبَانِ وَالتُّرْمُسِ وَعَنْهَا الْكِرْسِنَّةُ حَبٌّ قَرِيبٌ مِنْ الْبَسِيلَةِ فِيهِ حُمْرَةٌ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: هِيَ الْبَسِيلَةُ (وَأَصْنَافٌ فِي الْبُيُوعِ) عَلَى الْأَصَحِّ فِي الْمَذْهَبِ (وَ) إنْ (اخْتَلَفَ فِيهَا قَوْلُ مَالِكٍ) فَالْمَشْهُورُ مِنْ الْخِلَافِ مَا صَدَّرَ بِهِ مِنْ أَنَّهَا أَنْوَاعٌ يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي النَّوْعَيْنِ مِنْهُ بِشَرْطِ الْمُنَاجَزَةِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ (وَلَمْ يَخْتَلِفْ قَوْلُهُ) أَيْ الْإِمَامِ فِيهَا (فِي الزَّكَاةِ) بَلْ جَزَمَ (أَنَّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ) يُضَمُّ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ فِي الزَّكَاةِ حَتَّى يَكْمُلَ النِّصَابُ رِفْقًا بِالْفُقَرَاءِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَتُضَمُّ الْقَطَانِيُّ كَقَمْحٍ وَشَعِيرٍ وَسُلْتٍ، وَعَدَمُ اخْتِلَافِ قَوْلِ الْإِمَامِ بِالنَّظَرِ إلَى مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ فِي الْمَوَّازِيَّةِ مِنْ أَنَّهَا أَصْنَافٌ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُدَوَّنَةَ يُقَدَّمُ مَا فِيهَا عَلَى مَا فِي الْمَوَّازِيَّةِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَحْوِ الْأُرْزِ وَالدُّخْنِ وَالذُّرَةِ هِيَ أَجْنَاسٌ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ فِي الْبُيُوعِ وَالزَّكَاةِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّ مَنْعِ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الْمُقْتَاتِ الْمُدَّخَرِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَنْتَقِلْ عَنْ أَصْلِهِ، وَإِلَّا جَازَ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بِأَمْرٍ قَوِيٍّ بِحَيْثُ يُبْعِدُهُ عَنْ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ كَقَلْيِ الْحَبِّ أَوْ طَبْخِهِ أَوْ جَعْلِهِ خُبْزًا لَا بِطَحْنِهِ وَلَوْ عُجِنَ، وَلَا بِصَلْقِهِ إلَّا التُّرْمُسَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ جِنْسًا آخَرَ بِصَلْقِهِ وَوَضْعِهِ فِي الْمَاءِ حَتَّى يَصِيرَ حُلْوًا، وَأَمَّا صَلْقُ الْقَمْحِ أَوْ الْفُولِ أَوْ الْحِمَّصِ فَإِنَّهُ لَا يَنْقُلُهُ، فَلِذَا لَا يُبَاعُ الْيَابِسُ بِالْمَصْلُوقِ مِنْهَا، وَمَا يَقَعُ فِي الْأَرْيَافِ مِنْ بَيْعِ الْفُولِ الْحَارِّ بِالْيَابِسِ فَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْجِنْسِ وَالْأَجْنَاسِ مِنْ الْحُبُوبِ شَرَعَ يُبَيِّنُ الْمُتَّحِدَ وَالْمُخْتَلِفَ مِنْ أَنْوَاعِ غَيْرِ الْحُبُوبِ بِقَوْلِهِ (وَلُحُومُ) مُبْتَدَأٌ (ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ مِنْ الْأَنْعَامِ) كَالْبَقَرِ وَالضَّأْنِ وَالْإِبِلِ (وَ) مِنْ (الْوَحْشِ) كَالْغَزَالِ وَبَقَرِ الْوَحْشِ وَخَبَرُ لَحْمٌ (صِنْفٌ) وَاحِدٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مَرَقَتُهُ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ وَالْمَطْبُوخُ كُلُّهُ صِنْفٌ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ صِفَةُ طَبْخِهِ كَقَلْيِهِ بِعَسَلٍ وَأُخْرَى بِخَلٍّ أَوْ لَبَنٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ طَبْخِهَا بِأَبْزَارٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 الْمَاءِ كُلِّهَا صِنْفٌ، وَمَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْ شَحْمٍ فَهُوَ كَلَحْمِهِ وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ وَجُبْنُهُ وَسَمْنُهُ صِنْفٌ.   [الفواكه الدواني] أَمْ لَا، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الطَّبْخَ بِالْأَبْزَارِ نَاقِلٌ عَنْ اللَّحْمِ الَّذِي لَمْ يُطْبَخْ، وَفَائِدَةُ الِاتِّحَادِ فِي الصِّنْفِيَّةِ وُجُوبُ الْمُمَاثَلَةِ، وَحُرْمَةُ التَّفَاضُلِ فِي بَيْعِ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ، وَلَوْ لَحْمُ جَمَلٍ بِلَحْمِ ضَأْنٍ (وَ) كَذَلِكَ (لَحْمُ الطَّيْرِ كُلِّهَا) الْإِنْسِيُّ وَالْوَحْشِيُّ كَالنَّعَامَةِ وَلَوْ طَيْرَ مَاءٍ أَوْ جَرَادٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مِنْ الطَّعَامِ الرِّبَوِيِّ (صِنْفٌ) وَاحِدٌ خَبَرُ لُحُومٍ، فَالرَّخَمَةُ مِثْلُ الْحَمَامَةِ، وَالْحِدَأَةُ مِثْلُ الدَّجَاجَةِ وَالْغُرَابِ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ اخْتَلَفَتْ الْمَرَقَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. (تَنْبِيهٌ) . هَذَا فِي ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ الْمُبَاحَةِ وَالطُّيُورِ الْمُبَاحَةِ، وَأَمَّا غَيْرُهَا فَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا بَأْسَ بِلَحْمِ الْأَنْعَامِ بِالْخَيْلِ وَسَائِرِ الدَّوَابِّ نَقْدًا، وَمُؤَجَّلًا لِأَنَّهُ لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهَا، وَأَمَّا بِالْهِرِّ وَالثَّعْلَبِ وَالضَّبُعِ فَمَكْرُوهٌ بَيْعُ لَحْمِ الْأَنْعَامِ بِهَا لِاخْتِلَافِ الصَّحَابَةِ فِي أَكْلِهَا، وَمَالِكٌ يَكْرَهُ أَكْلَهَا مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ. انْتَهَى. وَلَمْ يَذْكُرْ أَبُو الْحَسَنِ أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَهُوَ يُفِيدُ أَنَّ مَكْرُوهَ الْأَكْلِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْمُبَاحِ مِنْهَا، وَإِلَّا حَرُمَ بَيْعُ لَحْمِ الْمُبَاحِ مِنْهَا بِالْمَكْرُوهِ مُتَفَاضِلًا، وَحَرُمَ أَيْضًا بَيْعُ الْحَيِّ بِلَحْمٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ يَحْرُمُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ، وَلَكِنْ فِي الذَّخِيرَةِ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْكَرَاهَةَ عَلَى التَّحْرِيمِ وَعَلَيْهِ فَهُمَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، فَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَ لَحْمِ الْمَكْرُوهِ وَالْمُبَاحِ، كَمَا يُكْرَهُ بَيْعُ الْحَيِّ مِنْ الْمَكْرُوهِ بِلَحْمِ الْحَيَوَانِ الْمُبَاحِ أَوْ الْمَكْرُوهِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا فِي الْأُجْهُورِيِّ أَنَّهُ يَجْرِي فِي مَكْرُوهِ الْأَكْلِ مِنْ الطَّيْرِ مَا جَرَى فِي مَكْرُوهِ الْأَكْلِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ. (وَلُحُومُ) مُبْتَدَأٌ (دَوَابِّ الْمَاءِ) كَضُفْدَعٍ وَسَمَكٍ وَتِمْسَاحٍ وَآدَمِيِّ الْمَاءِ وَكَلْبِ الْمَاءِ وَخِنْزِيرِهِ الْحَيِّ وَالْمَيِّتِ مِنْهَا (كُلِّهَا) وَخَبَرُ لُحُومُ (صِنْفٌ) وَاحِدٌ وَلَوْ اخْتَلَفَتْ مَرَقَتُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ الصَّبْرُ بِتَمْلِيحِهِ عَنْ أَصْلِهِ فَالْفَسْخُ لَا يَخْرُجُ عَنْ جِنْسِ الْحُلْوِ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: أَنَّ الْبَطَارِخَ فِي حُكْمِ الْمُودَعِ فِي السَّمَكِ وَلَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ فَيُبَاعُ بِالسَّمَكِ، وَلَوْ مُتَفَاضِلًا، كَمَا يُبَاعُ الطَّيْرُ وَلَحْمُهُ بِبَيْضِهِ وَلَوْ مُتَفَاضِلًا، وَلَوْ فِي قِيَاسِ الْبَطَارِخِ عَلَى الْبَيْضِ وَقْفَةٌ لِوُجُودِ الْفَارِقِ، وَأَيْضًا الْبَطَارِخُ كَالشَّحْمِ، وَالشَّحْمُ كَاللَّحْمِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَ) كُلُّ (مَا تَوَلَّدَ مِنْ لُحُومِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ) مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ أَوْ الطُّيُورِ أَوْ دَوَابِّ الْمَاءِ (مِنْ شَحْمٍ) أَوْ كَبِدٍ أَوْ قَلْبٍ أَوْ طِحَالٍ أَوْ رَأْسٍ (فَهُوَ كَلَحْمِهِ) بَلْ الْعَظْمُ وَالْمَرَقُ وَالْجِلْدُ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَرَقُ وَالْعَظْمُ وَالْجِلْدُ كَهُوَ، لَكِنْ إنْ كَانَ الْعَظْمُ مُتَّصِلًا فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ فِي حُرْمَةِ التَّفَاضُلِ؛ لِأَجْلِ الْعَظْمِ؛ لِأَنَّهُ كَاللَّحْمِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُنْفَصِلًا عَنْ اللَّحْمِ فَإِنَّمَا يَكُونُ كَاللَّحْمِ إذَا كَانَ يُمْكِنُ أَكْلُهُ كَالْقُرْقُوشَةِ إلَّا إنْ لَمْ يُمْكِنْ أَكْلُهُ فَإِنَّهُ يَصِيرُ أَجْنَبِيًّا كَنَوَى الْبَلَحِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: فَائِدَةُ كَوْنِ الْمُتَوَلِّدِ مِنْ اللَّحْمِ كَاللَّحْمِ حُرْمَةُ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ كَمَا مَرَّ فِي الْحُبُوبِ مَا لَمْ يَنْتَقِلْ اللَّحْمُ عَنْ أَصْلِهِ، وَإِلَّا جَازَ التَّفَاضُلُ وَنَقْلُ اللَّحْمِ الْمَطْبُوخِ عَنْ اللَّحْمِ النِّيءِ أَنْ يُطْبَخَ مَعَ شَيْءٍ مِنْ الْأَبْزَارِ، وَلَوْ الْخَفِيفَةَ كَالْأُرْزِ أَوْ الْبَصَلِ زِيَادَةً عَلَى الْمِلْحِ؛ لِأَنَّ الْجَمْعِيَّةَ لَا تُشْتَرَطُ، وَمِثْلُ طَبْخِ اللَّحْمِ بِالْأَبْزَارِ شَيُّهُ أَوْ تَجْفِيفُهُ بِالشَّمْسِ أَوْ الْهَوَاءِ بِالْأَبْزَارِ، وَأَمَّا طَبْخُهُ بِغَيْرِ أَبْزَارٍ فَلَا يَنْقُلُهُ عَنْ اللَّحْمِ النِّيءِ؛ لِأَنَّهُ صَلْقٌ، وَإِنْ نَقَلَهُ عَنْ الْحَيَوَانِ الْحَيِّ. الثَّانِي: لَوْ طُبِخَ لَحْمٌ مِنْ جِنْسَيْنِ فِي قِدْرٍ أَوْ قُدُورٍ، فَإِنْ طُبِخَا بِغَيْرِ أَبْزَارٍ أَوْ طُبِخَ أَحَدُهُمَا بِهَا وَالْآخَرُ بِدُونِهَا فَهُمَا بَاقِيَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فَيُبَاعُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ وَلَوْ مُتَفَاضِلًا، وَأَمَّا لَوْ طُبِخَا بِأَبْزَارٍ وَلَوْ فِي قِدْرَيْنِ فَقِيلَ هُمَا بَاقِيَانِ عَلَى اخْتِلَافِهِمَا، وَقِيلَ صَارَا جِنْسًا وَاحِدًا فَيَحْرُمُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا هُمَا مَعَ لَحْمٍ آخَرَ فَإِنْ كَانَ نِيئًا أَوْ مَطْبُوخًا بِغَيْرِ نَاقِلٍ فَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ بَيْنَهُمَا وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِهِمَا لِانْتِقَالِهِمَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَطْبُوخًا بِنَاقِلٍ لَجَرَى فِيهِ الْخِلَافُ. 1 - ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَلْبَانِ بِقَوْلِهِ: (وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ) الْمُتَقَدِّمِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ الْإِنْسِيِّ مِنْهُ وَالْوَحْشِيِّ كُلِّهَا صِنْفٌ وَاحِدٌ. (وَ) كَذَلِكَ (جُبْنُهُ وَسَمْنُهُ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا (صِنْفٌ) فَصِنْفٌ مُقَدَّرٌ فِي الْأَلْبَانِ وَالْجُبْنِ، وَلَا يَتَوَهَّمُ عَاقِلٌ فَضْلًا عَنْ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الثَّلَاثَةَ صِنْفٌ وَاحِدٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْجُزُولِيُّ تَقْدِيرُ كَلَامِهِ: وَأَلْبَانُ ذَلِكَ الصِّنْفِ صِنْفٌ وَجُبْنُهُ صِنْفٌ وَسَمْنُهُ صِنْفٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ يَجُوزُ بَيْعُ بَعْضِهِ بِبَعْضٍ مُتَمَاثِلًا لَا مُتَفَاضِلًا، فَلَا إشْكَالَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَالْعَلَّامَةُ خَلِيلٍ كَثِيرًا مَا يَسْلُكُ هَذِهِ الْعِبَارَةَ فَإِنَّهُ قَالَ: وَتَمْرٌ وَزَبِيبٌ وَلَحْمُ طَيْرٍ، وَهُوَ جِنْسُ الْمُرَادِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ جِنْسٌ، وَكَوْنُ أَلْبَانِ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ صِنْفًا يُوهِمُ أَنَّ لَبَنَ الْآدَمِيِّ صِنْفٌ آخَرُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْجَمِيعُ صِنْفٌ وَاحِدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُطْلَقُ لَبَنٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَلَوْ لَبَنُ آدَمِيِّ الْجَمِيعِ صِنْفٌ وَاحِدٌ، فَكَانَ الْأَحْسَنُ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ لَوْ قَالَ: وَجَمِيعُ الْأَلْبَانِ: صِنْفٌ لِيُوَافِقَ كَلَامَ خَلِيلٍ، وَلِيَشْمَلَ الْمَخِيضَ مِنْهُ وَالْمَضْرُوبَ وَالْحَلِيبَ، فَيُبَاعُ الْحَلِيبُ بِالْمَخِيضِ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَرَفْت مَا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ صِنْفٌ يَطْرَأُ عَلَيْك إشْكَالٌ، وَهُوَ إيهَامُ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ الْحَلِيبِ بِالسَّمْنِ أَوْ الْجُبْنِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ جِنْسٌ مُسْتَقِلٌّ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْحُكْمُ الْمَنْعُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمُزَابَنَةِ، وَأَنْوَاعُ اللَّبَنِ مِنْ فُرُوعِهَا سَبْعَةٌ: حَلِيبٌ، وَمَخِيضٌ، وَمَضْرُوبٌ وَجُبْنٌ وَزُبْدٌ وَسَمْنٌ وَأَقِطٌ، وَالصُّوَرُ الْحَاصِلَةُ مِنْ بَيْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ إذَا كَانَ شِرَاؤُهُ ذَلِكَ عَلَى وَزْنٍ أَوْ كَيْلٍ أَوْ عَدَدٍ. بِخِلَافِ الْجُزَافِ وَكَذَلِكَ كُلُّ طَعَامٍ أَوْ إدَامٍ أَوْ شَرَابٍ إلَّا الْمَاءَ وَحْدَهُ، وَمَا يَكُونُ مِنْ الْأَدْوِيَةِ وَالزَّرَارِيعِ الَّتِي لَا يُعْتَصَرُ مِنْهَا زَيْتٌ فَلَا   [الفواكه الدواني] الْأَنْوَاعِ بِبَعْضِهَا أَوْ غَيْرِهَا بَعْدَ إسْقَاطِ الْمُكَرَّرِ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ صُورَةً، فَبَيْعُ كُلِّ وَاحِدٍ بِنَوْعِهِ مُتَمَاثِلًا يَدًا بِيَدٍ جَائِزٌ فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ. وَيَجُوزُ بَيْعُ الْحَلِيبِ وَالزُّبْدِ وَالسَّمْنِ وَالْجُبْنِ بِوَاحِدٍ مِنْ الْمَخِيضِ وَالْمَضْرُوبِ مُتَمَاثِلًا، وَهَذِهِ ثَمَانِ صُوَرٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُ الْمَخِيضِ بِالْمَضْرُوبِ مُتَمَاثِلًا فَصَارَتْ الصُّوَرُ الْجَائِزَةُ سِتَّ عَشْرَةَ، وَبَقِيَ ثَلَاثٌ مُخْتَلَفٌ فِيهَا وَهِيَ بَيْعُ الْأَقِطِ بِالْمَخِيضِ وَالْمَضْرُوبِ وَبَيْعُ الْجُبْنِ بِالْأَقِطِ فَتَصِيرُ الصُّوَرُ الْجَائِزَةُ خِلَافًا وِفَاقًا تِسْعَ عَشْرَةَ صُورَةً، وَالصُّوَرُ الْبَاقِيَةُ مَمْنُوعَةٌ، وَهِيَ بَيْعُ الْحَلِيبِ بِالزُّبْدِ وَبِالسَّمْنِ وَبِالْجُبْنِ وَبِالْأَقِطِ وَبَيْعُ الزُّبْدِ بِمَا بَعْدَهُ وَبَيْعُ السَّمْنِ بِمَا بَعْدَهُ وَبَيْعُ الْجُبْنِ بِالْأَقِطِ. الثَّانِي: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ إيهَامِ جَوَازِ بَيْعِ اللَّبَنِ بِالسَّمْنِ أَوْ الْجُبْنِ لِاخْتِلَافِ الصِّنْفِيَّةِ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالصِّنْفِ الْجِنْسُ أَوْ النَّوْعُ، وَأَمَّا لَوْ أُرِيدَ بِالصِّنْفِ حَقِيقَتُهُ، وَهُوَ مَا كَانَ أَخَصَّ مِنْ الْجِنْسِ وَالنَّوْعِ فَلَا يَأْتِي الْإِيهَامُ الْمَذْكُورُ،؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الصِّنْفِ لَا يَقْتَضِي جَوَازَ بَيْعِ صِنْفٍ بِآخَرَ، وَإِنَّمَا الْمُقْتَضَى اخْتِلَافُ الْجِنْسِ وَلِذَلِكَ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» وَلَمْ يَقُلْ الْأَصْنَافُ، وَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ الِاخْتِلَافُ الْمُجَوِّزُ بِبَيْعِ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ مُتَفَاضِلًا لِلِاخْتِلَافِ فِي الْجِنْسِ أَوْ النَّوْعِ، أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْجَوَازِ الَّذِي يُوهِمُهُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ الْجَوَازُ فِي الْجُمْلَةِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي بَيْعِ السَّمْنِ بِالْجُبْنِ الَّذِي أَخْرَجَ زُبْدَةً، وَلَيْسَ الْمُرَادُ جَوَازَ كُلِّ الصُّوَرِ الْوَاقِعِ فِيهَا الِاخْتِلَافُ فَافْهَمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بِيَاعَاتٍ نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا) أَوْ أَخَذَهُ عِوَضًا عَنْ عَمَلٍ وَلَوْ كَرِزْقِ قَاضٍ أَوْ بَعْضِ الْجُنْدِ أَوْ أَخَذَ صَدَاقًا أَوْ أَرْضَ جِنَايَةٍ (فَلَا يَجُوزُ) لَهُ (بَيْعُهُ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ) بِكَيْلِهِ أَوْ وَزْنِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اشْتَرَى طَعَامًا فَلَا يَبِيعُهُ حَتَّى يَكْتَالَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ» وَفِي رِوَايَةٍ: «حَتَّى يَقْبِضَهُ» . وَاخْتُلِفَ فِي وَجْهِ الْحُرْمَةِ فَقِيلَ تَعَبُّدِيٌّ وَقِيلَ مُعَلَّلٌ بِأَنَّ غَرَضَ الشَّارِعِ سُهُولَةُ الْوُصُولِ إلَى الطَّعَامِ؛ لِيَتَوَصَّلَ إلَيْهِ الْقَوِيُّ وَالضَّعِيفُ، وَلَوْ جَازَ قَبْلَ قَبْضِهِ لَرُبَّمَا أُخْفِيَ بِإِمْكَانِ شِرَائِهِ مِنْ مَالِكِيهِ، وَبَيْعُهُ خُفْيَةً فَلَمْ يَتَوَصَّلْ إلَيْهِ الْفَقِيرُ، وَلِأَجْلِ نَفْعِ نَحْوِ الْكَيَّالِ وَالْحَمَّالِ، وَمَفْهُومُ ابْتَاعَ طَعَامًا أَنَّ غَيْرَهُ مِنْ حَيَوَانٍ أَوْ عَرَضٍ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا مُطْلَقُ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ وَلَوْ كَرِزْقِ قَاضٍ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مِنْ دُخُولِ رِزْقِ الْقُضَاةِ فِي طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ حُكْمِ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الشُّوَنِ لَا فِي مُقَابَلَةِ عَمَلِ مِمَّا أَصْلُهُ صَدَقَةٌ لِنَحْوِ الْفُقَرَاءِ، وَاسْتَمَرَّ جَارِيًا إلَى هَذَا الزَّمَنِ يَنْتَقِلُ مِنْ قَوْمٍ إلَى آخَرِينَ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ بَلْ هُوَ صَدَقَةٌ، وَالطَّعَامُ الْمُتَصَدَّقُ بِهِ يَجُوزُ لِلْمُتَصَدَّقِ عَلَيْهِ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ جَوَازِ بَيْعِ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ مَشْرُوطًا بِكَوْنِهِ أُخِذَ بِكَيْلٍ قَالَ: (إذَا كَانَ شِرَاؤُهُ ذَلِكَ) الطَّعَامِ (عَلَى كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ) ، وَهَذَا الْقَيْدُ مِنْ بَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ إنَّمَا وَرَدَ عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَالْقَبْضُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْكَيْلُ وَلَا الْوَزْنُ وَلَا الْعَدَدُ. [بَيْع الجزاف] (بِخِلَافِ) الْمُشْتَرَى لَا عَلَى الْمَكِيلِ بَلْ عَلَى وَجْهِ (الْجُزَافِ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ بِالْعَقْدِ جُزَافٌ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، وَأَمَّا مَا لَا يَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ إلَّا بِقَبْضِهِ فَإِنَّهُ كَالْمُشْتَرَى عَلَى الْكَيْلِ فِي حُرْمَةِ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ، كَلَبَنِ شَاةٍ اُشْتُرِيَ جُزَافًا، أَوْ ثَمَرَةٍ غَائِبَةٍ اُشْتُرِيَتْ عَلَى الصِّفَةِ جُزَافًا. قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى قَوْلِهِ: أُخِذَ بِكَيْلٍ بِقَوْلِهِ: أَوْ كَلَبَنِ شَاةٍ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: أَيْ أَوْ كَانَ كَلَبَنِ شَاةٍ، وَكَأَنْ قَالَ: أَخَذَ بِكَيْلٍ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، كَأَنْ يُسْلِمَ فِي لَبَنِ شَاةٍ أَوْ شِيَاهٍ مُعَيَّنَاتٍ بِشُرُوطٍ لِلْجَوَازِ، وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: كَوْنُ الْمَأْخُوذِ مِنْهَا مُعَيَّنَةً، وَكَثْرَةُ الشِّيَاهِ عِنْدَ الْبَائِعِ بِحَيْثُ إذَا تَعَذَّرَ أَخْذُ اللَّبَنِ مِنْ هَذِهِ يُؤْخَذُ مِنْ غَيْرِهَا، وَمَعْرِفَةُ قَدْرِ حِلَابِهَا، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى لَبَنًا كَيْلًا فِي كُلِّ يَوْمٍ كَأَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ فِي إبَّانِ اللَّبَنِ رِطْلًا أَوْ أَكْثَرَ مِنْ اللَّبَنِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَلَا يُشْتَرَطُ كَثْرَةُ الشِّيَاهِ عِنْدَ الْبَائِعِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: بِخِلَافِ الْجُزَافِ مُخَرَّجٌ مِمَّا قَبْلَهُ فَهُوَ مُخَالِفٌ لَهُ فِي الْحُكْمِ، بِشَرْطِ انْتِقَالِ الضَّمَانِ إلَى الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ بِصَدَدِ بَيَانِ الْجَائِزِ وَالْمَمْنُوعِ، فَقَوْلُ التَّتَّائِيِّ نَقْلًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ: إنَّهُ لَيْسَ مُخَالِفًا لِمَا قَبْلَهُ فِي الْحُكْمِ فِيهِ نَظَرٌ، بَلْ هُوَ مُخَالِفٌ لَهُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْجُزَافَ عَلَى قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ كَالْمَكِيلِ يَحْرُمُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَقِسْمٌ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ كَالْمَوْهُوبِ وَالْمُتَصَدَّقِ، بَلْ هُوَ مَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ مُشْتَرِيهِ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ، بِخِلَافِ الْأَوَّلِ لَا يَدْخُلُ فِي ضَمَانِ مُشْتَرِيهِ إلَّا بِقَبْضِهِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ حَمْلُ الطَّعَامِ السَّابِقِ عَلَى خُصُوصِ الرِّبَوِيِّ قَالَ: (وَكَذَلِكَ كُلُّ طَعَامٍ أَوْ إدَامٍ أَوْ شَرَابٍ) يَحْرُمُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَوْ مِمَّا يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ خَلِيلٍ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ قَوْلِهِ: وَجَازَ الْبَيْعُ قَبْلَ الْقَبْضِ إلَّا مُطْلَقُ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ رِبَوِيًّا كَانَ أَوْ غَيْرَهُ، كَالْفَوَاكِهِ وَنَحْوِهَا مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ بِقَرِينَةِ الِاسْتِثْنَاءِ الَّذِي هُوَ مِعْيَارُ الْعُمُومِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا الْمَاءَ وَحْدَهُ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 يَدْخُلُ ذَلِكَ فِيمَا يَحْرُمُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَوْ التَّفَاضُلِ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الطَّعَامِ الْقَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ وَلَا بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِقَالَةِ فِي الطَّعَامِ الْمَكِيلِ قَبْلَ قَبْضِهِ. وَكُلُّ عَقْدِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ كِرَاءٍ بِخَطَرٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] بِطَعَامٍ بِدَلِيلِ جَوَازِ بَيْعِهِ بِالطَّعَامِ إلَى أَجَلٍ، كَمَا لَوْ مَرَّ وَلَوْ كَانَ مَاءَ زَمْزَمَ، وَإِنْ قَالَ فِيهِ ابْنُ شَعْبَانَ: إنَّهُ طَعَامٌ فَإِنَّهُ مُؤَوَّلٌ. (وَ) إلَّا (مَا يَكُونُ مِنْ) أَنْوَاعِ (الْأَدْوِيَةِ) كَالصَّبْرِ وَالْحُلْبَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّهَا دَوَاءٌ. (وَ) إلَّا (الزَّرَارِيعَ) جَمْعُ زَرِيعَةٍ (الَّتِي) شَأْنُهَا أَنْ (لَا يُعْتَصَرَ مِنْهَا زَيْتٌ) بَلْ تُؤْكَلُ عَلَى حَالِهَا كَحَبِّ الْفُجْلِ الْأَبْيَضِ وَحَبِّ السَّلْقِ وَالْجَزَرِ وَاللُّفْتِ وَحَبِّ الْبَصَلِ، وَزَادَ بَعْضٌ مَا يُعْتَصَرُ مِنْهُ زَيْتٌ لِلْوَقُودِ كَبَذْرِ الْكَتَّانِ. (فَلَا يَدْخُلُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْمَاءِ، وَمَا بَعْدَهُ (فِيمَا يَحْرُمُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ بَلْ قَبْضُهُ وَ) لَا يَدْخُلُ فِيمَا يَحْرُمُ (التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ) بَلْ يَجُوزُ بَيْعُهَا قَبْلَ قَبْضِهَا، وَيَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهَا؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ لَيْسَتْ مِنْ مُطْلَقِ الطَّعَامِ، وَقَوْلُنَا شَأْنُهَا أَنْ لَا يُعْتَصَرَ مِنْهَا زَيْتٌ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَحْوِ الزَّيْتُونِ وَحَبِّ السِّمْسِمِ الْمَعْرُوفِ بِالْجُلْجُلَانِ وَالْقُرْطُمِ، وَمُصْلِحَاتِ الطَّعَامِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ فَإِنَّهَا مِنْ الطَّعَامِ حُكْمًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُصْلِحُهُ كَمِلْحٍ وَبَصَلٍ وَثُومٍ وَتَابِلٍ كَفُلْفُلٍ وَكُزْبَرَةٍ وَأَنِيسُونَ وَشَمَارٍ وَكَمُّونَيْنِ. قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ أَنَّ مُصْلِحَ الطَّعَامِ كَالطَّعَامِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الزَّرَارِيعَ أَرْبَعَةُ أَقْسَامٍ: مَا لَا يُعْتَصَرُ مِنْهُ زَيْتٌ وَيُؤْكَلُ حَبًّا، وَمَا يُعْصَرُ مِنْهُ شَيْءٌ لِغَيْرِ الْأَكْلِ، وَهَذَانِ الْقِسْمَانِ يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا، وَهُمَا كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَقِسْمَانِ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُمَا قَبْلَ قَبْضِهِمَا، وَهُمَا: مَا يُعْصَرُ مِنْهُ شَيْءٌ يُؤْكَلُ كَالْجُلْجُلَانِ وَنَحْوِهِ، وَمَا لَا يُعْصَرُ مِنْهُ وَيُؤْكَلُ عَلَى حَالِهِ كَالْحَبَّةِ السَّوْدَاءِ أَوْ الشَّمَرِ وَالْكَمُّونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مُصْلِحٌ لِلطَّعَامِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَفْهُومَ ابْتَاعَ الَّذِي هُوَ طَعَامُ الْمُعَاوَضَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ طَعَامِ الْقَرْضِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَوْفِيَهُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَالنَّائِبُ ضَمِيرُ الطَّعَامِ وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ اقْتَرَضَ طَعَامًا مِنْ شَخْصٍ لَمْ يَشْتَرِهِ أَوْ اشْتَرَاهُ وَقَبَضَهُ أَنْ يَبِيعَهُ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ مُقْرِضِهِ، وَمِثْلُهُ الْمَمْلُوكُ مِنْ نَحْوِ صَدَقَةٍ وَلَوْ اقْتَرَضَهُ عَلَى الْكَيْلِ، وَكَمَا يَجُوزُ لِلْمُقْتَرِضِ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ يَجُوزُ لَهُ دَفْعُهُ وَفَاءً عَنْ قَرْضٍ فِي ذِمَّتِهِ، وَقَيَّدْنَا بِكَوْنِ الْقَرْضِ مِنْ غَيْرِ مُشْتَرٍ لَمْ يَقْبِضْهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّنْ اشْتَرَى طَعَامًا وَلَمْ يَقْبِضْهُ ثُمَّ أَقْرَضَهُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِذَلِكَ الْمُقْتَرِضِ بَيْعُهُ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَيَجْرِي هَذَا الْقَيْدُ فِي الطَّعَامِ الْمُتَصَدَّقِ بِهِ وَالْمَوْهُوبِ، فَشَرْطُ جَوَازِ بَيْعِهِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ مُشْتَرٍ لَمْ يَقْبِضْهُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ تَوَالِي عُقْدَتَيْ بَيْعٍ لَمْ يَتَخَلَّلْهُمَا قَبْضٌ. (تَنْبِيهٌ) إذَا قُلْنَا: يَجُوزُ بَيْعُ طَعَامِ الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِهِ فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ لِلْمُقْتَرِضِ أَنْ يَبِيعَهُ مِنْ الْمُقْرِضِ، وَمِنْ غَيْرِهِ، لَكِنْ إنْ بَاعَهُ لِلْمُقْرِضِ يَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ إذَا حَصَلَ نَقْدُ الثَّمَنِ، وَأَمَّا لَوْ بَاعَهُ إلَى أَجَلٍ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، فَإِنْ بَاعَهُ الْمُقْتَرِضُ لِأَجْنَبِيٍّ فَيَجُوزُ بِكُلِّ شَيْءٍ أَيْضًا إذَا كَانَ نَقْدًا، وَأَمَّا لِأَجَلٍ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ فِيهِ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ هَكَذَا قَالَ الشَّاذِلِيُّ، وَحَاصِلُ كَلَامِ الشَّاذِلِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهُ مِنْ غَيْرِ أَجَلٍ سَوَاءٌ بَاعَهُ بِعَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيَمْتَنِعُ إلَى أَجَلٍ سَوَاءٌ بَاعَهُ لِقَرْضِهِ أَوْ غَيْرِهِ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ قَالَ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ شَامِلٌ لِمَا إذَا بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِمُقْرِضِهِ، وَهَذَا ظَاهِرٌ إذَا بَاعَهُ لَهُمَا بِغَيْرِ طَعَامٍ مُطْلَقًا، وَإِلَّا امْتَنَعَ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيْعِ طَعَامٍ بِطَعَامٍ لِأَجَلٍ، وَإِذَا بَاعَهُ لِمُقْرِضِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ قَيْدٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَجَلُ الْقَرْضِ إلَى أَجَلِ السَّلَمِ أَوْ أَكْثَرَ، فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِطَعَامٍ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ لِأَجَلِ السَّلَمِ لِرِبَا النَّسَاءِ، وَلَا بَيْعُهُ لِمُقْرِضِهِ بِنَقْدٍ أَوْ عَرَضٍ حَيْثُ كَانَ أَجَلُ الْقَرْضِ أَقَلَّ مِنْ أَجَلِ السَّلَمِ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ يُعَدُّ لَغْوًا. قَالَ الْأَمْرُ إلَى أَنَّ الْمُقْرِضَ دَفَعَ نَقْدًا أَوْ عَرَضًا فِي طَعَامٍ مِثْلِ الْقَرْضِ قَدْرًا وَصِفَةً يَأْخُذُهُ بَعْدَ أَجَلِ الْقَرْضِ، وَهَذَا سَلَمٌ، فَيُشْتَرَطُ فِي أَجَلِ الْقَرْضِ أَنْ يَكُونَ قَدْرَ أَجَلِ السَّلَمِ أَوْ أَكْثَرَ كَلَامِهِ، وَتَلَخَّصَ مِنْ كَلَامِ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ طَعَامِ الْقَرْضِ قَبْلَ قَبْضِهِ عَلَى الْحُلُولِ مُطْلَقًا أَيْ لِلْمُقْتَرِضِ أَوْ غَيْرِهِ وَلَوْ بِطَعَامٍ، وَلَا يَجُوزُ إلَى أَجَلٍ عَلَى كَلَامِ الشَّاذِلِيِّ مُطْلَقًا، وَأَمَّا عَلَى كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ فَلَا يَمْتَنِعُ إلَّا بِالطَّعَامِ مُطْلَقًا أَوْ بِغَيْرِهِ، حَيْثُ كَانَ الْبَيْعُ لِمُقْرِضِهِ وَكَانَ الْأَجَلُ أَقَلَّ مِنْ أَجَلِ السَّلَمِ، إلَّا إنْ كَانَ لِأَجْنَبِيٍّ مُطْلَقًا أَوْ لِلْمُقْرِضِ إلَى قَدْرٍ أَوْ أَكْثَرَ مِنْ أَجَلِ السَّلَمِ فَيَجُوزُ، وَانْظُرْ الرَّاجِحَ مِنْ الْكَلَامَيْنِ. وَلَمَّا وَقَعَ فِي حَدِيثِ النَّهْيِ الْآتِي عَنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ اسْتِثْنَاءُ التَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ وَالْإِقَالَةِ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ) فِي طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَحَقِيقَةُ الشَّرِكَةِ هُنَا جَعْلُ مُشْتَرٍ قَدْرًا لِغَيْرِ بَائِعِهِ بِاخْتِيَارِهِ مِمَّا اشْتَرَاهُ لِنَفْسِهِ بِمَا نَابَهُ مِنْ ثَمَنِهِ. (وَ) كَذَلِكَ التَّوْلِيَةُ لَا بَأْسَ بِهَا فِي طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَحَقِيقَتُهَا أَنْ يُجْعَلَ الطَّعَامُ الَّذِي اشْتَرَاهُ لِغَيْرِ بَائِعِهِ بِثَمَنِهِ، وَهِيَ فِي الطَّعَامِ غَيْرُ جُزَافٍ قَبْلَ كَيْلِهِ رُخْصَةً، فَمَنْ اشْتَرَى حِصَّةً مِنْ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ عَلَى الْكَيْلِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَدْفَعَهَا لِغَيْرِهِ بِثَمَنِهَا. (وَ) كَذَلِكَ (الْإِقَالَةُ) لَا بَأْسَ بِهَا كَالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ (فِي) جَمِيعِ (الطَّعَامِ الْمَكِيلِ قَبْلَ قَبْضِهِ) ، وَإِنَّمَا جَازَتْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ فِي طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ لِشَبَهِهَا بِالْقَرْضِ فِي الْمَعْرُوفِ لِخَبَرِ أَبِي دَاوُد وَغَيْرِهِ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ ابْتَاعَ طَعَامًا فَلَا يَبِعْهُ حَتَّى يَسْتَوْفِيَهُ إلَّا مَا كَانَ مِنْ شَرِكَةٍ وَتَوْلِيَةٍ، وَإِقَالَةٍ» ، وَهِيَ تَرْكُ الْمَبِيعِ لِبَائِعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 غَرَرٍ فِي ثَمَنٍ أَوْ مَثْمُونٍ أَوْ أَجَلٍ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَرَرِ، وَلَا بَيْعُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ، وَلَا إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَلَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ التَّدْلِيسُ، وَلَا الْغِشُّ وَلَا الْخِلَابَةُ وَلَا الْخَدِيعَةُ، وَلَا كِتْمَانُ الْعُيُوبِ، وَلَا خَلْطُ دَنِيءٍ بِجَيِّدٍ. وَلَا أَنْ يَكْتُمَ مِنْ أَمْرِ   [الفواكه الدواني] بِثَمَنِهِ، لَكِنْ شَرَطَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ لِجَوَازِ الْإِقَالَةِ مِنْ طَعَامِ الْمُعَاوَضَةِ قَبْلَ قَبْضِهِ أَنْ تَقَعَ مِنْ جَمِيعِهِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَتْ الْإِقَالَةُ مِنْ بَعْضِهِ فَلَا تَجُوزُ إلَّا إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ عَرَضًا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ مُطْلَقًا أَوْ كَانَ عَيْنِيًّا، أَوْ طَعَامًا لَمْ يُقْبَضْ أَوْ قُبِضَ وَلَمْ يَغِبْ عَلَيْهِ أَوْ غَابَ غَيْبَةً لَمْ يُمْكِنْ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهَا، وَأَمَّا لَوْ غَابَ بِهِ غَيْبَةً يُمْكِنُهُ الِانْتِفَاعُ بِهِ فِيهَا لَمْ تَجُزْ مِنْ الْبَعْضِ وَالطَّعَامُ وَغَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، وَمَفْهُومُ الْمَكِيلِ وَقَبْلَ قَبْضِهِ جَوَازُ الْإِقَالَةِ مِنْ الْجَمِيعِ الْمُشْتَرَى جُزَافًا أَوْ مَكِيلًا بَعْدَ قَبْضِهِ بِالْأَوْلَى، وَشَرَطُوا لِجَوَازِ التَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ أَنْ يَسْتَوِيَ عَقْدَاهُمَا فِيهِمَا حُلُولًا وَتَأْجِيلًا وَفِي رَأْسِ الْمَالِ، وَأَنْ لَا يَشْتَرِطَ الْمُشْرِكُ بِكَسْرِ الرَّاءِ عَلَى الْمُشْرَكِ بِفَتْحِهَا أَنْ يَنْقُدَ عَنْهُ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ، وَإِقَالَةٌ مِنْ الْجَمِيعِ وَتَوْلِيَةٌ وَشَرِكَةٌ: إنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى أَنْ يَنْقُدَ عَنْك وَاسْتَوَى عَقْدَاهُمَا فِيهَا، وَإِلَّا فَبِيعَ كَغَيْرِهِ فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُمَا إلَّا بَعْدَ الْقَبْضِ، وَبَقِيَ شَرْطٌ ثَالِثٌ فِي التَّوْلِيَةِ وَالشَّرِكَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ عَيْنًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَيْرُهَا فَلَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْهُمَا قَبْلَ قَبْضِ الطَّعَامِ، خِلَافًا لِأَشْهَبَ فِي الْقَرْضِ الْمِثْلِيِّ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا، وَمِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنْ لَا بَأْسَ فِي كَلَامِهِ بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الطَّالِبُ لِمَا ذَكَرَ الْآخِذَ أَوْ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ. الثَّانِي: إذَا قَالَ الطَّالِبُ لِلشَّرِكَةِ لِلْمُشْتَرَكِ لَهُ: أَشْرِكْنِي فَإِنْ سَمَّى لَهُ جُزْءًا مَعْلُومًا فَلَا إشْكَالَ، وَأَمَّا لَوْ أَطْلَقَ لَهُ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ مَعَهُ النِّصْفَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَسْئُولُ اثْنَيْنِ فَإِنْ سَأَلَهُمَا مُجْتَمِعَيْنِ أَوْ مُنْفَرِدَيْنِ، وَكَانَ السُّؤَالُ بِلَفْظِ أَشْرِكَانِي وَاسْتَوَتْ أَنْصِبَاؤُهُمَا فَلَهُ الثُّلُثُ، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَتْ أَوْ قَالَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مُنْفَرِدٍ عَنْ غَيْرِهِ: أَشْرِكْنِي فَلَهُ نِصْفُ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ. [الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَنْ الْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ عَقْدِ بَيْعٍ) ، وَهُوَ مَا تُمْلَكُ بِهِ الذَّاتُ وَقَدْ مَرَّ حَدُّهُ (وَ) عَقْدِ (إجَارَةٍ) ، وَهُوَ الْعَقْدُ عَلَى مَنْفَعَةِ الْعَاقِلِ غَالِبًا (أَوْ) عَقْدِ (كِرَاءٍ) ، وَهُوَ مَا تُمْلَكُ بِهِ مَنْفَعَةُ الدَّوَابِّ وَالدُّورِ وَقَدْ وَقَعَ مُتَلَبِّسًا (بِخَطَرٍ أَوْ غَرَرٍ) تَفْسِيرُ الْخَطَرِ وَحَقِيقَةُ الْغَرَرِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَا شَكَّ فِي حُصُولِ عِوَضَيْهِ أَوْ الْمَقْصُودِ مِنْهُ غَالِبًا، وَالْغَرَرُ حَرَامٌ سَوَاءٌ كَانَ (فِي ثَمَنٍ) ، وَهُوَ مَا يَدْفَعُهُ الْمُشْتَرِي (أَوْ) فِي (مَثْمُونٍ) ، وَهُوَ مَا يَدْفَعُهُ الْبَائِعُ، وَالْمُرَادُ أَحَدُ الْعِوَضَيْنِ أَوْ هُمَا كَانَ الْعَقْدُ بَيْعًا أَوْ غَيْرَهُ. (وَ) كَانَ الْخَطَرُ فِي (أَجَلٍ فَلَا يَجُوزُ) وَالْأَصْلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْفَسَادُ؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِوَضًا، وَمُعَوَّضًا، وَالْأَصْلُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الْعِوَضِ، فَلَا بُدَّ مِنْ عِلْمِ ابْتِدَائِهِ وَانْتِهَائِهِ بِقَوْلِهِ: فَلَا يَجُوزُ خَبَرُ كُلِّ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً، وَقُرِنَ بِالْفَاءِ لِمَا فِي كُلِّ مِنْ الْعُمُومِ فَاكْتَسَى شَبَهًا لِمَا شُرِطَ. مِثَالُ الْغَرَرِ فِي الثَّمَنِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً مُعَيَّنَةً بِعَبْدٍ آبِقٍ أَوْ بِمَا فِي يَدِهِ أَوْ صُنْدُوقِهِ، وَالْبَائِعُ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ. وَمِثَالُ الْغَرَرِ فِي الْمَثْمُونِ أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ عَبْدًا آبِقًا أَوْ دَابَّةً فِي السِّبَاقِ، وَلَوْ مُبَاحَةَ الْأَكْلِ أَوْ مُشْرِفَةً، وَهِيَ مُحَرَّمَةُ الْأَكْلِ. وَمِثَالُ الْغَرَرِ فِي الْأَجَلِ فِي الْبَيْعِ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً بِثَمَنٍ إلَى الْيَسَارِ أَوْ حَتَّى يَقْدُمَ زَيْدٌ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْغَرَرِ) قَالَ خَلِيلٌ: كَبَيْعِهَا بِقِيمَتِهَا أَوْ عَلَى حُكْمِهِ أَوْ حُكْمِ غَيْرٍ أَوْ رِضَاهُ. (وَلَا بَيْعُ شَيْءٍ مَجْهُولٍ) كَبَيْعِهِ مَا فِي صُنْدُوقِهِ أَوْ مَا فِي يَدِهِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَعْلَمُهُ الْمُشْتَرِي أَوْ الْبَائِعُ. (وَلَا) الْبَيْعُ (إلَى أَجَلٍ مَجْهُولٍ) كَأَبِيعُكَ هَذِهِ السِّلْعَةَ، وَالثَّمَنُ مِنْ أَوْلَادِهَا أَوْ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَسَارُ (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْحُكْمَ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ مُلْتَبِسًا بِغَرَرٍ وَحُكْمُهُ الْفَسْخُ قَبْلَ الْفَوَاتِ، فَإِنْ حَصَلَ الْفَوَاتُ بِتَغَيُّرِ الذَّاتِ فِي الْبَيْعِ أَوْ اُسْتُوْفِيَتْ الْمَنَافِعُ فِي الْإِجَارَةِ وَالْكِرَاءِ فَالْوَاجِبُ فِي الْبَيْعِ غُرْمُ قِيمَةِ السِّلْعَةِ حَيْثُ اُتُّفِقَ عَلَى الْفَسَادِ أَوْ الثَّمَنِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِ، وَالْوَاجِبُ فِي الْمَنَافِعِ أُجْرَةُ أَوْ كِرَاءُ الْمِثْلِ. الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ الْغَرَرِ مَا قَلَّ، قَالَ خَلِيلٌ: وَاغْتُفِرَ غَرَرٌ يَسِيرٌ لِلْحَاجَةِ لَمْ يُقْصَدْ كَأَسَاسِ الدَّارِ الْمَبِيعَةِ وَكَالْجُبَّةِ الْمَحْشُوَّةِ، وَأَمَّا السَّمَكُ فِي الْمَاءِ أَوْ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ فَمُمْتَنِعٌ إجْمَاعًا وَأَمَّا بَيْعُ السِّلْعَةِ بِقِيمَتِهَا أَوْ بِمَا يَحْكُمُ بِهِ فُلَانٌ فَفِيهِ خِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ فِيهِ عَدَمُ الْجَوَازِ، وَقَيَّدَ خَلِيلٌ الْغَرَرَ الْيَسِيرَ بِعَدَمِ قَصْدِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْيَسِيرِ الَّذِي يُقْصَدُ لِشِرَاءِ الْحَيَوَانِ بِشَرْطِ حَمْلِهِ، حَيْثُ كَانَ حَمْلُهُ يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ وَذَلِكَ فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ فَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ. الثَّالِثُ: إنَّمَا أَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذِهِ الْكُلِّيَّةِ لِيُنَبِّهَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ الْبَيْعِ عِلْمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ لِكُلٍّ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَإِلَّا وَقَعَ فَاسِدًا حَيْثُ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى اللُّزُومِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ عَلَى خِيَارِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ رُؤْيَتِهِ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ الْبَائِعُ، وَلَا غَيْرُهُ نَوْعَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَغَائِبٌ وَلَوْ بِلَا وَصْفٍ عَلَى خِيَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ. (وَ) كَذَا (لَا يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ التَّدْلِيسُ) ، وَهُوَ كِتْمَانُ عَيْبِ السِّلْعَةِ عَنْ الْمُشْتَرِي وَقْتَ الْعَقْدِ مَعَ ذِكْرِهِ. (وَلَا) يَجُوزُ فِيهَا (الْغِشُّ) ، وَهُوَ أَنْ يُحْدِثَ فِي السِّلْعَةِ مَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 سِلْعَتِهِ مَا إذَا ذَكَرَهُ كَرِهَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ كَانَ ذِكْرُهُ أَبْخَسَ لَهُ فِي الثَّمَنِ. وَمَنْ ابْتَاعَ عَبْدًا فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ أَوْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ إلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ فَلَهُ أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدَّهُ وَيَرُدَّ مَا   [الفواكه الدواني] يُوهِمُ زِيَادَتَهَا أَوْ جَوْدَتَهَا، كَخَلْطِ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ، وَكَسَقْيِ الْحَيَوَانِ عِنْدَ بَيْعِهِ لِيُوهِمَ أَنَّهُ سَمِينٌ، وَكَتَطْرِيرِ الْكِتَابِ لِيُوهِمَ أَنَّهُ مُقَابَلٌ أَوْ مَقْرُوءٌ. (وَلَا) يَجُوزُ فِي الْبُيُوعِ أَيْضًا (الْخِلَابَةُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ الْمَفْتُوحَةِ الْمُخَفَّفَةِ، وَهِيَ الْكَذِبُ فِي ثَمَنِهَا إمَّا بِلَفْظٍ أَوْ كِنَايَةٍ. (وَلَا الْخَدِيعَةُ) بِأَنْ يَفْعَلَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ مَعَ مُرِيدِ الشِّرَاءِ مَا يُوجِبُ الِاسْتِحْيَاءَ مِنْهُ، كَأَنْ يُجْلِسَهُ عِنْدَهُ وَيُحْضِرَ لَهُ شَيْئًا مِنْ الْمَأْكُولِ أَوْ الْمَشْرُوبِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ. (وَلَا كِتْمَانُ الْعُيُوبِ) ؛ لِأَنَّهُ تَدْلِيسٌ، وَهُوَ حَرَامٌ. (وَلَا) يَجُوزُ لِمُرِيدِ الْبَيْعِ أَيْضًا (خَلْطُ دَنِيءٍ) مِنْ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ أَوْ عُرُوضٍ بِجَيِّدٍ فَإِنَّ هَذَا مِنْ الْغِشِّ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْأَنْسَبُ لِمَقَامِ الِاخْتِصَارِ حَذْفَ قَوْلِهِ: وَلَا كِتْمَانُ الْعُيُوبِ؛ لِأَنَّهُ عَيْنُ التَّدْلِيسِ الَّذِي قَدَّمَهُ، وَمَا بَعْدَهُ؛ لِأَنَّهُ مُكَرَّرُهُ مَعَ مَا قَبْلَهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: إنَّهُ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: وَلَا كِتْمَانُ الْعُيُوبِ تَفْسِيرُ التَّدْلِيسِ، وَبِقَوْلِهِ: وَلَا خَلْطُ دَنِيءٍ بِجَيِّدٍ تَفْسِيرُ الْغِشِّ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْبَيْعِ الْوَاقِعُ فِيهِ مَا ذَكَرَ، وَمُحَصَّلُهُ: أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ عِنْدَ فَوَاتِ السِّلْعَةِ فِي الْغِشِّ وَالْخِلَابَةِ وَالْخَدِيعَةِ، سَوَاءٌ كَانَ الْبَيْعُ مُرَابَحَةً أَوْ غَيْرَهَا، وَأَمَّا فِي التَّدْلِيسِ بِالْعُيُوبِ فَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِأَرْشِ الْعَيْبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُخْرَجُ عَنْ الْمَقْصُودِ مُفِيتٌ فَالْأَرْشُ، وَأَمَّا عِنْدَ قِيَامِ السِّلْعَةِ فَالْخِيَارُ لِلْمُشْتَرِي بَيْنَ التَّمَاسُكِ بِالسِّلْعَةِ بِجَمِيعِ الثَّمَنِ، وَلَا شَيْءَ فِي نَظِيرِ الْعَيْبِ؛ لِأَنَّ خِبْرَتَهُ تَنْفِي ضَرَرَهُ مَعَ قِيَامِهَا بِحَالِهَا مِنْ غَيْرِ حُدُوثِ شَيْءٍ فِيهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي، كَمَا يَأْتِي ذَلِكَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالرَّدِّ. 1 - (فَرْعَانِ) لَوْ بَاعَ شَخْصٌ حَجَرًا ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ جَوْهَرٌ أَوْ ذَهَبٌ، فَإِنْ اشْتَرَاهُ مَعَ النِّدَاءِ عَلَيْهِ بِاسْمِهِ الْعَامِّ فَلَا يُرَدُّ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إذَا لَمْ يُسَمَّ بَلْ وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى رُؤْيَةِ ذَاتِهِ، وَأَمَّا إنْ بَاعَهُ بِاسْمِ غَيْرِهِ كَأَبِيعُكَ هَذِهِ الزُّجَاجَةَ فَيَجِدُهَا الْمُشْتَرِي يَاقُوتَةً لَمْ يَلْزَمْ الْبَائِعَ اتِّفَاقًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْ أَرَهُ يَغْلَطُ إنْ سَمَّى بِاسْمِهِ وَلَا يُعَيَّنُ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ حَيْثُ كَانَ الْبَائِعُ مَالِكًا رَشِيدًا لَا إنْ كَانَ وَكِيلًا أَوْ وَصِيًّا. 1 - الْفَرْعُ الثَّانِي: فَلَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ سَمَكَةً فَوَجَدَ فِي بَطْنِهَا سَمَكَةً أُخْرَى فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ لِلْمُشْتَرِي حَيْثُ اشْتَرَاهُمَا بِالْوَزْنِ، وَإِلَّا كَانَتْ الثَّانِيَةُ لِلْبَائِعِ، وَأَمَّا لَوْ وَجَدَ فِي بَطْنِهَا جَوْهَرَةً أَوْ نَحْوَهَا فَقِيلَ لِلْمُشْتَرِي وَقِيلَ لِلْبَائِعِ، وَمَحَلُّ الْخِلَافِ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا عَلَامَةُ الْمِلْكِ، وَإِلَّا كَانَتْ لُقَطَةً، وَأَمَّا الْخَرَزَةُ الْبَدَنِيَّةُ فَهِيَ لِلْمُشْتَرِي اتِّفَاقًا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ أَخَصُّ مِمَّا يَجِبُ بَيَانُهُ عَلَى الْبَائِعِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ لِمُرِيدِ الْبَيْعِ مُرَابَحَةً أَوْ مُسَاوَمَةً (أَنْ يَكْتُمَ مِنْ أَمْرِ سِلْعَتِهِ مَا) أَيْ الْأَمْرَ الَّذِي (إذَا ذَكَرَهُ) الْبَائِعُ (كَرِهَهُ الْمُبْتَاعُ أَوْ كَانَ ذِكْرُهُ أَبْخَسَ لَهُ) أَيْ لِلْمَبِيعِ (فِي الثَّمَنِ) لِاقْتِضَائِهِ نَقْصَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ تَبْيِينُ مَا يُكْرَهُ كَثَوْبِ الْأَجْذَمِ أَوْ الْأَجْرَبِ أَوْ الْمَيِّتِ وَالْمُشْتَرِي بَدْوِيٌّ، وَمَفْهُومُهُ أَنَّ مَا لَا يَكْرَهُهُ الْمُبْتَاعُ لَا يَجِبُ بَيَانُهُ، وَإِنْ كَرِهَهُ غَيْرُهُ، فَلَوْ وَقَعَ وَكَتَمَ الْبَائِعُ شَيْئًا مِمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيَانُهُ فَالْحُكْمُ أَنَّ الْخِيَارَ لِلْمُشْتَرِي مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ، وَمَعَ الْفَوَاتِ يَلْزَمُهُ الْأَقَلُّ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْكِتْمَانَ لَمَّا يَجِبُ بَيَانُهُ مِنْ الْغِشِّ. قَالَ ابْنُ نَاجِي: وَأُخِذَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَغَيْرِهِ أَيْضًا حُرْمَةُ الشِّرَاءِ بِدَرَاهِمِ الْكِيمْيَاءِ؛ لِأَنَّ مَنْ عَلِمَ بِهَا يَكْرَهُهَا وَلَوْ أُخْبِرَ بِعَدَمِ تَغَيُّرِهَا، وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِيهَا مَعَ خَوْفِهِ عَلَى نَفْسِهِ عِنْدَ الْبَيَانِ، وَنَصَّ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ عَلَى تَجْرِيحِ الْمُشْتَغِلِ بِمُطْلَقِ عِلْمِ الْكِيمْيَاءِ، وَأَفْتَى أَبُو الْحَسَنِ الْمُنْتَصِرِ بِمَنْعِ إمَامَةِ الْمُشْتَغِلِ بِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَ مَا ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ مِنْ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ عَلَى صُبْرَةِ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بِلَّةً فَقَالَ: مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟ قَالَ: أَصَابَهُ الْمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلَا جَعَلْته فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ؟ مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» أَيْ لَيْسَ عَلَى سُنَّتِنَا،؛ لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَكْفُرُ بِفِعْلِ الْمُحَرَّمِ إلَّا إذَا اسْتَحَلَّهُ، وَيَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُعَزِّرَ مَنْ فَعَلَهَا، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ تَعْزِيرُهُ لِكُلِّ مَعْصِيَةٍ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى حُكْمِ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً وَدَلَّسَ عَلَيْهِ بَائِعُهَا بِعَيْبِهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ ابْتَاعَ) أَيْ اشْتَرَى (عَبْدًا) أَوْ غَيْرَهُ وَقَبَضَهُ (فَوَجَدَ بِهِ عَيْبًا قَدِيمًا) لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي حِينَ الْعَقْدِ، وَمِثْلُ الْقَدِيمِ الْحَادِثُ فِي زَمَنِ خِيَارِ التَّرَوِّي، وَالْعَادَةُ السَّلَامَةُ مِنْهُ كَالْإِبَاقِ وَالْجُذَامِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُدَّ بِمَا الْعَادَةُ السَّلَامَةُ مِنْهُ. (فَلَهُ أَنْ يَحْبِسَهُ وَلَا شَيْءَ لَهُ) عَلَى الْبَائِعِ فِي نَظِيرِ الْعَيْبِ (أَوْ يَرُدَّهُ وَيَأْخُذَ ثَمَنَهُ) إلَّا أَنْ يَطَّلِعَ عَلَى الْعَيْبِ وَيَسْكُتَ، أَوْ يَأْتِيَ بِمَا يَدُلُّ عَلَى رِضَاهُ بِهِ كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَاسْتِخْدَامِ الْعَبْدِ فَلَيْسَ لَهُ رَدُّهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تُصَرُّوا الْغَنَمَ» - وَفِي رِوَايَةٍ «الْإِبِلَ -، وَمَنْ ابْتَاعَهَا فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ بَعْدَ أَنْ يَحْلُبَهَا، إنْ رَضِيَهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ سَخِطَهَا رَدَّهَا وَصَاعًا مِنْ تَمْرٍ» وَالتَّصْرِيَةُ تَرْكُ الْحِلَابِ حَتَّى يَعْظُمَ الضَّرْعُ وَيَتَوَهَّمُ الْمُشْتَرِي كَثْرَةَ اللَّبَنِ، وَهَذَا إشَارَةٌ إلَى خِيَارِ النَّقِيصَةِ، وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: لَقَبٌ لِتَمْكِينِ الْمُبْتَاعِ مِنْ رَدِّ مَبِيعِهِ عَلَى بَائِعِهِ لِنَقْصِهِ عَنْ حَالَةٍ بِيعَ عَلَيْهَا غَيْرَ قِلَّةِ كَمِّيَّةٍ قَبْلَ ضَمَانِهِ مُبْتَاعَهُ، فَقَوْلُهُ: لِنَقْصِهِ أَخْرَجَ بِهِ مَا إذَا أَقَالَهُ الْبَائِعُ مِنْ الْمَبِيعِ فَإِنَّ لَهُ رَدَّهُ عَلَى بَائِعِهِ، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ قِلَّةِ كَمِّيَّةٍ صِفَةٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 نَقَصَهُ الْعَيْبُ عِنْدَهُ، وَإِنْ رَدَّ عَبْدًا بِعَيْبٍ وَقَدْ اسْتَغَلَّهُ فَلَهُ غَلَّتُهُ. وَالْبَيْعُ عَلَى الْخِيَارِ جَائِزٌ. إذَا ضَرَبَا لِذَلِكَ أَجَلًا قَرِيبًا إلَى مَا   [الفواكه الدواني] لِحَالَةٍ أَخْرَجَ بِهِ صُورَةَ اسْتِحْقَاقِ الْجُلِّ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، وَقَوْلُهُ: قَبْلَ ضَمَانِهِ مُتَعَلِّقٌ بِالنَّقْصِ وَضَمَانُ فَاعِلٌ بِالْمَصْدَرِ، وَهُوَ لَفْظُ ضَمَانُهُ، وَلَمْ يَقُلْ قَبْلَ بَيْعِهِ لِيَدْخُلَ فِي ذَلِكَ الْعَيْبُ الَّذِي يَحْدُثُ فِي السِّلْعَةِ بَعْدَ الْبَيْعِ، وَفِي مُدَّةِ ضَمَانِ الْبَائِعِ كَالْحَادِثِ فِي الْمَبِيعِ الْغَائِبِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَفِي الْأَمَةِ زَمَنَ مُوَاضَعَتِهَا، فَإِنَّ حُكْمَ هَذَا حُكْمُ الْمَوْجُودِ قَبْلَ الْعَقْدِ فِي ثُبُوتِ الرَّدِّ بِهِ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَرُدَّ بِعَدَمِ مَشْرُوطٍ فِيهِ غَرَضٌ كَثَيِّبٍ لِيَمِينٍ فَيَجِدُهَا بِكْرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّرْطُ صَرِيحًا أَوْ بِمُنَادَاةٍ، وَبِمَا الْعَادَةُ السَّلَامَةُ مِنْهُ كَعَوَرٍ وَقَطْعٍ وَلَوْ أُنْمُلَةً، وَخِصَاءٍ وَاسْتِحَاضَةٍ وَرَفْعِ حَيْضَةِ اسْتِبْرَاءٍ وَعُسْرٍ وَزِنًى وَشُرْبٍ وَبَخَرٍ وَزَعَرٍ، وَزِيَادَةِ سِنٍّ وَظُفُرٍ وَعُجَرٍ وَبُجَرٍ وَالِدَيْنِ أَوْ وَالِدٍ لَا أَخٍ وَلَا جَدٍّ، وَجُذَامِ أَبٍ أَوْ جُنُونِهِ بِطَبْعٍ لَا بِمَسِّ جِنٍّ، وَكَرَهَصٍ وَعَثْرٍ وَحِرَانٍ وَعَدَمِ حَمْلٍ مُعْتَادٍ، وَكَالدَّيْنِ وَتَقْوِيسِ الذِّرَاعَيْنِ، وَقِلَّةِ الْأَكْلِ فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ، أَوْ الْعَاقِلِ إذَا كَانَ يَنْقُصُ عَمَلُهُ بِسَبَبِ قِلَّةِ أَكْلِهِ. وَأَمَّا كَثْرَةُ الْأَكْلِ فَلَيْسَتْ عَيْبًا فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ، وَأَمَّا فِي الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ فَيَظْهَرُ أَنَّهَا عَيْبٌ حَيْثُ خَرَجَتْ عَنْ الْمُعْتَادِ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَخْيِيرِ مَنْ اسْتَأْجَرَ رَجُلًا بِأَكْلِهِ فَيُوجَدُ أَكُولًا. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: الرَّدُّ بِالْعَيْبِ ثَابِتٌ فِي الْقَلِيلِ كَالْكَثِيرِ إلَّا فِي الدُّورِ وَغَيْرِهَا مِنْ الْعَقَارَاتِ فَلَا رَدَّ فِيهَا بِالْقَلِيلِ وَلَا الْمُتَوَسِّطِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعُ بِأَرْضِ الْمُتَوَسِّطِ، وَأَمَّا الْكَثِيرُ كَالْكَائِنِ بِوُجْهَتِهَا مِمَّا يَنْقُصُ ثَمَنُهَا فَإِنَّ لِلْمُشْتَرِي الرَّدَّ بِهِ أَوْ التَّمَاسُكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ، فَعُيُوبُهَا ثَلَاثَةٌ: كَثِيرٌ فِيهِ الرَّدُّ وَلَا أَرْشَ لَهُ إنْ تَمَاسَكَ، وَالْمُتَوَسِّطُ لَهُ الْأَرْشُ وَلَا رَدَّ لَهُ، وَالْقَلِيلُ جِدًّا لَا رَدَّ وَلَا أَرْشَ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ أَبِي زَيْدٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ، وَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بَيْنَ الدُّورِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ غَيْرَهَا قَدْ يُرَادُ مِنْهُ التِّجَارَةُ. 1 - الثَّانِي: مَحَلُّ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْمَذْكُورِ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهَا مِنْ غَيْرِ تَغْيِيرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ كَالْعُيُوبِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فِي كَلَامِ خَلِيلٍ، وَأَمَّا مَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعُ عَلَيْهِ لَا بِتَغَيُّرِ ذَاتِ الْمَبِيعِ كَسُوسِ الْخَشَبِ وَالْجَوْزِ، وَمَرَارَةِ نَحْوِ الْقِثَّاءِ، وَعَدَمِ حَلَاوَةِ نَحْوِ الْبِطِّيخِ، فَلَا رَدَّ لِلْمُشْتَرِي بِهِ إلَّا لِشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ عَلَى مَا اسْتَظْهَرَهُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا أَنْ لَا يَتَغَيَّرَ عِنْدَ الْمُشْتَرِي لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَرُدَّ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ، وَأَمَّا لَوْ تَغَيَّرَ عِنْدَهُ قَبْلَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْعَيْبِ فَتَغَيُّرُهُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُتَوَسِّطٌ، وَمُخْرَجٌ عَنْ الْمَقْصُودِ كَهَرَمِ الدَّابَّةِ وَقَطْعِ الشَّفَةِ قَطْعًا غَيْرَ مُعْتَادٍ، وَقَلِيلٌ جِدًّا، وَأَشَارَ إلَى الْمُتَوَسِّطِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَدْخُلَهُ) أَيْ الْمَبِيعَ (عِنْدَهُ عَيْبٌ مُفْسِدٌ) أَيْ يُنْقِصُ ثَمَنَهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ الْمَقْصُودِ مِنْهُ، وَهُوَ الْمُتَوَسِّطُ، كَعَجَفِ الدَّابَّةِ أَوْ سِمَنِهَا سِمَنًا بَيِّنًا خَارِجًا عَنْ الْعَادَةِ بِحَيْثُ لَا تَلْحَقُ غَيْرَهَا، أَوْ عَمًى أَوْ شَلَلٍ أَوْ تَزْوِيجِ الْأَمَةِ. (فَلَهُ) أَيْ الْمُشْتَرِي الْخِيَارُ فِي (أَنْ يَرْجِعَ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ مِنْ الثَّمَنِ) وَلَا يُرَدُّ الْمَبِيعُ (أَوْ يَرُدُّهُ) أَيْ الْمَبِيعَ عَلَى بَائِعِهِ (وَيَرُدُّ مَا نَقَصَهُ الْعَيْبُ) الْحَادِثُ (عِنْدَهُ) ، وَهَذَا التَّخْيِيرُ ثَابِتٌ لِلْمُشْتَرِي، سَوَاءٌ كَانَ الْبَائِعُ مُدَلِّسًا أَوْ غَيْرَ مُدَلِّسٍ. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَرُدَّ إنْ لَمْ يَتَغَيَّرْ وَتَغَيَّرَ الْمَبِيعُ إنْ تَوَسَّطَ فَلَهُ أَخْذُ الْقَدِيمِ وَرَدُّهُ وَدَفْعُ الْحَادِثِ وَقُوِّمَا بِتَقْوِيمِ الْمَبِيعِ يَوْمَ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي، فَيُقَوَّمُ سَالِمًا مِنْ الْعَيْبَيْنِ بِعَشَرَةٍ مَثَلًا، وَبِالْقَدِيمِ بِثَمَانِيَةٍ، وَبِالْحَادِثِ بِسِتَّةٍ، فَإِنْ رَدَّ دَفَعَ لِلْبَائِعِ اثْنَيْنِ، وَإِنْ تَمَاسَكَ أَخَذَ اثْنَيْنِ، وَإِنْ زَادَ الثَّمَنُ أَوْ نَقَصَ فَبِنِسْبَةِ ذَلِكَ مِنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَرْشَ الْعَيْبِ الْقَدِيمِ يُنْسَبُ إلَى ثَمَنِهِ سَلِيمًا مِنْ الْعَيْبَيْنِ، وَأَرْشَ الْحَادِثِ يُنْسَبُ إلَى ثَمَنِهِ مَعِيبًا بِالْقَدِيمِ، وَمَحَلُّ هَذَا التَّخْيِيرِ مَا لَمْ يَقْبَلْهُ الْبَائِعُ بِالْحَادِثِ، وَإِلَّا نَزَلَ الْحَادِثُ عِنْدَ الْمُشْتَرِي بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَيُخَيَّرُ الْمُبْتَاعُ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الْقَدِيمِ، أَوْ يَرُدَّ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْحَادِثِ. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا أَنْ يَقْبَلَهُ بِالْحَادِثِ أَوْ يَقِلَّ فَكَالْعَدِمِ، وَفَسَّرْنَا الْمُفْسِدَ بِالنَّقْصِ لِلثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْمُخْرَجَ عَنْ الْمَقْصُودِ مِنْ الْمَبِيعِ مُفَوِّتٌ لِلرَّدِّ، وَمُوجِبٌ لِلْمُشْتَرِي الرُّجُوعَ بِأَرْشِ الْقَدِيمِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُخْرَجُ عَنْ الْمَقْصِدِ مُفِيتٌ فَالْأَرْشُ فَيُقَوَّمُ سَلِيمٌ مِنْ كُلِّ عَيْبٍ؛ لِأَنَّهُ اشْتَرَاهُ عَلَى وَجْهِ أَنَّهُ سَالِمٌ، فَإِذَا قِيلَ: قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، يُقَالُ: وَمَا قِيمَتُهُ مَعِيبًا بِالْقَدِيمِ، فَإِذَا قِيلَ: ثَمَانِيَةٌ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ الثَّمَنِ بِنِسْبَةِ مَا نَقَصَتْهُ الثَّمَانِيَةُ عَنْ الْعَشَرَةِ، وَهُوَ الْخُمُسُ، فَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ خَمْسَةَ عَشَرَ رَجَعَ بِثَلَاثَةٍ، وَإِذَا كَانَ الثَّمَنُ مِائَةً رَجَعَ بِعِشْرِينَ، وَهَكَذَا، وَأَمَّا الْقَلِيلُ جِدًّا فَكَالْعَدِمِ كَوَعْكٍ وَرَمَدٍ وَصُدَاعٍ وَذَهَابِ ظُفْرٍ. (تَنْبِيهٌ) . كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الْعَيْبِ الَّذِي ثَبَتَ أَنَّهُ قَدِيمٌ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي عَدَمِ عَيْبٍ أَوْ حُدُوثِهِ أَوْ تَنَازَعَا فِي وُجُودِ عَيْبٍ، مِثْلُهُ يَخْفَى، وَعَدَمِ وُجُودِهِ، فَالْحُكْمُ فِي هَذَا الثَّانِي قَبُولُ قَوْلِ الْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ السَّلَامَةُ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ، وَأَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ إلَّا بِشَهَادَةِ عَادَةٍ لِلْمُشْتَرِي، وَمَعْنَى شَهَادَةِ الْعَادَةِ أَنْ تَقُولَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ إنَّهُ حَادِثٌ مُعْتَمَدَةٌ فِي شَهَادَتِهَا عَلَى الْعَادَةِ، وَكُلُّ مَنْ قَطَعَتْ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِكَلَامِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَكُلُّ مَنْ رَجَّحَتْ قَوْلَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينٍ، وَعِنْدَ الْإِشْكَالِ عَلَيْهَا الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَالْقَوْلُ لِلْبَائِعِ فِي الْعَيْبِ أَوْ قِدَمِهِ إلَّا بِشَهَادَةِ عَادَةٍ لِلْمُشْتَرِي، وَحَلَفَ مَنْ لَمْ تَقْطَعْ بِصِدْقِهِ وَيَمِينِهِ بِعْته، وَمَا هُوَ بِهِ، وَتَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 تُخْتَبَرُ فِيهِ تِلْكَ السِّلْعَةُ أَوْ مَا تَكُونُ فِيهِ الْمَشُورَةُ وَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِي الْخِيَارِ وَلَا فِي عُهْدَةِ الثَّلَاثِ وَلَا فِي الْمُوَاضَعَةِ   [الفواكه الدواني] بِنَافِي الظَّاهِرِ وَعَلَى نَفْيِ الْعِلْمِ فِي الْخَفِيِّ. وَمَا كَانَ الرَّدُّ بِالْعَيْبِ قَدْ يَكُونُ بَعْدَ اغْتِلَالِ الْمُشْتَرِي، نَبَّهَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعِلَّةَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ رَدَّ الْمُبْتَاعُ عَبْدًا) مَثَلًا (بِعَيْبٍ قَدِيمٍ، وَ) الْحَالُ أَنَّهُ كَانَ (قَدْ اسْتَغَلَّهُ) قَبْلَ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْعَيْبِ وَرَضَاهُ أَوْ فِي زَمَنِ الْخِصَامِ (فَلَهُ غَلَّتُهُ) إلَى حِينِ فَسَخَ الْبَيْعَ بِرَدِّ الْمَبِيعِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْغَلَّةُ لَهُ لِلْفَسْخِ، وَالْمُرَادُ الْغَلَّةُ الَّتِي لَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهَا دَالًّا عَلَى الرِّضَا بِالسِّلْعَةِ الْمَعِيبَةِ، وَهِيَ الَّتِي تَنْشَأُ عَنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ كَلَبَنٍ وَصُوفٍ، أَوْ عَنْ تَحْرِيكٍ وَاسْتَوْفَاهَا قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ أَوْ بَعْدَهُ حَيْثُ لَا يَكُونُ اسْتِيفَاؤُهَا مُنْقِصًا كَسُكْنَى الدَّارِ فِي زَمَنِ الْخِصَامِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَالْغَلَّةُ لَهُ مِنْ غَيْرِ غَايَةٍ؛ لِدَلَالَتِهَا عَلَى الرِّضَا فَلَا فَسْخَ لَهُ بَعْدَ اسْتِيفَائِهَا كَرُكُوبِ الدَّابَّةِ وَاسْتِخْدَامِ الرَّقِيقِ الْمُنْقِصَيْنِ لَهُ، وَإِنْ كَانَتْ الْغَلَّةُ لِلْمُشْتَرِي حَتَّى يَرُدَّ السِّلْعَةَ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا قَبْلَ الرَّدِّ مِنْهُ، وَمِثْلُ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ بِالْفَسَادِ وَبِالِاسْتِحْقَاقِ وَأَخْذِهَا بِالشُّفْعَةِ أَوْ بِالْفَلَسِ، وَهَذَا فِي الْغَلَّةِ غَيْرِ الثَّمَرَةِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً يَوْمَ الشِّرَاءِ. وَكَذَا فِيهَا إنْ فَارَقَتْ الْأُصُولَ قَبْلَ رَدِّهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى أُصُولِهَا فَيُفَصَّلُ فِيهَا بَيْنَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ أَوْ الْفَسَادِ فَازَ بِهَا الْمُشْتَرِي إنْ كَانَتْ أَزْهَتْ. وَأَمَّا فِي الشُّفْعَةِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فَيَفُوزُ بِهَا إنْ يَبِسَتْ، وَأَمَّا لَوْ رُدَّتْ بِتَفْلِيسٍ فَتُرَدُّ وَلَا يَفُوزُ بِهَا الْمُشْتَرِي إلَّا بِجَدِّهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِاَلَّتِي لَمْ تَكُنْ مُؤَبَّرَةً يَوْمَ الشِّرَاءِ؛ لِأَنَّ الْمُؤَبَّرَةَ يَوْمَ الشِّرَاءِ كَالْوَلَدِ وَالصُّوفِ التَّامِّ لَيْسَتْ بِغَلَّةٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» «قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيمَنْ ابْتَاعَ غُلَامًا وَأَقَامَ عِنْدَهُ مُدَّةً ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّهُ وَجَاءَ بِهِ إلَى الرَّسُولِ لِيَرُدَّهُ عَلَى صَاحِبِهِ فَقَالَ صَاحِبُهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ اسْتَغَلَّ غُلَامِي، فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَنَصَّ خَلِيلٌ عَلَى مَا تَخْرُجُ بِهِ السِّلْعَةُ مِنْ ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَتَدْخُلُ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ بِقَوْلِهِ: وَدَخَلَتْ فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ إنْ رَضِيَ بِالْقَبْضِ وَلَوْ لَمْ يَقْبِضْهَا بِالْفِعْلِ وَلَا مُضِيِّ زَمَنٍ يُمْكِنُ قَبْضُهَا فِيهِ أَوْ ثَبَتَ مُوجِبُ الرَّدِّ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَإِنْ لَمْ يَحْكُمْ بِالرَّدِّ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ حَاضِرًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ غَائِبًا فَلَا تَنْتَقِلُ إلَى ضَمَانِهِ إلَّا بِالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِالرَّدِّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الرَّدِّ بِالْعَيْبِ الْقَدِيمِ وَيُسَمَّى خِيَارَ النَّقِيضَةِ، شَرَعَ فِي خِيَارِ التَّرَوِّي، وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: بَيْعُ وَقْفٍ بَتَّهُ أَوَّلًا عَلَى إمْضَاءٍ يُتَوَقَّعُ فَيَخْرُجُ الْبَيْعُ اللَّازِمُ ابْتِدَاءً وَلَكِنْ يُؤَوَّلُ إلَى خِيَارٍ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَى الْعَيْبِ فَهَذَا لَمْ يَتَوَقَّفْ بَتُّهُ أَوَّلًا وَيُسَمَّى خِيَارَ النَّقِيصَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا حَقِيقَتَهُ عَنْ ابْنِ عَرَفَةَ فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ (وَالْبَيْعُ) الْمَدْخُولُ فِيهِ (عَلَى الْخِيَارِ) لِلْبَائِعِ أَوْ الْمُشْتَرِي أَوْ أَجْنَبِيٍّ (جَائِزٌ) لِيَتَرَوَّى فِي أَخْذِ السِّلْعَةِ أَوْ رَدِّهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ عَلَى صَاحِبِهِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَالْحَدِيثُ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ شَذَّ بِمَنْعِهِ، وَخِيَارُ التَّرَوِّي عِنْدَنَا إنَّمَا يَكُونُ بِالشَّرْطِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا الْخِيَارُ بِشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ كَالشَّرْطِ بِالْمَجْلِسِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مَعْمُولٍ بِهِ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَقِيلَ: إلَّا ابْنَ الْمُسَيِّبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَابْنُ حَبِيبٍ مِنْ أَصْحَابِنَا: بِأَنَّ التَّرَوِّيَ يَكُونُ بِالْمَجْلِسِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ فَهْمُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» فَحَمَلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ التَّفَرُّقِ بِالْأَبْدَانِ مِنْ الْمَجْلِسِ، وَحَمَلَهُ مَالِكٌ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْقَوْلِ وَيَشْهَدُ لِمَا قَالَهُ إمَامُنَا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا فِي آخِرِ الْحَدِيثِ فِي قَوْلِهِ: إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ فَإِنَّ الْمُتَبَادَرَ مِنْهُ أَنَّ مَعْنَاهُ إلَّا بَيْعًا شُرِطَ فِيهِ الْخِيَارُ، فَلَا يَنْقَضِي الْخِيَارُ بِالْمُفَارَقَةِ بَلْ يَبْقَى بِيَدِ مَنْ جُعِلَ لَهُ إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ الْمُشْتَرَطَةِ وَلَوْ تَفَرَّقَا، وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ بَعْدَ ذِكْرِهِ حَدِيثَ: «الْمُتَعَاقِدَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا» وَالْعَمَلُ عَنْهُ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِنَّمَا قَدَّمَ مَالِكٌ الْعَمَلَ عَلَى الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ؛ لِأَنَّهُ خَبَرُ آحَادٍ، وَعَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ كَالْخَبَرِ الْمُتَوَاتِرِ. وَأَشَارَ إلَى شَرْطِ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: (إذَا ضَرَبَا لِذَلِكَ أَجَلًا) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْخِيَارَ لِأَحَدِ الْمُتَبَايِعَيْنِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِالشَّرْطِ أَوْ الْعَادَةِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْأَجَلُ مَعْلُومًا لَهُمَا وَنِهَايَتُهُ (إلَى مَا تُخْتَبَرُ فِيهِ تِلْكَ السِّلْعَةُ) وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: إلَى مَا تُخْتَبَرُ فِيهِ تِلْكَ السِّلْعَةُ إلَى اخْتِلَافِ مُدَّتِهِ بِاخْتِلَافِ السِّلَعِ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: إنَّمَا الْخِيَارُ بِشَرْطٍ كَشَهْرٍ فِي دَارٍ وَلَا يَسْكُنُ وَكَجُمُعَةٍ فِي رَقِيقٍ وَاسْتَخْدَمَهُ، وَكَثَلَاثَةٍ فِي دَابَّةٍ وَكَيَوْمٍ لِرُكُوبِهَا فِي الْبَلَدِ وَلِرُكُوبِهَا فِي خَارِجِهَا يَكْفِي الْبَرِيدُ وَنَحْوُهُ، وَكَثَلَاثَةٍ فِي ثَوْبٍ أَوْ سَفِينَةٍ أَوْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا لَيْسَ بِحَيَوَانٍ وَلَا عَقَارٍ وَلَا رَقِيقٍ. وَأَمَّا نَحْوُ الدَّجَاجِ وَالطُّيُورِ وَبَقِيَّةِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا عَمَلَ لَهَا فَالظَّاهِرُ أَنَّ مُدَّةَ الْخِيَارِ فِيهَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ لِإِسْرَاعِ التَّغَيُّرِ لَهَا، فَتَكُونُ مُدَّةُ الْخِيَارِ فِيهَا مَا لَا تَتَغَيَّرُ فِيهِ، وَيُقَاسُ عَلَيْهَا سَائِرُ الْفَوَاكِهِ وَالْأَطْعِمَةِ الَّتِي تَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ. فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مِنْ رَطْبِ الْفَوَاكِهِ وَالْخُضَرِ عَلَى أَنَّهُ بِالْخِيَارِ، فَإِنْ كَانَ النَّاسُ يُشَاوِرُونَ غَيْرَهُمْ فِي هَذِهِ الْأَشْيَاءِ وَيَحْتَاجُونَ إلَى رَأْيِهِمْ فَلَهُمْ مِنْ الْخِيَارِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ مِمَّا لَا يَقَعُ فِيهِ تَغَيُّرٌ وَلَا فَسَادٌ. ثُمَّ عَطَفَ عَلَى قَوْلِهِ إلَى مَا تُخْتَبَرُ فِيهِ السِّلْعَةُ قَوْلَهُ: (أَوْ) إلَى (مَا تَكُونُ فِيهِ الْمَشُورَةُ) لِلْغَيْرِ حَيْثُ لَا تَزِيدُ مُدَّةُ الْمَشُورَةِ عَلَى مُدَّةِ الْخِيَارِ الْمَعْلُومَةِ لِتِلْكَ السِّلْعَةِ، وَأَفَادَ الْمُصَنِّفُ بِهَذَا جَوَازَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ عَلَى مَشُورَةِ الْغَيْرِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَشُورَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 بِشَرْطٍ. وَالنَّفَقَةُ فِي ذَلِكَ وَالضَّمَانُ عَلَى الْبَائِعِ. وَإِنَّمَا يُتَوَاضَعُ لِلِاسْتِبْرَاءِ الْجَارِيَةُ الَّتِي لِلْفِرَاشِ فِي الْأَغْلَبِ أَوْ الَّتِي أَقَرَّ   [الفواكه الدواني] خِلَافُ اخْتِبَارِ الْمُشْتَرِي لِلسِّلْعَةِ؛ لِأَنَّ اخْتِبَارَهَا امْتِحَانُهَا مِنْ جِهَةِ قِلَّةِ أَكْلِهَا أَوْ عَمَلِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَشُورَةُ فَتَكُونُ فِي الْغَالِبِ لِأَجْلِ الْإِقْدَامِ عَلَى الشِّرَاءِ أَوْ عَدَمِهِ، كَبَتِّ الْبَيْعِ أَوْ رَدِّ السِّلْعَةِ، وَاسْتَفِدْ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ زَمَنَ الْمَشُورَةِ لَوْ كَانَ يَتَأَخَّرُ عَنْ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَأَفْسَدَ الْبَيْعَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَسَدَ بِشَرْطِ مُشَاوَرَةٍ بَعِيدٍ أَوْ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ أَوْ مَجْهُولَةٍ أَوْ غَيْبِهِ عَلَى مَا لَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَفَسَدَ بِشَرْطٍ إلَخْ أَنَّ الْبَيْعَ لَوْ وَقَعَ عَلَى الْخِيَارِ وَلَمْ يُعَيِّنَا أَجَلًا لَمْ يَفْسُدْ الْمَبِيعُ، وَهُوَ كَذَلِكَ وَيُصَارُ إلَى أَجَلِ تِلْكَ السِّلْعَةِ. وَصَرَّحَ بِذَلِكَ الشَّاذِلِيُّ أَيْضًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ حَيْثُ كَانَتْ مُدَّةُ الْخِيَارِ لِتِلْكَ السِّلْعَةِ مَعْلُومَةً بَيْنَ الْمُتَبَايِعَيْنِ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِ الشَّاذِلِيِّ: وَقَعَ عَلَى الْخِيَارِ بَلْ لَوْ سَكَتَا عَنْهُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَكَانَ الْعُرْفُ جَارِيًا بِهِ كَمَا عِنْدَنَا فِي بِلَادِ الْأَرْيَافِ فِي بَيْعِ الدَّوَابِّ، وَالْعُرْفُ عِنْدَ مَالِكٍ كَالشَّرْطِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ خِيَارَ التَّرَوِّي لَا يَكُونُ إلَّا بِالشَّرْطِ أَوْ الْعَادَةِ، وَأَنَّهُ لَا يَكُونُ بِالْمَجْلِسِ، وَلَمْ يُبَيِّنَا حُكْمَ مَا لَوْ شَرَطَاهُ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ: أَنَّ اشْتِرَاطَ خِيَارِ الْمَجْلِسِ فِي الْعَقْدِ يُفْسِدُهُ، وَلِي بَحْثٌ فِيهِ مَعَ قَوْلِهِمْ بِصِحَّةِ الْبَيْعِ الْمَدْخُولِ فِيهِ عَلَى مَشُورَةِ شَخْصٍ قَرِيبٍ كَمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَلَا يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِمُجَرَّدِ جَهْلِ زَمَنِ الْخِيَارِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ مَفْهُومِ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَفَسَدَ بِشَرْطِ مُشَاوَرَةِ بَعِيدٍ أَوْ مُدَّةٍ زَائِدَةٍ. وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ فَسَادِ الْعَقْدِ بِاشْتِرَاطِ الْخِيَارِ لِأَحَدِهِمَا مَا دَامَا فِي الْمَجْلِسِ لِقِصَرِ زَمَانِ الْمَجْلِسِ عُرْفًا عَنْ مُدَّةِ الْخِيَارِ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا عَلَيْهِ مَالِكٌ؛ لِأَنَّ غَايَةَ مَا حَصَلَ مِنْهُ نَفْيُ ثُبُوتِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ لِأَحَدِ الْمُبَايِعَيْنِ بِمُقْتَضَى الْمَجْلِسِ، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَاهُ لِأَحَدِهِمَا مُدَّةَ الْمَجْلِسِ لَعُمِلَ بِهِ وَحَرِّرْ الْحُكْمَ فِي ذَلِكَ. وَلَا يُقَالُ: مُدَّةُ الْخِيَارِ مَحْدُودَةٌ بِأَكْثَرَ مِنْ مُدَّةِ الْمَجْلِسِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُدَّةُ الْمَذْكُورَةُ فِي كَلَامِهِمْ حَدٌّ لِأَكْثَرِهِ، وَلِذَلِكَ يَفْسُدُ الْعَقْدُ بِاشْتِرَاطِ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَلَا يُنَافِي جَوَازُ اشْتِرَاطِ أَقَلَّ مِنْهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَوْ شَرَطَا نَفْيَ الْخِيَارِ جُمْلَةً لَكَانَ لَهُمَا ذَلِكَ،. 1 - الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا يَقْطَعُ الْخِيَارَ وَيُعَدُّ بَعْدُ الْمُخْتَارُ رَاضِيًا، وَبَيَّنَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَقَاطَعَهُ قَوْلُ وَفِعْلُ الْمَازِرِيِّ وَتَرَك هُوَ عَدَمَهُمَا، فَالْقَوْلُ نَحْوُ رَضِيت، وَالْفِعْلُ مَا أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَرَضِيَ مُشْتَرٍ كَاتِبٌ أَوْ زَوْجٌ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ قَصَدَ تَلَذُّذًا أَوْ رَهَنَ أَوْ آجَرَ أَوْ أَسْلَمَ لِلصَّنْعَةِ أَوْ تَسَوَّقَ أَوْ جَنَى أَوْ تَعَمَّدَ أَوْ نَظَرَ الْفَرْجَ أَوْ عَرَّبَ دَابَّةً أَوْ وَدَكَهَا، وَالتَّرْكُ كَالْقَضَاءِ مُدَّةَ الْخِيَارِ، وَالسِّلْعَةُ تَحْتَ يَدِ مَنْ لَهُ الْخِيَارُ، وَلَا بُدَّ مِنْ انْقِضَاءِ نَحْوِ الْيَوْمَيْنِ بَعْدَهَا؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الرَّدَّ بَعْدَ مُدَّةِ الْخِيَارِ لَكَانَ لَهُ الرَّدُّ فِي الْغَدِ وَالْغَدَاءَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَلْزَمُ بِانْقِضَائِهِ وَرُدَّ فِي كَالْغَدِ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ وَلَا خَلِيلٌ الَّذِي تَكُونُ عِنْدَهُ السِّلْعَةُ زَمَنَ الْخِيَارِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ إنْ كَانَ الْخِيَارُ لِاخْتِبَارِ الثَّمَنِ أَوْ لِلتَّرَوِّي فِي إمْضَاءِ الْعَقْدِ وَعَدَمِهِ فَمَحَلُّ السِّلْعَةِ عِنْدَ الْبَائِعِ إذَا تَنَازَعَا فِيمَنْ تَكُونُ عِنْدَهُ، وَإِنْ كَانَ لِاخْتِبَارِ أَكْلِ السِّلْعَةِ أَوْ عَمَلِهَا أَوْ لَبَنِهَا فَمَحَلُّهَا عِنْدَ الْمُشْتَرِي، وَيَلْزَمُ الْبَائِعَ تَسْلِيمُهَا لِلْمُشْتَرِي إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ بَيَانٍ وَاتَّفَقَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لَمْ يَلْزَمْهُ تَسْلِيمُهَا، وَإِنْ لَمْ يَتَّفِقَا وَادَّعَى كُلٌّ نَقِيضَ قَصْدِ صَاحِبِهِ فُسِخَ الْبَيْعُ حَتَّى يَحْصُلَ الِاتِّفَاقُ عَلَى شَيْءٍ. وَلَمَّا كَانَتْ السِّلْعَةُ فِي زَمَنِ خِيَارِ التَّرَوِّي عَلَى مِلْكِ بَائِعِهَا لِانْحِلَالِ الْبَيْعِ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ) أَيْ تَعْجِيلُ الثَّمَنِ (فِي) زَمَنِ (الْخِيَارِ وَلَا فِي) زَمَنِ (عُهْدَةِ الثَّلَاثِ) ، وَهِيَ بَيْعُ الرَّقِيقِ عَلَى أَنَّ ضَمَانَهُ فِي الثَّلَاثِ مِنْ بَائِعِهِ وَلَوْ بِالسَّمَاوِيِّ. (وَلَا فِي) زَمَنِ (الْمُوَاضَعَةِ) ، وَهِيَ جَعْلُ الْأَمَةِ الْعَلِيَّةِ أَوْ الْوَخْشِ الَّتِي أَقَرَّ بَائِعُهَا بِوَطْئِهَا. (بِشَرْطٍ) فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ لِتَرَدُّدِ الْمَنْقُودِ بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ، فَالْعَقْدُ يَفْسُدُ بِاشْتِرَاطِ نَقْدِ الثَّمَنِ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ أَسْقَطَاهُ بَلْ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ نَقْدٌ بِالْفِعْلِ، وَلَا يُقَالُ: الْعِلَّةُ إنَّمَا تَظْهَرُ مَعَ النَّقْدِ بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَمَّا كَانَ النَّقْدُ بِالْفِعْلِ يَصْحَبُ الشَّرْطَ غَالِبًا نُزِّلَ غَيْرُ الْحَاصِلِ مَنْزِلَةَ الْحَاصِلِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى تِلْكَ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِهِ: وَفَسَدَ بِشَرْطٍ قَدْ نُقِدَ كَغَائِبٍ وَعُهْدَةِ ثَلَاثٍ، وَمُوَاضَعَةٍ وَأَرْضٍ لَمْ يُؤْمَنْ رَبُّهَا وَجُعْلٍ، وَإِجَارَةٍ بِجُزْءِ زَرْعٍ وَأَجِيرٍ تَأَخَّرَ شَهْرًا، وَمَفْهُومٌ بِشَرْطِ جَوَازِ النَّقْدِ تَطَوُّعًا إلَّا فِي الْمُوَاضَعَةِ فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ فِيهَا مُطْلَقًا، وَمِثْلُهَا مَسَائِلُ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ:، وَمُنِعَ، وَإِنْ بِلَا شَرْطٍ فِي مَوَاضِعِهِ وَغَائِبٍ وَكِرَاءٍ ضَمِنَ وَسَلَّمَ بِخِيَارٍ، وَقَوْلُهُ بِخِيَارٍ رَاجِعٌ لِلْأَرْبَعِ مَسَائِلَ، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ النَّقْدُ، وَإِنْ تَطَوُّعًا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ فَسْخِ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَكِرَاءٌ ضَمِنَ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ الْمَضْمُونُ وَالْمُعَيَّنُ سَوَاءٌ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي الْمُدَوَّنَةِ، فَالْمَفْهُومُ فِيهِ مُعَطَّلٌ، وَمَوْضُوعُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُتَبَايِعَيْنِ دَخَلَا عَلَى شَرْطِ الْمُوَاضَعَةِ. وَأَمَّا لَوْ شَرَطَا عَدَمَ الْمُوَاضَعَةِ أَوْ كَانَ الْعُرْفُ جَارِيًا بِعَدَمِهَا كَمَا فِي بِيَاعَاتِ مِصْرَ فَلَا يَضُرُّ اشْتِرَاطُ النَّقْدِ، وَلَكِنْ لَا يُقَرَّانِ عَلَى تَرْكِ الْمُوَاضَعَةِ، بَلْ تُنْزَعُ مِنْ يَدِ الْمُشْتَرِي، وَيُجْبَرَانِ عَلَى وَضْعِهَا تَحْتَ يَدٍ أَمِينَةٍ، وَأَمَّا الْأَمَةُ الَّتِي لَا تَتَوَاضَعُ، وَهِيَ الْوَخْشَةُ الَّتِي لَمْ يُقِرَّ بَائِعُهَا بِوَطْئِهَا فَإِنَّهَا تُسْتَبْرَأُ بِحَيْضَةٍ عِنْدَ مُشْتَرِيهَا، وَلَا يُمْتَنَعُ اشْتِرَاطُ النَّقْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 الْبَائِعُ بِوَطْئِهَا، وَإِنْ كَانَتْ وَخْشًا وَلَا تَجُوزُ الْبَرَاءَةُ مِنْ حَمْلِهَا إلَّا حَمْلًا ظَاهِرًا. وَالْبَرَاءَةُ فِي الرَّقِيقِ جَائِزَةٌ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ   [الفواكه الدواني] لِثَمَنِهَا، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ غَلَبَةُ تَوَقُّعِ حَمْلِ مَنْ تَتَوَاضَعُ، وَنُدْرَةُ حَمْلِ غَيْرِهَا. (تَنْبِيهٌ) . عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ مَا يَمْتَنِعُ النَّقْدُ فِيهِ بِشَرْطٍ، وَهُوَ ثَمَانِ مَسَائِلَ وَيَجُوزُ تَطَوُّعًا، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَمْتَنِعُ النَّقْدُ فِيهِ مُطْلَقًا، وَهُوَ أَرْبَعُ مَسَائِلَ وَذَكَرَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمُنِعَ وَإِنْ بِلَا شَرْطٍ فِي مُوَاضَعَةٍ وَغَائِبٍ وَكِرَاءٍ ضَمِنَ وَسَلَّمَ بِخِيَارٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ وَالضَّمَانُ زَمَنَ الْخِيَارِ بِقَوْلِهِ: (وَالنَّفَقَةُ) وَالْكِسْوَةُ عَلَى الْمَبِيعِ بِالْخِيَارِ أَوْ عَلَى الْعُهْدَةِ أَوْ الْمُوَاضَعَةِ. (فِي ذَلِكَ) الزَّمَنِ الْوَاقِعِ فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ. (وَالضَّمَانُ) كِلَاهُمَا (عَلَى الْبَائِعِ) ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ عَلَى مِلْكِهِ فِي أَزْمِنَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْخِيَارِ: وَالْمِلْكُ لِلْبَائِعِ، وَمَا يُوهَبُ لِلْعَبْدِ سِوَى الْمُسْتَثْنَى مَالُهُ، وَالنَّفَقَةُ وَالْأَرْشُ وَالْغَلَّةُ لِلْبَائِعِ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ النَّمَاءُ عَلَيْهِ التَّوَاءُ أَيْ الْهَلَاكُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ» وَإِنَّمَا يَضْمَنُهُ الْبَائِعُ إذَا كَانَ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ لَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ عَلَى هَلَاكِهِ أَوْ ضَيَاعِهِ، وَكَذَا إنْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ كَثَوْبٍ أَوْ كِتَابٍ إنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمُشْتَرِي عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ، وَإِلَّا كَانَ ضَمَانُهُ مِنْ الْمُشْتَرِي، فَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ ضَمَانُهُ مِنْ الْبَائِعِ حَيْثُ لَمْ يَظْهَرْ كَذِبُ الْمُشْتَرِي وَلَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ، وَلَوْ غَيْرَ مُتَّهَمٍ، وَصِفَةُ يَمِينِهِ إنْ كَانَ مُتَّهَمًا أَنْ يَقُولَ: لَقَدْ ضَاعَتْ فِي دَعْوَى الضَّيَاعِ، أَوْ تَلِفَتْ فِي دَعْوَى التَّلَفِ، وَمَا فَرَّطْت، وَغَيْرُ الْمُتَّهَمِ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ مَا فَرَّطْت، وَأَمَّا مَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ حَلَفَ، وَلَا يَنْفِي عَنْهُ الضَّمَانَ إلَّا شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ. 1 - (فَرْعَانِ) الْأَوَّلُ: قَالَ الْبَغْدَادِيُّونَ: وَإِذَا اشْتَرَى رَجُلَانِ دَابَّتَيْنِ عَلَى خِيَارٍ فَادَّعَى كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهَا مَاتَتْ بِمَوْضِعِ كَذَا، فَقَالَ أَهْلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ: لَمْ يَمُتْ عِنْدَنَا إلَّا وَاحِدَةٌ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُصَدَّقٌ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ أَحَدَهُمَا صَادِقٌ قَطْعًا وَالْآخَرُ يَضْمَنُ بِالشَّكِّ، وَقَالَ غَيْرُ مَنْ سَبَقَ: يَضْمَنُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفَ، وَصَوَّبَ عَبْدُ الْحَقِّ الْقَوْلَ الثَّانِيَ وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَضْمَنُ نِصْفَ دَابَّتِهِ وَيَبْرَأُ مِنْ النِّصْفِ الثَّانِي. 1 - وَالْفَرْعُ الثَّانِي: لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ شَيْئًا بِخِيَارٍ فَادَّعَى الْمُبْتَاعُ أَنَّهُ هَلَكَ فِي أَيَّامِ الْخِيَارِ وَقَالَ الْبَائِعُ بَعْدَ أَيَّامِ الْخِيَارِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ مَعَ يَمِينِهِ؛ لِأَنَّ الْمُبْتَاعَ يُتَّهَمُ عَلَى إرَادَةِ نَقْضِ الْبَيْعِ، وَهَذَا إنْ تَصَادَقَا عَلَى انْقِضَاءِ أَيَّامِ الْخِيَارِ، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَائِهَا فَإِنْ ادَّعَى الْبَائِعُ الِانْقِضَاءَ وَالْمُشْتَرِي الْبَقَاءَ فَالْقَوْلُ لِمُنْكِرِ التَّقَضِّي، وَهُوَ الْمُشْتَرِي. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ مُوَاضَعَتُهَا مِنْ الْجَوَارِي بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا) يَجِبُ أَنْ (يَتَوَاضَعَ) أَيْ يُوضَعَ (لِلِاسْتِبْرَاءِ الْجَارِيَةُ) الْعَلِيَّةُ هِيَ (الَّتِي) تُرَادُ (لِلْفِرَاشِ فِي الْأَغْلَبِ) سَوَاءٌ أَقَرَّ بَائِعُهَا بِوَطْئِهَا أَمْ لَا. (أَوْ الَّتِي أَقَرَّ الْبَائِعُ بِوَطْئِهَا، وَإِنْ كَانَتْ وَخْشًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَتَوَاضَعُ الْعَلِيَّةُ أَوْ وَخْشٌ أَقَرَّ بَائِعُهَا بِوَطْئِهَا عِنْدَ مَنْ يُؤْمَنُ وَالشَّأْنُ لِلنِّسَاءِ، وَهَذَا مَعْنَى كَلَامِ الْبَيَانِ أَنْ تُوضَعَ الْجَارِيَةُ عَلَى يَدِ امْرَأَةٍ أَوْ رَجُلٍ لَهُ أَهْلٌ حَتَّى تُعْرَفَ بَرَاءَةُ رَحِمِهَا مِنْ الْحَمْلِ بِحَيْضَةٍ إنْ كَانَتْ مِمَّنْ تَحِيضُ، وَبِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ إنْ كَانَتْ يَائِسَةً مِنْ الْحَيْضِ لِصِغَرٍ أَوْ كِبَرٍ مِمَّنْ يُوطَأُ مِثْلُهَا، بِكْرًا كَانَتْ أَوْ ثَيِّبًا، أَمِنَتْ الْحَمْلَ أَمْ لَا، وَيُنْدَبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِ النِّسَاءِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ عَلَى يَدِ رَجُلٍ مَأْمُونٍ لَهُ أَهْلٌ، وَيُنْهَى عَنْ كَوْنِهَا عَلَى يَدِ أَحَدِهِمَا نَهْيَ كَرَاهَةٍ إنْ كَانَ مَأْمُونًا، وَحُرْمَةٍ إنْ كَانَ غَيْرَ مَأْمُونٍ، وَيُكْتَفَى بِامْرَأَةٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ فَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمِيعِ أَصْحَابِهِ، وَإِنْ دَخَلَا عَلَى إسْقَاطِهَا لَمْ يَفْسُدْ الْبَيْعُ وَلَكِنْ يُجْبَرَانِ عَلَيْهَا، وَإِنْ ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ زَمَنَ الْمُوَاضَعَةِ كَانَ عَيْبًا فِي الْعَلِيَّةِ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي فِي رَدِّهَا وَالتَّمَاسُكِ بِهَا إنْ كَانَ الْحَمْلُ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ، وَأَمَّا مِنْهُ فَهِيَ أُمُّ وَلَدٍ يُفْسَخُ بَيْعُهَا، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَخْشَ الَّتِي لَمْ يُقِرَّ بَائِعُهَا بِوَطْئِهَا لَا مُوَاضَعَةَ فِيهَا، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا بِحَيْضَةٍ قَبْلَ وَطْئِهِ. وَيُقَالُ لَهُ الِاسْتِبْرَاءُ الْمُجَرَّدُ عَنْ الْمُوَاضَعَةِ؛ لِأَنَّهَا تَكُونُ فِي زَمَنِهِ عِنْدَ الْمُشْتَرِي. (تَنْبِيهٌ) يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِنَّمَا يَتَوَاضَعُ إلَخْ مَا أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا مُوَاضَعَةَ فِي مُتَزَوَّجَةٍ وَحَامِلٍ، وَمُعْتَدَّةٍ وَزَانِيَةٍ كَالْمَرْدُودَةِ بِعَيْبٍ أَوْ فَسَادٍ أَوْ إقَالَةٍ إنْ لَمْ يَغِبْ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا لَوْ غَابَ الْمُشْتَرِي عَلَى الْمَرْدُودَةِ بِمَا ذَكَرَ فَفِيهَا الْمُوَاضَعَةُ، لَكِنْ عَلَى تَفْصِيلٍ فِي الْمَرْدُودَةِ بِالْعَيْبِ وَالْإِقَالَةِ إنْ كَانَ الرَّدُّ بِهِمَا بَعْدَ دُخُولِهَا فِي ضَمَانِ الْمُشْتَرِي وَجَبَتْ فِيهَا الْمُوَاضَعَةُ، وَإِنْ كَانَ الرَّدُّ بِهِمَا قَبْلَ دُخُولِهَا فِي ضَمَانِهِ فَلَا مُوَاضَعَةَ. (وَلَا تَجُوزُ الْبَرَاءَةُ مِنْ الْحَمْلِ) الَّذِي يَتَوَقَّعُ ظُهُورُهُ فِي الْأَمَةِ الْعَلِيَّةِ بَعْدَ اشْتِرَائِهَا (إلَّا حَمْلًا ظَاهِرًا) وَقْتَ الْعَقْدِ فَيَجُوزُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَبِيعَ الْمَالِكِ أَمَةً عَلِيَّةً، وَيُشْتَرَطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّهُ بَرِيءٌ مِنْ حَمْلِهَا بِحَيْثُ لَا رَدَّ لَهُ بِسَبَبِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَمْلُهَا ظَاهِرًا وَقْتَ الْعَقْدِ لَجَازَ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا لِدُخُولِ الْمُشْتَرِي عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِ الْوَخْشِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ ظَاهِرًا، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْعَلِيَّةِ لَا يَجُوزُ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا غَيْرِ الظَّاهِرِ وَبَيْنَ الْوَخْشِ يَجُوزُ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا مُطْلَقًا؟ قُلْت: الْفَرْقُ أَنَّ الْحَمْلَ يَضَعُ مِنْ حَمْلِ الْعَلِيَّةِ كَثِيرًا فَهُوَ غَرَرٌ وَعَيْبٌ، بِخِلَافِ الْوَخْشِ الْحَمْلُ يُوجِبُ الرَّغْبَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 الْبَائِعُ. وَلَا يُفَرَّقُ بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ حَتَّى يُثْغِرَ. وَكُلُّ بَيْعٍ فَاسِدٍ فَضَمَانُهُ مِنْ الْبَائِعِ فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُبْتَاعُ فَضَمَانُهُ مِنْ   [الفواكه الدواني] فِيهَا. فَإِنْ قُلْت: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الظَّاهِرِ وَالْخَفِيِّ فِي الْعَلِيَّةِ حَيْثُ يَجُوزُ التَّبَرِّي مِنْ الظَّاهِرِ دُونَ الْخَفِيِّ؟ فَالْجَوَابُ: وُجُودُ الْغَرَرِ فِي الْخَفِيِّ؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَتَرَدَّدُ فِي وُجُودِهِ وَعَدَمِهِ، بِخِلَافِ الظَّاهِرِ الْمُشْتَرِي جَازِمٌ بِوُجُودِهِ، وَمَحَلُّ جَوَازِ التَّبَرِّي مِنْ الْحَمْلِ الظَّاهِرِ مُطْلَقًا، وَالْخَفِيِّ فِي الْوَخْشِ فَقَطْ أَنْ لَا يَكُونَ الْبَائِعُ قَدْ وَطِئَهَا وَلَمْ يَسْتَبْرِئْهَا، وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَمْلِهَا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا لِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلٍ يَلْزَمُهُ، وَمَحَلُّ جَوَازِ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا الظَّاهِرِ أَنْ لَا يَمْضِيَ لَهَا سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِلَّا امْتَنَعَ بَيْعُهَا بِالْكُلِّيَّةِ؛ لِأَنَّهَا حَامِلٌ مُقَرَّبٌ لَا يَحِلُّ بَيْعُهَا؛ لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ وَالْمُحَرَّمُ إذَا قَوِيَ مَرَضُهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ ذَاتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا كَمُحَرَّمٍ أَشْرَفَ إلَى أَنْ قَالَ: وَحَامِلٌ مُقَرَّبٌ، وَالْأَصْلُ فِي الْمَمْنُوعِ الْفَسَادُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ بَيْعِ الْأَمَةِ مَعَ التَّبَرِّي مِنْ حَمْلِهَا وَسَكَتَ عَنْ بَيْعِ الذَّاتِ بِشَرْطِ حَمْلِهَا، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَكَحَامِلٍ بِشَرْطِ الْحَمْلِ تَشْبِيهٌ فِي الْفَسَادِ، وَمَحَلُّ الْفَسَادِ بِاشْتِرَاطِ ذَلِكَ إذَا كَانَ اشْتِرَاطُهُ لِقَصْدِ الزِّيَادَةِ فِي الثَّمَنِ؛ لِكَوْنِ الْحَمْلِ يَزِيدُ فِي ثَمَنِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الْحَمْلِ ظَاهِرًا أَوْ خَفِيًّا؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ إنْ لَمْ يَظْهَرْ، وَمِنْ بَيْعِ الْأَجِنَّةِ إنْ كَانَ ظَاهِرًا، وَهَذَا تَسْتَوِي فِيهِ الْأَمَةُ وَالْبَهِيمَةُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْقَصْدُ مِنْ اشْتِرَاطِ حَمْلِهَا التَّبَرِّي مِنْهُ فَلَا فَسَادَ عَلَى الْمُرْتَضِي مِنْ الْخِلَافِ، وَهَذَا وَاضِحٌ إذَا صُرِّحَ بِالْقَصْدِ أَوْ فُهِمَ مِنْ الْحَالِ قَصْدُهُ، وَأَمَّا بَيْعُهَا بِشَرْطِ الْحَمْلِ وَلَمْ يُصَرَّحْ بِقَصْدِهِ وَلَا فُهِمَ مِنْ الْحَالِ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا يَكْثُرُ قَصْدُ النَّاسِ إلَيْهِ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ، وَيُمْكِنُ جَرَيَانُهُ فِي الرَّقِيقِ إذَا كَانَ حَمْلُهُ يَزِيدُ فِي ثَمَنِهِ، فَإِنْ كَانَ يَنْقُصُ فِيهِ الثَّمَنُ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى قَصْدِ التَّبَرِّي، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي عَدَمِ الْجَوَازِ بَيْعُهَا مَعَ اسْتِثْنَاءِ جَنِينِهَا أَوْ بَيْعِ جَنِينِهَا وَحْدَهُ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إلَّا حَمْلًا ظَاهِرًا بِالنَّصْبِ هَذَا مَا فِي أَكْثَرِ النُّسَخِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلٌ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي الْحَمْلِ، وَهُوَ الْأَصْلُ فِي الِاسْتِثْنَاءِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ إلَّا حَمْلٍ بِالْجَرِّ عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ الْحَمْلِ الْمَجْرُورِ بِمِنْ، وَهُوَ الْأَوْلَى فِي الْمُسْتَثْنَى بَعْدَ النَّفْيِ أَوْ شَبَهِهِ. وَلَمَّا كَانَ التَّبَرِّي مِنْ عَيْبِ الْمَبِيعِ لَا يَجُوزُ إلَّا فِي الرَّقِيقِ قَالَ: (وَالْبَرَاءَةُ فِي الرَّقِيقِ) فَقَطْ (جَائِزَةٌ مِمَّا لَمْ يَعْلَمْ) بِهِ (الْبَائِعُ) مِنْ الْعُيُوبِ، وَهَذَا أَحَدُ شَرْطَيْنِ، وَالشَّرْطُ الثَّانِي أَنْ تَطُولَ إقَامَةُ الرَّقِيقِ عِنْدَ الْبَائِعِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَمْنَعُ الرَّدَّ بِالْعَيْبِ: وَتَبَرِّي غَيْرِهِمَا فِيهِ مِمَّا لَمْ يُعْلَمْ إنْ طَالَتْ إقَامَتُهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ عِنْدَهُ رَقِيقٌ طَالَتْ إقَامَتُهُ عِنْدَهُ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ عَيْبًا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَبِيعَهُ وَيَتَبَرَّأَ مِنْ عُيُوبِهِ، بِأَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى مُشْتَرِيهِ عَدَمَ رَدِّهِ عَلَيْهِ بِعَيْبٍ يَظْهَرُ كَإِبَاقٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا حَيْثُ طَالَتْ إقَامَتُهُ عِنْدَهُ، بِحَيْثُ لَوْ كَانَ بِهِ هَذَا الْعَيْبُ لَظَهَرَ، فَأَمَّا إنْ عَلِمَ بِعَيْبِهِ أَوْ لَمْ تَطُلْ إقَامَتُهُ عِنْدَهُ لَمْ يَجُزْ لَهُ التَّبَرِّي مِنْ عَيْبِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ إنْ عَلِمَ بِهِ عَيْبًا أَنْ يُبَيِّنَهُ لِلْمُشْتَرِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِذَا عَلِمَهُ بَيَّنَ أَنَّهُ بِهِ وَوَصَفَهُ أَوْ أَرَاهُ لَهُ وَلَمْ يَحْمِلْهُ فَالظَّاهِرُ كَالْعَوَرِ وَالْقَطْعِ يُرِيهِ لَهُ، وَنَحْوِ الْإِبَاقِ وَالسَّرِقَةِ يَصِفُهُ وَصْفًا شَافِيًا بَعْدَ بَيَانِ أَنَّهُ بِهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: يَأْبَقُ أَوْ يَسْرِقُ وَبَعْدَ ذَلِكَ يُفَصِّلُ لَهُ بِأَنْ يَقُولَ: أَبَقَ عِنْدِي مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا أَوْ سَرَقَ مِرَارًا الْأَمْرُ الْفُلَانِيُّ كَذَا؛ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ رُبَّمَا يَغْتَفِرُ سَرِقَةَ نَحْوِ الرَّغِيفِ، وَلَا يَكْفِي الْإِجْمَالُ بِأَنْ يَقُولَ فِيهِ جَمِيعُ الْعُيُوبِ، وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيمَا إذَا قَالَ: إنَّهُ سَارِقٌ وَاقْتَصَرَ عَلَى ذَلِكَ فَهَلْ يَنْفَعُهُ فِي الْبَرَاءَةِ مِنْ يَسِيرِ السَّرِقَةِ دُونَ الْمُتَفَاحِشِ وَعَلَيْهِ الْبِسَاطِيُّ وَالنَّقْلُ يُوَافِقُهُ أَوْ لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ وَلَا فِي الْيَسِيرِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْإِجْمَالِ، وَعَلَيْهِ بَعْضُ الْمُعَاصِرِينَ لَهُ، وَالظَّاهِرُ الرُّجُوعُ لِأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ فِي الْيَسِيرِ وَالْكَثِيرِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا بِفَقَطْ كَمَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ التَّبَرِّي مِنْ الْعُيُوبِ إنَّمَا يَصِحُّ فِي الْأَرِقَّاءِ فَقَطْ؛ لِأَنَّ الرَّقِيقَ يُمْكِنُهُ التَّحَيُّلُ بِكَتْمِ عُيُوبِهِ أَوْ بَعْضِهَا بِخِلَافِ غَيْرِهِ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ تَحَيُّلٌ، فَلِذَا لَا يَجُوزُ لِبَائِعِ نَحْوِ الْجَمَلِ أَوْ الثَّوْرِ أَوْ الْحِمَارِ التَّبَرِّي مِنْ عَيْبِهِ، بَلْ مَتَى مَا ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ وَثَبَتَ قِدَمُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ وَلَمْ يَعْلَمْ بِهِ الْمُشْتَرِي عِنْدَ الْعَقْدِ ثَبَتَ لَهُ الْخِيَارُ فِي رَدِّهِ وَلَوْ تَبَرَّأَ مِنْهُ الْبَائِعُ، كَمَا لَا يَجُوزُ التَّبَرِّي مِنْ عُيُوبِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَمْ تَطُلْ إقَامَتُهُ عِنْدَهُ، وَمَوْضُوعُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الرَّقِيقَ مُبَاعٌ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَدْفُوعُ قَرْضًا فَلَا يَجُوزُ لِمُقْرِضِهِ أَنْ يَتَبَرَّأَ لِلْمُقْتَرِضِ مِنْ عُيُوبِهِ لِأَدَائِهِ إلَى سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا خِلَافًا لِمَنْ عَمَّمَ فِي الرَّقِيقِ. الثَّانِي: هَذَا الْكَلَامُ فِي الْبَائِعِ الْبَالِغِ وَلَوْ حَاكِمَا أَوْ وَارِثًا؛ لِأَنَّ بَيْعَ الْحَاكِمِ وَالْوَارِثِ الرَّقِيقِ بَيْعُ بَرَاءَةٍ إنْ بَيَّنَ أَنَّهُ إرْثٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ مِنْهُ بَيْعُ حَاكِمٍ وَوَارِثٍ رَقِيقًا فَقَطْ بَيَّنَ أَنَّهُ إرْثٌ، وَأَمَّا غَيْرُ الْبَائِعِ فَلَا يُعْتَبَرُ عِلْمُهُ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ فَائِدَةَ التَّبَرِّي أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَا رَدَّ لَهُ بِظُهُورِ الْعَيْبِ الَّذِي تَبَرَّأَ مِنْهُ الْبَائِعُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ. وَمِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَيْ يَحْرُمُ أَنْ (يُفَرَّقَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ الظَّرْفُ أَعْنِي (بَيْنَ الْأُمِّ) الْعَاقِلَةِ (وَ) بَيْنَ (وَلَدِهَا فِي الْبَيْعِ) ، وَمَا شَابَهَهُ مِنْ كُلِّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ فَيَشْمَلُ كَلَامُهُ: لَوْ دَفَعَ الْوَلَدُ أَوْ الْأُمُّ أُجْرَةً أَوْ صَدَاقًا أَوْ وُهِبَ أَحَدُهُمَا لِلثَّوَابِ، وَالْمُرَادُ الْأُمُّ دُنْيَةً وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 الْمُبْتَاعِ مِنْ يَوْمِ قَبْضِهِ، فَإِنْ حَالَ سَوْقُهُ أَوْ تَغَيَّرَ فِي بَدَنِهِ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ وَلَا يَرُدُّهُ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ   [الفواكه الدواني] وَكَتَفْرِيقِ أُمٍّ فَقَطْ مِنْ وَلَدِهَا، وَإِنْ بِقِسْمَةٍ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فِي الْبَيْعِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ أَيْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ الْمُعَاوَضَةِ كَدَفْعِ أَحَدِهِمَا صَدَقَةً أَوْ هِبَةً لِغَيْرِ ثَوَابٍ بَلْ لِوَجْهِ الْمُعْطِي فَلَا حُرْمَةَ وَيُجْبَرَانِ عَلَى جَمْعِهِمَا فِي مِلْكٍ، وَقِيلَ يُكْتَفَى بِجَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ، وَيَجُوزُ التَّفْرِيقُ بَيْنَهُمَا بِالْعِتْقِ، وَيُكْتَفَى بِجَمْعِهِمَا فِي حَوْزٍ اتِّفَاقًا، فَإِذَا أَعْتَقَ الْوَلَدَ وَبَاعَ الْأُمَّ فَيَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْإِنْفَاقَ عَلَى الْوَلَدِ وَكِسْوَتَهُ إلَى حُصُولِ الْإِثْغَارِ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْأُمَّ وَبَاعَ الْوَلَدَ اشْتَرَطَ عَلَى مُشْتَرِيهِ جَمْعَهُ مَعَ أُمِّهِ. ، وَنَفَقَةُ الْأُمِّ عَلَى نَفْسِهَا، وَإِنْ دَبَّرَ أَحَدَهُمَا لَمْ يَجُزْ لَهُ بَيْعُ الْآخَرِ وَحْدَهُ، وَلَا مَعَ الْآخَرِ قَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ، بِخِلَافِ لَوْ كَاتَبَ أَحَدَهُمَا ثُمَّ بَاعَ كِتَابَتَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ بَيْعُ غَيْرِ الْمُكَاتَبِ مَعَ كِتَابَةِ الْمُكَاتَبِ، وَيَشْتَرِطُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا إذَا عَتَقَ الْمُكَاتَبُ حَتَّى يَحْصُلَ الْإِثْغَارُ، وَقَيَّدْنَا بِدِنْيَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْجَدَّةِ وَوَلَدِ وَلَدِهَا، كَمَا لَا تَحْرُمُ بَيْنَ الْأَبِ وَوَلَدِهِ، وَلَا بَيْنَ الْأُمِّ وَوَلَدِهَا مِنْ الرَّضَاعِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْأُمُّ مِنْ النَّسَبِ، وَقُلْنَا الْعَاقِلَةُ؛ لِأَنَّ حُرْمَةَ التَّفْرِقَةِ مُخْتَصَّةٌ بِالْعُقَلَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَبَالَغَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ بِقِسْمَةٍ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ مَنْ مَاتَ عَنْ جَارِيَةٍ وَأَوْلَادِهَا الصِّغَارِ لَا يَجُوزُ لِوَرَثَتِهِ أَنْ يَأْخُذَ وَاحِدٌ الْأُمَّ وَالْآخَرُ الْوَلَدَ وَتَسْتَمِرُّ الْحُرْمَةُ. (حَتَّى يُثْغِرَ) الْوَلَدُ فَإِنْ أَثْغَرَ أَيْ سَقَطَتْ رَوَاضِعُهُ وَنَبَتَتْ كُلُّهَا وَلَوْ لَمْ يَتَكَامَلْ نَبَاتُهَا جَازَتْ التَّفْرِقَةُ، وَالْمُرَادُ الْإِثْغَارُ الْمُعْتَادُ. قَالَ خَلِيلٌ: مَا لَمْ يُثْغِرْ مُعْتَادًا وَيُكْتَفَى بِبُلُوغِ زَمَنِهِ الْمُعْتَادِ، وَهُوَ بَعْدَ السَّبْعِ وَلَوْ لَمْ يُثْغِرْ بِالْفِعْلِ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ عَدَمَ التَّفْرِقَةِ حَقٌّ لِلْأُمِّ، وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: مَا لَمْ تَرْضَ الْأُمُّ، وَإِلَّا جَازَتْ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْ الْإِثْغَارِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ التَّفْرِقَةِ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَلَا لَا تُولَهُ وَالِدَةٌ عَلَى وَلَدِهَا» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا: «مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ وَالِدَةٍ وَوَلَدِهَا فَرَّقَ اللَّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَحِبَّتِهِ أَوْ أَحْبَابِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ كَانَتْ الْأُمُّ مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً لَكِنْ غَيْرَ حَرْبِيَّةٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ وَلَدُهَا مِنْ زَوْجِهَا أَوْ مِنْ زِنًى، وَلَوْ كَانَ مَجْنُونًا وَأُمُّهُ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُخَافَ مِنْ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا الْحَرْبِيَّةُ فَلَا تَحْرُمُ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ وَلَدِهَا، فَيَجُوزُ لِبَعْضِ الْمُجَاهِدِينَ أَخْذُ الْأُمِّ أَوْ الْوَلَدِ دُونَ أُمِّهِ، وَالْمَسْبِيَّةُ مَعَ صَغِيرٍ تَدَّعِي أَنَّهُ وَلَدُهَا فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا حَيْثُ قَامَتْ قَرِينَةٌ عَلَى صِدْقِهَا. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَتَثْبُتُ الْبُنُوَّةُ الْمَانِعَةُ لِلتَّفْرِقَةِ بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بِإِقْرَارِ مَالِكِيهِمَا أَوْ دَعْوَى الْأُمِّ مَعَ قَرِينَةِ صِدْقِهَا، وَتَصْدِيقُ الْمَسْبِيَّةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ جِهَةِ التَّفْرِقَةِ فَقَطْ لَا فِي غَيْرِهَا مِنْ أَحْكَامِ الْبُنُوَّةِ، فَلَا يَخْتَلِي بِهَا إنْ كَبِرَ، وَلَا تَوَارُثَ بَيْنَهُمَا لَكِنْ هِيَ لَا تَرِثُ مَنْ أَقَرَّتْ بِهِ، وَأَمَّا هُوَ فَيَرِثُهَا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَارِثٌ يَحُوزُ جَمِيعَ الْمَالِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ حَصَلَتْ التَّفْرِقَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ، وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفُسِخَ إنْ لَمْ يَجْمَعَاهُمَا فِي مِلْكٍ إلَّا أَنْ يَمْضِيَ زَمَنُ الْحُرْمَةِ بِأَنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى حَصَلَ الْإِثْغَارُ الْمُعْتَادُ، وَإِلَّا مَضَى الْبَيْعُ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَتْ التَّفْرِقَةُ بِغَيْرِ مُعَاوَضَةٍ فَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ جَمْعِهِمَا فِي مِلْكٍ، وَقِيلَ يَكْفِي جَمْعُهُمَا فِي حَوْزٍ وَلَا سَبِيلَ إلَى الْفَسْخِ، وَيُضْرَبُ بَائِعُ التَّفْرِقَةِ، وَمُبْتَاعُهَا كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَجَمِيعُ أَصْحَابِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَعْتَادَاهُ، وَمَحَلُّ ضَرْبِهِمَا إنْ عَلِمَا حُرْمَةَ التَّفْرِقَةِ، وَإِلَّا عُذِرَا بِالْجَهْلِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَا جَوَازُ عِتْقِ أَحَدِهِمَا أَوْ كِتَابَتِهِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ نِصْفِهِمَا أَوْ ثُلُثِهِمَا وَلَوْ لِغَيْرِ الْعِتْقِ. وَيُثْغِرُ يَجُوزُ فِي يَائِهِ الْفَتْحُ وَيَسْكُنُ الْمُثَلَّثَةُ وَكَسْرُ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَيَجُوزُ ضَمُّهَا مَعَ تَسْكِينِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْضًا، وَهُوَ سُقُوطُ الرَّوَاضِعِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي ضَمَانِ الْمَبِيعِ فَاسِدًا وَفِيمَا يُنْقَلُ مِلْكُهُ إلَى الْمُشْتَرِي بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ) مَبِيعٍ (بَيْعٍ فَاسِدٍ) لِفَقْدِ شَرْطٍ أَوْ وُجُودِ مَانِعٍ (فَضَمَانُهُ مِنْ الْبَائِعِ) لِبَقَائِهِ عَلَى مِلْكِهِ حَيْثُ لَمْ يَقْبِضْهُ الْمُبْتَاعُ (فَإِنْ قَبَضَهُ الْمُبْتَاعُ) قَبْضًا مُسْتَمِرًّا بَعْدَ بَتِّ الْبَيْعِ (فَضَمَانُهُ مِنْ الْمُبْتَاعِ مِنْ يَوْمِ) أَيْ زَمَنِ (قَبْضِهِ) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ، وَإِنَّمَا ضَمِنَهُ بِقَبْضِهِ؛ لِأَنَّهُ قَبَضَهُ عَلَى وُجْهَةِ التَّمَلُّكِ لَا عَلَى جِهَةِ الْأَمَانَةِ، فَإِنْ لَمْ يَقْبِضْهُ فَلَا ضَمَانَ وَلَوْ مَكَّنَهُ الْبَائِعُ مِنْ قَبْضِهِ، وَالضَّمَانُ ضَمَانُ أَصَالَةٍ لَا ضَمَانُ رِهَانٍ، فَلَا يَنْتَفِي بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ، وَلَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَغَيْرِهِ، وَقَيَّدْنَا الْقَبْضَ بِالْمُسْتَمِرِّ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا إذَا اشْتَرَى سِلْعَةً شِرَاءً فَاسِدًا فَقَبَضَهَا ثُمَّ رَدَّهَا إلَى الْبَائِعِ عَلَى وَجْهِ الْأَمَانَةِ أَوْ غَيْرِهَا فَهَلَكَتْ فَإِنَّ ضَمَانَهَا مِنْ بَائِعِهَا؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَبْضَ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، وَقَيَّدْنَا بِكَوْنِهِ بَعْدَ الْبَتِّ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ بَيْعِ الْخِيَارِ فَإِنَّ ضَمَانَهُ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَوْ قَبَضَهَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الصَّحِيحَ إذَا وَقَعَ عَلَى خِيَارِ الضَّمَانِ فِيهِ مِنْ الْبَائِعِ لِمَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ كَغَيْرِهِ إنْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى تَلَفِهِ أَوْ ضَيَاعِهِ كَمَا قَدَّمْنَا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ بِضَمَانِ الْمَبِيعِ فَاسِدًا بَعْدَ قَبْضِهِ مِنْ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ مِمَّا يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ، وَأَمَّا نَحْوُ الْمَيْتَةِ وَالزِّبْلِ وَالْكَلْبِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي وَلَوْ قَبَضَهُ وَأَدَّى ثَمَنَهُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَالْمُرَادُ الْكَلْبُ غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى مِنْ قَتْلِهِ تَعَدِّيًا كَمَا نَذْكُرُهُ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا يَأْتِي: وَنَهَى عَنْ بَيْعِ الْكِلَابِ. 1 - الثَّانِي: مَفْهُومُ الْفَاسِدِ أَنَّ الْبَيْعَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 فَلْيَرُدَّ مِثْلَهُ وَلَا تُفِيتُ الرِّبَاعُ حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ. وَلَا يَجُوزُ سَلَفٌ يَجُرُّ مَنْفَعَةً. وَلَا يَجُوزُ بَيْعٌ وَسَلَفٌ وَكَذَلِكَ مَا قَارَنَ   [الفواكه الدواني] الصَّحِيحَ لَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ فِيهِ تَفْصِيلٌ؛ لِأَنَّ مِنْهُ مَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ لِلْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ عَقْدِهِ وَذَلِكَ إذَا كَانَ لَيْسَ فِيهِ حَقٌّ تُوفِيهِ وَوَقَعَ بَتًّا، وَمِنْهُ لَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ إلَّا بِقَبْضِهِ، وَذَلِكَ إذَا كَانَ مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَوْ يُعَدُّ، وَقَبَضَهُ بِكَيْلِ مَا يُكَالُ أَوْ وَزْنِ مَا يُوزَنُ أَوْ عَدِّ مَا يُعَدُّ، وَمِثْلُ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةِ الْمَحْبُوسَةِ لِلثَّمَنِ أَوْ لِإِشْهَادٍ لَا يَضْمَنُهَا الْمُشْتَرِي لَا بِقَبْضِهَا؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ بَائِعِهَا كَالرَّهْنِ، وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ الْمُشْتَرِي عَلَى صِفَةٍ أَوْ عَلَى رُؤْيَةٍ مُتَقَدِّمَةٍ، وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ الَّتِي تَجِبُ مُوَاضَعَتُهَا لَا يَضْمَنُهَا مُشْتَرِيهَا إلَّا بِرُؤْيَتِهَا الدَّمَ، وَكَذَا الثِّمَارُ يَسْتَمِرُّ ضَمَانُهَا مِنْ بَائِعِهَا حَتَّى تَأْمَنَ الْجَائِحَةَ بِأَنْ يَتَنَاهَى طِيبُهَا وَيَتَمَكَّنُ الْمُشْتَرِي مِنْ أَخْذِهَا فَحِينَئِذٍ يَنْتَقِلُ ضَمَانُهَا لِمُشْتَرِيهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُوجِبُ الضَّمَانِ فِيهَا غَيْرَ الْجَائِحَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ. ثُمَّ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الضَّمَانَ فِي الثِّمَارِ فِي الْبَيْعِ الصَّحِيحِ لِلْأَمْنِ مِنْ الْجَائِحَةِ حَيْثُ إنَّ مُوجِبَ الضَّمَانِ الْجَائِحَةُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ الْجَائِحَةِ فَضَمَانُهَا مِنْ الْمُبْتَاعِ بِالْعَقْدِ. وَأَمَّا فِي الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَإِنْ اشْتَرَيْت بَعْضَ الطِّيبِ فَضَمَانُهَا مِنْ الْمُشْتَرِي بِالْعَقْدِ؛ لِأَنَّ التَّمَكُّنَ مِنْ أَخْذِهَا بِمَنْزِلَةِ قَبْضِهَا، وَإِنْ كَانَ الشِّرَاءُ قَبْلَ طِيبِهَا فَضَمَانُهَا مِنْ الْبَائِعِ حَتَّى يَجِدَهَا الْمُشْتَرِي. انْتَهَى. وَأَقُولُ فِي هَذَا وَقْفَةٌ مَعَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْفَاسِدَ لَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُهُ إلَى الْمُشْتَرِي إلَّا بِقَبْضِهِ بِالْفِعْلِ، وَلَا عِبْرَةَ بِتَمَكُّنِ الْمُشْتَرِي مِنْ أَخْذِهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ، فَلَعَلَّ مَا فِي الْأُجْهُورِيِّ زَلَّةُ قَلَمٍ؛ لِأَنَّ الْأُجْهُورِيَّ إمَامٌ عَظِيمٌ وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ. الثَّالِثُ: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْبَيْعَ بَيْعًا فَاسِدًا بَاقٍ عَلَى مِلْكِ بَائِعِهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ الْفَاسِدَ لَا يَنْقُلُ الْمِلْكَ عَلَى الصَّحِيحِ لِوُجُوبِ فَسْخِهِ شَرْعًا قَبْلَ الْفَوَاتِ، وَقَدْ اسْتَشْكَلَهُ الْفَاكِهَانِيُّ قَائِلًا: جَعْلُ الضَّمَانِ مِنْ الْبَائِعِ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْفَاسِدَ لَمْ يَنْقُلْ الْمِلْكَ، وَجَعْلُ الضَّمَانِ بَعْدَ الْقَبْضِ مِنْ الْمُشْتَرِي يَقْتَضِي أَنَّ الْفَاسِدَ يَنْقُلُ وَلَمْ يَذْكُرْ جَوَابًا، وَأَقُولُ: لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ نَقْلِ الْمِلْكِ وَالضَّمَانِ إذْ قَدْ يُوجَدُ الضَّمَانُ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ مِلْكٍ، كَمَنْ أَتْلَفَ شَيْءَ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ تَقَدُّمِ سَبَبِ مِلْكٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِتَعَدِّيهِ، وَالْمُشْتَرِي هُنَا مُتَعَدٍّ بِقَبْضِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا، فَمُحَصَّلُ الْجَوَابِ أَنَّ ضَمَانَ الْمُشْتَرِي إنَّمَا هُوَ لِتَعَدِّيهِ بِالْقَبْضِ لِمَا يَجِبُ فَسْخُ عَقْدِهِ قَبْلَ فَوَاتِهِ، وَيَدُلُّك عَلَى مَا قُلْنَا أَنَّهُ يَضْمَنُ بَعْدَ الْقَبْضِ، وَلَوْ بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ، وَلَا حَاجَةَ إلَى بِنَاءِ الضَّمَانِ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْفَاسِدَ يَنْقُلُ الْمِلْكَ لِمَا ذَكَرْنَا. 1 - الرَّابِعُ: إذَا رُدَّتْ السِّلْعَةُ بِسَبَبِ الْفَسَادِ يَفُوزُ مُشْتَرِيهَا بِغَلَّتِهَا. قَالَ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَإِنَّمَا يَنْتَقِلُ ضَمَانُ الْفَاسِدِ بِالْقَبْضِ وَرُدَّ وَلَا غَلَّةَ أَيْ وَلَا تَصْحَبُهُ الْغَلَّةُ فِي الرَّدِّ بَلْ يَفُوزُ بِهَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ كَانَ مِنْهُ، وَالْخَرَاجُ بِالضَّمَانِ كَمَا قَدَّمْنَا فِي الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: وَلَوْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي بِالْفَسَادِ وَبِوُجُوبِ الْفَسْخِ وَلَوْ فِي الثُّنْيَا الْمَمْنُوعَةِ عَلَى الرَّاجِحِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ، وَهِيَ: مَنْ اشْتَرَى شَيْئًا مَوْقُوفًا شِرَاءً فَاسِدًا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنَّهُ وَقْفٌ فَإِنَّهُ لَا يَفُوزُ بِالْغَلَّةِ، بَلْ يَجِبُ رَدُّهَا حَيْثُ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَوْ عَلَى مُعَيَّنٍ غَيْرِ رَشِيدٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُعَيَّنٍ وَبَاعَهُ ذَلِكَ الْمُعَيَّنُ فَإِنَّهُ يَفُوزُ الْمُشْتَرِي بِغَلَّتِهِ وَلَوْ عَلِمَ بِأَنَّهُ وَقْفٌ حَيْثُ كَانَ ذَلِكَ الْبَائِعُ رَشِيدًا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ كَمَا يَفُوزُ بِالْغَلَّةِ لَا يَرْجِعُ عَلَى الْبَائِعِ بِكُلْفَةِ الْحَيَوَانِ إذَا كَانَتْ الْغَلَّةُ قَدْرَ الْكُلْفَةِ أَوْ أَكْثَرَ، وَأَمَّا لَوْ زَادَتْ الْكُلْفَةُ عَلَى الْغَلَّةِ أَوْ كَانَ لَا غَلَّةَ فَإِنَّهُ يُرْجَعُ عَلَى الْبَائِعِ بِالْكُلْفَةِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَنْ الْبَائِعِ بِمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ، وَأَشَارَ إلَى هَذَا بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِقَوْلِهِ: وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَنْفَقَ عَلَى مَا اشْتَرَاهُ وَلَهُ غَلَّةٌ تُبْتَغَى كَالْغَنَمِ وَالدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ ثُمَّ رُدَّ بِعَيْبٍ أَوْ اسْتِحْقَاقٍ أَوْ فَسَادٍ لَا يَرْجِعُ بِنَفَقَتِهِ، بِخِلَافِ مَا لَيْسَ لَهُ غَلَّةٌ تُبْتَغَى كَالنَّخْلِ إذَا رُدَّتْ مَعَ ثِمَارِهَا فَإِنَّهُ يُرْجَعُ بِقِيمَةِ سَقْيِهَا وَعِلَاجِهَا. وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ مَالِهِ عَيْنٌ قَائِمَةٌ، وَأَمَّا النَّفَقَةُ فِيمَا لَهُ عَيْنٌ قَائِمَةٌ كَالْبِنَاءِ وَالصِّبَاغِ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِهَا وَلَهُ الْغَلَّةُ كَسُكْنَى الدَّارِ، نَقَلَ جَمِيعَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَلَمَّا كَانَ مَحَلُّ بَقَاءِ الْمَبِيعِ فَاسِدًا عَلَى مِلْكِ بَائِعِهِ إذَا لَمْ يَفُتْ عِنْدَ الْمُشْتَرِي قَالَ: (فَإِنْ حَالَ سَوْقُهُ) بِأَنْ تَغَيَّرَ ثَمَنُهُ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ (أَوْ تَغَيَّرَ بَدَنُهُ) تَشَغَّرَ أَوْ كَبِرَ (فَعَلَيْهِ) أَيْ الْمُشْتَرِي غُرْمُ (قِيمَتِهِ) إنْ كَانَ الْفَسَادُ مُتَّفَقًا عَلَيْهِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ (يَوْمَ قَبْضِهِ) لَا يَوْمَ الْعَقْدِ وَلَا يَوْمَ الْفَوَاتِ (وَلَا يَرُدُّهُ) عَلَى بَائِعِهِ لِانْتِقَالِ مِلْكِهِ إلَى الْمُشْتَرِي بِالْفَوَاتِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ الْمُخْتَلَفُ فِي فَسَادِهِ إذَا فَاتَ يَمْضِي بِالثَّمَنِ. قَالَ خَلِيلٌ: فَإِنْ فَاتَ مَضَى الْمُخْتَلَفُ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ وَلَوْ كَانَ الْخِلَافُ خَارِجَ الْمَذْهَبِ بِالثَّمَنِ، وَإِلَّا ضَمِنَ قِيمَتَهُ يَوْمَ قَبْضِهِ، وَحَوَالَةُ الْأَسْوَاقِ إنَّمَا تَكُونُ مُفِيتَةً فِي غَيْرِ الْمِثْلِيَّاتِ وَالْعَقَارِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ) الْمُشْتَرَى فَاسِدًا وَحَالَتْ أَسْوَاقُهُ (مِمَّا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ) أَوْ يُعَدُّ (فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ) أَيْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَفُوتُ بِتَغَيُّرِ سَوْقِهِ لِقِيَامِ مِثْلِهِ مَقَامَهُ. وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: مِمَّا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ أَيْ بِالْفِعْلِ عَنْ الْمِثْلِيِّ الْمُشْتَرَى جُزَافًا إذَا فَاتَ فَإِنَّهُ يُحْرَزُ وَيُقَوَّمُ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَلَا يَرُدُّ مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ أَشْبَهَ الْمُقَوَّمَ فِي الْفَوَاتِ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ. (وَلَا تُفِيتُ الرِّبَاعُ) أَيْضًا وَسَائِرُ الْعَقَارَاتِ (حَوَالَةَ الْأَسْوَاقِ) وَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّهَا لِفَسَادِ بَيْعِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمِثْلِيَّاتِ وَالْعَقَارَاتِ لَا تَفُوتُ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي تَصْوِيرِهِ، وَالْفَوَاتُ بِتَغَيُّرِ سَوْقٍ غَيْرِ مِثْلِيٍّ وَعَقَارٍ وَبِطُولِ زَمَانِ حَيَوَانٍ وَفِيهَا شَهْرٌ وَشَهْرَانِ، وَاخْتَارَ أَنَّهُ خِلَافٌ وَقَالَ: بَلْ فِي شَهَادَةٍ وَبِنَقْلِ عُرُوضٍ، وَمِثْلِيٍّ لِبَلَدٍ بِكُلْفَةٍ وَبِتَغَيُّرِ ذَاتِ غَيْرِ مِثْلِيٍّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 السَّلَفَ مِنْ إجَارَةٍ أَوْ كِرَاءٍ. وَالسَّلَفُ جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ إلَّا فِي الْجَوَارِي وَكَذَلِكَ تُرَابُ الْفِضَّةِ وَلَا تَجُوزُ الْوَضِيعَةُ مِنْ   [الفواكه الدواني] كَالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ وَكِبَرِ صَغِيرِ الْحَيَوَانِ، وَهُزَالِهِ، وَبِالْخُرُوجِ عَنْ يَدِ مُشْتَرِيهِ بِأَنْ بَاعَ مَا اشْتَرَاهُ أَوْ، وَهَبَهُ أَوْ وَقَفَهُ، وَبِتَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ بِأَنْ رَهَنَهُ أَوْ آجَرَهُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا أَنَّ الْغَالِبَ فِي الْعَقَارِ أَنْ يُرَادَ لِلْقُنْيَةِ لَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا يُطْلَبُ فِيهِ كَثْرَةُ ثَمَنٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَوَاتِ الْأَمْثَالِ الْقَضَاءُ بِالْمِثْلِ فَلَا يَفُوتَانِ بِحَوَالَةِ الْأَسْوَاقِ. وَأَمَّا زَرْعُ الْأَرْضِ الْمُشْتَرَاةِ شِرَاءً فَاسِدًا فَلَا يُفِيتُهَا وَتُرَدُّ، ثُمَّ إنْ كَانَ الرَّدُّ فِي الْإِبَّانِ فَعَلَى الْمُشْتَرِي الْكِرَاءُ، وَلَا يُقْلَعُ زَرْعُهُ؛ لِأَنَّهُ صَاحِبُ شُبْهَةٍ، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ فَوَاتِهِ فَلَا كِرَاءَ عَلَيْهِ. وَأَمَّا غَرْسُهَا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ عَظُمَتْ مُؤْنَتُهُ وَكَانَ مُحِيطًا بِهَا فَاتَتْ كُلُّهَا، وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ أَكْثَرَهَا، وَإِنْ كَانَ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا، فَإِنْ كَانَتْ فَوْقَ نِصْفِهَا فَاتَ جَمِيعُهَا بِاتِّفَاقٍ، وَإِنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِهَا فَلَا يَفُوتُ مِنْهَا شَيْءٌ وَتُرَدُّ كُلُّهَا وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِقِيمَةِ غَرْسِهِ قَائِمًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا. وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجِهَةُ الرُّبُعَ فَأَكْثَرَ إلَى الثُّلُثِ أَوْ حَتَّى النِّصْفِ عَلَى مَا عَلَيْهِ أَبُو الْحَسَنِ تَفُوتُ تِلْكَ الْجِهَةُ فَقَطْ، وَالْبِنَاءُ حُكْمُ الْغَرْسِ فِي التَّفْصِيلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَاتَتْ بِهِمَا جِهَةٌ هِيَ الرُّبُعُ فَقَطْ لَا أَقَلُّ وَلَهُ الْقِيمَةُ قَائِمًا. [بَاب السَّلَم] وَلَمَّا كَانَ السَّلَفُ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا شَبِيهًا بِالْمَبِيعِ فَاسِدًا فِي وُجُوبِ فَسْخِهِ بَعْدَ وُقُوعِهِ وَبَعْدَ فَوَاتِهِ يُرَدُّ إلَى فَاسِدِ أَصْلِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ ذَكَرَهُ عَقِبَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ يَحْرُمُ (سَلَفٌ يَجُرُّ نَفْعًا) لِغَيْرِ الْمُقْتَرِضِ بِأَنْ يَجُرَّ لِلْمُقْرِضِ بِكَسْرِ الرَّاءِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُقْتَرِضِ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ لَا يَكُونُ إلَّا لِلَّهِ، فَلَا يَقَعُ جَائِزًا إلَّا إذَا تَمَحَّضَ النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، فَلَا يَجُوزُ إقْرَاضُ الْمَقْصُوصِ لِيَأْخُذَ جَيِّدًا، وَلَا الْحَبِّ الْقَدِيمِ لِيَأْخُذَ جَيِّدًا، وَأَحْرَى الدُّخُولُ عَلَى أَكْثَرِ كَمِّيَّةٍ فَإِنَّهُ مَحْضُ رِبًا لِقَوْلِ ابْنِ يُونُسَ: مِنْ أَرْبَى الرِّبَا مَا جَرَّ مِنْ السَّلَفِ نَفْعًا، كَشَرْطِ عَفَنٍ بِسَالِمٍ، وَكَدَفْعِ ذَاتٍ يَشُقُّ حَمْلُهَا لِيَأْخُذَ بَدَلَهَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي يَتَوَجَّهُ إلَيْهِ وَقَصْدُهُ بِذَلِكَ إرَاحَتُهُ مِنْ حَمْلِهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ كَثْرَةَ الْخَوْفِ فِي الطَّرِيقِ فَلَا مَنْعَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَعَيْنٍ عَظُمَ حَمْلُهَا كَسُفْتَجَةٍ إلَّا أَنْ يَعُمَّ الْخَوْفُ فَيَجُوزَ أَنْ يُسَلِّفَهَا فِي مَحَلِّهَا وَيَأْخُذَ سَفْتَجَةً أَيْ وَرَقَةً مَكْتُوبًا فِيهَا لِوَكِيلِ الْمُتَسَلِّفِ بِإِعْطَاءِ مِثْلِ الذَّاتِ الْمَدْفُوعَةِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ، وَمَحَلِّ الْمَنْعِ، إلَّا أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْقَصْدَ نَفْعُ الْمُقْتَرِضِ فَقَطْ، وَإِلَّا جَازَ كُلُّ مَا مُنِعَ. 1 - (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا إذَا وَقَعَ الْقَرْضُ الْمَمْنُوعُ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُرَدُّ أَنْ يَفُوتَ بِمَا يَفُوتُ بِهِ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ فَلَا يُرَدُّ وَيَلْزَمُ الْمُقْتَرِضَ الْقِيمَةُ فِي الْمُقَوَّمِ، وَالْمِثْلُ فِي الْمِثْلِيِّ رَدًّا لَهُ إلَى فَاسِدِ أَصْلِهِ، وَهُوَ الْبَيْعُ؛ لِأَنَّ الْقَرْضَ الَّذِي هُوَ السَّلَفُ فَرْعٌ وَالْبَيْعَ أَصْلُهُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ إذَا وَقَعَ فَاسِدًا يُرَدُّ إلَى فَاسِدِ أَصْلِهِ لَا إلَى صَحِيحِ نَفْسِهِ، وَوَجْهُ اسْتِثْنَاءِ الْقَرْضِ مِنْ الْبَيْعِ أَنَّ الْبَيْعَ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَالْقَرْضُ كَذَلِكَ، لَكِنْ أَخْرَجُوا الْقَرْضَ مِنْ الْبَيْعِ حَيْثُ أَجَازُوا فِيهِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ، وَهُوَ إقْرَاضُ الْمَجْهُولِ كَمِلْءِ غِرَارَةٍ بِمِثْلِهَا عَدَمُ مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا وَالدُّخُولُ عَلَى ذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْجُزَافَ الْمَدْخُولَ عَلَيْهِ فِي الْبَيْعِ غَيْرُ جَائِزٍ، وَيَجُوزُ فِيهِ جَهْلُ الْأَجَلِ بِخِلَافِ الْبَيْعِ، وَيُقْرَضُ مَا لَا يُبَاعُ كَجِلْدِ الْأُضْحِيَّةِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ الرِّفْقُ بِالْمُتَسَلِّفِ حَيْثُ يَجُوزُ فِي السَّلَفِ مَا لَا يَجُوزُ فِي الْبَيْعِ. (وَلَا يَجُوزُ) أَيْضًا اشْتِرَاطُ (بَيْعٍ وَسَلَفٍ) «؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ بَيْعٍ وَشَرْطٍ» ، وَحَمَلَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ النَّهْيَ عَلَى شَرْطٍ يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ أَوْ يُخِلُّ بِالثَّمَنِ، فَاَلَّذِي يُنَاقِضُ الْمَقْصُودَ كَأَنْ يَشْتَرِطَ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَبِيعَ تِلْكَ السِّلْعَةَ أَصْلًا أَوْ إلَّا مِنْ نَفَرٍ قَلِيلٍ، أَوْ لَا يَطَأَهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً، أَوْ لَا يَفْعَلَ بِهَا شَيْئًا مِمَّا تُرَادُ لَهُ، أَوْ شَرْطٍ يُخِلُّ بِالثَّمَنِ كَشَرْطِ بَيْعٍ وَسَلَفٍ. وَمَعْنَى إخْلَالِهِ بِالثَّمَنِ أَنَّهُ يَقْتَضِي إمَّا كَثْرَتَهُ إنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ الْمُشْتَرِي، أَوْ نَقْضَهُ إنْ كَانَ الشَّرْطُ مِنْ الْبَائِعِ. وَأَمَّا اجْتِمَاعُ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَوْ اُتُّهِمَا عَلَيْهِ، خِلَافًا لِمَا جَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي بُيُوعِ الْآجَالِ. (تَنْبِيهٌ) . إذَا عَلِمْتَ مَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ ظَهَرَ أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ فِي اجْتِمَاعِ الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنَّ مَحَلَّ الْفَسَادِ عِنْدَ الشَّرْطِ حَيْثُ لَمْ يُسْقِطَاهُ، وَالْأَصَحُّ الْبَيْعُ حَيْثُ أَسْقَطَاهُ قَبْلَ فَوَاتِ السِّلْعَةِ، بِخِلَافِ إسْقَاطِهِ بَعْدَ فَوَاتِهَا فَإِنَّهُ لَا يُوجِبُ الصِّحَّةَ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي الْأَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ إنْ كَانَ هُوَ الْمُسَلِّفَ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا سَلَّفَ الْبَائِعَ أَخَذَهَا بِالنَّقْصِ، وَإِنْ كَانَ الْبَائِعُ هُوَ الْمُسَلِّفُ كَانَ عَلَى الْمُشْتَرِي لَهُ الْأَقَلُّ مِنْهُمَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ غَابَ عَلَى السَّلَفِ بِحَيْثُ يَنْتَفِعُ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْقِيمَةُ قَلَّتْ أَوْ كَثُرَتْ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، أَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْحَطَّابُ، وَهَذَا فِي الْمَبِيعِ الْمُقَوَّمِ، وَأَمَّا الْمِثْلِيُّ فَالْوَاجِبُ مِثْلُهُ مُطْلَقًا، هَذَا حُكْمُ الشَّرْطِ الْمُخِلِّ بِالثَّمَنِ، وَأَمَّا حُكْمُ الشَّرْطِ الْمُنَاقِضِ لِلْمَقْصُودِ كَمَوْتِ الْجَارِيَةِ الَّتِي شَرَطَ بَائِعُهَا عَلَى مُشْتَرِيهَا أَنْ لَا يَطَأَهَا أَوْ أَنْ لَا يَبِيعَهَا فَنَصَّ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَلَى أَنَّ لِلْبَائِعِ الْأَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ قَبْضِهَا، وَمِنْ ثَمَنِهَا. (كَذَلِكَ) أَيْ لَا يَجُوزُ (مَا) أَيْ عَقَدَ (قَارِنُ السَّلَفِ) وَبَيْنَ عُمُومِ مَا يَقُولُهُ (مِنْ إجَارَةٍ أَوْ إكْرَاءٍ) ؛ لِأَنَّهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيْعِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَحِلُّ بَيْعٌ وَسَلَفٌ» فَكَمَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ السَّلَفِ مَعَ الْبَيْعِ، لَا يَجُوزُ شَرْطُ السَّلَفِ مَعَ الْإِجَارَةِ أَوْ الْكِرَاءِ، وَلَا خُصُوصِيَّةَ لِلْبَيْعِ بَلْ النِّكَاحُ وَالشَّرِكَةُ وَالْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ وَالصَّرْفُ لَا يَجُوزُ شَرْطُ السَّلَفِ مَعَ وَاحِدٍ مِنْهَا؛ لِأَنَّ الزَّوْجَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 الدَّيْنِ عَلَى تَعْجِيلِهِ وَلَا التَّأْخِيرُ بِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ وَلَا تَعْجِيلُ عَرْضٍ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ إذَا كَانَ مِنْ بَيْعٍ. وَلَا بَأْسَ بِتَعْجِيلِهِ   [الفواكه الدواني] النِّكَاحِ مِثْلُ الْمُشْتَرِي فِي الْبَيْعِ، وَالزَّوْجَةَ مِثْلُ الْبَائِعِ، وَصَدَاقَ الْمِثْلِ نَظِيرُ الْقِيمَةِ فِي السِّلْعَةِ، وَالْمُسَمَّى نَظِيرُ الثَّمَنِ لِلسِّلْعَةِ فِي الْبَيْعِ. وَالضَّابِطُ الْحَاصِرُ لِمَا يَمْتَنِعُ جَمْعُهُ مَعَ السَّلَفِ هُوَ كُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ. وَأَمَّا اجْتِمَاعُ السَّلَفِ مَعَ الصَّدَقَةِ أَوْ الْهِبَةِ إنْ كَانَ السَّلَفُ مِنْ الْمُتَصَدِّقِ أَوْ مِنْ الْوَاهِبِ فَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ فَلَا يَجُوزُ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْبَيْعِ، وَمَا مَعَهُ مِنْ نَحْوِ الْإِجَارَةِ وَالْكِرَاءِ، لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْبَيْعِ مَعَ النِّكَاحِ أَوْ الشَّرِكَةِ أَوْ الْجُعْلِ أَوْ الْمُغَارَسَةِ أَوْ الْمُسَاقَاةِ، وَلَا جَمْعُ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَعَ الْآخَرِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ يَحْرُمُ جَمْعُهُ مَعَ الْبَيْعِ، وَمَا مَعَهُ شَرَعَ فِي حُكْمِ السَّلَفِ وَحْدَهُ وَفِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ سَلَفُهُ، وَمَا لَا يَجُوزُ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّلَفُ) ، وَهُوَ الْقَرْضُ (جَائِزٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ) يَحِلُّ تَمَلُّكُهُ وَلَوْ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ فَيَدْخُلُ جِلْدُ الْمَيْتَةِ الْمَدْبُوغُ وَلَحْمُ الْأُضْحِيَّةِ، وَمِلْءُ الظَّرْفِ الْمَجْهُولِ. (إلَّا فِي سَلَفِ الْجَوَارِي) لِمَنْ تَحِلُّ لَهُ عَلَى تَقْدِيرِ مِلْكِهَا، فَلَا يَجُوزُ سَلَفُهَا لَهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ عَارِيَّةِ الْفُرُوجِ؛ لِأَنَّ الْمُقْتَرِضَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَرُدَّ نَفْسَ الذَّاتِ الْمُقْتَرَضَةِ، وَرُبَّمَا يَكُونُ رَدُّهَا بَعْدَ التَّلَذُّذِ بِهَا، وَلِذَا لَا يَحْرُمُ إقْرَاضُهَا لِمَنْ لَا يَأْتِي مِنْهُ الِاسْتِمْتَاعُ كَصَغِيرٍ وَشَيْخٍ فَانٍ، أَوْ كَانَ الْمُقْتَرِضُ امْرَأَةً وَكَانَتْ الْجَارِيَةُ لَا تُشْتَهَى، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا جَارِيَةً تَحِلُّ لِلْمُسْتَقْرِضِ وَرُدَّتْ إلَّا أَنْ تَفُوتَ بِمُفَوِّتِ الْبَيْعِ الْفَاسِدِ فَالْقِيمَةُ، وَلَا تُرَدُّ كَاسْتِيلَادِهَا وَلَا يَغْرَمُ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ وَلَدِهَا، وَلَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَاخْتَلَفَتْ فِي الْغَيْبَةِ عَلَيْهَا هَلْ تَكُونُ فَوْتًا مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ يُمْكِنَ فِيهَا الْوَطْءُ ثَالِثُ الْأَقْوَالِ لَا تَفُوتُ إلَّا بِالْوَطْءِ، وَمِثْلُ الْجَارِيَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حُرْمَةِ إقْرَاضِهَا لَا تَحْصُرُهُ الصِّفَةُ كَتُرَابِ الصَّوَّاغِينَ، وَمَا لَا يُقْدَرُ عَلَى وَفَائِهِ بِمِثْلِهِ كَالدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَالْأَشْجَارِ، وَإِنْ أَمْكَنَ وَصْفُهَا، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ عَقِبَ قَوْلِهِ إلَّا فِي الْجَوَارِي (وَكَذَلِكَ تُرَابُ الْفِضَّةِ) لَا يَجُوزُ قَرْضُهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حَقِيقَةَ السَّلَفِ وَبَيَّنَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: دَفْعُ مُتَمَوَّلٍ فِي عِوَضٍ غَيْرِ مُخَالِفٍ لَهُ عَاجِلًا تَفَضُّلًا فَقَطْ لَا يُوجِبُ إمْكَانَ عَارِيَّةٍ لَا تَحِلُّ مُتَعَلِّقًا بِذِمَّةٍ، وَقَالَ غَيْرُ مُخَالِفٍ لِيَشْمَلَ مَا إذَا رَدَّ عَيْنَ مَا تَسَلَّفَهُ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ لَا عَاجِلًا عَنْ الْمُبَادَلَةِ الْمِثْلِيَّةِ، وَقَوْلُهُ تَفَضُّلًا أَشَارَ بِهِ إلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا إذَا تَمَحَّضَ النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، لَا إنْ حَصَلَ بِهِ نَفْعٌ لِلْمُقْرِضِ أَوْ لِأَجْنَبِيٍّ مِنْ نَاحِيَةِ الْمُقْرِضِ فَلَا يَجُوزُ. الثَّانِي: تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِجَائِزٍ يُوهِمُ إبَاحَتَهُ؛ لِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي الْجَائِزِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ أَرَادَ بِالْجَائِزِ الْمَأْذُونَ فِيهِ شَرْعًا، لَا يُنَافِي أَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إيصَالِ النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ وَتَفْرِيجِ كُرْبَتِهِ بَلْ قِيلَ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى مَكْتُوبًا عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ: دِرْهَمُ الْقَرْضِ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ وَدِرْهَمُ الصَّدَقَةِ بِعَشَرَةٍ، ثُمَّ سَأَلَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جِبْرِيلَ وَقَالَ: مَا بَالُ الْقَرْضِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ؟ فَقَالَ: لِأَنَّ السَّائِلَ يَسْأَلُ وَعِنْدَهُ وَالْمُقْتَرِضُ لَا يَقْتَرِضُ إلَّا مِنْ حَاجَتِهِ» . وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمَدُ أَنَّ الصَّدَقَةَ أَفْضَلُ مِنْ الْقَرْضِ؛ لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ لَا يَأْخُذُ بَدَلَهَا بِخِلَافِ الْمُقْرِضِ، وَالْحَدِيثُ ضَعِيفٌ أَوْ مَحْمُولٌ عَلَى صَدَقَةٍ لَمْ تَقَعْ الْمَوْقِعَ مَعَ قَرْضٍ وَقَعَ لِمَكْرُوبٍ انْدَفَعَتْ بِهِ كُرْبَتُهُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ مَا يَقْتَضِي وُجُوبُهُ أَوْ حُرْمَتُهُ أَوْ كَرَاهَتُهُ وَتَعْسُرُ إبَاحَتُهُ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ النَّدْبُ، وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ أَنْوَاعِ الْمَعْرُوفِ وَقَدْ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَلَفَ مِنْ رَجُلٍ بِكْرًا فَجَاءَتْهُ إبِلُ الصَّدَقَةِ. قَالَ أَبُو رَافِعٍ: فَأَمَرَنِي أَنْ أَقْضِيَ الرَّجُلَ بِكْرًا، فَقُلْت: لَا أَجِدُ إلَّا جَمَلًا خِيَارًا رُبَاعِيًّا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْطِهِ إيَّاهُ فَإِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وَلَعَلَّ هَذَا قَبْلَ حُرْمَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِلَّا فَكَيْفَ يَقْضِي مَا عَلَيْهِ مِنْ إبِلِ الصَّدَقَةِ وَالرُّبَاعِيُّ مِنْ الْإِبِلِ مَا دَخَلَ فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ. 1 - الثَّالِثُ: السَّلَفُ يُمْلَكُ وَيَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ كَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْمَعْرُوفِ مِنْ صَدَقَةٍ، وَهِبَةٍ وَنِحْلَةٍ وَعُمْرَى وَغَيْرِهَا لِلْمُسْتَلِفِ، وَإِذَا قَبَضَهُ لَا يَلْزَمُهُ رَدُّهُ لِرَبِّهِ إلَّا إذَا انْتَفَعَ بِهِ عَادَةَ أَمْثَالِهِ أَوْ يَمْضِي الْأَجَلُ الْمُشْتَرَطُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُلِكَ وَلَمْ يَلْزَمْ رَدُّهُ إلَّا بِشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ، وَيَجُوزُ ضَرْبُ الْأَجَلِ فِي الْقَرْضِ عِنْدَ مَالِكٍ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَئِمَّةِ، وَإِذَا دَفَعَهُ الْمُقْتَرِضُ لَزِمَ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ عَيْنٍ حَيْثُ دَفَعَهُ لَهُ بِمَحَلِّهِ لَا بِغَيْرِهِ فَلَا يَلْزَمُهُ، بِخِلَافِ الْعَيْنِ فَيَلْزَمُهُ الْقَبُولُ مُطْلَقًا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ مَخُوفًا فَلَا يَلْزَمُهُ الْقَبُولُ قَبْلَ الْمَحَلِّ كَسَائِرِ الدُّيُونِ هَذَا هُوَ الَّذِي يَنْبَغِي. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَشْيَاءَ نَهَى عَنْهَا الشَّارِعُ فَقَالَ: (لَا تَجُوزُ الْوَضِيعَةُ) أَيْ الْحَطِيطَةُ (مِنْ الدَّيْنِ) كَانَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ (عَلَى) شَرْطِ (تَعْجِيلِهِ) قَبْلَ حُلُولِهِ كَأَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ دَيْنُ عَرَضٍ أَوْ عَيْنٍ أَوْ طَعَامٍ لِأَجَلٍ كَشَهْرٍ مَثَلًا وَيَتَّفِقُ مَعَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عَلَى إسْقَاطِ بَعْضِهِ وَيُعَجِّلُ لَهُ الْبَاقِيَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ فَهَذَا حَرَامٌ، وَتُسَمَّى هَذِهِ الصُّورَةُ بِضَعْ مِنْ حَقِّك وَتَعَجَّلْ، أَيْ حُطَّ عَنِّي حِصَّةً مِنْهُ وَأُعَجِّلُ لَك بَاقِيَهُ، وَحُرْمَةُ ضَعْ وَتَعَجَّلْ عَامَّةٌ فِي دَيْنٍ بِالْبَيْعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 ذَلِكَ مِنْ قَرْضٍ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ، وَمَنْ رَدَّ فِي الْقَرْضِ أَكْثَرَ عَدَدًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطٌ وَلَا وَأْيٌ وَلَا عَادَةٌ فَأَجَازَهُ أَشْهَبُ وَكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَلَمْ يُجِزْهُ، وَمَنْ عَلَيْهِ دَنَانِيرُ أَوْ دَرَاهِمُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] وَالْقَرْضِ كَمَا بَيَّنَّا، وَإِنَّمَا امْتَنَعَ لِأَدَائِهِ إلَى سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا بَيَانُهُ أَنَّ مَنْ عَجَّلَ شَيْئًا قَبْلَ وُجُوبِهِ يُعَدُّ مُسَلِّفًا لِمَا عَجَّلَهُ لِيَأْخُذَ عَنْهُ بَعْدَ الْأَجَلِ مَا كَانَ فِي ذِمَّتِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ الدَّيْنِ، فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ رَدَّ إلَيْهِ مَا أَخَذَهُ وَيَسْتَحِقُّ جَمِيعَ دَيْنِهِ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ حَتَّى انْقَضَى الْأَجَلُ وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَنْ يَدْفَعَ لَهُ الْبَاقِيَ الَّذِي كَانَ أَسْقَطَهُ عَنْهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ. (وَ) كَمَا لَا يَجُوزُ تَعْجِيلُ الدَّيْنِ عَلَى إسْقَاطِ بَعْضِهِ (لَا يَجُوزُ التَّأْخِيرُ) أَيْ تَأْخِيرُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ (بِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ) كَانَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، كَانَ مِنْ عَيْنٍ أَوْ غَيْرِهَا؛ لِأَنَّهُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ وَفِيهِ سَلَفٌ بِزِيَادَةٍ؛ لِأَنَّ الْمُؤَخِّرَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ مُسَلِّفٌ، وَهُوَ يَأْخُذُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ بَعْدَ الْأَجَلِ الثَّانِي كَانَتْ الزِّيَادَةُ مِنْ الْمِدْيَانِ أَوْ مِنْ أَجْنَبِيٍّ؛ لِأَنَّ فَسْخَ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ حَرَامٌ مُطْلَقًا. وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ عَلَى الزِّيَادَةِ أَنَّ تَأْخِيرَ الدَّيْنِ أَجَلًا ثَانِيًا مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ أَوْ مَعَ تَرْكِ بَعْضِهِ لَا حُرْمَةَ فِيهِ بَلْ مَنْدُوبٌ لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِرْفَاقِ بِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَالتَّبَرُّعُ لَهُ بِإِسْقَاطِ بَعْضِهِ. (وَ) مِمَّا هُوَ مُحَرَّمٌ أَنْ (لَا يُعَجَّلَ عَرَضٌ) أَيْ غَيْرُ نَقْدٍ قَبْلَ أَجَلِهِ (عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ) سَوَاءٌ كَانَتْ تِلْكَ الزِّيَادَةُ فِي الْكَمْيَّةِ أَوْ الْكَيْفِيَّةِ، وَمَحَلُّ الْحُرْمَةِ. (إذَا كَانَ) الْعَرَضُ (مِنْ بَيْعٍ) أَوْ سَلَمٍ. وَتُعْرَفُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِ " حُطَّ الضَّمَانَ عَنِّي وَأَنَا أَزْيَدُك "، وَلَا فَرْقَ فِي تِلْكَ الزِّيَادَةِ بَيْنَ كَوْنِهَا مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ أَوْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ مِنْ الْجِنْسِ فِي الْكَمْيَّةِ أَنْ يَكُونَ لَهُ عَشَرَةُ أَثْوَابٍ أَسْيُوطِيَّةٍ لِشَهْرٍ، وَيَتَّفِقُ مَعَ مَنْ هِيَ عَلَيْهِ عَلَى أَنْ يُعَجِّلَهَا لَهُ نِصْفَ الشَّهْرِ مَعَ زِيَادَةِ ثَوْبٍ مِنْ نَوْعِهَا، وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ مِنْ الْجِنْسِ فِي الْكَيْفِيَّةِ أَنْ يُعَجِّلَ الْعَدَدَ عَلَى وَصْفٍ أَجْوَدَ مِنْ الْمُشْتَرَطِ، وَمِثَالُ الزِّيَادَةِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ أَنْ يُعَجِّلَ الْأَثْوَابَ عَلَى وَصْفِهَا مَعَ زِيَادَةِ دِرْهَمٍ أَوْ طَعَامٍ. وَمَفْهُومُ عَلَى الزِّيَادَةِ أَنَّ التَّعْجِيلَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ وَلَا نُقْصَانٍ جَائِزٌ حَيْثُ رَضِيَ الْمُسَلِّمُ بِتَعْجِيلِهَا قَبْلَ أَجَلِهَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مِنْ حَقِّهِمَا فِيهَا. وَأَمَّا التَّعْجِيلُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَقَلَّ عَدَدًا أَوْ أَدْنَى صِفَةً فَيَمْتَنِعُ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمُ فِي قَوْلِهِ: وَلَا تَجُوزُ الْوَضِيعَةُ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى تَعْجِيلِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ تَعْجِيلِ أَوْ تَأْخِيرِ الدَّيْنِ عَلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ كَانَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ وَعَلَى تَعْجِيلِ عَرَضِ الْبَيْعِ بِزِيَادَةٍ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَرَضِ الْقَرْضِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِتَعْجِيلِهِ ذَلِكَ) الْعَرَضِ عَلَى الزِّيَادَةِ فِيهِ حَيْثُ كَانَ (مِنْ قَرْضٍ إذَا كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الصِّفَةِ) ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى إذَا كَانَ دَفْعُ الزِّيَادَةِ فِي الصِّفَةِ بَعْدَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ زِيَادَةَ الصِّفَةِ مُتَّصِلَةٌ فَلَا تُهْمَةَ بِسَبَبِهَا، «وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَدَّ فِي سَلَفِ بِكْرٍ جَمَلًا رُبَاعِيًّا وَقَالَ: إنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» وَلِأَنَّ حُطَّ الضَّمَانَ وَأَزِيدُك لَا يَدْخُلُ الْقَرْضَ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْقَرْضِ مِنْ حَقِّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ فَمِنْ حَقِّهِمَا، وَلِذَلِكَ لَوْ عَجَّلَ الْمُقْتَرِضُ الْقَرْضَ قَبْلَ أَجَلِهِ وَفِي مَحَلِّهِ يَلْزَمُ الْمُقْرِضَ قَبُولُهُ إنْ كَانَ جَمِيعُ الْحَقِّ أَوْ بَعْضُهُ لِعُسْرِهِ بِالْبَاقِي. وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَقَضَاءُ قَرْضٍ بِمُسَاوٍ وَأَفْضَلِ صِفَةٍ أَيْ جَائِزٌ، سَوَاءٌ حَلَّ الْأَجَلُ أَوْ لَمْ يَحِلَّ، سَوَاءٌ كَانَ الْقَرْضُ عَيْنًا أَوْ طَعَامًا أَوْ عَرَضًا، وَأَمَّا قَضَاؤُهُ بِأَقَلَّ صِفَةً أَوْ قَدْرًا أَوْ فِيهِمَا فَيَجُوزُ إنْ حَلَّ لَا إنْ لَمْ يَحِلَّ، فَلَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْ مِنْ حَقِّك وَتَعَجَّلْ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ شَامِلٌ لِلْقَرْضِ قَبْلَ الْأَجَلِ، وَلَوْ نَقَصَ صِفَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْ مِنْ حَقِّك وَتَعَجَّلْ، وَهِيَ مَمْنُوعَةٌ لِلسَّلَفِ الَّذِي يَجُرُّ نَفْعًا كَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا. وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا: وَإِنْ حَلَّ الْأَجَلُ بِأَقَلَّ صِفَةً وَقَدْرًا، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ فِي الصِّفَةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ رَدَّ فِي الْقَرْضِ) الَّذِي عَلَيْهِ (أَكْثَرَ عَدَدًا فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ) الْمُرَادُ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِمَجْلِسِ الْقَضَاءِ حُلُولُ أَجَلِ الْقَضَاءِ وَذَلِكَ إنَّمَا يَكُونُ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجَلِ. (فَقَدْ اخْتَلَفَ) الْعُلَمَاءُ (فِي ذَلِكَ) بِالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ وَقَيَّدَ الْخِلَافَ بِقَوْلِهِ: (إذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شَرْطٌ وَلَا وَأْيٌ) أَيْ وَعْدٌ (وَلَا عَادَةٌ) بَيْنَ النَّاسِ بِقَضَاءِ الْأَكْثَرِ، وَبَيَّنَ الْخِلَافَ بِقَوْلِهِ: (فَأَجَازَهُ أَشْهَبُ) لِظَاهِرِ حَدِيثِ «خِيَارُ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً» . (وَكَرِهَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ) أَيْ مَنَعَهُ بِقَرِينَةٍ (وَلَمْ يُجِزْهُ) وَكَلَامُ ابْنِ الْقَاسِمِ هُوَ الْمُفْتَى بِهِ، وَعَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: لَا أَزِيدُ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا إلَّا كَرُجْحَانِ مِيزَانٍ عَلَى مِيزَانٍ فَيَجُوزُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: فَحَيْثُ كَانَ التَّعَامُلُ بِالْعَدَدِ يَجُوزُ قَضَاءُ ذَلِكَ الْعَدَدِ كَانَ مِثْلَ وَزْنِهِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ أَزْيَدَ فِي الْعَدَدِ كَانَ مُسَاوِيًا لَهُ فِي الْوَزْنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، وَإِنْ قَضَاهُ أَقَلَّ مِنْ الْعَدَدِ، فَإِنْ سَاوَى الْأَقَلُّ وَزْنَ جَمِيعِ الْعَدَدِ أَوْ نَقَصَ عَنْهُ جَازَ، وَإِلَّا مُنِعَ هَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ الْعَامِلُ بِالْوَزْنِ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقْضِيَهُ ذَلِكَ الْوَزْنَ زَادَ عَلَى الْعَدَدِ أَوْ نَقَصَ أَوْ سَاوَى. وَلَا يَجُوزُ الْقَضَاءُ بِأَكْثَرَ مُطْلَقًا، وَيَجُوزُ الْقَضَاءُ بِأَقَلَّ حَيْثُ حَلَّ الْأَجَلُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ التَّعَامُلُ بِالْعَدَدِ وَبِالْوَزْنِ فَاخْتَارَ الْأُجْهُورِيُّ إلْغَاءَ الْعَدَدِ وَاخْتَارَ غَيْرُهُ إلْغَاءَ الْوَزْنِ رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. وَحَمَلْنَا مَجْلِسَ الْقَضَاءِ عَلَى حُلُولِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّهُ الْمُتَعَيَّنُ كَمَا هُوَ مَوْضُوعُ كَلَامِ خَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْقَضَاءَ قَبْلَ الْأَجَلِ بِأَكْثَرَ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، كَمَا اُتُّفِقَ عَلَى حُرْمَةِ الزِّيَادَةِ عِنْدَ الشَّرْطِ أَوْ الْوَعْدِ أَوْ الْعَادَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ الْعَرَضِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 قَرْضٍ مُؤَجَّلٍ فَلَهُ أَنْ يُعَجِّلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ وَكَذَلِكَ لَهُ أَنْ يُعَجِّلَ الْعُرُوضَ وَالطَّعَامَ مِنْ قَرْضٍ لَا مِنْ بَيْعٍ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَمَرٍ أَوْ حَبٍّ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ وَيَجُوزُ بَيْعُهُ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ، وَإِنْ نَخْلَةً مِنْ نَخِيلٍ كَثِيرَةٍ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْأَنْهَارِ   [الفواكه الدواني] دَرَاهِمُ أَوْ دَنَانِيرُ مِنْ بَيْعٍ أَوْ مِنْ قَرْضٍ مُؤَجَّلٍ) كُلٌّ مِنْهُمَا (فَلَهُ) أَيْ فَيَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ مَا ذُكِرَ (أَنْ يُعَجِّلَهُ قَبْلَ أَجَلِهِ) مُسَاوِيًا لِمَا فِي الذِّمَّةِ أَوْ أَعْلَى وَيُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى قَبُولِهِ؛ لِأَنَّ أَجَلَ دَيْنِ الْعَيْنِ مِنْ حَقِّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ كَانَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ قَرْضٍ، وَلَا فَرْقَ فِي جَبْرِ صَاحِبِ الْعَيْنِ عَلَى قَبُولِهَا بَيْنَ كَوْنِ الدَّفْعِ فِي بَلَدِ الْقَرْضِ أَوْ غَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا كُلْفَةَ فِي حَمْلِ الْعَيْنِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلُ الْعَيْنِ غَيْرَهَا مِمَّا يَخِفُّ حَمْلُهُ كَالْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ، وَإِنْ أُلْحِقَتْ بِالْعُرُوضِ فِي غَيْرِ هَذَا، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَشَارَ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَجَازَ قَبْلَ زَمَانِهِ قَبُولُ صِفَتِهِ. قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ وَفِي مَحَلِّهِ ثُمَّ قَالَ: كَفِيلُ مَحَلِّهِ فِي الْقَرْضِ مُطْلَقًا، وَفِي الطَّعَامِ إنْ حَلَّ إنْ لَمْ يَدْفَعْ كِرَاءً وَلَزِمَ بَعْدَهُمَا كَقَاضٍ إنْ غَابَ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ لُزُومُ قَبُولِ دَيْنِ الْعَيْنِ، وَمَا أُلْحِقَ بِهَا فِي غَيْرِ بَلَدِ الْقَرْضِ بِأَنْ لَا يَكُونَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ خَوْفٌ، وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا فِي دَيْنِ غَيْرِ الْعَيْنِ، وَيُقَيَّدُ أَيْضًا لُزُومُ الْقَبُولِ بِأَنْ يُجْعَلَ جَمِيعُهُ أَوْ بَعْضُهُ مَعَ عُسْرِهِ بِالْبَاقِي، وَقَوْلُنَا مُسَاوِيًا أَوْ أَعْلَى؛ لِأَنَّ تَعْجِيلَ الْأَقَلِّ حَرَامٌ كَمَا تَقَدَّمَ لِمَا فِيهِ مِنْ ضَعْ مِنْ حَقِّك وَتَعَجَّلْ؛ لِأَنَّهُ يَدْخُلُ الْقَرْضَ أَيْضًا، وَتَعْجِيلُ الْأَكْثَرِ عَدَدًا أَوْ وَزْنًا فَوْقَ رُجْحَانِ الْمِيزَانِ فِيهِ سَلَفٌ جَرَّ نَفْعًا، وَهُوَ حَرَامٌ فِي الْقَرْضِ، بِخِلَافِ ثَمَنِ الْمَبِيعِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ قَضَاؤُهُ بِأَكْثَرَ إذَا كَانَ عَيْنًا. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي قَضَاءِ الْقَرْضِ: وَثَمَنُ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَيْنِ كَذَلِكَ وَجَازَ بِأَكْثَرَ. (تَنْبِيهٌ) . إذَا عَرَفْت هَذَا فَكَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ لَوْ قَالَ بَدَلَ فَلَهُ أَيْ يُعَجِّلُهُ قَبْلَ أَجَلِهِ فَيَجِبُ عَلَى صَاحِبِهَا قَبُولُهَا قَبْلَ أَجَلِهَا؛ لِأَنَّ الضَّمِيرَ رَاجِعٌ لِلدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَلِأَجْلِ الْإِخْرَاجِ الْآتِي فِي قَوْلِهِ: لَا مِنْ بَيْعٍ فَإِنَّهُ مُخْرَجٌ مِنْ لُزُومِ الْقَبُولِ لَا مِنْ جَوَازِ التَّعْجِيلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَوَهَّمٍ، وَهُوَ جَائِزٌ فِي عُرُوضِ الْبَيْعِ وَالسَّلَمِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ هِيَ عَلَيْهِ تَعْجِيلُهَا قَبْلَ أَجَلِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ مِنْ حَقِّهِمَا فَيَجُوزُ أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى التَّعْجِيلِ، وَلَكِنَّ الْمُصَنِّفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لَمْ يَقْصِدْ التَّدْقِيقَ فِي التَّعْبِيرِ نَظَرًا لِحَالِ مَنْ قَصَدَهُ بِكِتَابِهِ، وَلَمَّا كَانَ دَيْنُ الْقَرْضِ يَفْتَرِقُ فِيهِ عَرَضُ الْبَيْعِ مِنْ الْقَرْضِ بَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ لَهُ) أَيْ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ (أَنْ يُعَجِّلَ الْعُرُوضَ وَالطَّعَامَ) قَبْلَ الْأَجَلِ إذَا كَانَتَا (مِنْ قَرْضٍ) وَيُجْبَرُ الْمُقْتَرِضُ عَلَى قَبُولِهَا؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي الْقَرْضِ مِنْ حَقِّ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَإِذَا أُسْقِطَ حَقُّهُ مِنْهُ لَزِمَ الْآخَرَ الْقَبُولُ حَيْثُ كَانَ فِي بَلَدِ الْقَرْضِ، وَإِلَّا لَا يَلْزَمُهُ لِكُلْفَةِ الْحَمْلِ بِخِلَافِ الْعَيْنِ كَمَا تَقَدَّمَ (لَا مِنْ بَيْعٍ) فَلَا يَلْزَمُ صَاحِبَ دَيْنِ الْعَرَضِ وَالطَّعَامِ قَبُولُهُ قَبْلَ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ الْأَجَلَ فِي عَرَضِ الْبَيْعِ، وَمِنْهُ السَّلَمُ مِنْ حَقِّهِمَا، فَإِذَا عَجَّلَهُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لَا يَلْزَمُ صَاحِبَهُ قَبُولُهُ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِهِ، وَهُوَ عَدَمُ جَوَازِ التَّعْجِيلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ عَلَيْهِ دَيْنُ الْعَرَضِ تَعْجِيلُهُ إذَا رَضِيَ مَنْ هُوَ لَهُ بِقَبْضِهِ قَبْلَ أَجَلِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَيْنَ الْعَيْنِ يَجُوزُ لِمَنْ هُوَ عَلَيْهِ تَعْجِيلُهُ وَيَلْزَمُ صَاحِبَهُ قَبُولُهُ، لَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِهِ مِنْ قَرْضٍ أَوْ بَيْعٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْعَيْنِ فَيُفَصَّلُ فِيهِ إنْ كَانَ مِنْ قَرْضٍ، فَكَذَلِكَ يَجُوزُ تَعْجِيلُهُ وَيُجْبَرُ مُسْتَحِقُّهُ عَلَى قَبُولِهِ، وَأَمَّا مِنْ بَيْعٍ فَلَا يُجْبَرُ مُسْتَحِقُّهُ عَلَى قَبُولِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْأَجَلُ فِي عُرُوضِ الْبَيْعِ مِنْ حَقِّهِمَا؛ لِأَنَّهَا تُرْصَدُ بِهَا الْأَسْوَاقُ طَلَبًا لِلْأَرْبَاحِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ لُزُومُ قَبُولِ دَيْنِ الْقَرْضِ الْعَيْنِ مُطْلَقًا أَوْ غَيْرِ الْعَيْنِ حَيْثُ كَانَ الدَّفْعُ فِي بَلَدِ الْقَرْضِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِهَا فَلَا يَلْزَمُ قَبُولُ غَيْرِ التَّعَيُّنِ مُطْلَقًا، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ قَبُولُ الْعَيْنِ إذَا كَانَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ خَوْفٌ. الثَّانِي: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ حُكْمِ الدَّفْعِ بَعْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ لِوُضُوحِ أَمْرِهِ، وَهُوَ وُجُوبُ الدَّفْعِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ وَوُجُوبُ الْقَبُولِ عَلَى مَنْ هُوَ لَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ بَعْدَهُمَا كَقَاضٍ إنْ غَابَ وَجَازَ أَجْوَدُ وَأَرْدَأُ لَا أَقَلُّ إلَّا عَنْ مِثْلِهِ وَيُبْرِئُ مِمَّا زَادَ، أَيْ يَجُوزُ لِلْمُسَلِّمِ أَنْ يَقْبَلَ مِنْ الْمُسَلَّمِ إلَيْهِ بَعْدَ الْأَجَلِ، وَفِي مَحَلِّ السَّلَمِ الْأَجْوَدَ عَلَى الْأَدْنَى وَالْأَدْنَى عَنْ الْأَجْوَدِ؛ لِأَنَّ قَضَاءَ الْأَجْوَدِ حَسَنُ قَضَاءٍ وَالْأَدْنَى حَسَنُ اقْتِضَاءٍ، وَأَمَّا قَبُولُ الْأَقَلِّ قَدْرًا عَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَمَا لَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالْحَدِيدِ وَالْخَشَبِ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، وَأَمَّا مَا يَدْخُلُهُ الرِّبَا كَالْأَطْعِمَةِ وَالنُّقُودِ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِشَرْطِ أَخْذِ الْقَلِيلِ عَنْ مِثْلِهِ، وَإِبْرَاءِ ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ مِمَّا زَادَ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ، وَأَمَّا أَخْذُ الْقَلِيلِ صُلْحًا عَنْ الْجَمِيعِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ خَلِيلٍ ذَكَرْنَاهُ إتْمَامًا لِلْفَائِدَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسَائِلَ يُعْلَمُ مِنْهَا شَرْطِيَّةُ الِانْتِفَاعِ وَالْعِلْمِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَالْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهِ وَعَدَمِ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ ثَمَرٍ) بِالْمُثَلَّثَةِ كَبَلَحٍ وَعِنَبٍ (أَوْ حَبٍّ) كَقَمْحٍ وَفُولٍ (لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ) ؛ لِعَدَمِ الِانْتِفَاعِ بِهِ الْمُعْتَبَرَ شَرْعًا فِي الْبَيْعِ، وَلِذَا «نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ» ، وَمَحَلُّ الْمَنْعِ لَمَّا ذَكَرَ إنْ وَقَعَ عَلَى شَرْطِ التَّبْقِيَةِ أَوْ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا عَلَى شَرْطِ الْجَذِّ فَيَجُوزُ إنْ نَفَعَ وَاضْطُرَّ لَهُ وَلَمْ يَتَمَالَأْ عَلَيْهِ. وَكَذَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ تَبَعًا لِأَصْلِهِ بِأَنْ اشْتَرَيَا مَعَهُ أَوْ الْأَصْلَ أَوَّلًا ثُمَّ أُلْحِقَ بِهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وَالْبِرَكِ مِنْ الْحِيتَانِ. وَلَا بَيْعُ الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ وَلَا بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ، وَلَا بَيْعُ نِتَاجِ النَّاقَةِ وَلَا بَيْعُ مَا   [الفواكه الدواني] وَالْأَصْلُ وَالْأَشْجَارُ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّمَرِ، وَالْأَرْضُ بِالنِّسْبَةِ لِلْحُبُوبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ بَيْعُ ثَمَرٍ وَنَحْوِهِ بَدَا صَلَاحُهُ إنْ لَمْ يَسْتَتِرْ وَقَبْلَهُ مَعَ أَصْلِهِ أَوْ أُلْحِقَ بِهِ أَوْ عَلَى قَطْعِهِ إنْ نَفَعَ وَاضْطُرَّ لَهُ وَلَمْ يَتَمَالَأْ عَلَيْهِ عَلَى التَّبْقِيَةِ أَوْ الْإِطْلَاقِ، وَإِذَا وَقَعَ الشِّرَاءُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ، وَضَمَانُ الثَّمَرَةِ مِنْ الْبَائِعِ مَا دَامَتْ فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ، فَإِذَا جَذَّهَا رَطْبَةً رَدَّ قِيمَتَهَا وَتَمْرًا رَدَّهُ بِعَيْنِهِ إنْ كَانَ قَائِمًا، وَإِلَّا رَدَّ مِثْلَهُ إنْ عُلِمَ، وَإِلَّا قِيمَتَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَجُوزُ بَيْعُهُ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ ثَمَرٍ وَحَبٍّ (إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ) وَأَوْلَى كُلُّهُ قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ بَيْعُ ثَمَرٍ وَنَحْوِهِ بَدَا صَلَاحُهُ إنْ لَمْ يَسْتَتِرْ، فَإِنْ اسْتَتَرَ فِي أَكْمَامِهِ كَقَلْبِ لَوْزٍ وَجَوْزٍ فِي قِشْرِهِ وَكَقَمْحٍ فِي سُنْبُلِهِ وَبِزْرِ كَتَّانٍ فِي جَوْزِهِ لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ جُزَافًا؛ لِعَدَمِ الرُّؤْيَةِ وَيَصِحُّ كَيْلًا، وَأَمَّا شِرَاءُ مَا ذُكِرَ مَعَ قِشْرِهِ فَيَجُوزُ جُزَافًا وَلَوْ بَاقِيًا فِي شَجَرِهِ لَمْ يُقْطَعْ إذَا بَدَا صَلَاحُهُ، وَلَمْ يَسْتَتِرْ بِوَرَقِهِ، ثُمَّ بَالَغَ عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِبُدُوِّ صَلَاحِ الْبَعْضِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ) كَانَ ذَلِكَ الْبَعْضُ (نَخْلَةً مِنْ نَخِيلٍ كَثِيرَةٍ) إذَا لَمْ تَكُنْ بَاكُورَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَبُدُوُّهُ فِي بَعْضِ حَائِطٍ كَافٍ فِي جِنْسِهِ إنْ لَمْ تُبْكِرْ. وَأَمَّا الْبَاكُورَةُ إذَا بَدَا صَلَاحُهَا وَحْدَهَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ غَيْرِهَا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَيَجُوزُ بَيْعُ ثَمَرِهَا وَحْدَهَا. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ بُدُوَّ صَلَاحِ الْبَلَحِ لَا يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ نَحْوِ الْعِنَبِ، وَهَذَا مُخْتَصٌّ بِالْمَقَاثِي وَالثَّمَرِ، وَأَمَّا بُدُوُّ صَلَاحِ بَعْضِ الزَّرْعِ فَلَا يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ بَاقِيهِ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ يُبْسِ حَبِّ جَمِيعِ الزَّرْعِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الثَّمَرِ وَالْمَقَاثِي يُكْتَفَى بِبُدُوِّ صَلَاحِ بَعْضِ الْجِنْسِ، وَالزَّرْعُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِبُدُوِّ صَلَاحِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ إذْ إنَّ الثَّمَرَ إذَا بَدَا صَلَاحُ بَعْضِهِ يَتْبَعُهُ الْبَاقِي سَرِيعًا، وَمِثْلُهُ نَحْوُ الْقِثَّاءِ بِخِلَافِ الزَّرْعِ، وَلِشِدَّةِ حَاجَةِ النَّاسِ لِأَكْلِ الثِّمَارِ رَطْبَةً. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا يَبْدُو بِهِ الصَّلَاحُ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ فِي الْبَلَحِ الزُّهُوُّ بِضَمِّ الزَّايِ وَالْوَاوِ الْمُشَدَّدَةِ، وَهُوَ احْمِرَارُهُ أَوْ اصْفِرَارُهُ، وَيَقُومُ مَقَامَ الزُّهُوِّ ظُهُورُ الْحَلَاوَةِ فِي الْبَلَحِ الْخُضَارِيِّ، وَأَمَّا بُدُوُّهُ فِي نَحْوِ الْعِنَبِ وَالتِّينِ وَالْمِشْمِشِ فَظُهُورُ الْحَلَاوَةِ وَفِي الْمَوْزِ بِالتَّهَيُّؤِ لِلنُّضْجِ، وَفِي ذِي النَّوْرِ بِفَتْحِ النُّونِ بِانْفِتَاحِهِ كَالْوَرْدِ وَالْيَاسَمِينِ، وَفِي الْبُقُولِ وَاللُّفْتِ وَالْجَزَرِ وَالْفُجْلِ وَالْبَصَلِ بِإِطْعَامِهَا وَاسْتِقْلَالِ وَرَقِهَا بِحَيْثُ لَا تَفْسُدُ عِنْدَ قَلْعِهَا، وَأَمَّا الْبِطِّيخُ الْمَعْرُوفُ بالعبدلاوي وَالْقَاوُونِ فَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَصْفَرَّ. وَالثَّانِي يُكْتَفَى بِتَهَيُّئِهِ لِلِاصْفِرَارِ، وَأَمَّا الْبِطِّيخُ الْأَخْضَرُ فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ بِتَلَوُّنِ لُبِّهِ بِالسَّوَادِ أَوْ الْحُمْرَةِ، وَأَمَّا قَصَبُ السُّكَّرِ فَبِظُهُورِ حَلَاوَتِهِ، وَأَمَّا الْجَوْزُ وَاللَّوْزُ، وَمَا شَابَهَهُمَا فَبِأَخْذِهِ فِي الْيُبْسِ، وَأَمَّا نَحْوُ الْقَمْحِ وَالْفُولِ وَالْعَدَسِ وَنَحْوِهَا مِنْ بَقِيَّةِ الْحُبُوبِ فَبُدُوُّ صَلَاحِهِ يُبْسُهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، فَلَوْ عَقَدَ عَلَيْهِ فَرِيكًا فُسِخَ إلَّا أَنْ يَفُوتَ بِقَبْضِهِ بَعْدَ جَذِّهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَمَضَى بَيْعُ حَبِّ أَفْرُكٍ قَبْلَ يُبْسِهِ بِقَبْضِهِ، وَأَقُولُ: الضَّابِطُ الشَّامِلُ لِكُلِّ مَا سَبَقَ أَنْ يَبْلُغَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْحَالَةَ الَّتِي يُنْتَفَعُ بِهِ فِيهَا عَلَى الْوَجْهِ الْكَامِلِ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ الَّذِي يَطْرَحُ بُطُونًا وَفِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ أَنَّ مَا لَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ مِمَّا يُخَالِفُ كَالْيَاسَمِينِ، وَالْمَقَاثِي كَالْخِيَارِ فَلِلْمُشْتَرِي جَمِيعُ الْبُطُونِ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ شِرَاءُ مَا تَطْرَحُهُ الْمَقْثَأَةُ مُدَّةَ نَحْوِ جُمُعَةٍ أَوْ نِصْفِ شَهْرٍ لِعَدَمِ ضَبْطِ ذَلِكَ، وَأَمَّا مَا تَتَمَيَّزُ بُطُونُهُ بِأَنْ تُقْطَعَ الْبَطْنُ ثُمَّ تَخْلُفُهَا أُخْرَى فَحُكْمُهُ أَنْ تُبَاعَ كُلُّ بَطْنٍ عَلَى حِدَتِهَا، وَلَا يَكْفِي فِي حِلِّ بَيْعِ بَطْنٍ بُدُوُّ صَلَاحِ أُخْرَى. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بَطْنَ ثَانٍ أَوَّلُ هَذَا حُكْمُ الْبُطُونِ الَّتِي تَأْتِي وَتَنْقَطِعُ أَصْلًا، وَبَقِيَ حُكْمُ مَا تَسْتَمِرُّ ثَمَرَتُهُ زَمَنًا طَوِيلًا فَهَذَا يَجِبُ عِنْدَ بَيْعِهِ ضَرْبُ الْأَجَلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ ضَرْبُ الْأَجَلِ إنْ اسْتَمَرَّ كَالْمَوْزِ. الثَّالِثُ: مَا قَرَرْنَاهُ مِنْ نَصْبِ " نَخْلَةً " عَلَى الْخَبَرِيَّةِ لِكَانَ الْمُضْمَرَةِ هُوَ الظَّاهِرُ لِكَثْرَةِ حَذْفِهَا مَعَ اسْمِهَا بَعْدَ إنْ وَلَوْ الشَّرْطِيَّتَيْنِ، وَيُوجَدُ فِي بَعْضِ النُّسَخِ رَفْعُهَا، وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُهُ عَلَى جَعْلِهِ فَاعِلًا بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ، وَإِنْ بَدَا نَخْلَةٌ أَيْ صَلَاحُ نَخْلَةٍ وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُ اسْتِحْسَانِ الرَّفْعِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ عِلْمُهُ: (لَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا فِي الْأَنْهَارِ) جَمْعُ نَهْرٍ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَسُكُونِهَا، وَهِيَ الْبِحَارُ. (وَ) مَا فِي (الْبِرَكِ مِنْ الْحِيتَانِ) لِكَثْرَةِ الْغَرَرِ وَكَذَلِكَ الطَّيْرُ فِي الْهَوَاءِ وَالنَّحْلُ خَارِجًا عَنْ الْجَبْحِ؛ لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِهَا وَتَسَلُّمِهَا. وَأَمَّا لَوْ كَانَ النَّحْلُ فِي جَبْحِهِ فَيَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ بِدُونِ جَبْحِهِ، كَمَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَصَافِيرِ بِقَفَصِهَا لَكِنْ مَذْبُوحَةً وَأَمَّا حَيَّةٌ فَلَا إلَّا أَنْ يَشْتَرِيَهَا مَعَ طَرَفِهَا فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّهُ غَرَرٌ تَابِعٌ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ شِرَاءُ النَّحْلِ فِي جَبْحِهِ وَيُدَخِّلُ الْجَبْحُ تَبَعًا، كَمَا أَنَّهُ لَوْ عَقَدَ عَلَى الْجَبْحِ وَسَكَتَ عَنْ النَّحْلِ أَنَّهُ يَدْخُلُ النَّحْلُ وَلَا يَدْخُلُ الْعَسَلُ فِي الصُّرَّتَيْنِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ مَنْعِ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ قَيَّدَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَحَلٍّ مَحْصُورٍ كَبِرْكَةٍ صَغِيرَةٍ بِحَيْثُ يُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ مَا فِيهَا وَيُقْدَرُ عَلَى تَنَاوُلِهَا، وَإِلَّا جَازَ. (تَنْبِيهٌ) . تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْعِ بَيْعِ السَّمَكِ فِي الْمَاءِ وَسَكَتَ عَنْ جَوَازِ اصْطِيَادِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى جَوَازِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَاءُ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْغَيْرِ، وَأَرَادَ غَيْرُ الْمَالِكِ لِلْأَرْضِ اصْطِيَادَ مَا فِيهَا فَفِي مَنْعِهِ خِلَافٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِمَالِكِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 فِي ظُهُورِ الْإِبِلِ وَلَا بَيْعُ الْآبِقِ وَالْبَعِيرِ الشَّارِدِ. وَنُهِيَ عَنْ بَيْعِ الْكِلَابِ، وَاخْتُلِفَ فِي بَيْعِ مَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ مِنْهَا، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ. وَلَا بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ، وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ سِلْعَةً إمَّا بِخَمْسَةٍ نَقْدًا   [الفواكه الدواني] الْأَرْضِ مَنْعُ الِاصْطِيَادِ مِنْهَا إلَّا فِي صُورَةٍ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ اصْطِيَادُ الْغَيْرِ يَضُرُّ صَاحِبَ الْأَرْضِ، كَأَنْ تَكُونَ الْبِرْكَةُ فِي وَسَطِ زَرْعِ صَاحِبِ الْأَرْضِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا (بَيْعُ الْجَنِينِ) حَالَ كَوْنِهِ (فِي بَطْنِ أُمِّهِ) وَلَا بَيْعُ أُمِّهِ مَعَ اسْتِثْنَائِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُسْتَثْنَى بِبَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ، وَعِلَّةُ الْحُرْمَةِ فِي الْبَيْعِ الْغَرَرُ؛ لِأَنَّ عِتْقَ الْأُمِّ يَسْرِي إلَى جَنِينِهَا لِخَبَرِ: «كُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا» . (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا (بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ) مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ مَا قَبْلَهُ (وَلَا بَيْعُ نِتَاجِ مَا تُنْتَجُ) بِضَمِّ التَّاءِ الْأُولَى وَفَتْحِ الثَّانِيَةِ عَلَى لَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ الَّذِي بِمَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَفَاعِلُهُ (النَّاقَةُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُبَاعُ حَبَلُ الْحَبَلَةِ» فَقَدْ فَسَّرَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَغَيْرُهُ بِنِتَاجِ مَا تُنْتَجُ النَّاقَةُ لِمَا فِيهِ مِنْ شِدَّةِ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ جَنِينُ الْجَنِينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَنْعُ بَيْعِ الْجَنِينِ فَكَيْفَ بِجَنِينِ الْجَنِينِ، وَبَعْضُهُمْ فَسَّرَ حَبَلَ الْحَبَلَةِ بِأَنَّهُ بَيْعُ الْحَيَوَانِ الصَّغِيرِ وَتَأْجِيلُ ثَمَنِهِ لِيَكُونَ مِنْ نِتَاجِهِ، وَهُوَ غَيْرُ مُنَاسِبٍ لِلْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا أَيْضًا، وَلَا مَفْهُومَ لِلنَّاقَةِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ السَّابِقُ. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا (بَيْعُ مَا فِي ظُهُورِ الْإِبِلِ) الْمُرَادُ الْفُحُولُ مُطْلَقًا بِأَنْ يَقُولَ صَاحِبُ الْفَحْلِ لِصَاحِبِ النَّاقَةِ مَثَلًا: أَبِيعُك مَا يَتَكَوَّنُ مِنْ مَاءِ فَحْلِي هَذَا فِي بَطْنِ نَاقَتِك أَوْ نَاقَتِي، لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ النَّهْيِ عَنْ عَسِيبِ الْفَحْلِ، وَخَبَرُ الْمُوَطَّإِ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ مُرْسَلًا: «أَلَّا رِبًا فِي الْحَيَوَانِ» ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْ ثَلَاثَةٍ الْمَضَامِينِ وَالْمَلَاقِيحِ وَحَبَلِ الْحَبَلَةِ. قَالَ مَالِكٌ: الْمَضَامِينُ بَيْعُ مَا فِي بُطُونِ الْإِنَاثِ، وَالْمَلَاقِيحُ بَيْعُ مَا فِي ظُهُورِ الْفُحُولِ، وَحَبَلُ الْحَبَلَةِ بَيْعُ الْجَزُورِ إلَى أَنْ يُنْتَجَ نِتَاجُ النَّاقَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا. وَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إلَّا أَنْ يَفُوتَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِمَا يَفُوتُ بِهِ الْبَيْعُ الْفَاسِدُ. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا (بَيْعُ) الْعَبْدِ (الْآبِقِ وَلَا الْبَعِيرِ الشَّارِدِ) لِعَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَى تَسْلِيمِ الْآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَشَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِ الْبَيْعِ الْقُدْرَةُ عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. قَالَ مَالِكٌ: بَيْعُ الْآبِقِ فِي إبَاقِهِ فَاسِدٌ وَضَمَانُهُ مِنْ بَائِعِهِ وَيُفْسَخُ، وَإِنْ قُبِضَ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ مُقَيَّدًا بِبَلَدٍ وَحُبِسَ لِصَاحِبِهِ، وَقَالَ اللَّخْمِيُّ: لَوْ كَانَ فِي بَلَدٍ مَوْثُوقًا وَحُبِسَ لِصَاحِبِهِ جَازَ بَيْعُهُ عَلَى الصِّفَةِ وَيَكُونُ تَحْصِيلُهُ عَلَى الْبَائِعِ، وَيُؤَخَّرُ قَبْضُ الثَّمَنِ إلَى حِينِ الْقَبْضِ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: تَفْصِيلُ اللَّخْمِيِّ وَتَأَمَّلْ هَذَا الضَّعِيفَ مَعَ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ فِي كِتَابِ اللُّقَطَةِ: وَإِذَا عُرِفَ أَنَّ الْآبِقَ عِنْدَ رَجُلٍ جَازَ أَنْ يُبَاعَ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُوصَفُ لَهُ إذَا وُصِفَ لِلسَّيِّدِ أَيْضًا حَالُهُ الْآنَ وَصِفَتُهُ إنْ مَضَى زَمَنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَتَغَيَّرَ فِيهِ أَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي لَا يَعْلَمُ صِفَتَهُ لَا إنْ كَانَ الْأَمْرُ بِالْقُرْبِ وَالْمُشْتَرِي يَعْرِفُ صِفَتَهُ فَلَا حَاجَةَ إلَى الْوَصْفِ، وَأَنْ لَا يَشْتَرِطَا نَقْدَ الثَّمَنِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْكَائِنِ عِنْدَهُ الْآبِقُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ الْإِمَامِ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَى مَا فِي يَدِهِ، فَإِنَّ كَلَامَ اللَّخْمِيِّ مُلَخَّصُ كَلَامِ الْمُدَوَّنَةِ. (وَنَهَى) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهْيَ تَحْرِيمٍ (عَنْ بَيْعِ الْكِلَابِ) وَالْمَنْعُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ إنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ فِي اتِّخَاذِهِ بِدَلِيلِ (وَاخْتُلِفَ فِي بَيْعِ مَا أُذِنَ فِي اتِّخَاذِهِ مِنْهَا) عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْمَنْعُ وَالْكَرَاهَةُ وَالْجَوَازُ، وَالْمَشْهُورُ مِنْهَا عَنْ مَالِكٍ الْمَنْعُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ وَعَدَمُ نَهْيٍ لَا كَكَلْبِ صَيْدٍ، وَالْكَرَاهَةُ رَوَاهَا ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَيْضًا وَلَكِنَّهَا ضَعِيفَةٌ، وَإِنْ نُقِلَتْ عَنْ بَعْضِ الْأَصْحَابِ، وَالْجَوَازُ قَوْلُ ابْنِ كِنَانَةَ وَسَحْنُونٍ حَتَّى قَالَ سَحْنُونٌ: أَبِيعُهُ وَأَحُجُّ بِثَمَنِهِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْأَوَّلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى النَّهْيِ الْمَذْكُورِ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ ثَمَنِ الْكَلْبِ، وَمَهْرِ الْبَغِيِّ وَحُلْوَانِ الْكَاهِنِ» ، وَمَهْرُ الْبَغِيِّ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ عَلَى فَرْجِهَا، وَسُمِّيَ مَهْرًا مَجَازًا، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ مَا يَأْخُذُهُ عَلَى كِهَانَتِهِ. قَالَ ابْنُ عُمَرَ: أَثْمَانُ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ خَبِيثَةٌ بِاتِّفَاقٍ، وَذَلِكَ مَا يُؤْخَذُ عَلَى الْجَاهِ حَرَامٌ بِاتِّفَاقٍ، وَإِبَاحَةُ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لَا تَدُلُّ عَلَى جَوَازِ بَيْعِهَا، فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَعَقَدَ عَلَى الْكَلْبِ فَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُفْسَخُ بَيْعُهُ إلَّا أَنْ يَطُولَ، وَحَكَى ابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ الْفَسْخَ، وَإِنْ طَالَ، وَعَنْ ابْنِ نَاجِي الْمُضِيُّ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ مُرَاعَاةً لِمَنْ يَقُولُ بِالْجَوَازِ، هَذَا حُكْمُ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهٍ، وَهُوَ كَلْبُ الزَّرْعِ وَالْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ وَأَمَّا مَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ، وَإِذَا وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَيْهِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى قَاتِلِهِ تَعَدِّيًا لِقَوْلِ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ يُنْدَبُ قَتْلُهُ، وَلَمَّا كَانَ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ الضَّمَانِ قَالَ: (وَأَمَّا مَنْ قَتَلَهُ) أَيْ الْكَلْبَ الْمَأْذُونَ فِيهِ (فَعَلَيْهِ) غُرْمُ (قِيمَتِهِ) يَوْمَ قَتْلِهِ عَلَى تَقْدِيرِ جَوَازِ بَيْعِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، كَغُرْمِ قِيمَةِ الْجِلْدِ الْمَدْبُوغِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَحْمِ الْأُضْحِيَّةِ بَعْدَ ذَبْحِهَا لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ الضَّمَانِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: لَوْ حَلَفَ شَخْصٌ لَا يَبِيعُ ثَوْبَهُ مَثَلًا فَحَرَقَهُ شَخْصٌ وَأَخَذَ الْحَالِفُ قِيمَتَهُ لَا حِنْثَ أَيْ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبِعْهُ. (وَ) كَذَلِكَ (لَا يَجُوزُ) أَيْ يَحْرُمُ أَيْضًا (بَيْعُ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ) حَيْثُ كَانَ (مِنْ جِنْسِهِ) وَلَوْ كَانَ الْحَيَوَانُ يُرَادُ لِلْقُنْيَةِ لِلْمُزَابَنَةِ، وَهِيَ بَيْعُ مَعْلُومٍ بِمَجْهُولٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَحَيَوَانٍ بِلَحْمِ جِنْسِهِ إنْ لَمْ يُطْبَخْ، وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَيَجُوزُ، كَبَيْعِ لَحْمِ طَيْرٍ بِحَيَوَانٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 أَوْ عَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ قَدْ لَزِمَتْهُ بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَلَا الزَّبِيبُ بِالْعِنَبِ لَا مُتَفَاضِلًا، وَلَا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا رَطْبٍ بِيَابِسٍ مِنْ جِنْسِهِ مِنْ سَائِرِ الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ، وَهُوَ مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ الْمُزَابَنَةِ، وَلَا يُبَاعُ جُزَافٌ بِمَكِيلٍ مِنْ صِنْفِهِ.   [الفواكه الدواني] ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ ذَوَاتَ الْأَرْبَعِ جِنْسٌ وَالطَّيْرُ كُلُّهُ جِنْسٌ آخَرُ، وَقَيَّدَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ مَنْعَ بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ بِمَا إذَا لَمْ يُطْبَخْ اللَّحْمُ، وَإِلَّا جَازَ بَيْعُهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ: وَلَوْ كَانَ الطَّبْخُ بِغَيْرِ أَبْزَارٍ وَاشْتِرَاطُ الْأَبْزَارِ فِي انْتِقَالِ اللَّحْمِ إنَّمَا ذَلِكَ فِي انْتِقَالِهِ عَنْ اللَّحْمِ لَا عَنْ الْحَيَوَانِ. وَإِذَا بِيعَ الْمَطْبُوخُ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ فَشَرْطُ جَوَازِهِ التَّعْجِيلُ، وَأَمَّا إلَى أَجَلٍ فَيَحْرُمُ إلَّا إذَا كَانَ الْحَيَوَانُ يُرَادُ لِلْقُنْيَةِ كَجَمَلٍ أَوْ ثَوْرٍ، وَمِثْلُ اللَّحْمِ فِي مَنْعِ الْبَيْعِ بِالْحَيَوَانِ الْحَيَوَانُ الَّذِي لَا تَطُولُ حَيَاتُهُ أَوْ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ إلَّا اللَّحْمُ أَوْ قُلْت: لَا يَجُوزُ بَيْعُ وَاحِدٍ مِنْهَا بِالْآخَرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَحَدُهُمَا لَحْمًا. وَأَمَّا حَيَوَانٌ يُرَادُ لِلْقُنْيَةِ مَثَلًا فَيَجُوزُ وَلَوْ لِأَجَلٍ كَجَوَازِ بَيْعِ حَيَوَانِ الْقُنْيَةِ بِلَحْمٍ غَيْرِ جِنْسِهِ وَلَوْ لِأَجَلٍ، بِخِلَافِ حَيَوَانٍ غَيْرِ الْقُنْيَةِ فَيُشْتَرَطُ فِي جَوَازِ بَيْعِهِ بِلَحْمٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ التَّعْجِيلُ. وَأَمَّا بَيْعُ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ فَيَجُوزُ مِثْلًا بِمِثْلٍ يَدًا بِيَدٍ حَيْثُ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ سِتٌّ: بَيْعُ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ مِنْ جِنْسِهِ، بَيْعُهُ بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، وَهَاتَانِ صُورَتَانِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِحَيَوَانٍ. وَصُورَتَانِ فِي بَيْعِ اللَّحْمِ بِاللَّحْمِ؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يَكُونُ مِنْ جِنْسِهِ وَتَارَةً مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَهَذِهِ أَرْبَعٌ. وَصُورَتَانِ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانِ بِالْحَيَوَانِ؛ لِأَنَّهُ إمَّا مِنْ جِنْسِهِ، وَإِمَّا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ السِّتِّ وَأَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ؛ لِأَنَّ اللَّحْمَ بِاللَّحْمِ مِنْ جِنْسِهِ لَا يَجُوزُ إلَّا عِنْدَ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُنَاجَزَةِ، وَإِمَّا بِغَيْرِ جِنْسِهِ فَيَكْفِي الْمُنَاجَزَةُ، كَمَا أَنَّهُ يُكْتَفَى بِالْمُنَاجَزَةِ فِي بَيْعِ الْحَيَوَانَاتِ الَّتِي لَا تُرَادُ لِلْقُنْيَةِ بِشَيْءٍ مِنْ الْأَطْعِمَةِ وَلَوْ لَحْمًا نِيئًا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا، وَأَمَّا الْحَيَوَانُ بِالْحَيَوَانِ فَتَقَدَّمَ إنْ كَانَا يُرَادَانِ لِلْقُنْيَةِ فَالْجَوَازُ وَلَوْ لِأَجَلٍ. وَأَمَّا مَا لَا يُرَادُ لِلْقُنْيَةِ فَيَحْرُمُ بَيْعُهُ بِمِثْلِهِ وَلَوْ نَقْدًا لِلْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ يُقَدَّرُ أَحَدُهُمَا لَحْمًا، وَأَمَّا بِحَيَوَانٍ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَيَجُوزُ نَقْدًا لَا إلَى أَجَلٍ، وَالْحَيَوَانَاتُ الَّتِي لَا تُرَادُ لِلْقُنْيَةِ كَمَا لَا تُبَاعُ بِلَحْمٍ مِنْ جِنْسِهَا وَلَوْ نَقْدًا وَلَا مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا لِأَجَلٍ لَا يَجُوزُ دَفْعُهَا كِرَاءً لِأَرْضٍ وَلَا قَضَاءً عَنْ دَارِهِمْ أُكْرِيَتْ الْأَرْضُ بِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ» . وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى الْجِنْسِ الْوَاحِدِ حَيْثُ لَمْ يُطْبَخْ لِلْمُزَابَنَةِ؛ لِأَنَّ دَافِعَ الْمَذْبُوحِ قَدْ يُذْبَحُ الْحَيُّ فَيَصِيرُ لَحْمًا مَغِيبًا بِلَحْمٍ مَغِيبٍ، وَقَدْ يَزِيدُ لَحْمُهُ عَلَى اللَّحْمِ الْمَدْفُوعِ فِيهِ وَقَدْ يَنْقُصُ، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحْقِيقِ التَّفَاضُلِ، وَأَمَّا لَوْ طُبِخَ لَجَازَ بَيْعُهُ بِالْحَيَوَانِ لِانْتِقَالِهِ وَصَارَ كَأَنَّهُ جِنْسٌ آخَرُ. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا (بَيْعَتَانِ فِي بَيْعَةٍ) أَيْ جَمْعُ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ أَيْ فِي عَقْدٍ لِمَا فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ «نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ بَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ» ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى صُورَتَيْنِ، وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ إحْدَاهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ أَنْ يَشْتَرِيَ) شَخْصٌ (سِلْعَةً إمَّا بِخَمْسَةٍ نَقْدًا أَوْ بِعَشَرَةٍ إلَى أَجَلٍ) وَالْحَالُ أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أَنَّ السِّلْعَةَ (قَدْ لَزِمَتْهُ بِأَحَدِ الثَّمَنَيْنِ) ، وَإِنَّمَا مُنِعَ ذَلِكَ لِلْغَرَرِ؛ لِأَنَّ الْبَائِعَ لَا يَدْرِي بِمَ بَاعَ، وَالْمُشْتَرِي لَا يَدْرِي مَا اشْتَرَى، وَلِذَلِكَ لَوْ عُكِسَ التَّصْوِيرُ كَأَنْ يَبِيعَهَا بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ بِخَمْسَةٍ لِأَجَلٍ لَجَازَ لِعَدَمِ التَّرَدُّدِ حِينَئِذٍ؛ لِأَنَّ الْعَاقِلَ إنَّمَا يَخْتَارُ الْبَيْعَ إلَى أَجَلٍ بِالثَّمَنِ الْقَلِيلِ، وَتَسْمِيَةُ ذَلِكَ الْعَقْدِ بَيْعَتَيْنِ بِاعْتِبَارِ تَعَدُّدِ الثَّمَنِ، وَمَفْهُومُ قَدْ لَزِمَتْهُ أَنَّ الْعَقْدَ لَوْ وَقَعَ عَلَى الْخِيَارِ لَجَازَ سَوَاءٌ كَانَ لِأَحَدِهِمَا أَوْ لَهَا. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَبِيعَهُ إحْدَى سِلْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ بِغَيْرِ الْجَوْدَةِ كَثَوْبٍ وَدَابَّةٍ أَوْ رِدَاءٍ أَوْ كِسَاءٍ وَالْحَال أَنَّهُمَا دَخَلَا عَلَى أَنَّ الْمَبِيعَ إحْدَاهُمَا عَلَى اللُّزُومِ وَلَوْ لِأَحَدِهِمَا فَإِنَّهُ يَمْتَنِعُ لِلْجَهْلِ بِالثَّمَنِ إنْ اخْتَلَفَ أَوْ بِالثَّمَنِ إنْ اتَّحَدَ، وَأَمَّا عَلَى الْخِيَارِ فِيمَا يُعَيِّنُهُ فَجَائِزٌ، كَمَا يَجُوزُ اخْتِلَافُهُمَا بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ إنَّمَا يَدْخُلُ عَلَى أَخْذِ الْأَجْوَدِ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ السِّلْعَةُ الْمَبِيعَةُ أَحَدَ طَعَامَيْنِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ مُطْلَقًا بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَنْ خُيِّرَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يُعَدُّ مُنْتَقِلًا. وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ بِقَوْلِهِ: وَكَبَيْعَتَيْنِ فِي بَيْعَةٍ يَبِيعُهَا بِالْإِلْزَامِ بِعَشَرَةٍ نَقْدًا أَوْ أَكْثَرَ لِأَجَلٍ، أَوْ سِلْعَتَيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ إلَّا بِجَوْدَةٍ وَرَدَاءَةٍ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ قِيمَتُهَا لَا طَعَامَ، وَإِنْ مَعَ غَيْرِهِ. (وَ) كَذَا (لَا يَجُوزُ بَيْعُ التَّمْرِ) بِالْمُثَنَّاةِ (بِالرُّطَبِ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الطَّاءِ؛ لِأَنَّ الشَّكَّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا بَيْعُ (الزَّبِيبِ بِالْعِنَبِ) لَا نَقْدًا وَلَا مُؤَجَّلًا (لَا مُتَفَاضِلًا وَلَا مُتَمَاثِلًا وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ) كَائِنٍ (مِنْ جِنْسِهِ مِنْ سَائِرِ) أَيْ مِنْ جَمِيعِ أَنْوَاعِ (الثِّمَارِ وَالْفَوَاكِهِ) وَالْحُبُوبِ فَلَا يُبَاعُ الْفُولُ الْحَارُّ بِالْيَابِسِ وَلَا الْقَمْحُ بِالْبَلِيلَةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُمَاثَلَةِ مَعَ عَدَمِ انْتِقَالِ أَحَدِهِمَا، وَلِذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْمُدَمَّسِ بِالْيَابِسِ وَالْقَمْحِ بِالْهَرِيسَةِ يَدًا بِيَدٍ لِانْتِقَالِ الْمُدَمَّسِ وَالْمَطْبُوخِ عَنْ أَصْلِهِ، كَمَا يَجُوزُ الْيَابِسُ بِالرَّطْبِ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ؛ لِأَنَّ الْمُمَاثَلَةَ إنَّمَا تُعْتَبَرُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ الرِّبَوِيِّ. ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ الْمَنْعِ فِي التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَمَا بَعْدَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ) أَيْ بَيْعُ التَّمْرِ بِالرُّطَبِ، وَمَا بَعْدَهُ (مِمَّا نُهِيَ عَنْهُ مِنْ) أَيْ لِأَجْلِ (الْمُزَابَنَةِ) أَوْ الَّذِي هُوَ الْمُزَابَنَةُ فَتَكُونُ بَيَانِيَّةً كَهِيَ فِي آيَةِ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} [الحج: 30] أَيْ الَّذِي هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وَلَا جُزَافٌ بِجُزَافٍ مِنْ صِنْفِهِ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَضْلُ بَيْنَهُمَا إنْ كَانَ مِمَّا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ. وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ، وَلَا يُنْقَدُ فِيهِ بِشَرْطٍ إلَّا أَنْ يَقْرُبَ مَكَانُهُ أَوْ يَكُونَ مِمَّا يُؤْمَنُ تَغَيُّرُهُ مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ شَجَرٍ فَيَجُوزُ النَّقْدُ فِيهِ. وَالْعُهْدَةُ جَائِزَةٌ فِي الرَّقِيقِ إنْ اُشْتُرِطَتْ أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً بِالْبَلَدِ [الْعُهْدَةِ] فَعُهْدَةُ الثَّلَاثِ الضَّمَانُ فِيهَا مِنْ   [الفواكه الدواني] الْأَوْثَانُ، وَالْمُزَابَنَةُ مَأْخُوذٌ مِنْ الزَّبْنِ، وَهُوَ الدَّفْعُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَبَايِعَيْنِ يَدْفَعُ صَاحِبَهُ وَيُغَالِبُهُ، وَفَسَّرَهَا أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِأَنَّهَا بَيْعُ مَعْلُومٍ بِمَجْهُولٍ، أَوْ بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَيْنِ التَّفْسِيرَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُبَاعُ جُزَافٌ) ، وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ قَدْرُهُ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ (بِمَكِيلٍ مِنْ جِنْسِهِ) ؛ لِأَنَّهُ بَيْعُ مَجْهُولٍ بِمَعْلُومٍ، وَهَذَا أَحَدُ التَّفْسِيرَيْنِ، وَأَشَارَ إلَى الثَّانِي بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يُبَاعُ (جُزَافٌ بِجُزَافٍ مِنْ جِنْسِهِ) ، وَهَذَا هُوَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ بِمَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ. وَمِثَالُ الْأَوَّلِ: كَصُبْرَةِ قَمْحٍ لَا يُعْلَمُ كَيْلُهَا بِوَسْقٍ أَوْ وَسْقَيْنِ مِنْ الْقَمْحِ. وَمِثَالُ الثَّانِي: كَصُبْرَةِ قَمْحٍ غَيْرِ مَكِيلَةٍ بِأُخْرَى غَيْرِ مَكِيلَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ: وَكَمُزَابَنَةِ مَجْهُولٍ بِمَعْلُومٍ أَوْ مَجْهُولٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ جِنْسِهِ عَنْ بَيْعِ شَيْءٍ بِشَيْءٍ آخَرَ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ بِشَرْطِ الْمُنَاجَزَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا مُزَابَنَةَ بَيْنَ الْجِنْسَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِذَا اخْتَلَفَتْ هَذِهِ الْأَجْنَاسُ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ إذَا كَانَ يَدًا بِيَدٍ» ، وَمِثْلُ الْجِنْسَيْنِ فِي الْجَوَازِ الْجِنْسُ الْوَاحِدُ إذَا دَخَلَتْ الصَّنْعَةُ الْقَوِيَّةُ فِيهِ. فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْمَصْنُوعِ بِغَيْرِهِ مِمَّا لَمْ تَدْخُلْهُ صَنْعَةٌ، أَوْ تَدْخُلُ فِيهِ صَنْعَةٌ سَهْلَةٌ كَقِطْعَةِ نُحَاسٍ جُعِلَتْ صَحْنًا أَوْ إبْرِيقًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُهَا بِمَا تَدْخُلُهُ صَنْعَةٌ قَوِيَّةٌ وَلَوْ جُهِلَ قَدْرُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ بَيْعُ نُحَاسٍ بِتَوْرٍ وَلَا بِفُلُوسٍ؛ لِهَيِّنَةِ صَنْعَتِهَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُزَابَنَةَ لَا تَخْتَصُّ بِالرِّبَوِيِّ لِعُمُومِ النَّهْيِ عَنْ الْغَرَرِ، إلَّا أَنَّ الرِّبَوِيَّ يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ مِنْ جِهَةِ اشْتِرَاطِ الْمُمَاثَلَةِ وَعَدَمِهَا، فَإِنَّ الَّذِي يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْجِنْسِ مِنْهُ بِجِنْسِهِ إلَّا عِنْدَ تَحْقِيقِهَا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِيهِ الْمُزَابَنَةُ عِنْدَ عَدَمِ تَحَقُّقِ الْمُفَاضَلَةِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ الْفَضْلَ بَيْنَهُمَا) أَيْ الْمَجْهُولَيْنِ فَيَجُوزُ بَيْعُ أَحَدِهِمَا بِالْآخَرِ (إنْ كَانَ) مَا وَقَعَتْ فِيهِ الْمُفَاضَلَةُ الْبَيِّنَةُ (مِمَّا يَجُوزُ التَّفَاضُلُ فِي الْجِنْسِ الْوَاحِدِ مِنْهُ) بِأَنْ لَا يَكُونَ مِمَّا يُقْتَاتُ وَيُدَّخَرُ وَلَا مِنْ أَحَدِ النَّقْدَيْنِ، بَلْ كَانَ مِمَّا يَدْخُلُهُ رِبَا النَّسَاءِ فَقَطْ، أَوْ لَا يَدْخُلُهُ رِبًا أَصْلًا كَالنُّحَاسِ وَالْحَدِيدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ إنْ كَثُرَ أَحَدُهُمَا فِي غَيْرِ رِبَوِيٍّ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ فِي غَيْرِ رِبَوِيٍّ أَيْ رِبَا فَضْلٍ، وَأَمَّا مَا يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ فَلَا يُبَاعُ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ إلَّا عِنْدَ تَحْقِيقِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُنَاجَزَةِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ. وَلَمَّا كَانَ الْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ غَيْرَ مَحْصُورٍ فِي مُشَاهَدَتِهِ مَعَ شَرْطِيَّةِ الْعِلْمِ فِي بَيْعِ اللُّزُومِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِبَيْعِ الشَّيْءِ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ) وَلَوْ عَلَى اللُّزُومِ، وَأَمَّا عَلَى خِيَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ فَيَجُوزُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ ذِكْرٍ لِجِنْسِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَائِبٌ وَلَوْ بِلَا وَصْفٍ عَلَى خِيَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ أَوْ عَلَى يَوْمٍ أَوْ وَصَفَهُ غَيْرُ بَائِعِهِ أَيْ وَلَوْ كَانَ بِوَصْفِ بَائِعِهِ. وَاعْلَمْ أَنَّ بَيْعَ الْغَائِبِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهُمَا أَنْ يُبَاعَ بِالصِّفَةِ عَلَى اللُّزُومِ وَجَوَازُهُ مَشْرُوطٌ بِغَيْبَتِهِ وَيَكْفِي غَيْبَتُهُ، وَلَوْ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ، وَلَا يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي رُؤْيَتِهِ مَشَقَّةٌ وَلَا غَيْبَتُهُ عَنْ الْبَلَدِ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمُدَوَّنَةِ وَرَجَّحَهُ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ وَابْنُ عَرَفَةَ، خِلَافًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ، نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ لَا يَبْعُدَ مَكَانُهُ جِدًّا كَخُرَاسَانَ مِنْ الْأَنْدَلُسِ، كَمَا يُشْتَرَطُ ذَلِكَ فِي كُلِّ مَبِيعٍ عَلَى اللُّزُومِ، وَمِثْلُ غَيْبَتِهِ عَنْ مَجْلِسِ الْعَقْدِ حُضُورُهُ بِهِ حَيْثُ كَانَ فِي رُؤْيَتِهِ مَشَقَّةٌ أَوْ فَسَادٌ. وَأَمَّا الْحَاضِرُ بِمَجْلِسِ الْعَقْدِ وَلَا مَشَقَّةَ وَلَا فَسَادَ فِي رُؤْيَتِهِ فَلَا بُدَّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ عَلَيْهِ مِنْ رُؤْيَتِهِ حَيْثُ كَانَ الْبَيْعُ عَلَى اللُّزُومِ، وَأَنْ يَكُونَ بِوَصْفِ غَيْرِ الْبَائِعِ إنْ اشْتَرَطَ نَقْدَ الثَّمَنِ فِيهِ، وَإِلَّا جَازَ وَلَوْ بِوَصْفِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي يَعْرِفُ مَا يُوصَفُ لَهُ مَعْرِفَةً تَامَّةً، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَكَانَهُ بَعِيدًا جِدًّا كَخُرَاسَانَ مِنْ إفْرِيقِيَّةَ. (وَ) مِنْ شُرُوطِ الْمَبِيعِ بِالصِّفَةِ عَلَى اللُّزُومِ أَيْضًا أَنْ (لَا يُنْقَدَ فِيهِ) الثَّمَنُ (بِشَرْطِ إلَّا أَنْ يَقْرُبَ مَكَانُهُ) أَيْ الْمَبِيعِ عَلَى الصِّفَةِ بِأَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةٍ كَيَوْمَيْنِ ذَهَابًا حَيْثُ لَا يُؤْمَنُ تَغَيُّرُهُ بِأَنْ كَانَ حَيَوَانًا (أَوْ يَكُونُ مِمَّا يُؤْمَنُ تَغَيُّرُهُ) ، وَهُوَ الْعَقَارُ (مِنْ دَارٍ أَوْ أَرْضٍ أَوْ شَجَرٍ فَيَجُوزُ) اشْتِرَاطُ (النَّقْدِ فِيهِ) أَيْ فِيمَا ذُكِرَ مِمَّا يَقْرُبُ مَكَانُهُ أَوْ يُؤْمَنُ تَغَيُّرُهُ. وَقَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ النَّقْدُ فِيهِ أَيْ الْغَائِبِ عَلَى الصِّفَةِ بِاللُّزُومِ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ تَطَوُّعًا، وَمَعَ الشَّرْطِ فِي الْعَقَارِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِغَيْرِ وَصْفِ الْبَائِعِ وَفِي غَيْرِهِ إنْ قَرُبَ كَالْيَوْمَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَائِبَ الْمَبِيعَ بِالصِّفَةِ عَلَى اللُّزُومِ يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهِ تَطَوُّعًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا بِشَرْطٍ فَيَجُوزُ فِي الْعَقَارِ مُطْلَقًا وَفِي غَيْرِهِ إنْ قَرُبَ مَكَانُهُ، وَأَمَّا مَا بِيعَ عَلَى الْخِيَارِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ فَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهِ وَلَوْ تَطَوُّعًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ وَإِنْ بِلَا شَرْطٍ فِي مُوَاضَعَةٍ وَغَائِبٍ وَكِرَاءٍ ضَمِنَ وَسَلَّمَ بِخِيَارٍ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِ بَيْعِ الْغَائِبِ مَا يُبَاعُ عَلَى الْخِيَارِ بِالرُّؤْيَةِ، وَهَذَا جَائِزٌ، وَلَوْ كَانَ قَرِيبًا بِحَيْثُ لَا مَشَقَّةَ فِي رُؤْيَتِهِ أَوْ كَانَ بَعِيدًا جِدًّا. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَائِبٌ وَلَوْ بِلَا وَصْفٍ عَلَى خِيَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ، وَلَا يُقَالُ: شَرْطُ الْبَيْعِ عِلْمُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ زَمَنَ الْعَقْدِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 الْبَائِعِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ. وَعُهْدَةُ السَّنَةِ مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ. وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ فِي الْعُرُوضِ وَالرَّقِيقِ وَالْحَيَوَانِ   [الفواكه الدواني] لِأَنَّا نَقُولُ: هَذَا شَرْطٌ فِي الْبَيْعِ عَلَى اللُّزُومِ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِيمَا سَبَقَ الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يُبَاعَ عَلَى رُؤْيَةٍ سَابِقَةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ وَلَوْ عَلَى اللُّزُومِ، وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا بَيْنَ يَدَيْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ خَلْفَ جِدَارٍ أَوْ فِي صُنْدُوقٍ مَثَلًا. 1 - (تَتِمَّتَانِ) . الْأُولَى: لَمْ يَذْكُرْ ضَمَانَ الْغَائِبِ، وَمُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ عَقَارًا وَأَدْرَكَتْهُ الصِّفَةُ سَالِمًا يَكُونُ مِنْ الْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ بِيعَ بِشَرْطِ النَّقْدِ أَمْ لَا، قَرُبَ مَكَانُهُ أَوْ بَعُدَ حَيْثُ بِيعَ جُزَافًا، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلِي وَقْفَةٌ فِي صِحَّةِ بَيْعِهِ جُزَافًا مَعَ غَيْبَتِهِ إلَّا أَنْ يُقَالَ: بِنَاءً عَلَى الِاكْتِفَاءِ بِالْوَصْفِ فِي بَيْعِ الْجُزَافِ وَغَيْرُ الْعَقَارِ ضَمَانُهُ مِنْ الْبَائِعِ، وَكَذَا الْعَقَارُ إذَا لَمْ تَتَحَقَّقْ سَلَامَتُهُ عِنْدَ الْعَقْدِ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ حَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ خِلَافُهُ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالشَّرْطِ رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. الثَّانِيَةُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَلَى تَحْصِيلِ الْغَائِبِ، وَإِحْضَارِهِ لِلْمُشْتَرِي، وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَقَبْضُهُ عَلَى الْمُشْتَرِي لَا عَلَى الْبَائِعِ. قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْإِتْيَانُ بِالْغَائِبِ عَلَى مُبْتَاعِهِ وَشَرْطُهُ إيَّاهُ عَلَى بَائِعِهِ مَعَ ضَمَانِهِ يَفْسُدُ بَيْعُهُ، وَإِنْ كَانَ ضَمَانُهُ فِي إتْيَانِهِ مُبْتَاعَهُ فَجَائِزٌ، وَهُوَ بَيْعٌ، وَإِجَارَةٌ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَنْ الْعُهْدَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعَهْدِ الَّذِي هُوَ الِالْتِزَامُ قَالَ - تَعَالَى -: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِي} [البقرة: 40] أَيْ بِمَا الْتَزَمْتُمْ لِي مِنْ طَاعَتِي أُوفِ لَكُمْ بِمَا الْتَزَمْتُ لَكُمْ مِنْ ثَوَابِي. وَأَمَّا شَرْعًا وَاصْطِلَاحًا: فَهِيَ تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ مِنْ بَائِعِهِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِ. وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: عَامَّةٌ وَخَاصَّةٌ، فَالْعَامَّةُ هِيَ عُهْدَةُ الْإِسْلَامِ، وَهِيَ دَرْكُ الْمَبِيعِ مِنْ الْعَيْبِ وَالِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالرَّقِيقِ، وَلَا يُعْمَلُ بِشَرْطِ إسْقَاطِهَا بِالنِّسْبَةِ لِلِاسْتِحْقَاقِ، وَكَذَا الْعَيْبُ فِي غَيْرِ الرَّقِيقِ، وَكَذَا فِي الرَّقِيقِ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَيْبِ الَّذِي يَعْلَمُ بِهِ الْبَائِعُ، بِخِلَافِ عَيْبِ الرَّقِيقِ الَّذِي لَمْ يُعْلَمْ بِهِ إنْ طَالَتْ إقَامَتُهُ عِنْدَهُ، وَخَاصَّةً وَهِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِالرَّقِيقِ فَقَطْ، وَأَشَارَ لَهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْعُهْدَةُ) ، وَهِيَ تَعَلُّقُ ضَمَانِ الْمَبِيعِ مِنْ كُلِّ حَادِثٍ أَوْ مِنْ حَادِثٍ مَخْصُوصٍ فِي زَمَنٍ مَحْدُودٍ (جَائِزَةٌ) مَعْمُولٌ بِهَا (فِي الرَّقِيقِ) فَقَطْ؛ لِأَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى التَّحَيُّلِ بِكَتْمِ بَعْضِ عُيُوبِهِ دُونَ غَيْرِهِ. (إنْ اُشْتُرِطَتْ) بِأَنْ اشْتَرَطَهَا الْمُشْتَرِي عَلَى الْبَائِعِ، وَإِنْ لَمْ تَجْرِ بِهَا الْعَادَةُ. (أَوْ كَانَتْ جَارِيَةً) أَيْ مُعْتَادَةً (فِي الْبَلَدِ) الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الْبَيْعُ، وَكَذَا إنْ حَمَلَ السُّلْطَانُ النَّاسَ عَلَيْهَا، وَيُقْضَى بِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شَرْطٌ وَلَا عَادَةٌ وَلَا حَمَلَ السُّلْطَانُ النَّاسَ عَلَيْهَا فَلَا تَلْزَمُ وَلَا يُقْضَى بِهَا. وَتِلْكَ الْعُهْدَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: عُهْدَةُ ثَلَاثٍ وَعُهْدَةُ سَنَةٍ. (فَعُهْدَةُ الثَّلَاثِ) قَلِيلَةُ الزَّمَانِ كَثِيرَةُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ (الضَّمَانَ فِيهَا مِنْ الْبَائِعِ فِي كُلِّ شَيْءٍ) يَحْدُثُ فِي الرَّقِيقِ فِي ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَوَامِلَ لِإِلْغَاءِ الْكَسْرِ وَتُعْتَبَرُ بِلَيَالِيِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ اللَّازِمِ ابْتِدَاءً أَوْ بِانْقِضَاءِ أَيَّامِ الْخِيَارِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُدَّ فِي عُهْدَةِ الثَّلَاثِ بِكُلِّ حَادِثٍ حَتَّى الْمَوْتِ مَا عَدَا ذَهَابَ الْمَالِ، فَمَنْ اشْتَرَى عَبْدًا وَاشْتَرَطَ مَالَهُ ثُمَّ ذَهَبَ فِي زَمَنِ الْعُهْدَةِ فَلَا يُرَدُّ بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَظَّ لَهُ فِي مَالِهِ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَطَهُ السَّيِّدُ لِنَفْسِهِ لَكَانَ لَهُ رَدُّهُ بِذَهَابِ مَالِهِ، وَإِذَا كَانَ ضَمَانُ الْحَادِثِ بَعْدَ لُزُومِ الْعَقْدِ مِنْ الْبَائِعِ وَيَرُدُّهُ الْمُشْتَرِي بِهِ، فَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَهُ الرَّدُّ بِظُهُورِ عَيْبٍ قَدِيمٍ، وَالنَّفَقَةُ وَالْأَرْشُ وَالْمَوْهُوبُ الْجَمِيعُ عَلَى الْبَائِعِ وَلَهُ إلَّا الْمُسْتَثْنَى مَالُهُ فَمَا يُوهَبُ لِلْعَبْدِ تَابِعٌ لِمَالِهِ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْمَبِيعَ بِعُهْدَةِ الثَّلَاثِ يُرَدُّ بِكُلِّ حَادِثٍ وَبِالْقَدِيمِ بِالْأَوْلَى مَحَلُّهُ مَا لَمْ يَبِعْ بِالْبَرَاءَةِ مِنْ الْعُيُوبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا الْبَائِعُ بِهِ مَعَ طُولِ إقَامَتِهِ عِنْدَهُ، وَإِلَّا لَمْ يُرَدَّ بِالْقَدِيمِ عَمَلًا بِالْبَرَاءَةِ، وَإِنَّمَا يُرَدُّ بِالْحَادِثِ عَمَلًا بِالْعُهْدَةِ الْمُشْتَرَطَةِ أَوْ الَّتِي حَمَلَ السُّلْطَانُ النَّاسَ عَلَيْهَا، كَمَا قَرَّرَهُ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ. (تَنْبِيهٌ) . ابْتِدَاءُ مُدَّةِ الْعُهْدَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ أَيَّامِ الْخِيَارِ وَتَدْخُلُ مِنْ أَيَّامِ الْمُوَاضَعَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَدَخَلَتْ فِي الِاسْتِبْرَاءِ بِمَعْنَى أَنَّ الزَّمَانَ يُحْسَبُ لَهُمَا، فَإِذَا انْقَضَتْ أَيَّامُ الْعُهْدَةِ قَبْلَ رُؤْيَةِ الدَّمِ انْتَظَرَتْهُ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْمُوَاضَعَةُ؛ لِأَنَّهَا فِي ضَمَانِ الْبَائِعِ، وَإِذَا اشْتَرَى عَلَى الْعُهْدَتَيْنِ قُدِّمَتْ عُهْدَةُ الثَّلَاثِ وَتُبْتَدَأُ عُهْدَةُ السَّنَةِ بَعْدَهَا وَبَعْدَ الْمُوَاضَعَةِ. (وَعُهْدَةُ السَّنَةِ) عَكْسُ عُهْدَةِ الثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ هَذِهِ كَثِيرَةُ الزَّمَانِ قَلِيلَةُ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ الضَّمَانَ فِيهَا (مِنْ الْجُنُونِ) إذَا كَانَ بِطَبْعٍ أَوْ مَسِّ جِنٍّ، لَا إنْ كَانَ بِكَضَرْبَةٍ أَوْ طَرْبَةٍ. (وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ) الْمُحَقَّقَيْنِ وَفِي مَشْكُوكِهِمَا خِلَافٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي عُهْدَةِ السَّنَةِ بِجُذَامٍ وَبَرَصٍ وَجُنُونٍ لَا بِكَضَرْبَةٍ بِشَرْطِ اسْتِمْرَارِ الْحَاصِلِ مِنْ تِلْكَ الْأَدْوَاءِ إلَى تَمَامِ السَّنَةِ لَا إنْ حَصَلَ وَاحِدٌ مِنْهَا دَاخِلَ السَّنَةِ وَزَالَ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَا رَدَّ بِهِ إلَّا أَنْ تَقُولَ أَهْلُ الْمَعْرِفَةِ بِعَوْدِهِ، وَيَسْقُطُ كُلٌّ مِنْ الْعُهْدَتَيْنِ بِالْعِتْقِ وَالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَادِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَتَا بِكَعِتْقٍ فِيهِمَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّةِ الْعُهْدَتَيْنِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَفِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ وَهِشَامَ بْنَ إسْمَاعِيلَ كَانَا يَذْكُرَانِ فِي خُطْبَتِهِمَا عُهْدَةَ الرَّقِيقِ فِي الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ حِينَ يُشْتَرَى الْعَبْدُ أَوْ الْوَلِيدَةُ وَعُهْدَةَ السَّنَةِ، وَنَقَلَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ قَضَى بِهَا، وَبِهَا قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ وَابْنُ شِهَابٍ وَالْقُضَاةُ مِمَّنْ أَدْرَكْنَا يَقْضُونَ بِهَا، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 وَالطَّعَامِ وَالْإِدَامِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ وَأَجَلٍ مَعْلُومٍ. وَيُعَجِّلُ رَأْسَ الْمَالِ أَوْ يُؤَخِّرُهُ إلَى مِثْلِ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَ بِشَرْطٍ.   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الْكَلَامُ السَّابِقُ وَاضِحٌ فِيمَا إذَا تَحَقَّقَ حُصُولُ الْعَيْبِ زَمَنَ الْعُهْدَةِ، وَأَمَّا لَوْ انْقَضَتْ أَيَّامُهَا وَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ وَشَكَّ فِي حُصُولِهِ فِي زَمَنِ الْعُهْدَةِ أَوْ بَعْدَهَا فَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُهُ وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْمُحْتَمَلُ بَعْدَهُمَا مِنْهُ أَيْ مِنْ الْبَائِعِ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْعَمَلُ بِالْعُهْدَةِ لِجَرَيَانِ الْعَادَةِ بِهَا فِي كُلِّ رَقِيقٍ انْتَقَلَ مِلْكُهُ لِغَيْرِ مَالِكِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَقَدْ اسْتَثْنَى الْمُتَيْطِيُّ إحْدَى وَعِشْرِينَ مَسْأَلَةً وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: لَا فِي مُنْكَحٍ بِهِ أَوْ مُخَالَعٍ أَوْ مُصَالَحٍ بِهِ فِي دَمِ عَمْدٍ أَوْ مُسَلَّمٍ فِيهِ أَوْ بِهِ أَوْ مُقْرَضٍ أَوْ غَائِبٍ اُشْتُرِيَ عَلَى الصِّفَةِ أَوْ مُقَاطَعٍ بِهِ مُكَاتَبٍ وَاَلَّذِي يَبِيعُهُ السُّلْطَانُ عَلَى نَحْوِ مُفْلِسٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ بَقِيَّةِ الْمُسْتَثْنَيَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْمُطَوَّلَاتِ فَلَا عُهْدَةَ فِيهَا بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ. وَأَمَّا لَوْ اُشْتُرِطَتْ بِالْفِعْلِ لَعُمِلَ بِهَا مَا ارْتَضَاهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ، وَلِلْمُشْتَرِي إسْقَاطُهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ وَبَعْدَهُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ بِخِلَافِ الْبَائِعِ إنَّمَا لَهُ إسْقَاطُهُمَا قَبْلَ الْعَقْدِ فَقَطْ. 1 - الثَّالِثُ: عُهْدَةُ الرَّقِيقِ غَيْرُ عُهْدَةِ الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ عُهْدَةَ الْإِسْلَامِ فِي كُلِّ مَعْقُودٍ عَلَيْهِ وَيُقْضَى بِهَا وَلَوْ دَخَلَ الْمُتَعَاقِدَانِ عَلَى إسْقَاطِهَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الَّذِي تَكُونُ عَلَيْهِ، وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ عَلَى مُتَوَلِّي الْبَيْعِ إلَّا الْوَكِيلَ فَلَا عُهْدَةَ عَلَيْهِ فِي صُورَتَيْنِ، وَإِنَّمَا هِيَ عَلَى الْمُوَكِّلِ، وَهُمَا أَنْ يُصَرِّحَ بِالْوَكَالَةِ أَوْ يَعْلَمَ الْعَاقِدُ أَنَّهُ وَكِيلٌ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْمُفَوِّضِ، وَأَمَّا هُوَ فَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ أَحَلَّ نَفْسَهُ مَحَلَّ الْبَائِعِ، وَكَذَا الْمُقَارِضُ وَالشَّرِيكُ الْمُفَوِّضُ فِي الشَّرِكَةِ، وَأَمَّا الْقَاضِي وَالْوَصِيُّ فَفِي الْمُدَوَّنَةِ لَا عُهْدَةَ عَلَيْهِمَا فِيمَا وَلْيُبَايِعْهُ وَالْعُهْدَةُ فِي مَالِ الْيَتَامَى، فَإِنْ هَلَكَ مَالُ الْأَيْتَامِ ثُمَّ اُسْتُحِقَّتْ السِّلْعَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْأَيْتَامِ. [السَّلَمُ فِي الْعُرُوضِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْبَيْعِ خَاصَّةً، وَهُوَ السَّلَمُ وَيُقَالُ لَهُ السَّلَفُ؛ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا فِيهِ إثْبَاتٌ مَالِيٌّ فِي الذِّمَّةِ مَبْذُولٌ فِي الْحَالِ وَعِوَضُهُ مُؤَجَّلٌ يُقْبَضُ فِي الْمَآلِ، وَلِذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ سُمِّيَ سَلَمًا لِتَسْلِيمِ الثَّمَنِ دُونَ الْعِوَضِ، وَالسَّلَفُ فِي اللُّغَةِ التَّقْدِيمُ قَالَ - تَعَالَى -: {بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24] أَيْ قَدَّمْتُمْ، وَمَعْنَاهُ شَرْعًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ يُوجِبُ عِمَارَةَ ذِمَّةٍ بِغَيْرِ عَيْنٍ وَلَا مَنْفَعَةٍ غَيْرِ مُتَمَاثِلِ الْعِوَضَيْنِ، فَقَوْلُهُ بِغَيْرِ عَيْنٍ أَخْرَجَ بَيْعَةَ الْأَجَلِ، وَقَوْلُهُ وَلَا مَنْفَعَةَ أَخْرَجَ بِهِ الْكِرَاءَ الْمَضْمُونَ، وَقَوْلُهُ غَيْرِ مُتَمَاثِلِ الْعِوَضَيْنِ أَخْرَجَ بِهِ السَّلَفَ، وَبَدَأَ بِحُكْمِهِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّلَمِ) أَيْ يَجُوزُ السَّلَمُ (فِي الْعُرُوضِ) ، وَهِيَ مَا عَدَا الْحَيَوَانَاتِ وَالْأَطْعِمَةَ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَ) فِي (الرَّقِيقِ وَ) فِي (الْحَيَوَانِ) الْبَهِيمِيِّ (وَ) فِي (الطَّعَامِ) الْمُرَادُ بِهِ سَائِرُ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ بِقَرِينَةِ: (وَالْإِدَامُ) كَالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَكُلِّ مَا يُؤْتَدَمُ بِهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى الْجَوَازِ قَوْله تَعَالَى: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: 275] ، وَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . وَالْإِجْمَاعُ عَلَى الْجَوَازِ وَلَا نَظَرَ إلَى مَنْ خَالَفَ فِي بَعْضِ الْبِيَاعَاتِ، نَعَمْ هُوَ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك، كَمَا اُسْتُثْنِيَتْ الْحَوَالَةُ مِنْ بَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَبَيْعُ الْعَرِيَّةِ مِنْ الْمُزَابَنَةِ، وَكَمَا اُسْتُثْنِيَتْ الْإِقَالَةُ وَالتَّوْلِيَةُ وَالشَّرِكَةُ مِنْ بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَاسْتُثْنِيَ الْقِرَاضُ وَالْمُسَاقَاةُ مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ. وَلَمَّا كَانَ السَّلَمُ مُسْتَثْنًى مِنْ أَصْلٍ مَمْنُوعٍ احْتَاجَ إلَى شُرُوطٍ زَائِدَةٍ عَلَى مَا يُشْتَرَطُ فِي أَصْلِهِ، وَعِدَّتُهَا سَبْعُ شُرُوطٍ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: شَرْطُ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ ثَلَاثًا وَلَوْ بِشَرْطٍ، وَكَوْنُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ وَتَأْجِيلُهُ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ أَقَلُّهُ نِصْفُ شَهْرٍ إنْ كَانَ قَبْضُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ بِيَدِ الْعَقْدِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمٍ وَنَحْوِهِ إلَّا كَفَى تَأْجِيلُهُ بِمَسَافَةِ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ كَمَا يُبَيِّنُهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يَأْتِي، وَوُجُودُهُ عِنْدَ حُلُولِهِ وَبَيَانُ الصِّفَةِ الَّتِي تَخْتَلِفُ بِهَا الْأَثْمَانُ اخْتِلَافًا قَوِيًّا وَأَنْ يُضْبَطَ بِعَادَتِهِ مِنْ كَيْلٍ أَوْ وَزْنٍ أَوْ عَدَدٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَا طَعَامَيْنِ وَلَا نَقْدَيْنِ وَلَا شَيْئًا فِي أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَجْوَدَ كَالْعَكْسِ، بَلْ الشَّرْطُ اخْتِلَافُ الْجِنْسِ وَلَوْ تَقَارَبَتْ مَنْفَعَتُهَا، وَمِثْلُ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ اخْتِلَافُ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا، كَفَارِهِ الْحُمُرِ فِي الْأَعْرَابِيَّةِ، وَكَسَابِقِ الْخَيْلِ وَقُوَّةِ الْحَمْلِ فِي الْإِبِلِ، وَكَثْرَةِ لَبَنِ الْبَقَرَةِ أَوْ قُوَّتِهَا فِي الْعَمَلِ، أَوْ اخْتِلَافِ الْأَفْرَادِ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى بَعْضِ تِلْكَ الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ: (بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ) أَيْ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ عَقْدِ السَّلَمِ بَيَانُ صِفَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تَبَيَّنَ صِفَاتُهُ الَّتِي يُخْتَلَفُ بِهَا الثَّمَنُ فِي السَّلَمِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا كَالنَّوْعِ وَالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ وَالتَّوَسُّطِ بَيْنَهُمَا، فَيُبَيِّنُ فِي الْحُبُوبِ كَوْنَهُ قَمْحًا أَوْ غَيْرَهُ، وَكَوْنَهُ سَمْرَاءَ أَوْ مَحْمُولَةً، وَكَوْنَهُ جَدِيدًا أَوْ قَدِيمًا أَوْ ضَامِرًا أَوْ مُمْتَلِئًا، وَهَكَذَا كُلُّ شَيْءٍ تَخْتَلِفُ أَفْرَادُهُ بِالْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ سَوَاءٌ كَانَ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْأَوْصَافِ وَعِلْمُ النَّاسِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَوْ انْفَرَدَ الْعَاقِدَانِ بِمَعْرِفَةِ الصِّفَةِ لَمْ يَصِحَّ السَّلَمُ فِيمَا يَخْتَصُّ الْعَاقِدَانِ بِمَعْرِفَتِهِ؛ لِأَدَائِهِ إلَى النِّزَاعِ. وَأَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ (بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ) أَنَّ مَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ لَا يَجُوزُ السَّلَمُ فِيهِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: لَا فِيمَا لَا يُمْكِنُ وَصْفُهُ كَتُرَابِ الْمَعَادِنِ وَالصَّوَّاغِينَ، وَلَا نَحْوِ النِّيلَةِ الْمَخْلُوطَةِ بِالطِّينِ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 وَأَجَلُ السَّلَمِ أَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، أَوْ عَلَى أَنْ يَقْبِضَ بِبَلَدٍ آخَرَ، وَإِنْ كَانَتْ مَسَافَتُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، وَمَنْ أَسْلَمَ إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ يَقْبِضُهُ بِبَلَدٍ أَسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ أَجَازَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ   [الفواكه الدواني] الْحِنَّاءِ، وَلَا نَحْوِ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ لِاخْتِلَافِ الْأَغْرَاضِ فِيهَا الْمُقْتَضِي لِتَعْيِينِهَا الْمُوصِلِ إلَى السَّلَمِ فِي مُعَيَّنٍ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ شَرْطَ السَّلَمِ كَوْنُ الْمُسَلَّمِ فِيهِ فِي الذِّمَّةِ. (تَنْبِيهٌ) . ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ عُقِدَ السَّلَمُ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ صِفَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ يَكُونُ الْعَقْدُ بَاطِلًا مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يُفْصَلُ فِي مَفْهُومِ هَذَا الشَّرْطِ بَيْنَ كَوْنِ الشَّارِعِ أَوْ الْعَادَةِ عَيَّنَ شَيْئًا خَاصًّا أَوْ لَا. فَيَصِحُّ الْعَقْدُ فِي الْأَوَّلِ وَيَفْسُدُ فِي الثَّانِي. (وَ) مِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَعْقِدَاهُ عَلَى (أَجَلٍ مَعْلُومٍ) فَلَا يَصِحُّ السَّلَمُ الْحَالُّ وَلَا الْمُؤَجَّلُ بِأَجَلٍ مَجْهُولٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى اشْتِرَاطِ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» وَالْأَمْرُ هُنَا لِلْوُجُوبِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ الْأَجَلُ لِلسَّلَامَةِ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَ الْإِنْسَانِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَاشْتُرِطَ كَوْنُهُ مَعْلُومًا لِيُعْلَمَ مِنْهُ وَقْتُ الْقَضَاءِ، وَالْأَجَلُ لَهُ حِصَّةٌ مِنْ الثَّمَنِ، وَالثَّمَنُ يُشْتَرَطُ عِلْمُهُ. (وَ) مِنْ الشُّرُوطِ (تَعْجِيلُ) جَمِيعِ (رَأْسِ الْمَالِ) فِي حَضْرَةِ الْعَقْدِ (أَوْ) أَيْ وَيَجُوزُ (أَنْ يُؤَخِّرَهُ إلَى مِثْلِ يَوْمٍ أَوْ ثَلَاثَةٍ، وَإِنْ كَانَ) تَأْخِيرُ تِلْكَ الْمُدَّةِ (بِشَرْطٍ) ؛ لِأَنَّ مَا قُبِضَ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامِ فِي حُكْمِ الْمَقْبُوضِ بِحَضْرَةِ الْعَقْدِ حَيْثُ حَصَلَ الْقَبْضُ قَبْلَ غُرُوبِ شَمْسِ الثَّالِثِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا جَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُكْتَفَى بِقَبْضِ الْبَعْضِ وَيَفْسُدُ الْعَقْدُ فِي الْجَمِيعِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. قَالَ خَلِيلٌ: شَرْطُ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ ثَلَاثًا وَلَوْ بِشَرْطٍ، وَفِي فَسَادِهِ بِالزِّيَادَةِ إنْ لَمْ تَكْثُرْ جِدًّا تَرَدُّدٌ وَالرَّاجِحُ الْفَسَادُ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ كَانَ أَجَلُ السَّلَمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ أَجَلُ السَّلَمِ عَلَى أَقَلَّ بِأَنْ كَانَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ يُقْبَضُ فِي غَيْرِ بَلَدِ السَّلَمِ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِيهِ الْقَبْضُ بِالْمَجْلِسِ أَوْ بِالْقُرْبِ بِأَنْ لَا يُؤَخَّرَ أَكْثَرَ مِنْ كَالْيَوْمِ، وَهَذَا أَيْضًا فِي رَأْسِ الْمَالِ الْمُعَيَّنِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ فِيمَا يَأْتِي. وَأَمَّا لَوْ كَانَ رَأْسُ الْمَالِ حَيَوَانًا لَجَازَ تَأْخِيرُهُ وَلَوْ إلَى أَجَلِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَأْخِيرُ حَيَوَانٍ بِلَا شَرْطٍ أَيْ وَأَمَّا بِالشَّرْطِ فَلَا يَجُوزُ تَأْخِيرُهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَالْعَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ طَعَامًا أَوْ عَرَضًا فَقِيلَ يُكْرَهُ تَأْخِيرُهُمَا فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ وَلَوْ مَعَ كَيْلِ الطَّعَامِ، وَإِحْضَارِ الْعَرَضِ، وَقِيلَ: يَجُوزُ مَعَهُمَا وَيُكْرَهُ مَعَ عَدَمِهِمَا، هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافًا لِظَاهِرِ خَلِيلٍ. [أَقَلِّ أَجَلِ السَّلَمِ] وَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الشُّيُوخِ فِي أَقَلِّ أَجَلِ السَّلَمِ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارَهُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَقَلُّ (أَجَلِ السَّلَمِ أَحَبُّ إلَيْنَا) عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ (أَنْ يَكُونَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا) فَأَكْثَرَ، وَمَعْنَى كَلَامِهِ أَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ أَجَلُ السَّلَمِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا لَا أَقَلَّ مِنْهَا حَيْثُ كَانَ يُقْبَضُ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَأَنْ يُؤَجَّلَ بِمَعْلُومٍ زَائِدٍ عَلَى نِصْفِ شَهْرٍ، فَذَكَرَ لَفْظَ زَائِدٍ تَأْكِيدًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ أَقَلَّ مِنْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ، فَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ مُخْتَارُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَإِنَّمَا حَدَّ أَقَلَّ الْأَجَلِ بِتِلْكَ الْمُدَّةِ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ زَمَنٍ تَتَغَيَّرُ فِيهِ الْأَسْوَاقُ غَالِبًا وَيَتَمَكَّنُ الْمُسَلَّمُ إلَيْهِ فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ، وَأَمَّا أَكْثَرُ الْأَجَلِ فَمُنْتَهَاهُ مَا لَا يَجُوزُ تَأْجِيلُ ثَمَنِ الْمَبِيعِ إلَيْهِ، وَهُوَ مَا لَا يَعِيشُ الْبَائِعُ إلَيْهِ غَالِبًا، كَأَنْ يَبِيعَ سِلْعَةً وَيَشْتَرِطَ عَلَيْهِ الْمُشْتَرِي أَنْ لَا يَدْفَعَ الثَّمَنَ إلَّا بَعْدَ مِائَتَيْ سَنَةٍ أَوْ سِتِّينَ إنْ كَانَ ابْنَ أَرْبَعِينَ أَوْ ثَلَاثِينَ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ التَّأْجِيلِ بِالْمَوْتِ. (أَوْ) يَكُونُ الْأَجَلُ (عَلَى أَنْ يُقْبَضَ) الْمُسَلَّمُ فِيهِ (بِبَلَدٍ آخَرَ) غَيْرِ بَلَدِ الْعَقْدِ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِي الْأَجَلِ (وَإِنْ كَانَتْ مَسَافَتُهُ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً) لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَهْلِ التَّأْجِيلِ بِالْخَمْسَةَ عَشَرَ إذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ يُقْبَضُ بِبَلَدِ الْعَقْدِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ مُسْتَثْنِيًا مِنْ التَّحْدِيدِ بِنِصْفِ الشَّهْرِ: إلَّا أَنْ يُقْبَضَ بِبَلَدٍ كَيَوْمَيْنِ فَلَا يُشْتَرَطُ نِصْفُ الشَّهْرِ بَلْ يَكْفِي أَنْ يَكُونَ الْأَجَلُ مَسَافَةَ مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ لَكِنْ بِشُرُوطٍ: أَنْ يَدْخُلَا عَلَى قَبْضِهِ بِمُجَرَّدِ الْوُصُولِ إلَى الْبَلَدِ. وَأَنْ يَكُونَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ. وَأَنْ يُشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ الْخُرُوجُ فَوْرًا وَيُخْرَجُ الْمُسَلَّمُ بِالْفِعْلِ. وَأَنْ يَكُونَ السَّفَرُ فِي الْبَرِّ أَوْ فِي الْبَحْرِ بِغَيْرِ رِبْحٍ كَالْمُنْحَدَرَيْنِ. فَإِنْ انْخَرَمَ شَرْطٌ مِنْ هَذِهِ فَلَا يَصِحُّ التَّأْجِيلُ إلَّا بِنِصْفِ الشَّهْرِ فَأَكْثَرَ، وَلَمَّا كَانَ التَّأْجِيلُ لِمَا يُقْبَضُ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهُ أَقَلُّهُ نِصْفَ الشَّهْرِ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ أَقْوَالٍ خَمْسَةٍ ذَكَرَ بَعْضَهَا مِنْهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَسْلَمَ) غَيْرَهُ عَلَى شَيْءٍ مُؤَجَّلٍ (إلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ) وَدَخَلَا عَلَى أَنَّ الْمُسَلَّمَ (يَقْبِضُهُ) أَيْ الْمُسَلَّمَ فِيهِ الْمَفْهُومُ مَنْ أَسْلَمَ (بِبَلَدٍ أَسْلَمَ فِيهِ فَقَدْ أَجَازَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ) أَيْ أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ (مِنْ الْعُلَمَاءِ وَكَرِهَهُ آخَرُونَ) ، وَاخْتَلَفُوا فِي الْكَرَاهَةِ فَقِيلَ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَقِيلَ عَلَى التَّنْزِيهِ، وَالرَّاجِحُ مَا قَدَّمَهُ مِنْ التَّحْدِيدِ بِنِصْفِ الشَّهْرِ إنْ كَانَ يُقْبَضُ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ أَوْ مَا قَرُبَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ كَلَامُ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ كَانَ يُقْبَضُ بِبَلَدٍ عَلَى مَسَافَةٍ كَيَوْمَيْنِ فَأَكْثَرَ فَيَكْفِي مَا بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْأَقْوَالِ ضَعِيفٌ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ وَشُرَّاحِهِ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا ذَكَرَ هَذَا الْقَوْلَ تَنْبِيهًا عَلَى الْخِلَافِ، وَإِلَّا فَقَدْ صَدَّرَ بِالرَّاجِحِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَوْ نَقَصَ الْأَجَلُ عَنْ الْخَمْسَةَ عَشَرَ عِنْدَ اشْتِرَاطِهَا يَفْسُدُ عَقْدُ السَّلَمِ وَلَوْ كَانَ الْمَنْقُوصُ يَوْمًا خِلَافًا لِمَا فِي بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ. الثَّانِي: إذَا سَكَتَ عَنْ ذِكْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا أَسْلَمَ فِيهِ. وَلَا يُسْلَمُ شَيْءٌ فِي جِنْسِهِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ إلَّا أَنْ يُقْرِضَهُ شَيْئًا فِي مِثْلِهِ صِفَةً، وَمِقْدَارًا وَالنَّفْعُ لِلْمُتَسَلِّفِ. وَلَا يَجُوزُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ. وَتَأْخِيرُ رَأْسِ الْمَالِ بِشَرْطٍ إلَى مَحَلِّ السَّلَمِ أَوْ مَا بَعُدَ مِنْ الْعُقْدَةِ مِنْ ذَلِكَ. وَلَا   [الفواكه الدواني] الْأَجَلِ فَسَدَ السَّلَمُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَبْضِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ أَجَلٌ مَعْلُومٌ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ سَكَتَ عَنْ بَيَانِ صِفَةِ الْمُسَلَّمِ فِيهِ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْبُرْزُلِيِّ وَغَيْرِهِ وَأَشَرْنَا لِذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. 1 - الثَّالِثُ: كَمَا يَجُوزُ التَّأْجِيلُ بِالزَّمَانِ يَجُوزُ بِغَيْرِهِ كَقُدُومِ الْحَاجِّ أَوْ الْحَصَادِ أَوْ الدِّرَاسِ، وَيُعْتَبَرُ مِيقَاتُ مُعْظَمِ مَا ذُكِرَ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ ذِكْرِ الْعَقْدِ، وَمَا ذَكَرَ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا فَأَكْثَرَ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يُسَلَّمَ الشَّيْءُ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَجْوَدَ كَالْعَكْسِ إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَنْفَعَةُ اخْتِلَافًا قَوِيًّا قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ مِنْ جِنْسِ مَا سَلَّمَ فِيهِ) كَأَنْ يَدْفَعَ عَرَضًا فِي عَرَضٍ مِنْ جِنْسِهِ، أَوْ حَدِيدًا فِي حَدِيدٍ، أَوْ حَيَوَانًا فِي حَيَوَانٍ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الشَّيْءَ فِي مِثْلِهِ قَرْضٌ لَا سَلَمٌ، فَيُشْتَرَطُ وُجُودُ شُرُوطِ الْقَرْضِ الَّتِي مِنْ جُمْلَتِهَا تَمَحُّضُ النَّفْعِ لِلْمُقْتَرِضِ، وَلَا يُنْظَرُ لِلصِّيغَةِ بِلَا قَرْضٍ، وَلَوْ وَقَعَ عَلَى لَفْظِ السَّلَمِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَنْ لَا يَكُونَا طَعَامَيْنِ وَلَا نِدَّيْنِ وَلَا شَيْءَ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَجْوَدَ كَالْعَكْسِ إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَنْفَعَةُ. فَيَجُوزُ سَلَمُ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْمَنْفَعَةِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا يُصَيِّرُ الشَّيْءَ كَالْجِنْسِ الْآخَرِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَفْعَ الشَّيْءِ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ أَوْ أَجْوَدَ كَعَكْسِهِ مُمْتَنِعٌ وَلَوْ فِي غَيْرِ الطَّعَامَيْنِ وَالنَّقْدَيْنِ، وَالْعِلَّةُ إمَّا سَلَفٌ جَرَّ مَنْفَعَةً إذَا كَانَ رَأْسُ الْمَالِ أَقَلَّ أَوْ أَدْنَى، أَوْ تُهْمَةُ ضَمَانٍ يُجْعَلُ إذَا كَانَ الْمَدْفُوعُ أَكْثَرَ أَوْ أَجْوَدَ، وَأَمَّا عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ فَيَجُوزُ فِي غَيْرِ الطَّعَامَيْنِ وَالنَّقْدَيْنِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَيَمْتَنِعُ إذَا وَقَعَ الْعَقْدُ بِلَفْظِ السَّلَمِ أَوْ الْبَيْعِ أَوْ الْإِطْلَاقِ، وَأَمَّا إنْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْقَرْضِ فَيَجُوزُ حَيْثُ تَمَحَّضَ النَّفْعُ لِلْمُقْتَرِضِ، وَسَيَأْتِي الْإِشَارَةُ لِبَعْضِ هَذَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُسْلَمَ شَيْءٌ فِي جِنْسِهِ أَوْ فِيمَا يَقْرُبُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ جِنْسِهِ فَلَا يُسْلَمُ رَقِيقُ ثِيَابِ الْقُطْنِ فِي رَقِيقِ ثِيَابِ الْكَتَّانِ عَلَى هَذَا؛ لِأَنَّ الْمُقَارَبَةَ تُصَيِّرُ الْجِنْسَيْنِ بِمَنْزِلَةِ الْجِنْسِ الْوَاحِدِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُسْلَمُ شَيْءٌ فِي جِنْسِهِ مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ مَا قَبْلَهُ، وَلَعَلَّهُ كَرَّرَهُ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: أَوْ مَا يَقْرُبُ مِنْهُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ كَمَا فِي خَلِيلٍ أَنَّ الْجِنْسَيْنِ يَجُوزُ سَلَمُ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ وَلَوْ تَقَارَبَتْ الْمَنْفَعَةُ فَإِنَّهُ قَالَ مُشَبِّهًا فِي الْجَوَازِ: وَكَالْجِنْسَيْنِ، وَلَوْ تَقَارَبَتْ الْمَنْفَعَةُ كَرَقِيقِ ثِيَابِ الْقُطْنِ فِي رَقِيقِ ثِيَابِ الْكَتَّانِ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي غَلِيظِهِ، فَمَا مَشَى عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ كَلَامُ أَشْهَبَ، وَمَذْهَبُ الْمُدَوَّنَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَلِذَا جَرَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسْلَمَ شَيْءٌ فِي جِنْسِهِ أَنْ يَمْتَنِعَ، وَلَوْ حَصَلَ الِاخْتِلَافُ بِالْمَنْفَعَةِ أَوْ الصِّغَرِ وَالْكِبَرِ. وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مَحَلُّ الْمَنْعِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ الِاخْتِلَافُ، وَإِلَّا جَازَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ خَلِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ: إلَّا أَنْ تَخْتَلِفَ الْمَنْفَعَةُ اخْتِلَافًا قَوِيًّا، وَهُوَ فِي الْحَمِيرِ بِالْفَرَاهَةِ وَهِيَ سُرْعَةُ الْمَشْيِ، فَيَجُوزُ سَلَمُ الْحِمَارِ الْفَارِهِ فِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَا فَرَاهَةَ فِيهَا، وَالْبِغَالُ مِنْ جِنْسِ الْحَمِيرِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ، وَالِاخْتِلَافُ الْقَوِيُّ فِي الْخَيْلِ بِالسَّبْقِ لَا بِالْهَمْلَجَةِ الَّتِي هِيَ حُسْنُ السَّيْرِ، إلَّا أَنْ يَنْضَمَّ لَهَا الْبَرْزَنَةُ بِأَنْ يَصِيرَ جَافِي الْأَعْضَاءِ فَيَجُوزُ سَلَمُ الْهِمْلَاجِ الْغَلِيظِ الْأَعْضَاءِ فِي مُتَعَدِّدٍ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَفِي الْجِمَالِ بِكَثْرَةِ الْحَمْلِ، وَفِي الْبَقَرِ بِالْقُوَّةِ عَلَى الْعَمَلِ، وَذَكَرَ اللَّخْمِيُّ وَيَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَى كَلَامِهِ أَنَّ الْبَقَرَ وَالْجَوَامِيسَ تَخْتَلِفُ بِكَثْرَةِ اللَّبَنِ فِي الْأَمْصَارِ كَمَا تَخْتَلِفُ بِهِ الْمَعْزُ وَالضَّأْنُ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ اخْتِلَافَ الضَّأْنِ بِكَثْرَةِ الصُّوفِ، وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَيَخْتَلِفُ بِبُلُوغِ الْغَايَةِ فِي الْغَزْلِ أَوْ الطَّبْخِ أَوْ الْحِسَابِ أَوْ الْكِتَابَةِ، وَالطَّيْرُ بِالتَّعْلِيمِ لِمَنْفَعَةٍ شَرْعِيَّةٍ لَا بِالْبَيْضِ وَلَا بِالذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا، وَمِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّهُ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمَنْفَعَةِ يَجُوزُ سَلَمُ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَحْصُلَ التَّعَدُّدُ مِنْ أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، أَوْ يَكُونَ الِاخْتِلَافُ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ؛ لِأَنَّ الِاخْتِلَافَ بِالصِّغَرِ وَالْكِبَرِ بِمَنْزِلَةِ التَّعَدُّدِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَلَمُ الشَّيْءِ فِي جِنْسِهِ وَكَانَ ظَاهِرُهُ يُوهِمُ عُمُومَ الْمَنْعِ، وَلَوْ عِنْدَ تَسَاوِي الْغَرَضَيْنِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (إلَّا أَنْ يُقْرِضَهُ قَرْضًا) وَفِي نُسْخَةٍ شَيْئًا بَدَلَ قَرْضًا (فِي مِثْلِهِ صِفَةً، وَمِقْدَارًا) أَيْ فِي الصِّفَةِ وَالْقَدْرِ. (وَ) الْحَالُ أَنَّ (النَّفْعَ لِلْمُتَسَلِّفِ) فَقَطْ فَيَجُوزُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالشَّيْءُ فِي مِثْلِهِ قَرْضٌ وَلَوْ وَقَعَ بِلَفْظِ الْبَيْعِ أَوْ غَيْرِهِ فِي غَيْرِ الطَّعَامَيْنِ وَالنَّقْدَيْنِ، وَأَمَّا فِيهِمَا فَلَا يَجُوزُ إلَّا إذَا وَقَعَ بِلَفْظِ الْقَرْضِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَا فِيهِ الْكَافِيَةُ. [بَيْع الدِّين بالدين] ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ مُشَارِكَةٍ لِمَا قَبْلَهَا فِي عَدَمِ الْجَوَازِ وَهِيَ الْكَالِئُ بِالْكَالِئِ الْمُشَارُ إلَيْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ الْكَالِئِ» بِالْهَمْزِ. قَالَ اللُّغَوِيُّونَ: وَهُوَ النَّسِيئَةُ أَيْ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ، وَهُوَ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ عِبَارَةٌ عَنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ: بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَابْتِدَاءُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَفَسْخُ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، وَأَشَارَ إلَيْهَا الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ دَيْنٌ بِدَيْنٍ) أَيْ نَسِيئَةٌ بِنَسِيئَةٍ. فَأَوَّلُ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَصُورَتُهُ أَنْ يَكُونَ لَك عَلَى شَخْصٍ مِائَةُ شَقَّةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 يَجُوزُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ لَك شَيْءٌ فِي ذِمَّتِهِ فَتَفْسَخُهُ فِي شَيْءٍ آخَرَ لَا تَتَعَجَّلُهُ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك عَلَى أَنْ يَكُونَ عَلَيْك حَالًّا. ، وَإِذَا بِعْت سِلْعَةً بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ فَلَا تَشْتَرِهَا بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا، أَوْ إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ   [الفواكه الدواني] مَثَلًا إلَى أَجَلٍ فَتَبِيعُهَا مِنْ شَخْصٍ آخَرَ بِمِائَةٍ إلَى أَجَلٍ وَيُصَوَّرُ فِي أَرْبَعَةٍ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَكُونَ لِشَخْصٍ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ وَلِثَالِثٍ عَلَى رَابِعٍ دَيْنٌ فَبَاعَ كُلٌّ مِنْ صَاحِبَيْ الدَّيْنَيْنِ مَا يَمْلِكُهُ مِنْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ الَّذِي هُوَ لِلْآخَرِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ بَيْعَ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ تَقَدُّمِ عِمَارَةِ ذِمَّةٍ أَوْ ذِمَّتَيْنِ عَلَى الْبَيْعِ، وَعِلَّةُ الْمَنْعِ كَوْنُهُ يُوصِلُ إلَى الْمُنَازَعَةِ وَالْمُخَاصَمَةِ الَّتِي يُبْغِضُهَا الشَّارِعُ، وَقِيلَ مَحْضُ تَعَبُّدٍ. وَثَانِيهَا: ابْتِدَاءُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ وَهُوَ تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ الْعَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَتَأْخِيرُ رَأْسِ الْمَالِ) مُبْتَدَأٌ وَرَأْسُ الْمَالِ مُضَافٌ إلَيْهِ (بِشَرْطٍ إلَى مَحَلِّ السَّلَمِ) أَيْ إلَى حُلُولِهِ (أَوْ) تَأْخِيرُهُ إلَى (مَا بَعُدَ) بِضَمِّ الْعَيْنِ؛ لِأَنَّهُ فِعْلٌ مَاضٍ (مِنْ الْعُقْدَةِ) بِأَنْ تَأَخَّرَ عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ كَائِنٌ (مِنْ ذَلِكَ) أَيْ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، فَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ خَبَرُ تَأْخِيرِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأٌ، وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَحْرُمُ تَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ الْعَيْنِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَوْ كَانَ التَّأْخِيرُ بِلَا شَرْطٍ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: شَرْطُ السَّلَمِ قَبْضُ رَأْسِ الْمَالِ كُلِّهِ أَوْ تَأْخِيرُهُ ثَلَاثًا وَلَوْ بِشَرْطٍ، فَيَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ عَنْ الثَّلَاثِ وَلَوْ قَلِيلًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ. (تَنْبِيهٌ) . فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أُمُورٌ: مِنْهَا أَنَّهُ أَطْلَقَ فِي رَأْسِ الْمَالِ، وَالْإِطْلَاقُ غَيْرُ صَحِيحٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى الْعَيْنِ أَشْكَلَ بِاعْتِبَارِ مَفْهُومِهِ الْمُوهِمِ لِلْجَوَازِ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ، وَإِنْ حُمِلَ عَلَى غَيْرِ الْعَيْنِ أَشْكَلَ مَنْطُوقُهُ مَعَ الشَّرْطِ، فَإِنَّ الْمَذْهَبَ حُرْمَةُ تَأْخِيرِ رَأْسِ الْمَالِ فَوْقَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ بِالشَّرْطِ وَلَوْ حَيَوَانًا، وَأَمَّا بِغَيْرِ شَرْطٍ فَيَجُوزُ تَأْخِيرُ الْحَيَوَانِ، وَلَوْ إلَى حُلُولِ أَجَلِ السَّلَمِ، وَأَمَّا الْعَرَضُ وَالطَّعَامُ فَقِيلَ كَذَلِكَ حَيْثُ كِيلَ الطَّعَامُ وَأُحْضِرَ الْعَرَضُ، وَإِلَّا كُرِهَ، وَقِيلَ يُكْرَهُ مُطْلَقًا كَمَا ذَكَرْنَا سَابِقًا. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ بِشَرْطٍ يُوهِمُ جَوَازَ التَّأْخِيرِ عِنْدَ عَدَمِهِ مُطْلَقًا وَقَدْ عَلِمْت مَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ. وَمِنْهَا: أَنَّ قَوْلَهُ أَوْ مَا بَعُدَ مِنْ الْعُقْدَةِ يُوهِمُ أَنَّ الْقَرِيبَ جَائِزٌ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يُفَسَّرَ الْقَرِيبُ بِمَا لَمْ يَزِدْ عَنْ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَطْلَقَ ذَلِكَ اتِّكَالًا عَلَى الْمَوْقِفِ، وَلِأَنَّ إطْلَاقَهُ صَحِيحٌ بِاعْتِبَارِ مَنْطُوقِهِ؛ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ بِشَرْطٍ فَوْقَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ لَا يَجُوزُ فِي رَأْسِ الْمَالِ الْعَيْنِ، وَلَا غَيْرِهَا، وَالْمَفْهُومُ عَلَى الْمَوْقِفِ بَيَانُهُ. وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْأَقْسَامِ، وَهُوَ أَشَدُّهَا حُرْمَةً بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ فَسْخُ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ) وَصَوَّرَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (مِثْلُ أَنْ يَكُونَ لَك شَيْءٌ) مِنْ الْمَالِ (فِي ذِمَّتِهِ) أَيْ الْمَدِينِ الْمَفْهُومِ مِنْ لَفْظِ دَيْنٍ (فَتَفْسَخُهُ فِي شَيْءٍ) مُخَالِفٍ لِمَا فِي ذِمَّتِهِ وَلَوْ فِي عَدَدِهِ أَوْ صِفَتِهِ (لَا تَتَعَجَّلُهُ) الْآنَ وَقَدَّرْنَا لَفْظَ مُخَالِفٍ لِفَهْمِهِ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ النَّكِرَةَ إذَا أُعِيدَتْ نَكِرَةً تَكُونُ غَيْرًا غَالِبًا، وَأَيْضًا لَفْظُ فَسْخٍ يَقْتَضِي الِانْتِقَالَ عَنْ الدَّيْنِ الْأَوَّلِ، وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ زِيَادَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ، فَيَشْمَلُ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَا إذَا كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا فَفَسَخَهُ فِي عَرَضٍ أَوْ حَيَوَانٍ إلَى أَجَلٍ فَإِنَّهُ حَرَامٌ، وَلَوْ كَانَتْ قِيمَةُ الْعَرَضِ أَقَلَّ مِنْ الدَّيْنِ، وَيَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ عَرَضًا وَفَسَخَهُ فِي عَيْنٍ فَيَحْرُمُ أَيْضًا مُطْلَقًا، وَتَشْمَلُ مَا إذَا كَانَ دَيْنُهُ عَيْنًا وَفَسَخَهَا فِي عَيْنٍ أَجْوَدَ وَأَوْلَى وَأَكْثَرَ. وَأَمَّا إذَا فَسَخَ الْعَيْنَ فِي عَيْنٍ مِثْلِهَا قَدْرًا وَعَدًّا أَوْ أَقَلَّ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ؛ لِأَنَّ إطْلَاقَ الْفَسْخِ عَلَى هَذَا فِيهِ تَجَوُّزٌ؛ لِأَنَّهُ مَحْضُ تَأْخِيرٍ بِالْحَقِّ أَوْ مَعَ حَطِيطَةٍ لِبَعْضِهِ فَفِيهِ ثَوَابٌ. وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْأَقْسَامِ الثَّلَاثَةِ بِقَوْلِهِ، وَكَكَالِئٍ بِمِثْلِهِ فُسِخَ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ وَلَوْ مُعَيَّنًا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَغَائِبٍ أَوْ مُوَاضَعَةٍ أَوْ مَنَافِعِ عَيْنٍ وَبَيْعُهُ بِدَيْنٍ وَتَأْخِيرُ رَأْسِ مَالِ سَلَمٍ، وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى جَعْلِ تِلْكَ الْحَقَائِقِ الثَّلَاثِ أَقْسَامٌ لِلْكَالِئِ بِالْكَالِئِ الْمُفَسَّرِ بِبَيْعِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ تَقَسُّمُ الشَّيْءِ إلَى نَفْسِهِ وَإِلَى غَيْرِهِ، وَهُوَ لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُقَسَّمُ الدَّيْنُ بِالدَّيْنِ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ الَّذِي هُوَ مُطْلَقُ النَّسِيئَةِ بِالنَّسِيئَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهُوَ غَيْرُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ بِخُصُوصِهِ، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمُغَايَرَةَ تَحْصُلُ وَلَوْ بِالْخُصُوصِ وَالْعُمُومِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: وَبِمَا يَدْخُلُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مَسْأَلَةٌ كَثِيرَةُ الْوُقُوعِ مِمَّنْ وَلِعَ بِأَكْلِ الرِّبَا، وَهِيَ مَا إذَا أَخَذَ صَاحِبُ الدَّيْنِ مِمَّنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ سِلْعَةً فِي دَيْنِهِ ثُمَّ يَرُدُّهَا لَهُ بِشَيْءٍ مُؤَخَّرٍ مِنْ جِنْسِ الدَّيْنِ، وَهُوَ أَكْثَرُ أَوْ مِنْ جِنْسِهِ وَلَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ فَإِنَّهُ حَرَامٌ؛ لِأَنَّ مَا خَرَجَ مِنْ الْيَدِ وَعَادَ إلَيْهَا يُعَدُّ لَغْوًا، وَكَأَنَّهُ فَسَخَ دَيْنَهُ ابْتِدَاءً مِنْ شَيْءٍ لَا يَتَعَجَّلُهُ، وَهُوَ حَقِيقَةُ فَسْخِ الدَّيْنِ فِي الدَّيْنِ، وَهُوَ حَرَامٌ، سَوَاءٌ كَانَ الدَّيْنُ الْمَفْسُوخُ فِي مُؤَخَّرٍ قَدْ تَمَّ أَجَلُهُ أَوْ كَانَ بَقِيَ مِنْهُ شَيْءٌ وَأَخَّرَهُ أَزْيَدَ مِنْهُ. الثَّانِي: إنَّمَا لَمْ يَعْطِفْ الْمُصَنِّفُ فَسْخَ الدَّيْنِ عَلَى سَابِقِهِ بَلْ اسْتَأْنَفَ بِإِعَادَةِ الْعَامِلِ لِيُنَبِّهَ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ فَسْخَ الدَّيْنِ أَشَدُّ الثَّلَاثَةِ فِي الْحُرْمَةِ، وَيَلِيهِ بَيْعُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ، وَأَخَفُّهَا ابْتِدَاءُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي رَأْسِ الْمَالِ التَّأْخِيرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، وَإِنَّمَا كَانَ فَسْخُ الدَّيْنِ أَشَدُّ فِي الْحُرْمَةِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ، وَالرِّبَا مُحَرَّمٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ. وَأَمَّا الْآخَرَانِ فَتَحْرِيمُهُمَا بِالسُّنَّةِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّلَمَ يَجِبُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ مُؤَجَّلًا شَرَعَ هُنَا فِي مَفْهُومِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ يَحْرُمُ عَلَيْك (بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك عَلَى) شَرْطِ (أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 الْأَوَّلِ وَلَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ إلَى أَبْعَدَ مِنْ أَجَلِهِ، وَأَمَّا إلَى الْأَجَلِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ كُلُّهُ جَائِزٌ وَتَكُونُ مُقَاصَّةً. [الْبِيَاعَات الْمُنْهِيَ عَنْهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ] وَلَا بَأْسَ بِشِرَاءِ الْجُزَافِ   [الفواكه الدواني] يَكُونَ عَلَيْك) يَا بَائِعَ الشَّيْءِ الَّذِي بِعْته وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَك (حَالًّا) أَيْ مُعَجَّلًا، فَإِنْ وَقَعَ فَسْخٌ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْفَسَادُ، وَتُرَدُّ السِّلْعَةُ إنْ كَانَتْ قَائِمَةً، وَسَوَاءٌ قَالَ لَهُ: بِعْ لِي السِّلْعَةَ الْفُلَانِيَّةَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِ مَالِكِهَا، أَوْ قَالَ لَهُ: بِعْنِي سِلْعَةَ فُلَانٍ، وَمِثْلُ بِعْنِي أُسَلِّمُك عَلَى السِّلْعَةِ الْفُلَانِيَّةِ عَلَى أَنْ تَكُونَ حَالَّةً عَلَيْك؛ لِأَنَّ السَّلَمَ الْحَالَّ بَاطِلٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك مَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعِ «أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: نَهَانِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدِي، فَقَالَ حَكِيمٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ يَأْتِينِي الرَّجُلُ فَيُرِيدُ مِنِّي بَيْعَ مَا لَيْسَ عِنْدِي فَأَبْتَاعُ لَهُ مِنْ السُّوقِ، قَالَ: لَا تَبِعْ مَا لَيْسَ عِنْدَك» قَالَ الْمَتْيَوِيُّ وَأَشْهَبُ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ النَّهْيِ: لِأَنَّهُ إذَا اشْتَرَى مَا لَيْسَ عِنْدَهُ فَكَأَنَّهُ أَيْ الْمُشْتَرِي لِتِلْكَ السِّلْعَةِ مِمَّنْ يَبْتَاعُهَا مِنْ الْغَيْرِ قَالَ: خُذْ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَاشْتَرِ مِنْهَا كَذَا وَكَذَا عَلَى أَنْ يَكُونَ لَك مَا فَضَلَ وَعَلَيْك مَا نَقَصَ، وَفِي هَذَا غَرَرٌ، وَلَا سِيَّمَا إذَا عَيَّنَ لَهُ سِلْعَةَ شَخْصٍ وَقَالَ لَهُ اشْتَرِهَا مِنِّي؛ لِأَنَّهُ تَارَةً يَبِيعُهَا لَهُ وَتَارَةً لَا يَبِيعُهَا، وَعَلَى فَرْضِ بَيْعِهَا لَهُ قَدْ يَكُونُ بِثَمَنٍ مِثْلِ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ أَخَذَهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِأَكْثَرَ مِمَّا بَاعَهَا بِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فَيُضَيِّعُ عَلَيْهِ الزَّائِدَ، وَهُوَ سَفَهٌ، وَإِنْ بَاعَهَا بِكَثِيرٍ وَقَدْ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ صَاحِبِهَا بِقَلِيلٍ فَيَأْكُلُ الزَّائِدَ بِالْبَاطِلِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَوْضُوعُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْبَيْعَ وَقَعَ عَلَى السِّلْعَةِ قَبْلَ أَنْ يَمْلِكَهَا بَائِعُهَا وَلِذَلِكَ مُنِعَ لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّ هَذَا مَفْهُومُ السَّلَمِ الْجَائِزِ، وَهُوَ مَا أُجِّلَ فِيهِ الْمُسَلَّمُ فِيهِ، وَهَذَا حَالٌّ وَالسَّلَمُ الْحَالُّ مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا لَوْ طَلَبَ شَخْصٌ مِنْ آخَرَ سِلْعَةً؛ لِيَشْتَرِيَهَا فَلَمْ يَجِدْهَا عِنْدَهُ فَنَصَّ خَلِيلٌ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ: جَازَ لِمَطْلُوبٍ مِنْهُ سِلْعَةً أَنْ يَشْتَرِيَهَا مِنْ الْغَيْرِ وَيَبِيعَهَا بَعْدَ اشْتِرَائِهَا لِطَالِبِهَا وَلَوْ بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْكِتَابِ وَالْأُمَّهَاتِ، فَلَا تَتَوَهَّمَ أَنَّ مَسْأَلَةَ الْمُصَنِّفِ عَيْنُ كَلَامِ خَلِيلٍ لِمَا عَلِمْت مِنْ الْمُخَالَفَةِ بَيْنَهُمَا مَوْضُوعًا وَحُكْمًا. الثَّانِي: قَيَّدَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ مَا لَيْسَ عِنْدَك بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَ الْبَائِعِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَغْلِبُ وُجُودُهُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِيَهُ مِنْهُ عَلَى الْحُلُولِ إجْرَاءً لَهُ مَجْرَى الْقَبْضِ وَلَيْسَ سَلَمًا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَازَ الشِّرَاءُ مِنْ دَائِمِ الْعَمَلِ كَالْخَبَّازِ وَاللَّحَّامِ بِشَرْطِ وُجُودِهِ عِنْدَهُ، وَحُصُولُ الشُّرُوعِ فِي الْأَخْذِ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا بِأَنْ يَشْرَعَ قَبْلَ مُجَاوَزَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا مِنْ يَوْمِ الْعَقْدِ، وَيَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَى تَعْجِيلِ الشَّيْءِ الْمُشْتَرَى، وَلَا يُشْتَرَطُ نَقْدُ الثَّمَنِ؛ لِمَا عَلِمْت مِنْ أَنَّ هَذَا بَيْعٌ لَا سَلَمٌ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا لِظُهُورِ عِلَّةِ حُرْمَتِهَا، شَرَعَ فِي بِيَاعَاتٍ نُهِيَ عَنْهَا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَهِيَ بُيُوعُ الْآجَالِ وَحَقِيقَتُهَا بِالْمَعْنَى الْإِضَافِيِّ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَا أَجَّلَ ثَمَنُهُ الْعَيْنَ، وَمَا أَجَّلَ ثَمَنُهُ غَيْرَهَا سَلَمٌ، وَحَقِيقَتُهَا بِالْمَعْنَى اللَّقَبِ مَا تَكَرَّرَ فِيهِ بَيْعُ عَاقِدَيْ الْأَوَّلِ وَلَوْ بِغَيْرِ عَيْنٍ قَبْلَ انْقِضَائِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ الْأَوَّلَ وَقَعَ لِأَجَلٍ وَاللَّقَبُ أَحَدُ أَنْوَاعِ الْعِلْمِ، فَكَانَ ابْنُ عَرَفَةَ قَالَ: وَهُوَ عِلْمٌ لِمَا تَكَرَّرَ فِيهِ إلَخْ. وَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهَا؛ لِأَنَّهَا يُتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ قَلِيلٍ فِي كَثِيرٍ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ الْمُتَعَاقِدَانِ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّاسَ كَثِيرًا مَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ، فَمَنَعَهَا مَالِكٌ؛ لِأَنَّهُ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ فَقَالَ: (وَإِذَا بِعْت) مِنْ شَخْصٍ (سِلْعَةً) عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ (بِثَمَنٍ مُؤَجَّلٍ) مَعْلُومٍ كَشَهْرٍ مَثَلًا (فَلَا) يَحِلُّ لَك أَنْ (تَشْتَرِيَهَا) مِمَّنْ اشْتَرَاهَا مِنْك (بِأَقَلَّ مِنْهُ نَقْدًا أَوْ إلَى أَجَلٍ دُونَ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ) ؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ الْيَدِ وَعَادَتْ إلَيْهَا تُعَدُّ لَغْوًا، وَكَأَنَّ الْبَائِعَ الْأَوَّلَ، وَهُوَ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا دَفَعَ قَلِيلًا لِيَأْخُذَ بَدَلَهُ أَكْثَرَ مِنْهُ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا أَنْ تَشْتَرِيَهَا مِنْهُ (بِأَكْثَرَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ (إلَى) أَجَلٍ (أَبْعَدَ مِنْ أَجَلِهِ) الَّذِي اُشْتُرِيَ إلَيْهِ لِلْعِلَّةِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ يَدْفَعُ عِنْدَ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ قَلِيلًا يَأْخُذُ عَنْهُ بَعْدَ الْأَجَلِ الْبَعِيدِ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَهَذَا سَلَفٌ يَجُرُّ مَنْفَعَةً، وَلِذَلِكَ لَوْ اشْتَرَاهُ بِأَقَلَّ لِأَبْعَدَ لَجَازَ، وَبِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْلَى بِالْجَوَازِ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ النَّقْدِ وَلِدُونِ الْأَجَلِ أَوْ أَبْعَدَ بِأَكْثَرَ بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا) لَوْ اشْتَرَيْت مَا بِعْته مِنْ مُشْتَرِيهِ (إلَى الْأَجَلِ نَفْسِهِ فَذَلِكَ) الشِّرَاءُ (كُلُّهُ جَائِزٌ) سَوَاءٌ كَانَ بِمِثْلِ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ مِنْهُ أَوْ أَكْثَرَ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ كَالْعِلَّةِ لِلْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: (وَتَكُونُ) أَيْ تُوجَدُ (مُقَاصَّةٌ) أَيْ إنَّمَا جَازَتْ الصُّوَرُ كُلُّهَا عِنْدَ اتِّفَاقِ الْأَجَلِ؛ لِوُجُودِ الْمُقَاصَّةِ حِينَئِذٍ وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطَاهَا؛ لِأَنَّهُ إذَا انْقَضَى الْأَجَلُ فَإِمَّا أَنْ يَتَسَاقَطَ الثَّمَنَانِ وَذَلِكَ عِنْدَ اتِّفَاقِ الثَّمَنَيْنِ. وَأَمَّا عِنْدَ اخْتِلَافِهِمَا فَعِنْدَ تَمَامِهِ تَقَعُ الْمُقَاصَّةُ فِي قَدْرِ الْقَلِيلِ، وَيَدْفَعُ الزَّائِدَ لَا فِي مُقَابَلَةِ شَيْءٍ، فَانْتَفَى ابْتِدَاءُ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ الْمُوجِبِ لِلْمَنْعِ، وَلِذَلِكَ لَوْ شَرَطَا الْمُقَاصَّةَ فِيمَا أَصْلُهُ مَمْنُوعٌ لَجَازَ، كَشِرَائِهَا بِأَكْثَرَ لِأَبْعَدَ، أَوْ بِأَقَلَّ نَقْدًا وَلِدُونِ الْأَجَلِ؛ لِأَنَّ ضَابِطَ هَذَا الْبَابِ الْجَائِزِ ابْتِدَاءً لَا يَمْنَعُهُ إلَّا شَرْطُ نَفْيِ الْمُقَاصَّةِ، وَالْمَمْنُوعُ ابْتِدَاءً لَا يُصَيِّرُهُ جَائِزًا إلَّا شَرْطُ الْمُقَاصَّةِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِذَا بِعْت سِلْعَةً فَلَا تَشْتَرِيهَا إلَخْ أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلَيْك شِرَاءُ غَيْرِهَا مِنْ غَيْرِ نَوْعِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ، فَإِذَا بَاعَهُ فَرَسًا إلَى أَجَلٍ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْهُ رَقِيقًا وَلَوْ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ مَا بَاعَهَا بِهِ نَقْدًا أَوْ لِدُونِ الْأَجَلِ أَوْ بِأَكْثَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لِأَبْعَدَ، وَمِثْلُ شِرَاءِ غَيْرِهَا شِرَاءُ عَيْنِ مَا بَاعَ بَعْدَ تَغَيُّرِهِ كَثِيرًا فِي جَوَازِ جَمِيعِ الصُّوَرِ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى مِثْلَهَا مِنْ نَوْعِهَا فَإِنْ كَانَتْ سِلْعَتُهُ مِثْلِيَّةً فَكَأَنَّهُ اشْتَرَى عَيْنَ مَا بَاعَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمِثْلِيُّ صِفَةً وَقَدْرًا كَمِثْلِهِ وَالْأَوْلَى كَغَيْرِهِ فَيَمْتَنِعُ مَا تَعَجَّلَ فِيهِ الْأَقَلَّ وَيَجُوزُ فِي غَيْرِهِ، فَالسِّلْعَةُ الْمِثْلِيَّةُ شِرَاؤُهَا أَوْ مِثْلُهَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ فِي امْتِنَاعِ ثَلَاثِ صُوَرٍ، قَبْلَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ عَلَيْهِ، وَهِيَ بِأَقَلَّ نَقْدًا أَوْ لِدُونِ الْأَجَلِ أَوْ بِأَكْثَرَ لِأَبْعَدَ وَيَجُوزُ مَا عَدَاهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الشِّرَاءُ الثَّانِي بَعْدَ غَيْبَةِ الْمُشْتَرِي الْأَوَّلِ زِيدَ عَنْ الثَّلَاثِ الْمَمْنُوعَةِ صُورَتَانِ، وَهُمَا: كَوْنُ الشِّرَاءِ الثَّانِي بِأَقَلَّ لِلْأَجَلِ أَوْ لِأَبْعَدَ. وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى مِثْلَ سِلْعَتِهِ مِنْ الْمُقَوَّمَاتِ كَمَا لَوْ كَانَتْ سِلْعَتُهُ فَرَسًا وَاشْتَرَى مِنْهُ فَرَسًا لَكَانَ بِمَنْزِلَةِ شِرَاءِ سِلْعَةٍ مِنْ غَيْرِ الْجِنْسِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ بَاعَ مُقَوَّمًا فَمِثْلُهُ كَغَيْرِهِ كَتَغَيُّرِهَا كَثِيرًا فَتَجُوزُ الصُّوَرُ كُلُّهَا، كَمَا تَجُوزُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْأَجَلِ أَوْ عِنْدَ اتِّفَاقِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ هَذَا الْبَابِ إذَا اتَّفَقَ الثَّمَنَانِ فَالْجَوَازُ وَلَا يُنْظَرُ لِاخْتِلَافِ الْأَجَلِ، وَكَذَا إذَا اتَّفَقَ الْأَجَلَانِ فَالْجَوَازُ وَلَا يُنْظَرُ إلَى اخْتِلَافِ الثَّمَنَيْنِ. وَالْكَلَامُ إنَّمَا هُوَ إذَا اخْتَلَفَ الْأَجَلَانِ وَالثَّمَنَانِ فَإِنَّهُ يُنْظَرُ إلَى الْيَدِ السَّابِقَةِ بِالْعَطَاءِ، فَإِنْ دَفَعَتْ قَلِيلًا وَعَادَ إلَيْهَا كَثِيرٌ فَالْمَنْعُ، وَإِلَّا فَالْجَوَازُ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: فَمَنْ بَاعَ بِأَجَلٍ ثُمَّ اشْتَرَاهُ بِجِنْسِ ثَمَنِهِ مِنْ عَيْنٍ وَطَعَامٍ وَعَرَضٍ، فَإِمَّا نَقْدًا أَوْ لِلْأَجَلِ أَوْ لِأَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، بِمِثْلِ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ يَمْنَعُ مِنْهَا ثَلَاثٌ، وَهِيَ مَا عُجِّلَ فِيهِ الْأَقَلُّ وَصُوَرُهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ صُورَةً خَارِجَةً مِنْ ضَرْبِ أَرْبَعٍ، وَهِيَ صُوَرُ النَّقْدِ، وَلِدُونِ الْأَجَلِ وَلِلْأَجَلِ، وَلِأَبْعَدَ فِي ثَلَاثِ صُوَرٍ مِثْلُ الثَّمَنِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، الْجَائِزُ تِسْعٌ وَالْمُمْتَنِعُ ثَلَاثٌ، وَهِيَ مَا تَعَجَّلَ فِيهِ الْأَقَلَّ كَشِرَاءِ مَا بَاعَهُ بِعَشَرَةٍ إلَى شَهْرٍ بِثَمَانِيَةٍ نَقْدًا، أَوْ لِدُونِ الْأَجَلِ أَوْ بِاثْنَيْ عَشَرَ لِأَبْعَدَ. (تَنْبِيهٌ) . عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ كَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ أَنْ تَكُونَ الْبَيْعَةُ الْأُولَى إلَى أَجَلٍ، وَكَوْنُ الْمُشْتَرِي ثَانِيًا هُوَ الْبَائِعَ أَوَّلًا أَوْ مَنْ تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ، أَوْ الْبَائِعِ الثَّانِي هُوَ الْمُشْتَرِيَ الْأَوَّلَ أَوْ مَنْ تَنَزَّلَ مَنْزِلَتَهُ، وَكَوْنُ السِّلْعَةِ الْمُشْتَرَاةِ ثَانِيًا هِيَ الْمُبَاعَةَ أَوَّلًا عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَالْمُنَزَّلُ مَنْزِلَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَكِيلُهُ أَوْ عَبْدُهُ الْمَأْذُونُ أَوْ الْمَأْذُونُ حَيْثُ كَانَ يَتَّجِرُ لِلسَّيِّدِ، وَسَوَاءٌ عَلِمَ الْوَكِيلُ أَوْ الْمُوَكِّلُ بِبَيْعِ الْآخَرِ أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ بَاعَ السَّيِّدُ ثُمَّ اشْتَرَى الْعَبْدُ أَوْ عَكْسُهُ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى مَا بَاعَهُ لِأَجَلٍ لِغَيْرِ نَفْسِهِ بِأَنْ اشْتَرَاهُ لِأَجْنَبِيٍّ أَوْ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ لَكُرِهَ فَقَطْ، وَمِثْلُ شِرَائِهِ لِابْنِهِ الْمَحْجُورِ شِرَاءُ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لِمَنْ فِي حِجْرِهِ. وَأَمَّا عَكْسُ هَذَا، وَهُوَ شِرَاءُ الْأَجْنَبِيِّ لِلْبَائِعِ الْأَوَّلِ أَوْ شِرَاءُ مَحْجُورِهِ لَهُ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلًّا إنَّمَا يَشْتَرِي بِطَرِيقِ الْوَكَالَةِ فَهُوَ كَشِرَاءِ الْبَائِعِ لِنَفْسِهِ. 1 - (فَرْعَانِ عَزِيزَانِ مُنَاسِبَانِ لِلْبَابِ) الْأَوَّلُ: مَنْ طَلَبَ مِنْهُ شَخْصٌ دَرَاهِمَ قَرْضًا فَامْتَنَعَ وَدَفَعَ لَهُ دَرَاهِمَ يَشْتَرِي بِهَا سِلْعَةً، وَبَعْدَ اشْتِرَائِهَا لِصَاحِبِ الدَّرَاهِمِ بَاعَهَا لِطَالِبِ الْقَرْضِ بِدَرَاهِمَ أَكْثَرَ مِنْ ثَمَنِهَا، فَالظَّاهِرُ أَوْ الْمَجْزُومُ بِهِ حُرْمَةُ هَذَا الْفِعْلِ، وَأَحْرَى فِي الْمَنْعِ مَا يَفْعَلُهُ أَهْلُ مِصْرَ تُجَّارُ الْبُنِّ مِنْ بَيْعِهِمْ الْبُنَّ لِشَخْصٍ إلَى أَجَلٍ مَعْلُومٍ، ثُمَّ يَبِيعُهُ الْمُشْتَرِي إلَى الْبَائِعِ بِثَمَنٍ قَلِيلٍ يُعَجِّلُهُ إلَى الْمُشْتَرِي بَلْ هَذَا دَاخِلٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ 1 - الثَّانِي: مَنْ لَهُ دَيْنٌ عَلَى شَخْصٍ قَدْ حَلَّ أَجَلُهُ فَطَالَبَهُ بِهِ فَوَجَدَهُ مُعْسِرًا بِجَمِيعِهِ، وَوَجَدَ عِنْدَهُ سِلْعَةً لَا تَفِي بِهِ فَأَخَذَهَا مِنْهُ فِي جَمِيعِ الدَّيْنِ، ثُمَّ بَاعَهَا لَهُ بِأَكْثَرَ مِنْ الدَّيْنِ، فَهَذَا لَا يَجُوزُ أَيْضًا؛ لِأَنَّ السِّلْعَةَ الَّتِي خَرَجَتْ مِنْ الْيَدِ وَعَادَتْ إلَيْهَا تُعَدُّ لَغْوًا، وَكَأَنَّهُ فَسَخَ مَا فِي ذِمَّةِ الْمَدِينِ فِي أَكْثَرَ مِنْهُ ابْتِدَاءً فَهُوَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ. (خَاتِمَةٌ) . لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ وَقَعَ مَا لَا يَجُوزُ مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ، بِأَنْ اشْتَرَى مَا بَاعَ بِأَقَلَّ نَقْدًا أَوْ لِدُونِ الْأَجَلِ أَوْ بِأَكْثَرَ لِأَبْعَدَ، وَمُحَصَّلُهُ: أَنَّ الْبَيْعَةَ الثَّانِيَةَ تُفْسَخُ؛ لِأَنَّهَا الْمَمْنُوعَةُ، وَالْأُولَى صَحِيحَةٌ هَذَا إذَا كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً، فَإِنْ فَاتَتْ فَالْمَشْهُورُ أَنَّهُمَا يُفْسَخَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّ أَوَّلُ مِنْ بُيُوعِ الْآجَالِ فَقُلْ إلَّا أَنْ يُفَوِّتَ الثَّانِيَ فَيُفْسَخَانِ، وَهَلْ مُطْلَقًا أَوْ إنْ كَانَتْ الْقِيمَةُ أَقَلَّ؟ . خِلَافٌ مَحَلُّهُ فِي فَسْخِ الْأَوَّلِ حَيْثُ فَاتَتْ بِيَدِ الْمُشْتَرِي الثَّانِي، وَهُوَ بَائِعُهَا الْأَوَّلُ وَكَانَتْ قِيمَتُهُ أَقَلَّ مِنْ الثَّمَنِ الْأَوَّلِ، وَأَمَّا فَسْخُ الثَّانِي فَمُتَّفَقٌ عَلَيْهِ رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ رَوْمًا لِلْفَائِدَةِ؛ لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ بَالَغَ فِي اخْتِصَارِ الْمَسْأَلَةِ. [بَيْع الجزاف] وَلَمَّا كَانَ بَيْعُ الْجُزَافِ مُسْتَثْنًى مِنْ بَيْعِ الْغَرَرِ نَصَّ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (لَا بَأْسَ بِشِرَاءِ الْجُزَافِ) وَحَقِيقَتُهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ بَيْعُ مَا يُمْكِنُ عِلْمُ قَدْرِهِ دُونَهُ أَيْ دُونَ أَنْ يُعْلَمَ بِالْفِعْلِ وَالْأَصْلُ مَعَهُ، وَلَكِنْ خَفَّفَ فِيمَا شَقَّ عِلْمُهُ أَوْ قَلَّ جَهْلُهُ، وَلِجَوَازِهِ شُرُوطٌ: أَحَدُهَا أَنْ يُصَادِفَ كَوْنُهُ جُزَافًا، فَلَا يَصِحُّ الْجُزَافُ الْمَدْخُولُ عَلَيْهِ كَأَنْ يَقُولَ لِلْجَزَّارِ أَوْ الْعَطَّارِ أَوْ بَيَّاعِ الْفُولِ: اصْنَعْ لِي كَوْمًا مَثَلًا وَأَنَا أَشْتَرِيهِ مِنْك، أَوْ يَقُولُ لِصَاحِبِ صُبْرَةٍ: امْلَأْ لِي هَذِهِ الْغِرَارَةَ بِكَذَا، أَوْ يَقُولُ لِلْجَزَّارِ: اعْطِنِي وَزْنَ هَذَا الْحَجَرِ الْمَجْهُولِ، أَوْ لِلْعَطَّارِ: امْلَأْ هَذِهِ الْوَرَقَةَ فُلْفُلًا مَثَلًا، فَهَذَا كُلُّهُ مِنْ الْجُزَافِ الْمَدْخُولِ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ مَا يَقَعُ عِنْدَنَا بِمِصْرَ مِنْ شِرَاءِ الْفُولِ الْحَارِّ أَوْ الْمِلْحِ أَوْ اللَّبَنِ بِأَنْ يَدْفَعَ الْبَائِعُ لِلْمُشْتَرِي مِقْدَارًا فِي ظَرْفِهِ مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ فَهَذَا غَيْرُ جَائِزٍ. وَأَمَّا لَوْ وَجَدَهُ مُجَزَّفًا عِنْدَ الْجَزَّارِ أَوْ الْعَطَّارِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرَاهُ الْمُشْتَرِي قَبْلَ شِرَائِهِ إنْ كَانَ فِي ظَرْفٍ بِأَنْ يَفْتَحَ وَرَقَةَ الْفُلْفُلِ أَوْ الْبُنِّ، وَالثَّانِي أَنْ لَا يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ زِيَادَةً، وَإِلَّا امْتَنَعَ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مِنْ الْمَدْخُولِ عَلَيْهِ. الثَّانِي مِنْ الشُّرُوطِ: أَنْ يَكُونَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ حَاضِرًا مَرْئِيًّا، وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ كُلٌّ مِنْ الْبَائِعِ وَالْمُشْتَرِي بَصِيرًا، فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْمَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 فِيمَا يُكَالُ أَوْ يُوزَنُ. سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ مَا كَانَ مَسْكُوكًا، وَأَمَّا نِقَارُ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَذَلِكَ فِيهِمَا جَائِزٌ. وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ جُزَافًا، وَلَا مَا يُمْكِنُ عَدَدُهُ بِلَا مَشَقَّةٍ جُزَافًا. وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ   [الفواكه الدواني] جُزَافًا وَلَا شِرَاؤُهُ لِاشْتِرَاطِ رُؤْيَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَتَكْفِي الرُّؤْيَةُ وَلَوْ قَبْلَ الْعَقْدِ، وَيَكْفِي رُؤْيَةُ بَعْضِهِ الْمُتَّصِلِ بِبَاقِيهِ كَالصُّبْرَةِ يَرَى ظَاهِرَهَا وَالْغِرَارَةِ وَالْحَاصِلِ الْكَبِيرِ وَكَرُؤْيَةِ بَعْضِ مَغِيبِ الْأَصْلِ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ حُضُورُ جَمِيعِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مَعَ الْإِكْفَاءِ بِرُؤْيَةِ بَعْضِهِ لِلتَّمَكُّنِ مِنْ حِرْزِهِ، وَهَذَا الشَّرْطُ فِي غَيْرِ قِلَالِ الْخَلِّ الْمُطَيَّنَةِ وَيُعْلَمُ أَنَّهُ يُفْسِدُهَا الْفَتْحُ لَكِنْ بِشَرْطِ كَوْنِهَا مَمْلُوءَةً، أَوْ يَعْلَمُ الْمُشْتَرِي نَقْصَهَا، وَلَوْ بِإِخْبَارِ الْبَائِعِ وَصِفَةِ مَا فِيهَا، وَفِي غَيْرِ الثِّمَارِ الْغَائِبَةِ عَنْ بَلَدِ الْعَقْدِ عَلَى مَسِيرَةِ خَمْسَةِ أَيَّامٍ، وَيُكْتَفَى فِي حِلِّ بَيْعِهَا بِذِكْرِ الصِّفَةِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ نَقْدِ الثَّمَنِ، وَإِلَّا امْتَنَعَ بَيْعُهَا، كَمَا إذَا بَعُدَتْ جِدًّا إلَّا أَنْ يَكُونَ ثَمَرُهَا يَابِسًا. الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَكْثُرَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ جِدًّا بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ حِرْزُهُ، وَإِلَّا امْتَنَعَ بَيْعُهُ جُزَافًا وَلَا مَعْدُودًا، وَأَمَّا مَا قَلَّ بِحَيْثُ لَا مَشَقَّةَ فِي ضَبْطِهِ بِمِعْيَارِهِ الشَّرْعِيِّ فَيَجُوزُ فِي الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ وَلَا يَجُوزُ فِي الْمَعْدُودِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَجْهُولًا لِلْمُتَبَايِعَيْنِ فَلَوْ عَلِمَاهُ مَعًا لَجَازَ الْعَقْدُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ مِنْ بَيْعِ الْجُزَافِ، وَأَمَّا لَوْ عَلِمَهُ أَحَدُهُمَا فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَإِنْ أَعْلَمَ الْعَالِمُ الْجَاهِلَ قَبْلَ الْعَقْدِ فَسَدَ، وَإِنْ لَمْ يُعْلِمْهُ لَمْ يَفْسُدْ وَلَكِنْ يَثْبُتُ الْخِيَارُ لِلْجَاهِلِ، كَظُهُورِ عَيْبٍ فِي السِّلْعَةِ دَلَّسَ بِهِ الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي. الْخَامِسُ: أَنْ يَكُونَ الْمُتَعَاقِدَانِ مِنْ أَهْلِ الْحَزْرِ أَوْ يُوَكِّلَا مَنْ هُوَ كَذَلِكَ، وَيُحْرَزُ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ بِالْفِعْلِ. السَّادِسُ: أَنْ تَسْتَوِيَ أَرْضُهُ بِأَنْ لَا تَكُونَ مُرْتَفِعَةً وَلَا مُنْخَفِضَةً وَيَظْهَرُ كَذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ اسْتِوَاؤُهَا ثَبَتَ الْخِيَارُ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ. السَّابِعُ: وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمَعْدُودِ أَنْ يَكُونَ فِي عَدِّهِ مَشَقَّةٌ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَأَمَّا الْمَوْزُونُ وَالْمَكِيلُ فَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا جُزَافًا بِغَيْرِ هَذَا الشَّرْطِ؛ لِأَنَّ شَأْنَهُمَا الْمَشَقَّةُ لِتَوَقُّفِهِمَا عَنْ مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مُعْتَادٍ، وَالْعَدُّ يَتَيَسَّرُ غَالِبًا لِكُلِّ أَحَدٍ. الثَّامِنُ: أَنْ لَا تَتَفَاوَتَ أَفْرَادُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ تَفَاوُتًا بَيِّنًا بِكَثْرَةِ ثَمَنِ بَعْضِ الْأَفْرَادِ وَقِلَّةِ الْبَعْضِ كَالرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ، وَأَمَّا تَفَاوُتُ الثَّمَنِ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ فَلَا يُمْنَعُ كَأَثْمَانِ الْبِطِّيخِ وَالرُّمَّانِ. التَّاسِعُ: أَنْ لَا يَشْتَرِيَ الْجُزَافَ مَعَ الْكَيْلِ مَعَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ أَوْ اخْتِلَافِ الْجِنْسِ مَعَ خُرُوجِ كُلٍّ عَنْ أَصْلِهِ، بِخِلَافِ لَوْ وَقَعَ كُلٌّ عَلَى الْأَصْلِ فَيَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ شِرَاءُ الْجَزَّافِينَ وَالْمَكِيلِينَ فِي عُقْدَةٍ وَاحِدَةٍ وَلَوْ مَعَ الْخُرُوجِ عَنْ الْأَصْلِ، وَالْأَصْلُ فِي الْحُبُوبِ الْكَيْلُ وَالْأَرْضِ الْجُزَافُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَجُزَافٌ إنْ رَأَى وَلَمْ يَكْثُرْ جِدًّا وَجَهْلًا وَحَزَرًا وَاسْتَوَتْ أَرْضُهُ وَلَمْ يُعَدَّ بِلَا مَشَقَّةٍ وَلَمْ تُقْصَدْ أَفْرَادُهُ إلَّا أَنْ يَقِلَّ ثَمَنُهُ. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَكُلُّ الشُّرُوطِ لِلصِّحَّةِ سِوَى اسْتِوَاءِ الْأَرْضِ فَإِنَّهُ شَرْطٌ فِي الْجَوَازِ بِدَلِيلِ ثُبُوتِ الْخِيَارِ لِمَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ عِنْدَ تَبَيُّنِ عَدَمِ الِاسْتِوَاءِ، وَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ جَازَ مَعَ الْجُزَافِ (فِيمَا يُوزَنُ) كَالسَّمْنِ وَالْعَسَلِ وَالْبُنِّ (أَوْ يُكَالُ) كَالْحِنْطَةِ وَالْفُولِ، أَوْ يُعَدُّ كَالْبِطِّيخِ وَالسَّمَكِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا لَا تَتَفَاوَتُ أَثْمَانُ أَفْرَادِهِ أَوْ تَتَفَاوَتُ تَفَاوُتًا يَسِيرًا، وَإِنَّمَا أَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ الْمَعْدُودَ؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْمِثْلِيِّ وَالْمَعْدُودِ مِنْهُ بِدَلِيلِ مَا يَأْتِي فِي قَوْلِهِ: وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ الرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ جُزَافًا، فَفِي كَلَامِهِ اكْتِفَاءٌ عَلَى حَدِّ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ؛ لِأَنَّ التَّقْدِيرَ وَالْبَرْدَ، وَالتَّقْدِيرُ هُنَا فِيمَا يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ أَوْ يُعَدُّ. وَلَمَّا كَانَ الْمُقَدَّرُ فِي قُوَّةِ الْمَلْفُوظِ بِهِ اسْتَثْنَى مِنْهُ الْمَعْدُودَ الْمَسْكُوكَ بِقَوْلِهِ: (سِوَى الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ) وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ (مَا كَانَ مَسْكُوكًا) فَلَا يَجُوزُ بَيْعُ شَيْءٍ مِنْهَا جُزَافًا؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْمَسْكُوكِ جُزَافًا إذَا كَانَ التَّعَامُلُ بِهِ عَدَدًا أَوْ عَدَدًا وَوَزْنًا لِقَصْدِ أَفْرَادِهِ حِينَئِذٍ الْمُؤَدِّي لِلْمُخَاطَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ، فَإِنْ انْفَرَدَ التَّعَامُلُ بِالْوَزْنِ جَازَ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ: وَنَقْدَانِ سَكٍّ وَالتَّعَامُلُ بِالْعَدَدِ وَإِلَّا جَازَ. (تَنْبِيهٌ) . فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ إطْلَاقَ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَسْكُوكِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ: أَطْلَقَ اتِّكَالًا عَلَى الْغَالِبِ مِنْ أَنَّ الْمَسْكُوكَ إنَّمَا يَتَعَامَلُ بِهِ عَدَدًا، وَمَفْهُومُ الْمَسْكُوكِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا نِقَارُ) بِكَسْرِ النُّونِ أَيْ فَجَرَاتُ (الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الشِّرَاءِ جُزَافًا (فِيهِمَا جَائِزٌ) ؛ لِعَدَمِ قَصْدِ الْأَفْرَادِ حِينَئِذٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ التِّبْرَ وَالْحُلِيَّ الْمُكَسَّرَ وَكَذَا الْمَسْكُوكُ الْمُتَعَامَلُ بِهِ وَزْنًا فَقَطْ يَجُوزُ بَيْعُهُ جُزَافًا، وَالْفُلُوسُ الْجُدُدُ كَالنَّقْدِ. (تَنْبِيهٌ) . لَمْ يُبَيِّنْ مَا تُبَاعُ بِهِ النِّقَارُ الْمَذْكُورَةُ إذَا تُعُومِلَ بِهَا وَزْنًا، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهَا تُبَاعُ بِالْعُرُوضِ، وَكَذَا بِالْعَيْنِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِهَا بِشَرْطِ الْمُنَاجَزَةِ، وَكَذَا بِجِنْسِهَا بِشَرْطِ الْمُمَاثَلَةِ فِي الْوَزْنِ وَالْمُنَاجَزَةِ. (وَ) كَذَا (لَا يَجُوزُ شِرَاءُ الرَّقِيقِ وَالثِّيَابِ) وَالْحَيَوَانَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمُقَوَّمَاتِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَفْرَادُهَا حَالَ كَوْنِ شِرَائِهَا (جُزَافًا) ؛ لِأَنَّ اخْتِلَافَ الْأَفْرَادِ اخْتِلَافًا قَوِيًّا يُؤَدِّي إلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ وَهِيَ حَرَامٌ، وَأَمَّا نَحْوُ الْبِطِّيخِ وَالْأُتْرُجِّ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا لَا تَخْتَلِفُ أَفْرَادُهُ اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَلَا يُمْنَعُ شِرَاؤُهَا جُزَافًا، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ جَوَازِ بَيْعِ الْجُزَافِ وُجُودُ الْمَشَقَّةِ فِي عَدِّ مَا يُعَدُّ ذَكَرَ مَفْهُومَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ) مَا يُمْكِنُ عَدُّهُ بِلَا مَشَقَّةٍ (جُزَافًا) لِسُهُولَةِ الْعَدِّ حِينَئِذٍ، بِخِلَافِ الْمَكِيلِ وَالْمَوْزُونِ فَيَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 الْمُبْتَاعُ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الثِّمَارِ وَالْإِبَارُ التَّذْكِيرُ، وَإِبَارُ الزَّرْعِ خُرُوجُهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَمَنْ بَاعَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ. وَلَا بَأْسَ بِشِرَاءِ مَا فِي الْعِدْلِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ. وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ لَا يُنْشَرُ وَلَا   [الفواكه الدواني] بَيْعُهُمَا جُزَافًا؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ الْمَشَقَّةُ لِتَوَقُّفِهِمَا عَلَى مِعْيَارٍ شَرْعِيٍّ أَوْ مُعْتَادٍ، وَمِمَّا لَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ جُزَافًا مَا لَا يُمْكِنُ حَزْرُهُ كَحَمَامِ حَيٍّ فِي بُرْجِهِ، وَلَا مَا كَانَ مَدْخُولًا عَلَيْهِ كَامْلَأْ لِي هَذِهِ الْغِرَارَةَ مِنْ ذَلِكَ الْحَبِّ بِدِينَارٍ مَعَ وُجُودِ الْمِكْيَالِ الشَّرْعِيِّ أَوْ الْمُعْتَادِ إلَّا فِي نَحْوِ التِّينِ وَالْعِنَبِ؛ لِأَنَّ قَفَصَهُمَا كَالْمِكْيَالِ الشَّرْعِيِّ لَهُمَا. ثُمَّ شَرَعَ الْمُصَنِّفِ يَتَكَلَّمُ عَلَى بَابِ التَّدَاخُلِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْعَقْدَ قَدْ يَتَضَمَّنُ زِيَادَةً عَلَى الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، كَأَنْ يَهَبَ الْمَالِكُ أَوْ يَبِيعَ أَرْضًا أَوْ شَجَرًا أَوْ يَسْكُتَا عَنْ قَطْعِ الشَّجَرِ أَوْ دُخُولِ الْأَرْضِ، فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْبِنَاءِ يَتَنَاوَلُ مَا تَحْتَهُ مِنْ الْأَرْضِ، وَكَذَلِكَ الْعَقْدُ عَلَى الشَّجَرِ. قَالَ خَلِيلٌ: تَنَاوُلُ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ الْأَرْضَ وَتَنَاوَلَتْهُمَا وَالْبَذْرَ لَا الزَّرْعَ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ؛ لِأَنَّهُ فِي قُوَّةِ الْمُنْفَصِلِ عَنْ الْأَرْضِ، بِخِلَافِ الشَّجَرِ فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُهُ؛ لِأَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْهَا، وَمِثْلُ الزَّرْعِ الْمَدْفُونُ فَلَا تَتَنَاوَلُهُ، وَهُوَ لِلْبَائِعِ إنْ ادَّعَاهُ وَأَشْبَهَ، وَإِلَّا كَانَ لُقَطَةً، وَقَوْلُنَا وَيَسْكُتَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ شَرَطَا هَدْمَ الْبِنَاءِ أَوْ قَطْعَ الشَّجَرِ فَلَا يَتَنَاوَلَانِهَا. وَالْعَادَةُ كَالشَّرْطِ، وَقَدْ يَقْتَضِي الْعَقْدُ النَّقْصَ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا، وَأَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ بَاعَ نَخْلًا) مُثْمِرًا فَإِنْ كَانَتْ (قَدْ أُبِّرَتْ) كُلُّهَا أَوْ أَكْثَرُهَا (فَثَمَرَتُهَا) بَاقِيَةٌ (لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ) فَتَكُونُ (لَهُ) عَمَلًا بِالشَّرْطِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي» ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مَأْبُورَةٍ أَوْ أُبِّرَ مِنْهَا دُونَ النِّصْفِ فَإِنَّهَا تَكُونُ لِلْمُشْتَرِي بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ عَلَى الْأَصْلِ، وَأَمَّا لَوْ أُبِّرَ نِصْفُهَا لَكَانَ لِكُلٍّ حُكْمُهُ، فَالْمُؤَبَّرُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، وَغَيْرُهُ لِلْمُشْتَرِي كَالْحَمْلِ فِي الْبَطْنِ وَاللَّبَنِ فِي الضَّرْعِ. وَاخْتُلِفَ فِي جَوَازِ اشْتِرَاطِ الْبَائِعِ لِغَيْرِ الْمُؤَبَّرِ، فَصَحَّحَ فِي الشَّامِلِ الْجَوَازَ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُبْقًى. قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَشَهَرَ بَعْضٌ الْمَنْعَ كَمَنْعِ اسْتِثْنَاءِ الْجَنِينِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مُشْتَرَى. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهَا الْمُبْتَاعُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَعْضِهَا، وَهُوَ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا جَازَ بَيْعُهَا قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِطَرِيقِ التَّبَعِيَّةِ لِأَصْلِهَا، وَاشْتِرَاطُ بَعْضِهَا يَقْتَضِي قَصْدَ بَيْعِهَا لِذَاتِهَا وَعَدَمِ التَّبَعِيَّةِ. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا مُثْمِرًا وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِ مَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا وَفِيهَا نَخْلٌ مُثْمِرٌ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى الْأَرْضِ يَتَنَاوَلُ مَا فِيهَا مِنْ شَجَرٍ أَوْ بِنَاءٍ، وَأَمَّا الثَّمَرُ الَّذِي يَكُونُ مُؤَبَّرًا عَلَيْهَا فَلَمْ يَتَكَلَّمْ خَلِيلٌ كَالْمُصَنِّفِ عَلَيْهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَنْ يَكُونُ لَهُ، فَأَفْتَى ابْنُ عَتَّابٍ بِأَنَّهُ لِلْمُشْتَرِي قَائِلًا بِأَنَّ تَنَاوُلَ الْأَرْضِ لِأَصْلِهِ يَقْتَضِي تَنَاوُلَهَا لِفَرْعِ الْأَصْلِ بِالْأَوْلَى، وَرَدَّ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا عَلَيْهِ بِحَدِيثِ: «مَنْ ابْتَاعَ نَخْلًا قَدْ أُبِّرَتْ فَثَمَرَتُهَا لِلْبَائِعِ» وَأَقُولُ: لَا يَحْسُنُ الرَّدُّ عَلَيْهِ بِالْحَدِيثِ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ؛ لِأَنَّ الْحَدِيثَ الْعَقْدُ عَلَى ذَاتِ النَّخْلِ، وَفَتْوَى ابْنُ عَتَّابٍ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ الْأَرْضُ لَا ذَاتُ النَّخْلِ وَالْأَرْضُ تَتَنَاوَلُهُ فَكَيْفَ لَا تَتَنَاوَلُ تَمْرَهُ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا عَلَى مَنْ عَلَيْهِ سَقْيُ النَّخْلِ الَّذِي ثَمَرُهُ لِلْبَائِعِ عِنْدَ الِاحْتِيَاجِ إلَى السَّقْيِ. وَفِي خَلِيلٍ: أَنَّ السَّقْيَ عَلَى الْبَائِعِ عِنْدَ الْمُشَاحَّةِ، وَعِنْدَ عَدَمِهَا لِكُلٍّ السَّقْيُ مَا لَمْ يَضُرَّ بِالْآخَرِ. الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ كَوْنِ الثَّمَرِ الْمُؤَبَّرِ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي أَنَّهُمْ لَوْ تَنَازَعَا فِي الِاشْتِرَاطِ وَعَدَمِهِ لَكَانَ الْقَوْلُ لِلْبَائِعِ؛ لِأَنَّ الثَّمَرَ لَهُ فِي الْأَصْلِ حَتَّى يُثْبِتَ الْمُشْتَرِي اشْتِرَاطَهُ. الرَّابِعُ: إنَّمَا أَنَّثَ الْمُصَنِّفُ الضَّمِيرَ الْعَائِدَ عَلَى نَخْلًا فِي قَوْلِهِ: قَدْ أُبِّرَتْ؛ لِأَنَّ النَّخْلَ وَالنَّخِيلَ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، فَيَجُوزُ فِي الضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَيْهِ التَّذْكِيرُ وَالتَّأْنِيثُ، وَمِنْهُ: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وَلَمَّا كَانَ غَيْرُ النَّخْلِ كَالنَّخْلِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ قَالَ: (وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ الثِّمَارِ) كَالْخَوْخِ وَالتِّينِ وَالْعِنَبِ، فَالثَّمَرُ الْمُؤَبَّرُ كُلُّهُ أَوْ جُلُّهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، وَغَيْرُهُ لِلْمُشْتَرِي إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْبَائِعُ. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ التَّأْبِيرِ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِبَارُ) مُخْتَلِفٌ فَفِي النَّخْلِ (التَّذْكِيرُ) ، وَهُوَ تَعْلِيقُ طَلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى لِئَلَّا تَسْقُطَ ثَمَرَتُهَا وَيُقَالُ لَهُ اللِّقَاحُ، وَقِيلَ شَقُّ الطَّلْعِ عَنْ الثَّمَرَةِ، وَفِي غَيْرِ النَّخْلِ كَالْخَوْخِ وَالتِّينِ أَنْ تُبْرَزَ الثَّمَرَةُ عَنْ مَوْضِعِهَا وَتَتَمَيَّزَ بِحَيْثُ تَظْهَرُ لِلنَّاظِرِ. (وَإِبَارُ الزَّرْعِ) وَالْمُرَادُ بِهِ غَيْرُ ذِي الثَّمَرِ كَالْبِرْسِيمِ وَالْقَرَظِ (خُرُوجُهُ مِنْ أَرْضِهِ) فَمَنْ ابْتَاعَ أَرْضًا ذَاتَ زَرْعٍ ظَاهِرٍ لِلنَّاظِرِ يَكُونُ زَرْعُهَا لِبَائِعِهَا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي، كَمَنْ اشْتَرَى نَخْلًا مُؤَبَّرًا كُلَّهُ أَوْ جُلَّهُ، وَمَنْ اشْتَرَى أَرْضًا مَبْذُورَةً لَمْ يَبْرُزْ زَرْعُهَا فَإِنَّهَا تَتَنَاوَلُ بَذْرَهَا كَمَا قَدَّمْنَا. (وَ) مِثْلُ مَنْ بَاعَ نَخْلًا مُؤَبَّرًا (مَنْ بَاعَ عَبْدًا) يَمْلِكُ جَمِيعَهُ (وَلَهُ مَالٌ) سِوَى ثِيَابِ مِهْنَتِهِ (فَمَالُهُ) جَمِيعُهُ بَاقٍ (لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ) كُلَّهُ (الْمُبْتَاعُ) فَيَكُونَ لَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاعَ عَبْدًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَلَهُ مَالٌ فَمَالُهُ لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُشْتَرِي» ، وَإِذَا كَانَ مَالُهُ لَا يَتْبَعُهُ فَأَحْرَى وَلَدُهُ. وَقَوْلُنَا: يَمْلِكُ جَمِيعَهُ احْتِرَازٌ عَنْ الْمُشْتَرَكِ وَالْمُبَعَّضِ، فَإِنَّ مَالَ الْمُشْتَرَكِ يَكُونُ لِمُشْتَرِيهِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَحَدَ الشُّرَكَاءِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الشُّرَكَاءِ انْتِزَاعُهُ إلَّا بِمُوَافَقَةِ شَرِيكِهِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَشْتَرِطْهُ الْبَائِعُ، وَإِلَّا كَانَ لَهُ، وَأَمَّا الْمُبَعَّضُ فَإِنَّ مَالَهُ يَبْقَى بِيَدِهِ لِيَأْكُلَ مِنْهُ فِي يَوْمِ نَفْسِهِ، وَإِذَا مَاتَ وَرَثَةُ الْمُتَمَسِّكِ بِالرِّقِّ، وَقَوْلُنَا: سِوَى ثِيَابِ مَهْنَتِهِ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ خِدْمَتِهِ فَإِنَّ الْعَقْدَ عَلَى ذَاتِ الْعَبْدِ يَتَنَاوَلُهَا، وَاخْتُلِفَ لَوْ شَرَطَهَا الْبَائِعُ هَلْ يُوَفَّى لَهُ بِشَرْطِهِ أَوْ لَا خِلَافَ، وَقَوْلُنَا: كُلُّهُ احْتِرَازٌ عَلَى اشْتِرَاطِ بَعْضِهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ خِلَافًا لِأَشْهَبَ، كَمَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ بَعْضِ الصُّبْرَةِ أَوْ بَعْضِ الزَّرْعِ أَوْ حِلْيَةِ السَّيْفِ أَوْ أَحَدِ عَبْدَيْنِ يَبِيعُهُمَا وَيَسْتَثْنِي مَالَ أَحَدِهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُبْتَاعُ إجْمَالٌ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ الْمُرَادُ يَشْتَرِطُهُ لِنَفْسِهِ أَوْ لِلْعَبْدِ؟ . وَالْحُكْمُ الْجَوَازُ فِيهِمَا وَالْبَيْعُ صَحِيحٌ فِي الصُّورَتَيْنِ، لَكِنْ فِي اشْتِرَاطِهِ لِلْعَبْدِ الْبَيْعُ صَحِيحٌ مُطْلَقًا، وَأَمَّا فِي اشْتِرَاطِهِ لِنَفْسِ الْمُشْتَرِي فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنُ الْعَبْدِ مِمَّا يُبَاعُ بِهِ مَالُهُ، وَأَنْ يَشْتَرِطَهُ جَمِيعَهُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا، فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ، وَهَذَا عَلَى اخْتِيَارِ اللَّخْمِيِّ، وَأَمَّا عَلَى اخْتِيَارِ ابْنِ نَاجِي حَيْثُ قَالَ: مَالُ الْعَبْدِ بِالنِّسْبَةِ لِبَيْعِهِ كَالْعَدَمِ عَلَى الْمَعْرُوفِ، فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِالْعَيْنِ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَيْنًا، وَسَوَاءٌ كَانَ حَاضِرًا أَوْ غَائِبًا مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَلَا يُرَاعَى فِيهِ رِبًا وَلَا صَرْفُ مُسْتَأْخِرٍ وَلَا تَفَاضُلٍ وَلَا غَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ مَالَهُ تَبَعٌ لَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ نَاجِي سَوَاءٌ قَالَ الْمُشْتَرِي: أَشْتَرِيهِ بِمَالِهِ، أَوْ قَالَ: أَشْتَرِي هَذَا الْعَبْدَ وَمَالَهُ؛ لِأَنَّ مَعْنَى وَمَالُهُ مَعَ مَالِهِ، وَصَلَ الْأَقْفَهْسِيُّ بَيْنَ قَوْلِهِ بِمَالِهِ فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَبَيْنَ قَوْلِهِ أَشْتَرِيهِ وَمَالَهُ فَيُرَاعَى فِيهِ الرِّبَا، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَيْنًا لَا يَجُوزُ بِعَيْنٍ مِنْ جِنْسِهِ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَقَوْلُ ابْنِ نَاجِي عَلَى الْمَعْرُوفِ يَقْتَضِي أَنَّ كَلَامَهُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَطَهُ الْمُشْتَرِي وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُشْتَرَطَ فَإِنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ هَكَذَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: بَاعَ لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ مِثْلُهُ كُلُّ عَقْدِ مُعَاوَضَةٍ، فَإِنْ دَفَعَهُ صَدَاقًا أَوْ خَالَعَتْ بِهِ الزَّوْجَةُ فَمَالُهُ لِلزَّوْجِ فِي الْأُولَى وَلِلزَّوْجَةِ فِي الثَّانِيَةِ، إلَّا أَنْ تَشْتَرِطَهُ الزَّوْجَةُ فِي الْأُولَى أَوْ الزَّوْجُ فِي الثَّانِيَةِ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْ يَدِ الْمَالِكِ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَإِنْ كَانَ بِعِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ فَإِنَّ مَالَهُ يَتْبَعُهُ وَلَوْ كَثُرَ إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ سَيِّدُهُ قَبْلَ عِتْقِهِ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُنْزَعُ مَالُهُ كَمَا يُشِيرُ لَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ: وَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْزِعَهُ السَّيِّدُ، فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْزِعَهُ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْ مِلْكِ السَّيِّدِ بِهِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ فَقِيلَ مَالُهُ يَتْبَعُهُ فَيَكُونُ لِلْمُعْطَى لَهُ، وَقِيلَ يَبْقَى لِلْمُعْطِي بِالْكَسْرِ. الثَّالِثُ: إسْنَادُ الْمَالِ لِلْعَبْدِ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَمْلِكُ، وَهُوَ كَذَلِكَ، إلَّا أَنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ بِدَلِيلِ عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَيْهِ وَجَوَازِ انْتِزَاعِ السَّيِّدِ لِمَا لَهُ. الرَّابِعُ: مِثْلُ الثِّمَارِ الْمُؤَبَّرَةِ، وَمَالِ الْعَبْدِ فِي كَوْنِهِمَا لِلْبَائِعِ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُمَا الْمُشْتَرِي خِلْفَةُ الْقَصِيلِ كَالْقَرَظِ وَالْبِرْسِيمِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُجَدُّ وَيَخْلُفُ كَالْمُلُوخِيَّةِ، فَإِنَّ خِلْفَتَهُ لِبَائِعِهِ حَتَّى يَشْتَرِطَهَا الْمُشْتَرِي؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ اشْتِرَاطُهَا حَيْثُ كَانَتْ فِي أَرْضٍ مَأْمُونَةٍ كَأَرْضِ السَّقْيِ، وَيُشْتَرَطُ جَمِيعُهَا، وَأَنْ يَكُونَ اشْتِرَاطُهَا بِعَدِيدٍ وَصَلَاحِ أَصْلِهَا. الْخَامِسُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ جَوَازِ شِرَاءِ الْمُشْتَرِي لِمَا ذُكِرَ مِنْ الْبَائِعِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطْهُ وَقْتَ الْعَقْدِ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْأَصَحُّ الْجَوَازُ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي الْخِلْفَةِ أَنْ تَكُونَ مَأْمُونَةً، وَأَنْ يَكُونَ شِرَاؤُهَا قَبْلَ جُذَاذِ أَصْلِهَا؛ لِأَنَّ الْغَرَرَ حِينَئِذٍ تَابِعٌ. [الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى الْبَرْنَامَجِ] وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْغَيْبَةِ فِي الْمَبِيعِ عَلَى الصِّفَةِ بِاللُّزُومِ مَنْعُ بَيْعِ مَا فِي الْبَرْنَامَجِ قَبْلَ رُؤْيَتِهِ نَصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِشِرَاءِ) وَبَيْعِ (مَا فِي الْعِدْلِ) بِكَسْرِ الْعَيْنِ مِنْ الثِّيَابِ مُعْتَمَدِينَ (عَلَى الْبَرْنَامَجِ بِصِفَةٍ مَعْلُومَةٍ) مَكْتُوبَةٍ فِيهِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ صِفَةُ مَا فِي الْعِدْلِ فَلَا بَأْسَ الْمُرَادُ بِهَا الْجَوَازُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ وَعَلَى الْبَرْنَامَجِ. قَالَ شُرَّاحُهُ: أَوْ جَازَ الْبَيْعُ وَالشِّرَاءُ عَلَى الْبَرْنَامَجِ وَكَانَ الْأَصْلُ مَنْعَهُ حَتَّى يُنْظَرَ بِالْعَيْنِ لَكِنَّهُ أُجِيزَ لِمَا فِي حَلِّ الْعِدْلِ مِنْ الْحَرَجِ وَالْمَشَقَّةِ عَلَى الْبَائِعِ مِنْ تَلْوِيثِ مَا فِيهِ، وَمُؤْنَةِ شَدِّهِ إلَى أَنْ يَرْضَهُ الْمُشْتَرِي فَأُقِيمَتْ الصِّفَةُ مَقَامَ الرُّؤْيَةِ، فَإِنْ وُجِدَ عَلَى الصِّفَةِ لَزِمَ الْمُشْتَرِيَ، وَإِلَّا خُيِّرَ الْمُشْتَرِي، وَالْمُرَادُ بِالصِّفَةِ الْمَعْلُومَةِ بَيَانُ عِدَّةِ الثِّيَابِ وَأَصْنَافِهَا وَذَرْعِهَا وَصِفَتِهَا. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَوْ تَنَازَعَ الْبَائِعُ وَالْمُشْتَرِي بَعْدَ قَبْضِ الْمَتَاعِ وَالْغَيْبَةِ عَلَيْهِ، فَادَّعَى الْبَائِعُ أَنَّ الثِّيَابَ الَّتِي فِي الْعِدْلِ مُوَافِقَةً لِمَا فِي الدَّفْتَرِ الَّذِي هُوَ الْبَرْنَامَجُ، وَالْحَالُ أَنَّ الدَّفْتَرَ قَدْ ضَاعَ أَوْ حُرِقَ أَوْ كَانَ مَوْجُودًا مَعَهُ، وَادَّعَى الْبَائِعُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ مَا أَتَى بِهِ غَيْرَ مَا وَجَدَهُ فِي الْعِدْلِ، فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْبَائِعِ بِيَمِينِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَفَ مُدَّعٍ لِبَيْعِ بَرْنَامَجٍ أَنَّ مُوَافَقَتَهُ لِلْمَكْتُوبِ الْمُرَادِ فِي بَيْعِ بَرْنَامَجٍ، فَاللَّامُ بِمَعْنَى فِي، وَصِفَةُ يَمِينِهِ أَنْ يَحْلِفَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَنَّ مَا فِي الْعِدْلِ مُوَافِقٌ لِمَا فِي الْبَرْنَامَجِ، وَحَمَلْنَا الْكَلَامَ عَلَى أَنَّ الْبَرْنَامَجَ ضَاعَ أَوْ حُرِقَ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ مَوْجُودًا لَوَجَبَ الرُّجُوعُ إلَيْهِ. 1 - الثَّانِي: لَوْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي الثِّيَابَ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ مِمَّا فِي الْبَرْنَامَجِ، كَمَا لَوْ اشْتَرَى خَمْسِينَ ثَوْبًا مَثَلًا فَوَجَدَ زِيَادَةَ ثَوْبٍ، فَقَالَ مَالِكٌ: يَكُونُ الْبَائِعُ شَرِيكًا لِلْمُشْتَرِي بِجُزْءٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 يُوصَفُ. أَوْ فِي لَيْلٍ مُظْلِمٍ لَا يَتَأَمَّلَانِهِ، وَلَا يَعْرِفَانِ مَا فِيهِ، وَكَذَلِكَ الدَّابَّةُ فِي لَيْلٍ مُظْلِمٍ. وَلَا يَسُومُ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ   [الفواكه الدواني] اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ جُزْءًا. وَفِي رِوَايَةٍ: بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ جُزْءًا، وَقَوْلُ مَالِكٍ: بِجُزْءٍ مِنْ اثْنَيْنِ وَخَمْسِينَ جُزْءًا رِوَايَةُ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَالْحَقُّ وَالصَّوَابُ رِوَايَةُ بِجُزْءٍ مِنْ أَحَدٍ وَخَمْسِينَ جُزْءًا، وَاعْتَذَرَ ابْنُ اللَّبَّادِ عَنْ مَالِكٍ بِأَنَّهُ أَدْخَلَ اللِّفَافَةَ فِي الْعَدَدِ، وَإِنْ نَاقَشَ فِيهِ عِيَاضٌ قَائِلًا: اللِّفَافَةُ مَلْغِيَّةٌ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الثِّيَابِ فَهِيَ كَحَبْلِ الشَّدِّ، وَإِنْ وَجَدَ فِيهِ أَقَلَّ بِأَنْ وَجَدَ فِيهِ تِسْعَةً وَأَرْبَعِينَ ثَوْبًا وُضِعَ عَنْهُ مِنْ الثَّمَنِ جُزْءٌ مِنْ خَمْسِينَ جُزْءًا، فَإِنْ كَثُرَ النَّقْصُ رَدَّ الْمَبِيعَ وَلَا يَلْزَمُهُ أَخْذُهُ، وَمَحَلُّ الشَّرِكَةِ عِنْدَ الزِّيَادَةِ، وَالْوَضْعُ عِنْدَ ظُهُورِ النَّقْصِ إذَا كَانَ مَا فِي الْعِدْلِ مُتَّحِدِ النَّوْعِ وَالصِّفَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُخْتَلِفًا كَمَا لَوْ كَانَ فِيهِ عَشَرَةٌ مِنْ الشَّاشِ وَعَشَرَةٌ مِنْ البفت ثُمَّ وُجِدَتْ الزِّيَادَةُ فِي أَحَدِ النَّوْعَيْنِ أَوْ النَّقْصِ لَكَانَ الِاشْتِرَاكُ أَوْ الْوَضْعُ فِي ذَلِكَ النَّوْعِ فَقَطْ. الثَّالِثُ: الْبَرْنَامَجِ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَكَسْرِ الْمِيمِ لَفْظَةٌ فَارِسِيَّةٌ اسْتَعْمَلَتْهَا الْعَرَبُ، وَالْمُرَادُ أَنَّهَا الدَّفْتَرُ الْمَكْتُوبُ فِيهِ صِفَةُ مَا فِي الْعِدْلِ الَّذِي هُوَ الْغِرَارُ. قَالَ شَيْخُ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْكِتَابَةَ لَيْسَتْ بِقَيْدٍ، بَلْ لَوْ حَفِظَ الْبَائِعُ عَدَدَ الْعِدْلِ وَصِفَتَهُ وَبَاعَهُ عَلَى عَدَدِهِ وَوَصْفِهِ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا، وَذَكَرَ بَعْضٌ أَنَّ بَرْنَامَجًا مَصْرُوفٌ؛ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيًّا فَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ، وَالْأَعْجَمِيُّ إنَّمَا يُمْنَعُ صَرْفُهُ إذَا اُسْتُعْمِلَ عَلَمًا فِي اللُّغَةِ الْأَعْجَمِيَّةِ. الرَّابِعُ: مِثْلُ بَائِعِ مَا فِي الْبَرْنَامَجِ فِي قَبُولِ قَوْلِهِ الصَّيْرَفِيُّ، وَالْمُقْرِضُ يَدَّعِي الْقَابِضَ مِنْهُمَا أَنَّهُ وَجَدَ مَا قَبَضَهُ رَدِيئًا أَوْ نَاقِصًا فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَا دَفَعْت إلَّا جَيِّدًا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى بَيْعِ الْبَرْنَامَجِ: وَعَدَمُ دَفْعِ رَدِيءٍ أَوْ نَاقِصٍ، وَصِفَةُ يَمِينِهِ أَنْ يَحْلِفَ مَا يَعْلَمُهَا مِنْ دَرَاهِمِهِ، وَمَا دَفَعْت إلَّا جِيَادًا فِي عِلْمِي، إلَّا أَنْ يَتَحَقَّقَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ دَرَاهِمِهِ فَيَحْلِفَ عَلَى الْبَتِّ. وَلَمَّا كَانَتْ عِلَّةُ جَوَازِ الْبَيْعِ عَلَى الْبَرْنَامَجِ كَثْرَةَ الْمَشَقَّةِ بِحَلِّ الثِّيَابِ وَطَيِّهَا وَنَشْرِهَا لِكَثْرَتِهَا ذَكَرَ مُحْتَرَزَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ) مَطْوِيٍّ يَشْتَرِطُ بَائِعُهُ عَلَى مُشْتَرِيهِ أَنَّهُ (لَا يُنْشَرُ) لَهُ (وَلَا يُوصَفُ) لَهُ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَلَا سَبَقَ لَهُ رُؤْيَةٌ بَلْ يَبِيعُهُ عَلَى اللُّزُومِ بِمُجَرَّدِ لَمْسِهِ بِيَدِهِ وَلَا يُقَلِّبُهُ وَلَا يَعْرِفُ مَا فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي عَدَمِ الْجَوَازِ: وَكَمُلَامَسَةِ الثَّوْبِ أَوْ مُنَابَذَتِهِ فَيَلْزَمُ، وَأَمَّا لَوْ بَاعَهُ عَلَى الْخِيَارِ بِالرُّؤْيَةِ لَجَازَ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ نَوْعَهُ وَلَا جِنْسَهُ. وَقَوْلُهُمْ يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْبَيْعِ الْعِلْمُ بِالْمَبِيعِ مَحْمُولٌ عَلَى بَيْعِ الْبَتِّ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: لَا يُنْشَرُ وَلَا يُوصَفُ أَنَّهُ لَوْ نُشِرَ لَجَازَ الشِّرَاءُ، وَلَوْ عَلَى اللُّزُومِ، وَأَمَّا لَوْ وُصِفَ فَلَا يَجُوزُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ لِمَالِكٍ فِي الشَّيْرَجِ الْمُدْرَجِ فِي جِرَابِهِ، وَمَحَلُّ الْقَوْلَيْنِ مَا لَمْ يَكُنْ فِي رُؤْيَتِهِ فَسَادٌ، وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى الْجَوَازِ، كَمَا أَجَازُوا بَيْعَ قِلَالِ الْخَلِّ الْمُطَيَّنَةِ إذَا كَانَ الْفَتْحُ يُفْسِدُهَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ تَكُونَ مَمْلُوءَةً أَوْ يُعْلَمُ مَا نَقَصَ مِنْهَا مِنْ ثُلُثٍ وَنَحْوِهِ، وَيَكْفِي عِلْمُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ مِنْ الْبَائِعِ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِ صِفَةِ مَا فِيهَا مِنْ الْخَلِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا جَازَ بَيْعُ مَا فِي الْبَرْنَامَجِ عَلَى الْوَصْفِ لِدَفْعِ الْمَشَقَّةَ، فَأَوْلَى لِدَفْعِ الْفَسَادِ الْمُؤَدِّي إلَى تَلَفِ الْمَالِ، رَاجِعْ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ مَعَ زِيَادَةِ إيضَاحٍ. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يَجُوزُ شِرَاءُ ثَوْبٍ (فِي لَيْلٍ مُظْلِمٍ) وَالْحَالُ أَنَّ الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ (لَا يَتَأَمَّلَانِهِ وَلَا يَعْرِفَانِ مَا فِيهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ، فَإِنْ وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى اللُّزُومِ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْبَيْعِ عَلَى اللُّزُومِ عِلْمُ الْمُتَعَاقِدَيْنِ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَدَمُ جَهْلٍ بِمَثْمُونٍ أَوْ ثَمَنٍ وَلَوْ تَفْصِيلًا، وَأَمَّا عَلَى الْخِيَارِ بِالرُّؤْيَةِ فَيَجُوزُ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ جِنْسَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ وَلَا نَوْعَهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فِي لَيْلٍ مُظْلِمٍ يُوهِمُ أَنَّ الْمُقْمِرَ يَجُوزُ فِيهِ الْبَيْعُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى اللُّزُومِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ الْمُقْمِرُ كَالْمُظْلِمِ، وَكَانَ الْأَوْلَى إسْقَاطَ لَفْظِ مُظْلِمٍ أَوْ ذِكْرِ مُقْمِرٍ مَعَ حَذْفِ مُظْلِمٍ لِيَكُونَ نَاصًّا عَلَى الْمُتَوَهِّمِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَجُوزُ شِرَاءٌ بِلَيْلٍ وَلَمْ يُقَيِّدْهُ، بَلْ لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ نَهَارًا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى الْبَتِّ كَانَ بَاطِلًا؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا عَلَى الْخِيَارِ فَلَا بُطْلَانَ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْجَائِزِ وَغَائِبٍ: وَلَوْ بِلَا وَصْفٍ عَلَى خِيَارِهِ بِالرُّؤْيَةِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ: لَا يَتَأَمَّلَانِهِ وَلَا يَعْرِفَانِ مَا فِيهِ جَعَلَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ كَالتَّعْلِيلِ لِسَابِقِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ الْبَيْعِ فِي اللَّيْلِ وَكَأَنَّهُ قَالَ: وَلَا يَجُوزُ الشِّرَاءُ فِي اللَّيْلِ لِعَدَمِ الْوُصُولِ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ، وَهَذَا يُوهِمُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ الْبَيْعُ لَيْلًا وَلَوْ تَأَمَّلَاهُ، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ الْأُمَّهَاتِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَقِيقَةَ الْمَبِيعِ لَا تُدْرَكُ لَيْلًا. وَفِي مُخْتَصَرِ الْبُرْزُلِيِّ: إذَا كَانَ الْعَاقِدُ يُمْكِنُهُ الْوُصُولُ إلَى مَعْرِفَةِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِالْقَمَرِ مِثْلَ النَّهَارِ جَازَ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِ شُيُوخِنَا الْأُجْهُورِيُّ: وَهَذَا الْخِلَافُ فِي شَهَادَةٍ. الثَّالِثُ: إنَّمَا ثَنَّى الضَّمِيرَ فِي يَتَأَمَّلَانِهِ وَيَعْرِفَانِ؛ لِأَنَّهُ يُطْلَبُ الْعِلْمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُتَعَاقِدَيْنِ، وَالْبَائِعُ قَدْ لَا يَعْلَمُ حَقِيقَةَ مَا عِنْدَهُ فَسَقَطَ مَا قِيلَ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ عِلْمُ الْمُشْتَرِي لِعِلْمِ الْبَائِعِ بِشَيْئِهِ، وَثُبُوتُ النُّونِ فِي يَتَأَمَّلَانِهِ وَيَعْرِفَانِ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ؛ لِأَنَّ لَا نَافِيَةٌ، وَأَمَّا عَلَى نُسْخَةِ إسْقَاطِهَا فَهُوَ عَلَى إجْرَاءِ لَا النَّافِيَةِ مَجْرَى النَّاهِيَةِ، أَوْ عَلَى لُغَةٍ قَلِيلَةٍ تَحْذِفُ نُونَ الْأَفْعَالِ الْخَمْسَةِ لِمُجَرَّدِ التَّخْفِيفِ، وَجَاءَ عَلَيْهَا قَوْلُ الشَّاعِرِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 وَذَلِكَ إذَا رَكَنَا وَتَقَارَبَا لَا فِي أَوَّلِ التَّسَاوُمِ. وَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْكَلَامِ، وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقْ الْمُتَبَايِعَانِ. وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ. إذَا ضَرَبَا   [الفواكه الدواني] أَبَيْتُ أَسْرِي وَتَبِيتِي تُدَلِّكِي ... وَجْهَك بِالْعَنْبَرِ وَالْمِسْكِ الزَّكِيّ «وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: كَمَا تَكُونُوا يُوَلَّى عَلَيْكُمْ» وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ الدَّابَّةَ كَالثَّوْبِ قَالَ: (وَكَذَلِكَ) لَا يَجُوزُ شِرَاءُ (الدَّابَّةِ) سَوَاءٌ كَانَتْ مَأْكُولَةَ اللَّحْمِ أَمْ لَا. (فِي لَيْلٍ) مُقْمِرٍ وَأَوْلَى (مُظْلِمٍ) عَلَى مَا عَلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا أَشْهَبُ فَفَصَّلَ بَيْنَ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ فَيَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِاللَّيْلِ حَيْثُ كَانَ الْمَقْصُودُ لَحْمَهُ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اخْتِبَارُهُ بِاللَّيْلِ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهُ بِاللَّيْلِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ شِرَاءَ الْحُوتِ وَنَحْوِهِ مِنْ الطُّيُورِ كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ الَّتِي يُرَادُ مِنْهَا اللَّحْمُ، وَمُلَخَّصُ مَا فُهِمَ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي الثِّيَابِ وَغَيْرِهَا أَنَّهُ إنْ عَلِمَ الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بَاطِنًا وَظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ إدْرَاكُهُ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ فِي النَّهَارِ عَنْ إدْرَاكِهِ لَهُمَا فِي اللَّيْلِ جَازَ بَيْعُهُ، وَإِلَّا فَلَا، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ لُبْسَتَيْنِ وَعَنْ بَيْعَتَيْنِ، وَنَهَى عَنْ الْمُلَامَسَةِ وَالْمُنَابَذَةِ فِي الْبَيْعِ» فَالْمُلَامَسَةُ هِيَ لُزُومُ الْمَبِيعِ بِلَمْسِ الرَّجُلِ ثَوْبَ الْآخَرِ بِيَدِهِ بِاللَّيْلِ أَوْ بِالنَّهَارِ وَلَا يُقَلِّبُهُ إلَّا بِذَلِكَ، وَالْمُنَابَذَةُ أَنْ يَنْبِذَ الرَّجُلُ ثَوْبَهُ لِآخَرَ وَلَا يَلْمِسَهُ وَلَا يَنْشُرَهُ بَلْ يَلْزَمُهُ الشِّرَاءُ بِمُجَرَّدِ طَرْحِهِ لَهُ مِنْ غَيْرِ إحَاطَةٍ بِحَالِهِ، وَاللُّبْسَتَانِ إحْدَاهُمَا اشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ، وَهُوَ أَنْ يَجْعَلَ ثَوْبَهُ عَلَى أَحَدِ عَاتِقِيهِ فَيَبْدُو أَحَدُ شِقَّيْهِ لَيْسَ عَلَيْهِ ثَوْبٌ، وَاللُّبْسَةُ الثَّانِيَةُ اخْتِبَاؤُهُ بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى فَرْجِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الْبَيْعُ فِي ذَلِكَ الْخِيَارِ لَجَازَ. ثُمَّ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ أَمْرًا مُشَارِكًا لِمَا قَبْلَهُ فِي النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَسُومُ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) أَيْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّمَنِ الَّذِي سَمَّاهُ غَيْرُهُ؛ لِأَنَّهُ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ بَيْنَ صَاحِبِ الْعَطَاءِ الْأَوَّلِ وَالثَّانِي، وَقَدْ نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ حَدِيثٍ وَلَفْظُهُ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ وَلَا يَسُمْ عَلَى سَوْمِهِ» وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي فَهْمِ الْحَدِيثِ، فَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ أَنَّ السَّوْمَ وَالْبَيْعَ شَيْءٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ عَلَى عَطَاءِ الْغَيْرِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَ أَنَّهُمَا شَيْئَانِ فَالسَّوْمُ الزِّيَادَةُ فِي الثَّمَنِ، وَالْبَيْعُ مُتَعَلِّقٌ بِالثَّمَنِ الَّذِي هُوَ السِّلْعَةُ. وَمِثَالُهُ أَنْ يَحْضُرَ شَخْصٌ لِصَاحِبِ سِلْعَةٍ وَيُرِيدُ شِرَاءَهَا مِنْهُ فَيَأْتِي شَخْصٌ آخَرُ بِسِلْعَةٍ وَيَقُولُ لِمَنْ يُرِيدُ الشِّرَاءَ الْمَذْكُورَ: سِلْعَتِي هَذِهِ خَيْرٌ لَك مِنْ سِلْعَةِ فُلَانٍ الَّتِي أَرَدْت شِرَاءَهَا، وَأَنَا أَرْضَى مِنْك بِمَا أَعْطَيْت فِي سِلْعَةِ فُلَانٍ. وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ هَذَا؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى التَّبَاغُضِ، وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ السَّوْمِ مَشْرُوطَةً بِمَا إذَا كَانَ الْبَائِعُ رَكَنَ إلَى الْمُشْتَرِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) أَيْ وَمَحَلُّ حُرْمَةِ السَّوْمِ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ (إذَا رَكَنَا) أَيْ الْمُتَعَاقِدَانِ أَيْ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَفَسَّرَ التَّرَاكُنَ بِقَوْلِهِ: (وَتَقَارَبَا) بِأَنْ مَالَ الْبَائِعُ إلَى الْبَيْعِ وَالْمُشْتَرِي إلَى الشِّرَاءِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ بَيْنَهُمَا إلَّا الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ بِاللَّفْظِ، فَحِينَئِذٍ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَزِيدَ عَلَى عَطَاءِ ذَلِكَ الْمُشْتَرِي أَوْ يَعْرِضَ لَهُ سِلْعَةً أُخْرَى يُرَغِّبُهُ فِيهَا حَتَّى يَعْرِضَ عَنْ الْأُولَى، وَهَذَا التَّقْيِيدُ مِنْ تَفْسِيرِ الرَّاسِخِينَ، وَبَيَانِ الْمُتَفَقِّهِينَ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ: وَتَفْسِيرُ قَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيمَا تَرَى وَاَللَّهُ أَعْلَمُ: «لَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ» أَنَّهُ إنَّمَا نَهَى عَنْ أَنْ يَسُومَ الرَّجُلُ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ إذَا رَكَنَ الْبَائِعُ إلَى السَّائِمِ وَجَعَلَ يَشْتَرِطُ وَزْنَ الدَّرَاهِمِ وَيَتَبَرَّأُ مِنْ الْعُيُوبِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مَا يُعْرَفُ بِهِ أَنَّ الْبَائِعَ رَكَنَ إلَى الْمُشْتَرِي، فَهَذَا الَّذِي نُهِيَ عَنْهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَبَيَّنَ مَفْهُومَ إذَا رَكَنَا بِقَوْلِهِ: (لَا مِنْ أَوَّلِ التَّسَاوُمِ) فَلَا يُنْهَى عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: أَمَّا قَبْلَ التَّرَاكُنِ وَالتَّقَارُبِ فَجَائِزٌ؛ لِأَنَّهُ لَوْ تَرَكَ ذَلِكَ لَدَخَلَ الضَّرَرُ عَلَى الْبَاعَةِ فِي سِلَعِهِمْ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى بَخْسِهَا وَبَيْعِهَا بِالنَّقْصِ، وَإِنَّمَا صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ بِذَلِكَ، وَإِنْ فَهِمَ مِنْ التَّقْيِيدِ رَدًّا عَلَى مَنْ كَرِهَ التَّزَايُدَ فِي السِّلْعَةِ مُطْلَقًا مَخَافَةَ الْوُقُوعِ فِي النَّهْيِ الْمَذْكُورِ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ السَّوْمُ عَلَى سَوْمِ الْغَيْرِ قَبْلَ التَّرَاكُنِ أَوْ أَرَادَ السَّائِمُ أَنْ يَشْتَرِيَهَا، وَأَمَّا لَوْ قَصَدَ بِسَوْمِهَا وَالزِّيَادَةِ فِي ثَمَنِهَا غُرُورَ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ لِأَنَّهُ يَكُونُ نَاجِشًا، وَقَدْ «نَهَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَنَاجَشُوا» 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَنْ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ وَسَكَتَ عَمَّا لَوْ طَلَبَ مُرِيدُ الشِّرَاءِ مِنْ الْغَيْرِ الْكَفَّ عَنْ الْعَطَايَا فِي السِّلْعَةِ لِيَأْخُذَهَا بِرُخْصٍ وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ سُؤَالُ الْبَعْضِ لِيَكُفَّ عَنْ الزِّيَادَةِ لَا الْجَمْعِ، وَلَا الْبَعْضِ الَّذِي هُوَ كَالْجَمْعِ فِي كَوْنِهِ مُقْتَدًى بِهِ، فَإِنْ خَالَفَ الْجَائِزَ وَسَأَلَ مَنْ لَا يَجُوزُ سُؤَالَهُ وَثَبَتَ ذَلِكَ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ خُيِّرَ الْبَائِعُ فِي قِيَامِ السِّلْعَةِ رَدِّهَا وَعَدَمِهِ، فَإِنْ أَمْضَى بَيْعَهَا فَالْجَمِيعُ فِيهَا شُرَكَاءُ لِتَوَاطُئِهِمْ عَلَى تَرْكِ الزِّيَادَةِ زَادَتْ أَوْ نَقَصَتْ أَوْ تَلِفَتْ، وَلِلْمُبْتَاعِ أَنْ يُلْزِمَهُمْ الشَّرِكَةَ إنْ نَقَصَتْ أَوْ تَلِفَتْ، وَلَهُمْ الدُّخُولُ مَعَهُ قَهْرًا عَلَيْهِ إنْ زَادَتْ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِهَا فِي سُوقِهَا أَمْ لَا، كَانَتْ لِلتِّجَارَةِ أَمْ لَا، وَإِنْ فَاتَتْ فَلَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ عَلَى الْمُبْتَاعِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ. الثَّانِي: اسْتَثْنَى بَعْضُ الشُّيُوخِ مِنْ النَّهْيِ عَنْ السَّوْمِ الْمَذْكُورِ سَوْمَ مَا يَبِيعُهُ الْحَاكِمُ بِالْخِيَارِ ثَلَاثًا مِنْ سِلَعِ الْمُفْلِسِ أَوْ مِنْ التَّرِكَةِ الَّتِي يَبِيعُهَا لِلْأَيْتَامِ، وَكَذَا مَا بِيعَ فِي الْمَغَانِمِ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَبِيعُهُ الْحَاكِمُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ التَّزَايُدُ فِيهِ وَلَوْ كَانَ لِغَيْرٍ أَعْطَى فِيهِ وَحَصَلَ التَّرَاكُنُ؛ لِأَنَّ لِلْحَاكِمِ قَبُولَ الزِّيَادَةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَيَجُوزُ لِفَاعِلِهَا الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا وَلَا يَدْخُلُ هَذَا تَحْتَ النَّهْيِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ وَقَعَ النَّهْيُ عَنْهُ بِأَنْ سَامَ وَزَادَ عَلَى غَيْرِهِ بَعْدَ التَّرَاكُنِ وَوَقَعَ الْإِيجَابُ وَالْقَبُولُ، وَجَرَى فِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْفَسْخِ وَعَدَمِهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَجَمَاعَةٌ إلَى إمْضَائِهِ حَمْلًا لِلنَّهْيِ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ، وَلِمَالِكٍ قَوْلَانِ فِي النَّهْيِ: هَلْ عَلَى الْكَرَاهَةِ أَوْ الْحُرْمَةِ؟ وَالْفَسْخُ عَلَى الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ؟ وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ، وَتَقَدَّمَ فِي النِّكَاحِ أَنَّهُ إذَا خَطَبَ عَلَى خِطْبَةِ غَيْرِهِ بَعْدَ التَّرَاكُنِ أَنَّهُ يُفْسَخُ إنْ لَمْ يَدْخُلْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَ إنْ لَمْ يُبَيِّنْ، وَإِنَّمَا فُسِخَ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَدُلُّ عَلَى فَسَادِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ حَتَّى يُوجَدَ دَلِيلٌ عَلَى الصِّحَّةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَفَسَدَ مَنْهِيٌّ عَنْهُ إلَّا لِدَلِيلٍ. قَالَ شُرَّاحُهُ: سَوَاءٌ كَانَ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ عَقْدَ مُعَامَلَةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، وَقَوْلُهُ: إلَّا لِدَلِيلٍ أَيْ يَدُلُّ عَلَى الصِّحَّةِ بَعْدَ الْوُقُوعِ. الرَّابِعُ: فِي قَوْلِهِ (لَا يَسُومُ أَحَدٌ عَلَى سَوْمِ أَخِيهِ) أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا مُتَعَلِّقٌ بِاللَّفْظِ وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ لَا نَاهِيَةٌ وَكَانَ الْوَاجِبُ حَذْفَ الْوَاوِ مِنْ يَسُومُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ كَمَا وَقَعَ فِي لَفْظِ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: «لَا يَسُمْ الرَّجُلُ» بِحَذْفِ الْوَاوِ، وَثَانِيهِمَا التَّقْيِيدُ بِأَخِيهِ فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي الْمُسْلِمِ كَمَا وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَهُوَ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ أَذَى الْجَمِيعِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّهُ أَجْرَى النَّهْيَ مَجْرَى الْخَبَرِ، وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ التَّقْيِيدَ بِالْأَخِ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ أَوْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ ذِكْرِ مَا أَرَادَهُ مِنْ الْبِيَاعَاتِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَهُ قَبْلَ ذَلِكَ وَهُوَ مَا يَنْعَقِدُ بِهِ الْبَيْعُ فَقَالَ: (وَالْبَيْعُ) وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَشَرْعًا (يَنْعَقِدُ) أَيْ يَتَحَقَّقُ وُجُودُ حَقِيقَتِهِ (بِالْكَلَامِ) وَكَذَا بِغَيْرِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَلَوْ الْإِشَارَةُ مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا، وَلَوْ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ، إلَّا الْأَخْرَسَ الْأَعْمَى الْأَصَمَّ فَلَا تَجُوزُ مُعَامَلَتُهُ، وَلَا مُنَاكَحَتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ الرِّضَا، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ وَبِبِعْنِي فَيَقُولُ: بِعْت وَبَايَعْت أَوْ بِعْتُك وَيَرْضَى الْآخَرُ فِيهِمَا، وَيَلْزَمُ مِنْ لَفْظٍ بِالْمُضَارِعِ ابْتِدَاءٌ مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ وَيَرْضَى الْآخَرُ، فَإِنْ قَالَ الْبَادِئُ بَعْدَ رِضَا الْآخَرِ: لَمْ أَرْضَ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ يَمِينٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَفَ، وَإِلَّا لَزِمَ إنْ قَالَ: أَبِيعُكهَا بِكَذَا أَوْ أَنَا أَشْتَرِيهَا بِهِ أَوْ أَتَسَوَّقُ بِهَا، فَقَالَ: بِكَمْ؟ فَقَالَ: بِمِائَةٍ، فَقَالَ: أَخَذْتهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَنْعَقِدُ بِلَفْظِ الْمَاضِي أَوْ الْأَمْرِ أَوْ الْمُضَارِعِ، وَلَا يُشْتَرَطُ عِنْدَنَا تَقَدُّمُ الْإِيجَابِ مِنْ الْبَائِعِ عَلَى الْقَبُولِ مِنْ الْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا يَنْعَقِدُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِمَا ذَكَرْنَا لِدَفْعِ إشْكَالٍ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ عَقْدٌ، فَكَيْفَ يَقُولُ الْبَيْعُ يَنْعَقِدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ الْمَعْنَى يَنْعَقِدُ الْعَقْدُ بِالْكَلَامِ، وَهُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَقَدَّمْنَا أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الْعَقْدِ تَمْيِيزُ الْعَاقِدِ، وَشَرْطَ لُزُومِهِ تَكْلِيفُهُ، فَعَقْدُ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ كَعَقْدِ الْمُكْرَهِ إكْرَاهًا حَرَامًا، ثُمَّ إنْ وَقَعَ عَلَى خِيَارِ التَّرَوِّي وَلَوْ بِالْعَادَةِ كَانَ مُنْحَلًّا وَلَا يَلْزَمُ إلَّا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ بِمُضِيِّ مُدَّتِهِ، وَمَا اتَّصَلَ بِهِ مِنْ الْغَدِ وَالْغَدَاءَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَلْزَمُ بِانْقِضَائِهِ وَرُدَّ فِي كَالْغُدُوِّ إنْ وَقَعَ بَتًّا كَانَ لَازِمًا بِمُجَرَّدِهِ حَيْثُ صَدَرَ مِنْ مُكَلَّفَيْنِ رَشِيدَيْنِ. (وَإِنْ لَمْ يَفْتَرِقْ الْمُتَبَايِعَانِ) تَثْنِيَةُ مُتَبَايِعٍ بِالتَّاءِ لَا بِالْهَمْزَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: لَا يَنْعَقِدُ إلَّا بَعْدَ الِافْتِرَاقِ مِنْ الْمَجْلِسِ كَالْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِنَا، وَسَبَبُ الِاخْتِلَافِ «خَبَرُ الْمُتَبَايِعَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَفْتَرِقَا إلَّا بَيْعَ الْخِيَارِ» ، فَمَالِكٌ، وَمَنْ وَافَقَهُ تَرَكَ الْعَمَلَ بِظَاهِرِهِ وَحُمِلَ التَّفَرُّقُ عَلَى التَّفَرُّقِ بِالْأَقْوَالِ، وَأَنَّهُمَا إذَا عَقَدَا الْبَيْعَ، وَلَمْ يَذْكُرَا خِيَارًا وَلَا كَانَتْ الْعَادَةُ جَارِيَةً بِهِ يَقَعُ الْبَيْعُ لَازِمًا وَلَمْ يَكُنْ لِأَحَدِهِمَا خِيَارٌ، وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ قَالَ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْحَامِلَ لِمَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى عَدَمِ الْعَمَلِ بِخِيَارِ الْمَجْلِسِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي صَدْرِ الْبَابِ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. [بَاب الْإِجَارَة] [حُكْم الْإِجَارَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الذَّوَاتِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَيْعِ الْمَنَافِعِ فَقَالَ: (وَالْإِجَارَةُ جَائِزَةٌ) قَالَ خَلِيلٌ: صِحَّةُ الْإِجَارَةِ بِعَاقِدٍ وَأَجْرٍ كَالْبَيْعِ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْأَجْرِ بِمَعْنَى الثَّوَابِ، يُقَالُ: اسْتَأْجَرَ الرَّجُلُ عَلَى عَمَلٍ بِأَجْرٍ أَيْ بِثَوَابٍ يُعْطِيهِ لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: بَيْعُ مَنْفَعَةٍ مَا أَمْكَنَ نَقْلُهُ غَيْرَ سَفِينَةٍ وَلَا حَيَوَانٍ لَا يَعْقِلُ بِعِوَضٍ غَيْرِ نَاشِئٍ عَنْهَا بَعْضُهُ يَتَبَعَّضُ بِتَبْعِيضِهَا، فَخَرَجَ بَيْعُ مَنْفَعَةِ الدُّورِ وَالْأَرَضِينَ وَالدَّوَابِّ فَلَا يُسَمَّى إجَارَةً، وَإِنَّمَا يُسَمَّى كِرَاءً، كَمَا خَرَجَتْ الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ، وَالضَّمِيرُ فِي بَعْضِهِ لِلْعِوَضِ وَفِي تَبْعِيضِهَا لِلْمَنْفَعَةِ، وَإِنَّمَا زَادَ لَفْظَةَ بَعْضِهِ؛ لِيَدْخُلَ فِي التَّعْرِيفِ: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ} [القصص: 27] الْآيَةَ. لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ إجَارَةٌ وَعِوَضَهَا الْبُضْعُ وَهُوَ لَا يَتَبَعَّضُ، فَلَوْ حَذَفَهَا لَصَارَ التَّعْرِيفُ غَيْرَ جَامِعٍ، وَجَوَازُهَا ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقَوْله تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ نَبِيِّهِ شُعَيْبٍ مَعَ مُوسَى - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وَشَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا مَا لَمْ يَرِدْ نَاسِخٌ، فَذَكَرَ تَأْجِيلَ الْإِجَارَةِ وَسَمَّى عِوَضَهَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَلْيُعْلِمْهُ أَجْرَهُ» وَقَوْلُهُ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «ثَلَاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: رَجُلٌ أَعْطَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 لَهَا أَجَلًا وَسَمَّيَا الثَّمَنَ وَلَا يُضْرَبُ فِي الْجُعْلِ أَجَلٌ فِي رَدِّ آبِقٍ أَوْ بَعِيرٍ شَارِدٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ أَوْ بَيْعِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ. وَلَا شَيْءَ   [الفواكه الدواني] بِي ثُمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأْجَرَ أَجِيرًا فَاسْتَوْفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجْرَهُ» رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ. وَفِيهِ أَيْضًا فِي حَدِيثِ الرُّقْيَةِ بِالْفَاتِحَةِ: «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَحَكَاهُ غَيْرُ وَاحِدٍ. وَاعْلَمْ أَنَّ أَرْكَانَهَا خَمْسَةٌ: الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ وَالصِّيغَةُ وَالْأُجْرَةُ وَالْمَنْفَعَةُ. أَمَّا الْمُؤَجِّرُ وَالْمُسْتَأْجِرُ فَشَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِهِمَا التَّمْيِيزُ، وَشَرْطُ لُزُومِهِ التَّكْلِيفُ وَالرُّشْدُ، فَعَقْدُ الصَّبِيِّ وَالْعَبْدِ عَلَى سِلَعِهِمَا أَوْ عَلَى أَنْفُسِهِمَا صَحِيحٌ غَيْرُ لَازِمٍ فَلِوَلِيِّهَا فَسْخُهُ وَإِمْضَاؤُهُ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ لَزِمَ الْمُسْتَأْجِرَ الْأَكْثَرُ مِنْ الْمُسَمَّى وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ، وَكَذَا إنَّ عَقْدَ السَّفِيهِ أَوْ الْمُكْرَهِ إكْرَاهًا حَرَامًا يَكُونُ لِوَلِيِّ السَّفِيهِ وَلِلْمُكْرَهِ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ الْإِجَازَةُ أَوْ الْفَسْخُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَقْدُ السَّفِيهِ عَلَى نَفْسِهِ فَلَا كَلَامَ لِوَلِيِّهِ؛ لِأَنَّهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ فِي نَفْسِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي إجَارَتِهِ نَفْسَهُ مُحَابَاةٌ. 1 - وَأَمَّا صِيغَةُ الْإِجَارَةِ فَهِيَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَأَمَّا الْأُجْرَةُ فَهِيَ كُلُّ مَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ ثَمَنًا فِي الْجُمْلَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: صِحَّةُ الْإِجَارَةِ بِعَاقِدٍ وَأَجْرٍ كَالْبَيْعِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْجُمْلَةِ لِئَلَّا نَنْتَقِضَ الْكُلِّيَّةَ بِالطَّعَامِ، وَمِمَّا تُنْبِتُهُ الْأَرْضُ لِصِحَّةِ كَوْنِهِمَا ثَمَنًا، وَعَدَمُ صِحَّةِ كَوْنِهِمَا أُجْرَةَ الْأَرْضِ الزِّرَاعِيَّةِ، وَيَجِبُ تَعْجِيلُهَا إنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً بِالشَّرْطِ أَوْ الْعَادَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَجَّلَ إنْ عَيَّنَ أَوْ بِشَرْطٍ أَوْ عَادَةٍ أَوْ فِي مَضْمُونَةٍ لَمْ يَشْرَعْ فِيهَا إلَّا كُرَى حَجٍّ فَالْيَسِيرُ وَأَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فَهِيَ مَا لَا تُمْكِنُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ حِسًّا دُونَ إضَافَةٍ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ غَيْرَ جُزْءٍ مِمَّا أُضِيفَ إلَيْهِ. وَقَالَ خَلِيلٌ بِمَنْفَعَةٍ تَتَقَوَّمُ قَدَرَ عَلَى تَسْلِيمِهَا بِلَا اسْتِيفَاءِ عَيْنٍ قَصْدًا، فَلَا تُسْتَأْجَرُ التُّفَّاحَةُ لِشَمِّهَا؛ لِأَنَّ تَأَثُّرَهَا لَيْسَ مِنْ الِاسْتِيفَاءِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ مُرُورِ الزَّمَانِ، وَلَا الْأَعْمَى لِلْخَطِّ، وَلَا الْأَخْرَسُ لِلْكَلَامِ، وَلَا الْأَرْضُ الَّتِي غَمَرَهَا الْمَاءُ وَلَا يُمْكِنُ انْكِشَافُهَا، وَلَا الْفَقِيهُ لِإِخْرَاجِ الْجَانِّ أَوْ لِحَلِّ الْمَرْبُوطِ؛ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ الْمَنْفَعَةِ، وَلَا الْأَشْجَارُ لِثِمَارِهَا، وَلَا الشَّاةُ لِلَبَنِهَا لِأَدَائِهِ إلَى بَيْعِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُودِهِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَلَا الْحَائِضُ لِكَنْسِ الْمَسْجِدِ بِنَفْسِهَا، وَلَا عَلَى فِعْلِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْإِنْسَانِ بِنَفْسِهِ كَصَلَاةِ الْوِتْرِ أَوْ الصَّوْمِ؛ لِعَدَمِ حُصُولِ الْمَنْفَعَةِ لِلْمُسْتَأْجِرِ. [شُرُوط الْإِجَارَة] وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى شُرُوطِهَا بِقَوْلِهِ: (إذَا ضَرَبَا لِذَلِكَ أَجَلًا وَسَمَّيَا الثَّمَنَ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْإِجَارَةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ أَجَلُهَا مَعْلُومًا بِشَهْرٍ أَوْ سَنَةٍ، أَوْ تَكُونَ مَحْدُودَةً بِعَمَلٍ كَخِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ كِتَابَةِ كُرَّاسٍ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْأَجْرُ مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَوْ بِالْعُرْفِ، كَأُجْرَةِ الْخِيَاطَةِ أَوْ صَبْغِ الثَّوْبِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا تَخْتَلِفُ أُجْرَتُهُ عُرْفًا. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ الْمُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ مَعْلُومًا لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، كَمَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ الذَّاتِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهَا لِتَعْلِيمِهَا أَوْ لِرُكُوبِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَيْنُ مُتَعَلِّمٍ وَرَضِيعٍ وَدَارٍ وَحَانُوتٍ وَبِنَاءٍ عَلَى جُدْرَانٍ، وَمَحْمَلٍ إنْ لَمْ تُوصَفْ وَدَابَّةٍ لِرُكُوبٍ، وَإِنْ ضُمِنَتْ فَجِنْسٌ وَنَوْعٌ وَذُكُورَةٌ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا يُشْتَرَطُ التَّصْرِيحُ بِالْأَجَلِ فِيمَا لَا تُعْرَفُ غَايَتُهُ إلَّا بِانْتِهَاءِ الْأَجَلِ كَالِاسْتِئْجَارِ عَلَى الرِّعَايَةِ أَوْ الْحَرْثِ، وَأَمَّا مَا غَايَتُهُ الْفَرَاغُ مِنْهُ كَالْخِيَاطَةِ وَالْحِيَاكَةِ وَالصَّبْغِ فَيَكْفِي تَعْيِينُ الْعَمَلِ، وَجَرَى خِلَافٌ فِي فَسَادِ الْعَقْدِ عِنْدَ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالزَّمَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ تَفْسُدُ إنْ جَمَعَهُمَا وَتَسَاوَيَا أَوْ مُطْلَقًا خِلَافٌ. الثَّانِي: مَا قَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ بَيَانٌ لِحُكْمِهَا الْأَصْلِيِّ وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً، مِثْلُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِلْإِمَامَةِ أَوْ لِلْحَجِّ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ أَوْ لِذِمِّيٍّ لَا يَنَالُهُ مِنْ ذَلِكَ مَذَلَّةٌ، وَقَدْ تَكُونُ مُحَرَّمَةً مِثْلُ أَنْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِذِمِّيٍّ يَنَالُهُ بِذَلِكَ مَذَلَّةٌ أَوْ يُؤَجِّرَ نَفْسَهُ لِمَعْرُوفٍ بِالْغَصْبِ، وَكَذَا كُلُّ إجَارَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا فِعْلٌ مُحَرَّمٌ. 1 - وَلَمَّا كَانَ الْجُعْلُ مُشَارِكًا لِلْإِجَارَةِ فِي الْعَقْدِ عَلَى الْمَنْفَعَةِ؛ لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَقْدٌ عَلَى عَمَلِ آدَمِيٍّ بِعِوَضٍ غَيْرِ نَاشِئٍ عَنْ مَحَلِّهِ بِهِ لَا يَجِبُ إلَّا بِتَمَامِهِ، فَخَرَجَ الْعَقْدُ عَلَى كِرَاءِ السُّفُنِ وَالرَّوَاحِلِ وَالْأَرَضِينَ كَمَا خَرَجَتْ الْمُسَاقَاةُ وَالْقِرَاضُ وَشَرِكَةُ الْحَرْثِ، وَزَادَ لَفْظُهُ بِهِ لِيَدْخُلَ: إنْ أَتَيْتنِي بِعَبْدِي الْآبِقِ فَلَكَ عَمَلُهُ شَهْرًا مَثَلًا، فَإِنَّهُ جُعْلٌ، وَإِنْ كَانَ فَاسِدًا لِلْجَهْلِ بِالْعِوَضِ، وَلَوْ سَقَطَ لَفْظَةُ بِهِ لَخَرَجَتْ لِمُشَارَكَتِهَا لِلْقِرَاضِ فِيمَا خَرَجَ بِهِ؛ لِأَنَّ عِوَضَهَا نَشَأَ عَنْ مَحَلِّ الْعَمَلِ، وَالضَّمِيرُ فِي مَحَلِّهِ عَائِدٌ عَلَى عَمَلِ الْآدَمِيِّ وَبِهِ كَذَلِكَ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْعِوَضَ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مَأْخُوذٍ عَنْ مَحَلِّ الْعَمَلِ بِسَبَبِ عَمَلِ عَامِلِهِ فَدَخَلَتْ تِلْكَ الصُّورَةُ؛ لِأَنَّ عِوَضَهَا غَيْرُ نَاشِئٍ عَنْ عَمَلِ عَامِلِهَا بَلْ أُخِذَ مِنْ عَمَلِ مَحَلِّهَا لَا بِسَبَبِ عَمَلِ عَامِلِهَا، بِخِلَافِ نَحْوِ الْقِرَاضِ، وَإِنَّمَا اُحْتِيجَ إلَى إخْرَاجِهَا مَعَ كَوْنِهَا فَاسِدَةً؛ لِأَنَّ التَّعَارِيفَ لِمُطْلَقِ الْمَاهِيَّةِ الشَّامِلَةِ لِلْفَاسِدَةِ دَلَّ عَلَى جَوَازِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] فَجُعِلَ لِمَنْ جَاءَ بِصُوَاعِ الْمَلِكِ الَّذِي فَقَدُوهُ حِمْلُ بَعِيرٍ مِنْ الطَّعَامِ وَلَمْ يُقَدِّرْ لَهُ مُدَّةً، وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ حُنَيْنٍ: مَنْ قَتَلَ قَتِيلًا فَلَهُ سَلَبُهُ» وَقِصَّةُ الرَّهْطِ مَعَ الْجَمَاعَةِ الَّذِينَ لُدِغَ سَيِّدُهُمْ الَّتِي رَوَاهَا أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: انْطَلَقَ نَفَرٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُفْرَةٍ سَافِرُوهَا حَتَّى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 لَهُ إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ. وَالْأَجِيرُ عَلَى الْبَيْعِ إذَا تَمَّ الْأَجَلُ وَلَمْ يَبِعْ وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ، وَإِنْ بَاعَ فِي نِصْفِ الْأَجَلِ فَلَهُ   [الفواكه الدواني] نَزَلُوا عَلَى حَيٍّ مِنْ الْعَرَبِ فَاسْتَضَافُوهُمْ فَلَمْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُ ذَلِكَ الْحَيِّ فَسَعَوْا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ شَيْءٌ فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: لَوْ أَتَيْتُمْ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ نَزَلُوا عِنْدَنَا لَعَلَّ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ بَعْضِهِمْ شَيْءٌ، فَأَتَوْهُمْ فَقَالُوا لَهُمْ: إنَّ سَيِّدَنَا لُدِغَ وَقَدْ سَعَيْنَا لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ فَلَمْ يَنْفَعْهُ فَهَلْ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْكُمْ شَيْءٌ؟ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نَعَمْ وَاَللَّهِ إنِّي لَأَرْقِي وَلَكِنْ قَدْ اسْتَضَفْنَاكُمْ فَلَمْ تُضَيِّفُونَا فَمَا أَنَا بِرَاقٍ حَتَّى تَجْعَلُوا لِي جُعْلًا فَصَالَحُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ، فَانْطَلَقَ يَتْفِلُ عَلَيْهِ وَيَقْرَأُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَيْ الْفَاتِحَةَ فَكَأَنَّمَا نُشِطَ مِنْ عِقَالٍ يَمْشِي، وَمَا بِهِ قَلَبَةٌ أَيْ عِلَّةٌ فَأَوْفَوْهُمْ جُعْلَهُمْ. فَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «حَتَّى تَجْعَلُوا لِي جُعْلًا» يَرُدُّ عَلَى مَنْ نَظَرَ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِقَضِيَّةِ الرَّهْطِ؛ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ إقْرَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إيَّاهُمْ عَلَى ذَلِكَ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إيَّاهُ بِالضِّيَافَةِ، كَمَا يَرُدُّهُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «، وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا رُقْيَةٌ» مَعَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» فَإِنَّ هَذَا يَقْتَضِي أَنَّ مَا أَخَذُوهُ فِي نَظِيرِ الرُّقْيَةِ لَا الضِّيَافَةِ، وَقَدْ مَضَى عَمَلُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى ذَلِكَ فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ عَلَى تَوَالِي الْأَعْصَارِ. 1 - وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْ أَرْكَانَهُ، وَهِيَ أَرْبَعٌ: الْعَاقِدَانِ وَالْعَمَلُ وَالْعِوَضُ، وَأَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: صِحَّةُ الْجُعْلِ بِالْتِزَامِ أَهْلِ الْإِجَارَةِ جُعْلًا عَلَى مَا يَسْتَحِقُّهُ السَّامِعُ بِالتَّمَامِ، فَشَرْطُ الْعَاقِدِ التَّأَهُّلُ لِعَقْدِ الْإِجَارَةِ صِحَّةً وَلُزُومًا، وَشَرْطُ الْجُعْلِ بِمَعْنَى الْعِوَضِ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَصِحُّ كَوْنُهُ أُجْرَةً، وَأَمَّا الْعَمَلُ الْمُجَاعَلُ عَلَيْهِ فَبَعْضُهُ تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَذَلِكَ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ؛ لِأَنَّهُ إنْ عُيِّنَ فِيهَا مِقْدَارٌ مَخْصُوصٌ مِنْ الْأَذْرُعِ كَانَ إجَارَةً، وَإِنْ عَاقَدَهُ عَلَى إخْرَاجِ الْمَاءِ كَانَ جُعْلًا، وَبَعْضُهُ مِمَّا لَا تَصِحُّ فِيهِ الْإِجَارَةُ وَذَلِكَ كَالْمُعَاقَدَةِ عَلَى إحْضَارِ عَبْدٍ آبِقٍ أَوْ بَعِيرٍ شَارِدٍ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا يُجْهَلُ فِيهِ الْعَمَلُ، وَبَعْضُهُ لَا تَصِحُّ فِيهِ الْجَعَالَةُ وَتَتَعَيَّنُ الْإِجَارَةُ، وَذَلِكَ كَالْمُعَاقَدَةِ عَلَى عَمَلٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْجَاعِلِ كَحَفْرِ بِئْرٍ فِي أَرْضٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ؛ لِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ تَمَامِ الْعَمَلِ يَذْهَبُ عَمَلُهُ بَاطِلًا مَعَ انْتِفَاعِ الْجَاعِلِ بِعَمَلِهِ، فَبَيْنَ الْإِجَارَةِ وَالْجُعْلِ الْعُمُومُ وَالْخُصُوصُ الْوَجْهِيُّ عَلَى التَّحْقِيقِ، خِلَافًا لِظَاهِرِ خَلِيلٍ فِي قَوْلِهِ: فِي كُلِّ مَا تَجُوزُ فِيهِ الْإِجَارَةُ. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الْجُعْلِ عَدَمَ تَقْدِيرِ زَمَنٍ لِلْعَمَلِ قَالَ: (وَلَا يُضْرَبُ فِي الْجُعْلِ أَجَلٌ) أَيْ يَحْرُمُ أَنْ يُقَدَّرَ زَمَنٌ مُعَيَّنٌ (فِي رَدِّ) رَقِيقٍ (آبِقٍ أَوْ بَعِيرٍ شَارِدٍ أَوْ حَفْرِ بِئْرٍ) فِي أَرْضٍ مَوَاتٍ جَاعَلَهُ عَلَى إخْرَاجِ مَائِهَا. (أَوْ) فِي (بَيْعِ ثَوْبٍ وَنَحْوِهِ) ، وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ زِيَادَةِ الْغَرَرِ، إذْ رُبَّمَا يَنْقَضِي الْأَجَلُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ بَاطِلًا، أَوْ يَتِمُّ الْعَمَلُ قَبْلَ انْقِضَائِهِ فَيَأْخُذُ مَا لَا يَسْتَحِقُّهُ؛ لِأَنَّهُ يَأْخُذُ الْجُعْلَ كَامِلًا؛ لِتَمَامِ الْعَمَلِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الْعَمَلُ فِي بَقِيَّةِ الْأَجَلِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ شَرَطَ عَلَى الْجَاعِلِ التَّرْكَ مَتَى شَاءَ فَإِنَّهُ يَجُوزُ ضَرْبُ الْأَجَلِ حِينَئِذٍ. قَالَ خَلِيلٌ: بِلَا تَقْدِيرِ زَمَنٍ إلَّا بِشَرْطِ تَرْكِهِ مَتَى شَاءَ، وَلَا يُقَالُ: شَأْنُ الْجُعْلِ أَنَّ لِلْعَامِلِ فِيهِ التَّرْكَ مَتَى شَاءَ فَلِمَ امْتَنَعَ مَعَ تَقْدِيرِ الزَّمَنِ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاطِ تَخْيِيرٍ فِي التَّرْكِ وَجَازَ مَعَ الِاشْتِرَاطِ؟ . لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَجْعُولُ لَهُ عِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ دَخَلَ عَلَى التَّمَامِ فَغَرَرُهُ قَوِيٌّ، وَإِنْ كَانَ لَهُ التَّرْكُ مَتَى شَاءَ وَعِنْدَ الشَّرْطِ يَخِفُّ غَرَرُهُ لِدُخُولِهِ ابْتِدَاءً عَلَى التَّخْيِيرِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَمَا لَا يَجُوزُ ضَرْبُ الْأَجَلِ فِي عَقْدِ الْجُعْلِ لَا يَجُوزُ شَرْطُ نَقْدِ الْعِوَضِ، وَإِذَا وَقَعَ ضَرْبُ الْأَجَلِ فِي عَقْدِهِ أَوْ شُرِطَ نَقْدُ الْعِوَضِ فَسَدَ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ نَقْدٌ، وَيَجِبُ فِيهِ إنْ تَمَّ الْعَمَلُ جُعْلُ الْمِثْلِ، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّ لَهُ الْجُعْلَ، وَإِنْ لَمْ يَتِمَّ الْعَمَلُ فَيَكُونُ فِيهِ أُجْرَةُ الْمِثْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الْفَاسِدِ جُعْلُ مِثْلِهِ إلَّا بِجُعْلٍ مُطْلَقًا فَأُجْرَتُهُ. الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْجَعَالَةَ كَالْإِجَارَةِ فِي الْعَاقِدِ وَالْعِوَضِ، إلَّا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ إيقَاعُ الْعَقْدِ فِيهِ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، بَلْ يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ الْجُعْلَ، وَإِنْ لَمْ يُعَاقِدْهُ رَبُّ الشَّيْءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمَنْ لَمْ يَسْمَعْ جُعْلَ مِثْلِهِ إنْ اعْتَادَهُ، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ مَتَى أَحْضَرَ الْعَبْدَ الْآبِقَ مَنْ اعْتَادَ ذَلِكَ وَجَبَ لَهُ الْجُعْلُ، سَوَاءٌ وَقَعَ مِنْ رَبِّهِ الِالْتِزَامُ أَوْ لَمْ يَقَعْ، وَأَمَّا لَوْ أَتَى بِهِ مَنْ لَا عَادَةَ لَهُ بِطَلَبِ الْإِبَاقِ فَإِنَّمَا لَهُ مَا أَنْفَقَهُ عَلَى الْآبِقِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلِبَاسٍ لَا نَفَقَتُهُ عَلَى نَفْسِهِ فَإِنَّهَا عَلَى نَفْسِهِ لَا عَلَى رَبِّ الْآبِقِ. الثَّالِثُ: يُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الْجُعْلِ إذَا كَانَ الْمُجَاعَلُ عَلَيْهِ عَبْدًا آبِقًا أَوْ بَعِيرًا شَارِدًا جُهِلَ مَكَانُهُ، فَإِنْ عَلِمَا أَوْ أَحَدُهُمَا مَكَانَهُ فُسِخَ الْعَقْدُ، فَإِنْ تَمَّ الْعَمَلُ فَإِنْ كَانَ الْعَالِمُ الْجَاهِلَ وَالْجَاهِلُ الْعَامِلَ فَلَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الْجُعْلِ وَأُجْرَةِ مِثْلِهِ، وَإِنْ انْفَرَدَ الْمَجْعُولُ لَهُ بِالْعِلْمِ فَلَا شَيْءَ، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْعُتْبِيَّةِ لَهُ بِقَدْرِ تَعَبِهِ، وَالْقَوْلُ لِمَنْ ادَّعَى عَدَمَ الْعِلْمِ مِنْهُمَا. الرَّابِعُ: لَوْ أَعْطَى شَخْصٌ غَيْرَهُ ثَوْبًا لِيَبِيعَهُ وَقَالَ لَهُ: لَا تَبِعْهُ حَتَّى تُشَاوِرنِي لَمْ يَجُزْ إنْ ضَرَبَا لِلْبَيْعِ أَجَلًا؛ لِأَنَّ الْجُعْلَ يَفْسُدُ بِضَرْبِ الْأَجَلِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْوَاجِبُ فِيهِ تَسْمِيَةُ الثَّمَنِ وَالتَّفْوِيضُ إلَى الْبَائِعِ فِي بَيْعِهِ مَتَى شَاءَ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ عَاقِدِ الْجُعْلِ كَعَاقِدِ الْإِجَارَةِ تَبْعِيضُ الْعِوَضِ كَالْأُجْرَةِ قَالَهُ: (وَلَا شَيْءَ لَهُ) أَيْ لِلْعَامِلِ (إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ) لِوُرُودِ النَّصِّ بِذَلِكَ قَالَ - تَعَالَى -: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} [يوسف: 72] فَإِنَّ مَفْهُومَهُ أَنَّهُ إنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ لَا شَيْءَ لَهُ، وَأَمَّا إنْ تَمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 نِصْفُ الْإِجَارَةِ. وَالْكِرَاءُ كَالْبَيْعِ فِيمَا يَحِلُّ وَيَحْرُمُ. وَمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً بِعَيْنِهَا إلَى بَلَدٍ فَمَاتَتْ انْفَسَخَ الْكِرَاءُ فِيمَا بَقِيَ.   [الفواكه الدواني] الْعَمَلُ فَيَسْتَحِقُّ الْجُعْلَ الْمُسَمَّى لَهُ وَجُعْلَ مِثْلِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ تَسْمِيَةٌ حَيْثُ كَانَتْ عَادَتُهُ الْإِتْيَانَ بِالْآبِقِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ الشَّيْءَ الْمُجَاعَلَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَبْلَ قَبْضِ رَبِّهِ، وَلَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ بِحُرِّيَّةٍ، وَلَا يَرْجِعُ الْجَاعِلُ بِالْجُعْلِ عَلَى الْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْمَشْهُورِ؛ لِأَنَّ الْجَاعِلَ هُوَ الَّذِي وَرَّطَ الْعَامِلَ فِي الْعَمَلِ مِثْلَ الِاسْتِحْقَاقِ، وَلَوْ أَعْتَقَ السَّيِّدُ الْعَبْدَ بَعْدَ شُرُوعِ الْعَامِلِ فِي تَحْصِيلِهِ بِخِلَافِ مَوْتِهِ قَبْلَ قَبْضِ رَبِّهِ لَهُ فَإِنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ، وَمِثْلُ الْمَوْتِ فِي تَفْصِيلِهِ لَوْ هَرَبَ الْعَبْدُ أَوْ أُسِرَ أَوْ غُصِبَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَالِاسْتِحْقَاقِ أَنَّ الِاسْتِحْقَاقَ يَغْلِبُ كَوْنُهُ نَاشِئًا عَنْ عَدَاءِ الْجَاعِلِ، ثُمَّ إنَّ مَحَلَّ كَوْنِ الْعَامِلِ لَا شَيْءَ لَهُ قَبْلَ تَمَامِ الْعَمَلِ مَا لَمْ يَنْتَفِعْ رَبُّ الشَّيْءِ بِعَمَلِهِ، وَإِلَّا اسْتَحَقَّ بِنِسْبَةِ عَمَلِ الثَّانِي. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا أَنْ يَسْتَأْجِرَ رَبُّهُ عَلَى التَّمَامِ، فَبِنِسْبَةِ عَمَلِ الثَّانِي سَوَاءٌ عَمِلَ عَمَلَ الثَّانِي قَدْرَ الْأَوَّلِ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ، فَإِنْ كَانَ جَعَلَ لِلْأَوَّلِ عَشَرَةَ دَرَاهِمَ عَلَى حَمْلِ خَشَبَةٍ إلَى مَوْضِعِ كَذَا فَبَلَّغَهَا نِصْفَ الطَّرِيقِ مَثَلًا وَتَرَكَهَا ثُمَّ جَعَلَ لِآخَرَ عَشَرَةً عَلَى تَبْلِيغِهَا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ عَشَرَةً، وَهَكَذَا وَلَا مَفْهُومَ لِلِاسْتِئْجَارِ، بَلْ لَوْ بَلَّغَهَا رَبُّهَا أَوْ شَخْصٌ آخَرُ مَجَّانًا فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْأَوَّلُ بِنِسْبَةِ عَمَلِ مَنْ يُتِمُّهُ أَنْ لَوْ اسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِعَمَلِهِ، رَاجِعْ شَرْحَ خَلِيلٍ لِلْعَلَّامَةِ الْأُجْهُورِيِّ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عَقْدُ الْجُعْلِ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ مُنْحَلٌّ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ وَالْجَاعِلِ، وَأَمَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ فَلَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْجَاعِلِ، وَمُنْحَلٌّ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ، وَالْمُرَادُ بِالْجَاعِلِ مُلْتَزِمُ عَقْدِ الْجُعْلِ، وَلَوْ عَقَدَهُ وَكِيلُهُ. الثَّانِي: إنَّمَا يَصِحُّ عَقْدُ الْجُعْلِ فِيمَا لَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ، فَأَمَّا مَا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ فَلَا يَصِحُّ مُجَاعَلَتُهُ عَلَيْهِ. قَالَ فِي الْبَيَانِ: قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ قَالَ مَالِكٌ: مَنْ قَالَ دُلَّنِي عَلَى مَنْ يَشْتَرِي مِنِّي جَارِيَتِي وَلَك كَذَا أَوْ مِنْ أُؤَجِّرُهُ نَفْسِي فَدَلَّ عَلَيْهِ فَذَلِكَ لَازِمٌ لَهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْإِدْلَالُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: دُلَّنِي عَلَى امْرَأَةٍ تَصْلُحُ لِي أَتَزَوَّجُهَا وَلَك كَذَا فَدَلَّهُ فَلَا شَيْءَ لَهُ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي أَوْ يَسْتَأْجِرُ، وَبَيْنَ الدَّلَالَةِ عَلَى مَنْ تَصْلُحُ لِلنِّكَاحِ فِي لُزُومِ الْعِوَضِ فِي الْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي وُقُوعُ الْعِوَضِ فِي مُقَابَلَةِ مَا لَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ، وَهُوَ التَّفْتِيشُ عَلَى مَنْ يَشْتَرِي أَوْ يَسْتَأْجِرُ، بِخِلَافِ الثَّانِي فَإِنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ مَا يَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ، وَهُوَ النَّصِيحَةُ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا اسْتَنْصَحَهُ صَارَتْ النَّصِيحَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَخْذُ عِوَضٍ فِي وَاجِبٍ عَلَيْهِ. وَلَمَّا كَانَ الْجُعْلُ لَا يَسْتَحِقُّهُ الْعَامِلُ إلَّا بِالتَّمَامِ، وَالْإِجَارَةُ تُخَالِفُهُ قَالَ: (وَالْأَجِيرُ عَلَى الْبَيْعِ) أَيْ عَلَى السَّمْسَرَةِ عَلَى أَثْوَابٍ أَوْ دَوَابَّ أَوْ عَبِيدٍ مَعْلُومَةٍ فِي أَجَلٍ مَعْلُومٍ بِأَجْرٍ مَعْلُومٍ (إذَا تَمَّ) أَيْ انْقَضَى (الْأَجَلُ وَلَمْ يَبِعْ) شَيْئًا مِمَّا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى بَيْعِهِ (وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ) الْمُشْتَرَطِ أَوْ الْمَعْرُوفِ لَهُ بِحَسَبِ الْعَادَةِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ لَهُ جَمِيعُ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ الْمُسْتَأْجِرَ قَدْ اسْتَوْفَى مَا اسْتَأْجَرَهُ عَلَيْهِ، وَهُوَ النِّدَاءُ عَلَى السِّلَعِ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. (وَ) أَمَّا (إنْ بَاعَ) الْمُسْتَأْجِرُ عَلَى بَيْعِهِ (فِي نِصْفِ الْأَجَلِ فَلَهُ نِصْفُ الْإِجَارَةِ) أَوْ فِي رُبُعِ الْأَجَلِ فَلَهُ رُبُعُ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّ كُلَّ جُزْءٍ مِنْ الْأُجْرَةِ فِي مُقَابَلَةِ مَا يُعَادِلُهُ وَيُقَابِلُهُ مِنْ أَجْزَاءِ الْمَنْفَعَةِ، وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّعْرِيفِ: يَتَبَعَّضُ بِتَبْعِيضِهَا، وَالْمُرَادُ بِالْإِجَارَةِ فِي كَلَامِهِ الْأَجْرُ الَّذِي هُوَ الْعِوَضُ، وَحَمَلْنَا كَلَامَهُ عَلَى السَّمْسَرَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى نَفْسِ الْبَيْعِ فَإِنَّ الْأَجِيرَ لَا يَسْتَحِقُّ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بِالْبَيْعِ، وَقَيَّدْنَا الْمَعْقُودَ عَلَيْهِ بِالْأَشْيَاءِ الْمُعَيَّنَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ اسْتَأْجَرَ شَخْصًا عَلَى بَيْعِ سِلَعٍ غَيْرِ مُعَيَّنَةٍ شَهْرًا مَثَلًا، وَأَحْضَرَ لَهُ شَيْئًا فَبَاعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الشَّهْرِ فَلْيَأْتِهِ بِمَتَاعٍ آخَرَ يَبِيعُهُ حَتَّى يَنْقَضِيَ الشَّهْرُ أَوْ يَدْفَعَ لَهُ جَمِيعَ الْأَجْرِ؛ لِأَنَّهُ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى عَمَلِهِ شَهْرًا. 1 - وَقَالَ التَّتَّائِيُّ: (فَرْعٌ) لَوْ أَعْطَاهُ ثَوْبًا وَقَالَ لَهُ: لَا تَبِعْ حَتَّى تُسَاوِرَنِي لَمْ يَجُزْ، قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ انْتَهَى. وَأَقُولُ: لَعَلَّ وَجْهَ عَدَمِ الْجَوَازِ شِدَّةُ الْغَرَرِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَاوَرَهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يُجِيزَ فَيَأْخُذَ الْأُجْرَةَ وَتَارَةً لَا يُجِيزُ فَيَذْهَبُ عَمَلُهُ بَاطِلًا. (تَنْبِيهٌ) . ظَهَرَ لَك مِنْ هَذَا الْبَيَانِ أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الْإِجَارَةِ لَا فِي الْجُعْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: إذَا تَمَّ الْأَجَلُ، وَظَهَرَ أَيْضًا أَنَّ الْإِجَارَةَ تُخَالِفُ الْجُعْلَ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، الْأَوَّلُ: انْتِقَالُ الْإِجَارَةِ إلَى الْأَجَلِ دُونَ الْجُعْلِ. الثَّانِي: الْجُعْلُ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ فِيهِ شَيْئًا إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ تَتَبَعَّضُ الْأُجْرَةُ غَالِبًا بِتَبْعِيضِ الْمَنْفَعَةِ. الثَّالِثُ: لُزُومُ الْإِجَارَةِ بِمُجَرَّدِ عَقْدِ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ شُرُوعٌ فِي الْعَمَلِ، بِخِلَافِ الْجُعْلِ فَإِنَّهُ مُنْحَلٌّ مِنْ جِهَتِهِمَا قَبْلَ الشُّرُوعِ، وَبَعْدَهُ لَازِمٌ مِنْ جِهَةِ الْجَاعِلِ دُونَ الْعَامِلِ. [الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الدَّوَابِّ] وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْإِجَارَةَ جَائِزَةٌ وَلَازِمَةٌ وَكَانَتْ تُسْتَعْمَلُ فِي الْغَالِبِ فِي بَيْعِ مَنْفَعَةِ الْعَاقِلِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَقْدِ عَلَى مَنَافِعِ الدَّوَابِّ وَيُقَالُ لَهُ كِرَاءً مُضَمَّنًا لَهُ بَيَانُ شَرْطِ الْعِوَضِ مُطْلَقًا بِقَوْلِهِ: (وَالْكِرَاءُ) بِالْمَدِّ، وَهُوَ بَيْعُ مَنْفَعَةِ مَا أَمْكَنَ نَقْلُهُ مِنْ حَيَوَانٍ لَا يَعْقِلُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَرَفَةَ، بِخِلَافِ بَيْعِ مَنْفَعَةِ الْعَاقِلِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى إجَارَةً، وَهَذِهِ تَفْرِقَةٌ لِلْفُقَهَاءِ، وَهِيَ غَيْرُ مُلْتَزِمَةِ الِاسْتِعْمَالِ؛ لِأَنَّهُمْ كَثِيرًا مَا يُطْلِقُونَ كُلًّا عَلَى الْآخَرِ كَمَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ هُنَا الْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ كَانَتْ مِنْ عَاقِلٍ أَوْ غَيْرِهِ (كَالْبَيْعِ فِيمَا يَحِلُّ) مِنْ الْأَجَلِ الْمَعْلُومِ وَالْعِوَضِ الْمُسْتَوْفِي لِلشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ كَوْنِهِ طَاهِرًا مُنْتَفَعًا بِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وَكَذَلِكَ الْأَجِيرُ يَمُوتُ، وَالدَّارُ تَنْهَدِمُ قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْكِرَاءِ. وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ الْقُرْآنَ عَلَى الْحُذَّاقِ. ، وَمُشَارَطَةِ   [الفواكه الدواني] مَقْدُورًا عَلَيْهِ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ. (وَ) فِيمَا (يَحْرُمُ) مِنْ كَوْنِهِ مَنْهِيًّا عَنْهُ أَوْ مَجْهُولًا أَوْ غَيْرَ طَاهِرٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْكِرَاءَ بِمَعْنَى بَيْعِ الْمَنَافِعِ كَالْبَيْعِ فِي الشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الْعَاقِدِ وَالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: صِحَّةُ الْإِجَارَةِ بِعَاقِدٍ وَأَجْرٍ كَالْبَيْعِ. ثُمَّ قَالَ: وَكِرَاءُ الدَّابَّةِ كَذَلِكَ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَوْرَدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَرْضِ بِطَعَامٍ وَبِمَا تُنْبِتُهُ، وَإِنْ غَيْرَ خَشَبٍ، وَلَا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ سِوَى الْخَشَبِ وَالْحَلْفَاءِ وَالْحَشِيشِ، فَالْكُلِّيَّةُ غَيْرُ مُسَلَّمَةٍ لِصِحَّةِ وُقُوعِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ أَثْمَانًا، وَلَا يَصِحُّ دَفْعُهَا كِرَاءً لِأَرْضِ الزِّرَاعَةِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ وُجُودَ الشَّرْطِ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ، فَكَمْ مِنْ مَسْأَلَةٍ يَكُونُ الثَّمَنُ فِيهَا مُسْتَوْفِيًا لِلشُّرُوطِ وَيَكُونُ الْعَقْدُ مُمْتَنِعًا كَالْبَيْعِ عِنْدَ نِدَاءِ الْجُمُعَةِ، فَقَوْلُهُ كَالْبَيْعِ أَيْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يَرِدُ مَا ذَكَرَ. الثَّانِي: إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ فِي الْكِرَاءِ يُوهِمُ مُسَاوَاتَهُ لِلْبَيْعِ فِي كُلِّ الْوُجُوهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِنَّ الْكِرَاءَ فِي نَحْوِ الدَّابَّةِ عَلَى وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَضْمُونَةً أَيْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ، فَإِنْ وَقَعَ عَقْدُ الْكِرَاءِ فِي زَمَنٍ إبَّانَ الْكِرَاءِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْجِيلِ الْكِرَاءِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ أَوْ الشُّرُوعِ فِي الْمَنْفَعَةِ. وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ قَبْلَ الْإِبَّانِ كَوُقُوعِ الْعَقْدِ قَبْلَ أَشْهُرِ الْحَجِّ بِالنِّسْبَةِ لَهُ لَا بِهِ الْحَجُّ فَيَكْفِي تَعْجِيلُ نَحْوِ الدِّينَارِ أَوْ الدِّينَارَيْنِ، وَلَا يَجِبُ تَعْجِيلُ الْجَمِيعِ لِئَلَّا تَهْرُبَ أَصْحَابُ الْإِبِلِ، فَهَذِهِ الصُّوَرُ تُخَالِفُ الْبَيْعَ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ يَجِبُ فِيهِ تَعْجِيلُ كُلِّ الْمُثَمَّنِ أَوْ كُلُّ الثَّمَنِ كَمَا فِي السَّلَمِ هُرُوبًا مِنْ ابْتِدَاءِ الدَّيْنِ بِالدَّيْنِ. ثَانِيهِمَا: أَنْ تَكُونَ الدَّابَّةُ مُعَيَّنَةً فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا نَقْدًا أَوْ إلَى أَجَلٍ إنْ حَصَلَ الشُّرُوعُ فِي الرُّكُوبِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ تَأَخَّرَ يَسِيرًا كَعَشَرَةِ أَيَّامٍ، وَأَمَّا إنْ تَأَخَّرَ الشُّرُوعُ فَوْقَ الْعَشَرَةِ أَيَّامٍ فَإِنْ كَانَ بِالنَّقْدِ لَمْ يَجُزْ؛ لِتَرَدُّدِ الْمَنْقُودِ بَيْنَ الثَّمَنِيَّةِ وَالسَّلَفِيَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ نَقْدٌ فَيَجُوزُ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ؛ لِأَنَّ ضَمَانَهَا إذَا هَلَكَتْ مِنْ رَبِّهَا، وَهَذِهِ أَيْضًا يُخَالِفُ فِيهَا عَقْدُ الْكِرَاءِ الْمَبِيعَ؛ لِأَنَّ الْمَبِيعَ الْمُعَيَّنَ لَا يَجُوزُ تَأْخِيرُ قَبْضِهِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَقَدْ أَجَازَ ابْنُ الْقَاسِمِ هُنَا فِي الْكِرَاءِ تَأْخِيرَ قَبْضِ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَكْثَرَ مِنْ عَشَرَةِ أَيَّامٍ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ نَقْدٌ لِكِرَائِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَتْ الدَّابَّةُ حَاضِرَةً، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ غَائِبَةً فَلَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهَا، كَمَا لَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِي الذَّاتِ الْمُشْتَرَاةِ فِي غَيْبَتِهَا وَلَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُفْسَخُ الْكِرَاءُ بِتَلَفِهِ فَقَالَ: (وَمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً بِعَيْنِهَا) بِأَنْ تَكُونَ حَاضِرَةً، وَأَشَارَ إلَيْهَا (إلَى بَلَدٍ) أَيْ مَحَلٍّ مُعَيَّنٍ (فَمَاتَتْ) أَوْ تَعَذَّرَ سَيْرُهَا قَبْلَ تَمَامِ الْمَسَافَةِ بِأَرْضِ نَزْوٍ بِهَا أَوْ غُصِبَتْ أَوْ اُسْتُحِقَّتْ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِمَّا لَا يُمْكِنُ سَيْرُهَا مَعَهُ (انْفَسَخَ الْكِرَاءُ فِيمَا بَقِيَ) وَيَرْجِعَانِ لِلْمُحَاسَبَةِ، فَعَلَى الْمُكْتَرِي بِحِسَابِ مَا سَارَ مِنْ الطَّرِيقِ وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِالْقِيمَةِ بِأَنْ تُقَوَّمَ الْمَسَافَةُ كُلُّهَا فَيُقَالَ: بِكَمْ تُكْرَى فِي هَذِهِ الْمَسَافَةِ؟ فَيُقَالُ: عَشَرَةُ دَنَانِيرَ، ثُمَّ يُقَالُ: مَا قِيمَةُ هَذَا الَّذِي سَارَهُ مِنْهَا؟ فَإِذَا قِيلَ: خَمْسَةُ دَنَانِيرَ فَتَنْسُبُهَا لِلْعَشَرَةِ فَتَجِدُهَا نِصْفَهَا فَيَرْجِعُ صَاحِبُهَا عَلَى الْمُكْتَرِي بِنِصْفِ الْكِرَاءِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ انْفَسَخَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّرَاضِي عَلَى أَخْذِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ مُطْلَقًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ. فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ الرِّضَا بِغَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ الْهَالِكَةِ إنْ لَمْ يَنْقُدْ أَوْ نُقِدَ أَوْ اُضْطُرَّ فَيَجُوزُ، كَمَا إذَا كَانَ فِي مَفَازَةٍ أَوْ فِي مَحَلٍّ غَيْرِ مُسْتَعْتَبٍ بِأَنْ لَا يَجِدَ فِيهِ مَا يَكْتَرِيهِ، فَإِنْ نَقَدَ وَلَمْ يَحْصُلْ اضْطِرَارٌ فَلَا يَجُوزُ الرِّضَى بِبَدَلِ الْمُعَيَّنَةِ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ؛ لِأَنَّهُ يَفْسَخُ مَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الْأُجْرَةِ فِي مَنَافِعَ يَتَأَخَّرُ قَبْضُهَا، وَهِيَ مَنَافِعُ الْمَأْخُوذِ بَدَلًا، وَلَا يُقَالُ: الْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ عِنْدَ أَخْذِ الْبَدَلِ مَعَ الِاضْطِرَارِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: كَثِيرًا مَا يُبَاحُ مَا كَانَ مُحَرَّمًا لِلضَّرُورَةِ كَأَكْلِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ، وَسَيَأْتِي مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ بِعَيْنِهَا أَنَّ الْمَضْمُونَةَ وَهِيَ الَّتِي لَمْ تُعَيَّنْ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ بِأَنْ قَالَ: أَكْتَرِي مِنْك دَابَّةً أَوْ دَابَّتَك وَلَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً، وَمُشَاهَدَةً وَلَكِنْ لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا، أَوْ قَالَ لَهُ: دَابَّتَك الْفُلَانِيَّةَ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ لَهُ سِوَاهَا لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهَا، وَيَلْزَمُ الْمُكْرِيَ أَنْ يَأْتِيَ لِلْمُكْتَرِي بِبَدَلِهَا كَمَا يَأْتِي. (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ الدَّابَّةِ الْمُعَيَّنَةِ (الْأَجِيرُ) الْمُسْتَأْجَرَةُ عَيْنُهُ لِخِدْمَةِ بَيْتٍ أَوْ رِعَايَةِ غَنَمٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ مُدَّةً مَعْلُومَةً. (يَمُوتُ) أَوْ يَحْصُلُ لَهُ مَا يَمْنَعُ الِاسْتِيفَاءَ مِنْهُ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِي الْمُدَّةِ وَلَهُ بِحِسَابٍ مَا عَمِلَ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا الْمُسْتَأْجَرَةُ عَيْنُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ فَلَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُتَوَلِّي أَمْرِ التَّرِكَةِ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْهَا مَنْ يُتِمُّ الْعَمَلَ. (وَ) كَذَلِكَ (الدَّارُ) الْمُعَيَّنَةُ تُكْتَرَى مُدَّةً مَعْلُومَةً (تَنْهَدِمُ) كُلُّهَا أَوْ جُلُّهَا أَوْ يَتَعَذَّرُ الِانْتِفَاعُ بِهَا بِسَبَبِ غَصْبٍ وَنَحْوِهِ (قَبْلَ تَمَامِ مُدَّةِ الْكِرَاءِ) فَإِنَّ عَقْدَ الْكِرَاءِ يُفْسَخُ وَيَرْجِعَانِ لِلْمُحَاسَبَةِ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ عَيْنٍ تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَعَذُّرِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، بِخِلَافِ الذَّاتِ الَّتِي تُسْتَوْفَى بِهَا الْمَنْفَعَةُ، كَالرَّاكِبِ لِلدَّابَّةِ أَوْ السَّاكِنِ فِي الدَّارِ لَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِمَوْتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَتْ بِتَلَفِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ لَا بِهِ إلَّا صَبِيٌّ تَعَلَّمَ وَرَضَعَ وَفَرَسُ نَزْوٍ وَرُوِّضَ. وَأُلْحِقَ بِهَذِهِ الْأَرْبَعِ بَعْضُ مَسَائِلَ تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِهَا، وَهِيَ مِمَّا تُسْتَوْفَى بِهِ، مِنْهَا الْمُسْتَأْجَرُ عَلَى حَصْدِ زَرْعٍ لَيْسَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سِوَاهُ فَاحْتَرَقَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] أَوْ عَلَى بِنَاءِ حَائِطٍ أَوْ عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ أَوْ نَسْجِهِ فَغَرِقَتْ الدَّارُ ذَاتُ الْحَائِطِ وَحُرِقَ الثَّوْبُ وَلَا شَيْءَ لِلْمُسْتَأْجِرِ سِوَى مَا ذُكِرَ، فَإِنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ فِي هَذِهِ الْمُلْحَقَاتِ، وَقَيَّدْنَا انْهِدَامَ الدَّارِ بِكُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الْمُنْهَدِمُ مِنْهَا شَيْئًا خَفِيفًا بِحَيْثُ لَا يَضُرُّ بِالسَّاكِنِ كَهَدْمِ شُرَّافَةٍ فَإِنَّهُ كَالْعَدَمِ، وَأَمَّا لَوْ انْهَدَمَ مِنْهَا مَا يَحْصُلُ بِهَدْمِهِ الضَّرَرُ عَلَى السَّاكِنِ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ فَسْخِ الْكِرَاءِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَدْفَعُ مِنْ الْكِرَاءِ بِحَسَبِ مَا سَكَنَ، وَبَيْنَ أَنْ يَسْتَمِرَّ سَاكِنًا وَيَدْفَعَ جَمِيعَ الْكِرَاءِ، وَلَا رُجُوعَ لَهُ بِقِيمَةِ الْعَيْبِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَمَّا النَّقْصُ مِنْ قِيمَةِ الْكِرَاءِ وَلَا يَضُرُّ بِالسَّاكِنِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ خِيَارٌ لِلْمُكْتَرِي وَيَلْزَمُهُ السُّكْنَى وَيُحَطُّ عَنْهُ مِنْ الْكِرَاءِ بِحَسَبِ النَّقْصِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَادِثَ فِي الدَّارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَقَدْ بَيَّنَّا أَحْكَامَهَا. (تَنْبِيهٌ) . لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ مَا لَوْ طَلَبَ الْمُكْتَرِي مِنْ صَاحِبِ الدَّارِ أَنْ يُصْلِحَهَا لَهُ بَعْدَ حُصُولِ انْهِدَامِهَا، وَالْحُكْمُ عَدَمُ الْجَبْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْ يُجْبَرْ مُؤَجِّرٌ عَلَى إصْلَاحٍ مُطْلَقًا، وَلَوْ كَانَ الِانْهِدَامُ يَضُرُّ بِالسَّاكِنِ وَخِيَرَتُهُ تَنْفِي ضَرَرَهُ، فَإِنْ أَصْلَحَهَا الْمُكْتَرِي مِنْ عِنْدِهِ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى التَّبَرُّعِ وَلَهُ قِيمَةُ بِنَائِهِ مَنْقُوضًا أَوْ يَأْمُرُهُ بِأَخْذِ أَنْقَاضِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَحَلُّ وَقْفًا فَيَلْزَمُ الْمُكْرِيَ الْإِصْلَاحُ لِحَقِّ الْوَقْفِ، وَإِنْ أَصْلَحَهَا الْمُكْتَرِي مِنْ مَالِهِ كَانَ لَهُ الرُّجُوعُ بِقِيمَةِ بِنَائِهِ قَائِمًا، وَلَوْ أَصْلَحَ غَيْرَ مُسْتَنِدٍ لِإِذْنٍ مِنْ النَّاظِرِ حَيْثُ أَصْلَحَ مَا يَحْتَاجُ لِلْإِصْلَاحِ؛ لِأَنَّهُ قَامَ عَنْهُ بِوَاجِبٍ، وَيَنْبَغِي أَخْذُ النَّفَقَةِ مِنْ فَائِضِ الْوَقْفِ، وَإِلَّا فَمِنْ غَلَّتِهِ الْمُسْتَقْبَلَةِ. [الْإِجَارَةُ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ] وَلَمَّا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي جَوَازِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى تَعْلِيمِ الْقُرْآنِ بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ مُخْتَارَ إمَامِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِتَعْلِيمِ الْمُعَلِّمِ الْقُرْآنَ) بِأُجْرَةٍ (عَلَى الْحُذَّاقِ) أَيْ عَلَى الْحِفْظِ لِلْقُرْآنِ أَوْ شَيْءٍ مِنْهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ الْإِجَارَةُ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ كُلِّهِ أَوْ بَعْضِهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحُذَّاقِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحِفْظِ غَيْبًا أَوْ مَعْرِفَةِ قِرَاءَتِهِ بِالْحَاضِرِ، كَمَا يَقَعُ لِلْأَعَاجِمِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ فِي الْمُصْحَفِ. قَالَ خَلِيلٌ: عَلَى تَعْلِيمِ قُرْآنٍ مُشَاهِرَةً أَوْ عَلَى الْحُذَّاقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَحَقَّ مَا أَخَذْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا كِتَابُ اللَّهِ» ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ يَبْلُغْنِي أَنَّ أَحَدًا كَرِهَ تَعْلِيمَ الْقُرْآنِ وَالْكِتَابَةَ بِأُجْرَةٍ، وَاحْتَرَزَ بِالْقُرْآنِ عَنْ الْفِقْهِ وَغَيْرِهِ مِنْ الْعُلُومِ كَالنَّحْوِ وَالْأُصُولِ وَالْفَرَائِضِ فَإِنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى تَعْلِيمِ مَا ذُكِرَ مَكْرُوهَةٌ. وَفَرَّقَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بَيْنَ جَوَازِهَا عَلَى الْقُرْآنِ وَكَرَاهَتِهَا عَلَى تَعْلِيمِ غَيْرِهِ، بِأَنَّ الْقُرْآنَ كُلَّهُ حَقٌّ لَا شَكَّ فِيهِ، بِخِلَافِ مَا عَدَاهُ مِمَّا هُوَ ثَابِتٌ بِالِاجْتِهَادِ فَإِنَّ فِيهِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ، وَأَيْضًا تَعْلِيمُ الْفِقْهِ بِأُجْرَةٍ لَيْسَ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، وَأَيْضًا أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى تَعْلِيمِهِ يُؤَدِّي إلَى تَقْلِيلِ طَالِبِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُعَلِّمُ الْأُجْرَةَ الْمُسَمَّاةَ لَهُ يَسْتَحِقُّ الْحَذَاقَةَ، وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ بِالْإِصْرَافَةِ إنْ اُشْتُرِطَتْ أَوْ جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ، وَيُقْضَى لِلْمُعَلِّمِ بِهَا عَلَى الْأَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ اُشْتُرِطَ عَدَمُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَخَذَهَا، وَإِنْ لَمْ تُشْتَرَطْ، كَمَا قَالَ شُرَّاحُهُ: الضَّمِيرُ رَاجِعٌ لِلْحَذَاقَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْإِصْرَافَةِ وَلَا حَدَّ فِيهَا عَلَى الْمَذْهَبِ، وَالرُّجُوعُ فِيهَا إلَى حَالِ الْأَبِ مِنْ يُسْرٍ وَعُسْرٍ، وَيُنْظَرُ فِيهَا أَيْضًا إلَى حَالِ الصَّبِيِّ، فَإِنْ كَانَ حَافِظًا كَثُرَتْ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَمَحَلُّهَا مِنْ السُّوَرِ مَا تَقَرَّرَ بِهِ الْعُرْفُ نَحْوُ: " وَالضُّحَى " وَ " سَبِّحْ " وَ " عَمَّ " وَ " تَبَارَكَ " فَإِنْ أَخْرَجَ الْأَبُ وَلَدَهُ مِنْ عِنْدِ الْمُعَلِّمِ قَبْلَ وُصُولِهَا، فَإِنْ كَانَ الْبَاقِي إلَيْهَا يَسِيرًا لَزِمَتْ الْأَبَ، وَإِلَّا لَمْ تَلْزَمْ إلَّا بِشَرْطٍ فَيَلْزَمُ مِنْهَا بِحَسَبِ مَا مَضَى، وَلَا يُقْضَى بِهَا فِي مِثْلِ الْأَعْيَادِ، وَإِنَّمَا تُسْتَحَبُّ، وَإِذَا مَاتَ الْأَبُ أَوْ الْوَلَدُ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِهَا سَقَطَتْ، كَمَا تَسْقُطُ إذَا مَاتَ الْمُعَلِّمُ وَلَا طَلَبَ لِوَرَثَتِهِ بِشَيْءٍ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنْ لَا بَأْسَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُرَادُ بِهِ الْجَوَازُ بِمَعْنَى إلَّا إذَا، فَلَا يُنَافِي وُجُوبَ الْإِجَارَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ الْمَذْكُورِ، إمَّا لِنَفْسِهِ فِيمَا يَجِبُ عَلَيْهِ حِفْظُهُ، أَوْ لِتَعْلِيمِ الصَّبِيِّ الَّذِي فِي كَنَفِهِ مِنْ وَلَدِهِ أَوْ خَادِمِهِ، وَمِثْلُهُمَا لِزَوْجِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُعَلِّمَ نَحْوَ الصَّبِيِّ مَا يَعْتَقِدُهُ فِي اللَّهِ وَفِي الرَّسُولِ، وَكَذَا سَائِرُ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ، وَكَذَا مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِصَلَاتِهِ وَصِيَامِهِ وَطَهَارَتِهِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُعَلِّمَهُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا يُصَلِّي بِهِ مِنْ فَاتِحَةٍ، وَيُسَنُّ تَعْلِيمُهُ مَا تَحْصُلُ السُّنَّةُ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ فَمَنْدُوبٌ، وَالْمُرَادُ بِالْوَلِيِّ مَا يَشْمَلُ الْقَاضِيَ، فَإِنَّهُ كَالْأَبِ عِنْدَ فَقْدِهِ وَفَقْدِ الْوَصِيِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ. الثَّالِثُ: كَمَا يُقْضَى لِلْمُعَلِّمِ بِالْإِصْرَافَةِ زِيَادَةً عَلَى الْأُجْرَةِ، يُطْلَبُ مِنْهُ زِيَادَةً عَلَى التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ تَعْلِيمُهُ الْأَدَبَ وَلَوْ بِالضَّرْبِ عَلَى مَا يَحْصُلُ مِنْهُ مِنْ نَحْوِ سَبٍّ وَكَذِبٍ وَسَرِقَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَحْرُمُ فِعْلُهُ عَلَى الْمُكَلَّفِ، كَمَا يَضْرِبُهُ عَلَى الْهُرُوبِ مِنْ الْمَكْتَبِ، وَيَرْجِعُ فِي الضَّرْبِ وَالتَّأْدِيبِ إلَى اجْتِهَادِ الْمُعَلِّمِ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْمُتَعَلِّمِينَ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِهِمْ، وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ يَلِيَ تَعْلِيمَهُمْ بِنَفْسِهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفَوِّضَ تَعْلِيمَ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ؛ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَجُرُّ إلَى الْفَسَادِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَعْدِلَ بَيْنَهُمْ فِي مَحَلِّ التَّعْلِيمِ وَفِي التَّعْلِيمِ وَفِي صِفَةِ جُلُوسِهِمْ عِنْدَهُ، وَلَا يَجُوزُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ. وَلَا يُنْتَقَضُ الْكِرَاءُ بِمَوْتِ الرَّاكِبِ أَوْ السَّاكِنِ. وَلَا بِمَوْتِ غَنَمِ الرِّعَايَةِ وَلْيَأْتِ بِمِثْلِهَا ، وَمَنْ اكْتَرَى   [الفواكه الدواني] لَهُ تَفْضِيلُ بَعْضٍ عَلَى بَعْضٍ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ قَبُولُ هَدِيَّتِهِمْ أَوْ يَسْتَخْدِمُهُمْ أَوْ يُرْسِلُهُمْ إلَى نَحْوِ جِنَازَةٍ أَوْ مَوْلُودٍ لِيَقُولُوا شَيْئًا وَيَأْخُذُ مِنْهُمْ مَا يُدْفَعُ لَهُمْ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ جُرْحَةً فِي شَهَادَتِهِ وَإِمَامَتِهِ. إلَّا مَا فَضَلَ مِنْ غِذَائِهِمْ مِمَّا تَسْمَحُ بِهِ النُّفُوسُ غَالِبًا، وَإِلَّا مَا كَانَ مِنْ الْخِدْمَةِ مُعْتَادًا، وَخَفَّ بِحَيْثُ لَا يَشْغَلُ الْوَلَدَ فَيَجُوزُ، كَمَا يَجُوزُ تَرْكُ تَعْلِيمِهِمْ فِي نَحْوِ الْجُمَعِ وَالْأَعْيَادِ لِئَلَّا تَسْأَمَ أَنْفُسُهُمْ بِدَوَامِ التَّعْلِيمِ. وَلَمَّا كَانَتْ مُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ شَبِيهَةٌ بِمَسْأَلَةِ الْإِجَارَةِ عَلَى التَّعْلِيمِ لِلْقُرْآنِ عَلَى الْحُذَّاقِ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ إلَّا بِالتَّمَامِ ذَكَرَهَا عَقِبَهَا بِقَوْلِهِ: (وَمُشَارَطَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ جَائِزَةٌ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يَجُوزُ مُعَاقَدَةُ الطَّبِيبِ عَلَى الْبُرْءِ بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ لِلْمُتَعَاقِدَيْنِ، فَإِذَا بَرِئَ الْمَرِيضُ أَخَذَهَا الطَّبِيبُ، وَإِلَّا لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا، وَاتَّفَقَا عَلَى أَنَّ جَمِيعَ الدَّوَاءِ مِنْ عِنْدِ الْعَلِيلِ؛ لِأَنَّهُ يَجُوزُ كَوْنُهُ مِنْ عِنْدِ الطَّبِيبِ، عَلَى أَنَّهُ إنْ بَرِئَ الْعَلِيلُ يَدْفَعُ الْأُجْرَةَ وَثَمَنَ الدَّوَاءِ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ يَدْفَعُ لَهُ قِيمَةَ الدَّوَاءِ فَقَطْ، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ تِلْكَ الصُّورَةُ لِأَدَائِهَا إلَى اجْتِمَاعِ جُعْلٍ وَبَيْعٍ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُعَاقَدَةَ عَلَى حِفْظِ الْقُرْآنِ وَعَلَى الْبُرْءِ وَعَلَى اسْتِخْرَاجِ الْمَاءِ وَكِرَاءِ السَّفِينَةِ وَالْمُغَارَسَةِ وَهِيَ إعْطَاءُ الرَّجُلِ أَرْضَهُ لِمَنْ يَغْرِسُ فِيهَا شَيْئًا مِنْ الْأَشْجَارِ، وَإِذَا بَلَغَتْ حَدًّا مَعْرُوفًا تَصِيرُ الْأَرْضُ وَالْأَشْجَارُ بَيْنَهُمَا مُشَابِهَةً لِلْإِجَارَةِ وَالْجَعَالَةِ، وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْعَامِلُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا إلَّا بِتَمَامِ الْعَمَلِ شَابَهَتْ الْجَعَالَةَ، وَلَمَّا كَانَ إذَا تَرَكَ الْأَوَّلَ وَكَمَّلَ غَيْرُهُ الْعَمَلَ يَكُونُ لِلْأَوَّلِ بِحِسَابِهِ لَا بِنِسْبَةِ الثَّانِي شَابَهَتْ الْإِجَارَةَ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ النَّقْدِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِتَرَدُّدِ الْمَنْقُودِ بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَوْضُوعَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا إذَا تَعَاقَدَ عَلَى شَرْطِ حُصُولِ الْبُرْءِ. 1 - وَأَمَّا الِاسْتِئْجَارُ عَلَى الْمُدَاوَاةِ فِي زَمَنِ الْمَرَضِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَجُوزُ بِاتِّفَاقٍ، وَهُوَ اسْتِئْجَارُهُ عَلَى مُدَاوَاتِهِ مُدَّةً مَعْلُومَةً بِأُجْرَةٍ مَعْلُومَةٍ، فَإِنْ تَمَّتْ الْمُدَّةُ وَبَرِئَ أَوْ لَمْ يَبْرَأْ فَلَهُ الْأُجْرَةُ كُلُّهَا، وَإِنْ بَرِئَ فِي نِصْفِ الْأَجَلِ فَلَهُ نِصْفُ الْأُجْرَةِ وَالدَّوَاءِ مِنْ عِنْدِ الْعَلِيلِ، وَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ النَّقْدِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِاحْتِمَالِ الْبُرْءِ فِي أَثْنَاءِ الْمُدَّةِ فَتَكُونُ سَلَفًا. وَقِسْمَانِ فِيهِمَا خِلَافٌ. أَحَدُهُمَا أَنْ يُعَاقِدَهُ عَلَى أَنْ يُدَاوِيَهُ مُدَّةً مَعْلُومَةً وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا إلَّا أَنَّ الدَّوَاءَ مِنْ عِنْدِ الطَّبِيبِ فَقِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ؛ لِمَا فِيهَا مِنْ اجْتِمَاعِ الْجُعْلِ وَالْبَيْعِ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ يَقُولَ لَهُ: أَعَاقِدُك بِكَذَا عَلَى عِلَاجِ هَذَا الْمَرِيضِ حَتَّى يَبْرَأَ، فَإِنْ بَرِئَ كَانَ لَهُ الْجُعْلُ، وَإِنْ لَمْ يَبْرَأْ فَلَا شَيْءَ لَهُ وَيَكُونُ الدَّوَاءُ مِنْ عِنْدِ الطَّبِيبِ، فَقِيلَ يَجُوزُ، وَقِيلَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ الْغَرَرِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْإِجَارَةَ تَنْفَسِخُ بِتَعَذُّرِ الِاسْتِيفَاءِ مِنْ الذَّاتِ الْمُعَيَّنَةِ الَّتِي تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ دَابَّةً أَوْ دَارًا أَوْ شَخْصًا، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا إذَا حَصَلَ التَّعَذُّرُ مِنْ جَانِبِ الْمُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ مِنْ رَاكِبٍ أَوْ سَاكِنٍ أَوْ غَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُنْتَقَضُ) أَيْ لَا يَنْفَسِخُ عَقْدُ (الْكِرَاءِ بِمَوْتٍ) أَوْ تَعَذُّرِ (الرَّاكِبِ) لِدَابَّةٍ أَوْ سَفِينَةٍ (أَوْ السَّاكِنِ) الْمُكْتَرِي لِلدَّارِ وَنَحْوِهَا، وَلَوْ كَانَ الرَّاكِبُ عَرُوسًا يُزَفُّ عَلَى الْمَرْكُوبِ فِي زَمَنٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ، وَيَلْزَمُ وَارِثَ الْمَيِّتِ الْخَلَفُ أَوْ يَدْفَعُ جَمِيعَ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّ الرَّاكِبَ، وَمَنْ مَعَهُ مِمَّا يُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ، وَأَمَّا لَوْ اكْتَرَى الدَّابَّةَ لِيُزَفَّ عَلَيْهَا الْعَرُوسُ فِي زَمَنٍ مُعَيَّنٍ وَلَمْ يَحْصُلْ ذَلِكَ فَفِي الْمُتَيْطِيَّةِ: إنْ كَانَ التَّأْخِيرُ لِمَرَضٍ أَوْ عُذْرٍ لَمْ يَلْزَمْ كِرَاؤُهَا، وَإِنْ كَانَ التَّأْخِيرُ اخْتِيَارًا لَزِمَ الْكِرَاءُ، وَلِلْمُكْتَرِي أَنْ يُكْرِيَهَا فِي مِثْلِهِ. (وَلَا) يُنْتَقَضُ الْكِرَاءُ أَيْضًا (بِمَوْتِ غَنَمِ) أَيْ مَاشِيَةِ (الرِّعَايَةِ وَلْيَأْتِ) رَبُّهَا لِلرَّاعِي (بِمِثْلِهَا) ؛ لِأَنَّ الْغَنَمَ مِمَّا تُسْتَوْفَى بِهَا الْمَنْفَعَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ الْخَلَفِ سَوَاءٌ شَرَطَا ذَلِكَ عِنْدَ الْعَقْدِ أَمْ لَا، كَانَتْ الْغَنَمُ مُعَيَّنَةً أَمْ لَا، وَهُوَ كَذَلِكَ حَيْثُ وَقَعَتْ صَحِيحَةً، وَإِلَّا فَلَا. وَاعْلَمْ أَنَّ الْعَقْدَ عَلَى رِعَايَةِ نَحْوِ الْغَنَمِ فِيهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَتْ مُعَيَّنَةً لَا يَجُوزُ الْعَقْدُ عَلَى رِعَايَتِهَا إلَّا بِشَرْطِ أَنَّ كُلَّ مَا مَاتَ أَوْ سُرِقَ مِنْهَا يَخْلُفُهُ، فَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطَا الْخَلَفَ لَمْ يَجُزْ الْعَقْدُ وَتُفْسَخُ، وَإِنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا إلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ كَانَ لَهُ أَجْرُ مِثْلِهِ. وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ غَيْرَ مُعَيَّنَةٍ فَيَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى رَعْيِهَا وَلَمْ يُشْتَرَطْ الْخَلَفُ، وَيَلْزَمُ رَبَّهَا الْخَلَفُ أَوْ دَفْعُ جَمِيعِ الْكِرَاءِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْخَلَفَ وَاجِبٌ عَلَى رَبِّ الْغَنَمِ كَانَتْ مُعَيَّنَةً أَمْ لَا حَيْثُ كَانَتْ الْإِجَارَةُ صَحِيحَةً، فَإِنْ عُقِدَتْ عَلَى شَرْطِ الْخَلَفِ عِنْدَ تَعَيُّنِهَا أَوْ بِغَيْرِ الْخَلَفِ عِنْدَ عَدَمِ تَعَيُّنِهَا، فَإِنْ امْتَنَعَ رَبُّهَا مِنْ الْخَلَفِ لَزِمَهُ دَفْعُ جَمِيعِ الْكِرَاءِ، وَأَمَّا الْفَاسِدَةُ فَلَا يَلْزَمُ فِيهَا خَلَفٌ لِوُجُوبِ فَسْخِهَا، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِمِثْلِهَا أَنَّهُ لَوْ أَخْلَفَ الْغَنَمَ بِغَيْرِهَا كَبَقَرٍ أَوْ مَعْزٍ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ اسْتَأْجَرَهُ ابْتِدَاءً عَلَى رِعَايَةِ غَنَمٍ، وَأَتَى لَهُ بِمَعْزٍ لَا يَلْزَمُهُ؛ لِمَا فِي رَعْيِهَا مِنْ الْمَشَقَّةِ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ رَعْيُ أَوْلَادِ مَا اُسْتُؤْجِرَ عَلَى رَعْيِهِ إلَّا لِعُرْفٍ كَمَا هُوَ الْآنَ، وَحَيْثُ لَا عُرْفَ يَلْزَمُ رَبَّهَا الْإِتْيَانُ بِرَاعٍ لَهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَرْعَاهَا مَعَ الْأُمَّهَاتِ؛ لِأَنَّ رَعْيَ الْوَلَدِ مَعَ الْأُمِّ يُتْعِبُ رَاعِيَ الْأُمِّ لَا لِحُرْمَةِ التَّفْرِقَةِ لِاخْتِصَاصِهَا بِالْعَاقِلِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي الِاسْتِئْجَارِ عَلَى رِعَايَةِ عَدَدٍ مِنْ الْغَنَمِ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى رِعَايَةِ غَنَمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينِهَا وَلَا بَيَانِ عَدَدِهَا بِأَنْ قَالَ: أَسْتَأْجِرُك عَلَى أَنْ تَرْعَى لِي غَنَمًا، فَإِنَّ هَذَا الْعَقْدَ جَائِزٌ وَيَأْتِي لَهُ بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 كِرَاءً مَضْمُونًا فَمَاتَتْ الدَّابَّةُ فَلْيَأْتِ بِغَيْرِهَا. مَاتَ الرَّاكِبُ لِلدَّابَّةِ أَوْ السَّفِينَةِ وَإِنْ مَاتَ الرَّاكِبُ لَمْ يَنْفَسِخْ الْكِرَاءُ وَلْيَكْتَرُوا مَكَانَهُ غَيْرَهُ. وَمَنْ اكْتَرَى مَاعُونًا أَوْ غَيْرَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَلَاكِهِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ. وَالصُّنَّاعُ ضَامِنُونَ لِمَا غَابُوا عَلَيْهِ عَمِلُوهُ   [الفواكه الدواني] يَقْدِرُ عَلَى رَعْيِهِ؛ لِأَنَّهُ مَلَكَ جَمِيعَ مَنَافِعِهِ، وَلَيْسَ لِلرَّاعِي أَنْ يَرْعَى مَعَهَا غَيْرَهَا وَلَوْ قَدَرَ عَلَى ذَلِكَ، وَلَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ عَدَمَ رَعْيِ غَيْرِهَا، فَإِنْ فَعَلَ كَانَ الْأَجْرُ لِرَبِّ الْغَنَمِ، وَكَذَا لَوْ اسْتَأْجَرَهُ عَلَى رِعَايَةِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ، وَاشْتَرَطَ عَلَيْهِ أَنْ لَا يَرْعَى مَعَهَا غَيْرَهَا فَالشَّرْطُ لَازِمٌ، فَإِنْ خَالَفَ وَرَعَى مَعَهَا غَيْرَهَا فَالْأَجْرُ لِرَبِّ الْغَنَمِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِ فِي الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ عَدَمَ رَعْيِ غَيْرِهَا فَيَجُوزُ لَهُ إنْ كَانَ يَقْوَى عَلَى ذَلِكَ وَلَوْ بِشَرِيكٍ، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَيْسَ لِرَاعٍ رَعْيُ أُخْرَى إلَّا بِمُشَارِكٍ أَوْ ثِقَلٍ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ خِلَافَهُ، وَإِلَّا فَأَجْرُهُ لِمُسْتَأْجَرِهِ كَأَجِيرٍ لِخِدْمَةٍ آجَرَ نَفْسَهُ. الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِلرَّاعِي أَنْ يَأْتِيَ بِرَاعٍ بَدَلَهُ حَيْثُ كَانَ مُعَيَّنًا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ شَرَطَ ذَلِكَ أَوْ جَرَى بِهِ الْعُرْفُ فَيَجُوزُ كَمَا يَجُوزُ لِغَيْرِ الْمُعَيَّنِ. (تَتِمَّةٌ) . لَوْ مَاتَتْ الْغَنَمُ أَوْ سُرِقَتْ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِيمَا مَلَكَ مِنْ الْغَنَمِ وَلَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ الضَّمَانَ، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَنْ تَوَلَّى الْعَيْنَ الْمُؤَجَّرَةَ كَمُكْتَرِي الدَّابَّةِ أَوْ الْبَيْتِ، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يُوجِبُ الضَّمَانَ وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ بِيَمِينٍ، فِيمَا إذَا ذُبِحَ مِنْهَا شَيْئًا وَادَّعَى خَوْفَ مَوْتِهِ؛ لِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَذْبَحْهَا يَضْمَنُ حَيْثُ ظَهَرَ مِنْهُ تَفْرِيطٌ، وَالْكَلَامُ فِي الرَّاعِي الْمُكَلَّفِ وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَقْرَضَ أَوْ أَوْدَعَ صَبِيًّا أَوْ بَاعَهُ فَأَتْلَفَ لَمْ يَضْمَنْ، وَإِنْ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَقَالَ فِي مَحَلٍّ آخَرَ: وَضَمِنَ مَا أَفْسَدَ إنْ لَمْ يُؤْمَنْ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الِاسْتِئْجَارَ عَلَى الرِّعَايَةِ مُسْتَلْزِمٌ لِلتَّأْمِينِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ الْمُعَيَّنَةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ اكْتَرَى) دَابَّةً أَوْ سَفِينَةً (كِرَاءً مَضْمُونًا) ، وَهُوَ مَا لَمْ تُعَيَّنْ فِيهِ الدَّابَّةُ بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا مَعَ حُضُورِهَا بِأَنْ قَالَ: أَكَتْرِي مِنْك دَابَّةً أَوْ سَفِينَةً أَوْ دَابَّتَك أَوْ سَفِينَتَك، وَلَوْ كَانَتْ حَاضِرَةً بِالْمَجْلِسِ حَيْثُ لَمْ يُشِرْ إلَيْهَا وَلَوْ كَانَ يَعْرِفُهَا قَبْلَ ذَلِكَ، وَعَدَمُ اشْتِرَاطِ تَعَيُّنِهَا بِالْإِشَارَةِ إلَيْهَا لَا يُنَافِي وُجُوبَ بَيَانِ جِنْسِهَا وَنَوْعِهَا وَذُكُورَتِهَا وَأُنُوثَتِهَا حَتَّى يَصِحَّ الْعَقْدُ عَلَيْهَا (فَمَاتَتْ الدَّابَّةُ) الْمَضْمُونَةُ أَوْ انْكَسَرَتْ السَّفِينَةُ (فَلْيَأْتِ) الْمُكْرِي قَهْرًا عَلَيْهِ لِلْمُكْتَرِي (بِغَيْرِهَا) لِعَدَمِ فَسْخِ الْكِرَاءِ بِمَوْتِهِ غَيْرِ الْمُعَيَّنَةِ؛ لِأَنَّ الْمَنَافِعَ مُتَعَلِّقَةٌ بِذِمَّةِ الْمُكْرِي لَا بِعَيْنِ الْمَضْمُونَةِ، بِخِلَافِ الْمُعَيَّنَةِ فَإِنَّهَا كَالْأَجِيرِ الْمُعَيَّنِ يَنْفَسِخُ الْكِرَاءُ بِمَوْتِهِ، وَلَا يُقَالُ: الدَّابَّةُ تُسْتَوْفَى مِنْهَا الْمَنْفَعَةُ وَالْكِرَاءُ يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ مَا يُسْتَوْفَى مِنْهُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الِاسْتِيفَاءُ مِنْ نَوْعِهَا لَا مِنْ عَيْنِهَا وَشَخْصِهَا، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَوْنِ مَنْفَعَةِ الذَّاتِ الْمَضْمُونَةِ فِي الذِّمَّةِ وَكَوْنِ الْمُكْرِي إذَا أَتَى بِدَابَّةٍ لِلْمُكْتَرِي وَرَكِبَهَا لَا يُجْبَرُ عَلَى قَبُولِ غَيْرِهَا،؛ لِأَنَّهُ بِرُكُوبِهِ عَلَيْهَا اسْتَحَقَّ مَنْفَعَتَهَا، حَتَّى لَوْ فَلِسَ الْمُكْرِي بَعْدَ قَبْضِهَا يَكُونُ الْمُكْتَرِي أَحَقَّ بِهَا إلَى تَمَامِ الْمُدَّةِ لِصَيْرُورَتِهَا كَالْمُعَيَّنَةِ بِرُكُوبِهِ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ الرَّاكِبُ مِمَّا تُسْتَوْفَى بِهِ الْمَنْفَعَةُ وَالْإِجَارَةُ لَا تَنْفَسِخُ بِمَوْتِهِ قَالَ: (وَإِنْ مَاتَ الرَّاكِبُ) لِلدَّابَّةِ أَوْ السَّفِينَةِ (لَمْ يَنْفَسِخْ الْكِرَاءُ) بِمَوْتِهِ (وَلْيَكْتَرُوا) أَيْ وَرَثَةُ الرَّاكِبِ أَوْ الْحَاكِمُ إنْ لَمْ يَكُنْ وَرَثَةٌ (مَكَانَهُ غَيْرَهُ) مِمَّا هُوَ مُسَاوٍ لِلْمَيِّتِ أَوْ دُونَهُ، ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ مَاتَ الرَّاكِبُ إلَخْ مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ سَابِقًا: وَلَا يُنْتَقَضُ الْكِرَاءُ بِمَوْتِ الرَّاكِبِ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا ارْتَكَبَ ذَلِكَ لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: وَلْيَكْتَرُوا مَكَانَهُ غَيْرَهُ. (تَنْبِيهٌ) . لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ الرَّاكِبِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ تَعْيِينُهُ عِنْدَ عَقْدِ الْكِرَاءِ بَلْ يَصِحُّ عَقْدُ الْكِرَاءِ عَلَى حَمْلِ آدَمِيٍّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى حَمْلِ آدَمِيٍّ لَمْ يَرَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ الْفَادِحُ، وَهُوَ الْعَظِيمُ الثَّقِيلُ، وَمِثْلُهُ الْمَرِيضُ الْمَعْرُوفُ بِكَثْرَةِ النَّوْمِ أَوْ بِعَقْرِ الدَّوَابِّ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَقِيلًا، وَالْأُنْثَى لَيْسَتْ مِنْ الْفَادِحِ مُطْلَقًا، فَإِنْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى حَمْلِ آدَمِيٍّ وَأَتَاهُ بِامْرَأَةٍ لَزِمَهُ حَمْلُهَا حَيْثُ لَمْ تَكُنْ ثَقِيلَةً، بِخِلَافِ مَا لَوْ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى حَمْلِ رَجُلٍ فَأَتَى لَهُ بِامْرَأَةٍ فَلَهُ الِامْتِنَاعُ مِنْ حَمْلِهَا بِخِلَافِ عَكْسِهِ فِيمَا يَظْهَرُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا تَنْفَسِخُ الْإِجَارَةُ بِتَلَفِهِ، وَمَا لَا تَنْفَسِخُ بِتَلَفِهِ، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَضْمَنُهُ الْمُسْتَأْجِرُ عِنْدَ تَلَفِهِ، وَمَا لَا يَضْمَنُهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ اكْتَرَى مَاعُونًا) كَصَحْفَةٍ وَقِدْرٍ (أَوْ غَيْرِهِ) مِنْ سَائِرِ الْأَعْيَانِ الْمُكْتَرَاةِ فَهَلَكَ (فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي هَلَاكِهِ بِيَدِهِ، وَهُوَ مُصَدَّقٌ) فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ؛ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى مَا اسْتَأْجَرَهُ، وَإِنَّمَا يُصَدَّقُ بِيَمِينٍ إنْ كَانَ مِنْهُمَا، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِيَدِهِ عَمَّا لَوْ أَكْرَاهُ الْمُكْتَرِي لِغَيْرِهِ وَادَّعَى تَلَفَهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ إنْ أَكْرَاهُ لِغَيْرِ أَمِينٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَ إنْ أَكْرَى لِغَيْرِ أَمِينٍ أَوْ لِمَنْ هُوَ أَثْقَلُ مِنْهُ أَوْ أَضَرُّ أَوْ لِمَنْ هُوَ دُونَهُ فِي الْأَمَانَةِ، بِخِلَافِ لَوْ أَكْرَى لِمَنْ هُوَ مِثْلُهُ فِي الْأَمَانَةِ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَحُكْمُ الْإِقْدَامِ عَلَى إجَارَةِ الْمُسْتَأْجَرِ لِمَا اسْتَأْجَرَهُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُؤَجِّرِ الْجَوَازُ إنْ كَانَ دَارًا، وَالْمَنْعُ إنْ كَانَ ثَوْبًا، وَأَمَّا الدَّابَّةُ فَفِي إجَارَتِهَا لِلْغَيْرِ خِلَافٌ، وَقَيَّدَ الْمُصَنِّفُ تَصْدِيقَهُ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَتَبَيَّنَ كَذِبُهُ) فِي دَعْوَاهُ كَأَنْ يَقُولَ: هَلَكَتْ الدَّابَّةُ مَثَلًا فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ ثُمَّ تَشْهَدُ بَيِّنَةٌ بِرُؤْيَتِهَا عِنْدَهُ فِي آخِرِ الشَّهْرِ، أَوْ يَدَّعِي الْهَلَاكَ فِي مَحَلٍّ فَيُسْأَلُ أَهْلُهُ فَيُنْكِرُونَ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ وَيَضْمَنُ. 1 - وَإِذَا ادَّعَى الْمُكْتَرِي ضَيَاعَ الشَّيْءِ الْمُكْتَرَى قَبْلَ الِانْتِفَاعِ بِهِ لِيُسْقِطَ عَنْ نَفْسِهِ الْأُجْرَةَ لَا يُصَدَّقُ وَيَلْزَمُهُ الْكِرَاءُ، وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى مَا ادَّعَاهُ؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ قَدْ لَزِمَ ذِمَّتَهُ فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى الرَّاعِي وَعَلَى الْمُكْتَرِي التَّصْدِيقُ فِي الْهَلَاكِ أَوْ الضَّيَاعِ بَعْدَ حَلِفِ الْمُتَّهَمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ. وَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ. وَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ السَّفِينَةِ، وَلَا كِرَاءَ لَهُ إلَّا عَلَى الْبَلَاغِ. وَلَا   [الفواكه الدواني] دُونَ غَيْرِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الذَّاتِ الْمُكْتَرَاةِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهَا كَالثَّوْبِ وَالْوِعَاءِ أَوْ لَا يُغَابُ عَلَيْهَا كَالدَّابَّةِ. وَأَمَّا لَوْ ذَبَحَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا الذَّاتَ الَّتِي تَحْتَ يَدِهِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُصَدَّقُ الرَّاعِي فِي ذَبْحِهِ لِخَوْفِ مَوْتِ مَا ذَبَحَهُ، بِخِلَافِ الْمُكْتَرِي لِنَحْوِ ثَوْرٍ فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ أَنَّهُ ذَبَحَهُ لِخَوْفِ مَوْتِهِ إلَّا بِلَطْخٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَمِثْلُهُ الْمُسْتَعِيرُ وَالْمُرْتَهِنُ وَالشَّرِيكُ وَالْمُودَعُ، وَإِنْ كَانُوا يُصَدَّقُونَ فِي دَعْوَى التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الرَّاعِي مَعَ كَوْنِ الْجَمِيعِ مُؤْتَمَنِينَ تَعَذُّرُ الْإِشْهَادِ مِنْ الرَّاعِي غَالِبًا، بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ فَإِنَّهُمْ لَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِمْ فِي الْإِشْهَادِ غَالِبًا، وَأَحْرَى مِنْ هَؤُلَاءِ فِي الضَّمَانِ مَنْ مَرَّ عَلَى دَابَّةِ شَخْصٍ فَذَكَّاهَا، وَادَّعَى أَنَّهُ إنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ خَوْفَ مَوْتِهَا، أَوْ سَلَخَ دَابَّةَ غَيْرِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ وَجَدَهَا مَيِّتَةً فَلَا يُصَدَّقُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ أَوْ لَطْخٍ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ الذَّبْحَ مِنْ هَؤُلَاءِ حَتَّى مَاتَتْ الدَّابَّةُ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ عِنْدَهُ مَنْ يَشْهَدُ عَلَى ذَبْحِهَا خَوْفَ الْمَوْتِ، كَمَا يَضْمَنُ الرَّاعِي بِتَرْكِ ذَكَاتِهَا وَشَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ بِتَفْرِيطِهِ. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَنْ ذَكَرَ التَّلَفَ أَوْ الضَّيَاعَ، وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ دَعْوَاهُ رَدَّ الذَّاتَ مَعَ تَكْذِيبِ الْمَالِكِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى رَدِّهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ فَلَا يُصَدَّقُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الذَّاتُ يُقْبَلُ دَعْوَاهُ فِي تَلَفِهَا بِأَنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهَا كَالدَّابَّةِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَنْ قُبِلَ قَوْلُهُ فِي الضَّيَاعِ أَوْ التَّلَفِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَى مَنْ دُفِعَ إلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ أَخَذَ الذَّاتَ بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ، وَأَمَّا نَحْوُ الثَّوْبِ وَالْمَاعُونِ مِنْ كُلِّ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى رَدِّهِ، وَإِنْ كَانَ قَبَضَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ يَجْرِي فِي الْمُسْتَعِيرِ يَدَّعِي رَدَّ الْعَارِيَّةِ، وَفِي الصَّانِعِ يَدَّعِي رَدَّ الْمَصْنُوعِ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ يَدَّعِي رَدَّ الْوَدِيعَةِ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَوْ لِمَا يُغَابُ عَلَيْهِ حَيْثُ قَبَضَهُ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَغَيْرِهَا حَيْثُ خَفَّفَ فِيهَا وَشَدَّدَ فِي غَيْرِهَا مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ أَنَّ الْحِيَازَةَ فِي الْوَدِيعَةِ لِمَحْضِ حَقِّ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ غَيْرِهَا الْقَابِضُ لَهُ حَقٌّ فِي الْمَقْبُوضِ فِي الْجُمْلَةِ، هَكَذَا ظَهَرَ لَنَا فِي وَجْهِ الْفَرْقِ، وَلَمْ يَظْهَرْ الْفَرْقُ بِأَنَّ الْوَدِيعَةَ قُبِضَتْ عَلَى وَجْهِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا، وَهُوَ الشَّيْءُ الْمُكْتَرَى قُبِضَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الضَّمَانِ أَيْضًا. [تضمين الصناع] وَلَمَّا كَانَ الصَّانِعُ يُخَالِفُ نَحْوَ الرَّاعِي وَالْمُكْتَرِي أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالصُّنَّاعُ) جَمْعُ صَانِعٍ كَالْخَيَّاطِ وَالْقَزَّازِ وَالْكَاتِبِ (ضَامِنُونَ لِمَا غَابُوا عَلَيْهِ) مِنْ مَصْنُوعِهِمْ إذَا ادَّعَوْا ضَيَاعَهُ أَوْ تَلَفَهُ سَوَاءٌ (عَمِلُوهُ بِأَجْرٍ أَوْ بِغَيْرِ أَجْرٍ) صَنَعُوهُ فِي الْحَوَانِيتِ أَوْ الْبُيُوتِ، سَوَاءٌ تَلِفَ بِصُنْعِهِ أَوْ غَيْرِ صُنْعِهِ. وَلِضَمَانِ الصَّانِعِ شُرُوطٌ مِنْهَا: أَنْ يَنْصِبَ نَفْسَهُ لِلصَّنْعَةِ لِعَامَّةِ النَّاسِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى الصَّانِعِ الْخَاصِّ بِجَمَاعَةٍ. وَمِنْهَا: أَنْ يَغِيبَ عَلَى الذَّاتِ الْمَصْنُوعَةِ لَا إنْ صَنَعَهَا بِبَيْتِ رَبِّهَا وَلَوْ بِغَيْرِ حَضْرَتِهِ أَوْ بِحَضْرَتِهِ، وَلَوْ فِي مَحَلِّ الصَّانِعِ فَلَا ضَمَانَ. وَمِنْهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَصْنُوعُ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَكُونَ ثَوْبًا أَوْ حُلِيًّا، فَلَا ضَمَانَ عَلَى مُعَلِّمِ الْأَطْفَالِ أَوْ الْبَيْطَارِ إذَا ادَّعَى الْأَوَّلُ هُرُوبَ الْوَلَدِ وَالثَّانِي هُرُوبَ أَوْ تَلَفَ الدَّابَّةِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ فِي الصَّنْعَةِ تَغْرِيرٌ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ، كَنَقْشِ الْفُصُوصِ وَثَقْبِ اللُّؤْلُؤِ وَتَقْوِيمِ السُّيُوفِ وَحَرْقِ الْخُبْزِ عِنْدَ الْفَرَّانِ وَتَلَفِ الثَّوْبِ فِي قِدْرِ الصَّبَّاغِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ كَالْبَيْطَارِ يَطْرَحُ الدَّابَّةَ لِكَيِّهَا مَثَلًا فَتَمُوتَ، وَكَالْخَاتِنِ لِصَبِيٍّ يَمُوتُ عِنْدَ خَتْنِهِ، وَالطَّبِيبِ لِلْمَرِيضِ يَمُوتُ تَحْتَ يَدِهِ، وَالْحَاجِمِ يُسْتَأْجَرُ لِقَلْعِ الضِّرْسِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ لَا فِي مَالِهِ وَلَا عَلَى عَاقِلَتِهِ، حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ تَقْصِيرٌ وَلَا خَطَأٌ فِي الصَّنْعَةِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَلَكِنْ أَخْطَأَ فَخَطَؤُهُ عَلَى الْعَاقِلَةِ إنْ بَلَغَتْ الْجِنَايَةُ الثُّلُثَ، وَإِلَّا كَانَتْ فِي مَالِهِ، كَمَا لَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ وَغَرَّ مِنْ نَفْسِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَالْعُقُوبَةُ مِنْ الْإِمَامِ فِي بَدَنِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا تَقُومَ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ فَلَا ضَمَانَ، وَتَسْقُطُ الْأُجْرَةُ عَنْ رَبِّ الْمَصْنُوعِ حَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ فِي حِفْظِهِ. وَمِنْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الصَّانِعُ أَحْضَرَهُ لِرَبِّهِ مَصْنُوعًا عَلَى الصِّفَةِ الْمَطْلُوبَةِ وَيَتْرُكُهُ رَبُّهُ اخْتِيَارًا فَيَضِيعَ، وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ حَيْثُ كَانَ إحْضَارُهُ بَعْدَ دَفْعِ الْأُجْرَةِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْوَدِيعَةِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَحْضَرَهُ عَلَى غَيْرِ الصِّفَةِ أَوْ دَعَاهُ لِأَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ إحْضَارٍ أَوْ بَقَاءٍ عِنْدَهُ حَتَّى يَقْبِضَ الْأُجْرَةَ ثُمَّ يَدَّعِيَ ضَيَاعَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا مِنْ مَصْنُوعِهِمْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِهِ كَظَرْفِ الْمَصْنُوعِ، كَقُفَّةِ الطَّحِينِ وَجَفِيرِ السَّيْفِ يُدْفَعُ مَعَ السَّيْفِ لِإِصْلَاحِهِ ثُمَّ يَدَّعِي ضَيَاعَ مَا ذُكِرَ، فَيَضْمَنُ الْقَمْحَ وَالسَّيْفَ دُونَ الْقُفَّةِ وَالْجَفِيرِ وَلَوْ كَانَ الْمَصْنُوعُ يَحْتَاجُ إلَيْهِمَا، وَلَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا الَّذِي يَضْمَنُهُ الصَّانِعُ، وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ غَيْرَ مَصْنُوعٍ وَتُعْتَبَرُ يَوْمَ دَفْعِهِ لَهُ، وَلَوْ كَانَ الصَّانِعُ شَرَطَ عَلَى رَبِّهِ عَدَمَ ضَمَانِهِ عِنْدَ دَعْوَى ضَيَاعِهِ. (تَنْبِيهٌ) . اعْلَمْ أَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ ضَمَانِ الْأُجَرَاءِ؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَسْقَطَ عَنْهُمْ الضَّمَانَ، وَأَخْرَجَ إمَامُنَا مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْهُمْ الصُّنَّاعَ، وَقَالَ بِضَمَانِهِمْ وَعَدَمِ ائْتِمَانِهِمْ بِاجْتِهَادٍ مِنْهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَسَبَقَهُ إلَى تَضْمِينِهِمْ الْخُلَفَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فَقَضَوْا بِتَضْمِينِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ أَحَدٌ ذَلِكَ؛ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ ؛ لِأَنَّ غَالِبَ النَّاسِ يَضْطَرُّ إلَى الِاسْتِصْنَاعِ، فَلَوْ عَلِمَ الصُّنَّاعُ أَنَّهُمْ يُصَدَّقُونَ فِي دَعْوَى الضَّيَاعِ أَوْ التَّلَفِ أَوْ رَدِّ الْمَصْنُوعِ إلَى رَبِّهِ لَتَسَارَعُوا إلَى كُلِّ مَا يُدْفَعُ لَهُمْ لِيَصْنَعُوهُ، فَحَكَمَ هَؤُلَاءِ الْعُظَمَاءُ بِالضَّمَانِ لِتِلْكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْمَصْلَحَةِ، وَمِنْ مُرَاعَاةِ الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ أَيْضًا مَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ عَنْ مَالِكٍ مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الثُّلُثِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِإِصْلَاحِ الثُّلُثَيْنِ، وَمَحْمَلُهُ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّ الْجَمِيعَ مُفْسِدُونَ، وَلَا يَحْصُلُ انْزِجَارُهُمْ لَا بِحَبْسِهِمْ وَلَا بِضَرْبِهِمْ إلَّا بِقَتْلِ ثُلُثِهِمْ، هَذَا مَحَلُّ الْجَوَازِ إذْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَوَازِ قَتْلِ أَهْلِ الصَّلَاحِ لِإِصْلَاحِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ، وَاتَّضَحَ أَنَّ الْمُرَادَ يَجُوزُ قَتْلُ ثُلُثِ الْمُفْسِدِينَ؛ لِإِصْلَاحِ ثُلُثَيْهِمْ حَيْثُ تَوَقَّفَ الْإِصْلَاحُ عَلَى الْقَتْلِ، وَإِلَّا ارْتَكَبَ الْأَخَفَّ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا كَانَ الْحَارِسُ لِنَحْوِ حَمَّامٍ وَكَرْمٍ مُشْبِهًا لِلصَّانِعِ فِي دَاعِيَةِ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَكَانَ هَذَا يُوهِمُ ضَمَانَهُ رَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْحَمَّامِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ حَارِسَ الْحَمَّامِ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي الثِّيَابِ الَّتِي تَضِيعُ مِنْ الْحَمَّامِ وَلَوْ أَخَذَ عَلَى ذَلِكَ أُجْرَةً؛ لِأَنَّهُ أَجِيرٌ وَالْأَجِيرُ أَمِينٌ. وَظَاهِرُهُ أَنَّهُ يَأْخُذُ الْأُجْرَةَ وَلَوْ ضَاعَتْ الثِّيَابُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ الضَّمَانِ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَفْرِيطٌ، وَإِلَّا ضَمِنَ بِأَنْ يَقُولَ: جَاءَنِي إنْسَانٌ يُشْبِهُك فَدَفَعْت إلَيْهِ الثِّيَابَ، أَوْ قَالَ: أَخَذَ شَخْصٌ ثَوْبًا فَتَرَكْته لِظَنِّي أَنَّهُ الْمَالِكُ، وَمِثْلُ حَارِسِ الْحَمَّامِ غَيْرُهُ مِنْ حُرَّاسِ الْكُرُومِ وَالدُّورِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَارِسِ الْأَنْدَرِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْمَحْرُوسِ طَعَامًا أَوْ غَيْرَهُ مِمَّا يُعَابُ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَارِسُ أَجْنَبِيًّا أَوْ كَانَ هُوَ صَاحِبُ الْحَمَّامِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِصَاحِبِ الْحَمَّامِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ كَوْنُهُ الْحَارِسَ. وَاعْلَمْ أَنَّ مَحَلَّ عَدَمِ ضَمَانِ صَاحِبِ الْحَمَّامِ لِلثِّيَابِ إنْ لَمْ يَجْعَلْهَا رَبُّهَا رَهْنًا تَحِلُّ الْأُجْرَةُ، وَإِلَّا ضَمِنَهَا ضَمَانَ الرِّهَانِ، وَمَحَلُّ عَدَمِ ضَمَانِ الْحَارِسِ أَيْضًا أَلَّا يَكُونَ جُعِلَ حَارِسًا لِاتِّقَاءِ شَرِّهِ؛ لِكَوْنِهِ مَعْرُوفًا بِالسَّرِقَةِ وَالْخِيَانَةِ، وَإِلَّا ضَمِنَ مَا يَدَّعِي ضَيَاعَهُ مِمَّا هُوَ تَحْتَ يَدِهِ، وَأُمِنَ عَلَيْهِ كَمَا صَرَّحَ بِذَلِكَ أَبُو الْحَسَنِ، وَمِمَّا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِمْ الْخُفَرَاءُ فِي الْحَارَاتِ وَالْأَسْوَاقِ وَلَوْ كَتَبَ عَلَيْهِمْ حُجَّةً بِضَمَانِ مَا يَضِيعُ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْتِزَامِ مَا لَا يَلْزَمُ، وَهُوَ لَا يَلْزَمُ، بِخِلَافِ الْتِزَامِ أَمْرٍ مَنْدُوبٍ كَالْتِزَامِ التَّصَدُّقِ بِشَيْءٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِصِيغَةِ النَّذْرِ كَقَوْلِهِ: لِلَّهِ عَلَيَّ التَّصَدُّقُ عَلَى زَيْدٍ بِكَذَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ؛ لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ الْتَزَمَ مَعْرُوفًا لَزِمَهُ أَيْ لَزِمَهُ الْوَفَاءُ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا تَفْرِيطَ، وَإِلَّا ضَمِنُوا كَسَائِرِ الْأُمَنَاءِ. هَذَا قَوْلٌ مِنْ كَلَامِ جَدِّ الْأُجْهُورِيِّ وَبَعْضُهُ بِالتَّصْرِيحِ، وَأَمَّا نَفْسُ الْأُجْهُورِيِّ فَكَانَ يُقَرِّرُ فِي الْمَحَافِلِ مَا نَقَلَهُ الْعَلَّامَةُ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ مِنْ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْعَامَّةَ الْآنَ تَضَمُّنُ الْخُفَرَاءِ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ فِي شَرْحِهِ. (تَنْبِيهٌ) . حَارِسُ الْحَمَّامِ وَنَحْوِهِ فِي عَدَمِ ضَمَانِهِ حَارِسُ الْأَجِيرِ الَّذِي تَحْتَ يَدِ الصَّانِعِ، وَكَذَلِكَ الدَّلَّالُ تُعْطَى لَهُ الثِّيَابُ يَطُوفُ بِهَا فَتَضِيعُ مِنْهُ أَوْ ثَمَنُهَا بَعْدَ بَيْعِهَا حَيْثُ كَانَ مَشْهُورًا بِالصَّلَاحِ. وَأَمَّا الْجَالِسُ فِي الْحَانُوتِ وَتُوضَعُ عِنْدَهُ الْأَمْتِعَةُ لِلْبَيْعِ فَهَذَا كَالصَّانِعِ يَضْمَنُ، وَكَذَا غَيْرُهُ مِمَّا نَصَبَ نَفْسَهُ لِأَمْتِعَةِ النَّاسِ. (خَاتِمَةٌ حَسَنَةٌ) . كُلُّ مَنْ قِيلَ بِضَمَانِهِ مِنْ صَانِعٍ مُطْلَقًا أَوْ حَارِسٍ لِتَفْرِيطِهِ، إذَا غَرِمَ قِيمَةَ مَا ضَمِنَهُ ثُمَّ وُجِدَ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ لَا لِصَاحِبِهِ، وَمِثْلُهَا الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَرِقَةُ شَيْءٍ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهُ ثُمَّ يُوجَدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ إلَّا أَنْ يُوجَدَ عِنْدَهُ، وَمِثْلُ مَنْ ذَكَرَ الْمُسْتَعِيرُ يَدَّعِي ضَمَانَ مَا اسْتَعَارَ مِمَّا غَابَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ إذَا غَرِمَ قِيمَتَهُ وَوَجَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ، وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي الْجَمِيعِ أَنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ وَيَمْلِكُهُ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِهِ، كَالْغَاصِبِ يَغْرَمُ قِيمَةَ الْمَغْصُوبِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُهُ. (وَلَا) ضَمَانَ أَيْضًا (عَلَى صَاحِبِ السَّفِينَةِ) وَلَا النُّوتِيِّ الَّذِي يَخْدُمُ فِيهَا فَلَا مَفْهُومَ لِصَاحِبِهَا، وَالْمُرَادُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ مَا كَانَ فِيهَا مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ إذَا غَرِقَتْ بِفِعْلٍ سَائِغٍ فِعْلُهُ فِيهَا مِنْ عِلَاجٍ أَوْ مَوْجٍ أَوْ رِيحٍ، وَأَمَّا إنْ غَرِقَتْ بِفِعْلٍ غَيْرِ سَائِغٍ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ الْمَالَ. وَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ الدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يَقْصِدْ قَتْلَ الْأَنْفُسِ، وَإِلَّا قُتِلَ بِهِمْ، وَلَمَّا كَانَ كِرَاءُ السَّفِينَةِ شَبِيهًا بِالْجُعْلِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِوَضِ قَالَ: (وَلَا كِرَاءَ لَهُ) أَيْ لِصَاحِبِ السَّفِينَةِ مُسْتَحَقٌّ (إلَّا عَلَى الْبَلَاغِ) فَإِذَا غَرِقَتْ فِي أَثْنَاءِ الطَّرِيقِ وَغَرِقَ جَمِيعُ مَا فِيهَا مِنْ طَعَامٍ وَغَيْرِهِ فَلَا كِرَاءَ لِرَبِّهَا، وَهَذَا قَوْلُ مَالِكٍ. وَوَجْهُهُ أَنَّ الْإِجَارَةَ فِي السُّفُنِ جَارِيَةٌ مَجْرَى الْجُعْلِ، فَإِذَا لَمْ يَحْصُلْ الْغَرَضُ الْمَطْلُوبُ لَمْ يَسْتَحِقَّ الْعِوَضَ، وَقَوْلُنَا غَرِقَ جَمِيعُ مَا فِيهَا احْتِرَازٌ عَنْ غَرَقِ بَعْضِهِ وَسَلَامَةِ الْبَعْضِ الْآخَرِ، وَاسْتَأْجَرَ عَلَيْهِ رَبُّهُ، فَإِنَّ لِلْأَوَّلِ كِرَاءَ مَا بَقِيَ إلَى مَحَلِّ الْغَرَقِ عَلَى حِسَابِ الْكِرَاءِ الْأَوَّلِ لَا بِنِسْبَةِ الثَّانِي وَلَيْسَ لَهُ كِرَاءُ مَا ذَهَبَ بِالْغَرَقِ. وَأَمَّا لَوْ غَرِقَتْ بَعْدَ وُصُولِهَا إلَى الْمَحَلِّ الْمَخْصُوصِ فَإِنْ كَانَ الْغَرَقُ بَعْدَ تَمَكُّنِ رَبِّ الشَّيْءِ مِنْ إخْرَاجِ مَا فِيهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ وَإِلَّا لَمْ يَلْزَمْهُ بِشَيْءٍ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: وَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ بَعْضِ مَشَايِخِ مَشَايِخِنَا فِي أَمْرَيْنِ. أَحَدُهُمَا: إذَا اكْتَرَى شَخْصٌ سَفِينَةً لِمَحَلٍّ مُعَيَّنٍ وَخَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ الْوُصُولِ إلَيْهِ اخْتِيَارًا وَاسْتَظْهَرَ أَنْ يَلْزَمَهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ؛ لِأَنَّهُ عَقْدٌ لَازِمٌ، كَمَنْ اكْتَرَى دَابَّةً لِمَحَلٍّ وَتَرَكَ رُكُوبَهَا قَبْلَ وُصُولِهِ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ جَمِيعُ الْكِرَاءِ، وَأَمَّا لَوْ خَرَجَ مِنْهَا قَبْلَ الْوُصُولِ قَهْرًا بِأَنْ غَرِقَتْ وَانْتَقَلَ لِسَفِينَةٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ مِنْ الْكِرَاءِ حِصَّةُ مَا رَكِبَ، وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ أَيْضًا إذَا وَحَلَتْ مَثَلًا وَخَرَجَ مِنْهَا ثُمَّ تَخَلَّصَتْ بَعْدَ ذَلِكَ فَهَلْ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ لَهَا كَمَرَضِ عَبْدٍ مُسْتَأْجَرٍ أَوْ دَابَّةٍ فِي مُدَّةِ الْإِجَارَةِ ثُمَّ يَصِحَّانِ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الرُّجُوعُ حَيْثُ كَانَ فِي الْحَضَرِ، أَوْ لَا يَلْزَمُ كَمَرَضِهِمَا وَعَوْدِهِمَا فِي زَمَنِ السَّفَرِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهَا كَهُمَا فِي السَّفَرِ؛ لِوُجُودِ الْعِلَّةِ وَهِيَ مَشَقَّةُ الصَّبْرِ لِانْتِظَارِ صِحَّةِ الْعَبْدِ وَالدَّابَّةِ فِي السَّفَرِ. 1 - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ وَلَا خَلِيلٌ حُكْمَ مَا لَوْ خِيفَ عَلَى الْمَرْكَبِ الْغَرَقُ مِنْ كَثْرَةِ مَا فِيهَا وَتَعَذَّرَ الْوُصُولُ إلَى الْبَرِّ، وَالْحُكْمُ كَمَا قَالَ فِي الشَّامِلِ: أَنَّهُ تَجِبُ الْمُبَادَرَةُ إلَى رَمْيِ مَا ثَقُلَ وَخَفَّتْ قِيمَتُهُ، وَعِنْدَ تَقَارُبِ الْقِيمَةِ يُرْمَى الْأَثْقَلُ وَيُبْدَأُ بِرَمْيِ الْأَمْتِعَةِ عَلَى رَمْيِ النُّفُوسِ الْمَعْصُومَةِ، وَقَدْ نَظَمَ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ مَعَ زِيَادَةٍ فَقَالَ: إذَا مَرْكَبٌ قَدْ خِيفَ مِنْ حَمْلِهَا الْعَطَبْ ... فَطَرْحُ ثَقِيلٍ عِوَضُهُ قَلَّ قَدْ وَجَبْ كَأَثْقَلِ مَحْمُولَيْنِ فِي الْعِوَضِ عَنْهُمَا ... مُقَارَبَةً فَافْهَمْ وُقِيتَ مِنْ الرِّيَبْ وَإِنْ يَتَسَاوَى ثِقَلُ أَحْمَالِ حَمْلِهَا ... بِقُرْعَةٍ اطْرَحْ مَا بَقَّاهُ بِهِ الْعَطَبْ وَوُزِّعَ مَطْرُوحٌ عَلَى مَا بِهَا بَقِيَ ... لِتَجْرٍ فَقَطْ لَا اللَّذِّ لِقُنْيَةٍ انْتَسَبْ وَهَلْ ذَا عَلَى عِوَضٍ لِبَاقٍ أَوَ أَنَّهُ ... عَلَى قِيمَةِ الْبَاقِي خِلَافٌ بِلَا نَصَبْ وَهَلْ بِمَحَلِّ الطَّرْحِ أَوْ بِمَكَانِ مَا ... بَدَأْت بِهِ سَيْرًا أَوْ اللَّذِّ لَهُ ذَهَبْ أَوْ اُنْظُرْ لَهَا لَكِنْ بِأَقْرَبِ مَوْضِعٍ ... لِمَوْضِعِ طَرْحٍ فَهِيَ خَمْسٌ لِمَنْ حَسَبْ وَإِنْ حَمْلُهَا مِنْ آدَمِيِّينَ فَاطْرَحَنَّ ... بِمَا طَرْحُهُ تَنْجُو بِهِ مِنْ أَذَى الْعَطَبْ وَذَا بِاقْتِرَاعٍ وَالرَّقِيقَ وَكَافِرًا ... وَأُنْثَى وَضِدَّ الْكُلِّ سَوِّ وَلَا عَجَبْ (خَاتِمَةٌ) مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ يَحْتَاجُ لَهُمَا الطَّالِبُ: إحْدَاهُمَا الْإِجَارَةُ عَلَى قِسْمَيْنِ: وَجِيبَةٌ وَغَيْرُهَا، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالْمُشَاهَرَةِ كَكُلِّ شَهْرٍ بِكَذَا، أَوْ الْمُسَانَاةِ كَكُلِّ سَنَةٍ بِكَذَا، وَحَقِيقَةُ الْوَجِيبَةِ الْمُدَّةُ الْمَحْسُودَةُ كَأَسْتَأْجِرُهَا السَّنَةَ الْفُلَانِيَّةَ أَوْ الشَّهْرَ الْفُلَانِيَّ، أَوْ أَسْتَأْجِرُهَا عَقْدًا وَلَمْ يَأْتِ فِي عَقْدِهَا بِلَفْظِ كُلَّ سَنَةٍ أَوْ شَهْرٍ، وَالْوَجِيبَةُ تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْعَقْدِ وَلَا يَتَوَقَّفُ لُزُومُهَا عَلَى نَقْدِ الْأُجْرَةِ، وَغَيْرِهَا لَا يَلْزَمُ الْعَقْدُ إلَّا بِنَقْدِ الْكِرَاءِ فَيَلْزَمُ بِقَدْرِ مَا نُقِدَ. ثَانِيَتُهُمَا: عَقْدُ الْإِجَارَةِ اللَّازِمِ لَا يَنْفَسِخُ بِمَوْتِ أَحَدِ الْمُتَعَاقِدَيْنِ وَلَا بِمَوْتِهِمَا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَجِّرُ مُسْتَحِقًّا لِوَقْفٍ وَأَكْرَاهُ مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً وَيَمُوتُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنَّ لِمَنْ اسْتَحَقَّ الْوَقْفَ بَعْدَهُ فَسْخَهَا. وَمِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِ شَخْصِ طَبَقَةً بَعْدَ طَبَقَةٍ، أَوْ عَلَى زَيْدٍ وَبَعْدَهُ عَلَى عَمْرٍو، ثُمَّ يُؤَجِّرُهُ أَهْلُ الطَّبَقَةِ الْأُولَى أَوْ زَيْدٌ مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً ثُمَّ يَمُوتُ الْمُؤَجِّرُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا، فَإِنَّ لِمَنْ انْتَقَلَ الْحَقَّ لَهُ فَسْخُ تِلْكَ الْإِجَارَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ الْمُقَرَّرُ فِي رِزْقِهِ يُؤَجِّرُهَا مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً وَيَمُوتُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَإِنَّ لِمَنْ يُقَرِّرُهُ نَائِبُ السُّلْطَانِ بَعْدَهُ فَسْخَهَا. وَأَمَّا إجَارَةُ النَّاظِرِ لِوَقْفٍ مُدَّةً مُسْتَقْبَلَةً وَيَمُوتُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَيْسَ لِمَنْ تُوُفِّيَ نَاظِرًا بَعْدَهُ فَسْخُ تِلْكَ الْإِجَارَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ النَّاظِرُ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْتَحِقِّينَ. [بَاب الشَّرِكَة] [حُكْم الشَّرِكَة وَأَرْكَانهَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ بَيْعِ الذَّوَاتِ وَالْمَنَافِعِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الشَّرِكَةِ، وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الِاخْتِلَاطُ وَالِامْتِزَاجُ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ تَنْقَسِمُ إلَى شَرِكَةٍ عَامَّةٍ وَخَاصَّةٍ، فَالْعَامَّةُ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: تَقَرُّرُ مُتَمَوَّلٍ بَيْنَ مَالِكَيْنِ فَأَكْثَرَ مِلْكًا فَقَطْ، فَتَدْخُلُ شَرِكَةُ الْإِرْثِ وَالْغَنِيمَةِ وَالشَّرِكَةِ فِي بَقَرَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ مُتَّخَذٌ لِلْقُنْيَةِ، وَتَدْخُلُ شَرِكَةُ التَّجْرِ كَمَا يَخْرُجُ مَا تَقَرَّرَ بَيْنَ شَخْصَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ وَلَيْسَ بِمُتَمَوَّلٍ كَثُبُوتِ النَّسَبِ بَيْنَ جَمَاعَةٍ وَخَرَجَ بِمَلَكَا فَقَطْ تَقْرِيرُ جَمَاعَةٍ فِي انْتِفَاعٍ بِوَقْفٍ، وَالْخَاصَّةُ عَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: بَيْعُ مَالِكٍ كُلَّ بَعْضِهِ بِبَعْضِ كُلِّ الْآخَرِ مُوجِبٌ صِحَّةَ تَصَرُّفِهِمَا فِي الْجَمِيعِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ هَذِهِ أَخَصَّ؛ لِأَنَّهَا تَزِيدُ عَلَى تَقَرُّرِ الْمُتَمَوَّلِ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ جَوَازَ التَّصَرُّفِ، فَتَخْرُجُ شَرِكَةُ الْإِرْثِ وَالْغَنِيمَةِ، وَشَرِكَةٌ فِي نَحْوِ بَقَرَةٍ أَوْ بَيْتِ الْقُنْيَةِ لِتَوَقُّفِ التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الِانْتِفَاعِ عَلَى إذْنِ الشَّرِيكِ، وَتَدْخُلُ شَرِكَةُ الْأَبْدَانِ وَالْحَرْثِ بِاعْتِبَارِ الْعَمَلِ لِجَوَازِ التَّصَرُّفِ، وَمُوجِبٌ بِالرَّفْعِ صِفَةٌ لِبَيْعٍ وَصِحَّةٌ مَفْعُولُ مُوجِبٍ، وَضَمِيرُ تَصَرُّفِهِمَا عَائِدٌ عَلَى الْمَالِكَيْنِ، وَهِيَ جَائِزَةٌ كِتَابًا وَسُنَّةً، وَإِجْمَاعًا، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ - تَعَالَى -: {فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ} [الكهف: 19] بِنَاءً عَلَى أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا حَيْثُ لَا نَاسِخَ، وَأَمَّا السُّنَّةُ «فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا ثَالِثُ الشَّرِيكَيْنِ مَا لَمْ يَخُنْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَإِذَا خَانَهُ خَرَجْتُ مِنْ بَيْنِهِمَا» وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهَا، وَالْمُصَنِّفُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِشَرِكَةِ التَّجْرِ. 1 - وَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ: الْعَاقِدَانِ، وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمَالُ فِي شَرِكَةِ التَّجْرِ، وَالْعَمَلُ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَالصِّيغَةُ. 1 - فَشَرْطُ الْعَاقِدِ أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ وَكِيلٌ، وَمُوَكِّلٌ، فَيُشْتَرَطُ فِي كُلٍّ الْبُلُوغُ وَالرُّشْدُ، فَلَا تَصِحُّ شَرِكَةُ عَبْدٍ غَيْرِ مَأْذُونٍ، وَلَا صَبِيٍّ وَلَا سَفِيهٍ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ وَابْنِ الْحَاجِبِ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَوَكُّلِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ اللَّخْمِيُّ وَغَيْرُهُ، خِلَافًا لِابْنِ رُشْدٍ الْقَائِلِ بِالصِّحَّةِ؛ لِأَنَّا نَشْتَرِطُ وُجُودَ شَرْطِ صِحَّةِ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ مَعًا فِي الشَّرِكَةِ، وَلِذَلِكَ أَوْرَدُوا عَلَى كَلَامِهِمَا شَرِكَةَ الْعَدُوِّ لِعَدُوِّهِ، وَشَرِكَةَ الذِّمِّيِّ لِمُسْلِمٍ لِصِحَّةِ شَرِكَتِهِمَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ بِالْأَبْدَانِ إذَا عَمِلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ عَمَلًا وَاحِدًا أَوْ مُتَقَارِبًا. وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ عَلَى أَنْ يَكُونَ   [الفواكه الدواني] مَعَ عَدَمِ صِحَّةِ تَوَكُّلِ الْعَدُوِّ عَلَى عَدُوِّهِ، وَالْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ، لَكِنْ جَوَازُهَا فِي الْأَوَّلِ بِلَا قَيْدٍ، وَفِي الثَّانِي بِقَيْدِ حُضُورِ الْمُسْلِمِ لِتَصَرُّفِ الْكَافِرِ، وَأَمَّا مَعَ غَيْبَتِهِ عَنْهُ وَقْتَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَلَا تَجُوزُ ابْتِدَاءً وَتَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ إنْ حَصَلَ لِلْمُسْلِمِ شَكٌّ فِي عَمَلِ الذِّمِّيِّ بِالرِّبَا اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالرِّبْحِ، وَإِنْ شَكَّ فِي عَمَلِهِ بِالْخَمْرِ اُسْتُحِبَّ لَهُ التَّصَدُّقُ بِالْجَمِيعِ، وَإِنْ عَلِمَ السَّلَامَةَ مِنْ ذَلِكَ فَلَا. وَشَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ التَّسَاوِي فِي الصَّرْفِ وَالْقِيمَةِ إنْ وَقَعَتْ بِذَهَبَيْنِ أَوْ وَرِقَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِذَهَبَيْنِ أَوْ وَرِقَيْنِ اتَّفَقَ صَرْفُهُمَا وَبِهِمَا مِنْهُمَا وَبِعَيْنٍ وَبِعَرَضٍ وَبِعَرَضَيْنِ مُطْلَقًا وَكُلٌّ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ أَحْضَرَ لَا فَاتَ إنْ صَحَّتْ، وَأَمَّا فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَالْعَمَلِ فَالشَّرْطُ التَّسَاوِي أَوْ التَّقَارُبُ فِي الْعَمَلِ كَمَا يَأْتِي، وَأَمَّا الصِّيغَةُ فَهِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا عُرْفًا مِنْ قَوْلٍ كَاشْتَرَكْنَا، أَوْ فِعْلٍ كَخَلْطِ الْمَالَيْنِ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ وَتَلْزَمُ بِالْقَوْلِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا الضَّمَانُ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى خَلْطِ الْمَالَيْنِ وَلَوْ حُكْمًا. 1 - وَنَوَّعَهَا الْفُقَهَاءُ إلَى شَرِكَةِ أَبْدَانٍ، وَيُقَالُ لَهَا شَرِكَةُ الْعَمَلِ، وَشَرِكَةُ مُفَاوَضَةٍ، وَشَرِكَةُ عِنَانٍ، وَشَرِكَةُ جَبْرٍ، وَشَرِكَةُ ذِمَمٍ، وَيُقَالُ لَهَا شَرِكَةُ وُجُوهٍ، وَبَدَأَ بِشَرِكَةِ الْأَبْدَانِ وَلَمْ أَقِفْ عَلَى حَدِّهَا لِأَحَدٍ، وَيُمْكِنُ رَسْمُهَا بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ بِأَنَّهَا: اتِّفَاقُ شَخْصَيْنِ فَأَكْثَرَ مُتَّحِدِي الصَّنْعَةِ أَوْ مُتَقَارِبِيهَا عَلَى الْعَمَلِ، وَمَا يَحْصُلُ يَكُونُ عَلَى حَسَبِ الْعَمَلِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالشَّرِكَةِ بِالْأَبْدَانِ) أَيْ تَجُوزُ جَوَازًا مُسْتَوِيًا بِشُرُوطٍ أَشَارَ إلَى بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ: (إذَا عَمِلَا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ) هَكَذَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ تَبَعًا لِلْمُدَوَّنَةِ. وَفِي خَلِيلٍ جَوَازُهَا، وَإِنْ بِمَكَانَيْنِ عَلَى مَا فِي الْعُتْبِيَّةِ، وَوَفَّقَ الْأَشْيَاخُ بَيْنَ الْكِتَابَيْنِ بِحَمْلِ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتَّحِدْ النَّفَاقُ فِي الْمَكَانَيْنِ، وَالْعَيْبِيَّةُ عَلَى الِاتِّحَادِ، وَمِنْ شُرُوطِهَا أَيْضًا أَنْ يَعْمَلَا: (عَمَلًا وَاحِدًا) بِأَنْ تَكُونَ صَنْعَتُهُمَا مُتَّفِقَةً كَحَدَّادِينَ أَوْ نَجَّارِينَ أَوْ خَيَّاطِينَ، لَا إنْ اخْتَلَفَ اخْتِلَافًا بَعِيدًا كَحَدَّادٍ وَخَيَّاطٍ فَلَا يَجُوزُ لِاحْتِمَالِ رَوَاجِ صَنْعَةِ أَحَدِهِمَا دُونَ الْآخَرِ فَيَأْكُلُ أَحَدُهُمَا اسْتِحْقَاقَ الْآخَرِ. (أَوْ) يَكُونُ عَمَلُهَا (مُتَقَارِبًا) كَمَا إذَا كَانَ أَحَدُهُمَا يُجَهِّزُ الدَّقِيقَ وَالْآخَرُ يَعْجِنُ أَوْ يَخْبِزُ، أَوْ أَحَدُهُمَا يُحَوِّلُ وَالْآخَرُ يَنْسِجُ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ: وَجَازَتْ بِالْعَمَلِ إذَا اتَّحَدَ أَوْ تَلَازَمَ وَتَسَاوَيَا فِيهِ أَوْ تَقَارَبَا وَحَصَلَ التَّعَاوُنُ، وَإِنْ بِمَكَانَيْنِ، وَمَعْنَى التَّسَاوِي فِي الْعَمَلِ أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ عَمَلِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ أَحَدُهُمَا الثُّلُثَ وَالْآخَرُ الثُّلُثَيْنِ وَيَسْتَوِيَا فِي الْحَاصِلِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَكُونَ عَمَلُ كُلٍّ مُسَاوِيًا لِعَمَلِ الْآخَرِ، وَبَقِيَ مِنْ الشُّرُوطِ أَيْضًا الِاشْتِرَاكُ فِي الْآلَةِ إمَّا بِمِلْكٍ أَوْ اكْتِرَاءٍ مِنْ الْغَيْرِ. وَأَمَّا لَوْ خَرَّجَ كُلٌّ آلَةً أَوْ كَانَتْ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا وَآجَرَ شَرِيكُهُ نِصْفَهَا فَقِيلَ تَجُوزُ، وَقِيلَ لَا تَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَتَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ مِنْ الْخِلَافِ، وَيَدْخُلُ فِي الْعَمَلِ الطِّبُّ وَالصَّيْدُ وَالْحَفْرُ فِي الْمَعَادِنِ وَعَمَلِ الْآجُرِّ، وَتَدْخُلُ فِيهِ أَيْضًا قِرَاءَةُ الْأَطْفَالِ حَيْثُ كَانَ كُلٌّ يُحَفِّظُ الْقُرْآنَ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي شَرِكَةِ شَخْصَيْنِ يُعَلِّمُ أَحَدُهُمَا مَنْ يَقْرَأُ فِي النِّصْفِ الْفَوْقَانِيِّ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَحْفَظُ إلَّا هُوَ، وَالْآخَرُ يُعَلِّمُ مَنْ يَقْرَأُ فِي النِّصْفِ الْآخَرِ؛ لِكَوْنِهِ لَا يَحْفَظُ سِوَاهُ، فَقَالَ بَعْضُ شُيُوخِ ابْنِ نَاجِي بِعَدَمِ الْجَوَازِ وَاسْتَصْوَبَ هُوَ، بِخِلَافِ كَلَامِ شَيْخِهِ قَائِلًا: وَفِيهِ نَظَرٌ، وَالصَّوَابُ عِنْدِي الْجَوَازُ. قَالَ بَعْضُ شُيُوخِنَا: وَهُوَ وَاضِحٌ مَعَ وُجُودِ مَنْ يَقْرَأُ مِنْ الْأَعْلَى وَمَنْ يَقْرَأُ مِنْ الْأَسْفَلِ لِحُصُولِ التَّعَاوُنِ. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اُخْتُلِفَ فِي شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ هَلْ تَقَعُ لَازِمَةً بِمُجَرَّدِ عَقْدِهَا أَوْ لَا تَلْزَمُ إلَّا بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَكَمَا تُسَمَّى شَرِكَةَ أَبْدَانٍ تُسَمَّى شَرِكَةَ عَمَلٍ، وَوَجْهُ تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ عَدَمُ تَوَقُّفِهَا عَلَى الْمَالِ غَالِبًا فَلَمْ يَبْقَ إلَّا عَمَلُ الْبَدَنِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْعَمَلِ مُدَّةً لِمَرَضِ صَاحِبِهِ أَوْ غَيْبَتِهِ، وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأُلْغِيَ مَرَضٌ كَيَوْمَيْنِ وَغَيْبَتُهُمَا لَا إنْ كَثُرَ، فَفِي مَرَضِ الْيَوْمَيْنِ أَوْ غَيْبَتِهِمَا يُقْسَمُ الْحَاصِلُ مِنْ عَمَلِ أَحَدِهِمَا بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا عِنْدَ طُولِ الْمَرَضِ أَوْ الْغَيْبَةِ فَلَا إلْغَاءَ، وَحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الَّذِي عَمِلَ عَلَى مَنْ مَرِضَ أَوْ غَابَ أَكْثَرَ مِنْ يَوْمَيْنِ بِنِصْفِ أُجْرَةِ مِثْلِهِ فِيمَا عَمِلَهُ، وَالْأُجْرَةُ الْمُتَحَصِّلَةُ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا. (مِثَالٌ يُوَضِّحُ ذَلِكَ) لَوْ عَاقَدَ شَخْصًا عَلَى خِيَاطَةِ ثَوْبٍ مَثَلًا بِعَشَرَةِ دَرَاهِمَ، وَغَابَ أَحَدُهُمَا أَوْ مَرِضَ زَمَنًا طَوِيلًا فَخَاطَهُ الْآخَرُ فَإِنَّ الْعَشَرَةَ تُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، وَيُقَالُ مَا أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي خِيَاطَةِ هَذَا الثَّوْبِ؟ فَإِذَا قِيلَ أَرْبَعَةُ دَرَاهِمَ مَثَلًا رَجَعَ الَّذِي صَنَعَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِدِرْهَمَيْنِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى شَرِكَةِ الْأَبْدَانِ شَرَعَ فِي شَرِكَةِ الْأَمْوَالِ بِقَوْلِهِ: (وَتَجُوزُ الشَّرِكَةُ بِالْأَمْوَالِ) بِأَنْ يَأْتِيَ كُلُّ وَاحِدٍ بِذَهَبِهِ أَوْ فِضَّتِهِ، وَنَقْدُ أَحَدِهِمَا مُسَاوٍ لِنَقْدِ الْآخَرِ صَرْفًا وَوَزْنًا وَقِيمَةً. قَالَ خَلِيلٌ: بِذَهَبَيْنِ أَوْ وَرِقَيْنِ اتَّفَقَ صَرْفُهُمَا أَيْ وَقْتَ الْمُعَاقَدَةِ وَلَا يَضُرُّ الِاخْتِلَافُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَلَا يَجُوزُ بِمُخْتَلِفِ الصَّرْفِ، وَإِذَا وَقَعَتْ فُسِخَتْ، وَلِكُلِّ وَاحِدٍ رَأْسُ مَالِهِ بِعَيْنِهِ فِي سِكَّتِهِ، وَالرِّبْحُ بِقَدْرِ وَزْنِ رَأْسِ مَالِهِ لَا عَلَى فَضْلِ السِّكَّةِ، وَكَذَا لَا تَجُوزُ بِتِبْرٍ، وَمَسْكُوكٍ وَلَوْ تَسَاوَيَا وَزْنًا إنْ كَثُرَ فَضْلُ السِّكَّةِ، وَأَمَّا إنْ سَاوَتْهَا جَوْدَةُ التِّبْرِ فَقَوْلَانِ، وَكَذَا تَجُوزُ بِذَهَبٍ وَوَرِقٍ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْآخَرُ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِهِمَا مِنْهُمَا وَبِعَيْنٍ وَبِعَرَضٍ وَبِعَرَضَيْنِ مُطْلَقًا أَيْ سَوَاءٌ كَانَا مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ أَوْ مُخْتَلِفٍ وَكُلٌّ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ أَحْضَرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلِلْعَمَلِ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مَا شَرَطَا مِنْ الرِّبْحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ وَيَسْتَوِيَا فِي الرِّبْحِ. وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ وَقَدْ أُرْخِصَ فِيهِ بِنِقَارِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا   [الفواكه الدواني] لَا فَاتَ إنْ صَحَّتْ. 1 - وَتَلْزَمُ شَرِكَةُ الْأَمْوَالِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَلَا يَكُونُ ضَمَانُ التَّالِفِ مِنْهُمَا إلَّا إذْ خَلَطَا الْمَالَيْنِ وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ بَقِيَتْ صُرَّةُ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى حِدَتِهَا وَلَكِنْ جَعَلَ الْمَالَيْنِ فِي حَوْزِ وَاحِدٍ، وَإِلَّا كَانَ ضَمَانُ التَّالِفِ مِنْ رَبِّهِ، وَلَا تَصِحُّ بِذَهَبٍ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا وَوَرِقٍ مِنْ عِنْدِ الْآخَرِ، وَلَوْ عَجَّلَ كُلُّ وَاحِدٍ مَا أَخْرَجَهُ لِاجْتِمَاعِ الشَّرِكَةِ وَالصَّرْفِ، وَهُوَ لَا يَجُوزُ، وَكَذَا لَا تَصِحُّ إذَا أَخْرَجَ هَذَا طَعَامًا وَالْآخَرُ كَذَلِكَ وَلَوْ اتَّفَقَ الطَّعَامَانِ نَوْعًا وَصِفَةً وَقَدْرًا لِأَدَائِهِ إلَى بَيْعِ الطَّعَامِ قَبْلَ قَبْضِهِ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ بَاعَ نِصْفَ طَعَامِهِ بِنِصْفِ طَعَامِ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَحْصُلْ قَبْضٌ لِبَقَاءِ يَدِ كُلٍّ عَلَى مَا بَاعَ، فَإِذَا بَاعَهُ لِأَجْنَبِيٍّ يَكُونُ كُلُّ وَاحِدٍ بَائِعًا الطَّعَامَ قَبْلَ قَبْضِهِ، وَلَوْ حَصَلَ خَلْطُ الطَّعَامَيْنِ. 1 - وَشَرْطُهَا أَنْ يَدْخُلَا (عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا) فَلَا تَجُوزُ إنْ دَخَلَا عَلَى التَّسَاوِي فِي الْمَالِ الْمُخْرَجِ وَالتَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ. (وَ) يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَدْخُلَا عَلَى أَنَّ (الْعَمَلَ عَلَيْهِمَا بِقَدْرِ مَا شَرَطَا مِنْ الرِّبْحِ لِكُلِّ وَاحِدٍ) وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الشَّرِكَةُ عَلَى الْمُنَاصَفَةِ، فَإِذَا دَخَلَا عَلَى أَنَّ أَحَدَهُمَا يَأْتِي بِرُبُعِ الْمَالِ وَيَعْمَلُ الرُّبُعَ وَلَهُ رُبُعُ الرِّبْحِ، وَالْآخَرُ عَلَيْهِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْمَالِ وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الْعَمَلِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الرِّبْحِ جَازَتْ الشَّرِكَةُ. (وَ) مَفْهُومُ مَا سَبَقَ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا بِقَدْرِ مَا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ أَنَّهُ (لَا يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ رَأْسُ الْمَالِ وَيَسْتَوِيَا فِي الرِّبْحِ) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ وَالْخُسْرُ وَالْعَمَلُ بِقَدْرِ الْمَالَيْنِ. وَتَفْسُدُ بِشَرْطِ التَّفَاوُتِ فِي الْعَمَلِ، كَمَا تَفْسُدُ بِاشْتِرَاطِ التَّفَاوُتِ فِي الرِّبْحِ، وَإِذْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً بِدُخُولِهِمَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَلِكُلٍّ أَجْرُ عَمَلِهِ لِلْآخَرِ. مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا عِشْرِينَ مَثَلًا وَالْآخَرُ عَشَرَةً وَشَرَطَا التَّسَاوِيَ فِي الرِّبْحِ وَالْعَمَلِ، وَلَمْ يُطَّلَعْ عَلَى ذَلِكَ حَتَّى عَمِلَا فَإِنَّ الرِّبْحَ يُقْسَمُ عَلَى قَدْرِ الْمَالَيْنِ وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْعِشْرِينَ عَلَى صَاحِبِ الْعَشَرَةِ بِفَاضِلِ الرِّبْحِ، وَهُوَ السُّدُسُ، وَيَنْزِعُهُ مِنْهُ إنْ كَانَ قَبَضَهُ لِيَكْمُلَ لَهُ الثُّلُثَانِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْعَشَرَةِ بِفَاضِلِ عَمَلِهِ، وَهُوَ أَجْرُ سُدُسِ الْعَمَلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَفْسُدُ بِشَرْطِ التَّفَاوُتِ وَلِكُلٍّ أَجْرُ عَمَلِهِ لِلْآخَرِ، وَمَفْهُومُ الِاشْتِرَاطِ أَنَّهُ لَوْ تَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا لِشَرِيكِهِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ الرِّبْحِ بَعْدَ تَمَامِ الْعَقْدِ لَجَازَ، كَمَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُسَلِّفَهُ أَوْ يَهَبَهُ شَيْئًا بَعْدَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا الْهِبَةُ وَالتَّبَرُّعُ فِي الْعَقْدِ فَلَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْوَاقِعَ فِيهِ كَالْوَاقِعِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا السَّلَفُ فِي الْعَقْدِ فَيَجُوزُ إلَّا لِكَبَصِيرَةٍ الْمُشْتَرِي، هَذَا مُحَصَّلُ مَعْنَى قَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَهُ التَّبَرُّعُ وَالسَّلَفُ وَالْهِبَةُ بَعْدَ الْعَقْدِ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَجْمَلَ الْمُصَنِّفُ حَيْثُ لَمْ يُبَيِّنْ هَلْ يَجُوزُ لِلشَّرِيكِ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ؟ ، وَمُحَصَّلُهُ عَلَى مَا قَالَهُ خَلِيلٌ أَنَّهُ إنْ أَطْلَقَ كُلُّ وَاحِدٍ لِصَاحِبِهِ التَّصَرُّفَ فِي الْعَقْدِ أَوْ بَعْدَهُ كَانَتْ شَرِكَةَ مُفَاوَضَةٍ يَجُوزُ لِكُلِّ وَاحِدٍ التَّصَرُّفُ بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ غَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ، فَيَبِيعُ وَيَشْتَرِي وَيَقْبَلُ وَيُوَلِّي، وَيَقْبَلُ الْعَيْبَ، وَإِنْ أَبَى شَرِيكُهُ، وَإِنْ لَمْ يُطْلِقْ لَهُ بِأَنْ سَكَتَ كُلٌّ حِينَ الْعَقْدِ أَوْ حَجَرَ عَلَى صَاحِبِهِ بِاللَّفْظِ كَانَتْ شَرِكَةَ عِنَانٍ أَيْ إذْنٍ، وَهِيَ جَائِزَةٌ أَيْضًا، إلَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ فِي هَذِهِ إلَّا بِإِذْنِ صَاحِبِهِ. الثَّانِي: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِشَرِكَةِ الْجَبْرِ وَلَمْ أَرَ مَنْ حَدَّهَا، وَيُمْكِنُ رَسْمُهَا بِأَنَّهَا اسْتِحْقَاقُ شَخْصٍ الدُّخُولَ مَعَ مُشْتَرٍ سِلْعَةً لِنَفْسِهِ مِنْ سُوقِهَا الْمُعَدِّ لَهَا عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَالْوَجْهُ الْمَخْصُوصُ كَوْنُ الشُّرَاةِ لِلتِّجَارَةِ فِي الْبَلَدِ لَا إنْ اشْتَرَاهَا لِلسَّفَرِ بِهَا وَلَوْ لِلتِّجَارَةِ أَوْ لِلْقُنْيَةِ أَوْ مِنْ غَيْرِ سُوقِهَا، وَأَنْ يَكُونَ مُرِيدُ الدُّخُولِ مِنْ تُجَّارِ تِلْكَ السِّلْعَةِ، وَأَنْ يَكُونَ حَاضِرًا لِشِرَائِهَا وَسَاكِتًا لَمْ يَتَكَلَّمْ، وَسَوَاءٌ كَانَ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ السُّوقِ أَمْ لَا، فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ فِي الْحَاضِرِ قُضِيَ لَهُ بِالدُّخُولِ قَهْرًا عَلَى الْمُشْتَرِي، كَمَا أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَوْ طَلَبَ الْمُشَارَكَةَ مِنْ الْحَاضِرِ لِخَسَارَةٍ مَثَلًا وَأَبَى الْحَاضِرُ لَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالدُّخُولِ مَعَ الْمُشْتَرِي، وَمَفْهُومُ بَقِيَّةِ الْقُيُودِ مَبْسُوطٌ فِي الْمُطَوَّلَاتِ 1 - وَتَرَكَ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا الْكَلَامَ عَلَى شَرِكَةِ الذِّمَمِ وَيُقَالُ لَهَا شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا تَصِحُّ شَرِكَةُ الْوُجُوهِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِبَيْعِ الْوَجِيهِ مَالَ الْخَامِلِ بِحِصَّةٍ مِنْ رِبْحِهِ، وَفَسَّرَهَا بَعْضُهُمْ بِالشِّرَاءِ بِلَا مَالٍ حَاضِرٍ بَلْ فِي الذِّمَّةِ، وَوَجْهُ فَسَادِهَا مَا فِيهَا مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ وَالتَّدْلِيسِ عَلَى الْغَيْرِ؛ لِأَنَّ غَالِبَ النَّاسِ لَا يُحِبُّ الْبَيْعَ أَوْ الشِّرَاءَ إلَّا مِنْ الْأَمْلِيَاءِ أَوْ مِنْ سِلَعِ غَيْرِ الْخَامِلِ. الثَّالِثُ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ كَغَيْرِهِ فِي الْمُتَشَارِكَيْنِ، فَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَا رَجُلَيْنِ، أَوْ امْرَأَتَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ بِشَرْطِ كَوْنِ الْمَرْأَةِ الْمُشَارِكَةِ لِلرَّجُلِ مُتَجَالَّةً أَوْ شَابَّةً لَا تُبَاشِرُ التَّصَرُّفَ. وَأَمَّا مُشَارَكَةُ الشَّابَّةِ لِرَجُلٍ مَعَ مُبَاشَرَةِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فَذَلِكَ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ مُحَادَثَةَ الشَّابَّةِ لِلرِّجَالِ ذَرِيعَةٌ لِلْفَسَادِ، وَسَوَاءٌ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ حَيْثُ كَانَ التَّصَرُّفُ بِحُضُورِهِمَا أَوْ مِنْ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا مَعَ غَيْبَةِ الْمُسْلِمِ فَلَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً كَمَا قَدَّمْنَاهُ. 1 - الرَّابِعُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا نَفَقَةَ الشَّرِيكِ هَلْ مِنْ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ، وَالْحُكْمُ أَنَّ لِكُلٍّ مِنْ شَرِيكَيْ الْمُفَاوَضَةِ الْإِنْفَاقَ وَالِاكْتِسَاءَ مِنْ مَالِ الشَّرِكَةِ، وَتُلْغَى نَفَقَتُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 يَجُوزُ بِالْعُرُوضِ، وَيَكُونُ إنْ نَزَلَ أَجِيرًا فِي بَيْعِهَا، وَعَلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ فِي الثَّمَنِ. وَلِلْعَامِلِ كِسْوَتُهُ وَطَعَامُهُ إذَا سَافَرَ فِي   [الفواكه الدواني] وَكِسْوَتُهُمْ بِشَرْطَيْنِ: التَّسَاوِي فِي الْمَالِ، وَإِلَّا أَنْفَقَ كُلُّ وَاحِدٍ عَلَى قَدْرِ حِصَّتِهِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَتَسَاوَيَا أَوْ يَتَقَارَبَا فِي النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَا فِي بَلَدٍ أَوْ بَلَدَيْنِ مُخْتَلِفَيْ السِّعْرِ، وَلَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ بَيِّنًا كَانَ وَطَنًا لَهُمَا أَوْ لَا، كَمَا تُلْغَى نَفَقَةُ وَكِسْوَةُ عِيَالِهِمَا إنْ تَقَارَبَا نَفَقَةً وَعِيَالًا، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَحْصُلْ تَقَارُبٌ فِي النَّفَقَةِ أَوْ الْعِيَالِ بِأَنْ كَانَ أَحَدُهُمَا يَقْنَعُ بِالْجَرِيشِ مِنْ الطَّعَامِ وَالْغَلِيظِ مِنْ الثِّيَابِ وَالْآخَرُ عَلَى الضِّدِّ، أَوْ تَخَالَفَا بِكَثْرَةِ الْعِيَالِ حَسَبًا، كَمَا لَوْ انْفَرَدَ أَحَدُهُمَا بِالْإِنْفَاقِ أَوْ الْعِيَالِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ خَلِيلٍ 1 - الْخَامِسُ: الشَّرِيكُ أَمِينٌ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ أَوْ الْخُسْرِ أَوْ أَخْذِ شَيْءٍ يُنَاسِبُهُ مِنْ مَأْكَلٍ وَمَشْرَبٍ، كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي دَعْوَى الْمُنَاصَفَةِ عِنْدَ مُنَازَعَةِ شَرِيكِهِ. (فَائِدَةٌ) . الشَّرِكَةُ فِيهَا لُغَاتٌ ثَلَاثٌ: إحْدَاهَا، وَهِيَ الْفُصْحَى عَلَى وَزْنِ سِدْرَةٍ، وَيَلِيهَا عَلَى وَزْنِ نَمِرَةٍ، وَالثَّالِثَةُ عَلَى وَزْنِ نَبْقَةٍ، فَتَكُونُ بِفَتْحِ الشِّينِ وَكَسْرِ الرَّاءِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ مَعَ إجْحَافِ الْمُؤَلِّفِ فِي الِاخْتِصَارِ. [بَاب الْقِرَاض] وَلَمَّا كَانَ الْقِرَاضُ مُنَاسِبًا لِلشَّرِكَةِ فِي كَوْنِ الْعَاقِدِ أَمِينًا فِيهِمَا وَأَيْضًا هُمَا شَرِيكَانِ فِي الرِّبْحِ ذَكَرَهُ عَقِبَهَا فَقَالَ: (وَالْقِرَاضُ جَائِزٌ) بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ بِكَسْرِ الْقَافِ مُشْتَقٌّ مِنْ الْقَرْضِ، وَهُوَ الْقَطْعُ، سُمِّيَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ قَطَعَ لِلْعَامِلِ قِطْعَةً مِنْ مَالِهِ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِقِطْعَةٍ مِنْ الرِّبْحِ، وَهَذَا اسْمُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْحِجَازِ، وَأَهْلِ الْعِرَاقِ لَا يَقُولُونَ قِرَاضًا، وَإِنَّمَا يَقُولُونَ الْمُضَارَبَةُ، وَكِتَابُ الْمُضَارَبَةِ بَدَلَ كِتَابِ الْقِرَاضِ أَخَذُوا ذَلِكَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ} [النساء: 101] ، وَمِنْ قَوْله تَعَالَى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ} [المزمل: 20] وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ يَدْفَعُ إلَى الرَّجُلِ مَالَهُ عَلَى الْخُرُوجِ بِهِ إلَى الشَّامِ أَوْ غَيْرِهَا فَيَبْتَاعُ الْمُبْتَاعُ عَلَى هَذَا الشَّرْطِ، وَلَا خِلَافَ فِي جَوَازِ الْقِرَاضِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَكَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْإِسْلَامِ؛ لِأَنَّ الضَّرُورَةَ دَعَتْ إلَيْهِ لِحَاجَةِ النَّاسِ إلَى التَّصَرُّفِ فِي أَمْوَالِهِمْ، وَلَيْسَ كُلُّ أَحَدٍ يَقْدِرُ عَلَى التَّنْمِيَةِ بِنَفْسِهِ فَاضْطُرَّ فِيهِ لِاسْتِنَابَةِ غَيْرِهِ، وَلَعَلَّهُ لَا يَجِدُ مَنْ يَعْمَلُ فِيهِ بِأُجْرَةٍ فَرَخَّصَ فِيهِ، وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: تَمْكِينُ مَالٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ لَا بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ، فَيَدْخُلُ بَعْضُ الْفَاسِدِ كَالْقِرَاضِ بِالدَّيْنِ وَبِالْوَدِيعَةِ وَيَخْرُجُ عَنْهُ قَوْلُهَا قَالَ مَالِكٌ: مَنْ أَعْطَى رَجُلًا مَالًا يَعْمَلُ لَهُ عَلَى أَنَّ الرِّبْحَ لِلْعَامِلِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى الْعَامِلِ لَا بَأْسَ بِهِ، وَعَبَّرَ بِتَمْكِينٍ دُونَ عَقْدٍ إشَارَةً إلَى أَنَّ عَقْدَهُ غَيْرُ لَازِمٍ، فَلِكُلٍّ حَلُّهُ عَنْ نَفْسِهِ قَبْلَ شُغْلِ الْمَالِ وَبَعْدَهُ لَازِمٌ لِكُلٍّ، وَبَعْدَ تَزَوُّدِ الْعَامِلِ لِلسَّفَرِ لَازِمٌ لِلْعَامِلِ دُونَ رَبِّ الْمَالِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِكُلٍّ فَسْخُهُ قَبْلَ عَمَلِهِ كَرَبِّهِ. وَالْحَالُ أَنَّ الْعَامِلَ تَزَوَّدَ لِسَفَرٍ وَلَمْ يَظْعَنْ، وَإِلَّا فَلِنَضُوضِهِ، وَجَوَازُ الْقِرَاضِ مُسْتَثْنًى مِنْ الْإِجَارَةِ الْمَجْهُولَةِ الْمُدَّةِ وَالْكَمِّيَّةِ، وَمِنْ السَّلَفِ بِمَنْفَعَةٍ، وَوَجْهُ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْحُرْمَةِ الرِّفْقُ بِالْعِبَادِ كَمَا مَرَّ. 1 - وَأَرْكَانُهُ الْعَاقِدَانِ، وَهُمَا كَالْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلِ وَالْمَالُ وَالصِّيغَةُ وَالْجُزْءُ الْمَجْعُولُ لِلْعَامِلِ. وَأَشَارَ إلَى شَرْطِ الْمَالِ بِقَوْلِهِ: (بِالدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ) وَلَوْ كَانَتْ مَغْشُوشَةً حَيْثُ تُعُومِلَ بِهَا، وَإِنْ لَمْ تَرُجْ كَالْكَامِلَةِ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ النَّقْدِ الْخَالِصِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُتَعَامَلِ بِهِ فَهُوَ كَالْعَرَضِ (وَقَدْ أَرْخَصَ) أَيْ تُسُوهِلَ (فِيهِ) أَيْ الْقِرَاضِ (بِنِقَارِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) وَالنِّقَارُ بِكَسْرِ النُّونِ الْقِطَعُ الْخَالِصَةُ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَمِثْلُهَا التِّبْرُ وَالْحُلِيُّ، فَإِنَّ حُكْمَ الْجَمِيعِ وَاحِدٌ فِي الْجَوَازِ إنْ تُعُومِلَ بِهَا فِي بَلَدِ الْعَمَلِ، وَلَمْ يَكُنْ فِيهَا مَسْكُوكٌ. وَأَمَّا إنْ لَمْ يَتَعَامَلْ بِهَا أَوْ وُجِدَ الْمَسْكُوكُ فَلَا يَجُوزُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، خِلَافًا لِمَا يُوهِمُهُ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ، وَالْمُرَادُ لَا يَجُوزُ ابْتِدَاءً، وَأَمَّا بَعْدَ الْوُقُوعِ فَإِنَّهُ يَمْضِي بِالْعَمَلِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَعِنْدَ أَصْبَغَ مُطْلَقًا. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِعَدَمِ الْجَوَازِ أَنَّهُ يُفْسَخُ الْعَقْدُ بِهِ وَلَوْ حَصَلَ الْعَمَلُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ غَيْرَ الْمَضْرُوبِ مِنْ تِبْرٍ وَنِقَارٍ وَحُلِيٍّ، لَا يَجُوزُ جَعْلُهُ رَأْسَ مَالٍ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: التَّعَامُلُ بِهِ فِي بَلَدِ الْعَمَلِ، وَعَدَمُ وُجُودِ الْمَسْكُوكِ، وَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ رَأْسَ مَالٍ مَعَ فَقْدِ الشَّرْطَيْنِ أَوْ أَحَدِهِمَا مَضَى بِالْعَمَلِ وَقِيلَ بِمُجَرَّدِ تَمَامِ الْعَقْدِ. (تَنْبِيهٌ) . فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَدْ أَرْخَصَ فِيهِ بِنِقَارِ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ بِالْفُلُوسِ الْجُدُدِ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ النُّقُودِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ وَلَوْ تُعُومِلَ بِهَا حَيْثُ تُعُومِلَ بِالْمَسْكُوكِ، وَأَمَّا لَوْ انْفَرَدَتْ بِالتَّعَامُلِ بِهَا لَجَازَ جَعْلُهَا رَأْسَ مَالِ قِرَاضٍ. [الْقِرَاضُ بِالْعُرُوضِ] ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ الدَّنَانِيرِ وَالدَّرَاهِمِ، وَمَا مَعَهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) الْقِرَاضُ (بِالْعُرُوضِ) وَالْمُرَادُ بِهَا مَا قَابَلَ الْعَيْنَ، فَتَدْخُلُ الْفُلُوسُ الْجُدُدُ حَيْثُ لَمْ تَنْفَرِدْ بِالتَّعَامُلِ بِهَا، وَيَدْخُلُ الْحَدِيدُ وَالرَّصَاصُ وَالْوَدَعُ وَلَوْ انْفَرَدَتْ بِالتَّعَامُلِ، كَمَا لَا يَجُوزُ بِسَائِرِ الْمُقَوَّمَاتِ وَالْمِثْلِيَّاتِ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ يُقْتَصَرُ فِيهَا عَلَى مَا وَرَدَ، وَالْوَارِدُ بِالنَّقْدِ الْمَضْرُوبِ، وَلَا يُقَالُ: الشَّارِعُ لَمْ يُجَوِّزْهُ بِالتِّبْرِ وَلَا بِالْجُدُدِ وَلَا بِنِقَارِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ فَلِمَاذَا رَخَّصَ فِيهَا؟ . لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَذْكُورَاتُ أَعْيَانٌ وَأَثْمَانٌ وَرُءُوسُ أَمْوَالٍ، وَالْجُدُدُ عِنْدَ انْفِرَادِ التَّعَامُلِ بِهَا قَدْ قِيلَ إنَّهَا مِنْ النُّقُودِ، ثُمَّ بَيَّنَ الْحُكْمَ لَوْ وَقَعَ بِالْعَرَضِ فَقَالَ: (وَيَكُونُ) أَيْ عَامِلُ الْقِرَاضِ الْمَفْهُومِ مِنْ السِّيَاقِ (إنْ نَزَلَ) الْعَقْد بِالْعُرُوضِ (أَجِيرًا فِي بَيْعِهَا) أَيْ الْعُرُوضِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 الْمَالِ الَّذِي لَهُ بَالٌ، وَإِنَّمَا يُكْتَسَى فِي السَّفَرِ الْبَعِيدِ ؟ وَلَا يَقْتَسِمَانِ الرِّبْحَ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ. وَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ. فِي   [الفواكه الدواني] فَيَسْتَحِقُّ أُجْرَةَ مِثْلِهِ فِي تَوْلِيَةِ بَيْعِهَا حَيْثُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ بَيْعِهَا، فَقَوْلُهُ أَجِيرًا أَيْ كَأَجِيرٍ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَسْتَأْجِرْ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ الْبَيْعِ لِلْعَرَضِ وَالشِّرَاءِ بِثَمَنِهِ أَمْتِعَةً فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَعَلَى قِرَاضِ مِثْلِهِ مِنْ الثَّمَنِ) أَيْ إذَا اتَّجَرَ بِالثَّمَنِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ إنْ وَقَعَ عَقْدُ الْقِرَاضِ بِعَرَضٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ فَاسِدًا يَجِبُ فَسْخُهُ، فَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ حَتَّى بَاعَ الْعَامِلُ الْعَرَضَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فَسْخُهُ وَلَهُ أُجْرَةُ مِثْلِهِ فِي تَوْلِيَةِ الْبَيْعِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَيْهِ حَتَّى اتَّجَرَ بِثَمَنِ الْعُرُوضِ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ فِي تَوْلِيَةِ بَيْعِ الْعَرَضِ أُجْرَةَ مِثْلِهِ، وَلَهُ قِرَاضُ مِثْلِهِ فِي الِاتِّجَارِ بِالثَّمَنِ فَيُجْمَعُ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، هَذَا إذَا دَخَلَا عَلَى أَنَّ رَأْسَ الْمَالِ هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي يُبَاعُ بِهِ الْعَرَضُ، فَإِنْ قَالَ لَهُ: خُذْ هَذَا الْعَرَضَ اجْعَلْهُ رَأْسَ مَالٍ أَوْ قِيمَتَهُ الْآنَ أَوْ يَوْمَ الْمُفَاصَلَةِ فَإِنَّهُ يَكُونُ كَأَجِيرٍ فِي بَيْعِهَا وَيُعْطَى أُجْرَةَ مِثْلِهِ فِي الِاتِّجَارِ بِالثَّمَنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ قِرَاضِ الْمِثْلِ وَأُجْرَةِ الْمِثْلِ أَنَّ قِرَاضَ الْمِثْلِ فِي الرِّبْحِ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ لَا شَيْءَ لَهُ وَأُجْرَةُ الْمِثْلِ فِي الذِّمَّةِ فَتَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ، وَلَيْسَ مِنْ ذَلِكَ مَا لَوْ دَفَعَ رَجُلٌ عِدْلَ كَتَّانٍ مَثَلًا لِآخَرَ وَقَالَ لَهُ: امْضِ بِهِ إلَى الْبَلَدِ الْفُلَانِيِّ فَادْفَعْهُ لِفُلَانٍ يَبِيعُهُ وَيَقْبِضُ ثَمَنَهُ لِنَفْسِهِ، فَإِذَا قَبَضَ ثَمَنَهُ فَخُذْهُ مِنْهُ وَاعْمَلْ بِهِ قِرَاضًا بَيْنِي وَبَيْنِك، فَإِنَّ هَذِهِ جَائِزَةٌ بِلَا خِلَافٍ. 1 - وَمُلَخَّصُ شُرُوطِ الْقِرَاضِ أَنْ يَكُونَ رَأْسُ الْمَالِ نَقْدًا مَضْرُوبًا، وَمَا أُلْحِقَ بِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُسَلَّمًا وَقْتَ الْعَقْدِ مِنْ يَدِهِ، فَلَا يَصِحُّ بِدَيْنٍ وَلَا رَهْنٍ وَلَا وَدِيعَةٍ، وَأَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ مَجْهُولَ الْكَمِّيَّةِ مَعْلُومَ النِّسْبَةِ كَرُبُعِ أَوْ خُمُسِ الرِّبْحِ، وَأَنْ يَكُونَ مِنْ رِبْحِ الْمَالِ لَا مِنْ غَيْرِهِ، وَأَنْ يَكُونَ جَمِيعُ الْعَمَلِ عَلَى الْعَامِلِ وَلَا يَتَقَيَّدُ عَقْدُهُ بِصِيغَةٍ مَخْصُوصَةٍ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَرَفَةَ: تَمْكِينُ مَالٍ لِمَنْ يَتَّجِرُ بِهِ بِجُزْءٍ مِنْ رِبْحِهِ فَلَا وَجْهَ لِتَنْظِيرِ بَعْضِ الشُّيُوخِ فِي ذَلِكَ. (وَ) يَجِبُ (لِلْعَامِلِ) فِي حَالِ الْقِرَاضِ (كِسْوَتُهُ وَطَعَامُهُ) بِشُرُوطٍ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (إذَا سَافَرَ) لِلتِّجَارَةِ وَتَنْمِيَةِ مَالِ الْقِرَاضِ مُدَّةَ سَفَرِهِ وَإِقَامَتِهِ بِالْبَلَدِ الَّتِي يَتَّجِرُ فِيهِ إلَى أَنْ يَرْجِعَ إلَى بَلَدِهِ، وَلَيْسَ لَهُ قَبْلَ السَّفَرِ إنْفَاقٌ، وَلَوْ شَغَلَهُ التَّزَوُّدُ لِلسَّفَرِ عَنْ الْوُجُوهِ الَّتِي كَانَ يَتَمَعَّشُ مِنْهَا خِلَافًا لِلَّخْمِيِّ، وَيُشْتَرَطُ فِي إنْفَاقِهِ فِي مَحَلِّ إقَامَتِهِ لِلتَّجْرِ عَدَمُ الْبِنَاءِ بِزَوْجَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَنْفَقَ إنْ سَافَرَ وَلَمْ يَبْنِ بِزَوْجَةٍ، فَإِنْ بَنَى بِهَا أَوْ دُعِيَ لِلدُّخُولِ بِهَا فَلَيْسَ لَهُ الْإِنْفَاقُ مِنْهُ، وَقَيَّدْنَا السَّفَرَ بِكَوْنِهِ لِلتَّجْرِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ سَافَرَ بِمَالِ الْقِرَاضِ لِقَصْدِ حَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ لِقُرْبَةٍ أَوْ لِبَلَدِ زَوْجَتِهِ الْمَبْنِيِّ بِهَا، فَإِنَّهُ لَا يُنْفِقُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ لَا فِي ذَهَابِهِ وَلَا فِي إيَابِهِ إلَّا فِي السَّفَرِ لِبَلَدِ الزَّوْجَةِ، فَإِنَّمَا تَسْقُطُ نَفَقَتُهُ فِي مُدَّةِ الذَّهَابِ وَالْإِقَامَةِ، لَا فِي مُدَّةِ رُجُوعِهِ لِبَلَدٍ لَيْسَ لَهُ بِهَا أَهْلٌ فَإِنَّ لَهُ الْإِنْفَاقَ. وَالْفَرْقُ أَنَّ سَفَرَ الْحَجِّ أَوْ الْقُرْبَةِ الرُّجُوعُ فِيهِ لِلَّهِ - تَعَالَى - كَالذَّهَابِ فَلَا يُنْفِقُ بِخِلَافِ رُجُوعِهِ مِنْ بَلَدِ الزَّوْجَةِ، وَقَيَّدَ خَلِيلٌ الْبِنَاءَ بِالزَّوْجَةِ بِكَوْنِهِ فِي بَلَدِ التِّجَارَةِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ سَافَرَ لِلتِّجَارَةِ، وَمَعَهُ زَوْجَتُهُ فَإِنَّ لَهُ الْإِنْفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ ذَهَابًا، وَإِيَابًا وَفِي مُدَّةِ الْإِقَامَةِ لِلتِّجَارَةِ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ لِلتِّجَارَةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ. وَمِنْ شُرُوطِ الْإِنْفَاقِ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ (فِي) أَيْ مِنْ (الْمَالِ الَّذِي لَهُ بَالٌ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْكَثِيرُ الَّذِي يَحْتَمِلُ الْإِنْفَاقَ، فَلَا إنْفَاقَ لَهُ مِنْ الْمَالِ الْيَسِيرِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يُنْفِقَ بِالْمَعْرُوفِ، فَلَا يَجُوزُ السَّرَفُ فِي النَّفَقَةِ أَوْ الْكِسْوَةِ، فَإِنْ أَسْرَفَ كَانَ عَلَيْهِ كَالْإِنْفَاقِ الزَّائِدِ عَلَى مَالِ الْقِرَاضِ. وَكَمَا لَوْ أَنْفَقَ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ عَلَى أَنْ يَرْجِعَ فِي مَالِ الْقِرَاضِ ثُمَّ ضَاعَ مَالُ الْقِرَاضِ فَإِنَّهُ لَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ، وَيُلْحَقُ بِالْإِنْفَاقِ الْجَائِزِ أُجْرَةُ نَحْوِ الْحَجَّامِ وَالْمُزَيِّنِ وَصَاحِبِ الْحَمَّامِ وَجَمِيعِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ التَّاجِرُ عُرْفًا، لَا عَلَى وَجْهِ الْمُدَاوَاةِ فَلَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُهُ مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ، وَيَرْجِعُ عَلَيْهِ بِمَا دَفَعَهُ فِيهِ، وَأَمَّا اتِّخَاذُهُ خَادِمًا فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ الْعَامِلِ أَهْلًا لِلْإِخْدَامِ فَلَهُ اتِّخَاذُهُ فِي السَّفَرِ بِشُرُوطِ النَّفَقَةِ. وَالْمُرَادُ اتِّخَاذُ الْخَادِمِ بِالْأُجْرَةِ لَا بِشِرَاءِ رَقِيقٍ، فَلَا يَجُوزُ وَلَوْ كَثُرَ الْمَالُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ كَوْنُ الْكِسْوَةِ كَالنَّفَقَةِ فِي جَوَازِ فِعْلِهَا مِنْ مَالِ الْقِرَاضِ فِي السَّفَرِ وَلَوْ كَانَ قَصِيرًا قَالَ كَالْمُسْتَدْرَكِ عَلَى مَا سَبَقَ: (وَإِنَّمَا يُكْتَسَى فِي السَّفَرِ الْبَعِيدِ) الَّذِي تَخْلَقُ فِيهِ الثِّيَابُ، وَمِنْ لَازِمِ ذَلِكَ طُولُ زَمَانِهِ، فَلَيْسَ لَهُ شِرَاءُ كِسْوَةٍ فِي السَّفَرِ الْقَصِيرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاكْتَسَى إنْ بَعُدَ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ الشُّرُوطِ السَّابِقَةِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي السَّفَرِ وَكَوْنِهِ لِلتَّجْرِ فَقَطْ، لَا لِأَهْلٍ وَلَا لِحَجٍّ أَوْ غَزْوٍ أَوْ قُرْبَةٍ وَاحْتِمَالِ الْمَالِ وَكَوْنِهِ بِالْمَعْرُوفِ. وَلَمَّا كَانَ عَقْدُ الْقِرَاضِ بَعْدَ شُغْلِ الْمَالِ بِالْعَمَلِ لَازِمًا وَلَوْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ لِإِيجَابِ لِذَلِكَ بَلْ الْكَلَامُ لِلْحَاكِمِ قَالَ: (وَلَا يَقْتَسِمَانِ) أَيْ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ (الرِّبْحَ حَتَّى يَنِضَّ رَأْسُ الْمَالِ) أَوْ يَتَرَاضَيَا عَلَى قِسْمَةٍ، فَإِنْ طَلَبَ أَحَدُهُمَا نَضُوضَهُ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ اسْتَنَضَّهُ فَالْحَاكِمُ يَنْظُرُ فِي ذَلِكَ مِنْ تَعْجِيلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ فَمَا كَانَ صَوَابًا فَعَلَهُ، وَتَجُوزُ قِسْمَةُ الْعُرُوضِ إذَا تَرَاضَوْا عَلَيْهَا وَتَكُونُ بَيْعًا، وَإِنَّمَا لَمْ تَجُزْ قِسْمَتُهُ قَبْلَ نَضُوضِهِ إلَّا بِرِضَاهُمَا؛ لِأَنَّهُ إذَا قُسِمَ قَدْ تَهْلِكُ السِّلَعُ أَوْ تَتَحَوَّلُ أَسْوَاقُهَا فَيَنْقُصُ رَأْسُ الْمَالِ فَيَحْصُلُ الضَّرَرُ لِرَبِّ الْمَالِ بِعَدَمِ جَبْرِ رَأْسِ الْمَالِ بِالرِّبْحِ. (تَتِمَّاتٌ) . الْأُولَى: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ نَضَّ الْمَالُ وَتَمَّ عَمَلُ الْقِرَاضِ، هَلْ يَجُوزُ لِلْعَامِلِ بَعْدَ ذَلِكَ تَحْرِيكُهُ بِغَيْرِ إذْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الْأُصُولِ. عَلَى مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ. وَالْعَمَلُ عَلَى الْمُسَاقِي وَلَا يَشْتَرِطُ عَلَيْهِ عَمَلًا غَيْرَ عَمَلِ الْمُسَاقَاةِ وَلَا عَمَلَ   [الفواكه الدواني] رَبِّ الْمَالِ أَوْ يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِهِ؟ . وَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِبَلَدِ رَبِّ الْمَالِ فَلَيْسَ لَهُ تَحْرِيكُهُ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّ الْمَالِ، وَبَيْنَ أَنْ يَكُونَ فِي بَلَدٍ آخَرَ فَلَهُ تَحْرِيكُهُ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ رَبِّ الْمَالِ. 1 - الثَّانِيَةُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا حُكْمَ مَا لَوْ وَقَعَ الْقِرَاضُ فَاسِدًا؟ . وَالْحُكْمُ أَنَّهُ يُفْسَخُ قَبْلَ الْعَمَلِ وَلَا شَيْءَ لِلْعَامِلِ، وَإِذَا لَمْ يَطَّلِعْ عَلَى فَسَادِهِ إلَّا بَعْدَ الْعَمَلِ فَيَفُوتُ فَسْخُهُ حَيْثُ كَانَ الْعَامِلُ يَسْتَحِقُّ قِرَاضَ مِثْلِهِ مِنْ رِبْحِهِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ لِكَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ عَرَضًا أَوْ كَانَ الْجُزْءُ الْمَجْعُولُ لِلْعَامِلِ مُبْهَمًا وَلَا عَادَةَ لِلْعَامِلِ بِشَيْءٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ لَهُ عِنْدَ الْفَسَادِ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ رِبْحٌ بِأَنْ كَانَ رَبُّ الْمَالِ اشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ أَنْ لَا يَسْتَقِلَّ بِالْعَمَلِ أَوْ اشْتَرَطَ عَلَيْهِ مُرَاجَعَتَهُ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ وَلَوْ بَعْدَ الْعَمَلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَاسِدَ يُفْسَخُ عِنْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعَمَلِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا بَعْدَ الْعَمَلِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ الْوَاجِبِ فِيهِ قِرَاضَ الْمِثْلِ فَلَا يُفْسَخُ وَيَمْضِي أَوْ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فَيُفْسَخُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ أُجْرَةِ الْمِثْلِ وَقِرَاضِ الْمِثْلِ أَنَّ أُجْرَةَ الْمِثْلِ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْمَالِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ الرِّبْحُ، بِخِلَافِ قِرَاضِ الْمِثْلِ لَا يَسْتَحِقُّ الْعَامِلُ شَيْئًا إلَّا إنْ حَصَلَ رِبْحٌ، وَإِنَّمَا لَمْ يُفْسَخْ فِي الْأَوَّلِ بَعْدَ الْعَمَلِ لِئَلَّا يَضَعَ عَمَلُهُ بَاطِلًا بِخِلَافِ الثَّانِي. 1 - الثَّالِثَةُ: الْعَامِلُ فِي الْقِرَاضِ أَمِينٌ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ فِي تَلَفِ الْمَالِ أَوْ ضَيَاعِهِ أَوْ خُسْرِهِ إلَّا أَنْ تُكَذِّبَهُ التُّجَّارُ، وَيُقْبَلُ قَوْلُهُ أَيْضًا فِي رَدِّهِ لِرَبِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ فَلَا يُقْبَلُ فِي رَدِّهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى رَدِّهِ. الرَّابِعَةُ: إذَا حَصَلَ فِي رَأْسِ مَالِ الْقِرَاضِ خُسْرٌ وَحَصَلَ فِيهِ بَعْدَ ذَلِكَ رِبْحٌ فَإِنَّهُ يَجِبُ جَبْرُ الْخُسْرِ بِالرِّبْحِ، وَلَوْ شَرَطَ الْعَامِلُ عَلَى رَبِّ الْمَالِ خِلَافَ ذَلِكَ مَا دَامَ الْمَالُ تَحْتَ يَدِ الْعَامِلِ لَا إنْ قَبَضَهُ رَبُّهُ بَعْدَ الْخُسْرِ وَرَدَّهُ لِلْعَامِلِ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَصِيرُ قِرَاضًا مُسْتَأْنَفًا. 1 - الْخَامِسَةُ: إذَا مَاتَ الْعَامِلُ قَبْلَ نَضُوضِ الْمَالِ فَلِوَارِثِهِ الْأَمِينِ إتْمَامُ الْعَمَلِ، وَلَوْ كَانَ أَقَلَّ أَمَانَةً مِنْ مُوَرِّثِهِ وَيَسْتَحِقُّ الْجُزْءَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَمِينًا فَلَهُ الْإِتْيَانُ بِأَمِينٍ كَمُوَرِّثِهِ فِيهَا، وَإِلَّا سَلَّمَ الْمَالَ لِرَبِّهِ هَدَرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِوَارِثِ الْعَامِلِ حِينَئِذٍ، وَلَوْ اتَّخَذَ رَبُّ الْمَالِ مَنْ يُتَمِّمُ الْعَمَلَ فَلَيْسَ كَالْجُعْلِ فِي هَذِهِ. وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا مَكَّنَ الْوَارِثَ مِنْ الْإِتْيَانِ بِأَمِينٍ وَلَمْ يَأْتِ بِهِ عُدَّ مُعْرِضًا عَنْ حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْعَامِلِ فِي الْجُعْلِ لَمْ يُمَكِّنْهُ الشَّارِعُ مِنْ الْإِتْيَانِ بِغَيْرِهِ فَهُوَ مَغْلُوبٌ فَجُعِلَ لَهُ بِنِسْبَةِ الثَّانِي، وَاسْتَحْسَنَ شُيُوخُنَا هَذَا الْفَرْقَ. [بَاب الْمُسَاقَاة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَسَائِلِ الْقِرَاضِ شَرَعَ فِي الْمُسَاقَاةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُسَاقَاةُ جَائِزَةٌ) ، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ أَرْبَعَةٍ مَمْنُوعَةٍ. الْأَوَّلُ: الْإِجَارَةُ بِالْمَجْهُولِ، الثَّانِي: الْمُخَابَرَةُ، وَهِيَ كِرَاءُ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، الثَّالِثُ: بَيْعُ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا بَلْ قَبْلَ وُجُودِهَا، الرَّابِعُ: الْغَرَرُ؛ لِأَنَّ الْعَامِلَ لَا يَدْرِي أَتَسْلَمُ الثَّمَرَةُ أَمْ لَا، وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ السَّقْيِ؛ لِأَنَّهُ مُعْظَمُ عَمَلِهَا وَلَفْظُهَا مُفَاعَلَةٌ عَلَى حَدِّ سَافَرَ وَعَافَاهُ اللَّهُ، أَوْ بِاعْتِبَارِ الْعَقْدِ فَيَكُونُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْمُتَعَلَّقِ بِالْفَتْحِ وَهُوَ الْمُسَاقَاةُ عَنْ الْمُتَعَلِّقِ بِالْكَسْرِ، وَهُوَ الْعَقْدُ، وَهُوَ لَا يَكُونُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَقْدٌ عَلَى عَمَلِ مُؤْنَةِ الْبَنَاتِ بِقَدْرٍ لَا مِنْ غَيْرِ غَلَّتِهِ لَا بِلَفْظِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ جُعْلٍ، فَيَدْخُلُ قَوْلُهَا لَا بَأْسَ بِالْمُسَاقَاةِ عَلَى أَنَّ كُلَّ ثَمَرَةٍ لِلْعَامِلِ، وَمُسَاقَاةِ الْبَقْلِ، وَقَوْلُهُ لَا بِلَفْظِ بَيْعٍ أَوْ إجَارَةٍ أَوْ جُعْلٍ يَدْخُلُ فِيهِ عَقْدُهَا بِلَفْظِ عَامَلْتُك مَعَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مُسَاقَاةً عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ فَيَكُونُ التَّعْرِيفُ غَيْرَ مَانِعٍ. وَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: التَّعْرِيفُ عَلَى طَرِيقِ سَحْنُونٌ فَإِنَّهَا تَنْعَقِدُ عِنْدَهُ بِغَيْرِ لَفْظِ سَاقَيْت كَعَامَلْتُك، وَارْتَضَى طَرِيقَهُ جَمْعٌ مِنْ الشُّيُوخِ قَائِلًا: وَهِيَ الْمَذْهَبُ، وَإِنَّمَا قَالَ لَا مِنْ غَيْرِ غَلَّتِهِ لِيَشْمَلَ مَا لَوْ كَانَ الْعَقْدُ عَلَى كُلِّ الثَّمَرَةِ أَوْ بَعْضِهَا، وَيَخْرُجُ مَا لَوْ كَانَ بِجُزْءٍ مِنْ غَيْرِ الثَّمَرَةِ، فَلَا تَصِحُّ لِخُرُوجِهَا عَنْ الْمُسَاقَاةِ كَوُقُوعِهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ عَرَضٍ. [أَرْكَانُ الْمُسَاقَاة] وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الشَّجَرُ، وَالْجُزْءُ الْمَشْرُوطُ لِلْعَامِلِ وَالْعَمَلُ وَالصِّيغَةُ وَالْعَاقِدُ وَشَرْطُهُ كَشَرْطِ عَاقِدِ الْإِجَازَةِ، وَاسْتَدَلَّ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَلَى جَوَازِهَا بِمَا فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَلَ أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ زَرْعٍ» وَوَقَعَ عَقْدُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعَهُمْ يَوْمَ فَتْحِ خَيْبَرَ، سَاقَاهُمْ فِي النَّخْلِ عَلَى أَنَّ لَهُمْ نِصْفَ الثَّمَرَةِ بِعَمَلِهِمْ وَالنِّصْفَ يُؤَدُّونَهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ لِأَصْحَابِهِ، فَقَالَ لَهُمْ: «أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمْ اللَّهُ عَلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ فَكَانَ يَبْعَثُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ رَوَاحَةَ فَيَخْرُصُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ ثُمَّ يَقُولُ لَهُمْ؛ إنْ شِئْتُمْ فَلَكُمْ وَتَضْمَنُونَ نَصِيبَ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ شِئْتُمْ فَلِي وَأَضْمَنُ نَصِيبَكُمْ، وَكَانُوا يَأْخُذُونَهُ» . فَكَانَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَصِّصًا لِمَا نَهَى عَنْهُ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عُمُومٌ، وَمُسَاقَاتُهُ لِيَهُودِ خَيْبَرَ فِي النَّخِيلِ خُصُوصٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى الْجَوَازِ، وَعَمِلَ بِهَا أَبُو بَكْرٍ فِي خِلَافَتِهِ وَصَدْرًا مِنْ خِلَافَةِ عُمَرَ، ثُمَّ أَجْلَاهُمْ عُمَرُ إلَى تَيْمَاءَ وَأَرِيحَاءَ. وَصِلَةٌ جَائِزَةٌ (فِي الْأُصُول) جَمْعُ أَصْلٍ، وَهُوَ كُلُّ مَا تُجْتَنَى ثَمَرَتُهُ وَيَبْقَى أَصْلُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا تَصِحُّ مُسَاقَاةُ شَجَرٍ، وَإِنْ بَعْلًا ذِي ثَمَرٍ لَمْ يَخْلُ بَيْعُهُ وَلَمْ يَخْلُفْ إلَّا تَبَعًا، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ شَرْطَ مُسَاقَاةِ الْأَشْجَارِ بُلُوغُهَا حَدَّ الْإِثْمَارِ، وَلَوْ تَمَّ الثَّمَرُ بِالْفِعْلِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَبْدُوَ صَلَاحُهَا، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ لَا يَخْلُفَ الْأَصْلُ أَوْ ثَمَرُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَا لَمْ يَبْلُغْ حَدَّ الْإِثْمَارِ، أَوْ مَا بَدَا صَلَاحُهُ، أَوْ مَا يَخْلُفُ تَبَعًا، وَإِلَّا جَازَ، وَالتَّبَعِيَّةُ أَنْ يَكُونَ التَّابِعُ الثُّلُثَ فَأَقَلَّ. وَتَصِحُّ الْمُسَاقَاةُ (عَلَى) كُلِّ (مَا تَرَاضَيَا عَلَيْهِ مِنْ الْأَجْزَاءِ) قَالَ خَلِيلٌ: تَصِحُّ بِكُلِّ جُزْءٍ قَلَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 شَيْءٍ يُنْشِئُهُ فِي الْحَائِطِ إلَّا مَا لَا بَالَ لَهُ مِنْ سَدِّ الْحَظِيرَةِ، وَإِصْلَاحِ الضَّفِيرَةِ وَهِيَ مُجْتَمَعُ الْمَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ بِنَاءَهَا، وَالتَّذْكِيرُ عَلَى الْعَامِلِ، وَإِصْلَاحُ مَسْقَطِ الْمَاءِ مِنْ الْغَرْبِ وَتَنْقِيَةُ مَنَاقِعِ الشَّجَرِ وَتَنْقِيَةُ الْعَيْنِ وَشِبْهُ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْعَامِلِ. وَلَا تَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ عَلَى إخْرَاجِ مَا فِي الْحَائِطِ مِنْ الدَّوَابِّ. وَمَا مَاتَ مِنْهَا فَعَلَى رَبِّهِ خَلَفُهُ. وَنَفَقَةُ   [الفواكه الدواني] أَوْ كَثُرَ شَاعَ وَعُلِمَ، فَأَشَارَ إلَى أَنَّ الْجُزْءَ لَا حَدَّ لَهُ، بَلْ لَوْ جُعِلَ لِلْعَامِلِ كُلُّ الثَّمَرَةِ صَحَّتْ كَمَا تَقَدَّمَتْ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْجُزْءِ الشُّيُوعُ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْلُومًا كَرُبُعٍ أَوْ نِصْفٍ أَوْ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ، فَلَا تَصِحُّ بِثَمَرِ نَخَلَاتٍ بِعَيْنِهَا وَلَا بِجُزْءٍ مُبْهَمٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْعَادَةُ مَعْرُوفَةً عِنْدَ النَّاسِ بِحَدٍّ، وَإِذَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَمِلًا عَلَى أَصْنَافٍ مِنْ الثِّمَارِ فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ فِي جَمِيعِهَا مُتَّفِقًا، وَيُشْتَرَطُ عِلْمُ الْحَائِطِ إمَّا بِالرُّؤْيَةِ أَوْ بِالْوَصْفِ، فَتَدْخُلُ مُسَاقَاةُ الْحَائِطِ الْغَائِبِ إنْ وُصِفَ حَيْثُ كَانَ يَصِلُ إلَيْهِ قَبْلَ كَمَالِ طِيبِهِ. (تَنْبِيهٌ) . مُقْتَضَى قَوْلِهِ: فِي الْأُصُولِ عَدَمُ جَوَازِهَا فِي غَيْرِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ تَصِحُّ فِي الزَّرْعِ كَالْقَصَبِ وَالْبَصَلِ وَالْمَقَاثِي لَكِنْ بِشُرُوطٍ. أَحَدُهَا: عَجْزُ رَبِّ الزَّرْعِ عَنْ الْقِيَامِ بِهِ. ثَانِيهَا: أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ بِتَرْكِ السَّعْيِ. ثَالِثُهَا: أَلَّا يَبْرُزَ مِنْ الْأَرْضِ. رَابِعُهَا: أَنْ لَا يَبْدُوَ صَلَاحُهُ. وَوَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي نَحْوِ الْقُطْنِ وَالْوَرْدِ مِمَّا تُجْنَى ثَمَرَتُهُ وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ أَصْلُهُ، فَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَ هَذِهِ بِالشَّجَرِ، وَبَعْضُهُمْ أَلْحَقَهَا بِالزَّرْعِ، فَتَجُوزُ مُسَاقَاتُهَا بِالشُّرُوطِ الْمَطْلُوبَةِ فِي الزَّرْعِ. (وَ) يَجِبُ أَنْ يَكُونَ (الْعَمَلُ) الَّذِي يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْحَائِطُ أَوْ مَا أُلْحِقَ بِهِ مِنْ سَقْيٍ وَآبَارٍ وَتَنْقِيَةِ مَنَاقِعِ الشَّجَرِ وَالْحَصَادِ وَالدِّرَاسِ، وَمَا أَشْبَهَهُ كُلُّهُ (عَلَى الْمُسَاقَى) بِفَتْحِ الْقَافِ، وَهُوَ الْعَامِلُ كَمَا عَلَيْهِ إقَامَةُ الْأَدَوَاتِ مِنْ الدِّلَاءِ وَالْمَسَاحِي وَالْأُجَرَاءِ وَسَائِرِ مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَمِلَ الْعَامِلُ جَمِيعَ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ عُرْفًا كَآبَارٍ وَتَنْقِيَةٍ وَدَوَابَّ وَأُجَرَاءَ، لِذَا لَا يَلْزَمُ تَفْصِيلُ ذَلِكَ وَقْتَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ عُرْفٌ فَلَا بُدَّ مِنْ النَّصِّ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَشْتَرِطَ) رَبُّ الْحَائِطِ (عَلَيْهِ) أَيْ الْعَامِلِ (عَمَلًا غَيْرَ عَمَلِ الْمُسَاقَاةِ) خَارِجًا عَنْ الْحَائِطِ كَاشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِ حَصْدَ زَرْعٍ لَهُ أَوْ بَيْعَ سِلْعَةٍ أَوْ بِنَاءَ حَائِطٍ فِي دَارِهِ، أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ كَانَ لَهُ بَالٌ أَمْ لَا بِدَلِيلِ اسْتِثْنَاءِ مَا لَا بَالَ لَهُ مِمَّا لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ وَإِبْقَاءِ مَا لَيْسَ لَهُ تَعَلُّقٌ بِالْحَائِطِ عَلَى عُمُومِهِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ (عَمَلَ شَيْءٍ يُنْشِئُهُ فِي الْحَائِطِ) مِمَّا لَهُ كَحَفْرِ بِئْرٍ أَوْ إنْشَاءِ غَرْسٍ؛ لِأَنَّ الْمُسَاقَاةَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ، وَلَمْ يَثْبُتْ جَوَازُ اشْتِرَاطِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فِي زَمَنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَفْهُومُ فِي الْحَائِطِ قَدْ سَبَقَ قَبْلَ هَذِهِ الْقَوْلَةِ. وَاسْتَثْنَى أَهْلُ الْمَذْهَبِ الْعَمَلَ الْقَلِيلَ الَّذِي تَسْمَحُ بِهِ النُّفُوسُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا مَا) قَلَّ مِمَّا (لَا بَالَ لَهُ) فَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ) نَحْوِ (سَدِّ الْحَظِيرَةِ) ، وَهِيَ الزَّرْبُ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْحَائِطِ لِمَنْعِ مَنْ يَتَسَوَّرُ عَلَى الْحَائِطِ، وَيُرْوَى بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَبِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ، فَالْمَعْنَى عَلَى الْأَوَّلِ سَدُّ الْفُرْجَةِ الْكَائِنَةِ فِي ذَاتِ الْحَظِيرَةِ، وَعَلَى الثَّانِي إصْلَاحُ الْحَظِيرَةِ بِالْأَحْبُلِ وَنَحْوِهَا مِمَّا يُمْسِكُ الْحَظِيرَةَ، وَهِيَ بِالظَّاءِ الْمُشَالَةُ مِنْ الْحَظْرِ وَهُوَ الْمَنْعُ. (وَ) مِنْ (إصْلَاحِ الضَّفِيرَةِ) بِالضَّادِ (وَهِيَ مُجْتَمَعُ الْمَاءِ) كَالصِّهْرِيجِ وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ غَيْرِ أَنْ يُنْشِئَ بِنَاءَهَا) إلَى اشْتِرَاطِ يَسَارِهِ مَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ عَلَى الْعَامِلِ: وَقَسْمُ الزَّيْتُونِ حَبًّا كَعَصْرِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِصْلَاحُ جِدَارٍ، وَكَنْسُ عَيْنٍ، وَسَدُّ حَظِيرَةٍ، وَإِصْلَاحُ ضَفِيرَةٍ، أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَعْظُمْ مُؤْنَتُهُ. وَأَمَّا اشْتِرَاطُ إنْشَاءِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى الْعَامِلِ فَلَا تَجُوزُ؛ لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى بَعْدَ الْقَضَاءِ مُدَّةَ الْمُسَاقَاةِ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يَفْسُدُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ بِاشْتِرَاطِهِ عَلَى الْعَامِلِ، وَمُلَخَّصُ مَا ذَكَرَ أَنَّ الْعَمَلَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: مُتَعَلِّقٌ بِإِصْلَاحِ الثَّمَرَةِ وَغَيْرُ مُتَعَلِّقٍ، فَغَيْرُ الْمُتَعَلِّقِ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى الْعَامِلِ، وَلَوْ قَلَّ، وَالْمُتَعَلِّقُ عَلَى الْعَامِلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَمِلَ الْعَامِلُ جَمِيعَ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ عُرْفًا كَآبَارٍ وَتَنْقِيَةٍ وَإِلَيْهِ أَشَارَ الْمُصَنِّفُ هُنَا بِقَوْلِهِ: (وَالتَّذْكِيرُ عَلَى الْعَامِلِ) بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَيُقَالُ لَهُ التَّلْقِيحُ وَالتَّأْبِيرُ وَهُوَ تَعْلِيقُ طَلْعِ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَكَذَا مَا يَلْحَقُ بِهِ أَيْضًا عَلَى الْمَذْهَبِ. (وَإِصْلَاحُ مَسْقَطِ الْمَاءِ) مُبْتَدَأٌ، وَمَا بَعْدَهُ مَرْفُوعٌ لِعَطْفِهِ عَلَيْهِ وَخَبَرُهُ جَائِزٌ الْآتِي، وَالْمُرَادُ بِهِ مَوْضِعُ سُقُوطِهِ. (مِنْ الْغَرْبِ) أَيْ الدَّلْوِ وَنَحْوِهِ مِنْ آلَاتِ الْمَاءِ، وَمَسْقَطٍ لَمْ يُسْمَعْ فِيهِ الْكَسْرُ كَمَسْجِدٍ، وَهَذَا مِمَّا شَذَّ؛ لِأَنَّ قِيَاسَ اسْمِ الْمَكَانِ مِمَّا مُضَارِعُهُ بِالضَّمِّ أَوْ الْفَتْحِ فَتْحُ عَيْنِهِ نَحْوُ مَدْخَلٍ وَمَكْتَبٍ، وَمَذْهَبٍ. (وَتَنْقِيَةُ مَنَاقِعِ الشَّجَرِ) مَعْطُوفٌ عَلَى إصْلَاحٍ، وَكَذَا مَا بَعْدَهُ، وَالْمَنَاقِعُ جَمْعُ مَنْقَعٍ بِفَتْحِ الْقَافِ مَوْضِعٌ يُسْتَنْقَعُ فِيهِ الْمَاءُ، وَالْمُرَادُ كَنْسُ أَمَاكِنِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي أُصُولِ الشَّجَرِ بِأَنْ يَحْفِرَ حَوْلَ الشَّجَرَةِ لِيَجْرِيَ فِيهِ الْمَاءُ. (وَتَنْقِيَةُ) أَيْ كَنْسُ (الْعَيْنِ) بِأَنْ يَخْرُجَ كُلُّ مَا سَقَطَ فِي السَّاقِيَّةِ مِنْ وَرِقٍ وَسَعَفٍ. (وَشِبْهُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ كُلِّ مَا لَهُ تَعَلُّقٌ بِإِصْلَاحِ الثَّمَرِ، كَإِصْلَاحِ الدَّلْوِ وَجَذِّ الثَّمَرِ وَرَمِّ نَحْوِ قُفَّةٍ وَتَهْيِئَةِ قَنَاةِ الْمَاءِ (جَائِزٌ) خَبَرُ إصْلَاحٍ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً، وَأَفْرَدَهُ لِتَنَاوُلِهِ بِالْمَذْكُورِ أَوْ بِاعْتِبَارِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ، وَ (أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَى الْعَامِلِ) فِي تَأْوِيلِ مَصْدَرٍ فَاعِلُ جَائِزٍ، وَلَا يُقَالُ: إنَّ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنَاقُضًا حَيْثُ جَعَلَ أَنَّ هَذِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 الدَّوَابِّ وَالْأُجَرَاءِ عَلَى الْعَامِلِ. وَعَلَيْهِ زَرِيعَةُ الْبَيَاضِ الْيَسِيرِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلْغَى ذَلِكَ لِلْعَامِلِ وَهُوَ أَحَلُّهُ. وَإِنْ كَانَ.   [الفواكه الدواني] الْمَذْكُورَاتِ عَلَى الْعَامِلِ بِالْأَصَالَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا عَلَيْهِ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ وَأَنَّهَا عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ وَتَجِبُ عَلَى الْعَامِلِ بِالْأَصَالَةِ بِالشُّرُوطِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْعَامِلِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ كَمَا عُلِمَ مِنْ قَوْلِهِ أَوَّلًا: وَالْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْمُسَاقَى بِفَتْحِ الْقَافِ، وَنَصَّ هُنَا عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَشْتَرِطَ عَلَيْهِ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ بِمُقْتَضَى عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ وَلَا يَفْسُدُ عَقْدُهَا بِالِاشْتِرَاطِ، فَيَكُونُ نَصَّ عَلَى مَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مَنْعُهُ؛ لِأَنَّ بَعْضَ أَشْيَاءَ تَكُونُ وَاجِبَةً بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَاشْتِرَاطُهَا فِي صُلْبِهِ يُفْسِدُهُ كَمَا فِي مَسَائِلَ يَصِحُّ نَقْدُ الْعِوَضِ فِيهَا تَطَوُّعًا وَتَفْسُدُ، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ اشْتِرَاطِ مَا يُوجِبُهُ الْحُكْمُ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ كُلَّهَا عَلَى الْعَامِلِ بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ، وَهَذَا الْمَسْلَكُ وَقَعَ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَعَمِلَ الْعَامِلُ جَمِيعَ مَا يَفْتَقِرُ إلَيْهِ عُرْفًا، ثُمَّ قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ: وَقَسْمُ الزَّيْتُونِ حَبًّا كَعَصْرِهِ عَلَى أَحَدِهِمَا، وَإِصْلَاحُ جِرَارٍ وَكَنْسُ عَيْنٍ وَسَدُّ حَظِيرَةٍ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا لَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ بِقَوْلِهِ: (وَتَجُوزُ الْمُسَاقَاةُ) الْمَدْخُولُ فِيهَا (عَلَى إخْرَاجِ مَا) كَانَ (فِي الْحَائِطِ مِنْ الدَّوَابِّ) وَالرَّقِيقِ وَالْأُجَرَاءِ وَالْآلَةِ، فَإِنْ وَقَعَ اشْتِرَاطُ ذَلِكَ فِي صُلْبِ عَقْدِهَا فَسَدَتْ، كَمَا يَفْسُدُ بِاشْتِرَاطِ زِيَادَةِ عَمَلٍ عَلَيْهِ غَيْرِ عَمَلِ الْحَائِطِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ: وَلَا نَقْصَ مَنْ فِي الْحَائِطِ وَلَا تَجْدِيدَ وَلَا زِيَادَةَ لِأَحَدِهِمَا، فَإِنْ حَصَلَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَسَدَ عَقْدُهَا، وَإِنْ حَصَلَ عَمَلٌ وَجَبَ لَهُ مُسَاقَاةُ مِثْلِهِ، وَأَمَّا التَّبَرُّعُ بِتِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَلَا بَأْسَ بِهِ. (تَنْبِيهٌ) . تَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ الْمُسَاقَاةِ أَنْ تَقَعَ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِ التَّمْرِ إلَخْ وَتَرَكَ التَّعَرُّضَ لِغَايَتِهَا، مَعَ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ تُحَدَّدَ بِأَجَلٍ مَعْلُومٍ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيُشْتَرَطُ بَاقِيهَا، وَأَقَلُّهُ الْجِذَاذُ، وَإِنْ لَمْ يُقَيَّدْ بِوَقْتٍ مَعْلُومٍ، فَالْعَقْدُ صَحِيحٌ وَيُحْمَلُ انْتِهَاؤُهَا عَلَى الْجِذَاذِ، وَإِنْ كَانَ يَتَكَرَّرُ فِي الْعَامِ فَيُحْمَلُ انْتِهَاؤُهَا عَلَى الْجِذَاذِ الْأَوَّلِ إنْ تَمَيَّزَتْ الْبُطُونُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحُمِلَتْ عَلَى أَوَّلِ إنْ لَمْ يُشْتَرَطْ ثَانٍ. وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ عَلَى مَا يُطْرَحُ بُطُونًا وَلَا يَتَمَيَّزُ بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ فَلَا يَجُوزُ مُسَاقَاتُهُ إلَّا تَبَعًا لِغَيْرِهِ مِمَّا يَنْضَبِطُ جِذَاذُهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَلْزَمُ رَبَّ الْمَالِ خَلَفُهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا مَاتَ مِنْهَا) أَيْ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ الَّتِي وَقَعَ الْعَقْدُ، وَهِيَ فِي الْحَائِطِ (فَعَلَى رَبِّهِ خَلَفُهُ) ، وَمِثْلُ الْمَوْتِ الْمَرَضُ وَالْإِبَاقُ، فَالْمَوْتُ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ أَيْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، وَوُجُوبُ الْخَلَفِ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ وَلَوْ بِغَيْرِ شَرْطٍ، فَفِي الْمُوَطَّإِ قَالَ مَالِكٌ: وَمَنْ مَاتَ مِنْ الرَّقِيقِ أَوْ غَابَ أَوْ مَرِضَ فَعَلَى رَبِّ الْمَالِ أَنْ يُخْلِفَهُ أَيْ، وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْعَامِلُ ذَلِكَ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) . كَمَا يَجِبُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ خَلَفُ مَا مَاتَ مِنْ الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَيْضًا أُجْرَةُ مَا كَانَ فِيهِ، وَأَمَّا مَا كَانَ فِيهِ مِنْ أَحْبُلٍ وَدِلَاءٍ، وَمَسَاحِي وَصَوَادِيدِ الْبِئْرِ، وَهِيَ الْمُسَمَّاةُ بِالزَّرَانِيقِ إذَا بَلِيَتْ أَوْ سُرِقَتْ فَلَا يَلْزَمُ رَبَّ الْحَائِطِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا دَخَلَ عَلَى انْتِفَاعِهِ بِهَا حَتَّى تَهْلِكَ أَعْيَانُهَا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ تَجْدِيدَهَا عَلَى الْعَامِلِ فَلَيْسَتْ كَالدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ، وَبَيْنَ مَا يَلْزَمُ الْعَامِلَ مِنْ الْأَحْبُلِ، وَمَا مَعَهَا مِنْ الدَّوَابِّ وَالْعَبِيدِ مُدَّةَ حَيَاتِهَا مَجْهُولَةٌ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ عَمَلُهَا بِذِمَّةِ رَبِّ الْحَائِطِ لَفَسَدَتْ الْمُسَاقَاةُ لِلْغَرَرِ، وَأَمَّا الْأَحْبُلُ وَنَحْوُهَا فَزَمَنُ الِانْتِفَاعِ بِهَا مَعْلُومٌ فِي الْعَادَةِ، فَوَجَبَ بَقَاؤُهَا عَلَى مُقْتَضَى الْأَصْلِ فِي التَّعْيِينِ. (وَنَفَقَةُ) الرَّقِيقِ وَعَلَفُ (الدَّوَابِّ، وَ) نَفَقَةُ (الْأُجَرَاءِ) وَكِسْوَتُهُمْ وَاجِبَةٌ (عَلَى الْعَامِلِ) سَوَاءٌ كَانَتْ لِرَبِّ الْحَائِطِ بِأَنْ كَانَتْ مَوْجُودَةً فِي الْحَائِطِ أَوْ كَانَتْ لِلْعَامِلِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيَلْزَمُهُ نَفَقَةُ نَفْسِهِ وَنَفَقَةُ دَوَابِّ الْحَائِطِ وَرَقِيقِهِ كَانُوا لَهُ أَوْ لِرَبِّ الْحَائِطِ، وَأَمَّا مَا تَرَتَّبَ فِي ذِمَّةِ رَبِّ الْحَائِطِ قِيلَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ فَإِنَّ عَلَيْهِ لَا عَلَى الْعَامِلِ، وَإِنَّمَا وَجَبَ عَلَى الْعَامِلِ نَفَقَةُ مَا ذُكِرَ، وَلَوْ كَانَ مِلْكًا لِرَبِّ الْحَائِطِ؛ لِأَنَّ عَلَيْهِ الْعَمَلَ وَجَمِيعَ الْمُؤَنِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ الَّتِي تَنْقَطِعُ بِانْقِطَاعِ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّ الْعِوَضَ يَقَعُ عَلَى ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ الْعَامِلَ يَلْزَمُهُ نَفَقَةُ الْأُجَرَاءِ، سَوَاءٌ كَانَ الْكِرَاءُ وَجِيبَةً أَوْ مُشَاهَرَةً، وَهُوَ كَذَلِكَ عِنْدَ ابْنِ الْبَاجِيِّ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَمَدَهُ خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَ الْوُجُوبَ بِغَيْرِ الْوَجِيبَةِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى الْبَيَاضِ، وَهُوَ مَا خَلَا مِنْ الزَّرْعِ وَالشَّجَرِ هَلْ يَدْخُلُ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ أَمْ لَا بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ (عَلَيْهِ) أَيْ الْعَامِلِ (زَرِيعَةُ) بِفَتْحِ الزَّايِ وَالرَّاءِ الْمَكْسُورَةِ الْمُخَفَّفَةِ (الْبَيَاضِ الْيَسِيرِ) الَّذِي اشْتَرَطَا إدْخَالَهُ فِي عَقْدِ الْمُسَاقَاةِ بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْجُزْءُ الْمَجْعُولُ لِلْعَامِلِ فِيهِ مَوْقِفًا لِجُزْءِ الْحَائِطِ، وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْبَذْرُ عَلَى الْعَامِلِ «؛ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُعْهَدْ أَنَّهُ دَفَعَ لِأَهْلِ خَيْبَرَ شَيْئًا حِينَ عَامَلَهُمْ عَلَى سَقْيِ حَوَائِطِهَا» . الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ كِرَاءُ الْبَيَاضِ مُنْفَرِدًا ثُلُثَ قِيمَةِ التَّمْرَةِ فَأَقَلَّ، كَمَا إذَا كَانَ مِائَةً وَقِيمَةُ الثَّمَرَةِ بَعْدَ إسْقَاطِ مَا أَنْفَقَ عَلَيْهَا مِائَتَانِ، وَالْعَمَلُ كُلُّهُ عَلَى الْعَامِلِ، هَذَا مُلَخَّصُ قَوْلِ خَلِيلٍ مُشَبَّهًا فِي الْجَوَازِ، وَكَبَيَاضِ نَخْلٍ أَوْ زَرْعٍ إنْ وَافَقَ الْجُزْءَ وَبَذَرَهُ الْعَامِلُ وَكَانَ ثُلُثًا بِإِسْقَاطِ كُلْفَةِ الثَّمَرَةِ، فَإِنْ فُقِدَ شَرْطٌ فَسَدَ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ، وَيَرُدُّ الْعَامِلُ إنْ عَمِلَ إلَى مُسَاقَاةِ مِثْلِهِ فِي الْحَائِطِ، وَإِلَى أُجْرَةِ مِثْلِهِ فِي الْبَيَاضِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ عَدَمُ جَوَازِ إلْغَائِهِ لِلْعَامِلِ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ أَخْذِهِ أَكْثَرَ مِمَّا شُرِطَ لَهُ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يُلْغَى) أَيْ يُتْرَكَ (ذَلِكَ) الْبَيَاضُ الْيَسِيرُ (لِلْعَامِلِ) إنْ سَكَتَا عَنْهُ أَوْ اشْتَرَطَهُ الْعَامِلُ لِنَفْسِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 الْبَيَاضُ كَثِيرًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي مُسَاقَاةِ النَّخْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْرَ الثُّلُثِ مِنْ الْجَمِيعِ فَأَقَلَّ. وَالشَّرِكَةُ فِي الزَّرْعِ جَائِزَةٌ إذَا كَانَتْ الزَّرِيعَةُ مِنْهُمَا جَمِيعًا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا وَكَانَتْ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ عَلَى الْآخَرِ. أَوْ الْعَمَلُ بَيْنَهُمَا وَاكْتَرَيَا   [الفواكه الدواني] (وَهُوَ) أَيْ إلْغَاؤُهُ (أَحَلُّهُ) أَيْ أَحَلُّ لَهُ مَنْ اشْتَرَطَ إدْخَالِهِ فِي الْمُسَاقَاةِ لِمَا فِي إلْغَائِهِ مِنْ السَّلَامَةِ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، «وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا سَاقَى أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى النَّخْلِ خَاصَّةً، وَتَرَكَ لَهُمْ بَيَاضَ النَّخْلِ» فَاسْتَحَبَّ مَالِكٌ هَذَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُلْغِيَ لِلْعَامِلِ إنْ سَكَتَا عَنْهُ أَوْ اشْتَرَطَهُ. قَالَ شُرَّاحُهُ: هَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْبَيَاضُ يَسِيرًا، وَأَمَّا الْكَثِيرُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ الْبَيَاضُ كَثِيرًا) بِحَيْثُ يَكُونُ كِرَاؤُهُ مُنْفَرِدًا فَوْقَ ثُلُثِ قِيمَةِ الثَّمَرَةِ (لَمْ يَجُزْ أَنْ يَدْخُلَ فِي) عَقْدِ (مُسَاقَاةِ النَّخْلِ إلَّا أَنْ يَكُونَ) أَيْ الْبَيَاضُ لَا بِقَيْدِهِ السَّابِقِ (قَدْرَ الثُّلُثِ مِنْ الْجَمِيعِ فَأَقَلَّ) حَتَّى يَصِيرَ تَابِعًا فَيَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي الْمُسَاقَاةِ، وَيَجُوزُ اشْتِرَاطُهُ لِلْعَامِلِ كَمَا يَجُوزُ إلْغَاؤُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى رَبِّ الْحَائِطِ أَنْ يَشْتَرِطَهُ لِنَفْسِهِ مَعَ سَقْيِ الْعَامِلِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَيَاضَ الْيَسِيرَ يَجُوزُ إدْخَالُهُ فِي الْمُسَاقَاةِ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَيَخْتَصُّ بِهِ الْعَامِلُ إنْ سَكَتَا عَنْهُ أَوْ اشْتَرَطَهُ، وَيَفْسُدُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ بِاشْتِرَاطِ رَبِّهِ لَهُ إنْ كَانَ يَنَالُهُ سَقْيُ الْعَامِلِ، كَمَا يَفْسُدُ عَقْدُ الْمُسَاقَاةِ بِإِدْخَالِ الْكَثِيرِ أَوْ اشْتِرَاطِهِ لِلْعَامِلِ أَوْ إلْغَائِهِ لَهُ بَلْ يَبْقَى لِرَبِّهِ. 1 - (تَتِمَّاتٌ) . الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ قَصَّرَ الْعَامِلُ وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ قَصَّرَ عَامِلٌ عَمَّا شُرِطَ حُطَّ مِنْ الْجُزْءِ بِنِسْبَتِهِ. مِثَالُهُ لَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ السَّقْيَ أَوْ الْحَرْثَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَحَرَثَ أَوْ سَقَى مَرَّتَيْنِ فَإِنَّهُ يَحُطُّ مِنْ الْجُزْءِ ثُلُثَهُ. وَأَمَّا لَوْ لَمْ يُقَصِّرْ بِأَنْ نَزَلَ الْمَطَرُ بِحَيْثُ اسْتَغْنَى الْحَائِطُ عَنْ السَّقْيِ فَلَا يُحَطُّ شَيْءٌ وَيَأْخُذُ الْجُزْءَ جَمِيعَهُ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ بِالدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ عَلَى سَقِيَّاتٍ فَيَحْصُلُ الْغَيْثُ وَيَسْتَمِرُّ عَلَى الْحَائِطِ حَتَّى اسْتَغْنَى فَإِنَّ الْأُجْرَةَ تَسْقُطُ؛ لِأَنَّ الْإِجَارَةَ مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْمُشَاحَّةِ. 1 - الثَّانِيَةُ: يَجُوزُ لِعَامِلِ الْمُسَاقَاةِ مُسَاقَاةُ غَيْرِهِ وَلَوْ أَقَلَّ أَمَانَةً مِنْهُ، وَيُحْمَلُ عَلَى ضِدِّ الْأَمَانَةِ فَيَضْمَنُ الْأَوَّلُ مُوجِبَ فِعْلِ الثَّانِي إنْ حَصَلَ مِنْهُ مُوجِبُ الضَّمَانِ، بِخِلَافِ وَرَثَةِ الْعَامِلِ فَإِنَّهُمْ مَحْمُولُونَ عَلَى الْأَمَانَةِ، بِخِلَافِ وَرَثَةِ عَامِلِ الْقِرَاضِ فَإِنَّهُمْ مَحْمُولُونَ عَلَى عَدَمِ الْأَمَانَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الشَّجَرِ يُمْكِنُ عَدُّهَا وَضَبْطُهَا. الثَّالِثَةُ: إنْ وَقَعَتْ الْمُسَاقَاةُ فَاسِدَةً وَجَبَ فَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ مُطْلَقًا، وَإِنْ لَمْ نَطَّلِعْ عَلَى فَسَادِهَا إلَّا بَعْدَ الشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ فَيُفْسَخُ أَيْضًا فِي بَاقِي الْمُدَّةِ إنْ كَانَ الْوَاجِبُ أُجْرَةَ الْمِثْلِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْفَسَادُ بِسَبَبِ زِيَادَةِ عَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهَا مُسَاقَاةَ الْمِثْلِ فَتَمْضِي بِالشُّرُوعِ فِي الْعَمَلِ، وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ فَسَادُهَا لِحُصُولِ غَرَرٍ أَوْ نَحْوِهِ مِنْ كُلِّ مَا يَفْسُدُ وَلَا يُخْرِجُهَا عَنْ الْمُسَاقَاةِ، كَمُسَاقَاةِ حَائِطٍ حَلَّ بَيْعُهُ مَا لَمْ يَحِلَّ بَيْعُهُ أَوْ حَائِطٍ بَلَغَ، أَوْ أَنَّ الْإِثْمَارَ مَعَ مَا لَمْ يَبْلُغْهُ، وَلَا تَبَعِيَّةَ فِي الصُّورَتَيْنِ. [بَاب الْمُزَارَعَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَسَائِلِ الْمُسَاقَاةِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْمُزَارَعَةِ لِقُرْبِهَا مِنْهَا؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا الْمَنْعُ، وَإِنَّمَا اجْتَزْنَا بِالشُّرُوطِ رِفْقًا بِالْأُمَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْمُزَارَعَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَقْدٌ عَلَى عِلَاجِ الزَّرْعِ، وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَالْمُرَادُ بِعِلَاجِهِ عَمَلُهُ وَبِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ بِالْآلَةِ فَقَالَ: (وَالشَّرِكَةُ فِي الزَّرْعِ جَائِزَةٌ) وَفِي الزَّرْعِ ثَوَابٌ جَسِيمٌ، فَقَدْ خَرَّجَ مُسْلِمٌ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْسًا وَلَا يَزْرَعُ زَرْعًا فَيَأْكُلُ مِنْهُ إنْسَانٌ وَلَا دَابَّةٌ وَلَا شَيْءٌ إلَّا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً» وَلَعَلَّ الضَّمِيرَ فِي كَانَتْ لِلْأُكَلَةِ بِضَمِّ الْهَمْزَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْفِعْلِ، وَصَدَقَةً بِالنَّصْبِ خَبَرُ كَانَتْ، وَهِيَ هُنَا بِمَعْنَى صَارَتْ؛ لِأَنَّهُ أَحَدُ مَعَانِيهَا، وَهَذَا عَلَى رِوَايَةٍ كَانَتْ بِالتَّاءِ، وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةٍ كَانَ لَهُ صَدَقَةٌ فَتَكُونُ صَدَقَةٌ مَرْفُوعَةً عَلَى أَنَّهَا اسْمُ كَانَ وَعَقْدُهَا لَا يَلْزَمُ إلَّا بِالْبَذْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: لِكُلٍّ فَسْخُ الْمُزَارَعَةِ إنْ لَمْ يُبْذَرْ، وَإِنَّمَا كَانَ عَقْدُهَا مُنْحَلًّا كَشَرِكَةِ التَّجْرِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ بِمَنْعِهَا مُطْلَقًا فَإِنْ حَصَلَ بَذْرٌ لَزِمَتْ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ فِي بَعْضِ الْأَرْضِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ خَلِيلٍ: إنْ لَمْ يُبْذَرْ، كَمَا أَنَّ ظَاهِرَهُ لُزُومُهَا بِالْبُذُورِ، وَلَوْ لَمْ يَنْضَمَّ لِلْبَذْرِ حَرْثٌ، وَأَمَّا الْحَرْثُ بِدُونِ الْبَذْرِ فَلَا يَمْنَعُ الْفَسْخَ. 1 - وَشَرْطُ عَاقِدِهَا أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَهْلِيَّةُ الِاشْتِرَاكِ فِي التِّجَارَةِ بِأَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّوْكِيلِ وَالتَّوَكُّلِ، فَلَا تَصِحُّ بَيْنَ صَبِيَّيْنِ وَلَا سَفِيهَيْنِ، وَلَا بَيْنَ صَبِيٍّ وَرَشِيدٍ. 1 - وَشَرْطُ صِحَّتِهَا سَلَامَةُ الْأَرْضِ مِنْ كِرَائِهَا بِمَا يُمْنَعُ كِرَاؤُهَا بِهِ، وَهُوَ جَمِيعُ مَا تُنْبِتُهُ، خَلَا الْخَشَبَ وَالْحَشِيشَ وَالصَّنْدَلَ وَالْعُودَ وَجَمِيعَ الْأَطْعِمَةِ وَلَوْ لَمْ تَخْرُجْ مِنْهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَصَحَّتْ إنْ سَلِمَا مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَمْنُوعٍ وَقَابَلَهَا عَمَلُ بَقَرٍ أَوْ وَعَمَلُ يَدٍ لَا شَيْءَ مِنْ الْبَذْرِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: (إذَا كَانَتْ الزَّرِيعَةُ مِنْهَا جَمِيعًا وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا) عَلَى الْمُنَاصَفَةِ فِيهِمَا سَوَاءٌ (كَانَتْ الْأَرْضُ لِأَحَدِهِمَا وَالْعَمَلُ) أَيْ عَمَلُ الْبَقَرِ، وَهُوَ الْحَرْثُ الْمُقَابِلُ لِلْأَرْضِ (عَلَى الْآخَرِ) ، وَهَذِهِ لَا شَكَّ فِي جَوَازِهَا، وَقَوْلُنَا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ فِيهِمَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَفَاضَلَا فِي الزَّرِيعَةِ بِأَنْ أَخْرَجَ أَحَدُهُمَا ثُلُثَهَا وَالْآخَرُ ثُلُثَيْهَا فَإِنَّهُ يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُ الْأَرْضِ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الثُّلُثَيْنِ فَالْمُزَارَعَةُ صَحِيحَةٌ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ الَّذِي أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الْعَمَلِ يُقَابِلُ ثُلُثًا مِمَّا أَخْرَجَهُ صَاحِبُ الْأَرْضِ، وَالْعَمَلُ يُقَابِلُ الْأَرْضَ وَالثُّلُثَ الثَّانِيَ. وَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْرَجَ الثُّلُثَيْنِ هُوَ صَاحِبُ الْعَمَلِ فَيُنْظَرُ إنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 الْأَرْضَ أَوْ كَانَتْ بَيْنَهُمَا. أَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا، وَمِنْ عِنْدِ الْآخَرِ الْأَرْضُ وَالْعَمَلُ عَلَيْهِ. أَوْ عَلَيْهِمَا، وَالرِّبْحُ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ وَلَوْ كَانَا اكْتَرَيَا الْأَرْضَ وَالْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ وَاحِدٍ، وَعَلَى الْآخَرِ الْعَمَلُ جَازَ إذَا تَقَارَبَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ. وَلَا يُنْقَدُ   [الفواكه الدواني] الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا أَثْلَاثًا عَلَى قَدْرِ مَا أَخْرَجَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّرِيعَةِ، فَالْجَوَازُ؛ لِأَنَّهُمَا تَسَاوَيَا فِي الزَّرِيعَةِ وَالْعَمَلُ مُقَابِلٌ لِلْأَرْضِ، وَإِنْ كَانَ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ فَالْمَنْعُ؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ يُقَابِلُ الثُّلُثَ، وَالثُّلُثُ الْآخَرُ مَعَ الْعَمَلِ مُقَابِلَانِ لِلْأَرْضِ وَذَلِكَ حَرَامٌ لِوُقُوعِ جُزْءٍ مِنْ الْبَذْرِ فِي مُقَابَلَةِ جُزْءٍ مِنْ الْأَرْضِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُخْرَجُ مِنْهُمَا مِنْ الْبَذْرِ مُتَّفِقَ النَّوْعِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا قَمْحًا وَالْآخَرُ شَعِيرًا أَوْ فُولًا؛ لِأَنَّ الْمُسَاوَاةَ فِي نَوْعِ الْبَذْرِ شَرْطٌ عِنْدَ سَحْنُونٌ، فَإِنْ اخْتَلَفَ بَذْرُهُمَا لَمْ تَكُنْ مُزَارَعَةً وَلِكُلٍّ مَا خَرَجَ مِنْ بَذْرِهِ وَيَتَرَاجَعَانِ فِي الْأَكْرِيَةِ. وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّسَاوِي فِي نَوْعِ الْبَذْرِ. وَقَوْلُهُ: وَالْعَمَلُ عَلَى الْآخَرِ أَيْ بِشَرْطِ مُسَاوَاتِهِ لِأُجْرَةِ الْأَرْضِ فِي الْقِيمَةِ أَوْ مُقَارَبَتِهِ لَهَا، كَأَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأَرْضِ تِسْعَةَ عَشَرَ وَقِيمَةُ الْعَمَلِ عِشْرُونَ أَوْ عَكْسُهُ، وَأَمَّا لَوْ تَبَاعَدَتْ فَلَا جَوَازَ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الزَّرْعِ قَدْرَ مَا أَخْرَجَ، فَالْجَوَازُ. مِثَالُ ذَلِكَ لَوْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ مِائَةً، وَالْبَقَرِ وَالْعَمَلِ خَمْسِينَ وَدَخَلَا عَلَى أَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ الثُّلُثَيْنِ وَلِرَبِّ الْبَقَرِ وَعَمَلِ الْيَدِ الثُّلُثَ جَازَ، وَإِنْ دَخَلَا عَلَى النِّصْفِ فَسَدَ عَقْدُهَا لِأَنَّهُ سَلَفٌ. وَإِنْ كَانَتْ أُجْرَةُ الْأَرْضِ خَمْسِينَ وَالْبَقَرِ وَعَمَلِ الْيَدِ وَدَخَلَا عَلَى التَّفَاوُتِ فَسَدَتْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَابَلَهَا مُسَاوٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: الْمُرَادُ بِالتَّسَاوِي أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ مُسَاوِيًا لِلْمُخْرَجِ، فَلَا يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَى أَنْ يَأْخُذَ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مِمَّا أَخْرَجَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُسَاوَاةِ الْمُنَاصَفَةَ، وَهَذِهِ أَوَّلُ الصُّوَرِ الْجَائِزَةِ. وَالثَّانِيَةُ أَشَارَ لَهَا بِقَوْلِهِ: (أَوْ الْعَمَلُ بَيْنَهُمَا) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا الزَّرِيعَةُ مِنْهُمَا، وَالزَّرْعُ بَيْنَهُمَا، وَالْعَمَلُ بَيْنَهُمَا، وَلَمْ يَأْخُذْ أَحَدُهُمَا أَكْثَرَ مَا أَخْرَجَ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُمَا قَدْ (اكْتَرَيَا الْأَرْضَ) مِنْ الْغَيْرِ (أَوْ كَانَتْ) أَيْ الْأَرْضُ مُشْتَرَكَةً (بَيْنَهُمَا) إمَّا بِمِلْكٍ أَوْ مَنْفَعَتِهَا وَهَذِهِ مَسْأَلَةٌ ثَالِثَةٌ، وَفَرْضُ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الزَّرِيعَةَ مِنْهُمَا وَالْعَمَلَ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمُ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ الْجَوَازُ. [الصُّوَر الْمَمْنُوعَة فِي الْمُزَارَعَة] وَأَشَارَ إلَى الصُّوَرِ الْمَمْنُوعَةِ بِقَوْلِهِ: (أَمَّا إنْ كَانَ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا وَمِنْ عِنْدِ الْآخَرِ الْأَرْضُ، وَ) جُعِلَ (الْعَمَلُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ هَذِهِ الشَّرِكَةَ لَا تَجُوزُ وَهِيَ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ فَلَّاحِي مِصْرَ بِالْمُشَاطَرَةِ. وَوَجْهُ عَدَمِ جَوَازِهَا وُقُوعُ بَعْضِ الْبَذْرِ فِي مُوَاجَهَةِ الْأَرْضِ، وَيَصِحُّ عَوْدُ ضَمِيرِ عَلَيْهِ لِمُخْرَجِ الْبَذْرِ، فَيَكُونُ أَحَدُهُمَا أَخْرَجَ الْبَذْرَ وَالْعَمَلَ، وَمِنْ عِنْدِ الْآخَرِ الْأَرْضُ فَقَطْ، وَهِيَ فَاسِدَةٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ الْبَذْرَ مَعَ الْعَمَلِ مُقَابِلَانِ لِلْأَرْضِ، فَلَمْ تَسْلَمْ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَمْنُوعٍ، فَهِيَ صُورَةٌ ثَانِيَةٌ مِنْ الصُّوَرِ الْمَمْنُوعَةِ. وَثَالِثُهَا أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (أَوْ) كَانَ الْعَمَلُ (عَلَيْهِمَا) وَالْمَسْأَلَةُ بِحَالِهَا الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِ أَحَدِهِمَا، وَمِنْ عِنْدِ الْآخَرِ الْأَرْضُ (، وَ) الْحَالُ أَنَّ (الرِّبْحَ بَيْنَهُمَا) فِي الصُّوَرِ الثَّلَاثِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي مَرْجِعِ الضَّمِيرِ (لَمْ يَجُزْ) الِاشْتِرَاكُ، وَهَذَا جَوَابُ أَمَّا لِمَا فِيهَا مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ، وَعِلَّةُ عَدَمِ الْجَوَازِ فِي الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ عَدَمُ سَلَامَةِ الشَّرِكَةِ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهَا، وَالْمُصَنِّفُ حَذَفَ لَمْ يَجُزْ مِمَّا تَقَدَّمَ لِدَلَالَةِ الْمُتَأَخِّرِ عَلَيْهِ، وَبَقِيَ مِنْ صُوَرِ الْجَوَازِ صُورَةٌ كَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَهَا مَعَ صُوَرِ الْجَوَازِ الْمُتَقَدِّمَةِ لِتَصِيرَ مَسَائِلُ الْجَوَازِ مُجْتَمِعَةً وَصُوَرُ الْمَنْعِ مُجْتَمِعَةً، وَأَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ كَانَا اكْتَرَيَا الْأَرْضَ) مِنْ الْغَيْرِ أَوْ كَانَتْ مَمْلُوكَةً لَهُمَا أَوْ لِأَحَدِهِمَا وَأَكْرَى شَرِيكُهُ نِصْفَهَا بِدَرَاهِمَ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا يَجُوزُ كِرَاؤُهَا. (وَ) دَخَلَا عَلَى أَنَّ (الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِ وَاحِدٍ وَعَلَى) الشَّرِيكِ (الْآخَرِ الْعَمَلُ جَازَ ذَلِكَ) الْعَقْدُ (إذَا) تَسَاوَتْ أَوْ (تَقَارَبَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مَعَ بَذْرٍ وَعَمَلٍ عَلَى الْمَشْهُورِ، مِثَالُ التَّقَارُبِ أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْبَذْرِ أَوْ الْعَمَلِ أَحَدَ عَشَرَ وَقِيمَةُ الْآخَرِ عَشَرَةً، وَيُشْتَرَطُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ الرِّبْحُ بَيْنَهُمَا عَلَى الْمُنَاصَفَةِ. وَأَمَّا لَوْ دَخَلَا عَلَى التَّفَاوُتِ بِأَنْ جُعِلَ لِوَاحِدٍ الثُّلُثُ وَلِلْآخَرِ الثُّلُثَانِ، فَإِنْ كَانَ الْمَجْعُولُ لَهُ الثُّلُثَانِ صَاحِبَ الْعَمَلِ جَازَ ذَلِكَ أَيْضًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ صَاحِبَ الْبَذْرِ فَقَوْلَانِ بِالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، وَلَيْسَتْ هَذِهِ الصُّورَةُ مُكَرَّرَةً مَعَ الصُّوَرِ الْجَائِزَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ؛ لِأَنَّ الزَّرِيعَةَ فِي هَذِهِ مِنْ أَحَدِهِمَا، بِخِلَافِ الصُّوَرِ الْمُتَقَدِّمَةِ الْبَذْرُ مِنْ عِنْدِهِمَا. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَلَخَّصَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ صِحَّةِ الشَّرِكَةِ فِي الزَّرْعِ السَّلَامَةُ مِنْ كِرَاءِ الْأَرْضِ بِمَمْنُوعٍ وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الْخَارِجِ وَالْمُخْرَجِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّسَاوِي الْمُنَاصَفَةَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَبَرَّعَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ بَعْدَ الْعَقْدِ اللَّازِمِ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ أَوْ غَيْرِهِ، وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ شَرْطًا آخَرَ، وَهُوَ خَلْطُ الْبَذْرِ إنْ كَانَ مِنْ عِنْدِهِمَا، وَيَكْفِي خَلْطُهُ، وَلَوْ حُكْمًا بِأَنْ يُخْرِجَ كُلُّ وَاحِدٍ الْبَذْرَ مِنْ عِنْدِهِ وَلَمْ يَخْلِطَاهُ حَتَّى يَصِلَا إلَى الْفَدَّانِ، وَبَذَرَ كُلُّ وَاحِدٍ بَذْرَهُ بِحَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُ عَنْ بَذْرِ صَاحِبِهِ، فَإِنْ تَمَيَّزَ بِأَنْ بَذَرَ كُلٌّ فِي نَاحِيَةٍ فَلَا تَصِحُّ وَلِكُلٍّ مَا نَبَتَهُ حَبُّهُ، وَاَلَّذِي مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ أَحَدُ قَوْلَيْ سَحْنُونٍ، وَقَوْلُهُ الْآخَرُ مُوَافِقٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 فِي كِرَاءِ أَرْضٍ غَيْرِ مَأْمُونَةٍ قَبْلَ أَنْ تُرْوَى. وَمَنْ ابْتَاعَ ثَمَرَةً فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ فَأُجِيحَ بِبَرْدٍ أَوْ جَرَادٍ أَوْ جَلِيدٍ أَوْ غَيْرِهِ فَإِنْ أُجِيحَ قَدْرُ الثُّلُثِ فَأَكْثَرُ وُضِعَ عَنْ الْمُشْتَرِي قَدْرُ ذَلِكَ مِنْ الثَّمَنِ، وَمَا نَقَصَ عَنْ الثُّلُثِ فَمِنْ الْمُبْتَاعِ. وَلَا جَائِحَةَ فِي.   [الفواكه الدواني] لِقَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِ الْخَلْطِ لَا حِسًّا وَلَا حُكْمًا، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ أَبِي الْحَسَنِ فِي شَرْحِ الْمُدَوَّنَةِ وَعَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مِنْ شُرُوطِ سَحْنُونٍ اتِّفَاقُ الْبَذْرَيْنِ فِي النَّوْعِيَّةِ، وَمَذْهَبُ ابْنِ الْقَاسِمِ عَدَمُ اعْتِبَارِ هَذَا الشَّرْطِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَقَعَ عَقْدُهَا بِلَفْظِ الشَّرِكَةِ لَا إنْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْإِجَارَةِ أَوْ الْإِطْلَاقِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ وَقَعَتْ فَاسِدَةً، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهَا تُفْسَخُ قَبْلَ الْفَوَاتِ بِالْعَمَلِ، وَأَمَّا بَعْدَ فَوَاتِهَا بِالْعَمَلِ فَأَشَارَ لَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ فَسَدَتْ وَتَكَافَآ عَمَلًا فَبَيْنَهُمَا وَتَرَادَّا غَيْرَهُ أَيْ غَيْرَ الْعَمَلِ، كَمَا لَوْ كَانَتْ الْأَرْضُ مِنْ أَحَدِهِمَا وَالْبَذْرُ مِنْ الْآخَرِ فَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْبَذْرِ عَلَى صَاحِبِ الْأَرْضِ بِمِثْلِ نِصْفِ بَذْرِهِ، وَيَرْجِعُ صَاحِبُ الْأَرْضِ عَلَى صَاحِبِ الْبَذْرِ بِأُجْرَةِ نِصْفِ أَرْضِهِ، وَلَا خَفَاءَ فِي فَسَادِ هَذِهِ الصُّورَةِ لِمُقَابَلَةِ الْأَرْضِ الْبَذْرَ، وَالْمُرَادُ بِالتَّكَافُؤِ فِي الْعَمَلِ وُقُوعُهُ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا وَإِنْ لَمْ يَتَسَاوَيَا فِي قَدْرِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الزَّرْعُ بَيْنَهُمَا إذَا انْضَمَّ لِعَمَلِ يَدِ كُلٍّ مِنْهُمَا غَيْرُهُ مِنْ أَرْضٍ أَوْ بَذْرٍ أَوْ عَمَلِ بَقَرٍ وَبَعْضِ ذَلِكَ. وَأَمَّا لَوْ وَقَعَ الْعَمَلُ مِنْ أَحَدِ الشَّرِيكَيْنِ فَقَطْ فَالزَّرْعُ كُلُّهُ لَهُ؛ لِأَنَّهُ نَشَأَ عَنْ عَمَلِهِ، وَعَلَى الْآخَرِ أُجْرَةُ الْأَرْضِ، فَشَرْطُ اخْتِصَاصِ الْمُنْفَرِدِ بِالْعَمَلِ بِالزَّرْعِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَ عَمَلِهِ إمَّا بَذْرٌ أَوْ أَرْضٌ، أَوْ تَكُونَ الْأَرْضُ وَالْبَذْرُ مِنْهُمَا وَالْعَمَلُ مِنْ وَاحِدٍ، وَلَا بُدَّ أَيْضًا أَنْ يَنْضَمَّ إلَى عَمَلِ يَدِهِ آلَةٌ مِنْ بَقَرٍ أَوْ مِحْرَاثٍ، وَإِلَّا فَلَيْسَ لَهُ إلَّا أُجْرَةَ مِثْلِهِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ الْخُمَاسِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا إذَا اكْتَرَى شَخْصٌ قِطْعَةَ أَرْضٍ قَبْلَ رَيِّهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ الدُّخُولُ عَلَى أَنْ (يَنْقُدَ) الْأَجْرَ (فِي كِرَاءِ أَرْضٍ غَيْرِ مَأْمُونَةِ) الرَّيِّ (قَبْلَ أَنْ تُرْوَى) بِالْفِعْلِ كَأَرْضِ الْمَطَرِ وَأَرْضِ الْعَيْنِ الْقَلِيلَةِ الْمَاءِ؛ لِأَنَّ الْمَنْقُودَ يَتَرَدَّدُ بَيْنَ السَّلَفِيَّةِ وَالثَّمَنِيَّةِ. وَأَمَّا النَّقْدُ تَطَوُّعًا فَلَا يَمْتَنِعُ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْعَقْدِ مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَمَفْهُومُ غَيْرِ الْمَأْمُونَةِ أَنَّ الْمَأْمُونَةَ كَأَرْضِ النِّيلِ الْقَرِيبَةِ مِنْ الْبَحْرِ الشَّدِيدَةِ الِانْخِفَاضِ، وَكَأَرْضِ الْمَطَرِ فِي بِلَادِ الْمَشْرِقِ يَجُوزُ عَقْدُ الْكِرَاءِ فِيهَا عَلَى النَّقْدِ وَلَوْ مَعَ الشَّرْطِ، كَمَا يَجُوزُ عِنْدَ كِرَائِهَا، وَلَوْ طَالَتْ الْمُدَّةُ كَالثَّلَاثِينَ سَنَةً. وَأَمَّا الَّتِي رُوِيَتْ بِالْفِعْلِ أَوْ تَحَقَّقَ رَيُّهَا وَتَمَكَّنَ الْمُكْتَرِي مِنْ زَرْعِهَا فَيَجِبُ نَقْدُ الْكِرَاءِ فِيهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَجِبُ فِي مَأْمُونَةِ النِّيلِ إذَا رُوِيَتْ. قَالَ شُرَّاحُهُ: الْمُرَادُ تَحَقُّقُ رَيِّهَا، وَإِنْ لَمْ تُرْوَ بِالْفِعْلِ وَتَمَكَّنَ مِنْ زَرْعِهَا؛ لِأَنَّ الْكِرَاءَ إنَّمَا يَلْزَمُ بِالتَّمَكُّنِ، وَمَحَلُّ وُجُوبِ نَقْدِ الْكِرَاءِ فِي الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ حَيْثُ لَمْ يَشْتَرِطَا تَأْجِيلَ الْكِرَاءِ، وَإِلَّا عُمِلَ بِالشَّرْطِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) . بَقِيَ لَنَا مَسْأَلَتَانِ مُتَعَلِّقَتَانِ بِكِرَاءِ الْأَرْضِ، إحْدَاهُمَا: الْأَرْضُ الْمَغْمُورَةُ بِالْمَاءِ وَيَنْدُرُ انْكِشَافُهَا، وَحُكْمُ هَذِهِ أَنَّهُ يَجُوزُ اكْتِرَاؤُهَا عَلَى تَقْدِيرِ انْكِشَافِ الْمَاءِ عَنْهَا، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ النَّقْدُ فِيهَا وَلَوْ تَطَوُّعًا. وَثَانِيَتُهُمَا: الْمَغْمُورَةُ الَّتِي لَا يُمْكِنُ انْكِشَافُ الْمَاءِ عَنْهَا عَادَةً لَا يَجُوزُ عَقْدُ كِرَائِهَا حَتَّى تَنْكَشِفَ بِالْفِعْلِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْجَوَائِحِ جَمْعُ جَائِحَةٍ، وَهِيَ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْجَوْحِ، وَهُوَ الِاسْتِئْصَالُ وَالْهَلَاكُ، وَهِيَ كُلُّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ كَسَمَاوِيٍّ وَجَيْشٍ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِمَا هُوَ قَرِيبٌ مِنْ هَذَا حَيْثُ قَالَ: الْجَائِحَةُ مَا أُتْلِفَ مِنْ مَعْجُوزٍ عَنْ دَفْعِهِ عَادَةً قَدْرًا مِنْ ثَمَرٍ أَوْ نَبَاتٍ بَعْدَ بَيْعِهِ، فَقَوْلُهُ: مِنْ مَعْجُوزٍ مِنْ لِبَيَانِ الْجِنْسِ وَقَدْرًا مَفْعُولُ أَتْلَفَ وَأَطْلَقَ فِي الْقَدْرِ لِيَتَنَاوَلَ الْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ؛ لِأَنَّ كَلَامَهُ شَامِلٌ لِلثِّمَارِ وَغَيْرِهَا، وَإِنْ كَانَ يُشْتَرَطُ فِيهِ الثُّلُثُ فِي الثِّمَارِ بِخِلَافِ أَنْوَاعِ النَّبَاتِ وَالْبُقُولِ فَتُوضَعُ مُطْلَقًا وَلِوَضْعِهَا شُرُوطٌ أَرْبَعَةٌ: أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ مِنْ بَيْعٍ وَإِنْ عَرِيَتْهُ لَا إنْ كَانَتْ مِنْ مَهْرٍ وَلَا مِنْ هِبَةٍ وَلَا صَدَقَةٍ، وَأَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ قَدْ بَقِيَتْ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ؛ لِيَنْتَهِيَ طِيبُهَا فَإِنْ تَنَاهَتْ، وَمَضَى مَا تَقَعُ فِيهِ عَادَةً فَلَا تُوضَعُ، وَأَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ اُشْتُرِيَتْ مُفْرَدَةً عَنْ أَصْلِهَا أَوْ اشْتَرَاهَا قَبْلَ أَصْلِهَا ثُمَّ اشْتَرَى أَصْلَهَا قَبْلَهَا أَوْ اشْتَرَاهُمَا مَعًا، وَأَنْ يَكُونَ الذَّاهِبُ الثُّلُثَ فَأَكْثَرَ فِي الثِّمَارِ. فَقَالَ: (وَمَنْ ابْتَاعَ ثَمَرَةً فِي رُءُوسِ الشَّجَرِ) سَوَاءٌ كَانَتْ ثَمَرَةَ نَخْلٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَوَقَعَ الشِّرَاءُ بَعْدَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ وَقَبْلَ تَنَاهِي طِيبِهَا، أَوْ بِيعَتْ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا عَلَى شَرْطِ الْجَذِّ. (فَأُجِيحَ) مَا ذَكَرَ مِنْ الثَّمَرَةِ (بِبَرَدٍ) ، وَهُوَ الْحَجَرُ النَّازِلُ مَعَ الْمَطَرِ، وَهُوَ مُحَرَّكُ الرَّاءِ. (أَوْ) أُجِيحَ بِأَكْلِ (جَرَادٍ) جَمْعُ جَرَادَةٍ تَقَعُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى كَالْبَقَرَةِ، سُمِّيَ جَرَادًا؛ لِأَنَّهُ يَجْرُدُ الْأَرْضَ بِأَكْلِ مَا عَلَيْهَا. (وَ) أُجِيحَ بِسَبَبِ حُلُولِ (جَلِيدٍ) ، وَهُوَ النَّدَا السَّاقِطُ مِنْ السَّمَاءِ فَيَجْمُدُ عَلَى الْأَرْضِ. (أَوْ غَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ مَا ذَكَرَ مِنْ رِيحٍ أَوْ دُودٍ أَوْ طَيْرٍ أَوْ غَرَقٍ أَوْ سُمُومٍ أَوْ غُبَارٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ هِيَ مَا لَا يُسْتَطَاعُ دَفْعُهُ كَسَمَاوِيٍّ وَجَيْشٍ أَوْ سَارِقٍ خِلَافُ مَحَلِّهِ مَا لَمْ يُعْلَمْ السَّارِقُ، وَإِلَّا فَلَا، وَيَتْبَعُهُ الْمُشْتَرِي وَلَوْ مُعْدَمًا، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَالْأَظْهَرُ فِي عَدَمِهِ غَيْرُ مَرْجُوِّ يُسْرِهِ عَنْ قُرْبِ أَنَّهُ جَائِحَةٌ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ. وَأَشَارَ إلَى شَرْطِ الْوَضْعِ فِي الثَّمَرَةِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ أُجِيحَ قَدْرُ الثُّلُثِ) أَيْ ثُلُثُ مَكِيلِ الثَّمَرَةِ (فَأَكْثَرَ وُضِعَ عَنْ الْمُشْتَرِي قَدْرُ) مَا يَخُصُّ (ذَلِكَ) الْمُجَاحَ (مِنْ الثَّمَنِ) الَّذِي اُشْتُرِيَتْ بِهِ الثَّمَرَةُ وَلَوْ كَانَ الثُّلُثُ مُلَفَّقًا مِنْ كَصَيْحَانِيٍّ وَبَرْنِيِّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 الزَّرْعِ وَلَا فِيمَا اُشْتُرِيَ بَعْدَ أَنْ يَبِسَ مِنْ الثِّمَارِ. وَتُوضَعُ جَائِحَةُ الْبُقُولِ، وَإِنْ قَلَّتْ وَقِيلَ لَا يُوضَعُ إلَّا قَدْرُ الثُّلُثِ. وَمَنْ   [الفواكه الدواني] وَقَيَّدْنَا بِتِلْكَ الْمَكِيلَةِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ الْمَكِيلَةُ لَا الْقِيمَةُ، فَإِذَا كَانَ الْمُجَاحُ أَقَلَّ مِنْ ثُلُثِ الْمَكِيلَةِ فَإِنَّهُ لَا يُوضَعُ عَنْ الْمُشْتَرِي شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ وَلَوْ سَاوَتْ قِيمَةُ ذَلِكَ الْأَقَلِّ نِصْفَ الثَّمَنِ أَوْ جَمِيعَهُ. وَيَلْزَمُ الْمُشْتَرِيَ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي، وَإِنْ قَلَّ، بِخِلَافِ الِاسْتِحْقَاقِ فَإِنَّهُ قَدْ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي مَعَهُ وَقَدْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ التَّمَسُّكُ بِالْبَاقِي. وَالْفَرْقُ أَنَّ الْجَوَائِحَ لِتَكَرُّرِهَا يُعَدُّ الْمُشْتَرِي كَالدَّاخِلِ عَلَى ذَلِكَ وَلِنُدُورِ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ. (وَ) مَفْهُومُ قَدْرِ الثُّلُثِ أَنَّ (مَا نَقَصَ عَنْ الثُّلُثِ فَمِنْ الْمُبْتَاعِ) أَيْ مُصِيبَتُهُ مِنْهُ وَيَلْزَمُهُ جَمِيعُ الثَّمَنِ؛ لِأَنَّهُ مُجَوِّزٌ لِذَهَابِ مَا نَقَصَ عَنْ الثُّلُثِ بِأَكْلِ طَيْرٍ أَوْ سُقُوطِ بَعْضِ الثَّمَرَةِ بِرِيحٍ أَوْ غَيْرِهِ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ بِالْعَادَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُوضَعُ جَائِحَةُ الثِّمَارِ كَالْمَوْزِ وَالْمَقَاثِي، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى الْجَذِّ، وَمِنْ عَرِيَّةٍ لَا مَهْرٍ إنْ بَلَغَتْ ثُلُثَ الْمَكِيلَةِ، وَلَوْ مِنْ كَصَيْحَانِيٍّ وَبَرْنِيِّ وَبَقِيَتْ؛ لِيَنْتَهِيَ طِيبُهَا، وَأُفْرِدَتْ أَوْ أُلْحِقَ أَصْلُهَا لَا عَكْسُهُ أَوْ مَعَهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى وَضْعِ الْجَوَائِحِ مَا فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِوَضْعِ الْجَوَائِحِ» وَفِيهِ أَيْضًا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ بِعْت مِنْ أَخِيك تَمْرًا فَأَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْخُذَ مِنْهُ شَيْئًا ثُمَّ تَأْخُذَ مَالَ أَخِيك بِغَيْرِ حَقٍّ» وَرُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إذَا أُصِيبَ ثُلُثُ الثَّمَرَةِ فَقَدْ وَجَبَ عَلَى الْبَائِعِ الْوَضْعِيَّةُ» فَمَا فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ مُقَيِّدٌ لِإِطْلَاقِ الَّتِي قَبْلَهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّحْدِيدِ بِالثُّلُثِ فِي غَيْرِ مَا ذَهَبَ بِسَبَبِ الْعَطَشِ، وَإِلَّا وُضِعَتْ مُطْلَقًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُوضَعُ بِسَبَبِ الْعَطَشِ، وَإِنْ قَلَّتْ؛ لِأَنَّ السَّقْيَ لَمَّا كَانَ عَلَى الْبَائِعِ أَشْبَهَ مَا فِيهِ حَقُّ تَوْفِيَةٍ. الثَّانِي: مِثْلُ ذَهَابِ ثُلُثِ الْمَكِيلَةِ ذَهَابُ ثُلُثِ الْقِيمَةِ فِيمَا إذَا تَعَيَّنَتْ وَالْعَيْنُ قَائِمَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعْيِينُهَا كَذَلِكَ فَإِنَّ التَّشْبِيهَ فِي مُطْلَقِ الذَّهَابِ لَا بِقَيْدِ الْمَكِيلَةِ، فَإِنْ أَذْهَبَ التَّعْيِيبُ ثُلُثَ الْقِيمَةِ وُضِعَ عَنْ الْمُشْتَرِي ثُلُثُ الثَّمَنِ. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الْوَضْعِ كَمَا قَدَّمْنَا أَنْ تَكُونَ الثَّمَرَةُ بَقِيَتْ لِيَنْتَهِيَ طِيبُهَا قَالَ: (وَلَا جَائِحَةَ فِي الزَّرْعِ) كَالْقَمْحِ وَالْفُولِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحُبُوبِ؛ لِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ لَا يَحِلُّ بَيْعُهُ إلَّا بَعْدَ يُبْسِهِ وَاسْتِحْصَادِهِ، فَتَأْخِيرُهُ مَحْضُ تَفْرِيطٍ مَعَ الْمُشْتَرِي فَلَا يُوضَعُ عَنْهُ شَيْءٌ مِنْ الثَّمَنِ. (وَلَا فِيمَا اُشْتُرِيَ بَعْدَ أَنْ يَبِسَ مِنْ الثِّمَارِ) وَتَنَاهَى طِيبُهُ وَفَاتَ أَوَانُ قَطْعِهِ عَلَى الْمُعْتَادِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تَنَاهَتْ الثَّمَرَةُ فَلَا جَائِحَةَ كَالْقَصَبِ الْحُلْوِ وَيَابِسِ الْحَبِّ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَ مَا ذَكَرَ بَعْدَ زَمَانِ قَطْعِهِ عَلَى الْعَادَةِ مَحْضُ تَفْرِيطٍ، فَيَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي جَمِيعُ الثَّمَنِ، وَلَوْ أَذْهَبَتْ الْجَائِحَةُ جَمِيعَهُ، وَأَمَّا لَوْ أَصَابَتْهُ الْجَائِحَةُ فِي الزَّمَانِ الَّذِي تُقْطَعُ فِيهِ عَلَى الْعَادَةِ لَحُطَّتْ عَنْهُ؛ لِأَنَّ تَأْخِيرَهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ بِمَنْزِلَةِ تَأْخِيرِهَا لِتَنَاهِي طِيبِهَا. (تَنْبِيهٌ) . فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ بَيْعِ الْحُبُوبِ فِي الْأَنْدَرِ لَكِنْ عَلَى تَفْصِيلٍ مُحَصَّلُهُ: إنْ وَقَعَ بَعْدَ صَيْرُورَتِهَا صُبْرَةً فَلَا خِلَافَ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ فِي الْجَوَازِ وَقَعَ الْبَيْعُ عَلَى الْكَيْلِ أَوْ الْجُزَافِ بِشُرُوطِهِ، وَأَمَّا إنْ وَقَعَ الْبَيْعُ قَبْلَ ذَلِكَ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ نَقْشِهِ وَقَبْلَ دَرْسِهِ فَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ الْمَنْعُ، وَأَمَّا بَعْدَ دَرْسِهِ وَقَبْلَ تَذْرِيَتِهِ فَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ بَيْعُ حِنْطَةٍ فِي سُنْبُلٍ وَتِبْنٍ، وَإِنْ بِكَيْلِ وَقْتٍ جُزَافًا لَا مَنْفُوشًا، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: وَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا فِي جَوَازِ بَيْعِ الزَّرْعِ قَائِمًا لَكِنْ بِشُرُوطِ الْجُزَافِ، وَيَجُوزُ الْمُبْتَغَى مِنْهُ مِنْ حَبٍّ وَغَيْرِهِ كَالْبِرْسِيمِ فَرَاجِعْهُ إنْ شِئْت. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ التَّحْدِيدِ بِالثُّلُثِ مُخْتَصًّا بِالثِّمَارِ قَالَ: (وَتُوضَعُ) عَنْ الْمُشْتَرِي (جَائِحَةُ الْبُقُولِ، وَإِنْ قَلَّتْ) وَنَقَصَتْ عَنْ الثُّلُثِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُجَاحُ شَيْئًا قَلِيلًا جِدًّا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُوضَعُ مِنْ الْعَطَشِ، وَإِنْ قَلَّتْ كَالْبُقُولِ تَشْبِيهٌ فِي الْوَضْعِ، وَإِنْ قَلَّتْ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ الْعَطَشِ، وَالْمُرَادُ بِالْبُقُولِ مَا لَا تَطُولُ مُدَّتُهُ فِي الْأَرْضِ كَالْخَسِّ وَالْجَزَرِ وَالسَّلْقِ وَالْكُزْبَرَةِ وَالْهُنْدُبَا وَالزَّعْفَرَانِ وَالرِّيحَانِ وَالْقَرَظِ وَوَرَقِ التُّوتِ وَالْبَصَلِ، وَإِنَّمَا كَانَتْ تُوضَعُ مِنْهَا، وَإِنْ نَقَصَتْ عَنْ الثُّلُثِ لِعُسْرِ مَعْرِفَةِ ثُلُثِهَا؛ لِأَنَّهَا تُقْطَعُ شَيْئًا فَشَيْئًا. (وَقِيلَ لَا يُوضَعُ إلَّا قَدْرُ الثُّلُثِ) قِيَاسًا عَلَى الثَّمَرَةِ وَهَذَا خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ. وَالْمُعْتَمَدُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ وَضْعِهَا مُطْلَقًا وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ، وَقَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ وَحَكَى هَذَا بِصِيغَةِ التَّمْرِيضِ. (تَنْبِيهٌ) . فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ بَيْعِ مَغِيبِ الْأَصْلِ كَالْجَزَرِ وَالْبَصَلِ وَالْفُجْلِ؛ لِأَنَّهَا مِنْ الْبُقُولِ، وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي حَالِ بَيْعِهَا أَنْ يُقْلَعَ مِنْهَا شَيْءٌ وَيَرَاهُ الْمُشْتَرِي كَمَا هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي رُؤْيَةُ ظَاهِرِهَا، وَلَكِنْ ذَكَرَ النَّاصِرُ اللَّقَانِيُّ أَنَّهُ يَكْفِي فِي جَوَازِ بَيْعِ مَغِيبِ الْأَصْلِ رُؤْيَةُ ظَاهِرِهِ، أَيْ؛ لِأَنَّهُ بِرُؤْيَةِ وَرَقِهِ يُسْتَدَلُّ عَلَى مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ كِبَرٍ وَصِغَرٍ عَلَى مَا هُوَ مَعْرُوفٌ لِأَرْبَابِ الْخِبْرَةِ بِذَلِكَ. (خَاتِمَةٌ عَزِيزَةُ الْوُجُودِ) . مِمَّا هُوَ مُنَزَّلٌ مَنْزِلَةَ الْجَائِحَةِ عَدَمُ حُصُولِ الْمَقْصُودِ، مِنْ ذَلِكَ لَوْ اشْتَرَى شَخْصٌ وَرَقَ تُوتٍ لِيُطْعِمَهُ لِدُودِ الْحَرِيرِ فَيَمُوتَ الدُّودُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا لَوْ اكْتَرَى حَمَّامًا أَوْ فُنْدُقًا فِي بَلَدٍ فَخُلِّيَ الْبَلَدُ وَلَوْ يُوجَدْ مَنْ يَتَحَمَّمُ أَوْ يَسْكُنُ، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا مَنْ اشْتَرَى ثَمَرَةً لِيَبِيعَهَا فِي بَلَدٍ فَخَرِبَ الْبَلَدُ، أَوْ اشْتَرَى عَلَفًا لِيَبِيعَهُ لِقَافِلَةٍ تَأْتِي مِنْ طَرِيقٍ مَعْرُوفَةٍ فَعَدَلَتْ عَنْهُ، وَوَجْهُ تَنَزُّلِ مَا ذُكِرَ مَنْزِلَةَ الْجَائِحَةِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ لَهُ الْفَسْخُ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْقُطُ عَنْهُ الثَّمَنُ أَوْ الْكِرَاءُ. [حُكْمِ شِرَاءِ الْعَرَايَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى إطْعَامِ الْجَائِحَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ شِرَاءِ الْعَرَايَا جَمْعُ عَرِيَّةٍ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 أَعْرَى ثَمَرَ نَخَلَاتٍ لِرَجُلٍ مِنْ جِنَانِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا إذَا أَزْهَتْ بِخَرْصِهَا تَمْرًا يُعْطِيهِ ذَلِكَ عِنْدَ الْجِذَاذِ إنْ كَانَ فِيهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَقَلُّ وَلَا يَجُوزُ شِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إلَّا بِالْعَيْنِ وَالْعَرْضِ.   [الفواكه الدواني] مُشْتَقَّةٌ مِنْ عَرَوْتُهُ أَعْرُوهُ إذَا طَلَبْتُ مَعْرُوفَهُ، فَعَرِيَّةٌ فَعِيلَةٌ بِمَعْنَى مَفْعُولَةٍ وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ بَعْضٌ: هِبَةُ ثَمَرَةٍ تَيْبَسُ لِشَخْصٍ يَأْكُلُهَا هُوَ أَوْ عِيَالُهُ فِي عَامٍ أَوْ أَكْثَرَ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ ثَمَرِ النَّخْلِ وَغَيْرِهِ فَقَالَ: (وَمَنْ أَعْرَى) أَيْ وَهَبَ (ثَمَرَ نَخَلَاتٍ) أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا تَيْبَسُ ثَمَرَتُهُ بِالْفِعْلِ إذَا تُرِكَتْ، وَلَا يَكْفِي يُبْسُ نَوْعِهَا وَذَلِكَ كَثَمَرِ نَخْلٍ غَيْرِ مِصْرَ وَجَوْزٍ وَلَوْزٍ، كَذَلِكَ لَا ثَمَرَ مَا ذُكِرَ فِي أَرْضِ مِصْرَ وَلَا فِي مَوْزٍ وَلَا رُمَّانٍ وَلَا تُفَّاحٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَيْبَسُ (لِرَجُلٍ) الْمُرَادُ لِشَخْصٍ وَلَوْ امْرَأَةً (مِنْ جِنَانِهِ) أَيْ الْمُعْرِي. وَأَمَّا لَوْ أَعْرَى رَجُلًا ثَمَرَ نَخْلٍ آخَرَ لَكَانَتْ عَرِيَّتُهُ بَاطِلَةً؛ لِأَنَّ تَبَرُّعَ الْإِنْسَانِ بِمِلْكِ غَيْرِهِ بَاطِلٌ، وَإِنْ أَجَازَ الْغَيْرُ كَانَ ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ مِنْهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ بَيْعِ مِلْكِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَمْضِي بِإِجَازَتِهِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِي مُقَابَلَةِ عِوَضٍ، وَلَا يُحْتَرَزُ بِقَوْلِ مِنْ جِنَانِهِ عَنْ عَرِيَّةِ جَمِيعِ ثَمَرِ الْحَائِطِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَمِنْ شَرْطِيَّةٍ، وَأَعْرَى فِعْلُ الشَّرْطِ وَجَوَابُهُ (فَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْتَرِيَهَا) أَيْ يَجُوزُ لِمُعْرِيهَا شِرَاؤُهَا (بِخِرْصِهَا) بِكَسْرِ الْخَاءِ أَيْ بِكَيْلِهَا (تَمْرًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَرُخِّصَ لِمُعْرٍ وَقَائِمٍ مَقَامَهُ، وَإِنْ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَقَطْ اشْتِرَاءَ ثَمَرَةٍ تَيْبَسُ كَلَوْزٍ لَا كَمَوْزٍ، وَتِلْكَ الرُّخْصَةُ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ رِبَا الْفَضْلِ؛ لِأَنَّهُ يَشْتَرِيهَا بِنَوْعِهَا وَخِرْصِهَا مِنْ غَيْرِ كَيْلٍ، وَالشَّكُّ فِي التَّمَاثُلِ كَتَحَقُّقِ التَّفَاضُلِ وَرِبَا النَّسَاءِ؛ لِأَنَّهَا تُبَاعُ بِخِرْصِهَا إلَى أَجَلٍ؛ لِأَنَّ الْوَفَاءَ عِنْدَ الْجِذَاذِ. وَالْمُزَابَنَةُ، وَهِيَ بَيْعُ الْمَجْهُولِ بِالْمَعْلُومِ مِنْ نَوْعِهِ وَالرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ، وَإِنْ كَانَ الْمَشْهُورُ فِي هَذَا الْأَخِيرِ الْكَرَاهَةَ، وَمَعْنَى رُخِّصَ أُبِيحَ؛ لِأَنَّ الرُّخْصَةَ هُنَا جَائِزَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْخَصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخِرْصِهَا مِنْ الثَّمَرِ بِمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ أَوْ فِي خَمْسَةِ أَوْسُقٍ» شَكٌّ مِنْ الرَّاوِي، وَحَدِيثِ سَهْلٍ: «نَهَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ بَيْعِ التَّمْرِ بِالتَّمْرِ» إلَّا أَنَّهُ أَرْخَصَ فِي الْعَرِيَّةِ أَنْ تُبَاعَ بِخِرْصِهَا تَمْرًا يَأْكُلُهَا أَهْلُهَا رُطَبًا، وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِ الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: (إذَا أَزْهَتْ) أَيْ بَدَا صَلَاحُهَا فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا قَبْلَهُ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَخْتَصَّ بِالْعَرِيَّةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ عَدَمُ اشْتِرَاطِهِ لِكَوْنِ شِرَائِهَا رُخْصَةً حَتَّى قَالَ الْبَاجِيُّ بِعَدَمِ اشْتِرَاطِهِ، وَفَسَّرْنَا الزُّهُوَّ بِبُدُوِّ الصَّلَاحِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الثَّمَرَةَ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِالْبَلَحِ الْمُخْتَصِّ بِالزُّهُوِّ الَّذِي هُوَ الِاحْمِرَارُ أَوْ الِاصْفِرَارُ. وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ الشِّرَاءُ بِخِرْصِهَا أَيْ بِكَيْلِهَا بِأَنْ يَقُولَ الْخَارِصُ أَيْ الْحَازِرُ الْعَارِفُ: إذَا جَفَّتْ تَصِيرُ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ أَوْ أَقَلَّ، فَيُعْطَى الْمُعْرَى بِالْفَتْحِ مَكِيلَةَ ذَلِكَ الْقَدْرِ عِنْدَ الْجِذَاذِ، وَإِذَا جُذَّتْ فَوُجِدَتْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ فَإِنَّ الْمُعْرِي بِالْكَسْرِ يَرْجِعُ عَلَى الْمُعْرَى بِالْفَتْحِ فِي الْأَوَّلِ، وَيَرْجِعُ الْمُعْرَى بِالْفَتْحِ عَلَى الْمُعْرِي بِالْكَسْرِ فِي الثَّانِي، وَقِيلَ إنَّهُ حُكْمٌ مَضَى. وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ خِرْصُهَا مِنْ نَوْعِهَا، فَلَا يَجُوزُ أَخْذُ الصَّيْحَانِيِّ عَنْ الْبَرْنِيِّ وَلَا الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ، وَأَوْلَى فِي الْمَنْعِ بَيْعُهَا بِعَرَضٍ أَوْ دِرْهَمٍ،، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنْ (يُعْطِيَهُ) أَيْ الْمُعْرِي بِالْكَسْرِ لِلْمُعْرَى بِالْفَتْحِ (ذَلِكَ) الْخِرْصَ (عِنْدَ الْجِذَاذِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ أَيْ قَطْعِ الثَّمَرَةِ. وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَأَقَلَّ، وَإِنْ كَانَتْ الْعَرِيَّةُ أَكْثَرَ، وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (إنْ كَانَ فِيهَا خَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَقَلُّ) وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ) لِلْمُعْرِي بِالْكَسْرِ (شِرَاءُ أَكْثَرَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ إلَّا بِالْعَيْنِ وَالْعَرَضِ) الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَخَمْسَةُ أَوْسُقٍ فَأَقَلُّ، فَلَوْ أَرَادَ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ الْأَكْثَرِ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ بِخِرْصِهَا وَالزَّائِدُ يَشْتَرِيهِ بِعَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا يَجُوزُ أَخْذُ زَائِدٍ عَلَيْهِ مَعَهُ بِعَيْنٍ عَلَى الْأَصَحِّ، وَالضَّمِيرُ فِي عَلَيْهِ، وَمَعَهُ لِلْقَدْرِ الْمُرَخَّصِ فِي شِرَائِهِ، وَأَمَّا شِرَاءُ جَمِيعِ الثَّمَرَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى خَمْسَةِ أَوْسُقٍ بِعَيْنٍ أَوْ عَرَضٍ فَيَجُوزُ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ خَلِيلٍ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْعَرِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، وَأَمَّا لَوْ أَعْرَاهُ عَرَايَا فِي حَوَائِطَ فِي أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَأَلْفَاظٍ مُتَعَدِّدَةٍ لَجَازَ لَهُ أَنْ يَشْتَرِيَ مِنْ كُلِّ حَائِطٍ خَمْسَةَ أَوْسُقٍ لَا إنْ كَانَتْ الْعَرَايَا فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ، فَكَعَرِيَّةٍ وَاحِدَةٍ لَا يَشْتَرِي مِنْهَا إلَّا خَمْسَةَ أَوْسُقٍ، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا كُلِّهِ بَيْنَ تَعَدُّدِ الْمُعْرَى بِالْفَتْحِ وَاتِّحَادِهِ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْمَوَّاقُ (تَنْبِيهٌ) . اعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ لَمْ يَسْتَوْفِ شُرُوطَ الْعَرِيَّةِ. وَإِنَّمَا اسْتَوْفَاهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَرُخِّصَ لِمُعْرٍ وَقَائِمٍ مَقَامَهُ، وَإِنْ بِاشْتِرَاءِ الثَّمَرَةِ فَقَطْ اشْتِرَاءَ ثَمَرَةٍ تَيْبَسُ إنْ لَفْظَ بِالْعَرِيَّةِ وَبَدَا صَلَاحُهَا وَكَانَ بِخِرْصِهَا وَنَوْعِهَا، وَأَنْ لَا يَدْخُلَا عَلَى شَرْطِ تَعْجِيلِهَا بَلْ دَخَلَا عَلَى الْوَفَاءِ عِنْدَ الْجِذَاذِ أَوْ سَكَتَا وَلَوْ عَجَّلَ الْخِرْصَ بَعْدَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ لَوْ شَرَطَا التَّعْجِيلَ فَلَا يَجُوزُ شِرَاؤُهَا، وَلَوْ جَذَّهَا رُطَبًا رَدَّ الْمِثْلَ إنْ وُجِدَ، وَإِلَّا فَالْقِيمَةُ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَى خَمْسَةَ أَوْسُقٍ فَأَقَلَّ، وَأَنْ يَكُونَ الِاشْتِرَاءُ إمَّا لِدَفْعِ الضَّرَرِ بِدُخُولِ الْمُعْرَى بِالْفَتْحِ حَائِطَ الْمُعْرِي بِالْكَسْرِ، أَوْ لِلْمَعْرُوفِ رِفْقًا بِالْمُعْرَى بِالْفَتْحِ بِكِفَايَتِهِ الْحِرَاسَةَ وَالْمُؤْنَةَ. وَأَمَّا لِغَيْرِ ذَلِكَ فَلَا يُرَخَّصُ فِي شِرَائِهَا، كَمَا لَا يُرَخَّصُ لِغَيْرِ الْمُعْرِي بِالْكَسْرِ لِمَا عَلِمْت مِنْ اسْتِثْنَائِهَا مِنْ أُصُولٍ مَمْنُوعَةٍ بِالشُّرُوطِ الْمَذْكُورَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى عُقُودِ الْمُعَامَلَاتِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ الْقُرَبِ فَقَالَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 بَابٌ فِي الْوَصَايَا وَالْمُدَبَّرِ وَالْمُكَاتَبِ وَالْمُعْتَقِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْوَلَاءِ وَيَحِقُّ عَلَى مَنْ لَهُ مَا يُوصِي فِيهِ أَنْ يُعِدَّ وَصِيَّتَهُ. وَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ. وَالْوَصَايَا خَارِجَةٌ مِنْ الثُّلُثِ وَيُرَدُّ مَا زَادَ عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي الْوَصَايَا] (بَابٌ فِي) الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ (الْوَصَايَا) جَمْعُ وَصِيَّةٍ وَهِيَ لُغَةً: الْوَصْلُ لِأَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ صِيتَ الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا وَصَلْته بِهِ، كَأَنَّ الْمُوصِيَ لَمَّا أَوْصَى بِالشَّيْءِ وَصَلَ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَا قَبْلَهُ فِي نُفُوذِ التَّصَرُّفِ. وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هِيَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ لَا الْفُرَّاضِ عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهِ يَلْزَمُ بِمَوْتِهِ أَوْ نِيَابَةً عَنْهُ بَعْدَهُ، فَمَا يُوجِبُ حَقًّا فِي رَأْسِ مَالِهِ مِمَّا عَقَدَهُ فِي صِحَّتِهِ لَا يُسَمَّى وَصِيَّةً كَمَا خَرَجَ مَا يَلْزَمُ بِدُونِ الْمَوْتِ كَالْتِزَامِ مَنْ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لِشَخْصٍ وَزَادَ قَوْلَهُ: أَوْ نِيَابَةً عَطْفًا عَلَى حَقًّا لِيَدْخُلَ الْإِيصَاءُ بِالنِّيَابَةِ عَنْ الْمَيِّتِ، وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْفُرَّاضِ فَهِيَ عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهِ فَقَطْ، فَالْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ مِنْ الْوَصِيَّةِ عِنْدَ الْفُرَّاضِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ عِنْدَ الْفُرَّاضِ قَاصِرَةٌ عَلَى الْإِيصَاءِ بِمَا فِيهِ حَقٌّ، وَأَمَّا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ فَتَنَوَّعَ إلَى وَصِيَّةِ نِيَابَةٍ عَنْ الْمُوصِي، كَالْإِيصَاءِ عَلَى الْأَطْفَالِ وَعَلَى قَبْضِ الدُّيُونِ وَتَفْرِقَةِ التَّرِكَةِ. وَالنَّوْعُ الثَّانِي أَنْ يُوصِيَ بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ أَوْ بِعِتْقِ عَبْدِهِ أَوْ قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَتَعْرِيفُ ابْنِ عَرَفَةَ مُشْتَمِلٌ عَلَى النَّوْعَيْنِ. (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ (الْمُدَبَّرِ) وَهُوَ الْمُعَلَّقُ عِتْقُهُ عَلَى الْمَوْتِ وَيَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ. (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى (الْمُكَاتَبِ) وَهُوَ الْمُعْتَقُ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ يَدْفَعُهُ لِسَيِّدِهِ. (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى (الْمُعْتَقِ) لَا عَلَى وَجْهِ التَّدْبِيرِ وَلَا الْكِتَابَةِ، كَالْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ أَوْ لِلْمُثْلَةِ أَوْ لِلسِّرَايَةِ أَوْ لِلْمِلْكِ. (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى (أُمِّ الْوَلَدِ) وَهِيَ الْحُرُّ حَمْلُهَا مِنْ وَطْءِ مَالِكِهَا عَلَيْهِ جَبْرًا. (وَ) فِي الْكَلَامِ عَلَى (الْوَلَاءِ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ مِنْ الْوَلَايَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ مِنْ النَّسَبِ وَالْعِتْقِ وَأَصْلُهُ الْوَلِيُّ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَمَّا مِنْ الْإِمَارَةِ وَالتَّقَدُّمِ فَبِالْكَسْرِ وَقِيلَ بِالْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا، وَالْمَوْلَى لُغَةً يُقَالُ لِلْمُعْتِقِ وَالْمُعْتَقِ وَأَبْنَائِهِمَا، وَلِغَيْرِهِمَا كَالنَّاصِرِ وَابْنِ الْعَمِّ وَالْقَرِيبِ، وَالْمُرَادُ هُنَا وَلَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْعِتْقِ، وَعَرَّفَهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُكْمَ الْعُصُوبَةِ عِنْدَ عَدَمِهَا، فَهَذِهِ سِتَّةُ أَبْوَابٍ جَمَعَهَا فِي تَرْجَمَةِ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ. وَشَرَعَ فِي بَيَانٍ عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَ: (وَيَحِقُّ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَفَتْحِهَا وَفَتْحِ الْحَاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ يَتَأَكَّدُ نَدْبُهَا (عَلَى مَنْ لَهُ مَا) أَيْ مَالٌ (يُوصِي فِيهِ أَنْ يُعِدَّ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَعَدَّ أَيْ يَحْصُرُ وَيُهَيِّئُ (وَصِيَّتَهُ) وَيُشْهِدُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا بِدُونِ الْإِشْهَادِ لَا يَجِبُ تَنْفِيذُهَا وَتَبْطُلُ وَلَوْ كَانَتْ بِخَطِّ الْمُوصِي لِاحْتِمَالِ رُجُوعِهِ عَنْهَا إلَّا يَقُولَ: مَا وَجَدْتُمْ بِخَطِّ يَدِي فَأَنْفِذُوهُ فَإِنَّهُ يَنْفُذُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِ مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ} [البقرة: 180] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ شَيْءٌ مَا يُوصِي فِيهِ يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وَحَمَلَ الْحَدِيثَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ لِعَدَمِ الْأَمْنِ مِنْ الْمَوْتِ فَجْأَةً. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الشُّيُوخِ، إلَّا أَنْ يَخْشَى بِعَدَمِهَا ضَيَاعَ الْحَقِّ عَلَى أَرْبَابِهِ إنْ لَمْ يُوصِ فَتَجِبُ، وَلِذَا قَسَّمَهَا ابْنُ رُشْدٍ وَاللَّخْمِيُّ خَمْسَةَ أَقْسَامٍ: فَتَجِبُ إذَا كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَتُنْدَبُ إذَا كَانَتْ بِقُرْبَةٍ غَيْرِ وَاجِبَةٍ، وَتَحْرُمُ بِمُحَرَّمٍ كَالنِّيَاحَةِ وَنَحْوِهَا كَالْإِيصَاءِ بِالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ، وَتُكْرَهُ إذَا كَانَتْ بِمَكْرُوهٍ أَوْ فِي مَالِ فَقِيرٍ، وَتُبَاحُ إذَا كَانَتْ بِمُبَاحٍ مِنْ بَيْعٍ أَوْ شِرَاءٍ، وَإِنْفَاذُهَا يَنْقَسِمُ إلَى تِلْكَ الْأَقْسَامِ هَكَذَا قَالَا، وَبَحَثَ فِيهِ الْأُجْهُورِيُّ قَائِلًا: الصَّوَابُ أَنَّ تَنْفِيذَهَا فِي جَمِيعِ الْأَقْسَامِ مَا عَدَا الْمُحَرَّمَ وَاجِبٌ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُمَا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ التَّنْفِيذُ مِنْ الْمُوصِي نَفْسِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ قَبْلَ مَوْتِهِ إنْفَاذُ مَا هُوَ وَاجِبٌ عَلَيْهِ، وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَيُنْدَبُ لَهُ إنْفَاذُ الْمَنْدُوبَةِ بِمَعْنَى عَدَمِ رُجُوعِهِ، وَالْمُبَاحَةُ يُبَاحُ لَهُ الرُّجُوعُ عَنْهَا، وَأَمَّا مُتَوَلِّي أَمْرِ التَّرِكَةِ بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي فَيَجِبُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُ حَتَّى الْمُبَاحَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 إلَّا أَنْ يُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ. وَالْعِتْقُ بِعَيْنِهِ مُبَدَّأٌ عَلَيْهَا وَالْمُدَبَّرُ فِي الصِّحَّةِ مُبَدَّأٌ عَلَى مَا فِي الْمَرَضِ مِنْ عِتْقٍ وَغَيْرِهِ وَعَلَى مَا   [الفواكه الدواني] وَالْمَكْرُوهَةُ، كَالْإِيصَاءِ بِالْقِرَاءَةِ عَلَى قَبْرِهِ، وَكَالْإِيصَاءِ بِبِنَاءِ قُبَّةٍ عَلَيْهِ لِغَيْرِ الْمُبَاهَاةِ، وَكَالْإِيصَاءِ بِالْحَجِّ عَنْهُ، أَوْ الْإِيصَاءِ بِعَمَلِ مَوْلِدٍ بَعْدَ مَوْتِهِ لَهُ أَوْ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ غَيْرِهِ مِنْ صُلَحَاءِ الْمُسْلِمِينَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِمَنْ لَهُ مَالٌ يَشْمَلُ الصَّغِيرَ الْمُمَيِّزَ وَالْكَبِيرَ وَالسَّفِيهَ الْمُسْلِمَ أَوْ الْكَافِرَ، فَيُوَافِقُ قَوْلَ خَلِيلٍ: صَحَّ إيصَاءُ حُرٍّ مُمَيِّزٍ مَالِكٍ وَإِنْ سَفِيهًا وَصَغِيرًا وَكَافِرًا إلَّا بِكَخَمْرٍ لِمُسْلِمٍ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ شَرْطَ صِحَّتِهِ الْحُرِّيَّةُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْمِلْكُ لِمَا أَوْصَى بِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ بُلُوغٌ وَلَا رُشْدٌ، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِيهِ إنْ كَانَ صَبِيًّا بُلُوغُهُ عَشْرَ سِنِينَ فَمَا قَارَبَهَا، وَأَنْ يَكُونَ ضَابِطًا بِحَيْثُ لَا يَخْلِطُ فِي وَصِيَّتِهِ، وَقِيلَ مَعْنَى الضَّبْطِ أَنْ يُوصِيَ بِمَا فِيهِ قُرْبَةٌ وَإِنْ صَحَّتْ وَصِيَّةُ الصَّبِيِّ الْمَذْكُورِ وَالسَّفِيهِ مَعَ تَبْذِيرِهِ لِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا لِحَقِّ أَنْفُسِهِمَا، فَلَوْ حَجَرَ عَلَيْهِمَا فِي الْوَصِيَّةِ لَكَانَ الْحَجْرُ لِحَقِّ الْغَيْرِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمُوصَى لَهُ وَهُوَ مَنْ يَصِحُّ تَمَلُّكُهُ لِلْمُوصَى بِهِ شَرْعًا حَالًا أَوْ مَالًا وَلَوْ حُكْمًا، فَيَدْخُلُ الْإِيصَاءُ لِلْحَمْلِ وَيَسْتَحِقُّ إنْ اسْتَهَلَّ وَإِلَّا بَطَلَتْ، وَغَلَّةُ الْمُوصَى بِهِ قَبْلَ اسْتِهْلَالِهِ لِوَرَثَةِ الْمُوصِي بِالْكَسْرِ، وَتَصِحُّ لِلْمَيِّتِ حَيْثُ عَلِمَ الْمُوصِي بِمَوْتِهِ، وَتُصْرَفُ فِي دَيْنِهِ إنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ أَوْ تُدْفَعُ لِوَرَثَتِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ بِمَوْتِهِ فَتَكُونُ بَاطِلَةً، وَيَدْخُلُ بِقَوْلِي وَلَوْ حُكْمًا الْإِيصَاءُ لِنَحْوِ الْمَسْجِدِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ، وَيَخْرُجُ بِقَوْلِي شَرْعًا إيصَاءُ الْكَافِرِ بِالْخَمْرِ أَوْ الْخِنْزِيرِ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَصِحُّ وَإِنْ صَحَّتْ مِنْهُ بِذَلِكَ لِكَافِرٍ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِيغَتَهَا وَهِيَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ الْوَصِيَّةُ مِنْ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ وَلَوْ مِنْ قَادِرٍ عَلَى الْكَلَامِ أَوْ خَطٍّ، وَلَكِنْ لَا يَجِبُ تَنْفِيذُهَا إلَّا بِإِشْهَادِ الْمُوصِي عَلَيْهَا لِأَنَّ لَهُ الرُّجُوعَ عَنْهَا مَا دَامَ حَيًّا كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِهِ؟ قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ ثَبَتَ أَنْ عَقَدَهَا خَطُّهُ أَوْ قَرَأَهَا وَلَمْ يُشْهِدْ أَوْ لَمْ يَقُلْ أَنْفِذُوهَا لَمْ تَنْفُذْ وَلَهُمْ الشَّهَادَةُ حَيْثُ أَشْهَدَهُمْ، وَلَوْ لَمْ يَقْرَأْ عَلَيْهِمْ الْكِتَابَ وَلَا فَتَحَهُ لَهُمْ، وَلَا يَضُرُّ بَقَاءُ الْوَصِيَّةِ عِنْدَهُ حَتَّى مَاتَ حَيْثُ أَشْهَدَهُمْ عَلَى مَا فِيهَا أَوْ قَالَ لَهُمْ: أَنْفِذُوا وَصِيَّتِي. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ لَا تَصِحُّ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا وَصِيَّةَ) صَحِيحَةٌ (لِوَارِثِ) الْمُوصِي حِينَ مَوْتِهِ لَا حِينَ الْإِيصَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوَارِثُ يَصِيرُ غَيْرَ وَارِثٍ وَعَكْسُهُ الْمُعْتَبَرُ مَالُهُ فَتَصِحُّ لِابْنِ الْوَارِثِ لِأَنَّهُ مَحْجُوبٌ بِالْوَارِثِ، كَمَا تَصِحُّ لِأَخِيهِ إذَا طَرَأَ لَهُ مَنْ يَحْجُبُهُ حَجْبَ حِرْمَانٍ وَقَدَّرْنَا مُتَعَلِّقَ الْمَجْرُورِ صَحِيحَهُ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ بِأَقَلَّ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ أَجَازَهَا الْوَارِثُ كَانَتْ ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ مِنْهُ، وَمِثْلُ الْوَصِيَّةِ لِلْوَارِثِ الْوَصِيَّةُ لِبَعْضِ عَبِيدِ الْوَرَثَةِ حَيْثُ كَانَتْ بِشَيْءٍ لَهُ بَالٌ، بِخِلَافِهَا لِعَبْدِ الْوَارِثِ الْمُتَّحِدِ فَتَصِحُّ حَيْثُ كَانَ يَجُوزُ جَمْعُ الْمَالِ أَوْ وَقَعَتْ بِتَافِهٍ أَوْ قَصَدَ بِهِ الْعَبْدَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَصِحُّ لِعَبْدِ وَارِثِهِ إنْ اتَّحَدَا وَبِتَافِهٍ أُرِيدَ بِهِ الْعَبْدُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَلَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» . (تَنْبِيهٌ) كَمَا تَبْطُلُ الْوَصِيَّةُ لِلْوَارِثِ تَبْطُلُ أَيْضًا بِارْتِدَادِ الْمُوصِي أَوْ الْمُوصَى لَهُ وَلَوْ رَجَعَ الْمُرْتَدُّ لِلْإِسْلَامِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا تُسْقِطُهُ الرِّدَّةُ: وَإِحْصَانًا وَوَصِيَّةً إلَّا أَنْ يَكُونَ بِكِتَابٍ فَتَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَصْبَغَ، وَكَذَا تَبْطُلُ إذَا وَقَعَتْ بِمَعْصِيَةٍ كَالْإِيصَاءِ بِشَيْءٍ لِمَنْ يَشْرَبُ بِهِ خَمْرًا، أَوْ بِشَيْءٍ لِمَنْ يُصَلِّي أَوْ يَصُومُ بِهِ عَنْ الْمَيِّتِ وَيَرْجِعُ مِيرَاثًا، بِخِلَافِ الْإِيصَاءِ بِالْمَكْرُوهِ كَالْإِيصَاءِ بِضَرْبِ قُبَّةٍ لَا بِقَصْدِ الْمُبَاهَاةِ أَوْ بِفِعْلِ ضَحِيَّةٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَكْرُوهٌ فَإِنَّهَا لَا تَبْطُلُ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا. [الْإِيصَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ] ثُمَّ بَيَّنَ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْوَصَايَا) الصَّحِيحَةُ الْوَاجِبَةُ التَّنْفِيذِ (خَارِجَةٌ) أَيْ مَصْرُوفَةٌ لِلْمُوصَى لَهُ (مِنْ الثُّلُثِ) فَلَا يَجُوزُ الْإِيصَاءُ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، فَإِنْ وَقَعَ وَأَوْصَى بِأَكْثَرَ لَمْ تَصِحَّ. (وَيَرُدُّ) بِمَعْنًى يُبْطِلُ (مَا زَادَ عَلَيْهِ) أَيْ الثُّلُثِ وَلَوْ كَانَ الزَّائِدُ شَيْئًا يَسِيرًا. (إلَّا أَنْ تُجِيزَهُ الْوَرَثَةُ) الْبَالِغُونَ الرُّشَدَاءُ فَتَكُونَ الْإِجَازَةُ ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْحَقَّ انْتَقَلَ لَهُمْ، وَإِنْ أَجَازَ الْبَعْضُ دُونَ الْبَعْضِ مَضَتْ حِصَّةُ الْمُجِيزِ وَرُدَّتْ حِصَّةُ الْمُمْتَنِعِ لَهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَالْوَصَايَا خَارِجَةٌ مِنْ الثُّلُثِ ظَاهِرُهُ مِنْ ثُلُثِ جَمِيعِ مَالِ الْمُوصِي الْمَعْلُومِ لَهُ حِينَ الْوَصِيَّةِ وَالْمَجْهُولِ لَهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لَا تَخْرُجُ إلَّا مِنْ ثُلُثِ مَا عُلِمَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَلَوْ حَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ بِهِ بَعْدَ الْوَصِيَّةِ، وَأَمَّا الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَلَا تَدْخُلُ فِيهِ، وَسَوَاءٌ وَقَعَتْ فِي الصِّحَّةِ أَوْ فِي الْمَرَضِ، بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ بَيْنَ كَوْنِ تَدْبِيرِهِ فِي الْمَرَضِ فَيَكُونُ كَالْوَصِيَّةِ، وَفِي الصِّحَّةِ فَيَكُونُ فِي الثُّلُثِ الْمَعْلُومِ وَالْمَجْهُولِ كَصَدَاقِ الزَّوْجَةِ الْمَنْكُوحَةِ فِي الْمَرَضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهِيَ وَمُدَبَّرٌ إنْ كَانَ فَمَرِضَ فِيمَا عُلِمَ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مُدَبَّرِ الصِّحَّةِ وَالْوَصِيَّةِ أَنَّ عَقْدَ التَّدْبِيرِ لَازِمٌ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ عَقْدُهَا مُنْحَلٌّ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا مَا دَامَ حَيًّا، وَلَوْ شَرَطَ عَدَمَ الرُّجُوعِ عَلَى مَا قَالَ بَعْضٌ: الثَّانِي: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: بِرَدِّ مَا زَادَ بِعَدَمِ رَدِّ الثُّلُثِ كَمَا يُشْعِرُ بِأَنَّ الْوَرَثَةَ لَيْسَ لَهَا رَدُّ الْجَمِيعِ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ تَتَبَرَّعُ زَوْجَتُهُ بِأَكْثَرَ فَلَهُ رَدُّ الْجَمِيعِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَفَرَّقَ بَيْنَ تَبَرُّعِهَا وَزَائِدِ الْوَصِيَّةِ بِأَنَّ الزَّوْجَةَ قَدْ تَقْصِدُ بِتَبَرُّعِهَا بِالزَّائِدِ ضَرَرَ زَوْجِهَا بِخِلَافِ الْمُوصِي، وَبِأَنَّ الزَّوْجَةَ لَوْ رَدَّ زَوْجُهَا جَمِيعَ تَبَرُّعِهَا يُمْكِنُهَا التَّبَرُّعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ فَأَوْصَى بِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ مُبَدَّأٌ عَلَى الْوَصَايَا وَمُدَبَّرُ الصِّحَّةِ مُبَدَّأٌ عَلَيْهِ. وَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ تَحَاصَّ أَهْلُ الْوَصَايَا الَّتِي لَا تَبْدِئَةَ فِيهَا. وَلِلرَّجُلِ الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ مِنْ عِتْقٍ وَغَيْرِهِ. وَالتَّدْبِيرُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ لِعَبْدِهِ أَنْتَ مُدَبَّرٌ   [الفواكه الدواني] بِثُلُثِهَا، بِخِلَافِ الْمَرِيضِ قَدْ يُدْرِكُهُ الْمَوْتُ سَرِيعًا بَعْدَ الْوَصِيَّةِ فَلَا يُمْكِنُهُ الْإِيصَاءُ بَعْدَ رَدِّ الْجَمِيعِ فَيَفُوتُ الْقَصْدُ مِنْ الْوَصِيَّةِ. الثَّالِثُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هَلْ الْمُعْتَبَرُ ثُلُثُ الْمُوصَى حِينَ الْإِيصَاءِ أَوْ حِينَ الْمَوْتِ؟ وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ ثُلُثُهُ يَوْمَ الْمَوْتِ، لِأَنَّ الْوَصِيَّ لَهُ لَا يَمْلِكُ الْمُوصَى لَهُ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ الْمُوصِي لَكِنْ لَا بُدَّ مِنْ مُرَاعَاةِ يَوْمِ التَّنْفِيذِ، فَإِذَا كَانَ الْمَالُ كَثِيرًا يَوْمَ الْمَوْتِ بِحَيْثُ يَحْمِلُ ثُلُثُهُ الْمَالَ الْمُوصَى بِهِ وَطَرَأَ عَلَيْهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ التَّنْفِيذِ نَحْوَ جَائِحَةٍ حَتَّى قَلَّ فَلَا يَلْزَمُ إلَّا ثُلُثُ الْبَاقِي، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ وَصِيَّةِ الْمَرَضِ وَالصِّحَّةِ. (خَاتِمَةٌ) الْوَصِيَّةُ بِالثُّلُثِ مِنْ خَصَائِصِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا التَّزَوُّدُ لِلدَّارِ الْآخِرَةِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يَبْدَأُ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ ضِيقِ الثُّلُثِ عَنْ حَمْلِ جَمِيعِ مَا يَخْرُجُ مِنْ الثُّلُثِ بِقَوْلِهِ: (وَالْعِتْقُ) الْمُوصَى بِهِ لِعَبْدٍ (بِعَيْنِهِ) وَهُوَ يَشْمَلُ مَا كَانَ عِنْدَهُ وَأَوْصَى بِعِتْقِهِ كَأَعْتِقُوا عَبْدِي مَرْزُوقًا، وَيَشْمَلُ مَا أَوْصَى بِشِرَائِهِ كَاشْتَرُوا عَبْدَ فُلَانٍ الْمُعَيَّنِ وَاعْتِقُوهُ، وَيَشْمَلُ مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ نَاجِزًا أَوْ إلَى شَهْرٍ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَشْمَلُ مَا أَوْصَى بِعِتْقِهِ مَجَّانًا أَوْ عَلَى مَالٍ وَعَجَّلَهُ أَوْ بِكِتَابَتِهِ وَعَجَّلَهَا. (مُبَدَّأٌ عَلَيْهَا) أَيْ عَلَى الْوَصِيَّةِ بِالْمَالِ أَوْ بِكِتَابَةِ عَبْدٍ أَوْ عِتْقِهِ عَلَى مَالٍ وَمَاتَ الْمُوصِي قَبْلَ دَفْعِ الْكِتَابَةِ وَالْمَالِ وَلَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ الْجَمِيعَ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ عِتْقَ الْعَبْدِ الْمُعَيَّنِ مُبَدَّأٌ عَلَى جَمِيعِ الْوَصَايَا. (وَالْمُدَبَّرُ فِي الصِّحَّةِ مُبَدَّأٌ) عِنْدَ الضِّيقِ (عَلَى مَا) أَوْصَى بِهِ. (فِي) حَالِ (الْمَرَضِ مِنْ عِتْقٍ وَغَيْرِهِ) لِأَنَّ تَدْبِيرَ الصِّحَّةِ لَازِمٌ بِخِلَافِهِ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّهُ مُنْحَلٌّ (وَ) كَذَا يُقَدَّمُ الْمُدَبَّرُ فِي الصِّحَّةِ أَيْضًا (عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ الزَّكَاةِ) حَتَّى مَاتَ (فَأَوْصَى بِهِ) أَيْ بِإِخْرَاجِهِ (فَإِنَّ ذَلِكَ) الْمُفَرِّطَ فِيهِ يَكُونُ (فِي ثُلُثِهِ مُبَدَّأً عَلَى الْوَصَايَا) فَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الثُّلُثِ، وَقَوْلُهُ: (وَمُدَبَّرُ الصِّحَّةِ مُبَدَّأٌ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مَا فَرَّطَ فِيهِ مِنْ زَكَاةِ الْعَيْنِ وَأَوْصَى بِإِخْرَاجِهِ مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ مَا قَبْلَهُ ارْتَكَبَهُ لِزِيَادَةِ الْإِيضَاحِ، وَهَذَا مَا لَمْ يَعْتَرِفْ بِحُلُولِ مَا فَرَّطَ فِيهِ وَبَقَائِهِ فِي ذِمَّتِهِ وَيُوصِي بِإِخْرَاجِهِ وَإِلَّا أَخْرَجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ أَشْهَدَ فِي حَالِ صِحَّتِهِ بِحُلُولِهَا وَبَقَائِهَا فِي ذِمَّتِهِ، وَمَفْهُومُ فَأَوْصَى بِهِ أَنَّهُ لَوْ اعْتَرَفَ بِالتَّفْرِيطِ وَلَمْ يُوصِ بِالْإِخْرَاجِ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ ثُلُثٍ وَلَا رَأْسِ مَالٍ، وَمَفْهُومُ فَرَّطَ أَنَّ زَكَاةَ عَامِهِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ لَيْسَ حُكْمُهَا كَذَلِكَ، وَحُكْمُهَا أَنَّهُ اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا وَعَرَّفَهُ غَيْرُهُ مِنْ النَّاسِ وَلَوْ وَاحِدًا أَوْ أَوْصَى بِهَا فَإِنَّهَا تَخْرُجُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِنْ لَمْ يُوصِ بِهَا لَمْ تَخْرُجْ لَا مِنْ ثُلُثٍ وَلَا رَأْسِ مَالٍ وَتُؤْمَرُ الْوَرَثَةُ بِإِخْرَاجِهَا مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُعْرَفُ حُلُولُهَا إلَّا مِنْهُ فَإِنْ أَوْصَى بِهَا أُخْرِجَتْ مِنْ الثُّلُثِ وَإِلَّا لَمْ يَخْرُجْ وَلَا مِنْ الثُّلُثِ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ أَخْرَجَهَا، وَالصُّوَرُ أَرْبَعٌ فِي زَكَاةِ الْعَيْنِ، وَأَمَّا زَكَاةُ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَمَتَى اعْتَرَفَ بِحُلُولِهَا أُخْرِجَتْ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْصَى بِهَا أَمْ لَا، شَارَكَهُ غَيْرُهُ فِي مَعْرِفَةِ حُلُولِهَا أَمْ لَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ زَكَاةِ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا أَنَّ زَكَاةَ الْعَيْنِ قَدْ يُخْرِجُهَا وَلَا يَطَّلِعُ أَحَدٌ عَلَى ذَلِكَ فَلِذَلِكَ لَا يَجِبُ إخْرَاجُهَا إلَّا إذَا أَوْصَى بِهِ، بِخِلَافِ الْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْعِتْقَ لِعَبْدٍ مُعَيَّنٍ إنَّمَا يُبْدَأُ عَلَى بَعْضِ الْوَصَايَا لَا عَلَى جَمِيعِهَا خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَبَيَّنَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ الَّذِي يُقَدَّمُ مِنْهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ مَعَ بَيَانِ تَرْتِيبِهَا بِقَوْلِهِ: وَقُدِّمَ لِضِيقِ الثُّلُثِ فَكُّ الْأَسِيرِ الَّذِي أَوْصَى بِفِدَائِهِ، ثُمَّ مُدَبَّرُ الصِّحَّةِ، ثُمَّ صَدَاقُ الْمَرِيضِ، ثُمَّ زَكَاةٌ أَوْصَى بِهَا إلَّا أَنْ يَعْتَرِفَ بِحُلُولِهَا وَيُوصِيَ فَمِنْ رَأْسِ الْمَالِ كَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ وَإِنْ لَمْ يُوصِ، ثُمَّ زَكَاةُ الْفِطْرِ، ثُمَّ عِتْقُ ظِهَارٍ وَقَتْلٍ وَأَقْرَعَ بَيْنَهُمَا إنْ لَمْ يَسَعْهُمَا، ثُمَّ كَفَّارَةُ يَمِينٍ، ثُمَّ كَفَّارَةُ فِطْرِ رَمَضَانَ، ثُمَّ كَفَّارَةُ التَّفْرِيطِ فِي قَضَائِهِ، ثُمَّ النَّذْرُ ثُمَّ الْعِتْقُ الْمُبْتَلُّ فِي الْمَرَضِ وَالْمُدَبَّرُ فِيهِ، ثُمَّ الْمُوصَى بِعِتْقِهِ مُعَيَّنًا عِنْدَهُ أَوْ يَشْتَرِي أَوْ لِكَشَهْرٍ أَوْ بِمَا فَعَجَّلَهُ، ثُمَّ الْمُوصَى بِكِتَابَتِهِ وَالْمُعْتَقُ بِمَالٍ وَالْمُعْتَقُ لِأَجَلٍ بَعْدُ، ثُمَّ الْعِتْقُ لِسَنَةٍ ثُمَّ الْمُعْتَقُ لِأَكْثَرَ مِنْهَا ثُمَّ عِتْقٌ لَمْ يُعَيَّنْ، ثُمَّ حَجٌّ إلَّا لِضَرُورَةٍ فَيَتَحَاصَّانِ، ثُمَّ عِتْقٌ لَمْ يُعَيَّنْ وَمُعَيَّنُ غَيْرِهِ وَجُزْئِهِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ. [أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَّحِدَةِ الرُّتْبَةِ وَيَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَمْلِهَا] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ الْوَصَايَا الْمُتَّحِدَةِ الرُّتْبَةِ وَيَضِيقُ الثُّلُثُ عَنْ حَمْلِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا ضَاقَ الثُّلُثُ) أَيْ لَمْ يَسَعْ جَمِيعَ مَا أَوْصَى بِهِ (تَحَاصَّ أَهْلُ الْوَصَايَا الَّتِي لَا تَبْدِئَةَ فِيهَا) كَمَا تَتَحَاصُّ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ فِي الْمَالِ الَّذِي يَتَحَصَّلُ مِنْ أَثْمَانِ مَا يَبِعْ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يُقَسَّمُ بَيْنَهُمْ بِنِسْبَةِ دُيُونِهِمْ بَعْضُهَا لِبَعْضٍ، وَالْوَصَايَا الَّتِي لَا تَبْدِئَةَ فِيهَا هِيَ الَّتِي لَمْ يُرَتِّبْهَا الْمُوصِي وَلَا الشَّارِعُ، كَأَنْ يُوصِيَ لِشَخْصٍ بِنِصْفِ مَالِهِ مَثَلًا وَلِآخَرَ بِثُلُثِهِ، وَإِنْ أَجَازَتْ الْوَرَثَةُ الْوَصِيَّتَيْنِ فَلَا إشْكَالَ فِي أَخْذِ أَحَدِهِمَا نِصْفَهُ وَالْآخَرِ ثُلُثَهُ، لِأَنَّ مَقَامَ النِّصْفِ مِنْ اثْنَيْنِ وَالثُّلُثِ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَهُمْ مُتَبَايِنَانِ، فَيُضْرَبُ أَحَدُهُمَا فِي الْآخَرِ بِسِتَّةٍ، هَذَا حَاصِلُ مَخْرَجِ الْوَصِيَّتَيْنِ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَالثُّلُثُ اثْنَانِ وَالْبَاقِي وَاحِدٌ لِلْوَرَثَةِ، وَإِنْ لَمْ تُجِزْ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ اقْتَسَمَا الثُّلُثَ عَلَى النِّصْفِ وَالثُّلُثِ وَهُمَا مُتَبَايِنَانِ وَمَقَامُهُمَا مِنْ سِتَّةٍ لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ وَهِيَ الْمُحَاصَّةُ فَاجْعَلْهَا ثُلُثَ الْمَالِ يَكُونُ الْمَالُ خَمْسَةَ عَشَرَ، خَمْسَةٌ لِلْمُوصَى لَهُمْ لِلْمُوصَى لَهُ بِالنِّصْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] ثَلَاثَةٌ وَالْمُوصَى لَهُ بِالثُّلُثِ اثْنَانِ وَتَبْقَى عَشَرَةٌ لِأَهْلِ الْفَرِيضَةِ، وَكَأَنْ يُوصِيَ لِرَجُلٍ بِنِصْفِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِرُبُعِهِ فَإِنَّك تَأْخُذُ مَقَامَ النِّصْفِ وَمَقَامَ الرُّبُعِ وَتَنْظُرُ بَيْنَهُمَا فَتَجِدُهُمَا مُتَدَاخِلَيْنِ فَتَكْتَفِي بِالْأَرْبَعَةِ فَتَأْخُذُ نِصْفَهَا وَرُبُعَهَا يَكُونُ الْمَجْمُوعُ ثَلَاثَةً، تُقَسَّمُ بَيْنَهُمَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَسْهُمٍ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ سَهْمٌ وَلِلْآخَرِ سَهْمَانِ، وَإِنْ أَوْصَى لِشَخْصٍ بِثُلُثِ مَالِهِ وَلِآخَرَ بِرُبُعِهِ فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمَا عَلَى سَبْعَةِ أَسْهُمٍ، لِصَاحِبِ الثُّلُثِ أَرْبَعَةٌ وَلِصَاحِبِ الرُّبُعِ ثَلَاثَةٌ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ، وَمِمَّا يَقَعُ فِيهِ التَّحَاصُصُ النَّذْرُ وَمُبْتَلُّ الْمَرِيضِ إذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ حَمْلِهَا، بِخِلَافِ مَا إذَا ضَاقَ الثُّلُثُ عَنْ كَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَالْقَتْلِ فَإِنَّهُمَا لَا تَرْتِيبَ بَيْنَهُمَا وَلَكِنْ لَا يَتَحَاصَّانِ وَإِنَّمَا يَقْرَعُ بَيْنَهُمَا بِخِلَافِ غَيْرِهِمَا مِنْ مُتَّحِدِي الرُّتْبَةِ، لِأَنَّ تَقْدِيمَ أَحَدِهِمَا عَلَى غَيْرِهِ تَرْجِيحٌ بِلَا مُرَجِّحٍ وَعَدَمُ التَّحَاصُصِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ لَا تَتَبَعَّضُ بِخِلَافِ مَا سَبَقَ. وَلَمَّا كَانَتْ الْعَطِيَّةُ تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ وَالْوَصِيَّةِ لَا تَلْزَمُ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَلِلرَّجُلِ) الْمُرَادُ الْمُوصِي مُطْلَقًا (الرُّجُوعُ عَنْ وَصِيَّتِهِ مِنْ عِتْقٍ وَغَيْرِهِ) مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَاصِلَةِ فِي الصِّحَّةِ أَوْ الْمَرَضِ فِي انْحِلَالِ عَقْدِهَا فَهِيَ بِمَنْزِلَةِ الْوَعْدِ، وَالْوَعْدُ لَا يَلْزَمُ الْوَفَاءُ بِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ، وَصِفَةُ الرُّجُوعِ أَنْ يَقُولَ: رَجَعْت عَنْ وَصِيَّتِي أَوْ نَسَخْتهَا. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا تَبْطُلُ بِهِ وَبِرُجُوعٍ فِيهَا وَإِنْ يَمْرَضْ بِقَوْلٍ أَوْ بَيْعٍ أَوْ عِتْقٍ أَوْ كِتَابَةٍ وَبِإِيلَادٍ وَحَصْدِ زَرْعٍ وَنَسْجِ غَزْلٍ وَصَوْغِ فِضَّةٍ وَحَشْوِ قُطْنٍ وَذَبْحِ شَاةٍ وَتَفْصِيلِ شَقَّةٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ عَنْ وَصِيَّتِهِ وَلَوْ شَرَطَ لِنَفْسِهِ عَدَمَ الرُّجُوعِ فِيهَا وَبِهِ الْعَمَلُ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِالشَّرْطِ، وَلَيْسَ مِنْ الْوَصِيَّةِ مَا تَبَلَهُ الْمَرِيضُ فِي مَرَضِهِ مِنْ صَدَقَةٍ أَوْ هِبَةٍ أَوْ حَبْسٍ فَإِنَّهُ لَازِمٌ لَا رُجُوعَ لَهُ فِيهِ، وَقَوْلُنَا: مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ عَلَيْهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْإِيصَاءِ بِإِخْرَاجِ مَا عَلَيْهِ مِنْ الزَّكَوَاتِ وَالدُّيُونِ الَّتِي لَا شَاهِدَ عَلَيْهَا، وَإِنَّمَا عَلِمْت بِاعْتِرَافِهِ وَإِيصَائِهِ بِإِخْرَاجِهَا، فَلَا يَجُوزُ لَهُ الرُّجُوعُ فِيهَا لِاعْتِرَافِهِ بِوُجُوبِهَا عَلَيْهِ. (تَتِمَّةٌ) تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى نَوْعٍ مِنْ الْوَصِيَّةِ وَهُوَ مَا أَوْجَبَ حَقًّا فِي ثُلُثِ الْعَاقِدِ، وَسَكَتَ عَنْ النَّوْعِ الثَّانِي وَهُوَ مَا أَوْجَبَ النِّيَابَةَ عَنْ الْمُوصِي بَعْدَ مَوْتِهِ كَإِيصَائِهِ عَلَى أَوْلَادِهِ وَصِيغَتُهَا: إنْ قَصُرَتْ عَمَّتْ كَاشْهَدُوا عَلَى أَنَّ فُلَانًا وَصِيٌّ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَكُونُ وَصِيًّا عَامًّا فِي جَمِيعِ الْأَشْيَاءِ، وَيُزَوَّجُ صِغَارُ بَنِيهِ لِمَصْلَحَةٍ وَالْبَنَاتُ إذَا بَلَغْنَ، وَأَذِنَ بِالْقَوْلِ: إلَّا أَنْ يَأْمُرَ الْمُوصِي بِالْإِجْبَارِ أَوْ يُعَيَّنَ لَهُ الزَّوْجُ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَجَبْرُ وَصِيٍّ أَمَرَهُ أَبٌ بِهِ أَوْ عَيَّنَ لَهُ الزَّوْجَ وَإِلَّا فَخِلَافٌ، وَإِذَا طَالَ لَفْظُهَا بِأَنْ قَالَ: وَصِيِّي عَلَى الشَّيْءِ الْفُلَانِيِّ فَإِنَّهُ تَخْتَصُّ بِذَلِكَ الَّذِي سَمَّاهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَصِيٌّ فَقَطْ يَعُمُّ وَعَلَى كَذَا يَخُصُّ بِهِ، وَاَلَّذِي يُوصِي عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ الْأَبُ الرَّشِيدُ أَوْ الْحَاكِمُ أَوْ وَصِيُّ الْأَبِ أَوْ وَصِيُّ الْوَصِيِّ، وَكَذَا الْأُمُّ لَهَا الْإِيصَاءُ عَلَى الصَّغِيرِ بِشَرْطِ قِلَّةِ الْمَالِ وَعَدَمِ وَلِيٍّ لِلصَّغِيرِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمَالُ مَوْرُوثًا مِنْ الْأُمِّ، وَشَرْطُ الْمُوصَى لَهُ أَنْ يَكُونَ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا عَدْلًا فِيهِ الْكِفَايَةُ، بِمَعْنَى الْقُدْرَةِ عَلَى الْقِيَامِ بِمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَحْجُورِ وَلَوْ أَعْمَى، أَوْ امْرَأَةً أَوْ عَبْدًا وَيَتَصَرَّفُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَيْسَ لِلْمُوصَى لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ بَعْدَ الْقَبُولِ وَمَوْتِ الْمُوصِي وَإِنَّمَا يَعْزِلُهُ الْفِسْقُ وَالْعَجْزُ، هَذَا حُكْمُ وَصِيِّ النَّظَرِ، وَأَمَّا الْوَصِيُّ عَلَى عِتْقِ عَبْدٍ أَوْ تَفْرِقَةِ ثُلُثِهِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ الْعَدَالَةُ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ وَسَنُنَبِّهُ عَلَيْهِ بَعْدُ. [أَحْكَام التَّدْبِير] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْوَصِيَّةِ شَرَعَ فِي ثَانِي الْأَبْوَابِ الْمُتَرْجِمِ لَهَا وَهُوَ التَّدْبِيرُ بِقَوْلِهِ: (وَالتَّدْبِيرُ) مَأْخُوذٌ مِنْ إدْبَارِ الْحَيَاةِ، وَدُبُرُ كُلِّ شَيْءٍ مَا وَرَاءَهُ فَهُوَ بِسُكُونِ الْبَاءِ وَضَمِّهَا وَالْجَارِحَةُ بِالضَّمِّ لَا غَيْرُ، وَقَالَ أَهْلُ اللُّغَةِ: التَّدْبِيرُ عِتْقُ الْعَبْدِ عَنْ دُبُرِ صَاحِبِهِ، وَمَعْنَاهُ شَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عَقْدٌ يُوجِبُ عَقْدَ مَمْلُوكٍ مِنْ ثُلُثِ مَالِكِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ بِعَقْدٍ لَازِمٍ، فَقَوْلُهُ: بَعْدَ مَوْتِهِ يَخْرُجُ بِهِ الْمُلْتَزَمُ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ الْمُبْتَلِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَازِمٌ لَهُ إذَا لَمْ يَمُتْ، وَقَوْلُهُ: بِعَقْدٍ لَازِمٍ يَتَعَلَّقُ بِمُوجَبٍ أَخْرَجَ بِهِ الْوَصِيَّةَ، وَالْمُدَبَّرُ هُوَ الْمُعْتَقُ مِنْ ثُلُثِ السَّيِّدِ، سُمِّيَ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ يُعْتَقُ دُبُرَ حَيَاةِ السَّيِّدِ وَكَأَنَّهُ قَالَ: إذَا أَقْبَلْت عَلَى اللَّهِ وَأَدْبَرْت عَنْ الدُّنْيَا فَأَنْتَ حُرٌّ، وَحُكْمُهُ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ، دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وَنَحْوُهُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَلَهُ أَرْكَانٌ ثَلَاثَةٌ: الْمُدَبِّرُ بِالْكَسْرِ وَشَرْطُهُ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالرُّشْدُ. قَالَ خَلِيلٌ: التَّدْبِيرُ تَعَلُّقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ وَإِنْ زَوْجَةً فِي زَائِدِ الثُّلُثِ الْعِتْقُ بِمَوْتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ، فَلَا يُنَفَّذُ تَدْبِيرُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا سَفِيهٍ وَلَا مَدِينٍ، وَالْأَقْرَبُ لُزُومُهُ لِلسَّكْرَانِ كَعِتْقِهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا لَزِمَتْ الصَّبِيَّ وَالسَّفِيهَ الْوَصِيَّةُ اسْتِحْسَانًا، وَلِأَنَّ لِلْمُوصِي الرُّجُوعَ وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا لِحَقِّ أَنْفُسِهِمَا، وَالْمُكَلَّفُ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ فَيَصِحُّ تَدْبِيرُ الْكَافِرِ لِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ وَيَلْزَمُهُ وَيُؤْجَرُ لَهُ وَيَكُونُ وَلَاؤُهُ لِلْمُسْلِمِينَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْكَافِرِ قَرِيبٌ مُسْلِمٌ فَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ، إلَّا أَنْ يُسْلِمَ السَّيِّدُ فَيَرْجِعَ لَهُ الْوَلَاءُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ قَرِيبُهُ كَافِرًا قَبْلَ التَّدْبِيرِ يَسْتَحِقُّ وَلَاءَهُ بَلْ يَسْتَمِرُّ لِلْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا تَدْبِيرُ الْكَافِرِ عَبْدَهُ الْكَافِرِ فَلَا يَلْزَمُهُ وَلَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 أَوْ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي ثُمَّ لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَهُ خِدْمَتُهُ وَلَهُ انْتِزَاعُ مَالِهِ مَا لَمْ يَرْضَ. وَلَهُ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً. وَلَا يَطَأُ الْمُعْتَقَةَ إلَى أَجَلٍ وَلَا يَبِيعُهَا وَلَهُ أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا وَلَهُ أَنْ يَنْتَزِعَ مَالَهَا مَا لَمْ يَقْرَبْ الْأَجَلَ. وَإِذَا مَاتَ فَالْمُدَبَّرُ مِنْ ثُلُثِهِ.   [الفواكه الدواني] الرُّجُوعُ عَنْهُ. الرُّكْنُ الثَّانِي: الْمُدَبَّرُ بِفَتْحِ الْبَاءِ وَهُوَ كُلُّ مَنْ فِيهِ شَائِبَةُ رِقٍّ مِنْ عَبْدٍ أَوْ امْرَأَةٍ مَمْلُوكَةٍ لِلْمُدَبِّرِ بِكَسْرِ الْبَاءِ، فَإِنْ دَبَّرَ أَحَدَ شَرِيكَيْنِ تَقَاوَيَاهُ، فَإِنْ صَارَ كُلُّهُ مُدَبَّرًا وَإِلَّا صَارَ كُلُّهُ رَقِيقًا. الرُّكْنُ الثَّالِثُ: الصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ التَّدْبِيرُ وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: صَرِيحَةٌ وَكِفَايَةٌ، فَالصَّرِيحَةُ (أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ) الْمُرَادُ مُطْلَقُ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ (لِعَبْدِهِ) أَيْ رَقِيقِهِ (أَنْتَ مُدَبَّرٌ) أَوْ دَبَّرْتُكَ (أَوْ) يَقُولَ (أَنْتَ حُرٌّ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي) أَوْ أَنْتَ عَتِيقٌ عَنْ دُبُرٍ مِنِّي وَنَحْوُهُ مِنْ كُلِّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ تَعْلِيقُ الْعِتْقِ عَلَى مَوْتِهِ لَا عَلَى وَجْهِ الْوَصِيَّةِ بَلْ عَلَى وَجْهِ التَّحَتُّمِ وَاللُّزُومِ، بِخِلَافِ تَقْيِيدِهِ بِوَجْهٍ مَخْصُوصٍ كَقَوْلِهِ: إنْ مِتُّ مِنْ مَرَضِي هَذَا أَوْ سَفَرِي هَذَا فَهَذَا وَصِيَّةٌ لَا تَدْبِيرٌ، وَبِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ بَعْدَ الصِّيغَةِ الصَّرِيحَةِ: مَا لَمْ أَرْجِعْ عَنْهُ أَوْ مَا لَمْ أُغَيِّرْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَنْقَلِبُ وَصِيَّةً، وَالْكِفَايَةُ أَنْ يَقُولَ الْمَالِكُ فِي صِحَّتِهِ: أَنْتَ حُرٌّ بَعْدَ مَوْتِي وَلَمْ يُقَيِّدْ بِيَوْمٍ وَلَا شَهْرٍ أَوْ يَوْمَ أَمُوتُ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ الْمُعَلَّقُ عَلَيْهِ يَحْتَمِلُ الْوُقُوعَ وَعَدَمَهُ، فَهَذَا وَصِيَّةٌ لَا تَدْبِيرٌ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِهِ التَّدْبِيرَ (ثُمَّ) إذَا وَقَعَ التَّدْبِيرُ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لَازِمًا (لَا يَجُوزُ لَهُ) أَيْ لِلْمُدَبِّرِ بِكَسْرِ الْبَاءِ (بَيْعُهُ) وَلَا هِبَتُهُ لِوُقُوعِهِ عَقْدِهِ لَازِمًا وَبَيْعِهِ ذَرِيعَةً لِإِرْقَاقِهِ وَالشَّارِعُ مُتَشَوِّفٌ لِلْحُرِّيَّةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ بَيْعِهِ وَهِبَتِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يُبَاعُ الْمُدَبَّرُ وَلَا يُوهَبُ وَهُوَ حُرٌّ مِنْ الثُّلُثِ» وَإِذَا وَقَعَ بَيْعُهُ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرِي قَدْ أَعْتَقَهُ فَإِنَّهُ يَمْضِي بَيْعُهُ وَعِتْقُهُ الْوَاقِعُ بَعْدَهُ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُشْتَرِي، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَلَا يُقَالُ بِشَكْلٍ عَلَى حُرْمَةِ الْبَيْعِ جَوَازُ الْمُقَاوَاةِ إذَا دَبَّرَ أَحَدُ الشَّرِيكَيْنِ حِصَّتَهُ وَفِيهَا بَيْعُ الْمُدَبَّرِ، لِأَنَّ جَوَازَ الْمُقَاوَاةِ مُسْتَثْنًى مِنْ حُرْمَةِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مَعَ احْتِمَالِ صَيْرُورَتِهِ مُدَبَّرَ الْجَمِيعِ أَيْضًا. (تَنْبِيهٌ) مَحَلُّ حُرْمَةِ بَيْعِ الْمُدَبَّرِ مَا لَمْ يَتَبَيَّنْ دَيْنٌ عَلَى السَّيِّدِ تُدَايِنُهُ قَبْلَ التَّدْبِيرِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مَا يَجْعَلُهُ فِي الدَّيْنِ، وَإِلَّا جَازَ بَيْعُهُ وَلَوْ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ، وَأَمَّا الدَّيْنُ الْمُتَأَخِّرُ عَنْ التَّدْبِيرِ فَلَا يُبَاعُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ وَيُبَاعُ فِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيُبْطِلُ التَّدْبِيرَ دَيْنٌ سَبَقَا ... إنْ سَيِّدٌ حَيًّا وَإِلَّا مُطْلَقَا وَإِنَّمَا بَطَلَ التَّدْبِيرُ بِالدَّيْنِ الْمُتَأَخِّرِ بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْمُدَبَّرَ لَا يُعْتَقُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَلَمَّا كَانَ الْمُدَبَّرُ فِي حَيَاةِ سَيِّدِهِ عَلَى حُكْمِ الرَّقِيقِ فِي خِدْمَتِهِ وَشَهَادَتِهِ وَعَدَمِ حَدِّ قَاذِفِهِ وَعَدَمِ قَتْلِ قَاتِلِهِ الْحُرِّ قَالَ: (وَلَهُ) أَيْ سَيِّدِ الْمُدَبَّرِ (خِدْمَتُهُ) فَيَسْتَخْدِمُهُ أَوْ يُؤَجِّرُهُ لِأَنَّهُ عَلَى مِلْكِهِ (إلَى أَنْ يَمُوتَ فَيُعْتَقُ حِينَئِذٍ) مَاتَ سَيِّدُهُ مَلِيًّا مِنْ ثُلُثِهِ (وَلَهُ) أَيْ سَيِّدِ الْمُدَبَّرِ أَيْضًا (انْتِزَاعُ مَالِهِ) أَيْ الْمُدَبَّرِ (مَا لَمْ يَمْرَضْ) أَيْ السَّيِّدُ مَرَضًا مَخُوفًا وَإِلَّا حُرِّمَ عَلَيْهِ انْتِزَاعُ مَالِهِ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يُنْتَزَعُ لِغَيْرِهِ، وَهَذَا فِيمَا اسْتَعَادَهُ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ وَصِيَّةٍ أَوْ صَدَاقٍ إنْ كَانَ الْمُدَبَّرُ أُنْثَى، وَأَمَّا مَا اسْتَفَادَهُ الْمُدَبَّرُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ وَخَرَاجِهِ أَوْ أَرْشِ جِنَايَتِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِسَيِّدِهِ انْتِزَاعُهُ وَلَوْ مَرِضَ لِأَنَّهُ مِنْ أَمْوَالِهِ. (تَنْبِيهٌ) مِثْلُ الْمُدَبَّرِ فِي عَدَمِ جَوَازِ انْتِزَاعِ مَالِهِ أُمُّ الْوَلَدِ، فَلَا يَجُوزُ لِسَيِّدِهَا إذَا مَرِضَ انْتِزَاعُ مَالِهَا، وَالْمُعْتَقُ لِأَجَلٍ وَقَدْ قَرُبَ الْأَجَلُ، وَالْمُكَاتَبُ مُطْلَقًا، وَالْمُعْتَقُ بَعْضُهُ، وَالْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ إذَا صَارَ مَدِينًا. (وَ) كَمَا يَمْلِكُ السَّيِّدُ خِدْمَةَ مُدَبَّرَةٍ فِي حَيَاتِهِ يَجُوزُ (لَهُ وَطْؤُهَا) أَيْ النَّسَمَةُ الْمُدَبَّرَةُ (إنْ كَانَتْ أَمَةً) لِأَنَّ الْمُدَبَّرَ عَلَى مِلْكِ سَيِّدِهِ إلَى الْمَوْتِ وَالْعِتْقِ، وَإِذَا حَمَلَتْ الْمُدَبَّرَةُ مِنْ وَطْءِ سَيِّدِهَا صَارَتْ أُمَّ وَلَدٍ تُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، وَإِذَا لَمْ تَحْمِلْ تُعْتَقُ مِنْ الثُّلُثِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ رَهْنِ الْمُدَبَّرِ وَكِتَابَتِهِ وَالْحُكْمُ جَوَازُ كِتَابَتِهِ، لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ إنَّمَا هُوَ إخْرَاجُهُ لِغَيْرِ حُرِّيَّةٍ كَبَيْعِهِ، وَأَمَّا رَهْنُهُ فَإِنْ كَانَ عَلَى أَنْ يُبَاعَ لِلْغُرَمَاءِ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ فِي الدَّيْنِ السَّابِقِ عَلَى التَّدْبِيرِ لَا الْمُتَأَخِّرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَأَمَّا عَلَى أَنْ لَا يُبَاعَ إلَّا بَعْدَ مَوْتِ السَّيِّدِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ وَلَوْ فِي الدَّيْنِ الْمُتَأَخِّرِ عَنْ التَّدْبِيرِ. وَلَمَّا كَانَتْ الْمُعْتَقَةُ لِأَجَلٍ قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى الْحُرِّيَّةِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرَةِ قَالَ: (وَلَا) يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ أَنْ (يَطَأَ) أَمَتَهُ (الْمُعْتَقَةَ إلَى أَجَلٍ) وَهِيَ الَّتِي قَالَ لَهَا سَيِّدُهَا: اُخْدُمِي وَأَنْتِ حُرَّةٌ بَعْدَ سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ مَثَلًا، وَإِنَّمَا حُرِّمَ وَطْؤُهَا لِاحْتِمَالِ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ قَبْلَ مَوْتِهِ فَتَخْرُجُ حُرَّةً فَيُشْبِهُ وَطْؤُهُ لَهَا نِكَاحَ الْمُتْعَةِ، وَإِنْ اقْتَحَمَ السَّيِّدُ النَّهْيَ وَوَطِئَهَا أُدِّبَ وَلَا يُحَدُّ وَيُلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ وَتَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَيُعَجَّلُ عِتْقُهَا وَقِيلَ لَا يُعَجَّلُ لِبَقَاءِ أَرْشِ الْجِنَايَةِ عَلَيْهَا لَهُ إنْ جُرِحَتْ وَقِيمَتُهَا إنْ قُتِلَتْ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ وَطْؤُهَا سَوَاءٌ عَجَّلَ عِتْقَهَا أَوْ بَقِيَتْ إلَى أَجَلِهَا. (وَ) كَمَا لَا يَحِلُّ لِلسَّيِّدِ وَطْءُ الْمُعْتَقَةِ لِأَجَلٍ (لَا يَبِيعُهَا) وَلَا يَتَصَدَّقُ بِهَا لِإِشْرَافِهَا عَلَى الْحُرِّيَّةِ. (وَلَهُ) أَيْ سَيِّدِ الْمُعْتَقَةِ لِأَجْلِ (أَنْ يَسْتَخْدِمَهَا) لِبَقَائِهَا عَلَى مِلْكِهِ حَتَّى يَنْقَضِيَ الْأَجَلُ. (وَلَهُ) أَيْ السَّيِّدِ (أَنْ يَنْتَزِعَ مَالَهَا) الَّذِي اسْتَفَادَتْهُ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ. (مَا لَمْ يَقْرُبْ الْأَجَلُ) بِالشَّهْرِ وَمَا قَارَبَهُ فَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ انْتِزَاعُهُ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ خَرَاجِهَا وَكَسْبِهَا وَأَرْشِ جِنَايَةٍ عَلَيْهَا فَلَهُ انْتِزَاعُهُ وَإِنْ قَرُبَ الْأَجَلُ، وَإِنَّمَا أَقْحَمَ الْكَلَامَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 وَالْمُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ وَالْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ. وَالْكِتَابَةُ جَائِزَةٌ عَلَى مَا رَضِيَهُ الْعَبْدُ وَالسَّيِّدُ مِنْ الْمَالِ مُنَجَّمًا قَلَّتْ النُّجُومُ أَوْ كَثُرَتْ. فَإِنْ عَجَزَ رَجَعَ رَقِيقًا. وَحَلَّ لَهُ مَا أَخَذَ مِنْهُ. وَلَا يُعَجِّزُهُ إلَّا السُّلْطَانُ بَعْدَ التَّلَوُّمِ إذَا   [الفواكه الدواني] عَلَى أَحْكَامِ الْمُعْتَقَةِ لِأَجَلٍ مِنْ خِلَافِ أَحْكَامِ الْمُدَبَّرِ لِمَا بَيْنَهُمَا مِنْ الْمُنَاسَبَةِ فِي بَعْضِ الْأَحْكَامِ. [صفة إخْرَاج الْمُدَبَّرِ وَعِتْقِهِ مِنْ الثُّلُثِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي صِفَةِ إخْرَاجِ الْمُدَبَّرِ وَعِتْقِهِ مِنْ الثُّلُثِ وَصِفَةِ عِتْقِ الْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا مَاتَ) السَّيِّدُ (فَالْمُدَبَّرُ حُرٌّ) إذَا خَرَجَ (مِنْ ثُلُثِهِ) بِأَنْ كَانَ مَالُ السَّيِّدِ كَثِيرًا وَلَا دَيْنَ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهُ وَإِلَّا رَجَعَ رَقِيقًا، وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ مُتَأَخِّرًا عَنْ التَّدْبِيرِ، وَشَرْطُ عِتْقِ الْمُدَبَّرِ أَنْ لَا يَقْتُلَ سَيِّدَهُ وَإِلَّا لَمْ يُعْتَقْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ التَّدْبِيرُ وَبِقَتْلِ سَيِّدِهِ عَمْدًا وَبِاسْتِغْرَاقِ الدَّيْنِ لَهُ وَلِلتَّرِكَةِ وَبَعْضِهِ بِمُجَاوَزَةِ الثُّلُثِ، وَصِفَةُ خُرُوجِهِ مِنْ الثُّلُثِ أَنْ يَقُومَ مَعَ مَالِهِ لِأَنَّهُ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ كَطُولِهِ، وَالْعِبْرَةُ بِيَوْمِ النَّظَرِ لَا بِيَوْمِ مَوْتِ السَّيِّدِ، فَيُقَالُ كَمْ يُسَاوِي عَلَى أَنَّ لَهُ مِنْ الْمَالِ كَذَا فَتَارَةً يَحْمِلُهُ الثُّلُثُ فَيُعْتَقُ كُلُّهُ، كَمَا إذَا كَانَ مَالُهُ مِائَةً وَقِيمَتُهُ مِائَةً وَتَرَكَ السَّيِّدُ أَرْبَعَمِائَةٍ وَيُقِرُّ مَالَهُ بِيَدِهِ، وَتَارَةً يَحْمِلُ الثُّلُثُ بَعْضَهُ فَإِنَّ ذَلِكَ الْبَعْضَ يَصِيرُ حُرًّا وَيَرِقُّ بَاقِيهِ وَيَتْرُكُ مَالَهُ بِيَدِهِ مِلْكًا لَهُ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ وَلَا لِوَرَثَتِهِ فِيهِ شَيْءٍ لِأَنَّهُ مَالٌ مُبَعَّضٌ وَالْمُبَعَّضُ لَا يُنْتَزَعُ مَالُهُ، مِثَالُهُ لَوْ كَانَتْ قِيمَتُهُ مِائَةً وَمَالُهُ مِائَةً وَتَرَكَ سَيِّدَهُ مِائَةً فَإِنَّهُ يُعْتَقُ نِصْفُهُ وَيَتْرُكُ مَالَهُ بِيَدِهِ لِأَنَّ قِيمَتَهُ بِمَالِهِ مِائَتَانِ وَثُلُثُ السَّيِّدِ مِائَةٌ وَهِيَ نِصْفُ الْمِائَتَيْنِ اللَّتَيْنِ هُمَا قِيمَتُهُ بِمَالِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُوِّمَ بِمَالِهِ فَإِنْ لَمْ يَحْمِلْ الثُّلُثُ إلَّا بَعْضَهُ عَتَقَ وَأَقَرَّ مَالَهُ بِيَدِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ فِي الثُّلُثِ، فَظَاهِرُهُ شُمُولُ ثُلُثِ الْمَالِ الْمَعْلُومِ لِلسَّيِّدِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَالْمَجْهُولُ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ لَكِنْ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُدَبَّرِ فِي الصِّحَّةِ، وَأَمَّا الْمُدَبَّرُ فِي الْمَرَضِ فَإِنَّمَا يَخْرُجُ مِنْ ثُلُثِ الَّذِي عَلِمَ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ لَا مَا كَانَ مَجْهُولًا لَهُ. الثَّانِي: إنَّمَا قَيَّدْنَا بِيَوْمِ النَّظَرِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ مَلَكَ بَعْضَ مَالِهِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَقَبْلَ التَّنْفِيذِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ لِلْبَاقِي مِنْهُ، وَإِذَا كَانَ الْمَالُ الْمَوْجُودُ عِنْدَ السَّيِّدِ لَا يَحْمِلُ الْمُدَبَّرَ وَلَهُ دَيْنٌ مُؤَجَّلٌ عَلَى حَاضِرٍ مُوسِرٍ فَإِنَّهُ يُبَاعُ بِالنَّقْدِ، وَإِنْ قَرُبَتْ غَيْبَتُهُ اسْتَوْفَى بِقَبْضِهِ وَلَا بِيعَ الْمُدَبَّرُ إنْ أَرَادَ الْوَارِثُ بَيْعَهُ، فَإِنْ حَضَرَ الْغَائِبُ أَوْ أَيْسَرَ الْمُعْدِمُ بَعْدَ بَيْعِهِ عَتَقَ مِنْهُ حَيْثُ كَانَ، وَلَوْ كَانَ الَّذِي اشْتَرَاهُ قَدْ أَعْتَقَهُ لِأَنَّهُ يَرْجِعُ مِنْ عِتْقٍ إلَى عِتْقٍ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ يَرْجِعُ مُدَبَّرًا فَإِنَّهُ لَا يَنْقَضِ عِتْقُهُ. (وَ) إذَا انْقَضَى أَجَلُ (الْمُعْتِقِ إلَى أَجَلٍ) فَإِنَّهُ يَخْرُجُ حُرًّا (مِنْ رَأْسِ الْمَالِ) الْمَمْلُوكِ لِلسَّيِّدِ فَلَيْسَ كَالْمُدَبَّرِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ التَّدْبِيرَ جَارٍ مَجْرَى الْوَصِيَّةِ فَلَا يَخْرُجُ إلَّا مِنْ الثُّلُثِ، وَأَمَّا الْعِتْقُ إلَى أَجَلٍ فَهُوَ لَازِمٌ فَلِذَا أُخْرِجَ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. [أَحْكَام الْكِتَابَة] ثُمَّ شَرَعَ فِي ثَالِثِ الْأَبْوَابِ الْمُتَرْجَمِ لَهَا وَهُوَ الْكِتَابَةُ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ إمَّا مِنْ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ أَوْ مِنْ الْإِلْزَامِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ} [الحجر: 4] أَيْ أَجَلٌ مُقَدَّرٌ، وَلِقَوْلِهِ تَعَالَى: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] أَيْ إلْزَامُكُمْ كَإِلْزَامِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: عِتْقٌ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مِنْ الْعَبْدِ مَوْقُوفٍ عَلَى أَدَائِهِ، فَيَخْرُجُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ مُعَجَّلٍ، وَيَخْرُجُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ مِنْ أَجْنَبِيٍّ، وَيَخْرُجُ الْعِتْقُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ وَهُوَ الْعِتْقُ الْمُبَتَّلُ وَالْعِتْقُ إلَى أَجَلٍ، وَقَوْلُهُ: مُؤَجَّلٌ أَخْرَجَ بِهِ الْقَطَاعَةَ وَهِيَ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْعَبْدُ لِسَيِّدِهِ لِيَعْتِقَهُ سَرِيعًا، وَقَوْلُهُ: مَوْقُوفٌ عَلَى أَدَائِهِ لِإِخْرَاجِ الْعِتْقِ النَّاجِزِ عَلَى مَالٍ يَدْفَعُهُ الْعَبْدُ إلَى سَيِّدِهِ بَعْدَ أَجَلٍ فَإِنَّهُ لَيْسَ مِنْ الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمُكَاتَبُ) حُكْمُهُ حُكْمُ (عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ شَيْءٌ) مِنْ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، وَبَدَأَ بِذَلِكَ قَبْلَ بَيَانِ حُكْمِ الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ كَالدَّلِيلِ عَلَيْهَا لِأَنَّهُ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمُكَاتَبُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ مِنْ كِتَابَةٍ دِرْهَمٌ» وَهَذَا مِنْ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ، إلَّا أَنَّ الْمُكَاتَبَ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ فَلَا يُحْجَزُ عَلَيْهِ فِي التَّصَرُّفَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِتَنْمِيَةِ الْمَالِ، بِخِلَافِ أَنْوَاعِ التَّبَرُّعَاتِ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْعِتْقِ وَنَحْوِهَا مِمَّا فِيهِ إضَاعَةٌ لِلْمَالِ. 1 - وَأَشَارَ إلَى حُكْمِهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْكِتَابَةُ) وَهِيَ عِتْقُ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ عَبْدَهُ (جَائِزَةٌ عَلَى مَا رَضِيَهُ الْعَبْدُ وَالسَّيِّدُ مِنْ الْمَالِ) حَالَةَ كَوْنِهِ (مُنَجَّمًا) أَيْ مُؤَجَّلًا لِأَنَّ التَّنْجِيمَ التَّأْجِيلُ بِأَنْ يَقُولَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: تَدْفَعُ إلَى كُلَّ نَجْمٍ بَعْدَ شَهْرَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ. (قَلَّتْ النُّجُومُ أَوْ كَثُرَتْ) وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْمُدَوَّنَةِ اشْتِرَاطُ التَّنْجِيمِ فَفِيهَا وَالْكِتَابَةُ عِنْدَ النَّاسِ مُنَجَّمَةٌ، وَالْمُرَادُ بِالنَّاسِ الصَّحَابَةُ وَالتَّابِعُونَ، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ اعْتَمَدَ عَلَى ظَاهِرِهَا وَعَلَى قَوْلِ الْجَوَاهِرِ، وَشَرْطُ الْعِوَضِ أَنْ يَكُونَ مُنَجَّمًا. قَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ: ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنَّ التَّنْجِيمَ شَرْطٌ وَهُوَ خِلَافُ الْمَشْهُورِ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَاتِ لِابْنِ رُشْدٍ أَنَّهَا تَجُوزُ عِنْدَ مَالِكٍ حَالَّةً وَمُؤَجَّلَةً فَإِنْ وَقَعَتْ مَسْكُوتًا عَنْهَا أُجِّلَتْ، وَأَمَّا لَوْ شَرَطَ تَعْجِيلَ الْمَالِ لَمْ تُسَمَّ كِتَابَةً بَلْ قَطَاعَةً لِمَا تَقَدَّمَ فِي حَدِّهَا مِنْ أَنَّهَا الْعِتْقُ عَلَى مُعَجَّلٍ مِنْ الْعَبْدِ إلَخْ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالنُّجُومِ اشْتِرَاطُ تَعَدُّدِهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ صِحَّةُ جَعْلِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 امْتَنَعَ مِنْ التَّعْجِيزِ. وَكُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا مِنْ مُكَاتَبَةٍ أَوْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ مُعْتَقَةٍ إلَى أَجَلٍ أَوْ مَرْهُونَةٍ. وَوَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ   [الفواكه الدواني] نَجْمًا وَاحِدًا. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ جَائِزَةٌ هُنَا مِمَّا لَا خِلَافَ فِيهِ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا} [النور: 33] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَالْحَدِيثُ الْمُتَقَدِّمُ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ نَقَلَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْمُرَادُ بِالْجَوَازِ النَّدْبُ. قَالَ خَلِيلٌ: نَدَبَ مُكَاتَبَةَ أَهْلِ تَبَرُّعٍ وَمَحَلُّ النَّدْبِ حَيْثُ كَانَ الْعَبْدُ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى الْكَسْبِ، وَأَمَّا مُكَاتَبَةُ الصَّغِيرِ وَمَنْ لَا مَالَ لَهُ فَجَائِزَةٌ مِنْ غَيْرِ نَدْبٍ بِنَاءً عَلَى جَبْرِ الرَّقِيقِ عَلَى الْكِتَابَةِ، فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: فَكَاتِبُوهُمْ إلَخْ يَقْتَضِي وُجُوبَهَا، فَالْجَوَابُ أَنَّهُ صَرَفَ الْأَمْرَ عَنْ الْوُجُوبِ إلَى النَّدْبِ الرِّفْقُ بِالسَّادَاتِ، لِأَنَّهُ لَوْ حَمَلَ عَلَى الْوُجُوبِ لَتَسَلَّطَتْ الْعَبِيدُ عَلَى السَّادَاتِ فَيَضْرِبُهُمْ. الثَّالِثُ: أَرْكَانُ الْكِتَابَةِ أَرْبَعَةٌ: السَّيِّدُ الْمُكَلَّفُ الرَّشِيدُ، فَلَا تَصِحُّ مِنْ صَبِيٍّ بِنَاءً عَلَى أَنَّهَا عِتْقٌ وَلَا مِنْ مَجْنُونٍ وَلَا مِنْ مَحْجُورٍ، وَأَمَّا الْإِسْلَامُ فَلَا يُشْتَرَطُ عَلَى الْمَشْهُورِ لِأَنَّ مَذْهَبَ الْمُدَوَّنَةِ صِحَّةُ كِتَابَةِ الْكَافِرِ لِعَبْدِهِ الْمُسْلِمِ، وَتُبَاعُ عَلَيْهِ مِنْ مُسْلِمٍ كَكِتَابَةِ مَنْ أَسْلَمَ بَعْدَ كِتَابَتِهِ وَصِيغَتُهَا كُلُّ مَا دَلَّ عَلَيْهَا: كَكَاتَبْتُك بِكَذَا، أَوْ أَنْتَ مُكَاتَبٌ، أَوْ أَنْتَ مُعْتَقٌ عَلَى كَذَا، أَوْ بِعْتُك نَفْسَك بِكَذَا، وَالْعِوَضُ وَيَجِبُ تَأْجِيلُهُ رِفْقًا بِالْمُكَاتَبِ، فَإِنْ وَقَعَتْ مِنْ غَيْرِ شَرْطِ التَّأْجِيلِ أُجِّلَتْ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَ تَعْجِيلَهُ فَتَكُونُ قَطَاعَةً لَا كِتَابَةً وَهِيَ جَائِزَةٌ، وَيَجُوزُ فِيهِ الْغَرَرُ كَالْآبِقِ وَالشَّارِدِ، وَعَلَى عَبْدِ فُلَانٍ غَيْرَ الْآبِقِ كَعَلَى جَنِينٍ فِي بَطْنِ أَمَةِ الْمُكَاتَبِ لَا بِخَمْرٍ وَلَا خِنْزِيرٍ وَلَا لُؤْلُؤٍ لَمْ يُوصَفْ، فَإِنْ وَقَعَتْ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ مَضَتْ وَيَرْجِعُ لِكِتَابَةِ الْمِثْلِ وَالرُّكْنُ الرَّابِعُ الْمُكَاتَبُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَلَهُ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لَهُ قُدْرَةً عَلَى الْكَسْبِ، وَأَمَّا الصَّغِيرُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الْأَدَاءِ فَفِيهِ خِلَافٌ بَيْنَ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، فَعِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ لَا بَأْسَ بِكَاتِبِهِ، وَعِنْدَ أَشْهَبَ تُمْنَعُ كِتَابَتُهُ وَتُفْسَخُ إلَّا أَنْ تَفُوتَ بِالْأَدَاءِ، وَالْمُعْتَمَدُ الْأَوَّلُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَثَانِيهِمَا أَنْ يُكَاتِبَ جَمِيعَهُ إنْ كَانَ جَمِيعُهُ لَهُ فَلَا تَصِحُّ كِتَابَةُ بَعْضِهِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا بُدَّ مِنْ رِضَا الشَّرِيكَيْنِ، وَأَمَّا مُعْتَقُ الْبَعْضِ فَيَجُوزُ كِتَابَةُ بَعْضِهِ، الرَّابِعُ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: عَلَى مَا رَضِيَهُ الْعَبْدُ إشَارَةً إلَى أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُجْبَرُ عَلَى الْكِتَابَةِ وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَصَدَرَ بِهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَلَمْ يُجْبِرْ الْعَبْدُ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ وَبَنَوْا عَلَيْهِ كِتَابَةَ الصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ عَنْ الْكَسْبِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَنَصُّ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى الْجَبْرِ قَوْلُهَا: وَمَنْ كَاتَبَ عَبْدَهُ عَلَى نَفْسِهِ وَعَلَى عَبْدٍ لَهُ غَائِبٍ لَزِمَ الْعَبْدَ الْغَائِبَ وَإِنْ كَرِهَ لِأَنَّ هَذَا يُؤَدِّي عَنْهُ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ كَوْنُ الْكِتَابَةِ مِنْ بَابِ الْبَيْعِ فَلَا يُجْبَرُ عَلَيْهَا الْعَبْدُ أَوْ مِنْ بَابِ الْعِتْقِ فَيُجْبَرُ. وَلَمَّا كَانَ الْمُكَاتَبُ عَبْدًا مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَلَا يَخْرُجُ حُرًّا إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ النُّجُومِ قَالَ: (فَإِنْ عَجَزَ) الْمُكَاتَبُ عَنْ شَيْءٍ مِنْ النُّجُومِ وَإِنْ قَلَّ (رَجَعَ رَقِيقًا) إنْ كَانَ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ رَقِيقًا، وَإِنْ كَانَ مُدَبَّرًا رَجَعَ مُدَبَّرًا، فَلِذَا كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ يَقُولَ: رَجَعَ لِمَا كَانَ عَلَيْهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَكَذَا يَرْجِعُ رَقِيقًا إذَا غَابَ عِنْدَ حُلُولِ الْكِتَابَةِ بِغَيْرِ إذْنِ السَّيِّدِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ ظَاهِرٌ، وَإِنَّمَا يَرْجِعُ رَقِيقًا بَعْدَ الرَّفْعِ لِلْحَاكِمِ وَتَلُومُهُ لِمَنْ يَرْجُو يُسْرَهُ. (وَ) إنْ كَانَ الْمُكَاتَبُ قَدْ دَفَعَ لِسَيِّدِهِ شَيْئًا قَبْلَ عَجْزِهِ (حَلَّ مَا أَخَذَهُ مِنْهُ) لِأَنَّهُ مَمْلُوكُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَالُ الْمَدْفُوعُ مِنْ عِنْدِ أَجْنَبِيٍّ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الصَّدَقَةَ وَإِلَّا لَمْ يَحِلَّ لِسَيِّدِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَعَانَهُ جَمَاعَةٌ فَإِنْ لَمْ يَقْصِدُوا الصَّدَقَةَ بِأَنْ قَصَدُوا فِكَاكَ رَقَبَتِهِ أَوْ لَا قَصْدَ لَهُمْ رَجَعُوا بِالْفَضْلَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِ إنْ خَرَجَ حُرًّا وَعَلَى السَّيِّدِ بِمَا قَبَضَهُ إنْ عَجَزَ، وَأَمَّا إنْ قَصَدُوا بِمَا دَفَعُوهُ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمُكَاتَبِ فَلَا يَرْجِعُونَ عَلَيْهِ بِالْفَضْلَةِ إنْ أَعْتَقَ وَلَا بِمَا قَبَضَهُ السَّيِّدُ إنْ عَجَزَ. (وَ) أَمَّا لَوْ أَرَادَ السَّيِّدُ أَنْ يَعْجِزَ الْمُكَاتَبُ فَإِنَّهُ (لَا يُعَجِّزُهُ إلَّا السُّلْطَانُ بَعْدَ) تَلَوُّمِهِ لِمَنْ يُرْجَى يُسْرُهُ وَانْقِضَاءُ مُدَّةِ (التَّلَوُّمِ) وَهَذَا كُلُّهُ فِيمَا (إذَا امْتَنَعَ مِنْ التَّعْجِيزِ) مَعَ سَيِّدِهِ مَعَ عَدَمِ ظُهُورِ مَالٍ لَهُ، وَأَمَّا لَوْ أَطَاعَ سَيِّدَهُ عَلَى التَّعْجِيزِ وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى السُّلْطَانِ، وَكَذَا فِي عَكْسِ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ مَا إذَا طَلَبَ الْعَبْدُ التَّعْجِيزَ وَأَبَى السَّيِّدُ فَإِنَّ لَهُ أَنْ يُعَجِّزَ نَفْسَهُ دُونَ السُّلْطَانِ، فَالصُّوَرُ ثَلَاثُ: صُورَتَانِ لَا يَتَوَقَّفُ فِيهِمَا التَّعْجِيزُ عَلَى رَفْعٍ لِلسُّلْطَانِ، وَصُورَةٌ يَتَوَقَّفُ عَلَى الرَّفْعِ لَهُ، وَهَذَا تَفْصِيلُ ابْنِ رُشْدٍ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ لَا بُدَّ مِنْ السُّلْطَانِ فِيمَا إذَا لَمْ يَتَّفِقَا عَلَى الْفَسْخِ، وَقَالَ فِي مُخْتَصَرِهِ: وَلَهُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ إنْ اتَّفَقَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُ مَالٌ فَيَرِقُّ وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ، وَقَيَّدَ ذَلِكَ الْأُجْهُورِيُّ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ غَيْرُهُ كَوَلَدِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَعْجِيزُ نَفْسِهِ وَيُجْبَرُ عَلَى السَّعْيِ صَاغِرًا. (تَنْبِيهٌ) مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّلَوُّمِ فِي فَسْخِ الْحَاكِمِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَأْيُوسًا مِنْ يُسْرِهِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ التَّقْيِيدِ بِرَجَاءِ يُسْرِهِ، وَلَا فَسَخَ كِتَابَتَهُ مِنْ غَيْرِ تَلَوُّمٍ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ أَنَّ وَلَدَ مَنْ فِيهَا شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ لَيْسَ كَهِيَ، لِأَنَّ الْعِتْقَ أَوْ الْكِتَابَةَ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا. قَالَ: (وَكُلُّ ذَاتِ) أَيْ صَاحِبَةِ (رَحِمٍ فَوَلَدُهَا) مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا (بِمَنْزِلَتِهَا) ثُمَّ بَيَّنَ ذَاتَ الرَّحِمِ الْمَذْكُورَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ بِمَنْزِلَتِهَا. وَمَالُ الْعَبْدِ لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَزِعَهُ السَّيِّدُ فَإِنْ أَعْتَقَهُ أَوْ كَاتَبَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْتَزِعَهُ وَلَيْسَ لَهُ وَطْءُ مُكَاتَبَتِهِ. وَمَا حَدَثَ لِلْمُكَاتَبِ وَالْمُكَاتَبَةِ مِنْ وَلَدٍ دَخَلَ مَعَهُمَا فِي الْكِتَابَةِ وَعَتَقَ بِعِتْقِهِمَا. وَتَجُوزُ كِتَابَةُ   [الفواكه الدواني] بِقَوْلِهِ: (مِنْ مُكَاتَبَةٍ أَوْ مُدَبَّرَةٍ أَوْ مُعْتَقَةٍ إلَى أَجَلٍ) أَوْ مُبَعَّضَةٍ (أَوْ مَرْهُونَةٍ) وَإِنَّمَا يَكُونُ الْوَلَدُ بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ إذَا وَقَعَ عَقْدُ الْكِتَابَةِ وَمَا مَعَهُ عَلَى الْأُمِّ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا وَأَوْلَى الْحَادِثُ بَعْدَ الْعَقْدِ، وَأَمَّا الْمُنْفَصِلُ عَنْ أُمِّهِ قَبْلَ عَقْدِ كِتَابَتِهَا أَوْ قَبْلَ تَدْبِيرِهَا أَوْ عِتْقِهَا فَلَا يَكُونُ بِمَنْزِلَتِهَا، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا بِأَنْ كَانَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ زِنًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ ابْنِهَا مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ حُرٌّ إنْ كَانَ سَيِّدُهَا حُرًّا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ إذْ بِهِ اكْتَسَبَتْ الْحُرِّيَّةَ، وَإِنْ كَانَ سَيِّدُهَا رَقِيقًا فَهُوَ رَقِيقٌ بِمَنْزِلَتِهَا فِي جَوَازِ بَيْعِهِ وَاسْتِخْدَامِهِ كَأُمِّهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ مِنْ مُكَاتَبَةٍ وَمَا مَعَهَا: عَنْ الْمُوصَى بِعِتْقِهَا وَالْمُخْدَمَةِ وَالْمُؤَجَّرَةِ فَإِنَّ وَلَدَهُنَّ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ وَلَدَ الْمُخْدَمَةِ وَالْمُؤَجَّرَةِ لَا حَقَّ لِلْمُخْدَمِ بِالْفَتْحِ فِي خِدْمَةِ الْوَلَدِ وَلَا لِلْمُؤَجَّرِ أَيْضًا، أَوْ أَمَّا الْمُوصِي بِعِتْقِهَا فَفِي وَلَدِهَا تَفْصِيلٌ بَيْنَ مَا تَلِدُهُ فِي حَيَاةِ السَّيِّدِ لَا يَدْخُلُ مَعَهَا وَاَلَّذِي تَلِدُهُ بَعْدَ مَوْتِهِ فَيُعْتَقُ مَعَهَا، وَأَمَّا الْمُوصِي بِذَاتِهَا لِشَخْصٍ وَهِيَ حَامِلٌ وَمِثْلُهَا الْمَوْهُوبَةُ وَالْمُتَصَدَّقُ بِهَا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ مَعَهَا إلَّا أَنْ يَسْتَثْنِيَهُ سَيِّدُهَا فَلَا يَدْخُلُ مَعَهَا لِصِحَّةِ اسْتِثْنَائِهِ فِي هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ، بِخِلَافِ لَوْ أَعْتَقَهَا أَوْ بَاعَهَا وَهِيَ حَامِلٌ فَيَدْخُلُ مَعَهَا وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ. (تَنْبِيهٌ) الْمَأْخُوذُ مِنْ بَيَانِ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ بِالْمُكَاتَبَةِ وَمَا مَعَهَا تَخْصِيصُ ذَلِكَ بِالْآدَمِيَّةِ، وَأَمَّا ذَاتُ الرَّحِمِ غَيْرَ الْآدَمِيَّةِ فَتَارَةً يَكُونُ وَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا فِي الْحُكْمِ الثَّابِتِ لَهَا كَنِتَاجِ حِمَارَةٍ أَوْ خِنْزِيرَةٍ عَلَى صُورَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ إلْحَاقًا لَهُ بِالْأُمِّ، وَتَارَةً لَا يَكُونُ بِمَنْزِلَتِهَا كَنِتَاجِ ذَاتِ رَحِمٍ مِنْ الْأَنْعَامِ مِنْ فَحْلٍ وَحْشِيٍّ فَإِنَّهُمْ لَمْ يُوجِبُوا فِيهِ زَكَاةً وَلَمْ يَجْتَزُوا بِهِ فِي الضَّحِيَّةِ. (وَ) كَذَلِكَ (وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ) يَجِبُ أَنْ يَكُونَ (بِمَنْزِلَتِهَا) اتِّفَاقًا فَيُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ فِي عَدَمِ جَوَازِ بَيْعِهِ لَا فِي الْخِدْمَةِ فَإِنَّ لَهُ فِيهِ كَثِيرَ الْخِدْمَةِ، بِخِلَافِ أُمِّهِ فَإِنَّ لَهُ فِيهَا فَوْقَ مَا يَلْزَمُ الزَّوْجَةَ وَدُونَ مَا يَلْزَمُ الْقِنَّةَ، وَأَمَّا وَلَدُهَا مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ فَهُوَ حُرٌّ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْوَلَدِ الَّذِي حَدَثَ لَهَا بَعْدَ وِلَادَتِهَا مِنْ سَيِّدِهَا، وَأَمَّا مَنْ وَلَدَتْهُ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا كَزَوْجٍ أَوْ زَانٍ أَوْ سَيِّدٍ رَقِيقٍ قَبْلَ صَيْرُورَتِهَا أُمَّ وَلَدٍ فَهُوَ رَقِيقٌ قَطْعًا. وَلَمَّا كَانَ الْعَبْدُ يَمْلِكُ عِنْدَنَا بَيَّنَ غَايَةَ مِلْكِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَالُ الْعَبْدِ) الْقِنِّ (لَهُ إلَّا أَنْ يَنْتَزِعَهُ السَّيِّدُ) فَيَصِيرُ مِلْكًا وَيَحِلُّ لَهُ وَطْؤُهَا إنْ كَانَتْ أَمَةً وَيُخَاطَبُ بِزَكَاتِهِ إنْ كَانَ مِمَّا يُزَكَّى (فَإِنْ أَعْتَقَهُ) أَيْ الْقِنَّ الَّذِي لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ مَالِهِ (أَوْ كَاتَبَهُ، وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ فَلَيْسَ لَهُ) حِينَئِذٍ (أَنْ يَنْتَزِعَهُ) لِأَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَتْبَعُهُ فِي الْعِتْقِ وَإِنْ كَثُرَ دُونَ الْبَيْعِ فَإِنَّهُ لَا يَتْبَعُهُ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا وَلَهُ مَالٌ تَبِعَهُ مَالُهُ إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ سَيِّدُهُ» وَحِينَئِذٍ فَلَيْسَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ مَالِ الْمُكَاتَبِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا يُبَاعُ مُكَاتَبٌ وَلَا يُنْتَزَعُ مَالُهُ. قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: هَذَا مَذْهَبُنَا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَوْ رَضِيَ لِأَنَّ الْوَلَاءَ قَدْ ثَبَتَ لِعَاقِدِ الْكِتَابَةِ، وَالْوَلَاءُ لَا يَجُوزُ نَقْلُهُ وَيُحَرَّمُ نَزْعُ مَالِهِ سَوَاءٌ الَّذِي اكْتَسَبَهُ قَبْلَ الْكِتَابَةِ أَوْ بَعْدَهَا، وَمَا قِيلَ مِنْ جَوَازِ بَيْعِهِ إذَا رَضِيَ بِالْبَيْعِ اعْتِمَادًا عَلَى بَيْعِ بَرِيرَةَ فَمَحْمُولٌ عَلَى حَالَةِ الْعَجْزِ، لِأَنَّ بَرِيرَةَ رَضِيَتْ بِبَيْعِهَا حَتَّى سَاوَمَتْ نَفْسَهُ لِعَدَمِ قُدْرَتِهَا عَلَى الْوَفَاءِ، وَإِذَا وَقَعَ بَيْعُ الْمُكَاتَبِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ فَإِنَّهُ يُفْسَخُ إلَّا أَنْ يَفُوتَ بِعِتْقِ الْمُشْتَرِي فَفِي نَقْضِ عِتْقِهِ خِلَافٌ. (تَنْبِيهٌ) مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ مَا بِيَدِ الْعَبْدِ لَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ يَمْلِكُ لَكِنَّ مِلْكَهُ غَيْرُ تَامٍّ وَقِيلَ لَا يَمْلِكُ، وَبَنَوْا عَلَى مِلْكِهِ جَوَازَ وَطْئِهِ لِجَارِيَتِهِ وَعَدَمَ وُجُوبِ تَزْكِيَتِهِ لِمَا بِيَدِهِ لِعَدَمِ كَمَالِ الْمِلْكِ، وَبَنَوْا عَلَى عَدَمِ الْمِلْكِ إذَا اشْتَرَى مَنْ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ فَإِنَّهُ يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِهِ. (وَلَيْسَ لَهُ) أَيْ السَّيِّدِ بِمَعْنًى يُحَرَّمُ عَلَيْهِ (وَطْءُ مُكَاتَبَتِهِ) سَوَاءٌ قُلْنَا إنَّ الْكِتَابَةَ بَيْعٌ أَوْ عِتْقٌ لِأَنَّهَا أَحْرَزَتْ نَفْسَهَا وَمَالَهَا، فَإِنْ تَعَدَّى وَوَطِئَ أُدِّبَ وَلَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلشُّبْهَةِ، وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ إذَا كَانَ عَالِمًا بِحُرْمَةِ الْوَطْءِ لَا إنْ كَانَ جَاهِلًا أَوْ غَالِطًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُدِّبَ إنْ وَطِئَ بِلَا مَهْرٍ وَعَلَيْهِ نَقْصُ الْمُكْرَهَةِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِكْرًا لَا إنْ كَانَتْ ثَيِّبًا، وَإِنْ حَمَلَتْ خُيِّرَتْ فِي الْبَقَاءِ وَأُمُومَةِ الْوَلَدِ إلَّا لِضُعَفَاءَ مَعَهَا أَوْ أَقْوِيَاءَ لَمْ يَرْضَوْا وَحَطَّ حِصَّتَهَا إنْ اخْتَارَتْ الْأُمُومَةَ، وَإِنْ اخْتَارَتْ الْبَقَاءَ عَلَى كِتَابَتِهَا فَهِيَ مُسْتَوْلَدَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ وَنَفَقَةُ حَمْلِهَا عَلَى سَيِّدِهَا كَالْمَبْتُوتَةِ، ثُمَّ إنْ أَدَّتْ النُّجُومَ عَتَقَتْ وَإِلَّا عَتَقَتْ بِمَوْتِ سَيِّدِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ. (وَ) كُلُّ (مَا حَدَثَ لِلْمُكَاتَبِ) مِنْ أَمَتِهِ (، وَ) أَيْ أَوْ (الْمُكَاتَبَةِ مِنْ وَلَدٍ) بَيَانٌ لِمَا (دَخَلَ مَعَهُمَا فِي الْكِتَابَةِ) مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى شَرْطٍ (وَعَتَقَ بِعِتْقِهِمَا) عَطَفَ عَلَى دَخَلَ الْوَاقِعِ خَبَرًا عَنْ مَا الْوَاقِعَةِ مُبْتَدَأٌ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ حَدَثَ أَنَّهُ لَمْ يَنْفَصِلْ عَنْ ظَهْرِ أَبِيهِ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ كِتَابَتِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بَطْنِ الْمُكَاتَبَةِ إلَّا بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، لِأَنَّ وُجُودَ الْحَمْلِ فِي بَطْنِ الْأَمَةِ بِمَنْزِلَةِ مَا فِي ظَهْرِ الذَّكَرِ، وَمَا انْفَصَلَ مِنْ الظُّهْرِ بِمَنْزِلَةِ مَا خَرَجَ مِنْ الْبَطْنِ، وَأَمَّا الْوَلَدُ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْ ظَهْرِ الْمُكَاتَبِ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ وَوَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ خَرَجَ مِنْ بَطْنِهَا قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ إلَّا بِالشَّرْطِ، وَأَمَّا لَوْ تَنَازَعَ السَّيِّدُ مَعَ الْمُكَاتَبِ فَقَالَ السَّيِّدُ: انْفَصَلَ عَنْ ظَهْرِ أَبِيهِ قَبْلَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَيَكُونُ رَقِيقًا أَبِيعُهُ، وَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 الْجَمَاعَةِ وَلَا يَعْتِقُونَ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ. وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ عِتْقٌ وَلَا إتْلَافُ مَالِهِ حَتَّى يَعْتِقَ وَلَا يَتَزَوَّجُ. وَلَا يُسَافِرُ السَّفَرَ الْبَعِيدَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ. وَإِذَا مَاتَ وَلَهُ وَلَدٌ قَامَ مَقَامَهُ وَأَدَّى مِنْ مَالِهِ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ حَالًا وَوَرِثَ مَنْ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ مَا بَقِيَ   [الفواكه الدواني] الْمُكَاتَبُ: إنَّمَا انْفَصَلَ مِنِّي بَعْدَ عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَإِنَّهُ يَنْظُرُ إنْ وَضَعَتْهُ أُمُّهُ لِأَقَلَّ مِنْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ عَقْدِ الْكِتَابَةِ فَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّهُ كَانَ انْفَصَلَ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ قَبْلَ الْكِتَابَةِ، وَلِسِتَّةٍ فَأَكْثَرَ فَالْقَوْلُ لِلْمُكَاتَبِ، وَإِنْ أَشْكَلَ لِأَمْرٍ فَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي ابْنِ الْمُكَاتَبِ مِنْ أَمَتِهِ، وَأَمَّا وَلَدُهُ مِنْ زَوْجَتِهِ فَلَا يَدْخُلُ فِي الْكِتَابَةِ لِأَنَّهُ رَقِيقٌ لِسَيِّدِ أُمِّهِ إنْ كَانَتْ أَمَةً، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ حُرَّةٍ فَهُوَ حُرٌّ تَبَعًا لِأُمِّهِ، وَلَا يُقَالُ: هَذَا مُكَرَّرٌ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَكُلُّ ذَاتِ رَحِمٍ فَوَلَدُهَا بِمَنْزِلَتِهَا، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُتَقَدِّمُ فِي كِتَابَةِ الْأُمِّ وَحْدَهَا وَمَا هُنَا فِي كِتَابَتِهِمَا مَعًا. (وَتَجُوزُ كِتَابَةُ الْجَمَاعَةِ) مِنْ الْعَبِيدِ فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ لِلْمَفْعُولِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَالِكَ الْوَاحِدَ يَجُوزُ لَهُ مُكَاتَبَةُ جَمَاعَةٍ مَمْلُوكَةٍ لَهُ مِنْ الْعَبِيدِ بِمَالٍ وَاحِدٍ وَعَقْدٍ وَاحِدٍ، وَيَجِبُ أَنْ تُوَزَّعَ عَلَى قَدْرِ قُوَّتِهِمْ عَلَى الْأَدَاءِ يَوْمَ الْكِتَابَةِ، فَلَا تُوَزَّعُ عَلَى حَسَبِ الرُّءُوسِ وَلَا عَلَى حَسَبِ قِيَمِ الْعَبِيدِ. (وَلَا يَعْتِقُونَ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ) لِأَنَّهُمْ حُمِلَا فِي الْقَدْرِ الْمَجْعُولِ عَلَيْهِمْ. وَلَوْ مِنْ غَيْرِ شَرْطٍ، بِخِلَافِ حَمَالَةِ الدُّيُونِ تَتَوَقَّفُ عَلَى شَرْطٍ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ تَشَوُّفُ الشَّارِعِ لِلْحُرِّيَّةِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَمُكَاتَبَةُ جَمَاعَةٍ لِمَالِكٍ فَتُوَزَّعُ عَلَى قُوَّتِهِمْ عَلَى الْأَدَاءِ يَوْمَ الْعَقْدِ وَهُمْ وَإِنْ زَمِنَ أَحَدُهُمْ حَمْلًا مُطْلَقًا فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَلِيءِ الْجَمِيعُ، وَيَرْجِعُ الدَّافِعُ عَلَى الْمَدْفُوعِ عَنْهُ إنْ لَمْ يَكُنْ الدَّافِعُ زَوْجًا وَلَمْ يَكُنْ الْمَدْفُوعُ عَنْهُ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَى الدَّافِعِ، وَالْمُرَادُ بِالزَّمِنِ الَّذِي حَدَثَتْ زَمَانَتُهُ بَعْدَ الْعَقْدِ، لِأَنَّ مَنْ كَانَ زَمِنًا يَوْمَ الْعَقْدِ لَا تُوَزَّعُ عَلَيْهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ زَالَتْ زَمَانَتُهُ بِحَيْثُ صَارَ يَقْدِرُ عَلَى الْأَدَاءِ وَلَا يَسْقُطُ عَنْهُمْ شَيْءٌ بِمَوْتٍ وَاحِدٍ وَلَا بِفَقْدِهِ وَلَا بِأَسْرِهِ، بِخِلَافِ لَوْ اُسْتُحِقَّ أَحَدُهُمْ بِرِقٍّ أَوْ حُرِّيَّةٍ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ نَصِيبُهُ لِتَبَيُّنِ بُطْلَانِ كِتَابَتِهِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَعْتِقُونَ إلَّا بِأَدَاءِ الْجَمِيعِ وَلَوْ رَضِيَ السَّيِّدُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يَعْتِقَ بَعْضَهُمْ قَبْلَ الْأَدَاءِ بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَرْضَى الْبَاقُونَ بِذَلِكَ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الْأَدَاءِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ لَمْ يَجُزْ وَإِنْ رَضُوا، بِخِلَافِ عِتْقِ الضَّعِيفِ عَنْ الْكَسْبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ مَعَ قُوَّةِ الْبَاقِينَ وَلَوْ لَمْ يَرْضَوْا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلسَّيِّدِ عِتْقُ قَوِيٍّ مِنْهُمْ إنْ رَضِيَ الْجَمِيعُ وَقَوُوا، فَإِنْ رَدَّ ثُمَّ عَجَزُوا صَحَّ عِتْقُهُ، وَحَيْثُ جَازَ عِتْقُ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ بِشَرْطِهِ فَإِنَّهُ يُقَسِّطُ عَنْهُمْ قَدْرَ حِصَّتِهِ. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الْمَالِكِ الْوَاحِدِ، وَأَمَّا الْجَمَاعَةُ الْمُشْتَرِكَةُ فِي عَبِيدٍ فَأَشَارَ إلَيْهِمْ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَمُكَاتَبَةُ شَرِيكَيْنِ بِمَالٍ وَاحِدٍ لَا أَحَدِهِمَا أَوْ مَالَيْنِ أَوْ مُتَّحِدٍ بِعَقْدَيْنِ فَلَا يَجُوزُ وَتُفْسَخُ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ إذَا كَاتَبُوهُمْ عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ مُتَّحِدٍ فِي الْقَدْرِ وَالصِّفَةِ وَالْأَجَلِ وَيَتَّفِقَانِ عَلَى أَنَّ الِاقْتِضَاءَ وَاحِدٌ وَالْعَقْدَ وَاحِدٌ. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) لَوْ تَعَدَّدَتْ السَّادَاتُ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ عَبْدٌ مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَأَرَادُوا أَنْ يُكَاتِبُوهُمْ صَفْقَةً وَاحِدَةً عَلَى مَالٍ وَاحِدٍ فَلَا تَجُوزُ تِلْكَ الْكِتَابَةُ إنْ شَرَطُوا حَمَالَةَ بَعْضِهِمْ عَنْ بَعْضٍ لِأَدَائِهِ إلَى أَكْلِ الشَّخْصِ مَالَ غَيْرِهِ عَلَى تَقْدِيرِ مَوْتِ وَاحِدٍ أَوْ عَجْزِهِ، وَأَمَّا حَيْثُ لَا شَرْطَ فَتَجُوزُ وَيُجْعَلُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا يَنْوِيهِ مِنْ جُمْلَةِ الْكِتَابَةِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ جَمَاعَةَ الْعَبِيدِ صُوَرُهَا ثَلَاثَةٌ وَقَدْ عَلِمْت أَحْكَامَهَا. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِمْ: الْمُكَاتَبُ أَحْرَزَ نَفْسَهُ وَمَالَهُ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِي سَائِرِ التَّصَرُّفَاتِ وَلَوْ غَيْرَ الْمَالِيَّةِ دَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ لِلْمُكَاتَبِ عِتْقٌ) لِرَقِيقِهِ إلَى عَجْزِهِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ فَيَصِحُّ وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ، إلَّا أَنْ يُؤَدِّيَ الْمُكَاتَبُ مَا عَلَيْهِ فَيَرْجِعُ لَهُ الْوَلَاءُ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ: الْوَلَاءُ لَهُ ابْتِدَاءً لَا لِلسَّيِّدِ، ثُمَّ قَالَ: وَالْحَاصِلُ أَنَّ الرَّقِيقَ إذَا أَعْتَقَ رَقِيقَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَجَازَهُ بَعْدَ الْوُقُوعِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ إنْ كَانَ السَّيِّدُ لَا يَنْتَزِعُ مَالَهُ وَإِلَّا فَالْوَلَاءُ لِلسَّيِّدِ، وَأَمَّا إنْ أَعْتَقَ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَلَمْ يَعْلَمْ سَيِّدُهُ بِعِتْقِهِ حَتَّى عَتَقَ أَوْ عَلِمَ وَسَكَتَ فَإِنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُعْتِقِ لَا لِلسَّيِّدِ، سَوَاءٌ كَانَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ مَالِهِ أَمْ لَا. (وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا (إتْلَافُ مَالِهِ) وَأَخْذُ الْأَمْوَالِ بِنَحْوِ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ إلَّا مَا خَفَّ مِمَّا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ مِنْ نَحْوِ دِرْهَمٍ أَوْ كِسْرَةٍ لِسَائِلٍ وَيَسْتَمِرُّ الْمَنْعُ (حَتَّى يَعْتِقَ) فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ حِينَئِذٍ الْعِتْقُ وَغَيْرُهُ. (وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَيْضًا أَنْ (يَتَزَوَّجَ) إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ وَلَوْ كَانَ زَوَاجُهُ نَظَرًا لِأَنَّ زَوَاجَ الرَّقِيقِ عَيْبٌ وَلِسَيِّدِهِ رَدُّهُ وَفَسْخُهُ، وَلَا شَيْءَ لِزَوْجَتِهِ حَيْثُ لَمْ يَدْخُلْ بِهَا، وَبَعْدَ الدُّخُولِ يَتْرُكُ لَهَا رُبُعَ دِينَارٍ وَيَرْجِعُ عَلَيْهَا بِمَا زَادَ وَلَا تَتْبَعُهُ بِالْبَاقِي إنْ عَتَقَ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إجَازَةُ نِكَاحِ الْمُكَاتَبِ إذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ، وَإِلَّا تَوَقَّفَ عَلَى رِضَا مَنْ مَعَهُ حَيْثُ كَانَ كَبِيرًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ صَغِيرًا لَفُسِخَ وَلَا يُعْتَبَرُ رِضَا الصَّغِيرِ، وَمَفْهُومُ يَتَزَوَّجُ أَنَّ التَّسَرِّي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُكَاتَبُ بَلْ يَجُوزُ لَهُ شِرَاءُ السُّرِّيَّةِ وَلَا كَلَامَ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّ السُّرِّيَّةَ تُبَاعُ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ. (وَلَا) أَيْ وَكَذَا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَاتَبِ أَنْ (يُسَافِرَ السَّفَرَ الْبَعِيدَ) الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ نَجْمٌ قَبْلَ قُدُومِهِ (بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ) رَاجِعٌ لِلتَّزَوُّجِ وَالسَّفَرِ كَمَا قَرَّرَنَا، بِخِلَافِ الْقَرِيبِ فَإِنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ فِيهِ، وَمَحَلُّ مَنْعِ السَّيِّدِ لِمُكَاتَبِهِ مِنْ السَّفَرِ الْبَعِيدِ إذْ لَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِهِ وَإِلَّا فَلَا يَمْنَعُهُ لِدُخُولِهِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الْعِتْقِ وَمَا مَعَهُ أَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ فَإِنَّ وَلَدَهُ يَسْعَوْنَ فِيهِ وَيُؤَدُّونَ نُجُومًا إنْ كَانُوا كِبَارًا وَإِنْ كَانُوا صِغَارًا وَلَيْسَ فِي الْمَالِ قَدْرُ النُّجُومِ إلَى بُلُوغِهِمْ السَّعْيَ رَقُّوا وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ مَعَهُ فِي كِتَابَتِهِ وَرِثَهُ سَيِّدُهُ. وَمَنْ أَوْلَدَ أَمَةً فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا فِي   [الفواكه الدواني] وَلِذَا قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَلِلْمُكَاتَبِ بِلَا إذْنٍ بَيْعٌ وَاشْتِرَاءٌ وَمُشَارَكَةٌ وَمُقَارَضَةٌ وَمُكَاتَبَةٌ، وَاسْتِخْلَافُ عَاقِدٍ لِأَمَتِهِ وَإِسْلَامُهَا أَوْ فِدَاؤُهَا إنْ جَنَتْ بِالنَّظَرِ وَسَفَرٌ لَا يَحِلُّ فِيهِ نَجْمٌ وَإِقْرَارٌ فِي رَقَبَتِهِ فَصَوَابُهُ فِي ذِمَّتِهِ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ فِي الرَّقَبَةِ يُشَارِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ وَإِسْقَاطُ شُفْعَتِهِ لَا عِتْقَ وَإِنْ قَرِيبًا وَهِبَةٌ وَصَدَقَةٌ وَتَزَوُّجٌ وَإِقْرَارٌ بِجِنَايَةٍ خَطَأٌ وَسَفَرٌ بَعْدُ إلَّا بِإِذْنٍ، وَإِنَّمَا نَصَّ خَلِيلٌ عَلَى تِلْكَ الْجُزْئِيَّاتِ جَوَازًا وَمَنْعًا رِفْقًا بِالْمُفْتِي، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: وَلِلْمُكَاتِبِ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ تَبَرُّعٍ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَتَصَرُّفُ الْمُكَاتَبِ كَالْحُرِّ إلَّا فِي التَّبَرُّعِ لِأَنَّهُ مَظِنَّةٌ لِعَجْزِهِ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ الْمُكَاتَبَ لَا يَعْتِقُ إلَّا بِأَدَاءِ جَمِيعِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ، فَإِنْ مَاتَ قَبْلَ الْأَدَاءِ مَاتَ رَقِيقًا. ذَكَرَ هُنَا أَنَّ مَحَلَّ هَذَا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ أَحَدٌ فِي الْكِتَابَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا مَاتَ) قَبْلَ الْوَفَاءِ وَعِنْدَهُ مَا يُوفِي مِنْهُ (وَلَهُ وَلَدٌ قَامَ مَقَامَهُ وَأَدَّى مِنْ مَالِهِ) أَيْ الْمَيِّتِ (مَا بَقِيَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى وَلَدِهِ مِنْ الْكِتَابَةِ (حَالًّا) مِنْ الْحُلُولِ لِأَنَّ بِمَوْتِ الشَّخْصِ يَحِلُّ مَا كَانَ عَلَيْهِ مُؤَجَّلًا وَتُفْسَخُ كِتَابَتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفُسِخَتْ إنْ مَاتَ وَإِنْ عَنْ مَالٍ إلَّا لِوَلَدٍ أَوْ غَيْرِهِ دَخَلَ مَعَهُ بِشَرْطٍ أَوْ غَيْرِهِ فَتُؤَدَّى حَالَّةً، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمُكَاتَبَ إذَا مَاتَ قَبْلَ وَفَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ عَلَى السَّيِّدِ بِقَبْضِهَا أَوْ قَبْلَ الْإِشْهَادِ عَلَيْهِ بِإِتْيَانِهِ بِهَا وَلَمْ يَقْبَلْهَا فِي بَلَدٍ لَا حَاكِمَ بِهَا فَإِنَّهَا تُفْسَخُ، وَلَوْ خَلْفَ مَا لَا يَفِي بِهَا وَيَرِثُهُ سَيِّدُهُ بِالرِّقِّ لِمَوْتِهِ قَبْلَ الْحُرِّيَّةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ وَلَدٌ أَوْ غَيْرُهُ فَإِنَّ كِتَابَتَهُ لَا تُفْسَخُ، وَلَكِنْ تَحِلُّ بِمَوْتِهِ وَمُتَعَجِّلُهَا لِلسَّيِّدِ مِنْ مَالِهِ وَيَعْتِقُ بِذَلِكَ مَنْ مَعَهُ فِي عَقْدِ الْكِتَابَةِ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: بِشَرْطٍ أَوْ غَيْره يَرْجِعُ لِلْوَلَدِ وَلِلْأَجْنَبِيِّ مَعًا، أَمَّا دُخُولُ الْوَلَدِ بِالشَّرْطِ فَبِأَنْ يُكَاتِبَ عَبْدَهُ وَلِلْعَبْدِ أَمَةٌ حَامِلٌ وَقْتَ الْكِتَابَةِ فَإِنْ حَمَلَهَا لَا يَدْخُلُ إلَّا بِالشَّرْطِ كَمَا فِي الْمُدَوَّنَةِ، وَأَمَّا دُخُولُهُ بِغَيْرِ شَرْطٍ فَبِأَنْ يَنْفَصِلَ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِ بَعْدَ عَقْدِ كِتَابَتِهِ، وَأَمَّا دُخُولُ غَيْرِ الْوَلَدِ بِالشَّرْطِ فَوَاضِحٌ، وَأَمَّا بِمُقْتَضَى الْعَقْدِ فَبِأَنْ يَشْتَرِيَ الْمُكَاتَبُ مَنْ يُعْتَقُ عَلَيْهِ زَمَنَ كِتَابَتِهِ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَنْبَغِي لِلْمُكَاتِبِ أَنْ يَشْتَرِيَ أَبَاهُ أَوْ وَلَدَهُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، فَمَنْ ابْتَاعَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ مِمَّنْ يُعْتَقُ عَلَى الْحُرِّ بِالْمِلْكِ دَخَلَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ، قَالَ فِيهَا: وَصَارَ كَمَنْ عُقِدَتْ الْكِتَابَةُ عَلَيْهِ. (تَنْبِيهٌ) عَلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ مَوْضُوعَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْمُكَاتَبَ مَاتَ عَنْ مَالٍ كَثِيرٍ يَزِيدُ عَلَى الْوَفَاءِ وَأَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْوَلَدِ، وَقَوْلُهُ: أَدَّى مِنْ مَالِهِ؛ الْمُرَادُ وَجَبَ عَلَيْهِ الْأَدَاءُ لَا أَنَّهُ مُخَيَّرٌ فِيهِ وَإِنْ قِيلَ بِهِ. (وَ) إذَا بَقِيَ شَيْءٌ بَعْدَ الْأَدَاءِ (وَرِثَ مَنْ مَعَهُ) فِي الْكِتَابَةِ (مِنْ وَلَدِهِ) أَوْ مِنْ حُكْمِهِ وَمَفْعُولُ وَرِثَ (مَا بَقِيَ) مِنْ الْمَتْرُوكِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَوَرِثَهُ مَنْ مَعَهُ فَقَطْ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ مِنْ الْأَوْلَادِ وَالْآبَاءِ وَالْإِخْوَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ لَا يَرِثُهُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: فَلَا يَرِثُهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ وَلَوْ مِمَّنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ وَلَا مَنْ مَعَهُ مِمَّنْ لَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ كَزَوْجَةٍ كُوتِبَتْ مَعَهُ أَوْ عَمٍّ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرِثْهُ مَنْ فِي كِتَابَةٍ أُخْرَى مِنْ وَرَثَتِهِ لِأَنَّ شَأْنَ الْمُتَوَارِثِينَ التَّسَاوِي حَالَ الْمَوْتِ، وَالتَّسَاوِي هُنَا غَيْرُ مُحَقَّقٍ لِاحْتِمَالِ أَدَاءِ أَصْحَابِ أَهْلِ الْكِتَابَتَيْنِ دُونَ الْأُخْرَى، وَالْإِرْثُ هُنَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَلِذَا لَوْ كَانَ فِي الْكِتَابَةِ ابْنٌ وَأَخٌ فَالْإِرْثُ لِلِابْنِ دُونَ الْأَخِ. (وَ) مَفْهُومُ الْكَلَامِ السَّابِقِ أَنَّهُ (إنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ) الْمَتْرُوكِ عَنْ الْمُكَاتَبِ (وَفَاءً) بِمَا عَلَيْهِ (فَإِنَّ وَلَدَهُ) وَمَنْ فِي حُكْمِهِ (يَسْعَوْنَ) أَيْ يَتَحَرَّوْنَ (فِيهِ وَيُؤَدُّونَ) مَا بَقِيَ مِنْ الْكِتَابَةِ (نُجُومًا) أَيْ عَلَى التَّنْجِيمِ مِثْلُ مَا كَانَ عَلَى الْمَيِّتِ (إنْ كَانُوا كِبَارًا) لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى السَّعْيِ وَأَمَانَةٌ عَلَى الْمَالِ. (وَ) أَمَّا (إنْ كَانُوا صِغَارًا) وَمَنْ فِي حُكْمِهِمْ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَيْسَ فِي الْمَالِ قَدْرُ النُّجُومِ) الَّتِي تَحِلُّ (إلَى بُلُوغِهِمْ السَّعْيَ رَقُّوا سَرِيعًا) وَأَمَّا لَوْ كَانَ فِيهِ مَا يَفِي بِالنُّجُومِ الَّتِي تَحِلُّ إلَى بُلُوغِهِمْ الْقُوَّةَ عَلَى السَّعْيِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرِقُّونَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ إلَخْ أَنَّ سَعْيَ أَوْلَادِ الْمُكَاتَبِ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ مَتْرُوكٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الشَّرْطُ قُدْرَتُهُمْ عَلَى السَّعْيِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَبُوهُمْ تَرَكَ شَيْئًا، وَيُمْكِنُ أَخْذُ ذَلِكَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ وَفَاءٌ يَصْدُقُ بِعَدَمِ الْمَالِ أَصْلًا، لِأَنَّ السَّالِبَةَ تَصْدُقُ بِنَفْيِ الْمَوْضُوعِ، وَعَدَمَ الْوَفَاءِ يَصْدُقُ بِأَنْ يَتْرُكَ مَالًا أَصْلًا أَوْ تَرَكَ شَيْئًا قَلِيلًا لَا يَفِي. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِ أَيْضًا أَنَّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى السَّعْيِ مِنْ أَوْلَادِهِ يَرِقُّونَ سَرِيعًا وَلَوْ كَانَ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ لَهَا قُوَّةٌ عَلَى السَّعْيِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ تَرَكَ شَيْئًا لَكِنَّهُ لَا يَفِي بِالْكِتَابَةِ يَدْفَعُ لِوَلَدِهِ الَّذِي لَهُ أَمَانَةٌ وَقُوَّةٌ عَلَى السَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ قُوَّةٌ أَوْ لَا أَمَانَةَ لَهُ وَلَمْ يَكُنْ فِي الْمَالِ مَا يُبَلِّغُهُمْ السَّعْيَ، فَإِنْ كَانَ مَعَ الْوَلَدِ أُمُّ وَلَدٍ لَهَا قُوَّةٌ وَأَمَانَةٌ دَفَعَ لَهَا إنْ رَجَا لَهَا قُوَّةً عَلَى سَعْيِ بَقِيَّةِ الْكِتَابَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي أُمِّ الْوَلَدِ قُوَّةٌ بِيعَتْ وَضُمَّ ثَمَنُهَا إلَى التَّرِكَةِ فَتُؤَدِّي النُّجُومَ إلَى بُلُوغِ السَّعْيِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ رَقُّوا كُلُّهُمْ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَ الْمُؤَلِّفِ أَنَّهُ لَا مَفْهُومَ لِلْوَلَدِ، بَلْ كُلُّ مَنْ كَانَ مَعَ الْمَيِّتِ فِي الْكِتَابَةِ وَلَهُ قُدْرَةٌ وَأَمَانَةٌ يَدْفَعُ لَهُ الْمَالَ وَيَسْعَى، وَإِذَا آلَ الْأَمْرُ إلَى بَيْعِ أُمِّ الْوَلَدِ هُنَا فَقَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 حَيَاتِهِ وَتُعْتَقُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ مَمَاتِهِ وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا لَهُ عَلَيْهَا خِدْمَةٌ وَلَا غَلَّةٌ. وَلَهُ ذَلِكَ فِي وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ وَهُوَ   [الفواكه الدواني] مَالِكٌ فِي الْمُدَوَّنَةِ: لِلْوَلَدِ بَيْعُ مَنْ فِيهِ نَجَاحُهُمْ مِنْ أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ سَوَاءٌ كَانَتْ أُمُّهُمْ أَوْ غَيْرُهَا، وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: أَرَى أَنْ لَا يَبِيعَ أُمَّهُ إذَا كَانَ فِي بَيْعِ سِوَاهَا مَا يُعِينُهُ، ثُمَّ شَرَطَ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ: وَرِثَهُ مَنْ مَعَهُ مِنْ وَلَدِهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ الْمُكَاتَبِ (وَلَهُ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ) وَلَا غَيْرُهُ مِمَّنْ يَرِثُهُ وَتَرَكَ مَالًا وَلَوْ كَانَ فِيهِ الْوَفَاءُ (وَرِثَهُ سَيِّدُهُ) الْمُرَادُ أَخْذُهُ سَيِّدَهُ مِلْكًا. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَلَا يَرِثُ مِنْهُ مَنْ لَيْسَ مَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ شَيْئًا وَلَوْ كَانَ حُرًّا، وَلَا أَوْلَادُهُ الْمُكَاتَبُونَ فِي كِتَابَةٍ أُخْرَى، لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ وَالْعَبْدُ لَا يَرِثُ وَلَا يُوَرَّثُ، فَإِطْلَاقُ الْإِرْثِ عَلَى أَخْذِ السَّيِّدِ مَالَ عَبْدِهِ مَجَازٌ. (تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى مَسْأَلَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: لَوْ أَدَّى الْمُكَاتَبُ نُجُومَ الْكِتَابَةِ وَخَرَجَ حُرًّا ثُمَّ عُرِّضَ لِلْعِوَضِ اسْتِحْقَاقًا أَوْ رُدَّ بِعَيْبٍ فَإِنَّ الْعِتْقَ يَسْتَمِرُّ وَيَرْجِعُ السَّيِّدُ بِمِثْلِ الْعِوَضِ الْمَوْصُوفِ وَلَوْ مُقَوَّمًا فِي الِاسْتِحْقَاقِ، وَالرَّدُّ بِالْعَيْبِ وَإِنْ كَانَ مُعَيَّنًا فَيَرْجِعُ بِمِثْلِ الْمُثْلَى وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِيمَا دَفَعَ شُبْهَةٌ، وَإِنْ كَانَ مُقَوَّمًا يَرْجِعُ بِقِيمَتِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ أَوْ لَهُ فِيمَا دَفَعَ شُبْهَةً وَإِلَّا رَجَعَ بِحَالِهِ قَبْلَ الْعِتْقِ. الثَّانِيَةُ: الْقَطَاعَةُ تُخَالِفُ الْكِتَابَةَ فِي الْحُلُولِ وَالتَّأْجِيلِ، فَالْكِتَابَةُ الْمَالُ فِيهَا مُؤَجَّلٌ، وَالْقَطَاعَةُ الْعِتْقُ عَلَى مَالٍ مُعَجَّلٍ، وَلَهَا صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ يَعْتِقَ عَبْدَهُ ابْتِدَاءً عَلَى مَالٍ يُعَجِّلُهُ الْعَبْدُ لَهُ، الثَّانِيَةُ: أَنْ يُكَاتِبَهُ ابْتِدَاءً عَلَى مَالٍ مُؤَجَّلٍ ثُمَّ يَفْسَخُهُ فِي شَيْءٍ يُعَجِّلُهُ لَهُ وَحُكْمُهَا فِي تَوَقُّفِ الْعِتْقِ عَلَى أَدَاءِ الْمَالِ كَالْكِتَابَةِ. [أَحْكَام أُمّ الْوَلَد] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْكِتَابَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أُمِّ الْوَلَدِ، وَالْأُمُّ فِي اللُّغَةِ أَصْلُ الشَّيْءِ وَتُجْمَعُ عَلَى أُمَّاتٍ، وَأَصْلُ أُمٍّ أُمَّهَةٌ وَلِذَلِكَ تُجْمَعُ عَلَى أُمَّهَاتٍ، وَقِيلَ الْأُمَّاتُ لِلنَّعَمِ وَالْأُمَّهَاتُ لِلنَّاسِ، وَأُمُّ الْوَلَدِ فِي اللُّغَةِ كُلُّ مَنْ لَهَا وَلَدٌ، وَهِيَ فِي اسْتِعْمَالِ الْفُقَهَاءِ خَاصَّةٌ بِالْأَمَةِ الَّتِي وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا وَلِذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هِيَ الْحُرُّ حَمْلُهَا مِنْ وَطْءِ مَالِكِهَا عَلَيْهِ جَبْرًا، فَتَخْرُجُ الْأَمَةُ الَّتِي أَعْتَقَ سَيِّدُهَا حَمْلَهَا مِنْ غَيْرِهِ، وَالْأَمَةُ الْمَمْلُوكَةُ لِأَبِي زَوْجِهَا فَإِنَّ حَمْلَهَا إنَّمَا جَاءَتْ حُرِّيَّتُهُ مِنْ عِتْقِهِ عَلَى جَدِّهِ، وَهَاتَانِ الصُّورَتَانِ خَرَجَتَا بِقَوْلِهِ: مِنْ وَطْءِ مَالِكِهَا، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ جَبْرًا مَا إذَا أَعْتَقَ السَّيِّدُ حَمْلَ أَمَةِ عَبْدِهِ فَإِنَّ الْحَدَّ يَصْدُقُ عَلَيْهَا، لِأَنَّهَا حُرُّ حَمْلِهَا مِنْ وَطْءِ مَالِكِهَا، لَكِنْ لَيْسَ الْعِتْقُ يُجْبَرُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ وَهَذَا بِنَاءً عَلَى مِلْكِ الْعَبْدِ، وَلِي فِي دُخُولِ هَذَا فِي الْحَدِّ بَحْثٌ لَا يَكْفِي، إذْ بَعْدَ فَرْضِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ وَطْءِ الْمَالِكِ لَا تَدْخُلُ هَذِهِ الصُّورَةُ فَقَالَ: (وَمَنْ أَوْلَدَ) مِنْ الْأَحْرَارِ (أَمَةً) مَمْلُوكَةً لَهُ (فَلَهُ أَنْ يَسْتَمْتِعَ مِنْهَا فِي حَيَاتِهِ) وَحَيَاتِهَا بِسَائِرِ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ الَّتِي تَجُوزُ فِي الزَّوْجَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَحَلَّ لَهُمَا حَتَّى نَظَرُ الْفَرْجِ إلَى أَنْ قَالَ كَالْمِلْكِ وَتَمَتَّعَ بِغَيْرِ دُبُرٍ، وَإِنَّمَا جَازَ لَهُ ذَلِكَ لِبَقَاءِ الْمِلْكِ عَلَيْهَا وَلَهُ أَخْذُ قِيمَتِهَا مِمَّنْ قَتَلَهَا وَانْتِزَاعُ مَالِهَا مَا لَمْ يَمْرَضْ. (وَ) يَجِبُ لَهَا أَنْ (تَعْتِقَ عَلَيْهِ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ بَعْدَ وَفَاتِهِ) وَتَقَدَّمَ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ وَلَوْ كَانَتْ وَفَاةُ سَيِّدِهَا بِقَتْلِهَا لَهُ عَمْدًا عُدْوَانًا بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ لِإِشْرَافِهَا عَلَى الْحُرِّيَّةِ دُونَ الْمُدَبَّرِ، أَلَا تَرَى أَنَّ عِتْقَهَا لَا يَرُدُّهُ الدَّيْنُ وَلَوْ كَانَ سَابِقًا وَتَعْتِقُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ لَا مِنْ الثُّلُثِ بِخِلَافِ الْمُدَبَّرِ فِيهِمَا، وَمَحَلُّ عِتْقِهَا عَلَى سَيِّدِهَا كَوْنُهُ حُرًّا وَغَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ لِلْغُرَمَاءِ حِينَ الْوَطْءِ الَّذِي مِنْهُ الْوِلَادَةُ، فَإِنْ وَطِئَ الْمُفْلِسُ أَمَتَهُ الْمَوْقُوفَةَ لِلْبَيْعِ فَحَمَلَتْ مِنْ ذَلِكَ الْوَطْءِ لَمْ يُمْنَعْ بَيْعُهَا، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَلَا يَرُدُّهَا دَيْنٌ سَبَقَ فِيمَنْ اسْتَوْلَدَهَا قَبْلَ التَّفْلِيسِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ عِنْدَ مَالِكٍ وَجَمِيعِ الْفُقَهَاءِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عِتْقُهَا عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ عِتْقِهَا وَحُرْمَةِ بَيْعِهَا وَجَوَازِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهَا مَا فِي ابْنِ مَاجَهْ وَالدَّارَقُطْنِيّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا وَلَدَتْ مَارِيَةُ إبْرَاهِيمَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَعْتَقَهَا وَلَدُهَا» . وَفِي الْمُوَطَّإِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: أَيُّمَا وَلِيدَةٍ وَلَدَتْ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ لَا يَبِيعُهَا وَلَا يَهَبُهَا وَلَا يُوَرِّثُهَا وَهُوَ يَسْتَمْتِعُ بِهَا فَإِذَا مَاتَ فَهِيَ حُرَّةٌ. (وَلَا يَجُوزُ) لِمُسْتَوْلَدِهَا (بَيْعُهَا) وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ اسْتَدَانَهُ قَبْلَ اسْتِيلَادِهَا وَلَا هِبَتُهَا وَلَا التَّصَدُّقُ بِهَا، فَإِنْ وَقَعَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فُسِخَ وَلَوْ أَعْتَقَهَا مُشْتَرِيهَا وَيُرَدُّ عِتْقُهَا وَتَرْجِعُ لِسَيِّدِهَا، وَيَرْجِعُ الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ وَلَوْ بَعْدَ مَوْتِهَا لِأَنَّ الْمُصِيبَةَ مِنْهُ لِأَنَّ الْمِلْكَ فِيهَا لَمْ يَنْتَقِلْ، وَمَحَلُّ رَدِّ عِتْقِ الْمُشْتَرِي لَهَا مَا لَمْ يَكُنْ الْمُشْتَرِي اشْتَرَاهَا عَلَى أَنَّهَا حُرَّةٌ بِمُجَرَّدِ الشِّرَاءِ أَوْ عَلَى شَرْطِ الْعِتْقِ وَأَعْتَقَهَا، وَإِلَّا لَمْ يُرَدَّ عِتْقُ الْمُشْتَرِي سَوَاءٌ عَلِمَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ أَمْ لَا، وَيَسْتَحِقُّ بَائِعُهَا ثَمَنَهَا وَيَكُونُ الْوَلَاءُ لَهُ، وَأَمَّا إنْ بَاعَهَا عَلَى أَنْ يُعْتِقَهَا الْمُشْتَرِي فَهَذِهِ تُرَدُّ مَا لَمْ تَفُتْ بِالْعِتْقِ فَيَمْضِي وَالْوَلَاءُ لِلْبَائِعِ، لِأَنَّ الْمُبْتَاعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَهَا الْعِتْقُ فَكَأَنَّهُ فِكَاكٌ مِنْهُ لَهَا بِالثَّمَنِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ الْمُشْتَرِي بِأَنَّهَا أُمُّ وَلَدٍ لَرَجَعَ بِالثَّمَنِ، وَإِذَنْ فُسِخَ بَيْعُهَا فِيمَا يُفْسَخُ فِيهِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا رُجُوعَ عَلَى الْبَائِعِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَنْفَقَهُ الْمُشْتَرِي وَلَا لَهُ شَيْءٌ مِنْ قِيمَةِ خِدْمَتِهَا، هَكَذَا قِيلَ وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ فِي عَدَمِ الرُّجُوعِ بِالنَّفَقَةِ مَعَ بَقَاءِ مِلْكِ بَائِعِهَا وَعَدَمِ انْتِقَالِ ضَمَانِهَا بِقَبْضِهَا وَرُجُوعِ الْمُشْتَرِي شِرَاءً فَاسِدًا فِي غَيْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. (وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ (لَهُ عَلَيْهَا خِدْمَةً) كَثِيرَةً بِغَيْرِ رِضَاهَا، وَأَمَّا مَا خَفَّ وَهُوَ مَا نَقَصَ عَمَّا يَلْزَمُ الْأَمَةَ وَفَوْقَ مَا يَلْزَمُ الْحُرَّةَ فَيَسْتَحِقُّهُ عَلَيْهَا وَلِذَلِكَ يَلْزَمُهُ نَفَقَتُهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الْعِتْقِ يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا. وَكُلُّ مَا أَسْقَطَتْهُ مِمَّا يَعْلَمُ أَنَّهُ وَلَدٌ فَهِيَ بِهِ أُمُّ وَلَدٍ. وَلَا يَنْفَعُهُ الْعَزْلُ إذَا أَنْكَرَ وَلَدَهَا وَأَقَرَّ بِالْوَطْءِ فَإِنْ ادَّعَى اسْتِبْرَاءً لَمْ يَطَأْ بَعْدَهُ لَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا جَاءَ مِنْ وَلَدٍ. وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنَ بِمَالِهِ. وَمَنْ أَعْتَقَ   [الفواكه الدواني] (وَلَا) يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَجْعَلَ لَهُ عَلَيْهَا (غَلَّةٌ) وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْخِدْمَةِ وَالْغَلَّةِ أَنَّ الْخِدْمَةَ يَسْتَعْمِلُهَا بِنَفْسِهِ مِنْ الطَّحْنِ وَغَيْرِهِ، وَالْغَلَّةُ بِأَنْ يُؤَجِّرَهَا لِغَيْرِهِ فَإِنْ أَجَرَهَا بِغَيْرِ رِضَاهَا فُسِخَتْ وَلَهَا أُجْرَةُ مِثْلِهَا عَلَى مَنْ اسْتَعْمَلَهَا، وَلِذَا قَالَ عِيَاضٌ: لِأُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ الْحَرَائِرِ فِي سِتَّةِ أَوْجُهٍ، وَحُكْمُ الْعَبِيدِ فِي أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، فَأَمَّا السِّتَّةُ فَلَا خِلَافَ عِنْدَنَا أَنَّهُنَّ لَا يُبَعْنَ فِي دَيْنٍ وَلَا غَيْرِهِ وَلَا يُرْهَنَّ وَلَا يُوهَبْنَ وَلَا يُؤَجَّرْنَ وَلَا يُسَلَّمْنَ فِي جِنَايَةٍ وَلَا يُسْتَسْعَيْنَ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ فَانْتِزَاعُ أَمْوَالِهِنَّ مَا لَمْ يَمْرَضْ السَّيِّدُ وَإِجْبَارُهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ عَلَى قَوْلٍ وَاسْتِخْدَامُهُنَّ لَكِنْ فِي خَفِيفِ الْخِدْمَةِ فِيمَا لَا يَلْزَمُ الْحُرَّةَ وَالِاسْتِمْتَاعُ بِهِنَّ وَلَهُ أَرْشُ الْجِنَايَةِ عَلَيْهِنَّ، وَزِيدَ عَلَى ذَلِكَ عَدَمُ شَهَادَتِهِنَّ وَحْدَهُنَّ نِصْفُ حَدِّ الْحُرَّةِ وَعَدَمُ إرْثِهِنَّ وَعَدَمُ الْقَسْمِ لَهُنَّ فِي الْمَبِيتِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَوْلَادِهَا الْحَاصِلِينَ مِنْهَا بَعْدَ اسْتِيلَائِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ خِدْمَةٍ وَغَلَّةٍ (فِي وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِهِ) الْحَاصِلُ لَهَا بَعْدَ حَمْلِهَا مِنْ سَيِّدِهَا. (وَهُوَ) أَيْ وَلَدُ أُمِّ الْوَلَدِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا (بِمَنْزِلَةِ أُمِّهِ فِي الْعِتْقِ) فَيَجِبُ أَنْ (يَعْتِقَ بِعِتْقِهَا) بَعْدَ مَوْتِ سَيِّدِهَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ وَلَدَهَا عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ فَهُوَ حُرٌّ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا وَلَدَتْهُ قَبْلَ الِاسْتِيلَادِ فَهُوَ رَقِيقٌ بِلَا خِلَافٍ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا وَبَعْدَ اسْتِيلَادِهَا فَيَعْتِقُ بِعِتْقِهَا مِنْ رَأْسِ الْمَالِ وَهُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا مَاتَ سَيِّدُهَا فِي حَيَاتِهَا، فَإِنْ مَاتَتْ أُمُّهُمْ قَبْلَ مَوْتِ سَيِّدِهَا لَمْ يَعْتِقْ أَوْلَادُهَا حَتَّى يَمُوتَ سَيِّدُهُمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ مَا أَسْقَطَتْهُ) الْأَمَةُ بَعْدَ اعْتِرَافِ سَيِّدِهَا بِوَطْئِهَا وَعَدَمِ اسْتِبْرَائِهَا (مِمَّا يُعْلَمُ) بِشَهَادَةِ الْعَارِفَاتِ مِنْ النِّسَاءِ (أَنَّهُ وَلَدٌ) كَمُضْغَةٍ أَوْ عَلَقَةٍ وَهِيَ الدَّمُ الْمُجْتَمِعُ الَّذِي لَا يَذُوبُ بِصَبِّ الْمَاءِ الْحَارِّ عَلَيْهِ (فَهِيَ بِهِ) أَيْ بِمَا أَسْقَطَتْهُ (أُمُّ وَلَدٍ) عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ كَمَا تَنْقَضِي بِهِ الْعِدَّةُ وَتَجِبُ بِهِ الْغُرَّةُ، فَالثَّلَاثَةُ فِي الْحُكْمِ سَوَاءٌ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَقَوْلُنَا: بَعْدَ اعْتِرَافِ سَيِّدِهَا إلَخْ إشَارَةٌ إلَى أَنَّهَا لَا تَكُونُ أُمَّ وَلَدٍ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا إقْرَارُ السَّيِّدِ بِوَطْئِهَا مَعَ الْإِنْزَالِ وَلَوْ قَالَ إقْرَارُهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ، وَالثَّانِي أَنْ تَثْبُتَ وِلَادَتُهَا أَوْ سَقْطُهَا وَلَوْ بِشَهَادَةِ امْرَأَتَيْنِ حَيْثُ كَانَ الْوَلَدُ مَعْدُومًا، وَأَمَّا لَوْ أَتَتْ بِهِ وَقَالَتْ هَذَا الْوَلَدُ مِنْك مَعَ اعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا وَإِنْزَالِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ شَهَادَةٌ عَلَى الْوِلَادَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ إنَّمَا تُشْتَرَطُ عِنْدَ عَدَمِ حُضُورِ الْوَلَدِ، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ السَّيِّدُ الْوَطْءَ وَلَمْ تَشْهَدْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِالْإِقْرَارِ بِوَطْئِهَا وَأَتَتْ بِوَلَدٍ فَإِنَّهُ لَا يُلْحَقُ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ، كَمَا لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ أَنَّهُ كَانَ اسْتَبْرَأَهَا بِحَيْضَةٍ وَنَفَى مَا وَلَدَتْهُ لِسِتَّةٍ فَأَكْثَرَ مِنْ يَوْمِ اسْتِبْرَائِهَا، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ لِانْتِفَائِهِ عَنْهُ بِمُجَرَّدِ نَفْيِهِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى لِعَانٍ، وَأَمَّا لَوْ أَتَتْ بِهِ لِأَقَلَّ مِنْ أَقَلِّ أَمَدِ الْحِلِّ مِنْ يَوْمِ الِاسْتِبْرَاءِ فَإِنَّهَا تَكُونُ بِهِ أُمَّ الْوَلَدِ لِاعْتِرَافِهِ بِوَطْئِهَا قَبْلَ الِاسْتِبْرَاءِ، وَالْحَامِلُ عِنْدَنَا تَحِيضُ. (فَرْعٌ) مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ اعْتِرَافٍ بِالْوَطْءِ وَوُجِدَتْ أَمَتُهُ حَامِلًا فَإِنَّهَا لَا تَعْتِقُ لِعَدَمِ ثُبُوتِ أُمُومَةِ الْوَلَدِ لِاحْتِمَالِ كَوْنِهِ مِنْ زِنًا أَوْ شُبْهَةٍ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَ) إذَا أَتَتْ أَمَةُ السَّيِّدِ بِوَلَدٍ (لَا يَنْفَعُهُ) دَعْوَى (الْعَزْلِ) عَنْهَا وَهُوَ الْإِنْزَالُ خَارِجَ الْفَرْجِ (إذَا أَنْكَرَهَا وَلَدَهَا) وَقَالَ لَيْسَ مِنِّي (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ كَانَ قَدْ (أَقَرَّ بِالْوَطْءِ) لِأَنَّ الْمَاءَ يَسْبِقُ مِنْ غَيْرِ شُعُورِهِ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَدْفَعُهُ عَزْلٌ أَوْ وَطْءٌ بِدُبُرٍ أَوْ فَخْذَيْنِ إنْ اعْتَرَفَ بِالْإِنْزَالِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ مِثْلَ الْإِنْزَالِ عِنْدَ وَطْئِهَا إنْزَالُهُ عِنْدَ غَيْرِهَا أَوْ مِنْ احْتِلَامٍ وَلَمْ يَبُلْ حَتَّى وَطِئَهَا وَلَمْ يُنْزِلْ، بِخِلَافِ لَوْ قَالَ: كُنْت أَطَأُ مِنْ غَيْرِ إنْزَالٍ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الْوَلَدُ، وَهَذَا حُكْمُ مَنْ أَقَرَّ بِوَطْءِ أَمَتِهِ وَلَمْ يَدَّعِ اسْتِبْرَاءَهَا (فَإِنْ ادَّعَى اسْتِبْرَاءً) بِحَيْضَةٍ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَطَأْ بَعْدَهُ وَمَضَى لَهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ فَأَكْثَرُ (لَمْ يَلْحَقْ بِهِ مَا جَاءَ مِنْ وَلَدٍ) عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا يَمِينَ عَلَيْهِ. [أَحْكَامِ الْعِتْق النَّاجِز] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ أُمِّ الْوَلَدِ شَرَعَ فِي الْعِتْقِ النَّاجِزِ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الْمُتَرْجَمِ لَهُ، وَحَقِيقَتُهُ اللُّغَوِيَّةُ الْخُلُوصُ وَالْكَرَمُ وَالْحُرِّيَّةُ لِخُلُوصِ الرَّقَبَةِ مِنْ الرِّقِّ، وَلِذَا سُمِّيَ الْبَيْتُ بِالْعَتِيقِ لِخُلُوصِهِ مِنْ أَيْدِي الْجَبَابِرَةِ وَمِنْ الْغَرَقِ وَالطُّوفَانِ، وَحَقِيقَتُهُ الشَّرْعِيَّةُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ رَفْعُ مِلْكٍ حَقِيقِيٍّ لَا بِسِبَاءٍ مُحَرَّمٍ عَلَى آدَمِيٍّ حَيٍّ حَتَّى خَرَجَ بِآدَمِيٍّ حَيَوَانٌ غَيْرُ آدَمِيٍّ، وَبِقَوْلِهِ حَيٍّ رَفَعَهُ عَنْهُ بِمَوْتِهِ، وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ مِلْكٍ رَفَعَ غَيْرَهُ كَرَفْعِ الْحُكْمِ بِالنَّسْخِ وَوَصَفَهُ بِقَوْلِهِ حَقِيقِيٍّ لِيَخْرُجَ بِهِ اسْتِحْقَاقُ الْعَبْدِ بِحُرِّيَّةٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ مِنْ يَدِهِ بِحُرِّيَّةٍ لَمْ يَكُنْ مِلْكًا حَقِيقَةً، وَقَوْلُهُ لَا بِسَبَاءٍ مُحَرَّمٍ عَطْفٌ عَلَى مُقَدَّرٍ أَيْ بِغَيْرِ سِبَاءٍ لَا بِسَبَاءٍ لِيَخْرُجَ بِهِ فِدَاءُ الْمُسْلِمِ مِنْ حَرْبِيٍّ سِبَاءً، وَقَوْلُهُ عَنْ آدَمِيٍّ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ رَفْعُ وَحُكْمُ الْعِتْقِ مَنْ هُوَ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المجادلة: 3] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمِنْهَا مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 بَعْضَ عَبْدِهِ اسْتَتَمَّ عَلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ مَعَهُ فِيهِ شَرِكَةٌ قُوِّمَ عَلَيْهِ نَصِيبُ شَرِيكِهِ بِقِيمَتِهِ يَوْمَ يُقَامُ عَلَيْهِ وَعَتَقَ. فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ   [الفواكه الدواني] أَعْتَقَ رَقَبَةً مُؤْمِنَةً أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ إرْبٍ مِنْهَا إرْبًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «أَعْتَقَ اللَّهُ بِكُلِّ عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا مِنْهُ مِنْ النَّارِ حَتَّى فَرْجَهُ بِفَرْجِهِ» . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَبِي ذَرٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: «قُلْت يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: إيمَانٌ بِاَللَّهِ وَالْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ قُلْت: أَيُّ الرِّقَابِ أَفْضَلُ؟ قَالَ: أَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَأَكْثَرُهَا ثَمَنًا» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى أَنَّهُ قُرْبَةٌ وَهُوَ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرَبِ لِأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ كَفَّارَةً لِلْقَتْلِ، وَصِلَةُ الرَّحِمِ أَفْضَلُ مِنْهُ لِمَا فِي مُسْلِمٍ: «قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِامْرَأَةٍ أَعْتَقَتْ رَقَبَةً: لَوْ كُنْت أَخْدَمْتِيهَا أَقَارِبَك لَكَانَ أَعْظَمَ لِأَجْرِك» اللَّخْمِيُّ، وَظَاهِرُ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَقْتَضِي أَنَّهُ إذَا أَعْتَقَ نَاقِصَ عُضْوٍ لَا يَحْجُبُ النَّارَ عَنْ الْعُضْوِ الَّذِي يُقَابِلُهُ مِنْهُ وَهُوَ مُمْكِنٌ لِأَنَّ الْأَلَمَ يَخْلُقُهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَيِّ عُضْوٍ شَاءَ كَمَا جَاءَ فِي الصَّحِيحِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَرَّمَ النَّارَ أَنْ تَأْكُلَ مَوْضِعَ السُّجُودِ» وَعِتْقُ الذَّكَرِ أَفْضَلُ ثُمَّ أَعْلَى الرِّقَابِ ثَمَنًا وَأَنْفَسُهَا عِنْدَ أَهْلِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَى ثَمَنًا كَافِرًا فَضَّلَهُ مَالِكٌ وَخَالَفَهُ أَصْبَغُ وَنَسَبَهُ ابْنُ بَزِيزَةَ لِلْجُمْهُورِ. قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: قِيلَ وَهُوَ الْأَقْرَبُ وَأَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ أَنَّ السَّيِّدَ لَا يُعْتَقُ مِنْ النَّارِ إلَّا بِعِتْقِ عَبْدَيْنِ نَصْرَانِيَّيْنِ، فَإِنَّهُ لَمَّا كَانَتْ دِيَتُهُ مِثْلَ دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ كَانَ كَالْمَرْأَةِ، أَمَّا إنْ تَسَاوَيَا فَالْمُسْلِمُ أَفْضَلُ بِلَا خِلَافٍ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: وَإِذَا كَانَا مُسْلِمَيْنِ كَالدَّيْنِ أَفْضَلُ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّهُمَا ثَمَنًا. وَفِي الْمُقَدِّمَاتِ: إنَّمَا يَكُونُ الْأَعْلَى ثَمَنًا أَفْضَلُ عِنْدَ اسْتِوَائِهِمَا فِي الْكُفْرِ وَالْإِسْلَامِ وَلَهُ ثَلَاثَةُ أَرْكَانٍ: الْمُعْتِقُ وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ وَالرُّشْدُ وَعَدَمُ إحَاطَةِ الدُّيُونِ بِمَالِهِ فَقَالَ مُشِيرًا إلَى هَذَا الشَّرْطِ. (وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ مَنْ أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ) كَمَا لَا تَجُوزُ هِبَتُهُ وَلَا صَدَقَتُهُ وَلَوْ بَعْدَ أَجَلِ تِلْكَ الدُّيُونِ إلَّا بِإِذْنِ الْغُرَمَاءِ إلَّا مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَةُ، كَنَفَقَةِ الْآبَاءِ وَالْأَبْنَاءِ وَكِسْوَتِهِمْ، وَكَالْأُضْحِيَّةِ وَنَفَقَةِ الْعِيدَيْنِ مِنْ غَيْرِ سَرَفٍ، وَلَهُ أَنْ يَحُجَّ حَجَّةَ الْفَرْضِ لَكِنْ عَلَى قَوْلٍ مَرْجُوحٍ. قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا يَصِحُّ إعْتَاقُ مُكَلَّفٍ رَشِيدٍ بِلَا حَجْرٍ وَبِلَا إحَاطَةِ دَيْنٍ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُكَلَّفِ السَّكْرَانُ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيَصِحُّ عِتْقُهُ وَيَلْزَمُ كَمَا يَلْزَمُ طَلَاقُهُ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فِي الثُّلُثِ، فَلَا يَصِحُّ عِتْقُ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مَوْلَى عَلَيْهِ، وَأَمَّا عِتْقُ مَنْ أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ فَلِلْغُرَمَاءِ رَدُّهُ إلَّا أَنْ يَعْلَمَ وَيَسْكُتَ بِحَيْثُ يُعَدُّ رَاضِيًا، أَوْ يَطُولُ زَمَانُ الْعِتْقِ بِحَيْثُ يَشْتَهِرُ بِالْحُرِّيَّةِ، وَيَرِثُ الْوَارِثَاتِ وَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَلَوْ لَمْ يَثْبُتْ عِلْمُهُ، أَوْ إلَّا أَنْ يَسْتَفِيدَ مَا يُوَفِّي مِنْهُ الدَّيْنَ فَيُنَفَّذُ وَلَا يُرَدُّ، كَمَا يُنَفَّذُ عِتْقُ الزَّوْجَةِ وَالْمَرِيضِ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَمَّا عِتْقُهُمَا مَا يَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَى الثُّلُثِ فَلِوَرَثَةِ الْمَرِيضِ وَلِلزَّوْجِ الرَّدُّ وَالْإِجَازَةُ. وَالثَّانِي مِنْ الْأَرْكَانِ: الْمُعْتَقُ بِفَتْحِ التَّاءِ وَشَرْطُهُ أَوْ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ وَلَوْ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، فَيَدْخُلُ فِيهِ الْمُدَبَّرُ وَالْمُعْتَقُ إلَى أَجَلٍ، وَأُمُّ الْوَلَدِ وَالْمُبَعَّضُ وَالْمُكَاتَبُ يَصِحُّ تَنْجِيزُ عِتْقِ الْجَمِيعِ، وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لَازِمٌ كَالْمَرْهُونِ وَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْعَبْدِ الْجَانِي فَإِنَّ عِتْقَهُمْ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ مَنْ لَهُ الْحَقُّ. وَالثَّالِثُ مِنْ الْأَرْكَانِ: الصِّيغَةُ وَهِيَ صَرِيحَةٌ وَكِنَايَةٌ، فَالصَّرِيحُ كُلُّ مَا فِيهِ لَفْظُ الْعِتْقِ أَوْ التَّحْرِيرِ أَوْ الْفَكِّ أَوْ لَا مِلْكَ أَوْ لَا سَبِيلَ لِي عَلَيْك، فَإِذَا قَالَ: أَعْتَقْت أَوْ فَكَكْت أَوْ حَرَّرْت رَقَبَتَك أَوْ أَنْتَ حُرٌّ فَإِنَّهُ لَا يَنْصَرِفُ إلَّا لِلْعِتْقِ وَلَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ لِغَيْرِهِ وَلَوْ نَوَى صَرْفَهُ إلَّا لِقَرِينَةٍ كَمَدْحٍ أَوْ خَلَفٍ أَوْ دَفْعِ مَكْسٍ، فَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ عَجِبَ مِنْ عَمَلِ عَبْدِهِ أَوْ خَالَفَهُ عِنْدَ أَمْرِهِ بِشَيْءٍ فَقَالَ مَا أَنْتَ إلَّا حُرٌّ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الْفَتْوَى وَلَا فِي الْقَضَاءِ وَلَوْ قَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِذَلِكَ، وَفِيهَا أَيْضًا: وَلَوْ مَرَّ عَلَى عُشَارٍ فَقَالَ هُوَ حُرٌّ عِنْدَ طَلَبِ الْمَكْسِ وَلَمْ يُرِدْ بِذَلِكَ الْحُرِّيَّةَ فَلَا يَعْتِقُ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْكِنَايَةُ فَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ ظَاهِرَةٌ وَخَفِيَّةٌ، فَالظَّاهِرَةُ مَا لَا يَنْصَرِفُ عَنْهُ إلَّا بِنِيَّةِ صَرْفِهِ كَوَهَبْتُ لَك نَفْسَك وَمَلَّكْتُك نَفْسَك، وَالْخَفِيَّةُ مَا لَا يَنْصَرِفُ إلَيْهِ إلَّا بِالنِّيَّةِ كَاذْهَبْ وَاغْرُبْ وَاسْقِنِي الْمَاءَ مِمَّا لَا دَلَالَةَ لَهُ عَلَى الْعِتْقِ، وَإِنَّمَا تَرَكَ الْمُصَنِّفُ التَّعَرُّضَ لِذَلِكَ رَوْمًا لِلِاخْتِصَارِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لُزُومُ عِتْقِ مَنْ لَمْ يَحُطَّ الدَّيْنُ بِمَالِهِ مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَلَوْ كَافِرًا وَهُوَ كَذَلِكَ، حَيْثُ كَانَ الْعَبْدُ مُسْلِمًا قَبْلَ الْعِتْقِ أَوْ أَسْلَمَ الْعَبْدُ أَوْ سَيِّدُهُ بَعْدَ الْعِتْقِ فَفِي الثَّلَاثِ يَلْزَمُ الْعِتْقُ وَلَوْ لَمْ يَبِنْ الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَهُ فِي حَالِ كُفْرِهِمَا وَلَمْ يَحْصُلْ إسْلَامٌ مِنْهُمَا فَلَا يَلْزَمُهُ عِتْقُهُ إلَّا إذَا بَانَ عَنْهُ الْعَبْدُ. [الْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِتْقِ الْمَقْصُودِ شَرَعَ فِي الْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَعْتَقَ بَعْضَ عَبْدِهِ اسْتَتَمَّ عَلَيْهِ) أَيْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ عَلَى الْمَشْهُورِ الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَبِالْحُكْمِ مَعَهُ جَمِيعُهُ إنْ أَعْتَقَ جُزْءًا وَالْبَاقِي لَهُ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ جُزْءًا وَلَوْ يَدًا أَوْ رِجْلًا مِنْ عَبْدِهِ الَّذِي يَمْلِكُ جَمِيعَهُ فَإِنَّ الْبَاقِيَ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِالْحُكْمِ سَوَاءٌ كَانَ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا، وَقَوْلُهُ بَعْضَ عَبْدِهِ يَشْمَلُ الْقِنَّ الْمَحْضَ وَالْمُدَبَّرَ وَالْمُعْتَقَ إلَى أَجَلٍ وَأُمَّ الْوَلَدِ وَالْمُكَاتَبَ لِأَنَّهُ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا مُكَلَّفًا رَشِيدًا لَا دَيْنَ عَلَيْهِ يُرَدُّ الْعَبْدُ أَوْ بَعْضُهُ، وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدَهُ الْكَافِرَ فَلَهُ الرُّجُوعُ فِيهِ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ أَحَدُهُمَا أَوْ يَبِينَ الْعَبْدُ عَنْ سَيِّدِهِ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَعْضِ مَا يَشْمَلُ نَحْوَ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ وَأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، وَيُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 لَهُ مَالٌ بَقِيَ سَهْمُ الشَّرِيكِ رَقِيقًا. وَمَنْ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ مُثْلَةً بَيِّنَةً مِنْ قَطْعِ جَارِحَةٍ وَنَحْوِهِ عَتَقَ عَلَيْهِ. وَمَنْ مَلَكَ أَبَوَيْهِ أَوْ أَحَدًا   [الفواكه الدواني] الْبَعْضِ الِاتِّصَالُ بِالْعَبْدِ، وَاخْتُلِفَ إذَا أَعْتَقَ نَحْوَ الشَّعْرِ وَالْكَلَامُ وَالرَّقِيقُ عَلَى قَوْلَيْنِ مَبْنِيَّيْنِ عَلَى طَلَاقِ الزَّوْجَةِ بِذَلِكَ وَعَدَمِهِ، هَذَا حُكْمُ عِتْقِ بَعْضِ عَبْدٍ يَمْلِكُ جَمِيعَهُ، وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَ حِصَّتَهُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ) الْعَبْدُ الْمُعْتَقُ بَعْضُهُ (لِغَيْرِهِ) أَيْ غَيْرِ الْمُعْتِقِ (مَعَهُ فِيهِ شَرِكَةُ قُوِّمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الَّذِي أَعْتَقَ حِصَّتَهُ (نَصِيبُ شَرِيكِهِ بِقِيمَتِهِ) وَتُعْتَبَرُ (يَوْمَ يُقَامُ عَلَيْهِ وَعَتَقَ) عَلَيْهِ حِينَئِذٍ جَمِيعُهُ وَالْمَعْنَى بِإِيضَاحٍ: أَنَّ مَنْ أَعْتَقَ نَصِيبَهُ مِنْ عَبْدٍ مُشْتَرَكٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ فَإِنَّهُ تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ بِشُرُوطٍ سِتَّةٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَدْفَعَ الْقِيمَةَ بِالْفِعْلِ لِشَرِيكِهِ يَوْمَ الْحُكْمِ بِالْعِتْقِ ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا أَوْ الْعَبْدُ فَلَوْ كَانَ الْعَبْدُ وَالشَّرِيكَانِ كَفَرَةً فَلَا تَقْوِيمَ، وَكَذَا لَوْ كَانَ الْمُعْتِقُ ذِمِّيًّا وَالْعَبْدُ كَذَلِكَ وَغَيْرُ الْمُعْتِقِ مُسْلِمًا. ثَالِثُهَا: أَنْ يَعْتِقَ الشَّرِيكَ بِاخْتِيَارِهِ لَا إنْ وَرِثَ جُزْءًا مِنْ أَبِيهِ فَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ. رَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ هُوَ الَّذِي ابْتَدَأَ الْعِتْقَ لِأَنَّهُ الَّذِي أَبَّدَ الرَّقَبَةَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ حُرَّ الْبَعْضِ قَبْلَ الْعِتْقِ فَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ حِصَّةُ شَرِيكِهِ كَمَا لَوْ كَانَ الْعَبْدُ مُشْتَرَكًا بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَمْلِيَاءَ وَأَعْتَقَ أَحَدُهُمْ نَصِيبَهُ ابْتِدَاءً وَتَبِعَهُ الثَّانِي بِإِعْتَاقِ حِصَّتِهِ وَامْتَنَعَ الثَّالِثُ مِنْ الْعِتْقِ، فَإِنَّ حِصَّتَهُ تُقَوَّمُ عَلَى الْأَوَّلِ إلَّا أَنْ يَرْضَى الثَّانِي بِتَقْوِيمِهَا عَلَيْهِ، فَلَوْ كَانَ الْمُبْتَدِئُ لِلْعِتْقِ مُعْسِرًا لَمْ تُقَوَّمْ حِصَّةُ الثَّالِثِ عَلَى الثَّانِي إلَّا بِرِضَاهُ، وَأَمَّا لَوْ أَعْتَقَا مَعًا أَوْ مُتَرَتِّبًا وَجَهِلَ الْأَوَّلُ قُوِّمَتْ حِصَّةُ الثَّالِثِ عَلَيْهِمَا إنْ أَيْسَرَ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُوسِرِ مِنْهُمَا. خَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ لِحِصَّتِهِ مُوسِرًا بِقِيمَةِ الشَّرِيكِ، فَإِنْ أَيْسَرَ بِبَعْضِهَا عَتَقَ مِنْهَا بِقَدْرِ مَا هُوَ مُوسِرٌ بِهِ، وَالْمُعْسِرُ بِهِ لَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَلَوْ رَضِيَ شَرِيكُهُ بِاتِّبَاعِ ذِمَّتِهِ. وَسَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْقِيمَةُ الَّتِي يُشْتَرَطُ يُسْرُهُ بِهَا أَوْ بِبَعْضِهَا زَائِدَةً عَلَى مَا يَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ وَإِلَى هَذَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ) أَيْ لِلْمُبْتَدِئِ الْعِتْقَ (مَالٌ) زِيَادَةً عَلَى مَا يَتْرُكُ لِلْمُفْلِسِ (بَقِيَ سَهْمُ الشَّرِيكِ) الَّذِي لَمْ يُعْتَقْ (رَقِيقًا) وَلَا يُقَوَّمُ عَلَى الْمُعْتِقِ وَلَوْ رَضِيَ شَرِيكُهُ بِاتِّبَاعِهِ، وَالشُّرُوطُ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا مُلَخَّصُ كَلَامِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا يُقَوَّمُ الْمَعْتُوقُ بِالسِّرَايَةِ عَلَى مَنْ ابْتَدَأَ الْعِتْقَ بِمَالِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُوِّمَ كَامِلًا بِمَالِهِ بَعْدَ امْتِنَاعِ شَرِيكِهِ مِنْ الْعِتْقِ وَنُقِضَ لَهُ بَيْعٌ مِنْهُ وَتَأْجِيلُ الثَّانِي أَوْ تَدْبِيرُهُ وَلَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ اخْتِيَارِهِ أَحَدَهُمَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ مَثَّلَ) بِشَدِّ الْمُثَلَّثَةِ (بِعَبْدِهِ) الْمُرَادُ بِرَقِيقِهِ وَلَوْ بِشَائِبَةِ حُرِّيَّةٍ أَوْ بِرَقِيقِ رَقِيقِهِ أَوْ رَقِيقِ وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ (مُثْلَةً) مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ وَهُوَ بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُكُونِ الْمُثَلَّثَةِ أَيْ عُقُوبَةً وَوَصَلَهَا بِقَوْلِهِ: (بَيِّنَةً) أَيْ ظَاهِرَةً وَبَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (مِنْ قَطْعِ جَارِحَةٍ) كَيَدٍ أَوْ أُنْمُلَةٍ أَوْ فَقْءِ عَيْنٍ (وَنَحْوِهِ) أَيْ الْقَطْعِ كَوَسْمِ وَجْهِهِ بِالنَّارِ أَوْ فَقْءِ عَيْنِهِ قَاصِدًا تَعْيِيبَهُ (عَتَقَ عَلَيْهِ) هَذَا جَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ وَيَتَوَقَّفُ الْعِتْقُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالْحُكْمِ إنْ عَمَدَ لِشَيْنٍ بِرَقِيقِهِ أَوْ رَقِيقِ رَقِيقِهِ أَوْ لِوَلَدٍ صَغِيرٍ غَيْرَ سَفِيهٍ وَعَبْدٍ ذِمِّيٍّ بِمُثْلَةٍ أَيْ وَغَيْرَ ذِمِّيٍّ بِمُثْلَةٍ وَغَيْرَ زَوْجَةٍ وَمَرِيضٍ فِي زَائِدِ الثُّلُثِ وَغَيْرَ مَدِينٍ، وَأَمْثِلَةُ الشَّيْنِ الْمُوجِبَةُ لِلْعِتْقِ كَقَطْعِ ظُفْرٍ وَقَطْعِ بَعْضٍ أُذُنٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ سِنٍّ أَوْ سَحْلِهَا أَوْ خَرْمِ أَنْفٍ أَوْ حَلْقِ شَعْرِ أَمَةٍ رَفِيعَةٍ أَوْ لِحْيَةِ تَاجِرٍ أَوْ وَسْمِ وَجْهٍ بِنَارٍ لَا غَيْرِهِ، وَفِي وَسْمِ وَجْهِهِ بِغَيْرِ النَّارِ قَوْلَانِ وَلَكِنَّ الْمُعْتَمَدَ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: أَنَّ حَلْقَ شَعْرِ الْأَمَةِ أَوْ لِحْيَةِ التَّاجِرِ لَا يَكُونُ مُثْلَةً لِسُرْعَةِ عَوْدِهِمَا، كَمَا أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْوَسْمَ بِالنَّارِ مُثْلَةٌ وَلَوْ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ شَرْطَ الْعِتْقِ أَنْ يَقَعَ التَّمْثِيلُ عَمْدًا بِقَصْدِ الشَّيْنِ، وَيَكْفِي فِي الدَّلَالَةِ عَلَى قَصْدِهَا قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ، وَالْقَوْلُ لِلسَّيِّدِ فِي نَفْيِ الْعَمْدِ وَهَلْ يَتْبَعُهُ مَالُهُ أَمْ لَا قَوْلَانِ، اقْتَصَرَ الْأَقْفَهْسِيُّ عَلَى أَنَّهُ يَتْبَعُهُ لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ مَالَ الْعَبْدِ يَتْبَعُهُ فِي الْعِتْقِ لَا فِي الْبَيْعِ إلَّا بِالشَّرْطِ مِنْ الْمُشْتَرِي. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ يَعْتَبِرُ الْمُمَثِّلُ كَوْنَهُ مُكَلَّفًا رَشِيدًا حُرًّا وَيَعْتَبِرُ إسْلَامَهُ أَوْ إسْلَامَ الْعَبْدِ، فَلَا عِتْقَ عَلَى ذِمِّيٍّ مَثَّلَ بِعَبْدِهِ الذِّمِّيِّ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مَرِيضًا أَوْ زَوْجَةً مَثَلًا بِمَا تَزِيدُ قِيمَتُهُ عَلَيَّ الثُّلُثِ وَلَا مَدِينًا. الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ عَلَى الْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ مَا رَوَاهُ ابْنُ وَهْبٍ: «أَنَّهُ كَانَ لِزِنْبَاعٍ عَبْدٌ يُسَمَّى سَنْدَرًا أَوْ ابْنَ سَنْدَرٍ فَوَجَدَهُ يُقَبِّلُ جَارِيَةً لَهُ فَجَبَّهُ وَقَطَعَ أَنْفَهُ وَأُذُنَيْهِ فَأَتَى إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: لَا تُحَمِّلُوهُمْ مَا لَا يُطِيقُونَ، وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَأْكُلُونَ، وَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ، وَمَا كَرِهْتُمْ فَبِيعُوا، وَمَا رَضِيتُمْ فَأَمْسِكُوا، وَلَا تُعَذِّبُوا خَلْقَ اللَّهِ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ مُثِّلَ بِنَارٍ أَوْ حُرِقَ بِالنَّارِ فَهُوَ حُرٌّ وَهُوَ مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَأَعْتَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَوْصِ بِي، فَقَالَ: أُوصِي بِك كُلَّ مُسْلِمٍ» وَمَعْنَى مَوْلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَنَّ الْعِتْقَ كَانَ بِسَبَبِهِمَا لَا أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَخَرَجَ أَبُو دَاوُد مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «جَاءَ مُسْتَصْرِخٌ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: وَيْحَك مَالَكَ؟ فَقَالَ سَنْدَرٌ: أَبْصَرَ لِسَيِّدِهِ جَارِيَةً فَغَارَ فَجَبَّ مَذَاكِيرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: عَلَيَّ بِالرَّجُلِ، فَطَلَبَ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: اذْهَبْ فَأَنْتَ حُرٌّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلَى مَنْ نُصْرَتِي؟ فَقَالَ: عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَوْ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ» . الرَّابِعُ: قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ نَاجِي: يُمْكِنُ أَنْ يَقُومَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ بَنَاتِهِ أَوْ جَدِّهِ أَوْ جَدَّتِهِ أَوْ أَخَاهُ لِأُمٍّ أَوْ أَبٍ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا عَتَقَ عَلَيْهِ. وَمَنْ أَعْتَقَ حَامِلًا كَانَ جَنِينُهَا حُرًّا مَعَهَا وَلَا يُعْتَقُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ مَنْ فِيهِ مَعْنًى مِنْ عِتْقٍ بِتَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَلَا أَعْمَى وَلَا أَقْطَعُ   [الفواكه الدواني] كَلَامِ الْمُؤَلَّفِ أَنَّ الزَّوْجَ إذَا مَثَّلَ بِزَوْجَتِهِ طَلُقَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ لِمَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ. وَفِي الْمَبْسُوطِ: طَلْقَةً بَائِنَةً، ابْنُ رُشْدٍ: مُثْلَةُ الزَّوْجِ بِزَوْجَتِهِ وَبَيْعُهُ لَهَا وَإِنْكَاحُهُ إيَّاهَا وَاحِدٌ فِي الْمَعْنَى. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَالْمَذْهَبُ أَنَّ مَنْ مَثَّلَ بِزَوْجَتِهِ لَا تَطْلُقُ عَلَيْهِ بِخِلَافِ بَيْعِهَا وَتَزْوِيجِهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْعِتْقِ النَّاجِزِ وَالتَّدْبِيرِ وَالْكِتَابَةِ وَالْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ وَبِالْمُثْلَةِ ذَكَرَ الْعِتْقَ بِسَبَبِ الْقَرَابَةِ فَقَالَ: (وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ وَشَرْطُهَا (مَلَكَ أَبَوَيْهِ) نَسَبًا وَإِنْ عَلَيَا (أَوْ) مَلَكَ (أَحَدًا مِنْ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ وَلَدِهِ أَوْ وَلَدِ بَنَاتِهِ) وَإِنْ سَفَلُوا (أَوْ جَدَّهُ أَوْ جَدَّتَهُ) وَلَوْ مِنْ جِهَةِ أُمِّهِ (أَوْ) مَلَكَ (أَخَاهُ) أَوْ أُخْتَهُ (لِأُمٍّ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا عَتَقَ) كُلٌّ (عَلَيْهِ) فَقَوْلُهُ عَتَقَ جَوَابُ الشَّرْطِ، وَعِتْقُهُ بِمُجَرَّدِ دُخُولِهِ فِي مِلْكِهِ وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى حُكْمٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَتَقَ بِنَفْسِ الْمِلْكِ الْأَبَوَانِ وَإِنْ عَلَوْا، وَالْوَلَدُ وَإِنْ سَفَلَ، وَالْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ وَلَوْ لِأُمٍّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشَّخْصَ إذَا مَلَكَ أَصْلَهُ وَإِنْ عَلَا أَوْ فَرْعَهُ وَإِنْ سَفَلَ أَوْ حَاشِيَتَهُ الْقَرِيبَةَ فَإِنَّهُ يَعْتِقُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، وَمَحَلُّ الْعِتْقِ حَيْثُ كَانَ الْمَالِكُ وَالْمَمْلُوكُ مُسْلِمَيْنِ، وَكَذَا إنْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُسْلِمًا وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمَالِكُ رَشِيدًا، وَلَا فَرْقَ فِي الْمِلْكِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ بِالْبَيْعِ الصَّحِيحِ الْبَتُّ اللَّازِمُ، أَوْ بِالْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ إنْ عَلِمَ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ أَوْ قَبِلَ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ وَالْوَلَاءُ لِلْمُعْطَى بِالْفَتْحِ، وَلَا فَرْقَ مَعَ عِلْمِ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ دَيْنٌ أَمْ لَا، وَالضَّابِطُ أَنَّهُ أَعْتَقَ لِعِلْمِ الْمُعْطِي لِعَدَمِ قَبُولِ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ لَا يُبَاعُ فِي دَيْنٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَأَمَّا إنْ عَتَقَ لِقَبُولِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَإِنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَإِنَّهُ يُبَاعُ فِيهِ، وَحَيْثُ لَا قَبُولَ فَلَا يُبَاعُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ بِالْإِرْثِ أَوْ الشِّرَاءِ فَمَحَلُّ عِتْقِهِ حَيْثُ لَا دَيْنَ وَإِلَّا بِيعَ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِإِرْثٍ أَوْ شِرَاءٍ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ فَيُبَاعُ، وَقَوْلُنَا: حَيْثُ كَانَا مُسْلِمَيْنِ أَوْ أَحَدُهُمَا احْتِرَازًا عَمَّا لَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ فَلَا تَعَرُّضَ لَهُمَا، وَقَوْلُنَا: الْبَيْعُ الصَّحِيحُ وَمِثْلُهُ الْفَاسِدُ إذَا فَاتَ لَا إنْ لَمْ يُفْتِ، أَوْ كَانَ عَلَى خِيَارٍ وَلَمْ تَنْقَضِ أَيَّامُ الْخِيَارِ فَلَا عِتْقَ، وَقَوْلُنَا: نَسَبًا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ مِلْكِ أَبَوَيْ الرَّضَاعِ أَوْ أَوْلَادِ الرَّضَاعِ أَوْ الْإِخْوَةِ مِنْهُ فَلَا عِتْقَ عَلَى الْمَشْهُورِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْعِتْقِ بِالْقَصْدِ وَالْعِتْقِ بِالسِّرَايَةِ وَالْعِتْقِ بِالْمُثْلَةِ وَالْعِتْقِ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ، شَرَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْعِتْقِ بِالتَّبَعِيَّةِ فَقَالَ: (وَمَنْ أَعْتَقَ) أَمَتَهُ حَالَةَ كَوْنِهَا (حَامِلًا) مِنْ غَيْرِهِ كَزَوْجِهَا أَوْ زِنًا (كَانَ جَنِينُهَا حُرًّا مَعَهَا) وَلَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ، لِأَنَّ كُلَّ وَلَدٍ حَدَثَ مِنْ غَيْرِ مِلْكِ يَمِينٍ فَإِنَّهُ تَابِعٌ لِأُمِّهِ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالرِّقِّيَّةِ، لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ فِي الْأُصُولِ حُرَّةٌ حَامِلٌ بِرَقِيقٍ إلَّا عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ، وَإِنَّمَا تُوجَدُ أَمَةٌ حَامِلٌ بِحُرٍّ، وَلِأَنَّ الْحُرِّيَّةَ مَسَّتْهُ وَهُوَ فِي بَطْنِهَا وَهُوَ كَعُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهَا فَوَجَبَ أَنْ يُعْتَقَ بِعِتْقِهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى جِهَةِ النُّدُورِ لِمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: قَدْ وُجِدَتْ حُرَّةٌ حَامِلٌ بِعَبْدٍ وَصُورَتُهَا: أَنْ يَكُونَ عَبْدٌ وَطِئَ جَارِيَتَهُ فَحَمَلَتْ مِنْهُ وَأَعْتَقَهَا وَلَمْ يَعْلَمْ سَيِّدُهُ بِعِتْقِهِ حَتَّى أَعْتَقَهُ وَلَمْ يَسْتَثْنِ مَالَهُ فَعِتْقُ الْأَمَةِ مَاضٍ وَقَادِرٌ عَلَيْهَا وَتَصِيرُ حُرَّةً وَالْوَلَدُ فِي بَطْنِهَا رَقِيقٌ لِسَيِّدِ أَبِيهِ، وَلَمَّا نَقَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ ابْنُ نَاجِي فِي دَرْسِ شَيْخِهِ أَبِي مَهْدِيٍّ قَالَ: هَذَا هُوَ الْمَذْهَبُ وَيُحْمَلُ عَلَى أَنَّهَا وَضَعَتْهُ قَبْلَ عِتْقِ السَّيِّدِ الْعَبْدَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ حِينَ الْعِتْقِ لَتَبِعَ أُمَّهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَدْ عَلِمْت أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اسْتِثْنَاءُ الْجَنِينِ عِنْدَ عِتْقِ الْأُمِّ لِأَنَّهُ كَجُزْءٍ مِنْهَا، وَمِثْلُ الْعِتْقِ بَيْعُ الْأُمِّ أَوْ رَهْنُهَا بِخِلَافِ هِبَتِهَا أَوْ التَّصَدُّقِ أَوْ الْإِيصَاءِ بِهَا فَإِنَّهُ يَصِحُّ اسْتِثْنَاؤُهُ وَيَسْتَمِرُّ رَقِيقًا لِلْوَاهِبِ، وَمَا تَقَدَّمَ مِنْ عِتْقِ الْجَنِينِ بِعِتْقِ أُمِّهِ ظَاهِرٌ عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَالِكِ، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَ بِأَنْ وُهِبَتْ الْأُمُّ لِشَخْصٍ وَاسْتَثْنَى الْوَاهِبُ وَلَدَهَا الَّذِي فِي بَطْنِهَا وَأَعْتَقَهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ فَقِيلَ: يَدْخُلُ جَنِينُهَا فِي الْعِتْقِ وَيَصِيرُ حُرًّا بِمُجَرَّدِ عِتْقِهَا، وَقِيلَ: إنَّمَا يَخْرُجُ حُرًّا بَعْدَ الْوَضْعِ وَعَلَى مُعْتِقِ الْأُمِّ قِيمَتُهُ فِي الصُّورَتَيْنِ، وَقِيلَ: لَا يُعْتَقُ بِعِتْقِهَا وَبَعْدَ انْفِصَالِهِ يَأْخُذُهُ مَالِكُهُ، وَعَلَى عَدَمِ عِتْقِهِ أَصْلًا أَوْ بَعْدَ وَضْعِهِ تَصِيرُ حُرَّةً حَامِلَةً بِعَبْدٍ. الثَّانِي: وَأَمَّا عَكْسُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَهُوَ عِتْقُ الْجَنِينِ فَقَطْ فَإِنَّ أُمَّهُ لَا تَتْبَعُهُ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ كَوْنُ الْوَلَدِ كَجُزْءٍ مِنْ أُمِّهِ فَإِنْ عَتَقَ الْكُلَّ تَبِعَهُ جُزْؤُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ عِتْقُ الْوَلَدِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ دُونَهَا حَيْثُ لَا دَيْنَ عَلَى سَيِّدِ أُمِّهِ يَسْتَغْرِقُ قِيمَتَهَا، وَإِلَّا رَقَّ حَيْثُ قَامَتْ الْغُرَمَاءُ قَبْلَ وَضْعِهِ مُطْلَقًا أَوْ لَوْ بَعْدَ وَضْعِهِ حَيْثُ كَانَ الدَّيْنُ سَابِقًا عَلَى عِتْقِهِ، وَإِلَّا مَضَى عِتْقُهُ وَتَابَعَ أُمَّهُ دُونَهُ بَعْدَ وَضْعِهَا. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ مِنْ مَسْأَلَةِ التَّوْضِيحِ وَمَسْأَلَةِ الْأَمَةِ الْمَوْهُوبَةِ تَصَوُّرُ الْحُرَّةِ الْحَامِلَةِ بِالرَّقِيقِ، وَأَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ كَوْنُ الرَّقِيقَةِ حَامِلَةً بِحُرٍّ فَفِي مَسَائِلَ سِتَّةٍ تُبَاعُ فِيهَا أُمُّ الْوَلَدِ: الْأُولَى: الْأَمَةُ الْمَرْهُونَةُ يَطَؤُهَا الرَّاهِنُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُرْتَهِنِ وَالْحَالُ أَنَّهُ مُعْسِرٌ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بَعْدَ الْوَضْعِ وَالْوَلَدُ حُرٌّ لَا يُبَاعُ. الثَّانِيَةُ: الْأَمَةُ الْجَانِيَةُ يَطَؤُهَا سَيِّدُهَا بَعْدَ عِلْمِهِ بِجِنَايَتِهَا وَالْحَالُ أَنَّهُ عَدِيمٌ فَإِنَّهَا تُسَلَّمُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَوَلَدُهَا حُرٌّ. الثَّالِثَةُ: أَمَةُ التَّرِكَةِ يَطَؤُهَا أَحَدُ الْوَرَثَةِ وَعَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ يَسْتَغْرِقُ التَّرِكَةَ وَالْوَاطِئُ لَهَا عَدِيمٌ وَعَالِمٌ بِالدَّيْنِ فَإِنَّهَا تُبَاعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الْيَدِ وَشِبْهُهُ وَلَا مَنْ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ. وَلَا يَجُوزُ عِتْقُ الصَّبِيِّ وَلَا الْمَوْلَى عَلَيْهِ. وَالْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ. وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَا   [الفواكه الدواني] دُونَ وَلَدِهَا. الرَّابِعَةُ: أَمَةُ الْمُفْلِسِ يَطَؤُهَا بَعْدَ وَقْفِهَا لِلْبَيْعِ وَتَحْمِلُ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بَعْدَ الْوَضْعِ دُونَ وَلَدِهَا. الْخَامِسَةُ: الْأَمَةُ الْمُشْتَرَكَةُ يَطَؤُهَا أَحَدُ الشُّرَكَاءِ مَعَ عُسْرِهِ وَتَحْمِلُ فَإِنَّهَا تُبَاعُ بَعْدَ وَضْعِهَا دُونَ وَلَدِهَا. السَّادِسَةُ: أَمَةُ الْقِرَاضِ يَطَؤُهَا الْعَامِلُ وَزَادَ بَعْضُهُمْ أَمَةَ الْمُكَاتَبِ، وَلَمَّا كَانَ الْعِتْقُ مَنْدُوبًا وَلَوْ لِرَقَبَةٍ مَعِيبَةٍ عَيْبًا فَاحِشًا أَوْ فِيهَا شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ خَشِيَ أَنْ يُتَوَهَّمَ إجْزَاءُ الْجَمِيعِ حَتَّى فِي الْعِتْقِ الْوَاجِبِ قَالَ: (وَلَا) يُجْزِئُ أَنْ (يُعْتَقُ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ) كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ أَوْ الْيَمِينِ أَوْ الْمُشْتَرَاةِ مِنْ الزَّكَاةِ وَنَائِبُ فَاعِلِ يُعْتَقُ (مَنْ فِيهِ مَعْنًى مِنْ عِتْقٍ بِتَدْبِيرٍ أَوْ كِتَابَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا) كَأُمِّ وَلَدٍ أَوْ مُعْتَقٍ لِأَجَلٍ أَوْ مُبَعَّضٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ مَنْ ذُكِرَ مِنْ عِنْدِ الْمُكَفِّرِ أَوْ اشْتَرَاهُ كَذَلِكَ، وَإِمَّا لَمْ يَجُزْ مَا ذَكَرَ فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ لِأَنَّهُ يَشْتَرِطُ فِي رَقِيقِهَا أَنْ تَكُونَ حُرِّيَّتُهُ لِخُصُوصِهَا. (وَلَا) يُجْزِئُ أَيْضًا فِي الرِّقَابِ الْوَاجِبَةِ عِتْقُ (أَعْمَى وَلَا أَقْطَعِ الْيَدِ) أَوْ الرِّجْلِ أَوْ الْأُصْبُعِ (وَشِبْهِهِ) كَالْأَشَلِّ وَمَنْ فِيهِ عَيْبٌ غَيْرُ خَفِيفٍ (وَ) كَذَا (لَا يُجْزِئُ) فِيهَا عِتْقُ (مَنْ عَلَى غَيْرِ الْإِسْلَامِ) لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَيَّدَ الرَّقَبَةَ بِالْمُؤْمِنَةِ فِي بَعْضِ الْآيَاتِ وَالْمُطْلَقَةُ تُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدَةِ، وَأَمَّا ذَاتُ الْعَيْبِ الْخَفِيفِ فَيُجْزِئُ عِتْقُهَا، كَالْأَعْوَرِ وَذِي مَرَضٍ خَفِيفٍ أَوْ عَرَجٍ خَفِيفٍ أَوْ ذَاهِبِ مَا دُونَ الْأُصْبُعِ أَوْ بَعْضِ أُذُنٍ أَوْ أَنْفٍ لَا جَمِيعِ كُلٍّ، كَمَا يُجْزِئُ عِتْقُ الْمَغْصُوبِ وَالْمَرْهُونِ وَالْجَانِي حَيْثُ فَكَالْبَقَاءِ الْجَمِيعُ عَلَى الْمِلْكِ السَّابِقِ. (تَنْبِيهٌ) مَفْهُومُ الْوَاجِبَةِ الْإِجْزَاءُ فِي غَيْرِ الْوَاجِبَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ عِتْقِ غَيْرِ الْمُجْزِئِ بَعْدَ الْوُقُوعِ وَهُوَ لُزُومُ الْعِتْقِ وَإِنْ كَانَ يُجْزِئُ، فَلَا تَرْجِعُ الرَّقَبَةُ رَقِيقَةً بَعْدَ عِتْقِهَا. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الْمُعْتِقِ أَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ وَلَا يَصِحُّ بَعْدَ الْوُقُوعِ (عِتْقُ الصَّبِيِّ) وَلَا الْمَجْنُونِ لِفَقْدِ شَرْطِ الْعِتْقِ وَهُوَ التَّكْلِيفُ (وَلَا الْمَوْلَى عَلَيْهِ) لِفَقْدِ الرُّشْدِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ: لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ التَّصَرُّفُ فِي مَالِهِ إلَّا بِأَرْبَعَةِ أَوْصَافٍ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَكَمَالُ الرُّشْدِ وَهُوَ حُسْنُ التَّصَرُّفِ فِي الْمَالِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي صِحَّةَ وَصِيَّةِ الصَّغِيرِ وَالسَّفِيهِ لِأَنَّ شَرْطَهَا التَّمْيِيزُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْمِلْكُ لِمَا أَوْصَى بِهِ، وَإِنَّمَا صَحَّتْ مِنْهُمَا لِعَدَمِ لُزُومِهَا وَلِأَنَّ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا لِحَقِّ أَنْفُسِهِمَا، فَإِنْ حَجَرَ عَلَيْهِمَا فِيهَا لَكَانَ الْحَجْرُ لِحَقِّ غَيْرِهِمَا، وَمَفْهُومُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ يَصِحُّ عِتْقُهُ لِأَنَّ تَصَرُّفَهُ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ مَالِكٍ، قَالَ خَلِيلٌ: وَتَصَرُّفُهُ قَبْلَ الْحَجْرِ عَلَى الْإِجَازَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لَا ابْنِ الْقَاسِمِ وَعَلَيْهِمَا الْعَكْسُ فِي تَصَرُّفِهِ إذَا رَشَدَ بَعْدَهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: يُسْتَثْنَى مِنْ عَدَمِ جَوَازِ عَقْدِ السَّفِيهِ عِتْقُ أُمِّ وَلَدِهِ، فَالْمَذْهَبُ أَنَّ لَهُ عِتْقَهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ لَهُ فِيهَا الِاسْتِمْتَاعُ وَقَلِيلُ الْخِدْمَةِ كَمَا تَجُوزُ وَصِيَّتُهُ وَيَلْزَمُهُ طَلَاقُهُ وَالْكَفَّارَةُ، وَيُكَفِّرُ بِالصَّوْمِ إلَّا أَنْ يَشُقَّ عَلَيْهِ فَيُكَفِّرَ بِالْأَقَلِّ قِيمَةً فِيمَا لَا تَرْتِيبَ فِيهِ. الثَّانِي: لَوْ أَعْتَقَ الْوَلِيُّ عَبْدَ مَحْجُورٍ مِنْ صَغِيرٍ وَسَفِيهٍ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، إنْ كَانَ أَبًا جَازَ عِتْقُهُ لِعَبْدِ مَحْجُورٍ بِعِوَضٍ قَدْرَ الْقِيمَةِ أَوْ بِغَيْرِ عِوَضٍ حَيْثُ كَانَ مُوسِرًا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدَ ابْنِهِ الصَّغِيرِ جَازَ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَيَلْزَمُهُ قِيمَتُهُ يَوْمَ الْعِتْقِ لِمُضِيِّ الْعِتْقِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْوَلِيُّ وَصِيًّا أَوْ أَبًا مُعْسِرًا أَوْ أَعْتَقَهُ عَنْ الصَّغِيرِ فَرُدَّ الْعِتْقُ فِي هَذِهِ كُلِّهَا، وَالْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ وَشُرَّاحِهِ إنْ عَتَقَ الْوَلِيُّ وَلَوْ غَيْرَ أَبٍ رَقِيقَ مَحْجُورٍ بِعِوَضٍ قَدْرَ الْقِيمَةِ فَأَكْثَرَ جَازَ حَيْثُ كَانَ الْعِوَضُ مِنْ غَيْرِ مَالِ الْعَبْدِ، وَالْمُخْتَصُّ بِالْأَبِ الْعِتْقُ عَلَى غَيْرِ مَالٍ، فَيَجُوزُ لِلْأَبِ الْمُوسِرِ دُونَ الْوَصِيِّ، وَمَفْهُومُ الْعِتْقِ لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَا يَمْضِي فِعْلُهُ وَيُرَدُّ وَلَوْ مِنْ الْأَبِ الْمُوسِرِ. [مَنْ يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْعِتْقِ بِسَائِرِ أَنْوَاعِهِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يَكُونُ لَهُ الْوَلَاءُ وَهُوَ أَحَدُ خَوَاصِّ الْعِتْقِ فَقَالَ: (وَالْوَلَاءُ) بِفَتْحِ الْوَاوِ وَالْمَدِّ مِنْ الْوَلَايَةِ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَهُوَ مِنْ النَّسَبِ وَالْعِتْقِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْوَلْيِ وَهُوَ الْقُرْبُ، وَأَمَّا مِنْ الْإِمَارَةِ وَالتَّقْدِيمِ فَبِالْكَسْرِ وَقِيلَ الْوَجْهَيْنِ فِيهِمَا، وَالْمَوْلَى لُغَةً يُقَالُ لِلْمُعْتَقِ وَالْمُعْتِقِ وَأَبْنَائِهِمَا، وَالنَّاظِرِ وَابْنِ الْعَمِّ وَالْقَرِيبِ وَالْعَاصِبِ وَالْحَلِيفِ وَالْقَائِمِ بِالْأَمْرِ وَنَاظِرِ الْيَتِيمِ وَالنَّافِعِ الْمُحِبِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا وَلَايَةُ الْإِنْعَامِ وَالْعِتْقِ وَسَبَبُهُ زَوَالُ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ، فَمَنْ زَالَ مِلْكُهُ بِالْحُرِّيَّةِ عَنْ رَقِيقٍ فَهُوَ مَوْلَاهُ سَوَاءٌ نَجَزَ أَوْ عَلَّقَهُ أَوْ دَبَّرَهُ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ أَعْتَقَهُ بِعِوَضٍ أَوْ بَاعَهُ مِنْ نَفْسِهِ أَوْ أَعْتَقَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يُعَرِّفْهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَعَرَّفَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ بِأَنَّهُ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُكْمَ الْعُصُوبَةِ عِنْدَ عَدَمِهَا كَائِنٌ. (لِمَنْ أَعْتَقَ) ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا، فَيَشْمَلُ مَنْ أَعْتَقَ عَنْهُ غَيْرُهُ بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَالْوَلَاءُ بِالْمُبَاشَرَةِ وَالْوَلَاءُ بِالْجَرِّ، وَعِتْقُ الْغَيْرِ يَشْمَلُ النَّاجِزَ وَلِأَجَلٍ وَالتَّدْبِيرَ وَالْكِتَابَةَ كَأَنْ يَقُولَ: أَنْتَ حُرٌّ أَوْ مُعْتَقٌ لِأَجَلٍ أَوْ مُدَبَّرٌ أَوْ مُكَاتَبٌ عَنْ فُلَانٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ عَنْهُ مَيِّتًا فَيَكُونَ الْوِلَاءُ لِوَرَثَتِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعِتْقُ تَطَوُّعًا أَوْ وَاجِبًا، كَعِتْقِهِ فِي كَفَّارَةٍ وَجَبَتْ عَلَيْهِ أَوْ مَنْذُورًا أَوْ بِسَبَبِ حَلِفٍ أَوْ كَاتَبَهُ أَوْ قَاطَعَهُ فَأَدَّى وَخَرَجَ حُرًّا، أَوْ أَعْتَقَ عَلَيْهِ بِحُكْمٍ لَزِمَهُ، أَوْ بَاعَهُ نَفْسَهُ، أَوْ أَعْتَقَ عَبْدُهُ عَبْدًا بِإِذْنِهِ، أَوْ أَعْتَقَ عَلَيْهِ بِسِرَايَةٍ أَوْ مُثْلَةٍ أَوْ لِقَرَابَةٍ، وَإِنَّمَا يَسْتَحِقُّ الْمُعْتَقُ الْوَلَاءَ بِشُرُوطٍ أَرْبَعَةٍ: أَنْ يَكُونَ الْمُعْتَقُ مِلْكًا لِلْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ، وَأَنْ يَكُونَ أَعْتَقَهُ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُعْتِقُ حُرًّا، وَأَنْ يَتَسَاوَيَا فِي الدَّيْنِ، فَإِنْ أَعْتَقَ الْكَافِرُ عَبْدًا مُسْلِمًا فَإِنْ وَلَّاهُ يَكُونُ لِلْمُسْلِمِينَ لَا لِمُعْتِقِهِ الْكَافِرِ وَلَوْ أَسْلَمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 هِبَتُهُ وَمَنْ أَعْتَقَ عَبْدًا عَنْ رَجُلٍ فَالْوَلَاءُ لِلرَّجُلِ. وَلَا يَكُونُ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَهُوَ لِلْمُسْلِمِينَ. وَوَلَاءُ مَا أَعْتَقْت الْمَرْأَةُ لَهَا وَوَلَاءُ مَنْ يَجُرُّهُ مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَبْدٍ أَعْتَقَتْهُ. وَلَا تَرِثُ مَا أَعْتَقَ غَيْرُهَا مِنْ أَبٍ أَوْ ابْنٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ. وَمِيرَاثُ   [الفواكه الدواني] بَعْدَ ذَلِكَ، وَإِنْ أَعْتَقَ الْعَبْدُ الَّذِي لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ مَالِهِ عِنْدَهُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَأَجَازَهُ فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِسَيِّدِهِ لَا لِلْعَبْدِ لِأَنَّهُ لَا وَلَاءَ لِلْعَبْدِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَعْلَمْ سَيِّدُهُ بِعِتْقِهِ لِعَبْدِهِ حَتَّى أَعْتَقَهُ، وَمِثْلُ عَدَمِ الْعِلْمِ لَوْ عَلِمَ وَسَكَتَ، أَوْ كَانَ الْعَبْدُ مِمَّنْ لَيْسَ لِلسَّيِّدِ انْتِزَاعُ مَالِهِ فَإِنَّ الْوَلَاءَ يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ بِالْكَسْرِ فِي جَمِيعِ هَذِهِ الصُّوَرِ لَا لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ أَعْتَقَ مُسْتَغْرِقُ الذِّمَّةِ رَقِيقًا فَإِنَّهُ لَا وَلَاءَ لَهُ لِعَدَمِ مِلْكِهِ وَوَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَهُ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَتَخَلَّصَ أَنَّهُ يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ الْكَافِرَ الْمُعْتَقَ لِعَبْدٍ مُسْلِمٍ، وَالرَّقِيقُ الْمُعْتَقُ لِعَبْدِهِ عَلَى مَا مَرَّ، وَالْمُسْتَغْرِقُ الذِّمَّةَ، فَهِيَ ثَلَاثَةُ أَشْخَاصٍ لَا وَلَاءَ لَهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ» (تَنْبِيهٌ) كَمَا يَكُونُ لِلْمُعْتِقِ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَهُ يَكُونُ لَهُ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَهُ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ وَوَلَاءُ أَوْلَادِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَرَّ وَلَدَ الْمُعْتَقِ كَأَوْلَادِ الْمُعْتَقَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرٍّ وَإِلَّا لَرَقَّ أَوْ عَتَقَ لِآخَرَ، وَشَرْطُ جَرِّ وَلَاءِ مَنْ أَعْتَقَهُ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ عَدَمُ حُرِّيَّتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَإِلَّا فَلَا يَجُرُّ وَلَاءَ الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهُ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ، مِثَالُهُ لَوْ أَعْتَقَ النَّصْرَانِيُّ عَبْدًا نَصْرَانِيًّا ثُمَّ هَرَبَ السَّيِّدُ إلَى دَارِ الْحَرْبِ بَعْدَ أَنْ أَعْتَقَ عَبْدَهُ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ فَسُبِيَ وَبِيعَ وَأُعْتِقَ فَإِنَّهُ لَا يَجُرُّ إلَى مُعْتِقِهِ وَلَاءَ الَّذِي كَانَ أَعْتَقَهُ قَبْلَ لُحُوقِهِ بِدَارِ الْحَرْبِ بَلْ وَلَاؤُهُ لِمُعْتِقِهِ وَإِنْ كَانَ مُعْتَقًا لِأَنَّهُ حُرُّ الْأَصْلِ أَيْ قَبْلَ هُرُوبِهِ وَقَبْلَ عِتْقِهِ. قَالَ الْجَعْدِيُّ: وَلَا يَكُونُ وَلَاءُ وَلَدِ الْمَرْأَةِ لِمَوَالِيهَا إلَّا فِي أَرْبَعَةِ مَوَاضِعَ: أَنْ يَكُونَ أَبُوهُمْ عَبْدًا، أَوْ يَكُونُوا مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ أَبٍ لَاعِنٍ فِيهِمْ وَنَفَاهُمْ عَنْ نَفْسِهِ، أَوْ يَكُونَ الْأَبُ حَرْبِيًّا بِدَارِ الْحَرْبِ. وَلَمَّا كَانَ الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ قَالَ: (وَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ) أَيْ الْوَلَاءِ لِأَنَّ النَّسَبَ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ (وَلَا هِبَتُهُ) «لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ بَيْعِ الْوَلَاءِ وَهِبَتِهِ» وَإِنَّمَا قُلْنَا: وَلَوْ حُكْمًا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ: (وَمَنْ أَعْتَقَ) رَقِيقَهُ (عَنْ رَجُلٍ) الْمُرَادُ عَنْ شَخْصٍ (فَالْوَلَاءُ لِلرَّجُلِ) الَّذِي أَعْتَقَ عَنْهُ وَلَوْ بِغَيْرِ إذْنِهِ، لِأَنَّ الشَّرْعَ يَقْدِرُ دُخُولِهِ فِي مِلْكِ مَنْ أَعْتَقَ عَنْهُ، وَشَرْطُ كَوْنِهِ لِلْمُعْتَقِ عَنْهُ كَوْنُهُ حُرًّا مُسْلِمًا، أَمَّا إنْ كَانَ رَقِيقًا فَإِنَّ وَلَاءَ الَّذِي أَعْتَقَ عَنْهُ لِسَيِّدِهِ، وَإِنْ كَافِرًا يَكُونُ وَلَاءُ الَّذِي أَعْتَقَ عَنْهُ مُسْلِمًا لِلْمُسْلِمِينَ، لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا وَلَاءَ لَهُ عَلَى مُسْلِمٍ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ بَيْنَ الْمُجْتَهِدِينَ فِي مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدِ شَخْصٍ هَلْ يَكُونُ لَهُ وَلَاءٌ عَلَيْهِ أَمْ لَا، بَيَّنَ الْمَشْهُورَ عِنْدَ الْإِمَامِ بِقَوْلِهِ: (وَ) إذَا أَسْلَمَ كَافِرٌ عَلَى يَدَيْ حُرٍّ مُسْلِمٍ (لَا يَكُونُ الْوَلَاءُ) عَلَى الَّذِي أَسْلَمَ (لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ وَ) إنَّمَا (هُوَ لِلْمُسْلِمِينَ) لِأَنَّ الْوَلَاءَ الْمَذْكُورَ سَبَبُ زَوَالِ الْمِلْكِ بِالْحُرِّيَّةِ، وَقَصْدُ الْمُصَنِّفُ الرَّدُّ عَلَى ابْنِ رَاهْوَيْهِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ حَيْثُ قَالُوا: إنَّ الْوَلَاءَ لِمَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ خَاصٌّ، وَدَلِيلُ الْمَشْهُورِ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «جَاءَتْ بَرِيرَةُ فَقَالَتْ: إنِّي كَاتَبْت أَهْلِي عَلَى تِسْعَةِ أَوَاقٍ فِي كُلِّ عَامٍ وُقِيَّةٌ فَأَعِينِينِي. قَالَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: إنْ أَحَبَّ أَهْلُك أَنْ أَعُدَّهَا لَهُمْ» إلَى قَوْلِهِ فِي آخِرِهِ: «إنَّمَا الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ» فَأَتَى بِصِيغَةِ الْحَصْرِ بِقَوْلِهِ: إنَّمَا، وَمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَسْلَمَ عَلَى يَدَيْ رَجُلٍ فَلَهُ وَلَاؤُهُ» وَذَهَبَ إلَيْهِ جَمَاعَةٌ أَجَابَ عَنْهُ ابْنِ رُشْدٍ وَقَالَ: هَذَا الْحَدِيثُ مَحْمُولٌ عِنْدَنَا عَلَى أَنَّهُ أَحَقُّ بِهِ فِي نُصْرَتِهِ وَالْقِيَامِ بِأَمْرِهِ وَتَوَلِّي دَفْنَهُ إذَا مَاتَ، لَا أَنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ كَمَا يَدَّعِيهِ الْمُخَالِفُ. (وَ) يَجِبُ أَنْ يَكُونَ (وَلَاءُ مَا أَعْتَقْت الْمَرْأَةُ لَهَا، وَ) كَذَا (وَلَاءُ مَنْ يَجُرُّهُ) وَلَاؤُهُ لَهُمَا (مِنْ وَلَدٍ أَوْ عَبْدٍ أَعْتَقَتْهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَرِثُ أُنْثَى إنْ لَمْ تُبَاشِرْهُ بِعِتْقٍ أَوْ جَرَّهُ وَلَاءٌ بِوِلَادَةٍ أَوْ عِتْقٍ، وَقَالَ فِيهَا: وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ وَلَدُ مَنْ أَعْتَقْنَ مِنْ وَلَدِ الذُّكُورِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إنَاثًا، وَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فِي وَلَدِ الْبِنْتِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى فَافْهَمْ، وَقَوْلُهُ: لَا تَرِثُهُ أُنْثَى الْمُرَادُ لَا تَرِثُ بِهِ لِأَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُوَرَّثُ وَإِنَّمَا يُوَرَّثُ بِهِ الْمَالُ. (تَنْبِيهٌ) فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْمُنَاقَشَةُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ وَهُوَ التَّعْبِيرُ بِمَا فِي قَوْلِهِ: مَا أَعْتَقَتْ الْمَرْأَةُ وَمَا لِمَا لَا يَعْقِلُ وَإِثْبَاتُ التَّاءِ فِي أَعْتَقَتْهُ مَعَ أَنَّ فَاعِلَ أَعْتَقَ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ عَائِدٌ عَلَى الْوَلَدِ أَوْ الْعَبْدِ فَهُوَ مُذَكَّرٌ، وَالْجَوَابُ أَنَّهُ عَبَّرَ بِهَا عَلَى لُغَةٍ قَلِيلَةٍ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْجَوَابِ عَنْ إثْبَاتِ التَّاءِ فِي أَعْتَقَتْهُ، وَأَحْسَنُ مَا أُجِيبَ بِهِ أَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ الْمَرْأَةُ هِيَ الْمُعْتِقَةُ أَوْ لَا أَسْنَدَ إلَيْهَا الْفِعْلَ إقَامَةً لِسَبَبِ مَقَامِ الْمُبَاشَرَةِ فَحِينَ تَسَبَّبَتْ فِي الْعِتْقِ الْأَوَّلِ أَسْنَدَ إلَيْهَا الْعِتْقَ الثَّانِي. وَثَانِيهِمَا مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى وَذَلِكَ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَلِدُ مَنْ أَعْتَقَتْهُ لَهَا وَلَاؤُهُ، سَوَاءٌ كَانَ لَهُ نَسَبٌ مِنْ حُرٍّ أَوْ لَا، مَعَ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ نَسَبٌ مِنْ حُرٍّ كَمَا فِي خَلِيلٍ وَغَيْرِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: وَجَرُّ وَلَدِ الْمُعْتَقِ كَأَوْلَادِ الْمُعْتَقَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ نَسَبٌ مِنْ حُرٍّ بِأَنَّ كَانُوا مِنْ زِنًا أَوْ غَصْبٍ أَوْ حَصَلَ فِيهِمْ لِعَانٌ. وَلَمَّا كَانَتْ النِّسَاءُ لَا تَسْتَحِقُّ إلَّا وَلَاءَ مَنْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ أَوْ جَرَّهُ إلَيْهِنَّ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقْنَ بِعِتْقٍ أَوْ وِلَادَةٍ قَالَ: (وَلَا تَرِثُ) الْأُنْثَى وَلَا (مَا أَعْتَقَ) هـ (غَيْرُهَا) وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ أَبٍ أَوْ ابْنٍ أَوْ زَوْجٍ أَوْ غَيْرِهِ) فَإِذَا أَعْتَقَ الْأَبُ رَقَبَةً وَخَلَفَ ابْنًا وَبِنْتًا فَوَلَاءُ تِلْكَ الرَّقَبَةِ لِلِابْنِ دُونَ الْبِنْتِ لِأَنَّهَا لَمْ تُبَاشِرْ عِتْقَهَا لَا حَقِيقَةً وَلَا حُكْمًا. قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 السَّائِبَةِ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَلَاءُ لِلْأَقْعَدِ مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ فَإِنْ تَرَكَ ابْنَيْنِ فَوَرِثَا وَلَاءَ مَوْلَى لِأَبِيهِمَا ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ ابْنَيْنِ رَجَعَ الْوَلَاءُ إلَيَّ أَخِيهِ دُونَ بَنِيهِ. وَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا وَتَرَكَ وَلَدًا وَمَاتَ أَخُوهُ وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ فَالْوَلَاءُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَثْلَاثًا.   [الفواكه الدواني] فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَرِثُ أَحَدٌ مِنْ النِّسَاءِ وَلَا مَا أَعْتَقَ أَبٌ لَهُنَّ أَوْ أُمٌّ أَوْ أَخٌ أَوْ ابْنٌ وَالْعُصْبَةُ أَحَقُّ بِالْوَلَاءِ مِنْهُنَّ، وَلَا تَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ أَعْتَقَ مَنْ أَعْتَقْنَ أَوْ وَلَدَ مَنْ أَعْتَقْنَ مِنْ وَلَدِ الذُّكُورِ ذُكُورًا كَانُوا أَوْ إنَاثًا، وَلَا شَيْءَ لَهُنَّ فِي وَلَدِ الْبَنَاتِ ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى، لِأَنَّ الْوَلَاءَ إنَّمَا يُوَرَّثُ بِالتَّعْصِيبِ وَالنِّسَاءُ لَا يَرِثْنَ بِهِ. (وَمِيرَاثُ السَّائِبَةِ) وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُ سَيِّدُهُ: أَنْتَ سَائِبَةٌ أَوْ سَيَّبْتُك قَاصِدًا بِذَلِكَ الْعِتْقَ لَا عَنْ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ ثَابِتٍ (لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ) وَسَوَاءٌ قَالَ مَعَ ذَلِكَ أَنْتَ حُرٌّ أَمْ لَا، أَوْ قَالَ لَهُ أَنْتَ حُرٌّ سَائِبَةٌ وَإِنْ لَمْ يَقْصِدْ عِتْقًا، وَكَذَلِكَ يَكُونُ الْمِيرَاثُ لِلْمُسْلِمِينَ إنْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَكَمَا يَرِثُونَهُ يَعْقِلُونَ عَنْهُ وَيَلُونَ عَقْدَ نِكَاحِهِ إنْ كَانَ أُنْثَى وَيَحْضُنُونَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَلَاءَ لِلْمُسْلِمِينَ وَلَوْ كَانَ السَّيْبُ مُسْلِمًا وَسَيِّدُهُ كَافِرًا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يَرْجِعُ وَلَاؤُهُ لِمَنْ سَيَّبَهُ إنْ أَسْلَمَ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِيمَا لَوْ قَالَ السَّيِّدُ لِعَبْدِهِ: أَنْتَ حُرٌّ وَلَا وَلَاءَ لِي عَلَيْك، فَقَالَ ابْنُ الْقَصَّارِ: يَكُونُ الْوَلَاءُ لِلْمُسْلِمِينَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَخَالَفَهُ غَيْرُهُ قَائِلًا: الْوَلَاءُ لِمُعْتِقِهِ لِأَنَّهُ بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ أَنْتَ حُرٌّ ثَبَتَ لَهُ وَوَلَاؤُهُ شَرْعًا، وَلَا نَظَرَ إلَى قَوْلِهِ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا وَلَاءَ عَلَيْك لِأَنَّهُ لَا يُغَيِّرُ حُكْمَ الشَّرْعِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لَهُ: أَنْتَ حُرٌّ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَوَلَاؤُك لِي أَوْ عَكْسُهُ لَكَانَ الْحُكْمُ لِأَوَّلِ اللَّفْظَيْنِ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ عِتْقِ السَّائِبَةِ، وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ الْكَرَاهَةُ لِأَنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي الْأَنْعَامِ. الثَّانِي: أَنْظُرُ هَلْ يَدْخُلُ نَفْسُ الْمُعْتَقِ فِي الصُّوَرِ الَّتِي يَكُونُ الْوَلَاءُ فِيهَا لِلْمُسْلِمِينَ فَيَرِثُ مَعَهُمْ أَوْ لَا يَدْخُلُ؟ وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي عَدَمُ دُخُولِهِ فِيهِمْ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْخُلُ فِي قُرْبَتِهِ كَمَا قَالُوهُ فِيمَنْ أَوْقَفَ عَلَى بَنِي أَبِيهِ أَوْ أَخْرَجَ زَكَاةَ مَالِهِ وَافْتَقَرَ قَبْلَ إعْطَائِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ عِنْدَ تَعَدُّدِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْوَلَاءَ فَقَالَ: (وَالْوَلَاءُ) بِالْمَدِّ ثَابِتٌ (لِلْأَقْعَدِ) أَيْ الْأَقْرَبِ (مِنْ عُصْبَةِ الْمَيِّتِ الْأَوَّلِ) الْمُرَادُ الْأَقْرَبُ مِنْ عُصْبَةِ الْمُعْتِقِ وَلِذَلِكَ مَثَّلَ الْمُصَنِّفِ لِهَذَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ تَرَكَ) الْأَنْسَبُ خَلْفَ الْمُعْتَقِ (ابْنَيْنِ فَوَرِثَا وَلَاءَ) بِالْمَدِّ (مَوْلَى) أَيْ مُعْتَقٍ (لِأَبِيهِمَا) لَا عَاصِبَ لَهُ مِنْ جِهَةِ النَّسَبِ (ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمَا) أَيْ أَحَدُ الِابْنَيْنِ (وَتَرَكَ ابْنَيْنِ) وَأَخَاهُ (رَجَعَ الْوَلَاءُ إلَى أَخِيهِ دُونَ بَنِيهِ) لِأَنَّ الْأَخَ أَقْرَبُ لِلْمُعْتِقِ مِنْ بَنِي الْمَيِّتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ عَاصِبُ النَّسَبِ ثُمَّ عُصْبَتُهُ كَالصَّلَاةِ. وَالْحَاصِلُ: أَنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِمِيرَاثِ الْوَلَاءِ عِنْدَ عَدَمِ الْقَرَابَةِ الْمُعْتِقُ ثُمَّ أَوْلَادُهُ الذُّكُورُ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا، وَالْأَعْلَى يَحْجُبُ الْأَسْفَلَ، فَإِنْ عَدِمَ بَنُو الْمُعْتِقِ فَأَبُوهُ، فَإِنْ عَدِمَ أَبُوهُ فَإِخْوَتُهُ الْأَشِقَّاءُ، ثُمَّ الَّذِينَ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ، ثُمَّ بَنُو الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ، ثُمَّ بَنُوهُمْ وَإِنْ نَزَلُوا، فَإِنْ اسْتَوَتْ الدَّرَجَةُ فَالشَّقِيقُ أَوْلَى، فَإِنْ عَدِمَتْ أُخُوَّةُ الْمُعْتِقِ وَبَنُوهُمْ فَجَدُّ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ فَالْأَعْمَامُ وَهُمْ فِي التَّرْتِيبِ كَالْإِخْوَةِ، ثُمَّ بَعْدَ انْقِرَاضِ أَقَارِبِ الْمُعْتِقِ مُعْتَقُ الْمُعْتِقِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ مُعْتِقُهُ انْتَقَلَ الْحُكْمُ لِعُصْبَةِ مُعْتِقِهِ إنْ كَانَ لَهُ اسْتِحْقَاقٌ وَإِلَّا كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ. مِثَالُهُ: لَوْ أَعْتَقَتْ امْرَأَةٌ عَبْدًا وَلَهَا ابْنٌ مِنْ زَوْجٍ غَيْرِ قَرِيبٍ لَهَا، فَإِذَا مَاتَتْ الْمَرْأَةُ كَانَ وَلَاءُ مَنْ أَعْتَقَتْهُ لِابْنِهَا، فَإِذَا مَاتَ ابْنُهَا لَمْ يَرِثْ ابْنُهُ مَا أَعْتَقَتْهُ أُمُّهُ بِالْوَلَاءِ عَنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ وَيَكُونُ مِيرَاثُهُ لِلْمُسْلِمِينَ وَهُوَ مِنْ جُمْلَتِهِمْ، وَخَبَرُ: «مَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَارِثِهِ» غَيْرُ مَعْرُوفٍ، وَالْمُرَادُ بِالْعَاصِبِ الَّذِي يَرِثُ الْوَلَاءَ الْعَاصِبُ بِالنَّفْسِ لَا بِغَيْرِهِ وَلَا مَعَ غَيْرِهِ، فَلَا تَرِثُ الْأُمُّ مَعَ الْأَبِ، وَلَا الْأُخْتُ مَعَ الْأَخِ، وَلَا الْأَبُ مَعَ الِابْنِ، وَلَا الْبِنْتُ مَعَ الِابْنِ. (تَنْبِيهٌ) فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَوَرِثَ إلَخْ مُسَامَحَةً لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يُوَرَّثُ وَإِنَّمَا يُوَرَّثُ بِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ قَوْلِهِ لِلْأَقْعَدِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ مَاتَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ ابْنَيْ الْمُعْتَقِ (وَتَرَكَ وَلَدًا ذَكَرًا وَمَاتَ أَخُوهُ) أَيْ أَخُو الْمَيِّتِ أَيْضًا (وَتَرَكَ وَلَدَيْنِ) ذَكَرَيْنِ (فَالْوَلَاءُ) يَجِبُ أَنْ يَكُونَ (بَيْنَ الثَّلَاثَةِ) حَالَةَ كَوْنِهِ (أَثْلَاثًا) لِاسْتِوَاءِ الثَّلَاثَةِ فِي الْقُرْبِ مِنْ الْمُعْتِقِ، وَإِذَا مَاتَ أَحَدُهُمَا وَتَرَكَ أَرْبَعَ بَنِينَ وَمَاتَ الْآخَرُ عَنْ ذَكَرٍ فَقَطْ لَكَانَ الْمِيرَاثُ بَيْنَهُمْ أَخْمَاسًا، وَإِذَا كَانَ مَعَ الذُّكُورِ إنَاثٌ فَلَا إرْثَ لَهُنَّ. (خَاتِمَةٌ) لِلْوَلَاءِ حُكْمُ النَّسَبِ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ لَوْ عَلَى السَّمَاعِ الْفَاشِي مِنْ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَمَّا شَهَادَةُ وَاحِدٍ وَلَوْ عَلَى الْبَتِّ فَلَا يَثْبُتُ بِهَا الْوَلَاءُ، وَإِنْ كَانَ لِمُقِيمِ الْوَاحِدِ الْحَلِفُ عَلَى صِحَّةِ مَا شَهِدَ بِهِ شَاهِدُهُ وَيَسْتَحِقُّ الْمَالَ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ مَوْتِ الْعَتِيقِ إلَّا الْمَالُ وَهُوَ يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ بِأَنَّ اسْتِحْقَاقَ الْمَالِ مُسَبَّبٌ عَنْ الْوَلَاءِ، وَكَيْفَ يَثْبُتُ الْمُسَبَّبُ دُونَ ثُبُوتِ سَبَبِهِ؟ وَنَظِيرُ هَذَا مَنْ يَدَّعِي زَوْجِيَّةَ مَيِّتٍ وَيُقِيمُ شَاهِدًا فَإِنَّ لَهُ الْحَلِفَ مَعَهُ وَيَسْتَحِقُّ الْإِرْثَ حَيْثُ لَا وَارِثَ لِلْمَيِّتِ ثَابِتُ النَّسَبِ، وَلَكِنْ لَا يَدْفَعُ الْمَالَ لِمُقِيمِ الشَّاهِدِ الْوَاحِدِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِينَاءِ لِاحْتِمَالِ دَعْوَى آخَرَ وَيُقِيمُ شَاهِدَيْنِ. [بَابٌ فِي الشُّفْعَةِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْعِتْقِ وَالْوَلَاءِ، شَرَعَ فِي تِسْعَةِ أَبْوَابٍ بِتَرْجَمَةٍ وَاحِدَةٍ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 بَابٌ فِي الشُّفْعَةِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحُبُسِ وَالرَّهْنِ وَالْعَارِيَّةِ الْوَدِيعَةِ وَاللُّقَطَةِ وَالْغَصْبِ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) بَيَانِ (الشُّفْعَةِ) الشُّفْعَةُ بِضَمِّ الشِّينِ وَإِسْكَانِ الْفَاءِ وَحُكِيَ ضَمُّهَا، وَفَتْحُ الْعَيْنِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الشَّفْعِ ضِدُّ الْوَتْرِ، لِأَنَّ الشَّفِيعَ يَضُمُّ مَا يَأْخُذُهُ إلَى حِصَّتِهِ فَتَصِيرُ شَفْعًا، وَالْآخِذُ بِالشُّفْعَةِ يُسَمَّى شَافِعًا وَشَفِيعًا وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: اسْتِحْقَاقُ شَرِيكٍ أَخَذَ مَبِيعَ شَرِيكِهِ بِثَمَنِهِ، أَيْ طَلَب الشَّرِيكُ أَخْذَ مَبِيعِ شَرِيكِهِ بِثَمَنِهِ الَّذِي بَاعَ بِهِ سَوَاءٌ أَخَذَ أَوْ لَمْ يَأْخُذْ، وَالشُّفْعَةُ مَعْرُوضَةٌ لِلْأَخْذِ وَعَدَمِهِ. وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: الْآخِذُ بِالْمَدِّ وَهُوَ الشَّافِعُ، وَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ وَهُوَ الْمُشْتَرِي، وَالشَّيْءُ الْمَأْخُوذُ وَهُوَ الشِّقْصُ الْمُبْتَاعُ، وَالْمَأْخُوذُ بِهِ وَالثَّمَنُ أَوْ قِيمَةُ الشِّقْصِ إذَا أَخَذَ فِي صُلْحٍ عَنْ دَمِ عَمْدٍ أَوْ فِي صَدَاقٍ. (وَ) الْبَابُ الثَّانِي فِي أَحْكَامِ (الْهِبَةِ) وَهِيَ مَصْدَرُ وَهَبَ هِبَةً وَوَهْبًا بِإِسْكَانِ الْهَاءِ وَبِفَتْحِهَا، وَاسْمُ مَصْدَرِ وَهَبَ الْمُوهِبُ وَالْمَوْهِبَةُ بِكَسْرِ الْهَاءِ فِيهِمَا، وَالْإِيهَابُ قَبُولُ الْهِبَةِ، وَالِاسْتِيهَابُ سُؤَالُهَا وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: هِبَةُ ثَوَابٍ وَهِبَةٌ لِمُجَرَّدِ وَجْهِ الْمُعْطِي، فَهِبَةُ الثَّوَابِ عَطِيَّةٌ قُصِدَ بِهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ، وَغَيْرُهَا الْعَطِيَّةُ لِمُجَرَّدِ ذَاتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ فَتَخْرُجُ الصَّدَقَةُ فَإِنَّهَا الْعَطِيَّةُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا الْعَارِيَّةُ وَالْوَقْفُ وَالْعُمْرَى فَإِنَّ الذَّاتَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهَا وَالْمَدْفُوعُ لِلْغَيْرِ إنَّمَا هُوَ الْمَنْفَعَةُ. (وَ) الْبَابُ الثَّالِثُ فِي أَحْكَامِ (الصَّدَقَةِ) اسْمُ مَصْدَرٍ لِتَصَدَّقَ، وَمَصْدَرُهُ التَّصَدُّقُ وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ لَهُ مَعَ وَجْهِ الْمُعْطِي عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ. (وَ) الْبَابُ الرَّابِعُ فِي أَحْكَامِ (الْحُبُسِ) وَيُرَادِفُهُ الْوَقْفُ وَحْدَهُ، ابْنُ عَرَفَةَ مُصَدِّرًا بِقَوْلِهِ: إعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وُجُودِهِ لَازِمًا بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا، وَاسْمًا بِقَوْلِهِ: مَا أَعْطَيْت مَنْفَعَةً مُدَّةَ وُجُودِهِ لَازِمًا بَقَاؤُهُ فِي مِلْكِ مُعْطِيهِ وَلَوْ تَقْدِيرًا فَخَرَجَ عَطِيَّةُ الذَّاتِ فَإِنَّهَا إمَّا هِبَةٌ أَوْ صَدَقَةٌ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ تَقْدِيرًا إلَى صِحَّةِ وَقْفِ غَيْرِ الْمَمْلُوكِ عَلَى تَقْدِيرِ مِلْكِهِ كَقَوْلِهِ: إنْ مَلَكْت هَذَا فَهُوَ وَقْفٌ، كَمَا يَصِحُّ الْمُعْتِقُ كَذَلِكَ، وَإِلَى صِحَّةِ الْوَقْفِ عَلَى تَقْدِيرِ وُجُودِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ نَحْوُ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى مَنْ سَيُحَدِّثُهُ اللَّهُ لِزَيْدٍ. وَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ: الْوَاقِفُ، وَالْعَيْنُ الْمَوْقُوفَةُ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ، وَالصِّيغَةُ، فَعَاقِدُ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةُ وَالْحُبُسُ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِأَنْ يَكُونَ مُكَلَّفًا رَشِيدًا مَالِكًا لِمَا تَبَرَّعَ بِهِ، فَيَدْخُلُ الْمَرِيضُ وَالزَّوْجَةُ فِي الثُّلُثِ، فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْ الثَّلَاثِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِ وَلَا مِنْ صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا سَفِيهٍ، وَكَذَا لَا يَلْزَمُ مِنْ زَوْجَةٍ وَمَرِيضٍ فِي زَائِدِ الثُّلُثِ. (وَ) الْبَابُ الْخَامِسُ فِي أَحْكَامِ (الرَّهْنِ) مَصْدَرُ رَهَنَ الشَّيْءَ رَهْنًا وَهُوَ فِي اللُّغَةِ اللُّزُومُ وَالْحُبُسُ، وَشَرْعًا مَالٌ قُبِضَ مُوثَقًا بِهِ فِي دَيْنٍ وَيَدْخُلُ فِي الْمَالِ أَذْكَارُ الْحُقُوقِ. (وَ) الْبَابُ السَّادِسُ فِي أَحْكَامِ (الْعَارِيَّةِ) اسْمُ مَصْدَرِ أَعَارَ وَالْمَصْدَرُ الْإِعَارَةُ وَالْعَارِيَّةُ مُشَدَّدَةُ الْيَاءِ كَأَنَّهَا مَنْسُوبَةً لِلْعَارِ لِأَنَّ طَلَبَهَا عَارٌ، وَهِيَ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا بِعِوَضٍ، وَبِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ مَالُ ذُو مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ أُعْطِيت مَنْفَعَتُهُ بِغَيْرِ عِوَضٍ، هَكَذَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ وَفِيهِ شَيْءٌ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ دُخُولِ الْوَقْفِ الْمُؤَقَّتِ بِمُدَّةٍ إلَّا أَنْ يُقَالَ: هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اشْتِرَاطِ تَأْيِيدِ الْوَقْفِ الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ ابْنُ عَرَفَةَ فِي التَّعْرِيفِ وَإِنْ كَانَ الْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ. (وَ) الْبَابُ السَّابِعُ فِي أَحْكَامِ (الْوَدِيعَةِ) مَصْدَرٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ وَهِيَ لُغَةً الْأَمَانَةُ، وَشَرْعًا تَوْكِيلٌ عَلَى حِفْظِ مَالٍ. (وَ) الْبَابُ الثَّامِنُ فِي أَحْكَامِ (اللُّقَطَةِ) وَهِيَ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَا يَلْتَقِطُهُ، وَالِالْتِقَاطُ أَحَدُ الشَّيْءِ عِنْدَ وُجُودِهِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ. (وَ) الْبَابُ التَّاسِعُ فِي أَحْكَامِ (الْغَصْبِ) مَصْدَرُ غَصَبَ الشَّيْءَ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ أَخْذُ الشَّيْءِ ظُلْمًا. وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَخْذُ مَالِ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ ظُلْمًا قَهْرًا لَا لِخَوْفِ قِتَالٍ فَيَخْرُجُ الْأَخْذُ غِيلَةً لِأَنَّهُ بِمَوْتِ صَاحِبِ الْمَالِ، وَيَخْرُجُ التَّعَدِّي لِأَنَّهُ أَخْذُ الْمَنَافِعِ، وَيَخْرُجُ أَخْذُ مَالِ الْغَيْرِ بِوَجْهٍ جَائِزٍ كَكَوْنِ الْأَخْذِ بِالْمَدِّ لَهُ مَالٌ عَلَى الْمَأْخُوذِ مِنْهُ وَهُوَ يَجْحَدُهُ، كَمَا تَخْرُجُ السَّرِقَةُ لِأَنَّهَا لَا قَهْرَ مَعَهَا لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ خُفْيَةً، وَمِثْلُهَا الْمَأْخُوذُ عَلَى وَجْهِ الْخِيَانَةِ وَالِاخْتِلَاسِ وَإِنْ شَارَكَتْ الْغَصْبَ فِي الْحُرْمَةِ، وَهَذَا آخِرُ الْأَبْوَابِ الَّتِي تَرْجَمَ لَهَا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ يَزِيدُ عَلَيْهَا مَسْأَلَةَ مَنْ اسْتَهْلَكَ عَرْضًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَالزِّيَادَةُ عَلَى الْمُتَرْجَمِ لَهُ مَحْمُودَةٌ لِوُقُوعِهَا فِي آيَةِ: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17] وَفِي السُّنَّةِ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سُئِلَ عَنْ مَاءِ الْبَحْرِ فَقَالَ: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ فِي الْمُشَاعِ وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا قُسِمَ وَلَا لِجَارٍ. وَلَا فِي طَرِيقٍ وَلَا عَرْصَةَ دَارٍ قَدْ قُسِمَتْ بُيُوتُهَا. وَلَا فِي فَحْلِ نَخْلٍ أَوْ بِئْرٍ إذَا قُسِمَتْ النَّخْلُ أَوْ الْأَرْضُ. وَلَا شُفْعَةَ إلَّا فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ. وَلَا شُفْعَةَ   [الفواكه الدواني] ثُمَّ شَرَعَ فِي تِلْكَ الْأَبْوَابِ عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَ: (وَإِنَّمَا الشُّفْعَةُ) وَهِيَ كَمَا تَقَدَّمَ اسْتِحْقَاقُ الشَّرِيكِ أَخْذَ مَبِيعِ شَرِيكِهِ (فِي) مَبِيعِ الشَّرِيكِ (الْمُشَاعِ) وَهُوَ غَيْرُ الْمُتَمَيِّزِ عَلَى حِدَةٍ وَلِذَلِكَ ذَكَرَ مُحْتَرِزَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا شُفْعَةَ فِيمَا) أَيْ مَبِيعٍ (قَدْ قُسِمَ) قَبْلَ بَيْعِهِ (وَلَا لِجَارٍ) خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ حَيْثُ أَثْبَتَهَا لِلْجَارِ فِي سِكَّةٍ غَيْرِ نَافِذَةٍ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ الشُّيُوعَ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ إنَّمَا شُرِعَتْ لِإِزَالَةِ الضَّرَرِ الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فِيمَا فِيهِ الشُّفْعَةُ وَهُوَ الْعَقَارُ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ نَحْوِ حَيَوَانِ الْحَائِطِ وَبَعْدَ الْقِسْمَةِ لَا ضَرَرَ، وَيُؤْخَذُ مِنْ مُقَابَلَةِ الشَّائِعِ بِالْأَجْزَاءِ الْمَسْمُومَةِ وَالْجَارُ تَنَاوَلَ الشَّائِعَ لِلِاشْتِرَاكِ بِأَذْرُعٍ، وَإِنْ كَانَ فِيهَا خِلَافٌ بَيْنَ مَالِكٍ وَأَشْهَبَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الشُّفْعَةُ مَا فِي الصَّحِيحِ وَغَيْرِهِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِي كُلِّ مَا لَمْ يُقْسَمْ، فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ وَصُرِفَتْ الطُّرُقُ فَلَا شُفْعَةَ» وَلِذَا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي وُجُوبِ الشُّفْعَةِ، وَفِي الْمُوَطَّإِ مُرْسَلًا: «قَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالشُّفْعَةِ فِيمَا لَمْ يَنْقَسِمْ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ فَإِذَا وَقَعَتْ الْحُدُودُ فَلَا شُفْعَةَ» . مَالِكٌ: ذَلِكَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا خِلَافَ فِيهَا عِنْدَنَا: وَفِي حَدِيثِ الْمُوَطَّإِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِي غَيْرِ الْعَقَارِ، لِأَنَّ ضَرْبَ الْحُدُودِ إنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَقَارِ، وَفِيهِ دَلِيلٌ أَيْضًا عَلَى أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ لِلْجَارِ، وَمَا احْتَجَّ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ عَلَى إثْبَاتِ الشُّفْعَةِ لِجَارٍ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقِبِهِ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «جَارُ الدَّارِ أَحَقُّ بِدَارِ جَارِهِ أَوْ بِالْأَرْضِ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْجَارُ أَحَقُّ بِالشُّفْعَةِ» وَيَنْتَظِرُ بِهَا ثَلَاثًا إنْ كَانَ غَائِبًا إذَا كَانَ الطَّرِيقُ وَاحِدًا مُجَابٌ عَنْهُ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَإِنَّ الْمُرَادَ أَحَقُّ بِمَعُونَتِهِ وَالْعَرْضُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ لِأَنَّ الصَّقَبَ الْقَرِيبُ، وَأَمَّا الثَّانِي فَمَحْمُولٌ عَلَى الْعَرْضِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَإِنَّا نَمْنَعُ صِحَّتَهُ سَلَّمْنَاهَا لَكِنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْعَرْضِ عَلَيْهِ قَبْلَ الْبَيْعِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: يَنْتَظِرُ بِهَا ثَلَاثًا، وَالشَّفِيعُ الْغَائِبُ لَا يَتَقَيَّدُ بِالثَّلَاثِ، عَلَى أَنَّ الشَّرِيكَ يُطْلَقُ عَلَيْهِ لَفْظُ الْجَارِ. (وَلَا) شُفْعَةَ أَيْضًا (فِي طَرِيقٍ) قُسِمَ مَتْبُوعُهَا (وَلَا) فِي (عَرْصَةِ دَارٍ قَدْ قُسِمَتْ بُيُوتُهَا) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الدَّارَ أَوْ الْأَرْضَ الْمُشْتَرَكَةَ بَيْنَ قَوْمٍ إذَا اقْتَسَمُوهَا وَتَرَكُوا الطَّرِيقَ مِنْ غَيْرِ قِسْمَةٍ لِلِانْتِفَاعِ بِهَا وَبَاعَ أَحَدُهُمْ مَا يَخُصُّهُ فِيهَا فَلَا شُفْعَةَ لِلْبَاقِينَ فِي الْمَبِيعِ مِنْ الطَّرِيقِ وَلَوْ أَمْكَنَ قَسْمُهُ، سَوَاءٌ بَاعَ حِصَّتَهُ فِي الطَّرِيقِ وَجَدَهَا أَوْ مَعَ مَا نَابَهُ مِنْ الدَّارِ، وَكَذَلِكَ الدَّارُ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى بُيُوتٍ وَعَرْصَةٍ، وَإِذَا قُسِمَتْ الْبُيُوتُ وَتُرِكَتْ الْعَرْصَةُ مُشْتَرَكَةً وَبَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ مَتْبُوعِهَا مِنْ الْبُيُوتِ لَا شُفْعَةَ فِيهَا، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالذَّاتِ مَتْبُوعُ الطَّرِيقِ وَالْعَرْصَةُ، قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: قَدْ قُسِمَتْ بُيُوتُهَا مَحْذُوفٌ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي، وَالْعَرْصَةُ هِيَ السَّاحَةُ الْخَالِيَةُ مِنْ الْبِنَاءِ تُجْمَعُ عَلَى عَرَصَاتٍ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ يَتَعَرَّصُونَ فِيهَا أَيْ يَتَفَسَّحُونَ. (وَلَا) شُفْعَةَ أَيْضًا (فِي فَحْلِ نَخْلٍ) أَيْ وَكَذَا لَا شُفْعَةَ فِي (بِئْرٍ إذْ قُسِمَتْ النَّخْلُ) رَاجِعٌ لِلْفَحْلِ (أَوْ الْأَرْضُ) رَاجِعٌ لِلْبِئْرِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ النَّخْلَ الْمُشْتَرَكَ إذَا قُسِمَتْ إنَاثُهُ وَبَقِيَ الْفَحْلُ عَلَى الشَّرِكَةِ ثُمَّ بَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهِ لِبَقِيَّةِ شُرَكَائِهِ وَلَوْ مَعَ نَصِيبِهِ مِنْ الْإِنَاثِ، وَكَذَا إذَا قُسِمَتْ الْأَرْضُ الَّتِي تُزْرَعُ عَلَى الْبِئْرِ وَبَقِيَتْ الْبِئْرُ عَلَى الشَّرِكَةِ وَبَاعَ أَحَدُهُمْ حِصَّتَهُ مِنْهَا لَا شُفْعَةَ لِشُرَكَائِهِ فِيهَا لِقَسْمِ مَتْبُوعِهَا وَهُوَ الْأَرْضُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ الشُّفْعَةِ فِي الْبِئْرِ إذَا قُسِمَتْ الْأَرْضُ ظَاهِرُهُ اتَّحَدَتْ الْبِئْرُ أَوْ تَعَدَّدَتْ وَهُوَ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ لِأَنَّ الْقَسْمَ بِمَنْعِ الشُّفْعَةِ، وَقَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: ثَابِتَةٌ، وَاخْتَلَفَ هَلْ مَا فِي الْكِتَابَيْنِ خِلَافٌ؟ وَعَلَيْهِ الْبَاجِيُّ؟ وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِالْوِفَاقِ، فَحَمَلَ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ مِنْ عَدَمِ الشُّفْعَةِ عَلَى الْبِئْرِ الْمُتَّحِدَةِ، وَمَا فِي الْعُتْبِيَّةِ عَلَى الْآبَارِ الْمُتَعَدِّدَةِ، أَوْ تُحْمَلُ الْمُدَوَّنَةِ عَلَى بِئْرٍ لَا فِنَاءَ لَهَا، وَالْعُتْبِيَّةُ عَلَى بِئْرٍ لَهَا فِنَاءٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَبِئْرٍ لَمْ تُقْسَمُ أَرْضُهَا وَإِلَّا فَلَا، وَأُوِّلَتْ أَيْضًا بِالْمُتَّحِدَةِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا فِيهِ الشُّفْعَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا شُفْعَةَ إلَّا فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهَا مِنْ الْبِنَاءِ وَالشَّجَرِ) وَنَحْوِهِمَا مِنْ الثِّمَارِ وَالْمَقَاثِي. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ مِنْ الْبِنَاءِ، فَظَاهِرُهُ شُمُولُ مَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ وَفِيهِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ أَنَّهُ لَا شُفْعَةَ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: عَقَارًا وَلَوْ مُنَاقَلًا بِهِ إنْ انْقَسَمَ وَفِيهَا الْإِطْلَاقُ، وَعَمِلَ بِهِ بَعْضُ الْقُضَاةِ فِي نَحْوِ الْفُرْنِ وَالْحَمَّامِ، وَمَنْشَأُ الْخِلَافِ فِي سَبَبِ الشُّفْعَةِ هَلْ هُوَ ضَرَرُ الشَّرِكَةِ أَوْ ضَرَرُ الْقِسْمَةِ إذَا طَلَبهَا الْبَعْضُ وَأَبَى غَيْرُهُ؟ فَمَنْ قَالَ بِالْأَوَّلِ أَثْبَتَهَا فِي الْجَمِيعِ، وَمَنْ قَالَ شُرِعَتْ لِدَفْعِ ضَرَرِ الْقِسْمَةِ مَنَعَهَا فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ، إذْ لَا يُجْبَرُ الْمُمْتَنِعُ لَهَا مِنْ طَلَبِهَا عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ أَوْ مَعَ الْإِمْكَانِ الَّذِي يَحْصُلُ مِنْهُ فَسَادُ الْمَقْسُومِ. الثَّانِي: أَشَرْنَا بِقَوْلِنَا: وَنَحْوِهِمَا مِنْ الثِّمَارِ وَالْمَقَاثِي إلَى مَا اسْتَحْسَنَهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ مِنْ ثُبُوتِ الشُّفْعَةِ فِي الثِّمَارِ، سَوَاءٌ بِيعَتْ مَعَ أَصْلِهَا أَوْ مُنْفَرِدَةً عَنْهُ فَإِنَّهُ قَالَ: مَا عَلِمْت أَحَدًا قَبْلِي مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 لِلْحَاضِرِ بَعْدَ السَّنَةِ وَالْغَائِبِ عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ. [مَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ] وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي. وَيُوقَفُ الشَّفِيعُ فَإِمَّا أَخَذَ أَوْ   [الفواكه الدواني] أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَهُ وَلَكِنِّي اسْتَحْسَنْته فَهِيَ إحْدَى مُسْتَحْسَنَاتِهِ الْأَرْبَعِ، وَأَلْحَقَ أَصْحَابُهُ بِالثِّمَارِ الْمَقَاثِيَ وَالْقُطْنَ وَالْبَاذِنْجَانَ وَالْقَرْعَ وَكُلَّ مَا تَجِيءُ ثَمَرَتُهُ مَعَ بَقَاءِ أَصْلِهِ فَفِيهِ الشُّفْعَةُ إلَّا أَنْ تَيْبَسَ الثَّمَرَةُ فَلَا شُفْعَةَ فِيهَا وَيَفُوزُ بِهَا الْمُشْتَرِي، وَثَانِيَتُهَا الْبِنَاءُ وَالشَّجَرُ بِالْأَرْضِ الْمُحْبَسَةِ أَوْ الْمُعَارَةِ، وَثَالِثَتُهَا الْقِصَاصُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَرَابِعَتُهَا فِي أُنْمُلَةِ الْإِبْهَامِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَهَذِهِ الْأَرْبَعُ اسْتَحْسَنَهَا الْإِمَامُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْبِقَهُ أَحَدٌ بِهَا. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِنْ قَصْرِ الشُّفْعَةِ عَلَى مَا ذَكَرَ عَدَمُ ثُبُوتِهَا فِيمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ الْبُقُولِ وَالزَّرْعِ، فَإِذَا بَاعَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ فِي الزَّرْعِ حِصَّتَهُ مِنْهُ بَعْد يُبْسِهِ فَلَا شُفْعَةَ لِشَرِيكِهِ، سَوَاءٌ بَاعَهَا مُنْفَرِدَةً أَوْ مَعَ الْأَرْضِ، وَتَكُونُ الشُّفْعَةُ فِي الْأَرْضِ دُونَ مَا فِيهَا مِنْ الزَّرْعِ بِمَا يَنُوبُهَا مِنْ الثَّمَنِ، وَفَرَّقَ فِي الْمُدَوَّنَةِ بَيْنَ الزَّرْعِ وَالثِّمَارِ بِأَنَّ النَّخْلَ إذَا بِيعَتْ وَفِيهَا ثَمَرٌ لَمْ يُؤَبَّرْ لَمْ يَجُزْ لِلْبَائِعِ اسْتِثْنَاؤُهُ، وَالْأَرْضُ إذَا بِيعَتْ وَفِيهَا زَرْعٌ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهُ يَكُونُ لِلْبَائِعِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يُسْقِطُ الشُّفْعَةَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا شُفْعَةَ لِلْحَاضِرِ) فِي بَلَدِ الشِّقْصِ يَوْمَ بَيْعِهِ وَلَوْ حَضَرَ الْعَقْدَ (بَعْدَ) انْقِضَاءِ (السَّنَةِ) وَمَا قَارَبَهَا عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ وَلَوْ كَتَبَ شَهَادَتَهُ عَلَى شَرِيكِهِ بِبَيْعِ حِصَّتِهِ، خِلَافًا لِتَفْصِيلِ ابْنِ رُشْدٍ بَيْنَ حُضُورِهِ لِلْعَقْدِ وَكِتَابَتِهِ خَطَّهُ فَتَسْقُطُ بِمُضِيِّ شَهْرَيْنِ، وَإِنْ لَمْ يَحْضُرْ عَقْدَ الشِّرَاءِ أَوْ حَضَرَ وَلَمْ يَكْتُبْ شَهَادَتَهُ فَبِمُضِيِّ سَنَةٍ وَلَوْ جَهِلَ كَوْنَ السُّكُوتِ مُسْقِطًا، وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ فِي مُخْتَصَرِهِ حَيْثُ قَالَ: أَوْ سَكَتَ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ شَهْرَيْنِ إنْ حَضَرَ الْعَقْدَ وَإِلَّا سَنَةً. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا يَكُونُ مُضِيُّ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ مُسْقِطًا لِشُفْعَةِ مَنْ حَضَرَ الْعَقْدَ إذَا كَانَ الشَّفِيعُ عَاقِلًا بَالِغًا رَشِيدًا عَالِمًا بِالْبَيْعِ وَلَا عُذْرَ لَهُ، وَإِلَّا اسْتَمَرَّ عَلَى شُفْعَتِهِ حَتَّى يَحْصُلَ الْعِلْمُ أَوْ يَزُولَ الْعُذْرُ فَيَنْزِلَ مَنْزِلَةَ مَنْ كَانَ حَاضِرَ الْعَقْدِ فَتَسْقُطُ شُفْعَتُهُ بَعْدَ السَّنَةِ وَمَا قَارَبَهَا. الثَّانِي: مَحَلُّ كَوْنِ الشَّفِيعِ عَلَى شُفْعَتِهِ فِي السَّنَةِ وَمَا قَارَبَهَا بِشَرْطِهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ إذَا لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ مَا يَدُلُّ عَلَى إسْقَاطِهَا وَإِلَّا سَقَطَتْ وَلَوْ قَبْلَ مُضِيِّ تِلْكَ الْمُدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَتْ إنْ قَاسَمَ أَوْ طَلَبَ مُقَاسَمَةَ الْمُشْتَرِي، وَإِنْ لَمْ يُقَاسِمْ بِالْفِعْلِ أَوْ اشْتَرَى أَوْ سَاوَمَ أَوْ سَكَتَ بِهَدْمٍ أَوْ بِنَاءٍ أَوْ اسْتَأْجَرَ حِصَّةَ الْمُشْتَرِي أَوْ بَاعَ حِصَّتَهُ. (وَ) مَفْهُومُ الْحَاضِرِ أَنَّ (الْغَائِبَ) عَنْ الْبَلَدِ يَوْمَ الْبَيْعِ يَسْتَمِرُّ (عَلَى شُفْعَتِهِ وَإِنْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ) أَوْ عَلِمَ بِبَيْعِ شَرِيكِهِ زَمَنَ غَيْبَتِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِبَيْعِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ حَتَّى غَابَ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَوْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ، فَإِذَا رَجَعَ بَعْدَ غَيْبَتِهِ كَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الْحَاضِرِ الْعَالِمِ بِالْبَيْعِ فَتَسْقُطُ شُفْعَتُهُ بَعْدَ سَنَةٍ وَمَا قَارَبَهَا مِنْ يَوْمِ قُدُومِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَلَى مَسَافَةٍ بَعِيدَةٍ أَوْ قَرِيبَةٍ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَقَيَّدَهَا أَشْهَبُ بِالْبَعِيدَةِ، وَأَمَّا الْقَرِيبَةُ الَّتِي لَا كُلْفَةَ عَلَيْهِ فِيهَا فَكَالْحَاضِرِ وَهُوَ الْجَارِي عَلَى قَوْلِهِمْ: وَالْقَرِيبُ كَالْحَاضِرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَاضِرًا بِالْبَلَدِ يَوْمَ الْبَيْعِ وَعَلِمَ بِبَيْعِ شَرِيكِهِ وَغَابَ بَعْدَ عِلْمِهِ وَقَبْلَ أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْحَاضِرِ الَّذِي لَمْ يَغِبْ تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ بِمُضِيِّ السَّنَةِ وَمَا قَارَبَهَا، إلَّا أَنْ يَحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يَغِبْ إلَّا لِظَنِّهِ الرُّجُوعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى شُفْعَتِهِ وَلَوْ طَالَتْ غَيْبَتُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: كَأَنْ عَلِمَ فَغَابَ إلَّا أَنْ يَظُنَّ الْأَوْبَةَ قَبْلَهَا فَعِيقَ وَحَلَفَ إنْ بَعُدَ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ غَيْبَةَ الشَّفِيعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ قَبْلَ الْبَيْعِ وَبَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ عِلْمٍ عَلَى شُفْعَتِهِ فِيهِمَا مُطْلَقًا بَعْدَ الْبَيْعِ، وَالْعِلْمُ يَكُونُ كَالْحَاضِرِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ سَافَرَ لِيَرْجِعَ سَرِيعًا فَعِيقَ، وَلَمَّا كَانَ الشِّقْصُ الْمَأْخُوذُ بِالشُّفْعَةِ قَدْ يُسْتَحَقُّ مِنْ يَدِ الشَّفِيعِ أَوْ يَظْهَرُ بِهِ عَيْبٌ، وَكَانَ الْمُشْتَرَى لَهُ كَالْبَائِعِ وَالشَّفِيعُ كَالْمُشْتَرِي. قَالَ: (وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ) كَائِنَةٌ (عَلَى الْمُشْتَرِي) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الشِّقْصَ إذَا اُسْتُحِقَّ مِنْ يَدِ الشَّفِيعِ أَوْ ظَهَرَ بِهِ عَيْبٌ يُوجِبُ الرَّدَّ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمُشْتَرِي، كَمَا يَرُدُّهُ بِالْعَيْبِ عَلَيْهِ كَمُشْتَرِي سِلْعَةٍ لَمْ يَعْلَمْ صِحَّةَ مِلْكِ بَائِعِهَا فَتُسْتَحَقُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِثَمَنِهَا عَلَى بَائِعِهَا وَيَرُدُّهَا بِالْعَيْبِ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ بِهِ حِينَ الشِّرَاءِ، فَالْمُرَادُ بِالْعُهْدَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رُجُوعُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي بِالثَّمَنِ عِنْدَ الرَّدِّ بِالْعَيْبِ، وَدَرْكُ الِاسْتِحْقَاقِ أَيْ لُحُوقُهُ لِأَنَّ الدَّرْكَ هُوَ اللُّحُوقُ، يُقَالُ: أَدْرَكَ فُلَانٌ فُلَانًا إذَا لَحِقَهُ، فَدَرْكٌ اسْمُ مَصْدَرٍ إنْ كَانَ الْفِعْلُ أَدْرَكَ، وَمَصْدَرٌ إنْ ثَبَتَ فِي اللُّغَةِ أَنَّ الْفِعْلَ دَرَكَ بِفَتْحِ الرَّاءِ، وَتَفْسِيرُ الدَّرْكِ بِاللُّحُوقِ لَعَلَّهُ بِحَسَبِ اللُّغَةِ، وَإِلَّا فَالْمُرَادُ هُنَا ظُهُورُ الِاسْتِحْقَاقِ وَالْعَيْبِ، فَمَعْنَى قَوْلِهِمْ الدَّرْكُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَنَّ أَثَرَهُ عَلَيْهِ وَهُوَ الرُّجُوعُ بِالثَّمَنِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَمَّا لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الشَّفِيعُ إلَّا بَعْدَ تَعَدُّدِ الْبِيَاعَاتِ، وَأَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأَخَذَ بِأَيِّ بَيْعٍ وَعُهْدَتُهُ عَلَيْهِ وَنَقَضَ مَا بَعْدَهُ وَمَحَلُّ تَخْيِيرِهِ إذَا لَمْ يَعْلَمْ بِتَعَدُّدِهَا أَوْ عَلِمَ فِي غَيْبَتِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَاضِرًا عَالِمًا بِتَعَدُّدِهَا فَإِنَّمَا لَهُ الْأَخْذُ بِالْأَخِيرِ لِأَنَّ سُكُوتَهُ مَعَ عِلْمِهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ رَضِيَ بِشَرِكَةِ غَيْرِ الْأَخِيرِ، وَعُهْدَتُهُ عَلَى مَنْ أَخَذَ بِبَيْعَةٍ مِنْ الْمُشْتَرِيَيْنِ وَيَدْفَعُ الثَّمَنَ لِمَنْ بِيَدِهِ الشِّقْصُ، فَإِنْ اتَّفَقَ الثَّمَنَانِ فَلَا إشْكَالَ، وَإِنْ اخْتَلَفَا فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَكْثَرَ كَمَا إذَا كَانَ عِشْرِينَ مَثَلًا وَالْأَخِيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 تَرَكَ. وَلَا تُوهَبُ الشُّفْعَةُ وَلَا تُبَاعُ. وَتُقْسَمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ. وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ وَلَا صَدَقَةٌ وَلَا حَبْسٌ إلَّا بِالْحِيَازَةِ. [أَحْكَام الْهِبَة] فَإِنْ   [الفواكه الدواني] عَشَرَةٌ فَإِنْ أَخَذَ بِالْأَوَّلِ دَفَعَ لِلْأَخِيرِ عَشَرَةً وَيَدْفَعُ الْعَشَرَةَ الْأُخْرَى لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ بِالْعَكْسِ دَفَعَ لَهُ عَشَرَةً وَيَرْجِعُ عَلَى بَائِعِهِ. الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِهِ: وَعُهْدَةُ الشَّفِيعِ عَلَى الْمُشْتَرِي مَسْأَلَتَانِ الْعُهْدَةُ فِيهِمَا لَيْسَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي بَلْ عَلَى الْبَائِعِ، إحْدَاهُمَا: أَنْ يَشْتَرِيَ عَامِلُ الْقِرَاضِ بِمَالِ الْقِرَاضِ شِقْصًا هُوَ شَفِيعُهُ. وَثَانِيَتُهُمَا: أَنْ يَشْتَرِيَ بِمَالِ الْقِرَاضِ شِقْصًا وَرَبُّ الْمَالِ هُوَ شَفِيعُهُ فَإِنَّ عُهْدَةَ الشَّفِيعِ فِي هَاتَيْنِ عَلَى الْبَائِعِ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ، لِأَنَّهَا لَوْ كَانَتْ عَلَى الْمُشْتَرِي فِيهِمَا لَضَاعَ الثَّمَنُ عَلَى دَافِعِهِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ الْحَاضِرِ فِي بَلَدِ الْعَقْدِ عَلَى شُفْعَتِهِ إلَى انْقِضَاءِ السَّنَةِ وَمَا قَارَبَهَا أَنَّهُ لَيْسَ لِلْمُشْتَرِي إيقَافُ الشَّفِيعِ وَطَلَبُهُ لِيَأْخُذَ أَوْ يُسْقِطَ حَقَّهُ قَالَ: (وَيُوقِفُ) الْمُشْتَرِي (الشَّفِيعَ) مَفْعُولُ يُوقِفُ بَعْدَ الشِّرَاءِ وَلُزُومِهِ (فَإِمَّا أَخَذَ أَوْ تَرَكَ) فَإِنْ أَخَذَ لَزِمَهُ الثَّمَنُ وَلَوْ دَيْنًا أَوْ قِيمَتُهُ إنْ كَانَ مُقَوَّمًا بِرَهْنِهِ وَضَامِنِهِ وَأُجْرَةِ دَلَّالٍ وَعَقْدِ شِرَاءٍ وَفِي الْمَكْسِ تَرَدُّدٌ، وَقِيمَةُ الشِّقْصِ فِي كَخَلْعٍ وَصُلْحِ عَمْدٍ وَجُزَافِ نَقْدٍ، وَقَوْلُنَا: بَعْدَ وُقُوعِ الشِّرَاءِ لِأَنَّهُ لَا يُطَالَبُ قَبْلَ الْبَيْعِ وَلَا بَعْدَهُ وَقَبْلَ لُزُومِهِ لِأَنَّهُ لَوْ طَالَبَهُ وَأَسْقَطَ حَقَّهُ لَمْ يَلْزَمْهُ الْإِسْقَاطُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَطُولِبَ بِالْأَخْذِ بَعْدَ اشْتِرَائِهِ لَا قَبْلَهُ وَلَمْ يَلْزَمْهُ إسْقَاطُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ إسْقَاطِ الشَّيْءِ قَبْلَ وُجُوبِهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَنْ قَالَ لِعَبْدٍ: إنْ مَلَكْتُك فَأَنْتَ حُرٌّ، أَوْ إنْ تَزَوَّجْتُك فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَلْزَمُ مَعَ أَنَّهُ قَبْلَ الْوُجُوبِ لِتَشَوُّفِ الشَّارِعِ لِلْحُرِّيَّةِ فِي الْعِتْقِ وَلِلِاحْتِيَاطِ فِي الْفُرُوجِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَيُوقَفُ الشَّفِيعُ أَنَّهُ يُوقِفُهُ بِنَفْسِهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ وَإِنَّمَا يُوقِفُهُ عِنْدَ الْحَاكِمِ لِيُجْبِرَهُ عِنْدَ سُكُوتِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْأَخْذِ أَوْ التَّرْكِ، وَإِذَا اخْتَارَ الشَّفِيعُ الْأَخْذَ بِالشُّفْعَةِ وَوَجَدَ الْمُشْتَرِي قَدْ وَهَبَ الشِّقْصَ أَوْ حَبَسَهُ فَإِنَّ لَهُ نَقْضَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ نَقْضُ وَقْفٍ كَهِبَةٍ وَصَدَقَةٍ وَلَوْ بَنَاهُ مَسْجِدًا، وَتُجْعَلُ الْأَنْقَاضُ فِي حَبْسٍ آخَرَ، وَثَمَنُ الْمَوْهُوبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ إنْ عَلِمَ الْمُشْتَرِي أَنَّ لَهُ شَفِيعًا. الثَّانِي: إذَا طَلَبَ الشَّفِيعُ الْمُهْلَةَ عِنْدَ إيقَافِهِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَعْجَلَ إنْ قَصَدَ ارْتِيَاءً أَوْ نَظَرًا لِلْمُشْتَرِي إلَّا كَسَاعَةٍ، وَاخْتُلِفَ فِي تَصَرُّفِ الْمُشْتَرِي قَبْلَ الْإِيقَافِ. وَفِي شَرْحِ شَيْخِنَا: لَا يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي تَرْكُ التَّصَرُّفِ حَتَّى يَعْلَمَ الشَّفِيعُ، وَلَا يَجِبُ عَلَى الْبَائِعِ تَرْكُ الْبَيْعِ حَتَّى يَعْلَمَ الْمُشْتَرِي وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ خِلَافًا لِفَتْوَى ابْنِ رِزْقٍ. وَفِي شَرْحِ الْأُجْهُورِيِّ: لَا يَجُوزُ لِلْمُشْتَرِي التَّصَرُّفُ قَبْلَ إيقَافِ الشَّفِيعِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تُوهَبَ الشُّفْعَةُ وَلَا تُبَاعُ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلشَّفِيعِ قَبْلَ أَخْذِهِ بِالشُّفْعَةِ أَنْ يَهَبَ أَوْ يَبِيعَ الشِّقْصَ الَّذِي لَهُ فِيهِ الشُّفْعَةُ لِغَيْرِ الْمُشْتَرِي، وَأَمَّا لِلْمُشْتَرِي فَتَجُوزُ الْهِبَةُ دُونَ الْبَيْعِ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ الْأَخْذِ بِالشُّفْعَةِ لَا قَبْلَهُ لِمَا فِيهِ مِنْ بَيْعِ مَا لَيْسَ عِنْدَك وَلَكِنْ لَا تَسْقُطُ شُفْعَتُهُ، كَمَا أَنَّهُ لَوْ وَهَبَهَا لِشَخْصٍ قَبْلَ الشِّرَاءِ لَهُ الرُّجُوعُ فِي الْهِبَةِ وَيَأْخُذُ بِالشُّفْعَةِ. (وَ) إذَا تَعَدَّدَ الشَّفِيعُ فَإِنَّ الْحِصَّةَ الْمَأْخُوذَةَ بِالشُّفْعَةِ (تُقَسَّمُ بَيْنَ الشُّرَكَاءِ بِقَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ) عِنْدَ اخْتِلَافِهَا، فَإِذَا كَانَتْ دَارٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ ثَلَاثَةٍ لِوَاحِدٍ نِصْفُهَا، وَلِآخَرَ ثُلُثُهَا، وَلِلثَّالِثِ سُدُسُهَا، فَبَاعَ صَاحِبُ الثُّلُثِ ثُلُثَهُ لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ، فَإِنَّ الثُّلُثَ يُقَسَّمُ بَيْنَ الشَّرِيكَيْنِ أَرْبَاعًا، لِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةُ أَرْبَاعِهِ وَلِصَاحِبِ السُّدُسِ الرُّبُعُ الْبَاقِي، وَأَمَّا لَوْ لَمْ تَخْتَلِفْ الْأَنْصِبَاءُ فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى الرُّءُوسِ كَمَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرَكُ مِمَّا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ كَطَاحُونٍ وَمَعْصَرَةٍ وَفُرْنٍ عَلَى الْقَوْلِ بِالشُّفْعَةِ فَإِنَّهَا تُقَسَّمُ عَلَى الرُّءُوسِ اتِّفَاقًا، وَقَوْلُنَا: لِغَيْرِ الشُّرَكَاءِ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي بَعْضَ الشُّرَكَاءِ لَتَرَكَ لَهُ حِصَّتَهُ الَّتِي كَانَ يَأْخُذُهَا لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا. قَالَ خَلِيلٌ: وَهِيَ عَلَى الْأَنْصِبَاءِ وَتَرَكَ لِلشَّرِيكِ حِصَّةً، فَإِذَا كَانَتْ دَارٌ بَيْنَ أَرْبَعَةٍ لِأَحَدِهِمْ الرُّبُعُ وَلِآخَرَ الثُّمُنُ وَلِآخَرَ الثُّمُنُ أَيْضًا وَلِآخَرَ النِّصْفُ فَبَاعَهُ لِصَاحِبِ الرُّبُعِ فَإِنَّ لِصَاحِبَيْ الثُّمُنَيْنِ أَنْ يَأْخُذَا بِالشُّفْعَةِ نِصْفَ الْمَبِيعِ وَبَاقِيهِ لِمُشْتَرِيهِ لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُهُ لَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي أَجْنَبِيًّا. (تَنْبِيهٌ) كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الشُّرَكَاءِ غَيْرِ الْوَرَثَةِ، وَإِلَّا فَيَخْتَصُّ بِالشُّفْعَةِ الْمُشَارِكُ لِلْبَائِعِ فِي سَهْمِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُدِّمَ مُشَارِكُهُ فِي السَّهْمِ وَإِنْ كَانَ لِأَبٍ أَخَذَتْ سُدُسًا، وَإِذَا كَانَ فِي الْوَرَثَةِ زَوْجَاتٌ وَأَخَوَاتٌ مَثَلًا فَبَاعَتْ إحْدَى الزَّوْجَاتِ فَحِصَّتُهَا بَيْنَ بَقِيَّةِ الزَّوْجَاتِ وَلَا دُخُولَ لِغَيْرِهِنَّ مِنْ الْأَخَوَاتِ إلَّا إذَا أَسْقَطَ الْمُشَارِكُ فِي السَّهْمِ حَقَّهُ مِنْ الشُّفْعَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الشُّفْعَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْهِبَةِ وَقَدَّمَ تَعْرِيفَهَا فَقَالَ: (وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ) لِوَجْهِ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ أَوْ لِقَصْدِ الثَّوَابِ فِي الدُّنْيَا. (وَلَا صَدَقَةٌ) وَهِيَ الْعَطِيَّةُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ أَوْ لَهُ مَعَ وَجْهِ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ. (وَلَا حُبُسٌ) وَهُوَ مَا أُعْطِيت مَنْفَعَتُهُ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَارِيَّةِ وَلَا الْعُمْرَى بَلْ عَلَى وَجْهِ الْوَقْفِيَّةِ (إلَّا بِالْحِيَازَةِ) قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ مِنْهَا، وَحَقِيقَتُهَا فِي عَطِيَّةِ غَيْرِ الِابْنِ رَفْعُ تَصَرُّفِ الْمُعْطَى فِي الْعَطِيَّةِ بِصَرْفِ التَّمَكُّنِ مِنْهُ لِلْمُعْطِي أَوْ نَائِبِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ لِلْحَوْزِ فِي الْحُبُسِ وَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالرَّهْنِ وَسَائِرِ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا، فَلَوْ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ لَمْ تَنْفَعْ تِلْكَ الشَّهَادَةُ حَتَّى تَشْهَدَ عَلَى الْقَبْضِ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ شَرْطٌ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 مَاتَ قَبْلَ أَنْ تُحَازَ عَنْهُ فَهِيَ مِيرَاثٌ. إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ فِي الْمَرَضِ فَذَلِكَ نَافِذٌ مِنْ الثُّلُثِ إنْ كَانَ لِغَيْرِ وَارِثٍ. وَالْهِبَةُ   [الفواكه الدواني] الْقَبُولُ وَالْحِيَازَةُ مُعْتَبَرَانِ إلَّا أَنَّ الْقَبُولَ رُكْنٌ وَالْحِيَازَةُ شَرْطٌ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَتْ خَوْفًا مِنْ قَوْلِ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ فِي مَرَضِهِ: ادْفَعُوا لِفُلَانٍ كَذَا فَإِنِّي كُنْت وَهَبْت لَهُ قَبْلَ مَرَضِي فَيُحْرَمُ الْوَارِثُ وَهَذَا لَا يَجُوزُ، وَقَوْلُنَا: قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ الْمُرَادُ بِهِ الْمَرَضُ وَالْمَوْتُ وَالْفَلَسُ وَالْجُنُونُ كَمَا تَأْتِي الْإِشَارَةُ إلَيْهِ، وَقَوْلُنَا: فِي عَطِيَّةِ غَيْرِ الِابْنِ احْتِرَازًا عَنْ عَطِيَّةِ الْأَبِ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ وَمِثْلُ الْأَبِ الْوَصِيُّ عَلَى يَتِيمٍ. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا لِمَحْجُورِهِ إذَا شَهِدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ لَهُ وَلَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ فَتَصِحُّ الْعَطِيَّةُ لِهَؤُلَاءِ، وَلَوْ اسْتَمَرَّتْ تَحْتَ يَدِ الْمُعْطِي إلَى مَوْتِهِ أَوْ فَلَسِهِ حَيْثُ وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى التَّصْوِيرِ لِأَنَّهُ حُكْمٌ عَلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بِأَنَّهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ قَبْلَ تَصْوِيرِهَا لِلطَّالِبِ وَهَذَا جَائِزٌ، وَإِنَّمَا الْمُمْتَنِعُ تَقْدِيمُ الْحُكْمِ عَلَى التَّصَوُّرِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ نَحْوِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَالْحُكْمُ النَّدْبُ لِأَنَّهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعْرُوفِ وَالْإِحْسَانِ، وَالْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ دَلَّتْ عَلَى نَدْبِهَا. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} [النحل: 90] {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177] وَ {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 271] الْآيَاتِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ: «مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ تَمْرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ وَلَا يَقْبَلُ اللَّهُ إلَّا الطَّيِّبَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتَقَبَّلُهَا بِيَمِينِهِ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فَلُوَّهُ حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ» . وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَتُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ وَتَدْفَعُ مِيتَةَ السُّوءِ» . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ وَحَكَى ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُهُ الْإِجْمَاعَ عَلَى نَدْبِهَا، وَلَكِنْ يَتَأَكَّدُ نَدْبُهَا عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَكَوْنُهَا مِنْ أَنْفَسِ الْمَالِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا لِأَرْكَانِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: الْمُعْطِي وَالْمُعْطَى لَهُ وَالشَّيْءُ الْمُعْطَى وَالصِّيغَةُ، فَأَمَّا الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِمَا يُرِيدُ أَنْ يَهَبَهُ، فَدَخَلَ الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فِي الثُّلُثِ، وَيَخْرُجُ الْمَحْجُورُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا كَهُمَا فِي زَائِدِ الثُّلُثِ، وَأَمَّا الْمُعْطَى لَهُ فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَصِحُّ لَهُ تَمَلُّكُ الْعَطِيَّةِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَمِرَّ مِلْكُهُ فَتَدْخُلُ عَطِيَّةُ الرَّقِيقِ لِمَنْ يَعْتِقُ عَلَيْهِ، فَإِنَّهُ يَعْتِقُ بِمُجَرَّدِ الْمِلْكِ حَيْثُ عَلِمَ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ أَوْ قَبِلَ الْمُعْطَى بِالْفَتْحِ وَأَمَّا الشَّيْءُ الْمُعْطَى فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يَقْبَلُ النَّقْلَ فِي الْجُمْلَةِ، فَيَشْمَلُ كَلْبَ الصَّيْدِ وَجِلْدَ الْأُضْحِيَّةِ وَالْأَشْيَاءَ الْمَجْهُولَةِ، وَيَخْرُجُ الِاسْتِمْتَاعُ بِالزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ وَالشُّفْعَةِ وَرَقَبَةِ الْمُكَاتَبِ وَالْحُبُسِ فَلَا تَصِحُّ هِبَةُ شَيْءٍ مِنْهَا. وَأَمَّا الصِّيغَةُ فَهِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى تَمْلِيكِ الرَّقَبَةِ لِلْمُعْطَى لَهُ وَلَوْ فِعْلًا، كَدَفْعِ دِينَارٍ لِفَقِيرٍ، وَكَنِحْلَةِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ. الرَّابِعُ مِنْ التَّنْبِيهَاتِ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ إلَخْ أَنَّ الْمَذْكُورَاتِ تَصِحُّ وَتَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ أَوْ الْفِعْلِ الدَّالِّ عَلَيْهَا، وَيَقْضِي عَلَى الْفَاعِلِ بِدَفْعِهَا عَلَى الْمَذْهَبِ وَلَيْسَ لَهُ رُجُوعٌ فِيهَا، وَلِلْمُعْطَى لَهُ أَنْ يَحُوزَهَا وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إذْنِ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ وَإِنَّمَا لَزِمَتْ بِمُجَرَّدِ عَقْدِهَا لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ وَقَعَتْ بِإِيجَابٍ وَقَبُولٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الصَّحِيحَيْنِ: «الْعَائِدُ فِي هِبَتِهِ كَالْكَلْبِ يَعُودُ فِي قَيْئِهِ» حَيْثُ شَبَّهَ الرَّاجِعَ فِيهَا بِالْكَلْبِ وَالْمَرْجُوعَ فِيهِ بِالْقَيْءِ، وَذَلِكَ غَايَةُ التَّنْفِيرِ الْمُقْتَضِي لِلْمَنْعِ. الْخَامِسُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَا تَتِمُّ هِبَةٌ إلَخْ يُوهِمُ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى تِلْكَ الثَّلَاثِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ مِثْلُهَا بَقِيَّةُ الْعَطَايَا كَالنِّحْلَةِ وَالْمِنْحَةِ وَالْعَرِيَّةِ وَالْهَدِيَّةِ وَالْإِسْكَانِ وَالْعَارِيَّةِ وَالْإِرْفَاقِ وَالْعِدَّةِ وَالْإِخْدَامِ وَالصِّلَةِ وَالرَّهْنِ وَالْعُمْرَى وَالْإِحْبَاءِ فَلَا تَتِمُّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: وَضَعَتْ الْعَرَبُ لِأَنْوَاعِ الْإِرْفَاقِ أَسْمَاءً مُخْتَلِفَةً، فَالْعَارِيَّةُ لِتَمْلِيكِ الْمَنَافِعِ بِغَيْرِ عِوَضٍ وَبِعِوَضِ إجَارَةٍ، وَالرُّقْبَى إعْطَاءُ الْمَنْفَعَةِ لِمُدَّةٍ أَقْصَرُهُمَا عُمْرًا لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَرْقُبُ مَوْتَ صَاحِبِهِ، وَالْعُمْرَى تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ مُدَّةَ عُمْرِهِ فَهُمَا أَخَصُّ مِنْ الْعَارِيَّةِ، وَالْإِفْقَارُ عَارِيَّةُ الظَّهْرِ الْمَرْكُوبِ مَأْخُوذٌ مِنْ فَقَارِهِ وَهُوَ عِظَامُ سِلْسِلَتِهِ، أَوْ لِإِسْكَانِ هِبَةِ مَنَافِعِ الدَّارِ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، وَالْمِنْحَةُ هِبَةُ لَبَنِ الشَّاةِ، وَالْعَرِيَّةُ هِبَةُ ثَمَرَةِ النَّخْلِ، وَالْوَصِيَّةُ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْمَنْحُ وَالْعَطَاءُ يَعُمُّ الْجَمِيعَ، انْتَهَى كَلَامُ الذَّخِيرَةِ. وَالنِّحْلَةُ مَصْدَرُ نَحَلْته أَعْطَيْته فَهِيَ الْعَطِيَّةُ، وَالْهَدِيَّةُ وَاحِدَةُ الْهَدَايَا وَالْمِهْدَى بِكَسْرِ الْمِيمِ مَا يُهْدَى فِيهِ كَالطَّبَقِ وَنَحْوِهِ. قَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ: وَلَا يُسَمَّى مِهْدَى إلَّا وَفِيهِ مَا يُهْدَى، وَالْإِرْفَاقُ النَّفْعُ يُقَالُ أَرْفَقْته نَفَعْته، وَالْمُرْفَقُ مِنْ الْإِرْفَاقِ مَا ارْتَفَقْت بِهِ أَيْ انْتَفَعْت بِهِ، وَالْعِدَةُ جَمْعُهَا عِدَاتٌ مَصْدَرُ وَعَدَ فَهِيَ الْوَعْدُ فَالْهَاءُ عِوَضٌ مِنْ الْوَاوِ، وَالْإِخْدَامُ إعْطَاءُ خَادِمٍ غُلَامٍ أَوْ جَارِيَةٍ، وَالصِّلَةُ الْعَطِيَّةُ، وَالْحِبَاءُ بِكَسْرِ الْحَاءِ، وَالْمَدِّ الْعَطَاءُ، وَالرَّهْنُ مَعْرُوفٌ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ قَصْدًا لِنَفْعِ الطَّالِبِ لِعِزَّةِ بَيَانِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى شَرْطِيَّةِ الْحَوْزِ قَوْلُهُ: (فَإِنْ مَاتَ) الْوَاهِبُ أَوْ الْمُتَصَدِّقُ أَوْ الْمُحْبِسُ أَوْ الْمُعْمِرُ بِالْكَسْرِ أَوْ غَيْرُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ عَطِيَّةٌ (قَبْلَ أَنْ تُحَازَ عَنْهُ) تِلْكَ الْمَذْكُورَاتُ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ سِوَى عَطِيَّةِ الْوَلِيِّ لِمَحْجُورِهِ. (فَهِيَ مِيرَاثٌ) لِبُطْلَانِهَا بِالْمَوْتِ قَبْلَ تَمَامِهَا بِالْحَوْزِ، وَمِثْلُ مَوْتِ الْوَاهِبِ أَوْ الْوَاقِفِ إحَاطَةُ الدُّيُونِ بِمَالِهِ أَوْ جُنُونُهُ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 لِصِلَةِ الرَّحِمِ أَوْ لِفَقِيرِ كَالصَّدَقَةِ لَا رُجُوعَ فِيهَا وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ. وَلَهُ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ مَا لَمْ يُنْكِحْ لِذَلِكَ أَوْ يُدَايَنْ أَوْ يُحْدِثُ فِي الْهِبَةِ حَدَثًا. وَالْأُمُّ تَعْتَصِرُ مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا فَإِذَا مَاتَ لَمْ   [الفواكه الدواني] مَرَضُهُ الْمُتَّصِلُ بِمَوْتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَتْ إنْ تَأَخَّرَ لِدَيْنٍ مُحِيطٍ أَوْ وُهِبَتْ لِثَانٍ وَجَازَ أَوْ أَعْتَقَ الْوَاهِبُ أَوْ اسْتَوْلَدَ، وَلَا قِيمَةَ عَلَى الْوَاهِبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ مِنْ الْفُرُوعِ الثَّلَاثَةِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ بُطْلَانُ الْهِبَةِ وَمَا مَعَهَا بِمُجَرَّدِ الْمَوْتِ وَلَوْ وُجِدَ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي حَوْزِهَا وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمَذْهَبُ مَا عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ مِنْ أَنَّهُ إنْ جَدَّ وَسَارَعَ فِي حَوْزِهَا فَمَاتَ لَمْ تَبْطُلْ وَلَفْظُهُ: وَصَحَّ إنْ قَبَضَ لِيَتَرَوَّى أَوْجَدَ فِي الْقَبْضِ أَوْ فِي تَزْكِيَةِ شَاهِدِ الْهِبَةِ عِنْدَ إنْكَارِ الْوَاهِبِ فَلَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى مَاتَ أَوْ فَلِسَ أَوْ جُنَّ أَوْ مَرِضَ فَلَا تَبْطُلُ كَمَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَاسْتَشْهَدَ لِذَلِكَ بِالْمُفْلِسِ إذَا خَاصَمَهُ الرَّجُلُ فِي عَيْنِ سِلْعَةٍ ثُمَّ مَاتَ الْمُفْلِسُ أَنَّ رَبَّهَا أَحَقُّ بِهَا إنْ ثَبَتَ بِبَيِّنَةٍ أَنَّهَا لَهُ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَيْسَ لَهُ إيقَافُهَا إلَّا فِي الْبَيِّنَةِ الْقَرِيبَةِ مِثْلُ السَّاعَةِ، وَأَمَّا الْبَيِّنَةُ الْبَعِيدَةُ فَلَا يُحَالُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ رَبِّهَا إلَّا مَعَ شَاهِدٍ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ بُطْلَانِ الْمَذْكُورَاتِ بِالْمَوْتِ قَبْلَ الْحَوْزِ فِي غَيْرِ الْوَاقِعِ مِنْهَا فِي حَالِ الْمَرَضِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْهِبَةِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا صَدَرَ مِنْ الْمُعْطِي (فِي) حَالِ (الْمَرَضِ) الْمُتَّصِلِ بِمَوْتِهِ (فَذَلِكَ) التَّبَرُّعُ الْوَاقِعُ بِلَفْظِ الْهِبَةِ أَوْ الصَّدَقَةِ أَوْ الْحُبُسِ فِي حَالِ الْمَرَضِ (نَافِذٌ مِنْ الثُّلُثِ) لِأَنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الْوَصِيَّةِ وَهِيَ لَا تَبْطُلُ بِالْمَوْتِ وَتَكُونُ مِنْ الثُّلُثِ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إنْ كَانَ) الْإِعْطَاءُ (لِغَيْرِ وَارِثٍ) لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ بِالثُّلُثِ كَبُطْلَانِهَا لِغَيْرِهِ بِأَزْيَدَ مِنْ الثُّلُثِ، وَإِنْ أَجَازَ الْوَارِثُ الْبَاطِلَةَ كَانَتْ ابْتِدَاءَ عَطِيَّةٍ مِنْهُ، وَقَيَّدْنَا الْمَرَضَ بِالْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ صَحَّ مِنْهُ فَإِنَّ جَمِيعَ مَا صَدَرَ مِنْهُ وَلَوْ بِأَكْثَرَ مِنْ الثُّلُثِ، أَوْ كَانَتْ لِوَارِثٍ صَحِيحٍ لَازِمٍ يَجِبُ عَلَيْهِ تَنْفِيذُهُ لَا حَجْرَ عَلَيْهِ بِسَفَهٍ وَلَا دَيْنٍ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَا دَامَ صَحِيحًا رَشِيدًا لَهُ التَّبَرُّعُ بِجَمِيعِ مَالِهِ عَلَى كُلِّ مَنْ أَحَبَّ، وَلَمَّا كَانَتْ الْعَطِيَّةُ تَلْزَمُ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ وَيَقْضِي عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا وَمَا هَذَا شَأْنُهُ لَا يَرْجِعُ فِيهِ، شَرَعَ يُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْهِبَةُ لِصِلَةِ الرَّحِمِ) وَهُوَ مَنْ يُحَرَّمُ نِكَاحُهُ وَلَوْ غَنِيًّا. (أَوْ لِفَقِيرٍ) أَوْ صَالِحٍ أَوْ يَتِيمٍ (كَالصَّدَقَةِ) فِي أَنَّهَا (لَا رُجُوعَ فِيهَا) لِأَنَّهَا لِقَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَلَا مَفْهُومَ لِلرَّحِمِ، بَلْ كُلُّ مَا يَكُونُ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ لَا رُجُوعَ فِيهِ وَلَوْ مِنْ وَالِدٍ لِوَلَدِهِ، وَلَعَلَّهُ إنَّمَا ذَكَرَ الرَّحِمَ لِتَنْبِيهٍ عَلَى أَنَّهُمْ أَوْلَى بِفِعْلِ الْمَعْرُوفِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُبْسَطَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي أَجَلِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» أَيْ يُعْطِيهِمْ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْهِبَةَ لَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ وَلَا لِلْفَقِيرِ بِأَنْ تَكُونَ لِأَجْنَبِيٍّ غَنِيٍّ لَا تَكُونُ كَالصَّدَقَةِ وَلِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِيهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْهِبَةَ تَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَيُقْضَى بِهَا وَلَا يَحِلُّ الرُّجُوعُ فِيهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً ثُمَّ يَعُودَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدَ» كَمَا يَأْتِي ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا قَبْلَهُ، وَلِذَا كَانَ الْأَوْلَى الْإِتْيَانَ بِالْفَاءِ فَقَالَ: (وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ) لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ وَكَذَلِكَ الْكَبِيرُ (فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَيْهِ) فِيمَا تَصَدَّقَ بِهِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّدَقَةَ لَا رُجُوعَ فِيهَا إلَّا لِشَرْطٍ. وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ) أَيْ لِلْأَبِ دَنِيَّةً (أَنْ يَعْتَصِرَ) أَيْ يَأْخُذَ قَهْرًا (مَا وَهَبَ لِوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْكَبِيرِ) لَا لِصِلَةِ الرَّحِمِ وَلَا لِفَقْرِهِ وَلَا لِقَصْدِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ بَلْ وَهَبَهُ لِوَجْهِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَهَبَ هِبَةً ثُمَّ يَعُودَ فِيهَا إلَّا الْوَالِدَ» . وَفِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَعْتَصِرُ الْأَبَوَانِ مَا تَصَدَّقَا بِهِ عَلَى وَلَدٍ صَغِيرٍ أَوْ كَبِيرٍ، وَأَمَّا الْهِبَةُ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا وَلَمْ يُرِدْ بِهِ ثَوَابَ الْآخِرَةِ فَلِلْأَبِ اعْتِصَارُهُ مِنْ وَلَدِهِ، وَأَمَّا الْحُبُسُ فَهُوَ كَالصَّدَقَةِ لَا رُجُوعَ فِيهِ إلَّا بِشَرْطِ الرُّجُوعِ فَيَعْمَلُ بِهِ فِي الصَّدَقَةِ وَالْحُبُسِ، وَقَوْلُنَا دَنِيَّةً لِإِخْرَاجِ الْجَدِّ، فَلَا يَحِلُّ أَنْ يَعْتَصِرَ مَا وَهَبَهُ لِوَلَدِ وَلَدِهِ، وَمَحَلُّ رُجُوعِ الْأَبِ فِي هِبَتِهِ لِوَلَدِهِ (مَا لَمْ يُنْكِحْ) الْوَلَدَ (لِذَلِكَ) أَيْ لِأَجْلِ الْمَالِ الْمَوْهُوبِ (أَوْ يُدَانُ) أَيْ يُعْطِي دَيْنًا لِأَجْلِهَا. (أَوْ يَحْدُثْ فِي الْهِبَةِ حَدَثٌ) أَيْ حَادِثٌ يُنْقِصُهَا فِي ذَاتِهَا أَوْ يَزِيدُهَا فَإِنَّهَا تَفُوتُ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ لَهُ اعْتِصَارُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْأَبِ اعْتِصَارُهَا مِنْ وَلَدِهِ فَقَطْ، إلَى أَنْ قَالَ: إنْ لَمْ تَفُتْ بِحَوَالَةِ سُوقٍ بَلْ يَزِيدُ أَوْ نَقَصَ، وَلَمْ يَنْكِحْ أَوْ يُدَايَنْ لَهَا أَوْ يَطَأْ ثَيِّبًا أَوْ يَمْرَضْ كَوَاهِبٍ إلَّا أَنْ يَهَبَ عَلَى هَذِهِ الْأَحْوَالِ، أَوْ يَزُولَ الْمَرَضُ أَوْ النَّقْصُ أَوْ يَرْجِعَ الزَّبَدُ فَإِنَّهُ يَعُودُ الِاعْتِصَارُ، وَلَا فَرْقَ فِي النَّقْصِ بَيْنَ الْحِسِّيِّ كَهُزَالِ الْحَيَوَانِ الَّذِي كَانَ سَمِينًا، وَالْمَعْنَوِيِّ كَنِسْيَانِ الْعَبْدِ صَنْعَتَهُ، وَكَذَا تَفُوتُ الْهِبَةُ الْمِثْلِيَّةُ بِخَلْطِهَا بِمِثْلِهَا. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ لِذَلِكَ أَنَّ التَّدَايُنَ وَالْإِنْكَاحَ إنَّمَا يَكُونَانِ مُفَوِّتَيْنِ لِلِاعْتِصَارِ عِنْدَ قَصْدِ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ، وَصَاحِبُ الْمَالِ فِي الدَّيْنِ أَنَّ النِّكَاحَ وَالدَّيْنَ لِخُصُوصِهَا، لَا إنْ لَمْ يَقْصِدَا ذَلِكَ أَوْ كَانَتْ قَلِيلَةً لَا يَنْكِحُ وَلَا يُدَايَنُ الشَّخْصُ لِأَجْلِهَا فَلَا يُفَوِّتَانِ الِاعْتِصَارَ، وَلَا إنْ قَصَدَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِعَقْدِ نِكَاحِهِ أَوْ تَدَايُنِهِ تَفْوِيتَهَا دُونَ قَصْدِ الْوَلِيِّ أَوْ الزَّوْجَةِ أَوْ صَاحِبِ الدَّيْنِ. (وَالْأُمُّ) دَنِيَّةٌ كَالْأَبِ لَهَا أَنْ (تَعْتَصِرَ) مَا وَهَبَتْهُ لِوَلَدِهَا الَّذِي لَهُ أَبٌ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا. (مَا دَامَ الْأَبُ حَيًّا) وَلَوْ مَجْنُونًا زَمَنَ الْهِبَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ قَصَدَتْ بِهِبَتِهَا صِلَةَ الرَّحِمِ أَوْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ، أَوْ يَكُونَ فَقِيرًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 تَعْتَصِرْ وَلَا يُعْتَصَرُ مِنْ يَتِيمٍ وَالَيْتُمْ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ. وَمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ الصَّغِيرِ فَحِيَازَتُهُ لَهُ جَائِزَةٌ إذَا لَمْ يَسْكُنْ ذَلِكَ أَوْ يَلْبَسْهُ إنْ كَانَ ثَوْبًا وَإِنَّمَا يَجُوزُ لَهُ مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ. وَأَمَّا الْكَبِيرُ فَلَا تَجُوزُ حِيَازَتُهُ لَهُ. وَلَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ فِي صَدَقَتِهِ وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ   [الفواكه الدواني] بَائِنًا عَنْ أَبِيهِ فَلَا تَعْتَصِرُهَا، وَقَوْلُنَا دَنِيَّةٌ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْجَدَّةَ لَا تَعْتَصِرُ كَالْجَدِّ كَمَا قَدَّمْنَا. (فَإِذَا مَاتَ) الْأَبُ (لَمْ تَعْتَصِرْ) الْأُمُّ مَا وَهَبَتْهُ وَلَوْ كَانَ وَلَدُهَا غَنِيًّا لِأَنَّهُ صَارَ يَتِيمًا. (وَ) الْأُمُّ (لَا تَعْتَصِرُ مِنْ يَتِيمٍ) وَهُوَ مَنْ مَاتَ أَبُوهُ صَغِيرًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ وَقَعَتْ الْهِبَةُ قَبْلَ يُتْمِهِ أَوْ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، خِلَافًا لِلَّخْمِيِّ فِي قَوْلِهِ: إنَّهَا تَعْتَصِرُ مِنْ ذَوِي الْأَبِ وَلَوْ تَيَتَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهَا لَوْ وَهَبَتْ لِكَبِيرٍ بَعْدَ مَوْتِ أَبِيهِ لَهَا أَنْ تَعْتَصِرَ مِنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الَّذِي وَهَبَتْهُ أُمُّهُ إنْ كَانَ بَالِغًا حِينَ الْهِبَةِ فَلَهَا الِاعْتِصَارُ مِنْهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَبٌ لِأَنَّهُ لَا يُسَمَّى يَتِيمًا، وَأَمَّا إنْ كَانَ صَغِيرًا حِينَ الْهِبَةِ فَإِنْ كَانَ لَهُ أَبٌ فَلَهَا الِاعْتِصَارُ مِنْهُ مَا دَامَ أَبُوهُ حَيًّا، وَأَمَّا إنْ كَانَ صَغِيرًا حِينَ الْهِبَةِ وَلَا أَبَ لَهُ فَلَا اعْتِصَارَ لَهَا وَلَوْ بَلَغَ قَبْلَ الِاعْتِصَارِ، وَأَمَّا لَوْ وَهَبَتْ الصَّغِيرَ ذَا الْأَبِ ثُمَّ مَاتَ أَبُوهُ وَالصَّبِيُّ صَغِيرٌ فَفِيهِ قَوْلَانِ، أَحَدُهُمَا لَهَا الِاعْتِصَارُ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَالْمُدَوَّنَةِ وَمُقَابِلُهُ لِلَّخْمِيِّ، وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ. ثُمَّ بَيَّنَ الْجِهَةَ الَّتِي بِهَا يَكُونُ الْوَلَدُ يَتِيمًا بِقَوْلِهِ: (وَالْيُتْمُ) فِي الْآدَمِيِّ (مِنْ قِبَلِ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جِهَةِ فَقْدِ (الْأَبِ) فَمَنْ مَاتَ أَبُوهُ صَغِيرًا يَصِيرُ يَتِيمًا إلَى أَنْ يَبْلُغَ فَلَا يُسَمَّى يَتِيمًا، وَأَمَّا مَنْ مَاتَتْ أُمُّهُ فَقَطْ فَلَا يُقَالُ لَهُ يَتِيمٌ، وَأَمَّا الْيَتِيمُ مِنْ الطَّيْرِ فَهُوَ مَنْ فَقَدَهُمَا مَعًا، وَأَمَّا فِي نَحْوِ الْبَقَرِ وَغَيْرِهَا فَمِنْ جِهَةِ الْأُمِّ فَقَطْ، وَوَجْهُ التَّفْرِقَةِ أَنَّ الْآدَمِيَّ إنَّمَا يُضَيَّعُ بِفَقْدِ أَبِيهِ غَالِبًا. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْهِبَةَ وَمَا مَعَهَا لَا تَتِمُّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّ مَا سَبَقَ فِي غَيْرِ هِبَةِ الْأَصْلِ لِفَرْعِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا وَهَبَهُ) الْأَبُ الرَّشِيدُ (لِابْنِهِ الصَّغِيرِ) أَوْ السَّفِيهِ (فَحِيَازَتُهُ لَهُ جَائِزَةٌ) مَعْمُولٌ بِهَا وَلَوْ اسْتَمَرَّتْ عِنْدَ الْأَبِ إلَى أَنْ فَلِسَ أَوْ مَاتَ، لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَّذِي يَحُوزُ لِمَحْجُورِهِ، وَقَيَّدْنَا الْأَبَ بِالرَّشِيدِ لِأَنَّ الْأَبَ السَّفِيهَ لَا يَحُوزُ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَحُوزُ وَلِيُّهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ حِيَازَةَ الْوَلِيِّ لِمَحْجُورِهِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ ثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا أَنْ يَشْهَدَ عَلَى الْهِبَةِ لَهُ وَلَوْ لَمْ تَشْهَدْ الْبَيِّنَةُ بِالْحِيَازَةِ لَهُ، وَثَانِي الشُّرُوطِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إذَا لَمْ يَسْكُنْ) الْأَبُ (ذَلِكَ) الشَّيْءَ الْمَوْهُوبَ إنْ كَانَ مِمَّا يُسْكَنُ كَدَارٍ أَوْ حَانُوتٍ. (أَوْ) إذَا لَمْ (يَلْبَسْهُ إنْ كَانَ ثَوْبًا) أَمَّا إنْ كَانَ الْمَوْهُوبُ دَارَ سُكْنَاهُ وَاسْتَمَرَّ سَاكِنًا بِجَمِيعِهَا أَوْ أَكْثَرِهَا أَوْ اسْتَمَرَّ لَابِسًا لِمَا وَهَبَهُ إنْ كَانَ مِمَّا يُلْبَسُ حَتَّى حَصَلَ الْمَنَافِعُ بَطَلَتْ الْهِبَةُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَصِحُّ حَوْزُهُ لَهُ: وَدَارُ سُكْنَاهُ إلَّا أَنْ يَسْكُنَ أَقَلَّهَا وَيُكْرَى لَهُ الْأَكْثَرُ، وَإِنْ سَكَنَ النِّصْفَ بَطَلَ فَقَطْ، وَالْأَكْثَرُ بَطَلَ الْجَمِيعُ، وَأَمَّا لَوْ وَهَبَ دَارَ سُكْنَاهُ لِكِبَارِ وَلَدِهِ فَلَا يَبْطُلُ مِنْهَا إلَّا مَا سَكَنَهُ فَقَطْ، وَيَصِحُّ مَا جَازَهُ الْوَلَدُ كَانَ كَثِيرًا أَوْ يَسِيرًا، وَالْوَقْفُ مِثْلُ الْهِبَةِ فِي ذَلِكَ. وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الشُّرُوطِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا يَحُوزُ) الْأَبُ (لَهُ) أَيْ لِمَحْجُورِهِ (مَا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ) كَدَارٍ أَوْ دَابَّةٍ، فَلَوْ وَهَبَ لَهُ مَالًا يُعْرَفُ بِعَيْنِهِ كَدَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ وَحَازَهَا حَتَّى حَصَلَ لَهُ مَانِعٌ مِنْ مَوْتٍ أَوْ جُنُونٍ أَوْ فَلَسٍ بَطَلَتْ الْهِبَةُ وَلَوْ طُبِعَ عَلَيْهَا بِحَضْرَةِ شُهُودِهَا، بِخِلَافِ لَوْ طُبِعَ عَلَيْهَا أَوْ وَضَعَهَا عِنْدَ غَيْرِهِ إلَى مَوْتِهِ أَوْ فَلَسِهِ فَلَا تَبْطُلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا إنْ بَقِيَتْ عِنْدَهُ إلَّا لِمَحْجُورِهِ إلَّا مَا لَا يَعْرِفُ بِعَيْنِهِ وَلَوْ خَتَمَ عَلَيْهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ لِمَحْجُورٍ صَغِيرًا أَوْ سَفِيهًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَلِيُّ أَبًا أَوْ وَصِيًّا أَوْ مُقَدَّمًا مِنْ قِبَلِ الْقَاضِي، وَعِبَارَةُ خَلِيلٍ أَجْوَدُ لِشُمُولِهَا الْأَبَ وَغَيْرَهُ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ وَالْمَحْجُورَ الصَّبِيَّ وَغَيْرَهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ إلَخْ أَنَّ حِيَازَةَ الْأُمِّ مَا وَهَبَتْهُ لِوَلَدِهَا الصَّغِيرِ لَا تَصِحُّ وَهُوَ كَذَلِكَ وَلَوْ أَشْهَدَتْ عَلَى ذَلِكَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ وَصِيَّةَ الْوَلَدِ أَوْ وَصِيَّةَ وَصِيِّهِ فَيَصِحُّ حَوْزُهَا لَهُ حِينَئِذٍ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صِحَّةُ حِيَازَةِ الْأَبِ لِمَحْجُورِهِ وَلَوْ لَمْ يَصْرِفْ غَلَّةَ الشَّيْءِ الْمَوْهُوبِ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ كَالْوَقْفِ وَالْمَسْأَلَةُ ذَاتُ خِلَافٍ، وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ الْغُبْرِينِيُّ وَالرَّصَّاعُ وَابْنُ عَرَفَةَ وَوَقَعَ لِابْنِ رُشْدٍ نَحْوُهُ وَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ عَدَمُ اعْتِبَارِ ذَلِكَ، وَأَنَّ الْحِيَازَةَ هُنَا تَصِحُّ وَلَوْ كَانَ الْوَلَدُ يَصْرِفُ غَلَّةَ الْمَوْهُوبِ فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَقْفِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذَكَرَهُ الْمُتَيْطِيُّ وَخَلِيلٌ فِي دَارِ السُّكْنَى مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ فِي صِحَّةِ حَوْزِهَا مِنْ كِرَائِهَا بِاسْمِ الْمَحْجُورِ لِلْفَرْقِ بَيْنَ صَرْفِ الْغَلَّةِ وَعَقْدِ الْكِرَاءِ. الثَّالِثُ: كَمَا لَا تَبْطُلُ الْهِبَةُ الصَّادِرَةُ مِنْ الْوَلِيِّ لِمَحْجُورِهِ بِبَقَائِهَا تَحْتَ يَدِهِ إلَى مَوْتِهِ، كَذَلِكَ هِبَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ مَتَاعًا. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا تَصِحُّ فِيهِ الْهِبَةُ: وَهِبَةُ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِلْآخَرِ مَتَاعًا فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَإِنْ لَمْ تَرْفَعْ يَدَهُ عَنْ هِبَتِهِ لِلضَّرُورَةِ، وَمِثْلُ هِبَةِ أَحَدِ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ هِبَةُ السَّيِّدِ لِأُمِّ وَلَدٍ فَإِنَّهَا صَحِيحَةٌ وَلَوْ اسْتَمَرَّتْ تَحْتَ يَدِهِ إلَى مَوْتِهِ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ جَمِيعِ مَا ذَكَرَ الْإِشْهَادُ عَلَى الْهِبَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ هِبَةَ الْوَلِيِّ لِمَحْجُورِهِ وَأَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ خَلَا دَارِ السُّكْنَى أَوْ دَارِ سُكْنَى الزَّوْجَةِ لِزَوْجِهَا وَالسَّيِّدِ لِأُمِّ وَلَدِهِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا حِيَازَةٌ، وَمَا عَدَا ذَلِكَ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا لَا يُنَافِي تَمَامَهُ مِنْ الْحِيَازَةِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ لِلْمُعْطِي بِالْكَسْرِ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 إلَّا بِالْمِيرَاثِ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْرَبَ مِنْ لَبَنِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ. وَلَا يَشْتَرِي مَا تَصَدَّقَ بِهِ. وَالْمَوْهُوبُ لِلْعِوَضِ إمَّا أَثَابَ الْقِيمَةَ أَوْ   [الفواكه الدواني] (وَأَمَّا) مَا وَهَبَهُ لِابْنِهِ (الْكَبِيرِ فَلَا تَجُوزُ حِيَازَتُهُ لَهُ) وَإِنَّمَا يَحُوزُ لِنَفْسِهِ حَيْثُ كَانَ رَشِيدًا، وَأَمَّا السَّفِيهُ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ كَالصَّغِيرِ يَحُوزُ لَهُ أَبُوهُ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ وَهَبَ لِابْنِهِ فِي حَالِ صِغَرِهِ شَيْئًا وَاسْتَمَرَّ حَائِزًا لَهُ حَتَّى بَلَغَ رَشِيدًا وَلَمْ يَحُزْهُ قَبْلَ مَوْتِ أَبِيهِ أَنَّهَا تَبْطُلُ، وَأَمَّا لَوْ بَلَغَ سَفِيهًا فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ حَائِزًا لَهُ، وَاخْتُلِفَ لَوْ بَلَغَ الصَّغِيرُ وَجَهِلَ بَعْدَ بُلُوغِهِ وَاسْتَمَرَّ أَبُوهُ حَائِزًا حَتَّى مَاتَ، فَهَلْ يُحْمَلُ عَلَى السَّفَهِ فَلَا تَبْطُلُ أَوْ عَلَى الرُّشْدِ فَتَبْطُلُ؟ لِعَدَمِ حِيَازَتِهِ لِنَفْسِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ قَوْلَانِ. (تَنْبِيهٌ) هَذَا كُلُّهُ فِي الْوَلَدِ الذَّكَرِ الْحُرِّ، وَأَمَّا مَا وَهَبَهُ لِوَلَدِهِ الرَّقِيقِ فَيَحُوزُهُ لَهُ سَيِّدُهُ وَلَوْ كَانَ كَبِيرًا وَلَا تُعْتَبَرُ حِيَازَتُهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا مَا وَهَبَهُ لِابْنَتِهِ الْبِكْرِ فَإِنَّهُ يَحُوزُهُ لَهَا وَلَوْ بَلَغَتْ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا زَوْجُهَا وَيُؤْنِسُ مِنْهَا الرُّشْدَ. (لَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ) الْمُرَادُ الْمُتَصَدِّقُ (فِي صَدَقَتِهِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ يُكْرَهُ لِمَنْ تَصَدَّقَ بِشَيْءٍ أَنْ يَتَمَلَّكَهُ بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَسْبَابِ الْمِلْكِ. (وَلَا) يَنْبَغِي أَنْ (تَرْجِعَ إلَيْهِ إلَّا بِالْمِيرَاثِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ تَمَلُّكُ صَدَقَةٍ بِغَيْرِ مِيرَاثٍ، وَمَفْهُومُ الصَّدَقَةِ أَنَّ الْهِبَةَ لِوَجْهِ الْمُعْطَى لَهُ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا بِغَيْرِ الْمِيرَاثِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ أَنَّ الصَّدَقَةَ لِثَوَابِ الْآخِرَةِ، فَالتَّسَبُّبُ فِي تَمَلُّكِهَا مُنَافٍ لِقَصْدِ الْفَاعِلِ، وَالْأَصْلُ فِيمَا ذَكَرَ «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُمَرَ فِي الْفَرَسِ الَّذِي تَصَدَّقَ بِهِ: لَا تَشْتَرِهِ وَلَوْ أَعْطَاكَهُ بِدِرْهَمٍ» قَالَ اللَّخْمِيُّ: وَمَشْهُورُ الْمَذْهَبِ حَمْلُ النَّهْيِ عَلَى النَّدْبِ، وَحَمَلَهُ الدَّاوُدِيُّ عَلَى التَّحْرِيمِ، وَاسْتَظْهَرَهُ ابْنُ عَرَفَةَ وَأَبُو الْحَسَنِ، وَحَمَلْنَا الرُّجُوعَ عَلَى اسْتِحْدَاثِ مِلْكِهَا بِسَبَبِ إشَارَةٍ إلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ بِالرُّجُوعِ إبْطَالَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّ هَذَا لَا يَصِحُّ لِلُزُومِ سَائِرِ الْعَطَايَا سِوَى الْوَصِيَّةِ بِمُجَرَّدِ الْقَوْلِ، وَيُقْضَى عَلَيْهِ بِدَفْعِهَا وَيُحَرَّمُ عَلَيْهِ إبْطَالُهَا إلَّا عَطِيَّةَ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ كَمَا مَرَّ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ شَرَطَ فِي عَقْدِ صَدَقَتِهِ الرُّجُوعَ وَإِلَّا عَمِلَ بِشَرْطِهِ وَلَوْ أَجْنَبِيًّا مَعَ أَجْنَبِيٍّ، قِيَاسًا عَلَى مَنْ وَقَفَ شَيْئًا وَشَرَطَ لِنَفْسِهِ بَيْعَهُ إنْ شَاءَ فَإِنَّ لَهُ بَيْعَهُ وَلَوْ لِغَيْرِ حَاجَةٍ. (تَنْبِيهٌ) أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ فِي صَدَقَتِهِ أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ كِسْرَةً لِسَائِلٍ فَوَجَدَهُ قَدْ ذَهَبَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا، وَجَمَعَ ابْنُ رُشْدٍ بَيْنَ قَوْلَيْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ بِحَمْلِ كَلَامِ غَيْرِ مَالِكٍ عَلَى مَا إذَا أَخْرَجَهَا لِمُعَيَّنٍ فَيَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا عِنْدَ عَدَمِ وُجُودِهِ أَوْ عَدَمِ قَبُولِهِ، وَحَمْلُ كَلَامِ مَالِكٍ عَلَى إخْرَاجِهَا لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا بَلْ يَتَصَدَّقُ بِهَا عَلَى غَيْرِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُعَيِّنْ الَّذِي يَأْخُذُهَا، وَهَذَا جَمْعٌ حَسَنٌ. ثُمَّ ذَكَرَ مَا هُوَ كَالْمُنَاقِضِ لِمَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْرَبَ) الْمُتَصَدِّقُ (مِنْ لَبَنِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ) مِنْ شَاةٍ أَوْ بَقَرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا كَالْمُنَاقِضِ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ شُرْبَ لَبَنِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ رُجُوعٌ فِي صَدَقَتِهِ وَقَدْ قَالَ أَوَّلًا: وَلَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ فِي صَدَقَتِهِ وَلَا تَرْجِعُ إلَيْهِ إلَّا بِمِيرَاثٍ، وَقَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا: وَلَا يَرْكَبُهَا وَلَا يَأْخُذُ مِنْ غَلَّتِهَا، وَلَا شَكَّ فِي أَنَّ هَذَا كَالْمُنَاقِضِ، وَالْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ بِحَمْلِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِشَيْءٍ مِمَّا تَصَدَّقَ بِهِ، عَلَى مَا إذَا كَانَتْ الصَّدَقَةُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ أَوْ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ وَلَوْ مَعَ رِضَاهُ أَوْ الرَّشِيدِ مَعَ عَدَمِ رِضَاهُ، وَحَمْلِ قَوْلِهِ: وَلَا بَأْسَ إلَخْ عَلَى شُرْبِهِ مِنْ لَبَنِ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ الْكَبِيرِ الرَّشِيدِ بِرِضَاهُ، وَهَذَا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ تَصَدَّقَ عَلَى أَجْنَبِيٍّ بِصَدَقَةٍ لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ ثَمَرِهَا وَلَا يَرْكَبَهَا وَلَا يَنْتَفِعَ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَقَوْلُ ابْنِ الْمَوَّازِ: وَلِلرَّجُلِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ لَحْمِ غَنَمٍ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى ابْنِهِ وَيَشْرَبَ مِنْ لَبَنِهَا وَيَكْتَسِيَ مِنْ صُوفِهَا إذَا رَضِيَ الْوَلَدُ وَكَذَلِكَ الْأُمُّ. " مُحَمَّدٌ " وَهَذَا فِي الْوَلَدِ الْكَبِيرِ وَأَمَّا الصَّغِيرُ فَلَا يَفْعَلُ، وَقَالَهُ مَالِكٌ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ قَوْلَهُ: وَلَا بَأْسَ أَنْ يَشْرَبَ إلَخْ عَلَى مَا إذَا كَانَ اللَّبَنُ وَنَحْوُهُ شَيْئًا يَسِيرًا بِحَيْثُ يَكُونُ ثَمَنُهُ تَافِهًا أَوْ كَثِيرًا وَرَضِيَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ، وَعَدَمُ الْجَوَازِ عَلَى مَا إذَا كَانَ اللَّبَنُ كَثِيرًا وَلَمْ يَرْضَ الْمُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ الْمَالِكُ لِأَمْرِ نَفْسِهِ بِأَخْذِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ هَذَا مَا لَمْ يَفْتَقِرْ الْأَبُ وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْأَكْلُ مِمَّا يَصَّدَّقُ بِهِ عَلَى وَلَدِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيُنْفِقُ عَلَى أَبٍ افْتَقَرَ مِنْهَا وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ النَّهْيِ، كَمَا يَجُوزُ لِلزَّوْجِ أَنْ يُنْفِقَ عَلَى زَوْجَتِهِ مِنْ صَدَقَتِهِ وَإِنْ غَنِيَّةً لِوُجُوبِ نَفَقَتِهَا عَلَيْهِ كَوُجُوبِ نَفَقَةِ الْأَبَوَيْنِ الْفَقِيرَيْنِ عَلَى وَلَدِهِمَا فَيُنْفِقُ عَلَيْهَا الزَّوْجُ مِمَّا تَصَدَّقَتْ بِهِ عَلَيْهِ. الثَّانِي: الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ وَعَلَيْهِ ابْنُ نَاجِي أَنْ لَا بَأْسَ هُنَا لِمَا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: (وَلَا يَشْتَرِي) الْمُتَصَدِّقُ (مَا تَصَدَّقَ بِهِ) فَهُوَ مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ فِي صَدَقَتِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَسْتَحْدِثَ مِلْكَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ اخْتِيَارًا بِشِرَاءٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَأَمَّا بِالْمِيرَاثِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَسَبَّبْ فِي الرُّجُوعِ. (تَنْبِيهٌ) يُسْتَثْنَى مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا يَرْجِعُ الرَّجُلُ فِي صَدَقَتِهِ اخْتِيَارًا أَشْيَاءُ مِنْهَا: الْعَرِيَّةُ فَإِنَّهُ يُرَخَّصُ لِلْمُعْرِي شِرَاؤُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُخِّصَ لِمُعْرٍ وَقَائِمٍ مَقَامَهُ اشْتِرَاءُ ثَمَرَةٍ تَيْبَسُ إلَخْ، وَمِنْهَا مَنْ أَعْمَرَ شَخْصًا دَارِهِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلْمُعَمِّرِ بِالْكَسْرِ شِرَاؤُهَا، وَمِنْهَا مَنْ سَبَّلَ مَاءً عَلَى غَيْرِهِ فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَشْرَبَ مِنْهُ، وَمَنْ أَخْرَجَ كِسْرَةً لِسَائِلٍ مُعَيَّنٍ فَلَمْ يَجِدْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 رَدَّ الْهِبَةَ فَإِنْ فَاتَتْ فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا. وَذَلِكَ إذَا كَانَ يَرَى أَنَّهُ أَرَادَ الثَّوَابَ مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ. وَيُكْرَهُ أَنْ يَهَبَ لِبَعْضِ وَلَدِهِ مَالَهُ   [الفواكه الدواني] عَلَى مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ، وَمِنْهَا مَنْ تَصَدَّقَ عَلَى ابْنِهِ الصَّغِيرِ بِأَمَةٍ فَتَعَلَّقَتْ نَفْسُهُ بِهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهَا بِقِيمَتِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْوِيمُ جَارِيَةٍ أَوْ عَبْدٍ لِلضَّرُورَةِ وَيَسْتَقْصِي، بِخِلَافِ مَا تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى ابْنِهِ الْكَبِيرِ أَوْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فَلَا يَجُوزُ لَهُ تَمَلُّكُهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصَّدَقَةِ وَالْهِبَةِ لِوَجْهِ الْمُعْطِي شَرَعَ فِي الْهِبَةِ لِثَوَابِ الدُّنْيَا، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَهِيَ عَطِيَّةٌ قُصِدَ بِهَا عِوَضٌ مَالِيٌّ فَقَالَ: (وَالْمَوْهُوبُ لِلْعِوَضِ) الْمُخَيَّرُ (إمَّا أَثَابَ الْقِيمَةَ) يَوْمَ الْقَبْضِ فَيَلْزَمُ قَبُولُهَا. (أَوْ رَدَّ الْهِبَةَ) لِوَاهِبِهَا وَهَذَا التَّخْيِيرُ مَعَ عَدَمِ فَوَاتِ الذَّاتِ الْمَوْهُوبَةِ. (فَإِنْ فَاتَتْ) بِيَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ لَا بِحَوَالَةِ سُوقٍ بَلْ بِزِيَادَةٍ أَوْ نَقْصٍ (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهَا) جَبْرًا عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَ وَاهِبُهَا لَا الْمَوْهُوبُ الْقِيمَةَ إلَّا لِفَوَاتٍ يَزِيدُ أَوْ نَقَصَ. ثُمَّ بَيَّنَ مَحَلَّ اسْتِحْقَاقِ الْوَاهِبِ الثَّوَابَ بِقَوْلِهِ: (وَذَلِكَ) أَيْ لُزُومُ الْقِيمَةِ لِلْوَاهِبِ بَعْدَ فَوَاتِ الْهِبَةِ مَشْرُوطٌ بِمَا (إذَا كَانَ) أَيْ الْحَالُ وَالشَّأْنُ (يُرَى) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ يُظَنُّ (أَنَّهُ أَرَادَ) أَيْ قَصَدَ الْهِبَةَ لِأَجْلِ (الثَّوَابِ) أَيْ الْعِوَضِ (مِنْ الْمَوْهُوبِ لَهُ) وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، كَفَقِيرٍ يَدْفَعُ شَيْئًا لِغَنِيٍّ، بِخِلَافِ هِبَةِ الْغَنِيِّ لِفَقِيرٍ أَوْ صَالِحٍ أَوْ عَالِمٍ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي قَصْدِ الثَّوَابِ فِي هِبَتِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إذَا كَانَ يُرَى إلَخْ أَنَّهُ يُصَدَّقُ فِي قَصْدِ الثَّوَابِ وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصُدِّقَ وَاهِبٌ فِيهِ إنْ لَمْ يَشْهَدْ عُرْفٌ بِضِدِّهِ، وَالْحُكْمُ الْمَذْكُورُ عَامٌّ وَلَوْ كَانَتْ الْهِبَةُ لِأَجْلِ عُرْسٍ أَوْ عِنْدَ قُدُومٍ مِنْ حَجٍّ، وَلِوَاهِبِ الثَّوَابِ طَلَبُ الثَّوَابِ وَلَوْ مُعَجَّلًا وَلَا يَلْزَمُهُ الصَّبْرُ إلَى أَنْ يَتَجَدَّدَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ عُرْسٌ إلَّا لِعَادَةٍ، وَلِلْمَوْهُوبِ لَهُ أَنْ يُحَاسِبَ الْوَاهِبَ بِمَا أَكَلَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ عِنْدَ إحْضَارِ الْهِبَةِ الْمُسَمَّاةِ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْحُمُولَةِ، وَالتَّصْدِيقُ فِي إرَادَةِ الثَّوَابِ بِيَمِينٍ مُطْلَقًا، وَقِيلَ الْيَمِينُ عِنْدَ إشْكَالِ الْأَمْرِ، وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَشْهَدْ الْعُرْفُ لَهُ وَلَا عَلَيْهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْعُرْفَ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ فَقَطْ أَوْ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدَيْنِ، وَاعْلَمْ أَنَّهُ إذَا جَرَى الْعُرْفُ بِالثَّوَابِ يُعْمَلُ بِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَوْهُوبُ مَسْكُوكًا أَوْ كَانَ الْوَاهِبُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ لِصَاحِبِهِ، فَمَا فِي خَلِيلٍ حَيْثُ لَا عَادَةَ وَإِلَّا عَمِلَ بِهَا لِأَنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ كَالشَّرْطِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ هِبَةِ الثَّوَابِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَنَّهَا جَائِزَةٌ كَالْبَيْعِ لَا مَنْدُوبَةٌ، يَدُلُّ عَلَى جَوَازِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ} [الروم: 39] فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: الرِّبَا أَنْ يُعْطِيَ الرَّجُلُ عَطِيَّةً لِيُعْطَى أَكْثَرَ مِنْهَا. وقَوْله تَعَالَى: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَذَلِكَ أَنْ يُهْدِيَ هَدِيَّةً لِيُهْدَى لَهُ أَكْثَرَ مِنْهَا، فَنَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ وَأَبَاحَهُ اللَّهُ لِسَائِرِ النَّاسِ، وَمِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْبَلُ الْهَدِيَّةَ وَيُثِيبُ عَلَيْهَا» كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَالُوهُ مِنْ أَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ إنَّمَا تَجُوزُ لِأُمَّةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا لَهُ لِآيَةِ: {وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] لِأَنَّهُ لَا مُلَازَمَةَ بَيْنَ جَوَازِ قَبُولِهَا وَدَفْعِهَا بَلْ لَكُمْ حُكْمٌ. الثَّانِي: فُهِمَ مِنْ جَوَازِ الْهِبَةِ لِقَصْدِ الثَّوَابِ جَوَازُ دَفْعِهَا مَعَ شَرْطِ الثَّوَابِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ شَرْطُ الثَّوَابِ وَلَزِمَ بِتَعْيِينِهِ حَيْثُ رَضِيَ بِهِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ التَّعْيِينُ، وَقَوْلُهُمْ لِلْوَاهِبِ الرُّجُوعُ فِي هِبَتِهِ حَيْثُ لَمْ تَفُتْ الْهِبَةُ وَلَمْ يَدْفَعْ لَهُ الْوَاهِبُ الْقِيمَةَ، مَحْمُولٌ عَلَى مَا إذَا لَمْ تُعَيِّنْ الثَّوَابَ وَيَرْضَى بِهِ مَنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ تَعْيِينٌ وَإِلَّا صَارَ عَقْدُهَا لَازِمًا، وَقُضِيَ عَلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ بِدَفْعِهِ، وَإِنَّمَا جَازَتْ هِبَةُ الثَّوَابِ مَعَ عَدَمِ تَعْيِينِ الْعِوَضِ مَعَ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ تَنْزِيلًا لَهَا مَنْزِلَةَ نِكَاحِ التَّفْوِيضِ وَهُوَ عَقْدٌ بِلَا ذِكْرِ مَهْرٍ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا مِنْهُ الثَّوَابُ وَبَيَّنَهُ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَأُثِيبَ مَا يُقْضَى عَنْهُ بِبَيْعٍ وَإِنْ مَعِيبًا حَيْثُ كَانَ فِيهِ وَفَاءٌ بِالْقِيمَةِ، فَيُثَابُ عَنْ الْعَرَضِ طَعَامًا أَوْ دَرَاهِمَ أَوْ عَرَضًا عَنْ غَيْرِ نَوْعِ الْمَوْهُوبِ، وَيُثَابُ عَنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ عَرْضًا أَوْ طَعَامًا أَوْ حَيَوَانًا، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُثَابَ عَنْ الذَّهَبِ فِضَّةً وَلَا عَكْسَهُ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الصَّرْفِ الْمُؤَخَّرِ، وَلَا عَنْ الْعَيْنِ مِنْ صِنْفِهَا لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ الْبَدَلِ الْمُؤَجَّرِ، وَلَا عَنْ الْحَيَوَانِ لَحْمًا مِنْ جِنْسِهِ وَلَا عَكْسَهُ لِحُرْمَةِ بَيْعِ اللَّحْمِ بِالْحَيَوَانِ مِنْ جِنْسِهِ وَقَضَائِهِ عَنْهُ، وَيُثَابُ عَنْ الطَّعَامِ عَرْضًا أَوْ دَنَانِيرَ لَا طَعَامًا وَلَا مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ رِبَا النِّسَاءِ، وَمَا يَقَعُ فِي الْأَرْيَافِ بَيْنَ الْعَامَّةِ مِنْ رَدِّ الطَّعَامِ عَنْ الطَّعَامِ فَحَرَامٌ، وَمِثْلُهُ قَضَاءُ الدَّرَاهِمِ عَنْ مِثْلِهَا أَوْ عَنْ الذَّهَبِ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَقَعَ قَضَاءُ الطَّعَامِ عَنْ الطَّعَامِ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمَا بَلْ فِي مَجْلِسِ الْهِبَةِ فَيَجُوزُ بِشَرْطِ الْمُسَاوَاةِ عِنْدَ اتِّحَادِ الْجِنْسِ أَوْ مَعَ الزِّيَادَةِ عِنْدَ اخْتِلَافِهِ كَمَا يُفِيدُهُ قَوْلُ الْمُدَوَّنَةِ لِأَنَّ هِبَةَ الثَّوَابِ بَيْعٌ. الرَّابِعُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إمَّا أَثَابَ الْقِيمَةَ أَوْ رَدَّ الْهِبَةَ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ الْمَوْهُوبُ لَهُ دَفْعَ أَكْثَرَ مِنْ الْقِيمَةِ وَلَوْ كَانَتْ الْعَادَةُ كَذَلِكَ وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا لَا يَلْزَمُ الْوَاهِبُ قَبُولَ أَقَلَّ مِنْ الْقِيمَةِ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِيمَا إذَا طَاعَ الْمَوْهُوبُ لَهُ بِدَفْعِ أَكْثَرَ مِمَّا يَلْزَمُهُ وَأَبَى الْوَاهِبُ مِنْ أَخْذِ أَزِيدَ مِنْ قِيمَةِ هِبَتِهِ، فَأَفْتَى الْقَابِسِيُّ بِجَبْرِ الْوَاهِبِ عَلَى أَخْذِ الزَّائِدِ عَلَى قِيمَةِ هِبَتِهِ حَتَّى لَوْ حَلَفَ كُلٌّ بِالطَّلَاقِ عَلَى نَقِيضِ مَا أَرَادَ صَاحِبُهُ لَقُضِيَ بِتَحْنِيثِ الْوَاهِبِ لِأَنَّ هِبَاتِ النَّاسِ عَلَى ذَلِكَ، هَذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 كُلَّهُ. وَأَمَّا الشَّيْءُ مِنْهُ فَذَلِكَ سَائِغٌ. وَلَا بَأْسَ أَنْ يَصَدَّقَ عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى. وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً فَلَمْ يَحُزْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ حَتَّى مَرِضَ الْوَاهِبُ أَوْ أَفْلَسَ فَلَيْسَ لَهُ حِينَئِذٍ قَبْضُهَا. وَلَوْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْقِيَامُ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ   [الفواكه الدواني] مُلَخَّصُ كَلَامِ الْقَابِسِيِّ، لَكِنْ يُقَيَّدُ كَلَامُهُ بِمَا لَا يَدْخُلُهُ رِبَا الْفَضْلِ وَإِلَّا امْتَنَعَ، وَأَفْتَى غَيْرُهُ بِأَنَّهُ لَا يُجْبَرُ الْوَاهِبُ عَلَى قَبُولِ الزَّائِدِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَلْزَمُهُ أَخْذُ مَا يَتَوَقَّعُ الْمَنَّ بِهِ. الْخَامِسُ: هِبَةُ الثَّوَابِ شَبِيهَةٌ بِالْبَيْعِ، وَلِذَا لَوْ مَاتَ الْوَاهِبُ لِلثَّوَابِ قَبْلَ حِيَازَةِ الْهِبَةِ لَمْ تَبْطُلْ وَيَجِبُ تَنْفِيذُهَا، وَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ أَوْ مَرَضِ أَوْ فَلَسِ وَاهِبِهَا قَبْلَ حَوْزِهَا فَلَيْسَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَطَايَا الَّتِي تَبْطُلُ بِعَدَمِ حِيَازَتِهَا قَبْلَ مَوْتِ الْوَاهِبِ. [هِبَة الْوَالِد جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ هِبَةِ الْوَالِدِ جَمِيعَ مَالِهِ لِبَعْضِ أَوْلَادِهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ) كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ لِلشَّخْصِ فِي حَالِ صِحَّتِهِ (أَنْ يَهَبَ لِبَعْضِ وَلَدِهِ) وَلَوْ صَغِيرًا أَوْ مَرِيضًا (مَالَهُ كُلَّهُ) أَوْ جُلَّهُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَإِذَا وَقَعَ ذَلِكَ الْمَكْرُوهُ مَضَى بِشَرْطِ الْحِيَازَةِ قَبْلَ مَوْتٍ أَوْ مَرَضِ الْوَاهِبِ، وَبِشَرْطِ أَنْ لَا يُمْنَعَ مِنْ ذَلِكَ بَاقِي الْأَوْلَادِ فِي حَيَاةِ وَالِدِهِمْ مَخَافَةَ مُطَالَبَتِهِمْ بِنَفَقَةٍ وَإِلَّا رُدَّتْ، وَمِثْلُ الْإِعْطَاءِ الْمَذْكُورِ فِي الْكَرَاهَةِ قِسْمَتُهُ عَلَيْهِمْ بِالسَّوِيَّةِ إذَا كَانَ فِيهِمْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ، وَأَمَّا لَوْ كَانُوا ذُكُورًا فَقَطْ أَوْ إنَاثًا فَقَطْ فَلَا كَرَاهَةَ، كَمَا لَا يُكْرَهُ قِسْمَتُهُ بَيْنَهُمْ عَلَى أَنَّ لِلذَّكَرِ مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، وَقَيَّدْنَا بِحَالِ الصِّحَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالِ الْمَرَضِ الْمَخُوفِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ أَنَّهَا بَاطِلَةٌ لِأَنَّهَا وَصِيَّةٌ لِوَارِثٍ، وَمِثْلُهَا لَوْ وَقَعَتْ فِي صِحَّتِهِ وَتَأَخَّرَ حَوْزُهَا حَتَّى مَرِضَ مَرَضَ الْمَوْتِ. (وَأَمَّا) هِبَةُ (الشَّيْءِ) الْقَلِيلِ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ مَالِهِ لِبَعْضِ وَلَدِهِ (فَذَلِكَ سَائِغٌ) أَيْ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، وَتَتِمُّ بِالْحِيَازَةِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ لِلْأَبِ كَسَائِرِ الْعَطَايَا سِوَى هِبَةِ الثَّوَابِ كَمَا مَرَّ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ مَا وَرَدَ: «أَنَّ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ نَحَلَهُ أَبُوهُ شَيْئًا مِنْ مَالِهِ وَأَرَادَ أَبُوهُ أَنْ يَشْهَدَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى ذَلِكَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَكُلَّ وَلَدِك نَحَلْته مِثْلَ هَذَا؟ قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْجِعْ فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ» وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ لِلْمَشْهُورِ مِنْ الْكَرَاهَةِ أَنَّ النَّبِيَّ إنَّمَا أَمَرَهُ بِالرُّجُوعِ وَامْتَنَعَ مِنْ الشَّهَادَةِ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ كَمَالِهَا، وَلَوْ كَانَتْ بَاطِلَةً لَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّهَا بَاطِلَةٌ، وَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ أَنَّ عَطِيَّةَ الْأَبِ كُلُّ مَالِهِ أَوْ جُلُّهُ لِبَعْضِ الْأَوْلَادِ يُؤَدِّي إلَى عُقُوقِ الْبَاقِينَ وَحِرْمَانِهِمْ وَيُؤَدِّي إلَى تَبَاغُضِهِمْ، وَالْمَطْلُوبُ الْحِرْصُ عَلَى الْمُوَاصَلَةِ وَالْمُوَادَّةِ وَالْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَلِذَا جَاءَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ» . وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا الشَّخْصَ فِي حَقِّ الْوَاهِبِ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَبِ وَالْأُمِّ، كَمَا أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي الْوَلَدِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَلَا بَيْنَ الْبَارِّ وَالْعَاقِّ. وَلَمَّا كَانَ عِلَّةُ كَرَاهَةِ هِبَةِ جَمِيعِ أَوْ جُلِّ الْمَالِ مُنْتَفِيَةً فِي الْأَجَانِبِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَتَصَدَّقَ) الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الرَّشِيدُ (عَلَى الْفُقَرَاءِ بِمَالِهِ كُلِّهِ لِلَّهِ تَعَالَى) أَيْ ابْتِغَاءً لِلثَّوَابِ فِي الْآخِرَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُتَعَيِّنَ أَنْ لَا بَأْسَ هُنَا لِمَا هُوَ أَحْسَنُ مِنْ غَيْرِهِ لِأَنَّ الصَّدَقَةَ مُسْتَحَبَّةٌ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَثْنَى عَلَى فَاعِلِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] وَلِأَنَّ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَفَعَلَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ الْمَالِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَصَدِّقُ طَيِّبَ النَّفْسِ بَعْدَ الصَّدَقَةِ بِجَمِيعِ مَالِهِ بِحَيْثُ لَا يَنْدَمُ عَلَى الْبَقَاءِ بِلَا مَالٍ، وَأَنَّ مَا يَرْجُوهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مُمَاثِلًا لِمَا تَصَدَّقَ بِهِ فِي الْحَالِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ يَحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ يُنْدَبُ لَهُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ، وَإِلَّا لَمْ يُنْدَبْ لَهُ ذَلِكَ، بَلْ يُحَرَّمُ عَلَيْهِ إنْ تَحَقَّقَ الْحَاجَةَ لِمَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ أَوْ يُكْرَهُ إنْ تَيَقَّنَ الْحَاجَةَ إلَيْهِ لِمَنْ يُنْدَبُ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ كَحَوَاشِيهِ، لِأَنَّ الْأَفْضَلَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمَا يَفْضُلُ عَنْ مُؤْنَتِهِ وَمُؤْنَةِ مَنْ يُنْفِقُ عَلَيْهِ. الثَّانِي: إنَّمَا قَيَّدْنَا بِالْعَاقِلِ الرَّشِيدِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ مَا ذُكِرَ سَوَاءٌ كَانَ الْحَجْرُ عَلَيْهِ لِصِغَرٍ أَوْ سَفَهٍ أَوْ إحَاطَةِ دَيْنٍ. الثَّالِثُ: أَشْعَرَ قَوْلُهُ يَتَصَدَّقُ أَنَّ هَذَا غَيْرُ يَمِينٍ وَلَا نَذْرٍ فَيَلْزَمُهُ جَمِيعُهُ وَلَا يَحْبِسُ مِنْهُ شَيْئًا سِوَى مَا يَرُدُّهُ دَيْنٌ، بِخِلَافِ مَنْ الْتَزَمَ التَّصَدُّقَ بِجَمِيعِهِ بِنَذْرٍ أَوْ يَمِينٍ حَنِثَ فِيهِ فَيُجْزِيهِ ثُلُثُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَثُلُثُهُ حِينَ يَمِينِهِ إلَّا أَنْ يَنْقُصَ فَمَا بَقِيَ مِنْ مَالِي فِي كَسَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَمِثْلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صَدَقَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ أَوْ الْمَسَاكِينِ. [مُبْطِلَات الْهِبَة] ثُمَّ شَرَعَ فِي مُبْطِلَاتِ الْهِبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ وَهَبَ هِبَةً) لِغَيْرِ ثَوَابِ الدُّنْيَا بَلْ لِوَجْهِ الْمُعْطَى لَهُ أَوْ لِلْآخِرَةِ أَوْ لَهُمَا (فَلَمْ يَحُزْهَا الْمَوْهُوبُ لَهُ) بَلْ اسْتَمَرَّتْ عِنْدَ الْوَاهِبِ وَلَمْ يَجِدَّ الْمَوْهُوبُ لَهُ فِي حَوْزِهَا (حَتَّى مَرِضَ الْوَاهِبُ) أَوْ جُنَّ وَاتَّصَلَ كُلٌّ بِمَوْتِهِ (أَوْ) حَتَّى (أَفْلَسَ) وَلَوْ بِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ مِنْ غَيْرِ قِيَامِ الْغُرَمَاءِ (فَلَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ (حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ حُصُولِ الْمَرَضِ أَوْ الْفَلَسِ وَمَا ذَكَرَ مَعَهُمَا (قَبْضُهَا) لِبُطْلَانِهَا بَعْدَ حَوْزِهَا قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا بِلَمْ يَجِدَّ فِي الْحَوْزِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الرَّاجِحَ عَدَمُ بُطْلَانِهَا بِعَدَمِ الْحَوْزِ مَعَ الْجِدِّ فِي الْحَوْزِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى بُطْلَانِهَا بِالْمَرَضِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - نَحَلَ ابْنَتَهُ عَائِشَةَ جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 الصَّحِيحِ. وَمَنْ حَبَسَ دَارًا فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ. إنْ حِيزَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ. وَلَوْ كَانَتْ حَبْسًا عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ جَازَتْ   [الفواكه الدواني] الْوَفَاةُ قَالَ: وَاَللَّهِ يَا بُنَيَّةُ مَا مِنْ النَّاسِ أَحَدٌ أَحَبُّ إلَيَّ غِنًى بَعْدَ مَوْتِي عَنْك، وَلَا أَعَزُّ عَلَيَّ فَقْرًا مِنْك، وَإِنِّي كُنْت نَحَلْتُك جَادَّ عِشْرِينَ وَسْقًا فَلَوْ كُنْت جَذَذْتِيهِ وَأَخْذَتَيْهِ لَكَانَ لَك، وَإِنَّمَا هُوَ الْيَوْمُ مَالُ وَارِثٍ وَإِنَّمَا هُمَا أَخَوَاك وَأُخْتَاك فَاقْتَسِمُوهُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (تَنْبِيهَانِ) : الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَيَّدْنَا الْهِبَةَ بِغَيْرِ هِبَةِ الثَّوَابِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا كَالْبَيْعِ لَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ حَوْزِهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْمَرَضَ بِالْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ مَرِضَ الْوَاهِبُ قَبْلَ الْحَوْزِ ثُمَّ صَحَّ صِحَّةً بَيِّنَةً فَإِنَّهَا تُحَازُ وَتَتِمُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْفَلَسِ وَلَوْ بِإِحَاطَةِ الدُّيُونِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الْمُرَادَ الْفَلَسُ الْخَاصُّ وَهُوَ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ مَالِ الْمَدْيُونِ، وَلَا فَرْقَ فِي الدَّيْنِ الْمُحِيطِ بَيْنَ السَّابِقِ عَلَى الْهِبَةِ وَالْمُتَأَخِّرِ عَنْهَا. الثَّانِي: يُسْتَثْنَى مِنْ بُطْلَانِ الْهِبَةِ بِعَدَمِ الْحَوْزِ قَبْلَ الْمَانِعِ الْهِبَةُ الَّتِي اسْتَصْحَبَهَا الْوَاهِبُ مَعَهُ إلَى الْمَوْهُوبِ لَهُ وَأَرْسَلَ بِهَا رَسُولًا، فَلَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ وَلَا بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ الْمُعَيَّنِ إذَا كَانَ الْوَاهِبُ قَدْ أَشْهَدَ عَلَى الْهِبَةِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي مُبْطِلَاتِ الْهِبَةِ: أَوْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً أَوْ أَرْسَلَهَا ثُمَّ مَاتَ أَوْ الْمُعَيَّنُ لَهَا إنْ لَمْ يُشْهِدْ. وَفِي صَدَقَاتِ الْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهَا: مَنْ بَعَثَ بِهَدِيَّةٍ أَوْ صِلَةٍ لِغَائِبٍ فَمَاتَ الْمُعْطِي أَوْ الْمُعْطَى لَهُ قَبْلَ وُصُولِهَا، فَإِنْ كَانَ أَشْهَدَ حِينَ بَعَثَ بِهَا عَلَى إنْفَاذِهَا فَهِيَ لِلْمَبْعُوثِ إلَيْهِ أَوْ وَارِثِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْهِدْ عَلَيْهَا حِينَ بَعَثَ بِهَا فَهِيَ لِلَّذِي أَعْطَى أَوْ وَارِثِهِ، وَحُكْمُ مَنْ اسْتَصْحَبَ هَدِيَّةً مَعَهُ لِغَائِبٍ حُكْمُ مَنْ أَرْسَلَهَا فَعِنْدَ الْإِشْهَادِ لَا تَبْطُلُ وَبِدُونِهِ تَبْطُلُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْهِبَةَ تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْوَاهِبِ قَبْلَ الْحَوْزِ ذَكَرَ حُكْمَ مَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ مَاتَ الْمَوْهُوبُ لَهُ) الْحُرُّ الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لَمْ تَبْطُلْ الْهِبَةُ بِمَوْتِهِ وَ (كَانَ لِوَرَثَتِهِ الْقِيَامُ فِيهَا عَلَى الْوَاهِبِ الصَّحِيحِ) لِأَنَّهَا صَارَتْ حَقًّا لَهُ، وَمَنْ مَاتَ عَنْ حَقٍّ فَلِوَارِثِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدَ الْوَاهِبَ بِالصَّحِيحِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ قَدْ مَرِضَ أَوْ جُنَّ أَوْ فَلِسَ قَبْلَ حَوْزِهَا فَلَيْسَ لِلْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا لِوَرَثَتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ الطَّلَبُ بِهَا لِبُطْلَانِهَا بِذَلِكَ كَمَا مَرَّ، وَقَيَّدْنَا الْمَوْهُوبَ لَهُ بِالْحُرِّ لِأَجْلِ تَعْبِيرِ الْمُصَنِّفِ بِالْوَارِثِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْمَوْهُوبَ لَهُ الرَّقِيقَ يَقْبِضُ سَيِّدُهُ مَا وُهِبَ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ، فَلَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ: كَانَ لِوَارِثِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الرَّقِيقِ الْقِيَامُ بِهَا لَكَانَ أَشْمَلَ وَوَافَقَ لَفْظَ الْمُدَوَّنَةِ، فَقَدْ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِنْ وُهِبَ لِحُرٍّ هِبَةٌ أَوْ عَبْدٌ فَلَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى مَاتَ فَلِوَرَثَةِ الْحُرِّ وَسَيِّدِ الْعَبْدِ قَبْضُهَا، وَهَذَا فِي الْهِبَةِ وَمِثْلُهَا صَدَقَةُ التَّطَوُّعِ، وَأَمَّا الْوَاجِبَةُ كَالْكَفَّارَةِ وَالزَّكَاةِ فَتَوَقَّفَ فِيهَا بَعْضُ الشُّيُوخِ هَلْ يَقُومُ وَارِثُهُ مَقَامَهُ أَمْ لَا؟ وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا الَّذِي لَمْ تُقْصَدْ عَيْنُهُ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ كَانَ الْوَاهِبُ قَالَ: هَذِهِ هِبَةٌ لِفُلَانٍ بِعَيْنِهِ لَا لِغَيْرِهِ وَلَا لِوَارِثِهِ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ بِمَوْتِ الْمَوْهُوبِ لَهُ وَلَا يَأْخُذُهَا الْوَارِثُ، فَإِنْ حَصَلَ التَّنَازُعُ فِي قَصْدِ عَيْنِهِ وَعَدَمِ قَصْدِهَا، فَإِنْ قَامَتْ قَرِينَةٌ لِأَحَدِهِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَانْظُرْ أَيَّهُمَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ. [أَحْكَام الحبس] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ شَرَعَ فِي الْحُبُسِ لِأَنَّهُ عَقِبُهُ فِي التَّرْجَمَةِ، وَهُوَ بِضَمِّ الْحَاءِ وَسُكُونِ الْبَاءِ وَيُرَادِفُهُ الْوَقْفُ مَصْدَرُ وَقَفَ الْمُجَرَّدُ عَلَى اللُّغَةِ الْفَصِيحَةِ، وَالرَّدِيئَةُ أَوْقَفَ عَكْسُ أَعْتَقَ وَعَتَقَ، وَسُمِّيَ بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ لِأَنَّ الْعَيْنَ مَوْقُوفَةٌ وَمَحْبُوسَةٌ وَقَدْ مَرَّتْ حَقِيقَتُهُ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ فِي حُكْمِهِ، وَالصَّحِيحُ وَهُوَ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ جَوَازُهُ بَلْ نَدْبُهُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْسَنِ مَا تَقَرَّبَ بِهِ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ حَبَسَ نَبِيُّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِيٌّ وَطَلْحَةُ وَالزُّبَيْرُ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الصَّحَابَةِ دُورًا وَحَوَائِطَ، وَهُوَ مِمَّا اخْتَصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ لِقَوْلِ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَمْ يَحْبِسْ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيمَا عَلِمْت وَإِنَّمَا حَبَسَ أَهْلُ الْإِسْلَامِ، وَمُقَابِلُ الْجُمْهُورِ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ حَيْثُ ذَهَبُوا إلَى مَنْعِهِ وَعَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَالِ حَيَاةِ الْوَاقِفِ وَهُوَ مِلْكٌ يُوَرَّثُ عَنْهُ إلَّا أَنْ يَحْكُمَ حَاكِمٌ بِصِحَّتِهِ أَوْ يُعَلِّقَهُ عَلَى مَوْتِهِ كَأَنْ يَقُولَ: إنْ مِتُّ فَدَارِي وَقْفٌ عَلَى كَذَا، وَاسْتَدَلُّوا بِمَا لَمْ يَنْهَضْ لَهُمْ دَلِيلًا، وَقَدْ قَدَّمْنَا تَعْرِيفَهُ فِي صَدْرِ التَّرْجَمَةِ، كَمَا قَدَّمْنَا أَنَّ أَرْكَانَهُ أَرْبَعَةٌ: الْوَاقِفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ، وَالْمَوْقُوفُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِلْوَاقِفِ لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَلَوْ طَعَامًا أَوْ نَقْدًا عَلَى مَنْ يَتَسَلَّفُهُمَا أَوْ يَرُدُّ مِثْلَهُمَا أَوْ رَقِيقًا أَوْ مُسْتَأْجَرًا، وَالْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مُحْتَاجًا إلَى مَنْفَعَةِ الْمَوْقُوفِ وَلَوْ لِلصَّرْفِ فِي مَصَالِحِهِ كَقَنْطَرَةٍ وَمَسْجِدٍ، وَالصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عَلَى إعْطَاءِ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ التَّأْبِيدُ وَإِلَّا التَّنْجِيزُ كَلَفْظِ حَبَسْت وَوَقَفْت مُطْلَقًا أَوْ تَصَدَّقْت إنْ قَارَنَهَا مَا يَدُلُّ عَلَى التَّأْبِيدِ كَقَوْلِهِ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ أَوْ يَغْتَلُّونَهُ أَوْ يَنْتَفِعُونَ بِذَاتِهِ بِالسُّكْنَى فِيهِ، أَوْ يَكُونُ عَلَى مَجْهُولٍ مَحْصُورٍ كَأَنْ يَقُولَ: هَذَا صَدَقَةٌ عَلَى فُلَانٍ وَعَقِبِهِ وَنَسْلِهِ لِقِيَامِ التَّعْقِيبِ مَقَامَ الْقَيْدِ، وَيَقُومُ مَقَامَ الصِّيغَةِ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ وَبَيْنَ النَّاسِ كَالْمَسْجِدِ يَبْنِيهِ وَيَفْتَحُهُ لِلنَّاسِ، وَكَالطَّاحُونِ أَوْ الْقَنْطَرَةِ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنْ كُلِّ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ عُمُومُ النَّاسِ فَقَالَ: (وَمَنْ حَبَسَ) مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ (دَارًا) أَوْ حَائِطًا أَوْ حَيَوَانًا أَوْ غَيْرَهُمَا مِنْ كُلِّ مَمْلُوكٍ لِلْمُحْبِسِ وَلَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ (فَهِيَ) قَاصِرَةٌ (عَلَى مَا جَعَلَهَا) الْمُحْبِسُ بِالْكَسْرِ (عَلَيْهِ) بِمُجَرَّدِ التَّلَفُّظِ بِالصِّيغَةِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى حُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا وَلَا الِانْتِفَاعُ بِهَا وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 حِيَازَتُهُ لَهُ إلَى أَنْ يَبْلُغَ. وَلْيُكْرِهَا لَهُ وَلَا يَسْكُنُهَا فَإِنْ لَمْ يَدَعْ سُكْنَاهَا حَتَّى مَاتَ بَطَلَتْ. وَإِنْ انْقَرَضَ مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] الرُّجُوعُ فِيهَا لِمَا قَالَهُ أَئِمَّتُنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْوَقْفِ اللُّزُومُ فِي الْحَالِ إذَا نَجَزَهُ أَوْ أَطْلَقَ، لِأَنَّهُ يُحْمَلُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ عَلَى التَّنْجِيزِ، وَلِذَا لَا يَصِحُّ عِنْدَنَا الِاسْتِبْدَالُ فِي الْوَقْفِ، وَلَا تَتَوَقَّفُ صِحَّتُهُ عَلَى قَبُولٍ حَيْثُ كَانَ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ كَالْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ أَوْ عَلَى مَسْجِدٍ لِتَعَذُّرِهِ مِنْهُ، وَأَمَّا عَلَى مُعَيَّنٍ كَزَيْدٍ فَإِنَّهُ يُشْتَرَطُ قَبُولُهُ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلْقَبُولِ أَوْ وَلِيَّهُ إنْ كَانَ مَحْجُورًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُوقَفِ عَلَيْهِ الصَّغِيرِ أَوْ الْمَجْنُونِ وَلِيٌّ فَيُقِيمُ لَهُ السُّلْطَانُ مَنْ يَقْبَلُ لَهُ، فَإِنْ رَدَّ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الْمُعَيَّنُ الْأَهْلُ مَا وَقَفَهُ الْغَيْرُ عَلَيْهِ فِي حَيَاةِ الْوَاقِفِ أَوْ بَعْدَ مَوْتِهِ فَإِنَّ الْوَقْفَ يَرْجِعُ حُبُسًا لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ عَيَّنَ الْجِهَةَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ حُكْمُ مَا لَوْ وَقَفَ دَارِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْ الشَّيْءَ الْمَوْقُوفَ عَلَيْهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ الصِّحَّةُ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُ مَصْرِفِهِ وَيُصْرَفُ فِي غَالِبِ مَا تَحْبِسُ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبَلَدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا تَعْيِينُ مَصْرِفِهِ وَصُرِفَ فِي غَالِبٍ وَإِلَّا فَالْفُقَرَاءُ. الثَّانِي: يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ أَنَّهُ يَجِبُ اتِّبَاعُ شَرْطِ الْوَاقِفِ وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاتَّبَعَ شَرْطَهُ إنْ جَازَ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: وَكَذَا إنْ كَرِهَ كَاشْتِرَاطِ وَقْفِهِ عَلَى قِرَاءَةِ سَبْعٍ جَمَاعَةً أَوْ عَلَى ضَحِيَّةٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ عَنْ الْوَاقِفِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَيَحِلُّ وُجُوبُ اتِّبَاعِ شَرْطِهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، فَإِنْ تَعَذَّرَ الْعَمَلُ بِشَرْطِهِ جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ كَاشْتِرَاطِ قِرَاءَةِ دَرْسِ عِلْمٍ فِي مَحَلٍّ وَيَخْرَبُ بِحَيْثُ لَا تُمْكِنُ الْقِرَاءَةُ فِيهِ أَوْ يَتَعَذَّرُ حُضُورُ الطَّالِبِ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ نَقْلُهُ فِي مَحَلٍّ آخَرَ وَفِعْلُهُ كَشَرْطِهِ فِي وُجُوبِ الِاتِّبَاعِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يُقَرِّرَ مُدَرِّسًا مَالِكِيًّا يَقْرَأُ فِي مَسْجِدِهِ ثُمَّ يَمُوتَ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ بَعْدَهُ إنْ مَاتَ الْمَالِكِيُّ أَنْ يُقَرِّرَ حَنَفِيًّا أَوْ شَافِعِيًّا، وَإِنَّمَا يُقَرِّرُ مَالِكِيًّا اتِّبَاعًا لِفِعْلِ الْوَاقِفِ. الثَّالِثُ: لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ عِنْدَنَا التَّأْبِيدُ وَإِنْ كَانَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فَهِيَ عَلَى مَا جَعَلَهَا عَلَيْهِ يُوهِمُ اشْتِرَاطَ التَّأْبِيدِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، خِلَافًا لِابْنِ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ لِلْوَقْفِ حَيْثُ قَالَ: إعْطَاءُ مَنْفَعَةِ شَيْءٍ مُدَّةَ وُجُودِهِ فَإِنَّهُ خِلَافُ الْمُعْتَمَدِ وَأَنَّهُ بَنَى التَّعْرِيفَ عَلَى الْغَالِبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يَصِحُّ الْوَقْفُ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ وَيَصِيرُ الَّذِي كَانَ مَوْقُوفًا مِلْكًا كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَغَيْرُهُ، وَيَجُوزُ عِنْدَنَا لِنَاظِرِ الْوَقْفِ بِأَنْ يَفْعَلَ فِي الْوَقْفِ كُلَّ مَا كَانَ قَرِيبًا لِغَرَضِهِ وَإِنْ خَالَفَ شَرْطَهُ، كَمَا لَوْ وَقَفَ مَاءً عَلَى الْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ فَيَجُوزُ لِلنَّاظِرِ أَنْ يُمَكِّنَ الْعَطْشَانَ يَشْرَبُ مِنْهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ حَيًّا لَمَا مَنَعَ مِنْ ذَلِكَ. ثُمَّ بَيَّنَ شَرْطَ تَمَامِ وَقْفِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا بِقَوْلِهِ: (إنْ حِيزَتْ قَبْلَ مَوْتِهِ) أَوْ فَلَسِهِ أَوْ جُنُونِهِ، فَلَوْ قَالَ قَبْلَ كَمَوْتِهِ لَشَمِلَ بَقِيَّةَ الْمَانِعِ مِنْ فَلَسٍ أَوْ جُنُونٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ تَحْصُلْ حِيَازَةٌ حَتَّى مَاتَ الْوَاقِفُ أَوْ فَلِسَ بَطَلَ الْوَقْفُ، وَحَقِيقَةُ الْحِيَازَةِ رَفْعُ يَدِ الْوَاقِفِ عَنْ الْوَقْفِ وَتَمْكِينِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ بِمَا يَجُوزُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ أَوْ التَّخْلِيَةُ بَيْنَ الشَّيْءِ الْمَوْقُوفِ وَبَيْنِ النَّاسِ فِي نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالطَّاحُونِ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ أَجْنَبِيًّا أَوْ وَلَدًا كَبِيرًا وَلَوْ سَفِيهًا بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ اعْتِبَارِ حِيَازَتِهِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا تَثْبُتُ بِهِ الْحِيَازَةُ وَفِيهِ خِلَافٌ، قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ، وَقِيلَ يَكْفِي الشَّاهِدُ وَالْيَمِينُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ، وَهُوَ الْمَشْهُورُ: وَصِفَةُ الشَّهَادَةِ أَنْ يَقُولَ الْعَدْلُ عَايَنْته تَحْتَ يَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ لِلْوَاقِفِ، وَلَا يَكْفِي إقْرَارُ الْوَاقِفِ بِالْحَوْزِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ. (وَلَوْ كَانَتْ) الدَّارُ أَوْ غَيْرُهَا (حُبُسًا عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ) أَوْ عَلَى يَتِيمٍ فِي وَصِيَّتِهِ (جَازَتْ حِيَازَتُهُ لَهُ) وَتَسْتَمِرُّ (إلَى أَنْ يَبْلُغَ) فَإِنْ بَلَغَ وَجَبَ أَنْ يَحُوزَ لِنَفْسِهِ وَلَوْ سَفِيهًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ اعْتِبَارِ حِيَازَتِهِ وَهَذَا فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الذَّكَرِ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَيَسْتَمِرُّ الْوَلِيُّ حَائِزًا لَهَا وَلَوْ بَلَغَتْ حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ وَتَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى صَلَاحِ حَالِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ الْحُرِّ، وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَيَحُوزُ لَهُ سَيِّدُهُ سَوَاءٌ كَانَ الْوَاقِفُ أَبًا أَوْ غَيْرَهُ. وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِ حِيَازَةِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيُكْرِهَا لَهُ وَلَا يَسْكُنُهَا) إذَا كَانَتْ الدَّارُ الْمَوْقُوفَةُ دَارَ سُكْنَى الْوَاقِفِ (فَإِنْ لَمْ يَدَعْ) الْوَاقِفُ أَيْ يَتْرُكْ (سُكْنَاهَا) بَلْ اسْتَمَرَّ سَاكِنًا فِيهَا كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا (حَتَّى مَاتَ) أَوْ فَلِسَ (بَطَلَتْ) وَقْفِيَّتُهَا وَتَرْجِعُ مِيرَاثًا، وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ الْأَقَلُّ وَأَكْرَى لَهُ الْأَكْثَرُ لَصَحَّ الْوَقْفُ فِي جَمِيعِهَا، لِأَنَّ الْأَقَلَّ يَتْبَعُ الْأَكْثَرَ فِي الصِّحَّةِ وَالْبُطْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ سَكَنَ النِّصْفُ وَأَكْرَى النِّصْفَ لَبَطَلَ فِيمَا سَكَنَ وَصَحَّ فِيمَا أَكْرَى، هَذَا حُكْمُ وَقْفِ دَارِ سُكْنَاهُ عَلَى وَلَدِهِ الصَّغِيرِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَفَ دَارَ سُكْنَاهُ عَلَى كِبَارِ وَلَدِهِ وَسَكَنَ الْبَعْضَ فَلَا يَبْطُلُ إلَّا مَا سَكَنَ سَوَاءٌ كَانَ قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا، وَالْهِبَةُ وَالصَّدَقَةُ مِثْلُ الْوَقْفِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ حَبَسَ عَلَى صِغَارِ وَلَدِهِ دَارًا أَوْ وَهَبَهَا لَهُمْ أَوْ تَصَدَّقَ بِهَا عَلَيْهِمْ فَذَلِكَ حَائِزٌ وَحَوْزُهُ حَوْزٌ لَهُمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ سَاكِنًا فِي كُلِّهَا أَوْ جُلِّهَا حَتَّى مَاتَ فَيَبْطُلُ جَمِيعُهَا وَتُوَرَّثُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ، وَأَمَّا الدَّارُ الْكَبِيرَةُ ذَاتُ الْمَسَاكِنِ يَسْكُنُ أَقَلَّهَا وَيُكْرِي لَهُمْ بَاقِيهَا فَذَلِكَ نَافِذٌ فِيمَا سَكَنَ وَفِيمَا يَسْكُنُ، وَبَقِيَ مِنْ شُرُوطِ حِيَازَةِ الْوَلِيِّ لِلصَّغِيرِ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَشْهَدَ الْوَاقِفُ عَلَى وَقْفِهِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ، وَأَنْ تَكُونَ الْبَيِّنَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 رَجَعَتْ حُبُسًا عَلَى أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحَبِّسِ يَوْمَ الْمَرْجِعِ. وَمَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا حَيَاتَهُ دَارًا رَجَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ السَّاكِنِ مِلْكًا   [الفواكه الدواني] عَايَنَتْ الشَّيْءَ الْمَوْقُوفَ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ أَيْضًا، وَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ إقْرَارِ الْوَاقِفِ دُونَ مُعَايَنَةِ الذَّاتِ الْمَوْقُوفَةِ، لِأَنَّ الْمُنَازِعَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَعْدَ مَوْتِ الْوَاقِفِ إمَّا الْوَرَثَةُ وَإِمَّا الْغُرَمَاءُ، وَالْبَيِّنَةُ إمَّا تَشْهَدُ عَلَى مَا عَايَنَتْهُ وَأَنْ تُثْبِتَ أَنَّ الْوَاقِفَ كَانَ يَصْرِفُ جَمِيعَ أَوْ جُلَّ الْغَلَّةِ فِي مَصَالِحِ الْمَحْجُورِ، فَلَوْ صَرَفَهَا فِي مَصَالِحِ نَفْسِهِ لَمْ تَصِحَّ الْحِيَازَةُ. قَالَ خَلِيلٌ مُسْتَثْنِيًا فِي اشْتِرَاطِ الْحَوْزِ الْحِسِّيِّ: إلَّا لِمَحْجُورِهِ إذَا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ لَهُ وَلَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ حِيزَتْ دَارُ السُّكْنَى أَوْ غَيْرُهَا مِمَّا لَهُ غَلَّةٌ بَعْدَ وَقْفِهَا ثُمَّ عَادَ الْوَاقِفُ لِسُكْنَاهَا بَعْدَ حِيَازَتِهَا وَفِي ذَلِكَ تَفْضِيلٌ، فَإِنْ عَادَ بَعْدَ حَوْزِهَا عَامًا لَمْ يَبْطُلْ تَحْبِيسُهَا لِحُصُولِ شُهْرَةِ وَقْفِيَّتِهَا، وَإِنْ عَادَ لَهَا قَبْلَ مُضِيِّ عَامٍ مِنْ يَوْمِ التَّحْبِيسِ بَطَلَ تَحْبِيسُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ عَلَى مَعْصِيَةٍ وَحَرْبِيٍّ وَكَافِرٍ لِكَمَسْجِدٍ، أَوْ عَلَى بَنِيهِ دُونَ بَنَاتِهِ، أَوْ عَادَ لِسُكْنَى مَسْكَنِهِ قَبْلَ عَامٍ، أَوْ جَهِلَ سَبْقَهُ لِدَيْنٍ إنْ كَانَ عَلَى مَحْجُورٍ أَوْ عَلَى نَفْسِهِ، أَوْ عَلَى أَنَّ النَّظَرَ لَهُ، أَوْ لَمْ يُجْرِهِ كَبِيرُ وَقْفٍ عَلَيْهِ وَلَوْ سَفِيهًا، أَوْ وَلِيَّ صَغِيرٍ، أَوْ لَمْ يُخْلِ بَيْنَ النَّاسِ وَبَيْنَ كَمَسْجِدٍ قَبْلَ فَلَسِهِ وَمَوْتِهِ وَمَرَضِهِ إلَّا لِمَحْجُورِهِ إذَا أَشْهَدَ وَصَرَفَ الْغَلَّةَ لَهُ وَلَمْ تَكُنْ دَارَ سُكْنَاهُ، أَوْ عَلَى وَارِثٍ بِمَرَضِ مَوْتِهِ إلَّا مُعْقَبًا خَرَجَ مِنْ ثُلُثِهِ فَكَمِيرَاثٍ لِلْوَارِثِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تَرْجِعُ لَهُ الذَّاتُ الْمَوْقُوفَةُ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ انْقَرَضَ) أَيْ انْقَطَعَ (مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ) الدَّارُ وَنَحْوُهَا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ وَلَمْ تَنْقَضِ (رَجَعَتْ حَبْسًا عَلَى) فُقَرَاءِ (أَقْرَبِ النَّاسِ بِالْمُحَبِّسِ يَوْمَ الْمَرْجِعِ) قَالَ خَلِيلٌ: رُوجِعَ إنْ انْقَطَعَ لِأَقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَةِ الْمُحَبِّسِ، وَامْرَأَةٌ لَوْ رَجَلَتْ لَعَصَّبَتْ وَيَسْتَوِي فِيهِ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى، وَلَوْ كَانَ الْوَاقِفُ شَرَطَ فِي أَصْلِ وَقْفِهِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ لِأَنَّ الْمَرْجِعَ لَيْسَ فِيهِ شَرْطٌ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ يَوْمَ الْمَرْجِعِ إلَّا ابْنَةٌ وَاحِدَةٌ لَكَانَ لَهَا جَمِيعُهُ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ قَرِيبٌ يَوْمَ الْمَرْجِعِ فَإِنَّهُ يُصْرَفُ لِلْفُقَرَاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَدَقَةً وَذُو رَحِمٍ مُحْتَاجٌ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْعَلْهَا فِي أَقَارِبِك» . وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ رُجُوعُهَا لِأَقْرَبِ فُقَرَاءِ عَصَبَةِ الْمُحَبِّسِ وَلَوْ كَانَ الْمُحَبِّسُ حَيًّا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَدْخُلُ فِي صَدَقَةِ نَفْسِهِ، كَمَا لَوْ وَقَفَ عَلَى أَوْلَادِ أَبِيهِ لَا يَدْخُلُ هُوَ فِيهِمْ، وَكَمَنْ عَزَلَ زَكَاةَ مَالِهِ وَلَمْ يَدْفَعْهَا لِلْفُقَرَاءِ حَتَّى ضَاعَ الْأَصْلُ وَصَارَ فَقِيرًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ سَهْمَ الْفُقَرَاءِ، لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِضَيَاعِ الْأَصْلِ وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ وَلَوْ صَارَ فَقِيرًا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: مَنْ حُبِّسَتْ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُحَبِّسَ عَلَيْهِ جِهَةٌ مُعَيَّنَةٌ كَزَيْدٍ وَذُرِّيَّتِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ نَحْوَ الْفُقَرَاءِ مِنْ كُلِّ جِهَةٍ لَا تَنْقَطِعُ فَلَا يَتَأَتَّى هَذَا الْحُكْمُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مَسْجِدٍ أَوْ قَنْطَرَةٍ وَحَصَلَ فِيهِمَا انْهِدَامٌ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي كَقَنْطَرَةٍ لَمْ يُرْجَ عَوْدُهَا فِي مِثْلِهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يُرْجَى عَوْدُهَا فَإِنَّهُ يُحَبِّسُ لَهَا. الثَّانِي: إنَّمَا قُلْنَا عَلَى التَّأْبِيدِ أَوْ مُدَّةً وَلَمْ تَنْقَضِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْوَقْفِ مُدَّةً وَانْقَضَتْ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ مِلْكًا لِوَاقِفِهِ إنْ كَانَ حَيًّا وَلِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ. الثَّالِثُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْوَقْفِ التَّأْبِيدُ خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ فِي تَعْرِيفِهِ، وَكَذَا قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: الْوَقْفُ يَتَنَوَّعُ إلَى خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ: مُنْقَطِعُ الْأَوَّلِ، مُنْقَطِعُ الْآخِرِ، مُنْقَطِعُ الطَّرَفَيْنِ، مُنْقَطِعُ الْوَسَطِ، مُنْقَطِعُ الطَّرَفَيْنِ وَالْوَسَطِ، فَالْأَوَّلُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ أَوْ عَلَى مَعْصِيَةٍ أَوْ عَلَى مَيِّتٍ لَا يَنْتَفِعُ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالثَّانِي: كَالْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى مَعْصِيَةٍ. وَالثَّالِثُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى مَيِّتٍ لَا يَنْتَفِعُ. وَالرَّابِعُ: كَالْوَقْفِ عَلَى أَوْلَادِهِمْ ثُمَّ عَلَى مَعْصِيَةٍ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ. وَالْخَامِسُ: كَالْوَقْفِ عَلَى نَفْسِهِ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِهِ ثُمَّ عَلَى الْمُحَارِبِينَ فِي جِهَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَلَى مَدْرَسَةٍ مُعَيَّنَةٍ ثُمَّ عَلَى الْكَنِيسَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِنَا أَنَّهُ يَبْطُلُ فِيمَا لَا يَجُوزُ الْوَقْفُ عَلَيْهِ، وَيَصِحُّ إذَا أَمْكَنَ الْوُصُولُ إلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ الِانْقِطَاعُ لِأَنَّ الْوَقْفَ نَوْعٌ مِنْ التَّمْلِيكِ فِي الْمَنَافِعِ أَوْ الْأَعْيَانِ، فَجَازَ أَنْ يَعُمَّ أَوْ يَخُصَّ كَالْعَوَارِيِّ وَالْهِبَاتِ وَالْوَصَايَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِابْتِدَاءِ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ الِانْتِهَاءِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ، وَقَالَ أَحْمَدُ: يُمْنَعُ مُنْقَطِعُ الِانْتِهَاءِ وَالْوَسَطِ، هَكَذَا فِي الذَّخِيرَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعُمْرَى بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمِيمِ وَهِيَ بِالْقَصْرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْعُمْرِ لِوُقُوعِهِ ظَرْفًا لَهَا، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: هِيَ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ حَيَاةَ الْمُعْطَى بِغَيْرِ عِوَضٍ إنْشَاءً، فَيَخْرُجُ إعْطَاءُ الذَّاتِ وَيَخْرُجُ بِحَيَاةِ الْمُعْطَى الْحُبُسُ وَالْعَارِيَّةُ وَالْمُعْطَى فِي كَلَامِهِ بِفَتْحِ الطَّاءِ، وَأَمَّا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ حَيَاةَ الْمُعْطِي بِالْكَسْرِ فَهِيَ عَارِيَّةٌ حَقِيقَةً، وَإِنْ أَطْلَقَ عَلَيْهَا لَفْظَ الْعُمْرَى فَعَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: بِغَيْرِ عِوَضٍ الْإِجَارَةُ الْفَاسِدَةُ، وَيَخْرُجُ بِإِنْشَاءِ الْحُكْمِ بِاسْتِحْقَاقِ الْعُمْرَى وَحُكْمُهَا النَّدْبُ كَالْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ وَهِيَ مِنْ الْأَرْكَانِ كَالْهِبَةِ وَصِيغَتُهَا أَعَمَرْتُك وَأَسْكَنْتُك، وَتَجُوزُ فِي الدُّورِ وَالرَّقِيقِ وَغَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ وَالْحُلِيِّ وَالنَّبَاتِ فَقَالَ: (وَمَنْ أَعْمَرَ رَجُلًا) أَوْ امْرَأَةً (حَيَاتَهُ دَارًا) أَوْ غَيْرَهَا لِيَنْتَفِعَ بِسُكْنَاهَا مُدَّةَ عُمْرِهِ صَحَّ ذَلِكَ وَ (رَجَعَتْ بَعْدَ مَوْتِ السَّاكِنِ مِلْكًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 لِرَبِّهَا وَكَذَلِكَ إنْ أَعْمَرَ عَقِبَهُ فَانْقَرَضُوا بِخِلَافِ الْحُبُسِ فَإِنْ مَاتَ الْمُعْمِرُ يَوْمَئِذٍ كَانَتْ لِوَرَثَتِهِ يَوْمَ مَوْتِهِ مِلْكًا. [أَحْكَام الْعُمْرَى] وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْحُبُسِ فَنَصِيبُهُ عَلَى مَنْ بَقِيَ. وَيُؤْثَرُ فِي الْحُبُسِ أَهْلُ الْحَاجَةِ بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ وَمَنْ سَكَنَ فَلَا يَخْرُجُ لِغَيْرِهِ إلَّا   [الفواكه الدواني] لِرَبِّهَا) إنْ كَانَ حَيًّا (وَكَذَلِكَ) تَرْجِعُ مِلْكًا لِرَبِّهَا إنْ كَانَ حَيًّا (إنْ أَعْمَرَهَا عَقِبَهُ) أَيْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِأَنْ قَالَ: أَعَمَرْت أَوْلَادَك فَقَطْ (فَانْقَرَضُوا) وَكَذَلِكَ لَوْ أَعْمَرَهُ وَعَقِبَهُ بِأَنْ قَالَ: أَعَمَرْتُك وَوَارِثَك فَإِنَّهَا تَكُونُ لِوَارِثِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَبَعْدَ انْقِرَاضِ وَارِثِهِ تَرْجِعُ مِلْكًا لِرَبِّهَا، وَالصُّوَرُ ثَلَاثَةٌ: إعْمَارُهَا فَقَطْ، عَقِبُهُ فَقَطْ، إعْمَارُهُ مَعَ عَقِبِهِ. (بِخِلَافِ الْحُبُسِ) فَإِنَّهُ لَا يَرْجِعُ بَعْدَ مَوْتِ الْمُحْبِسِ عَلَيْهِ مِلْكًا لِرَبِّهِ بَلْ يَسْتَمِرُّ حُبُسًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَجَعَ إنْ انْقَطَعَ لِأَقْرَبِ فُقَرَاءِ عُصْبَةِ الْمُحْبِسِ وَامْرَأَةٌ لَوْ رَحَلَتْ لَعَصَبَتْ (فَإِنْ مَاتَ الْمُعْمِرُ) بِكَسْرِ الْمِيمِ (يَوْمَئِذٍ) أَيْ يَوْمَ مَوْتِ الْمُعْمَرِ بِفَتْحِ الْمِيمِ أَوْ مَاتَ الْعَقِبُ إنْ كَانَ هُوَ الْمُعْمَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ. (كَانَتْ) أَيْ الدَّارُ (لِوَرَثَتِهِ) أَيْ الْمُعْمِرِ بِكَسْرِ الْمِيمِ (يَوْمَ مَوْتِهِ) لَا يَوْمَ الْمَرْجِعِ إذَا مَاتَ عَنْ ابْنِ رَقِيقٍ أَوْ كَافِرٍ وَأَخٍ أَوْ عَمٍّ حُرٍّ مُسْلِمٍ، وَلَمْ يَمُتْ الْمُعْمَرُ بِفَتْحِ الْمِيمِ حَتَّى عَتَقَ أَوْ أَسْلَمَ الِابْنُ فَإِنَّهَا تَكُونُ لِلْأَخِ لَا لِلِابْنِ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا حِينَ مَوْتِهِ، وَقَوْلُهُ (مِلْكًا) بِالنَّصْبِ عَلَى الْحَالِ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنْ الضَّمِيرِ الْمُسْتَتِرِ الْعَائِدِ عَلَى الدَّارِ لِتَأَوُّلِهِ بِمَمْلُوسَةٍ، أَوْ عَلَى الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ أَيْ رَجَعَتْ رُجُوعَ مِلْكٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَصَدَ بِبَيَانِ صِفَةِ رُجُوعِ الْعُمْرَى مِلْكًا الرَّدَّ عَلَى مَنْ قَالَ: الْمُعَقَّبَةُ لَا تَرْجِعُ بَعْدَ انْقِرَاضِ الْعَقِبِ مُطْلَقًا، أَوْ عَلَى مَنْ قَالَ: تَرْجِعُ الْمُعْقِبَةُ مَرَاجِعَ الْأَحْبَاسِ، وَأَمَّا مَا فِي الْمُوَطَّإِ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَيُّمَا رَجُلٍ أَعْمَرَ رَجُلًا عُمْرَى لَهُ وَلِعَقِبِهِ» فَإِنَّهَا لِلَّذِي يُعْطَاهَا لَا تَرْجِعُ لِلَّذِي أَعْطَاهَا أَبَدًا، لِأَنَّهُ أَعْطَى عَطَاءً وَقَعَتْ فِيهِ الْمُوَارَثَةُ، فَلَمْ يَأْخُذْ بِهِ مَالِكٌ لِأَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى خِلَافِهِ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْعُمْرَى لَا تَتَقَيَّدُ بِالْعَقَارِ، كَمَا لَا تَتَقَيَّدُ بِعُمْرِ الْمُعْمَرِ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَلَا بِلَفْظِ أَعَمَرْتُك، فَلَوْ قَالَ لَهُ: وَهَبْت لَك غَلَّتَهَا مُدَّةَ عُمْرِك كَانَتْ عُمْرَى. [بَيَان حُكْمِ الْحُبُسِ بَعْدَ مَوْتِ بَعْضِ مَنْ حَبَسَ عَلَيْهِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الْحُبُسِ بَعْدَ مَوْتِ بَعْضِ مَنْ حَبَسَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِ الْحُبُسِ) وَهُمْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِمْ (فَنَصِيبُهُ) مُوَزَّعٌ (عَلَى مَنْ بَقِيَ) مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ إذَا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنَيْنِ كَقَوْلِهِ: هَذَا وَقْفٌ عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ أَوْ أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَلَمْ يُرَتِّبْ، فَإِنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى الْجَمِيعِ عِنْدَ وُجُودِهِمْ، وَلَا يُمْنَعُ وَلَدُ الْوَلَدِ لِوُجُودِ أَصْلِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يُرَتِّبْ، وَلِذَا يَنْتَقِضُ الْقَسْمُ بِحُدُوثِ وَلَدٍ لِأَوْلَادِ الْأَوْلَادِ أَوْ لِآبَائِهِمْ، كَمَا يَنْتَقِضُ بِمَوْتِ وَاحِدٍ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْعَ يَدْخُلُ فِي الْوَقْفِ مَعَ وُجُودِ أَصْلِهِ وَلَوْ صَغِيرًا فِي غَيْرِ دُورِ السُّكْنَى، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ بُيُوتَ سُكْنَى فَلَا يَسْتَحِقُّ الْوَلَدُ الذَّكَرُ مَعَ أَبِيهِ إلَّا إذَا تَزَوَّجَ، وَأَمَّا الْأُنْثَى فَلَا تُعْطَى لِأَنَّهَا فِي كَفَالَةِ أَبِيهَا، وَأَمَّا إذَا قَالَ: عَلَى أَوْلَادِ فُلَانٍ ثُمَّ عَلَى أَوْلَادِ أَوْلَادِهِ وَهَكَذَا، فَإِنْ مَنْ مَاتَ يَنْتَقِلُ نَصِيبُهُ لِوَلَدِهِ وَلَا يَنْتَقِلُ لِأَخِيهِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدُ وَلَدٍ، وَلَوْ قَالَ: الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا تَحْجُبُ السُّفْلَى لِأَنَّ مُرَادَ الْوَاقِفِ بِقَوْلِهِ: الطَّبَقَةُ الْعُلْيَا تَحْجُبُ السُّفْلَى أَنَّ كُلَّ أَصْلٍ يَحْجُبُ فَرْعَ نَفْسِهِ لَا فَرَعَ غَيْرِهِ. (تَنْبِيهٌ) وَإِذَا قُسِمَ عَلَى الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ الْمُعَيَّنِينَ فَيُعْطَى لِلْغَنِيِّ وَالْفَقِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ، وَتُعْطَى الْأُنْثَى مِثْلُ الذَّكَرِ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَطَايَا التَّسَاوِي إلَّا لِشَرْطٍ خِلَافِهِ، فَيُعْمَلُ بِالشَّرْطِ إلَّا فِي مَرَاجِعِ الْأَحْبَاسِ فَلَا يُعْمَلُ بِالشَّرْطِ، وَيُسَوَّى بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَلَا يُزَادُ الْفَقِيرُ دُونَ الْغَنِيِّ، لِأَنَّ الْإِيثَارَ إنَّمَا هُوَ فِي الْوَقْفِ عَلَى مَنْ لَا يُحَاطُ بِهِمْ كَالْفُقَرَاءِ كَمَا سَيَأْتِي التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. (تَتِمَّةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ حِسَانٍ عَزِيزَةِ الْوُجُودِ) (مُلَخَّصَةٍ مِنْ كَلَامِ عَلَّامَةِ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَغَيْرِهِ) مِنْهَا: لَوْ كَانَ الْمَوْقُوفُ غَلَّةَ ثَمَرَةٍ ثُمَّ يَمُوتُ بَعْضُ أَهْلِ الْحُبُسِ قَبْلَ أَخْذِ الثَّمَرَةِ فَفِي اسْتِحْقَاقِهِ مِنْهَا وَعَدَمِ اسْتِحْقَاقِهِ تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ كَانَ الْمَوْتُ بَعْدَ طِيبِ الثَّمَرَةِ فَحَظُّ الْمَيِّتِ لِوَرَثَتِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ قَبْلَ إبَارِهَا فَلَا شَيْءَ لِوَارِثِهِ اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِبَارِ وَقَبْلَ الطِّيبِ فَخَمْسَةُ أَقْوَالٍ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ مِنْهَا: أَنْ تَكُونَ لِمَنْ بَقِيَ مِنْ أَهْلِ الْحُبُسِ وَهَذَا فِي الْوَقْفِ عَلَى مُعَيَّنِينَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَلَى مِثْلِ بَنِي زُهْرَةَ أَوْ الْفُقَرَاءِ فَلَا يَسْتَحِقُّ مِنْهُ أَحَدٌ شَيْئًا إلَّا مَنْ كَانَ مَوْجُودًا حِينَ الْقِسْمَةِ، وَكُلُّ مَنْ مَاتَ أَوْ غَابَ قَبْلَهَا غَيْبَةَ انْقِطَاعٍ لَا يُعْطَى وَارِثُهُ شَيْئًا، وَأَمَّا مَنْ غَابَ لِيَرْجِعَ سَرِيعًا فَيُوقَفُ لَهُ نَصِيبُهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَمِنْهَا الْحُبُسُ عَلَى قَوْمٍ لِلِاغْتِلَالِ كَالدُّورِ وَالْحَيَوَانَاتِ وَيُرِيدُونَ قِسْمَتَهُ فَهَلْ يُمَكَّنُونَ مِنْ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ تَجُوزُ قِسْمَتُهُ بِتَرَاضِيهِمْ قِسْمَةَ انْتِفَاعٍ أَوْ اغْتِلَالٍ بِشَرْطِ اتِّفَاقِهِمْ عَلَى نَقْضِ الْقِسْمَةِ عِنْدَ وُجُودِ مَا يَقْتَضِي نَقْضَهَا مِنْ زِيَادَةِ عَدَدِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ الْحُبُسِ شَرْطٌ فَيُمْضَى. وَلَا يُبَاعُ الْحُبُسُ وَإِنْ خَرِبَ وَيُبَاعُ الْفَرَسُ الْحُبُسُ يُكْلَبُ وَيُجْعَلُ ثَمَنُهُ فِي   [الفواكه الدواني] نَقْصِهِمْ، وَلَا يَجُوزُ تَرَاضِيهِمْ عَلَى قَسْمِهِ ذَاتَه، وَمِنْهَا الْوَقْفُ عَلَى نَحْوِ إمَامٍ أَوْ مُؤَذِّنٍ أَوْ مُدَرِّسٍ إذَا أَخَلَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ الْعَمَلِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُ شَرْعًا، كَالْإِمَامِ يَتْرُكُ الْإِمَامَةَ مُدَّةً وَلَمْ يُقِمْ نَائِبًا، أَوْ الْمُؤَذِّنِ أَوْ الْمُدَرِّسِ ثُمَّ يَمُوتُ أَوْ يُعْزَلُ أَوْ يَسْتَمِرُّ فَهَلْ يَسْتَحِقُّ شَيْئًا زَمَنَ إخْلَالِهِ وَيُعْطَى مَا يُقَابِلُ عَمَلَهُ أَوْ لَا يُعْطَى شَيْئًا؟ اخْتَلَفَ رَأْيُ الْقَوْمِ فِي ذَلِكَ، فَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الْوَانْشَرِيسِيُّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ كُلُّ وَاحِدٍ بِقَدْرِ عَمَلِهِ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ الْقَرَافِيُّ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا مِنْ الْمَعْلُومِ وَلَا فِي نَظِيرِ مَا عَمِلَ لِأَنَّهُ لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ عَمِلَ مَا طُلِبَ مِنْهُ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي الْأَوَّلُ لِأَنَّهُ كَالْأَجِيرِ يَتَبَعَّضُ لَهُ الْعِوَضُ بِتَبْعِيضِ الْمَنْفَعَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْوَقْفُ خَرَاجِيًّا أَوْ هِلَالِيًّا، وَيَدُلُّ لِمَا قُلْنَاهُ أَيْضًا فَتْوَى بَعْضِ فُضَلَاءِ الْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ بِأَنَّ مَنْ تَقَرَّرَ فِي وَظِيفَةٍ ثُمَّ مَاتَ أَوْ عُزِلَ فَإِنَّ لَهُ أَوْ لِمُوَرِّثِهِ بِقَدْرِ مَا بَاشَرَ، وَلَا يُعْطَى الْمُقَرَّرُ بَعْدَهُ إلَّا مِنْ يَوْمِ مُبَاشَرَتِهِ لَا مِنْ يَوْمِ تَقْدِيرِهِ السَّابِقِ عَلَى مُبَاشَرَتِهِ، وَأَمَّا نَحْوُ الْقِرَاءَةِ فِي سَبْعٍ أَوْ أَجْزَاءٍ يُقَصِّرُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ أَحْيَانَا أَوْ يَمُوتُ، فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَهُمْ كَالْأَجْزَاءِ لِكُلٍّ وَاحِدٌ أَوْ وَارِثُهُ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وَإِلَّا لَمْ يُعْطَ شَيْئًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [صِفَةِ قَسْمِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْوَقْفِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ قَسْمِ الْمَقْصُودِ مِنْ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ عَلَى مُتَوَلِّي أَمْرِ الْوَقْفِ عَلَى غَيْرِ مُعَيَّنٍ أَنْ (يُؤْثِرَ فِي) قَسْمِ (الْحُبُسِ أَهْلَ الْحَاجَةِ) وَالْعِيَالَ عَلَى غَيْرِهِمْ (بِالسُّكْنَى وَالْغَلَّةِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى مَنْ لَا يُحَاطُ بِهِمْ أَوْ عَلَى قَوْمٍ وَأَعْقَابِهِمْ أَوْ عَلَى كَوَلَدِهِ وَلَمْ يُعَيِّنْهُمْ فَضَّلَ الْمَوْلَى أَهْلَ الْحَاجَةِ وَالْعِيَالَ فِي غَلَّةٍ وَسُكْنَى بِاجْتِهَادِهِ، لِأَنَّ قَصْدَ الْوَاقِفِ الْإِرْفَاقُ وَالْإِحْسَانُ بِالْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ وَسَدُّ خَلَّتِهِمْ، فَإِنْ اسْتَوَوْا فِي الْفَقْرِ أَوْ الْغِنَى فَإِنَّهُ يُؤْثِرُ الْأَقْرَبَ عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى مُعَيَّنِينَ فَإِنَّهُ يُسَوِّي بَيْنَ الْجَمِيعِ، وَلَا يُفَضِّلُ فَقِيرًا عَلَى غَنِيٍّ، وَلَا أُنْثَى عَلَى ذَكَرٍ، وَلَا صَغِيرًا عَلَى كَبِيرٍ، وَيُعْطَى مِنْهُ الْحَاضِرُ وَالْغَائِبُ، بِخِلَافِ عَلَى نَحْوِ الْفُقَرَاءِ فَإِنَّمَا يُعْطَى مِنْهُ الْحَاضِرُ لَا الْغَائِبُ وَقْتَ الْقِسْمَةِ كَمَا قَدَّمْنَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَعْنَى الْإِيثَارِ عَلَى مَعْنَاهُ التَّفْضِيلُ وَالزِّيَادَةُ عَلَى غَيْرِهِ، أَوْ مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ عَلَى غَيْرِهِ، فَمِنْ الشُّيُوخِ مَنْ فَسَّرَهُ بِالْأَوَّلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهُ بِالثَّانِي. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ وَهُوَ الْأَحْسَنُ: بِخِلَافِ الْإِيثَارِ فِي الْوَصَايَا فَإِنَّهُ بِالزِّيَادَةِ لَا بِالتَّقْدِيمِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي الْوَصَايَا لَفَاتَ غَرَضُ الْمُوصِي بِسَبَبِ حِرْمَانِ الْبَاقِي بِخِلَافِ الْوَقْفِ فَإِنَّهُ مُسْتَمِرٌّ، وَهَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ: الْمُبَدَّأُ فِي الْحُبُسِ أَهْلُ الْحَاجَةِ عَلَى الْأَغْنِيَاءِ فِي السُّكْنَى وَالْغَلَّةِ، فَلَا سُكْنَى لِلْأَغْنِيَاءِ مَعَهُمْ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْهُمْ شَيْءٌ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْإِيثَارِ وَحَمَلْنَاهُ عَلَى الْإِيجَابِ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ غَرَضِ الْوَاقِفِ عِنْدَ فَقْدِ شَرْطِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ إيثَارَ الْمُحْتَاجِ مُوَافِقٌ لِغَرَضِهِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ وُجُوبِ الْإِيثَارِ حَتَّى فِي السُّكْنَى خُرُوجُ مَنْ سَكَنَ فَقِيرًا ثُمَّ اسْتَغْنَى. (فَلَا يَخْرُجُ لِغَيْرِهِ) مِنْ الْفُقَرَاءِ أَوْ ذَوِي الْعِيَالِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَصْلِ الْحُبُسِ شَرْطٌ) بِإِخْرَاجِ مَنْ اسْتَغْنَى (فَيُمْضَى) شَرْطُهُ وَيُعْمَلُ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَمْ يَخْرُجْ سَاكِنٌ لِغَيْرِهِ إلَّا لِشَرْطٍ أَوْ سَفَرِ انْقِطَاعٍ أَوْ بَعِيدٍ، وَهُوَ الَّذِي يُظَنُّ فِيهِ عَدَمُ رُجُوعِ صَاحِبِهِ، بِخِلَافِ مَنْ سَافَرَ لِيَرْجِعَ فَإِنَّهُ يَبْقَى عَلَى حَقِّهِ فَلَهُ أَنْ يُكْرِيَ مَحَلَّهُ إلَى أَنْ يَعُودَ، وَمَجْهُولُ الْحَالِ يُحْمَلُ عَلَى الْعَوْدِ حَتَّى يَحْصُلَ الْيَأْسُ مِنْ عَوْدِهِ، هَذَا حُكْمُ الْوَقْفِ عَلَى قَوْمٍ مَحْصُورِينَ كَالْمَغَارِبَةِ مَثَلًا، أَوْ عَلَى ذُرِّيَّةِ فُلَانٍ الْفُقَرَاءِ، وَأَمَّا الْوَقْفُ عَلَى قَوْمٍ مَوْصُوفِينَ بِوَصْفٍ كَالْوَقْفِ عَلَى الْفُقَرَاءِ، أَوْ عَلَى طَلَبَةِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى الْمُشْتَغِلِ بِقِرَاءَةِ الْعِلْمِ، أَوْ عَلَى الْمُلَازِمِ لِلْمُجَاوِرَةِ فِي الْأَزْهَرِ ثُمَّ سَكَنَ وَاحِدٌ بِوَصْفِهِ وَزَالَ وَصْفُهُ، فَإِنَّهُ يَخْرُجُ لِغَيْرِهِ مِمَّنْ هُوَ مُتَّصِفٌ بِذَلِكَ الْوَصْفِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ أَوْلَادِ الْمَقْسُومِ عَلَيْهِمْ، وَالْحُكْمُ أَنَّ مَنْ سَكَنَ مِنْ أَهْلِ الْحُبُسِ وَمَعَهُ وَلَدُهُ فَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُمَكَّنِ الِانْفِرَادِ عَنْ أَبِيهِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا، وَإِنْ بَلَغَ وَقَوِيَ عَلَى الِانْفِرَادِ وَلَمْ يَسْكُنْ كَالْكَبِيرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ يَتَزَوَّجُ حَيْثُ ضَاقَ عَنْهُ مَسْكَنُ أَبِيهِ، وَأَمَّا الْإِنَاثُ فَلَا مَسْكَنَ لَهُنَّ لِأَنَّهُنَّ فِي كَفَالَةِ الْأَبِ. الثَّانِي: أَقَامَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْمَغْرِبِيُّ مِنْ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ: مَنْ مَاتَ وَغَابَ غَيْبَةَ انْتِقَالٍ اسْتَحَقَّ الْحَاضِرُ مَكَانَهُ، وَأَمَّا مَنْ سَافَرَ لِيَرْجِعَ فَهُوَ عَلَى حَقِّهِ، أَنَّ مَنْ جَلَسَ بِمَوْضِعٍ مِنْ الْمَسْجِدِ فِي الصَّفِّ الْأَوَّلِ وَقَامَ يُجَدِّدُ الْوُضُوءَ أَوْ يَفْعَلُ شَيْئًا سِوَاهُ وَيَعُودُ إلَى مَحَلِّهِ بِالْقُرْبِ فَإِنَّهُ أَحَقُّ بِهِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قِيَامُ الطَّالِبِ مِنْ دَرْسِ الْعِلْمِ لِحَاجَةٍ وَيَعُودُ إلَى مَحَلِّهِ فَلَا يَسْقُطُ حَقُّهُ، وَلَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ الْجُلُوسُ فِيهِ حَيْثُ كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مَكَانٌ مَعْلُومٌ، وَيُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَنْ سَبَقَ إلَى مَحَلٍّ مُبَاحٍ كَطَرِيقٍ أَوْ جُلُوسِ بَاعَةٍ فِي سُوقٍ وَأَخْذِ مَاءٍ مِنْ بِئْرٍ مُبَاحٍ. [مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَقْفِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ الْوَقْفِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يُحَرَّمُ أَنْ (يُبَاعَ) الْعَقَارُ (الْحُبُسُ وَإِنْ خَرِبَ) بِحَيْثُ صَارَ لَا يُنْتَفَعُ بِهِ وَلَوْ لَمْ يَرْجُ عَوْدَهُ. قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا يُبَاعُ الْعَقَارُ الْحُبُسُ وَلَوْ خَرِبَ، وَبَقَاءُ أَحْبَاسِ السَّلَفِ دَائِرَةً دَلِيلٌ عَلَى مَنْعِ ذَلِكَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يَجُوزُ بَيْعُهُ إنْ كَانَ فِي بَقَائِهِ ضَرَرٌ وَلَا يُرْجَى عَوْدُهُ، وَحَكَى عَلَى ذَلِكَ الِاتِّفَاقَ وَلَا شَكَّ فِي مُخَالَفَتِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 مِثْلِهِ أَوْ يُعَانُ بِهِ فِيهِ. وَاخْتُلِفَ فِي الْمُعَاوَضَةِ بِالرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ. وَالرَّهْنُ جَائِزٌ وَلَا يَتِمُّ إلَّا بِالْحِيَازَةِ. وَلَا تَنْفَعُ   [الفواكه الدواني] لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ، وَلَعَلَّ وَجْهُ كَلَامِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّطَرُّقِ إلَى بَيْعِ الْأَوْقَافِ بِدَعْوَى الْخَرَابِ، وَالْإِمَامُ بَنَى مَذْهَبَهُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ، وَكَمَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْعَقَارِ الْحُبُسُ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَنْقَاضِهِ. (تَنْبِيهٌ) كَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْوَاقِفُ شَرَطَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ بَيْعَهُ وَإِلَّا جَازَ، سَوَاءٌ قَيَّدَ ذَلِكَ بِالْحَاجَةِ أَمْ لَا، كَمَا لَوْ شَرَطَ الْوَاقِفُ لِنَفْسِهِ بَيْعَهُ فَيَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ عَمَلًا بِالشَّرْطِ قِيَاسًا عَلَى شَرْطِ الرُّجُوعِ فِي صَدَقَتِهِ، وَكَذَا يَجُوزُ بَيْعُ الْوَقْفِ لِتَوْسِعَةِ مَسْجِدِ الْجُمُعَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا لِتَوَسُّعٍ كَمَسْجِدٍ وَيُؤَجَّرُ أَوْ يُشْتَرَى بِثَمَنِهِ مَا يُجْعَلُ حُبُسًا كَالْأَوَّلِ، وَمِثْلُ تَوْسِعَةِ الْمَسْجِدِ تَوْسِعَةُ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ وَمَقْبَرَتِهِمْ، لِأَنَّ نَفْعَ الْمَسْجِدِ وَالْمَقْبَرَةِ وَالطَّرِيقِ أَكْثَرُ مِنْ نَفْعِ الْوَقْفِ فَهُوَ قَرِيبٌ لِغَرَضِ الْوَاقِفِ، وَأَيْضًا يُسْتَبْدَلُ بِالثَّمَنِ خِلَافُهُ، فَإِنَّهُ امْتَنَعَ الْبَائِعُونَ مِنْ جَعْلِ الثَّمَنِ فِي مِثْلِهِ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ بِذَلِكَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَاخْتِلَالُ أَمْرِ الْوَقْفِ يَحِلُّ بَيْعُهُ، وَهَذَا غَيْرُ مُنَافٍ لِجَبْرِهِمْ عَلَى الْبَيْعِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي الدُّورِ الَّتِي كَانَتْ حَوْلَ مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ مُحْبَسَةٌ فَإِنَّهَا اُشْتُرِيَتْ وَزِيدَتْ فِيهِ، وَقَيَّدْنَا بِمَسْجِدِ الْجُمُعَةِ لِإِخْرَاجِ غَيْرِهِ، فَلَا يُبَاعُ الْوَقْفُ لِتَوْسِعَتِهِ كَمَا لَا يُبَاعُ لِتَوْسِعَةِ نَحْوِ الْمِيضَأَةِ، وَأَشَارَ إلَى مَا يَجُوزُ بَيْعُهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يُبَاعَ الْفَرَسُ الْحُبُسُ يَكْلَبُ) بِفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ وَاللَّامِ وَالْكَلْبُ فَقْدُ الْإِلْهَامِ، لِأَنَّهُ إذَا أَصَابَ الْفَرَسَ لَا يَأْكُلُ وَلَا يَشْرَبُ وَتَحْمَرُّ عَيْنَاهُ وَيَعَضُّ كُلَّ مَنْ يَقْرَبُ إلَيْهِ، وَمِثْلُ الْكَلْبِ الْهَرَمُ وَالْمَرَضُ، وَمِثْلُ الْفَرَسِ الْكَلْبِ عَلَى مَا تَعَطَّلَتْ مَنْفَعَتُهُ الْمَقْصُودَةُ كَالْكَبِيرَةِ مِنْ الْإِنَاثِ الْمَوْقُوفَةِ لِنَسْلِهَا أَوْ لِعَمَلِهَا، وَالزَّائِدُ الذُّكُورُ عَلَى مَا يُحْتَاجُ إلَيْهِ فِي الْغَزْوِ. (وَ) إذَا بِيعَ الْفَرَسُ الْكَلْبُ وَمَا ذَكَرْنَاهُ فَإِنَّهُ يَجِبُ أَنْ (يُجْعَلَ ثَمَنُهُ فِي مِثْلِهِ) مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ كَالنَّفْعِ الَّذِي كَانَ فِي الْمُبَاعِ إذَا بَلَغَ ثَمَنُهُ ثَمَنَ شَيْءٍ مُمَاثِلٍ لِلْأَوَّلِ. (أَوْ يُعَانَ بِهِ فِيهِ) أَيْ فِي شِرَاءِ مِثْلِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَيْعُ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ مِنْ غَيْرِ عَقَارٍ فِي مِثْلِهِ أَوْ شِقْصِهِ كَانَ أَتْلَفَ، وَفُضِّلَ الذُّكُورُ وَمَا كَبُرَ مِنْ الْإِنَاثِ فِي إنَاثٍ، فَإِنْ لَمْ يَبْلُغْ ثَمَنُ مَا بِيعَ ثَمَنَ شَيْءٍ كَامِلٍ وَإِلَّا أَمْكَنَ الْإِعَانَةُ بِهِ فِي شِقْصِهِ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْجِهَةِ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهَا، فَثَمَنُ الْفَرَسِ يُفَرَّقُ عَلَى الْمُجَاهِدِينَ، وَثَمَنُ الْحَيَوَانِ عَلَى مَنْ وُقِفَ عَلَيْهِ، وَثَمَنُ الثَّوْبِ الْخَلْقِ عَلَى الْعُرَاةِ. (تَنْبِيهٌ) تَلَخَّصَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ بَيْعُ الْأَعْيَانِ الْمَوْقُوفَةِ غَيْرِ الْعَقَارِ إذَا تَعَطَّلَ الْمَقْصُودُ مِنْهَا، لَا فَرْقَ بَيْنَ الْحَيَوَانِ وَالثِّيَابِ، سَوَاءٌ كَانَ الْحَيَوَانُ يُعْلَفُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ يَرْعَى فِي الْمَرْجِ حِرْصًا عَلَى الْوَفَاءِ بِغَرَضِ الْوَاقِفِ وَبَقَاؤُهُ مُعَطَّلُ الِانْتِفَاعِ مُفَوِّتٌ لَهُ. (وَاخْتُلِفَ فِي) حُكْمِ (الْمُعَاوَضَةِ) أَيْ الْمُبَادَلَةِ (بِالرَّبْعِ الْخَرِبِ بِرَبْعٍ غَيْرِ خَرِبٍ) وَلَوْ كَانَ جَدِيدًا فَاَلَّذِي عَلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْجَوَازِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا يَجُوزُ: لَا عَقَارَ وَإِنْ خَرِبَ وَنُقِضَ وَلَوْ بِغَيْرِ خَرِبٍ، أَيْ لَا يَجُوزُ بَيْعُ أَنْقَاضِ الْوَقْفِ وَلَا إبْدَالُ الرَّبْعِ الْخَرِبِ بِالرَّبْعِ غَيْرِ الْخَرِبِ وَالْجَوَازُ لِرَبِيعَةَ، وَنُقِلَ مِثْلُهُ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ الْمَنْعُ فَالْقَوْلُ بِالْجَوَازِ ضَعِيفٌ. (خَاتِمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ حِسَانٍ) مِنْهَا: أَنَّ الذَّاتَ الْمَوْقُوفَةَ بَاقِيَةٌ عَلَى مِلْكِ الْوَاقِفِ وَإِنْ كَانَ مَمْنُوعًا مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا بِالْبَيْعِ وَنَحْوِهِ، وَلَيْسَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيْهِ إلَّا الْمَنْفَعَةُ الْمُعْطَاةُ مِنْ غَلَّةٍ أَوْ عَمَلٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْوَقْفَ هُوَ إعْطَاءُ الْمَنْفَعَةِ فَلَيْسَ الْوَقْفُ مِنْ بَابِ الْإِسْقَاطِ، بِخِلَافِ الْعِتْقِ وَالصَّدَقَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمِلْكُ لِلْوَاقِفِ وَظَاهِرُهُ حَتَّى فِي الْمَسَاجِدِ وَقِيلَ إلَّا فِي الْمَسَاجِدِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن: 18] وَلَكِنَّ الرَّاجِحَ الْأَوَّلُ، وَفَائِدَةُ ذَلِكَ مَعَ مَنْعِهِ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهِ أَنَّ لَهُ وَلِوَارِثِهِ مَنْعُ مَنْ يُرِيدُ إصْلَاحَهُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَكْرَى بِدُونِ أُجْرَةِ الْمِثْلِ يُفْسَخُ كِرَاؤُهُ لِمَنْ يُرِيدُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِأَكْثَرَ، وَأَمَّا لَوْ أَكْرَى بِأُجْرَةِ الْمِثْلِ زَمَنَ الْعَقْدِ فَلَا يُفْسَخُ كِرَاؤُهُ لِأَجْلِ زِيَادَةٍ عَلَيْهَا. وَمِنْهَا: أَنَّ إجَارَةَ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إنْ وَقَعَتْ مِنْ نَاظِرِهِ الَّذِي لَيْسَ مِنْ الْمَوْقُوفِ عَلَيْهِمْ فَصَحِيحَةٌ لِعَدَمِ انْفِسَاخِهَا بِمَوْتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ عَلَى مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ الْإِجَارَةُ مِنْ بَعْضِ الْمُسْتَحَقِّينَ، فَإِنْ كَانُوا مُعَيَّنِينَ فَيَجُوزُ كِرَاؤُهَا لِغَيْرِ مَنْ مَرْجِعُهَا لَهُ نَحْوَ السَّنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَةِ، وَلِمَنْ مَرْجِعُهَا لَهُ الْعُشْرُ سَوَاءٌ كَانَتْ تَرْجِعُ لَهُ بِمِلْكٍ أَوْ تَحْبِيسٍ هَذَا حُكْمُ الْأَرْضِ، وَأَمَّا الدُّورُ الْمَوْقُوفَةُ فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُكْرَى أَكْثَرَ مِنْ عَامٍ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا شَرْطَ مِنْ الْوَاقِفِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَإِلَّا اتَّبَعَ شَرْطَهُ حَيْثُ لَا ضَرُورَةَ تَدْعُو إلَى مُخَالَفَتِهِ وَإِلَّا جَازَتْ مُخَالَفَتُهُ، فَقَدْ أَفْتَى بَعْضُ أَكَابِرِ أَهْلِ الْغَرْبِ بِجَوَازِ كِرَاءِ دَارٍ مُحْبَسَةٍ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَتَخَرَّبَتْ وَلَمْ يُوجَدْ مَا تُعَمَّرُ بِهِ السِّنِينَ الْكَثِيرَةَ بِشَرْطِ إصْلَاحِهَا مِنْ كِرَائِهَا وَأَبَى أَنْ يَسْمَحَ بِبَيْعِهَا وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ. [بَاب الرَّهْن] وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الرَّهْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 الشَّهَادَةُ فِي حِيَازَتِهِ إلَّا بِمُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ. وَضَمَانُ الرَّهْنِ مِنْ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَا يَضْمَنْ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ. وَثَمَرَةُ   [الفواكه الدواني] وَالْوَقْفِ مُنَاسَبَةٌ مِنْ جِهَةِ تَوَقُّفِ التَّمَامِ عَلَى الْحِيَازَةِ ذَكَرَهُ عَقِبَهُ فَقَالَ: (وَالرَّهْنُ) لُغَةً اللُّزُومُ وَالْحُبُسُ وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَالٌ قُبِضَ تَوَثُّقًا بِهِ فِي دَيْنٍ، فَلَا يَصِحُّ فِي مُعَيَّنٍ وَلَا فِي مَنْفَعَةِ الْعَيْنِ، وَعَرَّفَهُ خَلِيلٌ بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ بِقَوْلِهِ: الرَّهْنُ بَذْلُ مَنْ لَهُ الْبَيْعُ مَا يُبَاعُ أَوْ غَرَرًا وَلَوْ اشْتَرَطَ فِي الْعَقْدِ وَثِيقَةً بِحَقٍّ، وَمَعْنَى التَّوَثُّقِ بِالرَّهْنِ بَيْعُهُ فِي الدَّيْنِ إذَا عَجَزَ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ عَنْ وَفَائِهِ، وَبَيَّنَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَهُ بِقَوْلِهِ: (جَائِزٌ) حَضَرًا وَسَفَرًا عِنْدَ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] . وَلِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِيٍّ إلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيدٍ» . وَفِي الْبُخَارِيِّ أَيْضًا: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - تُوُفِّيَ وَلَهُ دِرْعٌ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ» . وَلَا حُجَّةَ لِمَنْ خَصَّ الْجَوَازَ بِالسَّفَرِ دُونَ الْحَضَرِ مُسْتَدِلًّا بِظَاهِرِ آيَةِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ} [البقرة: 283] لِأَنَّهُ إنَّمَا خَصَّ السَّفَرَ لِعَدَمِ وُجُودِ الْكَاتِبِ الَّذِي هُوَ الْبَيِّنَةُ فِيهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِلرَّهْنِ أَرْبَعَةُ أَرْكَانٍ: الرَّاهِنُ وَهُوَ دَافِعُ الرَّهْنِ، وَالْمُرْتَهِنُ وَهُوَ الْقَابِضُ لَهُ وَشَرْطُهُمَا التَّأَهُّلُ لِلْبَيْعِ صِحَّةً وَلُزُومًا، فَيَصِحُّ مِنْ الْمُمَيِّزِ وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا وَيَلْزَمُ مِنْ الْمُكَلَّفِ الرَّشِيدِ. وَالثَّالِثُ: الشَّيْءُ الْمَرْهُونُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَوْفَى الدَّيْنُ مِنْهُ أَوْ مِنْ ثَمَنِ مَنَافِعِهِ، فَيَدْخُلَ رَهْنُ الشَّيْءِ الْمُعَارِ لِلرَّهْنِ وَالدَّيْنُ وَوَثِيقَتُهُ، لِجَوَازِ بَيْعِهَا وَبَيْعِ مَا فِيهَا مِنْ الدَّيْنِ، لَكِنَّ صِحَّةَ رَهْنِ الدَّيْنِ مَشْرُوطَةٌ بِكَوْنِ أَجَلِهِ مِثْلَ أَجَلِ الدَّيْنِ الْمَرْهُونِ فِيهِ أَوْ أَبْعَدَ مِنْهُ، لَا إنْ كَانَ يَحِلُّ قَبْلَ الْمَرْهُونِ فِيهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَدَائِهِ إلَى الْبَيْعِ وَالسَّلَفِ وَهُوَ انْتِفَاعُهُ بِهِ فِي بَقِيَّةِ الْأَجَلِ، وَيَدْخُلُ رَهْنُ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ مِنْ غَاصِبِهِ، وَيَكْفِي فِي الصِّحَّةِ الْعَزْمُ عَلَى الرَّدِّ، وَيَنْتَقِلُ مِنْ ضَمَانِ الْعَزَاءِ إلَى ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَيَدْخُلُ رَهْنُ الشَّيْءِ الْآبِقِ وَالشَّارِدِ لِخِفَّةِ غَرَرِهِمَا، بِخِلَافِ مَا اشْتَدَّ غَرَرُهُ أَوْ حُرِّمَ تَمَلُّكُهُ كَالْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَجِلْدِ الْمَيْتَةِ فَلَا يَصِحُّ شَيْءٌ مِنْهَا. الرَّابِعُ: الْمَرْهُونُ فِيهِ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ يُمْكِنُ اسْتِيفَاؤُهُ مِنْ الرَّهْنِ، فَلَا يَصِحُّ الرَّهْنُ فِي مُعَيَّنٍ وَلَا فِي مَنْفَعَتِهِ لِاسْتِحَالَةِ اسْتِيفَاءِ الدَّافِعِ الْعَيِّنَةَ أَوْ مَنْفَعَتَهَا مِنْ ذَاتِ ثَمَرِ الرَّهْنِ، وَأَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الدَّيْنُ لَازِمًا أَوْ صَائِرًا إلَى اللُّزُومِ، كَالْجَعْلِ بَعْدَ الْعَمَلِ لَا كَكِتَابَةٍ وَجَعْلٍ قَبْلَ الْعَمَلِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ صِيغَةَ الرَّهْنِ، وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ الْخِلَافَ فِيهَا بِقَوْلِهِ: فَفِي افْتِقَارِ الرَّهْنِ لِلَفْظٍ مُصَرَّحٍ بِهِ تَأْوِيلَانِ مُفَرَّعَانِ عَلَى تَأْوِيلَيْنِ فِيمَا لَوْ قَالَ الرَّاهِنُ لِلْمُرْتَهِنِ: أَنْفِقْ عَلَيَّ الرَّهْنَ وَنَفَقَتَهُ فِي الرَّهْنِ هَلْ يَكُونُ رَهْنًا فِيهَا بِنَاءً عَلَى افْتِقَارِهِ لِلَفْظٍ مُصَرِّحٍ بِهِ أَوْ لَا يَكُونُ رَهْنًا بِنَاءً عَلَى افْتِقَارِهِ لِلَفْظٍ مُصَرِّحٍ بِهِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ ابْنُ يُونُسَ وَالثَّانِي ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ شَبْلُونٍ. (وَلَا يَتِمُّ) الرَّهْنُ بِحَيْثُ يَخْتَصُّ بِهِ مُرْتَهِنُهُ دُونَ بَقِيَّةِ الْغُرَمَاءِ (إلَّا بِالْحِيَازَةِ) قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ مِنْ مَوْتٍ أَوْ فَلَسٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَطَلَ بِمَوْتِ رَاهِنِهِ أَوْ فَلَسِهِ قَبْلَ حَوْزِهِ وَلَوْ جَدَّ فِيهِ، بِخِلَافِ الْهِبَةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّ الْجَدَّ فِيهِمَا بِمَنْزِلَةِ حَوْزِهِمَا، لِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِ رَاهِنِهِ بِخِلَافِهِمَا. (تَنْبِيهٌ) لَوْ امْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ وَضْعِ الرَّهْنِ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ وَطَلَبَ وَضْعَهُ عِنْدَ أَمِينٍ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ كَعَكْسِهِ وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْأَمِينِ فَإِنَّهُ يَنْظُرُ الْحَاكِمُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَكْفِي وَمَا لَا يَكْفِي مِنْ الْحِيَازَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَنْفَعُ الشَّهَادَةُ فِي) أَيْ عَلَى مُجَرَّدِ (حِيَازَتِهِ) بَلْ لَا تُعْتَبَرُ الْحِيَازَةُ (إلَّا بِمُعَايَنَةِ الْبَيِّنَةِ) لِحَوْزِ الْمُرْتَهِنِ لَهُ قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ لِلرَّاهِنِ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَى التَّحْوِيزِ وَهُوَ شَهَادَتُهَا عَلَى مُعَايَنَةِ تَسْلِيمِ الرَّاهِنِ الرَّهْنَ لِلْمُرْتَهِنِ، وَفِي الْمُدَوَّنَةِ مَا يَدُلُّ لِلْقَوْلَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ يَكْفِي بَيِّنَةٌ عَلَى الْحَوْزِ قَبْلَهُ وَبِهِ عَمِلَ أَوْ التَّحْوِيزُ وَفِيهَا دَلِيلُهُمَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذُكِرَ مِنْ اشْتِرَاطِ الشَّهَادَةِ عَلَى الْحِيَازَةِ قَبْلَ الْمَانِعِ أَوْ عَلَى التَّحْوِيزِ، أَنَّهُ لَوْ وُجِدَتْ سِلْعَةٌ لِلْمِدْيَانِ بِيَدِ صَاحِبِ الدَّيْنِ بَعْدَ مَوْتِ الْمِدْيَانِ أَوْ فَلَسِهِ وَادَّعَى أَنَّهَا رَهْنٌ عِنْدَهُ وَحَازَهَا قَبْلَ حُصُولِ الْمَانِعِ مِنْ غَيْرِ إقَامَةِ بَيِّنَةٍ لَمْ يُصَدَّقْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْحَوْزُ بَعْدَ مَانِعِهِ لَا يُفِيدُ وَلَوْ شَهِدَ الْأَمِينُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ وَدَعْوَى الْحَوْزِ بَعْدَ مَانِعِهِ لَا تُفِيدُ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الْحَوْزِ قَبْلَ الْمَانِعِ، أَوْ تَشْهَدُ عَلَى التَّحْوِيزِ الَّذِي هُوَ أَخَصُّ مِنْ الْحَوْزِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ الْبَيِّنَةَ الشَّاهِدَةَ عَلَى الْحَوْزِ، وَفِي بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيِّنَةِ هُنَا وَلَوْ الْوَاحِدُ مَعَ الْيَمِينِ لِأَنَّهَا شَهَادَةٌ عَلَى مَالٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ كَخَلِيلٍ حُكْمَ مَا لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى الْحَوْزِ قَبْلَ الْمَانِعِ وَشَهِدَ عَدْلَانِ عَلَى عَدَمِ الْحَوْزِ، وَنَصَّ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ عَلَى الْعَمَلِ بِالشَّهَادَةِ بِالْحَوْزِ لِأَنَّهَا مُثْبِتَةٌ وَتِلْكَ نَافِيَةٌ، وَالْمُثْبِتَةُ تُقَدَّمُ عَلَى النَّافِيَةِ. الثَّالِثُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ طَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ قَبْضَ الرَّهْنِ وَامْتَنَعَ الرَّاهِنُ مِنْ دَفْعِهِ، وَذَكَرَ خَلِيلٌ أَنَّهُ يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهِ إنْ كَانَ مُعَيِّنًا وَمُشْتَرِطًا فِي صُلْبِ عَقْدِ الْمُعَامَلَةِ وَإِلَّا لَزِمَهُ رَهْنُ ثِقَةٍ، وَنَصُّهُ: وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ إنْ شَرَطَ بِبَيْعٍ وَعَيَّنَ وَإِلَّا فَرَهْنُ ثِقَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالرَّهْنِ الثِّقَةِ مَا فِيهِ وَفَاءٌ لِلدَّيْنِ. [ضَمَانُ الرَّهْنِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 النَّخْلِ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ وَكَذَلِكَ غَلَّةُ الدُّورِ. وَالْوَلَدُ رَهْنٌ مَعَ الْأَمَةِ الرَّهْنُ تَلِدُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ. وَلَا يَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ رَهْنًا إلَّا بِشَرْطٍ. وَمَا هَلَكَ بِيَدِ أَمِينٍ فَهُوَ مِنْ الرَّاهِنِ. وَالْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ. يَضْمَنُ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ. وَلَا يَضْمَنُ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ مِنْ عَبْدٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] ضَمَانِ الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ: (وَضَمَانُ الرَّهْنِ) إذَا عَرَضَ لَهُ تَلَفٌ أَوْ ضَيَاعٌ (مِنْ الْمُرْتَهِنِ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ) بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ، أَحَدُهَا: مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَيْ يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ كَحُلِيٍّ أَوْ ثِيَابٍ وَسَفِينَةٍ فِي حَالِ جَرْيِهَا. ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ بِيَدِهِ لَا إنْ كَانَ بِيَدِ أَمِينٍ. ثَالِثُهَا: أَنْ لَا تَشْهَدَ بَيِّنَةٌ لِلْمُرْتَهِنِ عَلَى التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ بِغَيْرِ سَبَبِهِ وَغَيْرِ تَفْرِيطِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَهُ مُرْتَهِنٌ إنْ كَانَ بِيَدِهِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَمْ تَشْهَدْ بَيِّنَةٌ بِكَحَرْقِهِ وَلَوْ شَرَطَ الْبَرَاءَةَ أَوْ عَلِمَ احْتِرَاقَ مَحَلِّهِ إلَّا بِبَقَاءِ بَعْضِهِ مُحَرَّقًا، وَصَرَّحَ بِمَفْهُومِ يُغَابُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَضْمَنُ) الْمُرْتَهِنُ (مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ) كَالْحَيَوَانِ وَلَوْ طَيْرًا وَكَالْعَقَارِ وَالزَّرْعِ وَالثِّمَارِ قَبْلَ الْحَصَادِ وَالْقَطْعِ، وَكَسَفِينَةٍ فِي مِرْسَاةٍ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ فِيمَا ادَّعَاهُ مِنْ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى التَّفْرِقَةِ بَيْنَ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَيَضْمَنُهُ الْمُرْتَهِنُ وَغَيْرُهُ لَا يَضْمَنُهُ الْعَمَلُ الَّذِي لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَلِأَنَّ الرَّهْنَ لَمْ يُؤْخَذْ لِمَنْفَعَةِ رَبِّهِ فَقَطْ حَتَّى يَكُونَ كَالْوَدِيعَةِ، وَلَا لِمَنْفَعَةِ الْآخِذِ فَقَطْ حَتَّى يَكُونَ كَالْعَرَضِ، بَلْ أَخَذَ شَبَهًا مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا فَتَوَسَّطَ فِيهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا الَّذِي يَضْمَنُهُ إنْ ضَمِنَهُ وَهُوَ قِيمَتُهُ يَوْمَ قَبْضِهِ إنْ كَانَ مُقَوَّمًا، وَمِثْلُهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا لَكِنْ بَعْدَ حَلِفِهِ وَلَوْ غَيْرَ مُتَّهَمٍ إنْ تَلِفَ بِلَا دُلْسَةٍ عِنْدَ دَعْوَى التَّلَفِ، أَوْ أَنَّهُ ضَاعَ عِنْدَ دَعْوَى الضَّيَاعِ، وَإِنَّمَا حَلَفَ مَعَ غُرْمِ قِيمَتِهِ مَخَافَةَ إخْفَائِهِ، وَإِذَا لَزِمَهُ الْيَمِينُ مَعَ الضَّمَانِ فَمَعَ عَدَمِهِ أَوْلَى، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَحَلَفَ فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَلِفَ بِلَا دُلْسَةٍ، وَلَا يُعْلَمُ مَوْضِعُهُ نُصَّ عَلَى الْمُتَوَهَّمِ. الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ غَايَةَ ضَمَانِ الرَّهْنِ، وَبَيَّنَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَاسْتَمَرَّ ضَمَانُهُ إنْ قَبَضَ الدَّيْنَ أَوْ وَهَبَ إلَّا أَنْ يَحْضُرَهُ لِرَبِّهِ أَوْ يَدْعُوَهُ لِأَخْذِهِ فَيَقُولَ اُتْرُكْهُ، فَإِنْ أَحْضَرَهُ بَعْدَ بَرَاءَتِهِ مِنْ الدَّيْنِ وَلَمْ يَقْبِضْهُ حَتَّى ضَاعَ فَمُصِيبَتُهُ مِنْ رَبِّهِ، سَوَاءٌ قَالَ لَهُ: اُتْرُكْهُ عِنْدَك أَمْ لَا، أَوْ دَعَاهُ لِأَخْذِهِ فَقَالَ لَهُ: اُتْرُكْهُ عِنْدَك فَضَاعَ فَضَمَانُهُ مِنْ رَبِّهِ، لِأَنَّهُ صَارَ فِي الْحَالَتَيْنِ كَالْوَدِيعَةِ الْوَدِيعَةُ مُصِيبَتُهَا بَعْدَ ضَيَاعِهَا مِنْ رَبِّهَا. [مُسْتَحِقّ غَلَّةَ الرَّهْنِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُسْتَحِقِّ غَلَّةَ الرَّهْنِ بِقَوْلِهِ: (وَثَمَرَةُ النَّخْلِ الرَّهْنِ) بَاقِيَةٌ (لِلرَّاهِنِ) وَلَوْ كَانَتْ مَوْجُودَةً يَوْمَ عَقْدِ الرَّهْنِيَّةِ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ ثَمَرَةِ الرَّهْنِ (غَلَّةُ الدُّورِ) لِلرَّاهِنِ وَكَذَا كِرَاءُ نَحْوِ الْعَبْدِ أَوْ الدَّابَّةِ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يُشْتَرَطْ إدْخَالُ مَا ذَكَرَ فِي الرَّهْنِ وَإِلَّا دَخَلَ. وَلَمَّا كَانَ وَلَدُ الرَّهْنِ مُخَالِفًا لِغَلَّتِهِ قَالَ: (وَالْوَلَدُ رَهْنٌ مَعَ الْأَمَةِ الرَّهْنِ تَلِدُهُ بَعْدَ الرَّهْنِ) وَمِثْلُ الْأَمَةِ سَائِرُ الْحَيَوَانِ الْمَرْهُونِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَمَنْ رَهَنَ أَمَةً حَامِلًا كَانَ مَا فِي بَطْنِهَا وَمَا تَلِدُ بَعْدَ ذَلِكَ رَهْنًا مَعَهَا، وَلَوْ شَرَطَ عَدَمَ دُخُولِهِ فِي الرَّهْنِيَّةِ لَا يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ شَرْطٌ مُنَاقِضٌ، وَكَذَلِكَ نِتَاجُ الْحَيَوَانِ، وَمِثْلُ الْوَلَدِ فِي الدُّخُولِ فِي الرَّهْنِيَّةِ الصُّوفُ التَّامُّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَانْدَرَجَ صُوفٌ تَمَّ وَجَنِينٌ وَفَرْخُ نَخْلٍ لَا غَلَّةٌ وَثَمَرَةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصُّوفِ وَالثَّمَرَةِ أَنَّ الصُّوفَ التَّامَّ سِلْعَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ، فَالسُّكُوتُ عَنْهُ وَقْتَ الرَّهْنِيَّةِ دَلِيلٌ عَلَى إدْخَالِهِ فِي الرَّهْنِيَّةِ. (تَنْبِيهٌ) الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: تَلِدُهُ تَحْمِلُ بِهِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ تَضَعُهُ لِدُخُولِ الْجَنِينِ يَوْمَ الرَّهْنِيَّةِ، وَإِنَّمَا احْتَرَزَ بِقَوْلِهِ تَلِدُهُ بَعْدَ الرَّهْنِيَّةِ عَنْ الَّذِي انْفَصَلَ عَنْهَا قَبْلَ الرَّهْنِيَّةِ فَلَا يَدْخُلُ. وَمِثْلُ الْغَلَّةِ وَالثَّمَرَةِ فِي عَدَمِ الدُّخُولِ مَالُ الْعَبْدِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ) الْمَرْهُونِ (رَهْنًا) مَعَهُ (إلَّا بِشَرْطِ) دُخُولِهِ فِي الرَّهْنِ فَيَدْخُلُ لِقَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَكُونُ مَالُ الْعَبْدِ رَهْنًا إلَّا أَنْ يَشْتَرِطَهُ الْمُرْتَهِنُ، كَانَ مَالُهُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، وَمِثْلُ مَالِ الْعَبْدِ بِيضُ الطَّيْرِ لَا يَدْخُلُ فِي الرَّهْنِ إلَّا بِالشَّرْطِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّهْنِ لِلرَّاهِنِ لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ، وَيَجُوزُ لِلْمُرْتَهِنِ أَنْ يَشْتَرِطَ أَخْذَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ شَرْطُ مَنْفَعَتِهِ إنْ عُيِّنَتْ بِبَيْعٍ لَا قَرْضٍ، وَاشْتِرَاطُهَا فِيهِ تَفْصِيلٌ، لِأَنَّهُ تَارَةً يَشْتَرِطُ الْمُرْتَهِنُ أَخْذَهَا مَجَّانًا، وَتَارَةً يَشْتَرِطُ أَخْذَهَا لِتُحْسَبَ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنْ اُشْتُرِطَتْ لِتُحْسَبَ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ إذَا دَخَلَا عَلَى أَنَّ مَا بَقِيَ مِنْ الدَّيْنِ بَعْدَ فَرَاغِ الْأَجَلِ يَدْفَعُهُ أَوْ يَتْرُكُهُ لَهُ الرَّاهِنُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ عَلَى أَنْ يُوفِيَهُ لَهُ مِنْ الْمَنْفَعَةِ أَوْ يَدْفَعَ عَنْهُ شَيْئًا مُؤَجَّلًا فَلَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ فَسْخِ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ، وَأَمَّا إنْ اشْتَرَطَ أَخْذَهَا مَجَّانًا فَإِنَّهُ يَجُوزُ إنْ اشْتَرَطَ فِي صُلْبِ عَقْدِ الْبَيْعِ وَعُيِّنَتْ مُدَّتُهَا، فَإِنْ تَطَوَّعَ بِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ امْتَنَعَ لِأَنَّهُ هَدِيَّةُ مِدْيَانٍ، كَمَا يَمْتَنِعُ أَخْذُهَا مَجَّانًا فِي دَيْنِ الْقَرْضِ لِمَا فِيهِ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، سَوَاءٌ اشْتَرَطَ فِي عَقْدِهِ أَوْ تَطَوَّعَ بِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَلَّةٍ غَيْرِ ثَمَرَةٍ لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا، وَأَمَّا الثَّمَرَةُ الَّتِي لَمْ يَبْدُ صَلَاحُهَا فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا إلَّا مَجَّانًا وَلَا فِي الدَّيْنِ، لِمَا فِيهِ مِنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهَا، وَأَمَّا لَوْ بَدَا صَلَاحُهَا فَإِنَّهُ يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا فِي عَقْدِ الْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَبِيعُ طَعَامًا وَالْمُؤَجَّرُ أَرْضًا لِزِرَاعَةٍ فَلَا يَجُوزُ اشْتِرَاطُهَا لَا مَجَّانًا لِأَنَّهُ هَدِيَّةُ مِدْيَانٍ؛ وَلَا مِنْ الدَّيْنِ لِأَنَّهُ مِنْ اقْتِضَاءِ طَعَامٍ عَنْ ثَمَنِ الطَّعَامِ، وَاقْتِضَاءِ طَعَامٍ عَنْ أُجْرَةِ الزِّرَاعَةِ، وَالْكُلُّ حَرَامٌ. وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ شَرْطَ ضَمَانِ الرَّهْنِ كَوْنُهُ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ ذَكَرَ مُحْتَرَزَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا هَلَكَ) مِنْ الرَّهْنِ الَّذِي يُغَابُ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] (بِيَدِ أَمِينٍ فَهُوَ مِنْ الرَّاهِنِ) كَضَمَانِهِ مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَوْ تَلِفَ تَحْتَ يَدِ الْمُرْتَهِنِ، أَوْ يُغَابُ عَلَيْهِ وَلَكِنْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ بِتَلَفِهِ أَوْ ضَيَاعِهِ. (خَاتِمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ لَهَا تَعَلُّقٌ بِالْبَابِ) مِنْهَا: إذَا ادَّعَى الْمُرْتَهِنُ رَدَّ الرَّاهِنِ إلَى الرَّهْنِ وَقَبَضَ دِيَتَهُ وَأَنْكَرَ الرَّاهِنُ الرَّدَّ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الرَّاهِنِ، إنْ كَانَ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ أَمْ لَا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبْضُهُ بِبَيِّنَةٍ، قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ النَّوَادِرِ وَظَاهِرُهُ قَبَضَ الدَّيْنَ أَمْ لَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ دَعْوَى الْمُرْتَهِنِ رَدَّ الرَّهْنِ كَدَعْوَى الْمُسْتَعِيرِ رَدَّ الْعَارِيَّةِ، وَإِنْ ادَّعَى كُلٌّ رَدَّ مَا لَمْ يَضْمَنْ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَبَضَهُ بِبَيِّنَةٍ، فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ كَدَعْوَاهُ رَدَّ مَا يَضْمَنُهُ لِكَوْنِهِ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهِ. وَمِنْهَا: لَوْ ادَّعَى حَائِزٌ عَبْدَيْنِ مَمْلُوكَيْنِ لِغَيْرِهِ أَنَّهُمَا رَهْنٌ وَقَالَ رَبُّهُمَا بَلْ أَحَدُهُمَا صَدَقَ، بِخِلَافِ لَوْ ادَّعَى حَائِزٌ عَبْدًا رُهِنَ جَمِيعُهُ وَقَالَ رَبُّهُ بَلْ نِصْفُهُ صَدَقَ حَائِزُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْأَظْهَرُ أَنَّهُ كَالْأَوَّلِ وَمِنْهَا: لَوْ أَتَى الْمُرْتَهِنُ بِشَيْءٍ وَادَّعَى أَنَّهُ لِلرَّاهِنِ وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَلْ هُوَ غَيْرُهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُرْتَهِنِ لِأَنَّهُ ائْتَمَنَهُ عَلَى عَيْنِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ عَلَى ذَلِكَ، قَالَهُ فِي الْإِرْشَادِ وَغَيْرِهِ. [بَاب الْعَارِيَّةِ] وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى مَا تَيَسَّرَ مِنْ أَحْكَامِ الرَّهْنِ، شَرَعَ فِي تَالِيهِ فِي التَّرْجَمَةِ وَهُوَ سَادِسُ الْأَبْوَابِ وَهُوَ بَابُ الْعَارِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَالْعَارِيَّةُ) بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَحُكِيَ تَخْفِيفُهَا اسْمُ مَصْدَرٍ وَالْمَصْدَرُ إعَارَةٌ، لِأَنَّ الْفِعْلَ أَعَارَ، وَالْمُرَادُ هُنَا الشَّيْءُ الْمُعَارُ، وَحَقِيقَةُ الْعَارِيَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ لَا بِعِوَضٍ، فَيَخْرُجُ تَمْلِيكُ الذَّاتِ وَتَمْلِيكُ الِانْتِفَاعِ، لِأَنَّ الْعَارِيَّةَ فِيهَا تَمْلِيكُ الْمَنْفَعَةِ وَهُوَ أَخَصُّ مِنْ الِانْتِفَاعِ، وَقَوْلُهُ: مُؤَقَّتَةٍ حَقِيقَةً أَوْ حُكْمًا لِتَدَخُّلِ الْمُعْتَادَةِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِإِخْرَاجِ تَمْلِيكِ السَّيِّدِ عَبْدَهُ مَنْفَعَةَ سَيِّدِهِ فَلَيْسَتْ بِعَارِيَّةٍ وَلِإِخْرَاجِ الْحُبُسِ فَإِنَّ الْغَالِبَ فِيهِ التَّأْبِيدُ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الِاسْمِيِّ وَهُوَ مُرَادُ الْمُؤَلِّفِ بِقَوْلِهِ: وَالْعَارِيَّةُ إلَخْ فَهِيَ مَالٌ ذُو مَنْفَعَةٍ مُؤَقَّتَةٍ مُلِكَتْ بِغَيْرِ عِوَضٍ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: (مُؤَدَّاةٌ) أَيْ مَضْمُونَةٌ، وَقِيلَ مَرْدُودَةٌ لِخَبَرِ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ عَلَى الْعَارِيَّةِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ فِي حُكْمِهَا وَهُوَ النَّدْبُ هَذَا حُكْمُهَا الْأَصْلِيُّ لِأَنَّهَا إحْسَانٌ، وَتَتَأَكَّدُ فِي الْأَقَارِبِ وَالْجِيرَانِ وَالْأَصْحَابِ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ لِمَنْ مَعَهُ شَيْءٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ وَطَلَبَهُ مَنْ يُخْشَى عَلَيْهِ الْهِلَالَ بِتَرْكِهِ، كَكِسَاءٍ فِي زَمَنِ شِدَّةِ بَرْدٍ، وَالْحُرْمَةُ إذَا كَانَتْ تُعِينُ عَلَى مَعْصِيَةٍ، وَالْكَرَاهَةُ إذَا كَانَتْ تُعِينُ عَلَى فِعْلِ مَكْرُوهٍ، وَالْإِبَاحَةُ إذَا أَعَانَ بِهَا غَنِيًّا، دَلَّ عَلَى الْإِذْنِ فِيهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ: أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَعَارَ فَرَسًا مِنْ أَبِي طَلْحَةَ وَاسْتَعَارَ مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ دِرْعَهُ يَوْمَ حُنَيْنٍ فَقَالَ لَهُ: أَغَصْبٌ يَا مُحَمَّدُ؟ قَالَ: بَلْ عَارِيَّةٌ مَضْمُونَةٌ» . وَفِي أَبِي دَاوُد وَالتِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ أُمَامَةَ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْمِنْحَةُ الشَّاةُ أَوْ نَحْوُهَا تُعَارُ لِأَخْذِ لَبَنِهَا. وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ شُيُوخُ الْمَذْهَبِ. الثَّانِي: مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ أَرْكَانِهَا الْأَرْبَعَةِ الْمُعِيرُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ وَمَالِكًا لِلْمَنْفَعَةِ الَّتِي يُرِيدُ الْإِعَانَةَ بِهَا وَلَوْ بِإِجَارَةٍ أَوْ اسْتِعَارَةٍ، لِأَنَّ لِلْمُعِيرِ أَنْ يُعِيرَ إنْ لَمْ يَحْجُرْ عَلَيْهِ الْمُعِيرُ لَهُ وَلَوْ بِلِسَانِ الْحَالِ، كَأَنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنْ لَا يَسْمَحَ بِإِعَارَتِهَا لِغَيْرِ هَذَا الْمُسْتَعِيرِ، وَالْمُسْتَعِيرُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَجُوزُ شَرْعًا انْتِفَاعُهُ بِالْعَارِيَّةِ، فَلَا تَصِحُّ إعَارَةُ الْمُصْحَفِ لِلْكَافِرِ، أَوْ الْغُلَامِ الْمُسْلِمِ لِخِدْمَةِ الْكَافِرِ، وَالشَّيْءُ الْمُعَارُ وَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ يُمْكِنُ الِانْتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ ذَاتِهِ كَالْكِتَابِ وَالثَّوْبِ وَالْبَيْتِ، بِخِلَافِ الطَّعَامِ وَالنَّقْدِ فَلَا يُعَارَانِ لِأَنَّهُمَا يُسْتَهْلَكَانِ عِنْدَ الِانْتِفَاعِ بِهِمَا وَإِنَّمَا يُقْرَضَانِ، وَأَنْ تَكُونَ مَنْفَعَتُهُ مُبَاحَةً لِلْمُسْتَعِيرِ، فَلَا تُعَارُ الْأَمَةُ أَوْ الزَّوْجَةُ لِلِاسْتِمْتَاعِ بِهِمَا، وَلَا الْأَمَةُ لِخِدْمَةِ بَالِغٍ غَيْرِ مُحَرَّمٍ، أَوْ لِمَنْ تُعْتَقُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْخِدْمَةَ فَرْعُ الْمِلْكِ، وَمِلْكُهَا لَا يَسْتَقِرُّ لِمَنْ تُعْتَقُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أُعِيرَتْ الْأَمَةُ أَوْ الْعَبْدُ لِمَنْ يُعْتَقَانِ عَلَيْهِ لَمْ تَصِحَّ الْعَارِيَّةُ وَيَمْلِكَانِ خِدْمَتَهُمَا تِلْكَ الْمُدَّةِ، وَلَا يَمْلِكُهَا السَّيِّدُ وَلَا الْمُسْتَعِيرُ، وَمَا بِهِ الْعَارِيَّةُ وَهِيَ الصِّيغَةُ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ تُفْهَمُ مِنْهُ الْعَارِيَّةُ، ثُمَّ إنْ قُيِّدَتْ بِزَمَنٍ فَلَا إشْكَالَ فِي لُزُومِهَا لِأَنَّهَا مَعْرُوفٌ وَهُوَ يَلْزَمُ بِالْقَوْلِ وَإِنْ لَمْ تُقَيَّدْ بِزَمَنٍ، فَاللَّازِمُ مَا تُعَارُ لِمِثْلِهِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَلَزِمَتْ الْمُقَيَّدَةُ بِعَمَلٍ أَوْ أَجَلٍ لِانْقِضَائِهِ وَإِلَّا فَالْمُعْتَادَةُ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: مُؤَدَّاةٌ بِمَعْنَى مَضْمُونَةٍ ضَمَانُهَا مُطْلَقًا وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (يَضْمَنُ) الْمُسْتَعِيرُ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَارِيَّةِ (مَا يُغَابُ عَلَيْهِ) أَيْ يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ كَالْحُلِيِّ وَالْكِتَابِ وَالثِّيَابِ وَالسَّفِينَةِ السَّائِرَةِ إذَا ادَّعَى تَلَفَ أَوْ ضَيَاعَ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهُ، إلَّا أَنْ تَشْهَدَ لَهُ بَيِّنَةٌ عَلَى مَا يَدَّعِيهِ مِنْ تَلَفٍ أَوْ ضَيَاعٍ فَلَا ضَمَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 دَابَّةٍ إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى. وَالْمُودَعُ إنْ قَالَ رَدَّ الْوَدِيعَةَ إلَيْك صَدَقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ. وَإِنْ قَالَ ذَهَبْت فَهُوَ مُصَدَّقٌ   [الفواكه الدواني] عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَ الْمَغِيبُ عَلَيْهِ إلَّا لِبَيِّنَةٍ، وَهَلْ وَإِنْ شَرَطَ نَفْيَهُ تَرَدَّدَ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ نَفْيَ الضَّمَانِ، لِأَنَّ الْإِعَارَةَ مَعْرُوفٌ وَإِسْقَاطَ الضَّمَانِ مَعْرُوفٌ ثَانٍ، وَمِثْلُ قِيَامِ الْبَيِّنَةِ لَوْ عَلِمَ أَنَّ التَّلَفَ بِغَيْرِ سَبَبِهِ كَسُوسٍ فِي ثَوْبٍ أَوْ قَرْضِ فَأْرٍ لَكِنْ بَعْدَ يَمِينِهِ أَنَّهُ مَا فَرَّطَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا وَجَبَ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ ضَمَانُ الْعَارِيَّةِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهَا يَوْمَ انْقِضَاءِ أَجَلِ الْعَارِيَّةِ عَلَى مَا يَنْقُصُهَا الِاسْتِعْمَالُ الْمَأْذُونُ فِيهِ بَعْدَ الْحَلِفِ، لَقَدْ ضَاعَتْ ضَيَاعًا لَا يَقْدِرُ مَعَهُ عَلَى رَدِّهَا لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى إخْفَائِهَا رَغْبَةً فِي أَخْذِهَا بِقِيمَتِهَا، فَإِنْ اسْتَعْمَلَهَا فِي غَيْرِ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَنَقَصَتْ بِهِ أَكْثَرُ مِنْ نَقْصِهَا بِالْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهَا مَعَ مُرَاعَاةِ نَقْصِهَا بِالْمَأْذُونِ فِيهِ. الثَّانِي: إذَا غَرِمَ الْمُسْتَعِيرُ الْقِيمَةَ ثُمَّ وُجِدَتْ بَعْدَ ذَلِكَ عِنْدَ اللِّصِّ فَإِنَّهَا تَكُونُ حَقًّا لِلْمُسْتَعِيرِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا لِغُرْمِ قِيمَتِهَا، وَمِثْلُ الْمُسْتَعِيرِ الْحَيَّاكُ وَالْخَيَّاطُ وَالصَّبَّاغُ يَدَّعُونَ الضَّيَاعَ وَيَغْرَمُونَ قِيمَةَ مَا ضَاعَ ثُمَّ يُوجَدُ فَإِنَّهُ يَكُونُ حَقًّا لَهُمْ، وَأَمَّا لَوْ وُجِدَ عِنْدَهُمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِصَاحِبِهِ كَالْغَاصِبِ يَدَّعِي ضَيَاعَ أَوْ تَلَفَ الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ وَيَغْرَمُ قِيمَتَهَا ثُمَّ تُوجَدُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَمْلِكُهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ مَا يُغَابُ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَضْمَنُ) الْمُسْتَعِيرُ (مَا لَا يُغَابُ عَلَيْهِ) أَيْ لَا يُمْكِنُ إخْفَاؤُهُ (مِنْ عَبْدٍ أَوْ دَابَّةٍ) كَبَقَرَةٍ أَوْ سَفِينَةٍ بِمِرْسَاةٍ وَلَوْ شَرَطَ الْمُعِيرُ عَلَى الْمُسْتَعِيرِ الضَّمَانَ قَالَ خَلِيلٌ: لَا غَيْرُهُ وَلَوْ بِشَرْطٍ فَيُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي التَّلَفِ وَالضَّيَاعِ بِغَيْرِ يَمِينٍ إلَّا أَنْ يَظْهَرَ كَذِبُهُ كَدَعْوَاهُ مَوْتَ دَابَّةٍ يَوْمَ كَذَا ثُمَّ تَشْهَدُ بَيِّنَةٌ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعْمِلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ الْيَوْمِ (إلَّا أَنْ يَتَعَدَّى) عَلَيْهَا بِأَنَّ حَمْلَهَا أَضَرَّ مِمَّا اسْتَعَارَهَا لَهُ وَلَوْ أَقَلُّ قَدْرًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ تَلِفَتْ بِفِعْلِ الْمَأْذُونِ فِيهِ أَوْ مِثْلِهِ أَوْ دُونِهِ فَلَا ضَمَانَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِعْلُ الْمَأْذُونِ وَمِثْلُهُ وَدُونِهِ لَا أَضَرَّ، وَجَوَازُ فِعْلِ الْمِثْلِ جَائِزٌ وَلَوْ فِي الْمَسَافَةِ عَلَى الرَّاجِحِ مِنْ قَوْلَيْنِ، بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ لَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَأْجِرِ الْعُدُولُ عَنْ الْمَسَافَةِ الْمَأْذُونِ فِيهَا وَإِنْ سَاوَتْ إلَّا بِإِذْنِ الْمُكْرِي لِمَا فِي الْعُدُولِ إلَى غَيْرِهَا مِنْ بَيْعِ دَيْنٍ فِي دَيْنٍ وَهُوَ يَجُوزُ، وَإِذَا ثَبَتَ تَعَدِّيهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهَا بَعْدَ اسْتِعْمَالِهَا فِيمَا أُعِيرَتْ لَهُ، وَنَظِيرُهُ وَلَوْ اسْتَعَارَ ثَوْبًا جَدِيدًا لِلُبْسِهِ ثُمَّ يَدَّعِي ضَيَاعَهُ سَرِيعًا دُونَ ثُبُوتٍ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ بَعْدَ لُبْسِهِ شَهْرًا كَمَا أَشَرْنَا لِذَلِكَ قَبْلُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِ مَا لَوْ اسْتَعَارَ دَابَّةً لِحَمْلِ شَيْءٍ ثُمَّ زَادَ عَلَيْهِ: وَحُكْمُهُ إذَا زَادَ مَا تَعْطَبُ بِهِ وَعَطِبَتْ فَإِنَّ صَاحِبَهَا بِالْخِيَارَيْنِ أَخَذَ قِيمَتَهَا يَوْمَ التَّعَدِّي وَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ الْكِرَاءِ أَوْ يَأْخُذُ كِرَاءَ الزَّائِدِ فَقَطْ، وَطَرِيقُ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: كَمْ يُسَاوِي كِرَاؤُهَا فِيمَا أُعِيرَتْ لَهُ؟ فَإِنْ قِيلَ عَشَرَةٌ، قِيلَ: كَمْ يُسَاوِي كِرَاؤُهَا فِي جَمِيعِ مَا حُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ الزَّائِدِ وَغَيْرِهِ؟ فَإِنْ قِيلَ خَمْسَةَ عَشَرَ دَفَعَ لِلْمُعِيرِ الْخَمْسَةَ الزَّائِدَةَ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَكْثَرَ مِنْ قِيمَتِهَا يَوْمَ التَّعَدِّي فَاللَّازِمُ الْقِيمَةُ هَكَذَا يَظْهَرُ، وَأَمَّا لَوْ سَلِمَتْ فِي الْفَرْضِ الْمَذْكُورِ أَوْ زَادَ مَا لَا تَعْطَبُ بِمِثْلِهِ وَسَلِمَتْ أَوْ عَطِبَتْ فَلَا شَيْءَ لِلْمُعِيرِ إلَّا كِرَاءَ الزَّائِدِ فِي الثَّلَاثِ صُوَرٍ. الثَّانِي: لَوْ كَانَتْ الْعَارِيَّةُ أَرْضًا لِبِنَاءٍ أَوْ غَرْسٍ وَانْقَضَتْ الْمُدَّةُ مَعَ قِيَامِ الْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ فَإِنَّ الْخِيَارَ فِيهِ لِلْمُعِيرِ، إنْ شَاءَ يَأْمُرُ الْمُسْتَعِيرَ بِقَلْعِهِمَا وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ كَمَا كَانَتْ، أَوْ يَدْفَعُ لَهُ قِيمَتَهُمَا مَقْلُوعَيْنِ بَعْدَ إسْقَاطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا الْمُسْتَعِيرُ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَنْ غَصَبَ أَرْضًا وَغَرَسَهَا أَوْ بَنَاهَا. [بَاب الْوَدِيعَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الْعَارِيَّةِ شَرَعَ فِي سَابِعِ الْأَبْوَابِ وَهُوَ بَابُ الْوَدِيعَةِ مِنْ الْوَدْعِ وَهُوَ التَّرْكُ قَالَ تَعَالَى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 3] أَيْ مَا تَرَكَ عَادَةَ إحْسَانِهِ فِي الْوَحْيِ إلَيْك وَهِيَ بِالْمَعْنَى الْأَسْمَى لُغَةً الْأَمَانَةُ، وَاصْطِلَاحًا مَالٌ وَكُلٌّ عَلَى حِفْظِهِ، وَأَمَّا بِالْمَعْنَى الْمَصْدَرِيِّ فَقَالَ خَلِيلٌ: الْإِيدَاعُ تَوْكِيلٌ بِحِفْظِ مَالٍ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: نَقْلُ مُجَرَّدِ حِفْظِ مِلْكٍ يُنْقَلُ فَيَدْخُلُ إيدَاعُ ذِكْرِ الْحُقُوقِ وَيَخْرُجُ وَضْعُ الْأَبِ وَلَدَهُ عِنْدَ مَنْ يَحْفَظُهُ لِانْتِفَاءِ لَوَازِمِ الْوَدِيعَةِ مِنْ الضَّمَانِ، وَأَيْضًا الْحُرُّ لَا يُقَالُ لَهُ مَالٌ، وَيَخْرُجُ وَضْعُ الْأَمَةِ مُدَّةَ الْمُوَاضَعَةِ عِنْدَ أَمِينَةٍ، لِأَنَّ وَضْعَهَا لَمْ يَكُنْ لِحِفْظِهَا وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِخْبَارِ بِحَيْضِهَا، وَقَوْلُهُ يُنْقَلُ تَقْتَضِي إخْرَاجَ الرُّبُعِ وَنَحْوِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقَارِ الَّتِي لَمْ تَقْبَلْ النَّقْلَ حِسًّا، مَعَ أَنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ الْإِيدَاعَ لَا يَتَقَيَّدُ بِمَا يُنْقَلُ حِسًّا، فَيَكُونُ الْإِيدَاعُ فِيهِ لِيَحْفَظَهُ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ مِمَّنْ يَتَسَوَّرُ عَلَيْهِ، وَحُكْمُ الْإِيدَاعِ فِي الْأَصْلِ الْجَوَازُ لِلْفَاعِلِ وَالْقَابِلِ، وَقَدْ يَعْرِضُ الْوُجُوبُ كَخَائِفٍ فَقْدَهَا الْمُوجِبِ لِهَلَاكِهِ أَوْ فَقْرِهِ إنْ لَمْ يُودِعْهَا مَعَ وُجُودِ قَابِلٍ لَهَا يَقْدِرُ عَلَى حِفْظِهَا، وَالْحُرْمَةُ كَإِيدَاعِ الْغَاصِبِ الشَّيْءَ الْمَغْصُوبَ عِنْدَ مَنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَحْدِهَا لِيَرُدَّهَا لِرَبِّهَا، أَوْ لِلْفُقَرَاءِ إنْ كَانَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ مُسْتَغْرِقَ الذِّمَّةِ، لِأَنَّ عِيَاضًا ذَكَرَ أَنَّ مَنْ قَبِلَ وَدِيعَةً مِنْ مُسْتَغْرِقِ الذِّمَّةِ ثُمَّ رَدَّهَا إلَيْهِ بِضَمِّهَا لِلْفُقَرَاءِ وَنَدْبِهَا حَيْثُ يَخْشَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 بِكُلِّ حَالٍ. وَالْعَارِيَّةُ لَا يُصَدَّقُ فِي هَلَاكِهَا فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ. وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى وَدِيعَةٍ ضَمِنَهَا. وَإِنْ كَانَتْ دَنَانِيرَ فَرَدَّهَا فِي   [الفواكه الدواني] مَا يُوجِبُهَا دُونَ تَحَقُّقٍ، وَكَرَاهَتُهَا حَيْثُ يَخْشَى مَا يُحَرِّمُهَا دُونَ تَحَقُّقٍ، وَالْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58] وقَوْله تَعَالَى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وَخَبَرُ: «أَدِّ الْأَمَانَةَ إلَى مَنْ ائْتَمَنَك، وَلَا تَخُنْ مَنْ خَانَك» وَأَدَاءُ الْأَمَانَةِ مِنْ عَلَامَاتِ الْإِيمَانِ وَمِنْ عَمَلِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا الْخِيَانَةُ فَهِيَ مِنْ عَلَامَاتِ النِّفَاقِ وَعَمَلِ الْفُسَّاقِ، وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى حُسْنِ الْإِيدَاعِ وَأَرْكَانُهَا ثَلَاثَةٌ: الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ، وَالْمُودَعُ بِالْفَتْحِ، وَشَرْطُهُمَا أَهْلِيَّةُ التَّوْكِيلِ فِي الْجُمْلَةِ لِيَشْمَلَ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ، لِأَنَّهُ يَجُوزُ قَبُولُ الْوَدِيعَةِ وَإِنْ كَانَ لَا يَتَوَكَّلُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدٍ، وَأَمَّا الصَّبِيُّ وَالسَّفِيهُ فَلَا يُودَعَانِ وَلَا يَسْتَوْدِعَانِ، لَكِنْ إنْ أَوْدَعَاك شَيْئًا وَجَبَ عَلَيْك يَا رَشِيدُ حِفْظُهُ، وَإِنْ أَوْدَعْت عِنْدَهُمَا فَأَتْلَفَا أَوْ فَرَّطَا لَمْ يَضْمَنَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ أَوْدَعَ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا أَوْ فَرَضَهُ أَوْ بَاعَهُ فَأَتْلَفَهُ لَمْ يَضْمَنْ وَإِنْ بِإِذْنِ أَهْلِهِ، وَالثَّالِثُ الشَّيْءُ الْمُودَعُ، وَهُوَ كُلُّ مَا يَحْتَاجُ إلَى مَنْ يَحْفَظُهُ وَلَوْ عَقَارًا، وَأَمَّا الصِّيغَةُ فَهِيَ شَرْطٌ وَقِيلَ رُكْنٌ رَابِعٌ وَهِيَ كُلُّ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ طَلَبُ الْحِفْظِ وَلَوْ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى إيجَابٍ وَقَبُولٍ بِاللَّفْظِ، حَتَّى لَوْ وَضَعَ شَخْصٌ مَتَاعَهُ عِنْدَ جَالِسٍ رَشِيدٍ بَصِيرٍ سَاكِتٍ وَذَهَبَ الْوَاضِعُ لِحَاجَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمَوْضُوعِ عِنْدَهُ الْمَتَاعُ حِفْظُهُ بِحَيْثُ يَضْمَنُهُ إنْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهِ حَتَّى ضَاعَ، لِأَنَّ سُكُوتَهُ رِضًا مِنْهُ بِالْإِيدَاعِ عِنْدَهُ، وَأَمَّا الْأَعْمَى فَلَا بُدَّ أَنْ يَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهَا حَتَّى يَضْمَنَ إنْ فَرَّطَ فَقَالَ: (وَالْمُودَعُ) بِفَتْحِ الدَّالِ وَهُوَ مَنْ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ (إنْ قَالَ رَدَدْت الْوَدِيعَةَ إلَيْك) يَا مُودِعُ بِكَسْرِ الدَّالِ (صَدَقَ) لِأَنَّهَا أَمَانَةٌ وَالْأَصْلُ فِي الْأَمَانَةِ عَدَمُ الضَّمَانِ وَإِنَّمَا يَصْدُقُ بِيَمِينِهِ إنْ كَانَ مِنْهُمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَفَ الْمُتَّهَمُ أَيْ الَّذِي يُظَنُّ فِيهِ التَّسَاهُلُ فِي حِفْظِ الْوَدِيعَةِ، فَإِنْ وَكَّلَ حَلَفْت يَا مُودِعُ إنْ حَقَّقْت عَلَيْهِ الدَّعْوَى كَانَ مُتَّهَمًا أَمْ لَا وَتُضَمِّنُهُ الْوَدِيعَةَ، وَهَذَا عَامٌّ فِي دَعْوَى الرَّدِّ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَدَعْوَى التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ وَلَوْ كَانَ الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ غَيْرَ مُتَّهَمٍ، وَلَا يَغْرَمُ إذَا نَكَلَ إلَّا بَعْدَ رَدِّ الْيَمِينِ عَلَى مُودِعٍ بِالْكَسْرِ، وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ تَحْقِيقِ الدَّعْوَى فَلَا تُتَوَجَّهُ الْيَمِينُ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ اتَّهَمَ وَإِذَا نَكَلَ يَغْرَمُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ، وَمَحَلُّ تَصْدِيقِ الْمُودَعِ بِالْفَتْحِ فِي رَدِّ الْوَدِيعَةِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ قَبَضَهَا بِإِشْهَادٍ) بِقَصْدِ التَّوَثُّقِ، فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى الرَّدِّ لِلْقَاعِدَةِ، وَهِيَ أَنَّ كُلَّ مَنْ دُفِعَ إلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ قِرَاضٍ أَوْ وَدِيعَةٍ عَلَى يَدِ بَيِّنَةٍ بِقَصْدِ التَّوَثُّقِ لَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى رَدِّهِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ، وَالْمُرَادُ بِالْبَيِّنَةِ الْمَقْصُودَةِ لِلتَّوَثُّقِ هِيَ الَّتِي يَقُولُ مُشْهِدُهَا: اشْهَدُوا أَنِّي إنَّمَا أَشْهَدْت خَوْفَ دَعْوَى الرَّدِّ أَوْ الْجَحْدِ، وَأَمَّا إشْهَادُهَا خَوْفَ الْمَوْتِ أَوْ خَوْفَ دَعْوَى التَّلَفِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ التَّوَثُّقَ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الرَّدَّ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ يَكْفِي فِي كَوْنِهَا مَقْصُودَةً لِلتَّوَثُّقِ قَصْدُ الْمُودِعِ بِالْكَسْرِ، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى عِلْمِ الْمُودَعِ بِالْفَتْحِ أَنَّ الْمُودِعَ بِالْكَسْرِ أَشْهَدَ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ بِقَصْدِ التَّوَثُّقِ، وَأَمَّا لَوْ أَشْهَدَ مِنْ قَصْدِهِ وَفِي الْحَطَّابِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ فِي كَوْنِهَا لِلتَّوَثُّقِ عِلْمُ الْمُودَعِ بِالْفَتْحِ أَنَّ الْمُودَعَ بِالْكَسْرِ قَصَدَ بِهَا التَّوَثُّقَ، وَأَمَّا لَوْ أَشْهَدَ مَنْ هِيَ عِنْدَهُ أَنَّ عِنْدَهُ وَدِيعَةً لِزَيْدٍ مَثَلًا قَاصِدًا إشْهَادَهَا عَلَى قَبْضِهَا فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ كَإِشْهَادِهَا الْمُودِعَ بِالْكَسْرِ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ، وَالثَّانِي أَنَّهُ لَيْسَ كَإِشْهَادِهَا فَيُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الرَّدِّ. (تَنْبِيهٌ) مَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: رَدَدْتهَا عَلَيْك أَنَّهُ لَوْ قَالَ: رَدَدْتهَا لِوَالِدِك مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يُصَدَّقُ، لِأَنَّ دَعْوَى الرَّدِّ لِلْيَدِ الَّتِي لَمْ تَدْفَعْ لَا تَنْفَعُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِدَعْوَى الرَّدِّ عَلَى وَارِثِك، وَالضَّابِطُ أَنَّ صَاحِبَ الْيَدِ الْمُؤْتَمَنَةِ إذَا كَانَتْ دَعْوَى الدَّفْعِ مِنْهُ لِلْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَهُ فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ سَوَاءٌ كَانَتْ دَعْوَى الدَّفْعِ مِنْهُ أَوْ مِنْ وَارِثِهِ عَلَى ذِي الْيَدِ الَّتِي ائْتَمَنَتْهُ أَوْ عَلَى وَارِثِهَا وَفِيمَا عَدَا ذَلِكَ الضَّمَانُ، وَلَمَّا كَانَتْ دَعْوَى التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ مُخَالِفَةٌ لِدَعْوَى الرَّدِّ قَالَ: (وَإِنْ قَالَ) مَنْ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ (ذَهَبَتْ) أَوْ ضَاعَتْ أَوْ هَلَكَتْ بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ مِنِّي فِي حِفْظِهَا (فَهُوَ مُصَدَّقٌ) فِيمَا ادَّعَاهُ بِيَمِينِهِ إنْ كَانَ مِنْهُمَا أَوْ حَقَّقَ عَلَيْهِ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ الدَّعْوَى وَالْمُتَّهَمُ يَغْرَمُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ، وَفِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ لَا يَغْرَمُ إلَّا بَعْدَ حَلِفِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ وَمَعْنَى قَوْلِهِ: (بِكُلِّ حَالٍ) سَوَاءٌ قَبَضَهَا بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ أَمْ لَا، كَانَتْ مِمَّا يُغَابُ عَلَيْهَا أَمْ لَا. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِدَعْوَى التَّلَفِ أَوْ الضَّيَاعِ، أَوْ قَالَ: لَا أَدْرِي مَتَى تَلِفَتْ، أَوْ قَالَ: ضَاعَتْ مِنْ سِنِينَ وَكُنْت أَرْجُوهَا، وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهَا حَاضِرًا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، وَقَيَّدْنَا بِغَيْرِ تَقْصِيرٍ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ هَلَكَتْ بِتَقْصِيرِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ لِوُجُوبِ حِفْظِهَا عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ رَبُّهَا فِي إتْلَافِهَا أَوْ كَانَ الْمُودِعُ بِالْكَسْرِ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا، وَنَظِيرُهَا فِي الضَّمَانِ مَعَ الْإِذْنِ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: اُقْتُلْنِي أَوْ اُقْتُلْ وَلَدِي، بِخِلَافِ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: احْرِقْ ثَوْبِي وَاقْطَعْ يَدِي فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ مَعَ الْإِذْنِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَا ذَكَرَ وَبَيْنَ الْوَدِيعَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ الْتِزَامُ حِفْظِهَا بِمُجَرَّدِ قَبُولِهَا فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ الْإِذْنُ. وَلَمَّا كَانَتْ الْعَارِيَّةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 صُرَّتِهَا ثُمَّ هَلَكَتْ فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَضْمِينِهِ. وَمَنْ اتَّجَرَ بِوَدِيعَةٍ فَذَلِكَ مَكْرُوهٌ وَالرِّبْحُ لَهُ إنْ كَانَتْ عَيْنًا. وَإِنْ بَاعَ الْوَدِيعَةَ   [الفواكه الدواني] تُخَالِفُ الْوَدِيعَةَ فِيمَا ذَكَرَ قَالَ: (وَالْعَارِيَّةُ) مُخَالِفَةٌ لِلْوَدِيعَةِ لِأَنَّ الْمُسْتَعِيرَ (لَا يُصَدَّقُ فِي) دَعْوَى (هَلَاكِهَا) أَوْ ضَيَاعِهَا (فِيمَا يُغَابُ عَلَيْهِ) مِنْهَا لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْعَارِيَّةَ مُؤَدَّاةٌ أَيْ مَضْمُونَةٌ، وَإِنَّمَا أَعَادَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ وَإِنْ قَدَّمَهَا فِي الْعَارِيَّةِ لِيُنَبِّهَ عَلَى الْفَرْقِ بَيْنَ الْوَدِيعَةِ وَالْعَارِيَّةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا تَشْتَرِكُ فِيهِ الْوَدِيعَةُ وَالْعَارِيَّةُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَعَدَّى عَلَى وَدِيعَةٍ) بِأَنْ حَرَقَهَا أَوْ دَلَّ لِصًّا عَلَيْهَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ (ضَمِنَهَا) لِصَاحِبِهَا وَمِنْ التَّعَدِّي عَلَيْهَا إطْلَاقُ الْفَحْلِ عَلَيْهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهَا وَتَمُوتُ مِنْ ذَلِكَ وَإِنْ عِنْدَ الْوِلَادَةِ، وَمِنْهُ نَقْلُهَا مِنْ مَحَلٍّ إلَى آخَرَ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ أَوْ لَهَا وَلَكِنْ لَمْ يَنْقُلْهَا نَقْلَ أَمْثَالِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: لَا إنْ انْكَسَرَتْ فِي نَقْلِ مِثْلِهَا وَيَخْلِطُهَا إلَّا كَقَمْحٍ بِمِثْلِهِ أَوْ دَرَاهِمَ بِدَنَانِيرَ حَيْثُ وَقَعَ الْخَلْطُ بِالْمِثْلِ أَوْ غَيْرِهِ لِلْإِحْرَازِ، وَلَا مَفْهُومَ لِقَوْلِهِ وَدِيعَةً إذْ غَيْرُهَا أَحْرَى فِي الضَّمَانِ بِالتَّعَدِّي مِنْ عَارِيَّةٍ وَرَهْنٍ وَغَيْرِهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي بَيَانِ التَّعَدِّي أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ قَصْدُ الْإِتْلَافِ خِلَافًا لِظَاهِرِ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ، بَلْ مَتَى حَصَلَ الْإِتْلَافُ بِسَبَبِ مَنْ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ ضَمِنَهَا وَلَوْ خَطَأً. قَالَ خَلِيلٌ: تُضَمْنَ بِسُقُوطِ شَيْءٍ عَلَيْهَا مِنْ الْمُودِعِ بِالْكَسْرِ كَمَا قَالَهُ أَشْهَبُ فِي الَّذِي يَأْتِي لِبَائِعِ الْفَخَّارِ وَيَقُولُ لَهُ: قَلِّبْ مَا يُعْجِبُك فَيَأْخُذُ شَيْئًا يُقَلِّبُهُ فَيَسْقُطُ مِنْ يَدِهِ قَهْرًا عَلَى شَيْءٍ فَيُتْلِفُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَسْقُوطِ عَلَيْهِ مَعَ أَنَّ السُّقُوطَ بِغَيْرِ اخْتِيَارِهِ، لِأَنَّ الْخَطَأَ وَالْعَمْدَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ، سَوَاءٌ كَانَ يَضْمَنُ بِبَعْثِهَا لِصَاحِبِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ وَتَضْيِيعٍ مِنْ الرَّسُولِ وَبِنِسْيَانِهَا فِي مَوْضِعِ إيدَاعِهَا وَبِدُخُولِهِ الْحَمَّامَ بِهَا وَبِخُرُوجِهِ بِهَا يَظُنُّهَا لَهُ، أَوْ سَافَرَ بِهَا أَوْ يَسْتَعْمِلُهَا بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ فَتَتْلَفُ، أَوْ أَمَرَهُ بِوَضْعِهَا فِي مَحَلٍّ فَخَالَفَ وَوَضَعَهَا فِي مَحَلٍّ غَيْرِ حِرْزٍ لَهَا، أَوْ تَكُونُ فِي مَوْضِعٍ فِيهِ إغْرَاءٌ لِلسَّارِقِ كَوَضْعِهَا فِي مَحَلٍّ عَلَيْهِ قُفْلَانِ. الثَّانِي: لَا يَجُوزُ لِمَنْ عِنْدَهُ الْوَدِيعَةُ إيدَاعُهَا عِنْدَ غَيْرِهِ لِأَنَّ رَبَّ الْوَدِيعَةِ لَمْ يَرْضَ إلَّا بِأَمَانَتِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْغَيْرُ مِمَّنْ اعْتَادَ الْإِيدَاعَ عِنْدَهُ كَزَوْجَتِهِ أَوْ أَمَتِهِ، أَوْ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ عُذْرٌ يَقْتَضِي الْإِيدَاعَ عِنْدَ الْغَيْرِ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْإِشْهَادُ عَلَى الْعُذْرِ لِأَنَّهُ لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ: أَوْدَعْتهَا لِعُذْرٍ، كَمَا لَا يَكْفِي أَنْ يَقُولَ لِلشُّهُودِ: اشْهَدُوا أَنِّي إنَّمَا أَوْدَعْتهَا لِعُذْرٍ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُشْهِدَهُمْ عَلَى عَيْنِ الْعُذْرِ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا إذَا تَصَرَّفَ فِي الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَتْ) أَيْ الْوَدِيعَةُ شَيْئًا مِثْلِيًّا (دَنَانِيرَ أَوْ دَرَاهِمَ) وَتَصَرَّفَ فِيهَا بِغَيْرِ إذْنِ رَبِّهَا. (فَرَدَّهَا فِي صُرَّتِهَا) الْمُرَادُ مِثْلُهَا (ثُمَّ هَلَكَتْ) بَعْدَ دَعْوَاهُ رَدَّهَا (فَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي تَضْمِينِهِ) وَعَدَمِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ الْمَشْهُورُ مِنْهُمَا الْقَوْلُ بِعَدَمِ الضَّمَانِ لِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ وَجَمَاعَةٍ حَيْثُ كَانَ تَصَرُّفُهُ فِي الْوَدِيعَةِ مَكْرُوهًا بِأَنْ كَانَ مَلِيًّا حِينَ تَصَرُّفِهِ فِيهَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُعْدَمًا لَحُرِّمَ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِيهَا إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ رَبِّهَا، كَمَا يُحَرَّمُ عَلَيْهِ التَّصَرُّفُ فِي الْوَدِيعَةِ الْمُقَوَّمَةِ كَعَرْضٍ أَوْ حَيَوَانٍ إلَّا بِإِذْنِ رَبِّهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّصَرُّفَ فِي الْوَدِيعَةِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: جَائِزٌ وَمَكْرُوهٌ وَحَرَامٌ، فَالْجَائِزُ التَّصَرُّفُ بِالْإِذْنِ مُطْلَقًا، وَالْحَرَامُ التَّصَرُّفُ بِغَيْرِ إذْنٍ حَيْثُ كَانَتْ مُقَوَّمَةً مُطْلَقًا أَوْ مِثْلِيَّةً وَهُوَ مُعْدَمٌ، وَإِذَا ادَّعَى رَدَّهَا إلَى مَوْضِعِهَا فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي قِسْمِ الْمَكْرُوهِ وَلَا يُصَدَّقُ فِي الْجَائِزِ وَالْحَرَامِ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى رَدِّهَا لِيَدِ صَاحِبِهَا، وَلَا يَكْفِي شَهَادَتُهَا عَلَى رَدِّهَا إلَى مَوْضِعِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَرِئَ إنْ رَدَّ غَيْرَ الْمُحَرَّمِ وَهُوَ الْمَكْرُوهُ فَقَطْ، وَأَمَّا الْجَائِزُ وَالْمُحَرَّمُ فَلَا يُصَدَّقُ فِي دَعْوَاهُ الرَّدَّ لِأَنَّهُمَا صَارَا كَالسَّلَفِ الْحَقِيقِيِّ، فَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى رَدِّهِمَا لِيَدِ صَاحِبِهِمَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إجْمَالًا لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ لَا يُصَدَّقُ بِمُجَرَّدِ دَعْوَى الرَّدِّ إلَى مَحَلِّ الْوَدِيعَةِ إلَّا فِي قِسْمِ الْمَكْرُوهِ بِخِلَافِ قِسْمَيْ الْجَائِزِ وَالْحَرَامِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الْفَرْقَ بِأَنَّ الْجَائِزَ وَالْمُحَرَّمَ صَارَا بِمَنْزِلَةِ الْقَرْضِ فِي ذِمَّةِ الْمُقْتَرِضِ لَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَى رَدِّهِ إلَى يَدِ صَاحِبِهِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ الْمَضْمُونَ وَهُوَ الْمِثْلُ إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً، وَالْقِيمَةُ إنْ كَانَتْ مُقَوَّمَةً، وَالضَّمَانُ لَهَا فِي ذِمَّةِ الْحُرِّ الرَّشِيدِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُودَعُ عَبْدًا فَإِنْ كَانَ مَأْذُونًا لَهُ فِي التِّجَارَةِ فَيَضْمَنُهَا فِي ذِمَّتِهِ أَيْضًا، لَكِنْ يَدْفَعُهَا مِنْ غَيْرِ خَرَاجِهِ وَكَسْبِهِ مِنْ هِبَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ، إنْ كَانَ غَيْرَ مَأْذُونٍ وَقَبِلَ الْوَدِيعَةَ بِغَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ فَإِنَّهَا تَكُونُ فِي ذِمَّتِهِ إذَا عَتَقَ لَا فِي رَقَبَتِهِ، إلَّا أَنْ يُسْقِطَ سَيِّدُهُ عَنْهُ ضَمَانَهَا بِأَنْ يَقُولَ: أَسْقَطْتهَا عَنْ عَبْدِي فَلَا يُتْبَعُ بِهَا وَلَوْ عَتَقَ لِأَنَّهُ عَيْبٌ أَسْقَطَهُ عَنْ عَبْدِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ سَفِيهًا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ لِأَنَّ صَاحِبَهَا هُوَ الْمُسَلِّطُ لَهُمَا عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَ قَبُولُهُمَا بِإِذْنِ وَلِيِّهِمَا، اللَّهُمَّ أَنْ يَصُونَا بِهَا مَالَهُمَا فَيَضْمَنَانِ الْأَقَلَّ مِنْ قِيمَتِهَا وَمِمَّا صَوَّنَّاهُ لَا إنْ تَلِفَ مَا صَوَّنَّاهُ وَاسْتَفَادَا غَيْرَهُ. [حُكْمِ الِاتِّجَارِ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الِاتِّجَارِ الْوَدِيعَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ اتَّجَرَ بِوَدِيعَةٍ) عِنْدَهُ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا (فَذَلِكَ) الِاتِّجَارُ (مَكْرُوهٌ) سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يُحَرَّمُ تَسَلُّفُهُمَا كَالْمُقَوَّمِ مُطْلَقًا وَالْمِثْلِيِّ لِلْمُعْدَمِ، أَوْ يُكْرَهُ كَالْمِثْلِيِّ لِلْمَلِيءِ، لِلْفَرْقِ بَيْنَ السَّلَفِ وَالتِّجَارَةِ، بِأَنَّ الْمُتَسَلِّفَ قَصَدَ تَمَلُّكَهَا بِصَرْفِهَا فِي مَصَالِحِهِ، وَالْمُتَّجِرَ قَصَدَ تَحْرِيكَهَا لِيَأْخُذَ رِبْحَهَا وَيَحْبِسَ رَأْسَ الْمَالِ لِصَاحِبِهِ. (وَ) إذَا اتَّجَرَ الْوَدِيعَةِ فَ (الرِّبْحُ لَهُ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وَهِيَ عَرْضٌ فَرُبَّهَا مُخَيَّرٌ فِي الثَّمَنِ أَوْ الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَدِّي. وَمَنْ وَجَدَ لُقْطَةَ فَلْيُعَرِّفْهَا سَنَةً بِمَوْضِعٍ يَرْجُو التَّعْرِيفَ بِهَا.   [الفواكه الدواني] وَالْخَسَارَةُ عَلَيْهِ (إنْ كَانَتْ عَيْنًا) دَرَاهِمَ أَوْ دَنَانِيرَ لِأَنَّ ضَمَانَهَا زَمَنَ الِاتِّجَارِ مِنْهُ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ الضَّمَانُ يَسْتَحِقُّ الرِّبْحَ، وَعُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مِنْ تَنَاوُلِ الْكَرَاهَةِ لِمَا يُحَرَّمُ تَسَلُّفُهُ أَنَّ قَوْلَهُ: إنْ كَانَتْ عَيْنًا لَيْسَ شَرْطًا فِي الْكَرَاهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ شَرْطٌ فِي قَوْلِهِ: وَالرِّبْحُ لَهُ. وَأَشَارَ إلَى حُكْمُ غَيْرِ الْعَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ بَاعَ) الْمُودَعُ بِالْفَتْحِ (الْوَدِيعَةَ) بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا (وَهِيَ عَرْضٌ) أَيْ غَيْرُ عَيْنٍ (فَرَبُّهَا مُخَيَّرٌ) عِنْدَ عَدَمِ فَوَاتِهَا (فِي) إجَازَةِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ (الثَّمَنِ) الَّذِي بِيعَتْ بِهِ وَعِنْدَ فَوَاتِهَا يَجِبُ لَهُ الْأَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ. (أَوْ الْقِيمَةِ يَوْمَ التَّعَدِّي) لِأَنَّهُ فُضُولِيٌّ، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ عِنْدَ قِيَامِهَا لَهُ الْإِجَازَةُ وَأَخْذُ الثَّمَنِ وَلَهُ رَدُّ الْبَيْعِ وَأَخْذُ سِلْعَتِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ فَوَاتِهَا فَيُقْضَى لَهُ بِأَخْذِ الْأَكْثَرِ مِنْ الثَّمَنِ أَوْ قِيمَتِهَا يَوْمَ التَّعَدِّي، وَمِثْلُهُ كُلُّ مُتَعَدٍّ بِالْبَيْعِ عَلَى سِلْعَةِ غَيْرِهِ وَلَوْ غَاصِبًا، وَهَكَذَا حُكْمُ بَيْعِ الْوَدِيعَةِ مِنْ غَيْرِ اتِّجَارٍ فِي ثَمَنِهَا، وَأَمَّا لَوْ بَاعَهَا عَلَى وَجْهِ التِّجَارَةِ فَفِي بَيْعِهَا تَفْصِيلٌ مُحَصَّلُهُ: إنْ بَاعَهَا بِعَرْضٍ وَالْعَرْضُ بِعَرْضٍ وَهَلُمَّ جَرًّا فَلَا رِبْحَ لَهُ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَإِنْ بَاعَهَا بِدَرَاهِمَ فَالرِّبْحُ الْكَائِنُ فِي ثَمَنِهَا لِرَبِّهَا، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يُودِعَهُ سِلْعَةً اشْتَرَاهَا بِعَشَرَةٍ فَبَاعَهَا بِعِشْرِينَ فَرَبُّهَا لَهُ إجَازَةُ الْبَيْعِ وَأَخْذُ الْعِشْرِينَ أَوْ رَدُّ الْبَيْعِ وَأَخْذُ سِلْعَتِهِ، وَبَعْدَ الْفَوَاتِ يُخَيَّرُ بَيْنَ الْإِجَازَةِ وَأَخْذِ مَا بِيعَتْ بِهِ أَوْ تَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ يَوْمَ بَيْعِهَا، وَالْمُرَادُ أَنَّ لَهُ الْأَكْثَرَ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ، وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ أَنَّهُ لَا أَجْرَ لَهُ فِي الْبَيْعِ لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِهِ، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ الْمُتَّجِرِ فِي الْعَرْضِ بِعَرْضٍ لَهُ الْأَجْرُ أَنَّ الْمُتَّجِرَ إنَّمَا فَعَلَ مَكْرُوهًا بِخِلَافِ هَذَا. (تَنْبِيهٌ) مِثْلُ الْمُودَعِ فِي اسْتِحْقَاقِ الرِّبْحِ عِنْدَ الِاتِّجَارِ بِالْعَيْنِ الْوَصِيُّ يَتَّجِرُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى لَهُ الرِّبْحُ وَعَلَيْهِ الْخُسْرُ، وَمِثْلُهُمَا أَيْضًا نَاظِرُ الْوَقْفِ يَتَّجِرُ فِي مَالِ الْوَقْفِ، إلَّا أَنَّ الْوَصِيَّ وَالنَّاظِرَ يُحَرَّمُ عَلَيْهِمَا التَّصَرُّفُ فِيمَا تَحْتَ أَيْدِيهِمَا، وَمِثْلُ مَنْ ذَكَرَ الْغَاصِبَ لِدَرَاهِمَ وَاتَّجَرَ فِيهَا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ رَأْسُ الْمَالِ وَالرِّبْحُ لَهُ، لِأَنَّ الضَّمَانَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ صَاحِبُ الدَّرَاهِمِ تَاجِرًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذَكَرَ لَمْ يَقْبِضْ الْمَالَ تَنْمِيَةً لِرَبِّهِ، بِخِلَافِ الْمُبَعِّضِ مَعَهُ وَالْمُقَارِضِ إذَا اتَّجَرَا بِمَا فِي أَيْدِيهِمَا فَلَا رِبْحَ لَهُمَا بَلْ لِرَبِّ الْمَالِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ خُسْرٌ فَهُوَ عَلَيْهِمَا بِتَعَدِّيهِمَا. (تَنْبِيهٌ آخَرُ) مَحَلُّ تَخَيُّرِ صَاحِبِ الْوَدِيعَةِ فِي الْإِجَازَةِ وَالرَّدِّ إلَخْ مَا لَمْ يَحْضُرْ عَقْدَ الْبَيْعِ أَوْ يَبْلُغْهُ الْبَيْعُ وَيَسْكُتُ مُدَّةً بِحَيْثُ يُعَدُّ رَاضِيًا وَإِلْزَامُهُ لِلْبَيْعِ وَأَخْذِ مَا بِيعَتْ بِهِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ كَمَا قَالُوهُ فِي هَذَا الْمَحَلِّ. [بَاب اللُّقَطَة] ثُمَّ شَرَعَ فِي التَّالِي لِلْوَدِيعَةِ فِي التَّرْجَمَةِ وَهُوَ بَابُ اللُّقَطَةِ بِضَمِّ اللَّامِ وَفَتْحِ الْقَافِ مَا يُلْتَقَطُ، وَالِالْتِقَاطُ وُجُودُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ طَلَبٍ، وَعَرَّفَهَا ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: مَالٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ مُحْتَرَمًا لَيْسَ حَيَوَانًا نَاطِقًا وَلَا نَعَمًا بَلْ عَيْنًا أَوْ عَرْضًا أَوْ رَقِيقًا صَغِيرًا، وَسَوَاءٌ وُجِدَتْ فِي الْعَمَارِ أَوْ الْخَرَابِ أَوْ بِسَاحِلِ الْبَحْرِ وَعَلَيْهَا عَلَامَةُ الْمُسْلِمِينَ، لَا نَحْوُ عَنْبَرٍ وَعَقِيقٍ فَلِوَاجِدِهِ، وَخَرَجَ بِقَوْلِهِ مَالُ اللَّقِيطِ وَخَرَجَ بِمُحْتَرَمًا مَالُ الْحَرْبِيِّ فَلَيْسَ يَلْقُطُهُ بَلْ إمَّا فَيْءٌ أَوْ غَنِيمَةٌ، وَخَرَجَ الْآبِقُ الْكَبِيرُ فَلَا يُسَمَّى لُقَطَةً، كَمَا خَرَجَ آخِذُ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ فَإِنَّهُ يُسَمَّى ضَالَّةَ الشَّيْءِ، فَالشَّيْءُ الْمُعَرَّضُ لِلضَّيَاعِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: لُقَطَةٌ أَوْ لَقِيطٌ أَوْ آبِقٌ أَوْ ضَالَّةٌ، فَاللُّقَطَةُ تَقَدَّمَ حَدُّهَا، وَأَمَّا اللَّقِيطُ فَهُوَ صَغِيرُ آدَمِيٍّ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ وَلَا رِقُّهُ، أَمَّا لَوْ عُلِمَ رِقُّهُ فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ اللُّقَطَةُ وَإِنْ كَانَ كَبِيرًا فَهُوَ الْآبِقُ وَجَدُّهُ رَقِيقٌ كَبِيرٌ مُحْتَرَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ، وَأَمَّا الضَّالَّةُ فَحَدُّهَا نَعَمٌ مُحْتَرَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ فَيَخْرُجُ مَا كَانَ يُحَرِّزُهُ أَوْ مَعَ مَنْ يَحْفَظُهُ فَلَيْسَ بِضَالَّةٍ فَقَالَ: (وَمَنْ وَجَدَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (لُقَطَةً) وَقَدْ مَرَّ تَعْرِيفُهَا لِابْنِ عَرَفَةَ، وَعَرَّفَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: اللُّقَطَةُ مَالٌ مَعْصُومٌ عُرِّضَ لِلضَّيَاعِ وَإِنْ كَلْبًا وَفَرَسًا الْتَقَطَهَا. (فَلْيُعَرِّفْهَا) وُجُوبًا بِنَفْسِهِ أَوْ بِمَنْ يَثِقُ بِهِ وَلَوْ بِأُجْرَةٍ مِنْهَا إنْ لَمْ يَعْرِفْ مِثْلَهُ. (سَنَةً) حَيْثُ كَانَتْ مِنْ ذَوَاتِ الْبَالِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ مِنْ سَفَاسِفِ الْأُمُورِ كَدَلْوٍ وَمِخْلَاةٍ وَدُرَيْهِمَاتٍ فَإِنَّهَا تُعَرَّفُ أَيَّامًا لَا سَنَةً عَلَى الرَّاجِحِ، وَأَمَّا الشَّيْءُ الْحَقِيرُ جِدًّا بِحَيْثُ لَا تَلْتَفِتُ إلَيْهِ النُّفُوسُ كَالْعَصَا وَالسَّوْطِ فَلَا يَجِبُ تَعْرِيفُهُ أَصْلًا وَيَجُوزُ لِوَاجِدِهِ أَكْلُهُ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَيْثُ لَمْ يَعْلَمْ رَبُّهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَكْلُهُ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ لِرَبِّهِ فَإِنْ أَكَلَهُ ضَمِنَهُ، وَمِثْلُهُ مَا يَفْسُدُ بِالتَّأْخِيرِ كَلَحْمٍ وَرُطَبٍ، وَبَيَّنَ مَحَلَّ التَّعْرِيفِ بِقَوْلِهِ: (بِمَوْضِعٍ يَرْجُو التَّعْرِيفَ بِهَا) أَيْ بِمَوْضِعٍ يَرْجُو وُجُودَ صَاحِبِهَا وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يُظَنُّ أَنَّ صَاحِبَهَا يَطْلُبُهَا فِيهِ وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعْرِيفُهَا سَنَةً بِمَظَانِّ طَلَبِهَا كَأَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ وَالْأَسْوَاقِ، وَيَكُونُ التَّعْرِيفُ إثْرَ الِالْتِقَاطِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِذَا تَقَادَمَ الزَّمَانُ فَفِي كُلِّ يَوْمَيْنِ مَرَّةً، وَتَعْرِيفُهَا فِي الْبَلَدَيْنِ إنْ وُجِدَتْ بَيْنَهُمَا، وَيُطْلَبُ مِنْهُ الْإِبْهَامُ عِنْدَ التَّعْرِيفِ، فَلَا يَكُونُ نَوْعُهَا وَيُظَنُّ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَتِهَا، وَإِنْ وُجِدَتْ بِقَرْيَةٍ مِنْ قُرَى أَهْلِ الشِّرْكِ فَالْأَفْضَلُ لَهُ دَفْعُهَا الْعَالِمَ أَهْلَ الذِّمَّةِ، وَإِنْ عَرَّفَهَا بِنَفْسِهِ لَمْ يَأْثَمْ، فَإِنْ أَخَّرَ تَعْرِيفَهَا حَتَّى تَلِفَتْ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا بِدَفْعِهَا لِغَيْرِهِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِأَنَّ اللُّقَطَةَ لَمْ يَأْتَمِنْهُ رَبُّهَا عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْوَدِيعَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى التَّعْرِيفِ وَتَرَكَ الْكَلَامَ عَلَى حُكْمِ الِالْتِقَاطِ لَعَلَّهُ لِمَا فِيهِ مِنْ التَّفْصِيلِ الْمُنَافِي لِغَرَضِهِ مِنْ الِاخْتِصَارِ، وَمُحَصَّلُهُ أَنَّهُ يَجِبُ بِشَرْطَيْنِ: عِلْمُ أَمَانَةِ نَفْسِهِ وَخَوْفُ الْخَائِنِ، فَإِنْ عَلِمَ خِيَانَةَ نَفْسِهِ حُرِّمَ عَلَيْهِ الِالْتِقَاطُ، وَأَمَّا إنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 فَإِنْ تَمَّتْ سَنَةً وَلَمْ يَأْتِ لَهَا أَحَدٌ فَإِنْ شَاءَ حَبَسَهَا وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا وَضَمِنَهَا لِرَبِّهَا إنْ جَاءَ. وَإِنْ انْتَفَعَ بِهَا ضَمِنَهَا وَإِنْ هَلَكَتْ قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكٍ لَمْ يَضْمَنْهَا. وَإِذَا عَرَفَ طَالِبُهَا الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ أَخَذَهَا. وَلَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ ضَالَّةَ   [الفواكه الدواني] لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا فَيُكْرَهُ لَهُ الِالْتِقَاطُ مَعَ عِلْمِهِ أَمَانَةَ نَفْسِهِ أَوْ شَكَّ فِيهَا وَلَوْ خَافَ الْخَائِنُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ أَخْذُهَا لِخَوْفِ خَائِنٍ لَا إنْ عَلِمَ خِيَانَةَ نَفْسِهِ هُوَ فَيُحَرَّمُ وَإِلَّا كُرِهَ، وَفَائِدَةُ الْوُجُوبِ أَنَّهُ لَوْ تَرَكَهَا أَوْ رَدَّهَا بَعْدَ أَخْذِهَا لِلْحِفْظِ وَضَاعَتْ فَإِنَّهُ يَضْمَنُهَا، وَفَائِدَةُ الْحُرْمَةِ أَنَّهُ إنْ أَخَذَهَا يَضْمَنُهَا إنْ تَلِفَتْ أَوْ ضَاعَتْ قَبْلَ رَدِّهَا لِمَحَلِّهَا بِحَالِهَا، وَأَمَّا فِي الْمَكْرُوهِ فَلَا يَضْمَنُهَا بِتَرْكِهَا، وَإِنَّمَا يَضْمَنُهَا إذَا أَخَذَهَا وَرَدَّهَا لِمَوْضِعِهَا بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ وَضَاعَتْ. الثَّانِي: لَوْ تَلِفَتْ عِنْدَ الْمُلْتَقِطِ زَمَنَ تَعْرِيفِهَا لَا ضَمَانَ عَلَيْهِ إلَّا إذَا تَعَدَّى عَلَيْهَا أَوْ فَرَّطَ فِي حِفْظِهَا كَمَا إذَا أَخَذَهَا لِيَتَمَلَّكَهَا فَإِنَّهُ يُخَاطَبُ بِضَمَانِهَا بِمُجَرَّدِ وَضْعِ يَدِهِ عَلَيْهَا لِشَبَهِهِ بِالْغَاصِبِ، فَلَوْ تَنَازَعَ مَعَ رَبِّهَا بَعْدَ ضَيَاعِهَا أَوْ تَلَفِهَا بِغَيْرِ تَفْرِيطٍ وَادَّعَى أَنَّهُ أَخَذَهَا لِيُعَرِّفَهَا وَادَّعَى رَبُّهَا أَنَّهُ أَخَذَهَا بِقَصْدِ تَمَلُّكِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُلْتَقِطِ بِلَا يَمِينٍ، لِأَنَّ الشَّرْعَ أَوْجَبَ عَلَيْهِ أَخْذَهَا وَلِأَنَّهُ أَمْرٌ لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْهُ. (فَإِنْ تَمَّتْ) أَيْ انْقَضَتْ (سَنَةٌ) أَوْ أَيَّامٌ فِيمَا يُعْرَفُ أَيَّامًا (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَأْتِ) أَيْ لَمْ يَظْهَرْ (لَهَا أَحَدٌ) يَسْتَحِقُّ أَخْذَهَا بِوَصْفِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْآتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَإِنَّهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أُمُورٍ بَيَّنَهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ شَاءَ) الْمُتَلَقِّطُ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ (حَبَسَهَا) لِرَبِّهَا (وَإِنْ شَاءَ تَصَدَّقَ بِهَا) عَنْ رَبِّهَا (وَضَمِنَهَا لِرَبِّهَا إنْ جَاءَ) فَوَجَدَهُ تَصَدَّقَ بِهَا وَقَدْ فَاتَتْ عِنْدَ الْفَقِيرِ، وَأَمَّا إنْ وَجَدَهَا قَائِمَةً فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا، وَإِنْ أَخَذَ صَاحِبُهَا قِيمَتَهَا مِنْ الْمُلْتَقِطِ فَلِلْمُلْتَقِطِ الرُّجُوعُ عَلَى الْفَقِيرِ بِهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُتَلَقِّطُ تَصَدَّقَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْفَقِيرِ بِشَيْءٍ، وَإِنْ شَاءَ تَمَلَّكَهَا وَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ ضَامِنًا لَهَا فِي الصُّورَتَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ حَبْسُهَا بَعْدَهَا أَوْ التَّصَدُّقُ أَوْ التَّمَلُّكُ وَلَوْ بِمَكَّةَ ضَامِنًا فِيهِمَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ مَكَّةَ إلَّا لِمُنْشِدٍ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا تَحِلُّ لُقَطَةُ الْحَاجِّ» فَمَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهَا لَا تَحِلُّ لِمَنْ يُرِيدُ تَمَلُّكَهَا مِنْ غَيْرِ تَعْرِيفٍ بَلْ لَا تُؤْخَذُ إلَّا لِتُعْرَفَ، وَسَبَبُ تَنْبِيهِ الشَّارِعِ عَلَى خُصُوصِ لُقَطَةِ مَكَّةَ، مَعَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ عَادَ حَتَّى فِي غَيْرِهَا أَنَّ لُقَطَةَ مَكَّةَ تُوجَدُ كَثِيرًا فِي الْحَرَمِ عِنْدَ اجْتِمَاعِ النَّاسِ مِنْ كُلِّ قُطْرٍ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الَّذِي قُطْرُهُ بَعِيدٌ لَا يُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ مَرَّةً أُخْرَى فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكْثُرُ أَخْذُهَا بِنِيَّةِ التَّمَلُّكِ، فَنَبَّهَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَخْذُهَا بِهَذَا الْقَصْدِ وَإِنْ كَانَ غَيْرُهَا كَذَلِكَ، وَمَحَلُّ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ إذَا كَانَ الْمُلْتَقِطُ غَيْرَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ اللُّقَطَةُ بِيَدِهِ فَلَيْسَ لَهُ إلَّا حَبْسُهَا لِرَبِّهَا أَوْ بَيْعُهَا وَحَبْسُ ثَمَنِهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ لِرَبِّهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ التَّصَدُّقُ بِهَا وَلَا تَمَلُّكُهَا، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْإِمَامِ مَشَقَّةُ تَخْلِيصِ مَا فِي ذِمَّةِ الْإِمَامِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ، وَلِذَلِكَ لَا يَجُوزُ لِمَنْ أَبَقَ مِنْهُ عَبْدٌ وَبَلَغَهُ أَنَّهُ بِيَدِ الْإِمَامِ بَيْعُهُ حَتَّى يَقْبِضَهُ مِنْهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا بَلَغَهُ أَنَّهُ بِيَدِ غَيْرِهِ مِمَّنْ يَقْدِرُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ وَلَوْ قَبْلَ قَبْضِهِ وَلَوْ كَانَ مَنْ بِيَدِهِ غَاصِبًا وَلَكِنْ أَقَرَّ بِهِ وَيَقْدِرُ عَلَيْهِ اُنْظُرْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَهَرَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْمُلْتَقِطَ يَضْمَنُ اللُّقَطَةَ فِي التَّصَدُّقِ بِهَا وَلَوْ عَنْ رَبِّهَا وَفِي حَالَةِ تَمَلُّكِهَا لَا فِي حَالَةِ حَبْسِهَا لِرَبِّهَا فَإِنَّ ضَمَانَهَا فِيهَا مِنْ رَبِّهَا لِأَنَّهَا تَحْتَ يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِهِ مُسْتَحِقُّ غَلَّةِ اللُّقَطَةِ، وَفِي خَلِيلٍ: وَلَهُ كِرَاءُ بَقَرٍ وَنَحْوِهَا فِي عَلَفِهَا كِرَاءً مَضْمُونًا أَيْ مَأْمُونًا، وَلَهُ رُكُوبُ دَابَّةٍ مِنْ مَوْضِعِ الْتِقَاطِهَا إلَى مَوْضِعِهِ وَإِنْ لَمْ يَتَعَذَّرْ قَوَدُهَا عَلَيْهِ، وَإِنْ فَعَلَ شَيْئًا مِنْ هَذِهِ لَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَتَلِفَتْ ضَمِنَهَا، وَلِلْمُلْتَقِطِ غَلَّاتُهَا مِنْ لَبَنٍ وَجُبْنٍ، لَا صُوفُهَا وَلَا نَسْلُهَا وَلَا كِرَاؤُهَا الزَّائِدِ عَلَى عَلَفِهَا فَإِنَّهُ لِصَاحِبِهَا، وَإِنْ كَلَّفَهَا الْمُلْتَقِطُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا غَلَّةٌ فَإِنَّ صَاحِبَهَا يُخَيَّرُ فِي أَخْذِهَا وَدَفْعِ كُلْفَتِهَا وَلَهُ تَسْلِيمُهَا لِلْمُلْتَقِطِ فِي كُلْفَتِهَا وَلَوْ زَادَتْ عَلَى قِيمَتِهَا لِأَنَّ رَبَّهَا لَا يَلْزَمُهُ الزَّائِدُ عَلَى قِيمَتِهَا، وَلَوْ ظَهَرَ عَلَى صَاحِبِهَا دَيْنٌ لَقَدِمَ الْمُلْتَقِطُ بِنَفَقَتِهِ عَلَى ذِي الدَّيْنِ كَالْمُرْتَهِنِ. وَلَمَّا كَانَتْ اللُّقَطَةُ كَالْوَدِيعَةِ فِي عَدَمِ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا بَيَّنَ حُكْمَ مَا إذَا تَعَدَّى وَانْتَفَعَ بِهَا فَقَالَ: (وَإِنْ انْتَفَعَ) . الْمُلْتَقِطُ (بِهَا) فِي غَيْرِ رُكُوبِهَا لِمَوْضِعِهِ وَتَلِفَتْ (ضَمِنَهَا) وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَحْصُلْ تَلَفٌ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ كِرَاؤُهَا لِمَالِكِهَا إنْ كَانَ مِثْلُهُ يُكْرِي الدَّوَابَّ، وَأَمَّا لَوْ هَلَكَتْ لَا بِسَبَبِ انْتِفَاعِهِ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ هَلَكَتْ) أَيْ اللُّقَطَةُ سَوَاءٌ كَانَ (قَبْلَ السَّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا بِغَيْرِ تَحْرِيكٍ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ مِنْ الْمُلْتَقِطِ. (لَمْ يَضْمَنْهَا) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ اللُّقَطَةَ تَحْتَ يَدِهِ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمُودَعُ لَا يَضْمَنُ الْوَدِيعَةَ إلَّا بِتَعَدِّيهِ، وَأَمَّا لَوْ تَعَدَّى عَلَيْهَا الْمُلْتَقِطُ بِالْبَيْعِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ فِي بَيْعِهَا بَعْدَ السَّنَةِ فَلَيْسَ لِرَبِّهَا إلَّا الثَّمَنُ، وَقَبْلَ السَّنَةِ يُخَيَّرُ رَبُّهَا بَيْنَ إمْضَاءِ الْبَيْعِ وَأَخْذِ الثَّمَنِ وَرَدِّهِ وَأَخْذِهَا إنْ كَانَتْ قَائِمَةً أَوْ قِيمَتُهَا إنْ فَاتَتْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ بَاعَهَا بَعْدَهَا فَمَا لِرَبِّهَا إلَّا الثَّمَنُ، بِخِلَافِ لَوْ وَجَدَهَا بِيَدِ الْمِسْكَيْنِ أَوْ مُبْتَاعٍ مِنْهُ فَلَهُ أَخْذُهَا، وَلِلْمُلْتَقِطِ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ إنْ أَخَذَ مِنْهُ قِيمَتَهَا إلَّا أَنْ يَتَصَدَّقَ بِهَا عَنْ نَفْسِهِ، وَإِنْ نَقَصَتْ بَعْدَ نِيَّةِ تَمَلُّكِهَا فَلِرَبِّهَا أَخْذُهَا أَوْ قِيمَتُهَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ ذِكْرِ الْأَوْصَافِ الَّتِي تُسْتَحَقُّ بِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا عَرَفَ طَالِبُهَا) أَيْ اللُّقَطَةِ (الْعِفَاصَ) وَهُوَ الْخِرْقَةُ الْمَرْبُوطَةُ فِيهَا الْمَالُ. (وَ) عَرَفَ أَيْضًا (الْوِكَاءَ) بِالْمَدِّ وَهُوَ الْخَيْطُ الَّذِي يُرْبَطُ بِهِ طَرَفُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 الْإِبِلِ مِنْ الصَّحْرَاءِ وَلَهُ أَخْذُ الشَّاةِ وَأَكْلُهَا إنْ كَانَتْ بِفَيْفَاءَ لَا عِمَارَةَ فِيهَا. [أَحْكَام الضَّالَّةِ] وَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَرْضًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ وَكُلُّ مَا   [الفواكه الدواني] الْمَالِ. (أَخَذَهَا) بِلَفْظِ الْمَاضِي أَيْ اسْتَحَقَّ أَخْذَهَا مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ، وَأَحْرَى لَوْ عَرَّفَهُمَا وَعَرَّفَ الْعَدَدَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُدَّ بِمَعْرِفَةِ مَشْدُودٍ فِيهِ وَبِهِ وَعَدَدِهِ بِلَا يَمِينٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَعْلَمْ إلَّا الْعِفَاصَ أَوْ الْوِكَاءَ فَقَطْ لَا يَأْخُذُهَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَأْخُذُهَا لَكِنَّ بَعْدَ الِاسْتِيفَاءِ مُدَّةً لِاحْتِمَالِ أَنْ يَأْتِيَ مَنْ يَعْرِفُ الْوَصْفَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتُؤْنِيَ فِي الْوَاحِدَةِ إنْ جَهِلَ غَيْرَهَا لَا غَلِطَ بِأَنْ قَالَ: الْعِفَاصُ كَذَا فَيُوجَدُ بِخِلَافِهِ فَلَا تَدْفَعُ لَهُ، كَمَا لَوْ غَلِطَ فِي صِفَةِ الْمَالِ بِأَنْ قَالَ: مُحَمَّدِيَّةٌ فَإِذَا هِيَ يَزِيدِيَّةٌ، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَخْبَرَ بِعَدَدٍ فَيُوجَدُ أَقَلُّ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهَا لِاحْتِمَالِ اغْتِيَالِ الْمُلْتَقِطِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا لَوْ غَلِطَ بِالنَّقْصِ أَيْ أَخْبَرَ بِهِ فَتُوجَدُ أَكْثَرُ فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَفُهِمَ مِنْ تَعْوِيلِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ بِقَدْرِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَالْأَصْلُ فِيمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ: «أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلَهُ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ لَهُ: اعْرِفْ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنَك بِهَا، قَالَ: فَضَالَّةُ الْغَنَمِ؟ قَالَ: هِيَ لَك أَوْ لِأَخِيك أَوْ لِلذِّئْبِ، قَالَ: فَضَالَّةُ الْإِبِلِ؟ قَالَ: مَا لَكَ وَلَهَا مَعَهَا حِذَاؤُهَا وَسِقَاؤُهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ حَتَّى يَلْقَاهَا رَبُّهَا» وَفِي رِوَايَةٍ: «فَإِنْ جَاءَ أَحَدٌ يُخْبِرُك بِعَدَدِهَا وَوِعَائِهَا وَوِكَائِهَا فَأَعْطَاهَا إيَّاهُ وَإِلَّا فَهِيَ كَسَبِيلِ مَالِكَ» . (فُرُوعٌ) : الْأَوَّلُ: لَوْ عَرَفَ شَخْصٌ عِفَاصَهَا وَوِكَاءَهَا وَعَرَفَ آخَرُ عَدَدَهَا وَوَزْنَهَا لَقُضِيَ بِهَا لِمَنْ عَرَفَهُمَا، لَكِنْ بَعْدَ يَمِينِهِ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْعَدَدَ وَالْوَزْنَ، كَمَا يَقْضِي لِمَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْعَدَدَ عَلَى مَنْ عَرَفَ الْعِفَاصَ وَالْوِكَاءَ بِيَمِينٍ، وَكَذَا يَقْضِي بِهِمَا لِمَنْ عَرَفَ أَوْصَافًا يَقْوَى بِهَا الظَّنُّ عَلَى أَنَّهُ صَاحِبُهَا عَلَى مَنْ وَصَفَ أَوْصَافًا دُونَهَا. الثَّانِي: لَوْ وَصَفَهَا ثَانٍ مِثْلُ أَوَّلٍ فَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَنْفَصِلْ بِهَا حَلَفَا وَقُسِمَتْ بَيْنَهُمَا، بِخِلَافِ لَوْ انْفَصَلَ بِهَا انْفِصَالًا بَيِّنًا بِحَيْثُ يُمْكِنُ وُصُولُ الْعِلْمِ لِلثَّانِي مِنْ الْأَوَّلِ فَإِنَّهَا لَا تَكُونُ لِلْأَوَّلِ. الثَّالِثُ: لَوْ أَخَذَهَا شَخْصٌ بِالْوَصْفِ وَانْفَصَلَ بِهَا ثُمَّ جَاءَ آخَرُ وَأَقَامَ بَيِّنَةً أَنَّهَا لَهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى دَافِعِهَا لِلْأَوَّلِ وَتُنْزَعُ مِنْهُ وَتُدْفَعُ لِلثَّانِي لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ أَقْوَى مِنْ الْوَصْفِ. الرَّابِعُ: لَوْ أَقَامَ كُلٌّ مِنْ شَخْصَيْنِ بَيِّنَةً فَتُعْطَى لِذِي الْبَيِّنَةِ الزَّائِدَةِ فِي الْعَدَالَةِ، فَإِنْ اسْتَوَتَا فِي الْعَدَالَةِ قُدِّمَتْ الْمُؤَرَّخَةُ أَوْ السَّابِقَةُ تَارِيخًا، وَإِنْ اسْتَوَتَا فِي الْجَمِيعِ قُسِمَتْ بَيْنَهُمَا بَعْدَ حَلِفِهِمَا. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمَ اللُّقَطَةِ الَّتِي لَا عِفَاصَ لَهَا وَلَا وِكَاءَ، وَالْحُكْمُ أَنَّهَا تُدْفَعُ لِمَنْ يَأْتِي بِأَوْصَافٍ يَغْلِبُ مَعَهَا الظَّنُّ بِصِدْقِ الْآتِي بِهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى اللُّقَطَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الضَّالَّةِ وَتَقَدَّمَ أَحَدُهَا بِأَنَّهَا نَعَمٌ مُحْتَرَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَأْخُذَ الرَّجُلُ) أَوْ الْمَرْأَةُ (ضَالَّةَ الْإِبِلِ مِنْ الصَّحْرَاءِ) وَلَوْ كَانَتْ فِي مَوْضِعٍ يَخَافُ عَلَيْهَا مِنْ السِّبَاعِ أَوْ الْجُوعِ أَوْ الْعَطَشِ لِخَبَرِ: «دَعْهَا فَإِنَّ مَعَهَا حِذَاءَهَا وَسِقَاءَهَا تَرِدُ الْمَاءَ وَتَأْكُلُ الشَّجَرَ فَإِنْ تَعَدَّى وَأَخَذَهَا فَإِنَّهُ يُعَرِّفُهَا سَنَةً ثُمَّ يَتْرُكُهَا بِمَحَلِّهَا» . وَمَحَلُّ عَدَمِ جَوَازِ أَخْذِ ضَالَّةِ الْإِبِلِ مَا لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا الْخَائِنُ وَإِلَّا وَجَبَ الْتِقَاطُهَا، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ سَبَبُ تَخْصِيصِ عَدَمِ أَخْذِهَا بِكَوْنِهَا فِي الصَّحْرَاءِ، لِأَنَّ الضَّالَّةَ فِي الْعُمْرَانِ يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ الْخَائِنِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: التَّقْيِيدُ بِالصَّحْرَاءِ بِالنَّظَرِ لِلْغَالِبِ، وَلَا يَلْحَقُ بِضَالَّةِ الْإِبِلِ الْخَيْلُ وَالْحَمِيرُ بَلْ هِيَ دَاخِلَةٌ فِي اللُّقَطَةِ وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: اللُّقَطَةُ مَالٌ مَعْصُومٌ عُرِّضَ لِلضَّيَاعِ وَإِنْ كَلْبًا وَفَرَسًا. (وَلَهُ) أَيْ مُرِيدِ الِالْتِقَاطِ (أَخْذُ الشَّاةِ وَأَكْلُهَا إنْ كَانَتْ بِفَيْفَاءَ) بِالْمَدِّ أَيْ بِأَرْضٍ (لَا عِمَارَةَ فِيهَا) وَلَا شَيْءَ عَلَيْهَا لِرَبِّهَا وَجَوَازُ ذَبْحِهَا وَأَكْلِهَا وَلَوْ مَعَ تَيَسُّرِ سَوْقِهَا لِلْعُمْرَانِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ، وَأَمَّا لَوْ أَتَى بِهَا حَيَّةً لِلْعُمْرَانِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ كَاللُّقَطَةِ، وَأَمَّا لَوْ ذَبَحَهَا فِي الْفَيْفَاءِ وَلَمْ يَأْكُلْهَا حَتَّى دَخَلَ الْعُمْرَانَ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهَا إلَّا إذَا لَمْ يَعْرِفْ رَبَّهَا وَلَمْ يَكُنْ يَتَيَسَّرُ بَيْعًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ أَكْلُ مَا يَفْسُدُ وَلَوْ بَقَرَةً وَشَاةً وَلَوْ بِفَيْفَاءَ أَيْ عَلَى التَّفْصِيلِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ. (تَنْبِيهٌ) سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ ضَالَّةِ الْبَقَرِ وَحُكْمُهَا أَنَّهَا إنْ كَانَتْ بِمَحَلٍّ بِحَيْثُ يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ السِّبَاعِ أَوْ الْجُوعِ فَإِنَّ حُكْمَهَا كَالشَّاةِ تُوجَدُ بِالْفَيْفَاءِ، فَإِنْ ذَبَحَهَا فِيهَا جَازَ لَهُ أَكْلُهَا لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُمْكِنَ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ وَإِلَّا وَجَبَ فَلَيْسَتْ كَالشَّاةِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ، وَأَمَّا إنْ كَانَتْ بِمَحَلٍّ لَا يُخَافُ عَلَيْهَا مِنْ سِبَاعٍ وَلَا جُوعٍ فَإِنَّهَا تُتْرَكُ فَإِنْ أَخَذَهَا وَجَبَ عَلَيْهِ تَعْرِيفُهَا، وَهَذَا حَيْثُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْهَا مِنْ السَّارِقِ وَإِلَّا وَجَبَ الْتِقَاطُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ عِنْدَ خَوْفِ السَّارِقِ سِيَّانُ فِي وُجُوبِ الِالْتِقَاطِ وَيَفْتَرِقَانِ عِنْدَ الْخَوْفِ مِنْ الْجُوعِ أَوْ السِّبَاعِ، فَالْإِبِلُ تُتْرَكُ وَالْبَقَرُ يَجُوزُ أَكْلُهَا بِالْفَيْفَاءِ إنْ تَعَذَّرَ سَوْقُهَا لِلْعُمْرَانِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّحْرَاءِ أَنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ وَالشَّاةَ الْمَوْجُودَةَ فِي الْعُمْرَانِ يَجِبُ الْتِقَاطُهَا عِنْدَ خَوْفِ الْخَائِنِ كَالْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ وَالطُّيُورِ وَالْعَرُوضِ وَالنُّقُودِ. (خَاتِمَةٌ) أَسْقَطَ الْمُصَنِّفُ الْكَلَامَ عَلَى اللَّقِيطِ وَهُوَ صَغِيرُ آدَمِيٍّ لَمْ يُعْلَمْ أَبُوهُ وَلَا أُمُّهُ وَلَا رِقُّهُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَجِبُ لَقْطُهُ كِفَايَةً وَلَوْ عَلِمَ خِيَانَةَ نَفْسِهِ وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ سَوَاءٌ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ لَقْطُ طِفْلٍ نُبِذَ كِفَايَةً، وَشَرْطُ الْوُجُوبِ كَوْنُ الْوَاجِدِ رَجُلًا رَشِيدًا أَوْ حُرَّةً خَالِيَةً مِنْ الْأَزْوَاجِ أَوْ ذَاتَ زَوْجٍ أَذِنَ لَهَا زَوْجُهَا الرَّقِيقُ وَلَوْ مُكَاتَبًا فَلَا يُلْتَقَطُ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَيَجِبُ عَيْنًا عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 يُوزَنُ أَوْ يُكَالُ فَعَلَيْهِ مِثْلُهُ. وَالْغَاصِبُ ضَامِنٌ لِمَا غَصَبَ فَإِنْ رَدَّ ذَلِكَ بِحَالِهِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَإِنْ تَغَيَّرَ فِي يَدِهِ فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ بِنَقْصِهِ أَوْ تَضْمِينِهِ الْقِيمَةَ. وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ بِتَعَدِّيهِ خُيِّرَ أَيْضًا فِي أَخْذِهِ وَأَخَذَ مَا نَقَصَهُ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ.   [الفواكه الدواني] الْمُلْتَقِطِ لِلطِّفْلِ نَفَقَتُهُ وَحَضَانَتُهُ الذَّكَرُ حَتَّى يَبْلُغَ عَاقِلًا قَادِرًا عَلَى الْكَسْبِ، وَالْأُنْثَى حَتَّى يَدْخُلَ بِهَا الزَّوْجُ الْمُوسِرُ كَوَلَدِ الصُّلْبِ، وَأَسْقَطَ الْكَلَامَ عَلَى الْآبِقِ وَهُوَ رَقِيقٌ مُحْتَرَمٌ وُجِدَ بِغَيْرِ حِرْزٍ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يُنْدَبُ لِمَنْ يُعَرِّفُ سَيِّدَهُ أَخْذُهُ وَإِنْ لَمْ يُعَرِّفْهُ لَا يُنْدَبُ لَهُ، وَإِنْ أَخَذَهُ مِنْ غَيْرِ مَعْرِفَةٍ فَلَهُ رَفْعُهُ لِلْحَاكِمِ وَلَهُ إرْسَالُهُ. [التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْغَيْرِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى اللُّقَطَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى التَّعَدِّي عَلَى مَالِ الْغَيْرِ بِقَاعِدَةٍ كُلِّيَّةٍ فَقَالَ: (وَ) كُلُّ (مَنْ اسْتَهْلَكَ عَرْضًا) الْمُرَادُ شَيْئًا غَيْرَ مِثْلِيٍّ بِقَرِينَةِ ذِكْرِ الْمِثْلِيِّ (فَعَلَيْهِ) غُرْمُ (قِيمَتِهِ) لِرَبِّهِ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ خَطَأً وَلَوْ غَيْرَ بَالِغٍ وَلَوْ مُكْرَهًا، لِأَنَّ الضَّمَانَ مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ بِمَحَلِّ الْإِتْلَافِ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْقِيمَةُ فِي ذِمَّةِ الْحُرِّ وَفِي رَقَبَةِ الْعَبْدِ الْغَيْرِ الْمَأْذُونِ وَغَيْرِ الْمُؤْتَمَنِ، وَالْمُرَادُ بِاسْتَهْلَكَ أَيْ تَسَبَّبَ فِي الْإِهْلَاكِ وَلَوْ لَمْ يُبَاشِرْ، وَمَحَلُّ ضَمَانِ الصَّبِيِّ وَالسَّفِيهِ إذَا لَمْ يُؤْمَنَا عَلَى مَا أَتْلَفَا وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِمَا إلَّا أَنْ يَصُونَا بِهِ مَالَهُمَا فَيَضْمَنَانِ فِي الْمَصُونِ فَقَطْ، وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ وَالْمُؤَمَّنُ فَإِنَّهُمَا يَضْمَنَانِ فِي ذِمَّتِهِمَا يَتْبَعَانِ إنْ عَتَقَا كَمَا قَدَّمْنَا ذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ عَرْضًا عَلَى فَسَّرْنَا بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ مَا يُوزَنُ) كَسَمْنٍ وَعَسَلٍ وَنُحَاسٍ (أَوْ يُكَالُ) كَقَمْحٍ أَوْ يُعَدُّ وَلَا تَخْتَلِفُ أَفْرَادُهُ وَأَتْلَفَهُ شَخْصٌ أَوْ تَسَبَّبَ فِي إتْلَافِهِ. (فَعَلَيْهِ) غُرْمٌ (مِثْلُهُ) فِي مَوْضِعِ إتْلَافِهِ لِمَالِكِهِ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ تَقُومُ مَقَامَ مِثْلِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ اسْتَهْلَكَهُ فِي الْغَلَاءِ وَقَدَرَ عَلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ وَعَكْسُهُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي بَيَانِ مَفْعُولِ: وَضَمِنَ الْغَاصِبُ بِالِاسْتِيلَاءِ الْمِثْلِيَّ وَلَوْ بِغَلَاءٍ وَصَبْرٍ لِوُجُودِهِ وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ غُرْمٌ مِثْلُهُ أَوْ وَزْنُهُ أَوْ كَيْلُهُ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا لَوْ جَهِلَ كَيْلَهُ أَوْ وَزْنَهُ أَوْ عَدَدَهُ فَإِنَّمَا يَضْمَنُ قِيمَتَهُ لِعَدَمِ مَعْرِفَةِ مِثْلِهِ، لِأَنَّ الْجُزَافَ كَالْمُقَوَّمِ الْوَاجِبِ عَلَى مُتْلِفِهِ قِيمَتُهُ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ حَيْثُ كَانَ مُتْلِفُهُ غَيْرَ مَالِكِهِ، وَأَمَّا الْمَالِكُ يَبِيعُ صُبْرَةً عَلَى الْكَيْلِ ثُمَّ يُتْلِفُهَا قَبْلَ كَيْلِهَا فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ مِثْلُهَا لِيُوَفِّيَهُ لِلْمُشْتَرِي. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِيمَنْ أَتْلَفَ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ بِإِذْنِهِ فَلَا ضَمَانَ حَيْثُ كَانَ الْمَالِكُ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ إذْنُهُ بِأَنْ كَانَ رَشِيدًا حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْمُتْلِفُ مُؤْتَمَنًا عَلَى مَا أَتْلَفَهُ وَإِلَّا ضَمِنَهُ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْمَالِكُ، كَمَا قَدَّمْنَا التَّنْبِيهَ عَلَيْهِ فِي بَابِ الْوَدِيعَةِ، وَمِنْ الْإِذْنِ الْمَرِيضُ يَأْذَنُ لِلطَّبِيبِ الْحَاذِقِ فِي طِبِّهِ فَيَطِبُّهُ فَيَمُوتُ مِنْ غَيْرِ تَقْصِيرِهِ، وَمُؤَدِّبُ الْأَطْفَالِ يَأْذَنُ لَهُ الْوَلِيُّ فِي التَّأْدِيبِ، وَالْحَاكِمُ يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَى مُسْتَوْجِبِهِ فَيَمُوتُ مِنْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ حَيْثُ فَعَلَ كُلَّ الْمَطْلُوبِ مَعَ ظَنِّهِ السَّلَامَةَ. الثَّانِي: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْمُقَوَّمِ الْقِيمَةُ وَفِي الْمِثْلِيِّ الْمِثْلُ قَاعِدَةُ أَغْلَبِيَّةٍ لَا كُلِّيَّةٍ خِلَافًا، فَالظَّاهِرُ لَفْظُهُ لِأَنَّ الْمُقَوَّمَ قَدْ يَجِبُ مِثْلُهُ، وَذَلِكَ فِيمَنْ أَتْلَفَ سِلْعَةً وُقِفَتْ عَلَى ثَمَنِ الْوَاجِبِ مِثْلُ الثَّمَنِ لَا غُرْمُ قِيمَتِهَا، وَالْمِثْلِيُّ قَدْ يَغْرَمُ قِيمَتَهُ كَالْجُزَافِ قَبْلَ مَعْرِفَةٍ كَمِّيَّتِهِ يَجِبُ عَلَى مُتْلِفِهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ كَمَا قَدَّمْنَا. [بَاب الْغَصْب] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ تَتَعَلَّقُ بِالْغَصْبِ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلَا حِرَابَةٍ بِقَوْلِهِ (وَالْغَاصِبُ) وَهُوَ الَّذِي يَأْخُذُ الْمَالَ مِنْ صَاحِبِهِ قَهْرًا عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ التَّعَدِّي. (ضَامِنٌ لِمَا) أَيْ لِكُلِّ شَيْءٍ (غَصَبَ) وَمَعْنَى ضَمَانِهِ تَعَلُّقُ الضَّمَانِ بِهِ لَا أَنَّهُ تَضَمَّنَهُ بِالْفِعْلِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (فَإِنْ رَدَّ) الْغَاصِبُ (ذَلِكَ) الَّذِي غَصَبَ قَائِمًا (بِحَالِهِ) أَيْ لَمْ يَتَغَيَّرْ بِنَقْصٍ فِي بَدَنِهِ إذْ لَا تُعْتَبَرُ حَوَالَةُ أَسْوَاقِهِ. (فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِرَبِّهِ وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ، وَيَجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ تَأْدِيبُهُ وَلَوْ صَبِيًّا اسْتِصْلَاحًا لِحَالِهِ وَلَوْ عَفَا عَنْهُ رَبُّ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ لِأَنَّ الْأَدَبَ حَقٌّ لِلَّهِ دَفْعًا لِلْفَسَادِ لِحُرْمَةِ الْغَصْبِ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا، فَالْكِتَابُ {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] {وَلا تَعْتَدُوا} [البقرة: 190] ، الْآيَةَ وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنْ أَرْضٍ ظُلْمًا فَإِنَّهُ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرْضِينَ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَمَعْلُومٌ مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ حَتَّى قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ. أَجْمَعَ كُلُّ الْمِلَلِ عَلَى حُرْمَتِهِ. أَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ فَإِنْ رَدَّهُ بِحَالِهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ تَغَيَّرَ) الشَّيْءُ الْمَغْصُوبُ عِنْدَ غَاصِبِهِ. (فِي يَدِهِ) بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ لَا صُنْعَ لِأَحَدٍ فِيهِ (فَرَبُّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ أَخْذِهِ بِنَقْصِهِ) مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ كَثِيرًا. (أَوْ تَضْمِينِهِ) أَيْ الْغَاصِبِ (الْقِيمَةَ) يَوْمَ الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهِ. وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ التَّغَيُّرِ بِالسَّمَاوِيِّ بِقَوْلِهِ (وَلَوْ كَانَ النَّقْصُ) الْحَاصِلُ فِي بَدَنِ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ (بِتَعَدِّيهِ) أَيْ الْغَاصِبِ أَيْ بِفِعْلِهِ وَلَوْ خَطَأً لِأَنَّهُ كَالْعَمْدِ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ كَدَابَّةٍ غَصَبَهَا فَاسْتَعْمَلَهَا فِي طَحْنٍ أَوْ رُكُوبٍ لَوْ لَمْ يَخْرِقْ فِيهِ فَتَعَيَّبَتْ فِي بَدَنِهَا. (خُيِّرَ) رَبُّهُ (أَيْضًا فِي أَخْذِهِ) نَاقِصًا. (وَأَخْذِ) أَيْ مَعَ أَخْذِ (مَا نَقَصَهُ) أَيْ أَرْشَ نَقْصِهِ بِأَنْ يُقَوَّمَ سَالِمًا مِنْ هَذَا النَّقْصِ وَإِنْ كَانَ نَاقِصًا قَبْلَ ذَلِكَ بِغَيْرِهِ، فَإِنْ قِيلَ: قِيمَتُهُ عَشَرَةٌ، يُقَالُ: مَا قِيمَتُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 وَلَا غَلَّةَ لِلْغَاصِبِ وَيَرُدُّ مَا أَكَلَ مِنْ غَلَّةٍ أَوْ انْتَفَعَ. وَعَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ وَطِئَ وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ لِرَبِّ الْأَمَةِ. وَلَا يَطِيبُ لِغَاصِبٍ   [الفواكه الدواني] مَعِيبًا بِمَا أَحْدَثَهُ الْغَاصِبُ؟ فَيُقَالُ: ثَمَانِيَةٌ يَأْخُذُ مِنْ الْغَاصِبِ دِرْهَمَيْنِ وَفِي تَرْكِهِ لِلْغَاصِبِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ الْغَصْبِ، وَالْمُصَنِّفُ حَذَفَ أَحَدَ شِقَّيْ التَّخْيِيرِ، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يَجْعَلُهُ كَالسَّمَاوِيِّ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ أَوْ يَأْخُذُ قِيمَتَهُ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ) وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى هَذِهِ الْجُمْلَةِ دَفْعًا لِمَا يُتَوَهَّمُ مِنْ الِاتِّفَاقِ عَلَى الْحُكْمِ السَّابِقِ، فَبَيَّنَ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ ذَاتُ خِلَافٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْجَانِي أَجْنَبِيًّا لَخُيِّرَ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ الْقِيمَةَ يَوْمَ الْغَصْبِ وَيَتْبَعُ الْغَاصِبُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ لِأَنَّهُ غَرِمَ قِيمَتَهُ سَالِمًا، وَبَيْنَ أَخْذِ شَيْئِهِ مَعِيبًا وَيَتْبَعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ وَلَيْسَ لَهُ أَخْذُ شَيْئِهِ وَاتِّبَاعُ الْغَاصِبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَخُيِّرَ فِي الْأَجْنَبِيِّ فَإِنْ تَبِعَهُ تَبِعَ هُوَ الْجَانِي، فَإِنْ أَخَذَ رَبُّهُ أَقَلَّ فَلَهُ الزَّائِدُ مِنْ الْغَاصِبِ فَقَطْ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّمَاوِيَّ الْحَاصِلَ عِنْدَ الْغَاصِبِ يُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ أَخْذِهِ نَاقِصًا وَتَرْكِهِ وَيَأْخُذُ قِيمَتَهُ، وَفِي جِنَايَةِ الْغَاصِبِ بَيْنَ أَخْذِهِ مَعَ الْأَرْشِ أَوْ تَرْكِهِ وَأَخْذِ قِيمَتِهِ يَوْمَ غَصْبِهِ، وَفِي جِنَايَةِ الْأَجْنَبِيِّ يُخَيَّرُ بَيْنَ تَضْمِينِ الْغَاصِبِ وَبَيْنَ أَخْذِهِ مَعِيبًا وَيَتْبَعُ الْجَانِي بِالْأَرْشِ فَالصُّوَرُ ثَلَاثٌ. (تَنْبِيهٌ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ النَّقْصِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى حُكْمِ مَا لَوْ أَحْدَثَ فِي الذَّاتِ شَيْئًا لَمْ يَكُنْ فِيهَا، كَمَا لَوْ غَصَبَ ثَوْبًا وَخَاطَهُ أَوْ صَبَغَهُ فَحُكْمُهُ أَنَّهُ يُخَيَّرُ صَاحِبُهُ بَيْنَ أَخْذِهِ وَدَفْعِ قِيمَةِ مَا زِيدَ فِيهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَزِيدَ مَا أَحْدَثَهُ فِي قِيمَتِهِ أَوْ لَمْ يَزِدْ فِيهَا وَلَمْ يَنْقُصْهَا، وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ خَالِصًا مِنْ تِلْكَ الزِّيَادَةِ وَتَرْكِهِ لِلْغَاصِبِ، وَأَمَّا لَوْ حَدَّثَ فِيهِ شَيْئًا فَنَقَصَ بِسَبَبِ ذَلِكَ كَمَا لَوْ صَبَغَهُ فَنَقَصَ فَإِنَّهُ يَنْزِلُ مَنْزِلَةَ الْعَيْبِ السَّمَاوِيِّ، فَيُخَيَّرُ رَبُّهُ بَيْنَ أَخْذِهِ مِنْ غَيْرِ أَرْشٍ وَبَيْنَ أَخْذِ قِيمَتِهِ سَالِمًا مِنْ هَذَا النَّقْصِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي التَّخْيِيرِ: كَصِبْغَةٍ فِي قِيمَتِهِ وَأَخَذَ ثَوْبَهُ وَدَفَعَ قِيمَةَ الصِّبْغِ بِالْكَسْرِ أَيْ الْمَصْبُوغِ بِهِ وَفِي بِنَائِهِ فِي أَخْذِهِ وَدَفْعِ قِيمَةِ نَقْضِهِ بَعْدَ سُقُوطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا، وَبَيْنَ أَنْ يَأْمُرَ الْغَاصِبَ بِأَخْذِ بِنَائِهِ وَتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ كَمَا كَانَتْ. وَلَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ ظَالِمًا وَالظَّالِمُ لَا يَرْبَحُ قَالَ: (وَلَا غَلَّةَ) مُسْتَحَقَّةٌ (لِلْغَاصِبِ، وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَرُدَّ) جَمِيعَ (مَا أَكَلَ مِنْ غَلَّةِ) الْمَغْصُوبِ (أَوْ) قِيمَةِ مَا (انْتَفَعَ) بِهِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ غَصَبَ رَقَبَةً عَبْدًا أَوْ دَابَّةً أَوْ دَارًا وَاسْتَغَلَّهُ بِنَفْسِهِ أَوْ أَكْرَاهُ لِغَيْرِهِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ لِمَالِكِ عِوَضِ ذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ رَدُّ الْغَلَّةِ سَوَاءٌ كَانَتْ غَلَّةَ رَبْعٍ أَوْ حَيَوَانٍ أَوْ غَيْرِهِمَا، وَهُوَ رِوَايَةُ أَشْهَبَ وَابْنِ زِيَادٍ عَنْ مَالِكٍ، وَاَلَّذِي فِي الْمُدَوَّنَةِ أَنَّ هَذَا فِيهِ الْغَلَّةُ النَّاشِئَةُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِ الْغَاصِبِ كَثَمَرَةٍ وَنَسْلِ حَيَوَانٍ وَلَبَنٍ وَصُوفٍ وَمَنْفَعَةِ الْعَقَارِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُرَدُّ لِرَبِّهِ إنْ كَانَ مَوْجُودًا أَوْ مِثْلَهُ إنْ كَانَ مِثْلِيًّا وَعُلِمَ وَإِلَّا فَقِيمَتُهُ، وَأَمَّا مَا نَشَأَ عَنْ تَحْرِيكِهِ كَرِبْحِ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَاءِ الْبَذْرِ الْمَغْصُوبِ فَهَذَا لِلْغَاصِبِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَتَرُدُّ مَا أَكَلَ مِنْ غَلَّةٍ إلَخْ أَنَّهُ اسْتَعْمَلَ الذَّاتَ الْمَغْصُوبَةَ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا هُوَ لِلْغَاصِبِ: وَغَلَّةَ مُسْتَعْمِلٍ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ عُطِّلَ لَا يَغْرَمُ لِلْمَغْصُوبِ مِنْهُ شَيْئًا، كَالدَّارِ يُغْلِقُهَا وَالدَّابَّةِ يَحْبِسُهَا وَالْأَرْضِ يُبَوِّرُهَا وَالْعَبْدِ لَا يَسْتَخْدِمُهُ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا يَأْتِي فِي كَلَامِ خَلِيلٍ مِنْ أَنَّهُ يَضْمَنُ بِتَفْوِيتِ الِانْتِفَاعِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى غَصْبِ الْمَنْفَعَةِ وَيُقَالُ لَهُ التَّعَدِّي، وَالْمُتَعَدِّي يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ إذًا الْمَنْفَعَةَ بَلْ عَطَّلَهُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ نَحْوَ الثَّمَرَةِ وَالنَّسْلِ وَالصُّوفِ وَاللَّبَنِ وَمَنْفَعَةِ الْعَقَارِ لِرَبِّ الشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ، وَأَمَّا رِبْحُ الدَّرَاهِمِ وَنَمَاءُ الْبَذْرِ فَهُوَ لِلْغَاصِبِ وَإِنَّمَا يَرُدُّ رَأْسَ الْمَالِ، وَأَمَّا مَنْفَعَةُ الْحَيَوَانِ وَالرَّقِيقِ فَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ أَنَّهَا لِرَبِّ الْمَغْصُوبِ لَا لِلْغَاصِبِ. (تَنْبِيهٌ) سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ نَفَقَةِ الْحَيَوَانِ الْمَغْصُوبِ. وَفِي خَلِيلٍ أَنَّهَا فِي غَلَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: وَمَا أَنْفَقَ فِي الْغَلَّةِ فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ غَلَّةٌ ضَاعَتْ عَلَيْهِ، وَمِثْلُهُ فِي الْأَحْكَامِ السَّابِقَةِ السَّارِقُ. وَفِي كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ مَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ الْغَاصِبَ لَا رُجُوعَ لَهُ بِالنَّفَقَةِ لَا فِي لَبَنٍ وَلَا صُوفٍ وَلَا نَسْلٍ وَلَا ثَمَرَةٍ، فَلَعَلَّ مُرَادَ خَلِيلٍ بِقَوْلِهِ: وَمَا أَنْفَقَ مِنْ الْغَلَّةِ نَحْوَ رُكُوبِ الدَّابَّةِ أَوْ طَحْنِهَا لَا نَسْلِهَا وَلَا صُوفِهَا وَلَا لَبَنِهَا فَافْهَمْ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَمَةِ الْمَغْصُوبَةِ يَطَؤُهَا الْغَاصِبُ بِقَوْلِهِ: (وَ) مَنْ غَصَبَ أَمَةً لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا فَيَجِبُ (عَلَيْهِ الْحَدُّ إنْ وَطِئَ) حَيْثُ كَانَ مُكَلَّفًا لِأَنَّهُ زَانٍ وَيَغْرَمُ لِسَيِّدِهَا نَقْصَهَا وَلَوْ كَانَ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ وَطْئِهَا صَدَاقٌ، بِخِلَافِ الْحُرَّةِ فَاللَّازِمُ الصَّدَاقُ فِي وَطْئِهَا حَيْثُ وَطِئَهَا قَهْرًا عَلَيْهَا وَكَانَ مُكَلَّفًا. (وَوَلَدُهُ) أَيْ الْغَاصِبِ مِنْ تِلْكَ الْأَمَةِ. (رَقِيقٌ لِرَبِّ الْأَمَةِ) لِأَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ مِنْ غَيْرِ سَيِّدِهَا الْحُرِّ رَقِيقٌ وَلَوْ كَانَ مِنْ زِنًى أَوْ زَوْجٍ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِهِ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأَبِ يَطَأُ جَارِيَةَ فَرْعِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهِ وَإِنْ سَفَلَ الْفَرْعُ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ غُرْمُ قِيمَتِهَا لِمَالِكِهَا بِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمِلْكُ أَبٍ جَارِيَةَ ابْنِهِ بِتَلَذُّذِهِ بِالْقِيمَةِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا إذَا وَلَدَتْ وَمَاتَ وَلَدُهَا أَوْ مَاتَتْ وَبَقِيَ الْوَلَدُ، وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ فِي ذَلِكَ أَنَّهُ إنْ مَاتَ الْوَلَدُ قَبْلَ السَّيِّدِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ وَإِنَّمَا لَهُ أَمَتُهُ، وَأَمَّا إنْ مَاتَتْ الْأُمُّ وَبَقِيَ الْوَلَدُ كَانَ لَهُ الْخِيَارُ فِي أَخْذِهِ أَوْ تَرْكِهِ وَيَأْخُذُ قِيمَةَ أُمِّهِ فَقَطْ لِأَنَّهَا الْمَغْصُوبَةُ كَمَا لَوْ مَاتَا مَعًا إنْ وَجَدَهُمَا حَيَّيْنِ أَخَذَهُمَا. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْغَاصِبَ يَجِبُ عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 الْمَالُ رِبْحُهُ حَتَّى يَرُدَّ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى رَبِّهِ وَلَوْ تَصَدَّقَ بِالرِّبْحِ كَانَ أَحَبَّ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَفِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى.   [الفواكه الدواني] رَدُّ غَلَّةِ الْمَغْصُوبِ النَّاشِئَةِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكِهِ وَالنَّاشِئَةِ عَنْ تَحْرِيكِهِ يَمْلِكُهَا، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الِانْتِفَاعُ بِهَا حَتَّى يَرُدَّ الْأَصْلَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَطِيبُ) أَيْ لَا يَحِلُّ (لِغَاصِبِ الْمَالِ) إذَا اتَّجَرَ فِيهِ وَرَبِحَ أَكْلُ. (رِبْحِهِ حَتَّى يَرُدَّ رَأْسَ الْمَالِ عَلَى رَبِّهِ) وَإِنَّمَا لَمْ يَحِلَّ لَهُ أَكْلُ الرِّبْحِ وَإِنْ مَلَكَهُ لِاشْتِغَالِ ذِمَّتِهِ بِرَأْسِ الْمَالِ، وَفَسَّرْنَا " لَا يَطِيبُ " بِلَا يَحِلُّ لِصَدَقَةٍ بِالْكَرَاهَةِ وَالْحُرْمَةِ وَهُمَا قَوْلَانِ وَالرَّاجِحُ مِنْهُمَا الْحُرْمَةُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ طَيِّبِهِ بَعْدَ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ عَدَمُ نَدْبِ التَّصَدُّقِ بِهِ قَالَ كَالْمُسْتَدْرَكِ عَلَيْهِ: (وَلَوْ تَصَدَّقَ) الْغَاصِبُ (بِالرِّبْحِ) بَعْدَ رَدِّ رَأْسِ الْمَالِ (كَانَ) أَيْ التَّصَدُّقُ بِهِ (أَحَبَّ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِ) الْإِمَامِ (مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنْ أَكْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِذَلِكَ الْبَعْضِ الْإِمَامُ أَشْهَبُ، وَلَعَلَّ وَجْهُ نَدْبِ التَّصَدُّقِ مَعَ بَرَاءَةِ ذِمَّتِهِ بِرَدِّ رَأْسِ الْمَالِ لِيَكُونَ ذَلِكَ كَفَّارَةً لِمَا اقْتَرَفَهُ مِنْ الْإِثْمِ الْحَاصِلِ بِالْغَصْبِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ كَمَا تُطْفِئُ الْمَاءُ النَّارَ» فَإِنْ قِيلَ: نَدْبُ الصَّدَقَةِ مَطْلُوبٌ مِنْ كُلِّ أَحَدٍ لِأَنَّهَا خَيْرٌ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وَلَا مَفْهُومَ لِرِبْحِ هَذَا الْمَالِ، وَلَعَلَّ الْجَوَابَ أَنَّ الْمُرَادَ يَتَأَكَّدُ النَّدْبُ فِي حَقِّ هَذَا دُونَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يَغْصِبْ، فَلَا يُنَافِي نَدْبَ التَّصَدُّقِ لِكُلِّ مَالِكٍ رَشِيدٍ مُتَّسَعٍ فَافْهَمْ. وَلَمَّا كَانَتْ فُرُوعُ بَابِ الْغَصْبِ كَثِيرَةً قَالَ: (وَفِي بَابِ الْأَقْضِيَةِ شَيْءٌ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى) وَهُوَ الْغَصْبُ وَلَعَلَّ تَأْخِيرَهُ لِمُنَاسَبَةٍ اقْتَضَتْ ذَلِكَ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ هَذَا الْكِتَابِ شَرَعَ فِي رَابِعِهَا فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 بَابٌ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاءِ وَالْحُدُودِ وَلَا تُقْتَلُ نَفْسٌ بِنَفْسٍ إلَّا بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ. أَوْ بِاعْتِرَافٍ. أَوْ بِالْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ. يُقْسِمُ الْوُلَاةُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي أَحْكَامِ الدِّمَاءِ] (بَابٌ فِي) بَيَانِ (أَحْكَامِ الدِّمَاءِ) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ الْجِرَاحَاتِ مِنْ قِصَاصٍ وَدِيَةٍ (وَ) فِي بَيَانِ مُوجِبَاتِ (الْحُدُودِ) كَالزِّنَا وَالْقَذْفِ وَالشُّرْبِ وَالسَّرِقَةِ وَالْحُدُودُ جَمْعُ حَدٍّ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ، وَشَرْعًا مَا وُضِعَ لِمَنْعِ الْجَانِي مِنْ عَوْدِهِ لِمِثْلِ فِعْلِهِ وَزَجْرِ غَيْرِهِ، وَفِي مَعْنَى الْحُدُودِ التَّعَاذِيرُ وَأَحَدُهَا تَعْذِيرٌ وَهُوَ اسْمٌ لِنَوْعٍ مِنْ الْعَذَابِ مَوْكُولٌ قَدْرُهُ لِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، بِخِلَافِ الْحُدُودِ فَإِنَّ تَعْدَادَهَا مَحْدُودٌ مِنْ الشَّارِعِ، وَحِكْمَةُ مَشْرُوعِيَّتِهَا الزَّجْرُ عَنْ إتْلَافِ مَا حَكَى الْأُصُولِيُّونَ إجْمَاعَ الْمِلَلِ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهِ مِنْ الْعُقُولِ وَالنُّفُوسِ وَالْأَدْيَانِ وَالْأَعْرَاضِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَنْسَابِ، فَإِنَّ فِي الْقِصَاصِ حِفْظًا لِلدِّمَاءِ، وَفِي الْقَطْعِ لِلسَّرِقَةِ الْحِفْظَ لِلْأَمْوَالِ، وَفِي الْحَدِّ لِلزِّنَا حِفْظَ الْأَنْسَابِ، وَفِي الْحَدِّ لِلشُّرْبِ حِفْظَ الْعُقُولِ، وَفِي الْحَدِّ لِلْقَذْفِ حِفْظَ الْأَعْرَاضِ، وَفِي الْقَتْلِ لِلرِّدَّةِ حِفْظَ الدِّينِ، وَقِيلَ: إنَّ الْحُدُودَ جَوَائِزُ أَيْ كَفَّارَاتٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَبَدَأَ الْمُصَنِّفُ مِنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ بِقَتْلِ النَّفْسِ لِأَنَّهُ أَشَدُّ الذُّنُوبِ وَأَعْظَمُهَا بَعْدَ الْكُفْرِ لِلْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ وَإِجْمَاعِ سَائِرِ الْمِلَلِ عَلَى حُرْمَةِ قَتْلِ النَّفْسِ بِغَيْرِ حَقٍّ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ: «لَوْ أَنَّ أَهْلَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ اشْتَرَكُوا فِي دَمِ مُؤْمِنٍ لَأَكَبَّهُمُ اللَّهُ فِي النَّارِ» . وَحَدِيثُ: «لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» . وَحَدِيثُ: «مَنْ اشْتَرَكَ فِي دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ بِشَطْرِ كَلِمَةٍ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ عَيْنَيْهِ مَكْتُوبٌ آيِسٌ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ» حَتَّى اُخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَةِ الْقَاتِلِ، فَآيَةُ الْفُرْقَانِ ظَاهِرُهَا لَهُ التَّوْبَةُ، وَظَاهِرُ آيَةِ النِّسَاءِ لَا تَوْبَةَ لَهُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ، لِأَنَّ شَرْطُ التَّوْبَةِ مِنْ مَظَالِمِ الْعِبَادِ تَحَلُّلُهُمْ مِنْهَا وَرَدُّ تَبِعَاتِهِمْ، وَلَا سَبِيلَ لِلْقَاتِلِ لِذَلِكَ إلَّا أَنْ يُدْرِكَ الْمَقْتُولَ حَيًّا فَيَعْفُوَ عَنْهُ وَيُحَلِّلَهُ مِنْ دَمِهِ، مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ السُّنَّةِ مِمَّنْ قَالَ بِتَنْفِيذِ الْوَعِيدِ وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَنَّهُ لَا يَخْلُدُ فِي النَّارِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَتْلُ وَغَيْرُهُ مِنْ مُوجِبَاتِ الْقِصَاصِ أَوْ الدِّيَةِ لَا يَثْبُتُ بِمُجَرَّدِ الدَّعَاوَى، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ (تُقْتَلَ نَفْسٌ بِنَفْسٍ) أَيْ بِسَبَبِ قَتْلِ نَفْسٍ مُكَافِئَةٍ لَهَا (إلَّا) بَعْدَ الثُّبُوتِ (بِبَيِّنَةٍ عَادِلَةٍ) أَقَلُّهَا رَجُلَانِ إذْ لَا تَكْفِي شَهَادَةُ النِّسَاءِ. قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: وَلَا يَثْبُتُ الْقَتْلُ الْمُوجِبُ لِلْقِصَاصِ بِرَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ وَيُثْبِتُ ذَلِكَ مُوجِبَ الدِّيَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي صِحَّةِ الشَّهَادَةِ الِاتِّفَاقُ عَلَى صِفَةِ الْقَتْلِ، فَلَوْ اخْتَلَفَ الشَّاهِدَانِ فِي صِفَتِهِ بِأَنْ قَالَ أَحَدُهُمَا ذَبَحَهُ وَقَالَ الْآخَرُ حَرَقَهُ أَوْ جَرَحَهُ بِغَيْرِ ذَبْحٍ وَالْحَالُ أَنَّ الْمَشْهُودَ عَلَيْهِ مُنْكِرٌ لِلشَّهَادَتَيْنِ فَإِنْ قَامَ الْأَوْلِيَاءُ بِالشَّاهِدِينَ بَطَلَ الدَّمُ وَإِنْ قَامُوا بِأَحَدِهِمَا أَقْسَمُوا مَعَهُ وَاقْتَصُّوا وَسَقَطَتْ شَهَادَةُ الْآخَرِ لِاجْتِمَاعِ الْقَاتِلِ وَالْأَوْلِيَاءِ عَلَى تَكْذِيبِهَا وَإِنْ اعْتَرَفَ الْقَاتِلُ بِالذَّبْحِ وَقَامَ الْأَوْلِيَاءُ بِشَاهِدِ التَّحْرِيقِ فَإِنْ كَانَ أَعْدَلَ أَقْسَمُوا مَعَهُ وَحَرَقُوهُ عَلَى الْقَوْلِ بِالْقِصَاصِ بِالتَّحْرِيقِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَإِنْ كَانَ الْآخَرُ أَعْدَلَ حَلَفَ مَعَهُ الْقَاتِلُ وَقُتِلَ ذَبْحًا لَا بِالْحَرْقِ. (أَوْ) إلَّا بَعْدَ الثُّبُوتِ (بِاعْتِرَافٍ) أَيْ إقْرَارٍ مِنْ الْجَانِي الْمُكَلَّفِ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ اخْتِيَارِهِ بِالْقَتْلِ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ حِينَئِذٍ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ مُؤَاخَذٌ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ فِي حَالِ اخْتِيَارِهِ، لَا إنْ أُكْرِهَ عَلَى الْإِقْرَارِ فَلَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ لِعَدَمِ تَكْلِيفِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَإِقْرَارِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ. [ثُبُوت الْقَتْل بِالْقَسَامَةِ] (أَوْ) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ ثُبُوتُ الْقَتْلِ (بِالْقَسَامَةِ) وَهِيَ خَمْسُونَ يَمِينًا. (إذَا وَجَبَتْ) أَيْ الْقَسَامَةَ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا كَانَ الْقَاتِلُ عَاقِلًا بَالِغًا مُكَافِئًا لِلْمَقْتُولِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ غَيْرَ أَبٍ، وَلَمْ تُوجَدْ بَيِّنَةٌ يَثْبُتُ بِهَا الْقَتْلُ وَلَا اعْتِرَافٌ مِنْ الْجَانِي وَإِنَّمَا وُجِدَ لَوْثٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْقَسَامَةُ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ، وَحَقِيقَةُ اللَّوْثِ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي، فَوُجُوبُ الْقَسَامَةِ بِسَبْعَةِ شُرُوطٍ، أَحَدُهَا: أَنْ يَدَّعِيَ الْقَتْلَ مَنْ لَا يَعْرِفُ قَاتِلَهُ بِبَيِّنَةٍ وَلَا بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ حُرًّا مُسْلِمًا. ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى بِهِ قَتْلًا لَا جُرْحًا. رَابِعُهَا: أَنْ تَتَّفِقَ الْأَوْلِيَاءُ عَلَى الْقَتْلِ. خَامِسُهَا: أَنْ تَكُونَ وُلَاةُ الدَّمِ فِي الْعَمْدِ اثْنَيْنِ فَصَاعِدًا. سَادِسُهَا: أَنْ تَكُونَ الْأَوْلِيَاءُ فِي الْعَمْدِ رِجَالًا عُقَلَاءَ بَالِغِينَ. سَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَوْثٌ يُقَوِّي دَعْوَاهُمْ كَالشَّاهِدِ الْعَدْلِ رُؤْيَةَ الْقَتْلِ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 الدَّمَ. وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ. وَلَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ. وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ   [الفواكه الدواني] رُؤْيَتَهُ لِلْمَقْتُولِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَالْمُتَّهَمُ قُرْبَهُ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْقَتْلِ، وَسَيُبَيِّنُ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ وُجُوبِ الْقَسَامَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنَّمَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِقَوْلِ الْمَيِّتِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَصِفَتُهَا. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِشُرُوطِ الْقِصَاصِ وَهِيَ كَوْنُ الْجَانِي مُكَلَّفًا وَغَيْرَ حَرْبِيٍّ وَلَا زَائِدَ حُرِّيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ وَقَصْدُهُ الضَّرْبُ، وَعِصْمَةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ إمَّا بِالْإِيمَانِ أَوْ الْأَمَانِ أَوْ بِحَطِّ الْجِزْيَةِ وَالْكَفَاءَةِ فِي الدِّينِ وَالْحُرِّيَّةِ، فَلَا قِصَاصَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ وَلَا مُخْطِئٍ وَلَا عَلَى حَرْبِيٍّ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُسْلِمْ يُقْتَلُ وَإِنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا إلَّا أَنَّ قَتْلَهُ لَيْسَ لِلْقِصَاصِ وَإِنَّمَا هُوَ لِعَدَمِ عِصْمَتِهِ وَإِنْ أَسْلَمَ عَصَمَ دَمَهُ، وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلَا مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ، لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى، بِخِلَافِ الْعَكْسِ إلَّا لِغِيلَةٍ فَيُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الْقَتْلِ بَعْدَ الثُّبُوتِ هَلْ يَتَعَيَّنُ أَوْ مَوْكُولٌ إلَى اخْتِيَارِ الْوَلِيِّ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: فَالْقَوْلُ عَيْنًا بِمَعْنَى أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَخْذُ الدِّيَةِ مِنْ الْجَانِي قَهْرًا عَلَيْهِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْعَفْوَ مَجَّانًا، وَقَالَ أَشْهَبُ: يُخَيَّرُ الْوَلِيُّ بَيْنَ الْقِصَاصِ وَأَخْذِ الدِّيَةِ وَلَوْ جَبْرًا عَلَى الْجَانِي. الثَّالِثُ: تَلَخَّصَ مِمَّا مَرَّ أَنَّ الْقِصَاصَ يَثْبُتُ بِوَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ الْبَيِّنَةُ الْعَادِلَةُ، وَاعْتِرَافُ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ طَائِعًا وَهَذَانِ لَا خِلَافَ فِيهِمَا، وَالثَّالِثُ الْقَسَامَةُ وَفِيهَا خِلَافٌ، الَّذِي اخْتَارَهُ مَالِكٌ أَنَّهُ يَثْبُتُ بِهَا الْقَوْدُ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ فَإِنَّهُ قَالَ: الَّذِي اجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ الْقَتْلُ بِالْقَسَامَةِ وَهِيَ السُّنَّةُ الَّتِي لَا اخْتِلَافَ فِيهَا، وَتَبِعَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ وَمِنْهُمْ ابْنُ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِهِ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُمَا: لَا يَثْبُتُ بِهَا الْقَوْدُ وَإِنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِهَا الدِّيَةُ فَقَطْ، وَدَلِيلُ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَرَّ الْقَسَامَةَ عَلَى مَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ» وَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي خَيْثَمَةَ عَنْ رَجُلٍ مِنْ كُبَرَاءِ قَوْمِهِ: «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ وَمُحَيِّصَةَ خَرَجَا إلَى خَيْبَرَ مِنْ جَهْدٍ أَصَابَهُمْ فَأَتَى مُحَيِّصَةُ فَأَخْبَرَ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ سَهْلٍ قَدْ قُتِلَ وَطُرِحَ فِي عَيْنٍ أَوْ بِئْرٍ، فَأَتَى يَهُودَ فَقَالَ: أَنْتُمْ وَاَللَّهِ قَتَلْتُمُوهُ، قَالُوا: وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى قَدِمَ عَلَى قَوْمِهِ فَذَكَرَ لَهُمْ ذَلِكَ ثُمَّ أَقْبَلَ هُوَ وَأَخُوهُ حُوَيِّصَةُ وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سَهْلٍ فَذَهَبَ مُحَيِّصَةُ لِيَتَكَلَّمَ وَهُوَ الَّذِي كَانَ بِخَيْبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمُحَيِّصَةَ: كَبِّرْ كَبِّرْ يُرِيدُ السِّنَّ، فَتَكَلَّمَ حُوَيِّصَةُ ثُمَّ تَكَلَّمَ مُحَيِّصَةُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ وَإِمَّا أَنْ يُؤْذَنُوا بِحَرْبٍ، فَكَتَبَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ فَكَتَبُوا: إنَّا وَاَللَّهِ مَا قَتَلْنَاهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ: أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: فَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ؟ قَالُوا: لَيْسُوا بِمُسْلِمِينَ، فَوَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عِنْدِهِ، فَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ نَاقَةٍ حَتَّى أُدْخِلَتْ عَلَيْهِمْ الدَّارَ» قَالَ الْعَلَّامَةُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: هَذِهِ قِصَّةٌ لَمْ يَحْكُمْ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِشَيْءٍ لِإِبَايَةِ الْمُدَّعِينَ مِنْ الْأَيْمَانِ وَمِنْ قَبُولِ أَيْمَانِ الْيَهُودِ، وَتَبَرَّعَ بِأَنْ جَعَلَ الدِّيَةَ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِئَلَّا يَبْطُلَ دَمُ الْمُسْلِمِ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إمَّا أَنْ يَدُوا صَاحِبَكُمْ» يَحْتَمِلُ إعْطَاءَ الدِّيَةِ لِأَنَّهُمْ لَمْ يَدَّعُوا قَتْلَهُ عَمْدًا وَلَمْ يُعِينُوا الْقَاتِلَ فَلَا يَلْزَمُ الْقِصَاصُ كَالْقَتِيلِ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» يَحْتَمِلُ أَنَّهُمْ أَتَوْا بِلَوْثٍ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى إنْ أَتَيْتُمْ بِمَا يُوجِبُ ذَلِكَ، فِي الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى ثُبُوتِ رَدِّ الْيَمِينِ إذَا نَكِلَ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْيَمِينُ وَأَنَّهُ لَا يَقْضِي بِالنُّكُولِ. الرَّابِعُ: مُحَيِّصَةُ بِضَمِّ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ ثُمَّ يَاءُ آخَرِ الْحُرُوفِ سَاكِنَةٌ، وَحُوَيِّصَةُ بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْوَاوِ وَسُكُونِ الْيَاءِ آخَرِ الْحُرُوفِ وَفَتْحِ الصَّادِ الْمُهْمَلَةِ وَيُقَالُ بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ وَكَسْرِهَا فِيهِمَا وَهُمَا أَبْنَاءُ عَمِّ الْقَتِيلِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ أَخُوهُ. [صفة الْقَسَامَة وَحَقِيقَتَهَا] ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْقَسَامَةِ وَحَقِيقَتَهَا بِقَوْلِهِ: (يُقْسَمُ) أَيْ يَحْلِفُ (الْوُلَاةُ) جَمْعُ وَلِيٍّ (خَمْسِينَ يَمِينًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَهِيَ خَمْسُونَ يَمِينًا مُتَوَالِيَةً بَتًّا، وَإِنْ كَانَ الْحَالِفُ غَائِبًا أَوْ أَعْمَى، لِأَنَّ الْعِلْمَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْمُعَايَنَةِ. (وَ) بَعْدَ حَلِفِهَا (يَسْتَحِقُّونَ الدَّمَ) فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، وَكَيْفِيَّةُ الْحَلِفِ: إنْ كَانُوا خَمْسِينَ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا، وَإِنْ نَقَصَ عَدَدُ الْأَوْلِيَاءِ أَوْ طَاعَ اثْنَانِ مِنْ الْخَمْسِينَ يَحْلِفَا فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَهَا مُتَوَالِيَةً فِي الْعَمْدِ بِأَنْ يَحْلِفَ هَذَا يَمِينًا وَهَذَا يَمِينًا حَتَّى تَتِمَّ الْأَيْمَانُ، وَفِي الْخَطَإِ يَحْلِفُ كُلُّ وَاحِدٍ حِصَّتَهُ، وَبَعْدَ فَرَاغِهِ يَحْلِفُ الْآخَرُ حِصَّتَهُ، وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّهُ فِي الْعَمْدِ يَبْطُلُ الدَّمُ بِنُكُولِ وَاحِدٍ، بِخِلَافِ الْخَطَإِ لَا يَبْطُلُ حَقُّ الْحَالِفِ بِنُكُولِ النَّاكِلِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَحَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ يَبْدَءُونَ بِالْيَمِينِ وَهُوَ الْمَذْهَبُ، قَالَ مَالِكٌ: الَّذِي سَمِعَتْ مِمَّنْ أَرْضَى فِي الْقَسَامَةِ وَأَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ فِي الْقَدِيمِ وَالْحَدِيثِ أَنْ يَبْدَأَ الْمُدَّعُونَ بِالْأَيْمَانِ فِي الْقَسَامَةِ فَيَحْلِفُوا. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: يَحْلِفُونَ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ أَوْ مَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ إنْ كَانَ عَاشَ وَلَا يُزَادُ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. قَالَ فِي شَرْحِ الْجَلَّابِ: وَإِنْ قَالَ وَاَللَّهِ فَقَطْ لَا يُقْبَلُ حَتَّى يَقُولَ: الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ. وَفِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ الْيَمِينُ فِي كُلِّ حَقٍّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ إلَّا مَوْضِعَيْنِ: اللِّعَانُ وَالْقَسَامَةُ، فَإِنَّهُ يَقُولُ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ. أَوْ بِشَاهِدٍ عَلَى الْقَتْلِ. أَوْ بِشَاهِدَيْنِ عَلَى الْجُرْحِ ثُمَّ يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ وَيَأْكُلُ وَيُشْرِبُ. وَإِذًا نَكَلَ مُدَّعُو الدَّمِ   [الفواكه الدواني] اللِّعَانِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ لَرَأَيْتهَا تَزْنِي أَوْ مَا هَذَا الْحَمْلُ مِنِّي، وَفِي الْقَسَامَةِ: أَقْسِمُ بِاَللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ فَقَطْ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ تَقْدِيمُ مَا فِي الْمُدَوَّنَةِ وَكَلَامُ خَلِيلٍ لَا يَأْبَاهُ، لِأَنَّ قَسَامَةَ الْيَمِينِ فِي كُلِّ حَقٍّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ يَشْمَلُ الْقَسَامَةَ، وَدَعْوَى الِاسْتِثْنَاءِ بِمُجَرَّدِهَا غَيْرُ مَقْبُولَةٍ. وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ الْقَسَامَةِ مُخْتَلِفَةً لِأَنَّهُ يَحْلِفُهَا فِي الْخَطَإِ مَنْ يَرِثُ وَإِنْ وَاحِدًا أَوْ امْرَأَةً، وَلَا يَحْلِفُهَا فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عُصْبَةً قَالَ: (وَلَا يَحْلِفُ فِي) قَتْلِ (الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ) مِنْ عَصَبَةِ الْمَقْتُولِ نَسَبًا وَإِلَّا فَمِنْ الْمَوَالِي، لِأَنَّ أَيْمَانَ الْأَوْلِيَاءِ أُقِيمَتْ مَعَ اللَّوْثِ مَقَامَ الْبَيِّنَةِ، فَلَمَّا لَمْ يَكْتَفِ فِي الْبَيِّنَةِ بِشَهَادَةِ وَاحِدٍ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَكْفِي فِي الْأَيْمَانِ وَاحِدٌ، وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَرَضَ الْأَيْمَانَ عَلَى جَمَاعَةٍ حَيْثُ قَالَ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ» وَأَقَلُّ الْجَمَاعَةِ اثْنَانِ وَيَكْتَفِي بِحَلِفِهِمَا وَلَوْ لَمْ يَرِثَا بِالْفِعْلِ، وَمَفْهُومُ رَجُلَيْنِ أَنَّ النِّسَاءَ لَا يَحْلِفْنَ فِي الْعَمْدِ لِعَدَمِ شَهَادَتِهِنَّ فِيهِ، وَإِنْ انْفَرَدْنَ صَارَ الْمَقْتُولُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ، فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَسَكَتَ عَنْ أَكْثَرِ مَنْ يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا حَدَّ لَهُ، فَلَمَّا كَانَ الْأَقَلُّ مَحْدُودًا عَيْنُهُ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ الْأَكْثَرُ مَحْدُودًا سَكَتَ عَنْهُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْقَسَامَةَ يَجِبُ بِهَا الْقَوْدُ فِي الْعَمْدِ بَيْنَ مَنْ يُقْتَلُ بِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُقْتَلُ بِالْقَسَامَةِ أَكْثَرُ مِنْ رَجُلٍ وَاحِدٍ) وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إذَا كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ عَمْدًا جَمَاعَةً وَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِمْ جَمِيعًا مُبَاشَرَةُ قَتْلِهِ وَلَا التَّمَالُؤُ عَلَى قَتْلِهِ، فَإِنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُعِينُونَ وَاحِدًا بِاخْتِيَارِهِمْ وَيَقْسِمُونَ عَلَى عَيْنِهِ وَيَقُولُونَ هُمْ الْقَسَامَةُ لَمَاتَ مِنْ ضَرْبِهِ لَا مِنْ ضَرْبِهِمْ، فَفِي الْمُوَطَّإِ: لَمْ تُعْلَمْ قَسَامَةٌ إلَّا عَلَى وَاحِدٍ وَذَلِكَ لِضَعْفِهَا وَلِأَنَّهُ لَا يُعْلَمُ هَلْ قَتَلَهُ الْكُلُّ أَوْ الْبَعْضُ؟ فَالْمُحَقَّقُ وَاحِدٌ، وَاَلَّذِي تُرِكَ مِنْ هَؤُلَاءِ الْجَمَاعَةِ يُضْرَبُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً، هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ الْمَذْهَبِ وَمُقَابِلُهُ لِأَشْهَبَ: يُقْسِمُونَ عَلَى الْجَمَاعَةِ وَيَقْتُلُونَ وَاحِدًا بَعْدَ الْقَسَامَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَى غَيْرِهِ سِوَى ضَرْبِ مِائَةٍ وَحَبْسِ سَنَةٍ وَاحْتَرَزْنَا فَلَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِمْ عَمَّا إذَا ثَبَتَ عَلَيْهِمْ قَتْلُهُ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ جَمِيعًا، وَهُوَ الَّذِي يَأْتِي فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَالنَّفَرُ يَقْتُلُونَ رَجُلًا فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَيُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ وَالْمُتَمَالَئُونَ وَإِنْ بِسَوْطٍ سَوْطٍ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْقَتْلَ يَحِلُّ بِالْقَسَامَةِ إذَا وَجَبَتْ بَيَّنَ هُنَا مَحَلَّ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا يَجِبُ الْقَسَامَةُ) فِي قَتْلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ (بِقَوْلِ الْمَيِّتِ) الْبَالِغِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ قَبْلَ مَوْتِهِ. (دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ) سَوَاءٌ كَانَ فُلَانٌ الْقَاتِلُ بَالِغًا أَوْ غَيْرَ بَالِغٍ، حُرًّا أَوْ رَقِيقًا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْمَقْتُولَ لَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ إلَّا إنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا بَالِغًا بِخِلَافِ الْقَاتِلِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْعَمَلِ بِقَوْلِ الْمَقْتُولِ أَنْ يَشْهَدَ عَلَى قَوْلِهِ عَدْلَانِ، وَأَنْ يَتَمَادَى عَلَى إقْرَارِهِ حَتَّى يَمُوتَ، وَإِلَّا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ: وَيَبْطُلُ الدَّمُ وَهَذَا أَوَّلُ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ وَالْقَسَامَةُ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ فِي مَحَلِّ اللَّوْثِ بِقَوْلِهِ: كَأَنْ يَقُولَ بَالِغٌ حُرٌّ مُسْلِمٌ قَتَلَنِي فُلَانٌ وَلَوْ خَطَأً أَوْ مَسْخُوطًا عَلَى وَرَعٍ أَوْ وَلَدًا عَلَى وَالِدِهِ أَنَّهُ ذَبَحَهُ أَوْ زَوْجَةً عَلَى زَوْجِهَا، أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ عَدُوًّا لِلْمَقْتُولِ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: لِأَنَّ الْعَدَاوَةَ تُؤَكِّدُ صِدْقَ الْمُدَّعِي لِأَنَّهَا مَظِنَّةُ الْقَتْلِ بِخِلَافِ سَائِرِ الدَّعْوَى، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَلَى قَوْلِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ هُوَ نَصُّ الرِّوَايَةِ كَمَا فِي التَّوْضِيحِ وَابْنِ عَرَفَةَ، وَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ إلَّا فِي شَهَادَةٍ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ أَوْ الْجُرْحِ أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْتُولِ بِالْجُرْحِ أَوْ الضَّرْبِ عَمْدًا لَا خَطَأً، فَلَا بُدَّ مِنْ شَاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِهِ أَنَّ الْمُقِرَّ بِجُرْحِ الْخَطَإِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى إقْرَارِهِ نَاقِلٌ شَهَادَتَهُ، وَلَا يَنْقُلُ عَنْ الشَّاهِدِ إلَّا اثْنَانِ وَسَنَذْكُرُهُ أَيْضًا. (تَنْبِيهٌ) إذَا عَلِمْت مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْيِيدِ قَبُولِ قَوْلِ الْمَيِّتِ بِمَا ذَكَرْنَا ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ، وَبَقِيَ عَلَيْهِ شَرْطَانِ آخَرَانِ أَحَدُهُمَا ثُبُوتُ الْمَوْتِ وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ جُرْحٌ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ كَأَثَرِ ضَرْبٍ أَوْ سُمٍّ، لِأَنَّ التَّدْمِيَةَ الْبَيْضَاءَ لَا يُعْمَلُ بِهَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَإِنَّمَا يُعْمَلُ بِالْحَمْرَاءِ وَهِيَ الَّتِي صَحِبَهَا جُرْحٌ، وَأَشَارَ إلَى مِثَالٍ ثَانٍ مِنْ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ بِشَاهِدٍ) أَيْ وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ أَيْضًا بِسَبَبِ شَهَادَةٍ (عَلَى) مُعَايَنَةِ (الْقَتْلِ) أَيْ مَعَ يَمِينٍ تَكْمِلَةً لِلنِّصَابِ، وَسَوَاءٌ تَأَخَّرَ الْمَوْتُ فِي هَذَيْنِ الْمِثَالَيْنِ أَمْ لَا، بِخِلَافِ الْمِثَالِ الثَّالِثِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ بِشَاهِدَيْنِ) أَيْ وَكَذَا تَجِبُ الْقَسَامَةُ بِسَبَبِ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ. (عَلَى) مُعَايَنَةِ (الْجَرْحِ) بِالْفَتْحِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْفِعْلُ أَوْ الضَّرْبُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً وَلَمْ يَنْفُذْ شَيْءٌ مِنْ مُقَاتَلَةٍ. (ثُمَّ يَعِيشُ بَعْدَ ذَلِكَ) الْجُرْحِ أَوْ الضَّرْبِ. (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ) وَهَذَا لَيْسَ بِقَيْدٍ كَمَا فِي خَلِيلٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ يَتَأَخَّرُ مَوْتُهُ، إذْ لَوْ مَاتَ سَرِيعًا بَعْدَ جَرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ أَوْ أَنْفَذَ مَقْتَلٌ مِنْ مُقَاتِلِهِ بِالْجَرْحِ أَوْ الضَّرْبِ لَثَبَتَ الْقَتْلُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى قَسَامَةٍ، وَتَسْتَحِقُّ الْأَوْلِيَاءُ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، وَقَوْلُنَا: عَلَى مُعَايَنَةِ الْجُرْحِ احْتِرَازٌ عَنْ شَهَادَةِ الشَّاهِدَيْنِ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْتُولِ بِأَنَّ فُلَانًا جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَسَامَةِ، وَلَوْ لَمْ يَتَأَخَّرْ الْمَوْتُ لِضَعْفِ أَمْرِ الْإِقْرَارِ بِخِلَافِ الْمُعَايَنَةِ، وَيَجِبُ فِي حَالِ حَلِفِهِمْ أَنْ يَأْتُوا بِمَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ بِأَنْ يَقُولُوا لِمَنْ جُرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ مَاتَ، أَوْ إنَّمَا مَاتَ مِنْ جُرْحِهِ أَوْ ضَرْبِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 حَلَفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا. فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْلِفُ مِنْ وُلَاتِهِ مَعَهُ غَيْرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَحْدَهُ حَلَفَ الْخَمْسِينَ.   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مِثْلُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ عَلَى مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ فِي أَنَّهُ لَوْثٌ شَهَادَتُهُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْجَرْحِ أَوْ الضَّرْبِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أَوْ بِشَاهِدٍ عَلَى الْقَتْلِ مِثْلُ ذَلِكَ شَهَادَتُهُ عَلَى مُعَايَنَةِ الْجَرْحِ أَوْ الضَّرْبِ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ عَلَى إقْرَارِ الْمَقْتُولِ أَنَّ فُلَانًا جَرَحَهُ أَوْ ضَرَبَهُ عَمْدًا لَا خَطَأً فَلَا تَكْفِي شَهَادَةُ الْوَاحِدِ فِيهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ إقْرَارَهُ فِي الْخَطَإِ جَارٍ مَجْرَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالدِّيَةِ، وَالشَّاهِدُ عَلَى إقْرَارِهِ نَاقِلٌ، وَيُشْتَرَطُ أَنْ يَنْقُلَ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ كَمَا لَوْ قَالَ: قَتَلَنِي فُلَانٌ فَلَا بُدَّ مِنْ شَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى قَوْلِهِ، وَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ لِأَنَّ الْقَتْلَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَالْجَرْحُ يَثْبُتُ عِنْدَ مَالِكٍ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، وَمِثْلُهُ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَوْثٌ، لَوْ اجْتَمَعَ إقْرَارٌ مِنْ الْقَاتِلِ بِأَنَّهُ قَتَلَهُ خَطَأً وَشَهَادَةُ شَاهِدٍ عَلَى مُعَايَنَةِ ذَلِكَ الْقَتْلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ تَجِبُ وَإِنْ تَعَدَّدَ اللَّوْثُ، وَمِنْ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ رُؤْيَةُ الْعَدْلِ الْمَقْتُولَ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ وَيَضْطَرِبُ فِيهِ، وَالشَّخْصُ الْمُتَّهَمُ بِقُرْبِهِ وَعَلَيْهِ أَثَرُ الْقَتْلِ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ الْآلَةُ مُلَطَّخَةً بِالدَّمِ، فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ، إلَّا أَنَّهُ لَا بُدَّ مَعَ شَهَادَةِ الْعَدْلِ الْوَاحِدِ عَلَى الْجَرْحِ أَوْ الضَّرْبِ مِنْ يَمِينٍ مُكَمِّلَةٍ لِلنِّصَابِ، وَمِثْلُ شَهَادَةِ الْعَدْلِ شَهَادَةُ الْمَرْأَتَيْنِ مَعَ كُلٍّ مَا يَكْفِي فِيهِ شَهَادَةُ الْعَدْلِ، وَصِفَةُ الْيَمِينِ الْمُكَمِّلَةِ لِلنِّصَابِ فِيهَا خِلَافٌ، فَقِيلَ يَحْلِفُهَا قَبْلَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، وَقِيلَ يَحْلِفُهَا مَعَ كُلِّ يَمِينٍ مِنْ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ بِأَنْ يَقُولَ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى الْجَرْحِ مَعَ كُلِّ يَمِينٍ مِنْ الْخَمْسِينَ: لَقَدْ جَرَحَهُ وَلَقَدْ مَاتَ مِنْ جُرْحِهِ، بِخِلَافِ شَهَادَتِهِ عَلَى الْقَتْلِ فَإِنَّهُمْ يَحْلِفُونَ وَيَقُولُونَ فِي كُلِّ يَمِينٍ: لَقَدْ قَتَلَهُ فَقَطْ، وَتَجِبُ الْقَسَامَةُ وَإِنْ تَعَدَّدَ اللَّوْثُ وَلَيْسَ مِنْ اللَّوْثِ وُجُودُ الْمَقْتُولِ فِي قَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ حَيْثُ كَانَ يُخَالِطُهُمْ غَيْرُهُمْ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ قَرْيَتَهُمْ سِوَاهُمْ وَوُجِدَ قَتِيلٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فِيهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا، كَمَا فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - جَعَلَ فِيهِ الْقَسَامَةَ لِابْنَيْ عَمِّهِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَأَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَإِنَّمَا امْتَنَعُوا مِنْ الْحَلِفِ لِعَدَمِ مُشَاهَدَتِهِمْ أَحَدًا يَقْتُلُهُ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ مِنْ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ وُجُودَ الْمَقْتُولِ بِمَحَلَّةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ بِشَرْطِ كَوْنِهِ غَيْرَ مَطْرُوقٍ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ خَيْبَرَ إذْ ذَاكَ لَمْ يَدْخُلْهَا إلَّا الْيَهُودُ. الثَّانِي: حَقِيقَةُ اللَّوْثِ أَمْرٌ يَنْشَأُ عَنْهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِصِدْقِ الْمُدَّعِي وَقَدْ مَرَّتْ أَمْثِلَتُهُ، وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: أَضْعَفُهَا أَوَّلُهَا لِأَنَّهُ يَشْتَمِلُ عَلَى قَبُولِ دَعْوَى الْمُدَّعِي مِنْ غَيْرِ بَيِّنَةٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ ضَعِيفَةٍ، لِأَنَّ الشَّاهِدَيْنِ فِيهِ إنَّمَا شَهِدَا عَلَى قَوْلِهِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ فَقَطْ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الدِّمَاءَ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْ الْأَمْوَالِ، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي فِيهَا وَلَوْ بِفَلْسٍ، فَكَيْفَ يُقْبَلُ قَوْلُ الْمُدَّعِي بِالْقَتْلِ بِهَذِهِ الْحُجَّةِ الضَّعِيفَةِ؟ وَأَيْضًا فِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى أُنَاسٌ دِمَاءَ رِجَالٍ وَأَمْوَالَهُمْ، وَلَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينَ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَكُلُّ مَا يُحَاوِلُهُ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ الْحُجَجِ ضَعِيفٌ، وَلَا أَعْلَمُ مَنْ وَافَقَ الْإِمَامَ عَلَى قَوْلِهِ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ: قَتَلَنِي فُلَانٌ سِوَى اللَّيْثِ وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، هَكَذَا حَكَى عَنْ بَعْضِ كِبَارِ شُيُوخِ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْبِسَاطِيُّ: قَدْ أَكْثَرَ التَّشْنِيعَ عَلَى الْمَالِكِيَّةِ فِيهِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ. قَالَ الشَّاذِلِيُّ فِي الْجَوَابِ الدَّافِعِ لِإِشْكَالِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَقُولُ: قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ: «أَتَحْلِفُونَ خَمْسِينَ يَمِينًا» إلَخْ صَرِيحٌ فِي قَبُولِ قَوْلِ الْمُدَّعِي فِي الدِّمَاءِ، وَقَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: وَاسْتِدْلَالُ الْجُمْهُورِ لِمَذْهَبِهِمْ بِعَدَمِ قَبُولِ قَوْلِ الْمَقْتُولِ بِحَدِيثِ: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ» إلَخْ لَا دَلِيلَ لَهُمْ فِيهِ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لِلدَّمِ الطَّالِبَ لَهُ لَيْسَ هُوَ الْمَقْتُولُ وَإِنَّمَا هُوَ الْوَلِيُّ، وَلَمْ نُعْطِهِ بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهُ بَلْ بِمَا انْضَمَّ لَدَعْوَاهُ مِنْ قَوْلِ الْمَقْتُولِ الَّذِي يَغْلِبُ مَعَهُ غَلَبَةَ الظَّنِّ بِصِدْقِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُمْ إذَا لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِي قَلِيلِ الْمَالِ فَكَيْفَ يُقْبَلُ فِي الدِّمَاءِ؟ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ لِوُجُودِ الْفَارِقِ وَهُوَ أَنَّ مَشْرُوعِيَّةَ الْقَسَامَةِ إنَّمَا هِيَ لِحِرَاسَةِ الْأَنْفُسِ فَتَكْفِي فِيهَا الشُّبْهَةُ وَاللَّطْخُ لِإِيجَابِ الْقِصَاصِ الَّذِي هُوَ حَيَاةُ الْأَنْفُسِ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الأَلْبَابِ} [البقرة: 179] فَالْعَمَلُ بِهَا مِنْ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا الْإِمَامُ مَذْهَبَهُ، حَتَّى تُرْتَبَ عَنْهُ الْعَلَّامَة خَلِيلٌ فِي التَّوْضِيحِ أَنَّهُ قَالَ: يَجُوزُ قَتْلُ ثُلُثِ الْمُفْسِدِينَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ لِإِصْلَاحِ الثُّلُثَيْنِ حَيْثُ تَعَيَّنَ الْقَتْلُ طَرِيقًا لِلْإِصْلَاحِ لَا إنْ كَانَ يَحْصُلُ بِنَحْوِ الْحَبْسِ أَوْ الضَّرْبِ، وَيُعْلَمُ ذَلِكَ بِقَرَائِنِ الْأَحْوَالِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِاقْتِضَاءِ الْمَقَامِ الِاخْتِلَافَ فِي الْمَسْأَلَةِ كَمَا عَرَفْت. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْقَتْلَ أَوْ الدِّيَةَ إنَّمَا يُسْتَحَقُّ بِتَمَامِ الْحَلِفِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا إذَا لَمْ تَحْلِفْ الْأَوْلِيَاءُ فَقَالَ: (وَإِذَا نَكِلَ مَدْعُوُّ الدَّمِ) عَنْ حَلِفِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَلَوْ بَعْضُهُمْ حَيْثُ كَانَ مُسَاوِيًا لِلْحَالِفِ فِي الدَّرَجَةِ (حَلَفَ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ (الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ خَمْسِينَ يَمِينًا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْبَدَلِ مُرْتَهَنٌ بِالْقَتْلِ، وَمِثْلُ نُكُولِ الْبَعْضِ عَفْوُهُ، فَإِذَا حَلَفُوا سَقَطَ الْقِصَاصُ، وَإِذَا أَرَادَ النَّاكِلُ الرُّجُوعَ إلَى الْحَلِفِ لَمْ يُجَبْ إلَى ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: فَتُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِينَ وَمَنْ نَكِلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ. وَقَالَ فِي الْجَلَّابِ: إذَا نَكِلَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 وَلَوْ اُدُّعِيَ الْقَتْلُ عَلَى جَمَاعَةٍ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَيَحْلِفُ مِنْ الْوُلَاةِ فِي طَلَبِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا وَإِنْ كَانُوا أَقَلَّ قُسِّمَتْ عَلَيْهِمْ الْأَيْمَانُ وَلَا تَحْلِفُ امْرَأَةٌ فِي الْعَمْدِ. وَتَحْلِفُ الْوَرَثَةُ فِي الْخَطَإِ بِقَدْرِ مَا يَرِثُونَ مِنْ   [الفواكه الدواني] الْمُدَّعُونَ لِلدَّمِ عَنْ الْقَسَامَةِ وَرُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ وَرُبِعَتْ حُبِسُوا حَتَّى يَحْلِفُوا، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُمْ تُرِكُوا، وَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ جَلْدُ مِائَةِ جَلْدَةٍ وَحَبْسُ سَنَةٍ انْتَهَى. وَقَالَ بَعْضٌ: وَإِنْ كَانَ الْمَحْبُوسُ مُتَمَرِّدًا فَإِنَّهُ يُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ، وَإِنَّمَا قُلْت عَلَى الْبَدَلِ لِأَنَّ الْقَسَامَةَ لَا يَقُلْ بِهَا أَكْثَرُ مِنْ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قِصَّةُ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ لَمَّا قُتِلَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ وَوَجَدَ مَقْتُولًا فِي خَيْبَرَ لَمَّا نَكَلُوا عَنْ الْيَمِينِ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودٌ بِخَمْسِينَ يَمِينًا» هَذَا حُكْمُ الدَّعْوَى عَلَى جَمَاعَةٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ وَاحِدًا فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ (مَنْ يَحْلِفُ مِنْ وُلَاتِهِ) أَيْ وَإِنْ نَكِلَ حُبِسَ حَتَّى يَحْلِفَ وَلَا يُطْلَقُ وَلَوْ طَالَ حَبْسُهُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَوْ وَجَدَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ مِنْ عَصَبَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حَلِفِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ مَا عَلَيْهِ مَالِكٌ وَابْنُ الْقَاسِمِ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَيْسَ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِأَحَدٍ مِنْ عَصَبَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: فَتُرَدُّ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ فَيَحْلِفُ كُلٌّ خَمْسِينَ إلَى قَوْلِهِ وَالِاسْتِعَانَةُ، بِخِلَافِ وَلَيِّ الدَّمِ فَإِنَّ لَهُ الِاسْتِعَانَةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْوَلِيِّ الِاسْتِعَانَةُ بِعَاصِبِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ أَنَّ أَيْمَانَ الْعَصَبَةِ مُوجِبَةٌ، وَقَدْ يَحْلِفُ فِيهَا مَنْ يُوجِبُ لِغَيْرِهِ كَوَلِيِّ الْمَحْجُورِ فِي بَعْضِ الصُّوَرِ، وَأَيْمَانُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ دَافِعَةٌ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْفَعَ بِيَمِينِهِ عَنْ غَيْرِهِ، فَاللَّامُ قَوْلُ خَلِيلٍ وَلِلْوَلِيِّ لِلِاخْتِصَاصِ. (تَنْبِيهٌ) فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: غَيْرُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِظْهَارُ مَوْضِعُ الْإِضْمَارِ فَكَانَ الْمُنَاسِبُ أَنْ لَوْ قَالَ: إنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَحْلِفُ مَعَهُ مِنْ وُلَاتِهِ غَيْرَهُ، بَلْ كَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ لَوْ قَالَ: فَإِنْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَخْلُفُ مَعَهُ حَلَفَ الْخَمْسِينَ وَحْدَهُ. (وَلَوْ اُدُّعِيَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (الْقَتْلُ عَلَى جَمَاعَةٍ) وَنَكِلَ الْمُدَّعُونَ عَنْ الْقَسَامَةِ (حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ) مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ (خَمْسِينَ يَمِينًا) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عَلَى الْبَدَلِ مَرْهُونٌ بِالْقَتْلِ، فَلَا يَبْرَأُ مِنْهُ إلَّا بِحَلِفِ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَمَنْ نَكِلَ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِمْ بِالْقَتْلِ عَنْ الْحَبْسِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَحْلِفَ، فَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ أُطْلِقَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَمَرِّدًا فَيُخَلَّدُ فِي السِّجْنِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حُكْمُ النُّكُولِ فِي دَعْوَى قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى إذَا مَا نَكِلَتْ الْأَوْلِيَاءُ فِي دَعْوَى قَتْلِ الْخَطَإِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ نَكِلُوا أَوْ بَعْضٌ حَلَفَ الْعَاقِلَةُ، فَمَنْ نَكِلَ فَحِصَّتُهُ عَلَى الْأَظْهَرِ أَنْ يَحْلِفَ كُلُّ وَاحِدٍ يَمِينًا وَاحِدَةً وَلَوْ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، فَمَنْ حَلَفَ بَرِئَ وَمَنْ نَكِلَ غَرِمَ حِصَّتَهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَالْقَاتِلُ كَوَاحِدٍ عَنْهُمْ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِقَتْلِ الْخَطَإِ عَاقِلَةٌ حَلَفَ الْخَمْسِينَ وَحْدَهُ وَبَرِئَ، وَإِنْ نَكِلَ غَرِمَ جَمِيعَ الدِّيَةِ إنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ حِصَّتُهُ الَّتِي تَخُصُّهُ أَنْ لَوْ كَانَتْ عَاقِلَةٌ إنْ كَانَ هُنَاكَ بَيْتُ مَالٍ، لَمَّا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ إنْ لَمْ تُوجَدْ عَاقِلَةٌ لِلْقَاتِلِ تَكُونُ الدِّيَةُ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ وَالْقَاتِلُ كَوَاحِدٍ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ كَانَ وَلَا يُمْكِنُ الْوُصُولُ إلَيْهِ يَغْرَمُ جَمِيعَهَا الْقَاتِلُ، وَتُدْفَعُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لِلْحَالِفِ وَالنَّاكِلِ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ إلَّا فِي صُورَةٍ، وَهِيَ مَا إذَا حَلَفَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ جَمِيعَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ لِغَيْبَةِ بَقِيَّةِ الْأَوْلِيَاءِ وَأَخَذَ نَصِيبَهُ مِنْ الدِّيَةِ ثُمَّ قَدِمَ الْبَاقُونَ وَنَكِلُوا وَرُدَّتْ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَاقِلَةِ، فَإِنَّ حِصَّةَ النَّاكِلِ مِنْهُمْ تُدْفَعُ لِلنَّاكِلِينَ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَقَطْ وَلَا يَأْخُذُ الْحَالِفُ مِنْهَا شَيْئًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حَالِفَ بَعْضِ الْأَيْمَانِ وَالنَّاكِلَ، وَمِثْلُهُمَا مَنْ قَالَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ لَا أَدْرِي يَدْخُلُونَ فِي الْمَالِ الَّذِي يَغْرَمُهُ النَّاكِلُ مِنْ عَاقِلَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَلَوْ اُدُّعِيَ الْقَتْلُ عَلَى جَمَاعَةٍ إلَخْ مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَإِذَا نَكِلَ مَدْعُوُّ الدَّمِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسِينَ يَمِينًا، وَمَا أَجَابَ بَعْضُ الشُّرَّاحِ مِنْ حَمْلِ مَا سَبَقَ عَلَى دَعْوَى الْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ بَعِيدٌ مِنْ كَلَامِهِ. [صِفَةِ حَلِفِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَمَنْ يَحْلِفُهَا] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ حَلِفِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَمَنْ يَحْلِفُهَا إذَا وَجَبَتْ بِقَوْلِهِ: (وَيَحْلِفُ مِنْ الْوُلَاةِ) جَمْعُ وَلِيٍّ وَهُمْ عَصَبَةُ الْمَقْتُولِ وَلَوْ بِالْوَلَاءِ. (فِي طَلَبِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا خَمْسِينَ يَمِينًا) كُلُّ وَاحِدٍ يَحْلِفُ يَمِينًا، وَهَذَا وَاضِحٌ إنْ وُجِدَ مِنْ الْعَصَبَةِ عَدَدُ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ. (وَإِنْ كَانُوا) أَيْ الْوُلَاةَ (أَقَلَّ) مِنْ الْخَمْسِينَ (قُسِّمَتْ عَلَيْهِمْ) تِلْكَ (الْأَيْمَانُ) فَإِنْ كَانُوا خَمْسَةً حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ عَشْرَ أَيْمَانٍ، وَإِنْ كَانَا اثْنَيْنِ حَلَفَ كُلُّ وَاحِدٍ خَمْسًا وَعِشْرِينَ يَمِينًا، وَإِنْ حَصَلَ انْكِسَارٌ بِأَنْ زَادُوا عَلَى اثْنَيْنِ وَنَقَصُوا عَنْ الْخَمْسِينَ فَإِنَّهُ يَجِبُ تَكْمِيلُ الْكُسُورِ عِنْدَ تَسَاوِيهَا وَتَكْمِيلُ الْأَكْبَرِ عِنْدَ اخْتِلَافِهَا، قَالَ خَلِيلٌ: وَجُبِرَتْ الْيَمِينُ عَلَى أَكْبَرِ كَسْرِهَا وَإِلَّا فَعَلَى الْجَمِيعِ وَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَهَا. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ عَدَدُ الْأَوْلِيَاءِ عَدَدَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ وَكَانُوا أَكْثَرَ لَا بُدَّ مِنْ حَلِفِ خَمْسِينَ مِنْهُمْ، وَلَا يَكْفِي حَلِفُ أَقَلِّ مِنْ خَمْسِينَ رَجُلًا وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ يَكْفِي حَلِفُ اثْنَيْنِ طَاعَا مِنْ أَكْثَرَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَحْرَى بِاثْنَيْنِ طَاعَا مِنْ أَكْثَرَ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَيَحْلِفُ فِي طَلَبِ الدَّمِ خَمْسُونَ رَجُلًا مَعْنَاهُ يَجُوزُ لَا أَنَّهُ يَجِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 الدِّيَةِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ. وَإِنْ انْكَسَرَتْ يَمِينٌ عَلَيْهِمْ حَلَفَهَا أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْهَا. وَإِذَا حَضَرَ بَعْضُ وَرَثَةِ الْخَطَإِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ أَنْ يَحْلِفَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ ثُمَّ يَحْلِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ. وَيَحْلِفُونَ فِي الْقَسَامَةِ قِيَامًا وَيُجْلَبُ إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ أَهْلُ أَعْمَالِهَا لِلْقَسَامَةِ وَلَا يُجْلَبُ فِي غَيْرِهَا إلَّا مِنْ الْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ. وَلَا قَسَامَةَ فِي   [الفواكه الدواني] فَلَا يُنَافِي جَوَازَ حَلِفٍ أَقَلَّ، وَلِذَلِكَ بَيَّنَ خَلِيلٍ أَقَلَّ مَنْ يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ حَيْثُ قَالَ: وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةٍ وَإِلَّا فَمُوَالٍ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا تَحْلِفُ امْرَأَةٌ فِي) إثْبَاتِ قَتْلِ (الْعَمْدِ) لِعَدَمِ صِحَّةِ شَهَادَةِ النِّسَاءِ فِيهِ وَإِنْ انْفَرَدْنَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَحْلِفُ فِي الْعَمْدِ أَقَلُّ مِنْ رَجُلَيْنِ عَصَبَةٍ وَإِلَّا فَمَوَالٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لِلْمَقْتُولِ إلَّا عَاصِبٌ فَيَلْزَمُهُ الِاسْتِعَانَةُ بِعَاصِبِهِ الْأَجْنَبِيِّ مِنْ الْمَقْتُولِ، كَمَا إذَا قُتِلَتْ أُمُّهُ فَإِنَّ لَهُ الِاسْتِعَانَةَ بِعَمِّهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَعِنْ أَوْ لَمْ يَجِدْ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ فَالْأَيْمَانُ تُرَدُّ عَلَى الْجَانِي، فَإِنْ حَلَفَ بَرِئَ، وَإِنْ نَكِلَ حُبِسَ وَلَا يُطْلَقُ وَلَوْ طَالَ حَبْسُهُ، وَعِنْدَ انْفِرَادِ النِّسَاءِ يَصِيرُ الْمَقْتُولُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا وَارِثَ لَهُ فَتُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا} [الإسراء: 33] وَالْوَلِيُّ رَجُلٌ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ» وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خَاطَبَ الرِّجَالَ بِقَوْلِهِ: «أَتَحْلِفُ لَكُمْ يَهُودٌ» فِي حَدِيثِ حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ الْمُتَقَدِّمِ وَلَمْ يَسْأَلْ النِّسَاءَ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَيَحْلِفُ فِيهِ كُلُّ مَنْ يَرِثُ وَلَوْ امْرَأَةً وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَتَحْلِفُ الْوَرَثَةُ فِي) إثْبَاتِ قَتْلِ (الْخَطَإِ بِقَدْرِ مَا يَرِثُونَ مِنْ الدِّيَةِ مِنْ رَجُلٍ أَوْ امْرَأَةٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيَحْلِفُهَا فِي الْخَطَإِ مَنْ يَرِثُ وَإِنْ وَاحِدًا أَوْ امْرَأَةً وَتَحْلِفُ الْأَيْمَانَ كُلَّهَا وَلَا تَأْخُذُ إلَّا فَرْضَهَا، وَمِثْلُهَا الْأَخُ لِلْأُمِّ، وَيَسْقُطُ مَا عَلَى الْجَانِي مِمَّا زَادَ عَلَى نَصِيبِ الْحَالِفِ لِتَعَذُّرِ الْحَلِفِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَكِنْ تُرَدُّ الْأَيْمَانُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِمَنْزِلَةِ نُكُولِ أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ وَإِنْ نَكِلَتْ غَرِمَتْ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْأَيْمَانُ فِي الْخَطَإِ يَحْلِفُهَا كُلُّ مَنْ يَرِثُ وَقَدْ يَخْتَلِفُ الْمِيرَاثُ فَيَحْصُلُ كَسْرٌ فِي الْأَيْمَانِ بَيَّنَ حُكْمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ انْكَسَرَتْ يَمِينٌ عَلَيْهِمْ) أَيْ الْوَرَثَةِ كَابْنٍ وَبِنْتٍ فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَلَاثَةٍ: لِأَنَّ الذَّكَرَ بِرَأْسَيْنِ فَيَخُصُّهُ مِنْ الْخَمْسِينَ ثَلَاثٌ وَثَلَاثُونَ وَثُلُثُ يَمِينٍ، وَيَخُصُّ الْبِنْتَ سِتَّ عَشَرَةَ وَثُلُثَا يَمِينٍ. (حَلَفَهَا) أَيْ الْيَمِينَ الْمُنْكَسِرَةَ (أَكْثَرُهُمْ نَصِيبًا مِنْهَا) أَيْ مِنْ الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ وَهُوَ الْبِنْتُ فَتَحْلِفُ سَبْعَ عَشَرَةَ يَمِينًا، وَإِنَّمَا قَالَ مِنْهَا بِالضَّمِيرِ الْعَائِدِ عَلَى الْيَمِينِ الْمُنْكَسِرَةِ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ يَرْجِعُ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الْأَيْمَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجُبِرَتْ الْيَمِينُ عَلَى أَكْثَرِ كَسْرِهَا وَإِلَّا فَعَلَى الْجَمِيعِ. وَلَمَّا كَانَ الْأَخْذُ مِنْ دِيَةِ الْخَطَإِ يَتَوَقَّفُ عَلَى جَمِيعِ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ قَالَ: (وَإِذَا حَضَرَ بَعْضُ وَرَثَةِ دِيَةِ الْخَطَإِ) وَغَابَ الْبَاقِي أَوْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا. (لَمْ يَكُنْ لَهُ) أَيْ لِذَلِكَ الْحَاضِرِ (بُدٌّ) بِضَمِّ الْمُوَحَّدَةِ وَشَدِّ الدَّالِ الْمُهْمَلَةِ أَيْ مَهْرَبٌ مِنْ (أَنْ يَحْلِفَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ) حَتَّى يَسْتَحِقَّ نَصِيبَهُ مِنْ الدِّيَةِ، فَإِذَا حَلَفَ الْخَمْسِينَ يَمِينًا أَخَذَ حِصَّتَهُ، لِأَنَّ الدِّيَةَ لَا تَلْزَمُ إلَّا بَعْدَ ثُبُوتِ الْقَتْلِ، وَهُوَ لَا يَثْبُتُ إلَّا بَعْدَ حَلِفِ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ (ثُمَّ) بَعْدَ حَلِفِ الْحَاضِرِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ (يَحْلِفُ مَنْ يَأْتِي) مِنْ غَيْبَتِهِ أَوْ مَنْ بَلَغَ (بَعْدَهُ) أَيْ بَعْدَ حَلِفِ الْحَاضِرِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ. (بِقَدْرِ نَصِيبِهِ مِنْ الْمِيرَاثِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ إلَّا بَعْدَهَا ثُمَّ حَلَفَ مَنْ حَضَرَ حِصَّتَهُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّ الْقَادِمَ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا قَدْرُ حِصَّتِهِ وَلَوْ رَجَعَ الْحَالِفُ أَوَّلًا عَنْ جَمِيعِ الْأَيْمَانِ الَّتِي حَلَفَهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ الْغَائِبِ الْحَلِفُ بَعْدَ حَلِفِ الْحَاضِرِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ الدَّمُ فِي حَقِّ كُلِّ أَحَدٍ إلَّا بَعْدَ حَلِفِهِ، وَأَمَّا لَوْ مَاتَ الْغَائِبُ أَوْ مَنْ كَانَ صَبِيًّا وَوَرِثَهُ الَّذِي حَلَفَ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ فَقِيلَ: لَا بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ حَتَّى يَسْتَحِقَّ حِصَّةَ الْمَيِّتِ، وَقِيلَ: لَا يَلْزَمُهُ يَمِينٌ لِحَلِفِهِ جَمِيعَ الْأَيْمَانِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ تَغْلِيظِهَا بِقَوْلِهِ: (وَيَحْلِفُونَ) أَيْ الْأَوْلِيَاءُ (فِي الْقَسَامَةِ) حَالَةَ كَوْنِهِمْ (قِيَامًا) تَغْلِيظًا عَلَيْهِمْ، وَكَذَا غَيْرُهَا مِنْ أَيْمَانِ سَائِرِ الْحُقُوقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَلُظَتْ فِي رُبْعِ دِينَارٍ بِجَامِعٍ كَالْكَنِيسَةِ وَبَيْتِ النَّارِ وَبِالْقِيَامِ لَا بِالِاسْتِقْبَالِ وَلَا بِالزَّمَانِ، وَحُكْمُ التَّغْلِيظِ الْوُجُوبُ، فَمَنْ امْتَنَعَ مِنْهُ عُدَّ نَاكِلًا وَهُوَ مِنْ حَقِّ الْخَصْمِ، وَكَمَا يَحْصُلُ التَّغْلِيظُ بِالْقِيَامِ وَمَا ذَكَرَ يَحْصُلُ بِمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُجْلَبُ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ (إلَى مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ وَبَيْتِ الْمَقْدِسِ) وَنَائِبُ فَاعِلِ يُجْلَبُ (أَهْلُ أَعْمَالِهَا) أَيْ أَهْلُ طَاعَةِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الَّذِينَ يُؤَدُّونَ لَهَا الزَّكَاةَ وَالْكَفَّارَةَ، وَبَيَّنَ عِلَّةَ الْجَلْبِ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ بِقَوْلِهِ: (لِلْقَسَامَةِ) وَلَوْ كَانَ مَوْضِعُ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ عَلَى عَشَرَةِ أَيَّامٍ لِفَضْلِ هَذِهِ الْأَمَاكِنِ وَتَغْلِيظًا وَرَدْعًا لِلْكَاذِبِ، وَمَفْهُومٌ لِلْقَسَامَةِ أَنَّهُ لَا يُجْلَبُ أَحَدٌ إلَى تِلْكَ الْأَمَاكِنِ فِي حَلِفٍ غَيْرِ الْقَسَامَةِ لِعِظَمِ أَمْرِ الْقَسَامَةِ بِاعْتِبَارِ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا. (وَلَا يُجْلَبُ) لِلْقَسَامَةِ (فِي) أَيْ إلَى (غَيْرِهَا) أَيْ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ مِنْ مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَمَاكِنِ الْمُعَظَّمَةِ عِنْدَ الْحَالِفِ. (إلَّا) أَنْ يَكُونَ الْجَلْبُ (مِنْ الْأَمْيَالِ الْيَسِيرَةِ) كَالثَّلَاثَةِ وَقِيلَ كَالْعَشْرِ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ تَوَجَّهَتْ عَلَيْهِ الْقَسَامَةُ وَهُوَ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ أَعْمَالِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ لَا يُجْلَبُ مِنْ مَحَلِّهِ إلَى حَلِفِهَا فِي مَسْجِدٍ أَوْ غَيْرِهِ، إلَّا إذَا كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 جُرْحٍ. وَلَا فِي عَبْدٍ. وَلَا بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَلَا فِي قَتِيلٍ بَيْنَ الصَّفَّيْنِ. أَوْ وُجِدَ فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ. وَقَتْلُ الْغِيلَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ.   [الفواكه الدواني] الْمَسْجِدُ قَرِيبًا مِنْ بَلَدِهِ بِأَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ الْأَمْيَالُ الْيَسِيرَةُ، [مَا تَكُون فِيهِ الْقَسَامَة] وَالْفَرْقُ بَيْنَ تِلْكَ الْقَسَامَةِ قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ شَرَعَ مِنْ مَفَاهِيمِ تِلْكَ الْأَوْصَافِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا قَسَامَةَ) مَشْرُوعَةً (فِي جُرْحٍ) بِالضَّمِّ لِأَنَّ الْمُرَادَ الِاسْمُ وَهَذَا مَفْهُومُ قَتْلٍ، وَإِنَّمَا لَمْ تُشْرَعْ الْقَسَامَةُ فِي الْجُرْحِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا حَكَمَ بِهَا فِي النَّفْسِ، وَإِذَا قُلْنَا بِنَفْيِ الْقَسَامَةِ فِي الْجُرْحِ فَتَارَةً يَكُونُ عَمْدًا وَتَارَةً يَكُونُ خَطَأً، وَفِي كُلٍّ إمَّا أَنْ يَثْبُتَ بِشَاهِدَيْنِ أَوْ يُوجَدَ شَاهِدٌ فَقَطْ، فَإِنْ ثَبَتَ بِشَاهِدَيْنِ فَالدِّيَةُ فِي الْخَطَإِ أَوْ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ، وَإِنْ لَمْ يَشْهَدْ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ مَعَ الشَّاهِدِ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ وَيُقْتَصُّ فِي الْعَمْدِ، وَهِيَ إحْدَى مُسْتَحْسَنَاتِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَإِنْ تَجَرَّدَتْ الدَّعْوَى عَنْ الشَّاهِدِ فَقِيلَ يَحْلِفُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَقِيلَ لَا يَحْلِفُ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِنَا حُرٌّ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) قَسَامَةَ (فِي عَبْدٍ) وُجِدَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ وَهُوَ يَقُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَلَوْ شَهِدَ عَلَى قَوْلِهِ عَدْلَانِ لِأَنَّهُ مَالٌ، فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ غَرِمَ قِيمَتَهُ فِي الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، وَإِنْ شَهِدَ عَدْلٌ أَوْ امْرَأَتَانِ حَلَفَ سَيِّدُهُ يَمِينًا وَأَخَذَ قِيمَتَهُ أَيْضًا وَيُضْرَبُ الْقَاتِلُ مِائَةً وَيُحْبَسُ سَنَةً، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) قَسَامَةَ أَيْضًا (بَيْنَ أَهْلِ الْكِتَابِ) وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْمُسْلِمِ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الذِّمِّيَّ إذَا وُجِدَ مَنْفُوذَ الْمَقَاتِلِ وَهُوَ يَقُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ الْمُسْلِمِ وَشَهِدَ عَلَى إقْرَارِهِ عَدْلَانِ فَإِنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِيهِ، لِأَنَّ الْقَسَامَةَ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَإِذَا قُلْنَا بِعَدَمِ الْقَسَامَةِ فِي قَتْلِ الْكَافِرِ فَإِنْ ثَبَتَ أَنَّ الْمُسْلِمَ قَتَلَهُ بِشَاهِدَيْنِ فَإِنَّهُ يَغْرَمُ دِيَتَهُ فِي الْعَمْدِ مِنْ مَالِهِ وَمَعَ الْعَاقِلَةِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إلَّا شَاهِدٌ فَإِنَّ وَلِيَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَتَهُ وَيُضْرَبُ الْجَانِي مِائَةً فِي الْعَمْدِ وَيُحْبَسُ سَنَةً، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا دَعْوَى وَلِيِّ الْكَافِرِ عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى جَرْحِ أَوْ قَتْلِ كَافِرٍ أَوْ عَبْدٍ أَوْ جَنِينٍ حَلَفَ وَاحِدَةً وَأَخَذَ الدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، وَالْمُرَادُ الدِّيَةُ اللُّغَوِيَّةُ وَهِيَ الْمَالُ الْمُؤَدَّى، فَيَشْمَلُ دِيَةَ الْجُرْحِ وَقِيمَةَ الْعَبْدِ وَالْغُرَّةَ فِي الْجَنِينِ وَالدِّيَةَ الْحَقِيقِيَّةَ إنْ اسْتَهَلَّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُكْمَ قَتْلِ الْكَافِرِ وَالْعَبْدِ وَالْجَنِينِ الْحُرِّ حُكْمُ الْجِرَاحِ، فَمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى جُرْحٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ عَلَى قَتْلِ كَافِرٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ عَلَى قَتْلِ عَبْدٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، أَوْ عَلِمَ قَتْلَ جَنِينٍ حُرٍّ عَمْدًا أَوْ خَطَأً يُرِيدُ وَنَزَلَ الْجَنِينُ مَيِّتًا، فَإِنَّهُ يَحْلِفُ يَمِينًا وَاحِدَةً وَيَأْخُذُ دِيَةَ ذَلِكَ وَيَقْتَصُّ فِي جِرَاحِ الْعَمْدِ لِأَنَّهُ لَا قَسَامَةَ فِي الْجُرْحِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ فِي الْجُرْحِ إلَّا عِنْدَ الْمُكَافَأَةِ، فَإِنْ لَمْ يَحْلِفْ الْمُدَّعَى بَرِئَ الْجَارِحُ إنْ حَلَفَ وَإِلَّا حُبِسَ فِي جُرْحِ الْعَمْدِ وَغَرِمَ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ قَالَ الْكَافِرُ الْمَنْفُوذُ الْمَقَاتِلِ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ الْكَافِرِ وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا فَلَا نِزَاعَ فِي أَنَّا لَا نُوجِبُ عَلَيْهِمْ قَسَامَةً، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ الْمُسْلِمُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانِ الْكَافِرِ فَإِنَّ فِيهِ الْقَسَامَةَ وَيَسْتَحِقُّونَ الْقِصَاصَ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ دَمُ مُسْلِمٍ بِالْقَسَامَةِ فِي مَحَلِّهَا. (وَلَا) قَسَامَةَ أَيْضًا (فِي قَتِيلٍ وُجِدَ) مَطْرُوحًا (بَيْنَ الصَّفَّيْنِ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْبَاغِي كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى الْآخَرِ وَيَكُونُ دَمُهُ هَدَرًا، وَلَوْ قَالَ ذَلِكَ الْمَقْتُولُ: دَمِي عِنْدَ فُلَانٍ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ مِنْ أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ انْفَصَلَتْ بُغَاةٌ عَنْ قَتْلَى وَلَمْ يُعْلَمْ الْقَاتِلُ فَهَلْ لَا قَسَامَةَ وَلَا قَوَدَ مُطْلَقًا، أَوْ إنْ تَجَرَّدَ عَنْ تَدْمِيَةٍ وَشَاهِدٍ أَوْ عَنْ الشَّاهِدِ فَقَطْ تَأْوِيلَاتٌ وَمَفْهُومُهُ أَنَّهُ لَوْ عُلِمَ الْقَاتِلُ بِبَيِّنَةٍ شَهِدَتْ عَلَى عَيْنِهِ لَاقْتُصَّ مِنْهُ قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَيَّدَنَا الصَّفَّيْنِ بِالْمُسْلِمَيْنِ لِإِخْرَاجِ مَنْ وُجِدَ مَطْرُوحًا بَيْنَ الْكُفَّارِ وَالْمُحَارِبِينَ فَلَيْسَ الْحُكْمُ فِيهِ كَذَلِكَ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: الْبَاغِي كُلٌّ مِنْهُمَا؛ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قِتَالِ أَحَدِهِمَا مَعَ تَأْوِيلِ شُبْهَةِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ تَأَوَّلُوا فَهَدَرٌ كَزَاحِفَةٍ عَلَى دَافِعَةٍ، لَكِنْ إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ بِأَنْ ظَنَّتْ كُلُّ طَائِفَةٍ جَوَازَ قِتَالِهَا لِلْأُخْرَى لِكَوْنِهَا أَخَذَتْ مَالَهَا أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ فَدَمُ كُلٍّ مِنْهُمَا هَدَرٌ، وَأَمَّا إنْ كَانَ التَّأْوِيلُ مِنْ إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَجِبُ الْقِصَاصُ فِي دَمِ الْمُتَأَوِّلَةِ وَدَمُ الْمُتَعَمِّدَةِ يَكُونُ هَدَرًا. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ كَخَلِيلٍ عَنْ الْمَقْتُولِ فِي الِازْدِحَامِ فِي نَحْوِ السُّوقِ أَوْ الْمَسْجِدِ أَوْ عِنْدَ دَفْعِ النَّاسِ مِنْ عَرَفَةَ فَإِنَّ هَذَا يَكُونُ هَدَرًا، لِأَنَّهُ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ قَاتِلٌ يُتَّبَعُ مَعَ الْإِذْنِ فِي الِاجْتِمَاعِ فِي تِلْكَ الْأَمَاكِنِ خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا قَسَامَةَ فِي قَتِيلٍ (وُجِدَ) مَطْرُوحًا (فِي مَحَلَّةِ قَوْمٍ) أَيْ قَرْيَتِهِمْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَحَدٌ مُتَّهَمٌ بِالْقَتْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَيْسَ مِنْهُ أَيْ اللَّوْثِ وُجُودُهُ بِقَرْيَةِ قَوْمٍ أَوْ دَارِهِمْ لِأَنَّا لَوْ جَعَلْنَاهُ لَوْثًا لَكَانَ كُلُّ مَنْ أَرَادَ أَذِيَّةَ غَيْرِهِ يَقْتُلُ شَخْصًا وَيَطْرَحُهُ فِي دَارِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ، وَلِأَنَّ الشَّأْنَ وَالْعَادَةَ أَنَّ مَنْ يَقْتُلُ شَخْصًا لَا يُبْقِيهِ فِي مَحَلِّهِ. وَمَحَلُّ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ حَيْثُ كَانَ الْمَحَلُّ الَّذِي وُجِدَ فِيهِ الْمَقْتُولُ مَطْرُوقًا لِمُرُورِ النَّاسِ فِيهِ غَيْرَ أَهْلِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لَا يَمُرُّ فِيهِ إلَّا أَهْلُهُ وَوُجِدَ فِيهِ شَخْصٌ مَقْتُولٌ مِنْ غَيْرِهِمْ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَوْثًا، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَضِيَّةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَهْلٍ فَإِنَّهُ وُجِدَ مَقْتُولًا فِي خَيْبَرَ، «وَخَيَّرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ ابْنَيْ عَمِّهِ مَعَ أَخِيهِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ فِي الْقَسَامَةِ» ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ خَيْبَرَ لَمْ يَدْخُلْهَا إذْ ذَاكَ إلَّا الْيَهُودُ كَمَا أَوْضَحْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَرَّ. وَاحْتَرَزْنَا بِقَوْلِنَا: وَالْحَالُ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ إلَخْ عَنْ بَعْضِ أَمْثِلَةِ اللَّوْثِ الْمُتَقَدِّمَةِ كَرُؤْيَتِهِ يَتَشَحَّطُ فِي دَمِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 وَلِلرَّجُلِ الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ الْعَمْدِ إنْ لَمْ يَكُنْ قَتْلَ غِيلَةٍ. وَعَفْوُهُ عَنْ الْخَطَإِ فِي ثُلُثِهِ. وَإِنْ عَفَا أَحَدُ الْبَنِينَ فَلَا قَتْلَ وَلِمَنْ بَقِيَ نُصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ. وَلَا عَفْوَ لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ. وَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْعَمْدِ ضُرِبَ مِائَةً وَحُبِسَ عَامًا. وَالدِّيَةُ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ   [الفواكه الدواني] وَالْمُتَّهَمُ قُرْبُهُ عَلَيْهِ آثَارُ الْقَتْلِ أَوْ رَآهُ خَارِجًا مِنْ مَحَلِّ الْمَقْتُولِ وَلَيْسَ فِيهِ سِوَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَكُونُ لَوْثًا تَحْلِفُ الْوُلَاةُ مَعَهُ خَمْسِينَ يَمِينًا وَيَسْتَحِقُّونَ الْقَوَدَ فِي الْعَمْدِ وَالدِّيَةَ فِي الْخَطَإِ، [الْعَفْو عَنْ الدَّم] وَلَمَّا كَانَ الْحَقُّ لِلْأَوْلِيَاءِ عِنْدَ ثُبُوتِ الْقَتْلِ فِي الْقِصَاصِ وَالْعَفْوِ وَكَانَ قَتْلُ الْغِيلَةِ لَا حَقَّ فِيهِ لِلْوَلِيِّ بَلْ لِلَّهِ تَعَالَى أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَقَتْلُ الْغِيلَةِ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ وَهُوَ الْقَتْلُ لِأَكْثَرِ الْمَالِ. (لَا عَفْوَ فِيهِ) لَا لِلْأَوْلِيَاءِ وَلَا لِلسُّلْطَانِ وَلَا لِلْمَقْتُولِ أَيْضًا وَلَوْ بَعْدَ إنْفَاذِ مَقَاتِلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا وَالْقَاتِلُ حُرًّا مُسْلِمًا، لِأَنَّ قَتْلَهُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي مَعْنَى الْحِرَابَةِ، وَالْمُحَارِبُ بِالْقَتْلِ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَوْ بِعَبْدٍ وَكَافِرٍ. وَإِنَّمَا لَمْ يَجُزْ الْعَفْوُ عَنْ قَاتِلِ الْغِيلَةِ لِأَنَّ قَتْلَ الْقَاتِلِ الْمَذْكُورِ مَعَ دَفْعِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، فَالْقَتْلُ حَقٌّ لِلَّهِ لَا لِلْآدَمِيِّ، وَعَلَى هَذَا فَيُقْتَلُ حَدًّا وَلَا قَوَدَ. وَفَسَّرَ الْغِيلَةَ بِالْقَتْلِ لِأَخْذِ الْمَالِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْقَتْلِ لِنَاثِرَةٍ أَيْ لِعَدَاوَةٍ بَيْنَ الْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ فَإِنَّ فِيهِ الْقِصَاصَ، وَيَجُوزُ لِلْوَلِيِّ الْعَفْوُ فِيهِ، وَعَنْ الْقَتْلِ لِطَلَبِ الْإِمَارَةِ أَيْضًا فَإِنَّهُ يَصِيرُ مِنْ الْبُغَاةِ وَلَيْسَ مِنْ الْمُحَارِبِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ مَنْ قَاتَلَ لِطَلَبِ الْإِمَارَةِ قَصْدُهُ فِي الْغَالِبِ خَلْعُ الْإِمَامِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَوْنِ الْحَقِّ لِلْأَوْلِيَاءِ فِي قَتْلِ غَيْرِ الْغِيلَةِ عَدَمُ صِحَّةِ عَفْوِ الْمَقْتُولِ عَنْ دَمِ نَفْسِهِ دَفَعَ هَذَا الْإِيهَامَ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ (لِلرَّجُلِ) الْمُرَادُ الْمَقْتُولُ وَلَوْ أُنْثَى أَوْ صَغِيرًا أَوْ سَفِيهًا (الْعَفْوُ عَنْ دَمِهِ) أَيْ دَمِ نَفْسِهِ (فِي) قَتْلِ (الْعَمْدِ) حَيْثُ وَقَعَ الْعَفْوُ مِنْهُ بَعْدَ إنْفَاذِ مُقَاتِلِهِ وَقَبْلَ زَهُوقِ رُوحِهِ، لِأَنَّهُ لَا كَلَامَ لِلْوَلِيِّ فِي شَأْنِهِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَلَا لِذِي دَيْنِ عَلَيْهِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: لِأَنَّ لِلْقِصَاصِ سَبَبًا وَهُوَ إنْفَاذُ الْمُقَاتِلِ، وَشَرْطًا وَهُوَ زَهُوقُ الرُّوحِ، فَإِنْ عَفَا الْمَقْتُولُ عَنْ الْقِصَاصِ قَبْلَهُمَا لَمْ يُعْتَبَرْ عَفْوُهُ وَعَفْوُهُ بَعْدَهُمَا مُتَعَذِّرٌ لِعَدَمِ الْحَيَاةِ الْمَانِعِ مِنْ التَّصَرُّفِ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا مَا بَيْنَهُمَا فَيَنْفُذُ إجْمَاعًا، وَبِهَذَا عَلِمْت أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَقَوْلَ خَلِيلٍ مُبَالَغًا عَلَى وُجُوبِ الْقِصَاصِ، وَلَوْ قَالَ: إنْ قَتَلْتَنِي أَبْرَأْتُك فَلَا يُعْتَبَرُ كَلَامُهُ وَلَا إبْرَاؤُهُ وَلَا بُدَّ مِنْ الْقِصَاصِ، لِأَنَّ الْعَفْوَ قَبْلَ إنْفَاذِ الْمُقَاتِلِ عَنْ شَيْءٍ لَمْ يَجِبْ لَهُ، وَبَعْدَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْهَا وَقَبْلَ خُرُوجِ رُوحِهِ الْحَقُّ لَهُ فِي الْقَتْلِ، فَيَصِحُّ عَفْوُهُ عَنْ قَاتِلِهِ وَيَسْقُطُ قَتْلُ الْقَاتِلِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ مَنْ قَالَ لِآخَرَ: اقْطَعْ يَدِي أَوْ أَحْرِقْ ثَوْبِي فَيَفْعَلُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْفَاعِلِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْحَقَّ إنَّمَا يَكُونُ لِلْأَوْلِيَاءِ حَيْثُ لَا عَفْوَ مِنْهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ وَالتَّقْيِيدُ بِقَوْلِهِ: (إنْ لَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ غِيلَةً) بِأَنْ كَانَ لِعَدَاوَةٍ وَهَذَا مُسْتَغْنَى عَنْهُ لِفَهْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ لَا عَفْوَ فِيهِ، إلَّا أَنْ يُقَالَ صَرَّحَ بِهِ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنْ لَا عَفْوَ فِيهِ لِغَيْرِ الْمَقْتُولِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الْعَمْدِ بِقَوْلِهِ: (وَعَفْوُهُ) أَيْ الْمَقْتُولِ وَلَوْ قَبْلَ إنْفَاذِ شَيْءٍ مِنْ مُقَاتِلِهِ. (عَنْ) قَاتِلِهِ عَلَى وَجْهِ (الْخَطَإِ) جَائِزٌ وَيَكُونُ مِنْهُ وَصِيَّةٌ بِالدِّيَةِ لِلْعَاقِلَةِ فَتَكُونُ (فِي ثُلُثِهِ) فَإِنْ حَمَلَهَا نُفِّذَتْ قَهْرًا عَلَى الْوَرَثَةِ، مِثْلُ أَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ أَلْفَانِ مِنْ الدَّنَانِيرِ وَدِيَتُهُ أَلْفًا فَإِنَّ الدِّيَةَ تَسْقُطُ عَنْ عَاقِلِهِ الْقَاتِلِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ سَقَطَ عَنْ الْقَاتِلِ مَعَ عَاقِلَتِهِ ثُلُثُ الدِّيَةِ إلَّا أَنْ تَحِيزَ الْوَرَثَةُ الزَّائِدَ كَسَائِرِ الْوَصَايَا بِالْمَالِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى عَفْوِ الْمَقْتُولِ عَمَّنْ قَتَلَهُ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى عَفْوِ بَعْضِ أَوْلِيَائِهِ فَقَالَ: (وَإِنْ عَفَا) عَنْ الْقَاتِلِ (أَحَدُ الْبَنِينَ) وَمَا فِي حُكْمِهِمْ مِنْ كُلِّ شَخْصَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ مُشْتَرَكِينَ فِي الِاسْتِحْقَاقِ لِتَسَاوِيهِمْ كَأَحَدِ عَمَّيْنِ أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ مُعْتِقَيْنِ. (فَلَا قَتْلَ) لِسُقُوطِهِ بِالْعَفْوِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ إنْ عَفَا رَجُلٌ كَالْبَاقِي، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ الْعَافِي مُسَاوِيًا لِغَيْرِهِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُ الْعَافِي أَقْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا عِبْرَةَ بِعَفْوِهِ كَمَا لَوْ عَفَا الْعَمُّ مَعَ وُجُودِ الْأَخِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْعَافِي أَقْرَبَ فَسُقُوطُ الْقَتْلِ أَوْلَى مِنْ عَفْوِ الْمُسَاوِي، وَإِنَّمَا سَقَطَ الْقَتْلُ بِعَفْوِ بَعْضِ الْمُسْتَحِقِّينَ لِأَنَّ الدَّمَ لَا يَتَبَعَّضُ فَإِذَا سَقَطَ بَعْضُهُ سَقَطَ جَمِيعُهُ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى سُقُوطِهِ قَوْلَهُ: (وَلِمَنْ بَقِيَ) مِنْ مُسْتَحَقِّي الدَّمِ وَامْتَنَعُوا مِنْ الْعَفْوِ (نَصِيبُهُمْ مِنْ الدِّيَةِ) أَيْ دِيَةِ عَمْدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَهْمَا أَسْقَطَ الْبَعْضُ فَلِمَنْ بَقِيَ نَصِيبُهُ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ كَإِرْثِهِ وَلَوْ قِسْطًا مِنْ نَفْسِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَتْلَ إذَا كَانَ عَمْدًا وَعَفَا عَنْ الْقِصَاصِ بَعْضُ الْمُسْتَحَقِّينَ الْمُسْتَوِينَ فِي الدَّرَجَةِ بَعْدَ تَرَتُّبِ الدَّمِ وَثُبُوتِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ أَوْ قَسَامَةٍ فَإِنَّ الْقَوَدَ يَسْقُطُ وَلِمَنْ لَمْ يَعْفُ نَصِيبُهُ مِنْ دِيَةِ عَمْدٍ، وَمُقْتَضَى قَوْلِهِ: فَلِمَنْ بَقِيَ أَنَّ الْعَافِيَ لَا شَيْءَ لَهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ عَفَا عَلَيْهَا صَرِيحًا أَوْ يَظْهَرَ مِنْهُ إرَادَتُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا دِيَةَ لِعَافٍ مُطْلِقٍ إلَّا أَنْ تَظْهَرَ مِنْهُ إرَادَتُهَا فَيَحْلِفَ وَيُبْقَى عَلَى حَقِّهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ سُقُوطِ الْقَتْلِ بِعَفْوِ بَعْضِ الْمُسْتَحَقِّينَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُعْتَبَرُ عَفْوُهُ بِأَنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا. الثَّانِي: مَحَلُّ إسْقَاطِ الْبَاقِي نَصِيبَهُ مِنْ الدِّيَةِ إذَا كَانَ لَهُ التَّكَلُّمُ فِي الْعَفْوِ وَعَدَمِهِ أَوْ مَعَ مَنْ لَهُ التَّكَلُّمُ، مِثَالُ الْأَوَّلِ: عَفْوُ أَحَدِ الْبَنِينَ الذُّكُورِ، وَمِثَالُ الثَّانِي: لَوْ عَفَا أَحَدُ الْبَنِينَ وَمَعَهُمْ بِنْتٌ، وَأَمَّا لَوْ عَفَتْ الْبِنْتُ مَجَّانًا وَمَعَهَا أُخْتٌ فَلَا شَيْءَ لِلْأُخْتِ لِأَنَّهَا لَا تَكَلُّمَ لَهُمَا، لِأَنَّ الْبِنْتَ أَوْلَى مِنْ الْأُخْتِ فِي عَفْوٍ وَضِدِّهِ حَيْثُ كَانَ الْقِصَاصُ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ مِنْ الْجَانِي، وَأَمَّا لَوْ احْتَاجَ إلَى قَسَامَةٍ فَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ اثْنَا عَشْرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ. وَدِيَةُ الْعَمْدِ إذَا قُبِلَتْ خَمْسٌ   [الفواكه الدواني] تُقْسِمُ النِّسَاءُ وَإِنَّمَا تُقْسِمُ الْعَصَبَةُ فَالْقَوْلُ لَهُمْ فِي الْقَتْلِ، وَإِنْ أَرَادُوا الْعَفْوَ فَلَا بُدَّ مِنْ اجْتِمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ بَعْضٍ مِنْ كُلٍّ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَفِي رِجَالٍ وَنِسَاءٍ لَمْ يَسْقُطْ إلَّا بِهِمَا أَوْ بِبَعْضِهِمَا. الثَّالِثُ: فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ نَصِيبُهُمْ بِالْجَمْعِ الْعَائِدِ عَلَى " مَنْ " الْمُفْرَدَةِ لَفْظًا مُرَاعَاةَ الْمَعْنَى كَمَا لَا يَخْفَى وَهُوَ جَائِزٌ نَحْوَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] بِخِلَافِ الْآيَةِ الْأُخْرَى نَحْوَ: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ} [الأنعام: 25] بِإِفْرَادِهِ بِالنَّظَرِ لِلَفْظِهَا. وَلَمَّا قَدَّمَ حُكْمَ عَفْوِ بَعْضِ الذُّكُورِ الْمُتَسَاوِيِينَ فِي الدَّرَجَةِ، شَرَعَ فِي حُكْمِ اجْتِمَاعِ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ وَفِيهِ صُورَتَانِ: إحْدَاهُمَا أَنْ تَكُونَ الْإِنَاثُ فِي دَرَجَةِ الذُّكُورِ وَأَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا عَفْوٌ) مُعْتَبَرٌ (لِلْبَنَاتِ مَعَ الْبَنِينَ) وَلَا لِلْأَخَوَاتِ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَإِنَّمَا الْعَفْوُ وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْعَاصِبِ دُونَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْإِنَاثِ الْمُتَسَاوِيَاتِ. وَالصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ تَكُونَ النِّسَاءُ عَلَى دَرَجَةِ الذُّكُورِ، فَإِنْ كَانَ الْقَتْلُ ثَابِتًا بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافِ الْجَانِي فَالِاسْتِيفَاءُ لِلنِّسَاءِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ بَعْدَ قَوْلِهِ: وَالِاسْتِيفَاءُ لِلْعَاصِبِ وَلِلنِّسَاءِ إنْ وَرِثْنَ وَلَمْ يُسَاوِهِنَّ عَاصِبٌ، وَأَمَّا لَوْ احْتَاجَ الثُّبُوتُ إلَى قَسَامَةٍ فَلَا يُقْسِمُ فِي الْعَمْدِ إلَّا الرِّجَالُ الْعَصَبَةُ وَبَعْدَ ذَلِكَ لِكُلٍّ الْقَتْلُ، وَلَا عَفْوَ إلَّا بِإِجْمَاعِ الْفَرِيقَيْنِ أَوْ الْبَعْضِ مِنْ كُلٍّ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ أَوْلِيَاءَ الدَّمِ إمَّا رِجَالٌ فَقَطْ أَوْ نِسَاءٌ فَقَطْ، وَإِمَّا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ وَقَدْ عَلِمْت حُكْمَ الْجَمِيعِ. (تَنْبِيهٌ) الْإِنَاثُ اللَّاتِي لَهُنَّ مَدْخَلٌ فِي الدَّمِ عَلَى الْمَشْهُورِ الْبَنَاتُ دُونَ بَنَاتِهِنَّ، وَبَنَاتُ الْأَبْنَاءِ الذُّكُورِ وَإِنْ سَفَلُوا دُونَ بَنَاتِهِنَّ، وَالْأَخَوَاتُ الْأَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ وَالْأُمُّ عِنْدَ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ عَفَتْ إحْدَى الْمُتَسَاوِيَاتِ بَعْدَ ثُبُوتِ الدَّمِ بِالْبَيِّنَةِ وَالِاعْتِرَافِ فَالنَّظَرُ لِلْإِمَامِ الْعَادِلِ فِي الْعَفْوِ أَوْ الْقَتْلِ، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ إمَامٌ عَادِلٌ فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ تَنَازَعَتْ بِنْتٌ وَأُخْتٌ فَالْبِنْتُ أَحَقُّ فِي عَفْوٍ وَضِدِّهِ حَيْثُ لَا حَاجَةَ إلَى الْقَسَامَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ إذَا لَمْ يُقْتَصَّ مِنْهُ فَقَالَ: (وَمَنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي) قَتْلِ (الْعَمْدِ) الْعُدْوَانُ أَوْ سَقَطَ عَنْهُ الْقِصَاصُ لِعَدَمِ الْمُكَافَأَةِ بِأَنْ كَانَ الْقَاتِلُ أَعْلَى، بِأَنْ كَانَ زَائِدًا فِي الْحُرِّيَّةِ أَوْ الْإِسْلَامِ، أَوْ وَرِثَ دَمَ نَفْسِهِ وَلَوْ قِسْطًا مِنْهُ مِثْلُ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدُ ابْنَيْنِ أَبَاهُ عَمْدًا ثُمَّ مَاتَ الِابْنُ الْآخَرُ فَإِنَّ الْقَاتِلَ قَدْ وَرِثَ جَمِيعَ دَمِ نَفْسِهِ، وَمِثَالُ إرْثِ الْقِسْطِ أَنْ يَقْتُلَ أَحَدُ الْأَوْلَادِ أَبَاهُ عَمْدًا وَثَبَتَ الْقِصَاصُ عَلَيْهِ لِجَمِيعِ إخْوَتِهِ ثُمَّ يَمُوتُ أَحَدُهُمْ فَإِنَّ الْقِصَاصَ يَسْقُطُ عَنْ الْقَاتِلِ لِأَنَّهُ وَرِثَ بَعْضَ دَمِ نَفْسِهِ، وَلِبَقِيَّةِ إخْوَتِهِ حَظُّهُمْ مِنْ دِيَةِ الْعَمْدِ لِأَنَّ الْإِرْثَ كَالْعَفْوِ. (ضُرِبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ الضَّمِيرُ عَلَى مَنْ الشَّرْطِيَّةِ وَهَذَا جَوَابُهَا. (مِائَةَ) سَوْطٍ رَدْعًا وَزَجْرًا لَهُ وَمِائَةَ بِالنَّصْبِ نِيَابَةً عَنْ الْمَفْعُولِ الْمُطْلَقِ. (وَحُبِسَ عَامًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ أَيْ الْقَاتِلِ مُطْلَقًا جَلْدُ مِائَةٍ ثُمَّ حَبْسُ سَنَةٍ وَإِنْ بِقَتْلِ مَجُوسِيٍّ أَوْ عَبْدٍ، وَيُسْتَفَادُ مِنْ كَلَامِ الْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ أَنَّ الضَّرْبَ مُقَدَّمٌ عَلَى الْحَبْسِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الْقَاتِلِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، أَوْ حُرًّا أَوْ عَبْدًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ فِي تَأْدِيبِهِ تَكْلِيفُهُ، فَإِنَّ عَمَلَ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - مَضَى عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ خَرَّجَ الدَّارَقُطْنِيُّ: «أَنَّ رَجُلًا قَتَلَ عَبْدَهُ فَجَلَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِائَةَ جَلْدَةٍ وَنَفَاهُ سَنَةً وَمَحَا سَهْمَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ» وَصَحَّحَ هَذَا الْحَدِيثَ ابْنُ الْقَطَّانِ، فَيَنْبَغِي لِلْمَالِكِيِّ التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حُجَّةٌ لِلْمَذْهَبِ فِي قَاتِلِ الْعَبْدِ الْعُدْوَانِ إذَا سَقَطَ عَنْهُ الْقَتْلُ بِعَفْوٍ أَوْ عَدَمِ مُكَافَأَةٍ، وَلَعَلَّ قَوْلَ بَعْضِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَبَعْضِ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ تَغْرِيبٍ، وَإِنَّمَا يُحْبَسُ فِي بَلَدِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى عَدَمِ التَّعْوِيلِ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ وَعَدَمِ الْوُقُوفِ عَلَيْهِ. [أَحْكَام الدِّيَة] وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْعَمْدِ الْعُدْوَانُ إنَّمَا فِيهِ الْقِصَاصُ أَوْ الْعَفْوُ مَجَّانًا إلَّا أَنْ يَتَرَاضَيَا عَلَى الدِّيَةِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الدِّيَةُ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَالدِّيَةُ) بِالدَّالِ الْمُهْمَلَةِ الْمُشَدَّدَةِ وَالْيَاءِ الْمُخَفَّفَةِ وَاحِدَةُ الدِّيَاتِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ الْوَدْيِ الَّذِي هُوَ الْهَلَاكُ، وَحَقِيقَتُهَا الِاصْطِلَاحِيَّةُ الشَّامِلَةُ لِلْعَمْدِ وَالْخَطَإِ مِقْدَارٌ مَعْلُومٌ مِنْ الْمَالِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ فِي الْخَطَإِ وَعَلَيْهِ فِي الْعَمْدِ بِسَبَبِ قَتْلِ آدَمِيٍّ حُرٍّ مَعْصُومٍ وَلَوْ بِالنِّسْبَةِ لِقَاتِلِهِ عِوَضًا عَنْ دَمِهِ دَلَّ عَلَى وُجُوبِهَا الْكِتَابُ وَالسَّنَةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَأَمَّا السَّنَةُ فَفِي الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: إنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ الْقَرَافِيُّ، وَلَمَّا كَانَتْ دِيَةُ الْخَطَإِ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْقَاتِلِ قَالَ: (عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ) كَانَ الْمَحَلُّ لِلضَّمِيرِ بِأَنْ يَقُولَ مِنْهَا وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْقَاتِلَ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ يَجِبُ عَلَيْهِ مَعَ عَاقِلَتِهِ دَفْعُهَا مِنْ الْإِبِلِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ مِنْ أَصْحَابِ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ، وَسَيَأْتِي صِفَةُ دَفْعِهَا وَبَيَانُ سِنِّ الْإِبِلِ. (وَ) يَجِبُ (عَلَى) الْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ (أَهْلِ الذَّهَبِ) كَأَهْلِ مِصْرَ وَالشَّامِ (أَلْفُ دِينَارٍ) مِنْ الذَّهَبِ وَزْنُهُ اثْنَانِ وَسَبْعُونَ شَعِيرَةً مُتَوَسِّطَاتٍ. (وَعَلَى) الْقَاتِلِ إذَا كَانَ مِنْ (أَهْلِ الْوَرِقِ) كَأَهْلِ الْعِرَاقِ وَفَارِسَ وَالرُّومِ. (اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ) وَزْنُ الدِّرْهَمِ خَمْسُونَ وَخَمْسٌ شَعِيرَةً فَصَرْفُ دِينَارِ الدِّيَةِ اثْنَا عَشَرَ دِرْهَمًا كَدِينَارِ السَّرِقَةِ وَالنِّكَاحِ، بِخِلَافِ دِينَارِ الْجِزْيَةِ وَالزَّكَاةِ فَصَرْفُهُ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَأَمَّا دِينَارُ الصَّرْفِ فَلَا يَنْضَبِطُ وَإِلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وَعِشْرُونَ حِقَّةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ. وَدِيَةُ الْخَطَإِ خَمْسَةٌ عِشْرُونَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ وَعِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا. وَإِنَّمَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْأَبِ يَرْمِي ابْنَهُ بِحَدِيدَةٍ فَيَقْتُلُهُ فَلَا يُقْتَلُ بِهِ وَيَكُونُ عَلَيْهِ ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ خِلْفَةً فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا وَقِيلَ ذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقِيلَ   [الفواكه الدواني] بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَعَلَى الشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِيِّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ إلَّا فِي الْمُثَلَّثَةِ فَيُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ الدِّيَتَيْنِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ أَهْلَ الْبَوَادِي فِي كُلِّ إقْلِيمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ عِنْدَهُمْ إلَّا الْخَيْلُ وَالْبَقَرُ فَلَا نَصَّ، وَالظَّاهِرُ تَكْلِيفُهُمْ بِمَا يَجِبُ عَلَى حَاضِرَتِهِمْ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرَنَا أَنَّ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ فِي دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ بَعْدُ: وَدِيَةُ الْعَمْدِ، وَكَوْنُ دِيَةِ الْخَطَإِ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ مِنْ سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا خِلَافَ فِيهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ الْقِيَاسُ خِلَافَ ذَلِكَ، إذْ لَا يَحْمِلُ أَحَدٌ جِنَايَةَ أَحَدٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286] {وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] وَالْجَاعِلُ لَهَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَيْثُ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «إنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ» وَالْجَاعِلُ لَهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَاثْنَيْ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ. وَرُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا أَنَّهُ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «إنَّ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَلْفُ دِينَارٍ» . وَفِي الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الْأَمْرُ الْمَجْمَعُ عَلَيْهِ عِنْدَنَا أَنَّهُ لَا يُقْبَلُ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فِي الدِّيَةِ إبِلٌ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الْعَمُودِ ذَهَبٌ وَلَا وَرِقٌ، وَلَا مِنْ أَهْلِ الذَّهَبِ وَرِقٌ وَلَا إبِلٌ، أَيْ فَدَفْعُهَا مِنْ تِلْكَ الْأَنْوَاعِ وَاجِبٌ، وَلَعَلَّ هَذَا عِنْدَ الْإِمْكَانِ كَمَا يُؤْخَذُ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ فِي التَّنْبِيهِ الْأَوَّلِ. وَلَمَّا كَانَ الْكَلَامُ الْمُتَقَدِّمُ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ قَالَ: (وَدِيَةُ) الْحُرِّ الْمُسْلِمِ الذَّكَرِ (الْعَمْدِ إذَا قُبِلَتْ) بِأَنْ حَصَلَ عَفْوٌ عَلَيْهَا أَوْ تَعَذَّرَ الْقِصَاصُ لِفَقْدِ الْمُمَاثَلَةِ فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ (خَمْسٌ وَعِشْرُونَ حِقَّةً) وَهِيَ بِنْتُ أَرْبَعِ سِنِينَ (وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ جَذَعَةً) وَهِيَ بِنْتُ خَمْسِ سِنِينَ. (وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ) وَهِيَ بِنْتُ ثَلَاثِ سِنِينَ (وَخَمْسٌ وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ) وَهِيَ بِنْتُ سَنَتَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُبِّعَتْ فِي عَمْدٍ بِحَذْفِ ابْنِ اللَّبُونِ فَهِيَ نَاقِصَةٌ عَنْ دِيَةِ الْخَطَإِ بِالنِّسْبَةِ لِلْأَنْوَاعِ وَإِنْ كَانَتْ الْعِدَّةُ وَاحِدَةً، وَإِنَّمَا أُخِذَتْ مِنْ الْأَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ تَغْلِيظًا عَلَى الْقَاتِلِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ لَا تُغَلَّظُ بِالتَّرْبِيعِ إلَّا عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَلَا تُغَلَّظُ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ وَلَا الْوَرِقِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ تُغَلَّظُ، وَصِفَةُ تَغْلِيظِهَا أَنْ تُقَوَّمَ دِيَةُ الْعَمْدِ مِنْ الْإِبِلِ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَنْوَاعٍ وَحَالَةٌ، وَعَلَى أَنَّهَا مِنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ وَمُؤَجَّلَةٌ، فَإِذَا قِيلَ: قِيمَةُ دِيَةِ الْخَطَإِ الْمُخَمَّسَةُ مِائَةٌ وَالْمُغَلَّظَةُ لِمُرَبَّعَةِ قِيمَتِهَا مِائَةٌ وَعِشْرُونَ فَبِتِلْكَ النِّسْبَةِ يُزَادُ عَلَى قَاتِلِ الْعَمْدِ، فَيُزَادُ عَلَى الدِّيَةِ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْوَرِقِ مِثْلُ خُمُسِهَا. الثَّانِي: إنَّمَا قَالَ إذَا قُبِلَتْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ قَتْلَ الْعَمْدِ لَا شَيْءَ فِيهِ إلَّا الْقِصَاصَ أَوْ الْعَفْوَ مَجَّانًا، إلَّا أَنْ يُطِيعَ الْجَانِي بِدَفْعِ الدِّيَةِ وَيَقْبَلَهَا الْمُسْتَحَقُّ لِدَمِ الْقَاتِلِ، لِأَنَّ الْوَلِيَّ إذَا طَلَبَهَا وَامْتَنَعَ الْقَاتِلُ مِنْ دَفْعِهَا لَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِهَا خِلَافًا لِأَشْهَبَ. [مِقْدَار الدِّيَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى دِيَةِ الْعَمْدِ شَرَعَ فِي دِيَةِ الْخَطَإِ فَقَالَ: (وَدِيَةُ) الذَّكَرِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ (الْخَطَإِ) عَلَى الْقَاتِلِ الْبَادِي (خَمْسَةٌ) أَيْ تُؤْخَذُ مِنْ خَمْسَةِ أَنْوَاعٍ. (عِشْرُونَ مِنْ كُلِّ مَا ذَكَرْنَاهُ) مِنْ الْأَسْنَانِ فَيَجِبُ عِشْرُونَ حِقَّةً وَعِشْرُونَ جَذَعَةً وَعِشْرُونَ بِنْتَ مَخَاضٍ وَعِشْرُونَ بِنْتَ لَبُونٍ. (وَ) يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ (عِشْرُونَ ابْنَ لَبُونٍ ذَكَرًا) قَالَ خَلِيلٌ: وَدِيَةُ الْخَطَإِ عَلَى الْبَادِئِ مُخَمَّسَةٌ بِنْتُ مَخَاضٍ وَوَلَدُ لَبُونٍ وَحِقَّةٌ وَجَذَعَةٌ، وَإِنَّمَا خُمِّسَتْ دِيَةُ الْخَطَإِ رِفْقًا بِمُؤَدِّيهَا، وَأَوَّلُ مَنْ سَنَّهَا مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ عَلَى الْإِطْلَاقِ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ وَقِيلَ النَّضْرُ بْنُ كِنَانَةَ، وَأَقَرَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ، فَقَدْ كَتَبَ لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ كُلَّ نَفْسِ آدَمِيٍّ مِائَةٌ» وَلَمَّا كَانَتْ الدِّيَةُ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: مُخَمَّسَةٌ وَهِيَ دِيَةُ الْخَطَإِ، وَمُرَبَّعَةٌ وَهِيَ دِيَةُ الْعَمْدِ إذَا قُبِلَتْ وَكَانَ الْقَاتِلُ لَيْسَ أَصْلًا لِلْمَقْتُولِ، وَمُثَلَّثَةٌ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا قَتَلَ الْأَصْلُ وَإِنْ عَلَا فَرْعَهُ وَإِنْ سَفَلَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ شَرَعَ فِي الْأَوَّلِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا تُغَلَّظُ الدِّيَةُ فِي الْأَبِ) الْمُرَادُ الْأَصْلُ وَإِنْ عَلَا فَيَشْمَلُ الْأَجْدَادَ وَالْجَدَّاتِ. (يَرْمِي ابْنَهُ) أَيْ فَرْعَهُ وَإِنْ سَفَلَ (بِحَدِيدَةٍ) أَوْ غَيْرِهَا (فَيَقْتُلُهُ) مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ مِنْهُ لِقَتْلِهِ. (فَلَا يُقْتَلُ بِهِ) لِحُرْمَةِ الْأُبُوَّةِ وَلَكِنْ تُغَلَّظُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ بِالتَّثْلِيثِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَثُلِّثَتْ فِي الْأَبِ وَلَوْ مَجُوسِيًّا فِي عَمْدٍ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَذَلِكَ بِأَنْ لَا يَقْصِدَ إزْهَاقَ رُوحِهِ بِفِعْلٍ لَيْسَ شَأْنَهُ الْقَتْلَ لَا إنْ قَتَلَهُ خَطَأً فَتَكُونُ دِيَتُهُ مُخَمَّسَةً كَغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ، وَلَا إنْ قَصَدَ قَتْلَهُ أَوْ فَعَلَ بِهِ شَيْئًا شَأْنُهُ الْقَتْلُ بِأَنْ ذَبَحَهُ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 ذَلِكَ فِي مَالِهِ. وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ. وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْكِتَابِيِّينَ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ. وَالْمَجُوسِيُّ دِيَتُهُ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ وَدِيَةُ جِرَاحِهِمْ كَذَلِكَ. وَفِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ وَكَذَلِكَ فِي   [الفواكه الدواني] شَقَّ جَوْفَهُ وَإِلَّا قُتِلَ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَصْلَ لَا يُقْتَلُ بِفَرْعِهِ إلَّا إذَا اعْتَرَفَ بِقَصْدِ قَتْلِهِ أَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا شَأْنُهُ الْقَتْلُ بِأَنْ ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ، وَبَيَّنَ صِفَةَ التَّثْلِيثِ بِقَوْلِهِ: (وَ) حَيْثُ قُلْنَا لَا يُقْتَلُ بِهِ (يَكُونُ عَلَيْهِ) أَيْ الْأَصْلَ دُونَ عَاقِلَتِهِ لِوَارِثِ فَرْعِهِ الْمَقْتُولِ. (ثَلَاثُونَ جَذَعَةً وَثَلَاثُونَ حِقَّةً وَأَرْبَعُونَ خَلِفَةً) بِكَسْرِ اللَّامِ وَفَسَّرَهَا بِقَوْلِهِ: (فِي بُطُونِهَا أَوْلَادُهَا) فَهَذِهِ جُمْلَةُ الْمِائَةِ، وَإِنَّمَا غَلَّظْنَا عَلَى الْأَبِ بِالتَّثْلِيثِ وَلَمْ يُقْتَلْ بِفَرْعِهِ، لِأَنَّ مُتَوَسِّطٌ بَيْنَ الْعَمْدِ وَالْخَطَإِ، لِأَنَّ تَعَمُّدَ الرَّمْيِ يُنَاسِبُهُ التَّغْلِيظُ، وَمَا عِنْدَهُ مِنْ الْحَنَانِ وَالشَّفَقَةِ يُنَاسِبُهُ إسْقَاطُ الْقَتْلِ كَالْخَطَإِ. (وَقِيلَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي دِيَةِ الْفَرْعِ. (عَلَى عَاقِلَتِهِ) أَيْ عَاقِلَةِ الْأَصْلِ وَهِيَ عَصَبَتُهُ وَلَوْ بِالْوَلَاءِ وَلَوْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِنَّمَا عَلَيْهِ كَوَاحِدٍ مِنْهُمْ (وَقِيلَ ذَلِكَ فِي مَالِهِ) إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا فَعَلَى عَاقِلَتِهِ، فَجُمْلَةُ الْأَقْوَالِ ثَلَاثَةٌ وَالرَّاجِحُ الْأَوَّلُ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ تَثْلِيثِهَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ يُقَالُ لَهُ قَتَادَةُ حَذَفَ ابْنَهُ بِسَيْفٍ فَأَصَابَ سَاقَهُ فَنَزَا جُرْحُهُ حَتَّى مَاتَ، فَقَدِمَ سُرَاقَةُ بْنُ جُعْشُمٍ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ فَقَالَ عُمَرُ: اُعْدُدْ لِي عَلَى مَاءِ قَدِيدٍ عِشْرِينَ وَمِائَةَ بَعِيرٍ حَتَّى أَقْدَمَ عَلَيْك، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ أَخَذَ مِنْ تِلْكَ الْإِبِلِ ثَلَاثِينَ حِقَّةً وَثَلَاثِينَ جَذَعَةً وَأَرْبَعِينَ خَلِفَةً ثُمَّ قَالَ: أَيْنَ أَخُو الْمَقْتُولِ؟ فَقَالَ: هَا أَنَا ذَا، فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: قَالَ: «لَيْسَ لِلْقَاتِلِ مِنْ مَقْتُولِهِ شَيْءٌ» وَفِي غَيْرِ الْمُوَطَّإِ: دَعَا أُمَّ الْمَقْتُولِ وَأَخَاهُ فَدَفَعَهَا إلَيْهِمَا ثُمَّ قَالَ عُمَرُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا مِمَّنْ قَتَلَ» . (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى تَغْلِيظِهَا بِالتَّثْلِيثِ عَلَى الْأَصْلِ إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِبِلِ، وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى مَا إذَا كَانَ الْأَبُ مِنْ أَهْلِ النَّقْدِ وَفِي تَغْلِيظِهَا عَلَيْهِ خِلَافٌ، وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهَا تُغَلَّظُ عَلَيْهِ أَيْضًا، وَمَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَعَلَى الشَّامِيِّ وَالْمِصْرِيِّ وَالْمَغْرِبِيِّ أَلْفُ دِينَارٍ، وَعَلَى الْعِرَاقِيِّ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَلَا يُزَادُ عَلَى ذَلِكَ إلَّا فِي الْمُثَلَّثَةِ فَيُزَادُ نِسْبَةُ مَا بَيْنَ الدِّيَتَيْنِ، لِأَنَّهُ لَا طَرِيقَ لَنَا إلَى مَعْرِفَةِ التَّغْلِيظِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ إلَّا هَذَا الْمِيزَانُ، فَتُقَوَّمُ الْمُثَلَّثَةُ حَالَةً وَالْمُخَمَّسَةُ عَلَى تَأْجِيلِهَا، وَيُؤْخَذُ مَا زَادَتْهُ الْمُثَلَّثَةُ عَلَى الْمُخَمَّسَةِ وَيُنْسَبُ إلَى الْمُخَمَّسَةِ، فَمَا بَلَغَ بِالنِّسْبَةِ يُزَادُ عَلَى الدِّيَةِ بِتِلْكَ النِّسْبَةِ، فَإِذَا قِيلَ: الْمُخَمَّسَةُ عَلَى أَجَلِهَا تُسَاوِي مِائَةً وَالْمُثَلَّثَةُ عَلَى حُلُولِهَا تُسَاوِي مِائَةً وَعِشْرِينَ، فَإِنَّهُ يَزْدَادُ عَلَى الدِّيَةِ الْمُخَمَّسَةِ مِثْلُ خُمُسِهَا، فَتَكُونُ مِنْ الذَّهَبِ أَلْفًا وَمِائَتَيْنِ مِنْ الْوَرِقِ أَرْبَعَةَ عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ وَأَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمُرَبَّعَةَ لَا تُغَلَّظُ إلَّا مِنْ الْإِبِلِ، لَا إنْ كَانَتْ دِيَةُ الْعَمْدِ مِنْ الْعَيْنِ فَلَا تُغَلَّظُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنَّمَا يَدْفَعُ الْجَانِي أَلْفَ دِينَارٍ أَوْ الْاِثْنَا عَشَرَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ نَصِّ خَلِيلٍ أَنَّ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ لَا يَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمِ بَلْ لَوْ فَعَلَهُ الْكَافِرُ بِابْنِهِ وَتَرَافَعُوا إلَيْنَا لَغُلِّظَتْ عَلَى الْأَبِ الدِّيَةُ وَلَوْ كَانَ مَجُوسِيًّا، وَلَفْظُ خَلِيلٍ وَتُثَلَّثُ فِي الْأَبِ وَلَوْ مَجُوسِيًّا فِي عَمْدٍ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ الذَّكَرِ الْمُسْلِمِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مِقْدَارِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ فَقَالَ: (وَدِيَةُ الْمَرْأَةِ) الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ (عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ) الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَتَكُونُ مُخَمَّسَةً فِي الْخَطَإِ عَلَى أَهْلِ الْإِبِلِ عَشَرَةٌ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ، وَفِي الْعَمْدِ اثْنَا عَشَرَ وَنِصْفٌ، وَفِي الْمُغَلَّظَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ مِنْ كُلِّ صِنْفٍ وَعِشْرُونَ خَلِفَةً، وَعَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ سِتَّةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ. (وَكَذَلِكَ دِيَةُ الْكِتَابِيِّينَ) عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِ الْمُسْلِمِينَ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَقْلُ الْكَافِرِ نِصْفُ عَقْلِ الْمُؤْمِنِ» وَأَهْلُ الْكِتَابِ هُمْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. (وَنِسَاؤُهُمْ) فِي الدِّيَةِ (عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) أَيْ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُنْثَى كُلٍّ كَنِصْفِهِ، فَدِيَةُ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ خَمْسَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَخَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ مِنْ الذَّهَبِ، وَسِتَّةُ آلَافٍ دِرْهَمٍ مِنْ الْوَرِقِ، وَهَكَذَا دِيَةُ نِسَاءِ أَهْلِ الْكِتَابِ عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ رِجَالِهِمْ، وَأَمَّا غَيْرُ أَهْلِ الْكِتَابِ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْمَجُوسِيُّ) وَمِثْلُهُ الْمُرْتَدُّ (دِيَتُهُ ثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَنِسَاؤُهُمْ عَلَى النِّصْفِ مِنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ مِنْ الْمَجُوسِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَجُوسُ وَالْمُرْتَدُّ ثُلُثُ خُمُسِ الدِّيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، وَثُلُثُ الْخُمُسِ مِنْ الذَّهَبِ سِتَّةٌ وَسِتُّونَ دِينَارًا وَثُلُثَا دِينَارٍ، وَمِنْ الْإِبِلِ سِتَّةُ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثَا بَعِيرٍ، فَتَكُونُ دِيَةُ الْمُرْتَدَّةِ وَمِثْلُهَا الْمَجُوسِيَّةُ مِنْ الْوَرِقِ أَرْبَعَمِائَةِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ الذَّهَبِ ثَلَاثَةً وَثَلَاثِينَ دِينَارًا وَثُلُثَ دِينَارٍ، وَمِنْ الْإِبِلِ ثَلَاثَةَ أَبْعِرَةٍ وَثُلُثَ بَعِيرٍ، وَقَوْلُهُ: (وَدِيَةُ جِرَاحِهِمْ كَذَلِكَ) قَصَرَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ عَلَى نِسَاءِ الْمَجُوسِ، وَذَكَرَ الضَّمِيرَ لِتَأَوُّلِهِمْ بِالْأَشْخَاصِ، وَمَعْنَى كَذَلِكَ أَنَّهَا عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ جِرَاحِ الذَّكَرِ الْمَجُوسِيِّ، وَهَذَا يَقْتَضِي عَدَمَ مُسَاوَاةِ الْأُنْثَى لِلذَّكَرِ مِنْهُمْ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ وَهُوَ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: وَتُعَاقِلُ الرَّجُلَ الْمَرْأَةُ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا رَجَعَتْ إلَى عَقْلِهَا، فَإِنَّ ظَاهِرَهُ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الشُّرَّاحُ: أَنَّ كُلَّ امْرَأَةٍ تُسَاوِي الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا فِي دِيَةِ الْجِرَاحِ إلَى بُلُوغِ الثُّلُثِ، فَإِذَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 الرِّجْلَيْنِ أَوْ الْعَيْنَيْنِ وَفِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا نِصْفُهَا وَفِي الْأَنْفِ يُقْطَعُ مَارِنُهُ الدِّيَةُ وَفِي السَّمْعِ وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ وَفِي الصُّلْبِ يُكْسَرُ الدِّيَةُ وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ الدِّيَةُ وَفِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ وَفِيمَا مَنَعَ مِنْهُ الْكَلَامَ الدِّيَةُ وَفِي ثَدْيِي الْمَرْأَةِ الدِّيَةُ وَفِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةُ. [دِيَةِ الْأَطْرَافِ وَالْمَعَانِي] وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ وَفِي   [الفواكه الدواني] بَلَغَتْ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ تَرْجِعُ لِدِيَتِهَا فَتَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِثْنَاءِ مَجُوسِيَّةٍ وَلَا كِتَابِيَّةٍ، فَلَعَلَّ مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: وَدِيَةُ جِرَاحِهِمْ كَذَلِكَ أَيْ فِي الْجُمْلَةِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهَا تُسَاوِيهِ فِيمَا دُونَ الثُّلُثِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ كَذَلِكَ أَيْ عَلَى النِّصْفِ مَحْمُولًا عَلَى مَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْوَاجِبُ ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ، وَحِينَئِذٍ لَا وَجْهَ لِقَصْرِ كَلَامِهِ عَلَى نِسَاءِ الْمَجُوسِ، بَلْ يَكُونُ كَلَامُهُ عَامًا فِي جُرْحِ نِسَاءِ كُلِّ فَرِيقٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِخْرَاجُ نِسَاءِ الْمَجُوسِ مِنْ عُمُومِ تَعَاقُلِ الْمَرْأَةِ إلَخْ يَحْتَاجُ إلَى نَقْلٍ صَرِيحٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَاوَتْ الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ لِثُلُثِ دِيَتِهِ فَتَرْجِعُ لِدِيَتِهَا، قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ أَنَّ الْمَرْأَةَ تُسَاوِي الرَّجُلَ مِنْ أَهْلِ دِينِهَا إلَى ثُلُثِ دِيَتِهِ فَتَرْجِعُ حِينَئِذٍ إلَى دِيَتِهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى دِيَةِ النَّفْسِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى دِيَةِ الْأَطْرَافِ وَالْمَعَانِي فَقَالَ: (وَ) تَجِبُ (فِي الْيَدَيْنِ الدِّيَةُ) كَامِلَةً بِسَبَبِ قَطْعِهِمَا خَطَأً أَوْ عَمْدًا وَسَقَطَ الْقِصَاصُ بِمَا يُسْقِطُهُ، سَوَاءٌ قَطَعَهُمَا الْجَانِي مِنْ الْكُوعَيْنِ أَوْ الْمِرْفَقَيْنِ أَوْ الْمَنْكِبَيْنِ. (وَكَذَلِكَ) تَجِبُ الدِّيَةُ (فِي الرِّجْلَيْنِ) قَطَعَهُمَا مِنْ الْكَعْبِ وَالْوِرْكِ، وَمِثْلُ الْقَطْعِ إزَالَةُ الْمَنْفَعَةِ مِنْ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ وَلَوْ أَنْزَلَ بِهِمَا الرَّعْشَةَ. (أَوْ) كَذَلِكَ تَجِبُ الدِّيَةُ فِي (الْعَيْنَيْنِ) قَلَعَهُمَا أَوْ أَزَالَ نُورَهُمَا، وَالْعُضْوُ الضَّعِيفُ كَالصَّحِيحِ فِي الْقِصَاصِ وَالدِّيَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالضَّعِيفُ مِنْ عَيْنٍ وَرِجْلٍ وَنَحْوِهِمَا خِلْقَةً كَغَيْرِهِ، وَكَذَا الْمَجْنِيُّ عَلَيْهَا إنْ لَمْ يَأْخُذْ عَقْلًا وَإِلَّا فَبِحِسَابِهِ. (وَ) يَجِبُ (فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ (نِصْفُهَا) أَيْ الدِّيَةُ فَمَنْ قَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا وَسَقَطَ الْقِصَاصُ فَعَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ فِي مَالِهِ أَوْ عَاقِلَتِهِ فِي الْخَطَإِ، وَكَذَا كُلُّ مُزْدَوِجَيْنِ إلَّا فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ فَإِنَّ فِيهَا الدِّيَةَ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. (وَ) كَذَلِكَ يَجِبُ (فِي الْأَنْفِ يَقْطَعُ مَارِنَهُ) وَهُوَ مَا لَانَ مِنْهُ وَيُسَمَّى بِالْأَرْنَبَةِ (الدِّيَةُ) وَفِي قَطْعِ بَعْضِهِ بِحِسَابِهِ، وَيُقَاسُ مِنْ الْمَارِنِ لَا مِنْ أَصْلِ الْأَنْفِ. (وَ) كَذَا يَجِبُ (فِي) إذْهَابِ (السَّمْعِ الدِّيَةُ) وَإِذَا أَذْهَبَهُ مِنْ إحْدَى الْأُذُنَيْنِ لَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ يَسْمَعُ إلَّا بِأُذُنٍ وَأَذْهَبَهُ إنْسَانٌ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ نِصْفُ الدِّيَةِ لِأَنَّ الْأُذُنَ الْوَاحِدَةَ فِي السَّمْعِ لَيْسَتْ كَعَيْنِ الْأَعْوَرِ. (وَ) كَذَلِكَ يَجِبُ (فِي) إزَالَةِ (الْعَقْلِ الدِّيَةُ) سَوَاءٌ زَالَ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، فَلَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا فَصَارَ يُجَنُّ فِي الشَّهْرِ يَوْمًا مَعَ لَيْلَتِهِ فَإِنَّهُ يَجِبُ لَهُ مِنْ الدِّيَةِ جُزْءٌ مِنْ ثَلَاثِينَ جُزْءًا، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ النَّهَارَ فَقَطْ أَوْ اللَّيْلَ فَقَطْ مَرَّةً فِي الشَّهْرِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لَهُ جُزْءٌ مِنْ سِتِّينَ جُزْءًا، أَوْ مَحَلُّ الْعَقْلِ الْقَلْبُ عَلَى الْمَشْهُورِ لَا الرَّأْسُ فَإِذَا ضَرَبَهُ وَاضِحَةً فَذَهَبَ عَقْلُهُ فَيَلْزَمُهُ دِيَةٌ كَامِلَةٌ لِلْعَقْلِ وَنِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ دِيَةُ الْمُوضِحَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَعَلَى الْآخَرِ لَا يَلْزَمُهُ إلَّا دِيَةُ الْعَقْلِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: إلَّا الْمَنْفَعَةَ بِمَحَلِّهَا. (وَ) كَذَلِكَ يَجِبُ (فِي الصُّلْبِ) أَيْ الظُّهْرِ (يُكْسَرُ الدِّيَةُ) ظَاهِرُ كَلَامِهِ لُزُومُ الدِّيَةِ فِي كَسْرِ الصُّلْبِ وَلَوْ قَدَرَ عَلَى الْجُلُوسِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَوْ فَعَلَ بِهِ فِعْلًا أَذْهَبَ قِيَامَهُ وَجُلُوسَهُ، وَأَمَّا لَوْ ذَهَبَ مَعَ ذَلِكَ قُوَّةُ الْجِمَاعِ لَلَزِمَهُ دِيَتَانِ. (وَ) يَلْزَمُ (فِي الْأُنْثَيَيْنِ) يَقْطَعُهُمَا خَطَأً أَوْ يَرُضُّهُمَا مُطْلَقًا (الدِّيَةُ) وَإِنْ قَطَعَهُمَا مَعَ الذَّكَرِ لَزِمَهُ دِيَتَانِ، وَأَمَّا لَوْ قَطَعَ أَوْ رَضَّ وَاحِدَةً مِنْ الْأُنْثَيَيْنِ لَلَزِمَهُ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَأَمَّا لَوْ قَطَعَ الْأُنْثَيَيْنِ عَمْدًا لَوَجَبَ الْقِصَاصُ. (وَ) يَلْزَمُ (فِي) قَطْعِ (الْحَشَفَةِ) وَهِيَ رَأْسُ الذَّكَرِ (الدِّيَةُ) وَفِي قَطْعِ بَعْضِهَا بِالْحِسَابِ، وَيُقَاسُ مِنْ طَرَفِ الْحَشَفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْمَارِنِ لَا مِنْ أَصْلِ الذَّكَرِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لُزُومُ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ وَحْدَهَا أَوْ مَعَ الذَّكَرِ وَلَوْ ذَكَرَ عِنِّينٍ وَهُوَ مَنْ لَا يَسْتَطِيعُ الْجِمَاعَ لِصِغَرِهِ أَوْ اعْتِرَاضِهِ وَلَوْ لِشَيْخٍ فَانٍ، وَأَمَّا ذَكَرُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَيَلْزَمُ فِيهِ نِصْفُ دِيَةٍ وَنِصْفُ حُكُومَةٍ، وَفُهِمَ مِنْ لُزُومِ الدِّيَةِ فِي قَطْعِ الْحَشَفَةِ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُ عَسِيبٌ بِلَا حَشَفَةٍ وَقَطَعَهُ شَخْصٌ فَلَا يَلْزَمُهُ إلَّا الْحُكُومَةُ كَقَطْعِ كَفِّ مُجَرَّدٍ عَنْ الْأَصَابِعِ. (وَ) كَذَا يَلْزَمُ (فِي اللِّسَانِ) النَّاطِقِ صَاحِبُهُ (الدِّيَةُ) كَامِلَةً (وَ) كَذَا يَلْزَمُ (فِي) أَيْ بِسَبَبِ فِعْلِ (مَا مَنَعَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ اللِّسَانِ (الْكَلَامَ الدِّيَةُ) فَإِنْ قَطَعَ مِنْهُ شَيْئًا وَلَمْ يَمْنَعْ نُطْقَهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ لِأَنَّ الدِّيَةَ لِلنُّطْقِ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَطَعَ لِسَانَ أَخْرَسِ إنَّمَا تَلْزَمُهُ حُكُومَةٌ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ دِيَةُ الذَّوْقِ وَهُوَ كَذَلِكَ؛ بِخِلَافِ مَا إذَا ذَهَبَ مِنْهُ الذَّوْقُ مَعَ بَقَائِهِ أَوْ ذَهَبَ صَوْتُهُ فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ دِيَةُ ذَلِكَ الذَّاهِبِ، وَأَمَّا لَوْ قَطَعَ اللِّسَانَ فَذَهَبَ ذَوْقُهُ وَصَوْتُهُ فَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ دِيَةٌ وَاحِدَةٌ، لِأَنَّ الْمَحَلَّ الذَّاهِبَ بِالْجِنَايَةِ إنَّمَا تَجِبُ دِيَتُهُ لَا دِيَةُ مَا فِيهِ. (وَ) كَذَا يَلْزَمُ (فِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ) الْمُرَادُ الْأُنْثَى الْكَبِيرَةُ (الدِّيَةُ) فِي قَطْعِهِمَا وَلَوْ كَانَتْ عَجُوزًا فَانِيَةً لِأَنَّ الثَّدْيَ فِيهِ جَمَالٌ لِصَدْرِهَا، وَأَمَّا لَوْ قَطَعَ الْحَلَمَتَيْنِ فَإِنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ الدِّيَةُ إلَّا إذَا بَطَلَ اللَّبَنُ أَوْ أَفْسَدَهُ، وَأَمَّا لَوْ قَطَعَ حَلَمَتَيْ امْرَأَةٍ صَغِيرَةٍ فَتَجِبُ الدِّيَةُ إنْ تَحَقَّقَ انْقِطَاعُ اللَّبَنِ، وَإِنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ إبْطَالُ اللَّبَنِ فَإِنَّهُ يَسْتَأْنِي بِهِمَا، فَإِنْ لَمْ يَجْرِ لَهَا لَبَنٌ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، فَإِنْ بَرِئَ الثَّدْيُ بَعْدَ أَخْذِ دِيَتِهِ فَإِنَّ الدِّيَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الْأُنْمُلَةِ ثَلَاثٌ وَثُلُثٌ وَفِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ الْإِبْهَامَيْنِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْمُنَقِّلَةِ عَشْرٌ وَنِصْفُ عُشْرٍ، وَالْمُوضِحَةُ مَا أَوْضَحَ الْعَظْمَ وَالْمُنَقِّلَةُ مَا طَارَ فِرَاشُهَا مِنْ الْعَظْمِ وَلَمْ تَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ وَمَا وَصَلَ إلَيْهِ فَهِيَ الْمَأْمُومَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ   [الفواكه الدواني] تُرَدُّ، وَإِنْ مَاتَتْ زَمَنَ الِاسْتِينَاءِ وَجَبَتْ الدِّيَةُ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيمَا ذَهَبَ عَدَمُ الْعَوْدِ، وَمَفْهُومُ ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ أَنَّ ثَدْيَيْ الرَّجُلِ لَا دِيَةَ فِيهِمَا وَإِنَّمَا فِيهِمَا حُكُومَةٌ. (وَ) كَذَا تَجِبُ (فِي عَيْنِ الْأَعْوَرِ الدِّيَةُ) كَامِلَةً طَمَسَهَا أَوْ ذَهَبَ نُورُهَا، وَفَرَّقَ ابْنُ الْقَاسِمِ بَيْنَ عَيْنِ الْأَعْوَرِ وَبَيْنَ نَحْوِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ بِالسُّنَّةِ، وَبَحَثَ فِي كَلَامِهِ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ قَائِلًا: السُّنَّةُ مَعَ الْمُخَالِفِ وَأَنَّ فِيهَا وَفِي الْعَيْنِ خَمْسِينَ، وَلِذَا قَالَ فِي التَّوْضِيحِ: أَرَادَ بِالسُّنَّةِ قَوْلَ ابْنِ شِهَابٍ هِيَ السُّنَّةُ، وَبِهِ قَضَى عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَغَيْرُهُمَا، لَا لِانْتِقَالِ الْبَصَرِ إلَيْهَا لِأَنَّهُ خِلَافُ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ، لِأَنَّ الْبَصَرَ عَرَضٌ وَالْأَعْرَاضُ لَا تَنْتَقِلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ لُزُومِ الدِّيَةِ فِي تِلْكَ الْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ الْمَذْكُورَةِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ أَنَّ فِي الْكِتَابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ مِائَةٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ وَفِي الْجَائِفَةِ مِثْلُهَا، وَفِي الْعَيْنِ خَمْسُونَ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْيَدِ خَمْسُونَ، وَفِي الرِّجْلِ خَمْسُونَ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِمَّا هُنَاكَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» وَفِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ وَغَيْرِهِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي بَعَثَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَهْلِ الْيَمَنِ مَعَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ: «أَنَّ فِي النَّفْسِ مِائَةً مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْأَنْفِ إذَا أُوعِبَ جَدْعُهُ الدِّيَةُ، وَفِي اللِّسَانِ الدِّيَةُ، وَفِي الشَّفَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ، وَفِي الصَّدْرِ الدِّيَةُ، وَفِي الْعَيْنَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الرِّجْلِ الْوَاحِدَةِ نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمَأْمُومَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْجَائِفَةِ ثُلُثُ الدِّيَةِ، وَفِي الْمُنَقِّلَةِ خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي كُلِّ إصْبَعٍ مِنْ أَصَابِعِ الْيَدِ أَوْ الرِّجْلِ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي السِّنِّ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي الْمُوضِحَةِ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ» . وَفِي رِوَايَةِ غَيْرِ الْمُوَطَّإِ: «وَفِي الْعَقْلِ الدِّيَةُ» . وَفِي النَّسَائِيّ: «وَفِي الْبَيْضَتَيْنِ الدِّيَةُ، وَفِي الذَّكَرِ الدِّيَةُ» . وَبَعْضُ الطُّرُقِ: «وَفِي الْحَشَفَةِ الدِّيَةُ» . (تَتِمَّةٌ) لَوْ دُفِعَتْ الدِّيَةُ فِي نَحْوِ الْعَقْلِ أَوْ السَّمْعِ أَوْ الْبَصَرِ أَوْ غَيْرِهِمَا مِنْ الْمَنَافِعِ ثُمَّ رَجَعَ الْمَعْنَى الَّذِي كَانَ قَدْ ذَهَبَ فَإِنَّ الدِّيَةَ، تَرُدُّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُدَّ فِي عَوْدِ الْبَصَرِ وَقُوَّةِ الْجِمَاعِ وَمَنْفَعَةِ اللَّبَنِ، وَفِي الْأُذُنِ إنْ ثَبَتَتْ تَأْوِيلَانِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى دِيَةِ الْأَعْضَاءِ وَالْمَنَافِعِ شَرَعَ فِي دِيَةِ الْجِرَاحَاتِ فَقَالَ: (وَ) يَجِبُ (فِي الْمُوضِحَةِ) الْخَطَإِ نِصْفُ عُشْرِ الدِّيَةِ وَهُوَ (خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) وَأَمَّا عَمْدُهَا فَفِيهِ الْقِصَاصُ وَسَيَأْتِي تَفْسِيرُهَا فِي كَلَامِهِ. (وَ) يَجِبُ (فِي السِّنِّ) بِقَلْعِهَا أَوْ تَصْيِيرِهَا مُضْطَرِبَةً جِدًّا أَوْ تَسْوِيدِهَا أَوْ تَحْمِيرِهَا أَوْ تَصْفِيرِهَا حَيْثُ كَانَ تَصْفِيرُهَا يُذْهِبُ جَمَالَهَا كَالسَّوَادِ (خَمْسٌ) سَوَاءٌ كَانَتْ مِنْ مُقَدِّمِ الْفَمِ أَوْ مُؤَخِّرِهِ، فَلَوْ رُدَّتْ السِّنُّ وَثَبَتَتْ فَإِنْ كَانَتْ سِنَّ كَبِيرٍ وَهُوَ مَنْ بَلَغَ حَدَّ الْإِثْغَارِ فَإِنَّهُ لَا يَسْقُطُ عَقْلُهَا كَالْجِرَاحَاتِ الْأَرْبَعَةِ الْمُقَرَّرِ فِيهَا شَيْءٌ مِنْ الشَّارِعِ مِنْ مُوضِحَةٍ وَجَائِفَةٍ وَمُنَقِّلَةٍ، وَتَبْرَأُ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ فَلَا يَسْقُطُ عَقْلُهَا، وَأَمَّا سِنُّ الصَّغِيرِ فَإِنَّهُ يُوقَفُ عَقْلُهَا حَتَّى يَحْصُلَ الْيَأْسُ كَالْقَوْدِ مِمَّنْ قَلَعَهَا عَمْدًا، وَوُجُوبُ الْخَمْسِ فِي السِّنِّ مِنْ السُّنَّةِ. (وَ) يَجِبُ (فِي كُلِّ أُصْبُعٍ عَشْرٌ) مِنْ الْإِبِلِ وَفِي الْأُصْبُعِ الزَّائِدَةِ مَا فِي الْأَصْلِيَّةِ حَيْثُ كَانَتْ مُسَاوِيَةً لِلْأَصْلِ فِي الْقُوَّةِ سَوَاءٌ قَطَعَهَا وَحْدَهَا أَوْ مَعَ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ الضَّعِيفَةِ فَفِيهَا حُكُومَةٌ إنْ قُطِعَتْ وَحْدَهَا، وَأَمَّا لَوْ قُطِعَتْ مَعَ الْكَفِّ فَلَا شَيْءَ فِيهَا، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْيَدَ الزَّائِدَةَ فِيهَا هَذَا التَّفْصِيلُ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَصَابِعِ الْيَدَيْنِ أَوْ الرِّجْلَيْنِ، وَلَا بَيْنَ أَصَابِعِ ذَكَرٍ وَأُنْثَى حَتَّى تَبْلُغَ الثُّلُثَ، لِمَا سَيَأْتِي مِنْ أَنَّهَا تُعَاقِلُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ الدِّيَةِ، وَهَذَا فِي أَصَابِعِ الْمُسْلِمِ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ مِنْ أَصَابِعِهِ عُشْرُ دِيَتِهِ. (وَ) يَجِبُ (فِي الْأُنْمُلَةِ) مِنْ غَيْرِ الْإِبْهَامِ مِنْ أَنَامِلِ الْمُسْلِمِ وَهِيَ الْعُقْدَةُ (ثَلَاثٌ وَثُلُثٌ) مِنْ الْإِبِلِ (وَ) يَجِبُ (فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ مِنْ الْإِبْهَامَيْنِ) لِلرِّجْلِ وَالْيَدِ (خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ) وَهِيَ نِصْفُ دِيَةِ الْأُصْبُعِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي حَالَةِ الْخَطَإِ، وَأَمَّا إذْهَابُ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بِجِنَايَةٍ عَمْدًا فَالْوَاجِبُ فِيهَا الْقِصَاصُ. (وَ) يَجِبُ (فِي الْمُنَقِّلَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَالنُّونِ الْمَفْتُوحَةِ وَالْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ مَعَ فَتْحِهَا أَوْ كَسْرِهَا وَيُقَالُ لَهَا الْهَاشِمَةُ أَيْضًا (عُشْرُ) الدِّيَةِ (وَنِصْفُ عُشْرِ) هَا وَهُوَ خَمْسَةَ عَشَرَ بَعِيرًا، وَمِنْ الذَّهَبِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ، وَمِنْ الْوَرِقِ أَلْفٌ وَثَمَانُمِائَةِ دِرْهَمٍ وَعَمْدُهَا وَخَطَؤُهَا سَوَاءٌ لِأَنَّهَا مِنْ الْمَتَالِفِ حَيْثُ كَانَتْ بِالرَّأْسِ أَوْ بِاللِّحَى الْأَعْلَى، وَيُقْتَصُّ مِنْ عَمْدِهَا إنْ كَانَتْ بِالْجَسَدِ. وَلَمَّا قَدَّمَ الْمُوضِحَةَ وَالْمُنَقِّلَةَ شَرَعَ فِي تَفْسِيرِهِمَا فَقَالَ: (وَالْمُوضِحَةُ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَكَسْرِ الضَّادِ الْمُعْجَمَةِ هِيَ (مَا أَوْضَحَ) أَيْ أَظْهَرَ (الْعَظْمَ) بِأَنْ أَزَالَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ، وَيَخْتَصُّ بِالرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَلَا تَنْضَبِطُ بِحَدٍّ، بَلْ يَجِبُ عَقْلُهَا الْمَذْكُورُ فِي الْخَطَإِ وَيُقْتَصُّ مِنْ عَمْدِهَا وَلَوْ كَانَتْ مِسَاحَتُهَا قَدْرَ رَأْسِ إبْرَةٍ. (وَ) حَقِيقَةُ (الْمُنَقِّلَةِ) وَهِيَ الْهَاشِمَةُ (مَا طَارَ فَرَاشُهَا) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا أَيْ زَالَ مَا تَحْتَهَا (مِنْ الْعَظْمِ وَلَمْ تَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْمُنَقِّلَةُ هِيَ الَّتِي يَنْقُلُ مِنْهَا الطَّبِيبُ الْعِظَامَ الصِّغَارَ لِتَلْتَئِمَ الْجِرَاحُ فَتِلْكَ الْعِظَامُ هِيَ الَّتِي يُقَالُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 وَكَذَلِكَ الْجَائِفَةُ. وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ إلَّا الِاجْتِهَادُ وَكَذَلِكَ فِي جِرَاحِ الْجَسَدِ. وَلَا يُعْقَلُ جُرْحٌ إلَّا بَعْدَ الْبُرْءِ وَمَا بَرِئَ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ مِمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ. وَفِي الْجِرَاحِ الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ. إلَّا فِي الْمَتَالِفِ مِثْلُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْفَخِذِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَالصُّلْبِ وَنَحْوِهِ فَفِي كُلِّ ذَلِكَ الدِّيَةُ. وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ قَتْلَ عَمْدٍ وَلَا اعْتِرَافًا بِهِ.   [الفواكه الدواني] لَهَا الْفَرَاشُ، قَالَ الْأَصْمَعِيُّ: الْفَرَاشُ الْعِظَامُ الرِّقَاقُ يَرْكَبُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ فِي أَعْلَى الْخَيَاشِيمِ كَقِشْرِ الْبَصَلِ تَطِيرُ عَنْ الْعَظْمِ إذَا ضُرِبَ، فَمِنْ فِي كَلَام الْمُصَنِّفِ بَيَانِيَّةٌ فَإِنَّ الْمَعْنَى الْفَرَاشُ الَّذِي هُوَ الْعَظْمُ. وَأَشَارَ إلَى مُحْتَرَزِ قَوْلِهِ: وَلَمْ يَصِلْ إلَى الدِّمَاغِ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَمَّا (مَا وَصَلَ إلَيْهِ) أَيْ إلَى الدِّمَاغِ وَلَمْ يَخْرِقْ خَرِيطَتَهُ أَيْ جِلْدَتَهُ (فَهِيَ الْمَأْمُومَةُ فَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ) ثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ بَعِيرًا وَثُلُثُ بَعِيرٍ، وَمِنْ الذَّهَبِ ثَلَاثُمِائَةِ وَثَلَاثَةٌ وَثَلَاثُونَ دِينَارًا وَثُلُثُ دِينَارٍ، وَمِنْ الْفِضَّةِ أَرْبَعَةُ آلَافِ دِرْهَمٍ. (وَكَذَلِكَ الْجَائِفَةُ) فِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ وَهِيَ مَا وَصَلَتْ إلَى الْجَوْفِ مِنْ الظَّهْرِ أَوْ الْبَطْنِ وَلَوْ قَدْرَ مَدْخَلِ الْإِبْرَةِ، وَأَمَّا الضَّرْبَةُ الَّتِي تَخْرِقُ الْبَطْنَ وَلَمْ تَصِلْ إلَى الْجَوْفِ فَفِيهَا الْحُكُومَةُ، فَإِنْ نَفَذَتْ إلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ تَعَدَّدَتْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَدَّدَ الْوَاجِبُ بِجَائِفَةٍ نَفَذَتْ كَتَعَدُّدِ الْمُوضِحَةِ وَالْمُنَقِّلَةِ وَالْآمَّةِ إنْ لَمْ تَتَّصِلْ وَإِلَّا فَلَا، وَإِنْ بِغَوْرٍ فِي ضَرَبَاتٍ، وَمِثْلُ الْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ الدَّامِغَةُ وَهِيَ الَّتِي تَخْرِقُ خَرِيطَةَ الدِّمَاغِ. (تَنْبِيهٌ) كُلُّ مَا فِيهِ شَيْءٌ مُقَرَّرٌ عَنْ الشَّارِعِ يَجِبُ دَفْعُ وَاجِبِهِ وَلَوْ بَرِئَ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ، بِخِلَافِ مَا لَمْ يُقَرِّرْ فِيهِ شَيْئًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ إلَّا إذَا بَرِئَ عَلَى شَيْنٍ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ الْمُوضِحَةِ) مِنْ الْجِرَاحَاتِ السِّتِّ إذَا كَانَتْ خَطَأً. (إلَّا الِاجْتِهَادَ) وَهُوَ الْحُكُومَةُ بِأَنْ يُقَوَّمَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ بَعْدَ بُرْئِهِ خَوْفَ أَنْ يَتَرَامَى إلَى النَّفْسِ أَوْ إلَى مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ عَبْدًا سَالِمًا مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ عَلَى صِفَتِهِ الَّتِي هُوَ عَلَيْهَا يَوْمَ الْجِنَايَةِ مِنْ حُسْنٍ أَوْ قُبْحٍ بِعَشَرَةٍ مَثَلًا، ثُمَّ يُقَوَّمُ ثَانِيًا مَعِيبًا بِتِسْعَةٍ مَثَلًا، فَالتَّفَاوُتُ بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ بِالْعُشْرِ، فَيَجِبُ عَلَى الْجَانِي بِتِلْكَ النِّسْبَةِ مِنْ الدِّيَةِ وَهُوَ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي هَذَا الْمِثَالِ فَالْحُكُومَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْمَحْكُومُ بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الْجِرَاحِ حُكُومَةٌ بِنِسْبَةِ نُقْصَانِ الْجِنَايَةِ إذَا بَرِئَ مِنْ قِيمَتِهِ عَبْدًا فَرْضًا مِنْ الدِّيَةِ وَفِي عَمْدِهَا الْقِصَاصُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاقْتُصَّ مِنْ مُوضِحَةٍ أَوْضَحَتْ عَظْمَ الرَّأْسِ وَالْجَبْهَةِ وَالْخَدَّيْنِ وَإِنْ كَإِبْرَةٍ، وَسَابِقُهَا مِنْ دَامِيَةٍ وَحَارِصَةٍ شَقَّتْ الْجِلْدَ وَسِمْحَاقٍ كَشَطَتْهُ وَبَاطِحَةٍ شَقَّتْ اللَّحْمَ وَمُتَلَاحِمَةٍ غَاصَتْ فِيهِ بِتَعَدُّدٍ وَمِلْطَاةٍ قَرُبَتْ لِلْعَظْمِ، فَالثَّلَاثُ الْأُوَلُ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْجِلْدِ، وَالثَّلَاثُ الَّذِي بَعْدَهَا بِاللَّحْمِ. (وَكَذَلِكَ) لَيْسَ (فِي) بَقِيَّةِ (جِرَاحِ الْجَسَدِ) الْخَطَإِ إلَّا الِاجْتِهَادُ لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا، لِأَنَّ الَّذِي قَرَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ شَيْئًا يَجِبُ دَفْعُهُ مِنْ غَيْرِ حُكُومَةٍ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ لُزُومُ وَاجِبِ الْجِنَايَةِ سَرِيعًا وَكَانَتْ الْوَاقِعَةُ فِيمَا دُونَ النَّفْسِ مُخَالِفَةً قَالَ: (وَلَا يُعْقَلُ) بِلَفْظِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (جُرْحٌ) وَمَعْنَى لَا يُعْقَلُ لَا يُؤْخَذُ لَهُ دِيَةٌ وَلَا حُكُومَةٌ (إلَّا بَعْدَ الْبُرْءِ) خَوْفًا مِنْ مَوْتِ الْمَجْرُوحِ فَيَؤُولُ الْأَمْرُ إلَى النَّفْسِ، وَلِيَظْهَرَ هَلْ يَبْرَأُ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لَا؟ لِأَنَّ الْبُرْءَ عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ فِيهِ تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَا بَرِئَ) مِنْ الْجِرَاحَاتِ (عَلَى غَيْرِ شَيْنٍ) أَيْ، قُبْحٍ (مِمَّا دُونَ الْمُوضِحَةِ) أَيْ مِنْ سِوَى الْمُوضِحَةِ وَغَيْرِهَا مَا لَمْ يُقَدِّرْ فِيهِ الشَّارِعُ شَيْئًا وَيَدْخُلُ فِيهِ سَابِقُ الْمُوضِحَةِ مِنْ الْجِرَاحَاتِ السِّتِّ، لِأَنَّ الشَّارِعَ لَمْ يَجْعَلْ لَهَا شَيْئًا مَعْلُومًا. (فَلَا شَيْءَ فِيهِ) وَأَمَّا مَا قَرَّرَ الشَّارِعُ فِيهِ شَيْئًا فَالْوَاجِبُ الْمُقَرَّرُ بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ أَمْ لَا؟ قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا الْجَائِفَةُ وَالْآمَّةُ فَثُلُثٌ، وَالْمُوضِحَةُ فَنِصْفُ عُشْرٍ، وَالْمُنَقِّلَةُ وَالْهَاشِمَةُ فَعُشْرٌ وَنِصْفُهُ وَإِنْ بِشَيْنٍ فِيهِنَّ أَيْ فَلَا يَلْزَمُ فِي الشَّيْنِ حُكُومَةٌ إلَّا الْمُوضِحَةَ، فَإِنَّهَا إذَا بَرِئَتْ عَلَى شَيْنٍ وَهِيَ فِي الْوَجْهِ أَوْ الرَّأْسِ يَجِبُ دَفْعُ دِيَتِهَا وَحُكُومَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَقَالَهُ فِي الْمُدَوَّنَةِ. [الْقِصَاص فِي الْجِرَاح] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْجِرَاحَاتِ الْوَاقِعَةِ خَطَأً الدَّالِّ عَلَيْهِ وُجُوبُ الِاجْتِهَادِ وَالْعَقْلُ فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ فِي الْخَطَإِ غَالِبًا شَرَعَ فِي حُكْمِ الْعَمْدِ بِقَوْلِهِ: (وَ) الْوَاجِبُ (فِي الْجِرَاحِ) الْوَاقِعَةِ فِي الرَّأْسِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ بَاقِي الْجَسَدِ (الْقِصَاصُ فِي الْعَمْدِ) بِالْمِسَاحَةِ إنْ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ فَقِيَاسُ الْجُرْحِ طُولًا وَعَرْضًا وَعُمْقًا، فَقَدْ تَكُونُ الْجِرَاحَةُ نِصْفَ عُضْوِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَهِيَ جُلُّ عُضْوِ الْجَانِي أَوْ كُلُّهُ، وَكَذَلِكَ لَوْ عَظُمَ عُضْوُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَزِيدُ عَلَى عُضْوِ الْجَانِي فَإِنَّهُ لَا يُكَمَّلُ مِنْ غَيْرِهِ بَلْ يَسْقُطُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاقْتُصَّ مِنْ مُوضِحَةٍ إلَى أَنْ قَالَ: وَجِرَاحُ الْجَسَدِ وَإِنْ مُنَقِّلَةً بِالْمِسَاحَةِ إنْ اتَّحَدَ الْمَحَلُّ كَطَبِيبٍ زَادَ عَمْدًا، وَإِلَّا فَالْعَقْلُ وَإِنْ لَمْ يَتَّحِدْ مَحَلُّ الْجِنَايَةِ أَوْ لَمْ يَتَعَمَّدْ الطَّبِيبُ فَالْوَاجِبُ عَلَى الْجَانِي الْعَقْلُ، وَمَفْهُومُ الْجِرَاحِ مِنْ اللَّطْمَةِ وَالضَّرْبَةِ بِآلَةٍ لَا تَجْرَحُ وَلَمْ يَنْشَأْ عَنْهَا جُرْحٌ لَا قِصَاصَ فِيهَا وَإِنَّمَا فِيهَا التَّأْدِيبُ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ نَتْفُ اللِّحْيَةِ أَوْ الشَّارِبِ أَوْ شَعْرِ الْحَاجِبِ فَإِنَّ عَمْدَ هَذِهِ وَخَطَأَهَا سَوَاءٌ فِي عَدَمِ الْقِصَاصِ، وَإِنَّمَا فِيهَا الْحُكُومَةُ إذَا لَمْ تَعُدْ لِهَيْئَتِهَا، وَإِلَّا فَلَا شَيْءَ فِيهَا، سُوءُ الْأَدَبِ فِي الْعَمْدِ. وَلَمَّا كَانَ الْقِصَاصُ فِي عَمْدِ جِرَاحَاتِ الْجَسَدِ مُقَيَّدًا بِعَدَمِ خَوْفِ هَلَاكِ النَّفْسِ قَالَ: (إلَّا فِي) الْجِرَاحَاتِ (الْمَتَالِفِ) أَيْ يَغْلِبُ مَعَهَا الْمَوْتُ سَرِيعًا فَلَا قِصَاصَ فِي عَمْدِهَا، بَلْ الْوَاجِبُ الْعَقْلُ فِي عَمْدِهَا كَخَطَئِهَا مَعَ الْأَدَبِ فِي الْعَمْدِ. (مِثْلُ الْمَأْمُومَةِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مَا أَفْضَتْ لِلدِّمَاغِ (وَالْجَائِفَةِ) وَهِيَ مَا أَفْضَتْ لِلْجَوْفِ وَلَوْ قَدْرَ مَدْخَلِ إبْرَةٍ. (وَالْمُنَقِّلَةِ) وَهِيَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 وَتَحْمِلُ مِنْ جِرَاحِ الْخَطَإِ مَا كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَكْثَرَ وَمَا كَانَ دُونَ الثُّلُثِ فَفِي مَالِ الْجَانِي. وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ وَالْجَائِفَةُ عَمْدًا فَقَالَ مَالِكٌ ذَلِكَ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَقَالَ أَيْضًا إنَّ ذَلِكَ فِي مَالِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدِيمًا فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِأَنَّهُمَا لَا يُقَادُ مِنْ عَمْدِهِمَا وَكَذَلِكَ مَا بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ مِمَّا لَا يُقَادُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ. وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. وَتُعَاقِلُ   [الفواكه الدواني] الْهَاشِمَةُ كَمَا قَدَّمْنَا. (وَ) مِثْلُ كَسْرِ (الْفَخِذِ وَ) رَضِّ (الْأُنْثَيَيْنِ) بِخِلَافِ قَطْعِهِمَا فَإِنَّ فِي عَمْدِهِ الْقِصَاصُ، لِأَنَّ الْإِمَامَ قَالَ: أَخَافُ فِي رَضِّ الْأُنْثَيَيْنِ أَنْ يَتْلَفَ. (وَ) مِثْلُ كَسْرِ (الصُّلْبِ) أَيْ الظَّهْرِ. (وَنَحْوِهِ) مِنْ كُلِّ مَا يَعْظُمُ فِيهِ الْخَطَرُ أَيْ الْإِشْرَافُ عَلَى الْهَلَاكِ كَكَسْرِ عَظْمِ الصَّدْرِ أَوْ الْعُنُقِ. (فَفِي) عَمْدِ (كُلِّ ذَلِكَ الدِّيَةُ) وَهِيَ كُلُّ مَا قَدَّرَهُ الشَّارِعُ مَعَ الْأَدَبِ، وَالْمُرَادُ الدِّيَةُ فِي كُلِّ جِنَايَةٍ، سَوَاءٌ كَانَتْ كَامِلَةً كَدِيَةِ رَضِّ الْأُنْثَيَيْنِ، أَوْ نَاقِصَةً كَدِيَةِ الْآمَّةِ وَالْجَائِفَةِ، فَالْمُرَادُ بِالدِّيَةِ الْمَالُ الْمُؤَدَّى حَيْثُ كَانَ قَدْرَ الثُّلُثِ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ مَا نَقَصَ عَنْ الثُّلُثِ. [تَحْمِل الْعَاقِلَة شَيْئًا مِنْ الدِّيَة مَعَ الْجَانِي] وَلَمَّا كَانَتْ عَاقِلَةُ الْجَانِي أَيْ عَصَبَتُهُ لَا تُشَارِكُهُ فِي حَمْلِ الدِّيَةِ إلَّا بِشُرُوطٍ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ) شَيْئًا مِنْ الدِّيَةِ مَعَ الْجَانِي فِي (قَتْلِ عَمْدٍ) سَقَطَ فِيهِ الْقِصَاصُ بِعَفْوٍ أَوْ بِغَيْرِهِ مِنْ الْمُسْقِطَاتِ، وَإِنَّمَا تَكُونُ حَالَةً فِي مَالِ الْجَانِي. (وَلَا) تَحْمِلُ (اعْتِرَافًا بِهِ) أَيْ لَا تَحْمِلُ مَا ثَبَتَ بِإِقْرَارِ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إنَّمَا يُؤْخَذُ بِإِقْرَارِهِ إذَا كَانَ الْمُقَرُّ بِهِ يُطْلَبُ مِنْ الْمُقِرِّ وَمَا هُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ، أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الِاعْتِرَافَ، وَلَوْ كَانَ الِاعْتِرَافُ مِنْ عَدْلٍ ثِقَةٍ لَا يُتَّهَمُ فِي إغْنَاءِ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ وَيَغْرَمُهَا الْجَانِي مِنْ مَالِهِ وَلَوْ أَقْسَمَ أَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ، كَمَا أَصْلَحَ سَحْنُونٌ الْمُدَوَّنَةَ عَلَيْهِ خِلَافًا لِمَنْ فَصَّلَ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا تُنَجَّمُ عَلَى الْجَانِي كَمَا تُنَجَّمُ عَلَى الْعَاقِلَةِ عِنْدَ الثُّبُوتِ بِغَيْرِ الِاعْتِرَافِ وَحَرَّرَ الْحُكْمَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَقَلِّ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ بِقَوْلِهِ: (وَتَحْمِلُ) الْعَاقِلَةُ (مِنْ جِرَاحِ الْخَطَإِ مَا كَانَ) وَاجِبُهُ (قَدْرَ الثُّلُثِ فَأَكْثَرَ) مِنْ دِيَةِ الْجَانِي أَوْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: إنْ بَلَغَ ثُلُثَ الدِّيَةِ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ أَوْ الْجَانِيَ، وَفَاعِلُ بَلَغَ الْوَاجِبُ لِمَنْ اعْتَبَرَ دِيَةَ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ وَتَظْهَرُ ثَمَرَةُ الْخِلَافِ فِيمَا إذَا كَانَ الْجَانِي امْرَأَةً عَلَى رَجُلٍ فَقَطَعَتْ لَهُ أُصْبُعَيْنِ فَعَقْلُهُمَا عِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ وَهِيَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْمَرْأَةِ وَأَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ، فَعَلَى الْمَشْهُورِ تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ وَعَلَى مُقَابِلِهِ لَا تَحْمِلُهُ. (وَمَا كَانَ) مِنْ الْجِرَاحِ (دُونَ الثُّلُثِ) أَيْ فِيهِ أَقَلُّ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ كُلٍّ مِنْ الْجَانِي وَالْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. (فَفِي مَالِ الْجَانِي) قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَنُجِّمَتْ دِيَةُ الْحُرِّ الْخَطَإِ بِلَا اعْتِرَافٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْجَانِي إنْ بَلَغَ أَيْ الْوَاجِبُ ثُلُثَ دِيَةِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ أَوْ الْجَانِي وَمَا لَمْ يَبْلُغْ فَحَالٌّ عَلَيْهِ كَعَمْدٍ وَدِيَةٍ غَلُظَتْ وَسَاقِطٍ لِعَدَمِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ عَدَمِ حَمْلِهَا مَا نَقَصَ عَنْ الثُّلُثِ قَالَ بِهِ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَحْمِلُ الْقَلِيلَ كَالْكَثِيرِ، وَدَلِيلُنَا حَدِيثُ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ وَيَأْتِي إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي حَمْلِهَا دِيَةَ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ لِكَوْنِهِ مِنْ الْمَتَالِفِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَأَمَّا الْمَأْمُومَةُ وَالْجَائِفَةُ) وَمِثْلُهُمَا الدَّامِغَةُ وَكَسْرُ عَظْمِ الصَّدْرِ وَالْعُنُقِ وَالْفَخْذِ إذَا كَانَتْ الْجِنَايَةُ عَلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ (عَمْدًا فَقَالَ مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (ذَلِكَ) أَيْ الْوَاجِبُ فِيهَا مُوَزَّعٌ (عَلَى عَاقِلَتِهِ) مَعَهُ وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الْعَمْدِ الَّذِي لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ إلَّا مَا لَا يُقْتَصُّ مِنْهُ مِنْ الْجِرَاحِ لِإِتْلَافِهِ فَعَلَيْهَا، وَدَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَا لَا قِصَاصَ فِيهِ لِعِظَمِ خَطَرِهِ حَيْثُ كَانَ الْوَاجِبُ فِيهِ قَدْرُ ثُلُثِ الدِّيَةِ، سَوَاءٌ كَانَ فِيهِ شَيْءٌ مَعْلُومٌ عَنْ الشَّارِعِ أَمْ لَا، لِتَدْخُلَ الْحُكُومَةُ إذَا بَلَغَتْ الثُّلُثَ فَإِنَّ الْعَاقِلَةَ تَحْمِلُهَا. (وَقَالَ) أَيْ الْإِمَامُ مَالِكٌ (أَيْضًا) قَوْلًا مُقَابِلًا الْمُعْتَمَدَ الْمُتَقَدِّمَ (إنَّ) وَاجِبَ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْمَأْمُومَةِ وَمَا مَعَهَا (فِي مَالِهِ) أَيْ الْجَانِي وَحْدَهُ (إلَّا أَنْ يَكُونَ عَدِيمًا) لَا يَسْتَطِيعُ دَفْعَهَا (فَتَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ) ثُمَّ عَلَّلَ حَمْلَ الْعَاقِلَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّهُمَا لَا يُقَادُ مِنْ عَمْدِهِمَا) وَلِلْإِمَامِ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ كَوْنُهَا عَلَى الْجَانِي مُطْلَقًا لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ الْعَمْدَ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ لِلْإِمَامِ مَالِكٍ فِي عَمْدِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ أَرْجَحُهَا أَوَّلُهَا، لِأَنَّهُ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ الْإِمَامُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ وَهِيَ كَوْنُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ مُطْلَقًا. ثَانِيهِمَا: فِي مَالِ الْجَانِي الْمَلِيءِ. ثَالِثُهَا: عَلَى الْجَانِي مُطْلَقًا. وَلَمَّا خَصَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ بِالْمَأْمُومَةِ وَالْجَائِفَةِ وَكَانَ غَيْرُهُمَا مِمَّا هُوَ مِنْ الْمَتَالِفِ كَذَلِكَ قَالَ: (وَكَذَلِكَ مَا بَلَغَ) وَاجِبُهُ (ثُلُثَ الدِّيَةِ) كَالدَّامِغَةِ أَوْ غَيْرِهَا (مِمَّا لَا يُقَادُ مِنْهُ لِأَنَّهُ مُتْلِفٌ) . وَلَمَّا كَانَ مِنْ شَرْطِ حَمْلِ الْعَاقِلَةِ أَنْ لَا يَكُونَ الْجَانِي جَنَى عَلَى نَفْسِهِ قَالَ: (وَلَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ) دِيَةَ (مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً) بَلْ يَكُونُ دَمُهُ هَدَرًا فِي الْعَمْدِ اتِّفَاقًا، وَفِي الْخَطَإِ عَلَى الْمَشْهُورِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَحْمِلُ عَنْ الْجَانِي إلَّا بِشُرُوطٍ خَمْسَةٍ: حُرِّيَّةُ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَكَوْنُ الْجِنَايَةِ خَطَأً أَوْ فِي حُكْمِ الْخَطَإِ، وَثُبُوتُ الْجِنَايَةِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ قَسَامَةٍ لَا بِاعْتِرَافٍ، وَبُلُوغُ الْوَاجِبِ ثُلُثَ دِيَةِ الْجَانِي أَوْ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَأَنْ لَا تَكُونَ الْجِنَايَةُ مِنْ الْجَانِي عَلَى نَفْسِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا وَلَا اعْتِرَافًا وَلَا صُلْحًا وَلَا مَا دُونَ الْمُوضِحَةِ» . وَفِي بَعْضِ الْعِبَارَاتِ: «وَلَا مَا دُونَ الثُّلُثِ» وَهِيَ الصَّوَابُ لِمُوَافَقَتِهِ لِمَا تَقَدَّمَ. وَلِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «تَحْمِلُ الْعَاقِلَةُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 الْمَرْأَةُ الرَّجُلَ إلَى ثُلُثِ دِيَةِ الرَّجُلِ فَإِذَا بَلَغَتْهَا رَجَعَتْ إلَى عَقْلِهَا. وَالنَّفَرُ يَقْتُلُونَ رَجُلًا فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ. وَالسَّكْرَانُ إنْ قَتَلَ قُتِلَ. وَإِنْ قَتَلَ مَجْنُونٌ رَجُلًا فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَعَمْدُ الصَّبِيِّ كَالْخَطَإِ وَذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ كَانَ ثُلُثُ الدِّيَةِ فَأَكْثَرَ   [الفواكه الدواني] الثُّلُثَ فَصَاعِدًا» . وَعَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ عَاقَلَ بَيْنَ قُرَيْشٍ وَالْأَنْصَارِ فَجَعَلَ ثُلُثَ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ» رَوَاهُ مَالِكٌ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَكُلُّ أُنْثَى عَلَى النِّصْفِ مِنْ دِيَةِ الرَّجُلِ شُمُولُهُ لِدِيَةِ الْأَطْرَافِ مُطْلَقًا، وَالْوَاقِعُ لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَتُعَاقِلُ الْمَرْأَةُ) أَيْ تُسَاوِي (الرَّجُلَ) مِنْ أَهْلِ دِينِهَا فَتَأْخُذُ فِي أَطْرَافِهَا مِثْلَ مَا يَأْخُذُ الرَّجُلُ وَتَسْتَمِرُّ مُسَاوِيَةً لَهُ. (إلَى) أَنْ تَبْلُغَ (ثُلُثَ دِيَةِ الرَّجُلِ) وَالْغَايَةُ خَارِجَةٌ كَمَا هُوَ الْأَصْلُ فِي الْمُغَيَّا بِإِلَى. (فَإِذَا بَلَغَتْهَا) أَيْ دُرِّيَّةَ الرَّجُلِ أَيْ ثُلُثَهَا (رَجَعَتْ إلَى عَقْلِهَا) فَإِذَا قَطَعَ لَهَا ثَلَاثَةَ أَصَابِعَ فَلَهَا ثَلَاثُونَ مِنْ الْإِبِلِ كَالرَّجُلِ، فَإِذَا قَطَعَ لَهَا بَعْدَ ذَلِكَ أُنْمُلَةً رَجَعَتْ إلَى عَقْلِهَا، وَكَذَا إذَا قَطَعَ لَهَا أَرْبَعَةَ أَصَابِعَ أَوْ ثَلَاثَةً وَأُنْمُلَةً فَإِنَّهَا تَأْخُذُ نِصْفَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ فَلَهَا فِي الْمُنَقِّلَةِ وَالْهَاشِمَةِ، وَفِيمَا نَقَصَ مِنْ الْأَصَابِعِ عَنْ الثَّلَاثَةِ وَأُنْمُلَةٍ كَالرَّجُلِ، وَأَمَّا فِي قَطْعِ ثَلَاثَةٍ وَأُنْمُلَةٍ أَوْ الْجَائِفَةِ أَوْ الدَّامِغَةِ أَوْ الْآمَّةِ نِصْفُ مَا لِلرَّجُلِ، فَيَكُونُ لَهَا فِيمَا ذُكِرَ سِتَّةَ عَشَرَ بَعِيرًا وَثُلُثَا بَعِيرٍ، وَقَدْ قَالَ رَبِيعَةُ لِابْنِ الْمُسَيِّبِ: كَمْ فِي ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ الْمَرْأَةِ؟ فَقَالَ: ثَلَاثُونَ، فَقُلْت: كَمْ فِي أَرْبَعَةٍ؟ فَقَالَ: عِشْرُونَ، فَقُلْت حِينَ عَظُمَ جُرْمُهَا وَاشْتَدَّتْ بَلِيَّتُهَا: نَقَصَ عَقْلُهَا، فَقَالَ: أَعِرَاقِيٌّ أَنْتَ؟ قُلْت: بَلْ عَالِمٌ مُتَثَبِّتٌ أَوْ جَاهِلٌ مُتَعَلِّمٌ، فَقَالَ: هِيَ السُّنَّةُ يَا ابْنَ أَخِي. قَالَ ابْنُ شَاسٍ: وَهُوَ إجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ. وَلَمَّا كَانَ مِنْ الْمَجْمَعِ عَلَيْهِ لِنَصِّ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ: {النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] وَهُوَ يُوهِمُ عَدَمَ قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ قَالَ: (وَالنَّفَرُ) وَهُمْ الْجَمَاعَةُ مِنْ النَّاسِ (يَقْتُلُونَ رَجُلًا) أَوْ امْرَأَةً عَمْدًا عُدْوَانًا مِنْ غَيْرِ تَمَالُؤٍ عَلَى قَتْلِهِ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَرَبَاتُهُمْ وَمَاتَ مَكَانَهُ أَوْ أَنْفَذَتْ مَقَاتِلَهُ وَلَوْ تَأَخَّرَ مَوْتُهُ. (فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ بِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيُقْتَلُ الْجَمْعُ بِوَاحِدٍ حَيْثُ ثَبَتَ الْقَتْلُ بِبَيِّنَةٍ أَوْ اعْتِرَافٍ مِنْ الْقَاتِلِينَ، لَا إنْ احْتَاجَ إلَى قَسَامَةٍ فَلَا يُقْتَلُ إلَّا وَاحِدٌ تَعَيَّنَ لَهَا، وَقَيَّدْنَا بِعَدَمِ التَّمَالُؤِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَالْمُتَمَالَئُونَ وَإِنْ بِسَوْطٍ سَوْطٍ، بَلْ وَإِنْ لَمْ يُبَاشِرْ الْقَتْلَ إلَّا بَعْضُهُمْ حَيْثُ كَانَ غَيْرُهُ بِحَيْثُ لَوْ اسْتَعَانَ بِهِ الْقَاتِلُ لَأَعَانَهُ، وَقَيَّدْنَا بِعَدَمِ تَمَيُّزِ الضَّرَبَاتِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ تَمَيَّزَتْ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْ كُلٍّ كَفِعْلِهِ، وَقَيَّدْنَا بِمَوْتِهِ مَكَانَهُ أَوْ إنْفَاذِ مَقْتَلِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ لَمْ يَنْفُذُ مَقْتَلُهُ بَلْ دُفِعَ حَيًّا وَعَاشَ وَأَكَلَ وَشَرِبَ ثُمَّ مَاتَ فَإِنَّهُمْ لَا يُقْتَلُونَ بِهِ جَمِيعًا، بَلْ لَا يُقْتَلُ بِهِ إلَّا وَاحِدٌ تُعَيِّنُهُ الْأَوْلِيَاءُ وَيَقْسِمُونَ عَلَيْهِ، وَقَيَّدْنَا بِالْعَمْدِ الْعُدْوَانِ لِأَنَّ الْمَقْتُولَ عَمْدًا غَيْرَ عُدْوَانٍ لَا شَيْءَ فِيهِ كَالْبُغَاةِ وَالْمَقْتُولِ خَطَأً يَغْرَمُ دِيَتَهُ اتَّحَدَ أَوْ تَعَدَّدَ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: يُقْتَلُونَ بِهِ أَنَّهُمْ مُكَلَّفُونَ مُكَافِئُونَ لِلْمَقْتُولِ أَوْ أَدْنَى مِنْهُ، لَا إنْ كَانُوا أَعْلَى مِنْهُ بِحُرِّيَّةٍ أَوْ إسْلَامٍ، لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ إلَّا فِي قَتْلِ الْغِيلَةِ فَيُقْتَلُ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى كَمَا تَقَدَّمَ، وَلَا إنْ كَانُوا غَيْرَ مُكَلَّفِينَ كَصِبْيَةٍ أَوْ مَجَانِينَ فَلَا يُقْتَلُونَ بِمَا قَتَلُوهُ. وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ مَا فِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَتَلَ نَفَرًا خَمْسَةً أَوْ سَبْعَةً. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الْقِصَاصِ تَكْلِيفُ الْجَانِي وَكَانَ زَوَالُ الْعَقْلِ بِالسُّكْرِ الْحَرَامِ لَا يُزِيلُ التَّكْلِيفَ بِالنِّسْبَةِ لِلْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ قَالَ: (وَالسَّكْرَانُ) سُكْرًا حَرَامًا لِشُرْبِهِ الْمُسْكِرَ غَيْرَ ظَانٍّ أَنَّهُ غَيْرُهُ. (إنْ قَتَلَ) مَعْصُومًا مُكَافِئًا لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ. (قُتِلَ) حَيْثُ كَانَ بَالِغًا وَلَا يُعْذَرُ بِغَيْبُوبَةِ عَقْلِهِ لِأَنَّهُ أَدْخَلَهُ عَلَى نَفْسِهِ، كَمَا لَا يُعْذَرُ بِذَلِكَ إذَا طَلَّقَ أَوْ قَذَفَ أَوْ أَعْتَقَ أَوْ زَنَى وَلَوْ كَانَ طَافِحًا، بِخِلَافِ لَوْ أَقَرَّ أَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَلَا يَلْزَمُهُ، وَأَمَّا لَوْ سَكِرَ سُكْرًا غَيْرَ حَرَامٍ كَشُرْبِهِ الْمُسْكِرَ يَظُنُّهُ لَبَنًا أَوْ عَسَلًا أَوْ غَالِطًا أَوْ لِغُصَّةٍ لَا يُقْتَلُ لِأَنَّهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ كَالْمَجْنُونِ. (وَ) أَمَّا (إنْ قَتَلَ مَجْنُونٌ) حَالَ جُنُونِهِ (رَجُلًا) الْمُرَادُ شَخْصًا مُكَافِئًا لَهُ أَوْ أَدْنَى (فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ) لِأَنَّ عَمْدَهُ كَخَطَئِهِ وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَنْ زَالَ عَقْلُهُ بِغَيْرِ تَعَمُّدِ اسْتِعْمَالِ الْمُزِيلِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ ذُكِرَ وَبَيْنَ السَّكْرَانِ سُكْرًا حَرَامًا رَفْعُ الْقَلَمِ عَنْ هَذَا الزَّوَالِ لِمَحَلِّ الْخِطَابِ وَهُوَ الْعَقْلُ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَقَيَّدْنَا بِحَالِ جُنُونِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ قَتَلَ مُتَقَطِّعُ الْجُنُونِ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ فَإِنَّهُ يُقْتَصُّ مِنْهُ كَالصَّحِيحِ لَكِنْ بَعْدَ إفَاقَتِهِ، فَإِنْ أَيِسَ مِنْ أَفَاقَتْهُ فَالدِّيَةُ فِي مَالِهِ. وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: يُسَلَّمُ إلَى أَوْلِيَاءِ الْمَقْتُولِ فَيَقْتُلُونَهُ إنْ شَاءُوا، فَإِنْ أَفَاقَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ اُقْتُصَّ مِنْهُ وَتُرَدُّ الدِّيَةُ. وَبَقِيَتْ مَسْأَلَةٌ وَهِيَ مَا إذَا شَكَّ هَلْ قَتَلَ فِي حَالِ صَحْوِهِ أَوْ فِي جُنُونِهِ؟ فَجَزَمَ بَعْضُ الْقَرَوِيِّينَ بِسُقُوطِ الْقِصَاصِ، وَأَمَّا الدِّيَةُ فَلَازِمَةٌ مِنْ قَبْلُ لِعَاقِلَتِهِ وَقِيلَ لَهُ وَلَا سَبِيلَ لِإِسْقَاطِهَا. (وَعَمْدُ الصَّبِيِّ) الْمُرَادُ كُلُّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَلَوْ أُنْثَى (كَالْخَطَإِ) فَلَا يُقْتَصُّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الْغُلَامِ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يُفِيقَ» . لَعَلَّ الْمُرَادَ بِاحْتِلَامِهِ رُؤْيَةُ عَلَامَةِ الْبُلُوغِ. (وَذَلِكَ) أَيْ وَاجِبُ جِنَايَتِهِ كَائِنٌ (عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 وَإِلَّا فَفِي مَالِهِ. وَتَقْتُلُ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ وَالرَّجُلُ بِهَا وَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ. وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ وَيُقْتَلُ بِهِ الْعَبْدُ. وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ وَيُقْتَلُ بِهِ الْكَافِرُ. وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي جُرْحٍ. وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ. وَالسَّائِقُ   [الفواكه الدواني] عَاقِلَتِهِ) بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إنْ كَانَ) أَيْ وَاجِبُ جِنَايَةِ يَبْلُغُ (ثُلُثَ الدِّيَةِ فَأَكْثَرَ) كَمَا تَقَدَّمَ فِي كُلِّ مَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ. (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاجِبُ جِنَايَتِهِ ثُلُثَ دِيَةِ الْجَانِي وَلَا الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ. (فَفِي مَالِهِ) يُؤْخَذُ مِنْهُ عَلَى الْحُلُولِ وَيُتَّبَعُ بِهِ إنْ أَعْدَمَ. وَاخْتُلِفَ إذَا اشْتَرَكَ بَالِغٌ عَاقِلٌ مَعَ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ فِي قَتْلِ شَخْصٍ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، أَشْهُرُهَا أَنَّ شَرِيكَ الصَّبِيِّ يُقْتَلُ بِخِلَافِ شَرِيكِ الْمَجْنُونِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى شَرِيكِ الصَّبِيِّ الْقِصَاصُ إنْ تَمَالَأَ عَلَى قَتْلِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ تَمَالُؤٌ فَإِنْ كَانَ الْكَبِيرُ مُتَعَمِّدًا وَحْدَهُ أَوْ الصَّبِيُّ كَذَلِكَ فَنِصْفُ دِيَةِ مَقْتُولِهِمَا فِي مَالِ الْكَبِيرِ وَالنِّصْفُ الْآخَرُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّبِيِّ، وَإِنْ أَخْطَأَ الْكَبِيرُ فَنِصْفُ دِيَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الْكَبِيرِ وَنِصْفُهَا الْآخَرُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّغِيرِ، وَأَمَّا شَرِيكُ الْمُخْطِئِ وَالْمَجْنُونِ فَلَا قِصَاصَ عَلَيْهِ، وَلَا تَعَمُّدَ لِلشَّكِّ فِيمَنْ مَاتَ بِفِعْلِهِ، وَعَلَى عَاقِلَةِ الْمُخْطِئِ أَوْ الْمَجْنُونِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَعَلَى شَرِيكِهِ الْمُتَعَمِّدِ نِصْفُ دِيَتِهِ، وَلَا يُنْظَرُ لِقَوْلِ الْأَوْلِيَاءِ إنَّمَا قَتَلَهُ الْعَاقِلُ الْمُشَارِكُ لِلْمُخْطِئِ أَوْ الْمَجْنُونِ لَوْ أَقْسَمُوا. وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الْقِصَاصِ الْمُسَاوَاةُ فِي الْحُرِّيَّةِ وَالْإِسْلَامِ أَوْ شَرُفَ الْمَجْنِيُّ عَلَيْهِ عَلَى الْجَانِي فَقَطْ. (وَتُقْتَلُ الْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ وَالرَّجُلُ بِهَا) حَيْثُ كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ، أَوْ كَانَ الْقَاتِلُ رَقِيقًا وَالْمَقْتُولُ حُرًّا، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} [المائدة: 45] الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَاسِخَةٌ لِآيَةِ: {الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى} [البقرة: 178] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يُقْتَلُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ» . (وَيُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ) أَيْ مَنْ ذُكِرَ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ (مِنْ بَعْضٍ فِي الْجِرَاحِ) فَيُقْتَصُّ لِلْمَرْأَةِ مِنْ الرَّجُلِ وَعَكْسُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45] خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ: لَا تُقْطَعُ يَدُ الرَّجُلِ فِي يَدِ الْمَرْأَةِ وَلَا عَكْسُهُ. وَلَمَّا كَانَ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ قَالَ: (وَلَا يُقْتَلُ حُرٌّ) مُسْلِمٌ (بِعَبْدٍ) مُسْلِمٍ لِأَنَّ الْحُرَّ الْمُسْلِمَ أَشْرَفُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، سَوَاءٌ كَانَ عَبْدَهُ أَوْ عَبْدَ غَيْرِهِ، سَوَاءٌ كَانَ قِنًّا أَوْ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: مِنْ السُّنَّةِ أَنْ لَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِذِمِّيِّ عَهْدٍ وَلَا حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَنَقَلَ الْبَاجِيُّ إجْمَاعَ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَيَّدْنَا الْحُرَّ بِالْمُسْلِمِ لِنَتَحَرَّزَ عَنْ الْحُرِّ غَيْرِ الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: وَيُقْتَلُ الْحُرُّ الذِّمِّيُّ بِالْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَمْ يَكُنْ قَتَلَهُ غِيلَةً وَإِلَّا قُتِلَ الْقَاتِلُ، وَلَا يُشْتَرَطُ مُكَافَأَةٌ، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْحُرِّ قَاتِلِ الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ فِي غَيْرِ الْغِيلَةِ، وَفِي جُرْحِهِ مَا نَقْصُ قِيمَتِهِ كَالْجِنَايَةِ عَلَى الدَّابَّةِ الْمَمْلُوكَةِ لِغَيْرِ الْجَانِي لِأَنَّ الْعَبْدَ مَالٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ أَيْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَتَجِبُ قِيمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ قِنٌّ وَلَا مُبَعَّضًا أَوْ أُمَّ وَلَدٍ كَانَ قَتْلُهُ خَطَأً أَوْ عَمْدًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْجَانِي مُكَافِئًا لَهُ فَيُقْتَلُ بِهِ. (وَيُقْتَلُ بِهِ) أَيْ بِالْحُرِّ الْمُسْلِمِ (الْعَبْدُ) لِأَنَّهُ إذَا قُتِلَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ فَأَوْلَى الْحُرُّ الْمُسْلِمُ، وَمَعْنَى يُقْتَلُ بِهِ أَنَّهُ يَقْضِي بِقَتْلِهِ إنْ طَلَبَهُ الْوَلِيُّ، فَلَا يُنَافِي أَنَّ لِلْوَلِيِّ الْخِيَارَ بَيْنَ قَتْلِهِ وَاسْتِحْيَائِهِ، لَكِنْ اسْتِحْيَاؤُهُ يُثْبِتُ لِسَيِّدِهِ الْخِيَارَ بَيْنَ إسْلَامِهِ أَوْ دَفْعِ دِيَةِ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ، كَمَا أَنَّهُ يُخَيَّرُ إذَا قَتَلَ الْعَبْدُ حُرًّا مُسْلِمًا خَطَأً بَيْنَ تَسْلِيمِهِ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ أَوْ فِدَائِهِ بِدِيَةِ الْمَقْتُولِ، وَأَمَّا لَوْ وَقَعَتْ مِنْ رَقِيقٍ عَلَى رَقِيقٍ فَإِنْ كَانَتْ عَمْدًا فَالْقِصَاصُ وَلَوْ كَانَ الْمَقْتُولُ قِنَّا مَحْضًا وَالْقَاتِلُ فِيهِ شَائِبَةُ حُرِّيَّةٍ، حَكَّمَ مَا فِيهِ شَائِبَةٌ عَلَى الرِّقِّ حَتَّى يَخْرُجَ حُرًّا، وَفِي الْخَطَإِ جِنَايَتُهُ فِي رَقَبَتِهِ فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ بَيْنَ فِدَائِهِ وَإِسْلَامِهِ. (وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ) وَلَوْ رَقِيقًا (بِكَافِرٍ) وَلَوْ حُرًّا لِأَنَّ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَتْلُ الْأَدْنَى بِالْأَعْلَى كَحُرٍّ كِتَابِيٍّ بِعَبْدٍ مُسْلِمٍ، لِأَنَّ الْحُرَّ الْكِتَابِيَّ أَدْنَى مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ، إذْ حُرْمَةُ الْإِسْلَامِ لَا يُعَادِلُهَا حُرِّيَّةُ الْكِتَابِيِّ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ قَتْلِ الْغِيلَةِ، «فَقَدْ قَتَلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ مُسْلِمًا بِكَافِرٍ قَتَلَهُ غِيلَةً» ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ وَلَا يُقْتَلُ مُسْلِمٌ بِكَافِرٍ بِقَوْلِهِ: (وَيُقْتَلُ بِهِ) أَيْ الْمُسْلِمِ وَلَوْ رَقِيقًا (الْكَافِرُ) وَلَوْ حُرًّا لِأَنَّ حُرِّيَّةَ الْكَافِرِ لَا تُعَادِلُ شَرَفَ الْإِسْلَامِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ مَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مُكَافِئًا لِلْمَقْتُولِ حِينَ الْقَتْلِ ثُمَّ زَالَتْ الْمُسَاوَاةُ قَبْلَ الْقِصَاصِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا يَسْقُطُ الْقَتْلُ عِنْدَ الْمُسَاوَاةِ بِزَوَالِهَا بِعِتْقٍ أَوْ إسْلَامٍ، فَإِذَا قَتَلَ كَافِرٌ كَافِرًا ثُمَّ أَسْلَمَ الْكَافِرُ الْقَاتِلُ أَوْ قَتَلَ عَبْدٌ عَبْدًا ثُمَّ عَتَقَ الْقَاتِلُ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ الْقَاتِلُ فِي الصُّورَتَيْنِ، لِأَنَّ الشَّرْطَ الْمُسَاوَاةُ عِنْدَ الْقَتْلِ وَقَدْ وُجِدَتْ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْأَدْنَى يُقْتَلُ بِالْأَعْلَى بِخِلَافِ الْعَكْسِ فِي الْغِيلَةِ وَكَانَ حُكْمُ الْجِرَاحِ لَيْسَ كَالدِّمَاءِ قَالَ: (وَلَا قِصَاصَ) مَشْرُوعٌ (بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ فِي جَرْحٍ) حَصَلَ مِنْ أَحَدِهِمَا فِي الْآخَرِ، سَوَاءٌ كَانَ الْجَارِحُ الْحُرَّ أَوْ الْعَبْدَ، وَحِينَئِذٍ فَإِنْ كَانَ الْعَبْدُ هُوَ الَّذِي جَرَحَ الْحُرَّ فَالْعَبْدُ فِيمَا جَنَى، سَوَاءٌ جَنَى عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ الْحُرَّ فَإِنْ كَانَتْ عَلَى عُضُولٍ فِيهِ عَقْلٌ مُسَمًّى بِالنِّسْبَةِ لِلْحُرِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وَالْقَائِدُ وَالرَّاكِبُ ضَامِنُونَ لِمَا وَطِئَتْ الدَّابَّةُ. وَمَا كَانَ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ أَوْ وَهِيَ وَاقِفَةٌ لِغَيْرِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهَا فَذَلِكَ هَدَرٌ   [الفواكه الدواني] فَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِلْعَقْلِ لِقِيمَتِهِ، فَفِي قَطْعِ يَدِهِ نِصْفُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَفِي جَائِفَتِهِ أَوْ آمَّتِهِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ وَهَاشِمَتِهِ عُشْرُ قِيمَتِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا شَيْءٌ مُسَمًّى فَيَلْزَمُ فِيهَا مَا نَقَصَ مِنْ قِيمَتِهِ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ حُرٍّ وَعَبْدٍ أَنَّهُ يُقْتَصُّ لِلْحُرِّ مِنْ الْحُرِّ وَمِنْ الرَّقِيقِ لِلرَّقِيقِ وَلَوْ بِشَائِبَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا يُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضِ كَذَوِي الرُّوقِ: وَيُقْتَصُّ لِذَكَرِ كُلٍّ مِنْ أُنْثَاهُ كَمَا يُقْتَصُّ لِلضَّعِيفِ مِنْ الصَّحِيحِ وَعَكْسُهُ. قَالَ: وَذَكَرٌ وَصَحِيحٌ وَضِدُّهُمَا أَيْ يُقْتَصُّ لِكُلٍّ مِنْ الْآخَرِ. (وَلَا) قِصَاصَ أَيْضًا فِي جُرْحٍ وَقَعَ (بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ) وَحِينَئِذٍ فَإِنَّ الْجَارِحَ الْمُسْلِمَ فَعَلَيْهِ دِيَةُ عُضْوِ الْكَافِرِ، وَإِنْ وَقَعَتْ فِي شَيْءٍ لَا عَقْلَ لَهُ فَفِيهِ حُكُومَةٌ، وَإِنْ كَانَ الْجَارِحُ الْكَافِرَ فَعَلَيْهِ الدِّيَةُ أَوْ الْحُكُومَةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجُرْحُ كَالنَّفْسِ فِي الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ إلَّا نَاقِصًا جَرَحَ كَامِلًا فَلَا قِصَاصَ، وَعَلَى كَافِرٍ جَرَحَ مُسْلِمًا، وَلَا عَلَى عَبْدٍ جَرَحَ حُرًّا مُسْلِمًا وَإِنْ كَانَ يُقْتَصُّ مِنْهُمَا بِقَتْلِ النَّفْسِ، هَذَا هُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَبِهِ قَالَ الْفُقَهَاءُ السَّبْعَةُ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَتَلْزَمُ الدِّيَةُ. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا قِصَاصَ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ يُقْتَصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ، قَالَ خَلِيلٌ: وَالْكُفَّارُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ كِتَابِيٌّ وَمَجُوسِيٌّ وَمُؤْمِنٌ، لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ، فَيُقْتَصُّ لِلْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ مِنْ الْمَجُوسِيِّ وَعَابِدِ النَّارِ، وَالْمُؤَمَّنِ الْكَافِرِ الدَّاخِلِ بَلَدَ الْإِسْلَامِ بِأَمَانٍ. وَلَمَّا كَانَ مَا أَتْلَفَتْهُ الدَّابَّةُ ذَاتُ الْقَائِدِ أَوْ الرَّاكِبِ أَوْ السَّائِقِ مُتَعَلِّقًا بِهِ نَاسَبَ ذِكْرَهَا عَقِبَ جِنَايَةِ الشَّخْصِ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّائِقُ) لِلدَّابَّةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ الْمَقَامِ وَهُوَ الْحَاثُّ لَهَا عَلَى السَّيْرِ. (وَالْقَائِدُ) وَهُوَ الَّذِي يَتَقَدَّمُ أَمَامَهَا وَتَسِيرُ بِسَيْرِهِ. (وَالرَّاكِبُ) الْمُسْتَوْلِي عَلَى ظَهْرِهَا. (ضَامِنُونَ لِمَا وَطِئَتْ) أَيْ أَصَابَتْهُ وَأَتْلَفَتْهُ بِرِجْلِهَا (الدَّابَّةَ) وَكَيْفِيَّةُ الضَّمَانِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ مُخَاطَبٌ بِهِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ، وَأَمَّا عِنْدَ اجْتِمَاعِ الثَّلَاثَةِ فَالضَّمَانُ عَلَى الْقَائِدِ وَالسَّائِقِ وَلَا شَيْءَ عَلَى الرَّاكِبِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْمَتَاعِ الْكَائِنِ عَلَى ظَهْرِهَا، إلَّا أَنْ يَكُونَ إتْلَافُهَا بِسَبَبِ الرَّاكِبِ فَيَخْتَصُّ بِهِ الضَّمَانُ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُمَا مُشَارَكَةٌ فِي التَّسَبُّبِ، وَمِثْلُ مَا وَطِئَتْهُ مَا لَوْ طَارَتْ حَصَاةٌ مِنْ تَحْتِ حَافِرِهَا فَكَسَرَتْ آنِيَةً مَثَلًا فَضَمَانُهَا مِنْ قَائِدِهَا أَوْ سَائِقِهَا أَوْ رَاكِبِهَا عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ، خِلَافًا لِابْنِ زَرْبٍ فِي ذَلِكَ، وَمَفْهُومُ وَطِئَتْ الدَّابَّةُ أَنَّ مَا أَتْلَفَهُ وَلَدُ الدَّابَّةِ الْمَسُوقَةِ أَوْ الْمَرْكُوبَةِ أَوْ الْمُقَادَةِ لَا ضَمَانَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الثَّلَاثَةِ فِيهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ مَا لَوْ رَكِبَهَا شَخْصَانِ وَوَطِئَتْ شَيْئًا فَأَتْلَفَتْهُ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُمَا إنْ كَانَا عَلَى ظَهْرِهَا فَالضَّمَانُ عَلَى الْمُقَدَّمِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُؤَخَّرُ حَرَّكَهَا فَيَضْمَنَانِ مَعًا، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُؤَخَّرِ مِثْلُ أَنْ يَضْرِبَهَا الْمُؤَخَّرُ فَتَرْمَحَ بِضَرْبِهِ بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْمُقَدَّمُ عَلَى مَنْعِهَا وَتَقْتُلَ رَجُلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الْمُؤَخَّرِ خَاصَّةً، وَأَمَّا لَوْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الرَّاكِبَيْنِ فِي جَنْبِهَا لَاشْتَرَكَا فِي الضَّمَانِ، وَأَمَّا لَوْ رَكِبَهَا ثَلَاثَةٌ وَاحِدٌ عَلَى ظَهْرِهَا وَاثْنَانِ فِي جَنْبَيْهَا فَيَظْهَرُ أَنَّ الضَّمَانَ عَلَى الثَّلَاثِ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَبَبُ الْإِتْلَافِ مِنْ وَاحِدٍ فَيَخْتَصُّ بِهِ وَحَرَّرَهُ، هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِمَا وَطِئَتْهُ بِرِجْلِهَا، وَأَمَّا مَا كَدَمَتْهُ بِفَمِهَا أَوْ أَتْلَفَتْهُ بِذَنَبِهَا أَوْ نَفْخِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ السَّائِقِ وَالْقَائِدِ وَالرَّاكِبِ إلَّا أَنْ يَتَسَبَّبَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ تَسَبُّبِهِ لَوْ رَآهَا أَصَابَتْ شَيْئًا بِفَمِهَا وَتَمَكَّنَ مِنْ تَخْلِيصِهِ قَبْلَ إتْلَافِهِ وَلَمْ يَصْرِفْهَا لِأَنَّ حِفْظَ مَالِ الْغَيْرِ وَاجِبٌ، وَكَذَا يَضْمَنُ صَاحِبُهَا جَمِيعَ مَا أَتْلَفَتْهُ بِفِيهَا إذَا كَانَ شَأْنُهَا الْإِتْلَافَ بِهِ وَلَوْ عَجَزَ عَنْ تَخْلِيصِهِ الْآنَ، لِأَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ وَضْعُ شَيْءٍ عَلَى فِيهَا حَيْثُ اُشْتُهِرَتْ بِذَلِكَ لَا إنْ عَجَزَ عَنْ تَخْلِيصِهِ أَوْ لَمْ تَشْتَهِرْ بِذَلِكَ فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ شَيْئًا وَهِيَ فِي مَحَلِّ الرَّعْيِ أَيْ فِي مَحَلِّ وُقُوفِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا أَوْ فِي السُّوقِ أَوْ فِي بَابِ الْمَسْجِدِ كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، بِخِلَافِ إيقَافِهَا بِمَحَلٍّ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَتْهُ بِرِجْلِهَا، وَبَقِيَ مَا لَوْ ظَهَرَ تَلَفُ شَيْءٍ مِنْ الدَّابَّةِ وَلَمْ يُعْلَمْ هَلْ هُوَ بِمَا يُوجِبُ الضَّمَانَ أَوْ لَا؟ وَيَظْهَرُ عَدَمُ الضَّمَانِ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ التَّسَبُّبِ. وَبَقِيَ مَسَائِلُ أُخَرُ مِنْهَا مَنْ قَادَ قِطَارًا فَهُوَ ضَامِنٌ لِمَا وَطِئَ الْبَعِيرُ سَوَاءٌ كَانَ فِي أَوَّلِهِ أَوْ آخِرِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَعَ الْقَائِدِ سَائِقٌ فَإِنَّهُمَا يَكُونَانِ شَرِيكَيْنِ فِيمَا وَطِئَ الْآخِرُ وَحْدَهُ وَالْمُرَادُ بِهِ الَّذِي حَصَلَ فِيهِ السَّوْقُ، وَلَا يَضْمَنُ السَّائِقُ مَا أَصَابَ الَّذِي يَلِي الْآخِرَ لِأَنَّ السَّوْقَ يَنْفَعُ فِي الْآخِرِ وَمَا قَبْلَهُ. وَمِنْهَا مَا فِي الْكِتَابِ عَنْ مَالِكٍ فِي حَمَّالٍ حَمَلَ عَدْلَيْنِ عَلَى بَعِيرٍ لِغَيْرِهِ بِإِذْنِهِ وَهُوَ أَجِيرٌ فَسَارَ بِهِ وَسَطَ السُّوقِ فَانْقَطَعَ الْحَبْلُ وَسَقَطَ عَدْلٌ عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ ضَمِنَ الْجَمَّالُ دُونَ صَاحِبِ الْبَعِيرِ. وَمِنْهَا مَنْ سَقَطَ مِنْ فَوْقِ دَابَّةٍ عَلَى شَخْصٍ فَقَتَلَهُ فَالسَّاقِطُ ضَامِنٌ وَذَلِكَ عَلَى عَاقِلَتِهِ. وَمِنْهَا مَا قَالَهُ ابْنُ الْمَوَّازِ: مَنْ انْفَلَتَتْ دَابَّتُهُ فَنَادَى رَجُلًا يَحْبِسُهَا لَهُ فَلَمَّا ذَهَبَ لِيَحْبِسَهَا لَهُ ضَرَبَتْهُ فَمَاتَ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ وَهُوَ مِنْ فِعْلِ الْعَجْمَاءِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَأْمُورُ عَبْدًا أَوْ صَغِيرًا فَدِيَةُ الْحُرِّ عَلَى عَاقِلَتِهِ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ فِي مَالِهِ. وَمِنْهَا مَنْ دَفَعَ لِصَبِيٍّ دَابَّتَهُ أَوْ سِلَاحَهُ لِيُمْسِكَهُ فَعَطِبَ بِذَلِكَ فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ الدَّافِعِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الدَّابَّةُ يَسْقِيهَا لَهُ وَإِنْ كَانَ عَبْدًا وَلَوْ كَبِيرًا فَإِنَّ قِيمَتَهُ تَكُونُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 وَمَا مَاتَ فِي بِئْرٍ أَوْ مَعْدِنٍ مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَهُوَ هَدَرٌ. وَتُنَجَّمُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَثُلُثُهَا فِي سَنَةٍ وَنِصْفُهَا   [الفواكه الدواني] الدَّافِعِ مِنْ مَالِهِ، وَأَمَّا لَوْ أَمَرَ حُرًّا كَبِيرًا بِمَسْكِهَا فَقَتَلَتْهُ فَلَا ضَمَانَ عَلَى الْآمِرِ، كَمَا لَوْ أَتْلَفَتْ بَعْدَ انْفِلَاتِهَا مِنْ مَرْبِطِهَا الْحَافِظِ مِنْ الْهُرُوبِ شَخْصًا غَيْرَ مَأْمُورٍ بِمَسْكِهَا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، بِخِلَافِ لَوْ أَفْلَتَتْ مِنْ يَدِ إنْسَانٍ فَأَتْلَفَتْ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ ضَمَانَ فِعْلِ الْخَطَإِ. وَمِنْ الْمَسَائِلِ: لَوْ حَمَلَ صَبِيًّا عَلَى دَابَّتِهِ يَمْسِكُهَا لَهُ أَوْ يَسْقِيهَا فَوَطِئَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَةِ الصَّغِيرِ وَلَا رُجُوعَ لِعَاقِلَتِهِ عَلَى عَاقِلَةِ الرَّجُلِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِالصَّغِيرِ الْمُرَاهِقُ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَحْمُولُ حُرًّا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ عَبْدًا صَغِيرًا وَحَمَلَهُ عَلَى دَابَّتِهِ فَوَطِئَتْ رَجُلًا فَقَتَلَتْهُ فَإِنَّ سَيِّدَهُ يُخَيَّرُ بَيْنَ أَنْ يَفْدِيَهُ بِدِيَةِ الْحُرِّ أَوْ يُسَلِّمَهُ لِوَلِيِّ الْمَقْتُولِ وَلَا يَرْجِعُ سَيِّدُ الْعَبْدِ عَلَى الْحَامِلِ لَهُ بِشَيْءٍ. وَمِنْهَا لَوْ نَخَسَ أَجْنَبِيٌّ دَابَّةً لَهَا سَائِقٌ أَوْ قَائِدٌ أَوْ رَاكِبٌ وَنَشَأَ عَنْ نَخْسِهَا شَيْءٌ فَعَلَى النَّاخِسِ دُونَ مَنْ مَعَهَا مِنْ سَائِقٍ أَوْ قَائِدٍ أَوْ رَاكِبٍ حَتَّى لَوْ قَتَلَتْ شَخْصًا بِنَخْسِهَا لَوَجَبَتْ دِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ ذَلِكَ النَّاخِسِ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى أَنَّ الْهَارِبَ الْخَائِفَ إذَا وَطِئَ أَوْ صَدَمَ شَيْئًا فَذَلِكَ عَلَى الَّذِي فَعَلَ بِهِ. وَلَمَّا كَانَ ضَمَانُ مَا وَطِئَتْهُ الدَّابَّةُ وَأَتْلَفَتْهُ مِنْ السَّائِقِ أَوْ الْقَائِدِ لِتَسَبُّبِهِ، ذَكَرَ هُنَا حُكْمَ مَا إذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ تَسَبُّبِهِمْ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كَانَ مِنْهَا) أَيْ وَالْإِتْلَافُ الْحَاصِلُ مِنْ الدَّابَّةِ (مِنْ غَيْرِ فِعْلِهِمْ) أَيْ الرَّاكِبِ وَالسَّائِقِ وَالْقَائِدِ بِأَنْ أَتْلَفَتْهُ بِذَنَبِهَا أَوْ كَدَمَتْهُ بِفَمِهَا وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِذَلِكَ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ سَائِقُهَا أَوْ قَائِدُهَا أَوْ رَاكِبُهَا مِنْ مَنْعِهَا. (أَوْ) أَتْلَفَتْهُ (وَهِيَ وَاقِفَةٌ) فِي مَحَلِّهَا الْمُعَدِّ لَهَا أَوْ الْمَأْذُونِ فِيهِ شَرْعًا كَبَابِ الْمَسْجِدِ أَوْ السُّوقِ وَلَمْ تَكُنْ مَعْرُوفَةً بِالْعَدَاءِ وَحَصَلَ الْإِتْلَافُ مِنْهَا. (لِغَيْرِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهَا فَذَلِكَ هَدَرٌ) أَيْ سَاقِطٌ عَنْ صَاحِبِهَا وَهُوَ بِفَتْحِ الْهَاءِ وَالدَّالِ وَقَدْ تَسْكُنُ الدَّالُ، وَأَمَّا لَوْ أَتْلَفَتْ مِنْ أَجْلِ شَيْءٍ فُعِلَ بِهَا فَضَمَانُهُ عَلَى الْفَاعِلِ، كَمَا لَوْ ضَرَبَهَا شَخْصٌ فَضَرَبَتْ بِرِجْلِهَا أَوْ بِقَرْنِهَا آخَرَ فَقَتَلَتْهُ هَذَا كُلُّهُ فِيمَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ غَيْرِ الزُّرُوعِ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ مَا إذَا أَتْلَفَتْ شَيْئًا مِنْ الزُّرُوعِ وَالْحَوَائِطِ فِي غَيْرِ هَذَا الْبَابِ. (وَمَا مَاتَ فِي بِئْرٍ) أَيْ وَاَلَّذِي مَاتَ بِسَبَبِ انْهِدَامِ بِئْرٍ عَلَيْهِ اُسْتُؤْجِرَ عَلَى حَفْرِهَا أَوْ بِنَائِهَا أَوْ غَوْصِهَا. (أَوْ) مَاتَ فِي (مَعْدِنٍ) اُسْتُؤْجِرَ عَلَى الْعَمَلِ فِيهِ وَالْحَالُ أَنَّ مَوْتَ مَنْ ذُكِرَ (مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ فَهُوَ هَدَرٌ) خَبَرُ مَا الْوَاقِعَةِ مُبْتَدَأً أَيْ لَا ضَمَانَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لَهُ وَلَا قَوَدَ وَلَا دِيَةَ، وَمَوْضُوعُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْحَفْرَ فِي مَحَلٍّ يُجَوَّزُ الْحَفْرُ فِيهِ، وَالْأَصْلُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فِعْلُ الْعَجْمَاءِ جُبَارٌ وَالْبِئْرُ جُبَارٌ وَالْمَعْدِنُ جُبَارٌ وَفِي الرِّكَازِ الْخُمْسُ» . وَالْعَجْمَاءُ بِالْمَدِّ كُلُّ حَيَوَانٍ غَيْرُ الْآدَمِيِّ، وَسُمِّيَتْ الْبَهِيمَةُ بِالْعَجْمَاءِ لِأَنَّهَا لَا تَتَكَلَّمُ، وَالْجُبَارُ بِضَمِّ الْجِيمِ وَتَخْفِيفِ الْمُوَحَّدَةِ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: مِنْ غَيْرِ فِعْلِ أَحَدٍ عَمَّا لَوْ كَانَا اثْنَيْنِ فَمَاتَا فَإِنَّ نِصْفَ دِيَةِ كُلٍّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ، وَإِنْ كَانُوا ثَلَاثَةً فَثُلُثُ دِيَةِ كُلٍّ عَلَى عَاقِلَةِ الْآخَرِ، وَهَكَذَا لَوْ كُثْرُ وَالتَّسَبُّبُ كُلٌّ فِي قَتْلِهِ وَقَتْلِ صَاحِبِهِ فَمَاتَا بِهِ سَاقِطٌ كَقَتْلِ نَفْسِهِ وَتُؤْخَذُ عَاقِلَتُهُ بِمَا تَسَبَّبَ فِي غَيْرِهِ، وَكَذَا لَوْ حَفَرَ بِئْرًا فِي مَحَلٍّ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَفْرُ فِيهِ فَمَا تَلَفَ فِيهِ يَضْمَنُهُ الْمَالُ فِي مَالِهِ وَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِ إنْ بَلَغَتْ الثُّلُثَ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ دِيَةَ الْعَمْدِ وَمَا فِي حُكْمِهَا مِمَّا لَا تَحْمِلُهُ الْعَاقِلَةُ لِنَقْصِهِ عَنْ الثُّلُثِ حَالَّةً فِي مَالِ الْجَانِي ذَكَرَ هُنَا أَنَّ دِيَةَ الْخَطَإِ تُنَجَّمُ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِقَوْلِهِ: (وَتُنَجَّمُ) أَيْ تُقَسَّطُ (الدِّيَةُ) الْكَامِلَةُ (عَلَى الْعَاقِلَةُ) فِي قَتْلِ الْخَطَإِ (فِي ثَلَاثِ سِنِينَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُجِّمَتْ دِيَةُ الْحُرِّ بِلَا اعْتِرَافٍ عَلَى الْعَاقِلَةِ وَالْجَانِي الْكَامِلَةُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ تَحِلُّ بِأَوَاخِرِهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ دِيَةَ الْحُرِّ الْمَقْتُولِ خَطَأً إذَا ثَبَتَتْ بِغَيْرِ اعْتِرَافِ الْقَاتِلِ تُفَرَّقُ عَلَى عَاقِلَةِ الْقَاتِلِ ثَلَاثَةَ أَقْسَاطٍ، سَوَاءٌ كَانَ الْحُرُّ الْمَقْتُولُ مُسْلِمًا أَوْ كَافِرًا ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى، وَالْقَاتِلُ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ وَهُمْ عَصَبَتُهُ مِنْ النَّسَبِ أَوْ الْوَلَاءِ أَوْ أَهْلَ دِيوَانِهِ أَوْ بَيْتُ الْمَالِ، لَكِنْ عِنْدَ وُجُودِ الْجَمِيعِ الْمَبْدَأُ أَهْلُ الدِّيوَانِ الْقَائِمِ الْعَطَاءِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَعَصَبَتُهُ نَسَبًا، وَإِلَّا فَالْمَوَالِي الْأَعْلَوْنَ ثُمَّ الْأَعْلَوْنَ ثُمَّ الْأَسْفَلُونَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَوَالٍ فَبَيْتُ الْمَالِ إنْ كَانَ الْجَانِي مُسْلِمًا، وَيُضْرَبُ عَلَيْهِ مَا يُضْرَبُ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ مَعَ الْعَاقِلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَتُؤْخَذُ مِنْ مَالِ الْجَانِي، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهَا تُقَسَّطُ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ أَحَقُّ بِالرِّفْقِ مِنْ الْعَاقِلَةِ وَحَرَّرَهُ، وَأَمَّا الذِّمِّيُّ إذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ دِيوَانٍ وَلَا عَصَبَةَ لَهُ فَيَعْقِلُ عَنْهُ أَهْلُ دِيَتِهِ مِنْ كُورَتِهِ، فَلَا يَعْقِلُ نَصْرَانِيٌّ عَنْ يَهُودِيٍّ وَلَا عَكْسُهُ وَالصُّلْحِيُّ أَهْلُ صُلْحِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِهَا فَقِيلَ سَبْعُمِائَةِ رَجُلٍ يَنْتَسِبُونَ إلَى أَبٍ وَاحِدٍ، وَقِيلَ الزَّائِدُ عَلَى الْأَلْفِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ إنْ نَقَصُوا عَنْ السَّبْعِمِائَةِ كَمَّلُوا مِنْ غَيْرِهِمْ، وَعَلَى الثَّانِي كَذَلِكَ، وَيُضْرَبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مَا لَا يُضَرُّ بِهِ فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمُتَّسِعِ فِي الْغِنَى بِقَدْرِهِ وَمِمَّنْ دُونَهُ بِقَدْرِهِ، وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ وَالْمَرْأَةُ وَالْفَقِيرُ وَالْغَارِمُ يُعْقَلُ عَنْهُمْ وَلَا يَعْقِلُونَ عَنْ غَيْرِهِمْ، وَالْمُعْتَبَرُ حَالُهُمْ وَقْتَ تَوْزِيعِ الدِّيَةِ، فَمَنْ كَانَ غَائِبًا عَنْ مَحَلِّ الْقَاتِلِ غَيْبَةَ انْقِطَاعٍ أَوْ فَقِيرًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُضْرَبْ عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلَوْ قَدِمَ الْغَائِبُ بَعْدَ ذَلِكَ أَوْ بَلَغَ الصَّبِيُّ أَوْ أَفَاقَ الْمَجْنُونُ أَوْ أَيْسَرَ الْفَقِيرُ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ شَيْءٌ مِنْ الْمَضْرُوبِ بِزَوَالِ الْغِنَى أَوْ بِالْمَوْتِ، وَتَكُونُ الْأَقْسَاطُ مُتَسَاوِيَةً، وَيُعْطَى كُلُّ ثُلُثٍ فِي آخِرِ السَّنَةِ كَمَا قَضَى بِذَلِكَ عُمَرُ وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 فِي سَنَتَيْنِ. وَالدِّيَةُ مَوْرُوثَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ. وَفِي جَنِينِ الْحُرَّةِ غُرَّةُ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٌ تُقَوَّمُ بِخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ.   [الفواكه الدواني] وَعَنْ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ لِأَنَّهَا مُوَاسَاةٌ مِنْ الْعَاقِلَةِ فَتُخَفَّفُ عَنْهُمْ بِتَأْجِيلِهَا لَآخِرِ الْعَامِ، وَسُمِّيَتْ عَاقِلَةً لِأَنَّهَا تَعْقِلُ عَنْ الْقَاتِلِ أَوْ تَحْمِلُ عَنْهُ، وَقِيلَ لِأَنَّهَا تَعْقِلُ لِسَانَ الطَّالِبِ عَنْ الْجَانِي، وَقِيلَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَعْقِلُونَ الْإِبِلَ عِنْدَ دَارِ الْمَقْتُولِ وَهَكَذَا كَانَتْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَأَقَرَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْإِسْلَامِ. (وَ) إنْ كَانَ الْوَاجِبُ (ثُلُثَهَا) بِأَنْ كَانَ الْجُرْحُ جَائِفَةً أَوْ آمَّةً أَوْ دَامِغَةً فَإِنَّهُ يُقْبَضُ مِنْ الْعَاقِلَةِ (فِي) آخِرِ (سَنَةٍ) لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ إلَّا بِانْقِضَائِهَا وَإِبْدَاؤُهَا مِنْ يَوْمِ الْحُكْمِ وَالثُّلُثَانِ فِي سَنَتَيْنِ. (وَ) إنْ كَانَ الْوَاجِبُ (نِصْفَهَا) كَمَا لَوْ قَطَعَ يَدَ أَوْ رِجْلَ شَخْصٍ خَطَأً فَإِنَّهَا تُؤْخَذُ (فِي سَنَتَيْنِ) يَحِلُّ فِي آخِرِ السَّنَةِ الْأُولَى ثُلُثُهَا وَفِي الثَّانِيَةِ سُدُسُهَا، هَكَذَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَنِصْفُهَا فِي سَنَتَيْنِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِابْنِ الْحَاجِبِ وَخَلِيلٍ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ: وَالثُّلُثُ وَالثُّلُثَانِ بِالنِّسْبَةِ وَنُجِّمَ فِي النِّصْفِ وَالثَّلَاثَةِ الْأَرْبَاعِ بِالتَّثْلِيثِ ثُمَّ لِلزَّائِدِ سَنَةٌ. وَفِي الْأُجْهُورِيِّ مَا يَقْتَضِي أَنَّ هَذَا خِلَافُ الْمَشْهُورِ، وَأَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّ النِّصْفَ يُجْعَلُ شَطْرَيْنِ لِكُلِّ سَنَةٍ شَطْرٌ، فَإِنَّهُ صَوَّبَ كَلَامَ خَلِيلٍ بِقَوْلِهِ: وَلَوْ قَالَ وَنُجِّمَ فِي الْمُصَنِّفِ وَالثَّلَاثَةِ أَرْبَاعٍ بِالتَّرْبِيعِ رُبْعٌ بِآخِرِ كُلِّ عَامٍ لَوَافَقَ الرَّاجِحَ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ كَلَامَ الْأُجْهُورِيِّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَامِلَةَ تُنَجَّمُ عَلَى أَرْبَعِ سِنِينَ عَلَى الْقَوْلِ الشَّاذِّ الْمُقَابِلِ لِمَا عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ وَخَلِيلٌ وَابْنُ الْحَاجِبِ مِنْ جَعْلِ الْكَامِلَةِ فِي ثَلَاثٍ. [مُسْتَحَقّ دِيَةِ الْمَقْتُولِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مُسْتَحَقِّ دِيَةِ الْمَقْتُولِ بِقَوْلِهِ: (وَالدِّيَةُ) وَهِيَ الْمَالُ الْمُؤَدَّى فِي نَظِيرِ دَمِ الْمَقْتُولِ (مَوْرُوثَةٌ عَلَى الْفَرَائِضِ) سَوَاءٌ كَانَتْ دِيَةَ عَمْدٍ أَوْ خَطَأٍ فَهِيَ كَمَالِ الْمَيِّتِ، فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ وَرَثَةِ الْمَقْتُولِ نَصِيبَهُ الْمُقَدَّرَ لَهُ فِي مَالِهِ بِنَصِّ كِتَابِ اللَّهِ إلَّا الْقَاتِلَ، الدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَتَبَ إلَى بَعْضِ أَصْحَابِهِ أَنْ يُوَرِّثَ امْرَأَةً مِنْ دِيَةِ زَوْجِهَا الْمَقْتُولِ خَطَأً» . وَفِي قَوْلِهِ مَوْرُوثَةٌ مُنَاقَشَةٌ لِمَا أَنَّ الْإِرْثَ إنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْمَالِ الَّذِي كَانَ مَمْلُوكًا لَلْمَوْرُوثِ فِي حَالِ حَيَاتِهِ، وَالدِّيَةُ إنَّمَا اسْتَحَقَّتْهَا الْوَرَثَةُ بَعْدَ مَوْتِهَا، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنْ يَمْلِكَهَا بِآخِرِ جُزْءٍ مِنْ حَيَاتِهِ، بِدَلِيلِ أَنَّ دِيَتَهُ يُقْضَى مِنْهَا وَتُنَفَّذُ وَصَايَاهُ مِنْهَا، وَإِذَا عَفَا عَنْ قَاتِله خَطَأً فَإِنَّ عَفْوَهُ يَكُونُ وَصِيَّةً لِلْعَاقِلَةِ بِدِيَتِهِ فَإِنْ حَمَلَهَا ثُلُثُهُ سَقَطَتْ عَنْهُمْ، مَعَ أَنَّ الْوَصِيَّةَ إنَّمَا تَكُونُ مِنْ ثُلُثِ مَا عُلِمَ بِهِ مِنْ مَالِهِ فِي حَيَاتِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ فِي الْجَنِينِ بِقَوْلِهِ: (وَ) الْوَاجِبُ (فِي جَنِينِ) أَيْ حَمْلِ (الْحُرَّةِ) مُسْلِمَةً أَوْ كَافِرَةً إذَا انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ وَهِيَ حَيَّةٌ بِسَبَبِ ضَرْبَةٍ أَوْ تَخْوِيفٍ أَوْ شَمِّ رَائِحَةِ سَمَكٍ مِنْ عِنْدِ مَنْ يَعْلَمُ حَمْلَهَا وَأَنَّ عَدَمَ إطْعَامِهَا يُسْقِطُهُ (غُرَّةٌ) وَهِيَ (عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ) أَيْ جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ بَلَغَتْ حَدَّ الْإِثْغَارِ بِحَيْثُ (تُقَوَّمُ) تِلْكَ الرَّقَبَةُ (بِخَمْسِينَ دِينَارًا أَوْ سِتِّمِائَةِ دِرْهَمٍ) وَذَلِكَ نِصْفُ عُشْرِ دِيَةِ أَبِيهِ وَعُشْرُ دِيَةِ أُمِّهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الْجَنِينِ وَإِنْ عَلَقَةً عُشْرُ أُمِّهِ وَلَوْ أَمَةً نَقْدًا أَوْ غُرَّةً عَبْدًا أَوْ وَلِيدَةً تُسَاوِيهِ أَيْ الْعُشْرَ، لِأَنَّ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الْغُرَّةَ لَا تَكُونُ مِنْ الْإِبِلِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ كُلَّ مَنْ تَسَبَّبَ فِي إنْزَالِ جَنِينٍ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ وَنَزَلَ غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ كَمَا قَدَّمْنَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ لِمَنْ يَرِثُهُ عُشْرُ وَاجِبِ أُمِّهِ مِنْ النَّقْدِ الْحَالِ أَوْ يَدْفَعُ فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ عَبْدًا أَوْ جَارِيَةً تُسَاوِي عُشْرَ دِيَةِ أُمِّهِ، وَلَوْ كَانَ سَبَبُ نُزُولِهِ شَمَّهَا رَائِحَةً حَيْثُ طَلَبَتْ مِنْ ذِي الرَّائِحَةِ شَيْئًا وَلَمْ يُعْطِهَا أَوْ عَلِمَ بِحَمْلِهَا وَبِأَنَّ عَدَمَ تَنَاوُلِهَا مِنْهُ يُسْقِطُ جَنِينَهَا وَأَلْقَتْ مَا فِي بَطْنِهَا فَإِنَّهُ يَضْمَنُ، وَلَوْ لَمْ تُطْلَبْ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ الْجَنِينُ دَمًا مُجْتَمِعًا بِحَيْثُ إذَا صُبَّ عَلَيْهِ الْمَاءُ الْحَارُّ لَا يَذُوبُ لِأَنَّ الْعَلَقَةَ عِنْدَنَا فِي بَابِ الْغُرَّةِ وَالْعِدَّةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ حُكْمُ الْمُتَخَلِّقِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي لُزُومِ الْغُرَّةِ شَهَادَةُ الْبَيِّنَةِ أَنَّ إنْزَالَ الْجَنِينِ مِنْ هَذَا السَّبَبِ بِأَنْ عَايَنَتْهَا لَزِمَتْ الْفِرَاشَ إلَى أَنْ انْفَصَلَ مِنْهَا غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ وَهِيَ حَيَّةٌ، وَأَمَّا لَوْ نَزَلَ مُسْتَهِلًّا فَإِنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الدِّيَةُ كَامِلَةً بِشَرْطِ الْقَسَامَةِ وَلَوْ مَاتَ عَاجِلًا، وَقَوْلُنَا: وَهِيَ حَيَّةٌ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ انْفَصَلَ عَنْهَا غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ بَعْدَ مَوْتِهَا أَوْ بَعْضُهُ فِي حَيَاتِهَا وَبَعْضُهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِنَّهُ يَنْدَرِجُ فِيهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا فِي الْمُوَطَّإِ: «أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَضَى فِي الْجَنِينِ يُقْتَلُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ» وَفِي رِوَايَةٍ لَهُ: «أَنَّ امْرَأَتَيْنِ مِنْ هُذَيْلٍ رَمَتْ إحْدَاهُمَا الْأُخْرَى فَطَرَحَتْ جَنِينَهَا فَقَضَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِغُرَّةِ عَبْدٍ أَوْ وَلِيدَةٍ» . (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا وَمِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ الْغُرَّةَ لَا يَتَعَيَّنُ فِيهَا الْعَبْدُ وَلَا غَيْرُهُ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى قَوْلِ مَالِكٍ وَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ، وَيُخَيَّرُ الْجَانِي بَيْنَ غُرْمِ الْغُرَّةِ أَوْ عُشْرِ دِيَةِ الْأُمِّ مِنْ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ عَلَى الْحُلُولِ وَلَا يُعْطَى فِيهَا إبِلٌ وَلَا بَقَرٌ. الثَّانِي: إذَا كَانَ الْجَنِينُ مُتَعَدِّدًا تَعَدَّدَ الْوَاجِبُ قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَدَّدَ الْوَاجِبُ بِتَعَدُّدِهِ وَهُوَ الْغُرَّةُ إنْ نَزَلَ مَيِّتًا وَالدِّيَةُ مَعَ الْقَسَامَةِ إنْ نَزَلَ مُسْتَهِلًّا وَهَذَا الْحُكْمُ عَامٌ وَلَوْ كَانَ الْجَنِينُ مِنْ زِنًى. الثَّالِثُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْوَاجِبَ فِي الْجَنِينِ يَكُونُ عَلَى الْجَانِي وَعَلَى الْحُلُولِ مَحَلَّهُ وَلَوْ كَانَتْ الْجِنَايَةُ خَطَأً مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَبْلُغْ الْوَاجِبُ فِي الْخَطَإِ الثُّلُثَ وَإِلَّا كَانَ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي، كَمَجُوسِيٍّ ضَرَبَ بَطْنَ حُرَّةٍ مُسْلِمَةٍ فَأَلْقَتْ جَنِينَهَا غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ لِأَنَّ الْغُرَّةَ أَكْثَرُ مِنْ ثُلُثِ دِيَةِ الْمَجُوسِيِّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وَتُورَثُ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ. وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ مَالٍ وَلَا دِيَةٍ. وَقَاتِلُ الْخَطَإِ يَرِثُ مِنْ الْمَالِ دُونِ الدِّيَةِ. وَفِي جَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَتِهَا. وَمَنْ قَتَلَ عَبْدًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ. وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ   [الفواكه الدواني] يَسْتَحِقُّ الْغُرَّةَ بِقَوْلِهِ: (وَتُورَثُ) أَيْ الْغُرَّةُ (عَلَى حُكْمِ الْفَرَائِضِ) الْمُفَصَّلَةِ (فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى) وَقَالَ خَلِيلٌ: وَوُرِّثَتْ عَلَى الْفَرَائِضِ وَلَا يُخَالِفُ هَذَا قَوْلَهُمْ: إنَّ الْجَنِينَ إذَا لَمْ يَسْتَهِلَّ لَا يَرِثُ وَلَا يُورَثُ لِأَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمَالِ الَّذِي يَمْلِكُهُ لَا عَلَى مَا يَشْمَلُ مَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ ذَاتِهِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ إرْثِهَا عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ فَيَأْخُذُ مِنْهَا حَتَّى الْإِخْوَةُ وَبَقِيَّةُ الْعَصَبَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ الَّذِي رَجَعَ إلَيْهِ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بَعْدَ أَنْ كَانَ يَقُولُ: هِيَ لِلْأَبَوَيْنِ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا أَحَدُهُمَا فَهِيَ لَهُ خَاصَّةٌ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى كَوْنِهَا إرْثًا لَوْ كَانَ الضَّارِبُ لِبَطْنِ أُمِّ الْجَنِينِ هُوَ الْأَبُ يَلْزَمُهُ الْغُرَّةَ وَلَا يَرِثُ مِنْهَا، كَذَا لَوْ شَرِبَتْ الْأُمُّ لِإِسْقَاطِهَا مَا فِي بَطْنِهَا فَتَجِبُ عَلَيْهَا الْغُرَّةُ وَلَا تَرِثُ مِنْهَا لِأَنَّ الْقَاتِلَ لَا يَرِثُ الْمَقْتُولَ. كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ) الْعُدْوَانِ (مِنْ مَالِ) الْمَقْتُولِ الَّذِي تَرَكَهُ (وَلَا) مِنْ (دِيَةٍ) أُخِذَتْ فِي نَظَرِ دَمِهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقَاتِلُ لَا يَرِثُ مَقْتُولَهُ لِاتِّهَامِهِ عَلَى اسْتِعْجَالِ مَوْتِهِ» فَعُوقِبَ بِالْحِرْمَانِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَرِثْ مِنْ دِيَتِهِ لِوُجُوبِهَا بِفِعْلِهِ، وَيَسْتَحِيلُ أَنْ يَجِبَ عَلَى الشَّخْصِ شَيْءٌ لِنَفْسِهِ، وَكَمَا لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ لَا يَحْجُبُ وَارِثًا، وَقَيَّدْنَا الْعَمْدَ بِالْعُدْوَانِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْعَمْدِ غَيْرِ الْعُدْوَانِ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْمِيرَاثِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ فِي الْبَاعِيَةِ: وَكُرِهَ لِلرَّجُلِ قَتْلُ أَبِيهِ وَوَرِثَهُ. (وَ) مَفْهُومُ قَاتِلِ الْعَمْدِ أَنَّ (قَاتِلَ الْخَطَإِ يَرِثُ مِنْ الْمَالِ) الَّذِي تَرَكَهُ الْمَقْتُولُ لِعَدَمِ اتِّهَامِهِ مَعَ ثُبُوتِ الْخَطَإِ. (دُونَ الدِّيَةِ) لِأَنَّهَا مِنْ سَبَبِهِ وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِيهَا: {فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء: 92] وَلَوْ كَانَ يَرِثُهَا لَمْ يُسَلِّمْهَا، وَمَنْ لَا يَرِثُ مِنْهَا لَا يَحْجُبُ الْوَارِثَ لَهَا، فَإِذَا فَرَضْنَا ثَلَاثَةَ إخْوَةٍ لِأُمٍّ لَهُمْ أُمٌّ حَيَّةٌ وَقَتَلَ أَحَدُهُمْ أَخَاهُ خَطَأً فَإِنَّ الْأُمَّ تَرِثُ مِنْ دِيَةِ الْمَقْتُولِ الثُّلُثَ، وَالثُّلُثَانِ لِلْأَخِ، وَلَا يُقَالُ لِلْأُمِّ السُّدُسُ مَعَ تَعَدُّدِ الْإِخْوَةِ لِأَنَّ الْقَاتِلَ غَيْرُ وَارِثٍ مِنْ الدِّيَةِ فَلَا يَحْجُبُ الْوَارِثَ لَهَا، وَأَمَّا إرْثُهَا مِنْ مَتْرُوكِ الْمَقْتُولِ غَيْرِ الدِّيَةِ فَهُوَ السُّدُسُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَفْهُومِ جَنِينِ الْحُرَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَ) الْوَاجِبُ (فِي جَنِينِ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا) الْحُرِّ (مَا) يَجِبُ (فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ) مِنْ أَهْلِ دِينِ سَيِّدِهَا وَهُوَ عُشْرُ دِيَةِ الْأُمِّ مِنْ النَّقْدِ الْحَالِ أَوْ عَبْدٌ أَوْ وَلِيدَةٌ تُسَاوِي الْعُشْرَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْأَمَةُ مِنْ سَيِّدِهَا وَالنَّصْرَانِيَّة مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ كَالْحُرَّةِ أَيْ وَجَنِينُ الْأَمَةِ مِنْ سَيِّدِهَا الْحُرِّ الْمُسْلِمِ كَجَنِينِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ فَفِيهِ عُشْرُ دِيَتِهَا، وَكَذَلِكَ الْيَهُودِيَّةُ أَوْ النَّصْرَانِيَّةُ مِنْ الْعَبْدِ الْمُسْلِمِ يَتَزَوَّجُهَا كَجَنِينِ الْحُرَّةِ الْمُسْلِمَةِ لِأَخْذِ الْحُرِّيَّةِ مِنْ أُمِّهِ وَالْإِسْلَامِ مِنْ أَبِيهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ مِنْ سَيِّدِهَا لَا مَفْهُومَ لَهُ بَلْ الْمَدَارُ أَنْ يَكُونَ الْجَنِينُ تَخَلَّقَ عَلَى الْحُرِّيَّةِ فَيَشْمَلُ وَلَدَ الْأَمَةِ الْغَارَةِ لِحُرَّةٍ وَأَمَةٍ كَالْجَدِّ فَإِنَّ فِي جَنِينِ مَنْ ذُكِرَ مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ، وَقَوْلُهُ: مَا فِي جَنِينِ الْحُرَّةِ أَيْ مِنْ أَهْلِ دِينِ سَيِّدِهَا مُسْلِمًا أَوْ ذِمِّيًّا كَمَا أَشَرْنَا إلَيْهِ فِي صَدْرِ الْكَلَامِ. (وَ) مَفْهُومُ سَيِّدِهَا أَنَّ جَنِينَهَا (إنْ كَانَ مِنْ غَيْرِهِ) أَيْ مِنْ غَيْرِهَا بِأَنْ كَانَ مِنْ سَيِّدٍ زَنَى أَوْ مِنْ زَوْجٍ وَلَوْ حُرًّا مَعَ عِلْمِهِ (فَفِيهِ عُشْرُ قِيمَتِهَا) أَيْ الْأُمِّ وَلَوْ زَادَ عَلَى الْغُرَّةِ، كَمَا أَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ إنْ أُنْزِلَ مُسْتَهِلًّا قِيمَتُهُ وَلَوْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ. (تَنْبِيهٌ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ مَا يَجِبُ فِي جَنِينِ الْآدَمِيَّةِ مِنْ حُرَّةٍ أَوْ أَمَةٍ، وَسَكَتَ عَنْ جَنِينِ الْبَهِيمَةِ إذَا تَسَبَّبَ إنْسَانٌ فِي قَتْلِهِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنْ تُقَوَّمُ أُمُّهُ حَامِلًا بِهِ وَعَلَى حَالِهَا بَعْدَ انْفِصَالِهِ، وَيُنْظَرُ مَا نَقَصَتْهُ قِيمَتُهَا بَعْدَ نُزُولِهِ عَنْ قِيمَتِهَا حَامِلًا بِهِ، فَمَا نَقَصَ يَغْرَمُهُ الْجَانِي هَذَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأُمِّ، وَأَمَّا الْوَلَدُ فَإِنْ نَزَلَ مَيِّتًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ نَزَلَ حَيًّا حَيَاةً مُسْتَقِرَّةً فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ مَعَ غُرْمِ نَقْصِ الْأُمِّ، لِأَنَّ نَحْوَ الْبَقَرَةِ تَنْقُصُ قِيمَتُهَا بَعْدَ فَقْدِ وَلَدِهَا عَنْ قِيمَتِهَا مَعَ حَيَاتِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْأَعْلَى لَا يُقْتَلُ بِالْأَدْنَى قِصَاصًا قَالَ: (وَمَنْ قَتَلَ) مِنْ الْأَحْرَارِ (عَبْدًا) أَيْ رَقِيقًا وَلَوْ ذَا شَائِبَةٍ كَمُكَاتَبٍ أَوْ أُمِّ وَلَدٍ. (فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ) وَلَوْ زَادَتْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ وَيَغْرَمُهَا الْقَاتِلُ فِي مَالِهِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الرَّقِيقِ قِيمَتُهُ وَإِنْ زَادَتْ أَيْ عَلَى دِيَةِ الْحُرِّ، وَقَوْلُنَا: مِنْ الْأَحْرَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ قَتَلَهُ رَقِيقٌ فَالْقِصَاصُ أَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ غِيلَةً فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ. (تَنْبِيهٌ) بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ مَا يَجِبُ عَلَى قَاتِلِ الرَّقِيقِ وَلَمْ يُبَيِّنْ مَا يَجِبُ عَلَى مَنْ جَرَحَهُ، وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْقِيمَةُ لِلْعَبْدِ كَالدِّيَةِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقِيمَةَ لِلْعَبْدِ فِي جِرَاحَاتِهِ كَالدِّيَةِ لِلْحُرِّ فِي النِّسْبَةِ إلَيْهَا، فَمَا يَجِبُ فِي جِرَاحَاتِ الْمُسْلِمِ يُنْسَبُ إلَى دِيَتِهِ، وَمَا يَجِبُ فِي جِرَاحَاتِ الرَّقِيقِ يُنْسَبُ إلَى قِيمَتِهِ، فَفِي جَائِفَتِهِ وَآمَّتِهِ ثُلُثُ قِيمَتِهِ، وَفِي مُوضِحَتِهِ نِصْفُ عُشْرِ قِيمَتِهِ، وَفِي مُنَقِّلَتِهِ وَهِيَ الْهَاشِمَةُ عُشْرُ قِيمَتِهِ وَنِصْفُ عُشْرِهَا، وَمَا عَدَا تِلْكَ الْجِرَاحَاتِ مِنْ يَدٍ وَعَيْنٍ وَرِجْلٍ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا مَا نَقَصَتْهُ قِيمَتُهُ سَالِمًا. وَلَمَّا كَانَ قَتْلُ الْمُحَارِبِ وَهُوَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ السُّلُوكِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ قَالَ: (وَتُقْتَلُ الْجَمَاعَةُ) الْمُكَلَّفُونَ وَلَوْ أَشْرَافًا وُجُوبًا. (وَالْوَاحِدُ) وَلَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 فِي الْحِرَابَةِ وَالْغِيلَةِ وَإِنْ وَلِيَ الْقَتْلَ بَعْضُهُمْ. وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي الْخَطَإِ وَاجِبَةٌ عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَإِنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعِينَ وَيُؤْمَرُ بِذَلِكَ إنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي الْعَمْدِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ. وَيُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِسْلَامَ. وَكَذَلِكَ السَّاحِرُ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَيُقْتَلُ مَنْ ارْتَدَّ إلَّا أَنْ يَتُوبَ وَيُؤَخَّرَ لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثًا وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ. وَمَنْ لَمْ يَرْتَدَّ   [الفواكه الدواني] أُنْثَى أَوْ رَقِيقًا أَوْ ذِمِّيًّا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلُ مِنْهُمْ تَمَالُؤٌ قَبْلَ ذَلِكَ عَلَى قَتْلِهِ. (فِي الْحِرَابَةِ) أَيْ بِسَبَبِ قَتْلِهِ فِي حَالِ الْحِرَابَةِ وَحَقِيقَتُهَا قَطْعُ الطَّرِيقِ لِمَنْعِ السُّلُوكِ أَوْ أَخْذِ الْمَالِ الْمَعْصُومِ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ أَوْ الْقَتْلُ خُفْيَةً فَقَوْلُهُ: (وَالْغِيلَةُ) وَهِيَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ مِنْ بَابِ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ لِأَنَّهَا نَوْعُ الْحِرَابَةِ. (وَ) هَذَا وَاضِحٌ (إنْ وَلِيَ الْقَتْلَ) جَمِيعُهُمْ بَلْ وَإِنْ وَلِيَهُ (بَعْضُهُمْ) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ تَمَالُؤٌ مِنْهُمْ قَبْلَ ذَلِكَ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْحِرَابَةِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ الْجَمْعُ بِالْوَاحِدِ إلَّا إنْ تَمَالَئُوا عَلَى قَتْلِهِ ابْتِدَاءً أَوْ بَاشَرَ جَمِيعُهُمْ الْقَتْلَ وَلَمْ تَتَمَيَّزْ ضَرَبَاتُهُمْ وَإِلَّا اُقْتُصَّ مِنْ كُلٍّ كَفِعْلِهِ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْحِرَابَةَ أَشَدُّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْمُسْلِمَ الْحُرَّ يُقْتَلُ فِيهَا بِالنَّصْرَانِيِّ أَوْ الْعَبْدِ؟ وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهَا عَنْ الْقَاتِلِ، وَلَا يَسْقُطُ قَتْلُهُ إلَّا بِالتَّوْبَةِ عَنْهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذُكِرَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا} [المائدة: 33] الْآيَةَ وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ أَحْكَامِهَا لِأَنَّ الْمُصَنِّفَ فَرَّقَ الْكَلَامَ عَلَيْهَا. [أَحْكَامِ كَفَّارَة الْقَتْل] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْقَتْلِ وَالدِّيَاتِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْكَفَّارَةِ بِقَوْلِهِ: (وَكَفَّارَةُ الْقَتْلِ فِي) أَيْ بِسَبَبِ الْقَتْلِ (الْخَطَإِ وَاجِبَةٌ) وُجُوبَ الْفَرَائِضِ يُثَابُ الْمُخْرِجُ لَهَا عَلَى فِعْلِهَا وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهَا وَهِيَ (عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ وَلَيْسَ فِيهَا شَرَكٌ وَلَا عَقْدُ حُرِّيَّةٍ كَرَقَبَةِ الظِّهَارِ. (فَإِنْ لَمْ يَجِدْ) أَيْ يَسْتَطِعْ الْعِتْقَ (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ كَكَفَّارَةِ الظِّهَارِ وَجَمِيعُ مَا يُشْتَرَطُ فِي رَقَبَةِ الظِّهَارِ وَالصَّوْمِ يُطْلَبُ هُنَا، وَمَا يَمْتَنِعُ هُنَاكَ يَمْتَنِعُ هُنَا، فَإِنْ لَمْ يُتَابِعْ الصَّوْمَ فَإِنْ أَفْطَرَ عَمْدًا ابْتَدَأَهُ وَأَمَّا لَوْ أَفْطَرَ نِسْيَانًا أَوْ لِحَيْضٍ أَوْ لِمَرَضٍ فَلَا يَبْتَدِئُهُ، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَ صَوْمَهُ بَعْدَ زَوَال الْمَرَضِ أَوْ الْحَيْضِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ عِتْقًا انْتَظَرَ الْقُدْرَةَ عَلَى أَحَدِهِمَا لِأَنَّهُ لَيْسَ هُنَا إطْعَامٌ بِخِلَافِ كَفَّارَةِ الْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ مِنْ الْقَاتِلِينَ وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ بِشَرْطِ حُرِّيَّةِ الْمَقْتُولِ وَإِسْلَامِهِ وَعِصْمَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الْقَاتِلِ الْحُرِّ الْمُسْلِمِ وَإِنْ صَبِيًّا أَوْ مَجْنُونًا أَوْ شَرِيكًا إذَا قَتَلَ مِثْلَهُ مَعْصُومًا خَطَأً عِتْقُ رَقَبَةٍ وَبِعَجْزِهَا شَهْرَانِ كَالظِّهَارِ، فَلَا تَجِبُ عَلَى عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ وَلَا فِي قَتْلِ غَيْرِ مَعْصُومٍ كَزَانٍ مُحْصَنٍ وَمُرْتَدٍّ وَزِنْدِيقٍ، وَلَا فِي عَبْدٍ وَلَا كَافِرٍ وَتُؤْخَذُ كَفَّارَةُ الْقَتْلِ مِنْ مَالِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ لِأَنَّهَا مِنْ بَابِ خِطَابِ الْوَضْعِ كَالزَّكَاةِ، وَلَوْ أَعْسَرَ كُلٌّ فَالظَّاهِرُ انْتِظَارُ الْبُلُوغِ وَالْإِفَاقَةِ حَتَّى يَصُومَا، وَإِنَّمَا وُجِدَتْ الْكَفَّارَةُ فِي قَتْلِ الْخَطَإِ مَعَ عَدَمِ إثْمِ الْقَاتِلِ لِخَطَرِ أَمْرِ الدِّمَاءِ، وَأَمَّا كَفَّارَةُ الْيَمِينِ فَإِنَّمَا وَجَبَتْ مَعَ عَدَمِ إثْمِ الْحَالِفِ كَالْحَانِثِ بِالنِّسْيَانِ لِلزَّجْرِ عَنْ التَّحَرِّي عَلَى الْحَلِفِ، وَمَفْهُومُ الْخَطَإِ أَنَّ الْقَاتِلَ (يُؤْمَرُ بِذَلِكَ) أَيْ بِإِخْرَاجِ الْكَفَّارَةِ نَدْبًا (إنْ عُفِيَ عَنْهُ فِي) قَتْلِ (الْعَمْدِ) وَالدَّلِيلُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلنَّدَبِ قَوْلُهُ: (فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ) لِعِظَمِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْإِثْمِ فَهُوَ كَالْيَمِينِ الْغَمُوسِ الَّذِي لَا يُكَفِّرُهُ إلَّا النَّارُ أَوْ عَفْوُ الْبَارِي، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْمُبَادَرَةُ إلَى التَّوْبَةِ وَالتَّقَرُّبُ إلَى اللَّهِ بِالْكَفَّارَةِ وَبِكُلِّ مَا اسْتَطَاعَ مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَتْ فِي جَنِينٍ وَرَقِيقٍ وَعَمْدٍ وَعَبْدٍ وَذِمِّيٍّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا مَنْدُوبَةٌ فِي قَتْلِ الرَّقِيقِ سَوَاءٌ كَانَ مَمْلُوكًا لَهُ أَوْ لِغَيْرِهِ، وَكَذَا فِي قَتْلِ الْعَمْدِ الَّذِي لَمْ يُقْتَلْ بِهِ، وَكَذَا فِي قَتْلِ الذِّمِّيِّ وَلَوْ قَتَلَهُ خَطَأً. وَلَمَّا قَدَّمَ أَحْكَامَ مَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى غَيْرِهِ، شَرَعَ فِيمَنْ يُقْتَلُ لِجِنَايَتِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِأَنْ ارْتَكَبَ مَا لَا يَحِلُّ لَهُ فِي نَفْسِهِ فَقَالَ: (وَيُقْتَلُ) وُجُوبًا (الزِّنْدِيقُ حَدًّا) لَا كُفْرًا (وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ الَّذِي يُسِرُّ) أَيْ يُخْفِي (الْكُفْرَ وَيُظْهِرُ الْإِيمَانَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَقُتِلَ الْمُسْتَسِرُّ بِلَا اسْتِتَابَةٍ إلَّا أَنْ يَجِيءَ تَائِبًا أَيْ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَمَالُهُ لِوَارِثِهِ وَهُوَ فَائِدَةُ قَتْلِهِ حَدًّا، وَشَرْطُ إرْثِهِ إنْ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ تَوْبَتُهُ لَا تُسْقِطُ قَتْلَهُ، وَمِثْلُ تَوْبَتِهِ إنْكَارُهُ لِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ، وَأَمَّا لَوْ اعْتَرَفَ بِمَا شَهِدَتْ بِهِ الْبَيِّنَةُ عَلَيْهِ مِنْ الزَّنْدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا يُورَثُ وَيَكُونُ مَالُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ كَمَالِ الْمُرْتَدِّ وَلَا يَكُونُ قَتْلُهُ حَدًّا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكُفْرُ الَّذِي سَتَرَهُ بِارْتِدَادٍ أَوْ سِحْرٍ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ أَيْ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ تَابَ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ لَسَقَطَ قَتْلُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ الزِّنْدِيقِ مَا فِي الْبُخَارِيِّ: «أَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَتَى بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنَ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْت أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهْيِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تُعَذِّبُوا بِعَذَابِ اللَّهِ، وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . فَإِنْ قِيلَ: الزِّنْدِيقُ هُوَ الْمُنَافِقُ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ يَقْتُلُ الْمُنَافِقِينَ. فَالْجَوَابُ، أَنْ يُقَالَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا كَانَ يَتْرُكُ قَتْلَهُمْ لِئَلَّا تَقُولَ قُرَيْشٌ: إنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ فَيَكُونُ سَبَبًا لِنَفْرَةِ النَّاسِ عَنْ الْإِسْلَامِ، وَالْحَالُ أَنَّ شَأْنَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّأْلِيفُ لِأَجْلِ حُصُولِ الْإِسْلَامِ. (وَكَذَلِكَ) يَجِبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] قَتْلُ الْمُسْلِمِ (السَّاحِرِ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ) وَهُوَ الَّذِي يَصْنَعُ السِّحْرَ بِغَيْرِهِ بِأَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَزَوْجِهَا، أَوْ يُذْهِبَ عَقْلَ غَيْرِهِ، أَوْ يَفْعَلَ فِعْلًا يُغَيِّرُ بِهِ صُورَةَ غَيْرِهِ كَتَغَيُّرِ صُورَةِ إنْسَانٍ بِصُورَةِ حِمَارٍ أَوْ كَلْبٍ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ حَدًّا كَالزِّنْدِيقِ وَهُوَ ذَلِكَ حَيْثُ كَانَ يُخْفِي ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُتَجَاهِرًا بِهِ لَقُتِلَ قَتْلَ الْمُرْتَدِّ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَمَالُهُ فَيْءٌ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِنَا: كَالزِّنْدِيقِ فِي حَالِ إخْفَائِهِ أَنَّهُ لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا الَّذِي يَسْتَأْجِرُ مَنْ يَعْمَلُ السِّحْرَ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ وَلَا يُقْتَلُ، كَمَنْ يَسْتَأْجِرُ رَجُلًا عَلَى قَتْلِ آخَرَ فَإِنَّ الَّذِي يُقْتَلُ هُوَ الْقَاتِلُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى قَتْلِ السَّاحِرِ مَا خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ» . وَاخْتُلِفَ هَلْ يَجُوزُ لِشَخْصٍ أَنْ يَسْتَأْجِرَ غَيْرَهُ لِإِبْطَالِ السِّحْرِ أَمْ لَا؟ فِيهِ خِلَافٌ مَنَعَهُ الْحَسَنُ قَائِلًا: لِأَنَّهُ لَا يُبْطِلُهُ إلَّا سَاحِرٌ، وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: يَجُوزُ لِأَنَّهُ مِنْ التَّعَالُجِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى الْجَوَازِ صَاحِبُ الْإِرْشَادِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ كَثِيرًا مَا يُبَاحُ إنْ تَعَيَّنَ طَرِيقًا، وَأَمَّا الَّذِي يُدْخِلُ السَّكَاكِينَ فِي جَوْفِهِ فَإِنْ كَانَ سِحْرًا فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ وَإِلَّا عُوقِبَ بِغَيْرِ الْقَتْلِ، وَقَوْلُنَا الْمُسْلِمُ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ السَّاحِرِ الذِّمِّيِّ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهِ وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ إلَّا أَنْ يُدْخِلَ بِسِحْرِهِ ضَرَرًا عَلَى الْمُسْلِمِ فَإِنَّهُ يَكُونُ نَاقِضًا لِعَهْدِهِ فَيُقْتَلُ إلَّا أَنْ يُسْلِمَ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إلَّا إذَا ثَبَتَ أَنَّ مَا فَعَلَهُ مِنْ السِّحْرِ الَّذِي أَعْلَمَ اللَّهُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ، وَيُتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ بِإِخْبَارِ مَنْ يَعْلَمُ حَقِيقَتَهُ وَيَثْبُتُ ذَلِكَ الْإِخْبَارُ عِنْدَ الْإِمَامِ، هَكَذَا يُفِيدُهُ كَلَامُ أَصْبَغَ وَاسْتَصْوَبَ كَلَامَ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ. الثَّانِي: اُخْتُلِفَ فِيمَنْ تَعَلَّمَ السِّحْرَ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، فَعِنْدَ مَالِكٍ أَنَّهُ كَافِرٌ، وَلَفْظُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَالْمَشْهُورُ أَنَّ تَعَلُّمَ السِّحْرِ كُفْرٌ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ قَالَهُ مَالِكٌ، وَقَالَ غَيْرُهُ: إنَّمَا يَكْفُرُ السَّاحِرُ لَا مَنْ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ، وَاسْتَصْوَبَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ حَتَّى قَالَ الْقَرَافِيُّ: إنَّ قَوْلَ مَالِكٍ فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ عَلَى أُصُولِنَا، وَاحْتَجَّ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ كُفْرِ مُتَعَلِّمِهِ مِنْ غَيْرِ عَمَلٍ بِهِ بِأَنَّ تَعَلُّمَ مَا بِهِ الْكُفْرُ لَا يَكُونُ كُفْرًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْأُصُولِيَّ يَتَعَلَّمُ جَمِيعَ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ فَتَعَلُّمُ مَا بِهِ السِّحْرُ أَوْلَى، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّهُ لَا كُفْرَ إلَّا بِفِعْلِهِ لِجَعْلِهِ مِنْ أَمْثِلَةِ الْفِعْلِ الْمُتَضَمِّنِ لِلْكُفْرِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ حَمْلُ كَلَامِ مَالِكٍ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ وَكَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيَعْمَلَ بِهِ مَظِنَّةٌ لِاسْتِحْلَالِهِ وَاعْتِقَادِ تَأْثِيرِهِ وَهُوَ مُكَفِّرٌ بِخِلَافِ مَنْ تَعَلَّمَهُ لِيُحَذِّرَ مِنْهُ غَيْرَهُ. الثَّالِثُ: اخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي حَقِيقَةِ السِّحْرِ، فَذَهَبَ أَهْلُ السُّنَّةِ كَالرَّازِيِّ إلَى أَنَّهُ اسْتِحْدَاثُ الْخَوَارِقِ لِمُجَرَّدِ النَّفْسِ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: السِّحْرُ أَمْرٌ خَارِقٌ لِلْعَادَةِ يَتَسَبَّبُ عَنْ سَبَبٍ مُعْتَادٍ كَوْنُهُ مِنْهُ، وَقَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ الْفَقِيهُ: هُوَ كَلَامٌ مُؤَلَّفٌ يُعَظَّمُ بِهِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَتُنْسَبُ إلَيْهِ الْمَقَادِيرُ وَالْكَائِنَاتُ، وَقَوْلُ الْإِمَامِ بِكُفْرِ مَنْ تَعَلَّمَهُ وَلَمْ يَعْمَلْ بِهِ ظَاهِرٌ عَلَى حَدِّ ابْنِ الْعَرَبِيِّ. [كِتَاب الْحُدُود] [أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ مِنْ الِارْتِدَادِ الَّذِي هُوَ الرُّجُوعُ وَمِنْهُ الْمُرْتَدُّ، وَحَقِيقَةُ الرِّدَّةِ شَرْعًا قَطْعُ الْإِسْلَامِ مِنْ الْمُكَلَّفِ وَفِي الصَّبِيِّ خِلَافٌ، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الرِّدَّةُ كُفْرٌ بَعْدَ إسْلَامٍ تَقَرَّرَ بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَيُقْتَلُ) وُجُوبًا كُلُّ (مَنْ ارْتَدَّ) أَيْ قَطَعَ إسْلَامَهُ بَعْدَ بُلُوغِهِ بِصَرِيحِ لَفْظِهِ كَقَوْلِهِ: {عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ} [التوبة: 30] أَوْ الْبَعِيدُ كَفَرَ بِاَللَّهِ، أَوْ أَشْرَكَ بِهِ، أَوْ أَتَى بِلَفْظٍ يَقْتَضِي الْكُفْرَ، كَقَوْلِهِ: الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ غَيْرُ مَفْرُوضَةٍ، أَوْ الرُّكُوعُ أَوْ السُّجُودُ غَيْرُ فَرْضٍ لِأَنَّ الْجَاحِدَ كَافِرٌ، أَوْ الْحَجُّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ، أَوْ اللَّهُ جِسْمٌ كَأَجْسَامِ الْحَوَادِثِ، أَوْ أَتَى بِفِعْلٍ يَسْتَلْزِمُ الْكُفْرَ كَإِلْقَاءِ شَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ فِي قَذَرٍ اخْتِيَارًا أَوْ شَدَّ نَحْوَ الزُّنَّارِ وَتَوَجَّهَ بِهِ إلَى مُتَعَبَّدِهِمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ قَتْلِ الْمُرْتَدِّ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ» . وَمَحَلُّ قَتْلِهِ (إلَى أَنْ يَتُوبَ) بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ، وَأَشَارَ إلَى مُدَّةِ تَأْخِيرِهِ لِلتَّوْبَةِ بِقَوْلِهِ: (وَيُؤَخَّرُ) وُجُوبًا (لِلتَّوْبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَاسْتُتِيبَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ بِلَا جُوعٍ وَعَطَشٍ وَمُعَاقَبَةٍ، وَإِنْ قَالَ: لَا أَتُوبُ، فَإِنْ تَابَ فَلَا إشْكَالَ وَإِلَّا قُتِلَ بِغُرُوبِ شَمْسِ الثَّالِثِ، وَتُحْسَبُ الثَّلَاثَةُ أَيَّامٍ مِنْ يَوْمِ ثُبُوتِ الْكُفْرِ لَا مِنْ يَوْمِ الرَّفْعِ مَعَ تَأَخُّرِ الثُّبُوتِ، وَلَا يُحْسَبُ الْيَوْمُ الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الثُّبُوتُ وَلَا يَوْمُ الِارْتِدَادِ، لِأَنَّ الْيَوْمَ لَا يُلَفَّقُ هُنَا، وَإِنَّمَا كَانَ زَمَنُ الِاسْتِتَابَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَخَّرَ قَوْمَ صَالِحٍ ذَلِكَ الْقَدْرَ حَيْثُ قَالَ: {تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ} [هود: 65] فَلَوْ حَكَمَ الْإِمَامُ بِقَتْلِهِ دَاخِلَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ مَضَى لِأَنَّهُ حُكْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَقَيَّدْنَا بِبَعْدِ الْبُلُوغِ لِأَنَّ الصَّبِيَّ إذَا ارْتَدَّ يُهَدَّدُ وَلَا يُقْتَلُ إلَّا بَعْدَ بُلُوغِهِ وَامْتِنَاعِهِ مِنْ الْإِسْلَامِ، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْحُرِّ وَالْعَبْدِ، وَلَا بَيْنَ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ) تُقْتَلُ بَعْدَ الثَّلَاثَةِ أَيَّامٍ إلَّا أَنْ تَتُوبَ، إلَّا أَنْ تَكُونَ ذَاتَ سَيِّدٍ أَوْ زَوْجٍ، وَهِيَ مِمَّنْ يُتَوَقَّعُ حَمْلُهَا فَتُسْتَبْرَأَ بِحَيْضَةٍ وَلَوْ حُرَّةً، وَإِنْ كَانَتْ تُرْضِعُ فَتُؤَخَّرُ حَتَّى تَجِدَ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا وَيَقْبَلُهُ الْوَلَدُ، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى الْمَرْأَةِ لِلرَّدِّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ قَتْلِ النِّسَاءِ لِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 وَأَقَرَّ بِالصَّلَاةِ وَقَالَ لَا أُصَلِّي أُخِّرَ حَتَّى يَمْضِيَ وَقْتُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا قُتِلَ حَدًّا. وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الزَّكَاةِ أُخِذَتْ مِنْهُ كُرْهًا. وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ فَاَللَّهُ حَسْبُهُ. وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ جَحْدًا لَهَا فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ يُسْتَتَابُ ثَلَاثًا فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ. وَمَنْ سَبَّ   [الفواكه الدواني] عَنْ قَتْلِهِنَّ، لِأَنَّ مَحْمَلَهُ عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى نِسَاءِ أَهْلِ الْحَرْبِ لَا عَلَى الْمُرْتَدَّةِ، وَيُطْعَمُ الْمُرْتَدُّ مِنْ مَالِهِ زَمَنَ الرِّدَّةِ، وَأَمَّا وَلَدُهُ وَعِيَالُهُ فَلَا يُنْفِقُونَ مِنْهُ لِأَنَّهُ صَارَ بِسَبَبِ الرِّدَّةِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَالَ عِنْدَهُ. (تَنْبِيهٌ) قَتْلُ الْمُرْتَدِّ لَيْسَ كَقَتْلِ الزِّنْدِيقِ الْمُسْتَسِرِّ، لِأَنَّ الزِّنْدِيقَ يُقْتَلُ حَدًّا فَتَرِثُهُ وَرَثَتُهُ وَيُغَسَّلُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ وَكَذَلِكَ السَّاحِرُ الْمُتَجَاهِرُ فَيُقْتَلُ كُفْرًا فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَمَالُهُ يَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ فِي بَيْتِ الْمَالِ لَا لِوَرَثَتِهِ، وَهَذَا حُكْمُ الْمُرْتَدِّ الْحُرِّ، وَأَمَّا الْمُرْتَدُّ الرَّقِيقُ فَمَالُهُ لِسَيِّدِهِ لِأَنَّهُ الْمَالِكُ الْحَقِيقِيُّ. (وَمَنْ لَمْ يَرْتَدَّ) عَنْ دِينِ الْإِسْلَامِ (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ قَدْ (أَقَرَّ بِالصَّلَاةِ) أَيْ بِوُجُوبِهَا (وَ) لَكِنْ (قَالَ لَا أُصَلِّي) أَبَدًا، أَوْ قَالَ: لَا أُصَلِّي حَتَّى يَخْرُجَ الْوَقْتُ الضَّرُورِيُّ وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ (أُخِّرَ) أَيْ أَخَّرَهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ وُجُوبًا (حَتَّى) يَكَادَ (يَمْضِي وَقْتُ صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ) لِمَنْ عَلَيْهِ وَاحِدَةٌ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ مُشْتَرِكَتَانِ كَظُهْرٍ وَعَصْرٍ مَثَلًا أُخِّرَ إلَى أَنْ يَبْقَى قَدْرُ مَا يَسَعُ أُولَاهُمَا وَرَكْعَةٌ مِنْ الثَّانِيَةِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي تِلْكَ الرَّكْعَةِ طُمَأْنِينَةٌ وَلَا اعْتِدَالٌ وَلَا فِي الصَّلَاةِ الْأُولَى مِنْ الْمُشْتَرَكَتَيْنِ قِرَاءَةُ فَاتِحَةٍ فِي سِوَى الرَّكْعَةِ الْأُولَى بِنَاءً عَلَى وُجُوبِهَا فِي رَكْعَةٍ فَقَطْ، وَلَا طَهَارَةَ مَائِيَّةً بَلْ تُرَابِيَّةً لِضِيقِ الْوَقْتِ وَيُهَدَّدُ ثُمَّ يُضْرَبُ بِالْفِعْلِ. (فَإِنْ لَمْ يُصَلِّهَا) أَيْ يَشْرَعْ فِيهَا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَبْقَ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاةٌ فَقَطْ أَوْ مِقْدَارُ الْأُولَى وَرَكْعَةٌ مِنْ الثَّانِيَةِ لِمَنْ عَلَيْهِ صَلَاتَانِ. (قُتِلَ حَدًّا) وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَفْعَلُ مَعَ عَدَمِ شُرُوعِهِ بِالْفِعْلِ، وَقَوْلُنَا: مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ قِرَاءَةِ فَاتِحَةٍ وَلَا طُمَأْنِينَةٍ وَلَا اعْتِدَالٍ لَا يُنَافِي أَنَّهُ عِنْدَ فِعْلِ الصَّلَاةِ لَا بُدَّ مِنْ الْفَاتِحَةِ وَالطُّمَأْنِينَةِ وَالِاعْتِدَالِ، وَبِقَوْلِنَا: حَتَّى يَكَادَ يَمْضِي وَقْتُ صَلَاةِ إلَخْ يَعْلَمُ أَنَّ الْإِمَامَ أَوْ نَائِبَهُ اطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَطَلَبَ مِنْهُ الْفِعْلَ وَامْتَنَعَ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَا قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: أُخِّرَ لِأَنَّ التَّأْخِيرَ يُشْعِرُ بِبَقَاءِ الْوَقْتِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَإِنَّهَا تَصِيرُ فَائِتَةً، وَالْفَائِتَةُ لَا يُقْتَلُ بِهَا عَلَى الْأَصَحِّ، وَقَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ: وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا أُخِّرَ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مِنْ الضَّرُورِيِّ وَقُتِلَ بِالسَّيْفِ حَدًّا وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَفْعَلُ وَصَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ فَاضِلٍ وَلَا يُطْمَسُ قَبْرُهُ لَا فَائِتَةً عَلَى الْأَصَحِّ وَالْجَاحِدُ كَافِرٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: وَفِي حُكْمِ مَنْ قَالَ لَا أُصَلِّي مَنْ قَالَ لَا أَغْتَسِلُ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ لَا أَتَوَضَّأُ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَإِذَا كَانَ فِي حُكْمِهِ فَهَلْ يُرَاعَى بِالْغُسْلِ وَالْوُضُوءِ قَدْرُ مَا يَسَعُ فِعْلَهُمَا مِنْ الرَّكْعَةِ مِنْ الصَّلَاةِ وَحِينَئِذٍ يُقْتَلُ أَوْ يُرَاعَى قَدْرُ الرَّكْعَةِ مِنْ التَّيَمُّمِ وَاسْتَظْهَرَ الْأَوَّلَ. الثَّانِي: لَوْ اطَّلَعَ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ عَلَى الْمُمْتَنِعِ مِنْ الصَّلَاةِ قَبْلَ خُرُوجِ الْوَقْتِ وَطَلَبَ مِنْهُ الشُّرُوعَ فِيهَا فَامْتَنَعَ وَغَفَلَ عَنْهُ حَتَّى خَرَجَ الْوَقْتُ فَالظَّاهِرُ قَتْلُهُ، وَلَيْسَ مِنْ الْقَتْلِ بِالْفَائِتَةِ كَمَا يُعْلَمُ مِمَّا قَدَّمْنَا. الثَّالِثُ: أَشْعَرَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِ مَعَ سَعَةِ الْوَقْتِ فَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ تَهْدِيدُهُ وَلَوْ بِالضَّرْبِ ثُمَّ يَضْرِبُهُ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ حَتَّى ضَاقَ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إلَّا مِقْدَارُ رَكْعَةٍ مَعَ الطَّهَارَةِ فَقَدْ تَرَدَّدَ الْأُجْهُورِيُّ فِي قَتْلِهِ وَاسْتَظْهَرَ عَدَمَ قَتْلِهِ وَلِي فِيمَا اسْتَظْهَرَهُ وَقْفَةٌ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي قَتْلُهُ لِأَنَّهُ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ لَا سَبِيلَ إلَى جَوَازِ التَّأْخِيرِ فِي الشُّرُوعِ مَعَ الْقُدْرَةِ، وَأَيْضًا قَدْ قِيلَ بِالْقَتْلِ بِالْفَائِتَةِ فَكَيْفَ بِالْحَاضِرَةِ وَحَرَّرَهُ. الرَّابِعُ: صِفَةُ قَتْلِهِ أَنْ يُضْرَبَ عُنُقُهُ بِالسَّيْفِ فِي الْمَكَانِ الْمَعْهُودِ لِلضَّرْبِ فِيهِ شَرْعًا وَلَا يُعَاقَبُ. (وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ) أَيْ إخْرَاجِ (الزَّكَاةِ) مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا (أُخِذَتْ مِنْهُ كَرْهًا) بِفَتْحِ الْكَافِ أَيْ قَهْرًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَرْهًا وَإِنْ بِقِتَالٍ وَيَكُونُ دَمُهُ هَدَرًا بِخِلَافِ دَمِ الْفَقِيرِ فَيُقْتَلُ بِهِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الزَّكَاةَ تُؤْخَذُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ عِنَادًا أَوْ تَأْوِيلًا وَإِنْ بِقِتَالٍ، قَالَ بِسَنْدٍ: فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ لِلْمُمْتَنِعِ مَالٌ وَهُوَ مَعْرُوفٌ بِالْمَالِ لِلْإِمَامِ سَجْنُهُ حَتَّى يَظْهَرَ مَالُهُ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّ الْفُقَرَاءِ وَالْإِمَامُ نَاظِرٌ فِيهِ، فَإِنْ ظَهَرَ لَهُ بَعْضُ الْمَالِ وَاتُّهِمَ بِإِخْفَاءِ غَيْرِهِ فَظَاهِرُ الْمَذْهَبِ لَا يَحْلِفُ مَالِكٌ أَخْطَأَ مَنْ يُحَلِّفُ النَّاسَ مِنْ السُّعَاةِ وَلْيُصَدِّقُوا بِغَيْرِ يَمِينٍ وَنِيَّةُ الْإِمَامِ نَابَتْ عَنْ نِيَّتِهِ. وَفِي التَّتَّائِيِّ: وَتُجْزِئُ مَعَ الْإِكْرَاهِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْمَالِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى نِيَّةٍ لِظُهُورِ الْمُنَافَاةِ بَيْنَ الْإِكْرَاهِ وَالنِّيَّةِ، وَيُؤَدَّبُ الْمُمْتَنِعُ وَكَرْهًا بِالْفَتْحِ الْقَهْرُ، وَأَمَّا كُرْهًا بِمَعْنَى التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ فَبِالضَّمِّ وَالْفَتْحِ، وَأَمَّا الْجَاحِدُ لِوُجُوبِ الزَّكَاةِ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ يُقْتَلُ كُفْرًا. (وَمَنْ تَرَكَ الْحَجَّ) وَهُوَ ضَرُورَةٌ مِنْ الِاسْتِطَاعَةِ وَالِاعْتِرَافِ بِالْوُجُوبِ (فَاَللَّهُ حَسِيبُهُ) أَيْ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِعَدْلِهِ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ لِأَنَّ الزَّمَانَ كُلَّهُ ظَرْفٌ لَهُ، وَلِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهِ عَلَى الْفَوْرِ أَوْ التَّرَاخِي بِخِلَافِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِمَنْ امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الصَّوْمِ عِنَادًا مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُؤَخَّرُ إلَى أَنْ يَبْقَى مِنْ الْوَقْتِ مَا يَسَعُ النِّيَّةَ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ قُتِلَ بِالسَّيْفِ حَدًّا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ الْفَرَائِضِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهَا شَرَعَ فِي تَارِكِهَا جَحْدًا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ) الْمَفْرُوضَةَ (جَحْدًا لَهَا) أَوْ لِشَيْءٍ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ. وَمَنْ سَبَّهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ أَوْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ قُتِلَ   [الفواكه الدواني] أَرْكَانِهَا كَرُكُوعِهَا أَوْ سُجُودِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الطَّهَارَةِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ. (فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ) الْقَائِلِ بِأَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ بِالذَّاتِ وَقَالَ بِأَنَّهُ بَاقٍ، أَوْ جَحَدَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ أَوْ الْقِيَامَةَ أَوْ اسْتَحَلَّ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ. (يُسْتَتَابُ) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ التَّوْبَةَ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا مُعَاقَبَةٍ. (فَإِنْ لَمْ يَتُبْ) بِإِسْلَامِهِ (قُتِلَ) كُفْرًا لَا حَدًّا، وَأَمَّا لَوْ تَابَ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ مَا اقْتَرَفَ مِنْ الِارْتِدَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عِتْقٍ، بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ الزَّمَانِ ظَرْفٌ لَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ السَّابِّ لِنَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ حَدًّا وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ كُفْرًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ، وَالْمُرْتَدُّ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَالسَّابُّ شَبِيهٌ بِالزِّنْدِيقِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَبَّ) أَيْ شَتَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (سَيِّدَنَا) وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَوْ نَبِيًّا غَيْرَهُ مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكًا مُجْمَعًا عَلَى مَلَكِيَّتِهِ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ أَوْ غَيَّرَ صِفَتَهُ أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي دِينِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ خَصْلَتِهِ أَوْ غَضَّ مِنْ مَرْتَبَتِهِ أَوْ وُفُورِ عِلْمِهِ أَوْ زُهْدِهِ، أَوْ أَضَافَ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ أَوْ قِيلَ لَهُ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ فَلَعَنَ وَقَالَ أَرَدْت الْعَقْرَبَ، وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ. (قُتِلَ) حَدًّا لِأَنَّ قَتْلَهُ لِازْدِرَائِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ أَوْ الْمَلَكِ، لَا لِأَنَّهُ كَافِرٌ حَيْثُ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ أَنْكَرَ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَيُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِهِ. (وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ) سَوَاءٌ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ، وَالْحُدُودُ تَجِبُ إقَامَتُهَا بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبِهَا وَلَوْ تَابَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا، كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ سِوَى الْمُحَارَبِ فَإِنَّ حَدَّ الْحِرَابَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ لِلْإِمَامِ طَائِعًا أَوْ تَرْكِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّابَّ شَبِيهٌ بِالزِّنْدِيقِ وَالزِّنْدِيقُ لَا تُعْرَفُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى جَعْلِهِ كَالزِّنْدِيقِ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ ظُهُورِنَا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: السَّبُّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَالزِّنْدِيقُ الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يُشَاحَحُ فِيهِ، وَأَيْضًا الْأَصْلُ فِي الزَّوَاجِرِ عَدَمُ سُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ. وَأَمَّا لَوْ أَعْلَنَ بِالسَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا كَالزِّنْدِيقِ أَيْضًا وَيُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَهْلٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ لِأَجْلِ تَهَوُّرٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى سَبْقِ اللِّسَانِ وَلَا دَعْوَى سَهْوٍ وَلَا نِسْيَانٍ. وَفَائِدَةُ كَوْنِ الْقَتْلِ حَدًّا الْحُكْمُ بِبَقَائِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي إرْثِهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَفَائِدَةُ قَتْلِهِ كُفْرًا عَدَمُ ذَلِكَ فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ وَيُوَارَى كَمَا يُفْعَلُ بِالْكَافِرِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِ الزِّنْدِيقِ وَالسَّابِّ وَلَوْ كَانَ قَتْلُهُمَا كُفْرًا، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُرْتَدِّ بِغَيْرِ السَّبِّ وَالزَّنْدَقَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ سَابِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَكَتَ عَنْ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَشْهُورُ فِيهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ، وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَالرَّاجِحُ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَمَنْ سَبَّ الْبَارِيَ جَرَى فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ خِلَافٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَرٌ وَالْبَشَرُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بَشَرًا يَقْبَلُ الْعَيْبَ وَتَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ بِالْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ بِشَهَادَةِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ وَلَا مَعَرَّةٌ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْبِقَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا حَقُّ الْآدَمِيِّ يُشَاحَحُ فِيهِ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ الْمُسَامَحَةُ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ عَصَاهُ هَذَا إيضَاحُهُ. الثَّانِي: قَيَّدْنَا الْكَلَامَ بِالْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُخْتَلَفِ فِي نُبُوَّتِهِ كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ، وَمَلَكِيَّتِهِ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُمَا وَإِنَّمَا يُشَدَّدُ فِي أَدَبِهِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّابَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ وَلَوْ جَاءَ إلَيْنَا تَائِبًا قَبْلَ ظُهُورِنَا عَلَيْهِ شَرَعَ فِي السَّابِّ الذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَبَّهُ) أَيْ سَيِّدَ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِغَيْرِ مَا) أَيْ الَّذِي (بِهِ كُفْرٌ) نَحْوُ: بَخِيلٌ أَوْ غَيْرُ عَالِمٍ، أَوْ نَحْوُ: ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُزْرِيَةِ. (أَوْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ) نَحْوُ: شَحِيحٌ أَوْ عَاجِزٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى اللَّهِ، وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ (قُتِلَ) أَيْ السَّابُّ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ اللَّهِ تَعَالَى (إلَّا أَنْ يُسْلِمَ) فَيَسْقُطُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَافِرِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَالْمُؤْمِنِ السَّابِّ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِلنَّبِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي سَبِّ اللَّهِ أَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ حَدٌّ وَهُوَ زِنْدِيقٌ لَا تُعْرَفُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَالْكَافِرُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ فَيُعْتَبَرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 إلَّا أَنْ يُسْلَمَ. وَمِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمُحَارِبُ لَا عَفْوَ فِيهِ إذَا ظُفِرَ بِهِ فَإِنْ قَتَلَ أَحَدًا فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ. [أَحْكَامِ الْمُحَارِب] وَإِنْ لَمْ يَقْتُلُ فَيَسَعُ الْإِمَامَ فِيهِ اجْتِهَادُهُ بِقَدْرِ جُرْمِهِ وَكَثْرَةِ مُقَامِهِ فِي فَسَادِهِ فَإِمَّا قَتَلَهُ أَوْ صَلَبَهُ ثُمَّ قَتَلَهُ أَوْ يُقَطِّعُهُ مِنْ خِلَافٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] إسْلَامُهُ وَلَا يُجْعَلُ سَبُّهُ مِنْ جُمْلَةِ كُفْرِهِ، لِأَنَّا لَمْ نُعْطِهِمْ الْعَهْدَ عَلَى ذَلِكَ وَلَا عَلَى قَتْلِنَا وَأَخْذِ أَمْوَالِنَا، وَلَوْ قَتَلَ أَحَدَنَا قَتَلْنَاهُ بِهِ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ اسْتِحْلَالُهُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ: أَنَّ الذِّمِّيَّ لَوْ سَبَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَا بِهِ كُفْرٌ كَيَا سَاحِرًا، أَوْ قَالَ النَّصْرَانِيُّ: إنَّمَا أُرْسِلَ إلَيْنَا عِيسَى لَا مُحَمَّدٌ، وَالْيَهُودِيُّ إنَّمَا رَسُولُنَا مُوسَى، وَكَذَا لَوْ سَبَّ اللَّهَ بِمَا بِهِ كُفْرٌ كَقَوْلِ النَّصْرَانِيِّ: اللَّهُ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، أَوْ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وَكَقَوْلِ الْيَهُودِيِّ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ لِأَنَّ شَرْعَنَا أَقَرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِأَدَاءِ الْجِزْيَةِ، فَلَا يُقْتَلُونَ بِهِ حَتَّى يَنْزِلَ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، فَيَتَقَضَّى أَمَدُ أَخْذِ الْجِزْيَةِ وَبَعْدَ ذَلِكَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِسْلَامِ أَوْ الْقَتْلِ، لِأَنَّ حِلَّ أَخْذِهَا مُغَيَّا بِنُزُولِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ السَّبِّ بِمَا لَمْ يُكْفَرْ بِهِ، وَبَيْنَ السَّبِّ بِمَا بِهِ كُفْرٌ، فَيُقْتَلُ بِالْأَوَّلِ دُونَ الثَّانِي هُوَ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ، وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ أَيْضًا، فَلَا وَجْهَ لِلِاعْتِرَاضِ عَلَى الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ مَا قَالَهُ لَمْ يَقُلْهُ غَيْرُهُ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْمَشْهُورَ قَتْلُ الذِّمِّيِّ بِمُطْلَقِ السَّبِّ مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ بَيْنَ مَا بِهِ كُفْرٌ وَبَيْنَ غَيْرِهِ. (تَنْبِيهٌ) قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ قَتْلَ السَّابِّ مُقَيَّدٌ بِسَبِّ مَنْ أُجْمِعَ عَلَى نُبُوَّتِهِ، وَأَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ كَأُمِّ مُوسَى وَالْخَضِرِ وَذِي الْقَرْنَيْنِ وَالْحَوَارِيِّينَ وَإِخْوَةِ يُوسُفَ، وَكَذَا مَنْ اُخْتُلِفَ فِي مَلَكِيَّتِهِ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فَإِنَّهُ يُنَكَّلُ نَكَالًا شَدِيدًا كَمَا أَشَرْنَا لَهُ سَابِقًا، كَمَا يُنَكَّلُ مَنْ سَبَّ صَحَابِيًّا إلَّا عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - فَإِنَّهُ إنْ رَمَاهَا بِمَا بَرَّأَهَا اللَّهُ مِنْهُ بِأَنْ قَالَ زَنَتْ، أَوْ يُنْكِرَ صُحْبَةَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ إسْلَامَ الْعَشْرَةِ أَوْ إسْلَامَ جَمِيعِ الصَّحَابَةِ أَوْ كَفَّرَ الْأَرْبَعَةَ أَوْ وَاحِدًا فَإِنَّهُ يَكْفُرُ، هَكَذَا قَالَهُ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ وَإِنْ نَاقَشَ الْأُجْهُورِيُّ فِي بَعْضِهِ، [مِيرَاث الْمُرْتَدّ] وَلَمَّا كَانَ الْمَقْتُولُ حَدًّا تَرِثُهُ وَرَثَتُهُ لِمَوْتِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ بِخِلَافِ مَنْ قُتِلَ كُفْرًا قَالَ: (وَمِيرَاثُ الْمُرْتَدِّ) الْحُرِّ إذَا قُتِلَ عَلَى رِدَّتِهِ أَوْ مَاتَ حَتْفَ أَنْفِهِ (لِجَمَاعَةِ الْمُسْلِمِينَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَمَالُ الْعَبْدِ لِسَيِّدِهِ وَإِلَّا فَفَيْءٌ، أَيْ وَأَمَّا مَالُ الْحُرِّ الَّذِي مَاتَ عَلَى رِدَّتِهِ فَإِنَّهُ يُوضَعُ فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَتْ وَرَثَتُهُ كُفَّارًا، وَظَاهِرُهُ أَيْضًا وَلَوْ ارْتَدَّ فِي مَرَضِهِ، وَأَمَّا لَوْ تَابَ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّ مَالَهُ يَرْجِعُ لَهُ وَلَوْ كَانَ عَبْدًا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمُرْتَدِّ وَالسَّابِّ، شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الْمُحَارِبِ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحِرَابَةِ وَحَقِيقَتُهَا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْخُرُوجُ لِإِخَافَةِ سَبِيلٍ لِأَخْذِ مَالٍ مُحْتَرَمٍ بِمُكَابَرَةِ قِتَالٍ أَوْ خَوْفِهِ أَوْ إذْهَابِ عَقْلٍ أَوْ قَتْلِ خُفْيَةٍ، وَلِمُجَرَّدِ قَطْعِ الطَّرِيقِ لَا لِإِمَارَةٍ وَلَا نَائِرَةٍ وَلَا عَدَاوَةٍ فَيَدْخُلُ قَوْلُهَا: وَالْخَنَّاقُونَ الَّذِينَ يَسْقُونَ النَّاسَ السَّيْكَرَانَ لِيَأْخُذُوا أَمْوَالَهُمْ مُحَارِبُونَ فَالْمُقَاتِلُ لِيَكُونَ أَمِيرًا أَوْ لِأَجْلِ عَدَاوَةٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ يُقَاتِلُهُ وَهُوَ الْمُرَادُ بِالنَّائِرَةِ لَا يَكُونُ مُحَارِبًا فَقَالَ: (وَالْمُحَارِبُ) اسْم فَاعِلٍ وَهُوَ قَاطِعُ الطَّرِيقِ لِمُجَرَّدِ مَنْعِ السُّلُوكِ، أَوْ آخِذٍ بِالْمَدِّ مَالَ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ، أَوْ الَّذِي يُغَيِّبُ عَقْلَ غَيْرِهِ لِيَأْخُذَ مَا مَعَهُ، أَوْ الْمُخَادِعُ لِنَحْوِ الصَّبِيِّ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا وَيَقْتُلَهُ وَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ، أَوْ الدَّاخِلُ فِي زُقَاقٍ لَيْلًا أَوْ نَهَارًا لِيَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى وَجْهِ التَّغَلُّبِ وَالْقَهْرِ. (لَا عَفْوُ) جَائِزٌ (فِيهِ إذَا ظُفِرَ بِهِ) وَأُخِذَ قَبْلَ تَوْبَتِهِ لِأَنَّ حَدَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ لِدَفْعِ الْفَسَادِ. (فَإِنْ قَتَلَ) أَيْ الْمُحَارِبُ (أَحَدًا فَلَا بُدَّ مِنْ قَتْلِهِ) حَيْثُ كَانَ عَاقِلًا بَالِغًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَبِالْقَتْلِ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَوْ كَانَ الَّذِي قَتَلَهُ رَقِيقًا أَوْ كَافِرًا، وَلَا يُشْتَرَطُ مُبَاشَرَتُهُ لِلْقَتْلِ بَلْ وَلَوْ شَارَكَ فِيهِ بِإِعَانَةٍ كَضَرْبٍ أَوْ إمْسَاكٍ بَلْ وَلَوْ بِالْمُمَالَأَةِ، وَلَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ لِأَنَّ تَوْبَتَهُ لَا تُسْقِطُ حَقَّ الْآدَمِيِّ، وَإِنَّمَا الَّذِي يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ حَدُّ الْحِرَابَةِ لَا حَقُّ الْآدَمِيِّ، وَمَعْنَى وُجُوبِ الْقَتْلِ بَعْدَ التَّوْبَةِ إنْ أَرَادَ الْوَلِيُّ الْقَتْلَ كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ قَتْلِ الْعَمْدِ، أَمَّا الْقِصَاصُ أَوْ الْعَفْوُ مَجَّانًا إلَّا أَنْ يَحْصُلَ الرِّضَا مِنْ الْجَانِبَيْنِ عَلَى أَخْذِ الدِّيَةِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ قَتْلَ الْمُحَارِبِ إذَا وَجَبَ قَتْلُهُ حَقٌّ لِلَّهِ قَبْلَ التَّوْبَةِ وَلَا يُقْبَلُ عَفْوُ وَلِيِّ الْمَقْتُولِ، وَأَمَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ مِنْ الْحِرَابَةِ فَيَسْقُطُ حَدُّهَا فَقَطْ، وَيَتَمَحَّضُ الْحَقُّ لِلْآدَمِيِّ فَلَهُ قَتْلُهُ قِصَاصًا إنْ كَانَ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ وَلَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُحَارِبِ يَجِبُ قَتْلُهُ بِقَتْلِ غَيْرِهِ وَلَوْ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى حَدِّهِ إذَا لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا بِقَوْلِهِ: (وَ) أَمَّا (إنْ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا) فَلَا يَتَحَتَّمُ قَتْلُهُ وَحِينَئِذٍ (فَيَسْعَى) أَيْ يَفْعَلُ (الْإِمَامُ فِيهِ اجْتِهَادَهُ بِقَدْرِ جُرْمِهِ) أَيْ بِحَسْبِ مَا ارْتَكَبَهُ مِنْ الْمَعَاصِي فِي زَمَنِ مُحَارَبَتِهِ. (وَكَثْرَةِ مَقَامِهِ) أَيْ طُولِ إقَامَتِهِ. (فِي فَسَادِهِ) فَيُخَيَّرُ فِيهِ بَيْنَ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ إنْ كَانَ ذَكَرًا حُرًّا وَأَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (فَإِمَّا قَتَلَهُ) ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ صَلْبٍ لَكِنْ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ: نَاشَدْتُك اللَّهَ إلَّا مَا خَلَّيْت سَبِيلِي إنْ لَمْ يُعَالَجْ إلَّا بِالْقَتْلِ وَإِلَّا قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ مُنَاشَدَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: فَيُقْتَلُ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ إنْ أَمْكَنَ (أَوْ) أَيْ وَإِمَّا (صَلَبَهُ) حَيًّا بِأَنْ يُرْبَطَ عَلَى جِذْعٍ مِنْ غَيْرِ تَنْكِيسٍ (ثُمَّ قَتَلَهُ) بَعْدَ الصَّلْبِ فَالصَّلْبُ مِنْ صِفَاتِ الْقَتْلِ فَلَمْ يَجْتَمِعْ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ. قَالَ مُحَمَّدٌ: وَلَوْ حَبَسَهُ الْإِمَامُ لِيَقْتُلَهُ فَمَاتَ فِي الْحَبْسِ لَمْ يَصْلُبْهُ لِأَنَّهُ لَمْ يَفْعَلْ مَعَهُ مِنْ الْحُدُودِ شَيْئًا، وَلَوْ قَتَلَهُ إنْسَانٌ فِي الْحَبْسِ لَصَلَبَهُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّهُ بَقِيَّةُ حَدِّهِ. (أَوْ) أَيْ وَإِمَّا (يُقَطِّعُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 يَنْفِيهِ إلَى بَلَدٍ يُسْجَنُ بِهَا حَتَّى يَتُوبَ. فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَيْهِ حَتَّى جَاءَ تَائِبًا وُضِعَ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ مِنْ ذَلِكَ وَأُخِذَ بِحُقُوقِ النَّاسِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللُّصُوصِ ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا سَلَبُوهُ مِنْ الْأَمْوَالِ. وَتَقْتُلُ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ فِي الْحِرَابَةِ وَالْغِيلَةِ وَإِنْ وَلِيَ الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَيُقْتَلُ الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ قُتِلَ غِيلَةٍ أَوْ حِرَابَةٍ. وَمَنْ زَنَى مِنْ حُرٍّ مُحْصَنٍ   [الفواكه الدواني] مِنْ خِلَافٍ) بِأَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ الْيُمْنَى وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى وَلَاءً مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ، فَإِنْ كَانَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى مَقْطُوعَةً فِي قِصَاصٍ مَثَلًا فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: تُقْطَعُ يَدُهُ الْيُسْرَى وَرِجْلُهُ الْيُمْنَى حَتَّى يَكُونَ الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، وَصِفَةُ قَطْعِ الْيَدِ قِيلَ عَلَى حَدِّ الْأَصَابِعِ وَقِيلَ مِنْ الْكُوعِ، وَفِي الرِّجْلِ قِيلَ مِنْ نِصْفِ الْقَدَمِ وَقِيلَ تُقْطَعُ مِنْ الْكَعْبِ. (أَوْ) أَيْ وَإِمَّا (يَنْفِيهِ) إنْ كَانَ بَالِغًا عَاقِلًا (إلَى بَلَدٍ يُسْجَنُ بِهَا) كَمَا يُنْفَى فِي الزِّنَا، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْبَلَدَيْنِ مَسَافَةُ قَصْرٍ كَفَدَكَ وَخَيْبَرَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَغَايَةُ حَبْسِهِ (حَتَّى يَمُوتَ) أَوْ تَظْهَرَ تَوْبَتُهُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُحَارِبُ عَبْدًا لَخُيِّرَ فِيهِ الْإِمَامُ بَيْنَ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءِ: الْقَطْعُ مِنْ خِلَافٍ، أَوْ الْقَتْلُ الْمُجَرَّدُ، أَوْ الصَّلْبُ ثُمَّ الْقَتْلُ، وَلَا يُنْفَى إلَّا أَنْ يَرْضَى سَيِّدُهُ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيُخَيَّرُ فِيهَا بَيْنَ الْقَتْلِ الْمُجَرَّدِ أَوْ الْقَطْعِ مِنْ خِلَافٍ، وَلَا تُصْلَبُ وَلَا تُنْفَى إلَّا أَنْ تَرْضَى بِالنَّفْيِ إلَى بَلَدٍ عَلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ وَوُجِدَتْ رُفْقَةٌ مَأْمُونَةٌ فَذَلِكَ لَهَا، لِأَنَّ هَذَا أَهْوَنُ عَلَيْهَا مِنْ قَطْعِهَا مِنْ خِلَافٍ وَمِنْ قَتْلِهَا، وَمَحَلُّ التَّخْيِيرِ الْمَذْكُورِ مَا لَمْ يَكُنْ قَتَلَ أَحَدًا وَإِلَّا تَعَيَّنَ قَتْلُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَتَرَتَّبُ عَلَى قَتْلِهِ مَفْسَدَةٌ أَشَدُّ، كَمَا كَانَ يَقَعُ فِي غَرْبِ إفْرِيقِيَةَ مِنْ أَنَّهُ إذَا قَتَلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ شَخْصًا وَقَتَلُوهُ بِهِ يُخَرِّبُونَ الْبِلَادَ وَيَقْتُلُونَ خَلَائِقَ كَثِيرَةً وَهَذَا مَوْجُودٌ فِي زَمَانِنَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ} [المائدة: 33] إلَى أَنْ قَالَ: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي خُصُوصِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ، فَأَوْ فِي الْآيَةِ لِلتَّخْيِيرِ عَلَى الْمَشْهُورِ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ فِعْلُ وَاحِدٍ بِعَيْنِهِ حَيْثُ لَمْ يَقْتُلْ أَحَدًا، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ لَهُ النَّظَرُ فِي حَالِ الْمُحَارِبِ، فَإِنْ كَانَ ذَا تَدْبِيرٍ اُسْتُحِبَّ قَتْلُهُ، وَإِنْ كَانَ ذَا بَطْشٍ اُسْتُحِبَّ لَهُ الْقَطْعُ وَلِغَيْرِهِمَا، وَمَنْ وَقَعَتْ مِنْهُ فَلْتَةُ النَّفْيِ وَالضَّرْبِ وَالتَّعْيِينُ لِلْإِمَامِ لَا لِمَنْ قُطِعَتْ يَدُهُ وَنَحْوُهَا. (فَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَيْهِ) أَيْ الْمُحَارَبُ (حَتَّى جَاءَ) إلَى الْإِمَامِ (تَائِبًا) أَوْ تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ الْحِرَابَةِ بِأَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ (وُضِعَ عَنْهُ كُلُّ حَقٍّ هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى مِنْ ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورِ مِنْ قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ ثُمَّ قَتْلِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ حَدُّهَا بِإِتْيَانِ الْإِمَامِ طَائِعًا أَوْ تَرَكَ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] فَلَا يَسْقُطُ حَدُّهَا بِتَأْمِينِ الْإِمَامِ إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ تَأْمِينُهُ وَإِنْ جَازَ لَهُ تَأْمِينُ الْكَافِرِ، لِأَنَّ الْكَافِرَ يُقَرُّ عَلَى حَالِهِ بِالتَّأْمِينِ، وَتُتْرَكُ أَمْوَالُ الْمُسْلِمِينَ بِيَدِهِ، وَلَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَوَازِ ذَلِكَ لِلْمُحَارِبِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: مِنْ ذَلِكَ أَنَّ حُقُوقَ الْعِبَادِ لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُحَارِبِ بِتَوْبَتِهِ بَلْ تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلِذَا قَالَ: (وَأُخِذَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ الْعَائِدُ عَلَى الْمُحَارِبِ (بِحُقُوقِ النَّاسِ مِنْ مَالٍ أَوْ دَمٍ) تَعَلَّقَ بِهِ زَمَنَ حِرَابَتِهِ، وَمِثْلُهُ حُقُوقُ اللَّهِ سِوَى عُقُوبَةِ الْحِرَابَةِ كَأَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ زَنَى وَهُوَ مُحَارِبٌ فَإِنَّهُ يُسْتَوْفَى مِنْهُ، لِأَنَّ التَّوْبَةَ إنَّمَا أَسْقَطَتْ حَدَّ الْحِرَابَةِ فَقَطْ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَأُخِذَ بِحُقُوقِ النَّاسِ أَنَّهُ لَا يُؤْخَذُ أَحَدٌ عَنْ أَحَدٍ نَصَّ عَلَى أَنَّهُمْ كَالْحُمَلَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ اللُّصُوصِ) أَيْ الْمُحَارِبِينَ (ضَامِنٌ لِجَمِيعِ مَا سَلَبُوهُ) أَيْ نَهَبُوهُ (مِنْ الْأَمْوَالِ) لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ إنَّمَا تَقَوَّى بِأَصْحَابِهِ، فَالْمُرَادُ بِاللِّصِّ هُنَا الْمُحَارِبُ سَوَاءٌ أُخِذَ فِي حَالِ تَلَصُّصِهِ أَوْ جَاءَ تَائِبًا، فَاللُّصُوصُ كَالْحُمَلَاءِ فَكُلُّ مَنْ وُجِدَ مِنْهُمْ يَغْرَمُ جَمِيعَ مَا أَخَذُوهُ وَيَرْجِعُ عَلَى أَصْحَابِهِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَخَذَ شَيْئًا مِنْ الْمَالِ أَوْ لَمْ يَأْخُذْ لِأَنَّهُمْ شُرَكَاءُ، وَمِثْلُ الْمُحَارِبِينَ الْغُصَّابُ وَالْبُغَاةُ، وَأَمَّا مَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّ الْحِرَابَةِ فَلَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِحُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ تَرِكَتِهِ أَمْ يُتَّبَعُ بِهِ إنْ قُطِعَ مِنْ خِلَافٍ أَوْ غُرِّبَ. وَمُحَصَّلُ الْكَلَامِ فِيهِ أَنَّ حُكْمَهُ كَالسَّارِقِ، فَمَنْ أُقِيمَ عَلَيْهِ الْحَدُّ لَا يُتَّبَعُ بِمَا أَخَذَ إلَّا إذَا اتَّصَلَ يَسَارُهُ بِحَدِّهِ لَا مَنْ أَعْدَمَ بَعْدَ الْأَخْذِ وَلَوْ أَيْسَرَ يَوْمَ إقَامَةِ الْحَدِّ، بِخِلَافِ مَنْ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ الْحَدُّ فَيُتَّبَعُ مُطْلَقًا، وَإِلَى هَذَا كُلِّهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَعَدَمَ كُلٌّ عَنْ الْجَمِيعِ مُطْلَقًا وَاتُّبِعَ كَالسَّارِقِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الْمَالِ مِنْ الْمُحَارِبِ شَرَعَ فِي بَيَانِ كَيْفِيَّةِ أَخْذِ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ أَنْ (تُقْتَلَ الْجَمَاعَةُ بِالْوَاحِدِ) الَّذِي قَتَلُوهُ (فِي الْحِرَابَةِ وَالْغِيلَةِ) وَهِيَ الْقَتْلُ لِأَخْذِ الْمَالِ الْمُحْتَرَمِ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ وَهِيَ مِنْ أَنْوَاعِ الْحِرَابَةِ. (وَإِنْ وَلِيَ) أَيْ بَاشَرَ (الْقَتْلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) وَأَعَادَ هَذَا وَإِنْ فُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَإِنْ قَتَلَ أَحَدًا فَإِنَّهُ يَجِبُ قَتْلُهُ لِمَا فِي هَذَا مِنْ الزِّيَادَةِ وَهِيَ قَتْلُ الْجَمَاعَةِ بِالْوَاحِدِ وَلِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَيُقْتَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 رُجِمَ حَتَّى يَمُوتَ وَالْإِحْصَانُ أَنْ يَتَزَوَّجَ امْرَأَةً نِكَاحًا صَحِيحًا وَيَطَأَهَا وَطْئًا صَحِيحًا. فَإِنْ لَمْ يُحْصَنْ جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَغَرَّبَهُ الْإِمَامُ إلَى بَلَدٍ آخَرَ وَحُبِسَ فِيهِ عَامًا. وَعَلَى الْعَبْدِ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَإِنْ كَانَا مُتَزَوِّجَيْنِ وَلَا   [الفواكه الدواني] الْمُسْلِمُ بِقَتْلِ الذِّمِّيِّ) الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى مَفْعُولِهِ أَيْ بِقَتْلِهِ الذِّمِّيَّ أَوْ الْعَبْدَ (قَتْلَ غِيلَةٍ) تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهَا وَأَنَّهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْحِرَابَةِ، فَقَوْلُهُ: (أَوْ حِرَابَةٍ) مِنْ عَطْفِ الْعَامِّ عَلَى الْخَاصِّ، وَلَا يَجُوزُ الْعَفْوُ فِيهِ لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي الْحِرَابَةِ لِحَقِّ اللَّهِ، لَكِنَّ ظَاهِرَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ سَوَاءٌ تَابَ الْمُحَارِبُ أَمْ لَا وَلَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَتُبْ مِنْ الْحِرَابَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ إلَّا قِصَاصًا، فَيُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَقْتُولُ مُكَافِئًا لَهُ أَوْ أَعْلَى، فَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ ذِمِّيًّا أَوْ عَبْدًا فَيَلْزَمُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ دِيَةُ الذِّمِّيِّ وَقِيمَةُ الْعَبْدِ. [بَاب الزِّنَا] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحِرَابَةِ شَرَعَ فِي الزِّنَا وَهُوَ لُغَةً الضِّيقُ وَشَرْعًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الزِّنَا الشَّامِلُ لِلِّوَاطِ تَغْيِيبُ حَشَفَةِ آدَمِيٍّ فِي فَرْجِ آخَرَ دُونَ شُبْهَةِ حِلِّيَّةٍ عَمْدًا، فَلَيْسَ مِنْ الزِّنَا وَطْءُ الْأَمَةِ الْمُحَلَّلَةِ، وَلَا وَطْءُ جَارِيَةِ الِابْنِ بِخِلَافِ زَوْجَتِهِ، وَالْآدَمِيُّ الْمُرَادُ بِهِ الْمُسْلِمُ، وَكَذَا الْكَافِرُ إذَا تَرَافَعُوا إلَيْنَا، وَالْمُسْلِمَةُ يَطَؤُهَا الْكَافِرُ عَلَى مُقَابِلِ الْمَشْهُورِ، وَفِي فَرْجٍ آخَرَ أَيْ آدَمِيٍّ آخَرَ، فَلَيْسَ مِنْ الزِّنَا وَطْءُ الْجِنِّيَّةِ أَوْ الْبَهِيمَةِ، وَالْفَرْجُ يَشْمَلُ الدُّبُرَ وَلَوْ دُبُرَ خُنْثَى مُشْكِلٍ، لَكِنَّ دُبُرَ الذَّكَرِ يَكُونُ لِوَاطًا، وَدُبُرَ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ يَكُونُ مِنْ الزِّنَا احْتِيَاطًا كَدُبُرِ الْأُنْثَى الْأَجْنَبِيَّةِ، وَأَمَّا تَغْيِيبُ الْحَشَفَةِ فِي فَرْجِ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ فَلَيْسَ فِيهِ إلَّا الْأَدَبُ، كَمَا لَوْ غَيَّبَ الْخُنْثَى قَبْلَ اتِّضَاحِهِ حَشَفَتَهُ فِي فَرْجِ غَيْرِهِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشَّهَادَاتِ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: آخَرَ تَغْيِيبُ حَشَفَتِهِ فِي دُبُرِ نَفْسِهِ فَلَيْسَ بِزِنًا وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ فَقَطْ، وَيَخْرُجُ بِقَوْلِهِ: دُونَ شُبْهَةِ حِلِّيَّةُ ذَاتِ النِّكَاحِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ، كَالْمَنْكُوحَةِ بِلَا وَلِيٍّ وَبِلَا شُهُودٍ، وَالزَّوْجَةِ أَوْ الْأَمَةِ الْمَنْكُوحَةِ فِي حَيْضِهَا أَوْ نِفَاسِهَا، وَالْأَمَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالنَّسَبِ كَالْخَالَةِ وَالْعَمَّةِ وَالْمُشْتَرَكَةِ لَا الْمُحَرَّمَةِ بِالْعِتْقِ فَهُوَ زِنًا، وَخَرَجَ بِعَمْدًا الْغَالِطُ وَالنَّاسِي وَالْجَاهِلُ بِالْعَيْنِ أَوْ الْحُكْمِ إلَّا الْوَاضِحَ كَوَطْءِ الْأُمِّ أَوْ الْجَدَّةِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ كِتَابًا وَسُنَّةً وَإِجْمَاعًا، فَأَمَّا الْكِتَابُ فَآيَةُ: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَك، ثُمَّ أَنْ تَقْتُلَ وَلَدَك خَشْيَةَ أَنْ يَطْعَمَ مَعَكَ، ثُمَّ أَنْ تَزْنِيَ بِحَلِيلَةِ جَارِك» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا خِلَافَ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ أَنَّ الزِّنَا مُحَرَّمٌ وَمِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ لَيْسَ بَعْدَ الشِّرْكِ بِاَللَّهِ وَقَتْلِ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ ذَنْبٌ أَعْظَمُ مِنْهُ، وَحُدُودُهُ ثَلَاثَةُ أَنْوَاعٍ: رَجْمٌ فَقَطْ، وَجَلْدٌ فَقَطْ، وَجَلْدٌ مَعَ تَغْرِيبٍ، وَبَدَأَ بِأَوَّلِهَا فَقَالَ: (وَمَنْ زَنَى) أَيْ غَيَّبَ حَشَفَتَهُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلَا غَيْرِ مُنْتَشِرَةٍ. (مِنْ حُرٍّ مُحْصَنٍ) بِفَتْحِ الصَّادِ فِي أَجْنَبِيَّةٍ مُطِيقَةٍ وَلَوْ مَيِّتَةً (رُجِمَ) بِحِجَارَةٍ مُعْتَدِلَةٍ (حَتَّى يَمُوتَ) وَيُتَّقَى فَرْجُهُ وَوَجْهُهُ وَلَا يُحْفَرُ لَهُ بَلْ يُضْرَبُ عَلَى ظَهْرِهِ أَوْ بَطْنِهِ، وَلَا يُضْرَبُ عَلَى مَا تَحْتَ السُّرَّةِ مِنْ يَدَيْهِ أَوْ رِجْلَيْهِ، وَيُجَرَّدُ أَعْلَى الرَّجُلِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ إلَّا مِمَّا يَقِي الضَّرْبَ، وَيُنْتَظَرُ بِهَا وَضْعُ حَمْلِهَا وَتَجِدُ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا، بِخِلَافِ الْجَلْدِ فَإِنَّهُ تُؤَخَّرُ فِيهِ حَتَّى يَنْقَضِي نِفَاسُهَا لِأَنَّهَا مَرِيضَةٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ الْعَسِيفِ: «اُغْدُ يَا أُنَيْسُ إلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» . وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُحْصَنَ يُرْجَمُ نَاسَبَ أَنْ يَذْكُرَ مَا لَمْ يُعْلَمْ مِنْهُ تَفْسِيرُهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِحْصَانُ) لُغَةً الْعَقْدُ وَشَرْعًا (أَنْ يَتَزَوَّجَ) أَيْ يَنْكِحَ (الرَّجُلُ) الْعَاقِلُ الْبَالِغُ الْحُرُّ (امْرَأَةً) وَلَوْ أَمَةً أَوْ كِتَابِيَّةً (نِكَاحًا صَحِيحًا) لَازِمًا (وَيَطَأَهَا وَطْئًا صَحِيحًا) أَيْ مُبَاحًا مَعَ انْتِشَارٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ شُرُوطَ الْإِحْصَانِ عَشَرَةٌ: وَهِيَ: الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ وَالْأَصَالَةُ الْمُسْتَنِدَةُ لِعَقْدِ النِّكَاحِ الصَّحِيحِ اللَّازِمِ، وَالْوَطْءُ الصَّحِيحُ مَعَ الِانْتِشَارِ، وَعِلْمُ الْخَلْوَةِ، وَعِلْمٌ مِنْ اشْتِرَاطِ حُرِّيَّةِ الزَّوْجِ وَإِسْلَامِهِ، وَالْإِطْلَاقُ فِي الْمَرْأَةِ أَنَّهُ قَدْ يُحْصِنُ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ دُونَ صَاحِبِهِ، فَالزَّوْجَةُ الْأَمَةُ أَوْ الْحُرَّةُ الْمُطِيقَةُ تُحْصِنُ زَوْجَهَا الْحُرَّ الْبَالِغَ وَلَا يُحْصِنُهَا، كَمَا أَنَّ الْكِتَابِيَّةَ تُحْصِنُ زَوْجَهَا الْمُسْلِمَ وَلَا يُحْصِنُهَا، وَالْمَجْنُونَةُ تُحْصِنُ الْعَاقِلَ وَلَا يُحْصِنُهَا، ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ مُحْصَنٍ وَهُوَ الْبِكْرُ فَحَدُّهُ الْجَلْدُ مَعَ التَّغْرِيبِ إنْ كَانَ حُرًّا بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يُحْصِنْ) الزَّانِي الْحُرُّ بِأَنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ أَصْلًا أَوْ تَزَوَّجَ تَزْوِيجًا فَاسِدًا أَوْ غَيْرَ لَازِمٍ أَوْ وَطِيءَ فِي زَمَنِ حُرْمَةٍ أَوْ مِنْ غَيْرِ انْتِشَارٍ أَوْ لَمْ تُعْلَمْ خَلْوَةٌ بَيْنَهُمَا (جُلِدَ مِائَةَ جَلْدَةٍ) قَالَ خَلِيلٌ: وَجَلْدُ الْبِكْرِ الْحُرِّ مِائَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2] (وَغَرَّبَهُ الْإِمَامُ) وُجُوبًا إنْ كَانَ حُرًّا ذَكَرًا (إلَى بَلَدٍ آخَرَ) عَلَى مَسَافَةِ قَصْرٍ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَفَى مِنْ الْمَدِينَةِ إلَى خَيْبَرَ، وَنَفَى عَلِيٌّ مِنْ الْكُوفَةِ إلَى الْبَصْرَةِ وَهِيَ عَلَى مَسَافَةِ يَوْمَيْنِ وَقِيلَ ثَلَاثٍ. (وَ) إذَا غُرِّبَ إلَى بَلَدٍ (حُبِسَ فِيهِ عَامًا) كَامِلًا مِنْ يَوْمِ سَجْنِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي نُفِيَ إلَيْهِ، فَإِنْ رَجَعَ قَبْلَ تَمَامِ الْعَامِ أُخْرِجَ إلَيْهِ أَوْ إلَى مَحَلٍّ آخَرَ مِثْلَهُ فِي الْبُعْدِ يَمْكُثُ فِيهِ حَتَّى تَتِمَّ السَّنَةُ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ غَرَّبَهُ أَنَّهُ لَوْ غَرَّبَ نَفْسَهُ لَا يَكْتَفِي بِذَلِكَ وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَغُرِّبَ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الدَّيْنَ يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 تَغْرِيبَ عَلَيْهِمَا وَلَا عَلَى امْرَأَةٍ. وَلَا يُحَدُّ الزَّانِي إلَّا بِاعْتِرَافٍ أَوْ بِحَمْلٍ يَظْهَرُ أَوْ بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ عُدُولٍ يَرَوْنَهُ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ وَيَشْهَدُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ وَإِنْ لَمْ يُتِمَّ أَحَدُهُمْ الصِّفَةَ حُدَّ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ أَتَمُّوهَا. [مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا] وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ. وَيُحَدُّ وَاطِئُ أَمَةِ وَالِدِهِ. وَلَا يُحَدُّ وَاطِئُ أَمَةِ وَلَدِهِ وَتُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ. وَيُؤَدَّبُ الشَّرِيكُ   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ أُجْرَةِ حَمْلِ الزَّانِي إلَى مَحَلِّ التَّغْرِيبِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ، وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا فَمِنْهُ، وَمِثْلُهُ الْمُحَارِبُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بَيْتُ مَالٍ أَوْ لَمْ يُمْكِنْ الْوُصُولُ إلَيْهِ فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ. الثَّانِي: قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: وَانْظُرْ لَوْ زَنَى فِي الْمَكَانِ الَّذِي نُفِيَ إلَيْهِ أَوْ زَنَى الْغَرِيبُ بِغَيْرِ بَلَدِهِ هَلْ يَكُونُ سَجْنُهُ فِي مَكَانِهِ الَّذِي زَنَى فِيهِ تَغْرِيبًا أَمْ لَا؟ قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَالظَّاهِرُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ إنْ تَأَنَّسَ فِي السِّجْنِ مَعَ الْمَسْجُونِينَ بِحَيْثُ لَمْ يَتَوَحَّشْ بِهِ غَرَّبَهُ إلَى مَوْضِعٍ آخَرَ يُسْجَنُ فِيهِ سَنَةً يَبْتَدِئُهَا مِنْ يَوْمِ الْخُرُوجِ الثَّانِي وَلَا يَبْنِي عَلَى مَا مَضَى وَإِلَّا فَفِي سِجْنِهِ الْأَوَّلِ، وَالْغَرِيبُ إنْ كَانَ بِفَوْرِ نُزُولِهِ قَبْلَ تَأَنُّسِهِ فِي الْبَلَدِ الَّذِي زَنَى بِهَا فَإِنَّهُ يُسْجَنُ فِيهَا سَنَةً وَإِلَّا أُخْرِجَ إلَى غَيْرِهَا. وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ وَهُوَ الْجَلْدُ فَقَطْ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَعَلَى الْعَبْدِ فِي الزِّنَا خَمْسُونَ جَلْدَةً وَكَذَلِكَ الْأَمَةُ وَإِنْ كَانَا مُتَزَوِّجَيْنِ) لِفَقْدِ شَرْطِ الْإِحْصَانِ وَهُوَ الْحُرِّيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتُشْطَرُ بِالرِّقِّ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَالْعَبْدُ مَقِيسٌ عَلَى الْأَمَةِ. (وَلَا تَغْرِيبَ عَلَيْهِمَا) أَيْ الْعَبْدِ وَالْأَمَةِ لِمَا يَلْحَقُ سَيِّدَهُمَا مِنْ الضَّرَرِ. (وَ) كَذَلِكَ (لَا) تَغْرِيبَ (عَلَى امْرَأَةٍ) حُرَّةٍ وَإِنَّمَا عَلَيْهَا الْجَلْدُ فَقَطْ، لِأَنَّ تَغْرِيبَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى الْفَسَادِ وَلَوْ رَضِيَتْ بِالتَّغْرِيبِ أَوْ رَضِيَ زَوْجُهَا، كَمَا أَنَّ الْعَبْدَ لَا يُغَرَّبُ وَلَوْ رَضِيَ سَيِّدُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الرَّقِيقِ الْمُحَارِبِ وَالْمَرْأَةِ الْمُحَارِبَةِ إذَا رَضِيَ سَيِّدُ الْعَبْدِ أَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ بِالنَّفْيِ فَلَهُمَا ذَلِكَ حَيْثُ وَجَدَتْ الْمَرْأَةُ رُفْقَةً مَأْمُونَةً وَحَرَّرَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْبَابَيْنِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَثْبُتُ بِهِ الزِّنَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُحَدُّ الزَّانِي إلَّا بِاعْتِرَافٍ) مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا حَيْثُ أَقَرَّ طَائِعًا وَاسْتَمَرَّ عَلَى إقْرَارِهِ وَلَوْ مَرَّةً، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي إقْرَارِهِ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كَأَبِي حَنِيفَةَ وَأَحْمَدَ أَخْذًا بِحَدِيثِ مَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ إذْ رَدَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَتَّى أَقَرَّ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. لَنَا حَدِيثُ الْعَسِيفِ: «وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا فَإِنْ اعْتَرَفَتْ فَأَرْجُمْهَا فَغَدَا إلَيْهَا فَاعْتَرَفَتْ فَأَمَرَ بِهَا فَرُجِمَتْ» فَظَاهِرُ الْحَدِيثِ الِاكْتِفَاءُ بِالْمَرَّةِ، وَالْجَوَابُ عَنْ حَدِيثِ مَاعِزٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَنْكَرَ عَقْلَهُ وَلِذَلِكَ أَرْسَلَ إلَى قَوْمِهِ مَرَّتَيْنِ يَسْأَلُهُمْ عَنْ عَقْلِهِ حَتَّى أَخْبَرُوهُ بِصِحَّتِهِ فَأَمَرَ بِرَجْمِهِ» وَسَيَأْتِي أَنَّ الرَّاجِعَ عَنْ إقْرَارِهِ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِلَى طَرِيقٍ ثَانٍ لِلثُّبُوتِ بِقَوْلِهِ: (وَ) إلَّا (بِحَمْلٍ يَظْهَرُ بِغَيْرِ مُتَزَوِّجَةٍ) وَغَيْرِ ذَاتِ سَيِّدٍ مُقِرٍّ بِوَطْئِهَا، وَمِثْلُ الْخَالِيَةِ مِنْ السَّيِّدِ وَالزَّوْجِ ذَاتُ السَّيِّدِ أَوْ الزَّوْجُ الَّذِي لَا يُولَدُ لَهُ فَزَوْجَةُ الصَّبِيِّ أَوْ الْمَجْنُونِ يَلْزَمُهَا الْحَدُّ، وَمِثْلُهَا الْمُتَزَوِّجَةُ بِمَنْ لَا يُولَدُ لَهُ لَكِنْ وَلَدَتْ لِمُدَّةٍ لَا يَلْحَقُ الْوَلَدُ فِيهَا بِزَوْجِهَا، كَمَا لَوْ وَضَعَتْ حَمْلًا كَامِلًا لِخَمْسَةِ أَشْهُرٍ أَوْ أَقَلَّ مِنْ يَوْمِ الدُّخُولِ فَإِنَّهَا تُحَدُّ أَيْضًا، وَأَشَارَ إلَى طَرِيقٍ آخَرَ لِلثُّبُوتِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ) إلَّا (بِشَهَادَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَحْرَارٍ بَالِغِينَ عُدُولٍ يَرَوْنَهُ) أَيْ ذَكَرَ الزَّانِي فِي فَرْجِهَا. (كَالْمِرْوَدِ) بِكَسْرِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْوَاوِ الْمَيْلُ الدَّاخِلُ. (فِي الْمُكْحُلَةِ) بِضَمِّ الْمِيمِ وَالْحَاءِ ظَرْفُ الْكُحْلِ. (وَيَشْهَدُونَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ) عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلزِّنَا وَاللِّوَاطِ أَرْبَعَةٌ بِوَقْتٍ وَرُؤْيَا اتَّحَدَا، فَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ سِتَّةٌ: يَكُونُ الشُّهُودُ أَرْبَعَةً وَكَوْنُهُمْ رِجَالًا وَبُلُوغُهُمْ وَعَدَالَتُهُمْ وَقَوْلُهُمْ: رَأَيْنَا فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، فَلَا يَكْفِي قَوْلُهُمْ: نَشْهَدُ أَنَّ فُلَانًا زَنَى بِفُلَانَةَ، وَأَنْ تَتَّفِقَ شَهَادَتُهُمْ فِي الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ، فَإِذَا وُجِدَتْ تِلْكَ الشُّرُوطُ حُدَّتْ الْمَرْأَةُ وَلَوْ شَهِدَ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ بِبَقَاءِ عُذْرَتِهَا، بِخِلَافِ لَوْ شَهِدَ عَلَى بَقَائِهَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ حَدُّهَا، وَلَا يَفْسُقُونَ بِتَعَمُّدِ رُؤْيَتِهَا لِأَجْلِ الشَّهَادَةِ عَلَيْهَا بَلْ يَجُوزُ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى ذَلِكَ، كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِشُهُودِ الزِّنَا كَمَا نُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ شَهَادَتُهُمْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بَطَلَتْ وَإِلَى ذَلِكَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يُتِمَّ أَحَدُهُمْ الصِّفَةَ) بِأَنْ قَالَ: رَأَيْت ذَكَرَهُ بَيْنَ فَخْذَيْهَا وَلَا أَدْرِي هَلْ دَخَلَ فَرْجَهَا أَمْ لَا؟ فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَإِلَّا زَادَ عَلَى الْحَدِّ، وَ (حُدَّ الثَّلَاثَةُ الَّذِينَ أَتَمُّوهَا) حَدَّ الْقَذْفِ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ فِي تِلْكَ الْمَرْأَةِ، بِخِلَافِ مَنْ قَالَ: رَأَيْت ذَكَرَهُ عَلَى بَابِ فَرْجِهَا فَقَطْ فَإِنَّهُ لَمْ يَشْهَدْ بِزِنَاهَا فَلِذَلِكَ قُلْنَا: يُعَاقَبُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَلَا يُحَدُّ، وَإِنَّمَا شُرِطَ فِي ثُبُوتِ الزِّنَا أَرْبَعَةٌ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْحُقُوقِ تَغْلِيظًا عَلَى الشَّاهِدِ بِقَذْفِهِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرُورَةَ لَهُ إلَى تِلْكَ الشَّهَادَةِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْقَبِيحِ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِ حَتَّى لَا يَكَادَ يَثْبُتُ الزِّنَا عَلَى أَحَدٍ وَقَصْدًا لِلسَّتْرِ، وَلِأَنَّ الزِّنَا مِنْ الْأُمُورِ النِّسْبِيَّةِ الَّتِي لَا تَقَعُ إلَّا بَيْنَ اثْنَيْنِ، فَطُلِبَتْ الْأَرْبَعُ لِيَكُونَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ اثْنَانِ، وَلَمَّا كَانَ شَرْطُ الزِّنَا تَكْلِيفَ الْفَاعِلِ قَالَ: (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَحْتَلِمْ) سَوَاءٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 فِي الْأَمَةِ يَطَؤُهَا وَيَضْمَنُ قِيمَتَهَا إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ أَوْ تُقَوَّمَ عَلَيْهِ. وَإِنْ   [الفواكه الدواني] كَانَ فَاعِلًا أَوْ مَفْعُولًا، وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ تَأْدِيبُهُ اسْتِصْلَاحًا لِحَالِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا بَالِغًا دُونَ غَيْرِهِ فَإِنْ كَانَ الْبَالِغُ الْفَاعِلَ حُدَّ بِشَرْطِ إطَاقَةِ الْمَفْعُولِ، وَأَمَّا عَكْسُهُ بِأَنْ بَلَغَ الْمَفْعُولُ دُونَ الْفَاعِلِ فَلَا حَدَّ، وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ الْمَفْعُولُ كَاَلَّذِي يَفْعَلُ بِنَفْسِهِ، وَلَمَّا اشْتَرَطَ فِي لُزُومِ الْحَدِّ عَدَمُ الشُّبْهَةِ لِلْفَاعِلِ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ قَالَ: (وَيُحَدُّ) الْوَلَدُ الْمُكَلَّفُ (الْوَاطِئُ أَمَةَ وَالِدِهِ) أَوْ وَالِدَتِهِ لِأَنَّ الْوَلَدَ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي مَالِ أَصْلِهِ وَلَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ، وَلَا تُحَرَّمُ عَلَى الْأَبِ بِوَطْءِ ابْنِهِ وَلَهُ وَطْؤُهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا لِأَنَّهُ لَا يَحْرُمُ بِالزِّنَا حَلَالٌ، وَإِذَا وَلَدَتْ كَانَ وَلَدُهُ رَقِيقًا وَلَا يُعْتَقُ عَلَى سَيِّدِ الْأُمِّ، وَلَوْ قَالَ: وَيُحَدُّ الْفَرْعُ بِوَطْءِ أَمَةِ الْأَصْلِ لَكَانَ أَشْمَلَ، وَأَمَّا عَكْسُ هَذَا فَلَا حَدَّ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُحَدُّ) الْأَصْلُ الـ (وَاطِئُ أَمَةَ وَلَدِهِ) الْمُرَادُ أَمَةُ فَرْعِهِ وَإِنْ سَفَلَ، لِأَنَّ لِلْأَصْلِ شُبْهَةً فِي مَالِ الْفَرْعِ لِخَبَرِ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك» (وَ) لَكِنْ (تُقَوَّمُ عَلَيْهِ) أَيْ الْأَصْلِ وَلَوْ جَدًّا لِأَبٍ أَوْ أُمٍّ لِأَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ فِي ذَلِكَ، وَفِي الْعِتْقِ بِالْمِلْكِ، وَفِي عَدَمِ قَتْلِهِ بِقَتْلِ فَرْعِهِ إلَّا إذَا ذَبَحَهُ أَوْ شَقَّ جَوْفَهُ أَوْ قَصَدَ إزْهَاقَ رُوحِهِ، وَفِي تَغْلِيظِ الدِّيَةِ بِالتَّثْلِيثِ فِي الْعَمْدِ الَّذِي لَمْ يُقْتَلْ بِهِ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ وَعَبْدُ الْمَلِكِ، ثُمَّ بَالَغَ عَلَى تَقْوِيمِ جَارِيَةِ الْوَلَدِ عَلَى أَصْلِهِ بِوَطْئِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ) سَوَاءٌ كَانَ مَلِيًّا أَوْ مُعْدَمًا قَالَ خَلِيلٌ: وَمُلِّكَ أَبٌ جَارِيَةَ ابْنِهِ بِتَلَذُّذِهِ بِالْقِيمَةِ وَلَكِنْ يَجِبُ عَلَى الْأَبِ بَعْدَ غُرْمِ قِيمَتِهَا أَنْ يَسْتَبْرِئَهَا إنْ أَرَادَ الِاسْتِمْرَارَ عَلَى وَطْئِهَا لِيُفَرِّقَ بَيْنَ مَاءِ الشُّبْهَةِ وَالْمِلْكِ، وَإِنَّمَا يُبَاحُ لِلْأَبِ وَطْؤُهَا بَعْدَ اسْتِبْرَائِهَا إذَا لَمْ يَكُنْ تَقَدَّمَ لِلِابْنِ وَطْءٌ وَإِلَّا حَرُمَتْ عَلَيْهِمَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَتْ عَلَيْهِمَا إنْ وَطِئَاهَا، وَلَكِنْ يَغْرَمُ قِيمَتَهَا لِوَلَدِهِ وَلَوْ لَمْ تَحْمِلْ لِأَنَّهُ أَتْلَفَهَا عَلَيْهِ، وَكَذَا لَوْ وَطِئَ أُمَّ وَلَدِ وَلَدِهِ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ وَلَا تُبَاعُ، وَإِنَّمَا تُعْتَقُ عَلَى الِابْنِ وَيَكُونُ وَلَاؤُهَا لَهُ الَّذِي أَحْدَثَ فِيهَا الْحُرِّيَّةَ، وَهَذَا إذَا كَانَ الْأَبُ وَالْوَلَدُ حُرَّيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَا مُخْتَلِفَيْنِ فَإِنْ كَانَ الِابْنُ عَبْدًا وَالْأَبُ حُرًّا قُوِّمَتْ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الرَّقِيقُ الْأَبَ لَكَانَتْ الْقِيمَةُ فِي رَقَبَتِهِ فَيُخَيَّرُ سَيِّدُهُ فِي إسْلَامِهِ أَوْ فِدَائِهِ، فَإِنْ فَدَاهُ تَعَيَّنَتْ الْأَمَةُ لَهُ، وَإِنْ أَسْلَمَهُ الْوَلَدَ فِي قِيمَةِ الْأَبِ فَيُعْتَقُ عَلَيْهِ وَتَبْقَى الْأَمَةُ لِلْأَبِ وَالْوَلَدُ حُرٌّ لِأَنَّهُ أَخُو السَّيِّدِ. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: الْوَلَدُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِلسَّيِّدِ، وَكَذَلِكَ إذَا قَتَلَهُ السَّيِّدُ نَقَلَ ذَلِكَ الْأَقْفَهْسِيُّ. (وَيُؤَدَّبُ الشَّرِيكُ فِي الْأَمَةِ) حَالَةَ كَوْنِهِ (يَطَؤُهَا) عَالِمًا بِتَحْرِيمِ وَطْئِهَا، وَإِنَّمَا لَمْ يُحَدَّ لِشُبْهَةِ الْمِلْكِ. وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لُزُومُ الْأَدَبِ حَيْثُ كَانَ غَيْرَ جَاهِلٍ وَلَوْ أَذِنَ لَهُ شَرِيكُهُ فِي وَطْئِهَا، لِأَنَّ فَرْجَهَا لَا يُبَاحُ لَهُ بِمُجَرَّدِ إذْنِ شَرِيكِهِ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى الشَّرِكَةِ. (وَيَضْمَنُ) الشَّرِيكُ الْوَاطِئُ بَعْدَ الْأَدَبِ لِشَرِيكِهِ. (قِيمَتَهَا) أَيْ قِيمَةَ حِصَّتِهِ (إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ) وَقَدْ حَمَلَتْ مِنْهُ بِقَرِينَةِ مَا بَعْدِهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ فَيُخَيَّرُ بَيْنَ إبْقَائِهَا لِلشَّرِكَةِ وَبَيْنَ أَنْ يُلْزِمَهُ بِمَا وَجَبَ لَهُ مِنْ الْقِيمَةِ فَيَتْبَعَ ذِمَّتَهُ أَوْ يُجْبِرَهُ عَلَى بَيْعِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهَا لَكِنْ بَعْدَ وَضْعِهَا، إذْ لَا تُبَاعُ وَهِيَ حَامِلٌ لِأَنَّ وَلَدَهَا مِنْهُ لَا يُبَاعُ بِحَالٍ، فَإِنْ لَمْ يُوفِ ثَمَنَ النِّصْفِ اُتُّبِعَ بِالْبَاقِي كَمَا يَتْبَعُهُ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ مِنْ الْوَلَدِ فِي قَسَمِ الْعُسْرِ، وَأَمَّا فِي قَسَمِ الْيُسْرِ فَلَا شَيْءَ لَهُ مِنْ قِيمَةِ الْوَلَدِ. (فَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَتَمَاسَكَ) بِحِصَّتِهِ وَيَبْقَى عَلَى الشَّرِكَةِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ مِنْ أَرْشٍ وَلَا صَدَاقٍ لِأَنَّ الْقِيمَةَ وَجَبَتْ لِشَرِيكِهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا. (أَوْ تُقَوَّمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْوَاطِئِ مُوسِرًا أَوْ مُعْسِرًا فَلَهُ اتِّبَاعُهُ بِقِيمَتِهَا أَوْ جَبْرُهُ عَلَى بَيْعِهَا وَلَوْ كُلَّهَا لِأَنَّهَا لَمْ تَحْمِلْ، وَإِلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَإِنْ وَطِئَ جَارِيَةً لِلشَّرِكَةِ بِإِذْنِهِ وَبِغَيْرِهِ وَحَمَلَتْ قُوِّمَتْ وَإِلَّا فَلِلْآخَرِ إبْقَاؤُهَا أَوْ مُفَادَاتُهَا، وَمُحَصَّلُ كَلَامِهِ أَنَّ الشَّرِيكَ إنْ أَذِنَ لِشَرِيكِهِ فِي الْوَطْءِ وَوَطِئَ فَإِنَّهَا تُقَوَّمُ عَلَيْهِ مُطْلَقًا حَمَلَتْ أَمْ لَا، غَيْرَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مُوسِرًا فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ سِوَى قِيمَةِ حِصَّتِهِ وَلَا قِيمَةِ الْوَلَدِ وَتَكُونُ بِهِ أُمَّ وَلَدٍ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مُعْسِرًا فَلَا تُبَاعُ إنْ حَمَلَتْ وَيُتَّبَعُ بِقِيمَةِ حِصَّةِ شَرِيكِهِ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ تَحْمِلْ فَتُبَاعُ عَلَيْهِ لِأَجْلِ الْقِيمَةِ، وَأَمَّا لَوْ وَطِئَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ شَرِيكِهِ فَإِنْ حَمَلَتْ فَلَيْسَ لِشَرِيكِهِ إلَّا قِيمَةُ حِصَّتِهِ إنْ أَيْسَرَ الْوَاطِئُ لِأَنَّهَا لَا تُبَاعُ فِي هَذَا الْفَرْضِ، وَلَا يَجُوزُ لَلشَّرِيكِ التَّمَاسُكُ بِحِصَّتِهِ مِنْهَا وَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهَا يَوْمَ الْوَطْءِ، وَأَمَّا إنْ أَعْدَمَ الْوَاطِئُ فَالشَّرِيكُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ إبْقَائِهَا لِلشَّرِكَةِ أَوْ إلْزَامِ الْوَاطِئِ بِقِيمَةِ نَصِيبِهِ مِنْهَا فَيَتَّبِعُهُ بِهَا فِي ذَمِّهِ أَوْ يُجْبِرُهُ عَلَى بَيْعِ نَصِيبِهِ مِنْهَا لَكِنْ بَعْدَ وَضْعِهَا، وَإِنْ لَمْ يُوفِ ثَمَنَ نِصْفِهَا اُتُّبِعَ بِبَاقِي الْقِيمَةِ كَمَا يُتَّبَعُ بِقِيمَةِ حِصَّتِهِ فِي الْوَلَدِ فِي قِسْمَيْ التَّخْيِيرِ، وَهَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ وَلَدَ الْأَمَةِ الْمُشْتَرَكَةَ لَاحِقٌ بِأَبِيهِ فِي كُلِّ الصُّوَرِ وَهُوَ حُرٌّ لَا يُبَاعُ بِحَالٍ وَإِنْ بِيعَتْ أُمُّهُ، لِأَنَّ أُمَّ الْوَلَدِ تُبَاعُ فِي مَسَائِلَ مِنْهَا هَذِهِ وَوَلَدُهُ لَا يُبَاعُ بِحَالٍ، وَإِذَا قُلْنَا بِجَوَازِ بَيْعِهَا بَعْدَ وَضْعِ حَمْلِهَا فَاَلَّذِي يُبَاعُ هُوَ نَصِيبُ الشَّرِيكِ فَقَطْ وَإِنْ لَمْ يُوفِ ثَمَنَهُ وَيَلْزَمُهُ الْبَاقِي، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَحْمِلْ فَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَوْ كُلَّهَا. الثَّانِي: لَوْ تَأَخَّرَ تَقْوِيمُ الْأَمَةِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 قَالَتْ امْرَأَةٌ بِهَا حَمْلٌ اُسْتُكْرِهَتْ لَمْ تُصَدَّقْ وَحُدَّتْ إلَّا أَنْ تُعْرَفَ بَيِّنَةٌ أَنَّهَا احْتَمَلَتْ حَتَّى غَابَ عَلَيْهَا أَوْ جَاءَتْ مُسْتَغِيثَةً عِنْدَ النَّازِلَةِ أَوْ جَاءَتْ تُدْمِي. وَالنَّصْرَانِيُّ إذَا غَصَبَ الْمُسْلِمَةَ فِي الزِّنَا قُتِلَ. وَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ بِالزِّنَا أُقِيلَ وَتُرِكَ.   [الفواكه الدواني] الْوَاطِئِ حَتَّى مَاتَتْ لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ قِيمَتُهَا لِأَنَّ الْقِيمَةَ تَرَتَّبَتْ مِنْ حِينِ الْوَطْءِ. (وَإِنْ قَالَتْ امْرَأَةٌ) لَا زَوْجَ لَهَا وَلَا سَيِّدَ حِينَ ظَهَرَ (بِهَا حَمْلٌ) وَأُرِيدَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا (اُسْتُكْرِهْت) أَيْ أَكْرَهَنِي مَنْ لَا أَسْتَطِيعُ دَفْعَهُ عَنِّي وَفَعَلَ بِي. (لَمْ تُصَدَّقْ) فِي دَعْوَاهَا الْإِكْرَاهَ (وَحُدَّتْ) لِأَنَّ الْأَصْلَ الطَّوْعُ حَتَّى يَثْبُتَ الْإِكْرَاهُ وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ مِمَّا يَلِيقُ بِهَا ذَلِكَ أَمْ لَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَلِأَنَّ تَصْدِيقَهَا ذَرِيعَةٌ إلَى كَثْرَةِ الزِّنَا، وَلَا سِيَّمَا مَعَ قِلَّةِ دِينِ النِّسَاءِ وَمَيْلِهِنَّ لِلْوَطْءِ. ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ مَحَلَّ عَدَمِ تَصْدِيقِهَا مَا لَمْ تَظْهَرْ أَمَارَةُ صِدْقِهَا بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ تَعْرِفَ) أَيْ تَشْهَدَ (بَيِّنَةٌ) عَادِلَةٌ قِيلَ اثْنَانِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يَكْفِي الْوَاحِدُ لِأَنَّهُ خَبَرٌ وَخَبَرُهُ يُورِثُ الشُّبْهَةَ الْمُسْقِطَةَ الْحَدِّ مِنْ بَابِ أَوْلَى مِنْ إسْقَاطِهِ بِاسْتِغَاثَتِهَا. (أَنَّهَا اُحْتُمِلَتْ) أَيْ أُخِذَتْ قَهْرًا وَعَايَنَتْ الْبَيِّنَةُ غَصْبَهَا وَإِكْرَاهَهَا. (حَتَّى غَابَ عَلَيْهَا) الْمُكْرِهُ لَهَا (أَوْ) إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ (جَاءَتْ مُسْتَغِيثَةً) أَيْ مُتَظَلِّمَةً (عِنْدَ) تِلْكَ (النَّازِلَةِ) أَيْ عِنْدَ وُقُوعِ الزِّنَا بِهَا لِأَنَّ مَجِيئَهَا صَائِحَةً قَرِينَةُ غَصْبِهَا. (أَوْ) إلَّا أَنْ تَكُونَ قَدْ (جَاءَتْ) إلَيْنَا حَالَةَ كَوْنِهَا (تُدْمِي) أَيْ يَسِيلُ دَمُهَا مِنْ قُبُلِهَا فَلَا تُحَدُّ فِي صُورَةٍ مِنْ تِلْكَ الصُّوَرِ، هَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِهِ وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي الْأَوَّلَيْنِ، وَأَمَّا فِي الْأَخِيرَةِ فَعَدَمُ حَدِّهَا فِي غَايَةِ الْإِشْكَالِ، وَالصَّوَابُ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي عَدَمِ حَدِّهَا مُجَرَّدُ مَجِيئُهَا تُدْمِي، بَلْ لَا يَسْقُطُ حَدُّهَا بَعْدَ تَحَقُّقِ الْفِعْلِ بِهَا إلَّا بِقَرِينَةٍ تَدُلُّ عَلَى صِدْقِهَا، كَمَجِيئِهَا صَائِحَةً أَوْ مُتَعَلِّقَةً بِمَنْ ادَّعَتْ عَلَيْهِ لَا إنْ ادَّعَتْ عَلَى شَخْصٍ أَنَّهُ زَنَى بِهَا وَلَمْ تَتَعَلَّقْ بِهِ فَلَا بُدَّ مِنْ حَدِّهَا. وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنْ قَالَتْ امْرَأَةٌ: اُسْتُكْرِهْت لَمْ تُصَدَّقْ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ ادَّعَتْ اسْتِكْرَاهًا عَلَى غَيْرِ لَائِقٍ بِلَا تَعَلُّقٍ حُدَّتْ لَهُ أَيْ لِلزِّنَا، وَأَمَّا لَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِلزِّنَا وَتُحَدُّ لَهُ لِلْقَذْفِ مُطْلَقًا وَلَوْ تَعَلَّقَتْ بِهِ، وَأَمَّا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى فَاسِقٍ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا لِلْقَذْفِ مُطْلَقًا، وَأَمَّا لِلزِّنَا فَتَحُدُّ لَهُ بِشَرْطَيْنِ أَنْ تَحْمِلْ وَلَمْ تَتَعَلَّقْ، وَأَمَّا لَوْ ادَّعَتْ عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ فَتَحُدُّ لِلزِّنَا إنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ وَيَسْقُطُ عَنْهَا إنْ تَعَلَّقَتْ بِهِ كَدَعْوَاهَا عَلَى صَالِحٍ، وَأَمَّا حَدُّهَا لِلْقَذْفِ فِي دَعْوَاهَا عَلَى مَجْهُولِ الْحَالِ فَيَلْزَمُهَا إنْ لَمْ تَتَعَلَّقْ مُطْلَقًا، كَأَنْ تَعَلَّقَتْ إنْ كَانَتْ تَخْشَى فَضِيحَةَ نَفْسِهَا وَإِلَّا فَفِي حَدِّهَا خِلَافٌ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: صَالِحٌ وَفَاسِقٌ وَمَجْهُولُ الْحَالِ، وَفِي كُلٍّ مِنْ الثَّلَاثِ إمَّا أَنْ تَتَعَلَّقَ أَوْ لَا، وَقَدْ اسْتَوْفَيْنَا أَحْكَامَهَا مِنْ جِهَةِ الْحَدِّ وَعَدَمِهِ، وَسَكَتَ خَلِيلٌ عَنْ الصَّدَاقِ وَالْحُكْمُ أَنَّهَا لَا تَسْتَحِقُّهُ فِي صُورَةٍ مِنْ الصُّوَرِ، إلَّا فِي صُورَةٍ مَنْصُوصَةٍ لِمَالِكٍ فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمَغْصُوبَةِ: تَحْمِلُ بِمُعَايَنَةِ بَيِّنَةٍ ثُمَّ تَخْرُجُ فَتَقُولُ: وَطِئَنِي غَصْبًا وَهُوَ يُنْكِرُ فَلَهَا الْمَهْرُ وَلَا حَدَّ عَلَيْهَا. قَالَ اللَّخْمِيُّ: إنْ ثَبَتَ وَطْؤُهُ الْحُرَّةَ بِإِقْرَارِهِ لِأَرْبَعَةِ رِجَالٍ أَوْ بِمُعَايَنَةِ أَرْبَعَةِ رِجَالٍ لِلْوَطْءِ وَيُحَدُّ وَمَا دُونَهُمْ لَغْوٌ لِأَنَّهُمْ قَذَفَةٌ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ شَاهِدَانِ عَلَى إقْرَارِهِ فَقَالَ مُحَمَّدٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: يَجِبُ بِهِمَا الْمَهْرُ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ بِاعْتِرَافِهِ حَلَفَتْ وَاسْتَحَقَّتْ وَفِيهِ خِلَافٌ. وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا شَرْعًا وَطْءُ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ ذَكَرَ مَفْهُومَ الْمُسْلِمِ بِقَوْلِهِ: (وَالنَّصْرَانِيُّ) الْمُرَادُ الذِّمِّيُّ حَتَّى النَّازِلُ بِأَمَانٍ. (إذَا غَصَبَ) الْحُرَّةَ (الْمُسْلِمَةَ فِي الزِّنَا) وَثَبَتَ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ رَأَوْهُ كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ عَلَى مَا رَجَعَ إلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ. (قُتِلَ) لِنَقْضِهِ عَهْدَهُ وَالْوَلَدُ الْمُتَخَلِّقُ مِنْ وَطْئِهِ عَلَى دِينِ أُمِّهِ وَلَا يَلْحَقُ أَبَاهُ وَلَوْ أَسْلَمَ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الصَّدَاقُ مِثْلُهَا مِنْ مَالِهِ، وَمَفْهُومُ غَصَبَ أَنَّهَا لَوْ طَاوَعَتْهُ لَا يُقْتَلُ وَلَا يُحَدُّ فَإِنَّمَا يُعَاقَبُ، وَأَمَّا هِيَ فَتُحَدُّ، وَقَيَّدْنَا بِالْحُرَّةِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْأَمَةِ الْمُسْلِمَةِ فَلَا يُقْتَلُ بِغَصْبِهَا وَإِنَّمَا عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ وَمَا نَقَصَ مِنْ ثَمَنِهَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْحُرَّةِ أَنَّ الْأَمَةَ مَالٌ وَلَا قَتْلَ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَالِ، وَأَمَّا لَوْ تَزَوَّجَ الذِّمِّيُّ الْحُرَّةَ الْمُسْلِمَةَ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمْ بِكَوْنِهِ ذِمِّيًّا فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا، وَاخْتُلِفَ فِي قَتْلِهِ وَالظَّاهِرُ قَتْلُهُ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ بِالتَّطَلُّعِ عَلَى عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمَّا لَوْ عَلِمَتْ بِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ وَتَزَوَّجَتْهُ فَإِنْ كَانَتْ تَجْهَلُ تَحْرِيمَ نِكَاحِهِمْ فَلَا حَدَّ عَلَيْهَا وَإِلَّا فَقَوْلَانِ، وَأَمَّا هُوَ فَلَا يُقْتَلُ وَإِنَّمَا يُعَاقَبُ عُقُوبَةً شَدِيدَةً، وَمَفْهُومُ الْمُسْلِمَةِ لَوْ غَصَبَ الْحُرَّةَ الْكِتَابِيَّةَ وَهِيَ زَوْجَةُ الْمُسْلِمِ فِي قَتْلِهِ لِحُرْمَةِ الْمُسْلِمِ وَعُقُوبَتُهُ قَوْلَانِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الزِّنَا يَثْبُتُ بِالْإِقْرَارِ وَكَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْهُ لُزُومُ الْحَدِّ وَإِنْ رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ قَالَ: (وَإِنْ رَجَعَ الْمُقِرُّ) عَلَى نَفْسِهِ (بِالزِّنَا) طَائِعًا (أُقِيلَ وَتُرِكَ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَلَا يَلْزَمُهُ حَدٌّ وَلَا أَدَبٌ، سَوَاءٌ رَجَعَ فِي الْحَدِّ أَوْ قَبْلَهُ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ أَوْ غَيْرِهَا، مِثَالُ الشُّبْهَةِ أَنْ يَقُولَ: إذَا وَطِئْت زَوْجَتِي فِي الْحَيْضِ أَوْ وَقَعَ عَقْدُهَا فَاسِدًا فَاعْتَقَدَ أَنَّ الْوَطْءَ الْمُسْتَنِدَ لِمِثْلِ ذَلِكَ يُسَمَّى زِنًا، وَأَمَّا الْهُرُوبُ فَإِنْ كَانَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ فَكَالرُّجُوعِ يُسْقِطُ عَنْهُ الْحَدَّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي الْحَدِّ فَلَا يَسْقُطُ حَدُّهُ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْهُرُوبَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ يَدُلُّ عَلَى الرُّجُوعِ لِإِذَاقَتِهِ الْعَذَابَ بِخِلَافِهِ قَبْلَهُ، خِلَافًا لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ وَمِثْلُ رُجُوعِهِ مَا إذَا شَهِدَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِإِقْرَارِهِ بِالزِّنَا وَالْحَالُ أَنَّهُ مُنْكِرٌ لِذَلِكَ، فَإِنَّ إنْكَارَهُ يُعَدُّ رُجُوعًا عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَاعْلَمْ أَنَّ رُجُوعَهُ بَعْدَ الْإِقْرَارِ إنَّمَا يَنْفَعُهُ فِي إسْقَاطِ الْحَدِّ عَنْهُ لَا فِي عَدَمِ لُزُومِ صَدَاقِ الْمَزْنِيِّ بِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ حَيْثُ كَانَتْ مُكْرَهَةً. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا سَقَطَ الْحَدُّ بِالرُّجُوعِ لِأَنَّ الْحُدُودَ تُدْرَأُ بِالشُّبُهَاتِ، وَبِتَكْذِيبِ نَفْسِهِ بِرُجُوعِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 وَيُقِيمُ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ وَأَمَتِهِ حَدَّ الزِّنَا إذَا ظَهَرَ حَمْلٌ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةُ غَيْرِهِ أَرْبَعَةُ شُهَدَاءِ أَوْ كَانَ إقْرَارٌ وَلَكِنْ إنْ كَانَ لِلْأَمَةِ زَوْجٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَلَا يُقِيمُ الْحَدَّ عَلَيْهَا إلَّا السُّلْطَانُ. وَمَنْ عَمِلَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ بِذَكَرٍ بَالِغٍ أَطَاعَهُ رُجِمَا أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا. وَعَلَى الْقَاذِفِ الْحُرِّ الْحَدُّ ثَمَانُونَ وَعَلَى الْعَبْدِ أَرْبَعُونَ فِي الْقَذْفِ وَخَمْسُونَ فِي الزِّنَا. وَالْكَافِرُ   [الفواكه الدواني] يَحْصُلُ الِاشْتِبَاهُ، وَمِثْلُ الزَّانِي فِي سُقُوطِ حَدِّهِ بِالرُّجُوعِ عَنْ الْإِقْرَارِ السَّارِقُ يُقِرُّ طَائِعًا ثُمَّ يُكَذِّبُ نَفْسَهُ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ الْحَدُّ، وَإِنْ لَزِمَهُ الْمَالُ الَّذِي أَقَرَّ بِسَرِقَتِهِ سَوَاءٌ رَجَعَ لِشُبْهَةٍ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ الشَّارِبُ وَالْمُحَارِبُ وَمَنْ أَقَرَّتْ بِالْإِحْصَانِ ثُمَّ رَجَعَتْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهَا، وَلَمَّا كَانَتْ التَّعَازِيرُ وَهِيَ كُلُّ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ، وَالْحُدُودُ وَهِيَ كُلُّ مَا قَدَّرَ فِيهِ الشَّارِعُ شَيْئًا مَخْصُوصًا لَا يَتَوَلَّاهَا إلَّا الْإِمَامُ وَكَانَ الرَّقِيقُ خَارِجًا مِنْ ذَلِكَ نَبَّهَ عَلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يُقِيمَ الرَّجُلُ عَلَى عَبْدِهِ وَ) عَلَى (أَمَتِهِ حَدَّ الزِّنَا) لَوْ قَالَ: وَيُقِيمُ الْمَالِكُ عَلَى رَقِيقِهِ حَدَّ الزِّنَا لَكَانَ أَنْسَبَ بِالِاخْتِصَارِ، وَمَحَلُّ جَوَائِزِ إقَامَةِ الْمَالِكِ الْحَدَّ عَلَى رَقِيقِهِ وُجُودُ وَاحِدٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْيَاءَ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (إذَا ظَهَرَ بِهَا حَمْلٌ أَوْ قَامَتْ بَيِّنَةٌ) شَهِدَتْ بِالزِّنَا حَالَةَ كَوْنِهَا (غَيْرَهُ) أَيْ غَيْرَ السَّيِّدِ وَالْبَيِّنَةُ هِيَ (أَرْبَعَةُ شُهَدَاءَ) عَلَى الصِّفَةِ الْمُشْتَرَطَةِ الَّتِي مَرَّ ذِكْرُهَا مِنْ كَوْنِهَا بِوَقْتٍ وَرُؤْيَا اتَّحَدَا. (أَوْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ مِنْهُمَا (إقْرَارٌ) بِالزِّنَا عَلَى أَنْفُسِهِمَا وَلَمْ يَرْجِعَا فَيَجُوزُ لِسَيِّدِهِمَا حِينَئِذٍ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا، وَمِثْلُ حَدِّ الزِّنَا حَدُّ الشُّرْبِ وَالْقَذْفِ، لَكِنْ يُطْلَبُ أَنْ يُحْضِرَ السَّيِّدُ لِجِلْدِهِ فِي الْخَمْرِ وَالْفِرْيَةِ رَجُلَيْنِ، وَفِي الزِّنَا أَرْبَعَةِ رِجَالٍ عُدُولٍ. قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِأَنَّ الْعَبْدَ عَسَى أَنْ يُعْتَقَ يَوْمًا ثُمَّ يَشْهَدَ بَيْنَ النَّاسِ فَيَجِدَ مَنْ شَهِدَ عَلَيْهِ وَمَا تُرَدُّ بِهِ شَهَادَتُهُ، وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ إقَامَتُهُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُقِيمُهُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ السَّيِّدُ وَقَطَعَ يَدَهُ مَثَلًا وَكَانَتْ الْبَيِّنَةُ عَادِلَةً وَأَصَابَ وَجْهَ الْقَطْعِ عُوقِبَ، وَوَجَّهَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: لِئَلَّا تُمَثِّلَ النَّاسُ بِعَبِيدِهَا وَتَدَّعِي السَّرِقَةَ مِنْهُمْ، وَلَمَّا كَانَ مِنْ شُرُوطِ جَوَازِ حَدِّ السَّيِّدِ لِرَقِيقِهِ أَيْضًا أَنْ لَا يَكُونَ الذَّكَرُ مُتَزَوِّجًا بِمِلْكِ غَيْرِ سَيِّدِهِ وَأَنْ لَا تَكُونَ الْأَمَةُ زَوْجَةً لِحُرٍّ أَوْ رَقِيقٍ لِغَيْرِ سَيِّدِهَا قَالَ: (وَلَكِنْ إنْ كَانَ لِلْأَمَةِ زَوْجٌ حُرٌّ أَوْ عَبْدٌ لِغَيْرِهِ فَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُقِيمَ الْحَدَّ عَلَيْهِمَا) حِينَئِذٍ (إلَّا السُّلْطَانُ) أَوْ نَائِبُهُ لِأَنَّ لِلزَّوْجِ حَقًّا فِي الْفِرَاشِ، وَمَا يَحْدُثُ فِيهِ مِنْ وَلَدٍ فَلَيْسَ لِسَيِّدِ الْأَمَةِ أَنْ يُفْسِدَهُ وَلَا يُدْخِلَ عَلَيْهِ فِيهِ ضَرَرًا إلَّا بِحُكْمٍ، وَجَازَ لَهُ فِي عَبْدِهِ لِأَنَّ عَبْدَهُ لَيْسَ خَصْمًا لَهُ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّيِّدَ إنَّمَا يُقِيمُ حَدَّ الزِّنَا عَلَى عَبْدِهِ إذَا كَانَ خَالِيًا مِنْ زَوْجٍ أَوْ كَانَ مُتَزَوِّجًا بِمِلْكِ سَيِّدِهِ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلَ خَلِيلٍ: وَإِقَامَةُ الْحَاكِمِ وَالسَّيِّدِ إنْ لَمْ يَتَزَوَّجْ بِغَيْرِ مِلْكِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ خَبَرُ: «إذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَتَبَيَّنَ زِنَاهَا فَلْيَحِدَّهَا» . وَخَبَرُ أَبِي دَاوُد عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي جَارِيَةٍ فَجَرَتْ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَقِمْ عَلَيْهَا الْحَدَّ، وَأُقِيمُوا الْحُدُودَ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ» . [حَدّ اللِّوَاط] وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى حَدِّ الزِّنَا قَسِيمِ اللِّوَاطِ شَرَعَ فِي حَدِّ اللِّوَاطِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ عَمِلَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ وَإِنْ عَبْدًا وَكَافِرًا (عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ) بِأَنْ فَعَلَ (بِذَكَرٍ بَالِغٍ) وَأَدْخَلَ حَشَفَتَهُ أَوْ قَدْرَهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا فِي دُبُرِهِ حَالَةَ كَوْنِ الذَّكَرِ الْبَالِغِ الْمَفْعُولِ بِهِ قَدْ (أَطَاعَهُ رُجِمَا) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ ضَمِيرُ الْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ. (أَحْصَنَا أَوْ لَمْ يُحْصِنَا) كَانَا حُرَّيْنِ أَوْ رَقِيقَيْنِ مُسْلِمَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ وَلَوْ كَانَ الْمَفْعُولُ بِهِ مَمْلُوكًا لِلْفَاعِلِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَا غَيْرَ مُكَلَّفَيْنِ فَإِنَّهُمَا يُؤَدَّبَانِ فَقَطْ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا مُكَلَّفًا دُونَ الْآخَرِ فَإِنْ كَانَ الْمُكَلَّفُ هُوَ الْفَاعِلُ لَرُجِمَ وَحْدَهُ حَيْثُ كَانَ الْمَفْعُولُ بِهِ مُطِيقًا، وَأَمَّا عَكْسُهُ وَهُوَ بُلُوغُ الْمَفْعُولِ بِهِ دُونَ الْفَاعِلِ فَلَا يُرْجَمُ، وَإِنَّمَا يُؤَدَّبُ الصَّغِيرُ وَيُعَزَّرُ الْبَالِغُ التَّعْزِيرَ الشَّدِيدَ الَّذِي لَا يَنْقُصُ عَدَدُهُ عَنْ مِائَةٍ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا قَيَّدَ الذَّكَرَ الْمَفْعُولَ بِهِ بِالْبُلُوغِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ رَجْمًا، فَلَا يُنَافِي أَنَّ الْفَاعِلَ الْبَالِغَ يُرْجَمُ وَلَوْ فَعَلَ بِصَبِيٍّ مُطِيقٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ أَطَاعَهُ فَلَا بُدَّ مِنْهُ فِي رَجْمِ الْمَفْعُولِ بِهِ لِأَنَّهُ لَوْ أُكْرِهَ عَلَى الْفِعْلِ بِهِ لَمْ يُرْجَمْ، وَأَمَّا الْمُكْرَهُ عَلَى الْفِعْلِ بِغَيْرِهِ فَفِي حَدِّهِ خِلَافٌ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَالْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُكْرَهَ كَذَلِكَ أَيْ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، وَاخْتَارَهُ اللَّخْمِيُّ وَابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ الْعَرَبِيِّ، وَالْأَكْثَرُ يَقُولُونَ عَلَيْهِ الْحَدُّ. قَالَ بَعْضِ شُرَّاحِهِ، وَهُوَ الْمَذْهَبُ: وَالدَّلِيلُ عَلَى رَجْمِ اللَّائِطِ وَالْمُلُوطِ بِهِ حَدِيثُ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَلُ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ فَاقْتُلُوا الْفَاعِلَ وَالْمَفْعُولَ بِهِ» . وَعَمَلُ قَوْمِ لُوطٍ إتْيَانُ الذُّكُورِ فِي أَدْبَارِهِمْ، فَاللِّوَاطُ أَقْبَحُ مِنْ الزِّنَا بِالْأُنْثَى لِأَنَّهُ لَا يُسْتَبَاحُ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي حَقِّ قَوْمِ لُوطٍ: {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 80] وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ بِذَكَرٍ عَمَّا لَوْ فَعَلَ بِالْأُنْثَى فِي دُبْرِهَا فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ لِوَاطًا، ثُمَّ إنْ كَانَتْ أَجْنَبِيَّةً حُدَّ لِلزِّنَى، وَإِنْ كَانَتْ زَوْجًا أُدِّبَ، كَمَا تُؤَدَّبُ الْمَرْأَةُ فِي مُسَاحَقَتِهَا الْأُخْرَى، وَكَمَا يُؤَدَّبُ الذَّكَرُ فِي إتْيَانِهِ الْبَهِيمَةَ. (تَتِمَّةٌ) شَرْطُ الرَّجْمِ بِاللِّوَاطِ كَشَرْطِ حَدِّ الزِّنَا مِنْ مَغِيبِ جَمِيعِ الْحَشَفَةِ أَوْ قَدْرِهَا، وَالثُّبُوتُ إمَّا بِالِاعْتِرَافِ الْمُسْتَمِرِّ أَوْ شَهَادَةِ أَرْبَعٍ مِنْ الْعُدُولِ عَلَى نَحْوِ مَا مَرَّ. وَانْظُرْ هَلْ يَسْقُطُ حَدُّ اللِّوَاطِ بِالرُّجُوعِ أَوْ لَا كَمَا هُوَ مُقْتَضَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 يُحَدُّ فِي الْقَذْفِ ثَمَانِينَ. وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ. وَيُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ بِالزِّنَا إنْ كَانَ مِثْلُهَا يُوطَأُ. وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيِّ. وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي قَذْفٍ وَلَا وَطْءٍ. وَمَنْ نَفَى رَجُلًا مِنْ نَسَبِهِ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ. وَفِي التَّعْرِيضِ الْحَدُّ. وَمَنْ   [الفواكه الدواني] الْأَشَدِّيَّةِ؟ . [بَاب القذف] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى اللِّوَاطِ شَرَعَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ وَهُوَ لُغَةً الرَّمْيُ بِالْحِجَارَةِ، ثُمَّ اُسْتُعْمِلَ مَجَازًا فِي الرَّمْيِ بِالْمَكَارِهِ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} [النور: 6] وَيُسَمَّى أَيْضًا فِرْيَةً لِأَنَّهُ مِنْ الِافْتِرَاءِ وَهُوَ الْكَذِبُ وَالْقَذْفُ مِنْ الْكَبَائِرِ وَالْمُوبِقَاتِ وَلِذَا أَوْجَبَ اللَّهُ فِيهِ الْحَدَّ، وَأَمَّا اصْطِلَاحًا فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْقَذْفُ الْمُوجِبُ لِلْحَدِّ نِسْبَةُ آدَمِيٍّ مُكَلَّفٍ غَيْرَهُ حُرًّا عَفِيفًا مُسْلِمًا بَالِغًا أَوْ صَغِيرَةً تُطِيقُ الْوَطْءَ لِزِنًى، أَوْ قَطْعُ نَسَبٍ، أَوْ نِسْبَتُهُ لِزِنًى، وَشَرْطُ الْمَقْذُوفِ الْحُرِّيَّةُ وَالْإِسْلَامُ إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِنَفْيِ النَّسَبِ، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْقَذْفُ بِرَمْيِهِ بِالزِّنَا فَشَرْطُهُ الْبُلُوغُ وَالْعَقْلُ وَالْعِفَّةُ وَالْآلَةُ، وَسَيَذْكُرُ الْمُصَنِّفُ بَعْضَ هَذِهِ الشُّرُوطِ فَقَالَ: (وَ) يَتَرَتَّبُ (عَلَى الْقَاذِفِ) الْعَاقِلِ الْبَالِغِ (الْحُرِّ) وَإِنْ سَكْرَانَ (ثَمَانُونَ) جَلْدَةً وَإِنْ كَرَّرَ الْقَذْفَ لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ بِأَنْ قَالَ لَهُمْ: يَا زُنَاةُ، لَا إنْ قَالَ لِجَمَاعَةٍ: أَحَدُكُمْ زَانٍ قَالَ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] فَأَغْنَى ذِكْرُ النِّسَاءِ عَنْ ذِكْرِ الرِّجَالِ، وَقَوْلُنَا: وَلَوْ سَكْرَانَ لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْمَذْهَبِ مِنْ أَنَّ السَّكْرَانَ سُكْرًا حَرَامًا تَلْزَمُهُ جِنَايَاتُهُ. (وَعَلَى الْعَبْدِ) وَمِثْلُهُ الْأَمَةُ (أَرْبَعُونَ) جَلْدَةً (فِي الْقَذْفِ وَ) يَجِبُ عَلَى الْعَبْدِ الْأَوْلَى وَعَلَيْهِ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لِلضَّمِيرِ (خَمْسُونَ فِي الزِّنَا) وَهَذَا عُلِمَ مِمَّا سَبَقَ، وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيَجْمَعَهُ مَعَ نَظِيرِهِ فِي التَّشْطِيرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} [النساء: 25] وَالْعَبْدُ مَقِيسٌ عَلَى الْأَمَةِ، وَلَمَّا كَانَتْ الْمَعَرَّةُ اللَّاحِقَةُ بِالْقَذْفِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا إسْلَامُ الْقَاذِفِ قَالَ: (وَالْكَافِرُ) الْحُرُّ كَالْمُسْلِمِ (يُحَدُّ فِي الْقَذْفِ ثَمَانِينَ) وَلَوْ كَانَ حَرْبِيًّا حَيْثُ وَقَعَ مِنْهُ الْقَذْفُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، هَكَذَا عُزِّيَ لِابْنِ الْقَاسِمِ، وَذَكَرَ ابْنُ عَرَفَةَ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ وَابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْحَرْبِيِّ، وَإِنْ قَذَفَ فِي أَثْنَاءِ الْحَدِّ فَإِنَّهُ يُلْغِي الْجَلْدَ السَّابِقَ وَيُبْتَدَأُ لَهُمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَاقِي يَسِيرًا فَيُكَمَّلُ الْأَوَّلُ وَيُبْتَدَأُ لِلْقَذْفِ الثَّانِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ قَذَفَ فِي الْحَدِّ اُبْتُدِئَ لَهُمَا إلَّا أَنْ يَبْقَى يَسِيرٌ فَيُكَمَّلُ الْأَوَّلُ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَقْذُوفُ ثَانِيًا هُوَ الْأَوَّلُ أَوْ غَيْرُهُ. ثُمَّ نَبَّهَ عَلَى بَعْضِ شُرُوطِ حَدِّ الْقَذْفِ بِذِكْرِ أَضْدَادِهَا كَمَا هُوَ عَادَةُ الْفُقَهَاءِ فَقَالَ: (وَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِ عَبْدٍ أَوْ كَافِرٍ) حَيْثُ قَذَفَهُمَا بِنَفْيِ نَسَبِهِمَا عَنْ أَبٍ أَوْ جَدٍّ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ شَرْطَ حَدِّ الْقَاذِفِ بِهِ حُرِّيَّةُ الْمَقْذُوفِ وَإِسْلَامُهُ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْحَدِّ نَفْيِ الْأَدَبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَبَوَا الرَّقِيقِ حُرَّيْنِ مُسْلِمَيْنِ وَإِلَّا حُدَّ، وَنَصُّ الْمُدَوَّنَةِ فِي ذَلِكَ مَنْ قَالَ لِعَبْدِهِ وَأَبَوَاهُ حُرَّانِ مُسْلِمَانِ: لَسْت لِأَبِيك ضُرِبَ سَيِّدُهُ الْحَدَّ، وَكَذَلِكَ إذَا قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِي أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ، فَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ قَدْ مَاتَا وَلَا وَارِثَ لَهُمَا أَوْ لَهُمَا وَارِثٌ فَإِنَّ لِلْعَبْدِ أَنْ يُحِدَّ سَيِّدَهُ فِي ذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ قَذَفَهُمَا بِالزِّنَا فَالْحَدُّ بِالشُّرُوطِ الْأَرْبَعَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ. (وَيُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيَّةِ بِالزِّنَا) كَأَنْ يَقُولَ لَهَا: فُلَانٌ زَنَى بِك أَوْ يَا زَانِيَةُ. (إنْ كَانَ مِثْلُهَا يُوطَأُ) لِلُّحُوقِ الْمَعَرَّةِ لَهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُطِيقَةِ لَا مَعَرَّةَ عَلَيْهَا لِلْقَطْعِ بِكَذِبِ الْقَاذِفِ. (وَلَا يُحَدُّ قَاذِفُ الصَّبِيِّ) بِأَنَّهُ زَانٍ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ مُرَاهِقًا بِخِلَافِ لَوْ قَذَفَهُ بِأَنَّهُ مَفْعُولٌ بِهِ فَإِنَّهُ يُحَدُّ إنْ كَانَ مُطِيقًا بِالْأَوْلَى مِنْ حَدِّهِ بِرَمْيِهِ الْأُنْثَى لِلُحُوقِ الْمَعَرَّةِ، [شُرُوط حَدّ القذف] وَأَشَارَ إلَى بَعْضِ شُرُوطِ حَدِّ الْقَاذِفِ بِذِكْرِ الضِّدِّ بِقَوْلِهِ: (وَلَا حَدَّ عَلَى مَنْ لَمْ يَبْلُغْ فِي قَذْفٍ) لِغَيْرِهِ بِزِنًى أَوْ نَفْيِ نَسَبٍ. (وَلَا) فِي شُرْبِ خَمْرٍ وَلَا (وَطْءٍ) لِأَنَّ وَطْأَهُ لَا يُسَمَّى زِنًا، وَكَمَا لَا حَدَّ عَلَيْهِ لَا حَدَّ عَلَى مَوْطُوئِهِ وَلَوْ بَالِغًا وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ الْأَدَبُ، كَمَا يَلْزَمُ وَلِيَّ الصَّبِيِّ تَأْدِيبُهُ اسْتِصْلَاحًا لِحَالِهِ لَا لِارْتِكَابِهِ مُحَرَّمًا لِرَفْعِ الْقَلَمِ عَنْ الصَّبِيِّ. وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ شَرْطَ الْمَقْذُوفِ بِهِ إمَّا نَفْيُ النَّسَبِ أَوْ النِّسْبَةُ لِلزِّنَى قَالَ: (وَمَنْ نَفَى) مِنْ كُلِّ بَالِغٍ عَاقِلٍ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا أَوْ رَقِيقًا (رَجُلًا) حُرًّا مُسْلِمًا أَوْ امْرَأَةً كَذَلِكَ وَلَوْ صَغِيرَيْنِ أَوْ مَجْنُونَيْنِ (مِنْ نَسَبِهِ) أَيْ قَطَعَ نَسَبَهُ عَنْ أَبِيهِ أَوْ جَدِّهِ لِأَبِيهِ لَا عَنْ عَمِّهِ. (فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) إذَا كَانَ نَسَبُهُ مَعْلُومًا وَكَانَ حُرًّا مُسْلِمًا وَلَوْ كَانَ أَبَوَاهُ رَقِيقَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ. قَالَ الشَّاذِلِيُّ: وَلَا يُشْتَرَطُ فِي تَوَجُّهِ الْحَدِّ عَلَى النَّافِي أَنْ يَكُونَ النَّفْيُ عَنْ أَبَوَيْهِ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُمَا، بَلْ وَلَوْ كَانَا عَبْدَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ لَوَجَبَ الْحَدُّ لِلْمَنْفِيِّ لَا لَهُمَا. نَعَمْ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ الْمَنْفِيُّ مِمَّنْ يُحَدُّ قَاذِفُهُ أَيْ بِأَنْ يَكُونَ حُرًّا مُسْلِمًا، وَأَمَّا لَوْ نَفَاهُ عَنْ أُمِّهِ أَوْ عَنْ جَدِّهِ لِأُمِّهِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مَعْرُوفِ النَّسَبِ الْمَنْبُوذِ يَرْمِيهِ بِنَفْيِ النَّسَبِ عَنْ أَبٍ مُعَيَّنٍ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ فِي وَاحِدٍ مِنْهَا، وَأَمَّا لَوْ قَالَ لِلْمَنْبُوذِ: يَا ابْنَ الزِّنَا أَوْ يَا مَنْفِيُّ أَوْ يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ مِمَّا يَقْتَضِي، نَفْيَ نَسَبِهِ عَنْ مُطْلَقِ أَبٍ فَإِنَّهُ يُحَدُّ لِأَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ نَبْذِهِ كَوْنُهُ ابْنَ زِنًا، هَذَا مَا ارْتَضَاهُ ابْنُ رُشْدٍ، خِلَافًا لِقَوْلِ مَالِكٍ فِي الْعُتْبِيَّةِ: إنَّ مَنْ قَالَ لِلْمَنْبُوذِ: يَا ابْنَ الزَّانِيَةِ لَا حَدَّ عَلَيْهِ فَإِنَّ بَعْضَ الْأَشْيَاخِ ضَعَّفَهُ، وَلَمَّا كَانَ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَذْفِ صَرِيحُ اللَّفْظِ قَالَ: (وَفِي التَّعْرِيضِ) وَهُوَ التَّعْبِيرُ عَنْ الشَّيْءِ بِاللَّفْظِ الْمَوْضُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 قَالَ لِرَجُلٍ يَا لُوطِيُّ حُدَّ. وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً فَحَدٌّ وَاحِدٌ يَلْزَمُهُ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُمْ ثُمَّ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَمَنْ كَرَّرَ شُرْبَ الْخَمْرِ   [الفواكه الدواني] لِضِدِّهِ (الْحَدُّ) حَيْثُ كَانَ بِلَفْظٍ مُفْهِمٍ. قَالَ خَلِيلٌ: أَوْ عَرَّضَ غَيْرُ أَبٍ إنْ أَفْهَمَ أَيْ أَفْهَمَ الرَّمْيَ بِالزِّنَا أَوْ يَنْفِي النَّسَبَ عَنْ أَبِيهِ أَوْ عَنْ جَدِّهِ لِأَبِيهِ، مِثَالُ التَّعْرِيضِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ: كَلَسْت بِزَانٍ أَوْ زَنَتْ عَيْنُك أَوْ مُكْرَهَةٌ أَوْ عَفِيفُ الْفَرْجِ، أَوْ لِعَرَبِيٍّ: مَا أَنْتَ بِحُرٍّ، أَوْ يَا رُومِيُّ كَانَ نَسَبُهُ لِعَمِّهِ بِخِلَافِ جَدِّهِ فَيَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْقَائِلِ الْحَدُّ كَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى مَنْ صَرَّحَ بِلَفْظِ الْقَذْفِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ التَّعْرِيضِ بِالنَّثْرِ أَوْ الشِّعْرِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ التَّعْرِيضُ مِنْ الْأَبِ لِوَلَدِهِ فَإِنَّهُ لَا يُحَدُّ لِبُعْدِهِ عَنْ التُّهْمَةِ فِي وَلَدِهِ وَلَا يُؤَدَّبُ أَيْضًا، وَأَمَّا لَوْ صَرَّحَ لِوَلَدِهِ لَحُدَّ هَكَذَا مُفَادُ كَلَامِ خَلِيلٍ، وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: الْمُعْتَمَدُ خِلَافُهُ وَأَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَى الْأَبِ يَرْمِي وَلَدَهُ وَلَوْ صَرَّحَ بِقَذْفِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مَا رُوِيَ فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَجُلَيْنِ تَسَابَّا فِي زَمَنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَالَ أَحَدُهُمَا لِلْآخَرِ: وَاَللَّهِ لَيْسَ أَبِي بِزَانٍ وَلَا أُمِّي بِزَانِيَةٍ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ قَائِلٌ: مَدَحَ أَبَاهُ وَأُمَّهُ، وَقَالَ آخَرُونَ: كَانَ لِأُمِّهِ وَأَبِيهِ مَدْحٌ غَيْرَ هَذَا نَرَى أَنْ تَجْلِدَهُ الْحَدَّ، فَجَلَدَهُ عُمَرُ الْحَدَّ ثَمَانِينَ جَلْدَةً. (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُكَلَّفِينَ (لِرَجُلٍ) عَفِيفٍ عَنْ وَطْءٍ يُوجِبُ الْحَدَّ وَلَهُ آلَةٌ (يَا لُوطِيُّ) أَوْ يَا زَانِي (حُدَّ) ثَمَانِينَ جَلْدَةً إنْ كَانَ حُرًّا، وَأَمَّا لَوْ قَذَفَ غَيْرَ عَفِيفٍ وَهُوَ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ، سَوَاءٌ كَانَ ثُبُوتُ زِنَاهُ قَبْلَ قَذْفِهِ أَوْ بَعْدَهُ، وَلَكِنْ قَبْلَ إقَامَةِ الْحَدِّ عَلَى الْقَاذِفِ، وَالْعَفِيفُ صَادِقٌ بِمَنْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ وَطْءٌ مُحَرَّمٌ وَبِمَنْ حَصَلَ مِنْهُ، لَكِنْ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَوَطْءِ بَهِيمَةٍ، وَقَوْلُنَا بِآلَةٍ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ قَاذِفِ الْمَجْبُوبِ بِفِعْلِ الزِّنَا فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ لِلْقَطْعِ بِكَذِبِهِ، وَمِثْلُهُ مَنْ لَهُ ذَكَرٌ صَغِيرٌ لَا يَتَأَتَّى بِهِ الْجِمَاعُ، وَعَدَمُ الْحَدِّ لِمَنْ ذُكِرَ لَا يُنَافِي أَنَّهُ يُؤَدَّبُ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ مِنْ أَلْفَاظِ الْقَذْفِ قَوْلُ الْمُكَلَّفِ لِنَفْسِهِ: أَنَا نَعْلٌ أَوْ أَنَا وَلَدُ زِنًا، وَإِنَّمَا حُدَّ لِنِسْبَةِ أُمِّهِ لِلزِّنَا، أَوْ قَالَ لِامْرَأَةٍ يَا قَحْبَةُ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ يَا قُرْبَانُ، أَوْ يَا ابْنَ مُنْزِلَةِ الرُّكْبَانِ، أَوْ ذَاتِ الرَّايَةِ، أَوْ يَا عَرْصُ، أَوْ يَا تَيْسُ، أَوْ قَالَ لِشَخْصٍ مُطِيقٍ لِلِّوَاطِ وَلَوْ غَيْرَ بَالِغٍ يَا عِلْقُ، أَوْ يَا بَقَرَةُ، أَوْ يَا حِمَارَةُ، أَوْ يَا مُخَنَّثُ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: وَضَابِطُ هَذَا الْبَابِ الِاشْتِهَارَاتُ الْعُرْفِيَّةُ وَالْقَرَائِنُ الْحَالِيَّةُ فَمَتَى فُقِدَ أُحْلِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْقَذْفَ وَلَا يُحَدُّ، وَمَتَى وُجِدَ أَحَدُهُمَا حُدَّ، وَإِنْ انْتَقَلَ الْعُرْفُ وَبَطَلَ بَطَلَ الْحَدُّ، كَمَا لَوْ قَالَ لَهُ: يَا نَدْلُ فَإِنَّهُ فِي الْأَصْلِ زَوْجُ الزَّانِيَةِ، وَالْآنَ اُشْتُهِرَ فِي عَدَمِ الْكَرَمِ أَوْ عَدَمِ الشَّجَاعَةِ فَلَا حَدَّ بِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا يَثْبُتُ بِهِ حَدُّ الْقَذْفِ، وَبَيَّنَهُ غَيْرُهُ بِأَنَّهُ يَثْبُتُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الْقَذْفِ أَوْ عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي ثُبُوتِهِ بِشَهَادَةِ النِّسَاءِ وَالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَجْرِي فِيهِ مَا جَرَى فِي شَهَادَتِهِنَّ عَلَى جِرَاحِ الْعَمْدِ، وَفِي الْقِصَاصِ بِالْيَمِينِ مَعَ الشَّاهِدِ، وَأَقُولُ: قَدْ يُفَرَّقُ بَيْنَ الْقَذْفِ وَجِرَاحِ الْعَمْدِ بِأَنَّ الْجِرَاحَ قَدْ تَئُولُ إلَى الْمَالِ وَهُوَ مَحَلٌّ لِشَهَادَتِهِنَّ بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَتَأَمَّلْهُ. الثَّانِي: إذَا تَابَ الْقَاذِفُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ عِنْدَ مَالِكٍ وَأَكْثَرِ أَصْحَابِهِ وَأَبِي حَنِيفَةَ إذَا لَمْ يُحَدَّ بِالْفِعْلِ أَخْذًا مِنْ آيَةِ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} [النور: 4] إلَخْ لِأَنَّهُ رَتَّبَ عَدَمَ قَبُولِ شَهَادَتِهِ أَبَدًا عَلَى عَدَمِ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعِ شُهَدَاءَ. الثَّالِثُ: إذَا قَامَ الْقَاذِفُ شَاهِدَيْنِ أَنَّ الْوَالِيَ ضَرَبَ الْمَقْذُوفَ فِي الْحَدِّ فِي الزِّنَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ وَحُدَّ الشَّاهِدَانِ مَعَهُ وَلَا يَنْدَفِعُ عَنْهُ إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعٍ عَلَى رُؤْيَةِ الزِّنَا، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ النَّوَادِرِ. (فُرُوعٌ) الْأَوَّلُ: قَالَ فِي الْكِتَابِ: إذَا قَالَ: الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ عَبِيدٌ، أَيْ وَادَّعَتْ الشُّهُودُ الْحُرِّيَّةَ صُدِّقَتْ الشُّهُودُ وَحُدَّ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ الْحُرِّيَّةُ. الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا قَالَ الْقَاذِفُ: الْمَقْذُوفُ عَبْدٌ فَإِنْ ادَّعَى بَيِّنَةً قَرِيبَةً أُمْهِلَ وَإِلَّا جُلِدَ، فَإِنْ أَتَى بِهَا بَعْدَ الْجَلْدِ زَالَتْ عَنْهُ جُرْحَةُ الْحَدِّ وَلَا أَرْشَ لَهُ فِي الضَّرْبِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: إذَا مَاتَ الْمَقْذُوفُ قَبْلَ حَدِّ الْقَاذِفِ قَامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ الْقِيَامُ بِهِ وَإِنْ عَلِمَهُ مِنْ نَفْسِهِ كَوَارِثِهِ وَإِنْ قُذِفَ بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ وَلَدٍ وَلَدَهُ، وَأَبٍ وَأَبِيهِ وَلِكُلٍّ الْقِيَامُ بِهِ، وَإِنْ حَصَلَ مَنْ هُوَ أَقْرَبُ قَوْلُهُ: مِنْ وَلَدِ. . . إلَخْ بَيَانٌ لِلْوَارِثِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: إذَا شَهِدَ رَجُلٌ عَلَى آخَرَ بِالْقَذْفِ يَوْمَ الْخَمِيسِ مَثَلًا، وَآخَرُ أَنَّهُ قَذَفَهُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ حَدُّهُ كَالطَّلَاقِ وَالْعِتْقِ، لِأَنَّ شَهَادَةَ الشَّاهِدِ يَوْمَ الْخَمِيسِ تُلَفَّقُ لِشَهَادَةِ مَنْ شَهِدَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. (وَمَنْ قَذَفَ) مِنْ كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا (جَمَاعَةً) بِأَنْ قَالَ: أَنْتُمْ زُنَاةٌ مَثَلًا. أَوْ قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ بِمَجْلِسٍ أَوْ مَجَالِسَ (فَحَدُّ وَاحِدٍ يَلْزَمُهُ لِمَنْ قَامَ بِهِ مِنْهُمْ) قَالَ خَلِيلٌ مُبَالِغًا عَلَى وُجُوبِ الْحَدِّ: وَإِنْ كَرَّرَ لِوَاحِدٍ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّ هِلَالَ بْنَ أُمَيَّةَ الْعَجْلَانِيَّ رَمَى امْرَأَتَهُ بِشَرِيكٍ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: حَدٌّ فِي ظَهْرِك أَوْ تَلْتَعِنُ» فَلَمْ يَقُلْ حَدَّانِ، وَجَلَدَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الشُّهُودَ عَنْ الْمُغِيرَةِ بِالزِّنَا حَدًّا وَاحِدًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ قَذَفَ الْمُغِيرَةَ وَالْمَزْنِيَّ بِهَا. «وَجَلَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَذَفَةَ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - ثَمَانِينَ ثَمَانِينَ مِنْهُمْ حَسَّانُ مَعَ أَنَّهُمْ قَذَفُوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 أَوْ الزِّنَا فَحَدٌّ وَاحِدٌ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً. وَمَنْ لَزِمَتْهُ حُدُودٌ وَقَتْلٌ فَالْقَتْلُ يُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا فِي الْقَذْفِ فَلْيَحُدَّ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ. وَمَنْ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ نَبِيذًا مُسْكِرًا حُدَّ ثَمَانِينَ سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ. وَلَا سِجْنَ عَلَيْهِ. وَيُجَرَّدُ   [الفواكه الدواني] عَائِشَةَ وَصَفْوَانَ» . وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: قَذَفَ جَمَاعَةً أَنَّهُ لَوْ قَذَفَ وَاحِدًا مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ بِأَنْ قَالَ: أَحَدُكُمْ زَانٍ فَإِنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ وَهُوَ كَذَلِكَ. (ثُمَّ) إذَا قَامَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمَقْذُوفِينَ وَحُدَّ لَهُ الْقَاذِفُ (لَا شَيْءَ عَلَيْهِ) لِلْبَاقِينَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حَدَّ الْقَذْفِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى، [كَرَّرَ شُرْبَ الْخَمْرِ أَوْ كَرَّرَ فِعْلَ الزِّنَا] وَلَمَّا كَانَ الْقَذْفُ جِنَايَةً وَالْأَصْلُ تَعَدُّدُ وَاجِبِهَا وَهُنَا لَيْسَ كَذَلِكَ قَالَ: (وَمَنْ كَرَّرَ شُرْبَ الْخَمْرِ) قَبْلَ حَدِّهِ (أَوْ) كَرَّرَ فِعْلَ (الزِّنَا) وَلَوْ عَشْرَ مَرَّاتٍ قَبْلَ حَدِّهِ (فَحَدُّ وَاحِدٌ) وَهُوَ ثَمَانُونَ جَلْدَةً فِي الشُّرْبِ عَلَى الْحُرِّ وَأَرْبَعُونَ عَلَى الرَّقِيقِ وَمِائَةٌ فِي الزِّنَا أَوْ خَمْسُونَ كَذَلِكَ. (فِي ذَلِكَ كُلِّهِ) وَكَذَلِكَ لَوْ قَذَفَ وَشَرِبَ أَوْ سَرَقَ وَقَطَعَ يَمِينٌ آخَرُ فَإِنَّهُ يَكْتَفِي حَدٌّ وَاحِدٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَدَاخَلَتْ إنْ اتَّحَدَ الْمُوجِبُ كَقَذْفٍ وَشُرْبٍ وَإِلَّا تَكَرَّرَتْ. (وَكَذَلِكَ مَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً) تَشْبِيهٌ فِي أَنَّهُ يُحَدُّ حَدًّا وَاحِدًا لِجَمَاعَةٍ وَإِنَّمَا أَعَادَهُ وَإِنْ تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: وَمَنْ قَذَفَ جَمَاعَةً فَحَدٌّ وَاحِدٌ إلَخْ جَمْعًا لِلنَّظَائِرِ أَوْ يُحْمَلُ مَا مَرَّ عَلَى قَذْفِهِمْ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ، وَمَا هُنَا عَلَى مَا إذَا قَذَفَ كُلَّ وَاحِدٍ بِانْفِرَادِهِ. (وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ أَوْ مَوْصُولَةٌ وَشَرْطُهَا أَوْ صِلَتُهَا (لَزِمَهُ حُدُودٌ) لِشُرْبِهِ أَوْ زِنَاهُ أَوْ سَرِقَتِهِ (وَ) لَزِمَهُ أَيْضًا (قَتْلٌ) لِقَتْلِهِ مَنْ هُوَ مُكَافِئٌ لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ أَوْ لَاطَ أَوْ خَارَبَ. (فَالْقَتْلُ يُجْزِئُ عَنْ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ كُلِّهِ مِنْ الْحُدُودِ وَقَتْلِ غَيْرِهِ. (إلَّا فِي) حَدِّ (الْقَذْفِ فَلْيَحُدَّ) لَهُ (قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ) لِأَنَّ قَتْلَهُ لَا يَدْفَعُ عَنْ الْمَعْرُوفِ مَعَرَّةَ الْقَذْفِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وُجُوبُ تَقْدِيمِ حَدِّ الْقَذْفِ قَبْلَ الْقَتْلِ وَلَوْ كَانَ الْمَقْذُوفُ هُوَ الْمَقْتُولُ الْمُقْتَصُّ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِجْزَاءُ الْقَتْلِ عَنْ الْحُدُودِ الْمَسْقَطِ لَهَا لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ تَقَدُّمِ سَبَبِهَا عَلَى الْقَتْلِ أَوْ تَأَخُّرِهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَهُ مِنْ مَسَائِلِ الْقَذْفِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الشُّرْبِ وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: شُرْبُ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ مَا يُسْكَرُ مِنْ جِنْسِهِ مُخْتَارًا لَا لِضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ فَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَلَا ذِي غُصَّةٍ وَإِنْ حَرُمَتْ، كَمَا لَا حَدَّ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ انْتَهَى كَلَامُ ابْنِ عَرَفَةَ، وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: وَإِنْ حَرُمَتْ خِلَافُ مَا عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ وَابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ عَدَمِ حُرْمَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ لِلْغُصَّةِ، وَلَفْظُ خَلِيلٍ وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرًا لَا لِغُصَّةٍ، نَعَمْ وَقَعَ النِّزَاعُ فِي الْجَوَازِ لِلْعَطَشِ وَالنُّصُوصُ عَدَمُ الْجَوَازِ كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْجُوعِ فَقَالَ: (وَمَنْ شَرِبَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (خَمْرًا) وَهُوَ مَاءُ الْعِنَبِ الْمَغْلِيِّ عَلَى النَّارِ قَبْلَ وُصُولِهِ لِلطَّبْخِ الْمُزِيلِ لِلْإِسْكَارِ مِنْهُ. (وَ) شَرِبَ (نَبِيذًا) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ مُسْكِرًا وَهُوَ كُلُّ مَا يُنْبَذُ أَيْ يَطْرَحُ فِي الْمَاءِ مِنْ تَمْرٍ أَوْ زَبِيبٍ أَوْ غَيْرِهِمَا وَيَسْتَمِرُّ حَتَّى يَحْلُوَ الْمَاءُ وَيَصِلَ إلَى حَدِّ الْإِسْكَارِ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، وَنَبِيذًا: اسْمُ مَفْعُولٍ بِمَعْنَى مَنْبُوذٍ لِأَنَّ الْمَشْرُوبَ الْمَاءُ الْمَنْبُوذُ فِيهِ نَحْوُ الثَّمَرِ لَا نَفْسُ الْمَنْبُوذِ، وَالْمُرَادُ بِشُرْبِ مَا ذُكِرَ وُصُولُهُ لِلْحَلْقِ مِنْ الْفَمِ، وَلَا يُشْتَرَطُ وُصُولُهُ إلَى الْجَوْفِ، فَلَا حَدَّ فِي الْوَاصِلِ مِنْ الْأَنْفِ وَلَا الْأُذُنِ وَلَا الْعَيْنِ وَلَوْ إلَى الْجَوْفِ لِعَدَمِ تَسْمِيَتِهِ شُرْبًا، وَلَوْ حَصَلَ الْإِسْكَارُ مِنْهُ بِالْفِعْلِ وَإِنْ حَرُمَ وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ (حُدَّ) أَيْ وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَجْلِدَهُ ثَمَانِينَ جَلْدَةً إنْ كَانَ حُرًّا مُسْلِمًا، وَالرَّقِيقُ نِصْفُهَا الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى. (سَوَاءٌ سَكِرَ) بِالْفِعْلِ (أَوْ لَمْ يَسْكَرْ) سَوَاءٌ كَانَ كَثِيرًا أَوْ قَلِيلًا حَيْثُ شَرِبَهُ طَائِعًا لَا لِضَرُورَةٍ وَلَا عُذْرٍ، فَلَا حَدَّ عَلَى مُكْرَهٍ وَلَا مَنْ شَرِبَهُ لِضَرُورَةٍ كَغُصَّةٍ وَلَا ذِي عُذْرٍ كَمَنْ شَرِبَهُ يَظُنُّهُ عَسَلًا، وَيُحَدُّ الْمُخْتَارُ لِشُرْبِهِ سَوَاءٌ كَانَ عَالِمًا بِأَنَّهُ مُسْكِرٌ أَوْ جَاهِلًا لِاشْتِهَارِ حُرْمَةِ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ بِشُرْبِ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ مَا يُسْكِرُ جِنْسُهُ طَوْعًا بِلَا عُذْرٍ وَضَرُورَةٍ أَوْ ظَنَّهُ غَيْرَهُ وَإِنْ قَلَّ أَوْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ أَوْ الْحُرْمَةِ لِقُرْبِ عَهْدٍ وَلَوْ حَنَفِيًّا يَشْرَبُ النَّبِيذَ وَصُحِّحَ نَفْيُهُ ثَمَانِينَ بَعْدَ صَحْوِهِ وَتُشْطَرُ بِالرِّقِّ وَإِنْ قَلَّ، وَيُفْهَمُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالشُّرْبِ إنْ أَخَذَهُ عَلَى إبْرَةٍ ثُمَّ وَضَعَهَا فِي فِيهِ لَا يُحَدُّ بِهِ، خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّيُوخِ لِمَا عَرَفَتْ مِنْ أَنَّهُ لَا يُسَمَّى شُرْبًا وَلَا يُتَوَقَّعُ مِنْهُ إسْكَارٌ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: بَعْدَ صَحْوِهِ أَنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِحَدِّهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ بَلْ يُعَادُ عَلَيْهِ لِيَذُوقَ الْعَذَابَ، وَشَرْطُ حَدِّهِ ثُبُوتُ شُرْبِهِ إمَّا بِإِقْرَارِهِ بَعْدَ صَحْوِهِ أَوْ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ عَلَى الشُّرْبِ أَوْ عَلَى رَائِحَةِ الْخَمْرِ مِنْ فَمِهِ أَوْ عَلَى تَقَايُئِهِ خَمْرًا، وَلَوْ شَهِدَ وَاحِدٌ عَلَى الشُّرْبِ وَالْآخَرُ عَلَى الرَّائِحَةِ قَالَ خَلِيلٌ: إنْ أَقَرَّ أَوْ شَهِدَ بِشُرْبٍ أَوْ شَمَّ وَإِنْ خُولِفَا، أَوْ يَدْخُلَ فِي الْمُخَالِفَةِ لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ بِأَنَّ مَشْرُوبَهُ خَمْرٌ وَعَدْلَانِ أَنَّهُ عَسَلٌ مَثَلًا، أَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ رَائِحَةَ فَمِهِ خَمْرٌ وَآخَرَانِ أَنَّ رَائِحَتَهُ ثُومٌ مَثَلًا فَالْحَدُّ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لِأَنَّ الْبَيِّنَةَ الْمُثَبِّتَةَ تُقَدَّمَ شَهَادَتُهَا عَلَى النَّافِيَةِ، وَنَظِيرُ ذَلِكَ لَوْ شَهِدَ عَدْلَانِ أَنَّ فُلَانًا قَتَلَ فُلَانًا وَقْتَ كَذَا، وَشَهِدَتْ بَيِّنَةٌ أُخْرَى أَنَّ الْقَاتِلَ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ فِي بَلَدٍ بَعِيدٍ يَسْتَحِيلُ مَعَهُ قَتْلُ فُلَانٍ الْمَذْكُورِ قَالَ سَحْنُونٌ: يُقْتَلُ لِأَنَّ مَنْ أَثْبَتَ حُكْمًا أَوْلَى مِمَّنْ نَفَاهُ وَهُوَ مَشْهُورُ الْمَذْهَبِ، وَظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: سَكِرَ أَوْ لَمْ يَسْكَرْ أَنَّ الشَّارِبَ يُحَدُّ وَلَوْ كَانَتْ عَادَتُهُ عَدَمَ السُّكْرِ وَهُوَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَدَّ مُرَتَّبٌ عَلَى شُرْبِ الْمُسْكِرِ جِنْسُهُ لَا عَلَى السُّكْرِ بِالْفِعْلِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَلَوْ مَصَّةً وَاحِدَةً» . وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 الْمَحْدُودُ وَلَا تُجَرَّدُ الْمَرْأَةُ إلَّا مِمَّا يَقِيهَا الضَّرْبَ وَيُجْلَدَانِ قَاعِدِينَ. وَلَا تُحَدُّ حَامِلٌ حَتَّى تَضَعَ. وَلَا مَرِيضٌ مُثَقَّلٌ حَتَّى يَبْرَأَ. وَلَا يُقْتَلُ وَاطِئُ الْبَهِيمَةِ وَلْيُعَاقَبْ. وَمَنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ مَا قِيمَتُهُ يَوْمَ السَّرِقَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ   [الفواكه الدواني] فِي أَبِي دَاوُد مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وَمَا أَسْكَرَ مِنْهُ الْفَرْقُ فَمِلْءُ الْكَفِّ مِنْهُ حَرَامٌ» . وَقَيَّدْنَا الشَّارِبَ بِالْمُسْلِمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِهِ، وَبِالْمُكَلَّفِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ غَيْرِهِ، فَلَا حَدَّ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ كَمَا لَا حَدَّ عَلَى الْغَالِطِ كَمَا قَدَّمْنَا. (تَنْبِيهٌ) تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ بِالشُّرْبِ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْجَامِدَ الْمُسْكِرَ جِنْسُهُ لَا حَدَّ عَلَى مُسْتَعْمِلِهِ كَالتَّاتُورَةِ وَالْحَشِيشَةِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ عَدَمُ الْحَدِّ بِهِ وَإِنْ اتَّفَقَ عَلَى حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِهِ لِوُجُوبِ حِفْظِ الْعَقْلِ فِي جَمِيعِ الْمِلَلِ، وَأَيْضًا لَا تَلْزَمُ بَيْنَ الْحُرْمَةِ وَالْحَدِّ. وَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي وُجُوبِ حَبْسِ الشَّارِبِ بَعْدَ الْحَدِّ وَكَانَ الْمُعْتَمَدُ عَدَمُ سَجْنِهِ قَالَ: (وَلَا سِجْنَ) وَاجِبٌ (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الشَّارِبِ بَعْدَ الْفَرَاغِ مِنْ حَدِّهِ وَلَوْ تُكَرَّرَ مِنْهُ الشُّرْبُ وَلَا يُطَافُ بِهِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إذَا اُشْتُهِرَ بِالشُّرْبِ يُطَافُ بِهِ وَيُشَهَّرُ أَمْرُهُ، وَهُوَ الْمَعْرُوفُ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالتَّجْرِيسِ لِيَرْتَدِعَ بِذَلِكَ. [صِفَةِ الْمَحْدُودِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَةِ الْمَحْدُودِ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجِبُ أَنْ (يُجَرَّدَ الْمَحْدُودُ) مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سِوَى مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ إنْ كَانَ ذَكَرًا بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تُجَرَّدَ الْمَرْأَةُ إلَّا مِمَّا يَقِيهَا الضَّرْبَ) لِتُحِسَّ بِأَلَمِ الضَّرْبِ، وَإِنَّمَا لَمْ تُجَرَّدْ كَالرَّجُلِ لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ، قَالَ: وَجُرِّدَ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ مِمَّا يَقِي الضَّرْبَ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ أَنْ تُجْعَلَ فِي قُفَّةٍ وَيُجْعَلَ تَحْتَهَا شَيْءٌ مِنْ تُرَابٍ وَيُبَلُّ بِالْمَاءِ لِأَجْلِ السَّتْرِ وَيُوَالَى الضَّرْبُ عَلَيْهَا وَلَا يُفَرَّقُ إلَّا أَنْ يُخْشَى مِنْ تَوَالِيهِ الْهَلَاكُ. (وَ) مِنْ تَمَامِ الصِّفَةِ أَنَّهُمَا (يُجْلَدَانِ) حَالَةَ كَوْنِهِمَا (قَاعِدَيْنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَالْحُدُودُ بِسَوْطٍ وَضَرْبٍ مُعْتَدِلَيْنِ قَاعِدًا بِلَا رَبْطٍ وَلَا شَدِيدٍ بِظَهْرِهِ وَكَتِفَيْهِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: صِفَةُ الضَّرْبِ فِي الزِّنَا وَالشُّرْبِ وَالْفِرْيَةِ وَالتَّعْزِيرِ ضَرْبٌ وَاحِدٌ ضَرْبٌ بَيْنَ ضَرْبَيْنِ لَيْسَ بِالْمُبَرِّحِ وَلَا بِالْخَفِيفِ، وَلَمْ يَحُدَّ مَالِكٌ ضَمَّ الضَّارِبُ يَدَهُ إلَى جَنْبَيْهِ وَلَا يُجْزِئُ فِي الضَّرْبِ فِي الْحُدُودِ قَضِيبٌ وَشَرَاك وَلَا دِرَّةٌ وَلَكِنْ السَّوْطُ، وَإِنَّمَا كَانَتْ دِرَّةً عُمَرَ لِلْأَدَبِ. قَالَ الْجُزُولِيُّ: وَصِفَةُ السَّوْطِ أَنْ يَكُونَ مِنْ جِلْدٍ وَاحِدٍ وَلَا يَكُونُ لَهُ رَأْسَانِ وَأَنْ يَكُونَ رَأْسُهُ لَيِّنًا، وَيَقْبِضُ عَلَيْهِ بِالْخِنْصَرِ وَالْبِنْصِرِ وَالْوُسْطَى وَلَا يَقْبِضُ عَلَيْهِ بِالسَّبَّابَةِ وَالْإِبْهَامِ، وَيَعْقِدُ عَلَيْهِ عَقْدَ التِّسْعِينَ، وَيُقَدِّمُ رِجْلَهُ الْيُمْنَى وَيُؤَخِّرُ الْيُسْرَى، وَصِفَةُ عَقْدِ التِّسْعِينَ أَنْ يَعْطِفَ السَّبَّابَةَ حَتَّى تَلْقَى الْكَفَّ وَيَضُمَّ الْإِبْهَامَ إلَيْهَا وَيَكُونَ الْمَضْرُوبُ قَاعِدًا فَلَا يُمَدُّ كَمَا يَفْعَلُهُ ظَلَمَةُ مِصْرَ، وَلَا يُرْبَطُ وَلَا تُشَدُّ يَدُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَضْطَرِبُ بِحَيْثُ لَا يَقَعُ الضَّرْبُ مَوْقِعَهُ فَيَجُوزُ شَدَّهُ وَيَكُونُ الضَّرْبُ فِي ظَهْرِهِ وَكَتِفَيْهِ كَمَا تَقَدَّمَ عَنْ خَلِيلٍ، وَيَكُونُ الْمُتَوَلِّي لِلضَّرْبِ شَخْصًا مُتَوَسِّطًا لَا فِي غَايَةِ الْقُوَّةِ وَلَا الضَّعْفِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تُجْلَدَ) وَلَا تُرْجَمَ وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ وَلَا تُحَدَّ (حَامِلٌ) ظَاهِرَةُ الْحَمْلُ (حَتَّى تَضَعَ) لِئَلَّا يُسْرِي إلَى مَا فِي بَطْنِهَا وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ مِنْ زِنًا، وَلَا يُقْبَلُ دَعْوَاهَا الْحَمْلَ بَلْ يَنْظُرُهَا النِّسَاءُ فَإِنْ شَكَكْنَ فِي حَمْلِهَا أُخِّرَتْ لِتَمَامِ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِ وَطْئِهَا، وَهَذَا إذَا مَضَى لِزِنَاهَا نَحْوُ الْأَرْبَعِينَ، وَإِلَّا جَازَ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهَا لِانْتِفَاءِ حُرْمَةِ الْحَمْلِ حِينَئِذٍ، وَهَذَا فِي غَيْرِ ذَاتِ الزَّوْجِ أَوْ السَّيِّدِ الْمُسْتَرْسِلِ عَلَى وَطْئِهَا وَإِلَّا أُخِّرَتْ لِحَيْضَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُخِّرَتْ الْمُتَزَوِّجَةُ لِحَيْضَةٍ وَإِذَا وَضَعَتْ الْحَامِلُ فَإِنْ كَانَ حَدُّهَا بِغَيْرِ الْقَتْلِ أُخِّرَتْ حَتَّى تُتِمَّ نِفَاسَهَا وَتَجِدَ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا، وَإِنْ كَانَ حَدُّهَا الْقَتْلَ فَبِمُجَرَّدِ وَضْعِهَا وَوُجُودِ مَنْ يُرْضِعُ وَلَدَهَا وَيَقْبَلُهَا يُقَامُ عَلَيْهَا وَلَوْ فِي زَمَنِ نِفَاسِهَا. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ يُحَدَّ أَوْ يُعَزَّرَ (مَرِيضٌ مُثَقَّلٌ) بِفَتْحِ الْقَافِ الْمُشَدَّدَةِ أَيْ اشْتَدَّ مَرَضُهُ. (حَتَّى يَبْرَأَ) لِئَلَّا يُؤَدِّيَ إلَى قَتْلِ نَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ أَنْ يُنْتَظَرَ بِالْجَلْدِ اعْتِدَالُ الْهَوَاءِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ حَدُّهُ الْقَتْلَ وَلَوْ بِالرَّجْمِ لَا يُنْتَظَرُ، وَلَمَّا كَانَ الزِّنَا وَطْءَ الْمُسْلِمِ الْمُكَلَّفِ فَرْجَ الْآدَمِيِّ نَصَّ عَلَى غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُقْتَلُ) وَلَا يُحَدُّ أَيْضًا (وَاطِئُ الْبَهِيمَةِ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِزَانٍ شَرْعًا. (وَلْيُعَاقَبْ) بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ وَالْبَهِيمَةُ كَغَيْرِهَا فِي الْمُسْتَقْبِلِ ذَبْحًا وَأَكْلًا، وَمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: «مَنْ أَتَى بَهِيمَةً فَاقْتُلُوهُ وَاقْتُلُوهَا» فَغَيْرُ ثَابِتٍ حَتَّى أَنْكَرَهُ مَالِكٌ، وَكَذَا تُعَاقَبُ الْمَرْأَةُ إذَا سَاحَقَتْ غَيْرَهَا أَوْ أَدْخَلَتْ شَيْئًا بَيْنَ شَفْرَيْهَا حَتَّى يَخْرُجَ مَنِيُّهَا، كَمَا يُعَاقَبُ الرَّجُلُ بِاسْتِمْنَائِهِ بِيَدِهِ لِحُرْمَةِ كُلِّ ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي مَا لَمْ يُضْطَرَّ الرَّجُلُ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا جَازَ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى مَنْ آذَى غَيْرَهُ مِمَّنْ لَا تَجُوزُ أَذِيَّتُهُ بِغَيْرِ الْقَذْفِ، كَمَنْ سَبَّ غَيْرَهُ أَوْ ضَرَبَهُ أَوْ فَعَلَ مَعَهُ مَا لَا يُوجِبُ الْحَدَّ وَالْحُكْمُ فِيهِ التَّعْزِيرُ بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَعَزَّرَ الْإِمَامُ لِمَعْصِيَةِ اللَّهِ أَوْ لِحَقِّ آدَمِيٍّ بِمَا يَرَاهُ زَاجِرًا مِنْ صَفْعٍ أَوْ نَزْعِ عِمَامَةٍ وَإِقَامَةٍ مِنْ الْمَجْلِسِ أَوْ ضَرْبٍ، وَلَوْ زَادَ عَلَى الْحَدِّ أَوْ أَتَى عَلَى النَّفْسِ، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ حَيْثُ فَعَلَ مَعَ ظَنِّ السَّلَامَةِ لَا مَعَ عَدَمِ ظَنِّهَا فَيَضْمَنُ مَا سَرَى إلَى النَّفْسِ أَوْ إتْلَافِ عُضْوٍ، وَلَا يَكُونُ التَّعْزِيرُ بِأَخْذِ الْمَالِ لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ. [بَاب السَّرِقَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَسَائِلِ الشُّرْبِ وَمَا مَعَهُ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَنْ السَّرِقَةِ وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: أَخْذُ مُكَلَّفٍ حُرًّا لَا يَعْقِلُ لِصِغَرِهِ أَوْ مَالًا مُحْتَرَمًا لِغَيْرِهِ نِصَابًا أَخْرَجَهُ مِنْ حِرْزِهِ بِقَصْدٍ وَاحِدٍ خُفْيَةً لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا مَجْنُونٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 وَزْنَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ قُطِعَ. إذَا سَرَقَ مِنْ حِرْزٍ. وَلَا قَطْعَ فِي الْخُلْسَةِ. وَيُقْطَعُ فِي ذَلِكَ يَدُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ. ثُمَّ إنْ سَرَقَ قُطِعَتْ رِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ، ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَيَدُهُ ثُمَّ إنْ سَرَقَ فَرِجْلُهُ. ثُمَّ إنْ سَرَقَ جُلِدَ وَسُجِنَ. وَمَنْ أَقَرَّ بِسَرِقَةٍ قُطِعَ. وَإِنْ   [الفواكه الدواني] وَلَا عَلَى مَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَخْذَ النِّصَابِ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَأَخْرَجَ النِّصَابَ عَلَى مَرَّاتٍ، وَلَا عَلَى أَبٍ أَخَذَ مِنْ مَالِ ابْنِهِ قَدْرَ نِصَابٍ، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ خِفْيَةً عَمَّا لَوْ خَرَجَ جَهَارًا فَهَذَا يُسَمَّى مُخْتَلِسًا، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَا يُقْطَعُ الْخَائِنُ كَالضَّيْفِ وَكُلُّ مَنْ دَخَلَ بِإِذْنٍ خَاصٍّ أَوْ عَامٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّارِقَ مَنْ يَدْخُلُ خِفْيَةً وَيَخْرُجُ كَذَلِكَ، وَالْمُخْتَلِسُ مَنْ يَدْخُلُ خِفْيَةً وَيَخْرُجُ جَهْرَةً، وَالْخَائِنُ مَنْ يَدْخُلُ وَيَخْرُجُ جَهْرَةً وَمَعَهُ إذْنٌ فَقَالَ: (وَمَنْ سَرَقَ رُبْعَ دِينَارٍ ذَهَبًا أَوْ) سَرَقَ (مَا قِيمَتُهُ يَوْمَ السَّرِقَةِ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ مِنْ الْعُرُوضِ أَوْ) سَرَقَ (وَزْنَ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فِضَّةٍ) خَالِصَةٍ (قُطِعَ) يَمِينُهُ مِنْ الْكُوعِ وَحُسِمَ بِالنَّارِ حَيْثُ كَانَتْ لَهُ يَمِينٌ سَالِمَةٌ مِنْ الشَّلَلِ وَمِنْ نَقْصِ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ، وَبَيَّنَ شَرْطَ الْقَطْعِ بِقَوْلِهِ: (إذَا سَرَقَ) مَا ذُكِرَ وَأَخْرَجَهُ (مِنْ حِرْزٍ) مِثْلِهِ، وَهُوَ مَا لَا يُعَدُّ الْوَاضِعُ فِيهِ مُضَيِّعًا وَإِنْ لَمْ يُخْرِجْ هُوَ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَطْعُ بِمَا ذُكِرَ وَلَوْ سَرَقَ النِّصَابَ عَلَى مَرَّتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ حَيْثُ قَصَدَ أَخْذَهُ ابْتِدَاءً وَإِلَّا فَلَا لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا إنْ تَكْمُلْ بِمِرَارٍ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَيْضًا كَوْنُ السَّارِقِ مُكَلَّفًا قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ فَيُقْطَعُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُعَاهِدُ وَإِنْ لِمِثْلِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَطْعَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ شُرُوطٍ بَعْضُهَا فِي السَّارِقِ وَبَعْضُهَا فِي الْمَسْرُوقِ، فَشَرْطُ السَّارِقِ التَّكْلِيفُ وَكَوْنُهُ غَيْرَ رَقِيقٍ لِلْمَسْرُوقِ مِنْهُ، وَكَوْنُهُ غَيْرَ أَصْلٍ لَهُ كَأَبِيهِ وَأُمِّهِ وَجَدِّهِ وَجَدَّتِهِ وَإِنْ عَلَيَا، وَكَوْنُهُ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إلَى الشَّيْءِ الْمَسْرُوقِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى صَبِيٍّ وَلَا عَبْدٍ سَرَقَ مَالَ سَيِّدِهِ، وَلَا عَلَى أَصْلٍ سَرَقَ مَالَ فَرْعِهِ، وَلَا عَلَى مُضْطَرٍّ سَرَقَ طَعَامًا لِسَدِّ جَوْعَتِهِ، وَشَرْطُ الْمَسْرُوقِ إنْ كَانَ آدَمِيًّا أَنْ يَكُونَ طِفْلًا حُرًّا أَوْ عَبْدًا لَا يَعْمَلُ لِصِغَرٍ أَوْ بَلَهٍ أَوْ بِكْرٍ، وَأَنْ يَكُونَ حِينَ سَرِقَتِهِ فِي حِرْزٍ أَوْ مَعَ حَافِظٍ، وَإِنْ كَانَ مَالًا فَشَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِغَيْرِهِ وَمُحْتَرَمًا وَلَا شُبْهَةَ لَهُ فِيهِ، فَلَا قَطْعَ عَلَى مَنْ سَرَقَ رَهْنَهُ أَوْ وَدِيعَتَهُ، وَلَا عَلَى مَنْ مَلَكَ النِّصَابَ قَبْلَ إخْرَاجِهِ مِنْ الْحِرْزِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى تَحْدِيدِ نِصَابِ السَّرِقَةِ بِمَا ذُكِرَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا تُقْطَعُ يَدُ السَّارِقِ إلَّا فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَصَاعِدًا» . وَفِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ: «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَطَعَ يَدَ سَارِقٍ فِي مِجَنٍّ قِيمَتُهُ ثَلَاثَةُ دَرَاهِمَ» وَالْمِجَنُّ التُّرْسُ كَمَا فِي الْقَامُوسِ، وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إلَى الْقَطْعِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ تَمَسُّكًا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعَ يَدُهُ، وَيَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعَ يَدُهُ» وَتَأَوَّلَهُ الْجُمْهُورُ عَلَى بَيْضَةِ الْحَدِيدِ، وَعَلَى حَبْلٍ تُسَاوِي قِيمَتُهُ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ، وَاعْتُبِرَ التَّقْوِيمُ بِالدَّرَاهِمِ لِأَنَّهُ الْمَشْهُورُ، وَسَوَاءٌ سَاوَتْ الثَّلَاثَةُ دَرَاهِمَ الرُّبْعَ دِينَارٍ أَوْ نَقَصَتْ، وَلِذَا لَوْ سَاوَتْ قِيمَةُ الْمَسْرُوقِ الرُّبْعَ دِينَارٍ وَلَمْ تُسَاوِ الثَّلَاثَةَ دَرَاهِمَ لَمْ يُقْطَعْ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ وُجِدَتْ الدَّرَاهِمُ فِي بَلَدِ السَّرِقَةِ وَإِنْ لَمْ يُتَعَامَلْ بِهَا، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَلَدِ السَّرِقَةِ إلَّا الذَّهَبُ فَالتَّقْوِيمُ بِالذَّهَبِ، رَاجِعْ شُرَّاحَ خَلِيلٍ. ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ السَّرِقَةِ وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً بِقَوْلِهِ: (وَلَا قَطْعَ فِي الْخُلْسَةِ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ خُفْيَةً وَالْخُرُوجُ بِهِ جَهْرَةً. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا إنْ اخْتَلَسَ أَوْ كَابَرَ أَوْ هَرَبَ بَعْدَ أَخْذِهِ فِي الْحِرْزِ وَلَوْ لِيَأْتِيَ بِمَنْ يَشْهَدُ عَلَيْهِ، أَوْ أَخَذَ دَابَّةً بِبَابِ مَسْجِدٍ أَوْ سُوقٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَيْسَ عَلَى مُنْتَهِبٍ وَلَا خَائِنٍ وَلَا مُخْتَلِسٍ قَطْعٌ» وَالْمُنْتَهِبُ كَالْغَاصِبِ وَالْخَائِنُ الَّذِي يُؤْذَنُ لَهُ فِي الدُّخُولِ كَالضَّيْفِ وَالْخُدَّامِ وَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ حَيْثُ لَمْ يُحْجَرْ عَلَيْهِ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي أَخَذَ مِنْهُ، وَلَمَّا كَانَتْ الْحُدُودُ لَا يَفْتَرِقُ فِيهَا ذَكَرٌ مِنْ أُنْثَى قَالَ: (وَيُقْطَعُ فِي) سَرِقَةِ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ رُبْعِ دِينَارٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ أَوْ مَا قِيمَتُهُ تُسَاوِيهَا. (يَدُ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَالْعَبْدِ) الْمُكَلَّفِينَ لِأَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي الْقَطْعِ ذُكُورَةٌ وَلَا حُرِّيَّةٌ وَلَا إسْلَامٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُهُ التَّكْلِيفُ فَيُقْطَعُ الْحُرُّ وَالْعَبْدُ وَالْمُعَاهِدُ وَإِنْ لِمِثْلِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي الْمُكَلَّفِ مَنْ تَقَطَّعَ جُنُونُهُ حَيْثُ سَرَقَ فِي حَالِ إفَاقَتِهِ، وَكَذَلِكَ السَّكْرَانُ لَكِنْ لَا يُقْطَعُ حَتَّى يُفِيقَ فَإِنْ قُطِعَ فِي حَالِ سُكْرِهِ أَوْ جُنُونِهِ فَالظَّاهِرُ الِاكْتِفَاءُ بِذَلِكَ، وَلَمَّا كَانَ قَطْعُ السَّارِقِ مِنْ خِلَافٍ قَالَ: (ثُمَّ إنْ سَرَقَ) سَالِمُ الْأَعْضَاءِ مِنْ الشَّلَلِ وَنَقْصِ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ مَرَّةً ثَانِيَةً. (قُطِعَتْ رِجْلُهُ) الْيُسْرَى لِيَكُونَ الْقَطْعُ (مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ إنْ سَرَقَ) مَرَّةً ثَالِثَةً (فَيَدُهُ) الْيُسْرَى مُسْتَحِقَّةٌ لِلْقَطْعِ (ثُمَّ إنْ سَرَقَ) مَرَّةً رَابِعَةً (فَرِجْلُهُ) الْيُمْنَى وَهَذَا كَمَا قَرَّرْنَا فِي سَالِمِ الْيَمِينِ وَغَيْرِهَا، وَلَوْ أَعْسَرَ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، وَأَمَّا مَنْ لَا يَمِينَ لَهُ أَوْ لَهُ يَمِينٌ شَلَّاءُ أَوْ نَاقِصَةُ أَكْثَرِ الْأَصَابِعِ فَرِجْلُهُ الْيُسْرَى هِيَ الَّتِي تُقْطَعُ أَوَّلًا عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ أَمَرَ بِمَحْوِهِ وَإِثْبَاتِ قَطْعِ الْيَدِ الْيُسْرَى لِأَنَّ أَصْحَابَهُ ضَعَّفُوا الْمُثْبَتَ وَرَجَّحُوا الْمُمْحِقَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَحَلَّ الْقَطْعِ وَمَحَلُّهُ فِي الْيَدَيْنِ مِنْ الْكُوعَيْنِ كَمَا قَدَّمْنَا وَفِي الرِّجْلَيْنِ مِنْ مَفْصِلَيْ الْكَعْبَيْنِ، وَإِذَا قُطِعَ فَإِنَّهُ يُحْسَمُ بِالنَّارِ أَيْ يَكُونُ مَوْضِعُ الْقَطِيعِ لِمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اقْطَعُوهُ ثُمَّ احْسِمُوهُ» وَالْحَسْمُ بِالْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ الْمَكْسُورَةِ الْكَيُّ، هَكَذَا بَيَّنَتْ السُّنَّةُ فَقَدْ خَصَّصَتْ عُمُومَ قَوْله تَعَالَى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 رَجَعَ أُقِيلَ. وَغَرِمَ السَّرِقَةَ إنْ كَانَتْ مَعَهُ وَإِلَّا اُتُّبِعَ بِهَا. وَمَنْ أَخَذَ فِي الْحِرْزِ لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُخْرِجَ السَّرِقَةَ مِنْ الْحِرْزِ وَكَذَلِكَ الْكَفَنُ مِنْ الْقَبْرِ. وَمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ لَمْ يُقْطَعْ وَلَا يُقْطَعُ الْمُخْتَلِسُ. وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ فِيمَا يَلْزَمُهُ   [الفواكه الدواني] وَإِنَّمَا حُسِمَتْ بِالنَّارِ لِيَنْقَطِعَ جَرَيَانُ الدَّمِ بِحَرْقِ أَفْوَاهِ الْعُرُوقِ، لِأَنَّ دَوَامَ جَرْيِهِ يُؤَدِّي إلَى مَوْتِ الْمَقْطُوعِ، وَالْحَسْمُ مِنْ حَقِّ الْمَقْطُوعِ لَا مِنْ تَمَامِ الْحَدِّ خِلَافًا لِبَعْضِ الشُّيُوخِ، وَالظَّاهِرُ كَمَا قَالَ الْحَطَّابُ: أَنَّ حُكْمَ الْحَسْمِ الْوُجُوبُ عَلَى كُلٍّ مِنْ الْحَاكِمِ وَالْمَقْطُوعِ فَيَأْثَمَانِ بِتَرْكِهِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ قُطِعَ لَا عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى مَا يُفِيدُ بَيَانُ حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ تَعَمَّدَ إمَامٌ أَوْ غَيْرُهُ يُسْرَاهُ أَوَّلًا فَالْقَوْدُ وَالْحَدُّ بَاقٍ، وَخَطَأٌ أَجْزَأَ حَيْثُ وَقَعَ الْخَطَأُ بَيْنَ مُتَسَاوِيَيْنِ، وَمَحَلُّهُ أَيْضًا حَيْثُ وَقَعَ مِنْ الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ، وَأَمَّا لَوْ حَصَلَ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَلَا يُجْزِئُ مُطْلَقًا وَالْحَدُّ بَاقٍ وَعَلَى الْقَاطِعِ الدِّيَةُ. (ثُمَّ إنْ سَرَقَ) السَّالِمُ الْأَعْضَاءِ مَرَّةً خَامِسَةً أَوْ النَّاقِصُ الْيَمِينِ مَرَّةً رَابِعَةً. (جُلِدَ وَسُجِنَ) بَعْدَ التَّعْزِيرِ، قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ عُزِّرَ وَحُبِسَ وَلَا يُقْتَلُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ مُنْتَهَى الْحَبْسِ وَلَعَلَّهُ لِظُهُورِ تَوْبَتِهِ أَوْ مَوْتِهِ، وَلَمْ يُبَيِّنْ أَيْضًا نَفَقَتَهُ وَأُجْرَةَ حَبْسِهِ وَالظَّاهِرُ أَنَّهَا مِنْ مَالِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ وَإِلَّا فَعَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا فِي نَفَقَةِ الْمُغَرَّبِ فِي الزِّنَا وَالْحِرَابَةِ. [مَا تَثْبُتُ بِهِ السَّرِقَةُ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَثْبُتُ بِهِ السَّرِقَةُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أَقَرَّ) طَائِعًا (بِسَرِقَةِ) طِفْلٍ أَوْ نِصَابٍ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ. (قُطِعَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَثَبَتَ أَيْ الْقَطْعُ بِإِقْرَارٍ إنْ طَاعَةً وَإِلَّا فَلَا، وَلَوْ عَيَّنَ السَّرِقَةَ أَوْ أَخْرَجَ الْقَتِيلَ فَشَرْطٌ فِي الْقَطْعِ بِالْإِقْرَارِ وَالطَّوْعِ، فَإِنْ أَقَرَّ مُكْرَهًا لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُقِرَّ بَعْدَ زَوَالِ الْإِكْرَاهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ سَوَاءٌ كَانَ الْمُقِرُّ مُكْرَهًا مَعْرُوفًا بِالْعَدَاءِ أَمْ لَا. وَفِي ابْنِ عَاصِمٍ مَا يَقْتَضِي التَّفْصِيلَ فَإِنَّهُ قَالَ: إذَا حُبِسَ الْمُتَّهَمُ بِالسَّرِقَةِ لِكَوْنِهِ مِنْ أَهْلِ التُّهْمَةِ بِهَا فَأَقَرَّ فِي السِّجْنِ فَإِنَّهُ يُعْمَلُ بِإِقْرَارِهِ، وَذَكَرَ هَذَا الْحُكْمَ وَعَزَّاهُ لِسَحْنُونٍ وَقَالَ فِي مَنْظُومَتِهِ: وَإِنْ يَكُنْ مُطَالَبًا مَنْ يُتَّهَمْ ... فَمَالِكٌ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ حَكَمْ وَحَكَمُوا بِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ ... مِنْ ذَاعِرٍ يُحْبَسُ لِاخْتِيَارِ فَإِنْ قِيلَ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ مِنْ اعْتِبَارِ الطَّوْعِ فِي الْإِقْرَارِ فَمَا فَائِدَةُ حُكْمِ مَالِكٍ بِالسِّجْنِ وَالضَّرْبِ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لِاحْتِمَالِ ظُهُورِ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ عَلَيْهِ أَوْ تَظْهَرُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ إقْرَارِهِ، وَبَقِيَ مِمَّا يَثْبُتُ بِهِ الْقَطْعُ شَهَادَةُ عَدْلَيْنِ وَيَسْتَفْسِرُهُمَا الْقَاضِي عَنْ الْمَسْرُوقِ مَا هُوَ وَمِنْ أَيْنَ أَخَذَهُ وَإِلَى أَيْنَ أُخْرِجَ؟ فَإِنْ كَانَ الشَّاهِدُ رَجُلًا وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ أَحَدَهُمَا مَعَ الْيَمِينِ ثَبَتَ الْغُرْمُ دُونَ الْقَطْعِ، لِأَنَّ الْقَطْعَ إنَّمَا يَكُونُ بِشَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ أَوْ إقْرَارِ السَّارِقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ رَدَّ الْيَمِينَ فَحَلَفَ الطَّالِبُ أَوْ شَهِدَ رَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ وَاحِدٌ وَحَلَفَ أَوْ أَقَرَّ السَّيِّدُ فَالْغُرْمُ بِلَا قَطْعٍ وَإِنْ أَقَرَّ الْعَبْدُ فَالْعَكْسُ. وَلَمَّا كَانَ قَطْعُ الْمُقِرِّ مَشْرُوطًا بِالتَّمَادِي عَلَى الْإِقْرَارِ قَالَ: (وَإِنْ رَجَعَ) السَّارِقُ عَنْ إقْرَارِهِ (أُقِيلَ) أَيْ تُرِكَ قَطْعُهُ بِخِلَافِ الْمَالِ فَلَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِرُجُوعِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقِيلَ رُجُوعُهُ وَلَوْ بِلَا شُبْهَةٍ، وَمِثْلُهُ الزَّانِي وَالشَّارِبُ وَالْمُحَارِبُ وَمَنْ أَقَرَّتْ بِالْإِحْصَانِ فَإِنَّ هَؤُلَاءِ يُقْبَلُ رُجُوعُهُمْ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَطْعِ السَّارِقِ عَدَمُ غُرْمِهِ الْمَالَ مُطْلَقًا لِئَلَّا تَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ قَالَ: (وَغَرِمَ) السَّارِقُ (السَّرِقَةَ إنْ كَانَتْ مَعَهُ) بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلَيْسَ لِلسَّارِقِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهِ قَهْرًا عَلَى رَبِّهِ وَيَدْفَعَ لَهُ قِيمَتَهُ، وَإِلَّا فَرَّقَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ قَدْ قُطِعَ أَوْ لَمْ يُقْطَعْ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تُوجَدْ السَّرِقَةُ مَعَهُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ تَكُنْ مَعَهُ (اُتُّبِعَ بِهَا) أَيْ لَمْ يُقْطَعْ مُطْلَقًا أَوْ يُقْطَعُ حَيْثُ اتَّصَلَ يَسَارُهُ لِأَنَّ الْيَسَارَ الْمُتَّصِلَ كَالْمَالِ الْقَائِمِ بِعَيْنِهِ فَلَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ وَإِنْ لَمْ يُقْطَعْ مُطْلَقًا أَوْ قُطِعَ إنْ أَيْسَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَخْذِ، وَسَيُشِيرُ الْمُصَنِّفُ إلَى هَذَا آخِرِ الْبَابِ. وَلَمَّا كَانَ قَطْعُ السَّارِقِ مَشْرُوطًا بِإِخْرَاجِ النِّصَابِ مِنْ الْحِرْزِ قَالَ: (وَمَنْ أَخَذَ فِي الْحِرْزِ) قَبْلَ إخْرَاجِ النِّصَابِ (لَمْ يُقْطَعْ حَتَّى يُخْرِجَ السَّرِقَةَ مِنْ الْحِرْزِ) وَأَمَّا لَوْ أَخْرَجَهَا لَقُطِعَ وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ هُوَ. قَالَ خَلِيلٌ فِي وَصْفِ النِّصَابِ: يُخْرَجُ مِنْ حِرْزٍ بِأَنْ لَا يُعَدُّ الْوَاضِعُ فِيهِ مُضَيِّعًا، وَإِنْ لَمْ يَخْرُجْ هُوَ أَوْ ابْتَلَعَ دُرَّا أَوْ ادَّهَنَ بِمَا يَخْرُجُ مِنْهُ نِصَابٌ أَوْ أَشَارَ إلَى شَاةٍ بِالْعَلَفِ فَخَرَجَتْ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ سَوَاءٌ بَقِيَتْ أَوْ أُخِذَتْ، وَيَخْتَصُّ الْقَطْعُ بِمَنْ أَخْرَجَهَا مِنْ الْحِرْزِ لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَهَا لَمْ يُخْرِجْهَا مِنْ حِرْزِهَا. (وَكَذَلِكَ الْكَفَنُ) لَا يُقْطَعُ سَارِقُهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ (مِنْ الْقَبْرِ) وَلِلْبَحْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَيِّتِ الْمَطْرُوحِ فِيهِ مُكَفَّنًا كَالْقَبْرِ فَهُوَ حِرْزٌ لِكَفَنِ الْمَيِّتِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْقَبْرَ حِرْزٌ لِلْكَفَنِ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمِثْلُ سَرِقَةِ الْكَفَنِ فِي وُجُوبِ الْقَطْعِ سَرِقَةُ نَفْسِ اللَّحْدِ وَهُوَ غِشَاءُ الْقَبْرِ الَّذِي يُسَدُّ بِهِ عَلَى الْمَيِّتِ لَا مَا كَانَ عَلَى ظَهْرِهِ مِنْ رُخَامٍ وَنَحْوِهِ، وَكَذَلِكَ مَنْ سَرَقَ الْخَيْمَةَ أَوْ مَا فِيهَا أَوْ مَا فِي الْحَانُوتِ أَوْ مِنْ فِنَائِهِمَا، أَوْ سَرَقَ الْمَحْمَلَ أَوْ مَا عَلَى ظَهْرِ الدَّابَّةِ وَإِنْ غَيَّبَ عَنْهُنَّ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 فِي بَدَنِهِ مِنْ حَدٍّ أَوْ قَطْعٍ يَلْزَمُهُ وَمَا كَانَ فِي رَقَبَتِهِ فَلَا إقْرَارَ لَهُ. وَلَا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلَا فِي الْجُمَّارِ وَلَا فِي النَّخْلِ وَلَا فِي الْغَنَمِ الرَّاعِيَةِ حَتَّى تُسْرَقَ مِنْ مُرَاحِهَا وَكَذَلِكَ التَّمْرُ مِنْ الْأَنْدَرِ. وَلَا يُشْفَعُ لِمَنْ بَلَغَ الْإِمَامَ فِي السَّرِقَةِ وَالزِّنَا   [الفواكه الدواني] أَوْ سَرَقَ مِنْ الْجَرِينِ أَوْ مِنْ سَاحَةِ الدَّارِ حَيْثُ كَانَ السَّارِقُ أَجْنَبِيًّا مَحْجُوزًا عَلَيْهِ فِي دُخُولِهَا، أَوْ مِنْ السَّفِينَةِ حَيْثُ سَرَقَ مِنْ خِنِّهَا أَوْ سَرَقَهُ بِحَضْرَةِ رَبِّ الْمَتَاعِ وَلَوْ لَمْ يُخْرِجْهُ مِنْهَا وَلَوْ كَانَ السَّارِقُ مِنْ رُكَّابِهَا، وَكَذَا إنْ لَمْ يَكُنْ بِحَضْرَةِ رَبِّ الْمَتَاعِ حَيْثُ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا. فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّارِقَ مِنْ خِنِّهَا أَوْ بِحَضْرَةِ رَبِّ الْمَتَاعِ يُقْطَعُ مُطْلَقًا، وَأَمَّا مَنْ سَرَقَ مَا عَلَى ظَهْرِهَا وَفِي غِيبَةِ رَبِّهِ فَلَا يُقْطَعُ إلَّا إنْ كَانَ أَجْنَبِيًّا وَأَخْرَجَهُ مِنْهَا. وَلَمَّا كَانَ السَّارِقُ هُوَ الدَّاخِلُ مِنْ غَيْرِ إذْنِ رَبِّ الْمَتَاعِ وَيَأْخُذُ الشَّيْءَ خُفْيَةً وَيَخْرُجُ كَذَلِكَ ذَكَرَ مُحْتَرَزَهُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ بَيْتٍ أُذِنَ لَهُ فِي دُخُولِهِ) كَالضَّيْفِ وَالْخُدَّامِ (لَمْ يُقْطَعْ) لِأَنَّهُ خَائِنٌ وَهُوَ لَا يُقْطَعُ وَإِنَّمَا يُعَزَّرُ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ الْمَالُ وَيُتَّبَعُ بِهِ إنْ أَعْدَمَ (وَ) كَذَلِكَ (لَا يُقْطَعُ الْمُخْتَلِسُ) وَهُوَ مَنْ يَخْرُجُ جَهْرَةً وَقَدْ تَقَدَّمَ هَذَا وَإِنَّمَا أَعَادَهُ لِيَجْمَعَهُ مَعَ نَظِيرِهِ وَهُوَ الْخَائِنُ. وَلَمَّا كَانَ إقْرَارُ الْعَبْدِ تَارَةً يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِرَقَبَتِهِ وَتَارَةً يَكُونُ مُتَعَلِّقًا بِبَدَنِهِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِقْرَارُ الْعَبْدِ) الْعَاقِلِ الْبَالِغِ (فِيمَا يَلْزَمُهُ) أَيْ فِيمَا يَكُونُ بِعُقُوبَةٍ (فِي بَدَنِهِ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ حَدٍّ أَوْ قَطْعٍ) كَإِقْرَارِهِ بِشُرْبٍ أَوْ قَذْفٍ أَوْ سَرِقَةٍ. (يَلْزَمُهُ) خَبَرُ الْإِقْرَارِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً لِأَنَّهُ لَا يُتَّهَمُ فِي إقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ عُقُوبَةَ بَدَنِهِ. (وَمَا كَانَ) مِنْ إقْرَارِهِ لَا يَتَعَلَّقُ بِبَدَنِهِ، وَإِنَّمَا يَكُونُ بِشَيْءٍ (فِي رَقَبَتِهِ) كَإِقْرَارِهِ بِمَا يُوجِبُ أَخْذَ رَقَبَتِهِ فِيهِ. (فَلَا إقْرَارَ لَهُ) صَحِيحٌ يُعْمَلُ بِهِ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ بِجَلْبِ نَفْعٍ لِلْمُقِرِّ لَهُ، إلَّا أَنْ يُصَدِّقَهُ السَّيِّدُ وَالْمُكَاتَبُ وَالْمُدَبَّرُ وَأُمُّ الْوَلَدِ كَالْقِنِّ الْمَحْضِ فِي هَذَا التَّفْصِيلِ. (وَلَا قَطْعَ فِي) سَرِقَةِ (ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ) عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ مِنْ أَصْل خِلْقَتِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بَابٌ مَغْلُوقٌ، وَقِيلَ الْمَغْلُوقُ عَلَيْهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى مَا لَا قَطْعَ فِيهِ: أَوْ ثَمَرٌ مُعَلَّقٌ إلَّا بِغَلْقٍ فَقَوْلَانِ، وَهَذَا فِي الْمُعَلَّقِ فِي الْبَسَاتِينِ، وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الثَّمَرِ فِي الدُّورِ أَوْ الْبُيُوتِ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ سَارِقُهُ لِأَنَّهُ فِي حِرْزٍ. وَقَوْلُنَا: مِنْ أَصْلِ خِلْقَتِهِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ قُطِعَ وَعُلِّقَ عَلَى الشَّجَرِ فَهَذَا لَا قَطْعَ بِسَرِقَتِهِ وَلَوْ بِغَلْقٍ، وَأَمَّا لَوْ قُطِعَ وَوُضِعَ فِي الْمَحَلِّ الْمُعْتَادِ لِوَضْعِهِ فِيهِ قِيلَ الْجَرِينُ فَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْقَطْعُ مُطْلَقًا، عَدَمُ الْقَطْعِ مُطْلَقًا، ثَالِثُهَا إنْ كُدِّسَ، وَيُقْطَعُ لِشَبَهِهِ بِمَا فِي الْجَرِينِ وَإِلَّا فَلَا لِشَبَهِهِ بِمَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الثَّمَرَ لَهُ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ: كَوْنُهُ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ وَعَلَيْهِ غَلْقٌ أَوْ لَا، أَوْ يَجُذُّ وَيُوضَعُ بِمَكَانٍ لِيُنْقَلَ مِنْهُ إلَى الْجَرِينِ أَوْ يُوضَعُ فِي الْجَرِينِ، فَفِي السَّرِقَةِ مِنْهَا عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ مِنْ غَيْرِ غَلْقٍ لَا قَطْعَ وَهُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَيُغْلَقُ قَوْلَانِ، وَأَمَّا لَوْ قُطِعَتْ وَقَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْجَرِينِ فَفِيهَا الْأَقْوَالُ، وَأَمَّا سَرِقَتُهُ بَعْدَ وَضْعِهِ فِي الْجَرِينِ فَالْقَطْعُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَمَا يَأْتِي. (وَلَا) قَطْعَ أَيْضًا (فِي الْجُمَّارِ) وَهُوَ الْقَلْبُ الْكَائِنُ (فِي النَّخْلِ) لِأَنَّهُ كَالثَّمَرِ الْمُعَلَّقِ عَلَى رُءُوسِ الشَّجَرِ. (وَلَا) قَطْعَ أَيْضًا (فِي الْغَنَمِ الرَّاعِيَةِ) حَالَ رَعْيِهَا كَانَ مَعَهَا رَاعٍ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِأَنَّهَا كَالْمُسْتَثْنَاةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: أَنَّ كَوْنَ الشَّيْءِ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ يُعَدُّ حِرْزًا فَيُقْطَعُ سَارِقُهُ وَلَوْ كَانَ صَاحِبُهُ جَالِسًا بِهِ فِي الصَّحْرَاءِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الِاسْتِثْنَاءِ أَنَّهَا فِي حَالِ رَعْيِهَا تَكُونُ مُتَفَرِّقَةً غَيْرَ مُتَّصِلَةٍ بِرَبِّهَا. وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (حَتَّى تُسْرَقَ مِنْ مُرَاحِهَا) بِضَمِّ الْمِيمِ أَيْ مَوْضِعِ مَقِيلِهَا وَمَوْضِعِ رُقَادِهَا عَقِبَ الرَّوَاحِ مِنْ الْمَرْعَى وَقَبْلَ الذَّهَابِ إلَى الرَّعْيِ، فَيُقْطَعُ السَّارِقُ لَهَا وَهِيَ فِيهِ سَوَاءٌ كَانَ مَعَهُ رَاعٍ أَمْ لَا، وَمِثْلُ السَّرِقَةِ مِنْ الْمَرَاحِ السَّرِقَةُ مِنْهَا حَالَ سَيْرِهَا لِلْمَرْعَى عَلَى الْمُعْتَمَدِ لِأَنَّهَا فِي هَاتَيْنِ الْحَالَتَيْنِ تَكُونُ مُجْتَمِعَةً، وَلِذَلِكَ يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْ الْإِبِلِ الْمَجْمُوعَةِ أَوْ الْبَقَرِ أَوْ الْجَامُوسِ فِي حَالِ سَيْرِهَا إلَى الْمَرْعَى، وَيُقْطَعُ السَّارِقُ لِشَيْءٍ مِنْهَا بِمُجَرَّدِ إبَانَتِهِ عَنْ بَاقِيهَا وَلَوْ لَمْ تَكُنْ الْإِبَانَةُ بَيِّنَةً، وَمِثْلُ مَا ذُكِرَ فِي الْقَطْعِ بِمُجَرَّدِ الْإِبَانَةِ سَرِقَةُ أَبْوَابِ الْمَسَاجِدِ أَوْ قَنَادِيلِهَا أَوْ حُصُرِهَا أَوْ شَيْءٍ مِنْ سُقُوطِهَا، وَلِذَلِكَ اعْتَرَضَ بَعْضُ الشُّيُوخِ قَوْلَ خَلِيلٍ: أَوْ أَخْرَجَ قَنَادِيلَهُ أَوْ بُسُطَهُ قَائِلًا: الْمُعْتَمَدُ وُجُوبُ الْقَطْعِ بِمُجَرَّدِ إزَالَتِهَا عَنْ مَحَلِّهَا فَرَاجِعْهُ. (وَكَذَلِكَ) لَا قَطْعَ فِي سَرِقَةِ (الثَّمَرِ) حَتَّى يُسْرَقَ (مِنْ الْأَنْدَرِ) وَهُوَ الْمَعْرُوفُ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْجُرْنِ سَوَاءٌ كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْبَلَدِ أَوْ بَعِيدًا عَنْهَا. قَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: وَإِذَا جُمِعَ الْحَبُّ أَوْ التَّمْرُ فِي الْجَرِينِ وَغَابَ رَبُّهُ عَنْهُ وَلَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ وَلَا حَائِطٌ فَإِنَّهُ يُقْطَعُ السَّارِقُ مِنْهُ وَلَوْ كَانَ فِي الصَّحْرَاءِ وَمِنْ غَيْرِ حَارِسٍ. ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ الشَّفَاعَةِ فِيمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ (يَشْفَعَ لِمَنْ بَلَغَ) أَمْرُهُ (الْإِمَامَ) فِي عَدَمِ حَدِّهِ (فِي السَّرِقَةِ وَالزِّنَا) بَلْ يَجِبُ إقَامَةُ الْحَدِّ عَلَيْهِمَا وَلَوْ تَابَا وَحَسُنَتْ تَوْبَتُهُمَا، لِأَنَّ الْحَدَّ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ يَصِيرُ حَقًّا لِلَّهِ، فَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ الشَّفَاعَةُ فِي إسْقَاطِهِ، وَلَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ تَرْكُهُ لِمَا رَوَى الْإِمَامُ فِي مُوَطَّئِهِ: «أَنَّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ نَامَ فِي الْمَسْجِدِ وَتَوَسَّدَ رِدَاءَهُ فَجَاءَ طَارِقٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ فِي الْقَذْفِ. [حُكْم الشَّفَاعَةِ فِيمَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حَدٌّ] وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْكُمِّ قُطِعَ وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْهُرْيِ وَبَيْتِ الْمَالِ وَالْمَغْنَمِ فَلْيُقْطَعْ وَقِيلَ إنْ سَرَقَ فَوْقَ حَقِّهِ مِنْ الْمَغْنَمِ بِثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ قُطِعَ. وَيُتْبَعُ السَّارِقُ إذَا قُطِعَ بِقِيمَةِ مَا فَاتَ مِنْ السَّرِقَةِ فِي مَلَائِهِ وَلَا يُتْبَعُ فِي عُدْمِهِ وَيُتْبَعُ فِي عُدْمِهِ بِمَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مِنْ السَّرِقَةِ.   [الفواكه الدواني] فَأَخَذَ رِدَاءَهُ فَأَخَذَ صَفْوَانُ السَّارِقَ فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تُقْطَعَ يَدُهُ، فَقَالَ صَفْوَانُ: إنِّي لَمْ أُرِدْ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ هُوَ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَهَلَّا قَبْلَ أَنْ تَأْتِيَنِي بِهِ؟» وَفِيهِ أَيْضًا: أَنَّ الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ لَقِيَ رَجُلًا قَدْ أَخَذَ سَارِقًا وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَذْهَبَ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ فَشَفَعَ لَهُ الزُّبَيْرُ لِيُرْسِلَهُ فَقَالَ لَا حَتَّى أَبْلُغَ بِهِ السُّلْطَانَ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: إذَا بَلَغَتْ بِهِ إلَى السُّلْطَانِ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّافِعَ وَالْمُشَفَّعَ. وَوَرَدَ أَيْضًا: «تَشَفَّعُوا فِيمَا بَيْنَكُمْ فِي الْحُدُودِ فَإِذَا بَلَغَ الْإِمَامَ فَلَعَنَ اللَّهُ الشَّفِيعَ وَالْمَشْفُوعَ لَهُ» . (تَنْبِيهٌ) وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ الشَّفَاعَةِ فِيمَا ذُكِرَ قَبْلَ عِلْمِ الْإِمَامِ وَلَوْ كَانَ الْمَشْفُوعُ لَهُ مَعْرُوفًا بِالْفَسَادِ وَهُوَ كَذَلِكَ فِي غَيْرِ حَدِّ السَّرِقَةِ، وَأَمَّا حَدُّ السَّرِقَةِ فَلَا يَجُوزُ الشَّفَاعَةُ فِي حَدِّهَا لِلْمَعْرُوفِ بِالْفَسَادِ وَلَوْ قَبْلَ بُلُوغِ الْإِمَامِ كَمَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ. (وَاخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الشَّفَاعَةِ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ (فِي الْقَذْفِ) عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَوَازُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لِلْمَقْذُوفِ، وَالْمَنْعُ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ، وَالْمَشْهُورُ الْجَوَازُ إنْ أَرَادَ الْمَقْذُوفُ السَّتْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَعَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَالْعَفْوُ قَبْلَ الْإِمَامِ أَوْ بَعْدَهُ إنْ أَرَادَ سَتْرًا، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ بِسُؤَالِ الْإِمَامِ خُفْيَةً عَنْ حَالِ الْمَقْذُوفِ، فَإِذَا بَلَغَهُ عَنْهُ أَنَّهُ مِمَّنْ يَخْشَى عَلَى نَفْسِهِ ظُهُورَ الْأَمْرِ جَازَ عَفْوُهُ، وَانْظُرْ لَوْ أَرَادَ بِعَفْوِهِ دَفْعَ ضَرَرٍ يُتَوَقَّعُ حُصُولُهُ مِنْ الْقَاذِفِ بَعْدَ حَدِّهِ هَلْ يَسْقُطُ بِعَفْوِهِ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ أَمْ لَا؟ وَالظَّاهِرُ الْجَوَازُ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا لَمْ يَكُنْ الْقَاذِفُ أَبًا أَوْ أُمًّا وَإِلَّا جَازَ الْعَفْوُ وَإِنْ لَمْ يُرِدْ سَتْرًا، وَهَذَا أَيْضًا فِي الْقَائِمِ بِحَقِّ نَفْسِهِ لِكَوْنِهِ هُوَ الْمَقْذُوفُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ قَائِمًا بِحَقِّ غَيْرِهِ كَالِابْنِ يَقُومُ بِحَقِّ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ الْمَقْذُوفَيْنِ وَقَدْ مَاتَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ الْعَفْوُ عَنْ الَّذِي قَذَفَهُمَا لِأَنَّ صَاحِبَ الْحَقِّ قَدْ مَاتَ وَالْعَفْوُ إنَّمَا يَكُونُ مِنْهُ. (تَنْبِيهٌ) سَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ الْعَفْوِ عَنْ الَّذِي يُوجَبُ تَعْزِيرُهُ وَالشَّفَاعَةُ فِيهِ وَالْحُكْمُ الْجَوَازُ وَلَوْ بَعْدَ بُلُوغِ الْإِمَامِ قَالَهُ الْحَطَّابُ، قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَقِبَ كَلَامِهِ: وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ التَّعْزِيرُ لِمَحْضِ حَقِّ اللَّهِ. (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ) نَحْوِ (الْكُمِّ) كَالْجَيْبِ وَالْعِمَامَةِ وَالْحِزَامِ (قُطِعَ) لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ يُقْطَعُ سَارِقُهُ لِأَنَّ صَاحِبَهُ حِرْزٌ لَهُ وَلَوْ كَانَ فِي فَلَاةٍ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْمُرَادُ بِصَاحِبِهِ الْحَافِظُ لَهُ سَوَاءٌ كَانَ مَالِكًا أَوْ غَيْرَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: كَكُلِّ شَيْءٍ بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا يَتَأَتَّى مِنْهُ الْحِفْظُ وَلَوْ نَائِمًا لَهُ شُعُورٌ إلَّا الْمُصَاحِبَ لِلْغَنَمِ فِي الْمَرْعَى، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنَّ مَنْ سَرَقَ شَيْئًا بِحَضْرَةِ صَاحِبِهِ يُقْطَعُ أَنَّهُ لَوْ سَرَقَ الشَّيْءَ وَصَاحِبَهُ لَا يُقْطَعُ وَهُوَ كَذَلِكَ، كَمَا لَوْ سَرَقَ الدَّابَّةَ مَعَ رَاكِبِهَا أَوْ سَفِينَةً مَعَ صَاحِبِهَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ شُرَّاحُ خَلِيلٍ. (وَمَنْ سَرَقَ مِنْ الْهُرْيِ) بِضَمِّ الْهَاءِ وَسُكُونِ الرَّاءِ وَقِيلَ بِشَدِّ التَّحْتِيَّةِ مَعَ كَسْرِ الرَّاءِ وَالْمُرَادُ بِهِ بَيْتُ يَجْعَلُهُ نَحْوُ السُّلْطَانِ لِلْمَتَاعِ أَوْ الطَّعَامِ. (وَ) مَنْ سَرَقَ مِنْ (بَيْتِ الْمَالِ) وَهُوَ الْمَوْضِعُ الَّذِي يَجْعَلُهُ السُّلْطَانُ لِلْمَالِ. (وَ) مَنْ سَرَقَ مِنْ (الْمَغْنَمِ) بَعْدَ حَوْزِهِ (فَلْيُقْطَعْ) جَوَابُ مَنْ سَرَقَ لِأَنَّهَا شَرْطِيَّةٌ، وَإِنَّمَا قُطِعَ بِالسَّرِقَةِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِضَعْفِ شُبْهَتِهِ فِيهِ وَيَدْخُلُ فِي بَيْتِ الْمَالِ الشُّوَنُ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِالْهُرْيِ فِي كَلَامِهِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْإِمَامُ مُنْتَظِمًا أَمْ لَا، وَسَوَاءٌ سَرَقَ مِنْ الْمَغْنَمِ مِمَّا يَخُصُّهُ أَوْ قَدْرَهُ عَلَى الرَّاجِحِ. (وَقِيلَ إنْ سَرَقَ فَوْقَ حَقِّهِ مِنْ الْمَغْنَمِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ قُطِعَ) وَإِلَّا فَلَا يُقْطَعُ وَهَذَا قَوْلُ عَبْدِ الْمَلِكِ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرَّاجِحَ الْأَوَّلُ: وَلِذَا أَطْلَقَ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَحُدَّ زَانٍ وَسَارِقٍ إنْ حِيزَ الْمَغْنَمُ، وَإِنَّمَا قُطِعَ الْعُضْوُ الَّذِي دِيَتُهُ خَمْسُمِائَةِ دِينَارٍ بِسَرِقَةِ ثَلَاثَةَ دَرَاهِمَ أَوْ مَا يُسَاوِيهَا مُرَاعَاةً لِلْمُصْلِحَةِ ، لِأَنَّا لَوْ لَمْ نُشَدِّدْ فِي ذَلِكَ لَسَارَعَتْ الْأَشْرَارُ بِسَرِقَةِ الْأَمْوَالِ، وَلَوْ تَسَاهَلْنَا فِي دِيَتِهَا لَتَجَرَّأَتْ النَّاسُ عَلَى الْجِنَايَةِ وَأَيْضًا عَنْ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهُ حَتَّى أَوْجَبَ عَلَى قَاطِعِهِ خَمْسَمِائَةِ دِينَارٍ وَذُلَّ الْخِيَانَةِ أَوْ خَصَّهُ حَتَّى اسْتَحَقَّ الْقَطْعَ فِي سَرِقَةِ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّارِقَ إذَا رَجَعَ عَنْ إقْرَارِهِ لَا يُقْطَعُ وَيُتَّبَعُ بِالْمَالِ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ أَشَارَ إلَى حُكْمِ مَا إذَا قُطِعَ بِقَوْلِهِ: (وَيُتَّبَعُ السَّارِقُ إذَا قُطِعَ بِقِيمَةِ مَا فَاتَ مِنْ السَّرِقَةِ فِي مَلَائِهِ) الْمُسْتَمِرِّ مِنْ يَوْمِ السَّرِقَةِ إلَى يَوْمِ الْقَطْعِ، وَأَمَّا لَوْ أَعْسَرَ فِيمَا بَيْنَ سَرِقَتِهِ وَالْقِيَامِ عَلَيْهِ لَسَقَطَ عَنْهُ لِئَلَّا يَجْتَمِعَ عَلَيْهِ عُقُوبَتَانِ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُتَّبَعُ) بَعْدَ قَطْعِهِ (فِي) حَالِ (عُدْمِهِ) وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ إذَا قُطِعَ بِقَوْلِهِ: (وَيُتَّبَعُ فِي عُدْمِهِ بِمَا لَا يُقْطَعُ فِيهِ مِنْ السَّرِقَةِ) إمَّا لِعَدَمِ كَمَالِ النِّصَابِ أَوْ لِرُجُوعِهِ عَنْ إقْرَارِهِ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ رَدُّ الْمَالِ إنْ لَمْ يُقْطَعْ مُطْلَقًا أَوْ قُطِعَ إنْ أَيْسَرَ إلَيْهِ مِنْ الْأَخْذِ، وَلَا يُقَالُ إنَّ فِي هَذَا تَكْرَارًا مَعَ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَإِنْ رَجَعَ أُقِيلَ وَغُرِّمَ السَّرِقَةَ لِأَنَّ هَذَا أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَ وَمِثْلُ هَذَا لَا يُعَدُّ تَكْرَارًا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] خَاتِمَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ مُتَعَلِّقَةٍ بِالْأَبْوَابِ الْمُتَقَدِّمَةِ) مِنْهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَدٌّ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِتَوْبَتِهِ وَلَا ظُهُورِ عَدَالَتِهِ سِوَى حَدِّ الْحِرَابَةِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَطْعُ عُضْوٍ بِسَرِقَتِهِ ثُمَّ قُطِعَ ذَلِكَ الْعُضْوُ إلَّا بِأَمْرٍ سَمَاوِيٍّ أَوْ جَنَى عَلَيْهِ شَخْصٌ فَقَطَعَهُ بَعْدَ اسْتِحْقَاقِهِ الْقَطْعَ بِالسَّرِقَةِ أَوْ قُطِعَ قِصَاصًا بِجِنَايَةٍ مُتَأَخِّرَةٍ عَنْ سَرِقَتِهِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ السَّارِقِ حَدُّ السَّرِقَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ الْحَدُّ إنْ سَقَطَ الْعُضْوُ بِسَمَاوِيٍّ أَوْ بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا، وَأَمَّا لَوْ قُطِعَ قِصَاصًا بَعْدَ السَّرِقَةِ لَكِنْ بِجِنَايَةٍ سَابِقَةٍ عَلَى السَّرِقَةِ لَوَجَبَ الِانْتِقَالُ إلَى عُضْوٍ آخَرَ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْحُدُودَ الْمُتَّحِدَةَ الْقَدْرِ يَكْفِي فِيهَا حَدٌّ وَاحِدٌ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْمُخْتَلِفَةُ الْقَدْرِ فَيَجِبُ إقَامَةُ الْجَمِيعِ وَيَبْدَأُ بِأَشَدِّهَا عِنْدَ عَدَمِ الْخَوْفِ مِنْهُ. وَمِنْهَا: أَنَّ مَنْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ حُدُودٌ وَوَجَبَ قَتْلُهُ فَإِنَّ قَتْلَهُ يَكْفِي عَنْ الْجَمِيعِ إلَّا حَدَّ الْقَذْفِ فَيَجِبُ حَدُّهُ قَبْلَ قَتْلِهِ كَمَا تَقَدَّمَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمُعَامَلَاتِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْحُدُودِ وَكَانَ شَأْنُهَا كَثْرَةَ النِّزَاعِ فِيهَا الْمُحْوِجَةَ إلَى الْحُكْمِ وَالشَّهَادَةِ، ذَكَرَ بَابَ الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ عَقِبَهَا فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 (بَابٌ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ)   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي الْأَقْضِيَةِ وَالشَّهَادَاتِ] (بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (الْأَقْضِيَةِ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ جَمْعُ قَضَاءٍ بِالْمَدِّ كَقَبَاءٍ وَأَقْبِيَةٍ، وَأَصْلُ قَضَاءٍ قَضَائِي لِأَنَّهُ مِنْ قَضَيْت وَالْهَمْزَةُ تُبْدَلُ مِنْ الْيَاءِ وَالْوَاوِ الْوَاقِعَيْنِ بَعْدَ الْأَلِفِ كَسَمَاءٍ وَبِنَاءٍ، وَجُمِعَ عَلَى أَقْضِيَةٍ لِقَوْلِ الْخُلَاصَةِ: وَالْزَمْهُ فِي فَعَالٍ أَوْ فِعَالٍ ... مُصَاحِبَيْ تَضْعِيفٍ أَوْ إعْلَالِ وَالضَّمِيرُ فِي الْزَمْهُ عَائِدٌ عَلَى جَمْعِ أَفْعِلَةٍ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْعَيْنِ، وَقَضَاءٌ عَلَى وَزْنِ فَعَالٍ فَيُجْمَعُ عَلَى أَفْعِلَةٍ فَيُقَالُ أَقْضِيَةٌ وَمِثْلُ قَضَاءٍ قَضِيَّةٌ إلَّا أَنَّهَا تُجْمَعُ عَلَى قَضَايَا كَهَدِيَّةٍ وَهَدَايَا، وَمَعْنَى الْقَضَاءِ وَالْقَضِيَّةِ فِي اللُّغَةِ الْحُكْمُ. قَالَ تَعَالَى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] أَيْ حَكَمَ وَقَدْ يَكُونُ الْقَضَاءُ بِمَعْنَى الْفَرَاغِ نَحْوُ قَضَيْت حَاجَتِي بِمَعْنَى فَرَغْت مِنْهَا، وَبِمَعْنَى الْفَصْلِ نَحْوُ قَضَى الْقَاضِي بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ بِمَعْنَى فَصَلَ بَيْنَهُمَا، وَأَمَّا مَعْنَاهُ شَرْعًا فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا نُفُوذَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ وَلَوْ بِتَعْدِيلٍ أَوْ تَجْرِيحٍ لَا فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَيَخْرُجُ التَّحْكِيمُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ عَامٍّ، وَيَخْرُجُ أَيْضًا وِلَايَةُ الشُّرْطَةِ وَأَخَوَاتُهَا، وَقَوْلُهُ: وَلَوْ بِتَعْدِيلٍ إلَخْ مَعْنَاهُ أَنَّ الْقَضَاءَ نَافِذٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ، وَأَخْرَجَ بِقَوْلِهِ: لَا فِي عُمُومِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الْإِمَامَةَ الْعُظْمَى؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَيْسَ لَهُ قِسْمَةُ الْغَنَائِمِ، وَلَا تَفْرِيقُ أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا تَرْتِيبُ الْجُيُوشِ، وَلَا قَتْلُ الْبُغَاةِ، وَلَا الْإِقْطَاعَاتُ وَهِيَ إعْطَاءُ الْأَطْيَانِ، وَإِنَّمَا هَذِهِ لِلْإِمَامِ الْأَعْظَمِ الَّذِي هُوَ السُّلْطَانُ أَوْ نَائِبُهُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي ذَلِكَ. (وَ) فِي أَحْكَامِ (الشَّهَادَاتِ) جَمْعُ شَهَادَةٍ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ الْبَيَانُ وَلِذَلِكَ سُمِّيَ الرَّسُولُ شَاهِدًا وَالْعَالِمُ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمَا يُبَيِّنَانِ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هِيَ قَوْلٌ بِحَيْثُ يُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ سَمَاعَهُ الْحُكْمَ بِمُقْتَضَاهُ إنْ عَدَلَ قَائِلُهُ مَعَ تَعَدُّدِهِ أَوْ حَلَفَ طَالِبُهُ، فَقَوْلُهُ: يُوجِبُ عَلَى الْحَاكِمِ إلَخْ يُخْرِجُ الرِّوَايَةَ وَالْخَبَرَ الْقَسِيمَ لِلشَّهَادَةِ وَإِخْبَارُ الْقَاضِي بِمَا ثَبَتَ عِنْدَ قَاضٍ آخَرَ بِحَيْثُ يَجِبُ الْحُكْمُ بِمُقْتَضَى مَا كَتَبَ بِهِ إلَيْهِ لِعَدَمِ شَرْطِ التَّعَدُّدِ أَوْ الْحَلِفِ، وَتَدْخُلُ الشَّهَادَةُ قَبْلَ الْأَدَاءِ، وَبِهَذَا تَمَيَّزَتْ الرِّوَايَةُ مِنْ الشَّهَادَةِ لِمَا عُرِفَ مِنْ أَنَّ رِوَايَةَ الْمُجْبَرِ عَنْهُ لَا تَخْتَصُّ بِمُعَيَّنٍ بِخِلَافِ الشَّهَادَةِ، وَأَيْضًا الرِّوَايَةُ خَبَرٌ لَفْظًا وَمَعْنًى، وَالشَّهَادَةُ إمَّا إخْبَارٌ لَفْظًا وَإِنْشَاءٌ مَعْنًى لَا مَحْضٌ أَحَدُهُمَا وَبِهِ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ، وَإِمَّا مَحْضٌ إنْشَاءً وَبِهِ قَالَ الْقَرَافِيُّ فَإِنَّهُ قَالَ: وَقَوْلُ الشَّاهِدِ أَشْهَدُ بِكَذَا إنْشَاءٌ إذًا لَا تَصِحُّ الشَّهَادَةُ بِالْخَبَرِ أَلْبَتَّةَ، وَأَيْضًا الشَّهَادَةُ يُطْلَبُ فِيهَا التَّعَدُّدُ أَوْ حَلِفُ الطَّالِبِ بِخِلَافِ الرِّوَايَةِ، وَقَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: الشَّهَادَةُ قَوْلٌ بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ شُرُوطَ الْقَضَاءِ الَّتِي تُعْتَبَرُ فِي الْقَاضِي وَنَحْنُ نُبَيِّنُهَا بِفَضْلِ اللَّهِ فَنَقُولُ: هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ وَاجِبٌ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَقِسْمٌ وَاجِبٌ لَا عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ، وَقِسْمٌ مُسْتَحَبٌّ، فَالْوَاجِبُ عَلَى جِهَةِ الشَّرْطِيَّةِ كَوْنُهُ عَدْلًا ذَكَرًا فَطِنًا مُجْتَهِدًا إنْ وُجِدَ وَإِلَّا فَأَمْثَلُ مُقَلِّدٍ، وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْعَمَلُ بِمَشْهُورِ مَذْهَبِ إمَامِهِ، وَالْوَاجِبُ الْغَيْرُ الشَّرْطِيِّ كَوْنُهُ بَصِيرًا سَمِيعًا مُتَكَلِّمًا فَلَا تَجُوزُ تَوْلِيَةُ أَضْدَادِهَا فَإِنْ وَلَّى وَحَكَمَ مَضَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَنَفَذَ حُكْمُ أَعْمَى وَأَبْكَمَ وَأَصَمَّ وَوَجَبَ عَزْلُهُ، وَاَلَّذِي لَا يَكْتُبُ كَالْأَعْمَى لَا تَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ وَلَوْ كَانَ عَالِمًا وَتَجُوزُ تَوْلِيَتُهُ لِلْفَتْوَى، وَالْمُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ غَنِيًّا بَلَدِيًّا وَرِعًا حَلِيمًا مُسْتَشِيرًا لِلْعُلَمَاءِ غَيْرَ مَدِينٍ، وَكَوْنُهُ مَعْرُوفَ النَّسَبِ وَغَيْرَ زَائِدٍ فِي الدَّهَاءِ وَغَيْرَ مَحْدُودٍ وَخَالِيًا عَنْ بِطَانَةِ السُّوءِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ أَيْضًا حُكْمَ الْقِيَامِ بِالْقَضَاءِ وَنَحْنُ نُبَيِّنُهُ بِفَضْلِ اللَّهِ تَعَالَى فَنَقُولُ: الْقِيَامُ بِهِ تَعْتَرِيهِ أَحْكَامٌ سِتَّةٌ: الْوُجُوبُ الْكِفَائِيُّ عِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَلَا يَمِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ أَوْ الظِّنَّةُ كَذَلِكَ قَضَى حُكَّامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ   [الفواكه الدواني] وُجُودِ مَنْ يَقُومُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ، وَالْجَوْرُ فِيهِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مِحْنَةٌ مَنْ دَخَلَ فِيهِ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ لِتَعْرِيضِهِ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، إذْ التَّخَلُّصُ فِيهِ عُسْرٌ لِخَبَرِ النَّسَائِيّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ وَحَكَمَ لِلنَّاسِ بِالْجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَالْوُجُوبُ الْعَيْنِيُّ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِشُرُوطِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَزِمَ الْمُتَعَيِّنَ أَوْ الْخَائِفَ فِتْنَةً - إنْ لَمْ يَتَوَلَّ - أَوْ ضَيَاعَ الْحَقِّ الْقَبُولُ وَالطَّلَبُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالضَّرْبِ. وَالْمُحَرَّمُ كَوْنُهُ جَاهِلًا أَوْ قَاصِدًا بِهِ تَحْصِيلَ الدُّنْيَا مِنْ الْأَخْصَامِ أَوْ جَائِرًا، وَالْمُسْتَحَبُّ كَتَوْلِيَتِهِ لِإِشْهَارِ عِلْمِهِ، وَالْمُبَاحُ كَقَصْدِ الِارْتِزَاقِ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِفَقْرِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ أَوْ كَرَاهَتَهُ. وَالْمَكْرُوهُ كَتَوْلِيَتِهِ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ الْجَاهِ وَتَصْيِيرِهِ عَظِيمًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَوْ قِيلَ بِحُرْمَةِ هَذَا لِمَا بَعْدَ هَذَا. قَالَ بَعْضٌ: وَأَقُولُ الْقِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمِ أَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَتِهِ مُعَظَّمًا بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَا جَاهٍ وَأَنَفَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَمُحَالٌ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقِيلِ يَقْصِدُ هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُرِيدُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُعَظَّمًا أَنْ يَصِيرَ مُحْتَرَمًا بِحَيْثُ لَا يُعَارَضُ فِي أَمْرٍ يَفْعَلُهُ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يُنَصِّبُ الْقَاضِيَ وَاَلَّذِي يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الَّذِي يُقِيمُونَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ السُّلْطَانِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي بِالْمُشَافَهَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِإِرْسَالٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فَوْرِيَّةُ الْقَبُولِ، وَيَكْفِي فِي الْوِلَايَةِ مَعْرِفَةُ خَطِّ الْمُوَلَّى دُونَ إشْهَادٍ وَيَكْفِي فِيهَا الشُّيُوعُ، فَلَوْ حَكَمَ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ مَضَى، وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الِاسْتِنَابَةِ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا إذَا كَانَ جَالِسًا وَقْتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَصَدَّرَ الْبَابَ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَنْ عُرِّيَتْ دَعْوَاهُ عَنْ مُرَجِّحٍ غَيْرِ شَهَادَةٍ. (وَالْيَمِينُ عَلَى) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مَنْ أَنْكَرَ) وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ اقْتَرَنَتْ دَعْوَاهُ بِهِ أَيْ بِالْمُرَجِّحِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدَّقٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ، أَوْ تَقُولُ: الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَقُولُ كَانَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَمْ يَكُنْ، أَوْ تَقُولُ: الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ عَلَى سُكُوتِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى سُكُوتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ عَرَفَ وَجْهَ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي رِفْقًا بِالْأُمَّةِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُطْلَبُ مِنْ الْمُدَّعِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى كُلِّ مُنْكِرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ نَاجِي: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَيْ قَوْلُهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي إلَخْ مَخْصُوصٌ بِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: التَّدْمِيَةُ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَفْتَقِرُ فِيهَا إلَى بَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بَلْ يَكْفِي اللَّوَثُ وَكُلُّ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا سَبَقَ. وَثَانِيهِمَا: الْمَغْصُوبَةُ تَحْمِلُ بِبَيِّنَةٍ وَتَدَّعِي أَنَّ الْغَاصِبَ لَهَا وَطِئَهَا فَلَا تُكَلَّفُ بَيِّنَةً وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا الْوَطْءَ اتِّفَاقًا، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُقَيَّدٍ بِالدَّعْوَى فِي الَّذِي يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لَا فِيمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَكُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، فَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقَ أَوْ عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الدَّعْوَى. وَمَفْهُومُ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ فِيهِ تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَحَلَفَ بِشَاهِدٍ فِي طَلَاقٍ وَعِتْقٍ لَا نِكَاحٍ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهَا، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجُ فِي الطَّلَاقِ وَالسَّيِّدُ فِي الْعِتْقِ رُدَّتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ وَإِنْ طَالَ دَيْنٌ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ شِدَّةُ ظُهُورِ النِّكَاحِ دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ تَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) أَيْ وَلَكِنْ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (يَمِينَ) بِمُجَرَّدِ إنْكَارِهِ بَلْ (حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: حَالَةٌ تُرْفَعُ بَعْدَ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى لَا لِسُوءِ عَرْضِهِمَا فَيَخْرُجُ السَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ، فَإِنَّ الدَّعْوَى تَتَوَجَّهُ فِيهِمَا عَلَى الْمُتَّهَمِ لِسُوءِ عَرْضِهِمَا؛ لِأَنَّ اتِّهَامَهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْخُلْطَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: إنْ خَالَطَهُ بِدَيْنٍ أَوْ تَكَرُّرِ بَيْعٍ وَإِنْ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ لَا بَيِّنَةٍ جُرِحَتْ، وَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ مَسَائِلُ ثَمَانِيَةٌ تَتَوَجَّهُ فِيهَا الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى خُلْطَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إلَّا الصَّانِعَ وَالْمُتَّهَمَ وَالضَّيْفَ وَإِلَّا فِي دَعْوَى فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ الْوَدِيعَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ. وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُقْضَ لِلطَّالِبِ حَتَّى يَحْلِفَ فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَيَحْلِفُ قَائِمًا وَعِنْدَ مِنْبَرِ   [الفواكه الدواني] عَلَى أَهْلِهَا وَالْمُسَافِرِ عَلَى رُفْقَتِهِ وَدَعْوَى مَرِيضٍ أَوْ بَائِعٍ عَلَى حَاضِرِ الْمُزَايَدَةِ. (أَوْ الظِّنَّةُ) بِكَسْرِ الظَّاءِ أَيْ التُّهْمَةُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الثَّمَانِ مَسَائِلَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُنْكِرِ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي حَالَةٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ الثَّمَانِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ خَلِيلٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخُلْطَةِ أَوْ الظِّنَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَاَلَّذِي لِابْنِ نَافِعٍ أَنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ وَنَفَاهَا فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ بِمِصْرَ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الشَّامِ إلَى الْآنَ فَإِنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَلَا يَسْأَلُونَ عَنْ خُلْطَةٍ وَلَا تُهْمَةٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوَقُّفِ الْيَمِينِ عَلَى الْخُلْطَةِ أَوْ الظِّنَّةِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ قَضَى حُكَّامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ كَعَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَيُخَصَّصُ بِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» . وَأَيْضًا ذَكَرَ الشَّاذِلِيُّ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ» . فَلَعَلَّ اسْتِشْهَادَهُ بِقَضَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْخُلْطَةَ وَالظِّنَّةَ فَلَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْخُلْطَةِ فِي الْحَدَثِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) لِأَنَّهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَفِعْلُهُ وَقَوْلُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةٌ وَمَقُولَةٌ. (تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ) جَمْعُ قَضَاءٍ أَيْ أَحْكَامٌ يَسْتَنْبِطُهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ. (بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ) أَيْ الْكَذِبِ وَالْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ أَحْكَامًا لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ بِقَدْرِ مَا يُحْدِثُهُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ الشَّرْعِ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَحَكَمُوا فِيهَا بِذَلِكَ نَحْوُ الْقِيَامِ الْمَطْلُوبِ فِي زَمَانِنَا لِتَرَتُّبِ الضَّرَرِ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ سَبَبُهُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَنَحْوُ الْحَلِفِ عَلَى الْمُصْحَفِ أَوْ عَلَى مَقَامِ شَيْخٍ أَوْ التَّحْلِيفِ بِالطَّلَاقِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَإِنَّ سَبَبَ الْقِيَامِ وَسَبَبَ التَّحْلِيفِ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُعْهَدْ فِي زَمَنِ الْمُصْطَفَى وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي زَمَنِهِمْ لَحَكَمُوا فِيهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا. وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمُتَجَدِّدَةُ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ الشَّرْعِ بَلْ هِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ الصَّحَابَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ أَسْبَابِهَا، وَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ لِتَأْخِيرِ سَبَبِهِ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي زَمَانِ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَوُجِدَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَجْدِيدًا لِشَرِيعَةٍ، وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا كُلِّهِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَيْهِ إبَاحَةُ مُحَرَّمٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَرْضَى مِنَّا إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي، أَوْ لَا يَرْضَى مِنَّا إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنَّ نُوَافِقَهُ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَلَا الْحُكْمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ وَقَعَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ الْحُكْمُ بِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فِي فُرُوقِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَوْ صَرِيحُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ عُمَرُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ حَدِيثٌ ثُمَّ قَالَ كَالْمُسْتَأْنِفِ لِجَوَابِ سُؤَالٍ نَشَأَ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَلْ يَغْرَمُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ أَوْ بَعْدَ حَلِفِ الْمُدَّعِي؟ (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يَعْنِي امْتَنَعَ مِنْ الْحَلِفِ (لَمْ يُقْضَ) أَيْ لَمْ يُحْكَمْ (لِلطَّالِبِ) الَّذِي هُوَ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَاهُ بَلْ (حَتَّى يَحْلِفَ) أَيْ الطَّالِبُ (فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً) أَيْ عِلْمًا بِأَنْ يَقُولَ: أَتَحَقَّقُ أَنَّ لِي عِنْدَك دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا وَهِيَ دَعْوَى التَّحْقِيقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وَحَقُّهُ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حُقِّقَ، وَمَفْهُومُ إنْ حُقِّقَ الَّذِي هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَقِّقْ بِأَنْ كَانَ مُوجِبُ الْيَمِينَ التُّهْمَةَ كَأَنْ يَتَّهِمَ شَخْصًا بِسَرِقَةِ مَالٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ الطَّالِبُ بَلْ يَغْرَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ بِوَجْهٍ يَمِينُ التُّهْمَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَيَغْرَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ إلَّا فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وَحَقُّهُ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حُقِّقَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الدَّعْوَى إذَا كَانَتْ دَعْوَى تَحْقِيقٍ لَا يَسْتَحِقُّ الطَّالِبُ إلَّا بَعْدَ حَلِفِهِ وَهِيَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ دَعْوَى اتِّهَامٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ وَفِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ يَحْلِفُ فِي ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ وَمَوْضِعٍ يُعَظَّمُ مِنْهُ وَيَحْلِفُ الْكَافِرُ بِاَللَّهِ   [الفواكه الدواني] وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَسَامَةِ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ بِخَيْبَرَ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ نَحْضُرْ فَكَيْفَ نَحْلِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، قَالُوا: لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ» . فَهَذَا رَدُّ الْيَمِينِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً إلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلِفُ إلَّا عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، أَوْ تَقُومُ لَهُ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ يَمِينُ التُّهْمَةِ تَتَوَجَّهُ وَلَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَّهَمَ غَيْرُ عَالِمٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَنْ شَرْطِ الدَّعْوَى وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: أَنْ تَكُونَ بِمَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَأَنْ يَدَّعِي عَلَى رَشِيدٍ بِدَيْنٍ أَوْ قِرَاضٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ إتْلَافِ شَيْءٍ مُتَمَوِّلٍ، أَوْ عَلَى مَحْجُورٍ بِاسْتِهْلَاكِ شَيْءٍ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَأْمِينِهِ عَلَيْهِ، لَا إنْ كَانَتْ بِمَا لَا يَلْزَمُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ وَهَبَ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ بِالْقَوْلِ أَوْ أَنَّهُ نَذَرَ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ لَا يُقْضَى بِهِ وَلَوْ لِمُعَيَّنٍ، وَكَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى مَحْجُورٍ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، قَالَ: وَكَذَا شَيْءٌ وَإِلَّا لَمْ تُسْمَعْ وَكَفَاهُ بِعْت وَتَزَوَّجْت، وَحُمِلَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحْجُورِ فَيُكَلِّفُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ عَلَى الْمَحْجُورِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِعْذَارِ لِلْمَحْجُورِ يَمِينًا زِيَادَةً عَلَى الْبَيِّنَةِ. قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُتَيْطِيَّةِ: وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِ الطَّالِبِ مَعَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ وَالْمَسَاكِينِ، أَيْ وَالْحَقُّ لَا يَثْبُتُ عَلَى هَؤُلَاءِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَيَمِينِ الْقَضَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّعْوَى تَصِحُّ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا وَتَتَوَجَّهُ وَلَوْ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ سَفِيهٍ كَمَا يَصِحُّ تَوَجُّهُهَا مِنْهُمَا، فَقَدْ قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ: لِلْمَحْجُورِ طَلَبُ حُقُوقِهِ كُلِّهَا عِنْدَ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ وَصِيِّهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بُلُوغٌ وَلَا رُشْدٌ. الثَّانِي: صِفَةُ الدَّعْوَى أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ بِالْكَلَامِ ابْتِدَاءً فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقِ الْأَصْلِ وَلَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ شَيْءٍ عَلَى مَا قَالَ الْمَازِرِيُّ وَيُبَيِّنُ سَبَبَهُ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ بَيَانِهِ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَى وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَقُولُ فِي دَعْوَى الِاتِّهَامِ: أَتَّهِمُ هَذَا أَنَّهُ سَرَقَ مَتَاعِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَيِّنُهُ، وَبَعْدَ فَرَاغِ الدَّعْوَى يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ فَيَأْمُرُ الْقَاضِي الشُّهُودَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَكِتَابَةِ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ خَوْفَ جَحْدِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَمَرَ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَهَا سَمِعَهَا، وَأَعْذَرَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهَا بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: هَلْ عِنْدَك مَنْ يُجَرِّحُ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ؟ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِجُرْحَتِهَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ طَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ بَعْدَ إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَوْ الظِّنَّةَ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ لَا بِإِقْرَارٍ وَلَا بِإِنْكَارٍ بَلْ سَكَتَ، أَوْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى عَدَمِ جَوَابِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ يُجِبْ حُبِسَ وَأُدِّبَ أَيْ بِالضَّرْبِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، ثُمَّ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا يَمِينٍ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فَرْعُ الْجَوَابِ وَهَذَا لَمْ يُجِبْ. قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَيَعُدُّ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا بِذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا الْمُبْتَدِي فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ صِفَةَ الدَّعْوَى. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْيَمِينِ الَّتِي تُطْلَبُ فِي الْحُقُوقِ بِقَوْلِهِ: (وَالْيَمِينُ) الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا يُوَجِّهُهَا إلَّا حَاكِمٌ أَوْ مُحَكَّمٌ فِي كُلِّ حَقٍّ سِوَى اللِّعَانِ، وَقِيلَ: وَسِوَى الْقَسَامَةِ (بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ) وَلَوْ كِتَابِيًّا عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا، وَقَوْلُنَا: تُطْلَبُ فِي الْحُقُوقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي تُكَفِّرُ فَإِنَّهَا أَعَمُّ، إذْ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَقَوْلُنَا: الَّتِي لَا يُوَجِّهُهَا إلَّا حَاكِمٌ أَوْ مُحَكَّمٌ إشَارَةً إلَى أَنَّ الطَّالِبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ خَصْمَهُ عَلَى الْحَلِفِ. وَأَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فَقِيلَ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْيَمِينُ فِي كُلِّ حَقٍّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَالٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ فَأَكْثَرُ، وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ مَا يَكُونُ بِهِ التَّغْلِيظُ بِقَوْلِهِ: (وَيَحْلِفُ) الْمَطْلُوبُ عِنْدَ إرَادَةِ الطَّالِبِ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ حَالَةَ كَوْنِهِ (قَائِمًا وَعِنْدَ مِنْبَرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذَا كَانَ التَّحْلِيفُ بِمَدِينَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِلَةٌ يَحْلِفُ (فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ) وَمِثْلُ الرُّبُعِ دِينَارُ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ عَرْضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا تَغْلِيظَ فِيهِ وَإِنْ تَوَجَّهَتْ فِيهِ الْيَمِينُ. وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا لَا تُغَلَّظُ بِمِنْبَرٍ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إلَّا مِنْبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. وَوَجْهُ الْفَرْقِ خَبَرُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا يَمِينًا آثِمَةً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» . وَرُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مِنْبَرِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ الْمِنْبَرُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ عِنْدَ الْمُجَدَّدِ، وَهَلْ يَكُونُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 حَيْثُ يُعَظِّمُ وَإِذَا وَجَدَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا قُضِيَ لَهُ بِهَا وَإِنْ كَانَ عَلِمَ بِهَا فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ وَقَدْ قِيلَ تُقْبَلُ مِنْهُ وَيُقْضَى بِشَاهِدٍ وَيَمِينٍ فِي الْأَمْوَالِ وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ فِي نِكَاحٍ أَوْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ وَلَا فِي دَمِ عَمْدٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] بِمَوْضِعِ الْأَصْلِ أَوْ كَيْفَ الْحَالُ؟ تَوَقَّفَ فِيهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ. (وَ) إذَا كَانَ الْحَلِفُ (فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ) فَإِنَّهُ (يَحْلِفُ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الرُّبُعِ دِينَارٍ أَوْ مَا يُسَاوِيهِ (فِي الْجَامِعِ) وَهُوَ مُصَلَّى الْجُمُعَةِ لَا مُطْلَقَ مَسْجِدٍ. (وَ) يَكُونُ مَحَلُّ الْحَالِفِ مِنْ الْجَامِعِ فِي (مَوْضِعٍ يُعَظَّمُ مِنْهُ) وَهُوَ مِحْرَابُهُ وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَطْلُوبُ تَحْلِيفَهُ مُسْلِمًا أَمَّا الْكَافِرُ فَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيَحْلِفُ الْكَافِرُ) غَيْرُ الْكِتَابِيِّ كَالْمَجُوسِيِّ (بِاَللَّهِ) فَقَطْ، وَأَمَّا الْكِتَابِيُّ فَتَقَدَّمَ أَنَّ الْمَشْهُورَ أَنَّهُ يَحْلِفُ كَالْمُسْلِمِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَمَا حَمَلْنَا عَلَيْهِ كَلَامَ الْمُصَنِّفِ مِنْ اقْتِصَارِ غَيْرِ الْكِتَابِيِّ عَلَى بِاَللَّهِ فَقَطْ هُوَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ تَرْجِيحُهُ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ قَوْلِ مَالِكٍ أَنْ يَحْلِفَ كَالْمُسْلِمِ، وَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ مِنْ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فَيَحْلِفُونَ كَالْمُسْلِمِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ هُوَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ، وَقِيلَ: النَّصْرَانِيُّ يَقْتَصِرُ عَلَى بِاَللَّهِ فَقَطْ، وَالْيَهُودِيُّ يَزِيدُ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ؛ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِالتَّوْحِيدِ، وَبَقِيَ قَوْلٌ ثَالِثٌ وَهُوَ أَنَّ النَّصْرَانِيَّ وَالْيَهُودِيَّ كُلٌّ مِنْهُمَا يَقْتَصِرُ عَلَى بِاَللَّهِ فَقَطْ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ فِي الْمَجُوسِيِّ قَوْلَيْنِ وَالْكِتَابِيِّ ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ، وَالرَّاجِحُ فِي الْكِتَابِيِّ مُطْلَقًا أَنَّهُ كَالْمُسْلِمِ، وَالْمَجُوسِيُّ يَقْتَصِرُ عَلَى بِاَللَّهِ فَقَطْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمَحَلُّ التَّغْلِيظِ عَلَى الْكَافِرِ. (حَيْثُ يُعَظِّمُ) بِالْكَسْرِ أَيْ يَحْلِفُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَعْتَقِدُ تَعْظِيمَهُ وَهُوَ الْكَنِيسَةُ إنْ كَانَ نَصْرَانِيًّا، وَالْبِيعَةُ إنْ كَانَ يَهُودِيًّا، وَبَيْتُ النَّارِ إنْ كَانَ مَجُوسِيًّا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ التَّغْلِيظَ يَكُونُ بِالْقِيَامِ لَا بِالِاسْتِقْبَالِ وَلَا بِالزَّمَانِ، كَكَوْنِ الْيَمِينِ بَعْدَ الْعَصْرِ، وَالتَّغْلِيظُ وَاجِبٌ عِنْدَ طَلَبِ الْخَصْمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ مَنْ امْتَنَعَ مِنْهُ يَعُدُّنَا كُلًّا، وَيَكُونُ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى، وَلَا يَحْلِفُ إلَّا الْبَالِغُ الْعَاقِلُ؛ لِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَحْلِفُونَ وَلَا يَحْنَثُونَ. [وَجَدَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِالْحَقِّ بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ مَا لَوْ حَلَّفَ الطَّالِبُ الْمَطْلُوبَ ثُمَّ وَجَدَ بَيِّنَةً بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا وَجَدَ الطَّالِبُ بَيِّنَةً) تَشْهَدُ لَهُ بِالْحَقِّ (بَعْدَ يَمِينِ الْمَطْلُوبِ وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (لَمْ يَكُنْ عَلِمَ بِهَا) حِينَ حَلَفَ الْمَطْلُوبُ (قُضِيَ لَهُ بِهَا) بَعْدَ حَلِفِهِ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَالِمًا حِينَ تَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَفَاهَا وَاسْتَحْلَفَهُ فَلَا بَيِّنَةَ إلَّا لِعُذْرٍ وَكَنِسْيَانٍ، وَحُكْمُ الْبَيِّنَةِ الْغَائِبَةِ غَيْبَةً بَعِيدَةً حُكْمُ الْبَيِّنَةِ الَّتِي لَمْ يُعْلَمْ بِهَا. (وَ) أَمَّا (إنْ كَانَ عَلِمَ بِهَا) حِينَ تَحْلِيفِ الْمَطْلُوبِ (فَلَا تُقْبَلُ مِنْهُ) عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَمُقَابِلِهِ الضَّعِيفِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قِيلَ تُقْبَلُ مِنْهُ) . (خَاتِمَةٌ لِبَابِ الْقَضَاءِ) مُحَصِّلُهَا أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْمَعَ شَهَادَةَ الْبَيِّنَةِ قَبْلَ الْخُصُومَةِ وَعِنْدَ غَيْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى مَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ، وَلَكِنْ يَكْتُبُ عِنْدَهُ أَسْمَاءَ الشُّهُودِ، فَإِذَا حَضَرَ الْخَصْمُ قَرَأَ عَلَيْهِ الشَّهَادَةَ وَفِيهَا أَسْمَاءُ الشُّهُودِ وَأَنْسَابُهُمْ وَمَسَاكِنُهُمْ وَيَعْذِرُ إلَيْهِ فِي شَأْنِهِمْ، فَإِنْ ادَّعَى مَطْعَنًا فِيهِمْ أَمَرَهُ بِإِثْبَاتِهِ وَإِلَّا أَلْزَمَهُ الْقَضَاءَ وَلَا يَحْكُمُ عَلَيْهِ فِي غَيْبَتِهِ، وَإِذَا طَلَبَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إعَادَةَ الشَّهَادَةِ حَتَّى يَشْهَدُوا بِحَضْرَتِهِ فَإِنَّهُ لِإِيجَابٍ إلَى ذَلِكَ. [أَقْسَام الشَّهَادَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الْقَضَاءِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الشَّهَادَةِ وَقَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَاهَا لُغَةً وَشَرْعًا، وَالْكَلَامُ الْآنَ فِي أَقْسَامِهَا وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: إمَّا أَرْبَعَةٌ عُدُولٌ وَذَلِكَ فِي رُؤْيَةِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ فَإِنَّهُ لَا يَثْبُتُ فِعْلُهُمَا إلَّا بِشَهَادَةِ أَرْبَعٍ اجْتَمَعُوا عَلَى الرُّؤْيَةِ الْمُتَّحِدَةِ أَنَّهُ أَدْخَلَ فَرْجَهُ فِي فَرْجِهَا كَالْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ، وَيَجُوزُ لِلْعُدُولِ تَعَمُّدُ النَّظَرِ لِلْعَوْرَةِ بِقَصْدِ تَحَمُّلِ الشَّهَادَةِ، وَإِمَّا عَلَى الْإِقْرَارِ بِهِمَا فَيَكْفِي عَدْلَانِ عَلَى الرَّاجِحِ. وَإِمَّا عَدْلَانِ فَقَطْ وَذَلِكَ فِي نَحْوِ الطَّلَاقِ وَالنِّكَاحِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَئُولُ إلَى الْمَالِ. وَالثَّالِثُ: عَدْلٌ وَامْرَأَتَانِ أَوْ أَحَدُهُمَا مَعَ الْيَمِينِ وَذَلِكَ فِي الْأَمْوَالِ وَمَا يَئُولُ إلَيْهَا كَالْبَيْعِ وَالْإِجَارَةِ وَسَائِرِ الْمُعَامَلَاتِ. وَالرَّابِعُ: امْرَأَتَانِ فَقَطْ وَذَلِكَ فِيمَا لَا يَجُوزُ نَظَرُ الرِّجَالِ إلَيْهِ كَالْوِلَادَةِ وَعُيُوبِ الْفَرْجِ وَالِاسْتِهْلَالِ. وَزَادَ بَعْضُ الشُّيُوخِ خَامِسًا وَهُوَ الْخُلْطَةُ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ وَلَوْ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ وَأَشَارَ إلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْأَمْوَالِ بِقَوْلِهِ: (وَيُقْضَى بِشَاهِدٍ) أَوْ امْرَأَتَيْنِ. (وَيَمِينٍ فِي الْأَمْوَالِ) وَمَا يَئُولُ إلَيْهَا كَالْأَجَلِ وَالْخِيَارِ وَالشُّفْعَةِ وَالْإِجَارَةِ وَجِرَاحَاتِ الْخَطَإِ وَأَدَاءِ الْكِتَابَةِ وَالْإِيصَاءِ بِالتَّصَرُّفِ فِيهِ وَالْوَقْفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَشَارَ إلَى مَا لَا يُقْضَى فِيهِ إلَّا بِشَاهِدَيْنِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُقْضَى بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ (فِي نِكَاحٍ) أَوْ عِتْقٍ (أَوْ طَلَاقٍ أَوْ حَدٍّ) أَوْ نَحْوِهَا مِمَّا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا آيِلٍ إلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِمَا لَيْسَ بِمَالٍ وَلَا يَئُولُ إلَيْهِ كَعِتْقٍ وَرَجْعَةِ عَدْلَانِ وَالْمُرَادُ طَلَاقٌ غَيْرُ الْخُلْعِ، وَمِثْلُ النِّكَاحِ الْوَكَالَةُ فِي غَيْرِ الْمَالِ وَتَارِيخِ الْمَوْتِ أَوْ الطَّلَاقِ، فَمَنْ ادَّعَى نِكَاحَ امْرَأَةٍ حَالَ حَيَاتِهِ أَوْ ادَّعَى عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا أَنَّهُ طَلَّقَهَا أَوْ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ قَذَفَهُ. وَأَقَامَ وَاحِدٌ مِمَّنْ ذَكَرْنَا شَاهِدًا، أَوْ أَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ مَعَهُ فَلَا يُقْضَى لَهُ بِمَا ادَّعَاهُ مِنْ طَلَاقٍ أَوْ نِكَاحٍ أَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 نَفْسٍ إلَّا مَعَ الْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ وَقَدْ قِيلَ يُقْضَى بِذَلِكَ فِي الْجِرَاحِ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ وَمِائَةُ امْرَأَةٍ كَامْرَأَتَيْنِ وَذَلِكَ كَرَجُلٍ وَاحِدٍ يُقْضَى بِذَلِكَ مَعَ رَجُلٍ أَوْ مَعَ الْيَمِينِ فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ وَشَهَادَةُ امْرَأَتَيْنِ فَقَطْ فِيمَا لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَشِبْهِهِ جَائِزَةٌ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ وَلَا ظَنِينٍ وَلَا يُقْبَلُ إلَّا   [الفواكه الدواني] عِتْقٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الزَّوْجَ وَالسَّيِّدَ يَحْلِفُ كُلٌّ لِرَدِّ شَهَادَةِ الشَّاهِدِ، فَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ وَإِنْ طَالَ حَبْسُهُ أُطْلِقَ وَدِينَ. وَقَيَّدْنَا دَعْوَى نِكَاحِ الْمَرْأَةِ بِحَالِ حَيَاتِهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الدَّعْوَى عَلَيْهَا بَعْدَ مَوْتِهَا فَإِنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ؛ لِأَنَّ الدَّعْوَى بَعْدَ الْمَوْتِ تَرْجِعُ إلَى مَالٍ خِلَافًا لِأَشْهَبَ. قَالَ خَلِيلٌ فِي تَنَازُعِ الزَّوْجَيْنِ: فَلَوْ أَقَامَ الْمُدَّعِي شَاهِدًا حَلَفَ مَعَهُ وَوَرِثَ (وَلَا) يُقْضَى أَيْضًا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. (فِي دَمِ عَمْدٍ) فِيهِ قِصَاصٌ كَأَنْ يَدَّعِيَ شَخْصٌ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ جَرَحَهُ عَمْدًا وَأَقَامَ شَاهِدًا وَاحِدًا فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ مَعَهُ، وَإِنَّمَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الْجَانِي، فَإِنْ حَلَفَ بَرِيءَ، وَإِنْ نَكَلَ قِيلَ يُقْتَصُّ مِنْهُ بِالشَّاهِدِ وَالنُّكُولِ وَقِيلَ يُسْجَنُ فَإِنْ طَالَ سَجْنُهُ دِينَ وَأُخْرِجَ وَسَيَأْتِي مُقَابِلُهُ، وَإِنَّمَا حَمَلْنَا دَمَ الْعَمْدِ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْجَرْحِ الْعَمْدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ بَعْدَهُ وَلَا نَفْسٍ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ عَمْدٍ عَنْ الْخَطَابَةِ فَإِنَّهُ يُقْضَى فِيهِ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ لِأَنَّهُ يَئُولُ إلَى الْمَالِ، وَمِثْلُهُ الْجُرْحُ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ كَالْجَائِفَةِ وَالْآمَّةِ وَالدَّامِغَةِ وَنَحْوِهَا مِنْ الْمَتَالِفِ فَإِنَّهَا تَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ. (وَلَا) يُقْضَى أَيْضًا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ فِي قَتْلِ (نَفْسٍ إلَّا مَعَ الْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ) فَإِنَّهُ بِالشَّاهِدِ مَعَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ زَائِدَةٍ عَلَى أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، وَذَلِكَ فِي بَعْضِ أَمْثِلَةِ اللَّوَثِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكَالْعَدْلِ فَقَطْ فِي مُعَايَنَةِ الْقَتْلِ الْعَمْدِ أَوْ الْخَطَإِ تُقْسِمُ الْوُلَاةُ مَعَ شَهَادَتِهِ خَمْسِينَ يَمِينًا تَقُولُ فِي كُلِّ يَمِينٍ: لَقَدْ قَتَلَهُ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَى ذَلِكَ، بِخِلَافِ شَهَادَةِ الْعَدْلِ عَلَى الْجُرْحِ لَا بُدَّ أَنْ يَحْلِفَ الْوَلِيُّ لَقَدْ جَرَحَهُ وَلَمِنْ جُرْحِهِ مَاتَ فَيَزِيدُ لَقَدْ جَرَحَهُ مَعَ كُلِّ يَمِينٍ لِيَكْمُلَ النِّصَابُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الصِّفَةُ اجْتَمَعَ فِيهَا الْيَمِينُ الْمُكَمِّلَةُ لِلنِّصَابِ وَأَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، وَأَمَّا مَعَ شَهَادَةِ الْعَدْلَيْنِ عَلَى الْجُرْحِ فَإِنَّمَا يَحْلِفُونَ لَقَدْ مَاتَ مِنْ ذَلِكَ الْجُرْحِ، وَمِثْلُ الْعَدْلِ شَهَادَةُ الْمَرْأَتَيْنِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ تَكُونُ شَهَادَةُ الْعَدْلِ فِيهِ لَوَثًا. (تَنْبِيهٌ) قَدْ ظَهَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ شَهَادَةَ الْعَدْلِ عَلَى الْقَتْلِ يُكْتَفَى بِهَا مَعَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، وَلَا تَحْلِفُ الْوُلَاةُ مَعَ الشَّاهِدِ سِوَى أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ، فَقَوْلُهُ: إلَّا مَعَ الْقَسَامَةِ فِي النَّفْسِ مَعْنَاهُ فَيُقْضَى بِالْقَسَامَةِ مَعَ الشَّاهِدِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُ يُقْضَى بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مَعَ أَيْمَانِ الْقَسَامَةِ قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ فِيمَا تَقَدَّمَ: وَلَا فِي دَمِ عَمْدٍ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ ذَكَرَ مُقَابِلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قِيلَ يُقْضَى بِذَلِكَ) أَيْ بِالشَّاهِدِ الْوَاحِدِ، وَالْيَمِينِ فِي الْجِرَاحِ الْعَمْدِ الَّتِي فِيهَا الْقِصَاصُ،؛ لِأَنَّهَا عِنْدَ مَالِكٍ كَالْأَمْوَالِ تَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَيَمِينٍ مِنْ غَيْرِ قَسَامَةٍ؛ لِأَنَّهَا لَا تَكُونُ إلَّا فِي الْقَتْلِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْقَسَامَةُ سَبَبُهَا قَتْلُ الْحُرِّ الْمُسْلِمَ مَحَلَّ اللَّوَثِ. ثُمَّ ذَكَرَ مَفْهُومَ الْقَتْلِ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ أَقَامَ شَاهِدًا عَلَى جُرْحٍ أَيْ فِيهِ قِصَاصٌ حَلَفَ وَاحِدَةً وَأَخَذَ الدِّيَةَ أَيْ أَرْشَ ذَلِكَ الْجُرْحِ، فَمَا حَكَاهُ الْمُصَنِّفُ بِقِيلِ هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَلِذَلِكَ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ الْمُبَيَّنُ لِمَا بِهِ الْفَتْوَى، وَلِأَنَّهُ قَوْلُ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي شَهَادَاتِ الْمُدَوَّنَةِ وَهِيَ إحْدَى الْمُسْتَحْسَنَاتِ الْأَرْبَعِ، فَكَانَ الْأَوْلَى لِلْمُصَنِّفِ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهِ أَوْ يُقَدِّمُهُ عَلَى الضَّعِيفِ وَلَا يَحْكِيهِ بِقِيلِ الْمُشْعِرِ بِالضَّعْفِ. وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا الْجِرَاحَ بِالْعَمْدِ أَخْذًا مِنْ الْمُقَابِلِ السَّابِقِ، وَأَمَّا الْخَطَأُ فَيُقْضَى فِيهَا بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَمِثْلُهُ الْعَمْدُ الَّذِي لَا قِصَاصَ فِيهِ كَمَا قَدَّمْنَا. [مَا تَشْهَدُ فِيهِ النِّسَاءُ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا تَشْهَدُ فِيهِ النِّسَاءُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَجُوزُ) وَلَا تَصِحُّ أَيْضًا (شَهَادَةُ النِّسَاءِ إلَّا فِي الْأَمْوَالِ) وَمَا يَئُولُ إلَيْهَا فَتَصِحُّ شَهَادَتُهُنَّ فِيهَا إلَّا مَعَ الرِّجَالِ أَوْ مُنْفَرِدَاتٍ، فَيَثْبُتُ الْحَقُّ الْمَالِيُّ بِشَهَادَةِ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ، وَبِالرَّجُلِ أَوْ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ لَكِنْ مَعَ الْيَمِينِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَمِائَةُ امْرَأَةٍ كَامْرَأَتَيْنِ وَذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ الْمِائَةِ (كَرَجُلٍ وَاحِدٍ) وَحِينَئِذٍ (يُقْضَى بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْمَرْأَتَيْنِ أَوْ الْمِائَةِ (مَعَ رَجُلٍ) فِي الْحَقِّ الْمَالِيِّ وَلَا يَحْتَاجُ الْحَاكِمُ إلَى يَمِينِ الطَّالِبِ لِتَمَامِ النِّصَابِ (أَوْ) أَيْ وَيُقْضَى بِالْمَرْأَتَيْنِ أَوْ الْأَكْثَرِ (مَعَ يَمِينِ) الطَّالِبِ (فِيمَا يَجُوزُ فِيهِ شَاهِدٌ وَيَمِينٌ) وَهُوَ الْأَمْوَالُ وَمَا يَئُولُ إلَيْهَا. وَأَشَارَ إلَى رَابِعِ الْأَقْسَامِ وَهُوَ مَا لَا يَشْهَدُ فِيهِ إلَّا النِّسَاءُ بِقَوْلِهِ: (وَشَهَادَةُ) مَبْدَأِ (امْرَأَتَيْنِ فَقَطْ) أَيْ لَا أَقَلَّ (فِيمَا لَا) يَجُوزُ أَوْ يَقْدِرُ أَنْ (يَطَّلِعَ عَلَيْهِ الرِّجَالُ مِنْ الْوِلَادَةِ وَالِاسْتِهْلَالِ وَشِبْهِهِ) كَعَيْبِ الْفَرْجِ أَوْ الْحَيْضِ وَخَبَرُ شَهَادَةٍ (جَائِزَةٌ) مِنْ غَيْرِ يَمِينٍ وَلَا يَكْفِي الْوَاحِدُ مِنْ الْيَمِينِ، وَالشَّهَادَةُ عَلَى الْوِلَادَةِ عَامٌّ فِي الْحَرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَكَذَا الشَّهَادَةُ عَلَى الِاسْتِهْلَالِ أَيْ عَلَى أَنَّهُ نَزَلَ مُسْتَهِلًّا صَارِخًا أَوْ غَيْرَ مُسْتَهِلٍّ عَامٌّ فِي الْإِمَاءِ وَالْحَرَائِرِ، وَإِنَّمَا عُمِلَ بِشَهَادَتَيْنِ فِيهِ لِنُدُورِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ يُمْكِنُ رُؤْيَةُ الرِّجَالِ لِذَلِكَ، وَاخْتِصَاصُ النِّسَاءِ بِذَلِكَ لِجَهْلِ الرِّجَالِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ عَادَةً، وَكَمَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُنَّ فِي ذَلِكَ تُقْبَلُ فِي أَنَّ الْمَوْلُودَ ذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى. وَفَائِدَةُ ثُبُوتِ الِاسْتِهْلَالِ أَوْ عَدَمِهِ تَظْهَرُ فِي الْإِرْثِ لَهُ أَوْ مِنْهُ، وَأَمَّا عَيْبُ الْفَرْجِ وَالْحَيْضِ فَهُوَ فِي الْإِمَاءِ دُونَ الْحَرَائِرِ؛ لِأَنَّ الْحُرَّةَ تُصَدَّقُ فِي نَفْيِ دَاءِ فَرْجِهَا وَفِي حَيْضِهَا، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ شَرَفُ الْحُرَّةِ عَلَى الْأَمَةِ، فَإِذَا تَنَازَعَ بَائِعُ أَمَةٍ مَعَ مُشْتَرِيهَا فِي عَيْبٍ بِفَرْجِهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 الْعُدُولُ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ وَلَا شَهَادَةُ عَبْدٍ وَلَا صَبِيٍّ وَلَا كَافِرٍ وَإِذَا تَابَ الْمَحْدُودُ فِي الزِّنَا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ إلَّا فِي الزِّنَا وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ لِلْأَبَوَيْنِ وَلَا هُمَا لَهُ وَلَا الزَّوْجُ لِلزَّوْجَةِ وَلَا هِيَ لَهُ وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ الْعَدْلِ لِأَخِيهِ   [الفواكه الدواني] نَظَرَهَا النِّسَاءُ، وَأَمَّا مَا كَانَ بِغَيْرِ الْفَرْجِ فَإِنْ كَانَ فِي الْوَجْهِ أَوْ الْيَدَيْنِ فَيَنْظُرُهُ الرِّجَالُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ دَاخِلَ الثِّيَابِ وَخَارِجَ الْفَرْجِ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ الْعِدْلَاتِ، فَعُيُوبُ النِّسَاءِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ الشَّهَادَةِ وَنَذْكُرُهُ تَتْمِيمًا لِلْفَائِدَةِ فَنَقُولُ: الْأَصْلُ فِي مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْله تَعَالَى: {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ: هِيَ مَنْدُوبٌ إلَيْهَا فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالدَّيْنِ، وَعِنْدَ عَقْدِ النِّكَاحِ، وَالْوُجُوبُ عِنْدَ الدُّخُولِ، وَحُكْمُ تَحْمِلْهَا الْوُجُوبُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ الْكِفَائِيِّ إنْ وُجِدَ غَيْرُهُ وَإِلَّا تَعَيَّنَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالتَّحَمُّلُ إنْ اُفْتُقِرَ إلَيْهِ فَرْضُ كِفَايَةٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} [الطلاق: 2] وَأَمَّا الْأَدَاءُ فَفَرْضُ عَيْنٍ قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ الْأَدَاءُ مَنْ كَبِرَ بِدَيْنٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا} [البقرة: 282] وَأَشَارَ إلَى شُرُوطِهَا بِذِكْرِ أَضْدَادِهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ خَصْمٍ) عَلَى خَصْمِهِ وَالْمُرَادُ بِهِ مَنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ خُصُومَةٌ؛ لِأَنَّهَا تُنْبِئُ عَنْ الْعَدَاوَةِ، وَهِيَ مَانِعَةٌ مِنْ الشَّهَادَةِ لِاتِّهَامِ الشَّاهِدِ عَلَى قَصْدِ إضْرَارِ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا عَدُوٍّ عَلَى عَدُوِّهِ وَلَوْ بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْمُخَاصَمَةُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا، وَأَمَّا الْمُخَاصَمَةُ فِي الدِّينِ فَلَا تَمْنَعُ كَشَهَادَةِ الْمُسْلِمِ عَلَى الْكَافِرِ، أَوْ السُّنِّيِّ عَلَى الْبِدْعِيِّ، وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ عَدَاوَةَ الدِّينِ عَامَّةٌ وَعَدَاوَةَ الدُّنْيَا خَاصَّةٌ، وَالْعَامُّ أَخَفُّ مِنْ الْخَاصِّ، وَيَسْتَمِرُّ الْمَنْعُ حَتَّى يَغْلِبَ عَلَى الظَّنِّ زَوَالُ الْعَدَاوَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَزَوَالُ الْعَدَاوَةِ وَالْفِسْقِ بِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى الشَّهَادَةِ عَلَى الْخَصْمِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الشَّهَادَةِ لَهُ فَتَجُوزُ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُك عَلَيْهِ تَجُوزُ شَهَادَتُك لَهُ، وَكُلُّ مَنْ امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ عَلَيْك تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَك. (وَلَا) تَجُوزُ أَيْضًا شَهَادَةُ (ظَنِينٍ) أَيْ مُتَّهَمٌ فِي شَهَادَتِهِ بِالْمَيْلِ إلَى مَنْ يَشْهَدُ لَهُ، أَوْ مُتَّهَمٌ بِعَدَمِ الصِّدْقِ، كَأَنْ يَشْهَدَ بَدْوِيٌّ لِحَضَرِيٍّ عَلَى حَضَرِيٍّ أَوْ عَكْسُهُ، وَالْحَالُ أَنَّا نَعْرِفُ أَنَّ الشَّاهِدَ لَمْ يَدْخُلْ بَلَدَ الْمَشْهُودِ لَهُ وَلَا عَكْسُهُ زَمَنَ وُقُوعِ الْمَشْهُودِ بِهِ، وَكَشَهَادَةِ الشَّحَّاذِ الْفَقِيرِ فِي الْمَالِ الْكَثِيرِ، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَنْ اُتُّهِمَ فِي شَهَادَتِهِ إمَّا بِقِلَّةِ دِينِهِ، أَوْ بِجَلْبِ نَفْعٍ لِلْمَشْهُودِ لَهُ، أَوْ بِإِدْخَالِ ضَرَرٍ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ. (وَلَا يُقْبَلُ فِي) أَدَاءِ (الشَّهَادَةِ إلَّا الْعُدُولُ) جَمْعُ عَدْلٍ وَهُوَ الْحُرُّ الْمُسْلِمُ الْعَاقِلُ الْبَالِغُ السَّالِمُ مِنْ فِسْقٍ وَحَجْرِ سَفَهٍ وَبِدْعَةٍ وَإِنْ مَعَ تَأْوِيلٍ، وَإِنَّمَا قَدَّرْنَا أَدَاءً؛ لِأَنَّهُ يَصِحُّ التَّحَمُّلُ مِنْ كُلِّ مُمَيِّزٍ وَلَوْ عَبْدًا أَوْ صَبِيًّا أَوْ كَافِرًا إلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ وَهُمَا: الشَّهَادَةُ عَلَى عَقْدِ النِّكَاحِ وَالْمَشْهُودُ عَلَى خَطِّهِ، فَلَا بُدَّ مِنْ شُرُوطِ الْأَدَاءِ عِنْدَ كِتَابَةِ خَطِّهِ، وَالْعَدْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَدَالَةِ وَهِيَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تَمْنَعُ مَوْصُوفَهَا الْبِدْعَةَ وَمَا يَشِينُهُ عُرْفًا، وَيَقْرُبُ مِنْ هَذَا قَوْلُ بَعْضِهِمْ: الْعَدَالَةُ مَلَكَةٌ تَمْنَعُ صَاحِبَهَا مِنْ اقْتِرَافِ الْكَبَائِرِ وَصَغَائِرِ الْخِسَّةِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ: الْعَدَالَةُ عِنْدَنَا حَقٌّ لِلَّهِ عَلَى الْحَاكِمِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بِغَيْرِ الْعَدْلِ وَإِنْ لَمْ يَشْتَرِطْ الْخَصْمُ الْعَدَالَةَ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَعَلَى أَنَّهُ حَقٌّ لِلَّهِ لَوْ رَضِيَ الْخَصْمَانِ بِشَهَادَةِ كَافِرٍ أَوْ مَسْخُوطٍ لَا يَجُوزُ لِلْحَاكِمِ الْحُكْمُ بِذَلِكَ قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. [شَهَادَةُ الْمَحْدُود] (وَ) كَذَا (لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ) فِي قَذْفٍ أَوْ غَيْرِهِ فِيمَا حُدَّ فِيهِ بِالْفِعْلِ، وَلَوْ صَارَ بَعْدَ تَوْبَتِهِ أَحْسَنَ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى التَّأَسِّي بِإِثْبَاتِ مُشَارِكٍ لَهُ فِي صِفَتِهِ، وَأَمَّا شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي غَيْرِ مَا حُدَّ فِيهِ فَصَحِيحَةٌ كَمَا سَيَنُصُّ عَلَيْهِ، وَقَيَّدْنَا بِالْفِعْلِ؛ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يُحَدَّ فِيهِ قَوْلَانِ، وَاشْتِرَاطُ الْحَدِّ بِالْفِعْلِ فِي غَيْرِ الْقَتْلِ، وَأَمَّا مَنْ قَتَلَ غَيْرَهُ عَمْدًا وَعُفِيَ عَنْهُ فَإِنَّهُ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِي الْقَتْلِ وَلَوْ حُسِّنَتْ حَالَتُهُ بَعْدَ تَوْبَتِهِ، وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ فِي غَيْرِهِ قَالَهُ فِي الْوَاضِحَةِ، وَمِثْلُ الْحُدُودِ التَّعَازِيرُ، فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَةُ مَنْ عُزِّرَ فِيمَا عُذِّرَ فِيهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ وَقَعَ مِنْهُ ذَلِكَ فَلْتَةً، وَهَذَا بِخِلَافِ الْقَاضِي فَلَهُ أَنْ يَحْكُمَ وَلَوْ فِيمَا حُدَّ فِيهِ. (وَلَا) تَجُوزُ أَيْضًا (شَهَادَةُ عَبْدٍ) الْمُرَادُ فِيهِ شَائِبَةُ رِقٍّ وَلَوْ مُكَاتَبًا لِمُنَافَاتِهِ الْعَدَالَةَ (وَلَا صَبِيٍّ) إلَّا عَلَى مِثْلِهِ فِي جُرْحٍ أَوْ قَتْلٍ كَمَا يَأْتِي. (وَلَا كَافِرٍ) لِمُنَافَاةِ الصِّبَا وَالْكُفْرِ الْعَدَالَةَ، وَمَحَلُّ عَدَمِ جَوَازِ شَهَادَةِ مَنْ ذُكِرَ إذَا أَدَّوْهَا فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ، وَأَمَّا لَوْ تَحَمَّلُوهَا عَلَى تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَتَأَخُّرِ الْأَدَاءِ حَتَّى اتَّصَفُوا بِالْعَدَالَةِ لَصَحَّتْ شَهَادَتُهُمْ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ صَدَرَ مِنْهُمْ أَدَاءٌ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ ثُمَّ رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِلَّا لَمْ تُقْبَلْ فِيمَا رُدَّتْ فِيهِ لِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا إنْ حُرِّضَ عَلَى إزَالَةِ نَقْصٍ فِيمَا رُدَّ فِيهِ لِفِسْقٍ أَوْ صِبًا أَوْ رِقٍّ؛ لِأَنَّهُمْ يُتَّهَمُونَ عَلَى إزَالَةِ النَّقْصِ الَّذِي رُدَّتْ شَهَادَتُهُمْ لِأَجْلِهِ، وَالْمُرَادُ بِالنَّقْصِ الْمَعَرَّةُ اللَّاحِقَةُ بِسَبَبِ رَدِّ شَهَادَتِهِمْ. (وَإِذَا تَابَ الْمَحْدُودُ فِي الزِّنَا) وَحُسِّنَتْ حَالَتُهُ (قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ) بَعْدَ التَّوْبَةِ فِي كُلِّ شَيْءٍ (إلَّا فِي الزِّنَا) فَلَا تُقْبَلُ فِيهِ وَهَذَا مَحْضُ تَكْرَارٍ مَعَ قَوْلِهِ السَّابِقِ: وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْمَحْدُودِ فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِلْمَحْدُودِ فِي الزِّنَا إلَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ فِي كَذِبٍ أَوْ مُظْهِرٍ لِكَبِيرَةٍ وَلَا جَارٍّ لِنَفْسِهِ وَلَا دَافِعٍ عَنْهَا وَلَا وَصِيٍّ لِيَتِيمِهِ وَتَجُوزُ شَهَادَتُهُ   [الفواكه الدواني] أَنْ يُقَالَ: أَعَادَ هَذَا دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَصْرِ مَا سَبَقَ عَلَى الْمَحْدُودِ فِي غَيْرِ الزِّنَا، وَمِثْلُ الْحَدِّ التَّعْزِيرُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَهَذَا إذَا كَانَ الْمَحْدُودُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ كَافِرًا وَوَقَعَ مِنْهُ مُوجِبُ الْحَدِّ وَحُدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ لَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْقَاضِيَ إذَا حُدَّ وَتَابَ يَصِحُّ حُكْمُهُ وَلَوْ فِيمَا حُدَّ فِيهِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ أَنَّ الْقَاضِيَ مُسْتَنِدٌ فِي حُكْمِهِ لِإِخْبَارِ غَيْرِهِ بِخِلَافِ الشَّاهِدِ. (تَنْبِيهٌ) لَيْسَ الْمُرَادُ بِالتَّوْبَةِ بِمُجَرَّدِ حُصُولِهَا، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ قَرَائِنَ تَدُلُّ عَلَى صَلَاحِ حَالِ الْمَحْدُودِ، وَلَا يَتَحَدَّدُ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ خِلَافًا لِمَنْ حَدَّهَا بِسَنَةٍ أَوْ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، وَلَمَّا كَانَتْ الْقَرَابَةُ الْأَكِيدَةُ تَمْنَعُ الشَّهَادَةَ كَالْعَدَاوَةِ قَالَ: (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الِابْنِ) وَإِنْ سَفَلَ (لِلْأَبَوَيْنِ) وَإِنْ عَلَيَا (وَلَا هُمَا) أَيْ وَكَذَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَبَوَيْنِ (لَهُ) أَيْ لِلْوَلَدِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَرْعَ لَا يَشْهَدُ لِأَصْلِهِ وَلَا الْأَصْلَ لِفَرْعِهِ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الْأَصْلِ عَلَى فَرْعِهِ أَوْ عَكْسُهُ فَتَجُوزُ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ امْتَنَعَتْ شَهَادَةُ شَخْصٍ لَهُ تَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ، كَمَا تَجُوزُ شَهَادَةُ أَحَدِ الْأَبَوَيْنِ لِأَحَدِ أَوْلَادِهِ عَلَى وَلَدِهِ الْآخَرِ، وَشَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَحَدِ أَبَوَيْهِ عَلَى الْآخَرِ، إنْ لَمْ يَظْهَرْ مَيْلٌ لِلْمَشْهُودِ لَهُ وَإِلَّا امْتَنَعَتْ، كَمَا لَوْ شَهِدَ الْوَالِدُ لِلصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ، أَوْ لِلْبَارِّ عَلَى الْفَاسِقِ، وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ عَلَى أَبِيهِ بِطَلَاقِ أُمِّهِ إنْ كَانَتْ مُنْكِرَةً لِلطَّلَاقِ، وَاخْتُلِفَ إذَا كَانَتْ قَائِمَةً بِدَعْوَى الطَّلَاقِ وَالْأَبُ يُنْكِرُهُ فَمَنَعَهَا أَشْهَبُ وَأَجَازَهَا ابْنُ الْقَاسِمِ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ عَلَى أَبِيهِ بِطَلَاقِ غَيْرِ أُمِّهِ لَمْ يَجُزْ إنْ كَانَتْ أُمُّهُ فِي عِصْمَةِ أَبِيهِ لَا إنْ كَانَتْ مَيِّتَةً، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَ؛ لِأَبِيهِ عَلَى جَدِّهِ أَوْ لِوَلَدِهِ عَلَى وَلَدِ وَلَدِهِ لَا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجُوزَ قَوْلًا وَاحِدًا لِظُهُورِ التُّهْمَةِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَبِ وَالْوَلَدِ. (تَنْبِيهٌ) كَمَا لَا تَجُوزُ شَهَادَةُ الْوَلَدِ لِأَبَوَيْهِ لَا تَجُوزُ لِزَوْجِهِمَا، وَكَذَلِكَ الْوَالِدُ لَا يَشْهَدُ لِزَوْجِ ابْنَتِهِ وَلَا لِزَوْجَةِ ابْنِهِ. [شَهَادَة الزَّوْج لِلزَّوْجَةِ] (وَلَا) تَجُوزُ شَهَادَةُ (الزَّوْجِ لِلزَّوْجَةِ وَلَا هِيَ لَهُ) أَيْ لِلزَّوْجِ وَكَمَا لَا يَشْهَدُ لِزَوْجَتِهِ لَا يَشْهَدُ لِابْنِهَا وَلَا لِأَبِيهَا، وَكَمَا لَا تَشْهَدُ الزَّوْجَةُ لِزَوْجِهَا لَا تَشْهَدُ لِأَبِيهِ وَلَا لِأُمِّهِ، وَأَمَّا شَهَادَةُ الرَّجُلِ لِابْنِ زَوْجِ ابْنَتِهِ فَهِيَ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ مَيَلَانِهِ إلَيْهِ. (وَتَجُوزُ شَهَادَةُ الْأَخِ الْعَدْلِ) الْمُرَادُ الْمُبَرِّزُ فِي الْعَدَالَةِ (لِأَخِيهِ) لِقَوْلِ ابْنِ رُشْدٍ: يُشْتَرَطُ تَبْرِيزُ الْعَدْلِ فِي سِتَّةِ مَوَاضِعَ: شَهَادَةُ الْأَخِ لِأَخِيهِ، وَشَهَادَةُ الْأَجِيرِ لِلْمُسْتَأْجِرِ، وَشَهَادَةُ الْمَوْلَى الْأَسْفَلِ لَمُعْتِقِهِ، وَشَهَادَةُ الشَّرِيكِ الْمُفَاوِضِ لِشَرِيكِهِ فِي غَيْرِ مَالِ الْمُفَاوَضَةِ، وَشَهَادَةُ الصَّدِيقِ الْمُلَاطِفِ لِصَدِيقِهِ، وَشَهَادَةُ مَنْ زَادَ فِي شَهَادَتِهِ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا بَعْدَ أَدَائِهَا، وَزَادُوا عَلَيْهَا الْمُزَكِّي لِلشُّهُودِ، وَمَنْ سُئِلَ عَنْ شَهَادَتِهِ فَشَكَّ فِيهَا ثُمَّ تَذَكَّرَهَا، وَمَعْنَى التَّبْرِيزِ الزِّيَادَةُ عَلَى أَقْرَانِهِ وَأَنْظَارِهِ فِي الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ. وَقَيَّدَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ شَهَادَةَ الْأَخِ لِأَخِيهِ بِأَنْ لَا يَكُونَ فِي عِيَالِ أَخِيهِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَبِكَوْنِهَا فِي الْأَمْوَالِ أَوْ فِي الْجِرَاحِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ أَوْ فِي التَّعْدِيلِ، لَا إنْ كَانَتْ بِنَسَبٍ أَوْ بِمَا فِيهِ قِصَاصٌ أَوْ بِدَفْعِ مَعَرَّةٍ، وَيَنْبَغِي جَرَيَانُ الْقَيْدِ الْمَذْكُورِ فِي الْجَمِيعِ؛ لِأَنَّ كَوْنَ الشَّاهِدِ فِي عِيَالِ الْمَشْهُودِ لَهُ تُهْمَةٌ تُوجِبُ عَدَمَ قَبُولِ الشَّهَادَةِ. (وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مُجَرَّبٍ فِي كَذِبٍ) كَثِيرٍ وَهُوَ مَا زَادَ عَلَى الْمَرَّةِ فِي السَّنَةِ، وَأَمَّا الْكِذْبَةُ الْوَاحِدَةُ فِي السَّنَةِ فَلَا تَقْدَحُ إلَّا أَنْ يَتَرَتَّبَ عَلَيْهَا مَفْسَدَةٌ. (أَوْ) أَيْ وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ (مُظْهِرٍ لِكَبِيرَةٍ) الْمُرَادُ بِالْمُظْهِرِ مَنْ شُهِدَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ شَرِبَ خَمْرًا أَوْ أَكَلَ الرِّبَا وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ خُفْيَةً، وَكَذَا لَوْ أَظْهَرَ صَغِيرَةً حَيْثُ كَانَتْ مِنْ صَغَائِرِ الْخِسَّةِ كَنَظْرَةٍ لِأَجْنَبِيَّةٍ بِقَصْدِ الشَّهْوَةِ، أَوْ سَرِقَةِ لُقْمَةٍ أَوْ تَطْفِيفِ حَبَّةٍ لِدَلَالَةِ ذَلِكَ عَلَى دَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، وَأَمَّا صَغَائِرُ الْخِسَّةِ فَلَا يَقْدَحُ إلَّا الْإِدْمَانُ عَلَيْهَا، وَالْمُرَادُ مِنْ الْكَذِبِ الْمَانِعِ، وَإِظْهَارِ الْكَبِيرَةِ التَّلَبُّسُ بِهَا تَلَبُّسًا لَمْ يُعْرَفْ لَهُ مِنْهُ تَوْبَةٌ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ كُلَّ مَنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ كَثْرَةُ كَذِبٍ أَوْ إظْهَارُ كَبِيرَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ؛ لِأَنَّ مَنْ صَدَرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَتَابَ وَحُسِّنَتْ تَوْبَتُهُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ فِي وَصْفِ الْعَدْلِ: لَمْ يُبَاشِرْ كَبِيرَةً أَوْ كَثِيرُ كَذِبٍ أَوْ صَغِيرَةً خِسَّةً وَسَفَاهَةً وَلَعِبِ نَرْدٍ ذُو مُرُوءَةٍ بِتَرْكِ غَيْرِ لَائِقٍ مِنْ حَمَّامٍ وَسَمَاعِ غِنَاءٍ وَدِبَاغَةٍ وَحِيَاكَةٍ اخْتِيَارًا وَإِدَامَةِ شِطْرَنْجٍ. قَالَ شُرَّاحُهُ: مَعْنَاهُ لَمْ يُبَاشِرْ كَبِيرَةً وَقْتَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ إذَا وَعَارِفًا بِهَا وَتَابَ وَحَسُنَتْ ثُمَّ أَدَّاهَا لَمْ يَصْدُقْ عَلَيْهِ أَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِهَا. (وَلَا) تَجُوزُ شَهَادَةُ (جَارٍ لِنَفْسِهِ) نَفْعًا كَمَا إذَا شَهِدَ عَلَى مُوَرِّثَةِ الْمُحْصَنِ بِالزِّنَا أَوْ بِقَتْلِ الْعَمْدِ، وَالْحَالُ أَنَّهُ غَنِيٌّ؛ لِأَنَّهُ يَتَّهِمُ عَلَى قَتْلِهِ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، وَلِذَا لَوْ كَانَ فَقِيرًا لَجَازَتْ الشَّهَادَةُ عَلَيْهِ. (وَلَا) تَجُوزُ أَيْضًا شَهَادَةُ (دَافِعٍ عَنْهَا) أَيْ عَنْ نَفْسِهِ ضَرَرًا كَشَهَادَةِ بَعْضِ الْعَاقِلَةِ بِفِسْقِ شُهُودِ الْقَتْلِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الشَّاهِدُ فَقِيرًا، وَكَشَهَادَةِ عَتِيقٍ لِمُعْتِقِهِ بِوَفَاءِ دَيْنٍ ثَابِتٍ عَلَيْهِ قَبْلَ الْعِتْقِ؛ لِأَنَّهُ يُبَاعُ فِيمَا عَلَى سَيِّدِهِ مِنْ الدَّيْنِ. [شَهَادَةُ وَصِيٍّ لِيَتِيمِهِ بِشَيْءٍ عَلَى آخَرَ] (وَلَا) تَجُوزُ شَهَادَةُ (وَصِيٍّ لِيَتِيمِهِ) بِشَيْءٍ عَلَى آخَرَ؛ لِأَنَّهُ يُتَّهَمُ عَلَى جَلْبِ نَفْعٍ لِيَتِيمِهِ. (وَ) مَفْهُومٌ لِيَتِيمِهِ أَنَّهُ (يَجُوزُ شَهَادَتُهُ عَلَيْهِ) وَمِثْلُهُ أَكِيدُ الْقَرَابَةِ كَأَصْلِهِ أَوْ فَرْعِهِ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَكُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُ لَهُ فَشَهَادَتُهُ عَلَيْهِ جَائِزَةٌ، وَمِنْ قَوَادِحِ الشَّهَادَةِ الْأَخْذُ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْأَكْلُ عِنْدَهُمْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا إنْ أَخَذَ مِنْ الْعُمَّالِ أَوْ أَكَلَ عِنْدَهُمْ بِخِلَافِ الْخُلَفَاءِ، وَلَا إنْ تَعَصَّبَ كَالرِّشْوَةِ وَتَلْقِينِ الْخَصْمِ وَلَعِبِ نَيْرُوزَ وَمَطَلَ وَحَلَفَ بِعِتْقٍ وَطَلَاقٍ، وَمَجِيءِ مَجْلِسِ الْقَاضِي ثَلَاثًا بِلَا عُذْرٍ، وَتِجَارَةٍ لِأَرْضِ حَرْبٍ، وَسُكْنَى مَغْصُوبَةٍ، أَوْ مَعَ وَلَدٍ شِرِّيبٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 عَلَيْهِ وَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ النِّسَاءِ وَلَا تَجْرِيحُهُنَّ وَلَا يُقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ إلَّا مَنْ يَقُولُ عَدْلٌ رِضًا وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ وَلَا فِي التَّجْرِيحِ وَاحِدٌ وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقُوا أَوْ يَدْخُلَ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ ثُمَّ يَأْخُذُ الْمُبْتَاعُ أَوْ يَحْلِفُ وَيَبْرَأُ وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي شَيْءٍ بِأَيْدِيهِمَا حَلَفَا وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا وَإِنْ   [الفواكه الدواني] وَبِوَطْءِ مَنْ لَا تُوطَأُ، وَبِالْتِفَاتِهِ فِي الصَّلَاةِ، وَبِاقْتِرَاضِهِ حِجَارَةً مِنْ الْمَسْجِدِ، وَعَدَمِ إحْكَامِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ، وَالزَّكَاةِ لِمَنْ لَزِمَتْهُ، وَبَيْعِ نَرْدٍ وَطُنْبُورٍ وَاسْتِحْلَافِ أَبِيهِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ أَدَاءَ الشَّهَادَةِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ الْعُدُولِ [مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّعْدِيلُ وَالتَّجْرِيحُ وَمَنْ لَا يَصِحُّ] شَرَعَ هُنَا فِي بَيَانِ مَنْ يَصِحُّ مِنْهُ التَّعْدِيلُ وَالتَّجْرِيحُ وَمَنْ لَا يَصِحُّ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ تَعْدِيلُ النِّسَاءِ) لِغَيْرِهِنَّ. (وَلَا تَجْرِيحُهُنَّ) لَا لِرِجَالٍ وَلَا لِنِسَاءٍ، لَا فِيمَا تَجُوزُ شَهَادَتُهُنَّ فِيهِ وَلَا فِي غَيْرِهِ، فَتَعْدِيلُ مَصْدَرٌ مُضَافٌ لِلْفَاعِلِ لِنَقْصِهِنَّ عَنْ مَرْتَبَةِ التَّعْدِيلِ، فَلَا يَصِحُّ تَعْدِيلٌ وَلَا تَجْرِيحٌ إلَّا مِنْ الرِّجَالِ، ظَاهِرُهُ كَانَ الْمَشْهُودُ بِعَدَالَتِهِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ التَّعْدِيلِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُقْبَلُ فِي التَّزْكِيَةِ) أَيْ تَزْكِيَةِ الشُّهُودِ (إلَّا مَنْ يَقُولُ) أَشْهَدُ أَنَّ هَذَا (عَدْلٌ رِضًا) أَيْ مَرْضِيٌّ وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُزَكِّي يَقُولُ فِي الْمُزَكَّى بِفَتْحِ الْكَافِ: أَشْهَدُ أَنَّهُ عَدْلٌ رِضًا؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ تُشْعِرُ بِالسَّلَامَةِ فِي الدِّينِ، وَالرِّضَا يُشْعِرُ بِالسَّلَامَةِ مِنْ الْبَلَهِ وَالْغَفْلَةِ، فَلَوْ قَالَ: هُوَ عَدْلٌ رِضًا بِدُونِ أَشْهَدُ لَمْ يَكْفِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الْمُزَكِّي أَنْ يَكُونَ مُبَرِّزًا فِي الْعَدَالَةِ، وَأَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا لِلْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الشَّاهِدُ غَرِيبًا فَلَا يُشْتَرَطُ فِي مُزَكِّيهِ كَوْنُهُ مَعْرُوفًا لِلْقَاضِي، بَلْ يَكْفِي أَنْ يُزَكِّيَ مُزَكِّيَهُ عِنْدَ الْقَاضِي بِالْعَدَالَةِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي فَطِنًا وَعَارِفًا بِتَصَنُّعَاتِ الشُّهُودِ، وَأَنْ يَكُونَ مُعْتَمِدًا فِي شَهَادَتِهِ عَلَى التَّزْكِيَةِ عَلَى طُولِ عِشْرَةِ الْمُزَكَّى بِالْفَتْحِ فِي الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، وَيَرْجِعُ فِي طُولِهَا لِلْعُرْفِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ سَمَاعٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ السَّمَاعُ فَاشِيًا مِنْ الثِّقَاتِ وَغَيْرِهِمْ، وَأَنْ يَكُونَ الْمُزَكِّي مِنْ أَهْلِ سُوقِ الْمُزَكَّى بِالْفَتْحِ وَمُحَلَّتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَعَذَّرَ ذَلِكَ لِعَدَمِ وُجُودِ مَنْ فِيهِ تِلْكَ الْأَوْصَافُ فَيَكْفِي مِنْ غَيْرِهِمْ، (وَلَا يُقْبَلُ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ التَّزْكِيَةِ. (وَلَا فِي) مُقَابِلِهَا الَّذِي هُوَ (التَّجْرِيحُ وَاحِدٌ) بَلْ لَا بُدَّ مِنْ اثْنَيْنِ مُسْتَوْفِيَيْنِ لِجَمِيعِ الشُّرُوطِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا؛ لِأَنَّ الْعَدَالَةَ وَالْجِرَاحَةَ لَا تَخْفَى، فَشَهَادَةُ وَاحِدٍ فَقَطْ تُورِثُ رِيبَةً فِي عَدَالَةِ الشَّاهِدِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ التَّزْكِيَةِ وَحُكْمُهَا الْوُجُوبُ عَلَى الْكِفَايَةِ عِنْدَ تَعَدُّدِ مَنْ يَقُومُ بِهَا، وَعَلَى التَّعْيِينِ عِنْدَ عَدَمِ التَّعَدُّدِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَتْ إنْ تَعَيَّنَ أَيْ وَوَجَبَتْ الشَّهَادَةُ بِالتَّزْكِيَةِ إنْ تَعَيَّنَ التَّعْدِيلُ بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مَنْ يُعَدِّلُهُ غَيْرُهُ، وَحُكْمُ التَّجْرِيحِ كَحُكْمِ التَّعْدِيلِ إنْ لَزِمَ عَلَى تَرْكِهِ بُطْلَانُ الْحَقِّ. قَالَ خَلِيلٌ: كَجُرْحٍ إنْ بَطَلَ حَقٌّ. الثَّانِي: مَا تَقَدَّمَ مِنْ اشْتِرَاطِ التَّعَدُّدِ فِي التَّعْدِيلِ وَالتَّجْرِيحِ فِي التَّزْكِيَةِ فِي الْعَلَانِيَةِ، وَأَمَّا فِي تَزْكِيَةِ السِّرِّ فَالتَّعَدُّدُ مَنْدُوبٌ؛ لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ فَقَدْ قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ تَزْكِيَةُ سِرٍّ مَعَهَا أَيْ مَعَ تَزْكِيَةِ الْعَلَانِيَةِ. [شَهَادَة الصَّبِيَّانِ فِي الْجِرَاح] وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الشَّهَادَةَ لَا يُقْبَلُ فِي أَدَائِهِ صَبِيٌّ دَفَعَ عُمُومَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ) الْقَتْلِ لِبَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَمْوَالِ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ وَجَمْعٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَمُعَاوِيَةُ، وَمَنَعَهَا الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَجَمَاعَةٌ، وَإِنَّمَا جَازَتْ لِلضَّرُورَةِ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ حُضُورِ الْكِبَارِ عِنْدَهُمْ، وَلِأَنَّهُمْ يُنْدَبُونَ إلَى تَعْلِيمِ الرَّمْيِ وَالصِّرَاعِ وَغَيْرِهِمَا مِمَّا يُدَرِّبُهُمْ عَلَى الْحَرْبِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْكَرِّ وَالْفَرِّ وَحَمْلِ السِّلَاحِ، فَلَوْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَةُ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ لَأَدَّى إلَى إهْدَارِ دِمَائِهِمْ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ عَدَمُ حُضُورِ الْكِبَارِ عِنْدَهُمْ، وَشَرْطُ قَبُولِهَا أَنْ يُؤَدُّوهَا. (قَبْلَ أَنْ يَتَفَرَّقُوا) فَإِنْ تَفَرَّقُوا لَمْ تَصِحَّ شَهَادَتُهُمْ لِاتِّهَامِهِمْ عَلَى تَعْلِيمِ الْكِبَارِ لَهُمْ إلَّا أَنْ تَشْهَدَ الْعُدُولُ قَبْلَ تَفَرُّقِهِمْ، وَمِنْ شُرُوطِهَا أَنْ لَا يَحْضُرَهُمْ كَبِيرٌ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (أَوْ يَدْخُلُ بَيْنَهُمْ كَبِيرٌ) فَإِنْ حَضَرَ عِنْدَهُمْ كَبِيرٌ زَمَنَ قِتَالِهِمْ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمْ. قَالَ خَلِيلٌ فِي شُرُوطِهَا: وَالشَّاهِدُ حُرٌّ مُمَيِّزٌ ذَكَرٌ تَعَدَّدَ لَيْسَ بِعَدُوٍّ وَلَا قَرِيبٍ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا فُرْقَةَ، إلَّا أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِمْ قَبْلَهَا، وَلَمْ يَحْضُرْ كَبِيرٌ أَوْ يَشْهَدُ لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَزِيدَ عَلَيْهَا: أَنْ لَا يَكُونَ الشَّاهِدُ مِنْهُمْ مَعْرُوفًا بِالْكَذِبِ، وَأَنْ تَشْهَدَ الْعُدُولُ عَلَى رُؤْيَةِ الْجَسَدِ مَقْتُولًا، وَلَا يَقْدَحُ فِي شَهَادَتِهِمْ رُجُوعُهُمْ وَلَا تَجْرِيحُهُمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحُرِّيَّةِ اشْتِرَاطُ الْإِسْلَامِ، وَفَائِدَةُ الْعَمَلِ بِشَهَادَةِ الصِّبْيَانِ فِي الْجِرَاحِ وَالْقَتْلِ لُزُومُ الدِّيَةِ بَعْدَ الثُّبُوتِ؛ لِأَنَّ عَمْدَ الصِّبْيَانِ كَالْخَطَإِ مِنْ الْكِبَارِ. (تَنْبِيهٌ) لَا يَلْزَمُ مِنْ جَوَازِ شَهَادَةِ الصِّبْيَانِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ جَوَازُ شَهَادَةِ النِّسَاءِ لِبَعْضِهِنَّ عَلَى بَعْضٍ عِنْدَ اجْتِمَاعِهِنَّ فِي نَحْوِ حَمَّامٍ أَوْ عُرْسٍ، لِوُجُودِ الْفَرْقِ بَيْنَ اجْتِمَاعِ النِّسَاءِ وَاجْتِمَاعِ الصِّبْيَانِ بِالنَّهْيِ عَنْهُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ وَجَوَازِهِ لِلصِّبْيَانِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الشَّهَادَاتِ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ فَقَالَ: (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ) تَثْنِيَةُ مُتَبَايِعٍ بِالْيَاءِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ؛ لِأَنَّ فِعْلَهُ بَايَعَ وَالْمُرَادُ الْمُتَعَاقِدَانِ حَتَّى يَشْمَلَ الْمُتَكَارِيَيْنِ، وَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ اخْتَلَفَ لِيَشْمَلَ الِاخْتِلَافَ فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ نَوْعِهِ أَوْ قَدْرِ الثَّمَنِ وَالْمُثَمَّنِ، أَوْ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ أَوْ الْأَجَلِ، وَجَوَابُ إذَا الشَّرْطِيَّةِ (اُسْتُحْلِفَ الْبَائِعُ) أَوْ لَا جَبْرًا عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «فَالْقَوْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ قُضِيَ بِأَعْدَلِهِمَا فَإِنْ اسْتَوَيَا حَلَفَا وَكَانَ بَيْنَهُمَا وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدُ بَعْدَ الْحُكْمِ أُغْرِمَ مَا أَتْلَفَ بِشَهَادَتِهِ إنْ   [الفواكه الدواني] مَا قَالَ الْبَائِعُ» وَلِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِصْحَابُ مِلْكِهِ فَيَحْلِفُ عَلَى نَفْيِ دَعْوَى خَصْمِهِ وَتَحْقِيقِ دَعْوَاهُ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الِاخْتِلَافِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا. (ثُمَّ) إنْ حَلَفَ لَزِمَ الْبَيْعُ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ مِنْ جِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ أَوْ قَدْرِ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ. (يَأْخُذُ الْمُبْتَاعُ) السِّلْعَةَ بِمَا حَلَفَ عَلَيْهِ الْبَائِعُ (أَوْ) أَيْ إنْ نَكَلَ الْبَائِعُ (يَحْلِفُ) أَيْ الْمُبْتَاعُ عَلَى نَفْيِ دَعْوَى خَصْمِهِ وَتَحْقِيقِ دَعْوَاهُ. (وَيَبْرَأُ) مِمَّا ادَّعَاهُ الْبَائِعُ وَحِينَئِذٍ لِكُلٍّ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّمَاسُكِ بِمَا ادَّعَاهُ خَصْمُهُ وَالْفَسْخِ لَكِنْ بِحُكْمِ حَاكِمٍ، فَلَوْ نَكَلَ الْمُبْتَاعُ أَيْضًا فَإِنَّ الْعَقْدَ يُفْسَخُ أَيْضًا إنْ حُكِمَ بِهِ، وَلَا يَنْظُرُ لِشَبَهٍ وَلَا عَدَمِهِ وَلَا لِقِيَامِ السِّلْعَةِ وَفَوَاتِهَا إذَا كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ أَوْ نَوْعِهِمَا، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إنْ اخْتَلَفَ الْمُتَبَايِعَانِ فِي جِنْسِ الثَّمَنِ أَوْ نَوْعِهِ حَلَفَا وَفُسِخَ، وَتُرَدُّ السِّلْعَةُ مَعَ الْقِيَامِ وَقِيمَتُهَا أَوْ مِثْلُهَا مَعَ الْفَوَاتِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الِاخْتِلَافُ فِي قَدْرِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ أَوْ الرَّهْنِ أَوْ الْأَجَلِ أَوْ الْحَمِيلِ فَكَذَلِكَ إنْ كَانَتْ السِّلْعَةُ قَائِمَةً وَلَا يُنْظَرُ لِشَبَهٍ وَلَا عَدَمِهِ، وَأَمَّا بَعْدَ فَوَاتِهَا فَالْقَوْلُ لِلْمُشْتَرِي إنْ أَشْبَهَ، فَإِنْ انْفَرَدَ الْبَائِعُ بِالشَّبَهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، وَإِنْ لَمْ يُشْبِهَا فَالْفَسْخُ إنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي قَدْرِهِ كَمَثْمُونِهِ أَوْ قَدْرِ أَجَلٍ أَوْ رَهْنٍ أَوْ حَمِيلٍ حَلَفَا وَفُسِخَ إنْ حُكِمَ بِهِ، وَيَكُونُ الْفَسْخُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِ الْفَسْخِ، ثُمَّ قَالَ: وَصُدِّقَ مُشْتَرٍ ادَّعَى الْأَشْبَهَ وَحَلَفَ إنْ فَاتَ وَإِنْ لَمْ يُشْبِهَا حَلَفَا وَفُسِخَ وَتُرَدُّ قِيمَةُ السِّلْعَةِ يَوْمَ فَوَاتِهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْفَسْخَ فِي الِاخْتِلَافِ فِي جِنْسِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ أَوْ نَوْعِهِ مُطْلَقٌ. وَفِي الِاخْتِلَافِ فِي قَدْرِهِ أَوْ فِي قَدْرِ الرَّهْنِ أَوْ الْأَجَلِ مُقَيَّدٌ بِعَدَمِ فَوَاتِ السِّلْعَةِ، وَإِلَّا صُدِّقَ الْمُشْتَرِي إنْ أَشْبَهَ وَحَلَفَ، فَإِنْ انْفَرَدَ الْبَائِعُ بِالشَّبَهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ الشَّبَهُ مِنْهُمَا فَالْفَسْخُ إنْ حَلَفَا أَوْ نَكَلَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَدْخُلْ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ الْعَقْدِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّ الْقَوْلَ لِمُنْكِرِهِ إجْمَاعًا لَكِنْ بِيَمِينِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مُدَّعِي الْبَيْعِ مَالِكُ السِّلْعَةِ أَوْ مَنْ يُرِيدُ شِرَاءَهَا. الثَّانِي: مِثْلُ الْمُتَبَايِعَيْنِ كُلُّ مُتَعَاقِدَيْنِ لِيَشْمَلَ الْمُتَكَارِيَيْنِ، فَلَوْ عَبَّرَ بِالْمُتَعَاقِدِينَ لَكَانَ أَشْمَلَ. (فُرُوعٌ) الْأَوَّلُ: لَوْ اخْتَلَفَا فِي الصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ مُدَّعِي الصِّحَّةِ إلَّا عِنْدَ غَلَبَةِ الْفَسَادِ فَيَكُونُ الْقَوْلُ لِمُدَّعِيهِ، كَادِّعَاءِ أَحَدِهِمَا صِحَّةَ الصَّرْفِ وَالْآخَرِ فَسَادَهُ؛ لِأَنَّ الْغَالِبَ فَسَادُ الصَّرْفِ وَمِثْلُهُ السَّلَمُ. الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا اخْتَلَفَا فِي الْخِيَارِ وَالْبَتِّ فَالْقَوْلُ لِمُدَّعِي الْبَتِّ وَلَوْ مَعَ قِيَامِ السِّلْعَةِ إلَّا لِعُرْفٍ بِالْخِيَارِ. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: لَوْ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِ الثَّمَنِ أَوْ الْمُثَمَّنِ فَالْأَصْلُ الْبَقَاءُ إلَّا لِعُرْفٍ كَلَحْمٍ أَوْ بَقْلٍ بَانَ بِهِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: لَوْ اخْتَلَفَا فِي انْقِضَاءِ الْأَجَلِ الْمَضْرُوبِ لِقَبْضِ الثَّمَنِ فَالْقَوْلُ لِمَنْ ادَّعَى الْبَقَاءَ حَيْثُ فَاتَتْ السِّلْعَةُ وَأَشْبَهَ مُدَّعِيهِ، وَأَمَّا مَعَ قِيَامِهَا فَإِنَّهُمَا يَتَحَالَفَانِ وَيَتَفَاسَخَانِ. (وَإِذَا اخْتَلَفَ الْمُتَدَاعِيَانِ فِي شَيْءٍ) يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكًا لِكُلٍّ مِنْهُمَا وَادَّعَاهُ كُلٌّ لِنَفْسِهِ وَالْحَالُ أَنَّهُ مَحْبُوسٌ (بِأَيْدِيهِمَا) أَوْ لَا يَدَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَيْهِ أَوْ كَانَ بِيَدِ ثَالِثٍ لَمْ يَدَّعِهِ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُقَرِّبْهُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْهُمَا. (حَلَفَا وَقُسِمَ بَيْنَهُمَا) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَإِنْ حَلَفَ أَحَدُهُمَا دُونَ الْآخَرِ اخْتَصَّ بِهِ الْحَالِفُ، وَمَفْهُومُ بِأَيْدِيهِمَا لَوْ كَانَ بِيَدِ ثَالِثٍ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنْ يُقِرُّ لَهُ الْحَائِزُ وَلَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْمُتَدَاعِيَيْنِ، فَإِنْ لَمْ يُقِرَّ بِهِ لِأَحَدٍ وَادَّعَاهُ لِنَفْسِهِ فَإِنَّهُ يَحْلِفُ وَيَأْخُذُهُ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَدَّعِهِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُقْسَمُ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا قَامَ لِكُلٍّ بَيِّنَةٌ وَهُوَ بِيَدِ ثَالِثٍ لَمْ يَدَّعِهِ فَإِنَّهُ يَكُونُ لِمَنْ يُقِرُّ الْحَائِزُ لَهُ لَكِنْ بِيَمِينِهِ، وَقَوْلُهُ: قُسِمَ بَيْنَهُمَا يُشْعِرُ بِقِسْمَتِهِ نِصْفَيْنِ وَهُوَ وَاضِحٌ حَيْثُ كَانَ كُلٌّ يَدَّعِي جَمِيعَهُ لِنَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ ادَّعَى شَخْصٌ جَمِيعَهُ وَالْآخَرُ بَعْضَهُ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ كَالْعَوْلِ، فَإِذَا ادَّعَى أَحَدُهُمَا الْكُلَّ وَالْآخَرُ النِّصْفَ فَإِنَّهُ يُقْسَمُ عَلَى الثُّلُثِ وَالثُّلُثَيْنِ، وَكَيْفِيَّةُ الْعَمَلِ أَنْ يُزَادَ عَلَى الْكُلِّ قَدْرُ الْكَسْرِ الَّذِي يَدَّعِيهِ الْآخَرُ، فَيُزَادُ عَلَى الْكُلِّ النِّصْفُ فِي هَذِهِ الصُّورَةِ، وَيُنْسَبُ ذَلِكَ لِمَجْمُوعِ الْكُلِّ وَالْكَسْرِ وَبِتِلْكَ النِّسْبَةِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ، فَيَأْخُذُ مُدَّعِي النِّصْفِ الثُّلُثَ وَمُدَّعِي الْكُلِّ الثُّلُثَيْنِ، وَإِذَا ادَّعَى وَاحِدٌ الْكُلَّ وَوَاحِدٌ النِّصْفَ وَثَالِثٌ الثُّلُثَ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ أَقَلُّ عَدَدٍ يَشْتَمِلُ عَلَى تِلْكَ الْمَخَارِجِ وَهُوَ سِتَّةٌ، فَإِنَّ لَهَا النِّصْفَ وَالثُّلُثَ فَتُجْعَلُ لِمُدَّعِي الْكُلِّ وَيُزَادُ عَلَيْهَا مِثْلُ نِصْفِهَا وَثُلُثِهَا، وَبَعْدَ ذَلِكَ يُعْطَى لِمُدَّعِي الْكُلِّ سِتَّةٌ، وَلِمُدَّعِي النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ، وَلِمُدَّعِي الثُّلُثِ اثْنَانِ وَهَكَذَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُسِمَ عَلَى الدَّعْوَى إنْ لَمْ يَكُنْ بِيَدِ أَحَدِهِمَا، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا بَيِّنَةَ بِقَرِينَةٍ لِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَقَامَا بَيِّنَتَيْنِ) أَيْ أَقَامَ كُلٌّ بَيِّنَةً تَشْهَدُ لَهُ بِأَنَّ مَا بِأَيْدِيهِمَا مَعًا، أَوْ لَا يَدَ لِوَاحِدٍ حُدَّ عَلَيْهِ، أَوْ بَعِيدٌ ثَالِثٌ لَمْ يَدَّعِهِ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يَشْهَدْ بِهِ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْهُمَا، فَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْعَدَالَةِ (قُضِيَ بِأَعْدَلِهِمَا) مَعَ يَمِينِ مَنْ شَهِدَتْ لَهُ الزَّائِدَةُ فِي الْعَدَالَةِ أَنَّهُ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ بِوَجْهٍ إلَى الْآنَ وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْيَمِينُ؛ لِأَنَّ مُرِيدَ الْعَدَالَةِ بِمَنْزِلَةِ الشَّاهِدِ، وَكَمَا يُقْضَى بِأَعْدَلِهِمَا يُقْضَى بِالْمُؤَرَّخَةِ عَلَى غَيْرِهَا، وَبِالسَّابِقَةِ تَارِيخًا عَلَى غَيْرِهَا، وَبِالنَّاقِلَةِ عَلَى الْمُسْتَصْحَبَةِ، وَبِالْمُثْبِتَةِ عَلَى النَّافِيَةِ، وَبِالدَّاخِلَةِ عَلَى الْخَارِجَةِ، وَالْمُرَادُ بِالدَّاخِلَةِ بَيِّنَةُ وَاضِعِ الْيَدِ وَالْخَارِجَةِ بَيِّنَةُ غَيْرِهِ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ بِأَعْدَلِهِمَا أَنَّهُ يُقْضَى لِمُقِيمِ الْعَادِلَةِ دُونَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 اعْتَرَفَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ قَالَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ وَمَنْ قَالَ رَدَدْت إلَيْك مَا وَكَّلْتنِي عَلَيْهِ أَوْ عَلَى بَيْعِهِ أَوْ دَفَعْت إلَيْك ثَمَنَهُ أَوْ   [الفواكه الدواني] مُقِيمِ غَيْرِهَا (فَإِنْ اسْتَوَيَا) كَانَ الْوَاجِبُ اسْتَوَيَتَا أَيْ الْبَيِّنَتَانِ فِي الْعَدَالَةِ وَلَمْ يُوجَدْ مُرَجَّحٌ مِمَّا قَدَّمْنَا. (حَلَفَا وَكَانَ) الْمُتَنَازَعُ فِيهِ مَقْسُومًا (بَيْنَهُمَا) لِتَسَاقُطِهِمَا، وَفُهِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ الْمُرَجَّحَاتِ أَنَّهُ لَا تَرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الْعَدَدِ إلَّا أَنْ يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ لِإِفَادَتِهِ الْعِلْمَ حِينَئِذٍ [الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ التَّرْجِيحِ، شَرَعَ فِي أَحْكَامِ الرُّجُوعِ عَنْ الشَّهَادَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا رَجَعَ الشَّاهِدُ بَعْدَ) بَتِّ (الْحُكْمِ) بِشَهَادَتِهِ (أُغْرِمَ مَا أَتْلَفَ بِشَهَادَتِهِ إنْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ) بِأَنْ شَهِدَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ بِهِ (قَالَهُ أَصْحَابُ مَالِكٍ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: أُغْرِمَ أَنَّهُ لَا يُنْقَضُ الْحُكْمُ لِاحْتِمَالِ كَذِبِهِ فِي رُجُوعِهِ، وَإِنَّمَا أُغْرِمَ لِاعْتِرَافِهِ بِالْجِنَايَةِ عَلَى الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إنْ اعْتَرَفَ أَنَّهُ شَهِدَ بِزُورٍ لَيْسَ بِقَيْدٍ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، بَلْ لَوْ قَالَ شُبِّهَ عَلَيَّ، أَوْ قَالَ: رَجَعْت عَنْ شَهَادَتِي وَسَكَتَ مِنْ غَيْرِ بَيَانِ سَبَبِ الرُّجُوعِ فَإِنَّهُ يُغَرَّمُ، فَمَا مَشَى عَلَيْهِ طَرِيقَةٌ لِبَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ الْإِطْلَاقُ كَمَا قَرَّرْنَا، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: رَجَعَ بَعْدَ الْحُكْمِ عَنْ الرُّجُوعِ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ فَإِنَّهُ لَا يَغْرَمُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحُكْمُ بِالشَّهَادَةِ بَعْدَ الرُّجُوعِ عَنْهَا. قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ: وَغَرِمَا مَالًا وَدِيَةً وَلَوْ تَعَمَّدَا، وَإِذَا رَجَعَ أَحَدُهُمَا غُرِّمَ نِصْفَ الْحَقِّ، وَإِذَا كَانَ رُجُوعُهُمَا عَنْ شَهَادَةٍ بِقَتْلٍ فَإِنْ قَالَا: غَلِطْنَا فَالدِّيَةُ عَلَى عَاقِلَتِهِمَا، وَأَمَّا لَوْ قَالَا: تَعَمَّدْنَا فَالدِّيَةُ فِي أَمْوَالِهِمَا، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا أَتْلَفَ أَنَّ الشَّاهِدَ لَوْ لَمْ يُتْلِفْ شَيْئًا كَمَا لَوْ رَجَعَ عَنْ طَلَاقِ مَدْخُولٍ بِهَا أَوْ عَنْ عِتْقِ أُمِّ وَلَدٍ أَوْ عَنْ عَفْوٍ عَنْ قِصَاصٍ فَلَا غُرْمَ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُفَوِّتْ عَلَى الزَّوْجِ أَوْ سَيِّدِ أُمِّ الْوَلَدِ إلَّا الِاسْتِمْتَاعَ وَالْقِصَاصَ وَكُلٌّ مِنْهُمَا لَا قِيمَةَ لَهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا حُكْمَ الرُّجُوعِ بَعْدَ الْحُكْمِ وَاسْتِيفَاءُ مَا وَقَعَ بِهِ الْحُكْمُ وَحُكْمُ الرُّجُوعِ قَبْلَ الْحُكْمِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ مَا وَقَعَ بِهِ الْحُكْمُ فَلَمْ يَذْكُرْهُ، وَذَكَرَ فِيهِ صَاحِبُ التَّوْضِيحِ تَفْصِيلًا بِقَوْلِهِ: فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ بِمَالٍ مَضَى اتِّفَاقًا، وَإِنْ كَانَ بِقِصَاصٍ أَوْ حَدٍّ فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: يَمْضِي كَمَا فِي الْحُكْمِ بِالْمَالِ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ الْقَاسِمِ: لَا يَمْضِي وَلَا يُسْتَوْفَى الدَّمُ لِحُرْمَتِهِ وَتَجِبُ الدِّيَةُ، وَرَجَعَ إلَى هَذَا ابْنُ الْقَاسِمِ وَاسْتَحْسَنَهُ وَالْقِيَاسُ الْأَوَّلُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الرُّجُوعَ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ أَدَاءِ الشَّهَادَةِ وَقَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا وَفِي هَذِهِ لَا يَجُوزُ الْحُكْمُ اتِّفَاقًا. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَالِاسْتِيفَاءِ وَفِي هَذِهِ يَمْضِي الْحُكْمُ وَلَا يُنْتَقَضُ اتِّفَاقًا. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ بَعْدَ الْحُكْمِ وَقَبْلَ اسْتِيفَاءِ الْمَحْكُومِ بِهِ فَيَمْضِي فِي الْمَالِ اتِّفَاقًا وَفِي الْحُدُودِ الْخِلَافُ السَّابِقُ. الثَّانِي: الشَّاهِدُ الرَّاجِعُ عَنْ شَهَادَتِهِ يَسْتَحِقُّ الْعُقُوبَةَ بِمَا يَرَاهُ الْإِمَامُ، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ شَهَادَةٌ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَوْ تَابَ وَحَسُنَتْ حَالَتُهُ عَلَى أَشْهَرِ الْقَوْلَيْنِ. [أَحْكَام الْوَكَالَة] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الْوَكَالَةِ وَغَيْرِهَا، وَالْوَكَالَةُ بِفَتْحِ الْوَاوِ وَكَسْرِهَا التَّفْوِيضُ وَحَقِيقَتُهَا عُرْفًا كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ نِيَابَةُ ذِي حَقٍّ غَيْرِ ذِي إمْرَةٍ، وَلَا عِبَادَةَ لِغَيْرِهِ فِيهِ غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ بِمَوْتِهِ، فَتُخْرِجُ نِيَابَةُ إمَامِ الطَّاعَةِ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا أَوْ صَاحِبَ صَلَاةٍ وَالْوَصِيَّةَ؛ لِأَنَّ الثَّلَاثَةَ الْأُوَلَ إنَّمَا يُقَالُ لَهَا نِيَابَةٌ لَا وَكَالَةٌ، وَقَوْلُهُ: غَيْرَ مَشْرُوطَةٍ بِمَوْتِهِ خَرَجَتْ الْوَصِيَّةُ وَحُكْمُ الْوَكَالَةِ الْجَوَازُ مِنْ الْجَانِبَيْنِ، وَعَقْدُهَا مُنْحَلٌّ قِيلَ مُطْلَقًا وَقِيلَ إلَّا أَنْ يَقَعَ بِأُجْرَةٍ أَوْ جُعْلٍ فَكَّهُمَا وَإِلَّا لَمْ تَلْزَمْ، دَلَّ عَلَى جَوَازِهَا الْكِتَابُ: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وَالسُّنَّةُ مِنْ «تَوْكِيلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَبَا رَافِعٍ وَرَجُلًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَلَى تَزْوِيجِ مَيْمُونَةَ» ، وَالْإِجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهَا، وَأَرْكَانُهَا: الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ وَالْمُوَكَّلُ فِيهِ وَالصِّيغَةُ، فَالْمُوَكِّلُ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ يَجُوزُ لَهُ التَّصَرُّفُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى إذْنٍ مِنْ غَيْرِهِ، فَيَخْرُجُ الْمَحْجُورُ لِصِبًا أَوْ سَفَهٍ أَوْ رِقٍّ، فَلَا يَصِحُّ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ إلَّا الصَّغِيرَةُ فِي لَوَازِمِ الْعِصْمَةِ، وَإِلَّا الصَّبِيُّ وَالسَّفِيهُ فِي الدَّعْوَى عَلَى شَخْصٍ بِحَقٍّ لَهُمَا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَإِلَّا تَوَكَّلَ الرَّقِيقُ لِمَنْ يَشْتَرِيهِ مِنْ سَيِّدِهِ، وَالْوَكِيلُ قَالَ فِي الْجَوَاهِرِ: مَنْ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَرَّفَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنُوبَ عَنْ غَيْرِهِ فِيهِ إذَا كَانَ مِمَّا يَقْبَلُ النِّيَابَةَ وَلَمْ يَكُنْ مَا يَمْنَعُ مِنْهَا، فَلَا يَصِحُّ تَوْكِيلُ عَدُوِّ شَخْصٍ عَلَى قَضَاءِ دَيْنٍ مِنْهُ، وَلَا تَوْكِيلُ ذِمِّيٍّ عَلَى مُسْلِمٍ كَمَا يَفْعَلُهُ ظَلَمَةُ مِصْرَ مِنْ تَوْكِيلِ النَّصَارَى عَلَى قَبْضِ الْخَرَاجِ مِنْ الْمُسْلِمِ فَهَذَا حَرَامٌ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَلَا تَوْكِيلُ مَحْجُورٍ لِسَفَهٍ أَوْ رِقٍّ أَوْ صِبًا؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَصَرَّفُونَ فِي أَمْوَالِهِمْ إلَّا بِإِذْنٍ فَكَيْفَ يَتَصَرَّفُونَ فِي مَالِ غَيْرِهِمْ؟ وَأَجَازَ اللَّخْمِيُّ تَوْكِيلَهُمْ. وَالْمُوَكَّلُ فِيهِ شَرْطُهُ أَنْ يَكُونَ قَابِلَ النِّيَابَةِ، قَالَ خَلِيلٌ: صِحَّةُ الْوَكَالَةِ فِي قَابِلِ النِّيَابَةِ مِنْ عَقْدٍ وَفَسْخٍ وَقَبْضِ حَقٍّ وَإِبْرَاءٍ وَإِنْ جَهِلَهُ الثَّلَاثَةُ، وَالصِّيغَةُ هِيَ كُلُّ مَا دَلَّ عُرْفًا عَلَى جَعْلِ التَّصَرُّفِ لِغَيْرِهِ مَعَ قَبُولِ الْمُفَوَّضِ لَهُ، قِيلَ عَلَى الْفَوْرِ، وَقِيلَ يُرْجَعُ فِيهِ إلَى الْعَادَةِ فَقَالَ: (وَمَنْ قَالَ) لِمَنْ وَكَّلَهُ عَلَى دَفْعِ شَيْءٍ لِشَخْصٍ (رَدَدْت إلَيْك مَا وَكَّلْتنِي عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى دَفْعِهِ مِثَالُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 وَدِيعَتَك أَوْ قِرَاضَك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ: دَفَعْت إلَى فُلَانٍ كَمَا أَمَرْتنِي فَأَنْكَرَ فُلَانٌ فَعَلَى الدَّافِعِ الْبَيِّنَةُ وَإِلَّا ضَمِنَ وَكَذَلِكَ عَلَى وَلِيِّ الْأَيْتَامِ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ أَوْ دَفَعَ إلَيْهِمْ وَإِنْ كَانُوا فِي حَضَانَتِهِ صُدِّقَ فِي النَّفَقَةِ فِيمَا يُشْبِهُ وَالصُّلْحُ   [الفواكه الدواني] أَنْ يُوَكِّلَهُ عَلَى دَفْعِ دَيْنٍ لِزَيْدٍ ثُمَّ لَمْ يَجِدْهُ فَرَدَّهُ لِمُوَكِّلِهِ فَنَازَعَهُ الْمُوَكِّلُ فَيُقْبَلُ قَوْلُ الْوَكِيلِ فِي رَدِّهِ؛ لِأَنَّهُ أَمِينٌ (أَوْ) قَالَ إنْ وَكَّلَهُ عَلَى بَيْعِ سِلْعَةٍ رَدَدْت إلَيْك مَا وَكَّلْتنِي (عَلَى بَيْعِهِ) لِتَعَذُّرِ بَيْعِهِ (أَوْ) قَالَ بِعْته وَ (دَفَعْت إلَيْك ثَمَنَهُ) فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ (أَوْ) قَالَ مَنْ عِنْدَهُ وَدِيعَةٌ لِشَخْصٍ لِصَاحِبِهَا: أَنَا رَدَدْت إلَيْك (وَدِيعَتَك) فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصُدِّقَ فِي الرَّدِّ كَالْمُودِعِ فَلَا يُؤَخَّرُ لِلْإِشْهَادِ وَالضَّمِيرُ فِي صُدِّقَ لِلْوَكِيلِ (أَوْ) قَالَ عَامِلُ الْقِرَاضِ لِرَبِّ الْمَالِ: رَدَدْت إلَيْك (قِرَاضَك فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ) رَاجِعٌ لِكُلِّ مَنْ سَبَقَ فَهُوَ مَحْذُوفٌ مِنْ الْفُرُوعِ السَّابِقَةِ لِدَلَالَةِ الْأَخِيرِ عَلَيْهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِ الْوَكِيلِ وَالْمُودِعِ وَعَامِلِ الْقِرَاضِ، وَإِنَّمَا قُبِلَ قَوْلُ مَنْ ذُكِرَ فِي الرَّدِّ؛ لِأَنَّهُمْ مُؤْتَمَنُونَ، وَالْقَاعِدَةُ أَنَّ كُلَّ مَنْ يُصَدَّقُ فِي دَعْوَى الضَّيَاعِ أَوْ التَّلَفِ يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ، وَشَرْطُ قَبُولِ قَوْلِ مَنْ ذُكِرَ فِي دَعْوَى الرَّدِّ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ قَبْضُهُ بِبَيِّنَةٍ مَقْصُودَةٍ لِلتَّوَثُّقِ، وَإِلَّا فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ فِي الرَّدِّ إلَّا بِبَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ عَلَى الرَّدِّ. قَالَ خَلِيلٌ فِي الْقِرَاضِ: وَالْقَوْلُ لِلْعَامِلِ فِي تَلَفِهِ وَخَسْرِهِ وَرَدِّهِ إنْ قَبَضَ بِلَا بَيِّنَةٍ، وَالْمُرَادُ بِبَيِّنَةِ التَّوَثُّقِ هِيَ الَّتِي يَشْهَدُهَا خَوْفَ دَعْوَى الرَّدِّ أَوْ الْجَحْدِ وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الرَّدِّ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَالَ) لِمَنْ وَكَّلَهُ عَلَى دَفْعِ مَالٍ لِشَخْصٍ فِي دَيْنٍ لَهُ أَوْ فِي صَدَقَةٍ أَوْ وَدِيعَةٍ (دَفَعْت إلَى فُلَانٍ) الَّذِي بَعَثْتنِي إلَيْهِ (كَمَا أَمَرْتنِي فَأَنْكَرَ فُلَانٌ) الْمَدْفُوعُ لَهُ (فَعَلَى الدَّافِعِ) إحْضَارُ (الْبَيِّنَةِ) الَّتِي تَشْهَدُ لَهُ بِالدَّفْعِ (وَإِلَّا ضَمِنَ) لِتَقْصِيرِهِ بِعَدَمِ الْإِشْهَادِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَ إنْ أَقَبْضَ الدَّيْنَ وَلَمْ يُشْهِدْ، وَلَا مَفْهُومَ لِلدَّيْنِ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ كَانَ الْوَكِيلُ مُفَوَّضًا أَمْ لَا، كَانَتْ الْعَادَةُ الْإِشْهَادَ أَمْ لَا، وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، وَمَحَلُّ الضَّمَانِ مَا لَمْ يَكُنْ الدَّفْعُ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ وَإِلَّا فَلَا ضَمَانَ؛ لِأَنَّ التَّفْرِيطَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إنَّمَا هُوَ مِنْ الْمُوَكِّلِ؛ لِأَنَّ الْمَالَ لَهُ، وَمَفْهُومُ فَأَنْكَرَ أَنَّ الْمَدْفُوعَ لَهُ لَوْ اعْتَرَفَ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَكِنْ ادَّعَى أَنَّهُ ضَاعَ مِنْهُ فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى الْوَكِيلِ وَمُصِيبَةُ الْمَالِ مِمَّنْ هُوَ لَهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِ الْإِشْهَادِ عَلَى الدَّافِعِ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ وَلِيِّ الْأَيْتَامِ وَغَيْرِهِ. (فُرُوعٌ تَتَعَلَّقُ بِالْوَكِيلِ) الْأَوَّلُ: الْوَكِيلُ عَلَى الْخِصَامِ لَا يَكُونُ إلَّا وَاحِدًا، بِخِلَافِ وَكِيلِ نَحْوِ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ، وَلَكِنْ لَا يَتَصَرَّفُ كُلُّ وَاحِدٍ إلَّا بِإِذْنِ الْآخَرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكِّلُ شَرَطَ لِكُلِّ وَاحِدٍ الِاسْتِقْلَالَ بِالتَّصَرُّفِ أَوْ يَكُونَ وَكَّلَ وَاحِدًا بَعْدَ وَاحِدٍ فَلِكُلٍّ الِاسْتِقْلَالُ وَلَوْ وَكَّلَ الثَّانِيَ مَعَ عِلْمِهِ بِالْأَوَّلِ. الْفَرْعُ الثَّانِي: إذَا تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ بِفِعْلِ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ وَتَصَرَّفَ الْمُوَكِّلُ فِيهِ أَيْضًا فَالْعِبْرَةُ بِالسَّابِقِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ بِعْت وَبَاعَ فَالْأَوَّلُ لَا يَقْبِضُ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بِتَصَرُّفِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا بِخِلَافِ تَصَرُّفِ الْوَكِيلَيْنِ الْمُسْتَقِلَّيْنِ بِالتَّصَرُّفِ، فَالْمُعْتَبَرُ تَصَرُّفُ الْأَوَّلِ مُطْلَقًا. الْفَرْعُ الثَّالِثُ: لَوْ تَصَرَّفَ الْوَكِيلُ وَالْمُوَكِّلُ أَوْ الْوَكِيلَانِ الْمُسْتَقِلَّانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ أَوْ مُتَرَتِّبٍ وَلَكِنْ جُهِلَ الزَّمَنُ اشْتَرَكَا إنْ كَانَ الْمُوَكَّلُ فِيهِ يُمْكِنُ الِاشْتِرَاكُ فِيهِ كَالْبَيْعِ. الْفَرْعُ الرَّابِعُ: الْوَكِيلُ يَنْعَزِلُ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ وَلَوْ مُفَوَّضًا حَيْثُ عَلِمَ بِمَوْتِ الْمُوَكِّلِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَعْلَمْ فَتَأْوِيلَانِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِمَا لَوْ بَاعَ أَوْ اشْتَرَى فَعَلَى الْعَزْلِ لَا يَلْزَمُ الْوَارِثَ وَيَلْزَمُ الْوَكِيلَ الْبَيْعُ أَوْ الشِّرَاءُ، وَعَلَى عَدَمِ الْعَدْلِ يَلْزَمُ الْوَارِثَ. الْفَرْعُ الْخَامِسُ: الْوَكِيلُ إنْ كَانَ مُفَوَّضًا فَيَجُوزُ لَهُ تَوْصِيلُ غَيْرِهِ مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ، وَإِنْ كَانَ خَاصًّا كَالْوَكِيلِ عَلَى نَحْوِ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ فَقَطْ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُوَكِّلَ غَيْرَهُ بِغَيْرِ إذْنِ الْمُوَكِّلِ وَرِضَاهُ إلَّا فِي مَوْضِعَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ الْوَكِيلُ لَا يَلِيقُ بِهِ فِعْلُ الْمُوَكَّلِ عَلَيْهِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ الْمُوَكَّلُ عَلَيْهِ شَيْئًا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ الْوَكِيلُ عَلَى فِعْلِ جَمِيعِهِ. الْفَرْعُ السَّادِسُ: وَكِيلُ الْبَيْعِ أَوْ الشِّرَاءِ لَا يَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ لِنَفْسِهِ وَلَا الْبَيْعُ مِنْ نَفْسِهِ وَمَحْجُورُهُ كَوَلَدِهِ الصَّغِيرِ أَوْ السَّفِيهِ بِمَنْزِلَتِهِ لِاتِّهَامِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِحَضْرَةِ الْمُوَكِّلِ أَوْ يُسَمِّي لَهُ الثَّمَنَ، فَيَجُوزُ لَهُ شِرَاءُ مَا وُكِّلَ عَلَى بَيْعِهِ بَعْدَ تَنَاهِي الرَّغَبَاتِ فِيهِ لَكِنْ عَلَى غَيْرِ مَرْضِيٍّ ابْنُ عَرَفَةَ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْحَرَامِ: وَبَيْعُهُ لِنَفْسِهِ وَمَحْجُورِهِ بِخِلَافِ زَوْجَتِهِ وَرَقِيقِهِ إنْ لَمْ يُجَبْ. الْفَرْعُ السَّابِعُ: يَجِبُ عَلَى الْوَكِيلِ الْخَاصِّ أَوْ الْمُفَوَّضِ فِعْلُ مَا فِيهِ الْمَصْلَحَةُ، فَمَا لَا مَصْلَحَةَ فِيهِ مَعْزُولٌ عَنْهُ بِأَنْ زَادَ فِي شِرَاءِ السِّلْعَةِ أَوْ نَقَصَ فِي بَيْعِهَا مَا لَهُ بَالٌ وَتَلْزَمُ السِّلْعَةُ الْوَكِيلَ إلَّا أَنْ يَرْضَى بِهِ الْمُوَكِّلُ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَلَا بِغَبْنٍ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ فِي غَيْرِ الْوَكِيلِ وَالْوَصِيِّ، وَمَسَائِلُ الْبَابِ كَثِيرَةٌ تُطْلَبُ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ. ثُمَّ شُبِّهَ فِي لُزُومِ الْبَيِّنَةِ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ) يَجِبُ (عَلَى وَلِيِّ الْأَيْتَامِ) كَالْوَصِيِّ إقَامَةُ (الْبَيِّنَةِ) عِنْدَ الْمُنَازَعَةِ فِي أَصْلِ الصَّرْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 جَائِزٌ إلَّا مَا جَرَّ إلَى حَرَامٍ وَيَجُوزُ عَلَى الْإِقْرَارِ وَالْإِنْكَارِ وَالْأَمَةُ الْغَارَّةُ تَتَزَوَّجُ عَلَى إنَّهَا حُرَّةٌ فَلِسَيِّدِهَا أَخْذُهَا وَأَخْذُ   [الفواكه الدواني] (أَنَّهُ أَنْفَقَ عَلَيْهِمْ) إذْ لَمْ يَكُونُوا حِينَ الْإِنْفَاقِ فِي حَضَانَتِهِ. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ إذَا نَازَعُوهُ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَرُشْدِهِمْ إقَامَةُ الْبَيِّنَةِ أَنَّهُ (دَفَعَ إلَيْهِمْ) أَمْوَالَهُمْ فَإِنْ لَمْ يُقِمْ بَيِّنَةً لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] قَالَ مَالِكٌ: لِئَلَّا تَضْمَنُوا، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْمُدَوَّنَةِ طَالَ الزَّمَانُ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ وَشَدَّهُمْ أَمْ لَا، وَمُقَابِلُهُ لِمَالِكٍ فِي الْمَوَّازِيَّةِ قَبُولُ قَوْلِهِ بِيَمِينِهِ إنْ طَالَ الزَّمَانُ كَعِشْرِينَ سَنَةً، وَحَمَلْنَا الْكَلَامَ السَّابِقَ عَلَى مَا إذَا لَمْ يَكُنْ فِي حَضَانَتِهِ لِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانُوا) حِينَ الْمُنَازَعَةِ (فِي حَضَانَتِهِ) وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَصْلِ الْإِنْفَاقِ أَوْ قَدْرِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِمْ. (صُدِّقَ فِي) شَأْنِ (النَّفَقَةِ فِيمَا يُشْبِهُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَالْقَوْلُ لَهُ فِي قَدْرِ النَّفَقَةِ أَيْ فِي شَأْنِهَا لِيَشْمَلَ مَا إذَا نَازَعُوهُ فِي أَصْلِ الْإِنْفَاقِ أَوْ فِي قَدْرِ الْمُنْفَقِ لَكِنْ بِيَمِينٍ حَيْثُ أَشْبَهَ، وَمِثْلُ كَوْنِهِمْ فِي حَضَانَتِهِ كَوْنُهُمْ فِي حَضَانَةِ أُمِّهِمْ وَهِيَ فَقِيرَةٌ وَظَهَرَ أَثَرُ الْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمْ، وَمِثْلُ الْوَصِيِّ مُقَدَّمٌ الْقَاضِي وَالْحَاضِنُ وَالْكَافِلُ، وَأَمَّا لَوْ نَازَعُوهُ فِي تَارِيخِ الْمَوْتِ أَوْ فِي دَفْعِ الْمَالِ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَالرُّشْدِ فَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَلَا بُدَّ مِنْ بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ لَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا فِي تَارِيخِ الْمَوْتِ وَلَا فِي دَفْعِ مَالِهِ بَعْدَ بُلُوغِهِ أَيْ وَرُشْدِهِ، وَأَفْهَمَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: صُدِّقَ فِي النَّفَقَةِ أَنَّهُ لَوْ ادَّعَى أَنَّهُ دَفَعَ إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ زَمَنَ كَوْنِهِمْ فِي حَضَانَتِهِ وَقَبْلَ بُلُوغِهِمْ وَرُشْدِهِمْ لَا يُصَدَّقُ وَلَوْ أَقَامَ بَيِّنَةً عَلَى الدَّفْعِ حَيْثُ أَتْلَفُوهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُمَكِّنَهُمْ مِنْ شَيْءٍ قَبْلَ رُشْدِهِمْ سِوَى النَّفَقَةِ بِالْمَعْرُوفِ. [حُكْمِ الصُّلْحِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا أَرَادَ مِنْ مَسَائِلِ الْوَكَالَةِ وَالْوَصِيِّ، شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ الصُّلْحِ وَهُوَ لُغَةً قَطْعُ الْمُنَازَعَةِ، وَاصْطِلَاحًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ أَوْ دَعْوَى بِعِوَضٍ لِرَفْعِ نِزَاعٍ أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ، فَقَوْلُهُ: انْتِقَالٌ عَنْ حَقٍّ يَدْخُلُ فِيهِ الْإِقْرَارُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ دَعْوَى يَدْخُلُ فِيهِ صُلْحُ الْإِنْكَارِ، وَبِعِوَضٍ مُتَعَلِّقٌ بِانْتِقَالٍ يَخْرُجُ بِهِ الِانْتِقَالُ بِغَيْرِ عِوَضٍ فَلَا يُسَمَّى صُلْحًا، وَقَوْلُهُ: لِرَفْعِ نِزَاعٍ يَخْرُجُ بِهِ بَيْعُ الدَّيْنِ وَنَحْوُهُ، وَقَوْلُهُ: أَوْ خَوْفِ وُقُوعِهِ يَدْخُلُ فِيهِ الصُّلْحُ يَكُونُ عَنْ إقْرَارٍ وَإِنْكَارٍ لِصِدْقِ الْحَدِّ عَلَى كُلٍّ مِنْهُمَا، وَلَا يُقَالُ: يَخْرُجُ الصُّلْحُ عَنْ السُّكُوتِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: السُّكُوتُ حُكْمُ الْإِقْرَارِ وَحُكْمُهُ مِنْ حَيْثُ ذَاتُهُ النَّدْبُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الأنفال: 1] . {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] . وَقَالَ تَعَالَى: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114] . فَقَالَ: (وَالصُّلْحُ جَائِزٌ) جَوَازًا رَاجِحًا؛ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَيْهِ، وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِلَفْظِ جَائِزًا لِمُوهِمِ الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي لِأَجْلِ الِاسْتِثْنَاءِ بِقَوْلِهِ (إلَّا مَا جَرَّ إلَى حَرَامٍ) وَهَذَا بَعْضُ حَدِيثٍ وَلَفْظُهُ: قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصُّلْحُ جَائِزٌ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ إلَّا صُلْحًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا، وَالْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ إلَّا شَرْطًا حَرَّمَ حَلَالًا أَوْ أَحَلَّ حَرَامًا» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، مِثَالُ الصُّلْحِ الَّذِي جَرَّ إلَى حَرَامٍ الصُّلْحُ عَنْ الدَّيْنِ الشَّرْعِيِّ بِخَمْرٍ أَوْ خِنْزِيرٍ، وَكَالصُّلْحِ عَنْ الذَّهَبِ الْمُؤَجَّلِ بِالْوَرِقِ وَلَوْ عَلَى الْحُلُولِ، وَمِثَالُ الَّذِي حَرَّمَ حَلَالًا الصُّلْحُ عَنْ ثَوْبٍ بِسِلْعَةٍ بِشَرْطِ أَلَّا يَنْتَفِعَ بِهَا أَوْ بِثَمَرٍ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ لَا عَلَى شَرْطِ الْجَذِّ. (وَيَجُوزُ) الصُّلْحُ (عَلَى الْإِقْرَارِ) وَيَكُونُ تَارَةً بَيْعًا إنْ وَقَعَ عَلَى أَخْذِ غَيْرِ الْمُقَرِّ بِهِ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ عَرْضٌ أَوْ حَيَوَانٌ وَيُصَالَحُ عَنْهَا بِدَرَاهِمَ، وَتَارَةً يَكُونُ إجَارَةً وَذَلِكَ كَأَنْ يَكُونَ لَهُ عَلَيْهِ ذَاتٌ مُعَيَّنَةٌ كَثَوْبٍ أَوْ عَبْدٍ فَيُصَالِحُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَنَافِعِ دَارٍ مُدَّةً مِنْ الزَّمَانِ، وَتَارَةً يَكُونُ هِبَةً وَذَلِكَ كَمَا إذَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مِائَةٌ فَصَالَحَهُ عَنْهَا بِخَمْسِينَ وَهَذَا فِي الْحَقِيقَةِ إبْرَاءٌ. قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ مُشِيرًا إلَى تِلْكَ الْأَحْوَالِ بِقَوْلِهِ: الصُّلْحُ عَلَى غَيْرِ الْمُدَّعَى بِهِ بَيْعُ إجَارَةٍ، وَعَلَى بَعْضِهِ هِبَةٌ، وَيَجُوزُ عَنْ الدَّيْنِ بِمَا يُبَاعُ بِهِ، فَإِنْ كَانَ غَرَضًا جَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ وَلَوْ بِعَيْنٍ حَالَّةٍ، وَإِنْ كَانَ عَيْنًا جَازَ الصُّلْحُ عَنْهُ بِعَرْضٍ حَالٍّ وَعَنْ الذَّهَبِ بِالْوَرِقِ، وَعَكْسُهُ حَيْثُ خَلَا وَعَجَّلَ الْمُصَالِحُ بِهِ. (وَ) يَجُوزُ الصُّلْحُ أَيْضًا عَلَى (الْإِنْكَارِ) وَعَلَى مُقْتَضَى السُّكُوتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الِاقْتِدَاءِ مِنْ يَمِينٍ أَوْ السُّكُوتِ أَوْ الْإِنْكَارِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ إذَا تَوَجَّهَتْ يَمِينٌ عَلَى شَخْصٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَفْتَدِيَ مِنْهَا بِالْمَالِ وَلَوْ عَلِمَ بَرَاءَةَ نَفْسِهِ عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، خِلَافًا لِمَنْ أَتَمَّهُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَجَوَازُ الصُّلْحِ عَنْ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ إنَّمَا هُوَ بِالنَّظَرِ إلَى الْعَقْدِ، وَأَمَّا بِاعْتِبَارِ الْبَاطِنِ بِحَيْثُ يَحِلُّ تَنَاوُلُ مَا وَقَعَ بِهِ الصُّلْحُ، فَإِنْ كَانَ الصَّادِقُ الْمُنْكِرَ فَالْمَأْخُوذُ مِنْهُ حَرَامٌ وَإِلَّا فَحَلَالٌ. وَاعْلَمْ أَنَّ جَوَازَ الصُّلْحِ عَنْ السُّكُوتِ أَوْ الْإِنْكَارِ وَيَدْخُلُ فِيهِ الِافْتِدَاءُ مِنْ الْيَمِينِ بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَهِيَ: جَوَازُهُ عَلَى دَعْوَى الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَعَلَى ظَاهِرِ الْحُكْمِ بِأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ تُهْمَةُ فَسَادٍ، وَالْأَمْثِلَةُ وَمَذَاهِبُ الْمُخَالِفِينَ تُطْلَبُ مِنْ الْمُطَوَّلَاتِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 قِيمَةِ الْوَلَدِ يَوْمَ الْحُكْمِ لَهُ وَمَنْ اسْتَحَقَّ أَمَةً قَدْ وَلَدَتْ فَلَهُ قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ الْوَلَدِ يَوْمَ الْحُكْمِ وَقِيلَ يَأْخُذُهَا وَقِيمَةُ الْوَلَدِ   [الفواكه الدواني] خَاتِمَةٌ) إذَا وَقَعَ الصُّلْحُ مُسْتَوْفِيًا لِشُرُوطِهِ كَانَ لَازِمًا وَلَا يَجُوزُ تَعَقُّبُهُ وَلَوْ ظَهَرَ الْمُصَالَحُ عَنْهُ وَيَمْلِكُهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مُتَّهَمًا بِسَرِقَتِهِ وَيُوجَدُ عِنْدَهُ فَإِنَّهُ يَأْخُذُهُ مَالِكُهُ وَيُنْقَضُ الصُّلْحُ، كَمَا يُنْقَضُ إذَا أَقَرَّ الظَّالِمُ بِبُطْلَانِ دَعْوَاهُ بَعْدَ وُقُوعِ الصُّلْحِ، فَإِنَّ لِلْمَظْلُومِ نَقْضُهُ بِلَا خِلَافٍ، أَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمَظْلُومِ لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ بِهَا، أَوْ اشْهَدُوا عَلَى أَنَّهُ يَقُومُ بِهَا، أَوْ وَجَدَ وَثِيقَةً بَعْدَهُ فَلَهُ نَقْضُهُ كَمَنْ لَمْ يُعْلِنْ أَوْ يُقِرَّ سِرًّا فَقَطْ عَلَى الْأَحْسَنِ كَمَا نَصَّ عَلَى ذَلِكَ خَلِيلٌ، وَالشَّيْءُ الْمُصَالَحُ بِهِ يَحِلُّ لِمَنْ أَخَذَهُ إنْ كَانَ مُحِقًّا فِي دَعْوَاهُ وَلَا يَحِلُّ لَهُ إنْ كَانَ ظَالِمًا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الصُّلْحِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْأَمَةِ الْغَارَّةِ لِزَوْجِهَا بِقَوْلِهِ: (وَالْأَمَةُ الْغَارَّةُ) تَدْعُو رَجُلًا (تَتَزَوَّجُ) هـ (عَلَى) شَرْطِ (أَنَّهَا حُرَّةٌ) فَتَزَوَّجَهَا وَوَلَدَتْ مِنْهُ ثُمَّ ظَهَرَ أَنَّهَا أَمَةٌ لِشَخْصٍ لَا يُعْتَقُ وَلَدُهَا عَلَيْهِ (فَلِسَيِّدِهَا أَخْذُهَا) وَلَهُ إبْقَاؤُهَا زَوْجَةً إنْ كَانَ أَذِنَ لَهَا فِي النِّكَاحِ وَفِي اسْتِخْلَافِ رَجُلٍ يَعْقِدُ عَلَيْهَا، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إذْنٌ بِالنِّكَاحِ أَوْ أَذِنَ لَهَا وَلَمْ يَأْذَنْ فِي اسْتِخْلَافِهَا مَنْ يَعْقِدُ نِكَاحَهَا لَتَحَتَّمَ فَسْخُ نِكَاحِهَا. (وَ) يَجِبُ لَهُ (أَخْذُ قِيمَةِ الْوَلَدِ) مِنْ أَبِيهِ دُونَ مَالِهِ لِتَخَلُّقِهِ عَلَى الْحُرِّيَّةِ. وَتُعْتَبَرُ الْقِيمَةُ. (يَوْمَ الْحُكْمِ لَهُ) بِهَا قَالَ خَلِيلٌ: وَوَلَدُ الْمَغْرُورِ الْحُرِّ فَقَطْ حُرٌّ، وَعَلَيْهِ الْأَقَلُّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ، وَقِيمَةُ الْوَلَدِ دُونَ مَالِهِ يَوْمَ الْحُكْمِ إلَّا لِكَجَدِّهِ وَلَا وَلَاءَ لَهُ، وَالْأَمَةُ الْغَارَّةُ لَا فَرْقَ فِيهَا بَيْنَ الْقِنَّةِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَأُمِّ الْوَلَدِ، لَكِنْ قِيمَةُ الْوَلَدِ تَخْتَلِفُ، فَوَلَدُ الْقِنَّةِ تُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ عَلَى أَنَّهُ رَقِيقٌ، وَكَذَا وَلَدُ الْمُكَاتَبَةِ، بِخِلَافِ وَلَدِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ فَتُقَوَّمُ عَلَى الْغَرَرِ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى الْغَرَرِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُدَبَّرَةِ وَسَقَطَتْ بِمَوْتِهِ وَالْأَقَلُّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ دِيَتُهُ إنْ قُتِلَ أَوْ غَرَّتْهُ أَوْ مَا نَقَصَهَا أَنَّ الْقِنَّةَ كَجُرْحِهِ، وَلِعَدَمِهِ تُؤْخَذُ مِنْ الِابْنِ، وَلَا يُؤْخَذُ مِنْ وَلَدٍ مِنْ أَوْلَادِهِ إلَّا قِسْطُهُ، وَوُقِفَتْ قِيمَةُ وَلَدِ الْمُكَاتَبَةِ فَإِنْ أَدَّتْ رَجَعَتْ إلَى الْأَبِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ لُزُومَ قِيمَةِ الْوَلَدِ عَامٌّ فِي غُرُورِهَا أَوْ غُرُورِ سَيِّدِهَا أَوْ الْأَجْنَبِيِّ الَّذِي تَوَلَّى نِكَاحَهَا، وَفِي النِّكَاحِ الصَّحِيحِ وَالْفَاسِدِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ مَا يَجِبُ لِلْأَمَةِ عَلَى الزَّوْجِ الْمَغْرُورِ، وَتَقَدَّمَ فِي كَلَامِ خَلِيلٍ أَنَّ لَهَا الْأَقَلَّ مِنْ الْمُسَمَّى وَمِنْ صَدَاقِ الْمِثْلِ حَيْثُ كَانَ الْغُرُورُ مِنْهَا وَاخْتَارَ الزَّوْجُ فِرَاقَهَا، وَأَمَّا إنْ اخْتَارَ الْبَقَاءَ عَلَى نِكَاحِهَا فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الْمُسَمَّى، وَلَوْ زَادَ عَلَى صَدَاقِ الْمِثْلِ عَلَى مَا يُفِيدُهُ كَلَامُ الْأُمِّ قَالَ الْعَوْفِيُّ: وَوَجْهُهُ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُتَمَكِّنًا مِنْ رَدِّهَا فَلَيْسَ لَهُ التَّمَاسُكُ بِهَا إلَّا بِجَمِيعِ الْمُسَمَّى، كَمَنْ اشْتَرَى سِلْعَتَيْنِ فِي صَفْقَةٍ وَاطَّلَعَ عَلَى عَيْبٍ بِإِحْدَاهُمَا وَهُوَ وَجْهُ الصَّفْقَةِ وَقَدْ فَاتَتْ الْأُخْرَى وَلَيْسَ وَجْهَ الصَّفْقَةِ، فَلَهُ الْخِيَارُ بَيْنَ التَّمَاسُكِ بِالْبَاقِي بِجَمِيعِ الثَّمَنِ أَوْ يَرُدُّهُ وَيَرُدُّ قِيمَةَ التَّالِفِ اُنْظُرْ الطِّخِّيخِيَّ، زَادَ الْأُجْهُورِيُّ عَقِبَهُ: وَإِنْ اخْتَارَ إمْسَاكَهَا فَلِيَسْتَبْرِئهَا؛ لِأَنَّهُ الْمَاءُ السَّابِقُ عَلَى الْإِجَارَةِ الْوَلَدُ فِيهِ حُرٌّ وَالْمُتَأَخِّرُ عَنْهَا رَقِيقٌ، وَجَوَازُ إمْسَاكِهَا بِشُرُوطٍ ثَلَاثَةٍ: خَوْفُ الْعَنَتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدَّوَامَ كَالِابْتِدَاءِ، وَعَدَمُ الطَّوْلِ، وَوُقُوعُ النِّكَاحِ عَلَى وَجْهٍ صَحِيحٍ، وَأَمَّا إنْ كَانَ فَاسِدًا بِأَنْ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ يُفْسَخُ أَبَدًا وَيَجِبُ لَهَا صَدَاقُ مِثْلِهَا، وَأَمَّا إنْ كَانَ الْغُرُورُ مِنْ أَجْنَبِيٍّ فَإِنَّ لَهَا جَمِيعُ الْمُسَمَّى، وَأَمَّا إنْ كَانَ مِنْ سَيِّدِهَا فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْ الزَّوْجِ وَلَوْ قَبَضَهُ سَيِّدُهَا لَرَدَّهُ قَهْرًا عَلَيْهِ وَيَنْبَغِي إلَّا رُبْعَ دِينَارٍ. الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ هَلْ لِلزَّوْجِ رُجُوعٌ بِشَيْءٍ مِمَّا غَرِمَهُ لَهَا أَمْ لَا؟ وَمُحَصِّلُهُ: إنْ كَانَ الْمُزَوِّجُ لَهَا وَكِيلَ سَيِّدِهَا وَتَعَدَّى بِغُرُورِ الزَّوْجِ وَلَكِنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ غَيْرُ وَلِيٍّ خَاصٍّ أَوْ صَدَرَ الْغُرُورُ مِنْهَا بِأَنْ قَالَتْ أَنَا حُرَّةٌ فَلَا رُجُوعَ لِلزَّوْجِ بِشَيْءٍ مِمَّا غَرِمَهُ لَهَا عَلَى أَحَدٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمُتَوَلِّي لِلْعَقْدِ هُوَ الْغَارُّ وَلَمْ يُخْبِرْ أَنَّهُ غَيْرُ وَلِيٍّ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ عَلَيْهِ بِجَمِيعِ مَا غَرِمَهُ لَهَا، وَقِيلَ إلَّا رُبْعَ دِينَارٍ، وَلَا يَرْجِعُ عَلَى الْغَارِّ بِشَيْءٍ مِنْ قِيمَةِ الْأَوْلَادِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَى غَارٍّ غَيْرِ وَلِيٍّ تَوَلَّى الْعَقْدَ إلَّا أَنْ يُخْبِرَ أَنَّهُ غَيْرُ وَلِيٍّ. الرَّابِعُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: فَلِسَيِّدِهَا أَخْذُهَا مَعْنَاهُ إنْ أَرَادَ الزَّوْجُ،؛ لِأَنَّ الْخِيَارَ لِلْمَغْرُورِ حَيْثُ وَقَعَ عَقْدُهُ صَحِيحًا بِمَنْزِلَةِ مَنْ اشْتَرَى سِلْعَةً دَلَّسَ عَلَيْهِ بَائِعُهَا يَعِيبُهَا، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِيهَا لِدَاعِي الْحَاجَةِ. [بَعْض مَسَائِل الِاسْتِحْقَاق] ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الِاسْتِحْقَاقِ هُوَ لُغَةً إضَافَةُ الشَّيْءِ لِمَنْ يَصْلُحُ بِهِ وَلَدٌ فِيهِ حَقٌّ كَاسْتِحْقَاقِ هَذَا مِنْ الْوَقْفِ مَثَلًا بِوَصْفِ الْفَقْرِ أَوْ الْعِلْمِ، وَأَمَّا شَرْعًا فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: رَفْعُ مِلْكِ شَيْءٍ بِثُبُوتِ مِلْكٍ قَبْلَهُ أَوْ حُرِّيَّةٍ كَذَلِكَ بِغَيْرِ عِوَضٍ، فَرَفْعُ الْمِلْكِ بِالْهِبَةِ وَالْعِتْقِ، وَغَيْرِهِمَا لَا يُسَمَّى اسْتِحْقَاقًا؛ لِأَنَّهُ رَفْعُ مِلْكٍ لَا بِثُبُوتِ مِلْكٍ قَبْلَهُ كَمَا خَرَجَ الرَّفْعُ بِالْمَوْتِ، وَقَوْلُهُ: أَوْ حُرِّيَّةٍ عَطْفٌ عَلَى مِلْكٍ لِتَدْخُلَ صُورَةُ الِاسْتِحْقَاقِ بِثُبُوتِ الْحُرِّيَّةِ فَقَالَ: (وَمَنْ اسْتَحَقَّ أَمَةً) مِنْ يَدِ حُرٍّ صَاحِبِ شُبْهَةٍ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يَعْلَمْ كَوْنَهُ غَاصِبًا أَوْ مُشْتَرِيًا أَوْ مَوْهُوبًا وَالْحَالُ أَنَّهَا (قَدْ وَلَدَتْ) عِنْدَهُ وَاسْتَمَرَّ وَلَدُهَا حَيًّا (فَلَهُ) أَيْ فَيَجِبُ لِذَلِكَ الْمُسْتَحِقِّ (قِيمَتُهَا وَقِيمَةُ الْوَلَدِ) ؛ لِأَنَّهُ حُرٌّ عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَتُعْتَبَرُ تِلْكَ الْقِيمَةُ (يَوْمَ الْحُكْمِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَضَمِنَ قِيمَةَ الْمُسْتَحَقَّةِ وَلَدُهَا يَوْمَ الْحُكْمِ، فَمَا صَدَّرَ بِهِ الْمُصَنِّفُ هُوَ الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ وَلِذَا اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ؛ لِأَنَّ مَالِكًا رَجَعَ إلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وَقِيلَ لَهُ قِيمَتُهَا فَقَطْ إلَّا أَنْ يَخْتَارَ الثَّمَنَ فَيَأْخُذَهُ مِنْ الْغَاصِبِ الَّذِي بَاعَهَا وَلَوْ كَانَتْ بِيَدِ غَاصِبٍ فَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَوَلَدُهُ رَقِيقٌ مَعَهَا لِرَبِّهَا وَمُسْتَحِقُّ الْأَرْضِ بَعْدَ أَنْ عَمَرَتْ يَدْفَعُ قِيمَةَ الْعِمَارَةِ قَائِمًا فَإِنْ أَبَى دَفَعَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي قِيمَةَ الْبُقْعَةِ بَرَاحًا فَإِنْ أَبَى كَانَا شَرِيكَيْنِ بِقِيمَةِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ وَالْغَاصِبُ يُؤْمَرُ بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَزَرْعِهِ وَشَجَرِهِ وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ رَبُّهَا قِيمَةَ   [الفواكه الدواني] وَعَلَيْهِ جَمَاعَةٌ وَأَخَذَ بِهِ ابْنُ الْقَاسِمِ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَا تَكُونُ أُمُّ وَلَدٍ لِمَنْ اسْتَحَقَّتْ مِنْ يَدِهِ وَلَهُ الرُّجُوعُ بِثَمَنِهَا عَلَى بَائِعِهِ وَلَوْ كَانَ غَاصِبًا، سَوَاءٌ سَاوَى مَا غَرِمَهُ لِمُسْتَحِقِّهَا أَوْ زَادَ أَوْ نَقَصَ، وَلَكِنْ مَا قَبَضَهُ رَبُّهَا إنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِمَا بَقِيَ لَهُ مِنْ الثَّمَنِ، كَمَا هُوَ قَاعِدَةُ بَيْعِ الْفُضُولِيِّ إذَا فَاتَ يَجِبُ فِيهِ الْأَكْثَرُ مِنْ الثَّمَنِ وَالْقِيمَةِ. (وَقِيلَ) يُقْضَى لِمُسْتَحِقِّهَا بِأَنْ (يَأْخُذَهَا وَقِيمَةَ الْوَلَدِ) وَنُسِبَ لِمَالِكٍ أَيْضًا، وَعَلَى هَذَا لَوْ وَقَعَ الصُّلْحُ عَلَى أَخْذِ قِيمَتِهَا لَكَانَتْ أُمَّ وَلَدٍ. (وَقِيلَ لَهُ) أَيْ الْمُسْتَحِقِّ (قِيمَتُهَا فَقَطْ) يَوْمَ وَطْئِهَا وَلَا شَيْءَ لَهُ فِي وَلَدِهَا (إلَّا أَنْ يَخْتَارَ) مُسْتَحِقُّهَا أَخْذَ (الثَّمَنِ) دُونَ الْقِيمَةِ (فَيَأْخُذُهُ مِنْ الْغَاصِبِ الَّذِي بَاعَهَا) فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْأَقْوَالَ ثَلَاثَةٌ وَكُلُّهَا عَنْ الْإِمَامِ وَأَرْجَحُهَا أَوَّلُهَا كَمَا بَيَّنَّا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ يَدِ رَقِيقٍ لَقُضِيَ لِسَيِّدِهَا بِأَخْذِهَا مَعَ وَلَدِهَا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ كَمَا لَوْ كَانَ الْوَلَدُ مِنْ زِنًى، فَلَوْ مَاتَتْ الْأَمَةُ قَبْلَ قِيَامِ الْمُسْتَحِقِّ فَقَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: لَا شَيْءَ عَلَى الْمُشْتَرِي فِي قَوْلِ مَالِكٍ الَّذِي قَالَ فِيهِ يَأْخُذُ قِيمَتَهَا فَقَطْ إذَا وَجَدَهَا حَيَّةً وَهُوَ ثَالِثُ الْأَقْوَالِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الْوَلَدِ الَّذِي وُجِدَ حَيًّا، وَأَمَّا لَوْ مَاتَ وَلَدُهَا حَتْفَ أَنْفِهِ قَبْلَ الِاسْتِحْقَاقِ فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَأَمَّا لَوْ قُتِلَ عَمْدًا فَلَا شَيْءَ فِيهِ عَلَى الْأَبِ إنْ اُقْتُصَّ مِنْ قَاتِلِهِ أَوْ عُفِيَ عَنْهُ، لَكِنْ لِلْمُسْتَحِقِّ الرُّجُوعُ عَلَى الْقَاتِلِ بِالْأَقَلِّ مِنْ قِيمَتِهِ أَوْ دِيَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ الْأَقَلُّ إنْ أَخَذَ دِيَةً، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَدْ وَلَدَتْ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَلِدْ لَكَانَ لِمُسْتَحِقِّهَا أَخْذُهَا عَلَى جَمِيعِ الْأَقْوَالِ وَلَا شَيْءَ عَلَى مُشْتَرِيهَا فِي وَطْئِهَا، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى اسْتِحْقَاقِهَا مِنْ صَاحِبِ الشُّبْهَةِ لِقَوْلِهِ: (وَلَوْ كَانَتْ) الْأَمَةُ الْمُسْتَحِقَّةُ (بِيَدِ غَاصِبٍ) وَهُوَ الَّذِي أَخَذَهَا مِنْ يَدِ مَالِكِهَا قَهْرًا عَلَيْهِ (فَعَلَيْهِ الْحَدُّ) إنْ وَطِيءَ حَيْثُ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي مَالِ مَالِكِهَا (وَوَلَدُهُ) مِنْهَا (رَقِيقٌ) يَرُدُّ (مَعَهَا لِرَبِّهَا) وَحُكْمُ مَنْ اشْتَرَاهَا مِنْ الْغَاصِبِ عَالِمًا بِأَنَّهُ غَاصِبٌ، كَحُكْمِ الْغَاصِبِ فِي قَطْعِ نَسَبِ الْوَلَدِ وَحْدَهُ حَيْثُ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى إقْرَارٍ بِعِلْمِهِ قَبْلَ الْوَطْءِ أَنَّهَا مَغْصُوبَةٌ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ إلَّا مُجَرَّدُ إقْرَارٍ مِنْهُ بَعْدَ وَطْئِهَا أَنَّهُ وَطِئَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِغَصْبِهَا فَقَالَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ: يُحَدُّ لِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا، وَلَكِنْ يَلْحَقُ بِهِ الْوَلَدُ لِحَقِّ اللَّهِ وَحَقِّ الْوَلَدِ فِي ثُبُوتِ نَسَبِهِ، وَهَذِهِ إحْدَى الْمَسَائِلِ الَّتِي يَجْتَمِعُ فِيهَا الْحَدُّ، وَلُحُوقُ الْوَلَدِ وَمِثْلُهَا فِي ذَلِكَ عِدَّةُ مَسَائِلَ: إحْدَاهُنَّ مَنْ يَشْتَرِي مَنْ تُعْتَقُ عَلَيْهِ مِنْ أُخْتٍ أَوْ بِنْتٍ أَوْ أُمٍّ وَيَطَؤُهَا مَعَ إقْرَارِهِ بِالْعِلْمِ بِأَنَّهَا تُعْتَقُ عَلَيْهِ. ثَانِيَتُهَا: مَنْ يَتَزَوَّجُ امْرَأَةً وَيُوَلِّدُهَا ثُمَّ يُقِرُّ أَنَّهُ كَانَ طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّهُ تَزَوَّجَهَا قَبْلَ زَوْجٍ عَالِمًا بِالتَّحْرِيمِ. ثَالِثَتُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مَحْرَمٍ مِنْ نَسَبٍ أَوْ رَضَاعٍ أَوْ صِهَارَةٍ وَيُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا وَوَطِئَهَا عَالِمًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ. وَرَابِعَتُهَا: أَنْ يَتَزَوَّجَ وَيُولَدَ لَهُ ثُمَّ يُقِرُّ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ تَزَوَّجَ بِهَا وَمَعَهُ أَرْبَعٌ وَوَطِئَهَا عَالِمًا بِحُرْمَةِ ذَلِكَ، فَجُمْلَةُ الْمَسَائِلِ مَعَ مَسْأَلَةِ الْمُصَنِّفِ خَمْسٌ خَارِجَةٌ عَنْ الْأَصْلِ؛ لِأَنَّ حَدَّ الْوَاطِئِ يَقْتَضِي أَنَّهُ زَانٍ، وَالْمُتَخَلِّقُ مِنْ مَاءِ الزِّنَا لَا يَلْحَقُ بِصَاحِبِ الْمَاءِ شَرْعًا، وَلَعَلَّ وَجْهَ لُحُوقِ الْوَلَدِ اسْتِنَادُ الْوَطْءِ لِعَقْدٍ فِي الْجُمْلَةِ وَلَزِمَهُ الْحَدُّ لِضَعْفٍ فِي الشُّبْهَةِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْأَمَةِ الْمُسْتَحِقَّةِ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهَا مِنْ الْمُسْتَحَقَّاتِ فَقَالَ: (وَمُسْتَحِقُّ الْأَرْضِ) مِنْ يَدِ صَاحِبِ شُبْهَةٍ بِمِلْكٍ (بَعْدَ أَنْ عَمَرَتْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ عَمَرَهَا صَاحِبُ الشُّبْهَةِ بِالْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ فَالْمُسْتَحِقُّ لَهَا بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ (يَدْفَعَ قِيمَةَ الْعِمَارَةِ) أَيْ مَا عَمَرَتْ بِهِ حَالَةَ كَوْنِ الْبِنَاءِ (قَائِمًا) ؛ لِأَنَّهُ وَضَعَهُ بِوَجْهِ شُبْهَةٍ وَلَوْ كَانَ اشْتَرَاهَا مِنْ غَاصِبٍ حَيْثُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ بِالْغَصْبِ، وَقَوْلُهُ: قَائِمًا أَيْ عَلَى التَّأْبِيدِ الْغَيْرِ الْمُغَيَّا إنْ كَانَ الْبَانِي مُشْتَرِيًا مَثَلًا، أَوْ عَلَى التَّأْبِيدِ الْمُغَيَّا بِحَدٍّ إنْ كَانَ الْبَانِي مُسْتَأْجِرًا أَوْ مُسْتَعِيرًا لِلْأَرْضِ وَحَصَلَ الِاسْتِحْقَاقُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ. (فَإِنْ أَبَى) الْمُسْتَحِقُّ مِنْ دَفْعِ قِيمَةِ الْبِنَاءِ قَائِمًا (دَفَعَ إلَيْهِ الْمُشْتَرِي) صَاحِبُ الشُّبْهَةِ (قِيمَةَ الْبُقْعَةِ بَرَاحًا) أَيْ خَالِيَةً مِمَّا عَمَرَتْ بِهِ. (فَإِنْ أَبَى) الْمُشْتَرِي أَيْضًا أَوْ كَانَ عَدِيمًا (كَانَا) أَيْ الْمُسْتَحِقُّ وَالْمُسْتَحَقُّ مِنْهُ (شَرِيكَيْنِ بِقِيمَةِ مَا لِكُلِّ وَاحِدٍ) الْمُرَادُ مِنْهُمَا فَالْمُسْتَحِقُّ بِقِيمَةِ أَرْضِهِ خَرِبَةً وَصَاحِبُ الشُّبْهَةِ بِقِيمَةِ عِمَارَتِهِ، وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلٍّ يَوْمَ الْحُكْمِ، فَإِنْ كَانَتْ قِيمَةُ الْأَرْضِ مِائَةً وَقِيمَةُ الْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ كَذَلِكَ كَانَا شَرِيكَيْنِ بِالْمُنَاصَفَةِ. وَقَدْ أَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ غَرَسَ أَوْ بَنَى قِيلَ لِلْمَالِكِ أَعْطِهِ قِيمَتَهُ قَائِمًا، وَإِنْ أَبَى فَلَهُ دَفْعُ قِيمَةِ الْأَرْضِ فَإِنْ أَبَى فَشَرِيكَانِ بِالْقِيمَةِ يَوْمَ الْحُكْمِ. وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِيمَنْ اشْتَرَى ثَوْبًا فَرَقَّعَهُ أَوْ سَفِينَةً خَرِبَةً وَأَصْلَحَهَا أَوْ ثَوْبًا وَصَبَغَهُ، وَقَيَّدْنَا الِاسْتِحْقَاقَ بِالْمِلْكِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الِاسْتِحْقَاقِ بِالْحَبْسِ فَلَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: إلَّا الْمُحْبَسَةَ فَالنَّقْضُ وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ اسْتَحَقَّ أَرْضًا مِنْ يَدِ صَاحِبِ شُبْهَةٍ بِوَقْفٍ بَعْدَ أَنْ بَنَاهَا أَوْ غَرَسَهَا مُشْتَرِيهَا فَلَيْسَ لِلْبَانِي أَوْ الْغَارِسِ إلَّا نَقْضُهُ أَوْ شَجَرَةً، إذْ لَا يَجُوزُ لَهُ دَفْعُ قِيمَةِ الْأَرْضِ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الْوَقْفِ، وَلَيْسَ لَنَا وَاحِدٌ مُعَيَّنٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 ذَلِكَ النَّقْضِ وَالشَّجَرِ مُلْقًى بَعْدَ قِيمَةِ أَجْرِ مَنْ يَقْلَعُ ذَلِكَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِيمَا لَا قِيمَةَ لَهُ بَعْدَ الْقَلْعِ وَالْهَدْمِ وَيَرُدُّ الْغَاصِبُ الْغَلَّةَ وَلَا يَرُدُّهَا غَيْرُ الْغَاصِبِ وَالْوَلَدُ فِي الْحَيَوَانِ وَفِي الْأَمَةِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأُمَّهَاتِ   [الفواكه الدواني] يُطَالِبُهُ الْبَانِي بِقِيمَةِ بِنَائِهِ أَوْ غَرْسِهِ قَائِمًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْحَبْسُ عَلَى مُعَيَّنٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَقْطَعَ رَجُلًا أَرْضًا فَأَحْيَاهَا وَغَرَسَ فِيهَا، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَاسْتَحَقَّهَا، وَاخْتَصَمَا فِي ذَلِكَ إلَى عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَقَضَى لِلْأَوَّلِ أَنْ يُعْطِيَهُ قِيمَةَ مَا أَحْيَا، فَقَالَ: لَا أَفْعَلُ، فَقَالَ لِلْآخَرِ: أَعْطِهِ قِيمَةَ أَرْضِهِ بَيْضَاءَ فَلَمْ يَفْعَلْ، فَقَضَى أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ بَيْنَهُمَا، هَذَا بِقِيمَةِ أَرْضِهِ وَهَذَا بِقِيمَةِ عِمَارَتِهِ. وَإِنَّمَا بَدَأَ بِصَاحِبِ الْأَرْضِ بِالْخِيَارِ؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى سَبَبًا لِكَوْنِ الْأَرْضِ لَهُ، وَانْتَقَلَ الْخِيَارُ لِلْبَانِي إذَا أَبَى الْمُسْتَحِقُّ لِيَزُولَ الضَّرَرُ عَنْهُمَا وَكَانَا شَرِيكَيْنِ إذَا أَبَيَا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا لَهُ حَقٌّ لَا يَجُوزُ إبْطَالُ حَقِّ الْآخَرِ لَهُ، وَإِنَّمَا جَعَلْنَا الِاسْتِحْقَاقَ مِنْ يَدِ صَاحِبِ شُبْهَةٍ لِقَوْلِهِ هُنَا: (وَالْغَاصِبُ) لِعَرْصَةٍ وَيَبْنِيهَا أَوْ يَغْرِسُهَا ثُمَّ يَتَمَكَّنُ صَاحِبُهَا مِنْهَا (يُؤْمَرُ) أَيْ الْغَاصِبُ (بِقَلْعِ بِنَائِهِ وَزَرْعِهِ وَشَجَرِهِ) إنْ كَانَ يَنْتَفِعُ بِهِ، وَيُؤْمَرُ أَيْضًا بِتَسْوِيَةِ الْأَرْضِ مِثْلَ مَا كَانَتْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ» . وَبَنَى يُؤْمَرُ لِلْمَجْهُولِ لِلْعِلْمِ بِفَاعِلِ ذَلِكَ وَهُوَ الْمَالِكُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (وَإِنْ شَاءَ أَعْطَاهُ رَبُّهَا) أَيْ رَبُّ الْأَرْضِ (قِيمَةَ ذَلِكَ النِّقْضِ) بِكَسْرِ النُّونِ بِمَعْنَى الْمَنْقُوضِ كَالذِّبْحِ بِالْكَسْرِ بِمَعْنَى الْمَذْبُوحِ. (وَ) قِيمَةَ (الشَّجَرِ مُلْقًى) أَيْ مَقْلُوعًا؛ لِأَنَّ الْغَاصِبَ ظَالِمٌ، وَسَوَاءٌ كَانَ الشَّجَرُ يَنْبُتُ بَعْدَ قَلْعِهِ أَمْ لَا عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَتُعْتَبَرُ قِيمَةُ كُلِّ مَا ذُكِرَ (بَعْدَ) أَنْ يَسْقُطَ مِنْهَا (قِيمَةُ) أَيْ (أَجْرِ مَنْ يَقْلَعُ ذَلِكَ) أَوْ يَهْدِمُ الْبِنَاءَ إنْ لَمْ يَكُنْ شَأْنُ الْغَاصِبِ أَنْ يَتَوَلَّى ذَلِكَ بِنَفْسِهِ أَوْ بِعَبِيدِهِ، وَإِلَّا دَفَعَ قِيمَةَ الْأَنْقَاضِ أَوْ الشَّجَرِ بِتَمَامِهَا. مِثَالٌ يُوَضِّحُ ذَلِكَ: أَنْ تَكُونَ قِيمَةُ الْأَنْقَاضِ أَوْ الْأَشْجَارِ بَعْدَ قَلْعِهَا عَشَرَةً وَأُجْرَةُ مَنْ يَقْلَعُهَا أَرْبَعَةً، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَدْفَعُ لَهُ الْمُسْتَحِقُّ سِتَّةً، وَإِنْ كَانَ شَأْنُ الْغَاصِبِ مُبَاشَرَةَ ذَلِكَ تُدْفَعُ لَهُ الْعَشَرَةُ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَفِي بِنَائِهِ فِي أَخْذِهِ وَدَفْعِ قِيمَةِ نَقْضِهِ بَعْدَ إسْقَاطِ كُلْفَةٍ لَمْ يَتَوَلَّهَا. وَالشِّقُّ الثَّانِي مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ أَوْ يَأْمُرُهُ بِقَلْعِهِ وَتَسْوِيَةِ مَحَلِّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْخِيَارُ لِلْمُسْتَحِقِّ ابْتِدَاءً؛ لِأَنَّهُ مَظْلُومٌ وَأَيْضًا هُوَ صَاحِبُ الْأَصْلِ، وَسَكَتَ الْمُصَنِّفُ عَنْ أُجْرَةِ الْأَرْضِ قَبْلَ الظَّفَرِ بِالْغَاصِبِ، وَالْحُكْمُ أَنَّهَا تَجِبُ لِلْمُسْتَحِقِّ عَلَى الْغَاصِبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكِرَاءُ أَرْضٍ تَنْبُتُ وَبِنَاؤُهَا اسْتِعْمَالٌ. قَالَ خَلِيلٌ أَيْضًا: وَغَلَّةُ مُسْتَعْمَلٍ فَتَسْقُطُ عَنْ الْمُسْتَحِقِّ مِنْ قِيمَةِ الْأَنْقَاضِ، كَمَا تَسْقُطُ أُجْرَةُ مَنْ يَتَوَلَّى قَلْعَهَا عَنْهُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَأَمَّا لَوْ غَصَبَ شَيْئًا وَلَمْ يَسْتَعْمِلْهُ كَدَارٍ قَفَلَهَا أَوْ أَرْضٍ بَوَّرَهَا فَإِنَّهُ لَا يَضْمَنُ الْغَلَّةَ، بِخِلَافِ الْمُتَعَدِّي وَهُوَ الَّذِي يُرِيدُ أَخْذَ الْمَنْفَعَةِ دُونَ تَمَلُّكِ الذَّاتِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَةَ الْمَنْفَعَةِ وَلَوْ عَطَّلَهَا، وَإِنَّمَا قَيَّدْنَا قَلْعَ الْبِنَاءِ وَالزَّرْعِ وَالشَّجَرِ بِالْمُنْتَفَعِ بِهِ بَعْدَ قَلْعِهِ لِقَوْلِهِ: (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى رَبِّ الْأَرْضِ لِلْغَاصِبِ (فِيمَا لَا قِيمَةَ لَهُ) مِنْ زَرْعِهِ أَوْ غَرْسِهِ أَوْ بِنَائِهِ (بَعْدَ الْقَلْعِ وَالْهَدْمِ) مِثْلُ الْبَيَاضِ وَالنَّقْشِ أَوْ الزَّرْعِ أَوْ الشَّجَرِ قَبْلَ بُلُوغِهِ حَدَّ الِانْتِفَاعِ أَوْ الْبِنَاءِ الْكَائِنِ بِالطُّوبِ النِّيءِ كَمَا فِي بِلَادِ الْأَرْيَافِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ زَرَعَ فَاسْتُحِقَّتْ فَإِنْ لَمْ يَنْتَفِعْ بِالزَّرْعِ أُخِذَ بِلَا شَيْءٍ وَإِلَّا فَلَهُ، فَلَعَلَّهُ إنْ لَمْ يُفْتِ وَقْتَ مَا تُرَادُ لَهُ وَإِلَّا فَكِرَاءُ السَّنَةِ كَذِي شُبْهَةٍ وَمُقَابِلٍ فَلَهُ قَلْعُهُ لِرَبِّ الْأَرْضِ أَخْذُهُ بِقِيمَتِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى إبْقَائِهِ فِي الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ الْكِرَاءَ؛ لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إلَى بَيْعِ الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ صَلَاحِهِ عَلَى التَّبْقِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَمَّا كَانَ قَادِرًا عَلَى أَخْذِهِ مَجَّانًا فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ أَوْ بِقِيمَتِهِ مَقْلُوعًا فِي الْقِسْمِ الثَّانِي يُعَدُّ بَائِعًا لَهُ، وَأَمَّا إذَا فَاتَ وَقْتُ مَا تُرَادُ لَهُ مِنْ جِنْسِ مَا زَرَعَ فِيهَا فَلَيْسَ لِرَبِّ الْأَرْضِ إلَّا كِرَاءُ السَّنَةِ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي قَلْعِهِ حِينَئِذٍ، وَأَمَّا قَوْلُهُ كَذِي شُبْهَةٍ فَهُوَ تَشْبِيهٌ فِي لُزُومِ كِرَاءِ السَّنَةِ لَا بِقَيْدِ فَوَاتِ الْإِبَّانِ بَلْ بِقَيْدِ بَقَائِهِ؛ لِأَنَّهُ لَوْ فَاتَ الْإِبَّانُ لَمْ يُتْبَعْ صَاحِبُ الشُّبْهَةِ؛ لِأَنَّهُ يَفُوزُ بِالْغَلَّةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ مَنْ اغْتَلَّ شَيْئًا لَيْسَ مَمْلُوكًا لَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيَرُدُّ الْغَاصِبُ) وَمِثْلُهُ اللِّصُّ الْمَعْرُوفُ بِالسَّارِقِ، وَكَذَا الْخَائِنُ وَالْمُخْتَلِسُ وَنَحْوُهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ لَا شُبْهَةَ لَهُ فِيمَا اغْتَلَّهُ. (الْغَلَّةَ) الَّتِي اسْتَوْفَاهَا مِنْ الذَّوَاتِ الْمَمْلُوكَةِ لِغَيْرِهِ عَلَى وَجْهِ الْحَرَامِ، وَصِفَةُ رَدِّهَا أَنْ يَرُدَّ مِثْلَهَا إنْ كَانَتْ مِثْلِيَّةً مَعْلُومَةَ الْكَمِّ، كَأَشْجَارٍ جَذَّ ثِمَارَهَا، وَأَغْنَامٍ جَزَّ صُوفَهَا، وَمَوَاشٍ اسْتَوْفَى أَلْبَانَهَا، وَإِنْ جُهِلَتْ الْكَمِّيَّةُ أَوْ كَانَتْ مُقَوَّمَةً فَتُرَدُّ الْقِيمَةُ، وَفِي الْغَلَّةِ تَفْصِيلٌ مُحَصِّلُهُ أَنَّ غَلَّةَ نَحْوِ الْعَبْدِ وَسَائِرِ الدَّوَابِّ وَالدَّارِ وَالْأَرْضِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ فَلَا تَلْزَمُ غَلَّتُهُ إلَّا بِاسْتِعْمَالِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَلَّةُ مُسْتَعْمِلٍ، وَأَمَّا لَوْ عَطَّلَ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ بِأَنْ لَمْ يَسْتَعْمِلْ الدَّابَّةَ وَلَا زَرْعَ الْأَرْضِ فَلَا يَلْزَمُهُ أُجْرَتُهَا فِي مُدَّةِ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهَا، وَأَمَّا الْغَلَّةُ الَّتِي تَنْشَأُ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيكٍ كَثَمَرِ الشَّجَرِ وَصُوفِ الْغَنَمِ وَلَبَنِ الْبَقَرِ فَهَذَا يَرُدُّهُ الْغَاصِبُ مِنْ غَيْرِ شَكٍّ، وَأَمَّا رِبْحُ الْمَالِ الْمَغْصُوبِ وَنَمَاءُ الْبَذْرِ الْمَغْصُوبِ فَلَا يَلْزَمُ؛ لِأَنَّ الْمِثْلِيَّ الْوَاجِبَ رَدُّ مِثْلِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ: وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ مِنْهُ الْمَالُ تَاجِرًا وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لُزُومُ رَدِّ الْغَلَّةِ وَلَوْ كَانَتْ الذَّاتُ الْمَغْصُوبَةُ ذَهَبَتْ، وَلُزُومُ الْغَاصِبِ قِيمَتَهَا. وَفِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 مِنْ يَدِ مُبْتَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ وَمَنْ غَصَبَ أَمَةً ثُمَّ وَطِئَهَا فَوَلَدُهُ رَقِيقٌ وَعَلَيْهِ الْحَدُّ وَإِصْلَاحُ السُّفْلِ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ وَالْخَشَبُ لِلسَّقْفِ عَلَيْهِ وَتَعْلِيقُ الْغُرَفِ عَلَيْهِ إذَا وَهِيَ السُّفْلُ وَهُدِمَ حَتَّى يُصْلَحَ وَيُجْبَرَ عَلَى أَنْ يُصْلِحَ أَوْ يَبِيعَ مِمَّنْ يُصْلِحُ وَلَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فَلَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ مِنْ فَتْحِ كُوَّةٍ قَرِيبَةٍ يَكْشِفُ جَارَهُ مِنْهَا أَوْ فَتْحِ بَابٍ قُبَالَةَ بَابِهِ أَوْ   [الفواكه الدواني] الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ، وَالْمُعْتَمَدُ مِنْهُمَا أَنَّ الْغَلَّةَ لَا يَلْزَمُ الْغَاصِبَ رَدُّهَا إلَّا إذَا رُدَّتْ الذَّاتُ الْمَغْصُوبَةُ، وَأَمَّا لَوْ فَاتَتْ وَلَزِمَ الْغَاصِبَ قِيمَتُهَا فَلَا يُتْبَعُ بِغَلَّتِهَا؛ لِأَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ قِيمَتَهَا تُعْتَبَرُ يَوْمَ الِاسْتِيلَاءِ، فَقَدْ كَشَفَ الْغَيْبُ أَنَّهُ اسْتَغَلَّ مِلْكَهُ. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لُزُومُ رَدِّ الْغَاصِبِ الْغَلَّةَ، وَلَوْ كَانَ الْمَغْصُوبُ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ إذَا كَانَ يَحْتَاجُ إلَى نَفَقَةٍ إنَّمَا يَرُدُّ الزَّائِدَ مِنْهَا عَلَى النَّفَقَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا أَنْفَقَ فِي الْغَلَّةِ أَيْ مَحْصُورٌ فِيهَا لَا يَتَجَاوَزُهَا إلَى الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ لِلشَّيْءِ الْمَغْصُوبِ غَلَّةٌ ضَاعَتْ النَّفَقَةُ عَلَى الْغَاصِبِ وَلَا يَرْجِعُ بِهَا فِي الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ؛ لِأَنَّهُ ظَالِمٌ، وَلَا يُقَالُ: هُوَ قَدْ قَامَ عَنْ رَبِّهَا بِوَاجِبٍ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: هُوَ دَاخِلٌ مَحَلَّ ضَيَاعِ مَالِهِ بِالِاسْتِيلَاءِ عَلَى مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ طَرِيقٍ شَرْعِيٍّ، وَمَا نَقَلَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عَرَفَةَ مُخَالِفٌ لِظَاهِرِ كَلَامِ خَلِيلٍ فَرَاجِعْهُ فِي الْمُطَوَّلَاتِ. الثَّالِثُ: إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ لَك ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ فِي رَدِّ الْغَلَّةِ حَيْثُ لَمْ يُقَيِّدْ لُزُومَ رَدِّهَا بِرَدِّ الذَّاتِ الْمَغْصُوبَةِ، وَلَمْ يُقَيِّدْ لُزُومَهَا أَيْضًا بِالِاسْتِعْمَالِ كَمَا قَالَ خَلِيلٌ، وَلَمَّا كَانَ الْغَاصِبُ ظَالِمًا لَا حَقَّ لِتَعَبِهِ كُلِّفَ بِرَدِّ الْغَلَّةِ، بِخِلَافِ صَاحِبِ الشُّبْهَةِ لَا ظُلْمَ عِنْدَهُ فَلِذَا لَا يَرُدُّهَا كَمَا أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرُدُّهَا) أَيْ الْغَلَّةَ (غَيْرُ الْغَاصِبِ) وَالْمُرَادُ بِهِ صَاحِبُ الشُّبْهَةِ وَلَوْ كَانَ مُشْتَرِيًا مِنْ الْغَاصِبِ حَيْثُ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ، وَمِثْلُهُ مَوْهُوبُهُ وَمِثْلُهُ مَجْهُولُ الْحَالِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْغَلَّةُ لِذِي الشُّبْهَةِ أَوْ الْمَجْهُولِ لِلْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْ اشْتَرَى مِنْ الْغَاصِبِ أَوْ الْقَابِلِ لِلْهِبَةِ مِنْ الْغَاصِبِ مَعَ عِلْمِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِالْغَصْبِ فَهُمَا بِمَنْزِلَةِ الْغَاصِبِ، بِخِلَافِ وَارِثِ الْغَاصِبِ فَإِنَّهُ لَا يَفُوزُ بِالْغَلَّةِ وَلَوْ لَمْ يَعْلَمْ بِالْغَصْبِ، وَلَمَّا كَانَ الْوَلَدُ غَيْرَ غَلَّةٍ قَالَ: (وَالْوَلَدُ) مُبْتَدَأٌ وَصِفَتُهُ (فِي الْحَيَوَانِ) الْبَهِيمِيِّ. (وَ) كَذَا (فِي الْأَمَةِ إذَا كَانَ الْوَلَدُ مِنْ غَيْرِ السَّيِّدِ) أَيْ غَيْرِ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ الْحُرُّ بِأَنْ كَانَ مِنْ زَوْجٍ أَوْ مِنْ زِنًا أَوْ مِنْ الْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ الرَّقِيقُ وَخَبَرُ الْمُبْتَدَأِ (يَأْخُذُهُ الْمُسْتَحِقُّ لِلْأُمَّهَاتِ مِنْ يَدِ مُبْتَاعٍ أَوْ غَيْرِهِ) ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِغَلَّةٍ بَلْ بِمَنْزِلَةِ جُزْءٍ مِنْ أُمِّهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ وَلَدُ الْأَمَةِ مِنْ يَدِ الْحَائِزِ لَهَا وَهُوَ الْمُرَادُ بِالسَّيِّدِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ حُرٌّ بِاتِّفَاقِ الْأَقْوَالِ الثَّلَاثَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَإِنَّمَا يَأْخُذُ الْمُسْتَحِقُّ قِيمَتَهُ مِنْ قِيمَةِ أُمِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَمَّا كَانَ وَاطِئُ الْأَمَةِ غَصْبًا لَيْسَ كَوَاطِئِ الْحُرَّةِ فِي لُزُومِ الصَّدَاقِ لَهُ قَالَ: (وَمَنْ غَصَبَ أَمَةً) لَيْسَتْ مَمْلُوكَةً لَهُ (ثُمَّ وَطِئَهَا فَوَلَدُهُ) مِنْهَا (رَقِيقٌ) لِسَيِّدِهَا (وَعَلَيْهِ الْحَدُّ) وَلَا صَدَاقَ عَلَيْهِ وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُ أَرْشُ نَقْصِهَا بِوَطْئِهِ، وَإِنَّمَا لَزِمَهُ الْحَدُّ لِصِدْقِ الزَّانِي عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوَاطِئُ فَرْجَ آدَمِيٍّ لَا مِلْكَ لَهُ فِيهِ بِاتِّفَاقٍ تَعَمُّدًا، وَالْمُرَادُ بِالْغَصْبِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَهْرُ عَلَى الْوَاطِئِ وَلَوْ لَمْ يَقْصِدْ تَمَلُّكَ ذَاتِهَا وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ الْمُسْتَحِقِّ وَالْمُسْتَحَقِّ مِنْهُ وَبَيْنَ صَاحِبِ الْأَعْلَى وَصَاحِبِ السُّفْلِ مُنَاسَبَةٌ فِي الْقَضَاءِ قَالَ: (وَإِصْلَاحُ السُّفْلِ) الْوَاهِي إذَا كَانَ عَلَيْهِ عُلُوٌّ لِأَجْنَبِيٍّ (عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ وَالْخَشَبِ) الْمُعَدِّ (لِلسَّقْفِ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى صَاحِبِ السُّفْلِ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ أَرْضٌ لِلْأَعْلَى. (وَ) كَذَا (تَعْلِيقُ الْغُرَفِ) الْكَائِنَةِ عَلَى سَقْفِهِ الْأَسْفَلِ لِغَيْرِهِ. (عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى صَاحِبِ الْأَسْفَلِ (إذَا وَهِيَ) أَيْ ضَعُفَ (السُّفْلُ وَهُدِمَ) أَيْ أَوْ انْهَدَمَ، فَالْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ، وَيَسْتَمِرُّ تَعْلِيقُ الْأَعْلَى عَلَى صَاحِبِ الْأَسْفَلِ (حَتَّى يُصْلِحَ) الْوَاهِيَ أَوْ يُعِيدَ الْمُنْهَدِمَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَلَيْهِ التَّعْلِيقُ وَالسَّقْفُ وَكَنْسُ مِرْحَاضٍ، وَإِنَّمَا لَزِمَ صَاحِبَ الْأَسْفَلِ تَعْلِيقُ الْأَعْلَى الْمَمْلُوكِ لِغَيْرِهِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْأَسْفَلَ أَرْضٌ لِلْأَعْلَى، وَلِذَا يَلْزَمُهُ سَقْفُهُ؛ لِأَنَّهُ بَاعَ الْأَعْلَى هَكَذَا مَوْضُوعًا عَلَى الْأَسْفَلِ، أَوْ بَاعَهُ هَوَاءً عَلَى ظَهْرِ الْأَسْفَلِ، وَلَا يُمْكِنُ الْبُنْيَانُ فِي الْهَوَاءِ إلَّا بَعْدَ بِنَاءِ الْأَسْفَلِ، وَلِذَلِكَ إذَا تَنَازَعَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ مَعَ صَاحِبِ الْأَعْلَى فِي السَّقْفِ فَإِنَّهُ يُقْضَى بِهِ لِصَاحِبِ الْأَسْفَلِ، بِخِلَافِ الْبَلَاطِ الْكَائِنِ فَوْقَ السَّقْفِ فَلَا يُقْضَى بِهِ عَلَى صَاحِبِ الْأَسْفَلِ، وَلَا يُقْضَى لَهُ بِهِ عِنْدَ التَّنَازُعِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ: وَبِالسَّقْفِ لِلْأَسْفَلِ وَبِالدَّابَّةِ لِلرَّاكِبِ لَا لِلْمُتَعَلِّقِ بِلِجَامِهَا إلَّا لِقَرِينَةٍ، وَلَا فَرْقَ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ، لِتَنَزُّلِ نَاظِرِ الْوَقْفِ مَنْزِلَةَ الْمَالِكِ، فَإِذَا كَانَ الْأَعْلَى مَمْلُوكًا وَالْأَسْفَلُ مَوْقُوفًا لَزِمَ النَّاظِرَ إصْلَاحُ الْأَسْفَلِ لِحِفْظِ الْأَعْلَى. (وَ) إذَا امْتَنَعَ صَاحِبُ الْأَسْفَلِ مِنْ الْإِصْلَاحِ أَوْ التَّعْلِيقِ الْوَاجِبِ عَلَيْهِ (يُجْبَرُ) بِالْقَضَاءِ (عَلَى أَنْ يُصْلِحَ أَوْ يَبِيعَ مِمَّنْ يُصْلِحُ) قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَإِذَا سَقَطَ الْعُلُوُّ عَلَى الْأَسْفَلِ فَهُدِمَ أُجْبِرَ رَبُّ الْأَرْضِ عَلَى أَنْ يَبْنِيَهُ أَوْ يَبِيعَهُ مِمَّنْ يَبْنِي حَتَّى يَتَمَكَّنَ صَاحِبُ الْعُلُوِّ مِنْ بِنَاءِ عُلُوِّهِ، فَإِنْ بَاعَهُ لِشَخْصٍ وَامْتَنَعَ أَيْضًا فَإِنَّهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِالْإِصْلَاحِ أَوْ الْبَيْعِ مِمَّنْ يُصْلِحُ وَهَكَذَا، وَالْمُرَادُ بِالْأَسْفَلِ مَا نَزَلَ عَنْ غَيْرِهِ لِيَشْمَلَ الْأَوْسَطَ بِالنِّسْبَةِ لِمَا فَوْقَهُ، وَمِثْلُ صَاحِبِ الْأَسْفَلِ وَالْأَعْلَى الشُّرَكَاءُ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ كَطَاحُونٍ وَحَمَّامٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ عَلَى شَرِيكٍ فِيمَ لَا يَنْقَسِمُ أَنْ يُعَمِّرَ أَوْ يَبِيعَ مِمَّنْ يُعَمِّرُ كَذِي سُفْلٍ إنْ وَهِيَ، وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 حَفْرِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فِي حَفْرِهِ وَإِنْ كَانَ فِي مِلْكِهِ وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ لِمَنْ إلَيْهِ الْقِمْطُ وَالْعُقُودُ وَلَا يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ لِيُمْنَعَ   [الفواكه الدواني] فَرْقَ فِيمَا لَا يَقْبَلُ الْقِسْمَةَ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْمِلْكِ وَالْوَقْفِ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ لِمَا تَقَدَّمَ وَلِمَا يَأْتِي بِقَوْلِهِ فِي الْمُوَطَّإِ: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» وَاخْتُلِفَ فِي مَعْنَاهُ فَقِيلَ: هُمَا لَفْظَانِ مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ: مَعْنَى لَا ضَرَرَ أَنَّك لَا تَضُرُّ مَنْ لَمْ يَضُرَّك، وَمَعْنَى لَا ضِرَارَ لَا تَضُرُّ مَنْ ضَرَّك، وَفُرِّعَ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ الْمُضَارَرَةِ قَوْلُهُ: (فَلَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ» . وَفِي آخَرَ: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُحْسِنْ إلَى جَارِهِ» . وَفِي آخَرَ: «وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ وَاَللَّهِ لَا يُؤْمِنُ، قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: الَّذِي لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ» وَالْمُرَادُ بِبَوَائِقِهِ شَرُّهُ. وَفِي حَدِيثٍ: «مَا آمَنَ بِي مَنْ بَاتَ شَبْعَانُ وَجَارُهُ جَائِعٌ إلَى جَنْبِهِ وَهُوَ يَعْلَمُ» . وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْت أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «أَرْبَعٌ مِنْ السَّعَادَةِ الْمَرْأَةُ الصَّالِحَةُ، وَالْمَسْكَنُ الْوَاسِعُ، وَالْجَارُ الصَّالِحُ، وَالْمَرْكَبُ الْهَنِيءُ، وَأَرْبَعٌ مِنْ الشَّقَاوَةِ بِمَعْنَى التَّعَبِ وَالْمَشَقَّةِ: الْجَارُ السُّوءُ، وَالْمَرْأَةُ السُّوءُ، وَالْمَرْكَبُ السُّوءُ، وَالْمَسْكَنُ الضَّيِّقُ» . وَالْمُرَادُ بِالْجَارِ مَنْ كَانَ بِجَوَانِبِك الْأَرْبَعِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَدِّ الْجِيرَةِ فَقِيلَ أَرْبَعُونَ دَارًا مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ وَهُوَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: جَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَجَارٌ لَهُ حَقٌّ وَاحِدٌ. فَالْأَوَّلُ: الْمُسْلِمُ الْقَرِيبُ. وَالثَّانِي: الْمُسْلِمُ الْأَجْنَبِيُّ. وَالثَّالِثُ: الذِّمِّيُّ غَيْرُ الْقَرِيبِ. ثُمَّ بَيَّنَ مَا بِهِ الضَّرَرُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ فَتْحِ كَوَّةٍ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَشَدِّ الْوَاوِ أَيْ طَاقَةٍ (قَرِيبَةٍ) مِنْ مَنْزِلِ جَارِهِ (يَكْشِفُ) أَيْ يَنْظُرُ (جَارَهُ مِنْهَا) انْكِشَافًا قَوِيًّا بِحَيْثُ يُمَيِّزُ الذَّكَرَ مِنْ الْأُنْثَى، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ بَعِيدَةً عَنْ مَحَلِّ الْجَارِ أَوْ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الِارْتِفَاعِ بِحَيْثُ لَا يُمْكِنُ الِاطِّلَاعَ مِنْهَا أَوْ قَرِيبَةً لَكِنْ جَعَلَ حَائِلًا يَمْنَعُ الْكَشْفَ فَلَا يُمْنَعُ مِنْ فَتْحِهَا فِي جَمِيعِ مَا ذُكِرَ، وَإِنْ فَتَحَ مَا يُمْنَعُ فَتْحُهُ يُقْضَى عَلَيْهِ بِسَدِّهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ بِسَدِّ كُوَّةٍ فُتِحَتْ أُرِيدَ سَدُّ خَلْفِهَا بَلْ يَجِبُ طَمْسُهَا وَقَلْعُ عَتَبَتِهَا، وَمَفْهُومُ فُتِحَتْ أَنَّ الْكُوَّةَ السَّابِقَةَ عَلَى بَيْتِ الْجَارِ لَا يُقْضَى بِسَدِّهَا، وَلَكِنْ يُمْنَعُ مِنْ التَّطَلُّعِ عَلَى الْجَارِ مِنْهَا، وَالْمُتَنَازَعُ فِي قِدَمِهِ وَحُدُوثِهِ يُحْمَلُ عَلَى الْحُدُوثِ فَيُقْضَى بِسَدِّهِ، وَاخْتُلِفَ إذَا فَتَحَ كُوَّةً مِنْ حَائِطِهِ بِحَيْثُ يَكْشِفُ عَلَى بُسْتَانِ جَارِهِ عَلَى قَوْلَيْنِ، بِخِلَافِ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَزَارِعِ الْجَارِ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ مِنْ (فَتْحِ بَابٍ قُبَالَةَ بَابِهِ) أَيْ بَابِ جَارِ الْفَاتِحِ، فَإِنْ فَعَلَ مُنِعَ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى عَوْرَةِ جَارِهِ، وَمَحَلُّ الْمَنْعِ إذَا كَانَتْ السِّكَّةُ غَيْرَ نَافِذَةٍ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ نَافِذَةً فَلَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ الْبَابِ سَوَاءٌ نَكَّبَهُ وَحَرَّفَهُ عَنْ بَابِ جَارِهِ أَمْ لَا، وَمَفْهُومُ قُبَالَةِ بَابِهِ أَنَّهُ لَوْ نَكَّبَهُ بِأَنْ فَتَحَهُ لَا فِي مُقَابَلَةِ بَابِ جَارِهِ فَإِنَّهُ لَا يُمْنَعُ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ إحْدَاثَ الْبَابِ بِالسِّكَّةِ النَّافِذَةِ جَائِزٌ مُطْلَقًا وَكَذَا بِغَيْرِ النَّافِذَةِ حَيْثُ رَضِيَ أَصْحَابُ السِّكَّةِ أَوْ نَكَّبَهُ، وَالْمُعْتَبَرُ رِضَا مَنْ عَلَيْهِ الضَّرَرُ، وَهَذَا بِخِلَافِ إحْدَاثِ الْحَانُوتِ قُبَالَةَ بَابِ شَخْصٍ فَإِنَّهُ يُمْنَعُ وَلَوْ كَانَتْ السِّكَّةُ نَافِذَةً، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبَابِ حَيْثُ جَازَ بِالسِّكَّةِ النَّافِذَةِ مُطْلَقًا شِدَّةُ الضَّرَرِ مِنْ الْحَانُوتِ دُونَ الْبَابِ بِكَثْرَةِ الْوَاقِفِينَ عَلَى الْحَانُوتِ (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا يَفْعَلُ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ مِنْ (حَفْرِ مَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فِي حَفْرِهِ وَإِنْ كَانَ) الْحَفْرُ (فِي مِلْكِهِ) كَحَفْرِ بِئْرٍ مُلْتَصِقَةٍ بِجَارِهِ أَوْ حَاصِلٍ لِمِرْحَاضِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَقُضِيَ بِمَنْعِ دُخَانٍ كَحَمَّامٍ أَوْ رَائِحَةٍ كَدِبَاغٍ وَأَنْدَرٍ قِبَلَ بَيْتٍ وَمُضِرٍّ بِجِدَارٍ وَإِصْطَبْلٍ أَوْ حَانُوتٍ قُبَالَةَ بَابٍ، وَاخْتُلِفَ فِي إحْدَاثِ مَا يَحُطُّ مِنْ الثَّمَنِ وَلَا يَضُرُّ بِجِدَارٍ، كَإِحْدَاثِ فُرْنٍ بِقُرْبِ فُرْنٍ، أَوْ حَمَّامٍ بِقُرْبِ حَمَّامٍ يَمْنَعُ الْجَارَ مِنْ إحْدَاثِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَاخْتُلِفَ فِي إحْدَاثِ الْبِئْرِ بِقُرْبِ بِئْرِ الْجَارِ فَبَعْضُهُمْ أَجَازَهَا وَقَالَهُ أَشْهَبُ إنْ لَزِمَ عَلَى حَفْرِهَا اسْتِفْرَاغُ مَائِهَا مُنِعَ وَإِلَّا فَلَا. (تَنْبِيهٌ) فُهِمَ مِنْ مَنْعِ إحْدَاثِ مَا ذُكِرَ عَدَمُ مَنْعِ إحْدَاثِ مَانِعٍ نَحْوِ الضَّوْءِ قَالَ: مَنْعِ ضَوْءٍ وَشَمْسٍ وَرِيحٍ أَيْ عَنْ الْجَارِ إلَّا عَنْ أَنْدَرٍ أَوْ عَنْ طَاحُونٍ تَدُورُ بِالرِّيحِ فَإِنَّهُ يُمْنَعَ مِنْ إحْدَاثِ مَا يَمْنَعُهُ لِشِدَّةِ حَالِ الْأَنْدَرِ وَالطَّاحُونِ الْمَذْكُورَةِ لِلرِّيحِ، وَمِمَّا لَا يَمْنَعُ الْجَارَ مِنْ إحْدَاثِهِ عُلُوُّ بِنَائِهِ عَلَى بِنَاءِ جَارِهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْمُعَلَّى كَإِجَارَةِ مُسْلِمٍ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الطُّرْطُوشِيُّ: يُمْنَعُ الْكَافِرُ مِنْ تَعْلِيَةِ بِنَائِهِ عَلَى الْمُسْلِمِ، وَحَكَى فِي الْمُسَاوَاةِ قَوْلَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ اشْتَرَى بِنَاؤُهَا أَعْلَى مِنْ بِنَاءِ مُجَاوِرِهَا مِنْ دُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَا يُمْنَعُ وَيُقِرُّ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ مَا قَالَهُ الطُّرْطُوشِيُّ نَقَلَهُ مِنْ مَذْهَبِ أَبِي كَالْمُسْتَصْوِبِ لَهُ، وَكَذَا لَا يُمْنَعُ مِنْ إحْدَاثِ صَوْتٍ كَكَمَدٍ وَقَصْرٍ، إلَّا أَنْ يَشْتَدَّ ضَرَرُهُ وَيَدُومَ وَإِلَّا مُنِعَ. (فَرْعٌ) الْمَنَارَةُ يَكْشِفُ الْوَاقِفُ عَلَيْهَا أَصْحَابَ الدُّورِ الَّتِي بِجَوَانِبِهَا يُمْنَعُ مِنْ الصُّعُودِ عَلَيْهَا وَلَوْ كَانَتْ قَدِيمَةً عَلَى بِنَاءِ مَا حَوْلَهَا، وَأَمَّا أَنَّ الْمُؤَذِّنَ أَعْمَى أَوْ لَهَا حَاجِزٌ يَمْنَعُ النَّظَرَ لِمَا حَوْلَهَا فَلَا يُمْنَعُ الصُّعُودَ عَلَيْهَا، وَهَذَا لَا يُنَافِي جَوَازَ الصُّعُودِ عَلَى نَخْلَةٍ يَطْلُعُ فَوْقَهَا عَلَى مَا بِجَانِبِهَا لِنُدُورِ الصُّعُودِ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْمَنَارَةِ، وَأَيْضًا الصَّاعِدُ عَلَى النَّخْلَةِ يَجِبُ عَلَيْهِ إنْذَارُ الْجَارِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُؤَذِّنُ لَك يَقْدِرُ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: تَكَرَّرَ إلَّا أَنْ يَقْتَضِيَ مَشَقَّةَ الْإِنْذَارِ. ثُمَّ بَيَّنَ الَّذِي يُقْضَى لَهُ بِالْحَائِطِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ بَيْنَ الْجَارَيْنِ. (وَيُقْضَى بِالْحَائِطِ) الْمَوْضُوعِ بَيْنَ الْجَارَيْنِ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 بِهِ الْكَلَأُ وَأَهْلُ الْمَاشِيَةِ أَحَقُّ بِهَا حَتَّى يَسْقُوا ثُمَّ النَّاسُ فِيهَا سَوَاءٌ وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِهِ عَيْنٌ أَوْ بِئْرٌ فَلَهُ مَنْعُهَا إلَّا أَنْ تَنْهَدِمَ   [الفواكه الدواني] بَيِّنَةَ تَشْهَدُ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا (لِمَنْ إلَيْهِ) أَيْ إلَى جِهَتِهِ (الْقِمْطُ) بِكَسْرِ الْقَافِ وَإِسْكَانِ الْمِيمِ جَمْعُ قِمَاطٍ (وَالْعُقُودُ) لَكِنْ بَعْدَ يَمِينِهِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَوْنَهُ فِي جِهَةٍ وَاحِدَةٍ بِمَنْزِلَةِ شَاهِدٍ شَهِدَ لَهُ اُخْتُلِفَ فِي تَفْسِيرِهِمَا، فَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِتَرَادُفِهِمَا وَهُوَ تَدَاخُلُ بَعْضِ الْبِنَاءِ فِي بَعْضِهِ، وَقِيلَ الْقِمْطُ الْخَشَبُ الَّذِي يُجْعَلُ فِي وَسَطِ الْحَائِطِ لِيَحْفَظَهُ مِنْ الْكَسْرِ، وَالْعُقُودُ تَنَاكُحُ الْأَحْجَارِ فِي بَعْضِهَا، فَإِنْ كَانَا مِنْ جِهَتِهِمَا أَوْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَائِطِ شَيْءٌ مِنْهُمَا كَانَ الْحَائِطُ مُشْتَرِكًا بَيْنَهُمَا، وَإِنَّمَا يُقْضَى بِذَلِكَ بِمَعْرِفَةِ الْعُدُولِ مِنْ أَهْلِ الْمَعْرِفَةِ، فَإِنْ انْفَرَدَ غَيْرُ الْعُدُولِ بِمَعْرِفَةِ ذَلِكَ قَبْلَ إخْبَارِهِمْ قَالَ خَلِيلٌ: وَقِيلَ لِلتَّعَذُّرِ غَيْرُ الْعُدُولِ وَإِنْ مُشْرِكِينَ وَالْوَاحِدُ كَافٍ، وَقَيَّدْنَا بِعَدَمِ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّهَا لَوْ شَهِدَتْ أَنَّهُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لَعُمِلَ بِشَهَادَتِهَا، وَلَوْ كَانَ الْقِمْطُ أَوْ الْعَقْدُ لِجِهَةٍ غَيْرِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَنْعِ مَا أَصْلُهُ مُبَاحٌ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَنْبَغِي لِمَنْ فِي أَرْضِهِ غَدِيرَانِ (يُمْنَعُ فَضْلُ الْمَاءِ) الزَّائِدِ عَلَى حَاجَتِهِ مِنْهُ (لِيُمْنَعَ بِهِ الْكَلَأُ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالْهَمْزِ فِي آخِرِهِ أَيْ الْحَشِيشُ الَّذِي هُوَ مُبَاحٌ لِجَمِيعِ النَّاسِ، وَكَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهُ وَلَا هِبَتُهُ وَلَا يُورَثُ عَنْهُ، وَمِمَّا لَا يُمْنَعُ فَضْلُ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ بَلْ يُجْبَرُ صَاحِبُهُ عَلَى تَمْكِينِ الْمُحْتَاجِ مِنْهُ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْجَبْرِ: كَفَضْلِ بِئْرِ مَاشِيَةٍ بِصَحْرَاءَ هَدَرًا إنْ لَمْ يُبَيِّنْ الْمِلْكِيَّةَ حِينَ حَفَرَهَا، أَمَّا إنْ بَيَّنَ ذَلِكَ وَأَشْهَدَ أَنَّهُ إنَّمَا حَفَرَهَا عَلَى أَنْ تَكُونَ مِلْكًا لَهُ فَلَهُ مَنْعُ فَضْلِ مَائِهَا عَنْ غَيْرِهِ. وَالْأَصْلُ فِيمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَمْنَعُوا فَضْلَ الْمَاءِ لِتَمْنَعُوا فَضْلَ الْكَلَأِ» أَيْ لَا تَمْنَعُوا مَنْ يُرِيدُ سَقْيَ مَاشِيَةٍ مِنْ فَضْلِ هَذَا الْمَاءِ لِيَبْقَى لَكُمْ الْكَلَأُ؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي إذَا عَلِمُوا أَنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنْ السَّقْي مِنْ هَذَا الْمَاءِ يَتْرُكُونَ الْكَلَأَ الْقَرِيبَ مِنْهُ، وَأَيْضًا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يَنْظُرُ إلَيْهِمْ: رَجُلٌ حَلَفَ عَلَى سِلْعَتِهِ لَقَدْ أَعْطَى أَكْثَرَ مِمَّا أَعْطَى وَهُوَ كَاذِبٌ، وَرَجُلٌ حَلَفَ يَمِينًا بَعْدَ الْعَصْرِ لِيَقْطَعَ بِهَا مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ، وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ مَاءٍ فَيَقُولُ اللَّهُ الْيَوْمَ أَمْنَعُك فَضْلِي كَمَا مَنَعْت فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدُك» أَيْ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمِيَاهِ الْكَائِنَةِ فِي الْأَرْضِ إنَّمَا نَزَلَتْ مِنْ السَّمَاءِ وَهِيَ عَلَى الْإِبَاحَةِ حَتَّى يَتَمَلَّكَهَا الْإِنْسَانُ. (تَنْبِيهٌ) وَكَمَا لَا يَمْنَعُ فَضْلَ الْمَاءِ الْمُبَاحِ لَا يَمْنَعُ اصْطِيَادَ السَّمَكِ مِنْهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَمْنَعُ صَيْدَ سَمَكٍ، وَأَنَّ مَنْ مَلَكَهُ سَوَاءٌ كَانَتْ أَرْضَ صُلْحٍ أَوْ عَنْوَةٍ وَلَوْ كَانَ قَدْ طَرَحَ السَّمَكَ فِيهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. وَكَذَا لَا يَمْنَعُ مِنْ رَعْيِ الْكَلَأِ الَّذِي فِي أَرْضِهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَزْرَعْهُ، إلَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ تَرَكَ زَرْعَهَا لِأَجْلِ رَعْيِ كَلَئِهَا، أَوْ يَكُونَ زَرَعَهُ مُكْتَنِفًا وَمُحْتَاطًا بِالْكَلَأِ بِحَيْثُ يَكُونُ عَلَيْهِ فِي رَعْيِهِ ضَرَرٌ، وَإِلَّا فَلَهُ مَنْعُ الْغَيْرِ مِنْهُ. وَلَمَّا كَانَ عَدَمُ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ لَا يُنَافِي تَقْدِيمَ صَاحِبِهِ قَالَ: (وَأَهْلُ آبَارِ الْمَاشِيَةِ أَحَقُّ بِهَا) أَيْ بِمَاءِ تِلْكَ الْآبَارِ الَّتِي حَفَرُوهَا فِي الصَّحْرَاءِ لِشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ، وَلَهُمْ مَنْعُ غَيْرِهِمْ مِنْ مُسَافِرٍ وَحَاضِرٍ (حَتَّى يَسْقُوا ثُمَّ) بَعْدَ كِفَايَتِهِمْ (النَّاسُ فِيهَا) أَيْ فِي مِيَاهِ تِلْكَ الْآبَارِ (سَوَاءٌ) حَيْثُ اسْتَوَوْا فِي الْوَصْفِ،؛ لِأَنَّ أَرْبَابَ الْمَوَاشِي لَمْ يَحْفِرُوهَا لِبَيْعِ مَائِهَا، وَأَمَّا لَوْ اخْتَلَفَتْ أَوْصَافُ النَّاسِ فَلَمْ يَكُونُوا فِيهَا سَوَاءً بَلْ الْمُسَافِرُ يَقْدَمُ عَلَى الْحَاضِرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبُدِئَ بِمُسَافِرٍ وَعَلَى رَبِّ الْمَاءِ أَنْ يُعِيرَهُ آلَةَ الِاسْتِقَاءِ، ثُمَّ بَعْدَهُ الْحَاضِرُ، ثُمَّ دَابَّةُ رَبِّ الْمَاءِ وَكُلُّ مَنْ قَدِمَ فَيَقْدَمُ بِجَمِيعِ رَبِّهِ وَفِي كَلَامِ خَلِيلٍ بَيَانُ مَا أَجْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ، فَإِنَّ الْعَلَّامَةَ خَلِيلًا بَيَّنَ الْمُقَدَّمَ، وَمُحَصِّلُهُ: أَنَّ الْمُقَدَّمَ رَبُّ الْمَاءِ بِشُرْبِ نَفْسِهِ ثُمَّ الْمُسَافِرُ ثُمَّ الْحَاضِرُ ثُمَّ بَعْدَ رَيِّ الْأَنْفُسِ تُقَدَّمُ الدَّوَابُّ، فَتُقَدَّمُ دَوَابُّ رَيِّ الْمَاءِ ثُمَّ دَوَابُّ الْمُسَافِرِ ثُمَّ مَاشِيَةُ رَبِّ الْمَاءِ ثُمَّ مَاشِيَةُ الْمُسَافِرِ ثُمَّ مَاشِيَةُ النَّاسِ فِي الْفَضْلِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ الدَّوَابُّ عَلَى الْمَاشِيَةِ؛ لِأَنَّ الْمَاشِيَةَ إذَا خِيفَ عَلَيْهَا الْمَوْتُ تُذْكَى بِخِلَافِ الدَّوَابِّ وَهَذَا كَلَامُ الْأَقْفَهْسِيِّ. وَاسْتَظْهَرَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ أَنَّ مَاشِيَةَ الْمُسَافِرِ وَدَابَّتَهُ فِي مَرْتَبَةٍ وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ الْمَاءُ فِيهِ كِفَايَةٌ لِلْجَمِيعِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى كِفَايَةِ أَرْبَابِهِ فَتَارَةً تُسَوَّى حَاجَتُهُمْ إلَيْهِ، وَتَارَةً تَخْتَلِفُ، فَإِنْ اخْتَلَفَتْ بِأَنْ كَانَ يَحْصُلُ لِبَعْضِهِمْ الْمَشَقَّةُ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ عَلَى غَيْرِهِ وَلَوْ كَانَ غَيْرَ رَبِّ الْمَاءِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ لَوْ كَانَ الْجَهْدُ يَحْصُلُ لِلْكُلِّ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَخْتَلِفُ بِالْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ مَنْ هُوَ أَقْوَى جَهْدًا عَلَى غَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ اسْتَوَى حَالُ الْجَمِيعِ فِي الْجَهْدِ بِتَقْدِيمِ غَيْرِهِ عَلَيْهِ فَقَوْلَانِ الْأَظْهَرُ مِنْهُمَا تَقْدِيمُ رَبِّ الْمَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ ثَلَاثٌ: انْفِرَادُ وَاحِدٍ بِالْجَهْدِ، حُصُولُ الْجَهْدِ لِلْجَمِيعِ لَكِنْ بِتَفَاوُتٍ، يُقَدَّمُ الْمُنْفَرِدُ بِالْجَهْدِ وَمَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْ غَيْرِهِ، وَالصُّورَةُ الثَّالِثَةُ اسْتِوَاؤُهُ فِي الْجَمِيعِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ الْخِلَافِ تَقْدِيمُ رَبِّ الْمَاءِ، وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا بِتَقْدِيمِهِ فَإِنَّهُ يُقَدَّمُ حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ الْجَهْدُ لَا بِجَمِيعِ الرَّيِّ، وَسَيَأْتِي أَنَّهُ لَا شَيْءَ لِصَاحِبِ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ فِي فَضْلِ مَائِهَا إنْ لَمْ يَكُنْ بَيِّنَ الْمِلْكِيَّةِ حِينَ حَفَرَهَا وَوُجِدَ مَعَ الْمُحْتَاجِ الثَّمَنُ، وَإِلَّا فَلَا ثَمَنَ لَهُ وَلَوْ كَانَ مَلِيًّا بِبَلَدِهِ، وَهَذَا تَحْرِيرٌ حَسَنٌ فَشَدِيدُك عَلَيْهِ وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ الْمَاءِ الْكَائِنِ فِي نَحْوِ الْغُدْرَانِ أَوْ فِي بِئْرِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي تُحْفَرُ لِمُجَرَّدِ السَّقْيِ مِنْهَا لَا بِنِيَّةِ تَمَلُّكِهَا شَرَعَ فِي غَيْرِهِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ كَانَ فِي أَرْضِهِ) الْمَمْلُوكَةِ لَهُ ذَاتٌ أَوْ مَنْفَعَةٌ (عَيْنٌ أَوْ بِئْرٌ فَلَهُ مَنْعُهَا) مِنْ غَيْرِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَاَلَّذِي مَا جَلَّ وَبِئْرٌ وَمِرْسَالُ مَطَرٍ كَمَا يَمْلِكُهُ مَنْعُهُ وَبَيْعُهُ إلَّا مَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 بِئْرُ جَارِهِ وَلَهُ زَرْعٌ يَخَافُ عَلَيْهِ فَلَا يَمْنَعُهُ فَضْلَهُ وَاخْتُلِفَ هَلْ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ ثَمَنٌ أَمْ لَا وَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّجُلُ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ وَمَا أَفْسَدَتْ الْمَاشِيَةُ مِنْ الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ بِاللَّيْلِ فَذَلِكَ عَلَى أَرْبَابِ الْمَاشِيَةِ   [الفواكه الدواني] خِيفَ عَلَيْهِ وَلَا ثَمَنَ مَعَهُ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُمَكِّنَهُ مِنْهُ مَجَّانًا وَلَا يَتْبَعُهُ بِثَمَنِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَوْ كَانَ مَلِيًّا بِبَلَدِهِ لِوُجُوبِ مُوَاسَاتِهِ، إلَّا مَا فَضَلَ مِنْ بِئْرِ الزَّرْعِ الْكَائِنِ فِي أَرْضِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ تَنْهَدِمَ بِئْرُ جَارِهِ وَلَهُ زَرْعٌ) زَرَعَهُ عَلَى تِلْكَ الْبِئْرِ الْمُنْهَدِمَةِ وَالْحَالُ أَنَّهُ (يَخَافُ عَلَيْهِ) التَّلَفَ مِنْ الْعَطَشِ (فَلَا يَمْنَعُهُ) أَيْ لَا يَمْنَعُ صَاحِبُ الْعَيْنِ أَوْ الْبِئْرِ جَارَهُ (فَضْلَهُ) أَيْ فَضْلَ الْمَاءِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ تَمْكِينُهُ مِنْ سَقْيِ زَرْعِهِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْجَبْرِ: كَفَضْلِ بِئْرِ زَرْعٍ خِيفَ عَلَى زَرْعِ جَارِهِ بِهَدْمِ بِئْرِهِ وَأَخَذَ يُصْلِحُ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ، وَالْمُصَنِّفُ يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ زَرْعٌ عَلَى أَصْلِ مَاءِ أَوْ لَمْ يَشْرَعْ فِي الْإِصْلَاحِ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُ الْفَضْلِ لَهُ، وَلَمَّا كَانَ لَا يَلْزَمُ مِنْ عَدَمِ مَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ عَدَمُ لُزُومِ الثَّمَنِ قَالَ: (وَاخْتُلِفَ هَلْ عَلَيْهِ) أَيْ الْجَارِ (فِي ذَلِكَ) الْمَاءِ الْفَاضِلِ مِنْ بِئْرِ الزَّرْعِ. (ثَمَنٌ أَمْ لَا) عَلَى قَوْلَيْنِ الْمَذْهَبُ مِنْهُمَا أَنَّهُ لَا ثَمَنَ عَلَيْهِ وَلَوْ كَانَ مَلِيًّا؛ لِأَنَّ ظَاهِرَ الْمُدَوَّنَةِ، وَمُقَابِلُهُ لِابْنِ يُونُسَ يَلْزَمُهُ الثَّمَنُ إنْ كَانَ مَعَهُ وَلَكِنَّهُ ضَعِيفٌ، وَقَيَّدْنَا الْخِلَافَ بِثَمَنِ فَضْلِ بِئْرِ الزَّرْعِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ فَضْلِ بِئْرِ الدَّارِ وَنَحْوِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمِيَاهِ الْمَمْلُوكَةِ، فَإِنَّ فِيهِ الثَّمَنُ قَوْلًا وَاحِدًا حَيْثُ كَانَ مَوْجُودًا مَعَ الْمُحْتَاجِ إلَى الْمَاءِ لَا إنْ لَمْ يُوجَدْ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ بِئْرَ الزَّرْعِ لَمْ يَقْصِدْ حَافِرُهَا بَيْعَ مَائِهَا فَأَشْبَهَتْ بِئْرَ الْمَاشِيَةِ، فَيَجِبُ عَلَى حَافِرِهَا دَفْعُ الْفَاضِلِ مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا عَلَى ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ فَضْلَ بِئْرِ الْمَاشِيَةِ الَّتِي لَمْ يُبَيِّنْ حَافِرُهَا الْمِلْكِيَّةَ، وَفَضْلُ بِئْرِ الزَّرْعِ بِشُرُوطِهِ يُجْبَرُ مَالِكُهُمَا عَلَى دَفْعِهِمَا مِنْ غَيْرِ ثَمَنٍ وَلَوْ كَانَ مَوْجُودًا، وَأَمَّا فَضْلُ بِئْرِ غَيْرِهِمَا مِمَّا لَهُ مَنْعُهُ وَذَلِكَ كَمَاءِ بِئْرٍ أَوْ صِهْرِيجٍ فِي مِلْكِهِ أَوْ بِئْرِ مَاشِيَةٍ أَشْهَدَ عَلَى قَصْدِ تَمَلُّكِهَا حِينَ حَفَرَهَا فَإِنَّمَا فِيهِ الثَّمَنُ إنْ كَانَ مَوْجُودًا، وَمِثْلُ ثَمَنِ الْمَاءِ ثَمَنُ الطَّعَامِ وَاللِّبَاسِ لِلْمُضْطَرِّ. قَالَ خَلِيلٌ: كَفَضْلِ طَعَامٍ أَوْ شَرَابٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: أَوْ لِبَاسٌ لِمُضْطَرِّ وَلَهُ الثَّمَنُ إنْ وُجِدَ وَإِلَّا وَجَبَ دَفْعُهُ مَجَّانًا، وَكُلُّ مَنْ قُلْنَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ فَضْلِ الْمَاءِ أَوْ الطَّعَامِ أَوْ اللِّبَاسِ لِلْمُضْطَرِّ إنْ امْتَنَعَ يَجُوزُ لَهُ مُقَاتَلَتُهُ، وَمَنْ قُتِلَ مِنْ أَهْلِ الْمَاءِ أَوْ الطَّعَامِ يَكُونُ دَمُهُ هَدَرًا، وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْمُضْطَرِّينَ فَفِيهِ الْقِصَاصُ، فَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مُقَاتَلَةٌ وَتَرَكُوهُمْ حَتَّى مَاتُوا عَطَشًا أَوْ جُوعًا فَدِيَاتُهُمْ عَلَى عَوَاقِلِ رَبِّ الْمَاءِ أَوْ الطَّعَامِ، وَقِيلَ: يُقْتَلُونَ بِهِمْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ التَّرْكَ بِمَنْزِلَةِ الْفِعْلِ، وَيُقَاسُ عَلَى ذَلِكَ مَانِعُ الزَّكَاةِ عَنْ مُسْتَحِقِّهَا، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَمْ يُقْصَدْ بِمَنْعِ فَضْلِ الْمَاءِ أَوْ الطَّعَامِ قَتْلُ الْمُضْطَرِّ، وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى قَتْلِهِ فِيهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ مُشَبِّهًا فِي الْقِصَاصِ: كَخَنْقٍ وَمَنْعِ طَعَامٍ وَمِثْلُهُ الشَّرَابُ لِمُضْطَرٍّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ تَتَعَلَّقُ بِالْجَارِ وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمُهَا عِنْدَ قَوْلِهِ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي مَسَائِلِ الْجَارِ: وَلَا يَضُرُّ بِجَارِهِ فَقَالَ: (وَيَنْبَغِي) أَيْ يُنْدَبُ (أَنْ لَا يَمْنَعَ الرَّجُلُ) الْمُجَاوِرُ لِغَيْرِهِ (جَارَهُ) مِنْ (أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ فِي جِدَارِهِ) لِمَا فِيهِ مِنْ الْإِرْفَاقِ وَجَلْبِ الْمَوَدَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إعَارَةُ جِدَارِهِ لِغَرْزِ خَشَبِهِ وَإِرْفَاقٍ بِمَاءٍ وَفَتْحِ بَابٍ، وَالنَّهْيُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَمْنَعُ أَحَدُكُمْ جَارَهُ أَنْ يَغْرِزَ خَشَبَهُ» لِلْكَرَاهَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَ مَحَلُّ الْجَارِ مِلْكًا لَهُ أَوْ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا نَاظِرُ الْمَسْجِدِ أَوْ نَائِبُهُ فَاخْتُلِفَ هَلْ يُنْدَبُ لَهُ إعَارَةُ الْجَارِ مَوْضِعًا لِغَرْزِ خَشَبِهِ فِيهِ أَوْ يُمْنَعُ عَلَى قَوْلَيْنِ الرَّاجِحُ مِنْهُمَا الْمَنْعُ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ وَلَوْ عَلَى بُعْدٍ حَمْلٌ يَنْبَغِي عَلَى الْوُجُوبِ الَّذِي يُقْضَى بِهِ دَفْعُهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يُقْضَى عَلَيْهِ) أَيْ الْجَارِ بِالْإِعَارَةِ لِمَوْضِعِ غَرْزِ الْخَشَبَةِ، وَيَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّ عَدَمِ الْقَضَاءِ مَا لَمْ يَضْطَرَّ الْجَارُ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ بِالْقَضَاءِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ مَا لَوْ أَعَارَهُ الْجَارُ مَوْضِعًا لِغَرْزِ خَشَبَةٍ مِنْ جِدَارِهِ وَأَرَادَ الْمَنْعَ، فَلَيْسَ لَهُ الرُّجُوعُ إلَّا بَعْدَ الْمُدَّةِ الْمُعَيَّنَةِ أَوْ الْمُعْتَادَةِ، وَأَمَّا لَوْ أُعِيرَ لِلْبِنَاءِ أَوْ الْغَرْسِ فَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلَا الْإِخْرَاجِ فِي كَبِنَاءٍ إنْ دَفَعَ مَا أَنْفَقَ، وَفِيهَا أَيْضًا قِيمَتُهُ وَهَلْ خِلَافُ أَوْ قِيمَةُ مَا أَنْفَقَ إنْ لَمْ يَشْتَرِهِ أَوْ إنْ طَالَ أَوْ إنْ اشْتَرَاهُ بِغَبْنٍ كَثِيرٍ تَأْوِيلَاتٌ. ثُمَّ شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا أَفْسَدَتْهُ الدَّابَّةُ الَّتِي لَا سَائِقَ لَهَا وَلَا قَائِدَ وَلَا رَاكِبَ بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْكَلَامَ عَلَى الَّتِي لَهَا سَائِقٌ أَوْ رَاكِبٌ فَقَالَ: (وَمَا أَفْسَدَتْ الْمَاشِيَةُ) الْمُمْكِنَةُ الْحِرَاسَةِ وَغَيْرُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْعَدَاءِ (مِنْ الزَّرْعِ وَالْحَوَائِطِ بِاللَّيْلِ فَذَلِكَ) أَيْ وَاجِبٌ مَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ قِيمَةٍ أَوْ مِثْلٍ (عَلَى أَرْبَابِ الْمَاشِيَةِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا أَتْلَفَتْهُ الْبَهَائِمُ لَيْلًا فَعَلَى رَبِّهَا، وَإِنْ زَادَ عَلَى قِيمَتِهَا فَقِيمَتُهُ عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ، وَذَلِكَ بِأَنْ يُقَالَ مَا قِيمَتُهُ الْآنَ عَلَى جَوَازِ شِرَائِهِ عَلَى تَقْدِيرِ تَمَامِهِ سَالِمًا وَعَلَى تَقْدِيرِ جَائِحَتِهِ كُلًّا أَوْ بَعْضًا، فَلَوْ تَأَخَّرَ الْحُكْمُ حَتَّى عَادَ الزَّرْعُ لِهَيْئَتِهِ سَقَطَتْ قِيمَتُهُ، وَلَيْسَ لِرَبِّ الْمَاشِيَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الْمَاشِيَةَ فِي قِيمَةِ مَا أَفْسَدَتْهُ بِخِلَافِ الْعَبْدِ الْجَانِي، وَلَعَلَّ الْفَرْقَ أَنَّ الْعَبْدَ مُكَلَّفٌ فَهُوَ الْجَانِي بِخِلَافِ الْمَاشِيَةِ، وَهَذَا فِيمَا أَتْلَفَتْهُ مِنْ الزَّرْعِ قَبْلَ بُدُوِّ الصَّلَاحِ، وَأَمَّا مَا أَتْلَفَتْهُ بُدُوُّ صَلَاحِهِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ قِيمَتَهُ عَلَى الْبَتِّ لَا عَلَى الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ وَمَحَلُّ الضَّمَانِ إذَا تَرَكُوهَا مِنْ غَيْرِ رَبْطٍ، وَأَمَّا لَوْ رَبَطُوهَا رَبْطًا وَثِيقًا أَوْ غَلَّقُوا عَلَيْهَا الْبَابَ كَذَلِكَ لَانْتَفَى عَنْهَا الضَّمَانُ قَالَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ، وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: مِنْ الزُّرُوعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي فَسَادِ النَّهَارِ وَمَنْ وَجَدَ سِلْعَتَهُ فِي التَّقْلِيسِ فَإِمَّا حَاصَصَ وَإِلَّا أَخَذَ سِلْعَتَهُ إنْ كَانَتْ تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا وَهُوَ فِي الْمَوْتِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ وَالضَّامِنُ غَارِمٌ وَحَمِيلُ الْوَجْهِ إنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ غَرِمَ حَتَّى يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَغْرَمَ وَمَنْ أُحِيلَ   [الفواكه الدواني] وَالْحَوَائِطِ عَمَّا إذَا وَطِئَتْ شَخْصًا نَائِمًا مَثَلًا فَقَتَلَتْهُ وَلَمْ يَكُنْ لَهَا سَائِقٌ وَلَا قَائِدٌ وَلَا رَاكِبٌ حَرَّكَهَا فَإِنَّهُ لَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِهَا، كَمَا قَدَّمْنَاهُ عِنْدَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَالسَّائِقُ وَالْقَائِدُ إلَخْ. ثُمَّ بَيَّنَ مَفْهُومَ بِاللَّيْلِ بِقَوْلِهِ (وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِي فَسَادِ) الزُّرُوعِ وَالْحَوَائِطِ الْوَاقِعِ مِنْهَا (النَّهَارِ) بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا رَاعٍ، فَإِنْ كَانَ مَعَهَا رَاعٍ فَالضَّمَانُ عَلَيْهِ حَيْثُ سَرَّحَهَا قَرِيبَةً مِنْ الْمَزَارِعِ، وَأَمَّا لَوْ سَرَّحَهَا فِي مَحَلٍّ بَعِيدٍ فَكَذَلِكَ عَلَى ظَاهِرِ مَا لِابْنِ نَاجِي، وَقَالَ غَيْرُهُ حَيْثُ سَرَحَتْ بَعْدَ الْمَزَارِعِ: يَكُونُ مَا أَتْلَفَهُ هَدَرًا كَانَ مَعَهَا رَاعٍ أَمْ لَا. الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ سَرَحَتْ بَعْدَ الْمَزَارِعِ بِحَيْثُ يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ أَنَّهَا لَا تُؤْذِي شَيْئًا مِنْ زُرُوعِ النَّاسِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ ضَمَانَ مَا أَتْلَفَتْهُ نَهَارًا يَنْتَفِي عَنْ رَبِّهَا بِالرَّاعِي الَّذِي يَقْدِرُ عَلَى دَفْعِهَا أَوْ بِتَسْرِيحِهَا بَعْدَ الْمَزَارِعِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا رَاعٍ أَوْ كَانَ لَكِنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى دَفْعِهَا وَسَرَحَتْ قُرْبَ الْمَزَارِعِ فَالضَّمَانُ عَلَى رَبِّهَا. قَالَ خَلِيلٌ: لَا نَهَارًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا رَاعٍ وَسَرَحَتْ بَعْدَ الْمَزَارِعِ، وَإِلَّا فَعَلَى الرَّاعِي أَوْ عَلَى رَبِّهَا. وَقَوْلُنَا: الْمُمْكِنَةُ الْحِرَاسَةِ احْتِرَازٌ عَنْ الَّتِي لَا تُمْكِنُ حِرَاسَتُهَا كَالْحَمَامِ وَالنَّحْلِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَى أَرْبَابِهِ فِيمَا أَتْلَفَهُ، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنْ اتِّخَاذِهِ عَلَى مَا عَلَيْهِ ابْنُ الْقَاسِمِ وَجَمَاعَةٌ، وَعَلَى أَرْبَابِ الزُّرُوعِ حِفْظُهَا، وَمَحَلُّ جَوَازِ اقْتِنَاءِ نَحْوِ النَّحْلِ وَالْحَمَامِ إذَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَيْهِ أَخْذُ مِلْكِ الْغَيْرِ مِنْهَا، وَذَلِكَ أَنْ يَتَّخِذَ الْبُرْجَ فِي مَحَلٍّ بَعِيدٍ عَنْ بُرْجِ الْغَيْرِ، وَيَضَعَ الْجَبْحَ لِلنَّحْلِ كَذَلِكَ بِحَيْثُ لَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ دُخُولُ مَا فِي بُرْجِ غَيْرِهِ فِيهِ، فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يُصَادُ حَمَامُ الْأَبْرِجَةِ، وَمَنْ صَادَ مِنْهُ شَيْئًا رَدَّهُ إنْ عَرَفَ رَبَّهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ رَبَّهُ أَرْسَلَهُ وَلَا يَأْكُلُهُ، بِخِلَافِ مَا يَصِيدُهُ مِنْ الْجَبَلِ أَوْ يَدْخُلُ فِي بُرْجِهِ الْمَصْنُوعِ فِي الْجَبَلِ، أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِمَّا لَا يَصِلُ إلَيْهِ مَا فِي بُرْجِ الْغَيْرِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَكْلُهُ عَلَى صَحِيحِ مَذْهَبِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. وَقَوْلُنَا: وَغَيْرُ الْمَعْرُوفَةِ بِالْعَدَاءِ احْتِرَازٌ عَنْ الَّتِي شَأْنُهَا الْعَدَاءُ نَحْوُ فَحْلِ الْجَامُوسِ وَغَيْرِهِ مِمَّا شَأْنُهُ الْغَدْرُ، فَإِنَّ صَاحِبَهُ يَضْمَنُ جَمِيعَ مَا أَتْلَفَهُ بِاللَّيْلِ أَوْ النَّهَارِ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ ضَبْطُهُ بِالرَّبْطِ الْوَثِيقِ، وَبِقَيْدِ ضَمَانِ صَاحِبِهِ بِإِنْذَارِهِ؛ لِأَنَّهُ صَارَ كَالْكَلْبِ الْعَقُورِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مِنْ التَّفْصِيلِ بَيْنَ الزُّرُوعِ وَغَيْرِهَا مَا رَوَاهُ مَالِكٌ فِي مُوَطَّئِهِ: «أَنَّ نَاقَةَ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ دَخَلَتْ حَائِطًا فَأَفْسَدَتْ فِيهِ فَقَضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ الْحَوَائِطِ بِحِفْظِهَا بِالنَّهَارِ، وَعَلَى أَهْلِ الْمَاشِيَةِ بِحِفْظِهَا بِاللَّيْلِ، وَأَنَّ مَا أَفْسَدَتْهُ بِاللَّيْلِ يَضْمَنُهُ أَهْلُهَا حَيْثُ لَمْ يَضْبِطُوهَا» . [بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْفَلَسِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ مَسَائِلِ الْفَلَسِ وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ رُشْدٍ عَدَمُ الْمَالِ، وَأَمَّا التَّفْلِيسُ فَيَنْقَسِمُ إلَى أَعَمَّ وَأَخَصَّ، فَالْأَعَمُّ قِيَامُ ذِي دَيْنٍ عَلَى مَدِينِهِ لَيْسَ لَهُ مَا يَنْفِي بِهِ، وَالْأَخَصُّ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ كُلِّ مَالِ الْمَدِينِ لِغُرَمَائِهِ لِعَجْزِهِ عَنْ قَضَاءِ مَا لَزِمَهُ، وَالْأَعَمُّ لَا يَحْتَاجُ إلَى حَاكِمٍ إذْ هُوَ مُجَرَّدُ قِيَامِ صَاحِبِ الدَّيْنِ عَلَى مَنْ أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ، بِخِلَافِ الْأَخَصِّ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حُكْمِ الْحَاكِمِ وَلِكُلِّ حُكْمٍ يَخُصُّهُ. فَمِنْ أَحْكَامِ الْأَعَمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ يَمْنَعَ مَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ مِنْ تَبَرُّعَاتِهِ وَمِنْ سَفَرِهِ الَّذِي يَحِلُّ فِيهِ الدَّيْنُ، وَلَا يَمْنَعُهُ مِنْ نَحْوِ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَنَحْوِهِمَا مِمَّا فِيهِ تَنْمِيَةٌ لِلْمَالِ. وَمِنْ أَحْكَامِ الْأَخَصِّ أَنَّهُ إنْ طَلَبَ صَاحِبُ الدَّيْنِ بَيْعَ جَمِيعِ مَالِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ فَإِنَّهُ يُجَابُ إلَى ذَلِكَ وَيُحْبَسُ حَتَّى يَثْبُتَ عُسْرُهُ عِنْدَ جَهْلِ حَالِهِ وَيُمْنَعُ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ حَتَّى الْمَالِيَّةِ، وَإِذَا كَانَ اشْتَرَى مِنْ شَخْصٍ سِلْعَةً وَلَمْ يَدْفَعْ ثَمَنَهَا قَبْلَ تَفْلِيسِهِ ثُمَّ فَلِسَ فَلِصَاحِبِهَا أَنْ يَأْخُذَهَا وَإِلَيْهَا الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ وَجَدَ سِلْعَةً) الَّتِي بَاعَهَا وَلَمْ يَقْبِضْ ثَمَنَهَا وَلَمْ يَطْلُبْهُ إلَّا (فِي) زَمَنِ (التَّفْلِيسِ) الْأَخَصِّ فَهُوَ بِالْخِيَارِ (فَإِمَّا حَاصَصَ) الْغُرَمَاءَ بِثَمَنِهَا (وَإِلَّا) بِأَنْ لَمْ يُحَاصِصْ (أَخَذَ سِلْعَتَهُ إنْ كَانَتْ تُعْرَفُ بِعَيْنِهَا) وَشَهِدَتْ لَهُ الْبَيِّنَةُ أَنَّهُ سِلْعَتُهُ لَمْ تُنْقَلْ وَيَأْخُذُهَا وَلَوْ نَقْدًا مَسْكُوكًا حَيْثُ شَهِدَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى عَيْنِهِ أَوْ كَانَ مَطْبُوعًا عَلَيْهِ أَوْ إبْقَاءً. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِنَا: وَلَمْ يَطْلُبْهُ إلَّا فِي زَمَنِ التَّفْلِيسِ أَنَّ الْفَلَسَ طَارِئٌ عَلَى الشِّرَاءِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ سَابِقًا عَلَيْهِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَحَقَّ بِهَا بَلْ يَكُونُ لَهُ الْمُحَاصَّةُ مَعَ الْغُرَمَاءِ نَعَمْ لَهُ حَبْسُهَا حَتَّى يَقْبِضَ ثَمَنَهَا إنْ كَانَ حَالًّا وَمَفْهُومٌ فِي التَّفْلِيسِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ فِي الْمَوْتِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ) . قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْغَرِيمِ أَخْذُ مَالِهِ الْمُحَازِ عَنْهُ فِي الْفَلَسِ لَا الْمَوْتِ وَلَوْ مَسْكُوكًا أَوْ إبْقَاءٌ، وَلَزِمَهُ إنْ لَمْ يَجِدْهُ إنْ لَمْ يَفْدِهِ غُرَمَاؤُهُ وَلَوْ بِمَالِهِمْ وَأَمْسَكْنَ لِأَبْضُعٍ وَعِصْمَةٍ وَقِصَاصٍ وَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَّا إنْ طُحِنَتْ الْحِنْطَةُ أَوْ خَلَطَ بِغَيْرِ مِثْلٍ أَوْ سَمَّنَ زُبْدَهُ أَوْ فَصَّلَ ثَوْبَهُ أَوْ ذَبَحَ كَبْشَهُ أَوْ تَتَمَّرَ رُطَبُهُ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ بَاعَ مَتَاعًا فَأَفْلَسَ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْهُ وَلَمْ يَقْبِضْ الَّذِي بَاعَهُ مِنْ ثَمَنِهِ شَيْئًا فَوَجَدَهُ بِعَيْنِهِ فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ، وَإِنْ مَاتَ الَّذِي ابْتَاعَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ فِيهِ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ، وَإِذَا وُجِدَ الْمُشْتَرِي قَدْ بَاعَ بَعْضَهُ وَفَرَّقَهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أَحَقُّ بِهِ مِنْ الْغُرَمَاءِ لَا يَمْنَعُهُ مَا فَرَّقَ الْمُبْتَاعُ مِنْهُ أَنْ يَأْخُذَ مَا وَجَدَ بِعَيْنِهِ، وَإِنْ قَضَى مِنْ ثَمَنِ الْمَتَاعِ شَيْئًا فَأُحِبُّ أَنْ يَرُدَّهُ وَيَقْبِضَ مَا وَجَدَ مِنْ مَتَاعِهِ وَيَكُونَ فِيمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 بِدَيْنٍ فَرَضِيَ فَلَا رُجُوعَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ أَفْلَسَ هَذَا إلَّا أَنْ يَغُرَّهُ مِنْهُ وَإِنَّمَا الْحَوَالَةُ عَلَى أَصْلِ دَيْنٍ وَإِلَّا فَهِيَ حَمَالَةٌ وَلَا يَغْرَمُ الْحَمِيلُ إلَّا فِي عُدْمِ الْغَرِيمِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَيَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَطْلُوبِ أَوْ تَفْلِيسِهِ كُلُّ دَيْنٍ عَلَيْهِ وَلَا يَحِلُّ مَا كَانَ لَهُ   [الفواكه الدواني] لَمْ يَجِدْهُ أُسْوَةُ الْغُرَمَاءِ فَذَلِكَ لَهُ» قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ رَدُّ بَعْضِ ثَمَنٍ قُبِضَ وَأَخَذَهَا وَأَخْذُ بَعْضِهِ وَحَاصَّ بِالْفَائِتِ [بَعْضَ مَسَائِلَ مِنْ بَابِ الضَّمَانِ] وَكَانَ لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يُؤَخِّرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ عِنْدَ بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ مِنْ هَذَا الْبَابِ أَوْ يُقَدِّمَ مَا أَخَّرَهُ؛ لِأَنَّهُ ذَكَرَ مَسَائِلَ مِنْ بَابِ الْفَلَسِ وَوَسَّطَ بَيْنَهَا بَعْضَ مَسَائِلَ مِنْ بَابِ الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ: (وَالضَّامِنُ غَارِمٌ) حَيْثُ ضَمِنَ ضَمَانَ مَالٍ، وَاعْلَمْ أَنَّ الضَّامِنَ مُشْتَقٌّ مِنْ الضَّمَانِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الِالْتِزَامُ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَيَتَنَوَّعُ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: ضَمَانُ مَالٍ، وَضَمَانُ وَجْهٍ، وَضَمَانُ طَلَبٍ، فَضَمَانُ الْمَالِ الْتِزَامُ دَيْنٍ لَا يُسْقِطُهُ عَمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ، وَضَمَانُ الْوَجْهِ عِبَارَةٌ عَنْ إحْضَارِ الْغَرِيمِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ وَإِنَّمَا يَبْرَأُ فِيهِ الضَّامِنُ بِتَسْلِيمِ الْمَضْمُونِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَبَرِيءَ بِتَسْلِيمِهِ لَهُ وَإِنْ بِسَجْنٍ أَوْ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ إنْ أَمَرَهُ بِهِ إنْ حَلَّ الْحَقُّ وَضَمَانُ الطَّلَبِ عِبَارَةٌ عَنْ التَّفْتِيشِ عَلَى الْغَرِيمِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ، ثُمَّ يُخْبِرُ صَاحِبَ الدَّيْنِ بِهِ وَلَا يَلْزَمُهُ إحْضَارُهُ وَلَا غُرْمَ عَلَيْهِ إلَّا إنْ قَصَّرَ أَوْ فَرَّطَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَغَرِمَ إنْ فَرَّطَ أَوْ هَرَبَ بِهِ وَعُوقِبَ، وَشَرْطُ الضَّامِنِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ التَّبَرُّعِ بِمَا يَضْمَنُهُ فَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّوْجَةُ وَالْمَرِيضُ فِي قَدْرِ الثُّلُثِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْعَارِيَّةُ مُؤَدَّاةٌ وَالْمِنْحَةُ مَرْدُودَةٌ وَالدَّيْنُ مَقْضِيٌّ وَالزَّعِيمُ غَارِمٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْمِنْحَةُ الشَّاةُ الْمُسْتَعَارَةُ لِيَنْتَفِعَ بِلَبَنِهَا، وَقَوْلُهُ: الدَّيْنُ مَقْضِيٌّ أَيْ يَجِبُ قَضَاؤُهُ، وَالزَّعِيمُ الْكَفِيلُ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ حَكَاهُ شُيُوخٌ عِدَّةٌ. (تَنْبِيهٌ) لَا يَغْرَمُ ضَامِنُ الْمَالِ إلَّا إذَا غَابَ الْغَرِيمُ أَوْ أَفْلَسَ لَا إنْ حَضَرَ مُوسِرًا كَمَا يَأْتِي، إلَّا أَنْ يَكُونَ ضَمِنَ فِي الْحَالَاتِ السِّتِّ أَوْ شَرَطَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الدَّيْنِ الْغُرْمَ وَلَوْ مَعَ حُضُورِ الْغَرِيمِ مَلِيًّا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى ضَامِنِ الْمَالِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ضَامِنِ الْوَجْهِ بِقَوْلِهِ: (وَحَمِيلُ الْوَجْهِ) وَمِثْلُهُ الْعَيْنُ أَوْ الْأُذُنُ وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إحْضَارِ ذَاتِ الْمَدِينِ وَقْتَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ، فَالْوَجْهُ عِبَارَةٌ عَنْ الذَّاتِ (إنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ) أَيْ بِمَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ عِنْدَ حُلُولِ الْأَجَلِ (غَرِمَ) جَمِيعَ الْحَقِّ (حَتَّى يَشْتَرِطَ أَنْ لَا يَغْرَمَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَبَرِيءَ بِتَسْلِيمِهِ لَهُ وَإِنْ بِسَجْنٍ أَوْ بِتَسْلِيمِهِ نَفْسَهُ إنْ أَمَرَهُ بِهِ إنْ حَلَّ الْحَقُّ وَلَوْ عَدِيمًا، وَإِلَّا أُغْرِمَ بَعْدَ خَفِيفِ تَلَوُّمٍ إنْ قَرُبَتْ غَيْبَةُ غَرِيمِهِ كَالْيَوْمِ، وَلَا يَسْقُطُ بِإِحْضَارِهِ لِمَنْ حَكَمَ بِهِ لَا إنْ ثَبَتَ عَدَمُهُ أَوْ مَوْتُهُ فِي غَيْبَتِهِ وَلَوْ بِغَيْرِ بَلَدِهِ وَرَجَعَ بِهِ. وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ مَسَائِلِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ وَسَطُ الْحَوَالَةِ بَيْنَ مَسَائِلِهِ، وَحَقِيقَةُ الْحَوَالَةِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: نَقْلُ الدَّيْنِ مِنْ ذِمَّةٍ إلَى ذِمَّةٍ تَبْرَأُ بِهَا الْأُولَى، وَأَحْسَنُ مِنْهُ قَوْلُ ابْنِ عَرَفَةَ: هِيَ طَرْحُ الدَّيْنِ عَنْ ذِمَّةٍ بِمِثْلِهِ فِي أُخْرَى، وَالْأَصْلُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ وَقِيلَ النَّدْبُ وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} [الحج: 77] وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَطْلُ الْغَنِيِّ ظُلْمٌ وَإِذَا أُتْبِعَ أَحَدُكُمْ عَلَى مَلِيءٍ فَلْيَتْبَعْ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ عِيَاضٌ فَلْيَتْبَعْ بِسُكُونِ التَّاءِ وَرُوِيَ بِتَشْدِيدِهَا، وَمَعْنَى أُتْبِعَ أُحِيلَ وَأَجْمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ أُحِيلَ بِدَيْنٍ) ثَابِتٍ لَهُ عَلَى شَخْصٍ (فَرَضِيَ) ذَلِكَ الْمُحَالُ بِالْحَوَالَةِ (فَلَا رُجُوعَ لَهُ) أَيْ لِلْمُحَالِ (عَلَى الْأَوَّلِ) الَّذِي هُوَ الْمُحِيلُ (وَإِنْ أَفْلَسَ هَذَا) الْمُحَالُ عَلَيْهِ (إلَّا أَنْ يَغُرَّهُ مِنْهُ) أَيْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُحِيلُ عَالِمًا بِإِفْلَاسِ الْمُحَالِ عَلَيْهِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَتَحَوَّلُ حَقُّ الْمُحَالِ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ وَإِنْ أَفْلَسَ أَوْ جَحَدَ، إلَّا أَنْ يَعْلَمَ الْمُحِيلُ بِإِفْلَاسِهِ فَقَطْ وَحَلَفَ عَلَى نَفْيِهِ إنْ ظَنَّ بِهِ الْعِلْمَ؛ لِأَنَّ الْأَصْلَ عَدَمُ الْغُرُورِ وَعَدَمُ الْعِلْمِ [شُرُوط الْحَوَالَةِ] وَلَا بُدَّ لِلْحَوَالَةِ مِنْ شُرُوطٍ أَشَارَ إلَى بَعْضِهَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنَّمَا الْحَوَالَةُ عَلَى أَصْلِ دَيْنٍ وَإِلَّا فَهِيَ حَمَالَةٌ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ شَرْطَ الْحَوَالَةِ أَنْ يَكُونَ لِلْمُحِيلِ دَيْنٌ عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ دَيْنٌ فَإِنَّهَا تَكُونُ حَمَالَةٌ أَيْ كَفَالَةٌ وَضَمَانًا وَلَوْ وَقَعَتْ بِلَفْظِ الْحَوَالَةِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْحَوَالَةَ تَبْرَأُ بِهَا ذِمَّةُ مَنْ عَلَيْهِ الْحَقُّ، بِخِلَافِ الْحَمَالَةِ؛ لِأَنَّ الضَّامِنَ يَرْجِعُ بِمَا أَدَّى بَعْدَ إثْبَاتِهِ الدَّفْعَ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى شُرُوطِهَا بِقَوْلِهِ: شَرْطُ الْحَوَالَةِ رِضَا الْمُحِيلِ وَالْمُحَالِ فَقَطْ، وَثُبُوتُ دَيْنٍ لَازِمٍ لَا رِضَا الْمُحَالِ عَلَيْهِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْمُحَالِ وَالْمُحَالِ عَلَيْهِ عَدَاوَةٌ فَلَا بُدَّ مِنْ رِضَاهُ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الدَّيْنُ الَّذِي عَلَى الْمُحَالِ عَلَيْهِ لَازِمًا، فَلَا تَصِحُّ الْحَوَالَةُ عَلَى مَا تَدَايَنَهُ نَحْوِ الْعَبْدِ وَالسَّفِيهِ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهِ وَصَرْفِهِ فِيمَا لَهُ عَنْهُ غِنًى، وَمِنْ شُرُوطِهَا حُلُولُ الْمُحَالِ بِهِ فَقَطْ، وَإِقْرَارُ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ بِالدَّيْنِ مَعَ حُضُورِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ، وَإِنَّمَا اشْتَرَطَ ذَلِكَ مَعَ عَدَمِ اشْتِرَاطِ رِضَاهُ لِاحْتِمَالِ إبْدَائِهِ مَطْعَنًا فِي الْبَيِّنَةِ أَوْ إثْبَاتِهِ الْبَرَاءَةَ مِنْ الدَّيْنِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَقِيَّةِ الْكَلَامِ عَلَى الضَّمَانِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَغْرَمُ الْحَمِيلُ) مَا ضَمِنَهُ مِنْ الْمَالِ (إلَّا فِي عُدْمِ الْغَرِيمِ أَوْ غَيْبَتِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُطَالَبُ إنْ حَضَرَ الْغَرِيمُ مُوسِرًا أَوْ لَمْ يَبْعُدْ إثْبَاتُهُ عَلَيْهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يَشْتَرِطْ صَاحِبُ الدَّيْنِ عَلَيْهِ الْغُرْمَ مَعَ وُجُودِ مَنْ هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 عَلَى غَيْرِهِ وَلَا تُبَاعُ رَقَبَةُ الْمَأْذُونِ فِيمَا عَلَيْهِ وَلَا يُتَّبَعُ بِهِ سَيِّدُهُ وَيُحْبَسُ الْمِدْيَانُ لِيُسْتَبْرَأَ وَلَا حَبْسَ عَلَى مُعْدِمٍ وَمَا   [الفواكه الدواني] عَلَيْهِ مَلِيًّا، أَوْ يَكُونُ ضَمِنَ فِي الْحَالَاتِ السِّتِّ وَهِيَ: الْمِلَاءُ وَالْعُدْمُ وَالْغَيْبَةُ وَالْحُضُورُ وَالْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مُلْدًا، وَأَنْ يَكُونَ مَنْ لَا تَأْخُذُهُ الْأَحْكَامُ وَإِلَّا غَرِمَ مَعَ وُجُودِ مَنْ عَلَيْهِ الدَّمُ مَلِيًّا. ثُمَّ أَشَارَ إلَى بَقِيَّةِ مَسَائِلِ الْفَلَسِ بِقَوْلِهِ: (وَيَحِلُّ بِمَوْتِ الْمَطْلُوبِ) أَيْ الْغَرِيمِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ (أَوْ تَفْلِيسِهِ كُلُّ دَيْنٍ عَلَيْهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَحَلَّ بِهِ وَبِالْمَوْتِ مَا أُجِّلَ وَلَوْ دَيْنَ كِرَاءٍ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ قَتَلَهُ صَاحِبُ الدَّيْنِ، وَإِلَّا لَمْ يَحِلَّ مَا عَلَيْهِ لِاتِّهَامِ صَاحِبِ الدَّيْنِ بِقَتْلِهِ عَلَى قَصْدِ اسْتِعْجَالِهِ الْحُلُولَ. وَثَانِيهِمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَنْ عَلَيْهِ شَرَطَ عَدَمَ حُلُولِهِ بِمَوْتِهِ أَوْ فَلَسِهِ وَإِلَّا عُمِلَ بِالشَّرْطِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَلَسِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْحَاكِمِ بِخَلْعِ كُلِّ مَا عَلَيْهِ وَهُوَ الْفَلَسُ الْأَخَصُّ، لَا مُجَرَّدُ قِيَامِ الْغُرَمَاءِ فَلَا يَحِلُّ بِهِ مَا أَحَلَّ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَحِلُّ) بِمَوْتِهِ أَوْ فَلَسِهِ كُلُّ (مَا كَانَ لَهُ) مِنْ الدُّيُونِ الْمُؤَجَّلَةِ (عَلَى غَيْرِهِ) لِبَقَاءِ ذِمَّةِ مَنْ هُوَ عَلَيْهِ، فَلَوْ شَرَطَ صَاحِبُ الْحَقِّ حُلُولَهُ بِمَوْتِهِ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَيْهِ فَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْعَمَلَ بِالشَّرْطِ حَيْثُ كَانَ غَيْرَ وَاقِعٍ فِي صُلْبِ الْعَقْدِ وَإِلَّا أَفْسَدَ الْبَيْعَ لِأَدَائِهِ إلَى الْأَجَلِ الْمَجْهُولِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّقِيقُ الْمَأْذُونُ لَهُ فِي التِّجَارَةِ كَالْحُرِّ فِي جَوَازِ تَفْلِيسِهِ وَالْحُكْمِ عَلَيْهِ بِبَيْعِ جَمِيعِ مَا يَمْلِكُهُ مِمَّا بِيَدِهِ وَلَوْ كُتُبًا أَوْ عَقَارًا قَالَ: (وَلَا تُبَاعُ رَقَبَةُ الْمَأْذُونِ لَهُ) فِي التِّجَارَةِ (فِيمَا عَلَيْهِ) مِنْ الدُّيُونِ عِنْدَ تَفْلِيسِهِ (وَلَا يُتَّبَعُ بِهِ سَيِّدُهُ) وَإِنَّمَا يُقْضَى الدَّيْنُ الَّذِي عَلَيْهِ مِمَّا لَهُ سَلَاطَةٌ عَلَيْهِ كَانَ بِيَدِهِ أَمْ لَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْحَجْرُ عَلَيْهِ كَالْحُرِّ وَأَخَذَ مِمَّا بِيَدِهِ وَإِنْ مُسْتَوْلَدَتَهُ كَعَطِيَّتِهِ، وَهَلْ إنْ مُنِحَ لِلدَّيْنِ أَوْ مُطْلَقًا تَأْوِيلَانِ لَا غَلَّتَهُ وَرَقَبَتَهُ، وَالْمُرَادُ الْغَلَّةُ الْحَاصِلَةُ بَعْدَ الْإِذْنِ، وَأَمَّا الَّتِي كَانَتْ بِيَدِهِ قَبْلَ الْإِذْنِ فَيَتَعَلَّقُ بِهَا الدَّيْنُ، وَعُلِمَ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: كَالْحُرِّ أَنَّهُ لَا يُفَلِّسُهُ إلَّا الْحَاكِمُ لَا الْغُرَمَاءُ وَلَا السَّيِّدُ، وَيُقْبَلُ إقْرَارُهُ لِمَنْ لَا يَتَّهِمُ عَلَيْهِ قَبْلَ التَّفْلِيسِ لَا بَعْدَهُ، وَمَحَلُّ عَدَمِ اتِّبَاعِ السَّيِّدِ بِمَا عَلَى الْمَأْذُونِ مَا لَمْ يَكُنْ قَالَ لِلْغُرَمَاءِ: عَامِلُوهُ وَجَمِيعُ مَا عَامَلْتُمُوهُ بِهِ عَلَيَّ، وَإِلَّا أُتْبِعَ لِكَوْنِهِ يَصِيرُ ضَامِنًا. (تَنْبِيهٌ) كَمَا لَا تُبَاعُ رَقَبَةُ الْمَأْذُونِ فِيمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّهَا مَمْلُوكَةٌ لِسَيِّدِهِ، كَذَلِكَ وَلَدُهُ مِنْ أَمَتِهِ لَا يُبَاعُ؛ لِأَنَّهُ مِلْكٌ لِسَيِّدِهِ كَرَقَبَةِ أَبِيهِ لَا حَقَّ لِلْغُرَمَاءِ فِيهَا، وَلِذَا لَوْ قَامَتْ الْغُرَمَاءُ عَلَيْهِ قَبْلَ وَضْعِ أَمَتِهِ أَخَّرَ بَيْعَهَا حَتَّى تَضَعَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ اسْتِثْنَاؤُهُ فِي الْبَيْعِ، وَمَا عَجَزَ الْمَأْذُونُ عَنْ وَفَائِهِ مِنْ الدُّيُونِ يُتْبَعُ بِهِ إنْ عَتَقَ؛ لِأَنَّ السَّيِّدَ لَيْسَ لَهُ إسْقَاطُهُ عَنْهُ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمَأْذُونِ إنْ أَخَذَ مِنْ أَحَدٍ شَيْئًا مِنْ غَيْرِ إذْنِ سَيِّدِهِ وَاطَّلَعَ عَلَيْهِ قَبْلَ عِتْقِهِ فَلَهُ أَنْ يُسْقِطَهُ عَنْهُ وَلَا يُتْبَعُ بِهِ إنْ عَتَقَ، كَالْمَأْذُونِ يَأْخُذُ شَيْئًا غَيْرَ الْمَأْذُونِ فِيهِ فَإِنَّ لِسَيِّدِهِ إسْقَاطُهُ عَنْهُ، وَمَا لَمْ يُسْقِطْهُ السَّيِّدُ مِمَّا لَهُ إسْقَاطُهُ يُتْبَعُ بِهِ الرَّقِيقُ بَعْدَ عِتْقِهِ وَلَمَّا كَانَ الْغَرِيمُ الَّذِي قَامَتْ عَلَيْهِ الْغُرَمَاءُ لَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: الْأُولَى أَنْ يُجْهَلَ حَالُهُ فَهَذَا يُحْبَسُ إنْ طَالَبَهُ الْغُرَمَاءُ وَادَّعَى عَدَمَ الْمَالِ وَأَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَيُحْبَسُ الْمِدْيَانُ) الْمَجْهُولُ الْحَالِ إذَا ادَّعَى الْعَدَمَ وَغَايَةُ الْحَبْسِ (لِيَسْتَبِينَ أَمْرُهُ) بِإِثْبَاتِ عُسْرِهِ وَمَحَلُّ حَبْسِهِ مَا لَمْ يَسْأَلْ الصَّبْرَ وَالتَّأْخِيرَ إلَى إثْبَاتِ عُسْرِهِ وَإِلَّا أُخِّرَ بِحَمِيلٍ وَلَوْ بِوَجْهِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: حُبِسَ لِثُبُوتِ عُسْرِهِ إنْ جُهِلَ حَالُهُ، وَلَمْ يَسْأَلْ الصَّبْرَ لَهُ بِحَمِيلٍ بِوَجْهِهِ، وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ الْحَمِيلُ غَرِمَ مَا عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَثُبُوتُ عُسْرِهِ يَكُونُ بِشَهَادَةِ عَدْلَيْنِ يَشْهَدَانِ أَنَّهُمَا لَا يَعْرِفَانِ لَهُ مَالًا ظَاهِرًا وَلَا بَاطِنًا وَيَحْلِفُ عَلَى ذَلِكَ لَكِنْ عَلَى الْبَتِّ وَيَزِيدُ فِي يَمِينِهِ: وَإِنْ وَجَدْت الْمَالَ لَأَقْضِيَنَّهُ عَاجِلًا، وَإِنْ كُنْت مُسَافِرًا عَجَّلْت الْأَوْبَةَ، وَبَعْدَ الْحَلِفِ يَجِبُ إطْلَاقُهُ وَانْتِظَارُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عُسْرُهُ وَطَالَ حَبْسُهُ فَإِنَّهُ يُطْلَقُ لَكِنْ بَعْدَ حَلِفِهِ أَنَّهُ لَا مَالَ عِنْدَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُخْرِجَ الْمَجْهُولُ إنْ طَالَ حَبْسُهُ بِقَدْرِ الدَّيْنِ وَالشَّخْصِ، وَالْمُرَادُ بِالْمِدْيَانِ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ أَحَاطَتْ الدُّيُونُ بِمَالِهِ أَمْ لَا، سَوَاءٌ كَانَ ذَكَرًا أَمْ أُنْثَى، حُرًّا أَوْ عَبْدًا، إلَّا أَنَّ الذَّكَرَ يُحْبَسُ مَعَ الذُّكُورِ، وَالْأُنْثَى مَعَ النِّسَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَبْسُ النِّسَاءِ عِنْدَ أَمِينَةٍ خَالِيَةٍ وَذَاتِ أَمِينٍ وَالْخُنْثَى الْمُشْكِلُ، وَمِثْلُهُ الشَّابُّ الَّذِي يُخْشَى عَلَيْهِ يُحْبَسُ مُنْفَرِدًا، وَلَا يَجُوزُ وَضْعُ حَدِيدٍ وَنَحْوِهِ فِي عُنُقِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا بِالْعَدَاءِ، وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ مَعْلُومَ الْمَلَأِ وَأَلَدَّ بِدَفْعِ الْحَقِّ فَهَذَا يُسْجَنُ وَيُضْرَبُ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَمُوتَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ عُلِمَ بِالنَّاضِّ لَمْ يُؤَخِّرْ وَضُرِبَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ، وَأَمَّا ظَاهِرُ الْمَلَأِ بِمُلَابَسَةِ الثِّيَابِ الْجَمِيلَةِ فَإِنْ تَفَالَسَ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يُؤَدِّيَ أَوْ يَثْبُتَ عُسْرُهُ، وَإِنْ وَعَدَ بِالْقَضَاءِ وَسَأَلَ تَأْخِيرًا كَالْيَوْمِ أَعْطَى حَمِيلًا بِالْمَالِ وَإِلَّا سُجِنَ، وَالْحَالَةُ وَالثَّالِثَةُ أَشَارَ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا حَبْسَ) جَائِزٌ (عَلَى مُعْدِمٍ) ثَابِتِ الْعَدَمِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] ؛ لِأَنَّ حَبْسَهُ لَا يَحْصُلُ بِهِ فَائِدَةٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 انْقَسَمَ بِلَا ضَرَرٍ قُسِمَ مِنْ رَبْعٍ وَعَقَارٍ وَمَا لَمْ يَنْقَسِمْ بِغَيْرِ ضَرَرٍ فَمَنْ دَعَا الْبَيْعَ أَجْبَرَ عَلَيْهِ مَنْ أَبَاهُ وَقَسْمُ الْقُرْعَةِ لَا يَكُونُ   [الفواكه الدواني] تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَا يَجُوزُ لِحَاكِمٍ وَلَا صَاحِبِ حَقٍّ مَنْعُ مَنْ يُسَلِّمُ عَلَى الْمَحْبُوسِ وَلَا مَنْ يَخْدُمُهُ إذَا اشْتَدَّ مَرَضُهُ وَقِيلَ مُطْلَقًا، وَلَهُ مَنْعُ زَوْجَتِهِ مِنْ الدُّخُولِ عَلَيْهِ لِلْجُلُوسِ عِنْدَهُ لَا إنْ أَرَادَتْ السَّلَامَ عَلَيْهِ كَغَيْرِهَا فَلَا تُمْنَعُ، وَعَكْسُهُ كَذَلِكَ لَوْ كَانَتْ هِيَ الْمَحْبُوسَةُ وَهَذَا فِي الْحَبْسِ لِغَيْرِ الدَّاخِلِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ مَحْبُوسًا لِحَقِّ صَاحِبِهِ لَجَازَ لَهُ الدُّخُولُ وَالْإِقَامَةُ أَيْضًا، وَأَمَّا لَوْ طَلَبَ الْخُرُوجَ لِنَحْوِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَلَا يُمَكَّنُ وَأَوْلَى صَلَاةُ الْعِيدِ أَوْ الْحَجُّ، وَكَذَا لَا يَخْرُجُ لِدَعْوَى عَلَيْهِ فِي حَقٍّ لِآخَرَ، وَيُوَكِّلُ مَنْ يَسْمَعُهَا عَنْهُ، وَلَا لِخَوْفٍ عَلَيْهَا مِنْ عَدُوٍّ، وَإِلَّا أَنْ يُخَافَ عَلَيْهِ الْقَتْلَ أَوْ الْأَسْرَ فَيَخْرُجُ مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ. الثَّانِي: قَدْ تَقَرَّرَ جَوَازُ الِافْتِرَاضِ بِشُرُوطِهِ، وَهِيَ أَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ سَرَفٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِي غَيْرِ مَحْظُورٍ، وَأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ لَهُ قُدْرَةً عَلَى الْوَفَاءِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ تِلْكَ الشُّرُوطُ لَمْ يَجُزْ لَهُ اقْتِرَاضُ مَالِ الْغَيْرِ، بَلْ يُسْتَحَبُّ لِلْإِنْسَانِ عِنْدَ عَدَمِ الضَّرُورَةِ الرَّغْبَةُ عَنْ الدَّيْنِ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إلَّا الدَّيْنَ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نَفْسُ الْمُؤْمِنِ مُعَلَّقَةٌ بِدَيْنِهِ حَتَّى يُقْضَى عَنْهُ» رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ وَالتِّرْمِذِيُّ وَقَالَ حَسَنٌ، وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ. وَفِي رِوَايَةٍ: «الْمِدْيَانُ مَحْبُوسٌ فِي دَيْنِهِ عَنْ الْجَنَّةِ وَيَجِبُ عَلَى الْمِدْيَانِ أَنْ يُوصِيَ بِمَا عَلَيْهِ مِنْ الدَّيْنِ فَإِنْ مَاتَ وَلَمْ يُوجَدْ لَهُ مَالٌ وُفِّيَ عَنْهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ» فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ مَاتَ وَتَرَكَ مَالًا فَلِوَرَثَتِهِ وَإِنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَعَلَيْنَا غُرْمُهُ» . وَفِي الْأُجْهُورِيِّ نَقْلًا عَنْ الْحَطَّابِ: إنَّمَا يُحْبَسُ الْمِدْيَانُ عَنْ الْجَنَّةِ بِعَدَمِ وَفَاءِ الدَّيْنِ إذَا مَاتَ قَادِرًا عَلَى وَفَائِهِ، وَأَمَّا لَوْ مَاتَ عَاجِزًا عَنْ وَفَائِهِ فَإِنْ تَدَايَنَ لِسَرَفٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا لَا يَجُوزُ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ الْجَنَّةِ لِعَدَمِ وُجُوبِ قَضَائِهِ عَلَى السُّلْطَانِ، زَادَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنَّ مَا تَدَايَنَهُ فِي مَعْصِيَةٍ وَتَابَ مِنْهَا تَوْبَةً صَحِيحَةً حُكْمُهُ حُكْمُ مَا تَدَايَنَهُ بِوَجْهٍ جَائِزٍ حَيْثُ عَلِمَ السُّلْطَانُ بِتَوْبَتِهِ فَانْظُرْهُ، وَرَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ عَلَيْهِ دَيْنٌ وَلَمْ يَعْرِفْ صَاحِبَهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ صَاحِبُهُ. [أَحْكَام الْقِسْمَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْمَسَائِلِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمِدْيَانِ شَرَعَ فِي الْقِسْمَةِ وَهِيَ فِي اللُّغَةِ تَمْيِيزُ الْأَنْصِبَاءِ. وَفِي الِاصْطِلَاحِ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هِيَ تَصْيِيرُ مَشَارِعَ مِنْ مَمْلُوكِ مَالِكَيْنِ مُعَيَّنًا وَلَوْ بِاخْتِصَاصِ تَصَرُّفٍ فِيهِ بِقُرْعَةٍ أَوْ تَرَاضٍ، وَبَقِيَ قِسْمٌ ثَالِثٌ وَهِيَ قِسْمَةُ الْمُهَايَأَةِ وَعَرَّفَهَا أَيْضًا بِقَوْلِهِ: هِيَ اخْتِصَاصُ كُلِّ شَرِيكٍ فِيهِ بِمُشْتَرَكٍ فِيهِ عَنْ شَرِيكِهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا مِنْ مُتَّحِدٍ أَوْ مُتَعَدِّدٍ، وَيَجُوزُ فِي نَفْسِ مَنْفَعَتِهِ لَا فِي غَلَّتِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْقِسْمَةَ إمَّا قُرْعَةٌ أَوْ مُهَايَأَةٌ أَوْ مُرَاضَاةٌ، فَالْقُرْعَةُ هِيَ فِعْلُ مَا يُعَيِّنُ حَظَّ كُلِّ شَرِيكٍ مِمَّا بَيْنَهُمْ مِمَّا يَمْتَنِعُ عِلْمُهُ حِينَ فِعْلِهِ، وَالْمُرَاضَاةُ هِيَ أَخْذُ بَعْضِهِمْ بَعْضَ مَا بَيْنَهُمْ عَلَى أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُ مَا يُعَدُّ بِتَرَاضٍ مِلْكًا لِلْجَمِيعِ، وَالْمُهَايَأَةُ تَقَدَّمَ أَنَّهَا اخْتِصَاصُ كُلِّ شَرِيكٍ بِالْمُشْتَرَكِ فِيهِ زَمَنًا مُعَيَّنًا فَقَالَ: (وَمَا انْقَسَمَ) أَيْ أَمْكَنَ قَسْمُهُ (بِلَا ضَرَرٍ) وَلَوْ عَلَى بَعْضِهِمْ (قُسِمَ) أَيْ جَازَ قَسْمُهُ بِالْفِعْلِ فَلَمْ يَتَّحِدْ الشَّرْطُ وَالْجَزَاءُ، وَبَيْنَ مَا يَنْقَسِمُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ رَبْعٍ) أَيْ بِنَاءٍ مُتَّسِعٍ (وَعَقَارٍ) أَيْ أَرْضٍ خَالِيَةٍ وَمِنْ عَرْضٍ وَحَيَوَانٍ مُتَعَدِّدٍ. وَقَوْلُهُ: قُسِمَ أَيْ قُرْعَةً أَوْ مُرَاضَاةً أَوْ مُهَايَأَةً، لَكِنْ قِسْمَةُ الْقُرْعَةِ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعْدِيلِ وَالتَّقْوِيمِ؛ لِأَنَّهَا تَمْيِيزُ حَقٍّ، وَسَيَأْتِي لَهَا مَزِيدُ بَيَانٍ، وَالْمُرَاضَاةُ كَالْبَيْعِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا تَعْدِيلٌ وَلَا تَقْوِيمٌ، وَالْمُهَايَأَةُ بِالْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ أَوْ النُّونِ أَوْ الْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ كَالْإِجَارَةِ؛ لِأَنَّهَا إنَّمَا تَكُونُ فِي الْمَنَافِعِ كَعَبْدٍ يَخْدُمُ زَيْدًا شَهْرًا وَشَرِيكَهُ شَهْرًا مَثَلًا، وَتَقَعُ لَازِمَةً إنْ عَيَّنَ الزَّمَنَ وَغَيْرَ لَازِمَةٍ إنْ لَمْ يُعَيِّنْ، كَعَبْدَيْنِ يَخْدُمُ أَحَدُهُمَا زَيْدًا وَالْآخَرُ عَمْرًا عَلَى طَرِيقِ ابْنِ الْحَاجِبِ، وَأَمَّا ابْنُ عَرَفَةَ فَشَرَطَ فِي صِحَّتِهَا تَعْيِينُ الزَّمَنِ، فَلَا يَجُوزُ عِنْدَهُ أَنْ يَتَّفِقَا عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَسْتَخْدِمُ عَبْدًا أَوْ يَسْكُنَ دَارًا مِنْ غَيْرِ تَحْدِيدٍ بِمُدَّةٍ (وَ) أَمَّا (مَا لَمْ يَنْقَسِمْ بِغَيْرِ ضَرَرٍ) بِأَنْ لَمْ يَقْبَلْ الْقِسْمَةَ أَصْلًا أَوْ يَقْبَلْهَا بِضَرَرٍ (فَمَنْ دَعَا إلَى الْبَيْعِ أُجْبِرَ عَلَيْهِ مِنْ أَبَاهُ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَسْمُهُ لِعَدَمِ إمْكَانِهِ كَالْعَبْدِ وَالْفَصِّ، أَوْ فِي قِسْمَةِ فَسَادٍ كَالْخُفَّيْنِ وَالنَّعْلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مُزْدَوِجَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأُجْبِرَ لَهَا أَيْ لِقِسْمَةِ الْقُرْعَةِ كُلُّ مُمْتَنِعٍ إنْ انْتَفَعَ كُلٌّ مِنْ الطَّالِبِ وَالْمُمْتَنِعِ، وَلِلْبَيْعِ إنْ نَقَصَتْ حِصَّةُ شَرِيكِهِ مُفْرَدَةً لَا كَرَبْعِ غَلَّةٍ أَوْ اشْتَرَى بَعْضًا فَلَا جَبْرَ؛ لِأَنَّ رِبَاعَ الْغَلَّةِ لَا يَنْقُصُ بَيْعُهَا مُفْرَدَةً، وَمَنْ اشْتَرَى حِصَّةً دَاخِلٌ عَلَى أَنْ يَبِيعَ مُنْفَرِدًا، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْبَيْعَ لَا يُجْبَرُ عَلَيْهِ الشَّرِيكُ فِيمَا لَا يَنْقَسِمُ إلَّا بِشُرُوطٍ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ غَيْرَ مُتَّخِذٍ لِلْغَلَّةِ وَلَا لِلتِّجَارَةِ، وَأَنْ يَكُونَ اشْتَرَى جُمْلَةً لَا مُفَرَّقًا، وَأَنْ يَلْتَزِمَ الْآبِي النَّقْضَ لِلطَّالِبِ لِلْبَيْعِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَلْزَمُ عَلَى قَسْمِ ذَاتِهِ فَسَادُهُ جُمْلَةً كَالْعَبْدِ، وَالْفَصُّ لَا يَجُوزُ قَسْمُهُ لَا قُرْعَةً وَلَا مُرَاضَاةً، وَمَا تَنْقُصُ قِيمَتُهُ بِقَسْمِ ذَاتِهِ كَالْمِصْرَاعَيْنِ وَالْخُفَّيْنِ وَالسِّفْرَيْنِ فَإِنَّمَا يَمْتَنِعُ قِسْمَتُهُ قُرْعَةً لَا مُرَاضَاةً، وَأَمَّا قِسْمَةُ جَمِيعِ مَا ذُكِرَ مُهَيَّأَةً فَتَجُوزُ لِانْتِفَاءِ الضَّرَرِ. الثَّانِي: قَوْلُهُ وَمَا لَا يَنْقَسِمُ مُبْتَدَأٌ، وَقَوْلُهُ: فَمَنْ دَعَا إلَخْ خَبَرٌ وَقَرَنَهُ بِالْفَاءِ إمَّا عَلَى تَوَهُّمِ أَمَّا، أَوْ نَظَرًا إلَى مَا فِي الْمُبْتَدَأِ مِنْ الْعُمُومِ نَحْوُ: الَّذِي يَأْتِينِي فَلَهُ الْإِكْرَامُ، وَقَوْلُهُ: إلَى الْبَيْعِ كَانَ الْأَوْلَى إلَى بَيْعِهِ؛ لِأَنَّ الْمَحَلَّ لِلضَّمِيرِ، وَجَعْلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 إلَّا فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ وَلَا يُؤَدِّي أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَرَاجُعٌ لَمْ يَجُزْ الْقَسْمُ إلَّا بِتَرَاضٍ وَوَصِيُّ الْوَصِيِّ   [الفواكه الدواني] أَلْ عِوَضًا عَنْ الضَّمِيرِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ. [شُرُوط الْقِسْمَة] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ شُرُوطِ الْقِسْمَةِ الْقُرْعَةِ بِقَوْلِهِ: (وَقِسْمَةُ الْقُرْعَةِ) وَتَقَدَّمَ حَدُّهَا (لَا تَكُونُ) أَيْ لَا تَصْلُحُ (إلَّا فِي صِنْفٍ) أَيْ نَوْعٍ (وَاحِدٍ) ؛ لِأَنَّهَا. لَيْسَتْ بَيْعًا عَلَى الْمَشْهُورِ بَلْ تَمْيِيزُ حَقٍّ، فَلَا تَكُونُ إلَّا فِيمَا تَمَاثَلَ أَوْ تَجَانَسَ، وَلَا يُجْمَعُ فِيهَا حَظُّ اثْنَيْنِ وَتُرَدُّ بِالْغَبْنِ، وَلِذَلِكَ لَا بُدَّ فِيهَا مِنْ التَّعْدِيلِ وَالتَّقْوِيمِ وَيُجْبَرُ عَلَيْهَا مَنْ أَبَاهَا، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ فِي دُخُولِهَا الْمِثْلِيَّاتِ وَهِيَ: الْمَكِيلَاتُ وَالْمَوْزُونَاتُ وَالْمَعْدُودَاتُ الْمُتَّفِقَةُ الصِّفَةِ عَلَى قَوْلَيْنِ الَّذِي أَتَى بِهِ الشَّبِيبِيُّ، وَعَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ عَدَمُ جَوَازِ الْقُرْعَةِ فِيهَا وَإِنَّمَا تُقْسَمُ كَيْلًا أَوْ وَزْنًا، وَاَلَّذِي أَفْتَى بِهِ ابْنُ عَرَفَةَ وَعَزَاهُ لِلْبَاجِيِّ الْجَوَازُ كَالْمُقَوَّمَاتِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُشْتَرَكَ فِيهِ إنْ كَانَ عَقَارًا أَوْ غَيْرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْحَيَوَانِ أَوْ الْعَرْضِ فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّقْوِيمِ، وَلَا يُنْظَرُ إلَى مِسَاحَتِهِ إنْ كَانَ عَقَارًا، وَلَا عَدَدِهِ إنْ كَانَ عَرْضًا أَوْ حَيَوَانًا. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَسْمُ الْعَقَارِ وَغَيْرِهِ بِالْقِيمَةِ، وَأَفْرَدَ كُلَّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمَقْسُومِ، فَلَا تُجْمَعُ الدُّورُ مَعَ الْحَوَائِطِ، وَلَا أَنْوَاعُ الثِّمَارِ إلَى بَعْضِهَا، بَلْ كُلُّ نَوْعٍ يُقْسَمُ عَلَى حِدَتِهِ إنْ احْتَمَلَ الْقَسْمَ، وَأَمَّا عِنْدَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ فَفِي الثِّمَارِ يُضَمُّ مَا لَا يُحْتَمَلُ إلَى غَيْرِهِ. وَفِي نَحْوِ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ يُبَاعُ مَا لَا يُمْكِنُ قَسْمُهُ مِنْ الْأَنْوَاعِ وَيُقْسَمُ ثَمَنُهُ وَلَا يُضَمُّ إلَى غَيْرِهِ، وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْعَقَارِ وَالْحَيَوَانِ وَأَنْوَاعِ الثِّمَارِ، أَنَّ الْعَقَارَ وَالْحَيَوَانَ تُقْصَدُ ذَاتُهُ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيْعِ مَا لَا يُحْتَمَلُ قَسْمُهُ عَلَى انْفِرَادِهِ بِخِلَافِ الثِّمَارِ. (وَ) مِنْ شُرُوطِ قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ أَنْ (لَا يُؤَدِّيَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا) لِشَرِيكِهِ لِزِيَادَةٍ فِي سَهْمِهِ، مِثَالُ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ الْمُشْتَرَكُ فِيهِ ثَوْبَيْنِ وَكَانَ أَحَدُهُمَا يُسَاوِي دِينَارَيْنِ وَالْآخَرُ يُسَاوِي دِينَارًا وَاقْتَرَعَا عَلَى أَنَّ مَنْ صَارَ لَهُ الَّذِي يُسَاوِي الدِّينَارَيْنِ يَدْفَعُ نِصْفَ دِينَارٍ لِيَحْصُلَ التَّعَادُلُ، فَإِنَّ ذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ لِمَا يَلْزَمُ مِنْ دُخُولِ قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ فِي صِنْفَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ فِي قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لَا يَجُوزُ أَوْ فِيهِ تَرَاجُعٌ: إلَّا أَنْ يَقِلَّ وَالْمُعْتَمَدُ عَدَمُ الْجَوَازِ وَلَوْ قَلَّ مَا بِهِ التَّرَاجُعُ وَلِذَلِكَ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ) الْفِعْلِ الَّذِي دَخَلَا عَلَيْهِ (تَرَاجُعٌ لَمْ يَجُزْ الْقَسْمُ) بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ (إلَّا بِتَرَاضٍ) مِنْهُمَا فَيَجُوزُ؛ لِأَنَّ قِسْمَةَ الْمُرَاضَاةِ يَجُوزُ دُخُولُهَا فِي الْجِنْسَيْنِ، وَحِينَئِذٍ فَمَا يَقَعُ بَيْنَ الْعَوَامّ مِنْ الْفِصَالِ وَهُوَ قَسْمُ الْمَوَاشِي مِنْ جَعْلِ نَحْوِ الْبَقَرَةِ قِسْمًا وَبِنْتِهَا مَعَ بَعْضِ دَرَاهِمَ قِسْمًا آخَرَ وَيَدْخُلَانِ عَلَى الْقُرْعَةِ فَاسِدٌ، وَإِنْ اسْتَحْسَنَهُ اللَّخْمِيُّ بِالشَّيْءِ الْقَلِيلِ، وَمَشَى عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ، وَلَكِنْ قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُعْتَمَدَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ الْمَنْعُ مُطْلَقًا وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ الْمُصَنِّفُ، وَأَمَّا بِالْمُرَاضَاةِ بِأَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمَا لِصَاحِبِهِ: أَنْتَ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَخْذِ الصَّغِيرَةِ وَتَأْخُذُ كَذَا أَوْ الْكَبِيرَةِ وَتَدْفَعُ كَذَا مِنْ غَيْرِ قُرْعَةٍ فَيَجُوزُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: كَانَ الْأَوْلَى أَنْ يَسْتَغْنِيَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ لَا يُؤَدِّيَ أَحَدُ الشُّرَكَاءِ ثَمَنًا عَنْ قَوْلِهِ: وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَرَاجُعٌ لَمْ يَجُزْ الْقَسْمُ؛ لِأَنَّهُ عَيَّنَهُ، إلَّا أَنْ يُقَالَ: قَصَدَ الْمُصَنِّفُ تَفْسِيرَ الْأَوَّلِ بِالثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ أَظْهَرُ فِي بَيَانِ الْحُكْمِ. الثَّانِي: لَمْ يُبَيِّنْ الْمُصَنِّفُ صِفَةَ قِسْمَةِ الْقُرْعَةِ وَهِيَ أَنْ يُعَدَّلَ الْمَقْسُومُ وَيُجَزَّأَ عَلَى حَسَبِ أَدَقِّهِمْ نَصِيبًا، فَإِذَا كَانَتْ دَارُ الثَّلَاثَةِ لِأَحَدِهِمْ سُدُسُهَا وَلِآخَرَ نِصْفُهَا فَإِنَّهَا تُعْمَلُ سِتَّةَ أَجْزَاءٍ، ثُمَّ تُكْتَبُ أَسْمَاءُ الشُّرَكَاءِ فِي ثَلَاثَةِ أَوْرَاقٍ وَتُوضَعُ فِي شَمْعٍ أَوْ طِينٍ ثُمَّ تُرْمَى وَاحِدَةٌ عَلَى سَهْمٍ مُتَطَرِّفٍ وَتُفْتَحُ، فَإِذَا شُهِرَتْ لِصَاحِبِ الْمُصَنِّفِ أَخَذَ مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ وَمَا يَلِيهِ، ثُمَّ تُرْمَى أُخْرَى وَتُفْتَحُ فَإِذَا ظَهَرَتْ لِصَاحِبِ السُّدُسِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ وَهَكَذَا. وَلِلْقُرْعَةِ صِفَةٌ أُخْرَى: أَنْ تُكْتَبَ أَسْمَاءُ الْجِهَاتِ فِي أَوْرَاقٍ بِعَدَدِ الْأَجْزَاءِ وَيُعْطَى لِصَاحِبِ السُّدُسِ وَرَقَةٌ وَلِصَاحِبِ النِّصْفِ ثَلَاثَةٌ وَلِصَاحِبِ الثُّلُثِ اثْنَانِ، وَفِي هَذِهِ قَدْ تَحْصُلُ التَّفْرِقَةُ فِي نَصِيبِ صَاحِبِ الْمُصَنِّفِ وَالثُّلُثِ. قَالَ خَلِيلٌ مُشِيرًا لِهَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ: وَكَتَبَ الشُّرَكَاءُ ثُمَّ رَمَى أَوْ كَتَبَ الْمَقْسُومُ وَأَعْطَى كُلًّا لِكُلٍّ. (فُرُوعٌ) أَوَّلُهَا: الَّذِي يُعَدِّلُ الْمَقْسُومَ هُوَ الْقَاسِمُ وَيَكْفِي الْوَاحِدُ. وَثَانِيهَا: يَجُوزُ لِلْقَاسِمِ أَخْذُ الْأُجْرَةِ عَلَى الْقَاسِمِ إنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ أَوْ مِنْ الشُّرَكَاءِ الرُّشَدَاءِ. ثَالِثُهَا: الْأُجْرَةُ عَلَى قَدْرِ الْأَنْصِبَاءِ لَا عَلَى الرُّءُوسِ. (تَتِمَّةٌ) إذَا وَقَعَتْ الْقِسْمَةُ عَلَى الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ كَانَتْ لَازِمَةً لَا تُنْقَضُ، وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ غَبْنٌ حَيْثُ كَانَتْ مُرَاضَاةً وَلَمْ يَحْصُلْ فِيهَا تَعْدِيلٌ؛ لِأَنَّهَا كَالْبَيْعِ وَهُوَ لَا يُرَدُّ بِالْغَبْنِ وَلَوْ خَالَفَ الْعَادَةَ، وَأَمَّا قِسْمَةُ الْقُرْعَةِ فَتُنْقَضُ بِالْغَبْنِ الْفَاحِشِ مَا لَمْ تَمْضِ مُدَّةُ اطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يُعَدُّ رَاضِيًا، وَلَا بُدَّ مِنْ حَلِفِهِ عَلَى عَدَمِ رِضَاهُ عِنْدَ اطِّلَاعِهِ، وَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقْ الْغَبْنُ لَا يُنْقَضُ وَإِنَّمَا يَحْلِفُ مُنْكِرُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُظِرَ فِي دَعْوَى جَوْرٍ وَغَلَطٍ وَحَلِفِ الْمُسْكِرِ، فَإِنْ تَفَاحَشَ أَوْ ثَبَتَ نُقِضَتْ كَالْمُرَاضَاةِ إنْ أَدْخَلَا مُقَوَّمًا أَوْ وَقَعَتْ بَعْدَ تَعْدِيلٍ، وَهَذَا فِي الْمَرْأَةِ الْخَالِيَةِ عَنْ الْقُرْعَةِ، وَأَمَّا لَوْ انْضَمَّ لَهَا قُرْعَةً كَعَبْدَيْنِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ تَرَاضَيَا عَلَى أَخْذِ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدًا بِالْقُرْعَةِ وَتَكُونُ فَاسِدَةً إذَا عَلِمَا بِالتَّفَاوُتِ وَتُرَدُّ لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْغَبْنِ، لَا إنْ ظَنَّا التَّسَاوِي؛ لِأَنَّهَا جَائِزَةٌ وَلَهُ الْقِيَامُ فِيهَا بِالْغَبْنِ كَالْقِيَامِ. [بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ مَسَائِلِ الْقِسْمَةِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الْوَصِيَّةِ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يُقَدِّمَهَا فِي بَابِ الْوَصِيَّةِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا مُشْتَقَّةٌ مِنْ وَصَيْت الشَّيْءَ بِالشَّيْءِ إذَا وَصَلْته بِهِ؛ لِأَنَّ الْمُوصِيَ كَأَنَّهُ وَصَلَ تَصَرُّفَهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 كَالْوَصِيِّ وَلِلْوَصِيِّ أَنْ يَتَّجِرَ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى وَيُزَوِّجَ إمَاءَهُمْ وَمَنْ أَوْصَى إلَى غَيْرِ مَأْمُونٍ فَإِنَّهُ يُعْزَلُ وَيُبْدَأُ بِالْكَفَنِ ثُمَّ   [الفواكه الدواني] بَعْدَ الْمَوْتِ بِمَا قَبْلَهُ. وَحَقِيقَتُهَا الشَّرْعِيَّةُ عِنْدَ الْقِرَاضِ عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهَا، وَعِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَعَمُّ؛ لِأَنَّهَا عِنْدَهُمْ عَقْدٌ يُوجِبُ حَقًّا فِي ثُلُثِ عَاقِدِهِ يَلْزَمُ بِمَوْتِهِ أَوْ نِيَابَةً عَنْهُ بَعْدَهُ نَحْوُ: أَنْتَ وَصِيِّي عَلَى أَوْلَادِي مَثَلًا، وَوَجْهُ الْعُمُومِ أَنَّهَا شَامِلَةٌ لِوَصِيَّةِ الْمَالِ وَوَصِيَّةِ النَّظَرِ. وَأَمَّا الْوَصِيَّةُ عِنْدَ الْفَرْضِيِّينَ فَهِيَ خَاصَّةٌ بِوَصِيَّةِ الْمَالِ، كَأَوْصَيْتُ لِزَيْدٍ أَوْ الْفُقَرَاءِ بِثُلُثِ مَالِي أَوْ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَحُكْمُهَا النَّدْبُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا الْوُجُوبُ وَهِيَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مَالِيَّةٌ كَأَوْصَيْتُ لِلْفُقَرَاءِ بِثُلُثِ مَالِي، وَنَظَرِيَّةٌ كَأَقَمْت فُلَانًا وَصِيًّا عَلَى أَوْلَادِي وَهِيَ الْمُرَادَةُ هُنَا. وَأَرْكَانُهَا أَرْبَعَةٌ: الْمُوصِي وَتَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَهُ الْحُرِّيَّةُ وَالتَّمْيِيزُ وَالْمِلْكُ، وَالْوَصِيُّ وَشَرْطُهُ الْإِسْلَامُ وَالتَّكْلِيفُ، وَالْعَدَالَةُ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا وَحُسْنُ التَّصَرُّفِ وَالنَّظَرِ، وَإِنَّمَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ فِي الْوَصِيِّ عَلَى الْأَيْتَامِ وَقَبْضِ أَمْوَالِهِمْ لَا عَلَى الثُّلُثِ أَوْ عِتْقِ عَبْدِهِ قَالَهُ فِي التَّوْضِيحِ، فَمَنْ وُجِدَتْ فِيهِ تِلْكَ الشُّرُوطُ صَحَّ كَوْنُهُ وَصِيًّا، وَلَوْ أَعْمَى أَوْ عَبْدًا أَوْ امْرَأَةً، وَالْعَبْدُ يَنْصَرِفُ بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَالْمُوصَى فِي وَصِيَّةِ النَّظَرِ عَلَى الْمَحْجُورِ الْأَبُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يُوصِي عَلَى الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَبٌ أَوْ وَصِيُّهُ كَأُمِّ الْمَحْجُورِ إنْ قَلَّ الْمَالُ وَلَا وَلِيَّ لَهُ وَوَرِثَ عَنْهَا، وَيُشْتَرَطُ فِي الْأَبِ الرُّشْدُ؛ لِأَنَّ السَّفِيهَ وَلِيُّهُ يَقُومُ مَقَامَهُ وَالْمُوصَى فِيهِ إمَّا تَفْرِقَةُ الثُّلُثِ أَوْ الْقِيَامُ بِأَمْرِ الْيَتِيمِ. وَالرَّابِعُ الصِّيغَةُ وَهِيَ كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَيْهَا مِنْ لَفْظٍ أَوْ إشَارَةٍ، لَكِنْ إنْ قُصِّرَتْ عَمَّتْ وَإِنْ طَالَبَ خَصَّتْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَصِيٌّ فَقَطْ يَعُمُّ جَمِيعَ الْأَشْيَاءِ وَيُزَوِّجُ صِغَارَ بَنِيهِ، وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَبْكَارِ بَنَاتِهِ بِإِذْنِهِنَّ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِالْإِجْبَارِ أَوْ يُعَيِّنَ لَهُ الزَّوْجَ فَيُجْبِرُ، وَلَوْ تَعَدَّى الْوَصِيُّ عَلَى التَّرِكَةِ وَزَوَّجَ بَعْضَ بَنَاتِ الْمُوصِي صَحَّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ زَوَّجَ مُوصًى عَلَى بَيْعِ تَرِكَتِهِ وَقَبَضَ دُيُونَهُ صَحَّ. قَالَ شُرَّاحُهُ: الْمُرَادُ زَوَّجَ مَنْ لَمْ تُجْبَرْ وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يَجْعَلْ التَّزْوِيجَ لِغَيْرِهِ، وَأَمَّا لَوْ زَوَّجَ مَنْ تُجْبَرُ لِفَسْخٍ أَبَدًا فَقَالَ: (وَوَصِيُّ الْوَصِيِّ) الَّذِي أَوْصَاهُ الْأَبُ وَإِنْ تَسَلْسَلَ. (كَالْوَصِيِّ) فِي كُلِّ مَا كَانَ لِلْمُوصِي فِعْلٌ مِنْ نِكَاحٍ أَوْ غَيْرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا يُوصِي لِلْمَحْجُورِ عَلَيْهِ أَبٌ أَوْ وَصِيُّهُ وَإِنْ بَعُدَ لَا غَيْرُهُمَا، كَمُقَدَّمِ قَاضٍ أَوْ جَدٍّ سِوَى الْأُمِّ فَإِنَّ لَهَا الْإِيصَاءُ بِالشُّرُوطِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَمِثْلُ الْوَصِيِّ فِي صِحَّةِ الْإِيصَاءِ لِغَيْرِهِ الْخَلِيفَةُ وَالْمُجْبِرُ وَإِمَامُ الصَّلَاةِ وَنَاظِرُ الْوَقْفِ إنْ جَعَلَ لَهُ الْوَاقِفُ الْإِيصَاءَ، وَالضَّابِطُ فِي ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ مِمَّا قَبْلَ التَّوْلِيَةِ فِيهِ يَجُوزُ لَهُ الْإِيصَاءُ بِهِ، وَمَنْ لَهُ عَزْلُ نَفْسِهِ كَالْأَمِينِ عَلَى الرَّهْنِ وَالْوَكِيلِ وَالْقَاضِي فَلَيْسَ لَهُ الْإِيصَاءُ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَوَصِيُّ الْوَصِيِّ كَالْوَصِيِّ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ الْإِيصَاءُ وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا ذَكَرْنَا حَيْثُ كَانَ الْوَصِيُّ مُتَّحِدًا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مُتَعَدِّدًا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ الْإِيصَاءُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِاثْنَيْنِ حَمْلٌ عَلَى التَّعَاوُنِ وَإِنْ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَوْ اخْتَلَفَا فَالْحَاكِمُ وَلَا لِأَحَدِهِمَا إيصَاءٌ وَلَا لَهُمَا قَسْمُ الْمَالِ وَإِلَّا ضَمِنَا. وَلَمَّا كَانَ الْوَصِيُّ مُنَزَّلًا مَنْزِلَةَ الْأَبِ قَالَ: (وَلِلْوَصِيِّ أَنْ) يُعَاقَدَ شَخْصًا (يَتَّجِرُ بِأَمْوَالِ الْيَتَامَى) لِخَبَرِ «اتَّجِرُوا فِي أَمْوَالِ الْيَتَامَى لِئَلَّا تَأْكُلَهَا الزَّكَاةُ» . وَإِنَّمَا حَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى أَنْ يَدْفَعَهُ لِلْغَيْرِ؛ لِأَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ بِنَفْسِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: بِالْعَطْفِ عَلَى مَا لِلْوَصِيِّ فِعْلُهُ: وَدَفْعُ مَالِهِ قِرَاضًا أَوْ بِضَاعَةً وَلَا يَعْمَلُ هُوَ بِهِ، فَإِنْ عَمِلَ كَانَ الرِّبْحُ لَهُ؛ لِأَنَّ الْخَسَارَةَ عَلَيْهِ كَالْمُودِعِ، وَمَنْ عَلَيْهِ الْتِوَاءٌ لَهُ النَّمَاءُ وَمِثْلُهُمَا الْغَاصِبُ لِدَرَاهِمَ يَتَّجِرُ فِيهَا لَهُ رِبْحُهَا وَلَوْ غَصَبَهَا مِنْ تَاجِرٍ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. (وَ) لِلْوَصِيِّ أَيْضًا أَنْ (يُزَوِّجَ إمَاءَهُمْ) أَيْ الْيَتَامَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلْوَصِيِّ اقْتِضَاءُ الدَّيْنِ وَتَأْخِيرُهُ لِنَظَرٍ، وَالنَّفَقَةُ عَلَى الطِّفْلِ بِالْمَعْرُوفِ، وَفِي خَتْنِهِ وَعُرْسِهِ وَعِيدِهِ وَدَفْعِ نَفَقَةٍ لَهُ، قُلْت: وَإِخْرَاجُ فِطْرَتِهِ وَزَكَاتِهِ وَدَفْعٌ لِلْحَاكِمِ إنْ كَانَ حَاكِمٌ حَنَفِيٌّ، وَدَفْعُ مَالِهِ قِرَاضًا أَوْ بِضَاعَةً، وَلَا يَعْمَلُ هُوَ بِهِ وَلَا اشْتِرَاءً مِنْ التَّرِكَةِ، وَتَعَقُّبٌ بِالنَّظَرِ إلَّا كَحِمَارَيْنِ قَلَّ ثَمَنُهُمَا وَتَسَوُّقٌ بِهِمَا الْحَضَرَ وَالسَّفَرَ حَتَّى تَنْتَهِيَ الرَّغَبَاتُ فِيهِمَا فَيَجُوزُ لَهُ الشِّرَاءُ حِينَئِذٍ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَفْهُومُ الْإِمَامِ مَفْهُومُ مُوَافَقَةٍ، فَيَجُوزُ لِلْمُوصِي أَنْ يُزَوِّجَ الْعَبِيدَ كَمَا يَجُوزُ لَهُ تَزْوِيجُ الْإِمَاءِ، حَيْثُ كَانَ تَزْوِيجُ الْجَمِيعِ نَظَرًا وَمَصْلَحَةً وَظَاهِرَةً، وَلَوْ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، وَقَالَ فِي كِفَايَةِ الطَّالِبِ: وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَصِيَّ مُخَيَّرٌ فِيمَا ذُكِرَ وَلَا يُجْبَرُ وَهُوَ كَذَلِكَ انْتَهَى، وَلَعَلَّهُ مَا لَمْ يُجْعَلْ لَهُ الْجَبْرُ وَإِلَّا أُجْبِرَ. وَالثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى تَزْوِيجِ إمَائِهِ وَلَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى تَزْوِيجِ أَوْلَادِهِ، وَذَكَرَهُ فِي بَابِ النِّكَاحِ حَيْثُ قَالَ: لِلْوَصِيِّ الذَّكَرِ أَنْ يَتَزَوَّجَ الطِّفْلُ الذَّكَرُ الَّذِي فِي وِلَايَتِهِ. قَالَ الشَّارِحُ: أَيْ لَهُ جَبْرُهُ عَلَى التَّزْوِيجِ فَالْأَبُ قَالَ بُرْهَامٌ وَلَا خِلَافَ فِي جَبْرِ الْأَبِ الْوَلَدَ الصَّغِيرَ وَهُوَ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا كَانَ فِيهِ غِبْطَةٌ كَنِكَاحِهِ مِنْ الْمَرْأَةِ الْمُوسِرَةِ، وَالْوَصِيُّ كَالْأَبِ عَلَى مَذْهَبِ الْمُدَوَّنَةِ، وَقُيِّدَ الْوَصِيُّ بِالذَّكَرِ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَعْقِدُ نِكَاحَ الْأُنْثَى، ثُمَّ أَشَارَ إلَى مَفْهُومِ الطِّفْلِ الذَّكَرِ بِقَوْلِهِ: وَلَا يُزَوِّجُ الصَّغِيرَةَ إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِإِنْكَاحِهَا أَيْ يُجْبِرُهَا أَوْ يُعَيِّنُ لَهُ الزَّوْجَ كَمَا فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 الدَّيْنِ ثُمَّ الْوَصِيَّةِ ثُمَّ الْمِيرَاثِ وَمَنْ حَازَ دَارًا عَنْ حَاضِرٍ عَشْرَ سِنِينَ تُنْسَبُ إلَيْهِ وَصَاحِبُهَا حَاضِرٌ عَالِمٌ لَا يَدَّعِي شَيْئًا فَلَا قِيَامَ لَهُ وَلَا حِيَازَةَ بَيْنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ أَوْ بِقَبْضِهِ وَمَنْ   [الفواكه الدواني] خَلِيلٍ، وَأَيْضًا قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ عَاطِفًا: وَلَهُ إنْكَاحُ صِغَارِ بَنِيهِ وَمَنْ بَلَغَ مِنْ أَبْكَارِ بَنَاتِهِ بِإِذْنِهِ وَلَا يُجْبَرُ اتِّفَاقًا، وَالثَّيِّبُ بِإِذْنِهَا، فَيُسْتَفَادُ مِنْ كُلِّ ذَلِكَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ إنْكَاحُ الْأُنْثَى إلَّا أَنْ يَأْمُرَهُ الْأَبُ بِجَبْرِهَا أَوْ يُعَيِّنَ لَهُ الزَّوْجَ، فَإِنْ وَقَعَ وَنَزَلَ وَارْتَكَبَ مَا لَا يَجُوزُ صَحَّ فِي الْبَالِغِ بِإِذْنِهَا وَفُسِخَ أَبَدًا فِي الصَّغِيرَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ زَوَّجَ مُوصٍ عَلَى بَيْعِ تَرِكَتِهِ وَقَبَضَ دُيُونَهُ صَحَّ، قَالَ شُرَّاحُهُ: هَذَا فِي غَيْرِ مَنْ تُجْبَرُ وَإِلَّا فُسِخَ أَبَدًا، وَلَمَّا كَانَتْ الْعَدَالَةُ لَا بُدَّ مِنْهَا فِي الْوَصِيِّ ابْتِدَاءً وَدَوَامًا قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى إلَى غَيْرِ مَأْمُونٍ) أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ الْفِسْقُ (فَإِنَّهُ يُعْزَلُ) قَالَ خَلِيلٌ: وَطُرُوُّ الْفِسْقِ بِعَزْلِهِ، وَكَذَا لَوْ أَوْصَى بِغَيْرِ عَدْلٍ أَوْ لِعَاجِزٍ أَوْ لِمَنْ لَيْسَ فِيهِ كَفَاءَةٌ أَوْ طَرَأَ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُعْزَلُ؛ لِأَنَّ شُرُوطَهَا مَطْلُوبَةٌ ابْتِدَاءً وَدَوْمًا ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً كَانَ الْأَوْلَى ذَكَرُهَا فِي أَوَّلِ بَحْثِ الْفَرَائِضِ فَقَالَ: (وَيُبْدَأُ بِالْكَفَنِ) وَسَائِرِ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْمَيِّتِ مِنْ أُجْرَةِ حَفْرٍ وَدَفْنٍ وَتَغْسِيلٍ وَثَمَنِ حُنُوطٍ الْمَعْرُوفِ (ثُمَّ) بَعْدَ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ يُدْفَعُ (الدَّيْنُ) الْمُتَعَلِّقُ بِذِمَّتِهِ لِثُبُوتِهِ بِبَيِّنَةٍ أَوْ إقْرَارٍ وَلَوْ فِي مَرَضِهِ لِمَنْ لَا يُتَّهَمُ عَلَيْهِ (ثُمَّ) بَعْدَ وَفَاءِ الدَّيْنِ تُنَفَّذُ (الْوَصِيَّةُ) الَّتِي أَوْصَى بِهَا مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ (ثُمَّ) بَعْدَ ذَلِكَ يُدْفَعُ (الْمِيرَاثُ) إلَى الْوَارِثِ بِالْفَرْضِ أَوْ التَّعْصِيبِ أَوْ هُمَا عَلَى التَّرْتِيبِ الْآتِي. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَوْ صَرِيحُهُ أَنَّ مُؤَنَ التَّجْهِيزِ تُقَدَّمُ عَلَى الْحُقُوقِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَعْيَانِ، كَالْعَبْدِ الْجَانِي وَالشَّيْءِ الْمَرْهُونِ وَأُمِّ الْوَلَدِ وَهِيَ طَرِيقَةٌ مَرْجُوحَةٌ وَدَرَجَ عَلَيْهَا فِي التِّلْمِسَانِيَّة حَيْثُ قَالَ: إنْ امْرُؤٌ قَدْ قُدِّرَتْ مَنُونُهُ ... كُفِّنَ ثُمَّ أُدِّيَتْ دُيُونُهُ وَبَعْدَ ذَا تُنَفَّذُ الْوَصِيَّةُ ... وَيَقَعُ الْمِيرَاثُ فِي الْبَقِيَّةِ وَالْمُعْتَمَدُ خِلَافُهَا وَهِيَ طَرِيقَةُ خَلِيلٍ حَيْثُ قَالَ: يَخْرُجُ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ حَقٌّ تَعَلَّقَ بِعَيْنٍ كَالْمَرْهُونِ وَعَبْدٍ جَنَى ثُمَّ مُؤَنُ تَجْهِيزِهِ بِالْمَعْرُوفِ، ثُمَّ تُقْضَى دُيُونُهُ ثُمَّ وَصَايَاهُ ثُمَّ الْبَاقِي لِوَارِثِهِ، وَإِنَّمَا قُدِّمَ الْكَفَنُ وَمُؤَنُ التَّجْهِيزِ عَلَى الدُّيُونِ الْمُرْسَلَةِ فِي الذِّمَّةِ؛ لِأَنَّ الْمَيِّتَ شَبِيهٌ بِالْمُفْلِسِ، وَأَجَابَ بَعْضُ الشُّيُوخِ كَابْنِ عُمَرَ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الْمُرَادَ يُبْدَأُ بِالْكَفَنِ بَعْدَ إخْرَاجِ الْمُعَيَّنَاتِ مِثْلِ أُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ إلَى أَجَلٍ، وَالزَّكَاةِ إذْ حَلَّ حَوْلُهَا فِي مَرَضِهِ، وَالرَّهْنِ إذَا كَانَ بِيَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَالْعَبْدِ الْجَانِي إذَا كَانَ بِيَدِ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، وَزَكَاةِ الْحُبُوبِ وَالثِّمَارِ إذْ طَابَتْ فِي مَرَضِهِ، ثُمَّ بَعْدَ هَذَا الْكَفَنُ وَبَقِيَّةُ الْحُقُوقِ الْخَمْسَةِ، فَالْبَدْءُ فِي كَلَامِهِ عَلَى هَذَا إضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةِ الْحِيَازَةِ وَكَانَ الْأَنْسَبُ تَقْدِيمُهَا بِأَثَرِ الشَّهَادَاتِ لِمَا يَحْصُلُ فِيهَا مِنْ التَّنَازُعِ فَقَالَ: (وَمَنْ حَازَ) مِنْ الْأَجَانِبِ غَيْرِ الشُّرَكَاءِ لِلْجَائِزِ (دَارًا) أَوْ غَيْرَهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَقَارِ (عَنْ حَاضِرٍ) سَاكِتٍ مُدَّةَ (عَشْرَ سِنِينَ) وَهُوَ يَتَصَرَّفُ فِيهَا بِغَيْرِ الْإِصْلَاحِ وَيَدَّعِي الْمِلْكِيَّةَ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِهَا (تُنْسَبُ إلَيْهِ وَصَاحِبُهَا) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْحَاضِرِ الْمُتَقَدِّمِ (حَاضِرٌ عَالِمٌ) بِأَنَّهَا مِلْكُهُ وَعَالِمٌ بِحِيَازَةِ هَذَا وَبِتَصَرُّفِهِ تَصَرُّفَ الْمَالِكِ وَبِدَعْوَى الْحَائِزِ الْمِلْكِيَّةَ لِلْوَضْعِ الْمُحَازِ وَلَوْ مَرَّةً (لَا يَدَّعِي شَيْئًا) مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لَهُ فِي الْكَلَامِ (فَلَا قِيَامَ لَهُ) وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ وَيَكُونُ أَحَقَّ بِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ حَازَ أَجْنَبِيٌّ غَيْرُ شَرِيكٍ وَتَصَرَّفَ ثُمَّ ادَّعَى حَاضِرٌ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ عَشْرَ سِنِينَ لَمْ تُسْمَعْ وَلَا بَيِّنَتُهُ إلَّا بِإِسْكَانٍ وَنَحْوِهِ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ حَازَ شَيْئًا عَشْرَ سِنِينَ فَهُوَ لَهُ» فَالْحِيَازَةُ تَنْقُلُ الْمِلْكَ كَمَا قَالَهُ الْعَلَّامَةُ بُرْهَامٌ وَتَبِعَهُ جَمَاعَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: الْحِيَازَةُ تَكُونُ فِي مَعْلُومِ الْأَصْلِ وَمَجْهُولِهِ، وَقَالَ ابْنُ رُشْدٍ مِنْ سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْقَاقِ: الْحِيَازَةُ لَا تَنْقُلُ الْمِلْكَ عَنْ الْمُحَازِ عَنْهُ لِلْحَائِزِ اتِّفَاقًا لَكِنَّهَا تَدُلُّ عَلَى الْمِلْكِ، كَإِرْخَاءِ السِّتْرِ وَمَعْرِفَةِ الْعِفَاصِ وَالْوِكَاءِ، فَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَ الْجَائِزِ مَعَ يَمِينِهِ، وَأَقُولُ: لَعَلَّ مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ طَرِيقَةٌ وَإِلَّا فَكَلَامُ الْمُشَبَّهِ يُشْبِهُ ظَاهِرَهُ لِمَا قَالَ الْعَلَّامَةُ بُرْهَامٌ: مِنْ أَنَّ الْحِيَازَةَ تَنْقُلُ الْمِلْكَ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ صَاحِبُهَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ مَالِكُهَا، وَلَعَلَّ وَجْهُ نَقْلِهَا لِلْمِلْكِ أَنَّ حُضُورَ صَاحِبِهَا وَعِلْمَهُ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ مَعَ مُشَاهَدَتِهِ لِتَصَرُّفِهِ فِيهَا مَعَ دَعْوَاهُ الْمِلْكِيَّةَ وَالتَّصَرُّفَ لِغَيْرِ الْإِصْلَاحِ يَدُلُّ عَلَى إعْرَاضِهِ عَنْهَا وَتَسْلِيمِهَا لِلْحَائِزِ، وَأَنَّهُ مَلَكَ الشَّيْءَ الْمُحَازَ لِذَلِكَ الْحَائِزِ، وَأَمَّا لَوْ شَهِدَتْ بَيِّنَةٌ لِلْمُدَّعِي بِالْإِسْكَانِ لِلْحَائِزِ أَوْ الْإِعْمَارِ أَوْ الْإِرْفَاقِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَإِنَّهُ لَا يُفَوِّتُ عَلَى صَاحِبِهِ وَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَبَيِّنَتُهُ، لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْ الْحَائِزِ بِحَضْرَةِ الْمُدَّعِي مَا لَا يَحْصُلُ إلَّا مِنْ الْمَالِكِ فِي مِلْكِهِ وَلَمْ يُنَازِعْهُ فِي تِلْكَ الْمُدَّةِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا قُلْنَا وَهُوَ يَدَّعِي الْمِلْكِيَّةَ؛ لِأَنَّهَا شَرْطٌ فِي تِلْكَ الْحِيَازَةِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَدَّعِ فِيهَا الْمِلْكِيَّةَ فَلَا يَمْلِكُ مَا حَازَهُ وَتُسْمَعُ بَيِّنَةُ الْغَيْرِ، وَمِنْ الشُّرُوطِ أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ لِغَيْرِ مَصْلَحَةٍ، وَأَمَّا التَّصَرُّفُ بِالْمَصْلَحَةِ فَلَا يُعْتَبَرُ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ يَرْضَى بِفِعْلِهِ بِمِلْكِهِ، وَهَذَا فِي التَّصَرُّفِ بِغَيْرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ؛ لِأَنَّ التَّصَرُّفَ بِنَحْوِ الْبَيْعِ وَالْهِبَةِ لَا يُشْتَرَطُ مَعَهُ طُولُ الزَّمَانِ مَعَ عِلْمِ الْمُدَّعِي وَسُكُوتِهِ فَلَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ دَارًا أَنَّ غَيْرَ الْعَقَارِ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَالْعُرُوضِ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَإِذَا رَكِبَ أَجْنَبِيٌّ دَابَّةً مُدَّةَ سَنَتَيْنِ وَهُوَ مُدَّعِي الْمِلْكِيَّةِ وَغَيْرُهُ حَاضِرٌ عَالِمٌ سَاكِتٌ بِلَا مَانِعٍ لَمْ تُسْمَعْ دَعْوَاهُ وَلَا بَيِّنَتُهُ وَيَفُوزُ بِهَا الْحَائِزُ، وَمِثْلُ الدَّابَّةِ أَمَةُ الْخِدْمَةِ، وَإِذَا حَازَ أَجْنَبِيٌّ عَلَى أَجْنَبِيٍّ عَبْدًا أَوْ عَرْضًا مُدَّةَ ثَلَاثِ سِنِينَ فَقَدْ تَمَّتْ مُدَّةُ الْحِيَازَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنَّمَا تَفْتَرِقُ الدَّارُ مِنْ غَيْرِهَا فِي الْأَجْنَبِيِّ، فَفِي الدَّابَّةِ وَأَمَةِ الْخِدْمَةِ السَّنَتَانِ وَيُزَادُ فِي عَبْدٍ وَعَرْضٍ. وَقَوْلُهُ: تُنْسَبُ إلَيْهِ مِنْ جُمْلَةِ الشُّرُوطِ وَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمَعَ الْمُحَازُ عَنْهُ نِسْبَتَهَا إلَيْهِ، وَرُبَّمَا يُفْهَمُ هَذَا مِنْ اشْتِرَاطِ دَعْوَى الْحَائِزِ الْمِلْكِيَّةَ، وَقَوْلُهُ: حَاضِرٌ يُحْتَرَزُ بِهِ عَنْ بَعِيدِ الْغَيْبَةِ أَوْ مَا فِي حُكْمِهَا مِمَّا لَا يَتَمَكَّنُ مَعَهَا مِنْ الْمُنَازَعَةِ لَا بِنَفْسِهِ وَلَا بِوَكِيلِهِ فَإِنَّ بَيِّنَتَهُ تُسْمَعُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَأَمَّا الْقَرِيبَةُ الَّتِي تُمْكِنُ مَعَهَا الْمُنَازَعَةُ وَلَوْ بِالْوَكِيلِ فَكَالْحَاضِرِ، وَإِنْ أَشْكَلَ الْأَمْرُ فَقَوْلَانِ فِي سُقُوطِ حَقِّ الْمُدَّعِي وَقَبُولِ مُنَازَعَتِهِ وَسَمَاعِ بَيِّنَتِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي غَيْرِ حَقِّ اللَّهِ، وَأَمَّا حَقُّ اللَّهِ فَلَا يَفُوتُ بِالْحِيَازَةِ وَلَوْ طَالَتْ الْمُدَّةُ، كَحِيَازَةِ طَرِيقِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ قِطْعَةٍ مِنْهَا فَلَا يَمْلِكُهَا وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ وَتُقْبَلُ الشَّهَادَةُ فِيهَا بِأَنَّهَا طَرِيقٌ، وَمِثْلُهَا لَوْ حَازَ مَسْجِدًا أَوْ مَحَلًّا مَوْقُوفًا عَلَى غَيْرِهِ فَلَا يَمْلِكُهُ الْحَائِزُ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ؛ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ لَا تَقَعُ فِي وَثَائِقِ الْحُقُوقِ، فَلِمُسْتَحِقِّ مَا فِيهَا الْقِيَامُ بِهِ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَقَوْلُنَا مِنْ غَيْرِ مَانِعٍ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ سَكَتَ لِمَانِعٍ، كَمَا لَوْ كَانَ الْحَائِزُ سُلْطَانًا أَوْ صَاحِبَ شَرِكَةٍ فَإِنَّ لَهُ الْقِيَامَ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ وَتُسْمَعُ دَعْوَاهُ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْمَحَلَّ الْمُحَازَ عَنْهُ مِلْكُهُ بِأَنْ قَالَ: لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ مِلْكِي فِي حَالِ تَصَرُّفِ هَذَا الْحَائِزِ، وَمَا وَجَدْت الْوَثِيقَةَ إلَّا عِنْدَ فُلَانٍ، أَوْ كَانَ وَارِثًا وَادَّعَى أَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّهُ مِلْكُهُ فَإِنَّهُ يُقْبَلُ قَوْلُهُ مَعَ يَمِينِهِ وَلَوْ طَالَ الزَّمَانُ، وَقَوْلُنَا غَيْرُ الشُّرَكَاءِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حِيَازَةِ الشُّرَكَاءِ فَإِنَّهُمْ إنْ كَانُوا أَجَانِبَ لَا يَفُوزُ الْحَائِزُ بِمَا حَازَهُ إلَّا بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُضِيُّ الْمُدَّةِ، وَثَانِيهِمَا أَنْ يَكُونَ التَّصَرُّفُ بِخُصُوصِ الْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ لِغَيْرِ الْإِصْلَاحِ وَأَمَّا الشُّرَكَاءُ الْأَقَارِبُ فَالرَّاجِحُ أَنَّهُمْ كَغَيْرِ الشُّرَكَاءِ فِي أَنَّ الْعَشْرَ سِنِينَ لَا يَحْصُلُ بِهَا حِيَازَةٌ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا حِيَازَةَ) مُقْتَضِيَةٌ لِنَقْلِ الْمِلْكِ (بَيْنَ الْأَقَارِبِ) جَمْعُ قَرِيبٍ كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ لَا كَالْأَبِ وَابْنِهِ (وَ) لَا بَيْنَ (الْأَصْهَارِ) الَّذِينَ لَا قَرَابَةَ بَيْنَهُمْ وَمِثْلُهُمْ الْمَوَالِي (فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمُدَّةِ) وَهِيَ الْعَشْرُ سِنِينَ بَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ الزَّائِدَةِ عَلَى أَرْبَعِينَ سَنَةً وَلَوْ شُرَكَاءَ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَالْحَالُ أَنَّهُمْ يَتَصَرَّفُونَ بِالْهَدْمِ وَالْبِنَاءِ لَا بِنَحْوِ الزَّرْعِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مَحْمُولٌ عَلَى الْأَقَارِبِ وَالْأَصْهَارِ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ الْأُلْفَةُ، وَأَمَّا الَّذِينَ بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةُ فَكَالْأَجَانِبِ، وَالظَّاهِرُ حَمْلُهُمْ عِنْدَ جَهْلِ الْحَالِ عَلَى عَدَمِ الْعَدَاوَةِ وَإِنَّمَا قُلْنَا لَا كَالْأَبِ وَابْنِهِ؛ لِأَنَّ الْحِيَازَةَ بَيْنَهُمَا لَا تَكُونُ إلَّا بِالزَّمَنِ الطَّوِيلِ الَّذِي تَهْلَكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ وَيَنْقَطِعُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَالْحَائِزُ يُهْدَمُ وَيُبْنَى لِغَيْرِ الْإِصْلَاحِ، وَالْآخَرُ حَاضِرٌ سَاكِتٌ طُولَ الْمُدَّةِ وَلَا مَانِعَ فَلَا قِيَامَ لِلْحَاضِرِ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا تُسْمَعُ لَهُ بَيِّنَةٌ، وَالظَّاهِرَةُ أَنَّ الْمُدَّةَ الَّتِي تَهْلَكُ فِيهَا الْبَيِّنَاتُ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ سِنِّ الشُّهُودِ، وَأَمَّا لَوْ بَاعَ أَحَدُهُمَا شَيْئًا أَوْ وَهَبَهُ بِحَضْرَةِ الْآخَرِ مِنْ غَيْرِ كَلَامٍ مَعَ التَّمَكُّنِ مِنْهُ فَلَا خِلَافَ فِي عَدَمِ سَمَاعِ دَعْوَاهُ مَعَ حُصُولِ هَذَا الْفِعْلِ؛ لِأَنَّ الْمَالِكَ لَا يَسْكُتُ عَنْ تَصَرُّفِ الْغَيْرِ فِي مِلْكِهِ بِنَحْوِ هَذَا. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بَيْنَ أَبٍ وَابْنِهِ إلَّا بِكَهِبَةٍ إلَّا أَنْ يَطُولَ مَعَهَا مَا تَهْلَكُ فِيهِ الْبَيِّنَاتُ وَيَنْقَطِعُ الْعِلْمُ، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: إلَّا أَنْ يَطُولَ مُسْتَثْنًى مِنْ مُقَدَّرٍ أَيْ لَا بِغَيْرِ هِبَةٍ. (تَنْبِيهٌ) إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَاهُ ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ، إذْ قَدْ أَبْهَمَ فِي الْمُدَّةِ الَّتِي تَحْصُلُ بِهَا الْحِيَازَةُ كَمَا أَبْهَمَ فِي الْأَقَارِبِ، وَمَسْأَلَةُ الْحِيَازَةِ هَذِهِ مُخَالِفَةٌ لِمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ الْبَابِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» فَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ الْحَدِيثِ. [بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الْإِقْرَارِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ مَسَائِلَ مِنْ الْإِقْرَارِ وَهُوَ لُغَةً الِاعْتِرَافُ، وَاصْطِلَاحًا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ بِلَفْظِهِ أَوْ بِلَفْظِ نَائِبِهِ، فَيَدْخُلُ إقْرَارُ الْوَكِيلِ وَتَخْرُجُ الْإِنْشَاءَاتُ كَبِعْت وَاشْتَرَيْت وَنَحْوِهِمَا كَنُطْقِ الْكَافِرِ بِالشَّهَادَتَيْنِ لِلْإِخْبَارِ عَنْهُمَا بِأَنَّهُ فَعَلَهُمَا كَقَوْلِهِ: كُنْت اسْتَلَمْت فَهُوَ مِنْ الْإِقْرَارِ، وَمِمَّا يَخْرُجُ أَيْضًا الرِّوَايَةُ وَالشَّهَادَةُ وَإِنَّمَا خَرَجَا وَإِنْ كَانَا خَبَرَيْنِ؛ لِأَنَّ الرِّوَايَةَ خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَالشَّهَادَةُ خَبَرٌ يُوجِبُ حُكْمَ صِدْقِهِ عَلَى غَيْرِهِ فَقَطْ، وَكَذَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِقْرَارِ قَوْلُ الْقَائِلِ: زَيْدٌ زَانٍ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا يُوجِبُ حُكْمًا عَلَى قَائِلِهِ فَقَطْ لَكِنَّهُ غَيْرُ مُقْتَضٍ صِدْقَهُ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى صِدْقِهِ عَدَمُ حَدِّهِ، وَهَذَا يُوجِبُ عَلَى الْقَائِلِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَهُ أَرْكَانٌ أَرْبَعَةٌ: الْمُقِرُّ وَالْمُقَرُّ لَهُ وَالْمُقَرُّ بِهِ وَالصِّيغَةُ، فَشَرْطُ الْمُقِرِّ كَوْنُهُ مُكَلَّفًا غَيْرَ مَحْجُورٍ عَلَيْهِ، وَشَرْطُ الْمُقَرِّ لَهُ كَوْنُهُ أَهْلًا لِمِلْكِ الْمُقَرِّ بِهِ وَلَوْ حُكْمًا كَحَمْلٍ أَوْ مَسْجِدٍ، وَأَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ تَكْذِيبٌ لِلْمُقِرِّ إنْ كَانَ أَهْلًا لِلتَّكْذِيبِ، وَأَنْ لَا يُتَّهَمَ الْمُقِرُّ عَلَى الْإِقْرَارِ، وَشَرْطُ الْمُقَرِّ بِهِ كَوْنُهُ حَقًّا بِحَيْثُ يَلْزَمُ الْمُقِرَّ وَلَوْ غَيْرَ مَالِيٍّ كَقَتَلْت زَيْدًا عَمْدًا، وَصِيغَتُهُ عَلَيَّ أَوْ فِي ذِمَّتِي لِفُلَانٍ كَذَا أَوْ فَعَلْت كَذَا مِمَّا يُوجِبُ فِعْلَهُ حُكْمًا، وَالْمُصَنِّفُ بَالَغَ فِي الِاخْتِصَارِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) أَيْ وَلَا يَصِحُّ (إقْرَارُ الْمَرِيضِ) مَرَضًا مَخُوفًا (لِوَارِثِهِ بِدَيْنٍ) فِي ذِمَّتِهِ حَيْثُ كَانَ يُتَّهَمُ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ، كَمَا لَوْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 أَوْصَى بِحَجٍّ أَنُفِذَ وَالْوَصِيَّةُ بِالصَّدَقَةِ أَحَبُّ إلَيْنَا وَإِذَا مَاتَ أَجِيرُ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ فَلَهُ بِحِسَابِ مَا سَارَ وَيَرُدُّ مَا بَقِيَ وَمَا هَلَكَ بِيَدِهِ فَهُوَ مِنْهُ إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ عَلَى الْبَلَاغِ فَالضَّمَانُ مِنْ الَّذِينَ وَاجْرُوهُ وَيَرُدُّ مَا فَضَلَ إنْ فَضَلَ شَيْءٌ.   [الفواكه الدواني] أَقَرَّ لِشَخْصٍ مِنْ الْوَرَثَةِ مَعَ وُجُودِ مُسَاوِيهِ وَأَوْلَى لِأَقْرَبَ مِنْهُ (أَوْ) أَيْ وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرِيضِ (بِقَبْضِهِ) أَيْ بِقَبْضِ الدَّيْنِ الَّذِي عَلَى وَارِثِهِ الْمُتَّهَمِ عَلَى الْإِقْرَارِ لَهُ كَمَا لَوْ قَالَ: الدَّيْنُ الَّذِي كَانَ عَلَى ابْنِي الْبَارِّ أَوْ الصَّغِيرِ مَعَ وُجُودِ الْعَاقِّ أَوْ الْكَبِيرِ قَدْ أَدَّاهُ إلَيَّ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا بَيِّنَةَ لَهُ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: يُؤَاخَذُ الْمُكَلَّفُ بِلَا حَجْرٍ بِإِقْرَارِهِ لِأَهْلٍ لَمْ يُكَذِّبْهُ وَلَا يُتَّهَمُ كَالْعَبْدِ فِي غَيْرِ الْمَالِ بَلْ بِمَا يُوجِبُ عَلَى نَفْسِهِ عُقُوبَةً فَإِنَّهُ يَصِحُّ، وَأَخْرَسَ وَمَرِيضٍ إنْ وَرِثَهُ وَلَدٌ لِأَبْعَدَ أَوْ لِمُلَاطَفَتِهِ فَإِنَّهُ يَصِحُّ لِعَدَمِ الِاتِّهَامِ. وَاعْلَمْ أَنَّ قَيْدَ الِاتِّهَامِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الْمَرِيضِ وَفِي إقْرَارِ الصَّحِيحِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ كَمَنْ أَحَاطَ الدَّيْنُ بِمَالِهِ، وَلَا يُعْتَبَرُ فِي إقْرَارِ الصَّحِيحِ غَيْرِ الْمَحْجُورِ عَلَيْهِ، وَلِذَا قَالُوا بِصِحَّةِ إقْرَارِ الزَّوْجِ لِزَوْجَتِهِ وَلَوْ عُلِمَ مَيْلُهُ لَهَا، وَإِنَّمَا فَصَلُوا فِي إقْرَارِهِ فِي حَالِ مَرَضِهِ فَقَالُوا: إنْ عُلِمَ مَيْلُهُ لَهَا لَا يَصِحُّ وَإِنْ عُلِمَ بُغْضُهُ لَمَا صَحَّ، وَإِنْ جُهِلَ حَالُهُ مَعَهَا صَحَّ إنْ وَرِثَهُ ابْنٌ وَلَوْ صَغِيرًا، وَكَذَا لَوْ وَرِثَهُ بَنُونَ حَيْثُ لَمْ تَنْفَرِدْ بِوِلَادَةِ الصَّغِيرِ فَلَا يَصِحُّ لِاتِّهَامِهِ، وَالْمَرَضُ الْخَفِيفُ بِمَنْزِلَةِ عَدَمِهِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِمَنْ يُتَّهَمُ عَلَيْهِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَكَانَ إيصَاؤُهُ بِالْحَجِّ عَنْهُ رُبَّمَا يُتَوَهَّمُ مَنْعُهُ قَالَ: (وَمَنْ أَوْصَى) فِي حَالِ مَرَضِهِ (بِحَجٍّ) عَنْ نَفْسِهِ (أُنْفِذَتْ) وَصِيَّتُهُ وُجُوبًا مِنْ ثُلُثِهِ سَوَاءٌ كَانَ ضَرُورَةً أَوْ غَيْرَهُ، أَوْ فِي حَالِ صِحَّتِهِ وَكَانَ غَيْرَ ضَرُورَةٍ، وَإِنَّمَا وَجَبَ تَنْفِيذُهَا وَإِنْ كَانَتْ مَكْرُوهَةً لِوُجُوبِ تَنْفِيذِ الْوَصِيَّةِ وَإِنْ تَعَلَّقَتْ بِمَكْرُوهٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُفِّذَتْ الْوَصِيَّةُ بِهِ مِنْ الثُّلُثِ، وَحَمَلْنَا كَلَامَ الْمُصَنِّفِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: أُنْفِذَتْ وَصِيَّتُهُ؛ لِأَنَّ الصَّحِيحَ الصَّرُورَةُ لَا تُنَفَّذُ وَصِيَّتُهُ بِالْحَجِّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمُنِعَ اسْتِنَابَةُ صَحِيحٍ فِي فَرْضٍ وَإِلَّا كُرِهَ كَبَدْءِ مُسْتَطِيعٍ بِهِ عَنْ غَيْرِهِ، وَعَبَّرَ بِأَنْفَذْت إشَارَةً إلَى أَنَّهَا غَيْرُ جَائِزَةٍ ابْتِدَاءً وَلِذَا قَالَ: (وَالْوَصِيَّةُ بِالصَّدَقَةِ) وَهِيَ عَطِيَّةٌ يُقْصَدُ بِهَا ثَوَابُ الْآخِرَةِ (أَحَبُّ إلَيْنَا) مِنْ صَرْفِ الْمَالِ فِي الْحَجِّ لِوُصُولِ ثَوَابِ الصَّدَقَةِ لِلْمَيِّتِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يَنْتَفِعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ» . قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْوَصِيَّةَ بِالتَّصَدُّقِ بِالْمَالِ أَفْضَلُ مِنْ دَفْعِ الْمَالِ لِمَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ لِلْخِلَافِ فِي حُصُولِ ثَوَابِهِ، وَمَذْهَبُ مَالِكٍ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمَيِّتُ وَلِذَلِكَ لَا نَقْرَأُ الْفَاتِحَةَ فِي صَلَاةِ الْجِنَازَةِ، وَلَعَلَّهَا إنَّمَا صَحَّتْ بِالْحَجِّ، وَإِنْ كَانَ الْحَجُّ لَا يَحْصُلُ لِلْمَحْجُوجِ أَنَّهُ؛ لِأَنَّ لَهُ أَجْرَ النَّفَقَةِ وَالدُّعَاءِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَسْقُطُ فَرْضُ مَنْ حُجَّ عَنْهُ وَإِنَّمَا لَهُ أَجْرُ النَّفَقَةِ وَالدُّعَاءِ. (تَنْبِيهٌ) إذَا عَرَفْت مَا ذَكَرْنَاهُ ظَهَرَ لَك أَنَّ أَفْعَلَ التَّفْضِيلِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ إذْ لَا أَحَبِّيَّةَ فِي الْحَجِّ لِكَرَاهَتِهِ. [حُكْمِ مَا إذَا مَاتَ أَجِيرُ الْحَجِّ قَبْلَ التَّمَام] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ مَا إذَا مَاتَ أَجِيرُ الْحَجِّ قَبْلَ التَّمَامِ بِقَوْلِهِ (وَإِذَا مَاتَ أَجِيرُ الْحَجِّ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ) لِمَكَّةَ أَوْ بَعْدَ الْوُصُولِ وَقَبْلَ إتْمَامِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فِعْلُهُ (فَلَهُ) أَيْ يَجِبُ لِوَرَثَتِهِ (بِحِسَابِ مَا سَارَ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ بِالْحِسَابِ إنْ مَاتَ أَوْ صُدَّ أَوْ حَصَلَ الْخَطَأُ فِي الْعَدَدِ، وَيُنْظَرُ لِمَا سَارَهُ مِنْ حَيْثُ الصُّعُوبَةُ وَالسُّهُولَةُ وَالْخَوْفُ وَالْأَمْنُ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي أَجْرِ الضَّمَانِ، سَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ مُتَعَلِّقًا بِعَيْنِهِ أَوْ بِذِمَّتِهِ وَأَبَى وَارِثُهُ مِنْ الْإِتْمَامِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ عَلَى وَجْهِ الْجَعَالَةِ فَلَا يَسْتَحِقُّ شَيْئًا بِمَوْتِهِ أَوْ صَدِّهِ قَبْلَ التَّمَامِ. وَأَمَّا فِي إجَارَةِ الْبَلَاغُ فَلَهُ بِقَدْرِ مَا أَنْفَقَ إذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَامِ (وَ) إذَا أَخَذَ أَجِيرُ الضَّمَانِ بِحِسَابِ مَا سَارَ الَّذِي هُوَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَرُدَّ مَا بَقِيَ) مَعَهُ مِنْ الْمَالِ (وَمَا هَلَكَ) أَيْ ضَاعَ حَالَ كَوْنِ الْمَالِ (بِيَدِهِ فَهُوَ مِنْهُ) أَيْ فَضَمَانُهُ مِنْ أَجِيرِ الضَّمَانِ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِضَمَانِهِ بِمُجَرَّدِ قَبْضِهِ، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ضَمَانِ الْأَجِيرِ قَوْلُهُ: (إلَّا أَنْ يَأْخُذَ الْمَالَ عَلَى أَنْ يُنْفِقَ) مِنْهُ (عَلَى الْبَلَاغِ فَ) إنَّ (الضَّمَانَ) لِجَمِيعِ مَا يَهْلَكُ (مِنْ الَّذِينَ وَاجَرُوهُ) لَا عَلَى الْأَجِيرِ، وَإِنَّمَا كَانَ الضَّمَانُ عَلَى الَّذِينَ وَاجْرُوهُ لِتَفْرِيطِهِمْ بِعَدَمِ إجَارَةِ الضَّمَانِ الَّتِي هِيَ أَحْوَطُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِجَارَةُ ضَمَانٍ عَلَى بَلَاغٍ أَيْ وَفُضِّلَتْ إجَارَةُ ضَمَانٍ عَلَى بَلَاغٍ، وَمَعْنَى فَضْلِهَا كَوْنُهَا أَحْوَطَ لِلْمَالِ؛ لِأَنَّ إجَارَةَ الْبَلَاغِ إعْطَاءُ مَا يُنْفِقُهُ لِلْأَجِيرِ بَدْءًا وَعَوْدًا بِالْعُرْفِ، وَإِنْ ضَاعَ مِنْهُ الْمَالُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ رَجَعَ وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ فِي الضَّائِعِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْ الْمَالِ قَبْلَ إتْمَامِ مَا عَلَيْهِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْإِنْفَاقِ وَيَرْجِعُ بِمَا أَنْفَقَهُ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ تَسَلَّفَهُ وَيُرْجَعُ عَلَيْهِ بِالسَّرَفِ، وَإِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّمَامِ أَوْ صُدَّ يُرْجَعُ لِلْمُحَاسَبَةِ كَأَجِيرِ الضَّمَانِ، وَمَا فِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِنْ أَنَّهُ إذَا لَمْ يُتِمَّ الْعَمَلَ لَا شَيْءَ لَهُ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا تَرَكَ ذَلِكَ اخْتِيَارًا فَلَا يُنَافِي الرُّجُوعَ لِلْمُحَاسَبَةِ عِنْدَ الْمَوْتِ أَوْ الصَّدِّ، وَقَوْلُهُ: وَاجَرُوهُ صَوَابُهُ بِالْهَمْزِ بَدَلَ الْوَاوِ (وَ) إذَا تَمَّمَ أَجِيرُ الْبَلَاغِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْعَمَلَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَرُدَّ مَا فَضَلَ) بَعْدَ الْإِنْفَاقِ (إنْ فَضَلَ شَيْءٌ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ مِمَّا أَخَذَهُ إلَّا مَا أَنْفَقَهُ، وَقَدَّمْنَا أَنَّهُ إنْ ضَاعَ الْمَالُ قَبْلَ إحْرَامِهِ يَرْجِعُ، فَإِنْ لَمْ يَرْجِعْ وَاسْتَمَرَّ عَلَى الْعَمَلِ وَالْإِنْفَاقِ مِنْ عِنْدِهِ فَلَا شَيْءَ لَهُ فِي الذَّهَابِ وَلَا فِي الْإِيَابِ إلَى مَوْضِعِ الضَّيَاعِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ ضَاعَ بَعْدَ الْإِحْرَامِ فَإِنَّهُ يَسْتَمِرُّ عَلَى عَمَلِ الْحَجِّ وَيُكْمِلُ الْعَمَلَ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ الْإِنْفَاقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ لِتَفْرِيطِهِ بِعَدَمِ الِاسْتِئْجَارِ عَلَى الضَّمَانِ الَّذِي هُوَ الْأَحْوَطُ كَمَا قَدَّمْنَا، وَحَقِيقَةُ إجَارَةِ الضَّمَانِ الْعَقْدُ عَلَى قَدْرٍ مُعَيَّنٍ عَلَى وَجْهِ اللُّزُومِ، وَسَوَاءٌ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى أَنَّ الْحَجَّ فِي عَيْنِهِ أَوْ فِي ذِمَّتِهِ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ سَوَاءٌ كَانَ لِلْمَيِّتِ مَالٌ أَمْ لَا إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمَيِّتُ هُوَ الَّذِي أَوْصَى بِإِجَارَةِ الْبَلَاغِ فَفِي بَقِيَّةِ ثُلُثِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا أَنْ يُوصِيَ بِالْبَلَاغِ فَفِي بَقِيَّةِ ثُلُثِهِ وَلَوْ قُسِمَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِجَارَةَ عَلَى الْحَجِّ إمَّا ضَمَانٌ أَوْ بَلَاغٌ أَوْ جَعَالَةٌ وَأَحْوَطُهَا لِلْمَالِ إجَارَةُ الضَّمَانِ، وَلِذَلِكَ تَتَعَيَّنُ عَلَى الْوَصِيِّ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ ضَمَانِ الْأَجِيرِ فِيهَا لِمَا ضَاعَ بِخِلَافِ أَجِيرِ الْبَلَاغِ، وَإِنْ اشْتَرَكَا فِي الرُّجُوعِ لِلْمُحَاسَبَةِ عِنْدَ تَعَذُّرِ التَّمَامِ لِمَوْتٍ أَوْ صَدٍّ، وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ. [بَابٌ فِي الْفَرَائِضِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ وَالْعِبَادَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ وَمَا بِهِ قَطْعُ التَّنَازُعِ مِنْ صُلْحٍ وَقَضَاءٍ، وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ أَنْوَاعِ الْقُرُبَاتِ وَالْجِنَايَاتِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَسَائِلَ مِنْ عِلْمِ الْفَرَائِضِ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 بَابٌ فِي الْفَرَائِضِ وَلَا يَرِثُ مِنْ الرِّجَالِ إلَّا عَشَرَةٌ الِابْنُ وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ وَالْأَبُ وَالْجَدُّ لِلْأَبِ وَإِنْ عَلَا وَالْأَخُ وَابْنُ الْأَخِ وَإِنْ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) عِلْمِ (الْفَرَائِضِ) جَمْعُ فَرِيضَةٍ وَيُقَالُ لَهُ عِلْمُ الْمَوَارِيثِ وَهُوَ عِلْمٌ جَلِيلُ الْقَدْرِ وَعَظِيمُ الْأَجْرِ إذْ هُوَ مِنْ الْعُلُومِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَكِلْ قِسْمَةَ مَوَارِيثِكُمْ إلَى مَلَكٍ مُقَرَّبٍ وَلَا إلَى نَبِيٍّ مُرْسَلٍ، وَلَكِنْ تَوَلَّى قِسْمَتَهَا أَبْيَنُ قِسْمَةً لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وَرَغَّبَ فِيهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَحَضَّ عَلَى تَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ حَيْثُ قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّ هَذَا الْعِلْمَ سَيُقْبَضُ وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ حَتَّى يَخْتَلِفَ الِاثْنَانِ فِي الْفَرِيضَةِ فَلَا يَجِدَانِ مَنْ يَفْصِلُ بَيْنَهُمَا» . وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «الْعِلْمُ ثَلَاثَةٌ: آيَةٌ مُحْكَمَةٌ، وَسُنَّةٌ قَائِمَةٌ، وَفَرِيضَةٌ عَادِلَةٌ» الْآيَةُ الْمُحْكَمَةُ كِتَابُ اللَّهِ، وَالسُّنَّةُ الْقَائِمَةُ الثَّابِتَةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْفَرِيضَةُ الْعَادِلَةُ الْمُسْتَنْبَطَةُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهُمَا، فَتَكُونُ هَذِهِ الْفَرِيضَةُ تَعْدِلُ مَا أُخِذَ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ السُّنَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَخْرُجْ عَنْهُمَا. وَرُوِيَ فِي فَضْلِهِ أَيْضًا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْفَرَائِضَ وَعَلِّمُوهَا النَّاسَ فَإِنَّهَا نِصْفُ الْعِلْمِ، وَهُوَ أَوَّلُ عِلْمٍ يُنْسَى وَأَوَّلُ شَيْءٍ يُنْزَعُ مِنْ أُمَّتِي» ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ عَلَى فَضْلِهِ وَالْحَثِّ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى قَوْلِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْفَرَائِضَ نِصْفُ الْعِلْمِ» فَقَالَ أَهْلُ السَّلَامَةِ: لَا نَعْلَمُ مَعْنَاهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْنَا اتِّبَاعُهُ وَإِنْ لَمْ نَعْقِلْ مَعْنَاهُ، وَقَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ: لِلْآدَمِيِّ حَالَتَانِ: حَالَةُ حَيَاةٍ وَحَالَةُ مَوْتٍ، فَحَالَةُ الْحَيَاةِ سَبَبٌ لِسَائِرِ الْعُلُومِ غَيْرِ الْفَرَائِضِ، وَحَالُ الْمَوْتِ سَبَبٌ لِوُقُوعِ عِلْمِ الْفَرَائِضِ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ حَجْمًا، لَكِنْ الثَّوَابُ الْمُتَعَلِّقُ بِهِ كَالثَّوَابِ الْمُتَعَلِّقِ بِمَا عَدَاهُ مِنْ الْعُلُومِ أَوْ هُوَ نِصْفٌ، بِاعْتِبَارِ السَّبَبِ الْمُوصِلِ لِلْمِلْكِ؛ لِأَنَّهُ مَقْصُودٌ فِي الِاخْتِيَارِيِّ وَالْجَبْرِيِّ، فَالْأَوَّلُ كَالشِّرَاءِ وَالْهِبَةِ، وَالثَّانِي الْإِرْثُ أَوْ نِصْفٌ بِاعْتِبَارِ فُرُوعِهِ لَوْ بُسِطَتْ أَوْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالنِّصْفِ النِّصْفُ عَلَى حَدِّ: إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ نِصْفَانِ فَإِنَّ الْمُرَادَ صِنْفَانِ. وَعِلْمُ الْفَرَائِضِ لَهُ حَدٌّ وَمَوْضُوعٌ وَلَهُ غَايَةٌ وَلَهُ حُكْمٌ. أَمَّا حَدُّهُ فَقَالَ ابْنُ مَرْزُوقٍ: قَلَّ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَقَدْ حَدَّهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ السِّبْطُ فِي شَرْحِ الْحُوفِيِّ بِقَوْلِهِ: هُوَ الْعِلْمُ بِالْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُخْتَصِّ تَعَلُّقُهَا بِالْمَالِ بَعْدَ مَوْتِ مَالِكِهِ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا، فَتَحْقِيقُ الْمَوْتِ وَالْمِلْكِ مَعْلُومٌ، وَأَمَّا تَقْدِيرُهُمَا فَكَالْمَفْقُودِ وَالْجَنِينِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ مَيِّتٌ تَقْدِيرًا، وَالثَّانِيَ مَالِكٌ تَقْدِيرًا، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: عِلْمُ الْفَرَائِضِ لَقَبًا الْفِقْهُ الْمُتَعَلِّقُ بِالْإِرْثِ، وَعِلْمُ مَا يُوصِلُ لِمَعْرِفَةِ قَدْرِ مَا يَجِبُ لِكُلِّ ذِي حَقٍّ مِنْ التَّرِكَةِ، وَمَوْضُوعُهُ التَّرِكَاتُ؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ فِيهِ عَنْ عَوَارِضِهَا الذَّاتِيَّةِ، كَحَقِّ الْمَيِّتِ الْمُتَعَلِّقِ بِالتَّرِكَةِ مِنْ مُؤَنِ التَّجْهِيزِ وَقَضَاءِ دُيُونِهِ وَحَقِّ الْوَارِثِ وَالْمُوصَى لَهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ، خِلَافًا لِلصُّورِيِّ مِنْ أَنَّ مَوْضُوعَهُ الْعَدَدُ، وَالتَّرِكَاتُ جَمْعُ تَرِكَةٍ وَهُوَ حَقٌّ قَابِلٌ لِلتَّجَزِّي يَثْبُتُ لِمُسْتَحِقٍّ بَعْدَ مَوْتِ مَنْ كَانَ لَهُ ذَلِكَ بِقَرَابَةٍ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِلْإِرْثِ كَالنِّكَاحِ وَالْوَلَاءِ، وَغَايَتُهُ وَيُقَالُ لَهَا فَائِدَتُهُ حُصُولُ مِلْكِهِ لِلْإِنْسَانِ تُوجِبُ سُرْعَةَ الْجَوَابِ عَلَى وَجْهِ الصِّحَّةِ، وَالصَّوَابُ وَحِكْمَةُ مَا أَجْمَعَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ مِنْ فَرْضِيَّتِهِ عَلَى الْكِفَايَةِ لِاسْتِيفَاءِ الصَّحَابَةِ النَّظَرَ فِيهِ وَكَثْرَةَ مُنَاظَرَتِهِمْ وَأَجْوِبَتِهِمْ فِيهِ، فَمَنْ أَكْثَرَ مِنْهُ فَقَدْ اهْتَدَى بِهَدْيِهِمْ. وَاعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْإِرْثَ لَهُ أَرْكَانٌ وَأَسْبَابٌ وَشُرُوطٌ وَمَوَانِعُ. فَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ: وَارِثٌ وَمُوَرِّثٌ وَشَيْءٌ مَوْرُوثٌ. وَأَسْبَابُهُ أَرْبَعَةٌ: الْقَرَابَةُ الْمَخْصُوصَةُ، وَالْوَلَاءُ، وَجِهَةُ الْإِسْلَامِ فِي الصَّرْفِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، وَالنِّكَاحُ وَلَوْ فَاسِدًا حَيْثُ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ دُخُولٌ. وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ: فَقُدِّمَ مَوْتُ الْمُوَرِّثِ، وَاسْتِقْرَارُ حَيَاةِ الْوَارِثِ بَعْدَهُ، وَالْعِلْمُ بِالْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ، وَسَيَأْتِي التَّعَرُّضُ إلَى بَعْضِ مَوَانِعِهِ. وَشَرَعَ هُنَا فِي تَعْدَادِ مَنْ يَرِثُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ) الْمَيِّتَ (مِنْ الرِّجَالِ) بِالِاخْتِصَارِ إجْمَاعًا (إلَّا عَشَرَةٌ الِابْنُ) وَهُوَ أَقْوَى الْعَصَبَةِ وَلِذَا بَدَأَ بِهِ (وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَضَمِّهَا وَالْفَتْحُ أَشْهَرُ وَالضَّمُّ أَحْسَنُ (وَالْأَبُ وَالْجَدُّ لِلْأَبِ وَإِنْ بَعُدَ) وَكَانَ الْأَنْسَبُ لِسُفْلٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 بَعُدَ وَالْعَمُّ وَابْنُ الْعَمِّ وَإِنْ بَعُدَ وَالزَّوْجُ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ وَلَا يَرِثُ مِنْ النِّسَاءِ غَيْرُ سَبْعٍ الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ وَمُوَلَّاةُ النِّعْمَةِ فَمِيرَاثُ الزَّوْجِ مِنْ الزَّوْجَةِ إنْ لَمْ تَتْرُكْ وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ النِّصْفُ فَإِنْ تَرَكَتْ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ ابْنٍ أَوْ مَنْ غَيْرُهُ فَلَهُ الرُّبُعُ وَتَرِثُ هِيَ مِنْهُ الرُّبُعَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ مِنْهَا أَوْ   [الفواكه الدواني] وَإِنْ عَلَا (وَالْأَخُ) مُطْلَقًا وَلَوْ لِأُمٍّ (وَابْنُ الْأَخِ) الشَّقِيقِ أَوْ لِلْأَبِ (وَإِنْ بَعُدَ) وَأَمَّا ابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ فَلَا يَرِثُ. (وَالْعَمُّ) الشَّقِيقُ أَوْ لِلْأَبِ (وَإِنْ بَعُدَ) وَأَمَّا عَمُّ الْأُمِّ فَلَا يَرِثُ ابْنُهَا وَوَلَدُهُ أَحْرَى. (وَالزَّوْجُ) وَلَوْ كَانَ عَقْدُهُ فَاسِدًا وَلَمْ يَحْصُلْ دُخُولٌ حَيْثُ كَانَ مُخْتَلَفًا فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِيهِ الْإِرْثُ إلَّا نِكَاحَ الْمَرِيضِ، وَإِنْكَاحُ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ لَا أَتَّفِقُ عَلَى فَسَادِهَا فَلَا طَلَاقَ وَلَا إرْثَ كَخَامِسَةٍ. (وَمَوْلَى النِّعْمَةِ) وَهُوَ الْمُعْتَقُ، وَمَوْلَى الْمَوْلَى وَهُوَ مُعْتَقُ الْمُعْتَقِ. وَقَيَّدْنَا بِالِاخْتِصَارِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا بِالْبَسْطِ فَعِدَّتُهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ: الِابْنُ وَابْنُهُ وَإِنْ نَزَلَ، وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَأَبُوهُ وَإِنْ عَلَا، وَالْأَخُ الشَّقِيقُ، وَالْأَخُ لِلْأَبِ، وَالْأَخُ لِلْأُمِّ، وَابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ، وَابْنُ الْأَخِ لِلْأَبِ، وَالْعَمُّ الشَّقِيقُ، وَالْعَمُّ لِلْأَبِ، وَابْنُ الْعَمِّ الشَّقِيقِ، وَابْنُ الْعَمِّ لِلْأَبِ، وَالزَّوْجُ، وَذُو الْوَلَاءِ، وَمَنْ عَدَا هَؤُلَاءِ مِنْ الذُّكُورِ فَمِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ، كَابْنِ الْبِنْتِ، وَأَبِي الْأُمِّ، وَابْنِ الْأَخِ لِلْأُمِّ، وَالْعَمِّ لِلْأُمِّ وَنَحْوِهِمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاخْتِصَارَ وَقَعَ فِي الْأَخِ وَابْنِهِ وَالْعَمِّ وَابْنِهِ وَالْمَوْلَى كَمَا يُفْهَمُ مِنْ تَقْرِيرِنَا لِكَلَامِ الْمُصَنِّفِ بِإِطْلَاقِنَا فِي الْأَخِ وَالْعَمِّ وَأَبْنَائِهِمَا وَزِيَادَةِ مَوْلَى الْمَوْلَى، فَتَنْتَهِي الْعَشَرَةُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ، وَجَمِيعُهُمْ يَرِثُ بِالتَّعْصِيبِ إلَّا الزَّوْجَ وَالْأَخَ لِلْأُمِّ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ مُعْتَقًا أَوْ ابْنَ عَمٍّ، وَإِلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَخُ لِلْأُمِّ ابْنَ عَمٍّ، وَإِلَّا فَيَجْمَعَانِ بَيْنَ الْإِرْثِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ، وَجَمِيعُهُمْ يَرِثُ بِالنَّسَبِ إلَّا الزَّوْجَ وَمَوْلَى النِّعْمَةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ ابْنَ عَمٍّ، وَكَذَلِكَ مَوْلَى النِّعْمَةِ قَدْ يَرِثُ بِالنَّسَبِ كَمَا لَوْ أَعْتَقَ جَدُّ الْأَوْلَادِ أَبَاهُ. [الْوَارِثَاتِ مِنْ النِّسَاءِ] وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ الْوَارِثَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ) الْمَيِّتَ (مِنْ النِّسَاءِ) عَلَى طَرِيقِ الِاخْتِصَارِ (غَيْرُ سَبْعٍ الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُمُّ وَالْجَدَّةُ وَالْأُخْتُ وَالزَّوْجَةُ وَمَوْلَاةُ النِّعْمَةِ) وَأَمَّا عِدَّتُهُنَّ بِالْبَسْطِ فَعَشَرَةٌ: الْبِنْتُ، وَبِنْتُ الِابْنِ، وَالْأُمُّ، وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِهَا، وَالْجَدَّةُ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ، وَالْأُخْتُ لِلْأُمِّ، وَالزَّوْجَةُ، وَالْمُعْتَقَةُ، فَالِاخْتِصَارُ إنَّمَا وَقَعَ فِي الْجَدَّةِ وَالْأُخْتِ الْجَدَّةُ بِوَاحِدَةٍ وَالْأُخْتُ بِاثْنَتَيْنِ وَالثَّلَاثَةُ عَلَى السَّبْعَةِ كَمُلَتْ الْعَشَرَةُ، وَجَمِيعُهُنَّ يَرِثُ بِالنَّسَبِ إلَّا الزَّوْجَةَ وَالْمُعْتَقَةَ، وَجَمِيعُهُنَّ يَرِثُ بِالْفَرْضِ إلَّا الْأَخَوَاتِ مِنْ غَيْرِ الْأُمِّ مَعَ الْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ وَمَوْلَاةِ النِّعْمَةِ، وَإِلَّا الْأُمَّ مَعَ الْأَبِ فِي الْغَرَّاوَيْنِ فَإِنَّهَا تَرِثُ مَعَهُ ثُلُثَ الْبَاقِي بِالتَّعْصِيبِ. (مُهِمَّاتٌ يَحْتَاجُ الطَّالِبُ إلَى مَعْرِفَتِهَا) . إحْدَاهَا: كُلُّ ذَكَرٍ مَاتَ وَخَلَّفَ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُ مِنْ الذُّكُورِ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ إلَّا اثْنَانِ الْأَبُ وَالِابْنُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ الْأَبَ يَحْجُبُ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ كَالْجَدِّ وَالْأَعْمَامِ وَالْإِخْوَةِ، وَالِابْنُ يَحْجُبُ كُلَّ مَنْ كَانَ مِنْ جِهَتِهِ كَابْنِهِ وَإِنْ نَزَلَ. وَثَانِيَتُهَا: كُلُّ ذَكَرٍ مَاتَ وَخَلَّفَ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ النِّسَاءِ لَا يَرِثُهُ مِنْهُنَّ إلَّا خَمْسٌ: الْأُمُّ وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالزَّوْجَةُ وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ، وَمَنْ عَدَاهُنَّ مَحْجُوبٌ بِهِنَّ عَلَى التَّوْزِيعِ. وَثَالِثَتُهَا: كُلُّ ذَكَرٍ مَاتَ وَخَلَّفَ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ فَلَا يَرِثُهُ مِنْهُمْ إلَّا خَمْسٌ: الِابْنُ وَالْأَبُ وَالْأُمُّ وَالزَّوْجَةُ وَالْبِنْتُ. وَرَابِعَتُهَا: كُلُّ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُهَا مِنْ الذُّكُورِ لَمْ يَرِثْهَا مِنْهُمْ إلَّا ثَلَاثَةٌ: الِابْنُ وَالْأَبُ وَالزَّوْجُ. وَخَامِسَتُهَا: كُلُّ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُهَا مِنْ النِّسَاءِ لَا يَرِثُهَا إلَّا أَرْبَعٌ: الْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُخْتُ لِغَيْرِ الْأُمِّ وَالْأُمُّ. وَسَادِسَتُهَا: كُلُّ امْرَأَةٍ مَاتَتْ وَخَلَّفَتْ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُهَا مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ لَا يَرِثُ مِنْهُمْ سِوَى خَمْسَةٍ: الْأَبُ وَالْأُمُّ وَالِابْنُ وَالْبِنْتُ وَالزَّوْجُ، فَإِنْ قِيلَ: مَاتَ شَخْصٌ وَخَلَّفَ جَمِيعَ مَنْ يَرِثُهُ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ، قِيلَ: هَذَا لَا يُتَصَوَّرُ إلَّا مِنْ الْخُنْثَى، الْمُشْكِلِ إذَا وَلَدَ مِنْ ظَهْرِهِ وَبَطْنِهِ. وَسَابِعَتُهَا: إذَا انْفَرَدَ وَاحِدٌ مِنْ الذُّكُورِ وَرِثَ جَمِيعَ الْمَالِ إلَّا الزَّوْجَ وَالْأَخَ لِلْأُمِّ أَنْ يَكُونَ الزَّوْجُ أَوْ الْأَخُ لِلْأُمِّ ابْنَ عَمٍّ أَوْ يَكُونَ مَوْلًى. وَثَامِنَتُهَا: أَنَّ كُلَّ مَنْ انْفَرَدَ مِنْ النِّسَاءِ لَا يَجُوزُ جَمْعُ الْمَالِ إلَّا الْمُعْتَقَةُ، [الْفُرُوض فِي الْمِيرَاث] وَإِذَا أَرَدْت مَعْرِفَةَ نَصِيبِ كُلٍّ مِنْ الذُّكُورِ وَالْإِنَاثِ (فَمِيرَاثُ الزَّوْجِ مِنْ الزَّوْجَةِ إنْ لَمْ تَتْرُكْ) أَيْ الزَّوْجَةُ (وَلَدًا وَلَا وَلَدَ ابْنٍ) لَا وَلَدَ بِنْتٍ (النِّصْفُ فَإِنْ تَرَكَتْ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ ابْنٍ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ) وَلَوْ مِنْ زِنًى؛ لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنْ أُمِّهِ بِحَالٍ (فَلَهُ) أَيْ الزَّوْجِ (الرُّبُعُ) قَالَ تَعَالَى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ} [النساء: 12] فَالْآيَةُ دَلِيلٌ عَلَى الْفَرْضَيْنِ، لَكِنْ يُشْتَرَطُ فِي ذَلِكَ الْوَلَدِ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا لَا إنْ كَانَ عَبْدًا أَوْ كَافِرًا؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يَرِثُ لَا يَحْجُبُ وَارِثًا إلَّا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُمْ قَدْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ وَذَلِكَ مَعَ الْأَبِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ أَصْحَابِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهُمْ خَمْسَةٌ: الزَّوْجُ وَالْبِنْتُ وَبِنْتُ الِابْنِ وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 مِنْ غَيْرِهَا فَلَهَا الثُّمُنُ وَمِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ ابْنِهَا الثُّلُثُ إنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا أَوْ وَلَدَ ابْنٍ أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ مَا كَانُوا فَصَاعِدًا إلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ وَفِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ وَلَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الثُّلُثُ إلَّا مَا نَقَصَهَا الْعَوْلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ   [الفواكه الدواني] لَكِنْ الزَّوْجُ يَسْتَحِقُّهُ بِشَرْطٍ عَدَمِيٍّ ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَالْبِنْتُ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُسَاوٍ وَلَا مُعَصِّبٌ، وَبِنْتُ الِابْنِ بِثَلَاثَةٍ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُسَاوٍ وَلَا مُعَصِّبٌ وَلَا أَعْلَى مِنْهُ، وَالْأُخْتُ الشَّقِيقَةُ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُسَاوٍ وَلَا مُعَصِّبٌ وَلَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ، وَالْأُخْتُ لِلْأَبِ بِخَمْسَةِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يَكُونَ لَهَا مُسَاوٍ وَلَا مُعَصِّبٌ وَلَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ وَلَا شَقِيقَةٌ، فَجُمْلَةُ الشُّرُوطِ خَمْسَةَ عَشَرَ، وَأَصْحَابُ الرُّبُعِ اثْنَانِ تَقَدَّمَ أَحَدُهُمَا وَهُوَ الزَّوْجُ بِشَرْطٍ وُجُودِيٍّ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَالزَّوْجَةُ بِشَرْطٍ عَدَمِيٍّ وَإِلَيْهِ أَشَارَ بِقَوْلِهِ: (وَتَرِثُ هِيَ) أَيْ الزَّوْجَةُ وَالْمُرَادُ جِنْسُهَا فَيَشْمَلُ الْوَاحِدَةَ وَالْمُتَعَدِّدَةَ (مِنْهُ) أَيْ مِنْ الزَّوْجِ (الرُّبُعَ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فَإِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ) لَا حَقَّ بِهِ (أَوْ وُلِدَ مِنْهَا أَوْ مِنْ غَيْرِهَا فَلَهَا) أَوْ لَهُنَّ (الثُّمُنُ) تَخْتَصُّ بِهِ الْوَاحِدَةُ وَتَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُتَعَدِّدَاتُ، فَالثُّمُنُ فَرْضُ صِنْفٍ مِنْ الْوَرَثَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالرُّبُعُ الزَّوْجُ بِفَرْعٍ وَزَوْجَةٍ فَأَكْثَرَ، وَالثُّمُنُ لَهَا أَوْ لَهُنَّ بِفَرْعٍ لَاحِقٍ، فَالْوَلَدُ الْمَنْفِيُّ بِاللِّعَانِ بِمَنْزِلَةِ الْعَدَمِ، فَلَا يَحْجُبُ الزَّوْجَةَ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ بَلْ تَرِثُ الرُّبُعَ مَعَ وُجُودِهِ، بِخِلَافِ ابْنِ الزَّوْجَةِ مِنْ الزِّنَا فَإِنَّهُ يَحْجُبُ زَوْجَهَا مِنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبُعِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ لَا يَنْتَفِي عَنْهَا بِوَجْهٍ، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الْقَدْرِ الْمَذْكُورِ لِلزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ فَإِنَّمَا ذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْعَوْلِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْعَوْلِ فَيَأْخُذُ كُلَّ فَرْضِهِ نَاقِصًا عَنْ نِصْفِهِ أَوْ رُبْعَ أَوْ ثُمُنَ الْمَالِ حَقِيقَةً، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الرُّبُعَ أَوْ الثُّمُنَ تَشْتَرِكُ فِيهِ النِّسَاءُ عِنْدَ التَّعَدُّدِ عَلَى السَّوَاءِ إلَّا فِي مَسْأَلَةٍ نَادِرَةٍ، كَمَنْ لَهُ أَرْبَعُ زَوْجَاتٍ طَلَّقَ إحْدَاهُنَّ طَلَاقًا بَائِنًا ثُمَّ تَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ وَمَاتَتْ وَجُهِلَتْ الْمُطَلَّقَةُ وَعُلِمَتْ الْمُتَزَوِّجَةُ وَكُلٌّ مِنْ الْأَرْبَعِ تَقُولَنَّ أَنَا زَوْجَةٌ، وَنَفْرِضُ الْمَالَ أَرْبَعَةً وَسِتِّينَ دِينَارًا مَثَلًا رُبْعُهُ سِتَّةَ عَشَرَ لِلزَّوْجَاتِ فِي عَدَمِ الْوَلَدِ الْوَارِثِ، فَنُعْطِي الْجَدِيدَةَ أَرْبَعَةً وَالْبَاقِيَ اثْنَيْ عَشَرَ بَيْنَ الْأَرْبَعِ مَعَ أَيْمَانِهِنَّ لِكُلِّ وَاحِدَةٍ ثَلَاثَةٌ؛ لِأَنَّ الْجَدِيدَةَ تَحَقَّقَ أَنَّهَا رَابِعَةٌ فَلَهَا أَرْبَعَةٌ، وَثَلَاثَةُ أَرْبَاعِ الرُّبُعِ بَيْنَ الْأَرْبَعِ، فَإِنْ جُهِلَتْ الْجَدِيدَةُ وَالْمُطَلَّقَةُ فَالرُّبُعُ بَيْنَ الْخَمْسِ عَلَى السَّوَاءِ مَعَ إيمَانِهِنَّ، وَقَدْ يَرِثُ الرُّبُعَ عَشْرٌ مِنْ الزَّوْجَاتِ أَوْ أَكْثَرُ وَذَلِكَ فِي الْحَرْبِيِّ يُسْلِمُ عَلَيْهِنَّ وَيُسْلِمْنَ مَعَهُ وَمَاتَ قَبْلَ الِاخْتِيَارِ فَالرُّبُعُ أَوْ الثُّمُنُ لِلْجَمِيعِ، إلَّا أَنْ يَتَخَلَّفَ عَنْ الْإِسْلَامِ أَرْبَعُ كِتَابِيَّاتٍ فَلَا إرْثَ لِوَاحِدَةٍ مِمَّنْ أَسْلَمْنَ، وَأَمَّا لَوْ اخْتَارَ اثْنَتَيْنِ مِمَّنْ أَسْلَمْنَ لَكَانَ بَاقِي الرُّبُعِ أَوْ الثُّمُنِ لِبَاقِي الْمُسْلِمَاتِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إرْثِ الزَّوْجِ وَالزَّوْجَةِ شَرَعَ فِي مِيرَاثِ الْأُمِّ مِنْ ابْنِهَا بِقَوْلِهِ: (وَمِيرَاثُ الْأُمِّ مِنْ ابْنِهَا) الْمُرَادُ وَلَدُهَا لِيَشْمَلَ الْأُنْثَى (الثُّلُثُ) بِشَرْطَيْنِ أَوَّلُهُمَا: (إنْ لَمْ يَتْرُكْ وَلَدًا) وَارِثًا (أَوْ وَلَدَ ابْنٍ) كَذَلِكَ وَبَاقِي الشَّرْطَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (أَوْ اثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ مَا كَانُوا) أَيْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ أَوْ أُمٍّ (فَصَاعِدًا) أَيْ فَأَكْثَرَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالثُّلُثُ الْأُمُّ وَوَلَدَاهَا فَأَكْثَرُ وَحَجَبَهَا لِلسُّدُسِ وَإِنْ سَفَلَ وَأَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ مُطْلَقًا، وَالْمُرَادُ بِالثُّلُثِ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ. (إلَّا فِي فَرِيضَتَيْنِ) إحْدَاهُمَا: (فِي زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ فَلِلزَّوْجَةِ الرُّبُعُ) ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ أَرْبَعَةٌ؛ لِأَنَّهَا أَقَلُّ عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهَا فَرْضًا (وَلِلْأُمِّ ثُلُثُ مَا بَقِيَ) وَهُوَ رُبْعُ جَمِيعِ الْمَالِ (وَمَا بَقِيَ) وَهُوَ اثْنَانِ فَهُوَ (لِلْأَبِ، وَ) الْفَرِيضَةُ الثَّانِيَةُ (فِي زَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ) أَصْلُهَا اثْنَانِ؛ لِأَنَّ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ أَقَلُّ عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ فَرْضُهَا، وَفَرْضُ الزَّوْجِ النِّصْفُ وَهُوَ مِنْ اثْنَيْنِ يَبْقَى بَعْدَهُ وَاحِدٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ الذَّكَرَ يُفْرَضُ مَعَ مَنْ يُعَصِّبُهُ مِنْ الْإِنَاثِ بِرَأْسَيْنِ، وَالْوَاحِدُ يُبَايِنُ الثَّلَاثَةَ فَتُضْرَبُ الثَّلَاثَةُ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِسِتَّةٍ (فَلِلزَّوْجِ) مِنْهَا (النِّصْفُ) ثَلَاثَةٌ (وَلِلْأُمِّ مَا بَقِيَ) وَهُوَ وَاحِدٌ (وَمَا بَقِيَ لِلْأَبِ) وَهُوَ اثْنَانِ؛ لِأَنَّ إرْثَهَا مَعَهُ بِالتَّعْصِيبِ فَيَأْخُذُ مِثْلَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهَا ثُلُثُ الْبَاقِي فِي زَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَوْضِعُ الْأَبِ جَدٌّ لَكَانَ لَهَا الثُّلُثُ حَقِيقَةً مِنْ رَأْسِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهَا تَرِثُ مَعَهُ بِالْفَرْضِ وَمَعَ الْأَبِ بِالْقِسْمَةِ أَيْ التَّعْصِيبِ، وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ، وَمُقَابِلُهُ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ يَجْعَلُ لِلْأُمِّ ثُلُثَ جَمِيعِ الْمَالِ، فَتَكُونُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى مَذْهَبِهِ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ لِلْأُمِّ فِيهَا أَرْبَعَةٌ، وَدَلِيلُهُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ} [النساء: 11] وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ الْعَمَلُ بِالْقَوَاعِدِ وَهِيَ أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ أَنْ يُفَضَّلَ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى، وَلَوْ أَخَذَتْ الْأُمُّ الثُّلُثَ كَامِلًا فِيهِمَا لَأَدَّى إلَى مُخَالَفَةِ الْقَوَاعِدِ الْمُقَدَّمَةِ مُرَاعَاتُهَا عَلَى عُمُومِ الْآيَةِ، وَلَا يُقَالُ: كَيْفَ نُقَدِّمُ الْقَوَاعِدَ عَلَى الْقُرْآنِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَوَاعِدُ مِنْ الْقَوَاطِعِ بِخِلَافِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ لَفْظُهُ قَطْعِيًّا فَدَلَالَتُهُ ظَنِّيَّةٌ، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى هَاتَانِ الْمَسْأَلَتَانِ بِالْغَرَّاوَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُمَّ غَرَّتْ فِيهِمَا؛ لِأَنَّ الَّذِي أَخَذَتْهُ رُبْعٌ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَسُدُسٌ فِي الثَّانِيَةِ وَهُوَ خِلَافُ الْمُسَمَّى لَهَا فِي الْآيَةِ (وَ) يُفْرَضُ (لَهَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْفَرِيضَتَيْنِ (الثُّلُثُ) كَامِلًا (إلَّا مَا نَقَصَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 وَلَدُ ابْنٍ أَوْ اثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ مَا كَانَا فَلَهَا السُّدُسُ حِينَئِذٍ وَمِيرَاثُ الْأَبِ مِنْ وَلَدِهِ إذَا انْفَرَدَ وَرِثَ الْمَالَ كُلَّهُ وَيُفْرَضُ لَهُ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ السُّدُسُ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَلَا وَلَدُ ابْنٍ فُرِضَ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَأُعْطِيَ مَنْ شَرِكَهُ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ سِهَامَهُمْ ثُمَّ كَانَ لَهُ مَا بَقِيَ وَمِيرَاثُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ جَمِيعُ الْمَالِ إنْ كَانَ وَحْدَهُ أَوْ يَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ سِهَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَوْ جَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ وَابْنُ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ إذَا لَمْ يَكُنْ ابْنٌ فَإِنْ كَانَ ابْنٌ وَابْنَةٌ فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي كَثْرَةِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَقِلَّتِهِمْ يَرِثُونَ كَذَلِكَ جَمِيعَ الْمَالِ أَوْ مَا فَضَلَ مِنْهُ بَعْدَ مَنْ شَرِكَهُمْ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ   [الفواكه الدواني] الْعَوْلُ) كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ لِغَيْرِ أُمٍّ، وَأُمٍّ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا نِصْفًا وَثُلُثًا وَتَعُولُ إلَى ثَمَانِيَةٍ لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ وَالْأُخْتُ كَذَلِكَ وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ فَصَارَ ثُلُثُهَا رُبْعًا وَلِذَلِكَ تُسَمَّى بِالْمُبَاهَلَةِ، وَأَشَارَ إلَى مَفْهُومِ مَا قَدَّمَهُ مِنْ شَرْطِ إرْثِ الْأُمِّ الثُّلُثَ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ وَلَدُ ابْنٍ أَوْ اثْنَانِ مِنْ الْإِخْوَةِ مَا كَانَا) وَلَوْ إخْوَةً لِأُمٍّ وَلَوْ اثْنَيْنِ وَلَوْ مَحْجُوبَيْنِ بِالشَّخْصِ كَأَبٍ وَأُمٍّ وَإِخْوَةٍ فَإِنَّهُمْ يَحْجُبُونَهَا مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ فِي حَجْبِهِمْ غَيْرَهُمْ مَعَ عَدَمِ إرْثِهِمْ. قَالَ ابْنُ التِّلْمِسَانِيِّ: وَفِيهِمْ فِي الْفَرْضِ أَمْرٌ عَجَبُ ... ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ حُجِبُوا وَحَجَبُوا لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ مَنْ يَرِثُ لَا يَحْجُبُ (فَلَهَا السُّدُسُ حِينَئِذٍ) أَيْ حِينَ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ وَلَدٌ أَوْ عَدَدٌ مِنْ الْإِخْوَةِ، وَقَيَّدْنَا الْحَجْبَ بِالشَّخْصِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْحَجْبِ بِالْوَصْفِ، كَأَنْ يَكُونَا رَقِيقَيْنِ أَوْ كَافِرَيْنِ فَلَا يَحْجُبَانِ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ، وَأَشَارَ خَلِيلٌ إلَى هَذِهِ بِقَوْلِهِ: وَحَجَبَهَا لِلسُّدُسِ وَلَدٌ وَإِنْ سَفَلَ وَأَخَوَانِ أَوْ أُخْتَانِ مُطْلَقًا. (تَنْبِيهٌ) كَلَامُ الْمُصَنِّفِ وَخَلِيلٍ رُبَّمَا يُوهِمُ اشْتِرَاطَ كَمَالِ الْأَخَوَيْنِ أَوْ الْأُخْتَيْنِ، وَأَنَّهُمَا لَوْ تَبَعَّضَا لَمْ يَكُنْ الْحُكْمُ كَذَلِكَ، وَصُورَتُهَا كَمَا قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: مَنْ تَرَكَ أُمًّا وَنِصْفَ أُخْتٍ وَنِصْفَ أُخْتٍ أُخْرَى فَإِنَّهُ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ، فَمِنْ الْعُلَمَاءِ مَنْ أَعْطَى الْأُمَّ السُّدُسَ وَأَعْطَى النِّصْفَيْنِ نَصِيبَ أُخْتٍ وَاحِدَةٍ فَجَعَلَهُمَا فِي الْحَجْبِ اثْنَتَيْنِ وَفِي الْمِيرَاثِ بِوَاحِدَةٍ، وَهَذَا مِنْ الْمُشْكِلَاتِ إذْ جَعَلَهُمَا فِي الْإِرْثِ وَاحِدَةً وَفِي الْحَجْبِ اثْنَتَيْنِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى إرْثِ الزَّوْجَيْنِ وَالْأُمِّ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى إرْثِ الْأَبِ فَقَالَ: (وَمِيرَاثُ الْأَبِ مِنْ وَلَدِهِ إذَا انْفَرَدَ) بِأَنْ لَمْ يُخَلِّفْ الْمَيِّتُ فَرْعًا (وَرِثَ الْمَالَ كُلَّهُ) ؛ لِأَنَّهُ عَاصِبٌ (وَيُفْرَضُ لَهُ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ وَلَدِ الِابْنِ) الْمَحَلُّ لِلضَّمِيرِ (السُّدُسُ) فَقَطْ (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ) ذَكَرٌ (وَلَا وَلَدُ ابْنٍ) وَإِنَّمَا كَانَتْ لَهُ بِنْتٌ أَوْ بَنَاتٌ (فُرِضَ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَأُعْطِيَ مَنْ شَرِكَهُ) أَيْ وَرِثَ مَعَهُ (مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ) أَيْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (سِهَامَهُمْ ثُمَّ) بَعْدَ أَخْذِ سِهَامِهِمْ (كَانَ لَهُ مَا بَقِيَ) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ لِلْأَبِ ثَلَاثَةَ أَحْوَالٍ: الْأُولَى: أَنْ يَحُوزَ جَمِيعَ الْمَالِ وَذَلِكَ عِنْدَ عَدَمِ الْفَرْعِ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَرِثَ الْفَرْضَ فَقَطْ وَذَلِكَ مَعَ وُجُودِ فَرْعِ الْمَيِّتِ الذَّكَرِ. الثَّالِثَةُ: جَمْعُهُ بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ وَذَلِكَ مَعَ الْفَرْعِ وَالْأُنْثَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَرِثُ بِفَرْضِ عُصُوبَةِ الْأَبِ ثُمَّ الْجَدِّ مَعَ بِنْتٍ وَإِنْ سَفَلَتْ كَابْنِ عَمِّ أَخٍ لِأُمٍّ وَكَزَوْجٍ هُوَ مُعْتَقٌ أَوْ ابْنُ عَمٍّ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إرْثِ الْوَالِدِ شَرَعَ فِي بَيَانِ إرْثِ الْوَلَدِ مِنْ أَبَوَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَمِيرَاثُ الْوَلَدِ الذَّكَرِ) مِنْ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ (جَمَعَ الْمَالَ إنْ كَانَ وَحْدَهُ) بِأَنْ لَمْ يَكُنْ لِلْمَيِّتِ وَارِثٌ بِالْفَرْضِ (أَوْ) أَيْ وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ وَحْدَهُ بِأَنْ كَانَ مَعَهُ مَنْ يَرِثُ الْمَيِّتَ بِالْفَرْضِ فَإِنَّهُ (يَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ سِهَامِ مَنْ مَعَهُ مِنْ زَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ أَوْ جَدٍّ أَوْ جَدَّةٍ) وَإِنَّمَا كَانَ يَأْخُذُ الْبَاقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ؛ لِأَنَّهُمْ الْأَصْلُ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَاصِبِ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مُعَيَّنٌ، وَإِنَّمَا لَهُ جَمِيعُ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ وَمَا أَبْقَتْ ذُو السِّهَامِ، فَلَوْ قُدِّمَ عَلَى صَاحِبِ الْفَرْضِ لَاسْتَغْرَقَ جَمِيعَ الْمَالِ، فَإِذَا كَانَ مَعَ الْوَلَدِ زَوْجَةٌ لِلْمَيِّتِ فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ لَهَا الثُّمُنُ وَالْبَاقِي لَهُ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْوَلَدِ زَوْجٌ تَكُونُ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَبَوَانِ فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ لِلْأَبَوَيْنِ ثُلُثُهَا وَلِلِابْنِ مَا بَقِيَ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَدٌّ أَوْ جَدَّةٌ فَالْمَسْأَلَةُ أَيْضًا مِنْ سِتَّةٍ لِلْجَدِّ أَوْ الْجَدَّةِ السُّدُسُ وَاحِدٌ وَالْبَاقِي لَهُ (وَابْنُ الِابْنِ) وَإِنْ سَفَلَ فِي غَالِبِ أَحْوَالِهِ (بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ) لِلْمَيِّتِ (وَإِذَا لَمْ يَكُنْ) لَهُ (ابْنٌ) فَيَأْخُذُ جَمِيعَ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ عِنْدَ وُجُودِهِ، وَقَيَّدْنَا بِغَالِبِ أَحْوَالِهِ؛ لِأَنَّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لَا يَرِثُ وَيَسْقُطُ، وَذَلِكَ فِي فَرِيضَةٍ فِيهَا ابْنَتَانِ وَأَبَوَانِ وَابْنُ ابْنٍ فَلَا شَيْءَ لَهُ، لِأَخْذِ الْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْأَبَوَيْنِ، وَلَوْ كَانَ مَكَانَهُ ابْنٌ لَمْ تَسْقُطْ؛ لِأَنَّ الِابْنَ الصُّلْبَ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ لِعَدَمِ تَصَوُّرِ مَنْ يَحْجُبُهُ. (فَإِنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ (ابْنٌ أَوْ ابْنَةٌ) وَلَمْ يَكُنْ مَعَهُمَا أَحَدٌ مِنْ ذَوِي السِّهَامِ (فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ فِي كَثْرَةِ الْبَنِينَ وَالْبَنَاتِ وَقِلَّتِهِمْ يَرِثُونَ كَذَلِكَ جَمِيعَ الْمَالِ أَوْ مَا فَضَلَ مِنْهُ) أَيْ الْمَالِ (بَعْدَ مَنْ شَرِكَهُمْ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا لَا فَرْضَ فِيهَا فَأَصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا وَضُعِّفَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَإِنْ كَانَ مَعَهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 وَابْنُ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي عَدَمِهِ فِيمَا يَرِثُ وَيَحْجُبُ وَمِيرَاثُ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ وَالِاثْنَيْنِ الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَثُرْنَ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ شَيْئًا وَابْنَةُ الِابْنِ كَالْبِنْتِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتٌ وَكَذَلِكَ بَنَاتُهُ كَالْبَنَاتِ فِي عَدَمِ الْبَنَاتِ فَإِنْ كَانَتْ ابْنَةُ ابْنٍ فَلِلِابْنَةِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ وَإِنْ كَثُرَتْ بَنَاتُ الِابْنِ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ السُّدُسِ شَيْئًا إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ وَمَا بَقِيَ لِلْعَصَبَةِ وَإِنْ كَانَتْ الْبَنَاتُ اثْنَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِبَنَاتِ الِابْنِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَخٌ فَيَكُونُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الذَّكَرُ تَحْتَهُنَّ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ كَذَلِكَ وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ بَنَاتُ الِابْنِ مَعَ الِابْنَةِ السُّدُسَ وَتَحْتَهُنَّ بَنَاتُ ابْنٍ مَعَهُنَّ أَوْ تَحْتَهُنَّ ذَكَرٌ كَانَ ذَلِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَخَوَاتِهِ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ وَلَا   [الفواكه الدواني] صَاحِبُ فَرْضٍ كَزَوْجٍ أَوْ زَوْجَةٍ فَالْبَاقِي بَعْدَ فَرْضِهِ يُقْسَمُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ كُلَّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ أَنْ يُفَضَّلَ الذَّكَرُ عَلَى الْأُنْثَى إلَّا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ فَإِنَّ ذَكَرَهُمْ كَأُنْثَاهُمْ (وَابْنُ الِابْنِ كَالِابْنِ فِي عَدَمِهِ) أَيْ الِابْنِ (فِيمَا يَرِثُ وَيَحْجُبُ) فَيَجُوزُ جَمْعُ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ وَيَأْخُذُ مَا بَقِيَ بَعْدَ ذَوِي السِّهَامِ وَيَحْجُبُ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ كَمَا يَحْجُبُهُمْ الِابْنُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ هَذَا بِحَسَبِ الْغَالِبِ، أَمَّا فِي الْإِرْثِ فَلِأَنَّهُ قَدْ يَسْقُطُ بِخِلَافِ الِابْنِ وَذَلِكَ كَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ وَابْنِ ابْنٍ وَلَوْ كَانَ بَدَلَهُ ابْنٌ لَمْ يَسْقُطْ، وَأَمَّا الْحَجْبُ فَإِنَّ الِابْنَ يَحْجُبُ بِنْتَ الِابْنِ وَابْنُ الِابْنِ لَا يَحْجُبُهَا بَلْ يُعَصِّبُهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ بِمَنْزِلَةِ الِابْنِ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ الْمُصَنِّفُ ذَلِكَ مَعَ تَقَدُّمِهِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: وَيَحْجُبُ، وَلِلرَّدِّ عَلَى مَنْ قَالَ إنَّ ابْنَ الِابْنِ لَا يَحْجُبُ الزَّوْجَ مِنْ النِّصْفِ إلَى الرُّبُعِ وَلَا الزَّوْجَةَ مِنْ الرُّبُعِ إلَى الثُّمُنِ. (وَمِيرَاثُ الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ النِّصْفُ وَالِاثْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَثُرْنَ لَمْ يَزِدْنَ عَلَى الثُّلُثَيْنِ شَيْئًا) قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ} [النساء: 11] وَقَالَ أَيْضًا: {فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ اثْنَتَانِ فَفَوْقُ وَلَفْظُ فَوْقُ مَقْحَمَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالثُّلُثَانِ لِذِي النِّصْفِ إنْ تَعَدَّدَ (وَابْنَةُ الِابْنِ كَالْبِنْتِ إذَا لَمْ تَكُنْ بِنْتٌ) لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا تَأْخُذُ النِّصْفَ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يَكُونَ مَعَهَا بِنْتُ صُلْبٍ، وَلَا مُعَصِّبَ لَهَا، وَلَا أُنْثَى فِي دَرَجَتِهَا (وَكَذَلِكَ بَنَاتُهُ) أَيْ ابْنُ الْمَيِّتِ (كَالْبَنَاتِ فِي عَدَمِ الْبَنَاتِ) لِلصُّلْبِ فَفَرْضُ الْمُنْفَرِدَةِ النِّصْفُ وَلِلْمُتَعَدِّدَاتِ الثُّلُثَانِ. (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ وُجِدَتْ (ابْنَةٌ وَابْنَةُ ابْنٍ) مَعًا (فَلِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ) لِمَا فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ أَبَا مُوسَى الْأَشْعَرِيَّ سُئِلَ عَنْ بِنْتِ ابْنَةِ ابْنٍ وَأُخْتٍ فَقَالَ: لِلْبِنْتِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَلَا شَيْءَ لِبِنْتِ الِابْنِ، وَقَالَ لِلسَّائِلِ: اذْهَبْ إلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَلَعَلَّهُ يُوَافِقُنِي، فَلَمَّا سَأَلَ ابْنَ مَسْعُودٍ وَأَخْبَرَهُ بِقَوْلِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: لَقَدْ ضَلَلْت إذًا وَمَا أَنَا مِنْ الْمُهْتَدِينَ، سَأَقْضِي فِيهَا بِمَا قَضَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفُ، وَلِبِنْتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَكْمِلَةُ الثُّلُثَيْنِ، وَلِلْأُخْتِ مَا بَقِيَ. قَالَ: فَأَتَيْنَا أَبَا مُوسَى فَأَخْبَرْنَاهُ بِقَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ: لَا تَسْأَلُونِي مَا دَامَ هَذَا الْحَبْرُ فِيكُمْ» وَلَا خِلَافَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فِيمَا عَلِمْت. وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ أَنَّ نِصْفَ الْبِنْتِ مَعَ سُدُسِ بِنْتِ الِابْنِ فَرْضٌ وَاحِدٌ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فَرْضَانِ، وَفَائِدَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي الشُّفْعَةِ إذَا بَاعَتْ إحْدَاهُمَا حِصَّتَهَا تَكُونُ الْأُخْرَى أَحَقَّ بِحِصَّةِ الْبَائِعَةِ تَخْتَصُّ بِهَا بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمَا فَرْضٌ وَاحِدٌ لَا عَلَى أَنَّهُمَا فَرْضَانِ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: وَلِابْنَةِ الِابْنِ السُّدُسُ إلَخْ الْمُرَادُ جِنْسُهَا قَالَ: (وَإِنْ كَثُرَتْ) بِالْمُثَنَّاةِ الْفَوْقِيَّةِ (بَنَاتُ الِابْنِ) مَعَ بِنْتِ الصُّلْبِ (لَمْ يَزِدْنَ عَلَى ذَلِكَ السُّدُسِ شَيْئًا) عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ (إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ، وَ) حِينَئِذٍ يَكُونُ (مَا بَقِيَ) بَعْدَ نِصْفِ الْبِنْتِ وَسُدُسِ بِنْتٍ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ (لِلْعَصَبَةِ) أَيْ عَصَبَةِ الْمَيِّتِ (وَإِنْ كَانَتْ الْبَنَاتُ اثْنَتَيْنِ) فَأَكْثَرَ (لَمْ يَكُنْ لِبَنَاتِ الِابْنِ شَيْءٌ) لِاسْتِغْرَاقِ الثُّلُثَيْنِ. ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ أَخٌ) الْأَوْلَى ذِكْرُ أَخٍ أَوْ ابْنِ عَمٍّ فِي دَرَجَتِهِنَّ (فَيَكُونُ مَا بَقِيَ بَيْنَهُنَّ وَبَيْنَهُ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَكَذَلِكَ إذَا كَانَ ذَلِكَ الذَّكَرُ تَحْتَهُنَّ) فَإِنَّهُ يُعَصِّبُهُنَّ وَهُوَ مَعْنَى (كَانَ ذَلِكَ) أَيْ الْبَاقِي (بَيْنَهُ وَبَيْنَهُنَّ كَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُعَصِّبُ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَجَبَهَا ابْنٌ فَوْقَهَا وَبِنْتَانِ فَوْقَهَا إلَّا ابْنًا فِي دَرَجَتِهَا مُطْلَقًا أَوْ أَسْفَلَ فَمُعَصِّبٌ. فَتَخَلَّصَ أَنَّ ابْنَ الِابْنِ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مُطْلَقًا، وَكَذَا مَنْ فَوْقَهُ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثَيْنِ. ثُمَّ ذَكَرَ فِي تَعْصِيبِ ابْنِ الِابْنِ لِمَنْ هُوَ فِي دَرَجَتِهِ وَلِمَنْ هُوَ فَوْقَهُ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ مَسْأَلَتَيْنِ عُلِمَ حُكْمُهُمَا مِمَّا مَرَّ زِيَادَةً فِي الْإِيضَاحِ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ لَوْ وَرِثَ بَنَاتُ الِابْنِ مَعَ الِابْنَةِ السُّدُسَ، وَ) الْحَالُ أَنَّ (تَحْتَهُنَّ بَنَاتُ ابْنٍ مَعَهُنَّ) ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهِنَّ (أَوْ تَحْتَهُنَّ ذَكَرٌ كَانَ ذَلِكَ) الْبَاقِي بَعْدَ الثُّلُثَيْنِ (بَيْنَهُ) أَيْ ذَلِكَ الذَّكَرِ. (وَبَيْنَ أَخَوَاتِهِ أَوْ مَنْ فَوْقَهُ مِنْ عَمَّاتِهِ) وَيُقَاسُ عَلَى بَنَاتِ الِابْنِ مَعَ بِنْتٍ أَوْ بَنَاتِ الصُّلْبِ بَنَاتِ ابْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ دَخَلَ فِي الثُّلُثَيْنِ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ وَمِيرَاثُ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ النِّصْفُ وَالِاثْنَتَيْنِ فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ فَإِنْ كَانُوا إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ شَقَائِقَ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا وَالْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ كَالْعَصَبَةِ لَهُنَّ يَرِثْنَ مَا فَضَلَ عَنْهُنَّ وَلَا يُرْبَى لَهُنَّ مَعَهُنَّ [إرْثِ الْبَنَاتِ مَعَ الْأَخَوَاتِ] وَلَا مِيرَاثَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْأَبِ وَلَا مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ مَعَ وَلَدِ الْوَلَدِ وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقَائِقِ كَالشَّقَائِقِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ فَإِنْ كَانَتْ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُخْتٌ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ فَالنِّصْفُ لِلشَّقِيقَةِ وَلِمَنْ بَقِيَ مِنْ الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلَوْ كَانَتَا شَقِيقَتَيْنِ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ شَيْءٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ فَيَأْخُذُونَ مَا بَقِيَ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَمِيرَاثُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ سَوَاءٌ   [الفواكه الدواني] ابْنٍ أَنْزَلُ مِنْ غَيْرِهِنَّ، فَلِلْعَالِيَةِ الْمُنْفَرِدَةِ النِّصْفُ، وَلِلنَّازِلَةِ عَنْهَا الْوَاحِدَةُ أَوْ الْمُتَعَدِّدَةِ السُّدُسُ، وَلَا شَيْءَ لِمَنْ هِيَ أَنْزَلُ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهَا ذَكَرٌ فِي دَرَجَتِهَا أَوْ أَسْفَلَ مِنْهَا (وَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ) الْبَاقِي بَعْدَ اسْتِغْرَاقِ الثُّلُثَيْنِ (مَنْ دَخَلَ فِي الثُّلُثَيْنِ مِنْ بَنَاتِ الِابْنِ) أَوْ بَنَاتِ ابْنِ ابْنٍ مَعَ أَعْلَى مِنْهُنَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ مُسَاوٍ أَوْ أَنْزَلُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي إرْثِ الْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَمِيرَاثُ الْأُخْتِ الشَّقِيقَةِ) مِنْ أُخْتِهَا أَوْ أَخِيهَا (النِّصْفُ) حَيْثُ انْفَرَدَتْ وَلَمْ يَكُنْ مَعَهَا أَصْلٌ وَلَا فَرْعٌ وَلَا مَنْ يُعَصِّبُ مِنْ أَخٍ أَوْ جَدٍّ. (وَ) مِيرَاثُ (الِاثْنَتَيْنِ) مِنْ الْأَخَوَاتِ (فَصَاعِدًا الثُّلُثَانِ) حَيْثُ لَا أَصْلَ وَلَا فَرْعَ وَلَا مَنْ يُعَصِّبُ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانُوا) أَيْ الْوَرَثَةُ (إخْوَةً وَأَخَوَاتٍ) فِي دَرَجَةٍ وَاحِدَةٍ بِأَنْ كَانُوا (شَقَائِقَ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ قَلُّوا أَوْ كَثُرُوا) قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا لَا فَرْضَ فِيهَا فَأَصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا وَضُعِّفَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ إرْثِ الْبَنَاتِ مَعَ الْأَخَوَاتِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَخَوَاتُ) الشَّقَائِقُ أَوْ لِأَبٍ (مَعَ) الْبِنْتِ الْوَاحِدَةِ أَوْ (الْبَنَاتِ) أَوْ مَعَ بِنْتٍ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ. (كَالْعَصَبَةِ لَهُنَّ) أَيْ لِلْبَنَاتِ (يَرِثْنَ) الْأَخَوَاتُ (مَا فَضَلَ عَنْهُنَّ) أَيْ عَنْ الْبَنَاتِ، وَإِنَّمَا قَالَ كَالْعَصَبَةِ وَلَمْ يَقُلْ إنَّهُنَّ عَصَبَةٌ لِئَلَّا يَتَبَادَرَ إلَى الذِّهْنِ الْعَاصِبُ بِالنَّفْسِ الَّذِي يَحُوزُ جَمِيعَ الْمَالِ عِنْدَهُ انْفِرَادُهُ، وَوَجْهُ كَوْنِهِنَّ كَالْعَصَبَةِ أَنَّهُنَّ يَأْخُذْنَ الْبَاقِيَ بَعْدَ الْبِنْتِ أَوْ الْبَنَاتِ، وَلَمَّا كَانَ شَأْنُ الْعَاصِبِ السُّقُوطَ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ قَالَ: (وَلَا يُرْبَى) أَيْ لَا يُفْرَضُ (لَهُنَّ) أَيْ لِلْأَخَوَاتِ (مَعَهُنَّ) أَيْ مَعَ الْبَنَاتِ بَلْ إنْ فَضَلَ عَنْ الْبَنَاتِ شَيْءٌ أَخَذَتْهُ وَلَوْ أَقَلَّ قَلِيلٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ إلَّا لِصَاحِبِ الْفَرْضِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَاصِبَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: عَاصِبٌ بِنَفْسِهِ، وَعَاصِبٌ بِغَيْرِهِ، وَعَاصِبٌ مَعَ غَيْرِهِ. فَالْأَوَّلُ: كَالْأَبِ وَالِابْنِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ كُلِّ مَنْ يَأْخُذُ الْمَالَ عِنْدَ انْفِرَادِهِ. وَالثَّانِي: كَالْبَنَاتِ وَبَنَاتِ الِابْنِ مَعَ فَقْدِ الْبَنَاتِ مَعَ الذَّكَرِ الْمُسَاوِي لَهُنَّ مُطْلَقًا، أَوْ الْإِنْزَالِ بِالنِّسْبَةِ لِبَنَاتِ الِابْنِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثَيْنِ عَلَى نَحْوِ مَا هُوَ. وَالثَّالِثُ: الْأَخَوَاتُ مَعَ الْبَنَاتِ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْوَارِثَ لِلْمَيِّتِ إمَّا زَوْجَتُهُ أَوْ زَوْجَتُهُ وَأَصْلُهُ الْمُدْلِي إلَيْهِ بِذِكْرٍ وَإِنْ عَلَا، أَوْ حَاشِيَةُ أَصْلِهِ كَأَعْمَامِهِ، أَوْ حَاشِيَةُ نَفْسِهِ كَإِخْوَتِهِ وَأَخَوَاتِهِ وَبَنِي إخْوَتِهِ وَأَعْمَامِهِ لَا بَنَاتِهِنَّ [أَنْوَاع الحجب] شَرَعَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَسَائِلِ الْحَجْبِ وَهُوَ لُغَةً الْمَنْعُ وَالسَّتْرُ، وَاصْطِلَاحًا مَنْعُ الْوَارِثِ جُمْلَةً أَوْ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ؛ لِأَنَّ الْحَجْبَ عَلَى قِسْمَيْنِ: حَجْبُ نُقْصَانٍ وَحَجْبُ حِرْمَانٍ، وَلَا يَدْخُلُ عَلَى جَمِيعِ الْوَرَثَةِ إذْ الِابْنُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ فَقَالَ: (وَلَا مِيرَاثَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ) مِنْ أَخِيهِمْ (مَعَ الْأَبِ) ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يُدْلُونَ لِلْمَيِّتِ بِهِ، وَكُلُّ مَنْ أَدْلَى بِوَاسِطَةٍ فَإِنَّهُ يُحْجَبُ بِهَا إلَّا مَا اُسْتُثْنِيَ وَهُمْ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ أَخَاهُمْ وَمَعَ وُجُودِهَا مَعَ أَدِلَّائِهِمْ بِهَا. (وَلَا) مِيرَاثَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ أَيْضًا مِنْ أَخِيهِمْ (مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ مَعَ وَلَدِ الْوَلَدِ) الذَّكَرِ وَتَقْيِيدُ الْوَلَدِ بِالذَّكَرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ بِنْتِ الْمَيِّتِ فَإِنَّهَا لَا تَحْجُبُ إلَّا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ، وَتَقْيِيدُ وَلَدِ الْوَلَدِ بِالذَّكَرِ لِإِخْرَاجِ ابْنِ الْبِنْتِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ جَدَّهُ لِأُمِّهِ وَلَا يَحْجُبُ أَوْلَادَهُ وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِخْوَةَ الْأَشِقَّاءَ يُحْجَبُونَ حِرْمَانًا مِنْ ثَلَاثَةٍ: الْأَبِ وَالِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ وَأَشَارَ إلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقَائِقِ كَالشَّقَائِقِ ذُكُورِهِمْ وَإِنَاثِهِمْ) إلَّا فِي الْمُشْتَرِكَةِ فَالْأَشِقَّاءُ تَرِثُ وَإِخْوَةُ الْأَبِ يَسْقُطُونَ؛ لِأَنَّ الْأَشِقَّاءَ إنَّمَا يَرِثُونَ فِيهَا بِوِلَادَةِ الْأُمِّ وَلَمَّا كَانَتْ الْإِخْوَةُ لِلْأَبِ مَعَ الشَّقَائِقِ بِمَنْزِلَةِ بَنِي الِابْنِ مَعَ الِابْنِ فُرِّعَ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ كَانَتْ) أَيْ وُجِدَتْ (أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَ) وُجِدَ مَعَهَا (أُخْتٌ أَوْ أَخَوَاتٌ لِأَبٍ فَالنِّصْفُ لِلشَّقِيقَةِ، وَ) يُعْطَى (لِمَنْ بَقِيَ مِنْ) جِنْسِ (الْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ) تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ كَبِنْتِ صُلْبٍ وَبِنْتٍ أَوْ بَنَاتِ ابْنٍ فَلِبِنْتِ الصُّلْبِ النِّصْفُ وَلِبِنْتٍ أَوْ بَنَاتِ الِابْنِ السُّدُسُ تَمَامُ الثُّلُثَيْنِ (وَلَوْ كَانَتَا) أَيْ الْأُخْتَانِ (شَقِيقَتَيْنِ) أَوْ أَكْثَرَ (لَمْ يَكُنْ لِلْأَخَوَاتِ لِلْأَبِ شَيْءٌ) لِاسْتِكْمَالِ الشَّقِيقَتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ ذَكَرٌ) مُسَاوٍ لَهُنَّ فِي أُخُوَّةِ الْأَبِ (فَيَأْخُذُونَ مَا بَقِيَ) بَعْدَ الشَّقِيقَاتِ وَهُوَ الثُّلُثُ يَقْتَسِمُونَهُ (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) وَقَيَّدْنَا بِالْمُسَاوِي فِي إخْوَةِ الْأَبِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ ابْنِ الْأَخِ فَإِنَّهُ لَا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ، وَالْبَاقِي بَعْدَ الْأَشِقَّاءِ إنْ لَمْ يَكُنْ أَخٌ لِأَبٍ يَأْخُذُهُ ابْنُ الْأَخِ الشَّقِيقِ دُونَ أُخْتِهِ؛ لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 السُّدُسُ لِكُلِّ وَاحِدٍ وَإِنْ كَثُرُوا فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ وَيَحْجُبُهُمْ عَنْ الْمِيرَاثِ الْوَلَدُ وَبَنُوهُ وَالْأَبُ وَالْجَدُّ لِلْأَبِ. وَالْأَخُ يَرِثُ الْمَالَ إذَا انْفَرَدَ كَانَ شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ وَالشَّقِيقُ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ وَإِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ فَأَكْثَرُ شَقَائِقَ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَخِ ذُو سَهْمٍ بُدِئَ بِأَهْلِ السِّهَامِ وَكَانَ لَهُ مَا بَقِيَ وَكَذَلِكَ يَكُونُ مَا بَقِيَ لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ السِّهَامِ إخْوَةٌ لِأُمٍّ قَدْ وَرِثُوا الثُّلُثَ وَقَدْ بَقِيَ أَخٌ شَقِيقٌ أَوْ إخْوَةٌ ذُكُورٌ أَوْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ شَقَائِقُ مَعَهُمْ فَيُشَارِكُونَ كُلُّهُمْ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ فِي ثُلُثِهِمْ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ وَهِيَ الْفَرِيضَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْمُشْتَرِكَةَ وَلَوْ كَانَ مَنْ بَقِيَ إخْوَةٌ لِأَبٍ لَمْ   [الفواكه الدواني] لَا يُعَصِّبُهَا، فَعَمَّتُهُ الَّتِي هِيَ فَوْقَهُ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى، وَإِنَّمَا كَانَ ابْنُ الِابْنِ يُعَصِّبُ مَنْ فِي دَرَجَتِهِ مُطْلَقًا وَمَنْ فَوْقَهُ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا شَيْءٌ مِنْ الثُّلُثَيْنِ دُونَ ابْنِ الْأَخِ وَالْعَمِّ وَابْنِ الْعَمِّ، لِشُمُولِ لَفْظِ الْبُنُوَّةِ لِبَنَاتِ الِابْنِ وَابْنِ الِابْنِ، بِخِلَافِ لَفْظِ ابْنِ الْأَخِ. [مِيرَاث الْإِخْوَة لإم] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ إرْثِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِلْأَبِ شَرَعَ فِي أُخُوَّةِ الْأُمِّ بِقَوْلِهِ: (وَمِيرَاثُ الْأُخْتِ لِلْأُمِّ وَالْأَخِ لِلْأُمِّ سَوَاءٌ) وَهُوَ (السُّدُسُ لِكُلِّ وَاحِدٍ) عِنْدَ انْفِرَادِهِ لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ ذَكَرَهُمْ كَإِنَاثِهِمْ (وَإِنْ كَثُرُوا) بِأَنْ زَادُوا عَلَى الْوَاحِدِ (فَالثُّلُثُ بَيْنَهُمْ) يَقْتَسِمُونَهُ (الذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ) وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يُخَالِفُونَ غَيْرَهُمْ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: أَنَّ إرْثَ الْأُنْثَى مُسَاوٍ لِإِرْثِ الذَّكَرِ عِنْدَ الِانْفِرَادِ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَفَاضَلُونَ عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ، وَأَنَّ ذَكَرَهُمْ يُدْلَى بِأُنْثَى، وَأَنَّهُمْ يَرِثُونَ مَعَ مَنْ يُدَلُّونَ بِهِ، وَأَنَّهُمْ يَحْجُبُونَهُ وَلَيْسَ لَهُمْ فِي ذَلِكَ نَظِيرٌ، ثُمَّ بَيَّنَ مَنْ يَحْجُبُهُمْ بِقَوْلِهِ: (وَيَحْجُبُهُمْ) أَيْ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ (عَنْ الْمِيرَاثِ) حِرْمَانًا (الْوَلَدُ) وَلَوْ أُنْثَى (وَبَنُوهُ) أَيْ الْوَلَدِ الذَّكَرِ وَإِنْ سَفَلُوا ذُكُورًا أَوْ إنَاثًا (وَالْأَبُ وَالْجَدُّ لِلْأَبِ) وَإِنْ عَلَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَسَقَطَ بِابْنٍ وَابْنِهِ وَبِنْتٍ وَإِنْ سَفَلَتْ وَأَبٍ وَجَدٍّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إخْوَةَ الْأُمِّ تُحْجَبُ بِوَاحِدَةٍ مِنْ سِتَّةٍ: الِابْنُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَابْنُ الِابْنِ وَإِنْ سَفَلَ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى وَالْأَبُ وَالْجَدُّ وَإِنْ عَلَا، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ: لِلْأَبِ عَنْ الْجَدِّ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ فَضْلًا عَنْ الْحَجْبِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَاصِبِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَخُ يَرِثُ الْمَالَ) كُلَّهُ (إذَا انْفَرَدَ) بِإِرْثِ الْمَيِّتِ إنْ (كَانَ شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ إنَّمَا يَرِثُ بِالْفَرْضِ وَهُوَ السُّدُسُ إذَا انْفَرَدَ، أَوْ الثُّلُثَ إذَا تَعَدَّدَ إلَّا أَنْ يَكُونَ ابْنَ عَمٍّ (وَ) الْأَخُ (الشَّقِيقُ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ) ؛ لِأَنَّ الْقَاعِدَةَ أَنَّ مَنْ سَاوَى غَيْرَهُ فِي دَرَجَتِهِ وَزَادَ عَلَيْهِ بِوِلَادَةِ الْأُمِّ فَهُوَ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ إلَّا إخْوَةَ الْأُمِّ (وَإِنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ لِلْمَيِّتِ (أَخٌ وَأُخْتٌ فَأَكْثَرُ شَقَائِقُ أَوْ لِأَبٍ فَالْمَالُ بَيْنَهُمْ الذَّكَرُ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَخِ) أَيْ جِنْسِ الْأَخِ فَيَشْمَلُ الْمُتَعَدِّدَ (ذُو سَهْمٍ) كَزَوْجَةِ الْمَيِّتِ أَوْ ابْنَتِهِ (بُدِئَ بِأَهْلِ السِّهَامِ وَكَانَ لَهُ) أَيْ لِلْأَخِ (مَا بَقِيَ) مِنْ التَّرِكَةِ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ إنَّمَا يَأْخُذُ مَا أَبْقَتْ الْفُرُوضُ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ الْأَخِ الْمُنْفَرِدِ عَنْ الْأَخَوَاتِ (يَكُونُ مَا بَقِيَ) بَعْدَ أَصْحَابِ الْفَرْضِ (لِلْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ) الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِلْأَبِ يَقْتَسِمُونَهُ (لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ فَلَا شَيْءَ لَهُمْ) ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ يَسْقُطُ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ (إلَّا) فِي مَسْأَلَةٍ فَلَا تَسْقُطُ الْإِخْوَةُ الْأَشِقَّاءُ وَهِيَ (أَنْ يَكُونَ فِي أَهْلِ السِّهَامِ إخْوَةٌ لِأُمٍّ قَدْ وَرِثُوا الثُّلُثَ) كَزَوْجٍ وَأُمٍّ أَوْ جَدَّةٍ مَعَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فَالْمَسْأَلَةُ مِنْ سِتَّةٍ: لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ أَوْ الْجَدَّةِ السُّدُسُ وَالثُّلُثُ الْبَاقِي لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ. (وَقَدْ بَقِيَ) أَيْ وُجِدَ بَعْدَ الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ (أَخٌ شَقِيقٌ أَوْ إخْوَةٌ ذُكُورٌ أَوْ ذُكُورٌ وَإِنَاثٌ شَقَائِقُ مَعَهُمْ) أَيْ مَعَ أَهْلِ السِّهَامِ (فَ) إنَّهُمْ لَا يَسْقُطُونَ وَيَرْجِعُونَ عَلَى الْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فَ (يُشَارِكُونَ كُلُّهُمْ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ فِي ثُلُثِهِمْ فَيَكُونُ بَيْنَهُمْ بِالسَّوَاءِ وَهِيَ الْفَرِيضَةُ الَّتِي تُسَمَّى الْمُشْتَرِكَةَ) بِكَسْرِ الرَّاءِ وَفَتْحِهَا وَصُورَتُهَا: زَوْجٌ وَأُمٌّ أَوْ جَدَّةٌ وَأَخَوَانِ فَصَاعِدًا لِأُمٍّ وَشَقِيقٍ وَحْدَهُ أَوْ مَعَ غَيْرِهِ فَيُشَارِكُونَ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ: لِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ نِصْفُهَا وَلِلْأُمِّ أَوْ الْجَدَّةِ السُّدُسُ وَاثْنَانِ ثُلُثُهَا لِلْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ وَلَمْ يَفْضُلْ شَيْءٌ لِلْأَشِقَّاءِ. وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي زَمَنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فِي أَوَّلِ عَامٍ مِنْ خِلَافَتِهِ فَأَسْقَطَ الْأَشِقَّاءَ، وَوَقَعَ لَهُ نَظِيرُهَا فِي ثَانِي عَامٍ مِنْ خِلَافَتِهِ وَأَرَادَ أَنْ يَحْكُمَ فِيهَا مِثْلَ مَا فَعَلَ أَوَّلًا وَيُسْقِطَ الْأَشِقَّاءَ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْأَشِقَّاءِ: هَبْ أَنَّ أَبَانَا كَانَ حِمَارًا أَوْ حَجَرًا مَطْرُوحًا فِي الْيَمِّ أَلَيْسَتْ الْأُمُّ تَجْمَعُنَا؟ وَقِيلَ: الْقَائِلُ ذَلِكَ لِعُمَرَ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَلَمَّا ظَهَرَ لَهُ وَجْهُ كَلَامِهِمْ شَرِكَ بَيْنَ الْجَمِيعِ، فَقِيلَ لَهُ: لِمَ تَقْضِ فِي الْعَامِ الْمَاضِي هَكَذَا؟ فَقَالَ: ذَلِكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا، وَهَذَا عَلَى مَا نَقْضِي، وَلَا يُنْقَضُ أَحَدُ الِاجْتِهَادَيْنِ بِالْآخَرِ، وَلَوْ كَانَ فِي الْمُشْتَرِكَةِ جَدٌّ لَسَقَطَتْ الْإِخْوَةُ لِلْأُمِّ، وَيَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ سُقُوطُ الْأَشِقَّاءِ؛ لِأَنَّهُمْ إنَّمَا يَرِثُونَ فِيهَا بِوِلَادَةِ الْأُمِّ وَالْجَدِّ يَسْقُطُ كُلُّ مَنْ يَرِثُ بِهَا، وَتُلَقَّبُ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ بِشِبْهِ الْمَالِكِيَّةِ، لِلْجَدِّ الثُّلُثُ الْبَاقِي بَعْدَ الزَّوْجِ، وَالْأُمِّ لِسُقُوطِ إخْوَةِ الْأُمِّ بِهِ، وَأَشَارَ بِهِ إلَى مَفْهُومِ قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 يُشَارِكُوا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ وِلَادَةِ الْأُمِّ وَإِنْ كَانَ مَنْ بَقِيَ أُخْتًا أَوْ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أُعِيلَ لَهُنَّ وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَخٌ وَاحِدٌ أَوْ أُخْتٌ لَمْ تَكُنْ مُشْتَرِكَةً وَكَانَ مَا بَقِيَ لِلْإِخْوَةِ إنْ كَانُوا ذُكُورًا أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَإِنْ كُنَّ إنَاثًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أُعِيلَ لَهُنَّ وَالْأَخُ لِلْأَبِ كَالشَّقِيقِ فِي عَدَمِ الشَّقِيقِ إلَّا فِي الْمُشْتَرِكَةِ، وَابْنُ الْأَخِ كَالْأَخِ فِي عَدَمِ الْأَخِ كَانَ شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ وَلَا يَرِثُ ابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى مِنْ ابْنِ أَخٍ شَقِيقٍ وَابْنُ أَخٍ شَقِيقٍ أَوْلَى مِنْ ابْنِ أَخٍ وَابْنُ أَخٍ لِأَبٍ يَحْجُبُ عَمًّا لِأَبَوَيْنِ وَعَمٌّ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ عَمًّا لِأَبٍ وَعَمٌّ لِأَبٍ يَحْجُبُ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ وَابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَهَكَذَا يَكُونُ الْأَقْرَبُ أَوْلَى وَلَا يَرِثُ بَنُو الْأَخَوَاتِ مَا كُنَّ وَلَا بَنُو الْبَنَاتِ وَلَا بَنَاتُ الْأَخِ مَا كَانَ وَلَا بَنَاتُ الْعَمِّ وَلَا جَدٌّ لِأُمٍّ وَلَا عَمٌّ أَخُو أَبِيك لِأُمِّهِ وَلَا يَرِثُ عَبْدٌ وَلَا مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ   [الفواكه الدواني] وَقَدْ بَقِيَ أَخٌ شَقِيقٌ إلَخْ بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ كَانَ مَنْ بَقِيَ) بَعْدَ اسْتِغْرَاقِ أَهْلِ السِّهَامِ (إخْوَةٌ لِأَبٍ) لَسَقَطُوا؛ لِأَنَّهُمْ عَصَبَةٌ (لَمْ يُشَارِكُوا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ) فِي ثُلُثِهِمْ (لِخُرُوجِهِمْ عَنْ وِلَادَةِ الْأُمِّ) وَالشَّقِيقُ إنَّمَا وَرِثَ بِوِلَادَةِ الْأُمِّ، وَلَمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ شَرْطَ كَوْنِهَا مُشْتَرِكَةً أَنْ لَا يَكُونَ الْأَشِقَّاءُ كُلُّهُنَّ إنَاثًا قَالَ: (وَإِنْ كَانَ مَنْ بَقِيَ) بَعْدَ أَهْلِ السِّهَامِ (أُخْتًا أَوْ أَخَوَاتٍ لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أُعِيلَ لَهُنَّ) وَلَا يَسْقُطْنَ؛ لِأَنَّهُنَّ أَصْحَابُ فَرْضٍ، وَضِيقُ الْمَالِ لَا يُسْقِطُ حَقَّ صَاحِبِ الْفَرْضِ، فَيُعَالُ لِلْأُخْتِ الْوَاحِدَةِ بِمِثْلِ نِصْفِهَا فَتَبْلُغُ تِسْعَةً وَلِلْبِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ فَتَبْلُغُ عَشَرَةً وَهِيَ غَايَةُ عَوْلِ السِّتَّةِ، فَهَذِهِ ثَلَاثُ مَسَائِلَ لَمْ تَكُنْ فِيهَا مُشْتَرِكَةٌ، وَأَشَارَ إلَى مَا هُوَ خَارِجٌ أَيْضًا عَنْ الْمُشْتَرِكَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ أَخٌ وَاحِدٌ أَوْ أُخْتٌ) وَاحِدَةٌ (لَمْ تَكُنْ مُشْتَرِكَةً وَكَانَ مَا بَقِيَ) وَهُوَ السُّدُسُ (لِلْإِخْوَةِ) الْأَشِقَّاءِ (إنْ كَانُوا ذُكُورًا) فَقَطْ (أَوْ ذُكُورًا وَإِنَاثًا وَإِنْ كُنَّ إنَاثًا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ أُعِيلَ لَهُنَّ) لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ؛ لِأَنَّ إرْثَهُمْ حِينَئِذٍ بِالتَّعْصِيبِ هَكَذَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ، ثُمَّ ذَكَرَ مَسْأَلَةً عُلِمَ حُكْمُهَا مِمَّا مَرَّ كَرَّرَهَا لِأَجْلِ التَّفْصِيلِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْأَخُ لِلْأَبِ فِي عَدَمِ الشَّقِيقِ كَالشَّقِيقِ إلَّا فِي الْمُشْتَرِكَةِ) لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّقِيقَ يَرِثُ فِيهَا وَيَسْقُطُ الْأَخُ لِلْأَبِ (وَابْنُ الْأَخِ كَالْأَخِ فِي عَدَمِ الْأَخِ) سَوَاءٌ (كَانَ) الْأَخُ (شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ) الْمُرَادُ مِنْ التَّشْبِيهِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي التَّعْصِيبِ لَا أَنَّهُ مِثْلُهُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ؛ لِأَنَّ بَنِي الْإِخْوَةِ يُخَالِفُونَ آبَاءَهُمْ فِي خَمْسَةِ مَوَاضِعَ، الْأَوَّلُ: ابْنُ الْأَخِ لَا يُعَصِّبُ أُخْتَهُ وَالْأَخُ يُعَصِّبُهَا. الثَّانِي: أَنَّ الْإِخْوَةَ لَا يَحْجُبُهُمْ الْجَدُّ وَيَحْجُبُ أَبْنَاءَهُمْ. الثَّالِثُ: أَنَّ الِاثْنَيْنِ مِنْ بَنِي الْإِخْوَةِ لَا يَحْجُبُونَ الْأُمَّ بِخِلَافِ آبَائِهِمْ. الرَّابِعُ: أَنَّ ابْنَ الْأَخِ إذَا كَانَ مَكَانَ الْأَخِ فِي الْمُشْتَرِكَةِ لَمْ تَكُنْ مُشْتَرِكَةً بَلْ يَسْقُطُ ابْنُ الْأَخِ. الْخَامِسُ: أَنَّ ابْنَ الْأَخِ لِلْأُمِّ لَا يَرِثُ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ هَذَا الْخَامِسَ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ ابْنُ الْأَخِ لِلْأُمِّ) بِخِلَافِ أَبِيهِ؛ لِأَنَّ وَلَدَ غَيْرِ الْعَاصِبِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ (وَالْأَخُ لِلْأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ الْأَخَ لِلْأَبِ) لِقُوَّةِ الشَّقِيقِ لِجَمْعِهِ رَحِمًا وَتَعْصِيبًا، وَلَيْسَ فِي الْأَخِ لِلْأَبِ إلَّا التَّعْصِيبُ (وَالْأَخُ لِلْأَبِ أَوْلَى) أَيْ أَحَقُّ بِالْمِيرَاثِ (مِنْ ابْنِ أَخٍ شَقِيقٍ) ؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مِنْهُ بِدَرَجَةٍ (وَابْنُ أَخٍ شَقِيقٍ أَوْلَى مِنْ ابْنِ أَخٍ لِأَبٍ) لِقُوَّةِ الْأَوَّلِ (وَابْنُ أَخٍ لِأَبٍ يَحْجُبُ عَمَّا لِأَبَوَيْنِ) لِإِدْلَائِهِ بِوِلَادَةِ الْأَبِ وَالْعَمِّ، إنَّمَا يُدْلِي بِوِلَادَةِ الْجَدِّ. (وَعَمٌّ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ عَمًّا لِأَبٍ وَعَمٌّ لِأَبٍ يَحْجُبُ ابْنَ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ) لِعُلُوِّهِ عَلَيْهِ بِدَرَجَةٍ (وَابْنُ عَمٍّ لِأَبَوَيْنِ يَحْجُبُ ابْنَ عَمٍّ لِأَبٍ وَهَكَذَا يَكُونُ الْأَقْرَبُ أَوْلَى) فِي الْإِخْوَةِ وَأَبْنَائِهِمْ وَالْأَعْمَامِ وَأَبْنَائِهِمْ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ حَجْبَ الْحِرْمَانِ لَا يَتَأَتَّى فِي وَلَدِ الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ، وَقَوْلُهُمْ: إنَّ الْعَاصِبَ إذَا اسْتَغْرَقَتْ الْفُرُوضُ التَّرِكَةَ يَسْقُطُ بِالنَّظَرِ إلَى الْغَالِبِ، ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ ذَوِي الْأَرْحَامِ وَهُوَ كُلُّ قَرِيبٍ لَيْسَ بِذِي سَهْمٍ وَلَا عَصَبَةٍ فَقَالَ: (وَلَا يَرِثُ بَنُو الْأَخَوَاتِ) وَأَوْلَى بَنَاتُهُنَّ (مَا كُنَّ) أَيْ شَقَائِقُ أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ؛ لِأَنَّ ابْنَ الْأُخْتِ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ لَا يَرِثُ خَالَهُ (وَلَا) يَرِثُ أَيْضًا (بَنُو الْبَنَاتِ) وَلَا بَنُو بَنَاتِهِنَّ مِنْ بَابِ (وَلَا بَنَاتُ الْأَخِ مَا كَانَ) الْأَخُ أَيْ سَوَاءٌ كَانَ شَقِيقًا أَوْ لِأَبٍ أَوْ لِأُمٍّ (وَلَا) يَرِثُ أَيْضًا (بَنَاتُ الْعَمِّ وَلَا جَدٌّ لِأُمٍّ وَلَا عَمٌّ) هُوَ (أَخُو أَبِيك لِأُمِّهِ) وَلَا جَدٌّ لِأُمِّهِ، أَوْ لِابْنِ أَخٍ لِأُمٍّ، وَلَا أُمُّ أَبِي الْأُمِّ، وَلَا الْخَالَةُ، وَلَا الْعَمَّةُ، وَلَا الْخَالُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُرَدُّ وَلَا يُدْفَعُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ وَيُدْفَعُ لِبَيْتِ الْمَالِ، وَظَاهِرُهُ كَانَ مُنْتَظِمًا لِعَدَالَةِ الْإِمَامِ أَمْ لَا عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ الطُّرْطُوشِيُّ: إذَا كَانَ الْإِمَامُ غَيْرَ عَدْلٍ يُرَدُّ الْمَالُ الزَّائِدُ عَلَى ذَوِي السِّهَامِ وَيُدْفَعُ لِذَوِي الْأَرْحَامِ، وَالْمُرَادُ بِعَدَالَةِ الْإِمَامِ أَنْ يَكُونَ يُعْطِي كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَسْقَطَ الْكَلَامَ عَلَى سَبَبِ الْإِرْثِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ إمَّا عَامٌّ كَجِهَةِ الْإِسْلَامِ فِي صَرْفِ الْمِيرَاثِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ أَوْ خَاصٌّ، وَالْخَاصُّ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا لَا يُورَثُ بِهِ إلَّا بِالْعُصُوبَةِ وَهُوَ الْعِتْقُ، وَمَا لَا يُورَثُ بِهِ إلَّا الْفَرْضُ وَهُوَ النِّكَاحُ، وَثَانِيهِمَا الْقَرَابَةُ وَالْإِرْثُ بِهَا تَارَةً يَكُونُ بِالْعُصُوبَةِ وَتَارَةً يَكُونُ بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِهِمَا، وَمَا فِي الرَّحَبِيَّةِ مِنْ قَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ وَلَا ابْنُ أَخٍ لِأُمٍّ وَلَا جَدٌّ لِأُمٍّ وَلَا أُمُّ أَبِي الْأُمِّ، وَلَا تَرِثُ أُمُّ أَبِي الْأَبِ مَعَ وَلَدِهَا أَبِي الْمَيِّتِ وَلَا تَرِثُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ مَعَ الْجَدِّ لِلْأَبِ وَلَا مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى وَلَا مِيرَاثَ لِلْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبِ مَا كَانُوا وَلَا يَرِثُ عَمٌّ مَعَ الْجَدِّ وَلَا ابْنُ أَخٍ مَعَ الْجَدِّ وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ مِنْ مَالٍ وَلَا دِيَةٍ وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَإِ مِنْ الدِّيَةِ وَيَرِثُ مِنْ الْمَالِ وَكُلُّ مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ فَلَا يَحْجُبُ وَارِثًا وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ تَرِثُ   [الفواكه الدواني] أَسْبَابُ مِيرَاثِ الْوَرَى ثَلَاثَهْ ... كُلٌّ يُفِيدُ رَبَّهُ الْوِرَاثَهْ وَهِيَ نِكَاحٌ وَوَلَاءٌ وَنَسَبُ ... مَا بَعْدَهُنَّ لِلْمَوَارِيثِ سَبَبُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ لَمْ يُوَرِّثُ بَيْتَ الْمَالِ [مَوَانِعِ الْإِرْث] وَشَرَعَ الْآنَ فِي مَوَانِعِهِ وَهِيَ سِتَّةٌ أَشَارَ لَهَا فِي التِّلْمِسَانِيَّةِ بِقَوْلِهِ: وَيَمْنَعُ الْمِيرَاثَ فَاعْلَمْ سِتَّهْ ... فَخَمْسَةٌ تَمْنَعُ مِنْهُ أَلْبَتَّةَ الْكُفْرُ وَالرِّقُّ وَقَتْلُ الْعَمْدِ ... وَالشَّكُّ وَاللِّعَانُ فَافْهَمْ قَصْدِي وَوَاحِدٌ يَمْنَعُهُ فِي الْحَالِ ... وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُعْرَ عَنْ أَشْكَالِ وَالْمُرَادُ بِالشَّكِّ مَا يَشْمَلُ الشَّكَّ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ فِي الْمَوْتِ، أَوْ فِي الْجِهَةِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْإِرْثِ، أَوْ الْوُجُودِ وَعَدَمِهِ، أَوْ الذُّكُورَةِ وَالْأُنُوثَةِ، وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ مِنْهَا ثَلَاثَةً بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ عَبْدٌ) لَا شَائِبَةَ فِيهِ وَلَا يُورَثُ (وَلَا مَنْ فِيهِ بَقِيَّةُ رِقٍّ) كَمُدَبَّرٍ وَأُمِّ وَلَدٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا رَقِيقَ وَلِسَيِّدِ الْمُعْتَقِ بَعْضُهُ جَمِيعُ إرْثِهِ، وَلَا يُورَثُ إلَّا الْمُكَاتَبُ إذَا مَاتَ عَنْ مَالٍ زَائِدٍ عَنْ كِتَابَتِهِ وَمَعَهُ فِي الْكِتَابَةِ مَنْ يُعْتِقُ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ أَيْ إرْثًا لُغَوِيًّا، أَيْ يَأْخُذُ الْمَالَ الْبَاقِيَ بَعْدَ أَدَاءِ نُجُومِ الْكِتَابَةِ؛ لِأَنَّ الْإِرْثَ لُغَةً الْبَقَاءُ لَا الْإِرْثَ الشَّرْعِيَّ؛ لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ عَبْدٌ مَا بَقِيَ عَلَيْهِ دِرْهَمٌ وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الْمَوَانِعِ الَّتِي ذَكَرَهَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ) لِمَا فِي مُسْلِمٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَرِثُ الْمُسْلِمُ الْكَافِرَ، وَلَا الْكَافِرُ الْمُسْلِمَ» قَالَ ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: وَاخْتُلِفَ فِيمَا عَدَا الْإِسْلَامَ مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ هَلْ يُحْكَمُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ كَالْمِلَّةِ الْوَاحِدَةِ أَوْ مِلَلٍ وَأَدْيَانٍ؟ فَاَلَّذِي عَلَيْهِ مَالِكٌ وَمَنْ وَافَقَهُ أَنَّ النَّصْرَانِيَّةَ مِلَّةٌ وَالْيَهُودِيَّةَ مِلَّةٌ، وَمَا عَدَاهُمَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكُفْرِ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ، فَلَا يَرِثُ يَهُودِيٌّ نَصْرَانِيًّا وَلَا عَكْسُهُ، وَكَذَا الْمَجُوسِيُّ، وَيَقَعُ التَّوَارُثُ بَيْنَ مَنْ عَدَاهُمَا مِنْ الْمَجُوسِ وَعُبَّادِ الشَّمْسِ أَوْ الْحَجَرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا مُخَالِفَ فِي دِينٍ كَمُسْلِمٍ مَعَ مُرْتَدٍّ أَوْ غَيْرِهِ، وَكَيَهُودِيٍّ مَعَ نَصْرَانِيٍّ وَسِوَاهُمَا مِلَّةٌ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ: إنَّ كَلَامَ ابْنِ مَرْزُوقٍ يُفِيدُ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ أَنَّ غَيْرَ الْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة مِلَلٌ وَهُوَ ظَاهِرُ نَصِّ الْأُمَّهَاتِ، وَأَنَّ خَلِيلًا اعْتَمَدَ عَلَى نَقْلِ ابْنِ عَبْدِ السَّلَامِ عَنْ مَالِكٍ وَفِيهِ مَقَالٌ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ هُنَا لَا يُعْلَمُ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا تَعَرَّضَ لِعَدَمِ إرْثِ الْمُسْلِمِ مِنْ الْكَافِرِ وَعَكْسِهِ، وَسَكَتَ عَنْ تَوَارُثِ الْكُفَّارِ فِيمَا بَيْنَهُمْ. (تَنْبِيهٌ) لَا يَدْخُلُ الْكَافِرُ الزِّنْدِيقُ أَوْ السَّاحِرُ أَوْ السَّابُّ إذَا قُتِلَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ مَالَهُمْ لِوَارِثِهِمْ إنْ أَنْكَرُوا مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِمْ أَوْ تَابُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَقِلُّونَ حَدًّا لَا كُفْرًا، بِخِلَافِ مَا إذَا اعْتَرَفُوا بِذَلِكَ وَأَصَرُّوا عَلَيْهِ فَإِنَّهُمْ يُقْتَلُونَ كُفْرًا وَيَكُونُ مَالُهُمْ لِبَيْتِ الْمَالِ. (وَلَا) يَرِثُ (ابْنُ الْأَخِ لِأُمٍّ وَلَا جَدٌّ لِأُمٍّ وَلَا أُمُّ أَبُو الْأُمِّ) ؛ لِأَنَّهُمْ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ (وَلَا تَرِثُ أُمُّ أَبُو الْأَبِ مَعَ وَلَدِهَا أَبُو الْمَيِّتِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْأَبَ يَحْجُبُ الْجَدَّةَ مِنْ جِهَتِهِ وَإِنْ عَلَتْ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِوَاسِطَةٍ تَحْجُبُهُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ، فَقَوْلُهُ: أُمُّ أَبِي الْمَيِّتِ بَدَلٌ مِنْ وَلَدِهَا، وَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ لَوْ قَالَ: وَلَا تَرِثُ الْجَدَّةُ مِنْ وَلَدِهَا لِيَسْلَمَ مِنْ الْإِشْكَالِ الْوَاقِعِ فِي كَلَامِهِ؛ لِأَنَّ أَوَّلَ كَلَامِهِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أُمُّ الْجَدِّ، وَآخِرَهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا أُمُّ الْأَبِ، وَإِنْ أُجِيبَ عَنْهُ بِأَنَّ الْجَدَّ وَإِنْ عَلَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ أَبٌ، فَالثَّانِي زِيَادَةُ بَيَانٍ. (وَلَا تَرِثُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ مَعَ الْجَدِّ لِلْأَبِ وَلَا مَعَ الْوَلَدِ وَوَلَدِ الْوَلَدِ ذَكَرًا كَانَ الْوَلَدُ أَوْ أُنْثَى) لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُ بِوَاحِدٍ مِنْ عَمُودَيْ النَّسَبِ، وَالْمُرَادُ بِهِمَا الْأَصْلُ وَإِنْ عَلَا وَالْفَرْعُ وَإِنْ سَفَلَ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَخَ لِلْأُمِّ يُحْجَبُ بِوَاحِدٍ مِنْ سِتَّةٍ أَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَسَقَطَ بِابْنٍ وَابْنِهِ وَبِنْتٍ وَبِنْتِ ابْنٍ وَإِنْ سَفَلَتْ وَأَبٍ وَجَدٍّ (وَ) كَذَا (لَا مِيرَاثَ لِلْإِخْوَةِ مَعَ الْأَبِ مَا كَانُوا) أَيْ أَشِقَّاءَ أَوْ لِأَبٍ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَدْلَى بِوَاسِطَةٍ لَا يَرِثُ مَعَهَا (وَ) كَذَا (لَا يَرِثُ عَمٌّ مَعَ الْجَدِّ وَلَا ابْنُ أَخٍ مَعَ الْجَدِّ) ؛ لِأَنَّ رُتْبَةَ الْأَخِ فِي رُتْبَةِ الْجَدِّ وَالْأَخُ يَحْجُبُ ابْنَهُ فَكَذَا مَا هُوَ بِمَنْزِلَتِهِ. وَأَشَارَ إلَى ثَالِثِ الْمَوَانِعِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَرِثُ قَاتِلُ الْعَمْدِ) أَيْ عَلَى جِهَةِ الْعُدْوَانِ (مِنْ مَالٍ وَلَا دِيَةٍ) لِاتِّهَامِهِ عَلَى الِاسْتِعْجَالِ بِمَوْتِ الْمُوَرَّثِ (وَ) كَذَا (لَا يَرِثُ قَاتِلُ الْخَطَإِ مِنْ الدِّيَةِ وَيَرِثُ مِنْ الْمَالِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا قَاتِلٌ عَمْدًا عُدْوَانًا وَإِنْ أَتَى بِشُبْهَةٍ كَمُخْطِئٍ مِنْ الدِّيَةِ، وَقَيَّدْنَا كَخَلِيلٍ الْعَمْدَ بِالْعُدْوَانِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 زَوْجَهَا إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ وَلَا يَرِثُهَا وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ وَاحِدَةً وَقَدْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ بَعْدَ الْعِدَّةِ . وَإِنْ طَلَّقَ الصَّحِيحُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ فَإِنْ انْقَضَتْ فَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا بَعْدَهَا وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ لَمْ تَرِثْهُ وَلَا يَرِثُهَا وَتَرِثُ الْجَدَّةُ لِلْأُمِّ السُّدُسَ وَكَذَلِكَ الَّتِي لِلْأَبِ فَإِنْ اجْتَمَعَتَا فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنْ   [الفواكه الدواني] الْعَمْدِ غَيْرِ الْعُدْوَانِ، كَقَتْلِ الْإِمَامِ الْعَدْلِ أَحَدًا مِمَّنْ يَرِثُهُ فِي حَدٍّ وَجَبَ عَلَيْهِ بِإِقْرَارٍ أَوْ بَيِّنَةٍ، وَكَقَتْلِ شَخْصٍ أَبَاهُ أَوْ أَخَاهُ فِي الْبَاغِيَةِ فَإِنَّهُ يَرِثُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ لِلرَّجُلِ قَتْلُ أَبِيهِ وَوِرْثُهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ إرْثِ قَاتِلِ الْعَمْدِ خَبَرُ: «لَيْسَ لِقَاتِلِ الْعَمْدِ شَيْءٌ» وَهَذَا فِي الْمَالِ، وَأَمَّا الْوَلَاءُ فَاخْتُلِفَ فِي إرْثِ قَاتِلِ مُسْتَحِقِّهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ، الَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ التِّلْمِسَانِيَّة إرْثُهُ وَلَفْظُهُ وَيَرِثَانِ مَعًا الْوَلَاءَ وَصُورَتُهُ: أَنَّ مَنْ قَتَلَ شَخْصًا لَهُ وَلَاءُ عِتْقٍ، وَالْقَاتِلُ وَارِثُ الشَّخْصِ الْمَذْكُورِ فَإِنَّهُ يَرِثُ مَالَهُ مِنْ الْوَلَاءِ سَوَاءٌ قَتَلَهُ عَمْدًا أَوْ خَطَأً، وَلَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّ الْمُعْتِقَ بِالْكَسْرِ إذَا قَتَلَ عَتِيقَهُ عَمْدًا يَرِثُهُ بَلْ حُكْمُهُ حُكْمُ مَنْ قَتَلَ مُوَرِّثَهُ عَمْدًا. (تَنْبِيهٌ) لَيْسَ مِنْ الْقَتْلِ الْخَطَإِ قَتْلُ الصَّبِيِّ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ، بَلْ هُوَ مِنْ الْعَمْدِ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِالنِّسْبَةِ لِعَدَمِ الْإِرْثِ مِنْ الْمَقْتُولِ، وَيُحْمَلُ قَوْلُهُمْ إنَّ عَمْدَ الصَّبِيِّ كَخَطَئِهِ بِالنِّسْبَةِ لِسُقُوطِ الْقِصَاصِ عَنْهُ، وَتَقَدَّمَ بَقِيَّةُ الْمَوَانِعِ فِي نَظْمِ التِّلْمِسَانِيَّة، وَنُوقِشَ فِي عَدِّ الْإِشْكَالِ مِنْ الْمَوَانِعِ؛ لِأَنَّهُ يُعْطَى نِصْفَ نَصِيبَيْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ مِنْ قَوْلِ التِّلْمِسَانِيَّة فِي الْحَالِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُعْطَى حَتَّى يَكْشِفَ عَنْ حَالِهِ، فَإِنْ اسْتَمَرَّ عَلَى إشْكَالِهِ وَرِثَ وَإِنْ اتَّضَحَ بِجِهَةٍ وَرِثَ بِهَا، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ فِي الْحَاجِبِ كَوْنَهُ وَارِثًا بَيَّنَ تِلْكَ الْقَاعِدَةَ بِقَوْلِهِ: (وَكُلُّ مَنْ لَا يَرِثُ بِحَالٍ) لِحُصُولِ مَانِعٍ (فَلَا يَحْجُبُ وَارِثًا) وَإِنَّمَا قُلْنَا الْغَالِبُ لِمَا اُسْتُثْنِيَ مِنْ تِلْكَ الْكُلِّيَّةِ وَهُوَ سِتُّ مَسَائِلَ الْحَاجِبُ فِيهَا غَيْرُ وَارِثٍ: أُمٌّ وَجَدٌّ وَإِخْوَةٌ لِأُمٍّ فَإِنَّهُمْ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ مِنْ الثُّلُثِ إلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ لِحَجْبِهِمْ بِالْجَدِّ. الثَّانِيَةُ: أَبَوَانِ وَإِخْوَةٌ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ إلَى السُّدُسِ وَلَا يَرِثُونَ لِحَجْبِهِمْ بِالْأَبِ. الثَّالِثَةُ: الْمُشْتَرِكَةُ إذَا كَانَ فِيهَا جَدٌّ. الرَّابِعَةُ: الْمَالِكِيَّةُ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُمٌّ وَأَخَوَانِ لِأُمٍّ وَأَخٌ لِأَبٍ وَجَدٌّ فَإِنَّ الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ يَحْجُبُونَ الْأُمَّ وَلَا يَرِثُونَ. الْخَامِسَةُ: الْمُعَادَةُ كَأَخٍ شَقِيقٍ وَأَخٍ لِأَبٍ وَجَدٌّ فَإِنَّ الشَّقِيقَ يَعُدُّ عَلَى الْجَدِّ الْأَخَ لِلْأَبِ فَيَتَقَاسَمُونَ الْمَالَ أَثْلَاثًا، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّقِيقُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ فَيَأْخُذُ مَا بِيَدِهِ، فَقَدْ حَجَبَ الْأَخُ لِلْأَبِ الْجَدَّ عَنْ النِّصْفِ إلَى الثُّلُثِ وَلَمْ يَرِثْ شَيْئًا. وَلَمَّا كَانَ الطَّلَاقُ الْبَائِنُ يَمْنَعُ التَّوَارُثَ لَا مُطْلَقًا قَالَ: (وَالْمُطَلَّقَةُ ثَلَاثًا فِي الْمَرَضِ) الْمَخُوفِ الْمُتَّصِلِ بِالْمَوْتِ (تَرِثُ زَوْجَهَا) بِشَرْطِ (إنْ مَاتَ مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ) الَّذِي وَقَعَ فِيهِ الطَّلَاقُ، وَلَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ مُعَامِلَةً لِمُطَلِّقِهَا بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ وَهُوَ مَنْعُهَا مِنْ الْإِرْثِ؛ لِأَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ إخْرَاجِ الْوَارِثِ كَمَا نَهَى عَنْ إدْخَالِهِ، وَلَا يَنْقَطِعُ إرْثُهَا مِنْ مُطَلِّقِهَا إلَّا بِالصِّحَّةِ الْبَيِّنَةِ (وَلَا يَرِثُهَا) أَيْ الْمُطَلَّقَةَ فِي الْمَرَضِ مُطَلِّقُهَا إذَا مَاتَتْ قَبْلُ لِبَيْنُونَتِهَا، وَمِثْلُ الطَّلَاقِ فِي الْمَرَضِ الْمَذْكُورِ لَوْ كَانَ طَلَاقُهَا أَوْ ظِهَارُهَا أَوْ الْإِيلَاءُ مِنْهَا مُعَلَّقًا فِي صِحَّتِهِ عَلَى دُخُولِ دَارٍ مَثَلًا ثُمَّ فَعَلَتْ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ فِي حَالِ مَرَضِ الزَّوْجِ الْمَخُوفِ فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَلَوْ قَصَدَتْ تَحْنِيثَهُ بِفِعْلِهَا الْمُعَلَّقِ عَلَيْهِ، وَإِلَى جَمِيعِ مَا ذُكِرَ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَنَفَّذَ خُلْعَ الْمَرِيضِ وَرَثَتُهُ دُونَهُ كَمُخَيَّرَةٍ وَمُمَلَّكَةٍ فِيهِ وَمُولًى مِنْهَا وَمُلَاعَنَةٍ أَوْ أَحْنَثَتْهُ فِيهِ أَوْ أَسْلَمَتْ أَوْ أُعْتِقَتْ أَوْ تَزَوَّجَتْ غَيْرَهُ وَوَرِثَتْ أَزْوَاجًا وَإِنْ فِي عِصْمَةٍ، وَإِنَّمَا يَنْقَطِعُ بِصِحَّةِ بَيِّنَةٍ. ثُمَّ شُبِّهَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنْ إرْثِهَا مِنْهُ مُطْلَقًا دُونَهُ قَوْلُهُ: (وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ الطَّلَاقُ) الْوَاقِعُ فِي الْمَرَضِ (وَاحِدَةً) رَجْعِيَّةً (وَ) الْحَالُ أَنَّهُ (قَدْ مَاتَ) الزَّوْجُ (مِنْ مَرَضِهِ ذَلِكَ) الَّذِي طَلَّقَ فِيهِ (بَعْدَ) انْقِضَاءِ (الْعِدَّةِ) فَإِنَّهَا تَرِثُهُ وَلَوْ اتَّصَلَتْ بِالْأَزْوَاجِ، وَأَمَّا لَوْ مَاتَتْ دُونَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُهَا؛ لِأَنَّهَا بَانَتْ مِنْهُ، وَمَفْهُومُ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ لَوَرِثَهَا إنْ مَاتَتْ قَبْلَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مَفْهُومُ الَّتِي قَبْلَهَا؛ لِأَنَّ الَّتِي قَبْلَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَهَذِهِ طَلَاقُهَا رَجْعِيٌّ، فَقَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ يَتَوَارَثَانِ وَبَعْدَ انْقِضَائِهَا تَرِثُهُ دُونَهُ مُعَامِلَةً لَهُ بِنَقِيضِ مَقْصُودِهِ، وَمِثْلُ الْوَاحِدَةِ الِاثْنَتَانِ، كَمَا أَنَّ مِثْلَ الثَّلَاثِ الْوَاحِدَةُ الْبَائِنَةُ. (وَ) مَفْهُومُ الْمَرِيضِ (إنْ طَلَّقَ الصَّحِيحُ امْرَأَتَهُ طَلْقَةً وَاحِدَةً) رَجْعِيَّةً أَوْ اثْنَتَيْنِ كَذَلِكَ. (فَإِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ مَا كَانَتْ فِي الْعِدَّةِ) أَيْ مُدَّةَ دَوَامِ الْعِدَّةِ؛ لِأَنَّ الرَّجْعِيَّةَ كَالزَّوْجَةِ فِي وُجُوبِ النَّفَقَةِ وَلُحُوقِ الطَّلَاقِ وَالظِّهَارِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، سِوَى تَحْرِيمِ الِاسْتِمْتَاعِ وَالدُّخُولِ عَلَيْهَا وَالْأَكْلِ مَعَهَا. (فَإِنْ انْقَضَتْ) عِدَّةُ الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ (فَلَا مِيرَاثَ بَيْنَهُمَا بَعْدَهَا) لِبَيْنُونَتِهَا وَالطَّلَاقُ فِي الصِّحَّةِ لَا تُهْمَةَ فِيهِ، وَلَا حَاجَةَ لِقَوْلِهِ بَعْدَهَا لِفَهْمِهِ مِنْ قَوْلِهِ انْقَضَتْ إلَّا زِيَادَةُ الْإِيضَاحِ. (وَمَنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي مَرَضِهِ) الْمَخُوفِ (لَمْ تَرِثْهُ وَلَا يَرِثُهَا) لِحُرْمَةِ ذَلِكَ النِّكَاحِ وَفَسَادِهِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا إلَيْهِ، وَلَوْ أَذِنَ لَهُ الْوَارِثُ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَلَا يُقَالُ: النِّكَاحُ الْفَاسِدُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ إذَا مَاتَ أَحَدُ الزَّوْجَيْنِ قَبْلَ فَسْخِهِ فِيهِ الْإِرْثُ، لِأَنَّا نَقُولُ: قَدْ اسْتَثْنَى أَهْلُ الْمَذْهَبِ نِكَاحَ الْمَرِيضِ فَإِنَّهُ لَا إرْثَ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِيهِ الْإِرْثُ إلَّا نِكَاحَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 تَكُونَ الَّتِي لِلْأُمِّ أَقْرَبَ بِدَرَجَةٍ فَتَكُونَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي فِيهَا النَّصُّ وَإِنْ كَانَتْ الَّتِي لِلْأَبِ أَقْرَبَهُمَا فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يَرِثُ عِنْدَ مَالِكٍ أَكْثَرُ مِنْ جَدَّتَيْنِ أُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتُهُمَا وَيُذْكَرُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ وَرَّثَ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ وَاحِدَةَ مِنْ قِبَلِ الْأُمِّ وَاثْنَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ أُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ أَبِي الْأَبِ وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ الْخُلَفَاءِ تَوْرِيثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ وَمِيرَاثُ الْجَدِّ إذَا انْفَرَدَ فَلَهُ الْمَالُ وَلَهُ مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ مَعَ وَلَدِ الْوَلَدِ الذَّكَرِ السُّدُسُ فَإِنْ شَرِكَهُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ غَيْرُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَلْيُقْضَ لَهُ بِالسُّدُسِ فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ كَانَ لَهُ فَإِنْ كَانَ مَعَ أَهْلِ السِّهَامِ إخْوَةٌ   [الفواكه الدواني] الْمَرِيضِ أَيْ فَلَا إرْثَ فِيهِ؛ لِأَنَّ فَسَادَهُ مِنْ جِهَةِ أَنَّ فِيهِ إدْخَالَ وَارِثٍ، وَقَدْ نُهِيَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ إدْخَالِهِ وَعَنْ إخْرَاجِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي أَنَّهُ يَصِحُّ، وَلَا يُفْسَخُ إذْ صَحَّ الْمَرِيضُ مِنْهُمَا. [إرْث الْجَدَّة] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى إرْثِ الْجَدَّةِ فَقَالَ: (وَتَرِثُ الْجَدَّةُ لِلْأُمِّ السُّدُسَ) عِنْدَ انْفِرَادِهَا (وَكَذَلِكَ) تَرِثُ الْجَدَّةُ (الَّتِي لِلْأَبِ) عِنْدَ انْفِرَادِهَا عَلَى مَذْهَبِ الْجُمْهُورِ قِيَاسًا عَلَى الَّتِي لِلْأُمِّ (فَإِنْ اجْتَمَعَتَا) وَاتَّحَدَتَا فِي الدَّرَجَةِ (فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا) سَوِيَّةً، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ عُثْمَانَ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ قَبِيصَةَ بْنِ ذُؤَيْبٍ قَالَ: «جَاءَتْ الْجَدَّةُ أَيْ الَّتِي لِلْأُمِّ إلَى أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ تَسْأَلُهُ مِيرَاثَهَا، فَقَالَ لَهَا أَبُو بَكْرٍ: مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ شَيْءٌ وَمَا عَلِمْت لَك فِي سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَيْئًا فَارْجِعِي حَتَّى أَسْأَلَ النَّاسَ، فَسَأَلَ النَّاسَ فَقَالَ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ: حَضَرْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَعْطَاهَا السُّدُسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: هَلْ مَعَك غَيْرُك؟ فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ الْأَنْصَارِيُّ، فَأَتَى بِهِ فَقَالَ مِثْلَ مَا قَالَ الْمُغِيرَةُ فَأَنْفَذَهُ أَيْ أَعْطَاهُ لَهَا أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ جَاءَتْ الْجَدَّةُ الْأُخْرَى أَيْ أُمُّ الْأَبِ إلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ تَسْأَلُهُ عَنْ مِيرَاثِهَا فَقَالَ: مَا لَك فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ، وَمَا كَانَ الْقَضَاءُ الَّذِي قَضَى بِهِ أَبُو بَكْرٍ إلَّا لِغَيْرِك وَمَا أَنَا زَائِدٌ فِي الْفَرَائِضِ شَيْئًا وَهُوَ لَكُمَا أَيْ ذَلِكَ السُّدُسُ، فَإِنْ اجْتَمَعْتُمَا فَهُوَ بَيْنَكُمَا، وَأَيَّتُكُمَا خَلَتْ بِهِ فَهُوَ لَهَا» . وَقَوْلُنَا: وَاتَّحَدَتَا فِي الدَّرَجَةِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ اخْتَلَفَتَا فِيهَا فَفِيهِمَا تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا أَنْ تَكُونَ الَّتِي لِلْأُمِّ أَقْرَبَ بِدَرَجَةٍ فَتَكُونَ أَوْلَى بِهِ؛ لِأَنَّهَا الَّتِي) وَرَدَ (فِيهَا النَّصُّ وَإِنْ كَانَتْ لِلْأَبِ أَقْرَبَهُمَا فَالسُّدُسُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَالْجَدَّةُ فَأَكْثَرُ أَيْ فُرِضَ لَهَا السُّدُسُ وَأَسْقَطَتْهَا الْأُمُّ مُطْلَقًا، وَالْأَبُ الْجَدَّةَ مِنْ جِهَتِهِ وَالْقُرْبَى مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ الْبُعْدِيِّ مِنْ جِهَةِ الْأَبِ وَإِلَّا اشْتَرَكَتَا (وَلَا يَرِثُ عِنْدَ) الْإِمَامِ (مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - (أَكْثَرُ مِنْ جَدَّتَيْنِ) فَقَدْ قَالَ: لَمْ نَعْلَمْ أَحَدًا أَيْ مِنْ طَرِيقٍ صَحِيحٍ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ وَرَّثَ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ مُنْذُ كَانَ الْإِسْلَامُ إلَى الْيَوْمِ وَهُمَا: (أُمُّ الْأَبِ وَأُمُّ الْأُمِّ وَأُمَّهَاتُهُمَا) لِقِيَامِهِمَا مَقَامَهُمَا عِنْدَ عَدَمِهِمَا كَكُلِّ مُدْلٍ بِغَيْرِهِ، وَعَلَّلَ الْقَرَافِيُّ مَا قَالَهُ مَالِكٌ بِقَوْلِهِ:؛ لِأَنَّ أَهْلَ الْمِيرَاثِ الْأَبُ وَالْأُمُّ وَأُمَّهَاتُهُمَا يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا وَبَقِيَ غَيْرُهُنَّ عَلَى الْأَصْلِ (وَيُذْكَرُ) أَيْ يُحْفَظُ (عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (أَنَّهُ وَرَّثَ) بِتَشْدِيدِ الرَّاءِ (ثَلَاثَ جَدَّاتٍ) وَتَفْصِيلُهَا: (وَاحِدٌ مِنْ قِبَلِ) أَيْ جِهَةِ (الْأُمِّ وَاثْنَتَيْنِ مِنْ قِبَلِ الْأَبِ) وَهُمَا: (أُمُّ أُمِّ الْأَبِ) وَالْمُرَادُ أُمُّ الْأَبِ (وَ) الثَّانِيَةُ (أُمُّ أَبِي الْأَبِ) ثُمَّ اسْتَشْهَدَ لِمَا قَالَهُ الْإِمَامُ بِقَوْلِهِ: (وَلَمْ يُحْفَظْ عَنْ الْخُلَفَاءِ تَوْرِيثُ أَكْثَرَ مِنْ جَدَّتَيْنِ) . وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِمَامَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - لَمْ يَتَرَجَّحْ عِنْدَهُ سِوَى هَذَا، فَلِهَذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا قَضَى بِهِ الْخُلَفَاءُ، وَلَمْ يُعَوِّلْ عَلَى مَا زَادَهُ غَيْرُهُمْ كَابْنِ مَسْعُودٍ وَزَيْدٍ وَمَسْرُوقٍ وَسُفْيَانَ وَابْنِ سِيرِينَ فِي تَوْرِيثِ بَعْضِهِمْ ثَلَاثَ جَدَّاتٍ وَبَعْضِهِمْ أَكْثَرَ، ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ إرْثِ الْجَدِّ لِلْأَبِ وَهُوَ أَحَدُ الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ يَرِثُونَ بِالْإِجْمَاعِ، وَالِاثْنَانِ الْآخَرَانِ ابْنُ الِابْنِ وَالْعَمُّ وَابْنَاهُمَا، وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْجَدَّ كَالْأَبِ عِنْدَ عَدَمِهِ فَيَرِثُ تَارَةً بِالْفَرْضِ وَتَارَةً بِالتَّعْصِيبِ وَتَارَةً يَجْمَعُ بَيْنَهُمَا، وَأَنَّهُ يَحْجُبُ مَا يَحْجُبُهُ الْأَبُ إلَّا الْإِخْوَةَ الْأَشِقَّاءَ وَاَلَّذِينَ لِلْأَبِ [مِيرَاث الْجَدّ] ، وَأَشَارَ إلَى حَالَةِ إرْثِهِ بِالتَّعْصِيبِ بِقَوْلِهِ: (وَمِيرَاثُ الْجَدِّ) لِلْأَبِ؛ لِأَنَّهُ الَّذِي يَرِثُ (إذَا انْفَرَدَ) بِأَنْ لَمْ يُوجَدْ مَعَهُ ابْنٌ لِلْمَيِّتِ وَلَا ابْنُ ابْنٍ وَلَا إخْوَةٌ (فَلَهُ الْمَالُ جَمِيعُهُ) كَالْأَبِ بِلَا خِلَافٍ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْعَاصِبِ بِالنَّفْسِ حِيَازَةُ جَمِيعِ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ، وَأَشَارَ إلَى حَالَةِ إرْثِهِ بِالْفَرْضِ بِقَوْلِهِ: (وَلَهُ) أَيْ الْجَدِّ (مَعَ الْوَلَدِ الذَّكَرِ أَوْ مَعَ وَلَدِ الْوَلَدِ الذَّكَرِ السُّدُسُ) وَمَا زَادَ عَلَيْهِ لِلْفَرْعِ الذَّكَرِ وَإِنْ سَفَلَ، وَأَشَارَ إلَى الْحَالَةِ الَّتِي يُجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ الْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ شَرِكَهُ) أَيْ الْجَدَّ (أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ) أَيْ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ (غَيْرِ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ فَلْيُقْضَ لَهُ بِالسُّدُسِ) وَالْمُرَادُ بِأَهْلِ السِّهَامِ الْبِنْتُ أَوْ بِنْتُ الِابْنِ أَوْ اثْنَتَانِ فَأَكْثَرُ مِنْهُنَّ، إذْ لَا يُفْرَضُ لَهُ السُّدُسُ مَعَ ذِي الْفَرْضِ إلَّا مَعَ الذُّكُورَاتِ وَحْدَهُنَّ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الْأَبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَيَرِثُ بِفَرْضٍ وَعُصُوبَةٍ الْأَبُ ثُمَّ الْجَدُّ مَعَ بِنْتٍ وَإِنْ سَفَلَتْ، وَأَمَّا إنْ كَانَ مَعَهُ ذُو فَرْضٍ مِنْ غَيْرِهِنَّ كَأَحَدِ الزَّوْجَيْنِ أَوْ الْأُمِّ أَوْ الْجَدَّةِ كَانَ لَهُ مَا بَقِيَ فَقَطْ تَعْصِيبًا (فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ الْمَالِ) بَعْدَ أَخْذِ الْجَدِّ سُدُسَهُ وَصَاحِبِ السَّهْمِ سَهْمَهُ (كَانَ لَهُ) أَيْ الْجَدِّ مَضْمُومًا إلَى سُدُسِهِ فَيَرِثُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ بِالْفَرْضِ وَالتَّعْصِيبِ كَمِيرَاثِ الْأَبِ مَعَ الْبِنْتِ أَوْ بِنْتِ الِابْنِ أَوْ اثْنَتَيْنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 فَالْجَدُّ مُخَيَّرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يَأْخُذُ أَيَّ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَهُ إمَّا مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ أَوْ السُّدُسُ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ غَيْرُ الْإِخْوَةِ فَهُوَ يُقَاسِمُ أَخًا أَوْ أَخَوَيْنِ أَوْ عَدْلَهُمَا أَرْبَعَ أَخَوَاتٍ فَإِنْ زَادُوا فَلَهُ الثُّلُثُ فَهُوَ يَرِثُ الثُّلُثَ مَعَ الْإِخْوَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُقَاسَمَةُ أَفْضَلَ لَهُ، وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ مَعَهُ فِي عَدَمِ الشَّقَائِقِ كَالشَّقَائِقِ فَإِنْ اجْتَمَعُوا عَادَّهُ الشَّقَائِقُ   [الفواكه الدواني] فَصَاعِدًا (تَنْبِيهٌ) فِي قَوْلِهِ: غَيْرُ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ بَعْضُ مُسَامَحَةٍ،؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ إنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ، وَالْأَخَوَاتُ إذَا كُنَّ مَعَ الْجَدِّ إنَّمَا يَرِثْنَ بِالتَّعْصِيبِ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُفْرَضُ لِأُخْتِ مَعَهُ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ وَيُقَالُ لَهَا الْغَرَّاءُ، وَأَجَابَ بَعْضٌ عَنْ الْمُصَنِّفِ بِأَنَّ الِاسْتِثْنَاءَ مُنْقَطِعٌ؛ لِأَنَّ الْإِخْوَةَ وَالْأَخَوَاتِ لَيْسَتْ مِنْ أَهْلِ السِّهَامِ أَيْ الْفُرُوضِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى إرْثِ الْجَدِّ مَعَ غَيْرِ الْإِخْوَةِ شَرَعَ فِي إرْثِهِ مَعَهُمْ وَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَجْتَمِعَ مَعَهُ إخْوَةٌ وَصَاحِبُ فَرْضٍ، وَالثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَحْضُ إخْوَةٍ، وَصَدَّرَ بِوَجْهِ اجْتِمَاعِهِ مَعَ الْإِخْوَةِ وَأَصْحَابِ السِّهَامِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ كَانَ مَعَ أَهْلِ السِّهَامِ إخْوَةٌ) أَشِقَّاءُ أَوْ لِأَبٍ مَحْضٍ ذُكُورٌ أَوْ إنَاثٌ أَوْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا. (فَالْجَدُّ مُخَيَّرٌ فِي ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ يَأْخُذُ أَيَّ ذَلِكَ أَفْضَلَ لَهُ) وَبَيَّنَ الثَّلَاثَةَ بِقَوْلِهِ: (إمَّا مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ أَوْ السُّدُسُ) يَأْخُذُهُ (مِنْ رَأْسِ الْمَالِ أَوْ ثُلُثُ مَا بَقِيَ) بَعْدَ ذَوِي الْفُرُوضِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ مَعَ ذِي فَرْضٍ مَعَهُمَا السُّدُسُ أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي أَوْ الْمُقَاسَمَةُ، فَالْمُقَاسَمَةُ أَفْضَلُ فِي جَدٍّ وَجَدَّةٍ وَأَخٍ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْجَدَّةِ وَهُوَ وَاحِدٌ مِنْ سِتَّةٍ خَمْسَةٌ فَيَخُصُّهُ بِالْمُقَاسَمَةِ اثْنَانِ وَنِصْفٌ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْ السُّدُسِ؛ لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَمِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي وَهُوَ وَاحِدٌ وَثُلُثَانِ وَالسُّدُسُ أَفْضَلُ لَهُ فِي زَوْجَةٍ وَبِنْتَيْنِ وَجَدٍّ وَأَخٍ فَأَكْثَرَ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ أَصْحَابِ الْفُرُوضِ خَمْسَةٌ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، ثُلُثُهَا وَاحِدٌ وَثُلُثَانِ وَحِصَّتُهُ مِنْهَا إنْ قَاسَمَ الْأَخَ اثْنَانِ وَنِصْفٌ وَإِنْ أَخَذَ سُدُسَ جَمِيعِ الْمَالِ أَخَذَ مِنْهَا أَرْبَعَةً وَهِيَ أَحَظُّ لَهُ مِنْ الْمُقَاسَمَةِ وَمِنْ ثُلُثِ الْبَاقِي، وَثُلُثُ الْبَاقِي أَفْضَلُ لَهُ مَعَ أُمٍّ وَعَشَرَةِ إخْوَةٍ وَجَدٍّ؛ لِأَنَّ الْبَاقِيَ بَعْدَ فَرْضِ الْأُمِّ وَهُوَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ أَحَدُ الْأَصْلَيْنِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِمَا خَمْسَةَ عَشَرَ ثُلُثُهَا خَمْسَةٌ وَهِيَ أَكْثَرُ مِمَّا يَأْخُذُهُ بِالْقِسْمَةِ، وَمِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ؛ لِأَنَّهُ يَخُصُّهُ بِالْقِسْمَةِ وَاحِدٌ، وَأَرْبَعَةُ أَجْزَاءٍ مِنْ أَحَدَ عَشَرَ جُزْءًا مِنْ سَهْمٍ وَسُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ ثَلَاثَةٌ وَقَدْ تَسْتَوِي الْمُقَاسَمَةُ، وَالسُّدُسُ كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَجَدٍّ وَأُخْتَيْنِ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ وَقَدْ تَسْتَوِي الْمُقَاسَمَةُ، وَثُلُثُ الْبَاقِي إذَا كَانَتْ الْإِخْوَةُ مِثْلَيْهِ كَأُمٍّ وَجَدٍّ وَأَخَوَيْنِ وَقَدْ تَسْتَوِي الثَّلَاثَةُ الْمُقَاسَمَةُ وَثُلُثُ الْبَاقِي وَسُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ، وَذَلِكَ فِي زَوْجٍ أَوْ بِنْتٍ وَجَدٍّ وَاثْنَيْنِ مِنْ الْإِخْوَةِ أَوْ أَرْبَعِ أَخَوَاتٍ أَوْ أَخٍ وَأُخْتَيْنِ أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ، وَتَصِحُّ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَالْجَدُّ مُخَيَّرٌ لَيْسَ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ التَّخْيِيرِ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ يُقْضَى لَهُ بِأَوْفَرَ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَكَانَ الْأَظْهَرَ، فَلَهُ الْأَحَظُّ مِنْ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ لِإِيهَامِ لَفْظِ مُخَيَّرٍ خِلَافَ الْمُرَادِ. الثَّانِي: قَدْ عَلِمْت مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ جَوَازِ اسْتِوَاءِ الْمُقَاسَمَةِ مَعَ السُّدُسِ أَوْ ثُلُثِ الْبَاقِي أَوْ الثَّلَاثِ أَنَّ أَوْ فِي قَوْلِهِ أَوْ السُّدُسُ أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي مَانِعَةُ خُلُوٍّ لَا مَانِعَةُ جَمْعٍ لِجَوَازِ الْجَمْعِ كَمَا عَرَفْت، وَأَشَارَ إلَى ثَانِي الْوَجْهَيْنِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُ مَحْضُ إخْوَةٍ بِقَوْلِهِ: (وَ) أَمَّا (إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ) أَيْ الْجَدِّ (غَيْرُ الْإِخْوَةِ) وَالْأَخَوَاتِ لِغَيْرِ أُمٍّ فَلَهُ الْخَيْرُ مِنْ الثُّلُثِ وَالْمُقَاسَمَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَهُ مَعَ الْإِخْوَةِ وَالْأَخَوَاتِ الْأَشِقَّاءِ أَوْ لِأَبٍ الْخَيْرُ مِنْ الثُّلُثِ أَوْ الْمُقَاسَمَةِ (فَهُوَ يُقَاسِمُ أَخًا وَأَخَوَيْنِ أَوْ عَدْلَهُمَا) مِنْ الْإِنَاثِ وَهُوَ (أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ) وَضَابِطُ مَسَائِلِ الْمُقَاسَمَةِ أَنْ لَا يَزِيدَ الْإِخْوَةُ عَلَى مِثْلَيْهِ (فَإِنْ زَادُوا) أَيْ الْإِخْوَةُ وَالْأَخَوَاتُ عَلَى مِثْلَيْهِ وَذَلِكَ فِي صُوَرٍ لَا حَصْرَ لَهَا (فَلَهُ الثُّلُثُ) أَيْ ثُلُثُ جَمِيعِ الْمَالِ (فَهُوَ يَرِثُ الثُّلُثَ مَعَ الْإِخْوَةِ) الصَّادِقَةِ بِمِثْلَيْهِ كَأَخَوَيْنِ أَوْ أَرْبَعِ أَخَوَاتٍ فَيَكُونُ مُسَاوِيًا لِلْمُقَاسَمَةِ (إلَّا أَنْ تَكُونَ الْمُقَاسَمَةُ أَفْضَلَ لَهُ) مِنْ الثُّلُثِ فَتَتَعَيَّنُ لَهُ الْمُقَاسَمَةُ، وَذَلِكَ بِأَنْ تَكُونَ الْإِخْوَةُ أَقَلَّ مِنْ مِثْلَيْهِ كَجَدٍّ وَأَخٍ أَوْ جَدٍّ وَأُخْتٍ أَوْ جَدٍّ وَأُخْتَيْنِ أَوْ جَدٍّ وَثَلَاثِ أَخَوَاتٍ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الثُّلُثَ يَتَعَيَّنُ إنْ زَادَتْ الْإِخْوَةُ عَلَى مِثْلَيْهِ، وَالْمُقَاسَمَةُ تَتَعَيَّنُ إنْ نَقَصَتْ عَنْ مِثْلَيْهِ، وَيَسْتَوِيَانِ إنْ كَانَتْ الْإِخْوَةُ مِثْلَيْهِ. فَهَذِهِ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ عِنْدَ عَدَمِ أَصْحَابِ السِّهَامِ، وَتَقَدَّمَ مَعَ ذَوِي السِّهَامِ سَبْعَةُ أَحْوَالٍ، فَقَدْ تَمَّتْ جُمْلَةُ الْعَشَرَةِ أَحْوَالٍ الْمَشْهُورَةِ فِي الْجَدِّ مَعَ الْإِخْوَةِ، وَهَذِهِ الْأَحْوَالُ مِمَّا يَفْتَرِقُ فِيهَا الْجَدُّ مِنْ الْأَبِ؛ لِأَنَّ الْأَبَ يَحْجُبُ سَائِرَ الْإِخْوَةِ، وَالْجَدُّ لَا يَحْجُبُ إلَّا الْإِخْوَةَ لِلْأُمِّ وَإِنَّمَا وَجَبَ لِلْجَدِّ مُقَاسَمَةُ الْإِخْوَةِ وَإِنْ كَانُوا أَقْرَبَ مِنْهُ إلَى الْمَيِّتِ؛ لِأَنَّ الَّذِي يُدْلِي بِهِ الْجَمِيعُ الْأَبُ وَهُمْ بَنُوهُ وَهُوَ أَبُوهُ وَبَنُوهُ أَقْرَبُ إلَيْهِ مِنْ أَبِيهِ، لَكِنْ لَمَّا كَانَ أَقْوَى مِنْهُمْ حَيْثُ وَرِثَ مَعَ الْبَنِينَ، وَهُمْ أَقْرَبُ مِنْهُ حَيْثُ كَانُوا وَلَدَ الْأَبِ وَجَبَتْ لَهُ الْمُقَاسَمَةُ دَفْعًا لِلنِّزَاعِ. (تَنْبِيهٌ) إرْثُ الْجَدِّ لَيْسَ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَلَا الْحَدِيثِ لِعَدَمِ وُرُودِ ذِكْرِهِ فِيهِمَا، وَإِنَّمَا إرْثُهُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْوَارِثِينَ بِالْإِجْمَاعِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْجَدُّ وَبَنُو الْبَنِينَ وَالْأَعْمَامُ وَبَنُوهُمْ، وَلِصُعُوبَةِ الْقَوْلِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 بِاَلَّذِينَ لِلْأَبِ فَمَنَعُوهُ بِهِمْ كَثْرَةَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ كَانُوا أَحَقَّ مِنْهُمْ بِذَلِكَ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَلَهَا أَخٌ لِأَبٍ أَوْ أُخْتٌ لِأَبٍ أَوْ أَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ فَتَأْخُذُ نِصْفَهَا مِمَّا حَصَلَ وَتُسَلِّمُ مَا بَقِيَ إلَيْهِمْ وَلَا يُرْبَى لِلْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ إلَّا فِي الْغَرَّاءِ وَحْدَهَا وَسَنَذْكُرُهَا بَعْدَ هَذَا وَيَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى إذَا انْفَرَدَ جَمِيعَ الْمَالِ كَانَ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلُ   [الفواكه الدواني] إرْثِ الْجَدِّ قَالَ عُمَرُ: مَنْ أَحَبَّ أَنْ يَقْتَحِمَ جَرَاثِيمَ جَهَنَّمَ فَلْيَقْضِ بَيْنَ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ، وَكَانَ عُمَرُ وَغَيْرُهُ يَقُولَانِ: دَعُونَا مِنْ مَسَائِلِ الْجَدِّ، وَمَا ذَاكَ إلَّا لِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِ وَتَفَاصِيلِهَا. (وَالْإِخْوَةُ لِلْأَبِ مَعَهُ) أَيْ الْجَدِّ (فِي عَدَمِ الشَّقَائِقِ كَالشَّقَائِقِ) فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فَلَهُ الْمُقَاسَمَةُ وَأَخْذُ الثُّلُثِ عِنْدَ عَدَمِ صَاحِبِ الْفَرْضِ، وَعِنْدَ صَاحِبِ الْفَرْضِ لَهُ الْأَوْفَرُ مِنْ سُدُسِ جَمِيعِ الْمَالِ أَوْ ثُلُثُ الْبَاقِي أَوْ الْمُقَاسَمَةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهُوَ كَالشَّقِيقِ عِنْدَ عَدَمِهِ إلَّا فِي الْحِمَارِيَّةِ وَالْمُشْتَرِكَةِ، فَإِنَّهُ لَا يُعَادِلُ الشَّقِيقَ لِسُقُوطِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ عَاصِبٌ، وَالشَّقِيقُ يَرِثُهُ بِالْفَرْضِ بِوِلَادَةِ الْأُمِّ. [اجْتِمَاعِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ وَاَلَّذِينَ لِلْأَبِ مَعَ الْجَدِّ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ اجْتِمَاعِ الْإِخْوَةِ الْأَشِقَّاءِ وَاَلَّذِينَ لِلْأَبِ مَعَ الْجَدِّ وَيُقَالُ لَهُ بَابُ الْعَادَةِ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ اجْتَمَعُوا) أَيْ الْأَشِقَّاءُ وَاَلَّذِينَ لِلْأَبِ مَعَ الْجَدِّ (عَادَّهُ الشَّقَائِقُ بِاَلَّذِينَ لِلْأَبِ) أَيْ حَاسَبَ الشَّقَائِقُ الْجَدَّ بِالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ وَأَدْخَلُوهُمْ فِي عِدَادِهِمْ (فَمَنَعُوهُ بِهِمْ كَثْرَةَ الْمِيرَاثِ ثُمَّ) بَعْدَ مَنْعِ الْجَدِّ مِنْ أَوْفَرِ حَظَّيْهِ بِسَبَبِ عَدِّ الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ (كَانُوا) أَيْ الْأَشِقَّاءُ (أَحَقَّ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْأَخِ لِلْأَبِ، الْمَفْهُومُ مِنْ الْجَمْعِ السَّابِقِ وَإِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ التَّعْبِيرَ بِلَفْظِ الْجَمْعِ (بِذَلِكَ) أَيْ الَّذِي أَخَذَهُ الْأَخُ لِلْأَبِ، مِثَالُ ذَلِكَ: أَنْ يَتْرُكَ الْمَيِّتُ جَدًّا وَأَخًا شَقِيقًا وَأَخًا لِأَبٍ، فَإِنَّ الشَّقِيقَ بَعْدَ الْأَخِ لِلْأَبِ عَلَى الْجَدِّ لِيَأْخُذَ الْجَدُّ الثُّلُثَ بِالْمُقَاسَمَةِ، ثُمَّ يَرْجِعُ الشَّقِيقُ فَيَأْخُذُ سَهْمَ الْأَخِ لِلْأَبِ، وَإِنْ كَانَ مَعَ الْأَخِ الشَّقِيقِ أُخْتٌ لِأَبٍ فَإِنَّ الْقِسْمَةَ تَكُونُ مِنْ خَمْسَةٍ: لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ سَهْمَانِ وَلِلْأُخْتِ سَهْمٌ، ثُمَّ يَرْجِعُ الْأَخُ عَلَى الْأُخْتِ فَيَأْخُذُ مَا بِيَدِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَعَادَ الشَّقِيقُ بِغَيْرِهِ ثُمَّ رَجَعَ كَالشَّقِيقَةِ بِمَالِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ وَلِذَلِكَ قَالَ: (إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَ الْجَدِّ أُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَلَهَا أَخٌ لِأَبٍ أَوْ) لَهَا (أَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ فَتَأْخُذُ) تِلْكَ الشَّقِيقَةُ (نِصْفَهَا مِمَّا حَصَلَ) لَهَا وَلِلْأَخِ لِلْأَبِ كَمَا لَوْ كَانَتْ مُنْفَرِدَةً، وَلِذَلِكَ قَالَ خَلِيلٌ: كَالشَّقِيقَةِ بِمَالِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ (وَ) بَعْدَ أَخْذِهَا نِصْفَهَا (تُسَلِّمُ مَا بَقِيَ إلَيْهِمْ) أَيْ إلَى الْإِخْوَةِ لِلْأَبِ إنْ بَقِيَ شَيْءٌ، وَمِثْلُ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى مِنْ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ: جَدٌّ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأَخٌ لِأَبٍ فَهِيَ مِنْ خَمْسٍ؛ لِأَنَّ مَا لَا فَرْضَ فِيهَا فَأَصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا، وَالْأَخَوَاتُ يُعَصِّبُهُنَّ الْجَدُّ، فَلِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلْأَخِ مِثْلُهُ وَلِلْأُخْتِ وَاحِدٌ، ثُمَّ تَرْجِعُ الشَّقِيقَةُ عَلَى الْأَخِ لِلْأَبِ بِتَمَامِ النِّصْفِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ تَأْخُذُهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ جَدٌّ وَلَا نِصْفَ لِلْخَمْسَةِ صَحِيحٌ، فَتُضْرَبُ فِي مَقَامِ النِّصْفِ يَحْصُلُ عَشَرَةٌ، فَتَأْخُذُ الشَّقِيقَةُ خَمْسَةً وَالْجَدُّ أَرْبَعَةً وَالْأَخُ لِلْأَبِ لَهُ السَّهْمُ الْبَاقِي؛ وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ وَهِيَ الَّتِي لَمْ يَبْقَ فِيهَا شَيْءٌ: جَدٌّ وَشَقِيقَةٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يُعَصِّبُ الْأَخَوَاتِ، ثُمَّ تَرْجِعُ الشَّقِيقَةُ عَلَى الَّتِي لِلْأَبِ لِيَكْمُلَ لَهَا النِّصْفُ وَلَمْ يَبْقَ بِيَدِ الَّتِي لِلْأَبِ شَيْءٌ. وَمِثَالُ الْمَسْأَلَةِ الثَّالِثَةِ: جَدٌّ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأَخٌ وَأُخْتٌ لِأَبٍ مِنْ سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَكَذَلِكَ الْأَخُ وَلِكُلِّ أُخْتٍ سَهْمٌ، ثُمَّ تَرْجِعُ الشَّقِيقَةُ عَلَيْهِمَا بِتَمَامِ نِصْفِهَا فَتَأْخُذُ مِمَّا بِيَدِ الْأَخِ وَاحِدًا وَتَأْخُذُ مِنْ الْأُخْتِ السَّهْمَ الَّذِي بِيَدِهَا، ثُمَّ تَرْجِعُ الْأُخْتُ لِلْأَبِ عَلَى أَخِيهَا فَتُقَاسِمُهُ فِي السَّهْمِ الَّذِي بِيَدِهِ عَلَى ثَلَاثَةٍ لَا تَنْقَسِمُ، فَتُضْرَبُ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةٌ فِي ثَلَاثَةٍ بِثَمَانِيَةَ عَشَرَ كُلُّ مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ أَصْلِهَا اتَّخَذَهُ مَضْرُوبًا فِي ثَلَاثَةٍ، وَلِذَا قَالَ خَلِيلٌ: ثُمَّ رَجَعَ كَالشَّقِيقَةِ بِمَالِهَا لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهَا جَدٌّ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ شَقِيقٌ ذَكَرٌ فَإِنَّهُ يَرْجِعُ بِجَمِيعِ مَا أَخَذَهُ مَنْ كَانَ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَبِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ شَقِيقٌ بَلْ شَقِيقَةٌ فَإِنَّهَا تَسْتَكْمِلُ نِصْفَهَا أَوْ الثُّلُثَيْنِ إنْ تَعَدَّدَتْ، وَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ أَخَذَهُ مَنْ وُجِدَ مِنْ نَاحِيَةِ الْأَبِ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى أَوْ هُمَا، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ مَعَهُمْ ذُو سَهْمٍ أَمْ لَا، فَإِنْ قِيلَ: لِمَ عَادَتْ الْأَشِقَّاءُ بِالْإِخْوَةِ لِلْأَبِ مَعَ حَجْبِهِمْ بِهِمْ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْأَشِقَّاءَ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْجَدِّ بِإِرْثِهِمْ مَعَهُ لَوْ انْفَرَدُوا وَلَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى حَجْبِهِمْ وَيَقُولُونَ لَهُ فَكَذَلِكَ لَا تَمْنَعُهُمْ مَعَ وُجُودِنَا، فَإِذَا أَخَذُوا مَعَ الشَّقِيقِ فَلَهُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ، وَلَمَّا كَانَ إرْثُ الْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ بِالتَّعْصِيبِ؛ لِأَنَّهُ مَعَهُنَّ كَأَخٍ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَلَا يُرْبَى) أَيْ لَا يُفْرَضُ (لِلْأَخَوَاتِ مَعَهُ) أَيْ مَعَ الْجَدِّ وَإِنَّمَا يَرِثْنَ مَعَهُ بِالتَّعْصِيبِ (إلَّا فِي الْغَرَّاءِ) بِالْمَدِّ (وَحْدَهَا) وَيُقَالُ لَهَا الْأَكْدَرِيَّةُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يُفْرَضُ لِأُخْتٍ مَعَهُ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ وَالْغَرَّاءِ، فَإِنَّهُ يُفْرَضُ لِلْأُخْتِ وَالْأَخَوَاتِ مَعَ الْجَدِّ ثُمَّ يَرْجِعْنَ إلَى الْمُقَاسَمَةِ (وَسَنَذْكُرُهَا) أَيْ صُورَتَهَا وَبَيَانَهَا (بَعْدَ هَذَا) آخِرَ الْبَابِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. [مَنْ يَرِثُ بِالْوَلَاءِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَنْ يَرِثُ بِالنِّكَاحِ وَالنَّسَبِ شَرَعَ فِيمَنْ يَرِثُ بِالْوَلَاءِ وَهُوَ صِفَةٌ حُكْمِيَّةٌ تُوجِبُ لِمَوْصُوفِهَا حُكْمَ الْعُصُوبَةِ عِنْدَ عَدَمِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْوَلَاءُ لُحْمَةٌ كَلُحْمَةِ النَّسَبِ» فَقَالَ: (وَيَرِثُ الْمَوْلَى الْأَعْلَى) وَهُوَ الْمُعْتِقُ بِالْكَسْرِ (إذَا انْفَرَدَ) عَنْ وَارِثٍ لِلْمَيِّتِ سَوَاءٌ (جَمِيعَ الْمَالِ) ؛ لِأَنَّ الْعَاصِبَ بِالنَّفْسِ يَجُوزُ جَمْعُ الْمَالِ عِنْدَ انْفِرَادِهِ (رَجُلًا كَانَ أَوْ امْرَأَةً) وَأَمَّا الْأَسْفَلُ وَهُوَ الْمُعْتَقُ بِالْفَتْحِ فَإِنَّهُ لَا يَرِثُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 سَهْمٍ كَانَ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ أَهْلِ السِّهَامِ وَلَا يَرِثُ الْمَوْلَى مَعَ الْعَصَبَةِ وَهُوَ أَحَقُّ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ الَّذِينَ لَا سَهْمَ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَرِثُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَّا مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا يَرِثُ النِّسَاءُ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا مَا أَعْتَقْنَ أَوْ جَرَّهُ مِنْ أَعْتَقْنَ إلَيْهِنَّ بِوِلَادَةٍ أَوْ عِتْقٍ وَإِذَا اجْتَمَعَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَكَانَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ أُدْخِلَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ الضَّرَرُ وَقُسِمَتْ الْفَرِيضَةُ عَلَى مَبْلَغِ سِهَامِهِمْ وَلَا يُعَالُ لِلْأُخْتِ مَعَ الْجَدِّ إلَّا فِي الْغَرَّاءِ   [الفواكه الدواني] سَيِّدَهُ الَّذِي أَعْتَقَهُ (فَإِنْ كَانَ مَعَهُ أَهْلُ سَهْمٍ) كَزَوْجَةٍ أَوْ بِنْتٍ أَوْ هُمَا (كَانَ لِلْمَوْلَى مَا بَقِيَ بَعْدَ أَهْلِ السِّهَامِ) وَلَمَّا قَدَّمْنَا أَنَّ الْوَلَاءَ لَا يَكُونُ لَهُ حُكْمُ عُصُوبَةِ النَّسَبِ إلَّا عِنْدَ عَدَمِهَا قَالَ: (وَلَا يَرِثُ الْمَوْلَى) الْأَعْلَى (مَعَ عَصَبَةِ النَّسَبِ) لِلْعَتِيقِ؛ لِأَنَّ الْوَلَاءَ فَرْعٌ وَالنَّسَبَ أَصْلٌ، وَلَا حُكْمَ لِلْفَرْعِ مَعَ وُجُودِ الْأَصْلِ. (وَهُوَ) أَيْ الْمَوْلَى (أَحَقُّ) بِالْمِيرَاثِ (مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ) وَهُمْ غَيْرُ الْعَصَبَةِ (الَّذِينَ لَا سَهْمَ لَهُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا يَرِثُ مِنْ ذَوِي الْأَرْحَامِ إلَّا مَنْ لَهُ سَهْمٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ) كَالْإِخْوَةِ لِلْأُمِّ فَإِنَّهُمْ يَرِثُونَ فَرْضَهُمْ وَيَأْخُذُ الْمَوْلَى الْبَاقِيَ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْأَخُ لِلْأُمِّ ابْنًا لَا عَمًّا، وَإِلَّا أَخَذَ الْبَاقِيَ تَعْصِيبًا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ الْمَوْلَى مَوْجُودًا فَمُعْتِقُهُ ثُمَّ عَصَبَتُهُ. قَالَ ابْنُ الْحَاجِبِ: ثُمَّ مُعْتِقُ الْمُعْتَقِ ثُمَّ عَصَبَتُهُ (وَلَا يَرِثُ النِّسَاءَ مِنْ الْوَلَاءِ إلَّا) وَلَاءَ (مَا) الْأَوْلَى مِنْ (أَعْتَقْنَ) أَيْ بَاشَرْنَ عِتْقَهُ وَلَوْ بِالْكِتَابَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا تَصِيرُ بِهِ الرَّقَبَةُ حُرَّةً (أَوْ جَرَّهُ مَنْ أَعْتَقْنَ إلَيْهِنَّ بِوِلَادَةٍ أَوْ عِتْقٍ) كَأَنْ تُعْتِقَ الْمَرْأَةُ رَقَبَةً ثُمَّ تَتَزَوَّجَ تِلْكَ الرَّقَبَةَ وَتَلِدَ وَلَدًا وَيَمُوتَ عَلَى مَالٍ، أَوْ تُعْتِقَ تِلْكَ الرَّقَبَةُ رَقَبَةً أُخْرَى وَتَمُوتَ السُّفْلَى عَنْ مَالٍ، وَلَا عَاصِبَ لِلرَّقَبَةِ الْمَيِّتَةِ مِنْ النَّسَبِ فَيَرِثَهَا مَنْ أَعْتَقَ مُعْتِقَهَا. [أَحْكَام الْعَوْل] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْعَوْلِ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَفِي الِاصْطِلَاحِ الزِّيَادَةُ فِي السِّهَامِ وَالنَّقْصُ فِي الْأَنْصِبَاءِ فَقَالَ: (وَإِذَا اجْتَمَعَ مَنْ لَهُ سَهْمٌ مَعْلُومٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ) أَوْ فِي السُّنَّةِ أَوْ ثَبَتَ بِالْإِجْمَاعِ (وَ) قَدْ (كَانَ ذَلِكَ) الْمُجْتَمِعُ مِنْ سِهَامِ مَنْ لَهُ شَيْءٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ (أَكْثَرَ مِنْ الْمَالِ) بِأَنْ تَكُونَ السِّهَامُ نِصْفًا وَنِصْفًا وَسُدُسًا، وَالْمَالُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَسْأَلَةِ سِتَّةً (أُدْخِلَ عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ الضَّرَرُ) بِالنَّقْصِ فِي أَنْصِبَائِهِمْ مَعَ زِيَادَةِ عَدَمِ السِّهَامِ (وَقُسِمَتْ الْفَرِيضَةُ عَلَى مَبْلَغِ سِهَامِهِمْ) كَمَيِّتٍ وَجَدٍّ عِنْدَهُ سِتَّةُ دَرَاهِمَ وَعَلَيْهِ لِرَجُلٍ ثَلَاثَةٌ وَلِآخَرَ أَرْبَعَةٌ، فَإِنَّ السِّتَّةَ تُجْعَلُ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ زَادَتْ الْفُرُوضُ أُعِيلَتْ، وَحَقِيقَةُ الْعَوْلِ كَمَا قَدَّمْنَا الزِّيَادَةُ فِي السِّهَامِ وَالنَّقْصُ فِي الْأَنْصِبَاءِ وَالْمَفْرُوضُ الَّتِي تَعُولُ ثَلَاثَةً السِّتَّةُ وَالِاثْنَا عَشَرَ وَالْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ. فَالسِّتَّةُ تَعُولُ عَلَى تَوَالِي الْأَعْدَادِ إلَى عَشَرَةٍ فَتَعُولُ إلَى سَبْعَةٍ بِمِثْلِ سُدُسِهَا، كَزَوْجٍ وَأُخْتَيْنِ لِغَيْرِ أُمٍّ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ ثَلَاثَةٌ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَانِ أَرْبَعَةٌ فَأَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ وَعَالَتْ إلَى سَبْعَةٍ، فَقَدْ نَقَصَ لِكُلِّ وَاحِدٍ سُبْعُ مَا بِيَدِهِ، وَهَذِهِ أَوَّلُ فَرِيضَةٍ عَالَتْ فِي الْإِسْلَامِ فِي خِلَافَةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَجَمَعَ الصَّحَابَةُ فَقَالَ: فَرَضَ اللَّهُ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ وَلِلْأُخْتَيْنِ الثُّلُثَيْنِ، فَإِنْ بَدَأْت بِالزَّوْجِ لَمْ يَبْقَ لِلْأُخْتَيْنِ حَقُّهُمَا، وَإِنْ بَدَأْت بِالْأُخْتَيْنِ لَمْ يَبْقَ لِلزَّوْجِ حَقُّهُ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ، فَأَشَارَ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بِالْعَوْلِ وَقَالَ: أَرَأَيْت لَوْ مَاتَ رَجُلٌ وَتَرَكَ سِتَّةَ دَرَاهِمَ وَلِرَجُلٍ عَلَيْهِ ثَلَاثَةٌ وَلِآخَرَ أَرْبَعَةٌ أَلَيْسَ يُجْعَلُ الْمَالُ سَبْعَةَ أَجْزَاءٍ؟ فَأَخَذَتْ الصَّحَابَةُ بِقَوْلِهِ، وَأَظْهَرَ ابْنُ عَبَّاسٍ الْخِلَافَ فِيهِ وَأَنْكَرَ الْعَوْلَ حَتَّى قَالَ: إنَّ الَّذِي أَحْصَى رَمْلَ عَالِجٍ عَدَدًا لَمْ يَجْعَلْ فِي الْمَالِ نِصْفًا وَثُلُثًا،؛ لِأَنَّ الْمَسْأَلَةَ الَّتِي وَقَعَتْ فِي زَمَانِ مُخَالَفَتِهِ كَانَتْ زَوْجًا وَأُخْتًا، وَأَمَّا وَهِيَ الْمَقْصُودَةُ بِهَذَا التَّعْبِيرِ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ صِحَّةُ الْعَوْلِ، وَضَعْفُ كَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَتَعُولُ إلَى ثَمَانِيَةٍ بِمِثْلِ ثُلُثِهَا، كَزَوْجٍ وَأُمِّ أُخْتٍ لِأَبٍ أَوْ لِأَبَوَيْنِ لِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْأُخْتِ النِّصْفُ وَمَجْمُوعُهَا ثَمَانِيَةٌ، وَأَصْلُهَا سِتَّةٌ وَتَعُولُ إلَى تِسْعَةٍ بِمِثْلِ نِصْفِهَا، كَزَوْجٍ وَأُمِّ ثَلَاثِ أَخَوَاتٍ مُتَفَرِّقَاتٍ، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ أَيْضًا، وَلِكُلٍّ مِنْ الْبَاقِينَ السُّدُسُ وَمَجْمُوعُهَا تِسْعَةٌ فَأَصْلُهَا سِتَّةٌ، وَتَعُولُ إلَى عَشَرَةٍ بِمِثْلِ ثُلُثَيْهَا، كَزَوْجٍ وَأُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَأُمٍّ وَوَلَدَيْهَا، فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ وَلِلْأُخْتِ لِلْأَبِ السُّدُسُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِوَلَدَيْهَا الثُّلُثُ وَمَجْمُوعُهَا عَشَرَةٌ. وَأَمَّا الِاثْنَا عَشَرَ فَتَعُولُ ثَلَاثَ عَوْلَاتٍ عَلَى تَوَالِي الْأَفْرَادِ، فَتَعُولُ إلَى ثَلَاثَةَ عَشَرَ بِمِثْلِ نِصْفِ سُدُسِهَا، كَزَوْجٍ وَأُمٍّ وَبِنْتَيْنِ فَلِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأُمِّ السُّدُسُ وَلِلِابْنَتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَجْمُوعُهُمَا مِنْ الِاثْنَيْ عَشْرَةَ ثَلَاثَةَ عَشَرَ، وَتَعُولُ إلَى خَمْسَةَ عَشَرَ بِمِثْلِ رُبْعِهَا، كَزَوْجٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ لِلزَّوْجِ الرُّبُعُ وَلِلْأَبَوَيْنِ سُدُسَانِ وَلِلْبِنْتَيْنِ الثُّلُثَانِ وَمَجْمُوعُهُمَا خَمْسَةَ عَشَرَ، وَتَعُولُ إلَى سَبْعَةَ عَشَرَ بِمِثْلِ رُبْعِهَا وَسُدُسِهَا، كَزَوْجَةٍ وَأُمِّ وَلَدَيْهَا وَأُخْتٍ لِأَبَوَيْنِ وَأُخْتٍ لِأَبٍ وَمَجْمُوعُهَا مِنْ الِاثْنَيْ عَشَرَ سَبْعَةَ عَشَرَ، وَأَمَّا الْأَرْبَعَةُ وَالْعِشْرُونَ فَتَعُولُ عَوْلَةً وَاحِدَةً إلَى سَبْعَةٍ وَعِشْرِينَ وَتُسَمَّى الْبَخِيلَةَ وَالْمِنْبَرِيَّةَ فَتَعُولُ بِمِثْلِ ثَمَنِهَا، كَزَوْجَةٍ وَأَبَوَيْنِ وَابْنَتَيْنِ، وَلَمَّا سُئِلَ عَنْهَا سَيِّدُنَا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ فِي خُطْبَتِهِ: صَارَ ثَمَنُهَا تِسْعًا، وَلَا يَدْخُلُ الْعَوْلُ بَاقِيَ الْأُصُولِ، وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ، وَجُمْلَةُ الْأُصُولِ سَبْعَةٌ اثْنَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَسِتَّةٌ وَاثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، وَبَقِيَ اثْنَانِ مُخْتَلَفٌ فِيهِمَا وَهُمَا ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِكُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا سُدُسُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ وَمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 وَحْدَهَا وَهِيَ امْرَأَةٌ تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخْتَهَا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَجَدِّهَا فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ فَلَمَّا فَرَغَ الْمَالُ أُعِيلَ لِلْأُخْتِ بِالنِّصْفِ ثَلَاثَةٌ ثُمَّ جُمِعَ إلَيْهَا سَهْمُ الْجَدِّ فَيُقْسَمُ جَمِيعُ ذَلِكَ بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ لَهَا وَالثُّلُثَيْنِ لَهُ فَتَبْلُغُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ سَهْمًا.   [الفواكه الدواني] بَقِيَ وَسِتَّةٌ وَثَلَاثُونَ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فِيهَا سُدُسُ وَرُبْعُ وَثُلُثُ مَا بَقِيَ، وَمِثَالُ الْأَوَّلِ جَدَّةٌ وَجَدٌّ وَإِخْوَةٌ، وَمِثَالُ الثَّانِي هَؤُلَاءِ بِزِيَادَةِ زَوْجٍ وَالْأُصُولِ، قَالَ خَلِيلٌ: وَالْأُصُولُ اثْنَانِ وَأَرْبَعَةٌ وَثَمَانِيَةٌ وَثَلَاثَةٌ وَسِتَّةٌ وَاثْنَا عَشَرَ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ، فَالنِّصْفُ مِنْ اثْنَيْنِ، وَالرُّبُعُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَالثُّمُنُ مِنْ ثَمَانِيَةٍ، وَالثُّلُثُ مِنْ ثَلَاثَةٍ، وَالسُّدُسُ مِنْ سِتَّةٍ، وَالرُّبُعُ وَالثُّلُثُ أَوْ السُّدُسُ مِنْ اثْنَيْ عَشَرَ، وَالثُّمُنُ وَالسُّدُسُ أَوْ الثُّلُثُ مِنْ أَرْبَعَةٍ وَعِشْرِينَ، وَأَصْلُ الْفَرِيضَةِ أَقَلُّ عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهَا فَرْضُهَا أَوْ فُرُوضُهَا. (فَائِدَةٌ) إذَا أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا عَالَتْ بِهِ الْمَسْأَلَةُ فَانْسُبْهُ إلَيْهَا بِغَيْرِ عَوْلِهَا، وَإِنْ أَرَدْت أَنْ تَعْرِفَ مَا نَقَصَ لِكُلِّ وَاحِدٍ بِسَبَبِ الْعَوْلِ فَانْسُبْ مَا عَالَتْ بِهِ إلَيْهَا مَعَ عَوْلِهَا كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي تَصْرِيرِ الْمَسَائِلِ الْعَائِلَةِ. [كَيْفِيَّةُ تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ وَتَأْصِيلِهَا وَكَيْفِيَّةُ قَسْمِ التَّرِكَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْغَرَّاءِ الَّتِي وَعَدَ بِهَا فِيمَا سَبَقَ بِقَوْلِهِ هُنَا: (وَلَا يُعَالُ لِلْأُخْتِ) الَّتِي تَرِثُ (مَعَ الْجَدِّ) أَيْ لَا يُفْرَضُ لَهَا مَعَهُ بَلْ لَا تَرِثُ مَعَهُ إلَّا بِالتَّعْصِيبِ؛ لِأَنَّهُ مَعَهَا كَأَخِيهَا كَإِرْثِهَا مَعَ الْإِخْوَةِ (إلَّا فِي الْغَرَّاءِ وَحْدَهَا) وَيُقَالُ لَهَا الْأَكْدَرِيَّةُ (وَهِيَ امْرَأَةٌ) مَاتَتْ وَ (تَرَكَتْ زَوْجَهَا وَأُمَّهَا وَأُخْتَهَا لِأَبَوَيْنِ أَوْ لِأَبٍ وَجَدَّهَا) لِأَبِيهَا أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا نِصْفًا وَثُلُثًا (فَلِلزَّوْجِ النِّصْفُ) ثَلَاثَةٌ (وَلِلْأُمِّ الثُّلُثُ) اثْنَانِ (وَلِلْجَدِّ السُّدُسُ) وَاحِدٌ بَقِيَّةُ السِّتَّةِ (فَلَمَّا فَرَغَ الْمَالُ أُعِيلَ لِلْأُخْتِ بِالنِّصْفِ) وَهُوَ (ثَلَاثَةُ) أَسْهُمٍ وُجُوبًا؛ لِأَنَّهُ إنْ لَمْ يُعَلْ لَهَا إمَّا أَنْ تُقَاسِمَ الْجَدَّ فِي سُدُسِهِ فَيَنْقُصُ سُدُسُهُ وَهُوَ لَا يَنْزِلُ عَنْهُ بِحَالٍ، وَإِمَّا أَنْ لَا تُقَاسِمَ فَتُحْرَمُ مَعَ عَدَمِ مَنْ يَحْجُبُهَا وَكُلٌّ مِنْ هَذَيْنِ لَا يَصِحُّ. (ثُمَّ) بَعْدَ الْعَوْلِ لَهَا بِثَلَاثَةٍ (جُمِعَ) الْقَاسِمُ (إلَيْهَا) أَيْ الثَّلَاثَةُ (سَهْمُ الْجَدِّ فَيُقْسَمُ جَمِيعُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ سَهْمِهِ وَثَلَاثَتِهَا (بَيْنَهُمَا عَلَى الثُّلُثِ لَهُمَا وَالثُّلُثَيْنِ) ؛ لِأَنَّهُ كَأَخِيهَا، وَكُلُّ ذَكَرٍ وَأُنْثَى فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ يَجِبُ تَفْضِيلُ الذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَلَا ثُلُثَ لِلْأَرْبَعَةِ صَحِيحٌ، فَتُضْرَبُ الرُّءُوسُ الْمُنْكَسِرُ عَلَيْهَا سِهَامُهَا وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ بِعَوْلِهَا وَهُوَ تِسْعَةٌ (فَتَبْلُغُ سَبْعَةً وَعِشْرِينَ سَهْمًا) ثُمَّ يَقُولُ: مَنْ لَهُ شَيْءٌ مِنْ التِّسْعَةِ أَخَذَهُ مَضْرُوبًا فِي ثَلَاثَةٍ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ بِرَأْسَيْنِ وَالْأُخْتَ بِرَأْسٍ وَالثَّلَاثَةَ جُزْءُ السَّهْمِ، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِيهَا بِتِسْعَةٍ، لِلْأُمِّ اثْنَانِ مَضْرُوبَةٌ فِيهَا بِسِتَّةٍ، وَلِلْأُخْتِ وَالْجَدِّ أَرْبَعَةٌ مَضْرُوبَةٌ فِيهَا بِاثْنَيْ عَشَرَ لِلْجَدِّ ثَمَانِيَةٌ وَلِلْأُخْتِ أَرْبَعَةٌ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَدَّ وَالْأُخْتَ يُفْرَضُ لَهُمَا أَوَّلًا ثُمَّ يَرْجِعَانِ إلَى الْمُقَاسَمَةِ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ وَيُلْغَزُ بِهَا مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا: أَنْ يُقَالَ أَرْبَعَةٌ وَرِثُوا مَيِّتًا أَخَذَ أَحَدُهُمْ ثُلُثَ مَالِهِ وَهُوَ الزَّوْجُ، وَأَخَذَ الثَّانِي ثُلُثَ الْبَاقِي وَهُوَ الْأُمُّ، وَأَخَذَ الثَّالِثُ ثُلُثَ بَاقِي الْبَاقِي وَهُوَ الْأُخْتُ، وَأَخَذَ الرَّابِعُ الْبَاقِيَ وَهُوَ الْجَدُّ. ثَانِيهِمَا: أَنْ يُقَالَ مَا فَرِيضَةُ أُخِّرَ قَسْمُهَا لِوَضْعِ الْحَمْلِ، فَإِنْ كَانَ أُنْثَى وَرِثَ، وَإِنْ كَانَ ذَكَرًا لَا يَرِثُ، وَصُورَتُهَا: مَاتَتْ امْرَأَةٌ عَنْ زَوْجِهَا وَجَدِّهَا وَأُمُّهَا حَامِلٌ، فَإِنْ وَضَعَتْ أُنْثَى فَهِيَ الْأَكْدَرِيَّةُ، وَإِنْ وَضَعَتْ ذَكَرًا فَعَاصِبٌ لَمْ يَفْضُلْ لَهُ شَيْءٌ. وَاحْتَرَزَ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: أُخْتٌ عَمَّا لَوْ كَانَ مَعَ الْجَدِّ أُخْتَانِ أَوْ أَكْثَرُ لِغَيْرِ أُمٍّ فَإِنَّهُ يَأْخُذُ السُّدُسَ وَلَهُمَا أَوْ لَهُنَّ السُّدُسُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَوْضِعَ الْأُخْتِ أَخٌ لِأَبٍ أَوْ شَقِيقٌ وَمَعَهُ إخْوَةٌ لِأُمٍّ اثْنَانِ فَصَاعِدًا لَمْ يَكُنْ لِلْأَخِ شَيْءٌ؛ لِأَنَّ الْجَدَّ يَقُولُ لَهُ: لَوْ كُنْت دُونِي لَمْ تَرِثْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ الثُّلُثَ الْبَاقِيَ يَأْخُذُهُ أَوْلَادُ الْأُمِّ، وَأَنَا أَحْجُبُ كُلَّ مَنْ يَرِثُ مِنْ جِهَةِ الْأُمِّ، فَيَأْخُذُ الْجَدُّ حِينَئِذٍ الثُّلُثَ كَامِلًا وَتُسَمَّى الْمَالِكِيَّةَ، وَإِنَّمَا سُمِّيَتْ بِالْغَرَّاءِ إمَّا؛ لِأَنَّ الْجَدَّ غَرَّهَا بِفَرْضِ الثَّلَاثَةِ لَهَا ثُمَّ رَجَعَ وَقَاسَمَهَا، وَقِيلَ: سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِشُهْرَتِهَا فِي مَسَائِلِ الْجَدِّ كَغُرَّةِ الْفَرَسِ، وَسُمِّيَتْ بِالْأَكْدَرِيَّةِ أَيْضًا، قِيلَ:؛ لِأَنَّهَا كَدَّرَتْ عَلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ مَذْهَبَهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّهُ لَا يَفْرِضُ فِي بَابِ الْجَدِّ وَالْإِخْوَةِ لِلْأُخْتِ، وَإِنَّمَا يَرِثُونَ مَعَ الْجَدِّ بِالْعَصَبِ وَلَا عَوْلَ وَلَا فَرْضَ وَقَدْ فُرِضَ لَهَا وَأُعِيلَ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ وَلَا يُعَالُ أَيْ لَا يُفْرَضُ لِلْأُخْتِ مَعَ الْجَدِّ إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ، اعْتَرَضَهُ الْعَلَّامَةُ الْمَارْدِينِيُّ، بِمَا مُحَصِّلُهُ: كَيْفَ يُصِرُّونَ الْفَرْضَ لِلْأُخْتِ مَعَ الْجَدِّ فِي الْغَرَّاءِ مَعَ أَنَّهَا يُفْرَضُ لَهَا مَعَهُ فِي مَسَائِلَ كَثِيرَةٍ سِوَاهَا مِنْهَا جَدٌّ وَشَقِيقَةٌ وَأَخَوَانِ أَوْ أَخٌ وَأُخْتَانِ أَوْ أَرْبَعُ أَخَوَاتٍ أَوْ أَكْثَرُ لِأَبٍ، فَإِنَّهُ يُفْرَضُ لِلْجَدِّ الثُّلُثُ وَلِلشَّقِيقَةِ النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِوَلَدِ الْأَبِ بِالْعُصُوبَةِ، أَصْلُهَا مِنْ سِتَّةٍ لِلْجَدِّ سَهْمَانِ وَلِلشَّقِيقَةِ ثَلَاثَةٌ وَلِوَلَدِ الْأَبِ سَهْمٌ عَلَى عَدَدِ رُءُوسِهِمْ، وَيَخْتَلِفُ التَّصْحِيحُ بِحَسَبِ رُءُوسِهِمْ، ثُمَّ ذَكَرَ صُوَرًا أُخَرَ، وَأَجَابَ تِلْمِيذُهُ الْعَلَّامَةُ التَّتَّائِيُّ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّ الْحَصْرَ إضَافِيٌّ لَا حَقِيقِيٌّ؛ لِأَنَّهُ قَالَ: وَأَجَبْته بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِ الْفِرَاضِ لَا يُفْرَضُ لَهَا إلَّا فِي الْأَكْدَرِيَّةِ أَيْ حَيْثُ تَسْتَغْرِقُ أَرْبَابَ الْفُرُوضِ، وَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْعَوْلُ أَوْ حِرْمَانُهَا كَمَا ذَكَرَهُ عَبْدُ الْوَهَّابِ وَالْجَعْدِيُّ وَابْنُ الْحَاجِبِ وَغَيْرُهُمْ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ 1 - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] (خَاتِمَةٌ لِبَابِ الْفَرَائِضِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَا يَحْتَاجُ الْفَرْضُ إلَيْهِ أَهْمَلَهُ الْمُصَنِّفُ مَعَ أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي تَنْبِيهُهُ عَلَيْهِ وَهُوَ: كَيْفِيَّةُ تَصْحِيحِ الْمَسَائِلِ وَتَأْصِيلِهَا، وَكَيْفِيَّةُ قَسْمِ التَّرِكَةِ) وَبَيَانُ ذَلِكَ بِإِيضَاحِ أَنَّ الْوَرَثَةَ إنْ كَانَتْ مَحْضَ عَصَبَةٍ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى عَمَلٍ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا عَدَدُ رُءُوسِ عَصَبَتِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَا لَا فَرْضَ فِيهَا فَأَصْلُهَا عَدَدُ عَصَبَتِهَا وَضُعِّفَ لِلذَّكَرِ عَلَى الْأُنْثَى، وَأَمَّا إنْ كَانَ فِيهَا صَاحِبُ فَرْضٍ أَوْ كَانَ الْجَمِيعُ مِنْ ذَوِي الْفُرُوضِ فَإِنَّ الْحَاسِبَ يَأْخُذُ أَصْلَ الْمَسْأَلَةِ وَهُوَ أَقَلُّ عَدَدٍ يَخْرُجُ مِنْهُ فَرْضُهَا أَوْ فُرُوضُهَا، فَإِنْ انْقَسَمَتْ عَلَى الْوَرَثَةِ مِنْ غَيْرِ انْكِسَارٍ فَالْأَمْرُ وَاضِحٌ، كَزَوْجَةٍ وَثَلَاثَةِ إخْوَةٍ لِغَيْرِ أُمٍّ؛ لِأَنَّ أَصْلَهَا مِنْ أَرْبَعَةٍ لِلزَّوْجِ وَاحِدٌ لِكُلِّ أَخٍ وَاحِدٌ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تَنْقَسِمْ السِّهَامُ عَلَى الرُّءُوسِ بِأَنْ انْكَسَرَتْ وَلَوْ عَلَى فَرِيقٍ مِنْ الْوَرَثَةِ فَإِنَّ الْحَاسِبَ يَنْظُرُ بَيْنَ السِّهَامِ الْمُنْكَسِرَةِ وَرُءُوسِهَا بِنَظَرَيْنِ الْمُوَافِقَةِ وَالْمُبَايِنَةِ فَقَطْ، فَالْمُوَافِقَةُ يَرُدُّهُ إلَى وَفْقِهِ، وَالْمُبَايِنُ يُثْبِتُ جَمِيعَهُ، وَقَوْلُنَا: فَقَطْ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالِ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُدَاخَلَةِ، فَإِنَّ الْمَسْأَلَةَ مُنْقَسِمَةٌ لِعَدَمِ الِانْكِسَارِ فِيهَا وَبُعْدِ النَّظَرِ وَرَدِّ الْمُوَافِقِ لِوَفْقِهِ وَإِثْبَاتِ الْمُبَايِنِ بِحَمْلَتِهِ، فَإِنْ كَانَ الِانْكِسَارُ عَلَى فَرِيقٍ وَاحِدٍ فَإِنَّك تَضْرِبُ وَفْقَ عَدَدِ الرُّءُوسِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ عِنْدَ التَّوَافُقِ، أَوْ جَمِيعَ الرُّءُوسِ الْمُنْكَسِرِ عَلَيْهَا سِهَامُهَا عِنْدَ التَّبَايُنِ، وَإِمَّا إنْ كَانَ الِانْكِسَارُ عَلَى أَكْثَرَ مِنْ فَرِيقٍ فَإِنَّك تَنْظُرُ بَيْنَ الْمُثْبِتَاتِ وَيُقَالُ لَهَا الرَّوَاجِعُ وَالْفِرَقُ وَالْأَحْيَازُ بِأَرْبَعَةِ أَنْظَارٍ: الْمُمَاثَلَةُ وَالْمُدَاخَلَةُ وَالْمُبَايَنَةُ وَالْمُوَافَقَةُ، فَتَضْرِبُ أَحَدَهَا عِنْدَ التَّمَاثُلِ وَأَكْثَرَهَا عِنْدَ التَّدَاخُلِ. وَالْحَاصِلُ مِنْ ضَرْبِ الْمُبَايِنِ فِي غَيْرِهِ عِنْدَ التَّبَايُنِ أَوْ الْوَفْقِ فِي غَيْرِهِ عِنْدَ التَّوَافُقِ فِي أَصْلِ الْمَسْأَلَةِ، ثُمَّ تَقْسِمُ مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْوَرَثَةِ، فَتَدْفَعُ لِمَنْ لَهُ النِّصْفُ نِصْفَ مَا صَحَّتْ مِنْهُ، وَلِمَنْ لَهُ الرُّبُعُ رُبُعَهَا وَهَكَذَا. وَلِقَسْمِ التَّرِكَةِ ثَلَاثُ طُرُقٍ: الْأُولَى: طَرِيقُ النِّسْبَةِ وَهِيَ أَنْ تُصَحِّحَ الْمَسْأَلَةَ وَتَنْسُبَ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ مِنْهَا، وَبِتِلْكَ النِّسْبَةِ يَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ التَّرِكَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَك مِنْ التَّرِكَةِ بِنِسْبَةِ حَظِّهِ مِنْ الْمَسْأَلَةِ فَإِنْ كَانَ حَظُّهُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ رُبُعَهَا فَإِنَّهُ يُعْطَى رُبْعَ التَّرِكَةِ وَهَكَذَا. الثَّانِيَةُ: الضَّرْبُ وَالْقِسْمَةُ وَهُوَ أَنْ تَضْرِبَ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ فِي التَّرِكَةِ وَتَقْسِمَ الْخَارِجَ مِنْ الضَّرْبِ عَلَى مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ مَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً. الثَّالِثَةُ: أَنْ تَقْسِمَ التَّرِكَةَ عَلَى مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْمَسْأَلَةُ مَعَ عَوْلِهَا إنْ كَانَتْ عَائِلَةً، وَتَضْرِبَ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ فِي خَارِجِ الْقِسْمَةِ، فَمَا حَصَلَ فَهُوَ نَصِيبُ ذَلِكَ الْوَارِثِ، وَإِنْ كَانَ بَيْنَ التَّرِكَةِ وَالْمَسْأَلَةِ مُوَافَقَةٌ ضَرَبْت نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ فِي وَفْقِ التَّرِكَةِ وَقَسَمْت الْحَاصِلَ عَلَى وَفْقِ الْمَسْأَلَةِ، فَمَا حَصَلَ فَهُوَ نَصِيبُ ذَلِكَ الْوَارِثِ، وَلْنَذْكُرْ مِثَالًا لِيَعْمَلَ الْحَاسِبُ عَلَى مِنْوَالِهِ فَنَقُولُ فِي الْمَسْأَلَةِ الْمَعْرُوفَةِ بِالْمُبَاهَلَةِ وَهِيَ زَوْجٌ وَأُخْتٌ شَقِيقَةٌ وَأُمٌّ التَّرِكَةُ عِشْرُونَ دِينَارًا، وَأَصْلُ الْمَسْأَلَةِ مِنْ سِتَّةٍ؛ لِأَنَّ فِيهَا نِصْفًا وَثُلُثًا وَتَعُولُ إلَى ثَمَانِيَةٍ فَطَرِيقُ النِّسْبَةِ أَنْ تُنْسَبَ نَصِيبُ الزَّوْجِ إلَى الْمَسْأَلَةِ رُبْعٌ وَثُمُنٌ فَلَهُ مِنْ التَّرِكَةِ رُبْعُهَا وَثُمُنُهَا وَذَلِكَ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ، وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ وَلِلْأُمِّ سَهْمَانِ وَنِسْبَتُهُمَا مِنْ الْمَسْأَلَةِ رُبُعُهَا فَلَهَا رُبُعُ التَّرِكَةِ وَذَلِكَ خَمْسَةٌ، وَالطَّرِيقُ الثَّانِي الضَّرْبُ وَالْقِسْمَةُ فَتَضْرِبُ سِهَامَ الزَّوْجِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ فِي التَّرِكَةِ وَهِيَ عِشْرُونَ تَكُونُ سِتِّينَ فَاقْسِمْهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ يَخْرُجُ سَبْعَةٌ وَنِصْفٌ وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ وَلِلْأُمِّ اثْنَانِ فِي عِشْرِينَ بِأَرْبَعِينَ قَسْمُهَا عَلَى ثَمَانِيَةٍ يَخْرُجُ خَمْسَةٌ. وَالطَّرِيقُ الثَّالِثُ الْقِسْمَةُ وَالضَّرْبُ فَتَقْسِمُ التَّرِكَةَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ فَتَخْرُجُ الْقِسْمَةُ اثْنَيْنِ وَنِصْفًا فَتَضْرِبُ نَصِيبَ كُلِّ وَارِثٍ فِي ذَلِكَ، فَلِلزَّوْجِ ثَلَاثَةٌ فِي اثْنَيْنِ وَنِصْفٍ بِسَبْعَةٍ وَنِصْفٍ وَلِلْأُخْتِ كَذَلِكَ وَلِلْأُمِّ اثْنَيْنِ فِي اثْنَيْنِ وَنِصْفٍ بِخَمْسَةٍ وَفِي هَذَا الْقَدْرِ كِفَايَةٌ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْإِنْسَانِ فِي حَيَاتِهِ وَبَعْدَ مَوْتِهِ فِي أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ أَعَادَهُ مُجْمَلًا فِي بَابٍ لِيَكُونَ ذَلِكَ تَذْكِرَةً لِمَا سَبَقَ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 بَابٌ: جُمَلٌ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْوَاجِبَةِ وَالرَّغَائِبِ الْوُضُوءُ لِلصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَضَاءَةِ إلَّا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَمَسْحَ الْأُذُنَيْنِ مِنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ سُنَّةٌ، وَالسِّوَاكُ مُسْتَحَبٌّ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ رُخْصَةٌ وَتَخْفِيفٌ، وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ وَدَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ،   [الفواكه الدواني] [بَابٌ جُمَلٌ مِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ الْوَاجِبَةِ وَالرَّغَائِبِ] (بَابٌ) مُشْتَمِلٌ عَلَى بَيَانِ (جُمَلٍ) جَمْعُ جُمْلَةٍ أَيْ عِدَّةٍ (مِنْ الْفَرَائِضِ) جَمْعُ فَرِيضَةٍ بِمَعْنَى مَفْرُوضَةٍ، وَيُرَادِفُ الْفَرْضُ الْوَاجِبَ وَاللَّازِمَ وَالْمُحَتَّمَ وَهُوَ الْمَطْلُوبُ طَلَبًا جَازِمًا أَيْ لَا تَرْخِيصَ فِي تَرْكِهِ، وَيُقَالُ فِي حَقِيقَتِهِ مَا يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ وَيُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ غَالِبًا. (وَ) جُمَلٌ (مِنْ السُّنَنِ الْوَاجِبَةِ) أَيْ الْمُؤَكَّدَةِ (وَ) شَيْءٌ مِنْ (الرَّغَائِبِ) جَمْعُ رَغِيبَةٍ وَهِيَ كُلُّ مَا رَغَّبَ فِيهِ الشَّارِعُ، وَلَمْ يُظْهِرْهُ فِي جَمَاعَةٍ فَهِيَ دُونَ السُّنَّةِ وَفَوْقَ الْمُسْتَحَبِّ عَلَى الِاصْطِلَاحِ الْمَشْهُورِ عِنْدَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الِاصْطِلَاحِ الْمَشْهُورِ يُطْلَقُ لَفْظُ السُّنَّةِ عَلَى مَا دُونَ الْفَرْضِ وَهِيَ طَرِيقُ الْبَغْدَادِيِّينَ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ مَا دُونَ الْفَرْضِ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَمِنْ الْفَرَائِضِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (الْوُضُوءُ) أَوْ بَدَلُهُ (لِلصَّلَاةِ) أَوْ غَيْرِهَا مِنْ كُلِّ مَا يَتَوَقَّفُ عَلَى طَهَارَةٍ (فَرِيضَةٌ) وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ نَافِلَةٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، لِأَنَّهُ عِنْدَ مَالِكٍ شَرْطٌ فِي الْوُجُوبِ وَالصِّحَّةِ، فَتَسْقُطُ الصَّلَاةُ بِعَدَمِ الْمَاءِ وَالصَّعِيدِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ يُجْعَلُ الْوُضُوءُ تَابِعًا لِمَا يُفْعَلُ بِهِ، وَأَفْهَمْ قَوْلُهُ لِلصَّلَاةِ أَنَّهُ لَيْسَ فَرْضًا لِذَاتِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَلَا يُقَالُ: يَلْزَمُ عَلَى فَرِيضَتِهِ لِلنَّافِلَةِ أَنْ تَكُونَ الْوَسِيلَةُ أَقْوَى مِنْ مَقْصِدِهَا، لِأَنَّا نَقُولَ: الطَّهَارَةُ شَرْطٌ وَالشَّرْطُ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَرْضُ وَغَيْرُهُ، وَلَا يُقَالُ: الْفَرْضُ مَا يُعَاقَبُ الْمُكَلَّفُ عَلَى تَرْكِهِ وَوُضُوءُ النَّافِلَةِ لَا يُعَاقَبُ عَلَى تَرْكِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: يُعَاقَبُ عَلَيْهِ عِنْدَ فِعْلِ النَّافِلَةِ بِدُونِهِ، لِأَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ بِدُونِ طَهَارَةٍ مَعْصِيَةٌ، وَيَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَةُ حُكْمِهِ وَصِفَتِهِ، وَكَذَا يُطْلَبُ مِنْ الْوَلِيِّ تَعْلِيمُ الصَّبِيِّ صِفَةَ الْوُضُوءِ وَحُكْمَهُ، وَكَذَلِكَ سَائِرُ تَوَابِعِهِ كَزَوْجَةٍ وَخَادِمِهِ، وَيُكَفَّرُ الْمُكَلَّفُ بِجَحْدِهِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى فَرِيضَتِهِ. (وَهُوَ) أَيْ الْوُضُوءُ فِي اللُّغَةِ (مُشْتَقٌّ مِنْ الْوَضَاءَةِ) وَهِيَ الْحُسْنُ وَالنَّظَافَةُ، وَأَمَّا فِي الِاصْطِلَاحِ فَهُوَ طَهَارَةٌ مَائِيَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِأَعْضَاءٍ مَخْصُوصَةٍ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَلَمَّا شَمِلَ الْوُضُوءُ سَائِرَ أَفْعَالِهِ اسْتَثْنَى غَيْرَ الْفَرْضِ بِقَوْلِهِ: (إلَّا الْمَضْمَضَةَ وَالِاسْتِنْشَاقَ وَمَسْحَ الْأُذُنَيْنِ) وَمِثْلُهَا الِاسْتِنْثَارُ وَرَدُّ مَسْحِ الرَّأْسِ وَغَسْلُ الْيَدَيْنِ لِلْكُوعَيْنِ وَتَرْتِيبُ فَرَائِضِهِ. (فَإِنَّ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُ (سُنَّةٌ) وَلَكِنْ لَا يَبْطُلُ الْوُضُوءُ بِتَرْكِهَا، بِخِلَافِ سُنَنِ الصَّلَاةِ تَبْطُلُ بِتَرْكِهَا عَمْدًا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ الْوُضُوءَ وَسِيلَةٌ وَالصَّلَاةَ مَقْصِدٌ، وَالشَّيْءُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ مَتْبُوعِهِ. [حُكْم السِّوَاك] (وَالسِّوَاكُ) بِمَعْنَى الِاسْتِيَاكِ وَلَوْ بِأُصْبُعِهِ وَإِنْ نُدِبَ تَقْدِيمُ غَيْرِهِ عَلَيْهِ، وَكَذَا بَاقِي أَفْعَالِهِ خَلَا الْمَفْرُوضَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ، كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا (مُسْتَحَبٌّ مُرَغَّبٌ فِيهِ) تَأْكِيدٌ لَفْظِيٌّ لِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الْمُسْتَحَبَّ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَاَلَّذِي ارْتَضَاهُ جَمْعٌ مِنْ الشُّيُوخِ وَمِنْهُمْ ابْنُ عَرَفَةَ أَنَّ اسْتِعْمَالَ السِّوَاكِ سُنَّةٌ لِخَبَرٍ: «لَوْلَا أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمَّتِي لَأَمَرْتهمْ بِالسِّوَاكِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ» وَلِمُدَاوَمَتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى فِعْلِهِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ مَحَلَّهُ عِنْدَ فِعْلِ الْمَضْمَضَةِ لِلْوُضُوءِ، وَأَنَّهُ يَسْتَاكُ بِيَمِينِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعِبَادَةِ، وَيَسْتَاكُ عَرْضًا فِي الْأَسْنَانِ وَطُولًا فِي اللِّسَانِ، وَلَا يَسْتَاكُ فِي الْمَسْجِدِ وَلَا بِحَضْرَةِ النَّاسِ، وَيَسْتَاكُ بِكُلِّ شَيْءٍ خَشِنٍ إلَّا عُودَ الرُّمَّانِ وَالرَّيْحَانِ وَالْقَصَبِ الْفَارِسِيِّ لِتَحْرِيكِ الْأَوَّلَيْنِ عِرْقَ الْجُذَامِ وَالثَّالِثُ يُورِثُ الْأَكَلَةَ، وَلَا يَسْتَاكُ بِالْحَلْفَاءِ وَلَا بِعُودِ الشَّعِيرِ وَلَا بِالْعُودِ الْمَجْهُولِ، وَقَدَّمْنَا أَنَّ لَهُ فَوَائِدَ كَثِيرَةً أَعْظَمُهَا تَذْكِيرُهُ الشَّهَادَةَ عِنْدَ الْمَوْتِ، وَأَنَّهُ قَدْ يَجِبُ وَقَدْ يَحْرُمُ وَقَدْ يُكْرَهُ. [الْمَسْح عَلَى الْخُفَّيْنِ] (وَالْمَسْحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ) بِالشُّرُوطِ الْعَشَرَةِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا (رُخْصَةٌ) جَائِزَةٌ جَوَازًا مَرْجُوحًا عَلَى طَرِيقَةِ الْأَكْثَرِ، بِنَاءً عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الْغُسْلِ عَلَى الْمَسْحِ لِلْحَاضِرِ وَالْمُسَافِرِ الرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ وَإِنْ مُسْتَحَاضَةً، وَقَوْلُهُ: (وَتَخْفِيفٌ) تَفْسِيرٌ لِلرُّخْصَةِ لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا كَمَا قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ: الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُتَغَيِّرُ مِنْ صُعُوبَةٍ إلَى سُهُولَةٍ لِعُذْرٍ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ لِلْحُكْمِ الْأَصْلِيِّ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ تَعْرِيفِهَا بِأَنَّهَا إبَاحَةُ الشَّيْءِ الْمَمْنُوعِ مَعَ قِيَامِ السَّبَبِ الْمَانِعِ، وَقَدَّمْنَا إيضَاحَ ذَلِكَ، وَيُقَابِلُ الرُّخْصَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 فَرِيضَةٌ، وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ الْعِيدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ، وَالْغُسْلُ عَلَى مَنْ أَسْلَمَ فَرِيضَةٌ لِأَنَّهُ جُنُبٌ، وَغُسْلُ الْمَيِّتِ سُنَّةٌ، وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ فَرِيضَةٌ، وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ فَرِيضَةٌ وَبَاقِي التَّكْبِيرِ سُنَّةٌ، وَالدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَرِيضَةٌ،،   [الفواكه الدواني] الْعَزِيمَةُ وَهِيَ الْحُكْمُ الْأَصْلِيُّ الْمَشْرُوعُ أَوَّلًا. (وَالْغُسْلُ مِنْ الْجَنَابَةِ) وَهِيَ الْحَدَثُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى جَمِيعِ الْبَدَنِ بِسَبَبِ خُرُوجِ الْمَنِيِّ بِلَذَّةٍ مُعْتَادَةٍ أَوْ مَغِيبِ حَشَفَةِ بَالِغٍ أَوْ قَدْرِهَا مِنْ مَقْطُوعِهَا وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ إنْزَالٌ. (وَ) كَذَا الْغُسْلُ مِنْ (دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ الثَّلَاثَةِ (فَرِيضَةٌ) لِآيَةِ: {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: 6] وَآيَةِ {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} [البقرة: 222] الْآيَةَ، وَلِلسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَالْحُكْمُ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْغُسْلِ لِانْقِطَاعِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ لَا يُنَافِي وُجُوبَهُ إذَا خَرَجَ الْوَلَدُ جَافًّا فَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا الْغُسْلُ مِنْ الِاسْتِحَاضَةِ فَالْمَشْهُورُ اسْتِحْبَابُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا بِاسْتِحَاضَةٍ وَنُدِبَ لِانْقِطَاعِهِ. (وَغُسْلُ الْجُمُعَةِ) وَصِفَتُهُ كَالْجَنَابَةِ (سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ عَلَى كُلِّ مَنْ حَضَرَ الصَّلَاةَ فَهُوَ لِلصَّلَاةِ لَا لِلْيَوْمِ وَلَوْ كَانَ مِمَّنْ لَا تَلْزَمُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَسُنَّ غُسْلٌ مُتَّصِلٌ بِالرَّوَاحِ وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، فَلَا يَجْزِي فِعْلُهُ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ» رَوَاهُ الْأَئِمَّةُ وَظَاهِرُهُ الْوُجُوبُ لَوْلَا حَدِيثُ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ: «مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَبِهَا وَنِعْمَتْ وَمَنْ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ» وَحَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ، وَلَهُ شَوَاهِدُ فِي الصَّحِيحِ، وَأَقُولُ: الْحَدِيثُ يَقْتَضِي أَنَّهُ إنَّمَا يُسَنُّ فِي حَقِّ الْمُكَلَّفِ لَا الصَّبِيِّ، وَكَلَامُ خَلِيلٍ بِحَسَبِ ظَاهِرِهِ يُخَالِفُهُ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَلَوْ لَمْ تَلْزَمْهُ لِنَحْوِ رِقٍّ أَوْ سَفَرٍ مَعَ كَوْنِهِ مُحْتَلِمًا. (وَغُسْلُ الْعِيدَيْنِ مُسْتَحَبٌّ) عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ إحْيَاءُ لَيْلَتِهِ وَغُسْلٌ، وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِدُخُولِ السُّدُسِ الْأَخِيرِ، وَلِذَا لَا يُشْتَرَطُ اتِّصَالُهُ بِالرَّوَاحِ إلَى الْمُصَلَّى، وَلَكِنْ يُسْتَحَبُّ كَوْنُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ وَهُوَ لِلْيَوْمِ لَا لِلصَّلَاةِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَبُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ مُصَلٍّ، وَصِفَتُهُ كَصِفَةِ غُسْلِ الْجَنَابَةِ، وَمِمَّا هُوَ سُنَّةٌ غُسْلُ الْإِحْرَامِ أَوْ لِلْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَسَيَأْتِي أَنَّ الْغُسْلَ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ أَيْضًا، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْفَرْقِ بَيِّنٌ: غُسْلُ الْجُمُعَةِ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ الْعِيدِ مُسْتَحَبٌّ تَبَعِيَّةُ الْأَوَّلِ لِفَرْضٍ دُونَ غَيْرِهِ. (وَالْغُسْلُ عَلَى) كُلِّ (مَنْ أَسْلَمَ) مِنْ الْكُفَّارِ الْبَالِغِينَ (فَرِيضَةٌ لِأَنَّهُ جُنُبٌ) قَالَ خَلِيلٌ: وَيَجِبُ غُسْلُ كَافِرٍ بَعْدَ الشَّهَادَةِ بِمَا ذُكِرَ وَصَحَّ قَبْلَهَا، وَقَدْ أَجْمَعَ عَلَى الْإِسْلَامِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِقَوْلِهِ: جُنُبٌ، وَخَلِيلٍ: أَنَّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَمْ يَكُنْ حَصَلَ مِنْهُ مُوجِبُ غُسْلٍ مِنْ جَنَابَةٍ أَوْ حَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ غُسْلٌ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ وُجُوبُهُ عَلَى كُلِّ مَنْ أَسْلَمَ وَلَوْ صَبِيًّا تَعْظِيمًا لِلْإِسْلَامِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَنْ اغْتَسَلَ بَعْدَ عَزْمِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ غُسْلُهُ صَحِيحٌ، سَوَاءٌ نَوَى بِهِ الطُّهْرَ مِنْ الْجَنَابَةِ أَوْ مُطْلَقَ الطَّهَارَةِ أَوْ الْإِسْلَامَ، أَوْ نَوَى بِهِ الْإِسْلَامَ وَالتَّنْظِيفَ، لَا إنْ نَوَى بِهِ التَّنْظِيفَ فَقَطْ، وَكَمَا يَصِحُّ الْغُسْلُ بَعْدَ الْعَزْمِ عَلَى الْإِسْلَامِ يَصِحُّ الْوُضُوءُ وَالتَّيَمُّمُ، وَلَا يُقَالُ: شَرْطُ صِحَّةِ كُلٍّ الْإِسْلَامُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْعَازِمُ عَلَيْهِ مُسْلِمٌ حُكْمًا. (وَغُسْلُ) بِمَعْنَى تَغْسِيلِ (الْمَيِّتِ) الَّذِي تَقَدَّمَ لَهُ اسْتِقْرَارُ حَيَاةٍ وَغَيْرِ شَهِيدِ حَرْبٍ الْمَوْجُودِ كُلُّهُ أَوْ جُلُّهُ الْمُسْلِمِ وَلَوْ حُكْمًا. (سُنَّةٌ) وَقِيلَ فَرِيضَةٌ، وَصَدَّرَ بِهِ خَلِيلٌ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ حَيْثُ قَالَ فِي وُجُوبِ غَسْلِ الْمَيِّتِ بِمُطَهِّرٍ وَلَوْ بِزَمْزَمَ: وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ كَدَفْنِهِ وَكَفَنِهِ وَسُنِّيَّتِهِمَا خِلَافٌ وَتَلَازُمًا وَغُسْلٌ كَالْجَنَابَةِ تَعَبُّدًا بِلَا نِيَّةٍ، فَيُبْدَأُ بِغَسْلِ يَدَيْ الْمَيِّتِ أَوَّلًا ثُمَّ يُزِيلُ الْأَذَى إنْ كَانَ، ثُمَّ يُوَضِّئُهُ وُضُوءًا كَامِلًا مَرَّةً وَيُثَلِّثُ رَأْسَهُ ثُمَّ يُفِيضُ الْمَاءَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ ثُمَّ عَلَى الْأَيْسَرِ. وَقَوْلُنَا وَلَوْ حُكْمًا لِيَدْخُلَ الْمَحْكُومُ بِإِسْلَامِهِ تَبَعًا لِإِسْلَامِ أَبِيهِ أَوْ سَابِيه مِنْ أَوْلَادِ الْمَجُوسِ لَوْ مُمَيِّزًا إلَّا الْكِتَابِيَّ وَلَوْ غَيْرَ مُمَيِّزٍ لِأَنَّهُ لَا يُحْكَمُ بِإِسْلَامِهِ بِمُجَرَّدِ التَّبَعِيَّةِ، فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَا مَحْكُومَ بِكُفْرِهِ وَإِنْ صَغِيرًا ارْتَدَّ أَوْ نَوَى بِهِ سَلِيبَةَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَا حَقَّقَهُ عَلَامَةُ الزَّمَانِ الْأُجْهُورِيُّ، وَإِنَّمَا قُلْنَا بِمَعْنَى تَغْسِيلِ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ بِذَلِكَ الْأَحْيَاءُ فِي الْمَيِّتِ. (وَالصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ) كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا (فَرِيضَةٌ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَلَوْ عَلَى كَافِرٍ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ خِطَابِهِمْ بِفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّقْيِيدِ بِالْمُؤْمِنِينَ فِي آيَةِ: {إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} [النساء: 103] لَا يُنَافِي وُجُوبَهَا عَلَى الْكُفَّارِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهَا الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْجَاحِدُ وَلَوْ لِرُكْنٍ مِنْهَا كَافِرٌ حَيْثُ كَانَ مُجْمَعًا عَلَى فَرْضِيَّتِهِ، وَالْمُقِرُّ بِالْوُجُوبِ الْمُمْتَنِعِ مِنْ الْفِعْلِ عِنَادًا يُؤَخَّرُ إلَى بَقَاءِ رَكْعَةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَمَنْ تَرَكَ فَرْضًا آخَرَ لِبَقَاءِ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مِنْ الضَّرُورِيِّ وَقُتِلَ بِالسَّيْفِ حَدًّا وَلَوْ قَالَ: أَنَا أَفْعَلُ، وَصَلَّى عَلَيْهِ غَيْرُ فَاضِلٍ، وَلَا يُطْمَسُ قَبْرُهُ بَلْ يُشْهَرُ زَجْرًا لِأَمْثَالِهِ. (وَتَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ) وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: ابْتِدَاءُ الصَّلَاةِ بِالتَّكْبِيرِ مُقَارِنًا لِنِيَّتِهَا. (فَرِيضَةٌ) فِي حَقِّ كُلِّ مُصَلٍّ قَادِرٍ عَلَيْهِ وَصِفَتُهَا أَنْ تَقُولَ: اللَّهُ أَكْبَرُ بِمَدِّ لَفْظِ الْجَلَالَةِ الْمَدَّ الطَّبِيعِيَّ لَا يُجْزِئُ غَيْرُهَا، وَالْعَاجِزُ عَنْهَا بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ تَكْفِيه النِّيَّةُ، وَلَا يُكَلَّفُ الْإِتْيَانَ بِمُرَادِفِهَا بِلُغَتِهِ، فَإِنْ أَتَى بِهَا بِلُغَتِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ بِالْأَوْلَى مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ سُنَّةٌ، وَالْقِرَاءَةُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ وَمَا زَادَ عَلَيْهَا سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَالْقِيَامُ وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرِيضَةٌ،،   [الفواكه الدواني] صَلَاةِ مَنْ دَعَا فِي صَلَاتِهِ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ، خِلَافًا لِلْقَرَافِيِّ فِي ذَخِيرَتِهِ، وَتَجِبُ تَكْبِيرَةُ الْإِحْرَامِ وَلَوْ عَلَى الْمَأْمُومِ وَلَوْ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ إلَّا سَجْدَةَ التِّلَاوَةِ فَلَا تَحْتَاجُ إلَى تَكْبِيرٍ زَائِدٍ عَلَى تَكْبِيرِ الْخَفْضِ، وَإِنَّمَا يَأْتِي بِهَا نَاوِيًا فِعْلَهَا مُكَبِّرًا فِي الْخَفْضِ وَالرَّفْعِ. (تَنْبِيهٌ) سَكَتَ هُنَا وَفِيمَا تَقَدَّمَ عَنْ الْقِيَامِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ، وَلَا يَجِبُ إلَّا فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ وَلَوْ عَلَى الْمَأْمُومِ غَيْرِ الْمَسْبُوقِ، وَأَمَّا الْمَسْبُوقُ فَفِي وُجُوبِ الْقِيَامِ لَهَا فِي حَقِّهِ وَعَدَمِهِ تَأْوِيلَانِ جَارِيَانِ فِيمَنْ نَوَى بِتَكْبِيرِهِ عِنْدَ الرُّكُوعِ الْعَقْدَ أَوْ نَوَى الْعَقْدَ وَالرُّكُوعَ أَوْ لَمْ يَنْوِهِمَا أَجْزَأَ، وَالْحَالُ أَنَّهُ فَعَلَ بَعْضَ التَّكْبِيرِ مِنْ قِيَامٍ وَأَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ بَيْنَ أَجْزَاءِ التَّكْبِيرِ، فَعَلَى الْوُجُوبِ فِي حَقِّهِ لَا يُعْتَدُّ بِتِلْكَ الرَّكْعَةِ وَعَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ يُعْتَدُّ بِهَا، بِخِلَافِ لَوْ أَتَمَّ التَّكْبِيرَ بَعْدَ تَمَامِ الِانْحِطَاطِ مَعَ الْفَصْلِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ، سَوَاءٌ افْتَتَحَهُ فِي حَالِ الْقِيَامِ أَوْ فِي حَالِ الِانْحِطَاطِ، وَأَمَّا لَوْ افْتَتَحَهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ وَأَتَمَّهُ فِي حَالِ انْحِطَاطِهِ أَوْ بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ فَتَبْطُلُ الرَّكْعَةُ فَقَطْ مَعَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ فَالصُّوَرُ سِتٌّ. وَلَعَلَّ وَجْهَ صِحَّةِ الصَّلَاةِ مَعَ عَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالرَّكْعَةِ أَنَّهُ لَمَّا قَامَ فِي الرَّكْعَةِ التَّالِيَةِ لِلرَّكْعَةِ الْبَاطِلَةِ فَكَأَنَّهُ إنَّمَا أَحْرَمَ فِي حَالِ قِيَامِهَا لِأَنَّهُ أَوَّلُ صَلَاتِهِ. (وَبَاقِي التَّكْبِيرِ) الزَّائِدِ عَلَى الْإِحْرَامِ (سُنَّةٌ) الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ جَمِيعَ الْبَاقِي سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ، وَالْقَوْلُ الثَّانِي أَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ سُنَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَهُوَ الْمَشْهُورُ لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَنُقِلَ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْقَوْلَيْنِ شُهِرَ، وَأَنَّهُ لَا يَسْجُدُ لِتَرْكِ وَاحِدَةٍ وَيَسْجُدُ لِتَرْكِ أَكْثَرَ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْقَوْلَانِ لَوْ تَرَكَ ثَلَاثَ تَكْبِيرَاتٍ فَأَكْثَرَ أَوْ جَمِيعَهُ سَهْوًا وَتَرَكَ السُّجُودَ لِلسَّهْوِ حَتَّى طَالَ زَمَنُ التَّرْكِ، فَعَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ كُلَّ تَكْبِيرَةٍ سُنَّةٌ تَبْطُلُ الصَّلَاةُ وَعَلَى أَنَّ جَمِيعَهُ سُنَّةٌ وَاحِدَةٌ لَا تَبْطُلُ ذَكَرَهُ الْحَطَّابُ، وَمَا قِيلَ فِي التَّكْبِيرِ يُقَالُ فِي التَّسْمِيعِ وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ تَكْبِيرِ الْعِيدِ، وَأَمَّا تَكْبِيرُهُ فَمُتَّفَقٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ يَسْجُدُ لِتَرْكِهَا الْإِمَامُ وَالْفَذُّ. (وَالدُّخُولُ فِي الصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ (بِنِيَّةِ الْفَرْضِ فَرِيضَةٌ) وَالْمُرَادُ بِنِيَّةِ الْفَرِيضَةِ نِيَّةُ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ فَرْضِيَّتَهَا، لِأَنَّ نِيَّةَ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ بِكَوْنِهَا ظُهْرًا أَوْ عَصْرًا يَتَضَمَّنُ فَرْضِيَّتَهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُطْلَبُ مِنْ الْمُحْرِمِ بِالْفَرِيضَةِ مُلَاحَظَةُ عَيْنِهَا وَفَرْضِيَّتِهَا وَعَدَدِ رَكَعَاتِهَا وَأَدَائِهَا أَوْ قَضَائِهَا وَالِاقْتِدَاءُ بِالْإِمَامِ إنْ كَانَ مَأْمُومًا، وَيَقْصِدُ بِجَمِيعِ ذَلِكَ التَّقَرُّبَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَإِنْ ذَهِلَ عَنْ الْجَمِيعِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ حَيْثُ نَوَى فِعْلَ الصَّلَاةِ الْمُعَيَّنَةِ، وَالِاقْتِدَاءَ بِالْإِمَامِ إنْ كَانَ مَأْمُومًا وَخَرَجَ مِنْهَا بِلَا نِيَّةٍ غَيْرِهَا لَا إنْ خَرَجَ مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ بِنِيَّةِ الْعَصْرِ أَوْ عَكْسِهِ فَإِنَّ صَلَاتَهُ تَبْطُلُ عَلَى أَصَحِّ الْقَوْلَيْنِ، وَمَحَلُّ نِيَّةِ الصَّلَاةِ بِعَيْنِهَا عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ لِأَنَّ النِّيَّةَ هِيَ الْعَزْمُ عَلَى الْمَنْوِيِّ مُقْتَرِنًا بِفِعْلِهِ، فَإِنْ تَأَخَّرَتْ عَنْ الشُّرُوعِ فِيهِ بَطَلَ مُطْلَقًا، وَإِنْ تَقَدَّمَتْ بِكَثِيرٍ فَكَذَلِكَ، وَيَسِيرُ فِي صِحَّتِهِ وَبُطْلَانِهِ خِلَافٌ، وَإِنْ نَوَى فِي قَلْبِهِ شَيْئًا وَتَلَفَّظَ بِخِلَافِهِ فَالْمُعْتَبَرُ مَا نَوَاهُ لَا مَا لَفَظَ بِهِ. (تَنْبِيهٌ) كَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ، وَأَمَّا الْمُحْرِمُ بِصَلَاةٍ غَيْرِ فَرْضٍ فَإِنْ كَانَتْ سُنَّةً أَوْ رَغِيبَةً فَلَا بُدَّ مِنْ نِيَّتِهَا بِعَيْنِهَا كَالْفَرْضِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ مَنْدُوبَةً فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهَا، وَيَكْفِي نِيَّةُ فِعْلِ مُطْلَقِ صَلَاةِ نَفْلٍ وَإِنْ لَمْ يُلَاحِظْ كَوْنَهَا ضُحًى أَوْ كَوْنَهَا تَرَاوِيحَ أَوْ تَحِيَّةً، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي نِيَّةٍ نَحْوِ الصَّوْمِ مِنْ كُلِّ عِبَادَةٍ تَخْتَلِفُ صِفَتُهَا بِالْفَرِيضَةِ وَغَيْرِهَا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَرَفْعُ الْيَدَيْنِ) عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ فَقَطْ (سُنَّةٌ) خَفِيفَةٌ وَقِيلَ مَنْدُوبٌ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ فَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَيَرْفَعُهَا حَذْوَ أُذُنَيْهِ أَوْ دُونَ ذَلِكَ وَيَكُونُ مُقَارِنًا لِلتَّكْبِيرِ كَسَائِرِ تَكْبِيرِ الصَّلَاةِ يُطْلَبُ مُقَارَنَتُهُ لِحَرَكَةِ أَرْكَانِهَا. قَالَ خَلِيل: وَتَكْبِيرُهُ فِي الشُّرُوعِ إلَّا فِي قِيَامِهِ مِنْ اثْنَتَيْنِ فَلِاسْتِقْلَالِهِ. (وَالْقِرَاءَةُ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ) ذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (فَرِيضَةٌ) فِي كُلِّ رَكْعَةٍ عَلَى غَيْرِ الْمَأْمُومِ وَلَوْ فِي النَّافِلَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ فِي حَقِّ الْقَادِرِ عَلَيْهَا وَالْعَاجِزُ يَأْتَمُّ بِمَنْ يَحْفَظُهَا، وَتَسْقُطُ عَنْ الْعَاجِزِ كَمَا تَسْقُطُ عَنْ الْأَخْرَسِ، وَيُنْدَبُ فَصْلُهُ بَيْنَ تَكْبِيرِهِ وَرُكُوعِهِ، وَيَظْهَرُ أَنَّهُ لَوْ عَجَزَ عَنْ الْفَاتِحَةِ وَقَدَرَ عَلَى السُّورَةِ أَنَّهُ يَقْرَؤُهَا لِأَنَّ الْعَجْزَ عَنْ شَيْءٍ لَا يُسْقِطُ غَيْرَهُ وَحَرَّرَهُ. وَيُسَنُّ إنْصَاتُ الْمُقْتَدِي فِي الْجَهْرِيَّةِ، وَيُنْدَبُ لَهُ الْقِرَاءَةُ فِي السِّرِّيَّةِ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ فَالْأَفْضَلُ الْقِرَاءَةُ لِأَنَّ مِنْ الْوَرَعِ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ، لِأَنَّ الْعِبَادَةَ الْمُتَّفَقَ عَلَى صِحَّتِهَا فِي كُلِّ مَذْهَبٍ خَيْرٌ مِنْ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا، وَقَيَّدْنَا بِذَاتِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ لِلِاحْتِرَازِ مِنْ صَلَاةِ الْجِنَازَةِ فَلَا تَجِبُ فِيهَا الْفَاتِحَةُ إلَّا أَنْ يَقْصِدَ الْمُصَلِّي مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ، فَيَقْرَأُ بَعْدَ تَكْبِيرَةِ الْفَاتِحَةِ مَرَّةً مَعَ شَيْءٍ مِنْ الدُّعَاءِ لِتَصِحَّ الصَّلَاةُ بِاتِّفَاقٍ، وَتَقَدَّمَ الْخِلَافُ فِي وُجُوبِهَا هَلْ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ أَوْ الْجُلِّ؟ خِلَافٌ. (تَنْبِيهٌ) تَوَقَّفَ بَعْضُ شُيُوخِ شَيْخِنَا الْأُجْهُورِيُّ فِي وُجُوبِ قِرَاءَتِهَا عَلَى مَنْ يُلْحِنُ فِيهَا لِعَجْزِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ، وَاسْتَظْهَرَ وُجُوبَ قِرَاءَتِهَا بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ عَدَمِ بُطْلَانِ الصَّلَاةِ بِاللَّحْنِ فِيهَا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ تَعَلُّمِ الصَّوَابِ وَلَوْ غَيَّرَ الْمَعْنَى كَأَنْعَمْتُ بِالضَّمِّ أَوْ الْكَسْرِ. (وَمَا زَادَ عَلَيْهَا) فَقِرَاءَتُهُ عَلَى الْإِمَامِ وَالْفَذِّ فِي الْفَرِيضَةِ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْ الثُّنَائِيَّةِ وَلَا فِي الْأُولَيَيْنِ مِنْ غَيْرِهَا، وَأَمَّا فِي صَلَاةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 وَالْجَلْسَةُ الْأُولَى سُنَّةٌ وَالثَّانِيَةُ فَرِيضَةٌ، وَالسَّلَامُ فَرِيضَةٌ وَالتَّيَامُنُ بِهِ قَلِيلًا سُنَّةٌ، وَتَرْكُ الْكَلَامِ فِي الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ، وَالتَّشَهُّدَانِ سُنَّةٌ، وَالْقُنُوتُ فِي الصُّبْحِ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ، وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ فَرِيضَةٌ، و َصَلَاةُ الْجُمُعَةِ وَالسَّعْيُ إلَيْهَا فَرِيضَةٌ ،   [الفواكه الدواني] النَّافِلَةِ فَمُسْتَحَبَّةٌ. (وَالْقِيَامُ) فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ لِلْقَادِرِ عَلَيْهِ لِتَكْبِيرَةِ الْإِحْرَامِ وَلِقِرَاءَةِ الْفَاتِحَةِ وَلِلرُّكُوعِ. (وَ) كَذَلِكَ (الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ) وَالرَّفْعُ مِنْهُمَا وَكَذَلِكَ الْجُلُوسُ بَيْنَ السَّجْدَتَيْنِ وَكَذَا سَائِرُ أَفْعَالِهَا، سِوَى رَفْعِ الْيَدَيْنِ عِنْدَ الْإِحْرَامِ وَالتَّيَامُنِ بِالسَّلَامِ وَالْجُلُوسِ الْأَوَّلِ وَالزَّائِدِ عَلَى السَّلَامِ مِنْ الثَّانِي (فَرِيضَةٌ) خَبَرُ الْقِيَامِ وَمَا عَطْفٌ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: يَجِبُ بِفَرْضٍ قِيَامٌ إلَّا لِمَشَقَّةٍ أَوْ لُحُوقِهَا بِهِ فِيهَا أَوْ قَبْلَ ضِرَارِ كَالتَّيَمُّمِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ وَمَا ذُكِرَ مَعَهُمَا فَفَرْضَانِ حَتَّى فِي النَّافِلَةِ، وَأَمَّا الْعَاجِزُ عَنْ الْقِيَامِ اسْتِقْلَالًا فَيُصَلِّي قَائِمًا مُسْتَنِدًا، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ الْقِيَامِ مَعَ الِاسْتِنَادِ صَلَّى جَالِسًا مُسْتَقِلًّا، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ صَلَّى جَالِسًا مُسْتَنِدًا، وَالِاسْتِنَادُ يَكُونُ لِغَيْرِ جُنُبٍ وَحَائِضٍ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِمَا، وَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْجُلُوسِ بِقِسْمَيْهِ صَلَّى مُضَجِّعًا عَلَى الْأَيْمَنِ أَوْ الْأَيْسَرِ أَوْ عَلَى الظَّهْرِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ فِي الْجَمِيعِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْ تِلْكَ الْحَالَاتِ جَازَتْ لَهُ الصَّلَاةُ عَلَى بَطْنِهِ مُسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةِ بِأَنْ تَكُونَ رَأْسُهُ فِيهَا وَرِجْلَاهُ فِي دُبْرِهَا، وَأَمَّا الْقِيَامُ فِي صَلَاةِ النَّافِلَةِ فَمُسْتَحَبٌّ وَلَوْ مَنْذُورَةً إلَّا أَنْ يَنْذُرَ الْقِيَامَ. (وَالْجَلْسَةُ) بِفَتْحِ الْجِيمِ لِأَنَّ الْمُرَادَ الْمَرَّةَ (الْأُولَى) الْمُرَادُ غَيْرُ الْآخِرَةِ (سُنَّةٌ) كَمَا أَنَّ مَظْرُوفَهَا وَهُوَ التَّشَهُّدُ سُنَّةٌ. (وَ) أَمَّا الْجِلْسَةُ (الثَّانِيَةُ) الْمُرَادُ جِلْسَةُ السَّلَامِ فَهِيَ (فَرِيضَةٌ) الْفَرْضُ مِنْهَا ظَرْفُ السَّلَامِ، وَأَمَّا ظَرْفُ التَّشَهُّدِ فَسُنَّةٌ، وَظَرْفُ الصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهِ خِلَافُهَا، وَظَرْفُ الدُّعَاءِ كَهُوَ. قَالَ خَلِيلٌ فِي تَوْضِيحِهِ: يُعْطَى الظَّرْفُ حُكْمَ الْمَظْرُوفِ، وَيُقَالُ مِثْلُ ذَلِكَ فِي الْقِيَامِ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، فَمَا كَانَ ظَرْفًا لِلْفَاتِحَةِ أَوْ لِلْإِحْرَامِ أَوْ لِلرُّكُوعِ فَفَرْضٌ وَظَرْفُ السُّورَةِ سُنَّةٌ. (وَالسَّلَامُ) الْمُعَرَّفُ بِالْأَلْفِ وَاللَّامِ لِلتَّحْلِيلِ مِنْ كُلِّ صَلَاةٍ لَهَا سَلَامٌ (فَرِيضَةٌ) وَلَوْ عَلَى الْمَأْمُومِ وَلَوْ كَانَتْ الصَّلَاةُ نَافِلَةً، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ يَكْفِي فِي الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ كُلُّ مُنَافٍ، وَأَمَّا سَلَامُ غَيْرِ التَّحْلِيلِ فَسُنَّةٌ عَلَى مَا قَالَ خَلِيلٌ، وَأَمَّا سَجْدَةُ التِّلَاوَةِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُسَنُّ وَلَا يُنْدَبُ لَهَا إلَّا أَنْ يَقْصِدَ السَّاجِدُ مُرَاعَاةَ الْخِلَافِ. (وَالتَّيَامُنُ بِهِ) أَيْ بِالسَّلَامِ عِنْدَ النُّطْقِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ مِنْهُ (قَلِيلًا) بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ (سُنَّةٌ) لِكُلِّ مُصَلٍّ وَلَوْ مَأْمُومًا، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: هَذَا فِي سَلَامِ غَيْرِ الْمَأْمُومِ، وَأَمَّا الْمَأْمُومُ فَيَبْتَدِئُ السَّلَامَ فِي جِهَةِ يَمِينِهِ لَا قُبَالَتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ سَلَامُ غَيْرِ الْمَأْمُومِ قُبَالَتُهُ مُتَيَامَنًا قَلِيلًا، وَتَأَوَّلَ بَعْضُهُمْ الْمَأْمُومَ كَذَلِكَ، وَظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَنْ يَمِينِهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ كَوْنِ التَّيَامُنِ بِالسَّلَامِ سُنَّةً خِلَافُ كَلَامِ خَلِيلٍ فَإِنَّهُ جَعَلَهُ مِنْ الْمَنْدُوبَاتِ. (وَتَرْكُ الْكَلَامِ) وَكَذَا كُلُّ فِعْلٍ كَثِيرٍ (فِي) حَالِ فِعْلِ (الصَّلَاةِ فَرِيضَةٌ) لِمَا رُوِيَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ «أَنَّا كُنَّا نَتَكَلَّمُ فِي الصَّلَاةِ فَنَزَلَ قَوْله تَعَالَى: {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] أَيْ سَاكِتِينَ فَأُمِرْنَا بِالسُّكُوتِ وَنُهِينَا عَنْ الْكَلَامِ» ، فَإِنْ تَكَلَّمَ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ وَلَوْ وَجَبَ لِكَإِنْقَاذِ أَعْمَى، أَوْ تَكَلَّمَ مُكْرَهًا لَا إنْ تَكَلَّمَ سَاهِيًا أَوْ عَمْدًا لِإِصْلَاحِهَا فَلَا تَبْطُلُ إلَّا بِكَثِيرِهِ وَيَسْجُدُ لِلسَّهْوِ فِي غَيْرِ الْكَثِيرِ. (وَالتَّشَهُّدَانِ) كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا (سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ يَسْجُدُ لِتَرْكِهَا سَهْوًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَلَوْ بِغَيْرِ تَشَهُّدِ عُمَرَ، قَالَ خَلِيلٌ فِي مَبْحَثِ السُّنَنِ: وَمُطْلَقُ التَّشَهُّدِ، وَأَمَّا اللَّفْظُ الْخَاصُّ فَقِيلَ سُنَّةٌ وَقِيلَ فَضِيلَةٌ. [الْقُنُوت فِي الصَّلَاة] (وَالْقُنُوتُ فِي) ثَانِيَةِ صَلَاةِ (الصُّبْحِ حَسَنٌ وَلَيْسَ بِسُنَّةٍ) قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ: وَقُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحٍ فَقَطْ وَقَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَفْظُهُ وَهُوَ: اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُك إلَخْ فَلَا تَبْطُلُ بِتَعَمُّدِ تَرْكِهِ وَلَا يُسْجَدُ لِسَهْوِهِ وَلَا يَرْجِعُ لَهُ بَعْدَ رُكُوعِهِ، وَإِنْ سَجَدَ لَهُ قَبْلَ السَّلَامِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ سَجَدَ تَبَعًا لِإِمَامٍ يَسْجُدُ لِتَرْكِهِ. (وَاسْتِقْبَالُ الْقِبْلَةِ) فِي فِعْلٍ كَلَا صَلَاةٍ وَلَوْ جِنَازَةٍ أَوْ سَجْدَةِ تِلَاوَةِ (فَرِيضَةٌ) لِأَنَّ الِاسْتِقْبَالَ مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الْعِبَادَةِ مَعَ الْقُدْرَةِ وَالْأَمْنِ إلَّا فِي حَالِ سَفَرِ الْقَصْرِ بِالنِّسْبَةِ لِصَلَاةِ النَّافِلَةِ فَقِبْلَتُهُ جِهَةُ سَفَرِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَصُوِّبَ سَفَرُ قَصْرٍ لِرَاكِبِ دَابَّةٍ فَقَطْ بُدِلَ فِي نَفْلٍ وَإِنْ وِتْرًا وَإِنْ سَهُلَ الِابْتِدَاءُ لَهَا وَإِلَّا فِي حَالِ الِالْتِحَامِ أَوْ مَرِيضٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى التَّحْوِيلِ وَلَا التَّحَوُّلِ فَيَسْقُطُ عَنْهُ الِاسْتِقْبَالُ وَلَوْ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة: 144] أَيْ جِهَةَ شَطْرِهِ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ قِبْلَةٌ إذَا تَوَجَّهَ نَحْوَ الْبَيْتِ» هَذَا فِي حَقِّ الْخَارِجِ عَنْ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا مَنْ بِمَكَّةَ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ عَيْنِ الْكَعْبَةِ إذَا صَلَّى بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَإِنْ صَلَّى خَارِجَهُ فَالْوَاجِبُ عَلَيْهِ اسْتِقْبَالُ سَمْتِهَا يَقِينًا وَلَوْ بِمَشَقَّةٍ، وَالْمُصَلِّي بِالْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِدْلَال لِمِحْرَابِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ ثَبَتَ بِالتَّوَاتُرِ وَهُوَ مُسَامِتٌ قَطْعًا لِأَنَّهُ إمَّا بِإِقَامَةِ جِبْرِيلَ أَوْ بِاجْتِهَادِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ لَا يُقَرُّ عَلَى الْخَطَإِ، وَمِمَّنْ لَا يَجُوزُ لَهُ الِاجْتِهَادُ مَنْ صَلَّى بِجَامِعِ سَيِّدِنَا عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ وَكَذَلِكَ صَلَاةُ الْعِيدَيْنِ وَالْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَصَلَاةُ الْخَوْفِ وَاجِبَةٌ أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِهَا وَهُوَ فِعْلٌ يَسْتَدْرِكُونَ بِهِ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ، وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ، وَالْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ تَخْفِيفٌ وَقَدْ فَعَلَهُ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَالْمُزْدَلِفَةِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَجَمْعُ الْمُسَافِرِ فِي جِدِّ السَّيْرِ رُخْصَةٌ، وَجَمْعُ الْمَرِيضِ يَخَافُ أَنْ   [الفواكه الدواني] بِالْفُسْطَاطِ لِأَنَّ الصَّحَابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - اجْتَمَعُوا عَلَى نَصْبِ مِحْرَابِهِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْجِهَةِ إنَّمَا هُوَ لِمَنْ خَرَجَ عَنْ تِلْكَ الْبِقَاعِ الثَّلَاثِ، فَمَنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي هَذِهِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ وَيَقْطَعُهَا وَلَوْ أَعْمَى مُنْحَرِفًا يَسِيرًا وَإِنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الْخَطَأُ لِلْمُصَلِّي فِيهَا إلَّا بَعْدَ تَمَامِ الصَّلَاةِ، وَتَجِبُ إعَادَتُهَا أَبَدًا وَلَوْ كَانَ الْخَطَأُ يَسِيرًا مِنْ أَعْمَى، وَلَا فَرْقَ فِي الْقِسْمَيْنِ بَيْنَ كَوْنِ الِانْحِرَافِ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا أَوْ نِسْيَانًا، وَأَمَّا مَنْ انْحَرَفَ عَنْ الْقِبْلَةِ فِي غَيْرِ الْأَمَاكِنِ الثَّلَاثَةِ فَإِنْ اطَّلَعَ عَلَيْهِ فِي الصَّلَاةِ اسْتَقْبَلَ مِنْ غَيْرِ قَطْعٍ، وَلَوْ كَانَ الِانْحِرَافُ كَثِيرًا حَيْثُ كَانَ الْمُنْحَرِفُ أَعْمَى وَبَصِيرًا وَانْحِرَافُهُ يَسِيرٌ وَإِنْ كَثُرَ انْحِرَافُهُ فَإِنَّهُ يَقْطَعُ لِبُطْلَانِهَا فِي حَقِّهِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَتَبَيَّنْ الِانْحِرَافُ إلَّا بَعْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ فَلَا تُعَادُ وَلَا فِي الْوَقْتِ إلَّا عَلَى الْبَصِيرِ الْمُنْحَرِفِ كَثِيرًا فَيُنْدَبُ لَهُ الْإِعَادَةُ فِي الْوَقْتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تَبَيَّنَ خَطَأٌ بِصَلَاةٍ قُطِعَ غَيْرُ أَعْمَى وَمُنْحَرِفٌ يَسِيرًا فَيَسْتَقْبِلَانِهِ اوَبَعْدَهَا أَعَادَ فِي الْوَقْتِ الْمُخْتَارِ، وَمَفْهُومُ الْخَطَإِ أَنَّ تَعَمُّدَ الِانْحِرَاف مُبْطِلٌ، وَأَمَّا مَنْ نَسِيَ مَطْلُوبِيَّةَ الِاسْتِقْبَالِ أَوْ نَسِيَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ أَوْ جَهِلَ جِهَةَ الْقِبْلَةِ مَعَ عِلْمِ كُلٍّ بِحُكْمِ الِاسْتِقْبَالِ فَقِيلَ يُعِيدُ صَلَاتَهُ أَبَدًا، وَقِيلَ فِي الْوَقْتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَهَلْ يُعِيدُ النَّاسِي أَبَدًا خِلَافٌ، وَأَمَّا مَنْ جَهِلَ وُجُوبَ الِاسْتِقْبَالِ فَإِنَّهُ يُعِيدُ صَلَاتَهُ الْفَرْضَ أَبَدًا مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. [صَلَاةُ الْجُمُعَةِ] (وَصَلَاةُ الْجُمُعَةِ) فَرِيضَةٌ. (وَ) كَذَلِكَ (السَّعْيُ إلَيْهَا) لِتَوَقُّفِهَا عَلَيْهِ (فَرِيضَةٌ) عَلَى كُلِّ حُرٍّ ذَكَرٍ مُتَوَطِّنٍ وَإِنْ بَقَرِيَّةٍ نَائِيَةٍ عَلَى كَفَرْسَخٍ مِنْ الْمَنَارِ وَزَمَنِ السَّعْيِ بِحَيْثُ إذَا شَرَعَ فِيهِ يُدْرِكُ جَمِيعَ الصَّلَاةِ أَوْ مَعَ الْخُطْبَةِ، فَقَوْلُهُ فَرِيضَةٌ رَاجِعٌ لِكُلٍّ مِنْ الصَّلَاةِ وَالسَّعْيِ. [صَلَاة الْوِتْر] (وَ) صَلَاةُ (الْوِتْرِ) بِكَسْرِ الْوَاوِ وَفَتْحِهَا وَهُوَ رَكْعَةٌ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ وَوَقْتُهُ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ وَشَفَقٍ لِلْفَجْرِ وَضَرُورِيَّةٌ لِلصُّبْحِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ إيقَاعُهُ عَقِبَ شَفْعٍ مُنْفَصِلٍ بِسَلَامٍ، وَيُكْرَهُ وَصْلُهُ إلَّا لِاقْتِدَاءٍ بِوَاصِلٍ. (وَكَذَلِكَ صَلَاةُ) كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ (الْعِيدَيْنِ) سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ مَنْ تَلْزَمُهُ الْجُمُعَةُ، وَلَا أَفْضَلِيَّةَ لِإِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى، خِلَافًا لِبَعْضِ الْأَئِمَّةِ فِي تَفْضِيلِ صَلَاةِ عِيدِ النَّحْرِ وَوَقْتِهَا مِنْ حِلِّ النَّافِلَةِ لِلزَّوَالِ، وَإِنَّمَا تَقَعُ سُنَّةً مَعَ الْجَمَاعَةِ وَتُنْدَبُ لِمَا فَاتَتْهُ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ الزَّوَالُ فَتَفُوتَ. (وَ) كَذَلِكَ صَلَاةُ (الْخُسُوفِ) وَهُوَ ذَهَابُ كُلِّ أَوْ بَعْضِ ضَوْءِ الشَّمْسِ إلَّا مَا قَلَّ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ. (وَ) كَذَلِكَ صَلَاةُ (الِاسْتِسْقَاءِ) سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْوِتْرُ سُنَّةٌ آكَدُ ثُمَّ عِيدٌ ثُمَّ كُسُوفٌ ثُمَّ اسْتِسْقَاءٌ، وَأَمَّا صَلَاةُ خُسُوفِ الْقَمَرِ فَالْمَشْهُورُ نَدْبُهَا، وَعِنْدَ اجْتِمَاعِ الْكُسُوفِ وَالْعِيدِ تُقَدَّمُ صَلَاةِ الْكُسُوفِ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَتُفْعَلُ فِي الْمَسْجِدِ، بِخِلَافِ صَلَاةِ الْعِيدِ فَيُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الصَّحْرَاءِ وَمِثْلُهَا الِاسْتِسْقَاءُ، وَإِنَّمَا قُدِّمَتْ صَلَاةُ الْكُسُوفِ عَلَى صَلَاةِ الْعِيدِ وَفُعِلَتْ فِي الْمَسْجِدِ لِئَلَّا تَفُوتَ تَأْخِيرُهَا لِلْمُصَلِّي بِانْجِلَائِهَا بِخِلَافِ الْعِيدِ لِأَنَّهُ لَا تَفُوتُ صَلَاتُهُ إلَّا بِالزَّوَالِ. (وَ) كَيْفِيَّةُ إيقَاعِ (صَلَاةِ) الْفَرْضِ فِي زَمَنِ (الْخَوْفِ) عَلَى مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (وَاجِبَةٌ) وُجُوبَ السُّنَنِ (أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانُهُ) وَتَعَالَى (بِهَا) فِي قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ} [النساء: 102] الْآيَةَ وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بَاقِيَةٌ لَمْ تُنْسَخْ بِمَوْتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَكِنْ لَا يَجُوزُ لِلْإِمَامِ أَنْ يُصَلِّيَهَا إلَّا حَيْثُ لَمْ يُرْجَ انْكِشَافُ الْعَدُوِّ قَبْلَ ذَهَابِ الْوَقْتِ، فَإِنْ رَجَا انْكِشَافَهُ أَخَّرَهُمْ حَتَّى يَخَافَ خُرُوجَ الْوَقْتِ. (وَهُوَ) أَيْ فِعْلُهَا عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِحَالِ الْخَوْفِ مِنْ قَسْمِ الْجَمَاعَةِ قِسْمَيْنِ. (فِعْلٌ يَسْتَدْرِكُونَ) أَيْ يُحَصِّلُونَ (بِهِ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّ إيقَاعَ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ سُنَّةٌ. (وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ) فِي حَقِّ مَنْ يَصِحُّ طَوَافُهُ فَلَا يُطْلَبُ مِنْ حَائِضٍ وَلَا نُفَسَاءَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ لِدُخُولِ غَيْرِ حَائِضٍ مَكَّةَ بِذِي طُوًى وَلَا يَتَدَلَّكُ فِيهِ إبْقَاءً لِلشَّعَثِ وَخَوْفَ قَتْلِ شَيْءٍ مِنْ الدَّوَابِّ، وَهَذَا بِخِلَافِ غُسْلِ عَرَفَةَ فَيُنْدَبُ وَلَوْ لِلْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْقُبْهُ طَوَافٌ وَلَا يَتَدَلَّكُ فِيهِ، بِخِلَافِ غُسْلِ الْإِحْرَامِ فَاغْتِسَالَاتُ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ. [جَمْعِ الصَّلَاة] (وَالْجَمْعُ لَيْلَةَ الْمَطَرِ) الْكَثِيرِ وَلَوْ الْمُتَوَقَّعَ الَّذِي يَحْمِلُ النَّاسَ عَلَى تَغْطِيَةِ الرَّأْسِ، أَوْ الطِّينِ الَّذِي يَمْنَعُ الْمَشْيَ بِالْمَدَاسِ مَعَ الظُّلْمَةِ، وَمِثْلُهُ الثَّلْجُ وَالْبَرَدُ، وَيُسْتَدَلُّ عَلَى كَثْرَةِ الْمُتَوَقَّعِ بِالْقَرَائِنِ وَخَبَرُ الْجَمْعِ قَوْلُهُ: (تَخْفِيفٌ) وَتَرْخِيصٌ وَهُوَ مَنْدُوبٌ، وَبَيَّنَ خَلِيلٌ صِفَتَهُ بِقَوْلِهِ: أُذِّنَ لِلْمَغْرِبِ كَالْعَادَةِ وَأُخِّرَ قَلِيلًا ثُمَّ صُلِّيَا وَلَاءً إلَّا قَدْرَ أَذَانٍ مُنْخَفِضٍ بِمَسْجِدٍ وَإِقَامَةٍ فَهُوَ جَمْعُ تَقْدِيمٍ، فَلَوْ جَمَعُوا لِأَجْلِ الْمَطَرِ الْمُتَوَقَّعِ وَلَمْ يَحْصُلْ فَيَنْبَغِي الْإِعَادَةُ لِصَلَاةِ الْعِشَاءِ فِي الْوَقْتِ كَخَائِفِ إغْمَاءٍ أَوْ نَحْوِهِ قَدَّمَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ الْأُولَى ثُمَّ لِعَدَمِ حُصُولِ مَا خَافَهُ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى جَوَازِ جَمْعِ الْعِشَاءِ عِنْدَ الْمَغْرِبِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ فَعَلَهُ) أَيْ الْجَمْعَ لَيْلَةَ الْمَطَرِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَ (الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ) بَعْدَهُ كَأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَعَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 يُغْلَبَ عَلَى عَقْلِهِ تَخْفِيفٌ وَكَذَلِكَ جَمْعُهُ لِعِلَّةٍ بِهِ فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ رُخْصَةٌ وَالْإِقْصَارُ فِيهِ وَاجِبٌ،،   [الفواكه الدواني] الْجَمِيعِ، فَحُكْمُهُ مُسْتَمِرٌّ إلَى الْآنِ لَمْ يُنْسَخْ، وَقَدْ اسْتَشْكَلَهُ الْقَرَافِيُّ بِمَا مُحَصَّلُهُ: فِعْلُ الصَّلَاةِ فِي وَقْتِهَا وَاجِبٌ وَهَذَا الْجَمْعُ مَنْدُوبٌ وَكَيْفَ يُتْرَكُ وَاجِبٌ لِتَحْصِيلِ مَنْدُوبٍ. وَأُجِيبَ عَنْ إشْكَالِهِ بِأَنَّهُ رُخْصَةٌ، وَإِيضَاحُ الْجَوَابِ أَنَّ فِعْلَ الصَّلَاةِ الْمُقَدَّمَةِ فِي وَقْتِهَا الْمُعْتَادِ لَهَا غَيْرُ وَاجِبٍ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ، وَالْإِشْكَالُ إنَّمَا كَانَ يُوجَدُ مَعَ بَقَاءِ الْوُجُوبِ فَافْهَمْ. (وَالْجَمْعُ) بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ جَمْعُ تَقْدِيمٍ (بِعَرَفَةَ وَ) كَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ جَمْعُ تَأْخِيرٍ. (الْمُزْدَلِفَةِ) بَعْدَ الرُّجُوعِ مِنْ عَرَفَةَ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ وَهُوَ مَحْذُوفٌ مِنْ الْأَوَّلِ لِدَلَالَةِ الثَّانِي. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَمَعَ وَقَصَرَ إلَّا أَهْلَهَا كَمِنًى وَعَرَفَةَ، وَالضَّمِيرُ فِي وَجَمَعَ لِلْحَالِّ بِالْمُزْدَلِفَةِ وَإِنْ عَجَزَ فَبَعْدَ الشَّفَقِ إنْ نَفَرَ مَعَ الْإِمَامِ، وَصِفَةُ الْجَمْعِ بِعَرَفَةَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَنْ يَخْطُبَ الْإِمَامُ بَعْدَ الزَّوَالِ، فَإِذَا فَرَغَ مِنْ خُطْبَتِهِ أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ وَأَقَامَ لِلظُّهْرِ وَصَلَّاهَا، ثُمَّ يُؤَذِّنُ لِلْعَصْرِ وَيُقِيمُ لَهَا وَيُصَلِّيهَا، وَصِفَةُ الْجَمْعِ بِالْمُزْدَلِفَةِ إذَا وَصَلَ إلَيْهَا أَنْ يُصَلِّيَ الْمَغْرِبَ ثُمَّ يَحُطَّ رَحْلَهُ ثُمَّ يُصَلِّيَ الْعِشَاءَ، وَقِيلَ يَحُطُّ رَحْلَهُ ثُمَّ يُصَلِّي الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ مُتَوَالِيَتَيْنِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَحَلُّ الْجَمْعِ إذَا وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَسَارَ مَعَ النَّاسِ أَوْ تَأَخَّرَ عَنْهُمْ لِغَيْرِ عَجْزٍ، فَإِنْ وَقَفَ وَحْدَهُ فَإِنَّهُ لَا يَجْمَعُ لَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا وَإِنَّمَا يُصَلِّي كُلَّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَإِنْ وَقَفَ مَعَ الْإِمَامِ وَتَأَخَّرَ لِعَجْزٍ صَلَّاهُمَا مَجْمُوعَتَيْنِ بَعْدَ الشَّفَقِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ شَاءَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الصُّوَرَ أَرْبَعٌ: أَنْ يَقِفَ مَعَ الْإِمَامِ وَيَنْفِرَ مَعَهُ وَحُكْمُهَا وَاضِحٌ. الثَّانِيَةُ: أَنْ يَقِفَ مَعَهُ وَيَتَأَخَّرَ لِعَجْزٍ فَإِنَّهُ يَجْمَعُ بَعْدَ الشَّفَقِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ. الثَّالِثَةُ: أَنْ يَقِفَ مَعَ الْإِمَامِ وَيَتَأَخَّرَ عَنْهُ اخْتِيَارًا فَلَا يَجْمَعُ إلَّا بِالْمُزْدَلِفَةِ: الرَّابِعَةُ: أَنْ لَا يَقِفَ مَعَ الْإِمَامِ فَهَذَا لَا يَجُوزُ لَهُ الْجَمْعُ لَا بِالْمُزْدَلِفَةِ وَلَا بِغَيْرِهَا. الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ أَنَّ جَمْعَ التَّأْخِيرِ لَا يُؤَذَّنُ فِيهِ لِأُولَى الصَّلَاتَيْنِ وَهُوَ ظَاهِرٌ بِخِلَافِ ثَانِيَتِهِمَا وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (وَجَمْعُ الْمُسَافِرِ) سَفَرًا مُبَاحًا فِي الْبَرِّ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَرْبَعَةَ بُرُدٍ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ. (فِي) حَالِ (جِدِّ السَّيْرِ) لِإِدْرَاكِ أَمْرٍ مُهِمٍّ (رُخْصَةٌ) مَرْجُوحٌ فِعْلُهَا إذْ الْأَوْلَى تَرْكُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَرُخِّصَ لَهُ جَمْعُ الظُّهْرَيْنِ بِبَرٍّ وَإِنْ قَصَرَ وَلَمْ يَجِدْ بِلَا كُرْهٍ وَفِيهَا شَرْطُ الْجِدِّ لِإِدْرَاكِ أَمْرٍ بِمَنْهَلٍ زَالَتْ بِهِ وَنَوَى النُّزُولَ بَعْدَ الْغُرُوبِ وَقَبْلَ الِاصْفِرَارِ وَأَخَّرَ الْعَصْرَ وَبَعْدَهُ خُيِّرَ فِيهَا، وَإِنْ زَالَتْ رَاكِبًا أَخَّرَهُمَا إنْ نَوَى الِاصْفِرَارَ أَوْ قَبْلَهُ وَإِلَّا فَفِي وَقْتَيْهِمَا، وَحُكْمُ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ حُكْمُ الظُّهْرَيْنِ لَمَّا غَرَبَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ وَهُوَ نَازِلٌ أَوْ سَائِرٌ بِتَنْزِيلِ طُلُوعِ الْفَجْرِ مَنْزِلَةَ الْغُرُوبِ، وَالثُّلُثِ الْأَوَّلِ مَنْزِلَةَ مَا قَبْلَ الِاصْفِرَارِ، وَمَا بَعْدَهُ لِلْفَجْرِ بِمَنْزِلَةِ الِاصْفِرَارِ سَوَاءٌ غَرَبَتْ عَلَيْهِ نَازِلًا أَوْ سَائِرًا، وَلَا فَرْقَ فِي هَذَا بَيْنَ كَوْنِ الْمُسَافِرِ رَجُلًا أَوْ امْرَأَةً، وَلَا بَيْنَ كَوْنِهِ سَائِرًا عَلَى رَجُلَيْهِ أَوْ رَاكِبًا دَابَّةً، وَأَمَّا الْعَاصِي بِسَفَرِهِ أَوْ اللَّاهِي أَوْ الْمُسَافِرُ فِي الْبَحْرِ فَلَا يَجْمَعُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. (وَجَمْعُ الْمَرِيضِ) الَّذِي (يَخَافُ أَنْ يُغْلَبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (عَلَى عَقْلِهِ) عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ مِنْ الْمُشْتَرَكَيْنِ (تَخْفِيفٌ) أَيْ مُرَخَّصٌ فِيهِ لَهُ بِأَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ فِي وَقْتِ الْأُولَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَقَدَّمَ خَائِفُ الْإِغْمَاءِ وَالنَّاقِضِ وَالْمَيْدِ، وَإِذَا قَدَّمَ وَسَلَّمَ فِي وَقْتِ الثَّانِيَةِ اُسْتُحِبَّ لَهُ إعَادَةُ الثَّانِيَةِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ جَمْعِ الْمُسَافِرِ وَلَا حُكْمُ جَمْعِ الْخَائِفِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ جَمْعَ الْمُسَافِرِ خِلَافُ الْأَفْضَلِ، وَالْأَفْضَلُ فِعْلُ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا، وَأَمَّا جَمْعُ الْخَائِفِ مِنْ نَحْوِ الْإِغْمَاءِ عِنْدَ دُخُولِ وَقْتِ الثَّانِيَةِ فَمُسْتَحَبٌّ كَمَا بَيَّنَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ حُكْمُ مَنْ خَافَ مِنْ الْمَوْتِ عِنْدَ الثَّانِيَةِ أَوْ خَافَتْ الْحَيْضَ وَقَالَ فِيهِ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ: لَا يُشْرَعُ لَهُ الْجَمْعُ، وَذَكَرَ الْعَلَّامَةُ الْأُجْهُورِيُّ فُرُوقًا وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهَا، وَاَلَّذِي يَتَّجِهُ عِنْدِي أَحْرَوِيَّةُ الْجَمْعِ لِمَا ذُكِرَ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ يَطْلُبُ الْجَمْعَ لِلْخَوْفِ مِمَّا لَا يُسْقِطُ الصَّلَاةَ غَالِبًا كَالْإِغْمَاءِ وَالْحُمَّى لِسُرْعَةِ زَوَالِهِ فَالْجَمْعُ لِلْمُسْقِطِ أَوْلَى وَحُرِّرَ الْحُكْمُ. (وَكَذَلِكَ) يُرَخَّصُ وَيُخَفَّفُ (جَمْعُهُ) أَيْ الْمَرِيضِ لِلظُّهْرِ مَعَ الْعَصْرِ أَوْ الْمَغْرِبِ مَعَ الْعِشَاءِ (لِعِلَّةٍ بِهِ) غَيْرِ مَا سَبَقَ كَحُصُولِ مَشَقَّةٍ تَلْحَقُهُ بِإِيقَاعِ كُلِّ صَلَاةٍ فِي وَقْتِهَا (فَيَكُونُ ذَلِكَ أَرْفَقُ بِهِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَكَالْمَبْطُونِ وَيَلْحَقُ بِهِ كُلُّ مَنْ تَلْحَقُهُ مَشَقَّةٌ بِالْوُضُوءِ أَوْ الْقِيَامِ عِنْدَ كُلِّ صَلَاةٍ إذَا صَلَّاهُمَا مُفْتَرِقَتَيْنِ، وَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْقِيَامُ إذَا صَلَّاهُمَا مُجْتَمِعَتَيْنِ فَإِنَّهُ يَجْمَعُهُمَا جَمْعًا صُورِيًّا. قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَقَالَ فِيهَا: وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ لِلْمَرِيضِ أَرْفَقُ بِهِ لِشِدَّةِ مَرَضٍ أَوْ بَطْنٍ مُنْخَرِقٍ مِنْ غَيْرِ مَخَافَةٍ عَلَى عَقْلٍ جَمَعَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي وَسَطِ وَقْتِ الظُّهْرِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَهُوَ آخِرُ وَقْتِهَا الْمُخْتَارِ وَالثَّانِيَةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا، وَبَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ عِنْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ حَمَلَ جَمَاعَةٌ قَوْلَهَا وَسَطَ الْوَقْتِ عَلَى الْجَمْعِ الصُّورِيِّ وَهُوَ آخَرُ الْقَامَةِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ مَغِيبُ الشَّفَقِ، وَفَسَّرَهُ بَعْضٌ بِرُبْعِ الْقَامَةِ، وَقِيلَ يَجْمَعُ جَمْعَ تَقْدِيمٍ فِي أَوَّلِ وَقْتِ الْأُولَى وَهَذَا فِي الْمَبْطُونِ وَنَحْوِهِ مِنْ كُلِّ مَنْ لَا يَضْبِطُ إسْهَالَ بَطْنِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَضْبِطُ وَقْتَ إسْهَالِ بَطْنِهِ أَوْ مُلَازَمَةِ حَدَثِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُقَدِّمَ الثَّانِيَةَ عِنْدَ الْأُولَى أَوْ تَأْخِيرَ الْأُولَى عِنْدَ الثَّانِيَةِ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ مِنْ الرَّغَائِبِ وَقِيلَ مِنْ السُّنَنِ، وَصَلَاةُ الضُّحَى نَافِلَةٌ، وَكَذَلِكَ قِيَامُ رَمَضَانَ نَافِلَةٌ وَفِيهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ وَمَنْ قَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَالْقِيَامُ مِنْ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا، وَالصَّلَاةُ   [الفواكه الدواني] الصَّلَاةِ مِنْ غَيْرِ حَدَثٍ. [الْفِطْر فِي السَّفَر] (وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ) بِمَعْنَى تَبْيِيتِ الْفِطْرِ فِيهِ لَيْلًا (رُخْصَةٌ) مَرْجُوحَةٌ حَيْثُ جَاوَزَ الْمُسَافِرُ مَحَلَّ بَدْءِ الْقَصْرِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْجَائِزِ: وَفِطْرٌ بِسَفَرِ قَصْرٍ شُرِعَ فِيهِ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ يَنْوِهِ فِيهِ وَإِلَّا قَضَاهُ وَلَوْ تَطَوُّعًا وَلَا كَفَّارَةَ إلَّا أَنْ يَنْوِيَهُ بِسَفَرٍ كَفِطْرِهِ بَعْدَ دُخُولِهِ، وَرَاجِعْ مُحْتَرَزَاتِ تِلْكَ الْقُيُودِ فِي شُرَّاحِ خَلِيلٍ فَإِنَّ فِيهَا شِفَاءَ الْغَلِيلِ. وَقُلْنَا رُخْصَةٌ مَرْجُوحَةٌ لِأَنَّ الصَّوْمَ أَفْضَلُ. قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] (وَالْإِقْصَارُ فِيهِ) أَيْ فِي السَّفَرِ لِلصَّلَاةِ الرَّبَاعِيَةِ (وَاجِبٌ) وُجُوبَ السُّنَنِ فَلَا يَحْرُمُ الْإِتْمَامُ، وَصَرَّحَ خَلِيلٌ بِالسُّنِّيَّةِ حَيْثُ قَالَ: سُنَّ لِمُسَافِرٍ قَصْرُ رَبَاعِيَةٍ وَقْتِيَّةٍ إلَخْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السُّنِّيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إذَا سَافَرُوا قَصَرُوا الصَّلَاةَ» وَإِنَّمَا كَانَ الْقَصْرُ فِي السَّفَرِ سُنَّةٌ وَالْفِطْرُ فِيهِ مَكْرُوهًا، مَعَ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْفِطْرِ وَالْقَصْرِ رُخْصَةٌ، لِأَنَّ فِي الْقَصْرِ عَمَلًا بِالرُّخْصَةِ مَعَ بَرَاءَةِ الذِّمَّةِ، بِخِلَافِ الْفِطْرِ تَشْتَغِلُ مَعَهُ الذِّمَّةُ. [رَكْعَتَا الْفَجْر] (وَرَكْعَتَا الْفَجْرِ) اُخْتُلِفَ فِيهِمَا عَلَى قَوْلَيْنِ فَقِيلَ: (مِنْ الرَّغَائِبِ) وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ حَيْثُ قَالَ: وَهِيَ رَغِيبَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى نِيَّةٍ تَخُصُّهَا وَعُزِيَ هَذَا الْقَوْلُ لِلْأَكْثَرَيْنِ. (وَقِيلَ) إنَّهُمَا (مِنْ السُّنَنِ) وَيَنْبَنِي عَلَى السُّنِّيَّةِ نَدْبُ فِعْلِهِمَا فِي الْمَسْجِدِ، وَعَلَى عَدَمِهَا نَدْبُ فِعْلِهِمَا فِي الْبَيْتِ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ كَثْرَةُ الثَّوَابِ عَلَى السُّنِّيَّةِ، وَسَبَبُ الْخِلَافِ الِاخْتِلَافُ فِي حَقِيقَةِ السُّنَّةِ، فَمَنْ عَرَّفَهَا بِأَنَّهَا مَا فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَاوَمَ عَلَيْهِ وَأَظْهَرَهُ فِي جَمَاعَةٍ قَالَ: إنَّهُمَا رَغِيبَتَانِ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُظْهِرْهُمَا فِي جَمَاعَةٍ، وَمَنْ عَرَّفَهَا بِأَنَّهَا مَا دَاوَمَ عَلَيْهِ مُطْلَقًا جَعَلَهُمَا سُنَّةً. [صَلَاة الضُّحَى] (وَصَلَاةُ الضُّحَى) بِالْقَصْرِ (نَافِلَةٌ) مُتَأَكِّدَةٌ، وَمَعْنَى النَّافِلَةِ مَا دُونَ السُّنَّةِ وَالرَّغِيبَةِ، وَأَقَلُّهَا رَكْعَتَانِ وَأَوْسَطُهَا سِتٌّ وَأَكْثَرُهَا ثَمَانِ رَكَعَاتٍ عِنْدَ مُعْظَمِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ، وَقِيلَ لَا حَدَّ لِأَكْثَرِهَا، وَقَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ: يُكْرَهُ مَا زَادَ عَلَى الثَّمَانِ بِنِيَّةِ الضُّحَى، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ مُقْتَضَى كَلَامِ الْإِمَامِ مِنْ عَدَمِ التَّحْدِيدِ فِي النَّوَافِلِ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ، وَقَوْلُنَا بِالْقَصْرِ إشَارَةٌ إلَى أَوَّلِ وَقْتِهَا وَهُوَ ارْتِفَاعُ الشَّمْسِ قَيْدَ رُمْحٍ، وَأَمَّا بِالْمَدِّ فَيَنْتَهِي إلَى الزَّوَالِ، وَأَمَّا الضَّحْوَةُ فَهِيَ وَقْتُ الشُّرُوقِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مَا قَبْلَ الزَّوَالِ لَهُ ثَلَاثَةُ أَسْمَاءَ: ضَحْوَةٌ وَضُحًى بِالْقَصْرِ وَضُحَا بِالْمَدِّ وَهِيَ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ، وَفَضْلُهَا مَشْهُورٌ فَمِنْ ذَلِكَ مَا وَرَدَ: «مِنْ أَنَّ مَنْ صَلَّى رَكْعَتِي الضُّحَى لَمْ يُكْتَبْ مِنْ الْغَافِلِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَمَنْ صَلَّى أَرْبَعًا كُتِبَ مِنْ الْقَانِتِينَ، وَمَنْ صَلَّى ثَمَانِيًا كُتِبَ مِنْ الْعَابِدِينَ» . وَفِي بَعْضِ طُرُقِ مُسْلِمٍ: «يُصْبِحُ عَلَى كُلِّ سُلَامَى مِنْ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَسْبِيحَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَحْمِيدَةٍ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ تَهْلِيلَةٍ صَدَقَةٌ، وَيَجْزِي عَنْ ذَلِكَ رَكْعَتَانِ تَرْكَعُهُمَا مِنْ الضُّحَى» أَيْ يَكْفِي عَنْ هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الْمَطْلُوبَةِ عَنْ جَمِيعِ السُّلَامَيَاتِ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ مِنْ الضُّحَى، لِأَنَّ الصَّلَاةَ بِجَمِيعِ الْأَعْضَاءِ، فَإِذَا صَلَّى الْعَبْدُ فَقَدْ قَامَ كُلُّ عُضْوٍ مِنْهُ بِوَظِيفَتِهِ وَأَدَّى شُكْرَ نِعْمَتِهِ، وَالسُّلَامَى بِضَمِّ السِّينِ وَتَخْفِيفِ اللَّامِ تُجْمَعُ عَلَى سُلَامَيَاتٍ بِفَتْحِ الْمِيمِ وَتَخْفِيفِ الْيَاءِ وَهِيَ عِظَامُ الْجَسَدِ وَمَفَاصِلِهِ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الضُّحَى اسْمٌ لِلصَّلَاةِ وَيَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الشَّيْءِ بِاسْمِ وَقْتِهِ. [قِيَام رَمَضَان] (وَكَذَلِكَ قِيَامُ رَمَضَانَ) الْمُسَمَّاةُ بِالتَّرَاوِيحِ (نَافِلَةٌ) مُتَأَكِّدَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: عَاطِفًا عَلَى الْمَنْدُوبِ الْمُتَأَكِّدِ: وَتَرَاوِيحُ وَانْفِرَادٌ فِيهَا إنْ لَمْ تُعَطَّلْ الْمَسَاجِدُ أَيْ وَتَأَكَّدَ قِيَامُ رَمَضَانَ، وَسُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُطِيلُونَ الْقِيَامَ فِي فِعْلِهَا، وَيَجْلِسُ الْإِمَامُ وَالْمَأْمُومُ بَعْدَ كُلِّ أَرْبَعِ رَكَعَاتٍ لِلِاسْتِرَاحَةِ، وَوَقْتُهَا وَقْتُ الْوِتْرِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَهُوَ مَغِيبُ الشَّفَقِ الْأَحْمَرِ بَعْدَ عِشَاءٍ صَحِيحَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ فِيهَا مُسْتَحَبَّةٌ، وَهِيَ مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ كَرَاهَةِ صَلَاةِ النَّافِلَةِ جَمَاعَةً كَالْعِيدَيْنِ وَكَالْكُسُوفَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالِانْفِرَادِ فِيهَا فِعْلُهَا فِي الْبَيْتِ وَلَوْ صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ، إلَّا أَنْ يَكُونَ آفَاقِيًّا بِالْمَدِينَةِ الْمُنَوَّرَةِ أَوْ لَا يَنْشَطُ لِفِعْلِهَا فِي بَيْتِهِ وَيَخْشَى تَعْطِيلَ الْمَسَاجِدِ، وَإِلَّا كَانَ الْأَفْضَلُ صَلَاتَهَا فِي الْمَسْجِدِ. (وَفِيهِ) أَيْ رَمَضَانَ (فَضْلٌ) أَيْ ثَوَابٌ (كَبِيرٌ) رُوِيَ بِالْبَاءِ الْمُوَحَّدَةِ وَبِالْمُثَلَّثَةِ وَاسْتَدَلَّ عَلَى مَا ادَّعَاهُ مِنْ زِيَادَةِ فَضْلِهِ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا أَيْ تَصْدِيقًا بِمَا وَعَدَهُ اللَّهُ فِيهِ مِنْ الثَّوَابِ وَاحْتِسَابًا أَيْ مُحْتَسِبًا أَجْرَهُ عَلَى اللَّهِ لَا يَقْصِدُ بِهِ رِيَاءً وَلَا سُمْعَةً بَلْ لِمُجَرَّدِ الثَّوَابِ. غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ» يَعْنِي الصَّغَائِرَ، وَأَمَّا الْكَبَائِرُ فَلَا يُكَفِّرُهَا إلَّا التَّوْبَةُ أَوْ مَحْضُ الْعَفْوِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلْفَاعِلِ صَغَائِرُ فَقِيلَ يُكَفَّرُ بِهِ أَجْزَاءٌ مِنْ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ كَبَائِرُ وَلَا صَغَائِرُ يُرْفَعُ لَهُ بِهَا دَرَجَاتٌ، وَيُقَالُ هَكَذَا مَعَ كُلِّ مَا يُكَفِّرُ، وَقَدْ صَلَّى التَّرَاوِيحَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَاخْتُلِفَ فِي عَدَدِ اللَّيَالِي الَّتِي صَلَّى فِيهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّرَاوِيحَ فَقِيلَ صَلَّاهَا فِي لَيْلَتَيْنِ، وَقِيلَ فِي ثَلَاثٍ ثُمَّ تَرَكَ فِعْلَهَا فِي الْمَسْجِدِ خَشْيَةَ فَرْضِهَا عَلَيْهِمْ. وَقَدْ أَشَارَ إلَى ذَلِكَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيُّ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ فَرِيضَةٌ يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا وَكَذَلِكَ مُوَارَاتُهُمْ بِالدَّفْنِ وَغُسْلُهُمْ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ. وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَامَّةٌ يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا إلَّا مَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَفَرِيضَةُ الْجِهَادِ عَامَّةٌ يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا إلَّا أَنْ يَغْشَى الْعَدُوُّ مَحَلَّةَ قَوْمٍ فَيَجِبُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ قِتَالُهُمْ إذَا كَانُوا مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ، وَالرِّبَاطُ فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدُّهَا وَحِيَاطَتُهَا وَاجِبٌ يَحْمِلُهُ مَنْ قَامَ بِهِ. وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ، وَالِاعْتِكَافُ نَافِلَةٌ، وَالتَّنَفُّلُ بِالصَّوْمِ مُرَغَّبٌ فِيهِ وَكَذَلِكَ،   [الفواكه الدواني] وَفِيهِ قَدْ صَلَّى نَبِيُّ الْمَرْحَمَةِ ... قِيَامَهُ بِلَيْلَتَيْنِ فَاعْلَمْهُ أَوْ بِثَلَاثٍ ثُمَّ لَمْ يَخْرُجْ لَهُ ... خَشْيَةَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيْهِمْ فِعْلُهُ ثُمَّتْ كَانَ الْجَمْعُ فِيهِ مِنْ عُمَرَ ... لِمَا وَعَاهُ مِنْ عَلِيٍّ مِنْ خَبَرٍ مِنْ أَنَّهُ تَنْزِلُ أَمْلَاكٌ كِرَامٌ ... بِرَمَضَانَ كُلَّ عَامٍ لِلْقِيَامِ فَمَنْ لَهُمْ قَدْ مَسَّ أَوْ مَسُّوهُ ... يَسْعَدْ وَالشِّقْوَةُ لَا تَعْرَوْهُ وَمَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: نِعْمَتْ الْبِدْعَةُ هَذِهِ مُرَادُهُ أَنَّ الْمُدَاوَمَةَ عَلَيْهَا مَعَ الْإِمَامِ فِي الْمَسْجِدِ شَبِيهٌ بِالْبِدْعَةِ لَا أَنَّ الصَّلَاةَ نَفْسَهَا بِدْعَةٌ، لِمَا عَرَفْت مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّاهَا فِي جَمَاعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ الْحَدِيثِ اخْتِصَاصُ صَلَاةِ النَّفْلِ فِي اللَّيْلِ بِخُصُوصِ رَمَضَانَ قَالَ: (وَالْقِيَامُ) بِمَعْنَى الصَّلَاةِ فِي جُزْءٍ (مِنْ اللَّيْلِ فِي رَمَضَانَ وَغَيْرِهِ مِنْ النَّوَافِلِ الْمُرَغَّبِ فِيهَا) لِأَنَّ فِيهِ حُضُورَ الْقَلْبِ لِتَفَرُّغِهِ مِنْ الشَّوَاغِلِ، وَلِأَنَّ الْقِيَامَ فِي اللَّيْلِ مِنْ شِعَارِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ قَالَ تَعَالَى: {قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا} [المزمل: 2] وَنَاشِئَةُ اللَّيْلِ هِيَ الْقِيَامُ بَعْدَ النَّوْمِ، وَأَفْضَلُ اللَّيْلِ الثُّلُثُ الْأَخِيرُ عَلَى الْمَذْهَبِ، وَعُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ صِحَّةُ مَا قَالَهُ الْبَاجِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّ صَلَاةَ الْقِيَامِ غَيْرُ مُخْتَصَّةٍ بِرَمَضَانَ وَإِنَّمَا الْمُخْتَصُّ بِهِ تَأْكِيدُ النَّدْبِ، وَإِنَّمَا جُعِلَ فِي الْمَسَاجِدِ فِي رَمَضَانَ لِيَحْصُلَ لِعَامَّةِ النَّاسِ الِانْتِفَاعُ بِسَمَاعِ جَمِيعِ الْقُرْآنِ فِي أَفْضَلِ الشُّهُورِ. [صَلَاة الْجِنَازَة] (وَالصَّلَاةُ عَلَى مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ) وَلَوْ حُكْمًا مَعَ بَقِيَّةِ الشُّرُوطِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فِي بَابِ الْجَنَائِزِ (فَرِيضَةٌ) عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ (يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا) عَنْ غَيْرِهِ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا، وَقِيلَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ. (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِثْلُ الصَّلَاةِ فِي مُطْلَقِ الْوُجُوبِ (مُوَارَاتُهُمْ بِالدَّفْنِ) فَإِنَّهَا فَرْضٌ بِاتِّفَاقٍ وَلِذَلِكَ قُلْنَا التَّشْبِيهُ فِي مُطْلَقِ الْوُجُوبِ. (وَغُسْلُهُمْ) أَيْ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ. (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ مُوَارَاتَهُمْ بِالْكَفَنِ وَالدَّفْنِ لَا نِزَاعَ فِي وُجُوبِهِ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ، وَأَمَّا غُسْلُهُمْ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِمْ فَفِيهِمَا خِلَافٌ بِالْوُجُوبِ وَالسُّنِّيَّةِ. [طَلَب الْعِلْم] (وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَامَّةٌ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (يَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا) عَنْ مَنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا. (إلَّا مَا يَلْزَمُ الرَّجُلَ) الْمُرَادُ الشَّخْصُ الْمُكَلَّفُ (فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ) كَمَعْرِفَةِ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَأَحْكَامِ الْعِبَادَاتِ الْوَاجِبَةِ عَلَى الْأَعْيَانِ، وَكَذَا أَحْكَامُ الْمُعَامَلَاتِ لِمَنْ يَتَعَاطَاهَا، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يُقْدِمَ عَلَى أَمْرٍ حَتَّى يَعْلَمَ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِ، وَالْمُرَادُ بِالْعِلْمِ الْفِقْهُ وَمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ مِنْ تَفْسِيرٍ وَحَدِيثٍ وَأُصُولٍ وَكَلَامٍ وَنَحْوِ لُغَةٍ بِإِقْرَاءٍ أَوْ تَأْلِيفٍ أَوْ غَيْرِهِمَا مِمَّا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ الِانْتِفَاعُ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] وقَوْله تَعَالَى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] فَجَعَلَ مِنْ النَّاسِ سَائِلًا وَمَسْئُولًا، وَخَبَرُ: «اُطْلُبُوا الْعِلْمَ وَلَوْ بِالصِّينِ» . فَإِنَّهُ ظَاهِرٌ فِي وُجُوبِ طَلَبِ الْعِلْمِ بِمَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ. [الْجِهَاد قَيْءٍ سَبِيل اللَّه] (وَفَرِيضَةُ الْجِهَادِ) فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَهُوَ قِتَالُ الْكُفَّارِ لِإِعْلَاءِ كَلِمَةِ اللَّهِ (عَامَّةٌ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ حُرٍّ ذَكَرٍ قَادِرٍ. (وَيَحْمِلُهَا مَنْ قَامَ بِهَا) وَيَسْقُطُ عَنْ غَيْرِهِ بَاقِي الْمُكَلَّفِينَ. (إلَّا أَنْ يَغْشَى) أَيْ يَفْجَأَ (الْعَدُوُّ) الْكَافِرُ (مَحَلَّةَ قَوْمٍ) أَيْ مَنْزِلَهُمْ (فَيَجِبُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ) جَمِيعُهُمْ الذُّكُورُ وَالْإِنَاثُ الْأَحْرَارُ وَالْعَبِيدُ (قِتَالُهُمْ) قَالَ خَلِيلٌ: وَتَعَيَّنَ بِفَجْءِ الْعَدُوِّ وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ وَعَلَى مَنْ بِقُرْبِهِمْ إنْ عَجَزُوا، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفِرَارُ مِنْ الْكُفَّارِ. (إذَا كَانُوا) أَيْ الْكُفَّارُ (مِثْلَيْ عَدَدِهِمْ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ خَلِيلٌ بِالْعِطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمِ: وَفِرَارٌ إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ فَإِنْ زَادَ عَدَدُ الْكُفَّارِ عَنْ مِثْلَيْ الْمُسْلِمِينَ جَازَ لِلْمُسْلِمِينَ الْفِرَارُ، إلَّا أَنْ يَبْلُغَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا فَيَحْرُمُ عَلَيْهِمْ الْفِرَارُ، وَلَوْ كَانَتْ الْكُفَّارُ عَدَدَ الرِّمَالِ حَيْثُ اتَّفَقَتْ كَلِمَتُهُمْ، فَقَوْلُ خَلِيلٍ: وَلَمْ يَبْلُغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا الْوَاوُ لِلْحَالِ وَهُوَ رَاجِعٌ لِمَفْهُومِ قَوْلِهِ: إنْ بَلَغَ الْمُسْلِمُونَ النِّصْفَ أَيْ لَا إنْ نَقَصُوا عَنْ نِصْفٍ فَيَجُوزُ الْفِرَارُ وَالْحَالُ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا اثْنَيْ عَشَرَ أَلْفًا. (وَالرِّبَاطُ) أَيْ الْإِقَامَةُ (فِي ثُغُورِ الْمُسْلِمِينَ وَسَدُّهَا وَحِيَاطَتُهَا) أَيْ حِفْظُهَا (وَاجِبٌ) عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ بِمَعْنَى أَنَّهُ (يَحْمِلُهُ مَنْ قَامَ بِهِ) عَنْ غَيْرِهِ كَسَائِرِ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ وَفِيهِ فَضْلٌ كَبِيرٌ حَتَّى قِيلَ إنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ الْجِهَادِ، وَقَدْ صَحَّ: «مَنْ رَابَطَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ وَرَجَبَ وَشَعْبَانَ وَيَوْمِ عَرَفَةَ وَالتَّرْوِيَةِ وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ أَفْضَلُ مِنْهُ لِلْحَاجِّ. وَزَكَاةُ الْعَيْنِ وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ فَرِيضَةٌ، وَزَكَاةُ الْفِطْرِ سُنَّةٌ فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ. وَحَجُّ الْبَيْتِ فَرِيضَةٌ، وَالْعُمْرَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَالتَّلْبِيَةُ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَالنِّيَّةُ بِالْحَجِّ فَرِيضَةٌ، وَالطَّوَافُ لِلْإِفَاضَةِ فَرِيضَةٌ، وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ فَرِيضَةٌ وَالطَّوَافُ الْمُتَّصِلُ بِهِ،   [الفواكه الدواني] سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ وَهُوَ مَا بَيْنَ الْحَلْبَتَيْنِ» . وَالثُّغُورُ بِالْمُثَلَّثَةِ جَمْعُ ثَغْرٍ كَفَلْسٍ وَفُلُوسٍ الْفُرَجُ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْكُفَّارِ وَيُتَوَقَّعُ مِنْهَا الْخَوْفُ، وَلَا يُعَدُّ الْإِنْسَانُ مُرَابِطًا بِحَيْثُ يَحْصُلُ لَهُ الثَّوَابُ الْمَذْكُورُ إلَّا مَا كَانَ مُقِيمًا بِنَفْسِهِ لِمُجَرَّدِ ذَلِكَ. (وَصَوْمُ شَهْرِ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ) عَلَى الْمُكَلَّفِينَ الْمُطِيقِينَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَاسْتِيفَاءِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّتِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، مَنْ شَكَّ فِيهَا يُكَفَّرُ وَيُسْتَتَابُ، وَهُوَ أَحَدُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الصَّحِيحَ أَنَّهُ لَا كَرَاهَةَ فِي اسْتِعْمَالِ لَفْظِ رَمَضَانَ مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ شَهْرٍ وَلَا قَرِينَةَ وَعَدَمُ صِحَّةِ كَوْنِهِ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى، مَنْ صَامَهُ إيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ. (وَالِاعْتِكَافُ) وَهُوَ لُزُومُ مَسْجِدٍ مُبَاحٍ لِقُرْبَةٍ قَاصِرَةٍ عَلَى الذِّكْرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ، وَالصَّوْمُ بِصَوْمٍ مَعْزُومٍ عَلَى دَوَامِهِ يَوْمًا وَلَيْلَةً سِوَى وَقْتِ خُرُوجِهِ لِجُمُعَةٍ أَوْ لِمَعْنِيِّهِ الْمَمْنُوعِ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ كَقَضَاءِ حَاجَةٍ. (نَافِلَةٌ) مِنْ نَوَافِلِ الْغَيْرِ يُفْعَلُ فِي رَمَضَانَ وَفِي غَيْرِهِ لِلتَّشَبُّهِ بِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ فِي اسْتِغْرَاقِ سَائِرِ الْأَوْقَاتِ بِالْعِبَادَةِ حَسَبِ الْإِمْكَانِ، وَصِحَّتُهُ بِإِسْلَامٍ وَعَقْلٍ وَتَمْيِيزٍ وَمُطْلَقِ صَوْمٍ وَمَسْجِدٍ مُبَاحٍ وَقَدْ فَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَالتَّنَفُّلُ) بِسَائِرِ الْعِبَادَاتِ فِي أَوْقَاتِ الْجَوَازِ مَنْدُوبٌ شَرْعًا خُصُوصًا (بِالصَّوْمِ) فَإِنَّهُ (مُرَغَّبٌ فِيهِ) بِشَهَادَةِ الْأَدِلَّةِ الَّتِي مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] فَإِنَّهُ قِيلَ: إنَّهُمْ هُمْ الصَّائِمُونَ، وَمِنْهَا مَا جَاءَ: «أَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشَرَةِ أَمْثَالِهَا إلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ إلَّا الصِّيَامَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ» ، وَمَعْنَى إجْزَائِهِ بِهِ أَنَّهُ تَعَالَى إذَا حَاسَبَ عَبْدَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنْ الْمَظَالِمِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ وَلَمْ يَبْقَ لَهُ إلَّا الصَّوْمُ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَتَحَمَّلُ عَنْهُ مَا بَقِيَ مِنْ الْمَظَالِمِ وَيُدْخِلُهُ بِالصَّوْمِ الْجَنَّةَ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ صِيَامُ الدَّهْرِ وَالْجُمُعَةِ، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا - كَانَتْ تَصُومُ الدَّهْرَ حَضَرًا وَسَفَرًا. وَلَمَّا كَانَ صَوْمُ بَعْضِ الْأَيَّامِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ، كَمَا أَنَّ صَوْمَ بَعْضِ الشُّهُورِ أَفْضَلُ مِنْ بَعْضٍ نَبَّهَ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ مِنْ الْمُرَغَّبِ فِي صَوْمِهِ «صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ بِالْمَدِّ وَهُوَ عَاشِرُ الْمُحَرَّمِ، فَإِنَّهُ لَمَّا سُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ صَوْمِهِ قَالَ: يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ» وَكَذَلِكَ يُسْتَحَبُّ صَوْمُ الْيَوْمِ الَّذِي قَبْلَهُ وَهُوَ يَوْمُ تَاسُوعَاءَ، وَأَمَّا صَوْمُ عَرَفَةَ فَإِنَّهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَاَلَّتِي بَعْدَهُ، وَالتَّكْفِيرُ مَنُوطٌ بِالْأَفْضَلِيَّةِ، وَكَانَ صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ فَرْضًا قَبْلَ رَمَضَانَ ثُمَّ نُسِخَتْ فَرْضِيَّتُهُ. (وَ) مِنْ الْمُرَغَّبِ فِي صَوْمِهِ شَهْرُ (رَجَبَ) بِالصَّرْفِ وَعَدَمِهِ وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنْ التَّرْجِيبِ وَهُوَ التَّعْظِيمُ، وَيُسَمَّى بِالْأَصَمِّ بِالْمِيمِ لِأَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فِيهِ صَوْتَ السِّلَاحِ وَهُوَ فَرْدٌ مِنْ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَبَقِيَّتُهَا الثَّلَاثَةُ مُتَوَالِيَةٌ: الْقِعْدَةُ وَالِحْجَةُ وَالْمُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الْأَرْبَعَةِ الْمُحَرَّمُ كَمَا قَالَ بَعْضُهُمْ أَخْذًا مِنْ حَدِيثِ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ شَهْرُ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْفَرِيضَة صَلَاةُ اللَّيْلِ» . (وَ) مِنْ الْمُرَغَّبِ فِيهِ صِيَامُ شَهْرِ (شَعْبَانَ) فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ لَا يَصُومُ فِي شَهْرٍ أَكْثَرَ مِنْهُ فَقَدْ كَانَ يَصُومُهُ إلَّا قَلِيلًا. (وَ) مِنْ الْمُرَغَّبِ فِي صِيَامِهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ صَوْمُ (يَوْمِ عَرَفَةَ) وَهُوَ تَاسِعُ الْحِجَّةِ وَهُوَ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ وَالسَّنَةَ الَّتِي بَعْدَهُ. (وَ) مِنْ الْمُرَغَّبِ فِيهِ صَوْمُ يَوْمِ (التَّرْوِيَةِ) وَهُوَ مَا قَبْلَ يَوْمِ عَرَفَةَ وَهُوَ ثَامِنُ ذِي الْحِجَّةِ، سُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَرْوُونَ فِيهِ عِنْدَ إرَادَةِ الذَّهَابِ إلَى مِنًى وَهُوَ يُكَفِّرُ سَنَةً. وَلَمَّا كَانَ نَدْبُ صَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ قَالَ: (وَصَوْمُ يَوْمِ عَرَفَةَ لِغَيْرِ الْحَاجِّ أَفْضَلُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ نَفْسِهِ (لِلْحَاجِّ) وَأَمَّا الْحَاجُّ فَالْفِطْرُ لَهُ أَفْضَلُ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَهَى عَنْ صَوْمِ يَوْمِ عَرَفَةَ. (وَزَكَاةُ الْعَيْنِ) لَا الْفُلُوسِ الْجُدُدِ وَلَوْ تُعُومِلَ بِهَا (وَالْحَرْثِ وَالْمَاشِيَةِ) وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ (فَرِيضَةٌ) بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَالْجَاحِدُ لَهَا يُسْتَتَابُ، وَتُؤْخَذُ مِنْ الْمُمْتَنِعِ مِنْهَا عِنَادًا كُرْهًا وَإِنْ بِقِتَالٍ. (وَزَكَاةُ الْفِطْرِ سُنَّةٌ) أَيْ ثَبَتَ وُجُوبُهَا بِالسُّنَّةِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ: (فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَقِيلَ: وَبِعُمُومِ قَوْله تَعَالَى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] (وَحَجُّ الْبَيْتِ) عَلَى كُلِّ مُسْتَطِيعٍ بِإِمْكَانِ الْوُصُولِ بِلَا مَشَقَّةٍ عَظُمَتْ مَعَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ وَالْمَالِ (فَرِيضَةٌ) فِي الْعُمُرِ مَرَّةً بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، جَاحِدُهُ كَافِرٌ وَتَارِكُهُ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِوُجُوبِهِ وَاسْتِطَاعَتِهِ اللَّهُ حَسِيبُهُ يَنْتَقِمُ مِنْهُ بِعَدْلِهِ. (وَالْعُمْرَةُ) وَهِيَ عِبَادَةٌ ذَاتُ إحْرَامٍ وَسَعْيٌ وَطَوَافٌ (سُنَّةٌ) فِي الْعُمُرِ مَرَّةً (وَاجِبَةٌ) أَيْ مُؤَكَّدَةٌ عَلَى مَشْهُورِ الْمَذْهَبِ وَيُكْرَهُ تَكْرَارُهَا فِي الْعَامِ. (وَالتَّلْبِيَةُ) فِي حَالِ فِعْلِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) الَّذِي شَهَرَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ وُجُوبُهَا بِدَلِيلِ وُجُوبِ الدَّمِ عَلَى تَارِكِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ تُرِكَتْ أَوَّلَهُ قُدِّمَ إنْ طَالَ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 وَاجِبٌ وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ آكَدُ مِنْهُ، وَالطَّوَافُ لِلْوَدَاعِ سُنَّةٌ، وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ يَوْمِ عَرَفَةَ سُنَّةٌ، وَالْجَمْعُ بِعَرَفَةَ وَاجِبٌ، وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَرِيضَةٌ، وَمَبِيتُ الْمُزْدَلِفَةِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَوُقُوفُ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ مَأْمُورٌ بِهِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ وَكَذَلِكَ الْحِلَاقُ، وَتَقْبِيلُ الرُّكْنِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَالْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ سُنَّةٌ، وَالرُّكُوعُ عِنْدَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ، وَغُسْلُ عَرَفَةَ سُنَّةٌ، وَالْغُسْلُ،   [الفواكه الدواني] وَإِنَّمَا السُّنِّيَّةُ مُقَارَنَتُهَا لِلْإِحْرَامِ، وَكَلَامُ خَلِيلٍ ظَاهِرٌ فِي خِلَافِ مَا شَهَرَهُ بَعْضُ شُرَّاحِهِ فَتَأَمَّلْ. وَيُسْتَحَبُّ تَجْدِيدُهَا، وَتَقَدَّمَ أَنَّ مَعْنَاهَا الْإِجَابَةُ، فَمَعْنَى لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ أَجَبْتُك إجَابَةً بَعْدَ إجَابَةٍ، وَأَوَّلُ مَنْ لَبَّى الْمَلَائِكَةُ كَمَا أَنَّهُمْ أَوَّلُ مَنْ طَافَ بِالْبَيْتِ. (وَالنِّيَّةُ بِالْحَجِّ) وَكَذَا الْعُمْرَةِ (فَرِيضَةٌ) لِأَنَّ النِّيَّةَ رُكْنٌ أَوْ شَرْطٌ لِكُلِّ عِبَادَةٍ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَيَظْهَرُ أَنَّ الْبَاءَ فِي بِالْحَجِّ زَائِدَةٌ لِأَنَّ نَوَى وَمَصْدَرَهُ مُتَعَدِّيَانِ (وَالطَّوَافُ لِلْإِفَاضَةِ) وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ رَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ (فَرِيضَةٌ) لِأَنَّهُ أَفْضَلُ أَرْكَانِ الْحَجِّ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى شُرُوطِهِ. (وَالسَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ) لِلْحَجِّ وَكَذَلِكَ لِلْعُمْرَةِ (فَرِيضَةٌ) لِأَنَّهُ مِنْ أَرْكَانِهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِحْرَامَ وَالسَّعْيَ وَالطَّوَافَ أَرْكَانٌ لِلْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، إلَّا أَنَّ طَوَافَ الْعُمْرَةِ لَا يُقَالُ لَهُ طَوَافُ إفَاضَةٍ، لِأَنَّهُ لَا يُقَالُ لَهُ طَوَافُ إفَاضَةٍ إلَّا مَا وَقَعَ يَوْمَ النَّحْرِ بَعْدَ النُّزُولِ مِنْ عَرَفَةَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ} [البقرة: 198] إلَخْ وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ فَمُخْتَصٌّ بِالْحَجِّ فَأَرْكَانُهُ أَرْبَعَةٌ وَالْعُمْرَةُ ثَلَاثٌ، وَزَمَنُ سَعْيِ الْحَجِّ قَبْلَ عَرَفَةَ إنْ طَافَ لِلْقُدُومِ بِأَنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ وَلَمْ يُرَاهِقْ وَلَمْ يُرْدِفْ بِالْحَرَمِ وَإِلَّا سَعَى بَعْدَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ يَوْمَ النَّحْرِ أَوْ بَعْدَهُ. (وَالطَّوَافُ الْمُتَّصِلُ) أَيْ السَّعْيُ (بِهِ) أَيْ بِالطَّوَافِ لِأَنَّ صِحَّةَ السَّعْيِ بِتَقْدِيمِ طَوَافٍ (وَاجِبٍ) يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ بِطَوَافِ الْقُدُومِ وَشُرُوطُهُ ثَلَاثَةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: وَوَجَبَ كَالسَّعْيِ قَبْلَ عَرَفَةَ إنْ أَحْرَمَ مِنْ الْحِلِّ وَلَمْ يُرَاهِقْ وَلَمْ يُرْدِفْ يُحْرِمْ، وَلَكِنَّهُ أَحَطُّ رُتْبَةً مِنْ الْفَرْضِ لِانْجِبَارِهِ بِالدَّمِ دُونَ الْفَرْضِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالرُّكْنِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَطَوَافُ الْإِفَاضَةِ آكَدُ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الطَّوَافِ السَّابِقِ عَلَى السَّعْيِ قُبَيْلَ عَرَفَةَ وَهُوَ طَوَافُ الْقُدُومِ لِانْجِبَارِهِ بِالدَّمِ، دُونَ طَوَافِ الْإِفَاضَةِ لَا يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ كَالسَّعْيِ وَالْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ، وَلِذَلِكَ يَقُولُونَ: الْوَاجِبُ وَالْفَرْضُ مُتَرَادِفَانِ وَيَسْتَوِيَانِ فِي سَائِرِ الْأَحْكَامِ إلَّا فِي الْحَجِّ، فَإِنَّ الْوَاجِبَ أَخَفُّ مِنْ الْفَرْضِ مِنْ حَيْثُ انْجِبَارُ الْوَاجِبِ بِالدَّمِ دُونَ الْفَرْضِ وَإِنْ تَرَتَّبَ الْإِثْمُ عَلَى تَرْكِ كُلٍّ. (وَالطَّوَافُ لِلْوَدَاعِ) وَهُوَ الَّذِي يُفْعَلُ بَعْدَ تَمَامِ الْحَجِّ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ وَلَوْ لِلْجُحْفَةِ (سُنَّةٌ) خَفِيفَةٌ، وَقَالَ خَلِيلٌ: إنَّهُ مُسْتَحَبٌّ فَإِنَّهُ قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَطَوَافُ الْوَدَاعِ إنْ خَرَجَ لَكَالْجُحْفَةِ لَا كَالتَّنْعِيمِ، وَسَوَاءٌ خَرَجَ لِأَحَدِ النُّسُكَيْنِ أَوْ لِحَاجَةٍ، وَأَمَّا الْخَارِجُ لِنَحْوِ التَّنْعِيمِ فَلَا يُنْدَبُ فِي حَقِّهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ الْإِقَامَةَ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي خَرَجَ إلَيْهِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَنْفِرَنَّ أَحَدُكُمْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُ عَهْدِهِ بِالْبَيْتِ الطَّوَافُ» وَلَا دَمَ عَلَى تَارِكِهِ كَسَائِرِ الْمَنْدُوبَاتِ وَالْمَسْنُونَاتِ الَّتِي لَمْ يُشْهَرَ وُجُوبُهَا، وَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّهُ تَوْدِيعٌ بِالْبَيْتِ وَيَتَأَدَّى بِالْإِفَاضَةِ وَالْعُمْرَةِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ طَوَافَ الْحَجِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: رُكْنٌ وَوَاجِبٌ وَمَنْدُوبٌ الْأَوَّلُ: طَوَافُ الْإِفَاضَةِ، وَالثَّانِي: الْقُدُومُ، وَالثَّالِث: الْوَدَاعُ وَمَا عَدَّا ذَلِكَ تَطَوُّعٌ. (وَالْمَبِيتُ بِمِنًى لَيْلَةَ) التَّاسِعِ وَهُوَ (يَوْمُ عَرَفَةَ سُنَّةٌ) وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ النَّدْبُ وَعَلَى كِلَا الْقَوْلَيْنِ لَا دَمَ فِي تَرْكِهِ. (وَالْجَمْعُ) بَيْنَ الظُّهْرَيْنِ (بِعَرَفَةَ) جَمْعُ تَقْدِيمٍ، وَكَذَلِكَ الْجَمْعُ بَيْنَ الْعِشَاءَيْنِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بَعْدَ غَيْبُوبَةِ الشَّفَقِ جَمْعُ تَأْخِيرٍ (وَاجِبٌ) أَيْ سُنَّةٌ مُؤَكَّدَةٌ وَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ. (وَالْوُقُوفُ بِعَرَفَةَ) بَعْدَ الْغُرُوبِ سَاعَةً لَيْلَةِ النَّحْرِ (فَرِيضَةٌ) يَفُوتُ الْحَجُّ بِفَوَاتِهِ، وَأَمَّا الْوُقُوفُ بِهِ جُزْءًا مِنْ النَّهَارِ فَوَاجِبٌ يَنْجَبِرُ بِالدَّمِ وَهُوَ أَعْظَمُ أَرْكَانِ الْحَجِّ مِنْ جِهَةِ فَوَاتِ الْحَجِّ بِفَوَاتِهِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَجُّ عَرَفَةَ» وَالْأَفْضَلُ فِي صِفَةِ الْوُقُوفِ أَنْ يَكُونَ عَلَى ظَهْرِ دَابَّتِهِ لِيَتَقَوَّى عَلَى الدُّعَاءِ لِاسْتِثْنَائِهِ مِنْ حَدِيثِ: «لَا تَتَّخِذُوا ظُهُورَ الدَّوَابِّ مَسَاطِبَ» وَيَكُونُ فِي وُقُوفِهِ مُتَوَجِّهًا نَحْوَ الْكَعْبَةِ وَيَدْعُو بِمَا شَاءَ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّهُ وَقْتُ غُفْرَانِ الصَّغَائِرِ وَالْكَبَائِرِ. (وَمَبِيتُ) لَيْلَةِ (الْمُزْدَلِفَةِ) بِهَا (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ الِاسْتِحْبَابَ، وَإِنَّمَا الْوَاجِبُ النُّزُولُ بِهَا بِقَدْرِ حَطِّ الرِّحَالِ وَيَلْزَمُ بِتَرْكِهِ الدَّمُ. (وَوُقُوفُ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ) بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ إلَى قُرْبِ طُلُوعِ الشَّمْسِ لِلذِّكْرِ (مَأْمُورٌ بِهِ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} [البقرة: 198] وَهُوَ مَحَلٌّ قَرِيبٌ مِنْ مِنًى. (وَرَمْيُ الْجِمَارِ) مُطْلَقًا (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ الْوُجُوبُ يُلْزِمُ الدَّمَ وَلَوْ بِتَرْكِ حَصَاةٍ، وَقَوْلِي مُطْلَقًا لِيَشْمَلَ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ وَغَيْرَهَا، وَقَوْلُ خَلِيلٍ: بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَنْدُوبِ وَرَمْيِهِ الْعَقَبَةِ حِينَ وُصُولِهِ، فَالنَّدْبُ مُنْصَبٌّ عَلَى الرَّمْيِ حِينَ الْوُصُولِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ. (وَكَذَلِكَ الْحِلَاقُ) فِي حَقِّ الرِّجَالِ وَالتَّقْصِيرُ فِي حَقِّ النِّسَاءِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ، وَاَلَّذِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 لِدُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ. وَالصَّلَاةُ فِي الْجَمَاعَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً، وَالصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَذًّا أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ بِذَلِكَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَمْ يُخْتَلَفْ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ،   [الفواكه الدواني] مَشَى عَلَيْهِ خَلِيلٌ الْوُجُوبُ لِلُّزُومِ الدَّمِ لِمَنْ تَرَكَهُ جُمْلَةً وَأَخَّرَهُ عَنْ وَقْتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى مَا فِيهِ الدَّمُ: كَتَأْخِيرِهِ الْحَلْقَ لِبَلَدِهِ أَوْ الْإِفَاضَةِ لِلْمُحْرِمِ وَرَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ أَوْ الْجَمِيعِ لِلَيْلٍ. قَالَ شَارِحُهُ: أَيْ وَتَأْخِيرُ رَمْيِ كُلِّ حَصَاةٍ مِنْ الْعَقَبَةِ أَوْ غَيْرِهَا فِيهِ دَمٌ، وَكَذَلِكَ تَأْخِيرُ حَصَاةِ جَمْرَةٍ كَامِلَةٍ أَوْ الْجِمَارِ الْجَمِيعِ عَنْ وَقْتِ الْأَدَاءِ وَهُوَ النَّهَارُ لِلَّيْلِ وَهُوَ وَقْتُ الْقَضَاءِ، وَأَوْلَى فِي وُجُوبِ الدَّمِ لَوْ فَاتَ الْوَقْتَانِ. (وَتَقْبِيلُ الرُّكْنِ) وَهُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ فِي الشَّوْطِ الْأَوَّلِ مِنْ الطَّوَافِ (سُنَّةٌ وَاجِبَةٌ) وَأَمَّا تَقْبِيلُهُ فِي أَوَّلِ كُلِّ شَوْطٍ غَيْرِ الْأَوَّلِ فَمُسْتَحَبٌّ. قَالَ خَلِيلٌ فِي بَيَانِ سُنَنِ الطَّوَافِ: وَلِلطَّوَافِ الْمَشْيُ بِأَنْ قَالَ: وَتَقْبِيلُ حَجَرٍ بِفَمٍ أَوَّلَهُ. قَالَ شُرَّاحُهُ: وَأَمَّا بَعْدَ الْأَوَّلِ فَمُسْتَحَبٌّ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَقْبِيلِهِ بِفَمِهِ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَيْهِ ثُمَّ يَضَعْهَا عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَيَمَسَّهُ بِعُودٍ ثُمَّ يَضَعْهُ عَلَى فِيهِ مِنْ غَيْرِ تَقْبِيلٍ، فَإِنْ عَجَزَ كَبَّرَ وَمَضَى، وَمِثْلُ الْحَجَرِ فِي السُّنِّيَّةِ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ الرُّكْنُ الْيَمَانِيُّ فَإِنَّهُ يُسَنُّ اسْتِلَامُهُ فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْيَمَانِيُّ بَعْدَ الْأَوَّلِ وَالْمُرَادُ اسْتِلَامُهُ لَا تَقْبِيلُهُ. (وَالْغُسْلُ لِلْإِحْرَامِ سُنَّةٌ) وَصِفَتُهُ كَغُسْلِ الْجُمُعَةِ فِي طَلَبِ اتِّصَالِهِ بِالْإِحْرَامِ وَلَا دَمَ فِي تَرْكِهِ، وَيُطْلَبُ حَتَّى مِنْ الْحَائِضِ وَالنُّفَسَاءِ وَيَتَدَلَّكُ فِيهِ لِأَنَّهُ قَبْلَ الْإِحْرَامِ. (وَالرُّكُوعُ) أَيْ صَلَاةُ رَكْعَتَيْنِ (عِنْدَ الْإِحْرَامِ سُنَّةٌ) وَالْفَرْضُ مُجْزِئٌ فِي تَحْصِيلِ سُنَّةِ الْإِحْرَامِ. (وَغُسْلُ) الْمُحْرِمِ عِنْدَ إرَادَةِ الْوُقُوفِ فِي (عَرَفَةَ سُنَّةٌ) وَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِالْوُقُوفِ وَيَدْخُلُ وَقْتُهُ بِالزَّوَالِ، فَلَا يَصِحُّ فِعْلُهُ قَبْلَهُ وَيُفْعَلُ قَبْلَ الصَّلَاةِ، وَيُطْلَبُ مِنْ كُلِّ مَرِيدٍ الْوُقُوفَ وَلَوْ الْحَائِضَ، وَلَكِنْ لَا يَتَدَلَّكُ فِيهِ لِأَنَّهُ مُحْرِمٌ، وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ شُرَّاحُ خَلِيلٍ أَنَّ الْغُسْلَ لِلْوُقُوفِ مُسْتَحَبٌّ. (وَالْغُسْلُ لِدُخُولِ مَكَّةَ مُسْتَحَبٌّ) عَلَى الْمَشْهُورِ وَيَكُونُ مُتَّصِلًا بِدُخُولِهَا أَوْ فِي حُكْمِ الْمُتَّصِلِ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَغْتَسِلَ وَيَبِيتَ خَارِجَهَا، وَيُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ بِطُوًى إنْ مَرَّ بِهَا، وَلَمَّا كَانَ هَذَا الْغُسْلُ فِي الْحَقِيقَةِ إنَّمَا هُوَ لِطَوَافٍ لَمْ يُطْلَبْ إلَّا مِمَّنْ يَصِحُّ مِنْهُ الطَّوَافُ فَلَا يَصِحُّ مِنْ حَائِضٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ اغْتِسَالَاتِ الْحَجِّ ثَلَاثَةٌ السُّنَّةُ مِنْهَا غُسْلُ الْإِحْرَامِ فَقَطْ عَلَى الْمَشْهُورِ وَمَا عَدَاهُ مُسْتَحَبٌّ عَلَى مَا رَجَّحَهُ الْحَطَّابُ. (وَ) فِعْلُ (الصَّلَاةِ) الْمَفْرُوضَةِ (فِي الْجَمَاعَةِ) وَهِيَ مَا قَابَلَ الْفَذَّ فَيَصْدُقُ بِالْإِمَامِ وَالْمَأْمُومِ (أَفْضَلُ مِنْ صَلَاةِ الْفَذِّ بِسَبْعٍ وَعِشْرِينَ دَرَجَةً) وَفِي رِوَايَةٍ بِخَمْسٍ وَعِشْرِينَ جُزْءًا، فَمَنْ صَلَّى وَحْدَهُ كَانَتْ لَهُ دَرَجَةٌ، وَمَنْ صَلَّى فِي جَمَاعَةٍ كَانَ لَهُ ثَمَانٌ وَعِشْرُونَ دَرَجَةً أَوْ سِتٌّ وَعِشْرُونَ، لِأَنَّ السَّبْعَ أَوْ الْخَمْسَ وَالْعِشْرِينَ زِيَادَةٌ عَلَى الْأَصْلِ، وَمَعْنَى الْجُزْءِ وَالدَّرَجَةِ الصَّلَاةُ، وَلَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْعَدَدَيْنِ لِجَوَازِ كَوْنِ الْجُزْءِ الْأَكْبَرِ مِنْ الدَّرَجَةِ، أَوْ أَنَّ اللَّهَ أَخْبَرَ أَوَّلًا بِالْقَلِيلِ ثُمَّ أَخْبَرَ بِالْكَثِيرِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ كَمَا تَقَدَّمَ إيضَاحُهُ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ هَذَا الْفَضْلَ لَا يَحْصُلُ بِإِدْرَاكِ أَقَلِّ مِنْ رَكْعَةٍ بِسَجْدَتَيْهَا مَعَ الْإِمَامِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَفْرُوضَةِ فَسَيَأْتِي أَنَّ الْأَفْضَلَ فِيهَا الِانْفِرَادُ إلَّا التَّرَاوِيحَ. (وَالصَّلَاةُ) الْمَفْرُوضَةُ (فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) وَهُوَ مَسْجِدُ مَكَّةَ (وَ) كَذَا الصَّلَاةُ فِي (مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَهُوَ مَسْجِدُ الْمَدِينَةِ وَكَذَا مَسْجِدُ إيلْيَاءَ وَهِيَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ لِأَنَّهُ يَلِي الْأَوَّلَيْنِ فِي الْفَضْلِ، وَيَلِي تِلْكَ الْمَسَاجِدَ الثَّلَاثَةَ مَسْجِدُ قُبَاءَ حَالَةَ كَوْنِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَذْكُورَةِ. (فَذًّا أَفْضَلَ مِنْ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ) أَيْ بَاقِي (الْمَسَاجِدِ) وَسَكَتَ كَغَيْرِهِ عَنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ أَوْ يَتَعَيَّنُ عَدَمَ التَّفَاضُلِ مِنْ حَيْثُ الْبِقَاعُ فَالصَّلَاةُ فِي نَحْوِ الْأَزْهَرِ كَالصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ، وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْجَمَاعَةُ فَيُمْكِنُ التَّفَاضُلُ فِي الثَّوَابِ، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى أَفْضَلِيَّةِ الصَّلَاةِ فِي أَحَدِ تِلْكَ الْمَسَاجِدِ عَلَى غَيْرِهَا، أَنَّ مَنْ صَلَّى فَذًّا فِي مَسْجِدِ مَكَّةَ أَوْ الْمَدِينَةِ أَوْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَا يُعِيدُ تِلْكَ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِ مَسَاجِدِهَا لَا فَذًّا وَلَا جَمَاعَةً لِمَا عَرَفَتْ مِنْ أَنَّ فَذَّهَا أَفْضَلُ مِنْ جَمَاعَةِ غَيْرِهَا، بِخِلَافِ مَنْ صَلَّى فِي غَيْرِهَا فَذَّا فَيُعِيدُ فِيهَا وَلَوْ فَذًّا، وَأَمَّا الْمُصَلِّي فِي غَيْرِهَا جَمَاعَةً فَإِنَّمَا يُعِيدُ فِيهَا فِي جَمَاعَةٍ وَقِيلَ وَفَذًّا، وَقَوْلُنَا فِي غَيْرِ مَسَاجِدِهَا لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ صَلَّى فِي بَعْضِهَا ثُمَّ دَخَلَ الْبَعْضَ الْآخَرَ فَإِنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ مَنْ صَلَّى فِي بَعْضِ الْمَسَاجِدِ، ثُمَّ دَخَلَ غَيْرَهُ مِنْ نَدْبِ إعَادَةِ الْفَذِّ فِي الْجَمَاعَةِ فَقَطْ لَا إنْ صَلَّى جَمَاعَةً، فَلَا يُعِيدُ فِي غَيْرِ مَا صَلَّى فِيهِ وَلَوْ مَعَ جَمَاعَةٍ أَفْضَلَ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهَا، وَقَيَّدْنَا بِالْمَفْرُوضَةِ لِمَا يَأْتِي مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ فِي غَيْرِ الْفَرَائِضِ الْفِعْلُ فِي الْبُيُوتِ إلَّا لِلْغَرِيبِ فِي الْمَدِينَةِ الْمُشَرَّفَةِ، فَإِنَّ الْأَفْضَلَ لَهُ فِعْلُ النَّوَافِلِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ صَلَاةَ الْفَرَائِضِ فِي الْمَسَاجِدِ الثَّلَاثَةِ أَفْضَلُ مِنْ صَلَاتِهَا فِيمَا سِوَاهَا، شَرَعَ فِي بَيَانِ تَفَاضُلِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ فَقَالَ: (وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ) أَيْ الزِّيَادَةِ (بِذَلِكَ) التَّفْصِيلِ (بَيْنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) الْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِهِ أَنَّ الْخِلَافَ فِي بَيَانِ فَضْلِ أَحَدِ الْمَسْجِدَيْنِ عَلَى الْآخَرِ وَلَمْ يَرْتَضِهِ جَمِيعُ شُرَّاحِهِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بَيَانُ الْخِلَافِ بَيْنَ الْأَئِمَّةِ فِي الْأَفْضَلِ مِنْ الْبَلَدَيْنِ، وَاَلَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ إمَامُنَا مَالِكٌ وَجَمَاعَةٌ أَنَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 فِيمَا سِوَاهُ وَسِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْمَسَاجِدِ وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ يَقُولُونَ إنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدُونِ الْأَلْفِ وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْفَرَائِضِ، وَأَمَّا النَّوَافِلُ فَفِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ وَالتَّنَفُّلُ بِالرُّكُوعِ لِأَهْلِ مَكَّةَ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الطَّوَافِ وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الرُّكُوعِ لِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ لَهُمْ. وَمِنْ الْفَرَائِضِ غَضُّ الْبَصَرِ عَنْ الْمَحَارِمِ،   [الفواكه الدواني] الْمَدِينَةَ أَفْضَلُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَدِينَةُ أَفْضَلُ ثُمَّ مَكَّةُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ بَاقِي الْأَئِمَّةِ تَفْضِيلُ مَكَّةَ، وَالْخِلَافُ فِي غَيْرِ قَبْرِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْإِجْمَاعِ عَلَى أَفْضَلِيَّتِهِ حَتَّى عَلَى الْكَعْبَةِ وَالْعَرْشِ وَالْكُرْسِيِّ، وَثَمَرَةُ الْخِلَافِ تَظْهَرُ فِي ثَوَابِ الْعَمَلِ، فَيَكْثُرُ فِي الْفَاضِلِ وَيَنْقُصُ فِي الْمَفْضُولِ. (تَنْبِيهٌ) مَا قَرَّرْنَا بِهِ كَلَامَهُ تَبِعَنَا فِي شُرَّاحِهِ مَعَ بُعْدِهِ عَنْ قَوْلِهِ: وَاخْتُلِفَ فِي مِقْدَارِ التَّضْعِيفِ بِذَلِكَ دُونَ أَنْ يُقَالَ: وَاخْتُلِفَ فِي الْأَفْضَلِ مِنْهَا، وَلَعَلَّ الْحَامِلَ لِشُرَّاحِهِ عَلَى هَذَا الْحَمْلِ ذِكْرُهُ بَعْدَ ذَلِكَ بَيَانَ قَدْرِ التَّضْعِيفِ بِقَوْلِهِ: (وَلَمْ يُخْتَلَفْ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ فِي (أَنَّ الصَّلَاةَ) الْمَفْرُوضَةَ (فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ) تُصَلَّى (فِيمَا سِوَاهُ وَسِوَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ مِنْ الْمَسَاجِدِ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» . وَاخْتَلَفَ فَهْمُ الْعُلَمَاءِ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ» فَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَهُ عَلَى الْمُسَاوَاةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَهِمَهُ عَلَى عَدَمِهَا، فَالشَّافِعِيُّ فَضَّلَ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ بِمِائَةٍ لِأَنَّ مَكَّةَ عِنْدَهُ أَفْضَلُ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَلَا مَعْنَى لِفَضْلِ الْبَلَدِ إلَّا كَثْرَةَ ثَوَابِ الْعَمَلِ فِيهَا عَلَى غَيْرِهَا. (وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ) وَأَعْظَمُهُمْ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (يَقُولُونَ إنَّ الصَّلَاةَ فِيهِ) أَيْ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بِدُونِ الْأَلْفِ) لِأَنَّ مَالِكًا وَأَهْلَ الْمَدِينَةِ يُفَضِّلُونَ الْمَدِينَةَ عَلَى مَكَّةَ، وَلَا مَعْنَى لِلتَّفْضِيلِ إلَّا بِكَثْرَةِ ثَوَابِ الْعَمَلِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَفَسَّرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ دُونَ الْأَلْفِ بِسَبْعِمِائَةِ صَلَاةٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّلَاةِ فِي غَيْرِهِ مِنْ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ حَتَّى مَكَّةَ عِنْدَ الْمَالِكِيَّةِ وَأَهْلِ الْمَدِينَةِ، وَيَلِيهَا فِي الْفَضْلِ الصَّلَاةُ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عِنْدَهُمْ، وَيَلِي الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الصَّلَاةُ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَيَلِيهَا الصَّلَاةُ فِي مَسْجِدِ قُبَاءَ، وَمَا عَدَا الْمَسَاجِدَ الْأَرْبَعَ لَمْ يَرِدْ فِيهِ تَفْضِيلٌ، وَأَشَارَ الْمُصَنِّفُ إلَى أَنَّ التَّفْضِيلَ الْوَارِدَ فِي تِلْكَ الْمَسَاجِدِ مُخْتَصٌّ بِصَلَاةِ الْفَرْضِ بِقَوْلِهِ: (وَهَذَا) الَّذِي تَقَدَّمَ مِنْ فَضْلِ الصَّلَاةِ فِي الْمَسَاجِدِ الْمَذْكُورَةِ (كُلُّهُ فِي) صَلَاةِ (الْفَرَائِضِ) [صَلَاة النَّوَافِل فِي الْبُيُوت] (وَأَمَّا) صَلَاةُ (النَّوَافِلِ) الْمُقَابِلَةِ لِلسُّنَّةِ (فَفِي الْبُيُوتِ أَفْضَلُ) لِخَبَرِ: «اجْعَلُوا مِنْ صَلَاتِكُمْ فِي بُيُوتِكُمْ إلَّا الْمَكْتُوبَةَ» إلَّا التَّرَاوِيحَ إذَا كَانَ يَلْزَمُ مِنْ فِعْلِهَا فِي الْبُيُوتِ تَعْطِيلُ الْمَسَاجِدِ، وَأَمَّا الرَّغَائِبُ وَالسُّنَنُ كَالْوِتْرِ وَالْكُسُوفِ وَالْعِيدَيْنِ وَالِاسْتِسْقَاءِ فَفِي غَيْرِ الْبُيُوتِ أَفْضَلُ، فَيُنْدَبُ فِعْلُهَا فِي الْمَسْجِدِ، كَمَا يُنْدَبُ لِغَرِيبِ الْمَدِينَةِ التَّنَفُّلُ بِمَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (وَالتَّنَفُّلُ بِالرُّكُوعِ) فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ (لِأَهْلِ مَكَّةَ) الْمُرَادُ بِهِمْ سَاكِنُوهَا وَلَوْ عَلَى حَسَبِ الْمُجَاوَرَةِ (أَحَبُّ إلَيْنَا) مَعَاشِرَ الْمَالِكِيَّةِ (مِنْ الطَّوَافِ) لِمَا يَلْزَمُ عَلَى فِعْلِهِ مِنْ الْمُزَاحَمَةِ بِوَاسِطَةِ الْغُرَبَاءِ، وَأَمَّا غَيْرُ السَّاكِنِ بِهَا فَأَشَارَ إلَى الْأَفْضَلِ فِي حَقِّهِ بِقَوْلِهِ: (وَالطَّوَافُ لِلْغُرَبَاءِ) وَهُمْ غَيْرُ السَّاكِنِينَ بِهَا كَأَهْلِ الْمَوْسِمِ (أَحَبُّ إلَيْنَا مِنْ الرُّكُوعِ لِقِلَّةِ وُجُودِ ذَلِكَ لَهُمْ) لِأَنَّ الطَّوَافَ إنَّمَا يَكُونُ حَوْلَ الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَأَمَّا الرُّكُوعُ فَيَتَيَسَّرُ وَلَوْ لِلْخَارِجِ مِنْ مَكَّةَ. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَحِيَّةُ مَسْجِدِ مَكَّةَ الطَّوَافُ، قَالَ شُرَّاحُهُ: أَيْ لِلْقَادِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ الدَّاخِلِ فِيهِ لِإِرَادَةِ الطَّوَافِ، وَأَمَّا الدَّاخِلُ لِلصَّلَاةِ أَوْ الْمُشَاهَدَةِ فَتَحِيَّتُهُ رَكْعَتَانِ إنْ كَانَ فِي وَقْتٍ تَحِلُّ فِيهِ النَّافِلَةُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ مِنْ صَلَاةٍ وَزَكَاةٍ وَصَوْمٍ وَحَجٍّ بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَى الْجَوَارِحِ السَّبْعَةِ وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهَا وَيُقَالُ لَهَا الْكَوَاسِبُ وَهِيَ: السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَاللِّسَانُ وَالْيَدَانِ وَالرِّجْلَانِ وَالْبَطْنُ وَالْفَرْجُ عَلَى عَدَدِ أَبْوَابِ جَهَنَّمَ قَالَ: [غَضّ الْبَصَر] (وَمِنْ الْفَرَائِضِ) عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (غَضُّ الْبَصَرِ) أَيْ كَفُّ عَيْنَيْهِ (عَنْ نَظَرِ) جَمِيعِ (الْمَحَارِمِ) أَيْ الْمُحَرَّمَاتِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ تَعَالَى، فَلَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ لِأَجْنَبِيَّةٍ، وَلَا لِأَمْرَدَ عَلَى وَجْهِ الِالْتِذَاذِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ النَّظَرِ بِقَصْدِ الشَّهْوَةِ لِغَيْرِ الزَّوْجَةِ وَالْأَمَةِ، قَالَ ابْنُ شَعْبَانَ: النَّظَرُ إلَى الْأَمْرَدِ الْحَسَنِ وَالصُّورَةِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِذَاذِ كَالنَّظَرِ إلَى الشَّابَّةِ، وَأَمَّا النَّظَرُ إلَيْهِ لَا بِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ أَوْ الْخَلْوَةِ بِهِ فَلَا حُرْمَةَ مَعَ عِلْمِ السَّلَامَةِ عَلَى مُقْتَضَى مَذْهَبِنَا، لَكِنَّ السَّلَامَةَ فِي تَرْكِ ذَلِكَ وَلَا سِيَّمَا لِأَصْحَابِ الْفَضْلِ الْمُتَأَكِّدِ فِي حَقِّهِمْ الْمُبَاعَدَةُ مِنْ مَظَانِّ التُّهَمِ، وَلَا يَخْتَصُّ وُجُوبُ غَضِّ الْبَصَرِ عَنْ الْمُحَرَّمَاتِ مِنْ النِّسَاءِ، بَلْ يَتَنَاوَلُ غَضَّهُ عَنْ النَّظَرِ لِلْغَيْرِ عَلَى وَجْهِ الِاحْتِقَارِ، أَوْ عَلَى وَجْهِ تَتَبُّعِ عَوْرَاتِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ كُلِّ مَا يَكْرَهُ مَالِكُهُ نَظَرَ الْغَيْرِ إلَيْهِ مِنْ كِتَابٍ أَوْ غَيْرِهِ لِخَبَرِ: «مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ غَيْرِهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَكَأَنَّمَا نَظَرَ فِي فَرْجِ أُمِّهِ» وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَلَكِنْ بِلَفْظِ: «مَنْ نَظَرَ فِي كِتَابِ أَخِيهِ بِغَيْرِ إذْنِهِ فَإِنَّمَا يَنْظُرُ فِي النَّارِ» وَقَالَ: إنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وَلَيْسَ فِي النَّظْرَةِ الْأُولَى بِغَيْرِ تَعَمُّدِ حَرَجٍ وَلَا فِي النَّظَرِ إلَى الْمُتَجَالَّةِ وَلَا فِي النَّظَرِ إلَى الشَّابَّةِ لِعُذْرٍ مِنْ شَهَادَةٍ عَلَيْهَا وَشَبَهِهِ وَقَدْ أُرْخِصَ فِي ذَلِكَ لِلْخَاطِبِ. وَمِنْ الْفَرَائِضِ صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ الْكَذِبِ وَالزُّورِ وَالْفَحْشَاءِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ،   [الفواكه الدواني] ضَعِيفٌ كَمَا قَالَهُ السَّخَاوِيُّ. قَالَ التَّاجُ السُّبْكِيُّ: إنَّهُ دَلَّ عَلَى مَحْظُورٍ وَلَمْ يُوجَدْ غَيْرُهُ فَالْأَظْهَرُ وُجُوبُ الِانْكِفَافِ يَعْنِي احْتِيَاطًا، وَفِي كَلَامِ الْإِمَامِ مَا يُؤَيِّدُهُ. قَالَهُ شَيْخُ الْإِسْلَامِ فِي شَرْحِ أَلْفِيَّةِ الْعِرَاقِيِّ. وَقَوْلُنَا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ لِأَنَّ الصَّبِيَّ لَا يُخَاطَبُ بِالْفَرْضِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لِوَلِيِّهِ أَنْ يُجَنِّبَهُ مُخَالَطَةَ مَا لَا يَحِلُّ لِلْمُكَلَّفِ مُخَالَطَتُهُ لِئَلَّا يَتَطَبَّعَ عَلَى ذَلِكَ فَيَكُونَ ذَرِيعَةً لِلْفَسَادِ كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي زَمَانِنَا. وَمِنْ أَقْبَحِ مَا بَقِيَ مِنْ الْوَلِيِّ إلْبَاسُ ابْنِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ الصَّغِيرِ الْحَسَنِ الصُّورَةِ الثِّيَابَ الْجَمِيلَةَ أَوْ شَيْئًا مِنْ الْحِلْيَةِ الْمُوجِبَةِ لِتَعَلُّقِ نَفْسِ الْفَاسِقِ بِهِ، بَلْ لَا تَبْعُدُ حُرْمَةُ ذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ النَّظَرِ مُخْتَصَّةً بِحَالَةِ الْعَمْدِ عَلَى وَجْهِ الِالْتِذَاذِ قَالَ: (وَلَيْسَ فِي النَّظْرَةِ الْأُولَى) إلَى مَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ (بِغَيْرِ تَعَمُّدِ) الْتِذَاذٍ أَوْ نَحْوِ انْتِقَاصٍ (حَرَجٌ) أَيْ إثْمٌ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقَعَ بَصَرُهُ عَلَى وَجْهِ جَمِيلٍ أَوْ جَمِيلَةٍ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ وَغَضَّهُ سَرِيعًا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْحَرَجِ، وَأَمَّا لَوْ تَعَمَّدَ النَّظَرَ لِلِالْتِذَاذِ أَوْ أَدَامَهُ مَعَ قَصْدِهِ لَا إثْمَ لِأَنَّهُ لَا يُحَرَّمُ النَّظَرُ بِمُجَرَّدِهِ، لِمَا نَصَّ عَلَيْهِ فِي بَابِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ مِنْ أَنَّ وَجْهَ الْأَجْنَبِيَّةِ لَيْسَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا يَحْرُمُ النَّظَرُ إلَيْهِ فِي حَالَةٍ خَاصَّةٍ وَذَلِكَ عِنْدَ قَصْدِ الِالْتِذَاذِ أَوْ خَشْيَةِ الِافْتِتَانِ. (وَلَا) حَرَجَ أَيْضًا (فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الْمُتَجَالَّةِ) وَهِيَ الَّتِي لَا تَمِيلُ إلَيْهَا نَفْسُ النَّاظِرِ، وَأَمَّا لَوْ نَظَرَ إلَيْهَا مَنْ يَلْتَذُّ بِهَا فَيَنْزِلُ عَلَى النَّظَرِ إلَى الشَّابَّةِ لِأَنَّ كُلَّ سَاقِطَةٍ لَهَا لَاقِطَةٌ. (وَلَا) حَرَجَ أَيْضًا (فِي النَّظَرِ إلَى الشَّابَّةِ لِعُذْرٍ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ شَهَادَةٍ عَلَيْهَا) فِي مُعَامَلَةٍ أَوْ نِكَاحٍ (وَشَبَهِهِ) أَيْ الْعُذْرُ كَالطَّبِيبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِكُلٍّ النَّظَرُ إلَيْهَا، لَكِنَّ الشَّاهِدَ يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ إذَا كَانَتْ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا عَلَى مِنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ لِيُسَجِّلَ مَنْ زَعَمَتْ أَنَّهَا بِنْتُ فُلَانٍ، وَلَا عَلَى مُتَنَقِّبَةٍ لِتَتَعَيَّرَ لِلْأَدَاءِ، وَيَجُوزُ لِلشَّاهِدِ النَّظَرُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، وَلَوْ لَزِمَ عَلَى ذَلِكَ تَأَمُّلُ جَمِيعِ صِفَاتِهَا لِأَنَّ النَّظَرَ مُتَمَحِّضٌ لِلشَّهَادَةِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ مَطْلُوبُ الطَّبِيبِ فِي عَوْرَتِهَا فَإِنَّهُ يَبْقُرُ الثَّوْبَ عَنْ الْمَوْضِعِ الْمَأْلُومِ لِيَنْظُرَ إلَيْهِ الطَّبِيبُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ الْمَرَضُ بِفَرْجِهَا لِلضَّرُورَةِ، وَيَنْبَغِي أَوْ يَتَعَيَّنُ أَنَّ مَحَلَّ ذَلِكَ إذَا كَانَ الطَّبِيبُ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَلِكَ إلَّا بِرُؤْيَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ الطَّبِيبُ يَكْتَفِي بِرُؤْيَةِ النِّسَاءِ وَيَصِفْنَهُ لَهُ فَلَا أَظُنُّ أَحَدًا يَقُولُ بِجَوَازِ رُؤْيَةِ الرَّجُلِ لِفَرْجِ الْمَرْأَةِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَأَمَّا لَوْ كَانَ الْمَشْهُودُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْوَاعِ عُيُوبِ الزَّوْجَةِ الَّتِي يَدَّعِيهَا الزَّوْجُ، فَإِنْ كَانَ فِي وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَيَشْهَدُ عَلَيْهِ الرِّجَالُ، وَأَمَّا إنْ كَانَ فِي نَحْوِ ظَهْرِهَا أَوْ بَطْنِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَارِجٌ عَنْ فَرْجِهَا فَلَا يَشْهَدُ عَلَيْهِ إلَّا النِّسَاءُ وَلَا تَحِلُّ رُؤْيَةُ الرِّجَالِ لَهُ وَلَوْ رَضِيَتْ الْمَرْأَةُ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ بِفَرْجِهَا فَتُصَدَّقُ الْمَرْأَةُ فِي نَفْيِهِ إلَّا أَنْ تُمَكِّنَ النِّسَاءَ مِنْ رُؤْيَةِ فَرْجِهَا فَتُقْبَلَ شَهَادَتُهُنَّ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَإِنْ أَتَى بِامْرَأَتَيْنِ تَشْهَدَانِ لَهُ قُبِلَتَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ وَأَنَّ الطَّبِيبَ لَيْسَ كَالشَّاهِدِ لِضَرُورَةِ نَظَرِ الطَّبِيبِ دُونَ الشَّاهِدِ. الثَّانِي: مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي أَنَّ رُؤْيَةَ وَجْهِ الشَّابَّةِ لِغَيْرِ عُذْرٍ فِيهِ الْحَرَجُ أَيْ الْإِثْمُ وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لِغَيْرِ قَصْدِ اللَّذَّةِ وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيْنِ، لِأَنَّ نَظَرَ وَجْهِ الشَّابَّةِ مَظِنَّةٌ لِلِالْتِذَاذِ، وَالْقَوْلُ الْآخَرُ لَا حَرَجَ عِنْدَ عَدَمِ قَصْدِ الِالْتِذَاذِ، لِأَنَّ الْقَلْشَانِيَّ نَقَلَ عَنْ ابْنِ مُحْرِزٍ أَنَّ النَّظَرَ إلَى وَجْهِ الْأَجْنَبِيَّةِ مَكْشُوفًا بِغَيْرِ لَذَّةٍ جَائِزٌ، وَقَالَ الْقَرَافِيُّ فِي تَرْجَمَةِ عِيسَى الْغُبْرِينِيِّ عَنْ ابْنِ نَاجِي عِنْدَ قَوْلِ الْمُدَوَّنَةِ: وَجَائِزٌ أَنْ يَنْظُرَ إلَى شَعْرِ الْمَرْأَةِ وَوَجْهِهَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالْمَنْعِ أَنْكَرَهُ الْحُفَّاظُ مِنْ أَهْلِ عَصْرِهِ، وَأَفْهَمَ تَمْثِيلُ الْمُصَنِّفِ الْعُذْرَ بِالشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ أَنَّ التَّعْلِيمَ لَيْسَ مِنْ الْعُذْرِ، فَلَا يَجُوزُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الشَّابَّةِ عِنْدَ تَعْلِيمِ عِلْمٍ أَوْ قُرْآنٍ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ عَرَا عَنْ قَصْدِ اللَّذَّةِ وَلَعَلَّ وَجْهَهُ لِأَنَّ مُدَاوَمَةَ النَّظَرِ يَنْشَأُ عَنْهَا الِالْتِذَاذُ غَالِبًا، بِخِلَافِ النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الذَّكَرِ فَيَجُوزُ، وَيَنْبَغِي تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا لَمْ يَخْشَ الْمُعَلِّمُ بِإِدَامَةِ النَّظَرِ إلَيْهِ الِافْتِتَانَ بِهِ، وَإِلَّا حَرُمَ النَّظَرُ إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ. الثَّالِثُ: اعْلَمْ أَنَّ الْمَرْأَةَ إذَا كَانَ يُخْشَى مِنْ رُؤْيَتِهَا الْفِتْنَةُ وَجَبَ عَلَيْهَا سَتْرُ جَمِيعِ جَسَدِهَا حَتَّى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَأَمَّا إنْ لَمْ يُخْشَ مِنْ رُؤْيَتِهَا ذَلِكَ فَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ مَا عَدَا وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا، وَلِمَا قَالَهُ الْقَاضِي عِيَاضٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَى الْمَرْأَةِ سَتْرُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ لَهَا ذَلِكَ، وَعَلَى الرَّجُلِ غَضُّ بَصَرِهِ عَنْ النَّظَرِ إلَيْهَا بِشَهْوَةٍ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِهِمْ. وَأَقُولُ: الَّذِي يَقْتَضِيه الشَّرْعُ وُجُوبَ سَتْرِهَا وَجْهَهَا فِي هَذَا الزَّمَانِ، لَا لِأَنَّهُ عَوْرَةٌ وَإِنَّمَا ذَلِكَ لِمَا تُعُورِفَ عِنْدَ أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ الْفَاسِدِ أَنَّ كَشَفَ الْمَرْأَةِ وَجْهَهَا يُؤَدِّي إلَى تَطَرُّقِ الْأَلْسِنَةِ إلَى قَذْفِهَا، وَحِفْظُ الْأَعْرَاضِ وَاجِبٌ كَحِفْظِ الْأَدْيَانِ وَالْأَنْسَابِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (وَقَدْ أُرْخِصَ) أَيْ سُومِحَ (فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي النَّظَرِ إلَى وَجْهِ الشَّابَّةِ وَكَفَّيْهَا (لِلْخَاطِبِ) لِنَفْسِهِ إذَا كَانَ قَصَدَ مُجَرَّدَ عِلْمِ صِفَتِهَا فَقَطْ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ نَظَرُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ بِعِلْمٍ وَيُكْرَهُ اسْتِغْفَالُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِمَنْ قَالَ لَهُ إنِّي أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِامْرَأَةٍ مِنْ الْأَنْصَارِ: اُنْظُرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] إلَيْهَا» وَإِنَّمَا نَدَبَ النَّظَرَ إلَى خُصُوصِ الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ، لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِرُؤْيَةِ الْوَجْهِ عَلَى الْجَمَالِ، وَبِرُؤْيَةِ الْكَفَّيْنِ عَلَى خَصْبِ الْبَدَنِ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ إذَا كَانَ الْخَاطِبُ يَعْلَمُ أَنَّهَا أَوْ وَلِيَّهَا يُجِيبُهُ إلَى ذَلِكَ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ النَّظَرُ إلَيْهَا، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْجَوَازَ مُقَيَّدٌ بِقَيْدَيْنِ: عِلْمُهَا وَالْعِلْمُ بِإِجَابَتِهَا، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْجَوَازِ عِنْدَ انْتِفَاءِ ذَلِكَ الْكَرَاهَةُ حَيْثُ لَمْ يُخْشَ الِافْتِتَانُ بِرُؤْيَتِهَا وَإِلَّا حَرُمَ، وَإِنَّمَا كُرِهَ النَّظَرُ إلَيْهَا عِنْدَ عَدَمِ خَشْيَةِ الِافْتِتَانِ بِرُؤْيَتِهَا، لِأَنَّ النَّظَرَ إلَى مِثْلِهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مَظِنَّةُ قَصْدِ اللَّذَّةِ، وَلَا يُقَالُ: مُقْتَضَى هَذَا التَّعْلِيلِ كَرَاهَةُ النَّظَرِ إلَى وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا وَلَوْ مَعَ الْعِلْمِ بِإِجَابَتِهَا. لِأَنَّا نَقُولُ: الشَّارِعُ أَجَازَ ذَلِكَ بِشَرْطِهِ نَظَرًا إلَى مَصْلَحَتِهِ وَهُوَ اسْتِدَامَةُ الْعِشْرَةِ مَعَ الزَّوْجِ إذَا تَزَوَّجَهَا بَعْدَ النَّظَرِ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: إذَا كَانَ قَصْدُهُ إلَخْ لِلِاحْتِرَازِ عَمَّا لَوْ نَظَرَ إلَيْهَا بِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ بِهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَعَ مَعْرِفَةِ وَصْفِهَا فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ نَظَرُهُ إلَيْهَا لِأَنَّهَا أَجْنَبِيَّةٌ مِنْهُ، وَقَيَّدْنَا بِقَوْلِنَا: بِنَفْسِهِ لِأَنَّ الْخَاطِبَ لِغَيْرِهِ لَا يَجُوزُ لَهُ النَّظَرُ إلَى وَجْهِ الْمَخْطُوبَةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ. [صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ الْكَذِبِ] (وَمِنْ الْفَرَائِضِ) الْعَيْنِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (صَوْنُ) أَيْ كَفُّ (اللِّسَانِ عَنْ الْكَذِبِ) وَهُوَ الْإِخْبَارُ بِخِلَافِ الْوَاقِعِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَلَوْ مَعَ الشَّكِّ فِي وُقُوعِهِ، فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: مَنْ تَحَدَّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ فَهُوَ كَذَّابٌ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَحَدَّثَ الْمُكَلَّفُ إلَّا بِمَا عَلِمَ قَطْعًا، أَوْ بِمَا سَمِعَهُ أَوْ نُقِلَ إلَيْهِ نَقْلًا مُتَوَاتِرًا حَتَّى يَسْتَفِيضَ عِلْمُهُ، لِأَنَّ الْكَذِبَ يَهْدِي إلَى الْفُجُورِ، وَالْفُجُورُ يَهْدِي إلَى النَّارِ، دَلَّ عَلَى حُرْمَةِ الْكَذِبِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ} [آل عمران: 61] وَأَمَّا السُّنَّةُ: «فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَ لَهُ: أَكْذِبُ عَلَى امْرَأَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ، فَقَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعِدُهَا وَأَقُولُ لَهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا جُنَاحَ عَلَيْك» . وَخَبَرُ: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ فَهُوَ مُنَافِقٌ وَذَكَرَ الْكَذِبَ وَخُلْفَ الْوَعْدِ وَخِيَانَةَ الْمُؤْتَمِنِ» . وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَقَدْ انْعَقَدَ عَلَى حُرْمَتِهِ فِي الْأَصْلِ، فَلَا يُنَافِي مَا قَالَهُ ابْنُ رُشْدٍ مِنْ أَنَّهُ عَلَى خَمْسَةِ أَقْسَامٍ، أَحَدُهَا الْوُجُوبُ وَهُوَ مَا كَانَ لِإِنْقَاذِ نَفْسِ مَعْصُومَةٍ أَوْ مَالٍ مَعْصُومٍ مِنْ ظَالِمٍ حَتَّى لَوْ حَلَفَ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ لَا كَفَّارَةَ عَلَيْهِ. عِنْدَ التَّتَّائِيِّ عَلَيْهِ الْكَفَّارَةُ، عِنْدَ النَّاصِرِ اللَّقَانِيِّ وَهُوَ مِنْ الْغَمُوسِ الَّتِي تَغْمِسُ صَاحِبَهَا فِي الْوِزْرِ، وَحَرَامٌ وَهُوَ قِسْمَانِ: قِسْمٌ تُكَفِّرُهُ التَّوْبَةُ كَالْإِخْبَارِ عَنْ الشَّيْءِ بِخِلَافِ مَا هُوَ عَلَيْهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. وَالثَّانِي أَنْ يُقْتَطَعَ بِهِ حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ فَتَجِبُ مِنْهُ التَّوْبَةُ وَيُطْلَبُ مِنْ صَاحِبِ الْحَقِّ الْمُسَامَحَةُ وَالْبَرَاءَةُ مِنْ حَقِّهِ، وَمَنْدُوبٌ كَإِخْبَارِ الْكُفَّارِ بِقُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِحَيْثُ يَظْفَرُونَ عَلَى الْكُفَّارِ، وَمُبَاحٌ الْكَذِبُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الصُّلْحِ وَزَوَالِ الْعَدَاوَةِ بَيْنَهُمْ، وَمَكْرُوهٌ كَالْكَذِبِ لِلزَّوْجَةِ وَنَحْوِ الْعَبْدِ، وَقِيلَ إنَّهُ مُبَاحٌ لِتَطْيِيبِ خَاطِرِ مَنْ ذُكِرَ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِقَوْلِ الرَّسُولِ: «لَا خَيْرَ فِي الْكَذِبِ» . 1 - (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ الْعَيْنِيَّةِ أَيْضًا صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ شَهَادَةِ (الزُّورِ) وَهِيَ أَنْ يَشْهَدَ بِمَا لَمْ يَعْلَمْ وَإِنْ وَافَقَ الْوَاقِعَ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ الْكَذِبِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ، لِأَنَّ الزُّورَ مُخْتَصٌّ بِالشَّهَادَةِ، وَحُرْمَةُ الزُّورِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} [الحج: 30] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ وَشَهَادَةُ الزُّورِ، فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا: لَيْتَهُ سَكَتَ» وَانْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى تَحْرِيمِهَا، وَيَجِبُ عَلَى الْقَاضِي أَنْ يُعَزِّرَ شَاهِدَ الزُّورِ وَيَأْمُرَ بِالنِّدَاءِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ فِي الْمَلَأِ بَيْنَ النَّاسِ لِيَرْتَدِعَ غَيْرَهُ، وَلَا يَحْلِقُ لَهُ رَأْسًا وَلَا لِحْيَةً وَلَا يَسْتَحِمُّ لَهُ وَجْهًا، وَيُسَجِّلُهُ بِأَنْ يَكْتُبَ كِتَابًا فِي شَأْنِهِ وَيَضَعَهُ عِنْدَ الثِّقَاتِ لِيَعْلَمُوا أَوْصَافَهُ. (تَنْبِيهٌ) الزُّورُ مَأْخُوذٌ مِنْ زَوَرِ الصَّدْرِ وَهُوَ اعْوِجَاجُهُ، وَشَاهِدُ الزُّورِ مَالَ عَنْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُ حَيْثُ شَهِدَ بِخِلَافِهِ، وَلَيْسَ مِنْ تَزْوِيرِ الْكَلَامِ الَّذِي هُوَ تَحْسِينُهُ، وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ: زَوَّرْت فِي نَفْسِي كَلَامًا أَيْ حَسَّنْته. 1 - (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ أَيْضًا التَّنَزُّهُ عَنْ مُلَابَسَةِ (الْفَحْشَاءِ) جَمْعُهَا فَوَاحِشُ وَهِيَ كُلُّ مُحَرَّمٍ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَحُرْمَةُ الْفَوَاحِشِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النحل: 90] وَقَالَ: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] . وَخَبَرُ: «لَيْسَ الْمُؤْمِنُ بِالطَّعَّانِ وَلَا اللَّعَّانِ وَلَا الْفَاحِشِ وَلَا الْبَذِيءِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَيَاءُ وَالْعِيُّ شُعْبَتَانِ مِنْ الْإِيمَانِ، وَالْبَذَاءُ وَالْبَيَانُ شُعْبَتَانِ مِنْ النِّفَاقِ» فَالْعِيُّ قِلَّةُ الْكَلَامِ، وَالْبَذَاءُ الْفُحْشُ فِي الْكَلَامِ، وَالْبَيَانُ كَثْرَةُ الْكَلَامِ، وَسَيَأْتِي بَقِيَّةُ الْكَلَامِ عَلَى ذَلِكَ. (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ أَيْضًا صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ (الْغِيبَةِ) وَهِيَ أَنْ يَقُولَ الْإِنْسَانُ فِي غَيْرِهِ مَعَ غِيبَتِهِ مَا يَكْرَهُهُ لَوْ سَمِعَهُ وَلَوْ كَانَ حَقًّا، سَوَاءٌ كَانَ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي دِينِهِ أَوْ فِي دُنْيَاهُ أَوْ خُلُقِهِ أَوْ مَالِهِ أَوْ وَلَدِهِ أَوْ وَالِدِهِ وَزَوْجَتِهِ أَوْ خَادِمِهِ أَوْ حِرْفَتِهِ أَوْ لَوْنِهِ أَوْ مَمْلُوكِهِ أَوْ مَرْكُوبِهِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِهِ، سَوَاءٌ ذَكَرْته بِلَفْظِك أَوْ كِتَابِك، أَوْ أَشَرْت إلَيْهِ بِعَيْنِك أَوْ يَدِك أَوْ رَأْسِك، وَالضَّابِطُ أَنَّ كُلَّ مَا أَفْهَمْت بِهِ غَيْرَك نُقْصَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] مُسْلِمٍ فَهُوَ مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَالِمِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ أَوْ إعْرَابٍ أَخْطَأَ فِيهِ، لَا إنْ لَمْ يُعَيِّنُهُ أَوْ عَيَّنَهُ لِيُنَبِّهَ الْغَيْرَ عَلَى خَطَإِ كَلَامِهِ فَلَا يَكُونُ غِيبَةً بَلْ نَصِيحَةً وَاجِبَةً، وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي ضَابِطِهَا أَنَّ الْغِيبَةَ تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيضِ، كَمَا إذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ: مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: يُصْلِحُ اللَّهُ، أَوْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنَا بِالدُّخُولِ عَلَى الظُّلْمَةِ، وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تَتَقَيَّدُ بِالذَّكَرِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهَا: «أَنْ تَذْكُرَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» بَلْ الْمَدَارُ عَلَى انْتِقَاصِ الْمُسْلِمِ، فَيَشْمَلُ الْغِيبَةَ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ وَهُوَ حَرَامٌ مِثْلُ الْقَوْلِ، وَالْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ عَقْدُ الْقَلْبِ وَحُكْمُهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالسُّوءِ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ بِالْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لِلشَّخْصِ فِي وُقُوعِهِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: حُرْمَةُ الْغِيبَةِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: 12] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» . قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَى بَهَتَّهُ بِالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ رَمَيْته بِالْبُهْتَانِ وَهُوَ الْكَذِبُ. الثَّانِي: اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ فِي مَرْتَبَةِ الْغِيبَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهَا، فَذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَحَكَى عَلَيْهِ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ أَنَّ غِيبَةَ الْعَالِمِ أَوْ حَامِلِ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ وَغِيبَةُ غَيْرِهِمَا صَغِيرَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْبُرْهَانُ اللَّقَانِيُّ: وَلَمْ يَشْهَدْ لِلتَّفْرِقَةِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَالْمُتَّجِهُ الطَّرْدُ لِحُرْمَةِ الْمُغْتَابِ. الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْغِيبَةِ فِي حَقِّ الْمُغْتَابِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ سَامِعِيهَا، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهَا وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً أَنْ يَنْهَى الْفَاعِلَ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ، فَإِنْ نَهَاهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ كَانَ عَاصِيًا. قَالَ أَبُو حَامِدٍ: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَلْبِ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِثْمِ. الرَّابِعُ: فُهِمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَخِ فِي حَدِّ الْغِيبَةِ وَالتَّقْيِيدِ بِالْكَرَاهَةِ عَدَمُ الْغِيبَةِ فِي الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ أَخَاهُ بِمَا لَا يَكْرَهُهُ كَقَوْلِهِ فِي غِيبَتِهِ هُوَ سَارِقٌ أَوْ مُحَارِبٌ وَهُوَ يَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ غِيبَةً وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَجَاهِرِ. (خَاتِمَتَانِ) الْأُولَى: تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ بَلْ رُبَّمَا تَجِبُ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهَا جَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي بَيْتٍ بِقَوْلِهِ: لِسِتٍّ غِيبَةً كَرِّرْ وَخُذْهَا ... مُنَظَّمَةً كَأَمْثَالِ الْجَوَاهِرِ تَظَلَّمْ وَاسْتَغِثْ وَاسْتَفْتِ حَذِّرْ ... وَعَرِّفْ وَاذْكُرَنْ فِسْقَ الْمُجَاهِرِ فَالتَّظَلُّمُ كَإِخْبَارِ الْمَظْلُومِ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَيُسَمِّيهِ لَهُ. وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْمُثَلَّثَةِ أَوْ النُّونِ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ هُوَ فِي شِدَّةٍ وَكَرْبٍ مِنْ شَخْصٍ ذِي جَوْرٍ إزَالَتَهَا أَوْ مِمَّنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَسْمِيَةِ الْمُسْتَغَاثِ مِنْهُ. وَالِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ الْمَظْلُومُ لِلْعَالِمِ: كَيْفَ الْخَلَاصُ مِمَّنْ ظَلَمَنِي بِسَرِقَةِ مَالِي أَوْ سَبَّنِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّجْرِ. وَالتَّحْذِيرِ بِأَنْ يَقُولَ الْعَالِمُ فِي دَرْسِهِ قَوْلُ فُلَانٍ ضَعِيفٌ أَوْ حَدِيثُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ أَوْ فُلَانٌ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ الْعَمَلِ بِكَلَامِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إخْبَارُ الْحَاكِمِ بِحَالِ الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ عِنْدَ إرَادَتِهِ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ، وَشَرَطَ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى ذِكْرِ الْقَادِحِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَوْ الرِّوَايَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي تَجْرِيحِ الشَّاهِدِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي حَقِّ مَنْ طَلَبَ الرِّوَايَةَ، فَلَا يُخْبِرُ بِحَالِ شَخْصٍ لَمْ يُرَدْ أَنْ يَشْهَدَ وَلَمْ يُرِدْ أَحَدٌ الرِّوَايَةَ عَنْهُ. وَالتَّعْرِيفُ بَيَانُ حَالِ مَنْ سَأَلَك عِنْدَ إنْسَانٍ لِيَتَزَوَّجَ مِنْهُ أَوْ يُعَامِلَهُ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَتُعَرِّفُهُ بِحَالِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ السُّؤَالِ وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضٌ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا حَيْثُ انْفَرَدَ هَذَا الشَّخْصُ بِمَعْرِفَةِ مَسَاوِئِ هَذَا الْإِنْسَانِ. وَذَكَرَ فِسْقَ الْمُجَاهِرِ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ مُعْلِنًا بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا فَيَجُوزُ لَك أَنْ تَذْكُرَ ذَلِكَ الَّذِي تَجَاهَرَ بِهِ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ مِنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّجَاهُرِ وَالْإِعْلَانِ بِارْتِكَابِهِ الْمُفَسِّقَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّجَاهُرِ بِالْمُفَسِّقِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتِ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلَوْ سَلِمَتْ صِحَّتُهُ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا اُغْتِيبَ بِجِنْسِ مَا فُسِّقَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ أَوْ مُجَاهَرَتِهِ بِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 وَالْبَاطِلِ كُلِّهِ قَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -،   [الفواكه الدواني] بَعْدَ تَوْبَتِهِ لَا تَجُوزُ غِيبَتُهُ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ إطْلَاقَهُ اتِّفَاقًا، وَمِنْ الْجَائِزِ تَعْرِيفُ الْمَشَايِخِ بِأَلْقَابِهِمْ حَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُونَ إلَّا بِهَا نَحْوَ الْأَعْوَرِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَفْطَسِ وَالْأَصَمِّ، وَلَمْ يَقْصِدُ بِوَصْفِهِمْ تَنْقِيصَهُمْ وَإِلَّا حَرُمَ. (الْخَاتِمَةُ الثَّانِيَةُ) الْغِيبَةُ لَهَا جِهَتَانِ: إحْدَاهُمَا مِنْ حَيْثُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ أَذِيَّةُ الْمُغْتَابِ، فَالْأُولَى تَنْفَعُ فِيهَا التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مَعَ التَّوْبَةِ مِنْ طَلَبِ عَفْوِ الْمُغْتَابِ عَنْ صَاحِبِهَا وَلَوْ بِالْبَرَاءَةِ الْمَجْهُولِ مُتَعَلَّقُهَا عِنْدَنَا، وَعَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْغِيبَةِ لِصَاحِبِهَا إنْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا. 1 - (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ (النَّمِيمَةِ) وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ. قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَنْ يَنْمِي قَوْلَ الْغَيْرِ إلَى الْمَقُولِ فِيهِ كَقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَقُولُ فِيك كَذَا، وَلَيْسَتْ النَّمِيمَةُ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ بَلْ حَدُّهَا كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَشْفُ بِالْقَوْلِ أَوْ الْكِتَابَةِ أَوْ الرَّمْزِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ الْأَحْوَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَذِيَّةُ الْغَيْرِ وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: حَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى كُلِّ مَا يَرَاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، إلَّا مَا كَانَ فِي حِكَايَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ مَعْصِيَةٍ، وَإِذَا رَأَى الْمُكَلَّفُ شَخْصًا يُخْفِي حَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ لِلْغَيْرِ كَانَ نَمِيمَةً. قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: وَكُلُّ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ نَمِيمَةٌ وَقِيلَ لَهُ قَالَ فِيك فُلَانٌ كَذَا لَزِمَهُ سِتَّةُ أُمُورٍ: عَدَمُ تَصْدِيقِهِ وَنَهْيُهُ عَنْ فِعْلِهَا وَبُغْضُهُ مِنْ أَجَلِهَا وَعَدَمُ ظَنِّهِ سُوءًا بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ وَعَدَمُ بَحْثِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَعَدَمُ الرِّضَا لِنَفْسِهِ بِمَا نَهَى التَّمَامُ عَنْهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّ حُرْمَةِ النَّمِيمَةِ حَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا وَإِلَّا جَازَتْ، وَرُبَّمَا تَجِبُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخْبِرَك شَخْصٌ أَنَّ قَصْدَهُ قَتْلُ فُلَانٍ أَوْ سَرِقَةُ مَالِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ إعْلَامُ الْحَاكِمِ أَوْ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى زَجْرِ الْعُصَاةِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِيهِ، وَيُطْلَبُ مِنْ الْحَاكِمِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ الْفَحْصُ عَنْ ذَلِكَ وَإِزَالَتُهُ. الثَّانِي: الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا كَبِيرَةٌ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ قَتَّاتٌ لِأَنَّهُ النَّمَّامُ. قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَصَاحِبُهَا مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَأَكْبَرُ أَنْوَاعِهَا السِّعَايَةُ وَهِيَ الْإِدْلَاءُ بِالنَّاسِ لِلظُّلْمَةِ. قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَقَدْ بُحِثَ عَنْ فَاعِلِهَا فَلَمْ يُوجَدْ قَطُّ إلَّا وَلَدُ زِنًا، وَأُخِذَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ - مَنَّاعٍ} [القلم: 11 - 12] الْآيَةَ أَنَّ النَّمَّامَ لَا يَكُونُ إلَّا وَلَدَ زِنًا، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» هُوَ وَأَمْثَالُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ، 1 - وَلَمَّا كَانَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةً قَالَ: (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ اجْتِنَابُ (الْبَاطِلِ) وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَحِلُّ. (كُلِّهِ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْقَذْفِ، أَوْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَاللَّهْوِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ اخْتِيَارَيْهَا اخْتِيَارًا، وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ الْأَخْلَاقِ كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ. قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا فِي جَوْهَرَتِهِ: وَأْمُرْ بِعُرْفٍ أَوْ اجْتَنِبْ نَمِيمَهُ ... وَغِيبَةً وَخَصْلَةً ذَمِيمَهُ كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَدَاءِ الْحَسَدْ ... وَكَالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فَاعْتَمِدْ فَالْكِبْرُ هُوَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ لِخَبَرِ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ» هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِبْرِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَأَمَّا التَّكَبُّرُ عَلَى نَحْوِ الْفَسَقَةِ فَمَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَغَمْصُ النَّاسِ بِالصَّادِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ احْتِقَارُهُمْ، وَبَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ، وَالْعُجْبُ هُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ حَسَنَةً وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ، كَمَا يُعْجَبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ، وَلَيْسَ مِنْ الرِّيَاءِ وَلَا الْعُجْبِ رُؤْيَةُ الشَّخْصِ ثَوْبَهُ أَوْ فِعْلَهُ حَسَنًا لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمَالَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ بِحَدِيثَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ) الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُنْجِي مِنْ عَذَابِهِ الْمُوَصِّلِ إلَى رِضَاهُ (بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِ وُجُودِهِ وَصَانِعِيَّتِهِ لِلْعَالَمِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَبِأَهْوَالِهِ وَفَظَائِعِهِ الَّتِي تَقَعُ فِيهِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ. (فَلْيَقُلْ) أَيْ يَذْكُرْ (خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَاضِيه صَمَتَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، لِأَنَّ قِيَاسَ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ يَفْعِلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ دِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَعْرَاضَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَلَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إيمَانِهِ أَوْ يَزْنِيَ بَعْدَ إحْصَانِهِ أَوْ يَقْتُلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي،   [الفواكه الدواني] بِكَسْرِهَا وَقِيلَ بِضَمِّهَا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ قَوْلِ الْخَيْرِ أَوْ السُّكُوتِ عَنْهُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْكَلَامَ قَدْ يَكُونُ وَاجِبًا كَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ، وَلِذَلِكَ أَوَّلُوا الْحَدِيثَ بِأَنَّ مَعْنَاهُ فَلْيَقُلْ خَيْرًا يُثَبْ عَلَيْهِ، أَوْ يَسْكُتُ عَنْ شَرٍّ يُعَاقَبْ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: " أَوْ " فِيهِ بِمَعْنَى الْوَاوِ وَالْمَعْنَى: فَلْيَقُلْ خَيْرًا وَلْيَصْمُتْ عَنْ الشَّرِّ، وَأَشَارَ إلَى ثَانِيهِمَا بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ، وَ (السَّلَامُ «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ أَيْ الْإِنْسَانِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» أَيْ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِي فِعْلِهِ، وَإِنَّمَا قَالَ: مِنْ حُسْنِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي لَيْسَ هُوَ الْإِسْلَامُ وَلَا جُزْءٌ مِنْهُ بَلْ هُوَ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِهِ، وَآثَرَ ذِكْرَ الْإِسْلَامِ عَلَى الْإِيمَانِ لِأَنَّ الْإِسْلَامَ عِبَارَةٌ عَنْ الْأَفْعَالِ الظَّاهِرَةِ كَمَا فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ: «الْإِسْلَامُ أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» إلَخْ وَالْأَفْعَالُ الظَّاهِرَةُ اخْتِيَارِيَّةٌ لِلْإِنْسَانِ، بِخِلَافِ الْبَاطِنَةِ الرَّاجِعَةِ لِلْإِيمَانِ فَهِيَ اضْطِرَارِيَّةٌ مَانِعَةٌ لِمَا يَخْلُقُهُ اللَّهُ فِي النُّفُوسِ وَيُوقِعُهُ فِيهَا الَّذِي يَعْنِي الْإِنْسَانَ مَا تَتَعَلَّقُ بِهِ عِنَايَتُهُ مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ فِي آخِرَتِهِ، أَوْ يُضْطَرُّ إلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَلُبْسٍ وَمَا يَعِفُّ فَرْجَهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يَدْفَعُ عَنْهُ الضَّرَرَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ دُونَ مَا يَفْعَلُ لِمُجَرَّدِ التَّلَذُّذِ، فَإِذَا اقْتَصَرَ عَلَى مَا يَعْنِيه سَلِمَ مِنْ سَائِرِ الْآفَاتِ وَحَصَلَ مَا أَرَادَهُ مِنْ فِعْلِ الْخَيْرَاتِ، وَهَذَانِ حَدِيثَانِ جَلِيلَانِ، لِأَنَّ أَوَّلَهُمَا يَحْمِلُ الْإِنْسَانَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ وَتَرْكِ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالثَّانِي يَحْمِلُهُ عَلَى تَرْكِ صُحْبَةِ مَنْ لَا خَيْرَ فِي صُحْبَتِهِ، وَيُرَغِّبُهُ فِي صُحْبَةِ مِنْ يَنْتَفِعُ بِصُحْبَتِهِ لِاسْتِفَادَتِهِ مِنْهُ عِلْمًا أَوْ مَالًا. قَالَ الْحُمَيْدِيُّ: لِقَاءُ النَّاسِ لَيْسَ يُفِيدُ شَيْئًا ... سِوَى الْهَذَيَانِ مِنْ قِيلٍ وَقَالَ فَأَقْلِلْ مِنْ لِقَاءِ النَّاسِ إلَّا ... لِأَخْذِ الْعِلْمِ أَوْ إصْلَاحِ حَالْ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْمَنَّانَ بِفَضْلِهِ أَنْ يُلْهِمَنَا رُشْدَنَا وَيُمَلِّكَنَا أَنْفُسَنَا أَوْ يُذَكِّرَنَا عُيُوبَنَا. (وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ) سَفْكَ (دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ) أَوْ قَطْعَ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِمْ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْمُسْلِمِينَ بَلْ أَهْلُ الذِّمَّةِ كَذَلِكَ لِوُجُوبِ عِصْمَةِ الْجَمِيعِ، دَلَّ عَلَى الْحُرْمَةِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ} [الأنعام: 151] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُنَّ؟ قَالَ: الشِّرْكُ بِاَللَّهِ، وَالسَّحَرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إلَّا بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ سَبْعِينَ عَامًا» عَلَى إحْدَى الرِّوَايَاتِ، وَيَرَحْ بِفَتْحِ الرَّاءِ مَعْنَاهُ لَمْ يَشُمَّ رَائِحَتَهَا مَعَ أَنَّ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ يَشُمُّهَا مَنْ هُوَ عَلَى هَذِهِ الْمَسَافَةِ الْبَعِيدَةِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَأَشَارَ إلَيْهِ الْغَزَالِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَئِمَّةِ الْأُصُولِ بِقَوْلِهِمْ: إنَّ الْكُلِّيَّاتِ الْخَمْسِ أَوْ السِّتِّ مِمَّا أَجْمَعَتْ الْمِلَلُ عَلَى وُجُوبِ حِفْظِهَا وَصِيَانَتِهَا لِشَرَفِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ الْمَشْهُورَةِ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» الْحَدِيثَ. وَفِي آخَرَ: «أَلَا لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضَكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» . وَأَشَارَ إلَى ضَبْطِهَا صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: وَحِفْظُ دِينٍ ثُمَّ نَفْسٍ مَالٍ نَسَبْ ... وَمِثْلُهَا عَقْلٌ وَعِرْضٌ قَدْ وَجَبْ وَلِوُجُوبِ حِفْظِ النُّفُوسِ شَرَعَ الْقِصَاصَ فِي الْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَالطَّرْفِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ مُكَلَّفٍ مُلْتَزِمٍ لِلْأَحْكَامِ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ وَالْعُدْوَانِ. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ إتْلَافَ (أَمْوَالِهِمْ) أَيْ الْمُسْلِمِينَ وَكَذَلِكَ أَمْوَالُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَحَقِيقَةُ الْمَالِ كُلُّ مَا مُلِكَ شَرْعًا وَلَوْ قَلَّ، وَلِوُجُوبِ حِفْظِهِ شَرَعَ حَدَّ السَّرِقَةِ وَحَدَّ الْحِرَابَةِ. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ أَذِيَّةَ (أَعْرَاضِهِمْ) جَمْعُ عِرْضٍ بِكَسْرِ الْعَيْنِ مَوْضِعُ الْمَدْحِ وَالذَّمِّ مِنْ الْإِنْسَانِ وَقِيلَ الْحَسَبُ، وَلِحِفْظِهِ شَرَعَ حَدَّ الْقَذْفِ لِمَنْ رَمَى غَيْرَهُ بِفِعْلِ الْفَاحِشَةِ أَوْ نَفَى نَسَبَهُ اللَّاحِقَ وَالتَّعْزِيرُ لِغَيْرِهِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ مَفْهُومَ الْمُسْلِمِينَ مُعَطَّلٌ بِالنِّسْبَةِ لِلْجِنَايَةِ عَلَى النَّفْسِ وَعَلَى الْمَالِ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ. وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ دِمَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَأَمْوَالِهِمْ وَأَعْرَاضِهِمْ لَيْسَتْ مُطْلَقَةً قَالَ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ (إلَّا بِحَقِّهَا) أَيْ الْمَذْكُورَاتِ، وَالْمُرَادُ بِحَقِّهَا السَّبَبُ الْمُقْتَضَيْ لِاسْتِحْقَاقِهَا، فَحَقُّ الْأَمْوَالِ الْمُبِيحُ لَهَا هُوَ إتْلَافُهَا الْمُشَارُ إلَيْهِ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ اسْتَهْلَكَ عَرَضًا فَعَلَيْهِ قِيمَتُهُ، وَحَقُّ الْأَعْرَاضِ عَدَمُ الْعِفَّةِ عَنْ ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُ الْحَدَّ أَوْ التَّعْزِيرَ. وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ مَا يُوجِبُ اسْتِحْقَاقَ الدَّمِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَحِلُّ) إرَاقَةُ (دَمِ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إيمَانِهِ) الْمُتَقَرِّرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 الْأَرْضِ أَوْ يَمْرُقَ مِنْ الدِّينِ وَلْتَكُفَّ يَدَك عَمَّا لَا يَحِلُّ لَك مِنْ مَالٍ أَوْ جَسَدٍ أَوْ دَمٍ وَلَا تَسْعَ بِقَدَمَيْك فِيمَا لَا يَحِلُّ لَك وَلَا تُبَاشِرْ بِفَرْجِك أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِك مَا لَا يَحِلُّ لَك» قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] إلَى قَوْلِهِ {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَأَنْ يُقْرَبَ النِّسَاءُ فِي دَمِ حَيْضِهِنَّ أَوْ نِفَاسِهِنَّ،   [الفواكه الدواني] بِالنُّطْقِ بِالشَّهَادَتَيْنِ مَعَ الْتِزَامِ أَحْكَامِهِمَا، وَهُوَ الرِّدَّةُ الْمُشَارُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» أَيْ بَعْدَ اسْتِتَابَتِهِ بِثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا عَطَشٍ. (أَوْ) إلَّا أَنْ (يَزْنِيَ بَعْدَ إحْصَانِهِ) فَيُرْجَمُ بِالْحِجَارَةِ الْمُعْتَدِلَةِ حَتَّى يَمُوتَ وَتَقَدَّمَ مَعْنَى الْإِحْصَانِ وَشُرُوطُهُ. (أَوْ) إلَّا أَنْ (يَقْتُلَ نَفْسًا) مَعْصُومَةً مُكَافِئَةً لَهُ أَوْ أَعْلَى مِنْهُ عَلَى وَجْهِ الْعَمْدِ الْعُدْوَانِ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ قِصَاصًا، وَاحْتَرَزَ بِقَوْلِهِ: (بِغَيْرِ نَفْسٍ) عَمَّا لَوْ قَتَلَ نَفْسًا قِصَاصًا فَإِنَّهُ لَا يُقْتَلُ بِهَا لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْصُومَةٍ لِلْوَلِيِّ. (أَوْ) إلَّا أَنْ يَحْصُلَ مِنْهُ (فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ) بِأَنْ يُحَارِبَ بِقَطْعِ الطَّرِيقِ أَوْ قَتْلِ النَّاسِ لِأَخْذِ أَمْوَالِهِمْ عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ، أَوْ يَسْقِيَ غَيْرَهُ شَيْئًا يُغَيِّبُ عَقْلَهُ لِيَأْخُذَ مَالَهُ، فَيُخَيَّرُ الْإِمَامُ فِي قَتْلِهِ أَوْ صَلْبِهِ أَوْ قَطْعِهِ مِنْ خِلَافِ أَوْ نَفْيِهِ لِآيَةِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا} [المائدة: 33] الْآيَةَ. (أَوْ) إلَّا أَنْ (يَمْرُقَ) أَيْ يَخْرُجَ (مِنْ الدِّينِ) بِاعْتِقَادِ مَا يَكْفُرُ بِهِ، كَاعْتِقَادِ أَنَّ اللَّهَ جِسْمٌ أَوْ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ مُفَصَّلَةً أَوْ لَا يَعْلَمُهَا إلَّا بَعْدَ وُجُودِهَا كَمَا تَعْتَقِدُهُ الْقَدَرِيَّةُ الْأُولَى، وَمِمَّا يَحِلُّ بِهِ دَمُ الْمُسْلِمِ الزَّنْدَقَةُ وَالسِّحْرُ وَسَبُّ الْبَارِي، أَوْ الْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مِلْكِيَّتِهِ، أَوْ جَحْدِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهِ مِنْ أُمُورِ الدِّينِ، أَوْ الِامْتِنَاعِ مِنْ فِعْلِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ عِنَادًا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الصِّيَامِ أَوْ الزَّكَاةِ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا حَمَلْنَا الْمُرُوقَ مِنْ الدَّيْنِ عَلَى اعْتِقَادِ مَا يُكَفِّرُ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْإِشَارَةُ إلَى عَدَمِ تَكْرَارِهِ مَعَ قَوْلِهِ سَابِقًا: إلَّا أَنْ يَكْفُرَ بَعْدَ إيمَانِهِ لِحَمْلِهِ عَلَى مَنْ ارْتَدَّ بِنَحْوِ إلْقَاءِ مُصْحَفٍ فِي قَذَرٍ أَوْ شَدِّ زُنَّارٍ مَعَ تَوَجُّهٍ لِنَحْوِ كَنِيسَةٍ أَوْ غَيْرِهَا مِمَّا لَيْسَ بِاعْتِقَادٍ، وَالْمُرُوقُ مِنْ الدِّينِ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الْخَاصِّ الَّذِي هُوَ الِاعْتِقَادُ الْفَاسِدُ. وَثَانِيهمَا: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ فِرَقَ الْمُبْتَدِعَةِ مِنْهُمْ مَنْ يَكْفُرُ بِبِدْعَتِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَكْفُرْ، لِأَنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ تَكْفِيرِ الْمُعْتَزِلَةِ وَإِنْ كَانَ يَسْتَوْجِبُونَ الْأَدَبَ، وَقَوْلُ الْعَلَّامَةِ السَّنُوسِيِّ: إنَّهُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَحْمُولٌ إمَّا عَلَى مَجْمُوعِهِمْ أَوْ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ التَّغْلِيظِ عَلَى حَدِّ: لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقَ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ تُقْطَعُ يَدُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَأَشَارَ إلَى ضَابِطِ مَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مِمَّا هُوَ أَعَمُّ مِمَّا سَبَقَ بِقَوْلِهِ: (وَلْتَكُفَّ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (يَدَك عَمَّا لَا يَحِلُّ لَك) تَنَاوَلَهُ شَرْعًا وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ مَالِ) مَمْلُوكٍ لِغَيْرِك لِأَنَّ مَالَ الْغَيْرِ لَا يَحِلُّ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسِ مَالِكِهِ، وَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ الْبَيْعَ لَيُتَوَصَّلَ بِهِ إلَى مَا فِي يَدِ الْغَيْرِ عَلَى وَجْهٍ جَائِزٍ. (أَوْ) مَسِّ (جَسَدِ) أَجْنَبِيَّةٍ أَوْ ذَكَرٍ أَوْ دَابَّةٍ عَلَى قَصْدِ الِالْتِذَاذِ. (أَوْ) إرَاقَةِ (دَمٍ) وَلَوْ بِجُرْحٍ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنْ يُمْسِكَ نَفْسَهُ عَمَّا لَا يَحِلُّ بِهِ فِعْلُهُ وَلَوْ بِالنُّطْقِ وَالْكِتَابَةِ أَوْ الْإِشَارَةِ فَلَا مَفْهُومَ لِلْيَدِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا تَسْعَ) بِالْجَزْمِ بِحَذْفِ الْأَلْفِ (بِقَدَمَيْك فِيمَا لَا يَحِلُّ لَك) السَّعْيُ إلَيْهِ كَزِنًا أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ غَيْرِهِمَا كَالسَّعْيِ إلَى أَهْلِ الْجَوْرِ، وَإِلَّا لِحَاجَةٍ كَشَفَاعَةٍ لِمَظْلُومٍ لِمَا قَالَهُ الْعُلَمَاءُ مِنْ أَنَّ مِمَّا يُسَهِّلُ هَوْلَ الْمَوْقِفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَفْرِيجُ الْكَرْبِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ وَدَفْعُ الضَّرَرِ عَنْهُمْ. (وَلَا تُبَاشِرْ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (بِفَرْجِك أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ جَسَدِك مَا لَا يَحِلُّ لَك) مُبَاشَرَتُهُ وَهُوَ مَا خَلَا الزَّوْجَةَ وَالْأَمَةَ (قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} [المؤمنون: 5] {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] مِنْ الْإِنَاثِ (إلَى قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} [المؤمنون: 7] أَيْ الْمُتَجَاوِزُونَ إلَى مَا لَا يَحِلُّ لَهُمْ، وَلِذَا لَا يَحِلُّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تُبَاشِرَ بِشَيْءٍ مِنْ أَطْرَافِهَا بِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ سِوَى زَوْجِهَا، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى حُكْمِ النَّظَرِ. (وَ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ تَعْتَقِدَ أَنَّهُ (حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ) وَتَعَالَى جَمِيعَ (الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ) قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] قِيلَ هُوَ الْخَمْرُ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُبْغِضُ الْفَاحِشَ الْبَذِيءَ» وَالْبَذِيءُ بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ الَّذِي يُصَرِّحُ بِمَا يُكَنَّى عَنْهُ مِنْ الْقَبِيحِ، وَالْمُرَادُ بِالْفَاحِشِ كُلُّ مُسْتَقْبَحٍ شَرْعًا مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَالْمُرَادُ بِمَا ظَهَرَ مَا يُشَاهَدُ بِالْعَيْنِ، وَالْمُرَادُ بِمَا بَطَنَ خِلَافُهُ، فَيَدْخُلُ الْغِيبَةُ بِالْقَلْبِ وَتَحْدِيثُ النَّفْسِ بِمَسَاوِئِ النَّاسِ وَالْمُرَادُ جَزْمُ الْقَلْبِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ} [الحجرات: 12] الْآيَةَ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ» وَالْمُرَادُ أَنْ تَجْزِمَ بِقَلْبِك لَا مُجَرَّدَ حَدِيثِ النَّفْسِ بِقِيَامِ السُّوءِ بِالْغَيْرِ مِنْ غَيْرِ جَزْمٍ فَإِنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ اتِّفَاقًا لِحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ تَعَالَى تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتَكَلَّمْ بِهِ أَوْ تَعْمَلْ» وَسَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْخَاطِرُ غِيبَةً أَوْ كُفْرًا، فَمَنْ خَطَرَ عَلَى قَلْبِهِ نَحْوُ الْكُفْرِ مِنْ غَيْرِ تَعَمُّدٍ لِتَحْصِيلِهِ ثُمَّ صَرَفَهُ فِي الْحَالِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. [الِاسْتِمْتَاعِ بِالنِّسَاءِ فِي زَمَنِ خُرُوجِ دَمِ الْحَيْضِ وَالنِّفَاس] (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى (أَنْ يُقْرَبَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (النِّسَاءُ) بِوَطْءٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الِاسْتِمْتَاعِ (فِي) زَمَنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 وَحَرَّمَ مِنْ النِّسَاءِ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا إيَّاهُ، وَأَمَرَ بِأَكْلِ الطَّيِّبِ وَهُوَ الْحَلَالُ فَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَأْكُلَ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تَلْبَسَ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تَرْكَبَ إلَّا طَيِّبًا وَلَا تَسْكُنَ إلَّا طَيِّبًا وَتَسْتَعْمِلَ سَائِرَ مَا تَنْتَفِعُ بِهِ طَيِّبًا وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ مُشْتَبِهَاتٌ مَنْ تَرَكَهَا سَلِمَ وَمَنْ،   [الفواكه الدواني] خُرُوجِ (دَمِ حَيْضِهِنَّ أَوْ) زَمَنِ خُرُوجِ دَمِ (نِفَاسِهِنَّ) وَكَذَا بَعْدَ انْقِطَاعِهِ وَقَبْلَ الْغُسْلِ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَمْنُوعِ: أَوْ تَحْتَ إزَارٍ وَلَوْ بَعْدَ نَقَاءٍ وَتَيَمُّمٍ، وَالْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ الِاسْتِمْتَاعُ بِمَا تَحْتَ الْإِزَارِ، وَالْمُرَادُ بِهِ مَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَهُمَا خَارِجَانِ، فَلَا يَحِلُّ التَّمَتُّعُ بِغَيْرِ النَّظَرِ بِمَا بَيْنَ السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ وَلَوْ بِغَيْرِ وَطْءٍ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ، وَأَمَّا النَّظَرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَأَمَّا التَّمَتُّعُ بِغَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ مِمَّا هُوَ فَوْقَ السُّرَّةِ أَوْ نَزَلَ عَنْ الرُّكْبَةِ أَوْ بِهِمَا فَلَا حَرَجَ فِيهِ وَلَوْ بِالْوَطْءِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْحَائِضُ تَشُدُّ إزَارَهَا وَشَأْنُهُ بِأَعْلَاهَا» قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] أَيْ يَرَيْنَ عَلَامَةَ الطُّهْرِ، فَإِذَا تَطَهَّرْنَ أَيْ بِالْمَاءِ {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] فَلَا يَحِلُّ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا قَبْلَ الْغُسْلِ وَلَوْ تَيَمَّمَتْ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ فَيَحِلَّ بَعْدَ التَّيَمُّمِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت مَا قَرَّرْنَا ظَهَرَ لَك مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَاعِ الْمُوهِمِ لِحُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِمَا فَوْقَ الْإِزَارِ أَيْ فَوْقَ السُّرَّةِ، وَحُرْمَةِ الِاسْتِمْتَاعِ بِهِنَّ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ إمَّا تَعَبُّدِيَّةٌ وَقِيلَ لِمَا يُصِيبُ الْوَاطِئَ أَوْ الْوَلَدَ مِنْ نَحْوِ الْجُذَامِ أَوْ الْبَرَصِ أَوْ الْفَزَعِ أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ. الثَّانِي: الْحُرْمَةُ الْمَذْكُورَةُ لَا تَخْتَصُّ بِالْمُسْلِمَةِ بَلْ الْكَافِرَةُ كَذَلِكَ، فَيَحْرُمُ عَلَى زَوْجِ الْكَافِرَةِ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا قَبْلَ غُسْلِهَا، وَيُجْبِرُهَا عَلَى الْغُسْلِ حَتَّى يَحِلَّ لَهُ الِاسْتِمْتَاعُ بِهَا وَمِثْلُهَا الْمَجْنُونَةُ. قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَيُجْبِرُ الْمُسْلِمُ امْرَأَتَهُ النَّصْرَانِيَّةَ عَلَى الْغُسْلِ مِنْ الْحَيْضِ. قَالَ أَبُو الْحَسَنِ شَارِحُهَا: وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ مِنْهَا النِّيَّةُ إذْ لَا تَجِبُ إلَّا فِي الْغُسْلِ لِلصَّلَاةِ لِأَنَّهُ الَّذِي يَرْفَعُ الْحَدَثَ، وَأَمَّا الْغُسْلُ لِحِلِّ الْوَطْءِ فَلَا قَالَهُ فِي الْبَيَانِ. وَلِذَا يُقَالُ لَنَا: غُسْلُ فَرْضٍ يَصِحُّ وَلَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ فَيُقَالُ هُوَ غُسْلُ النَّصْرَانِيَّةِ مِنْ حَيْضِهَا فَإِنَّهُ صَحِيحٌ لِحِلِّ الْوَطْءِ فَقَطْ، وَلِذَا لَوْ أَسْلَمَتْ لَوَجَبَ عَلَيْهَا الْغُسْلُ لِيَرْتَفِعَ حَدَثُهَا لِتَصِحَّ صَلَاتُهَا. (وَحَرَّمَ) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (مِنْ النِّسَاءِ) نِكَاحَ كُلِّ (مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا إيَّاهُ) فِي بَابِ النِّكَاحِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مِنْ النِّسَاءِ سَبْعًا بِالْقَرَابَةِ وَسَبْعًا بِالرَّضَاعِ وَالصِّهْرِ، وَقَوْلُهُ: وَحَرَّمَ اللَّهُ وَطْءَ الْكَوَافِرِ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ بِمِلْكٍ أَوْ نِكَاحٍ. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: مَا تَقَدَّمَ فِيهِ اسْتِعْمَالُ مَا فِي الْعَاقِلِ أَوْ هُوَ قَلِيلٌ أَوْ هُوَ عَلَى تَنْزِيلِ النَّاقِصِ فِي الْعَقْلِ مَنْزِلَةَ مَا لَا عَقْلَ فِيهِ وَهُوَ سَائِغٌ. [أَكْلِ الطَّيِّبِ] (وَأَمَرَ) اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ (بِأَكْلِ الطَّيِّبِ) وَشُرْبِهِ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ الْحَلَالُ) بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] وَ {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] وَالْحَلَالُ فِيهِ خِلَافٌ، وَالرَّاجِحُ مِنْهُ أَنَّهُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِلَّهِ تَعَالَى وَلَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ: لَا يَنْبَغِي الْيَوْمَ لِأَحَدٍ أَنْ يَسْأَلَ عَنْ أَصْلِ شَيْءٍ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى مَا سَبَقَ بَيَانَ أَنَّ الْأَمْرَ بِأَكْلِ الطَّيِّبِ عَلَى الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: (فَلَا يَحِلُّ لَك) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (أَنْ تَأْكُلَ) أَوْ تَشْرَبَ (إلَّا طَيِّبًا) أَيْ حَلَالًا. (وَلَا تَلْبَسَ إلَّا) مَلْبُوسًا (طَيِّبًا وَلَا تَرْكَبَ إلَّا) مَرْكُوبًا (طَيِّبًا وَلَا تَسْكُنَ إلَّا) مَسْكَنًا (طَيِّبًا وَ) الْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْك أَنْ (تَسْتَعْمِلَ سَائِرَ) أَيْ جَمِيعَ (مَا تَنْتَفِعُ بِهِ طَيِّبًا) وَنَبَّهَ سُبْحَانَهُ بِتَقْدِيمِ أَكْلِ الطَّيِّبِ عَلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي آيَةِ: {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] وَآيَةِ: {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} [المؤمنون: 51] عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ صَاحِبُهُ إلَّا بَعْدَ إصْلَاحِ الرِّزْقِ بِاكْتِسَابِهِ مِنْ بَابِ حِلٍّ لِمَا فِي حَدِيثِ التِّرْمِذِيِّ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا يَرْبُو لَحْمٌ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ إلَّا كَانَتْ النَّارُ أَوْلَى بِهِ» وَالسُّحْتُ الْحَرَامُ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ مَنْ فِي بَطْنِهِ حَرَامٌ. وَعَنْهُ أَيْضًا: مَنْ أَكَلَ لُقْمَةً مِنْ حَرَامٍ لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ عَمَلُهُ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا فَفِي جَمِيعِ ذَلِكَ حَثٌّ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْقُوتِ، وَتَحْصِيلِهِ مِنْ جِهَةٍ تَسْكُنُ إلَيْهَا نَفْسُهُ بِحَيْثُ لَا يَعْلَمُ أَنَّ لِلْغَيْرِ حَقًّا فِيهِ، وَلِذَلِكَ وَرَدَ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: الَّذِي إذَا أَصْبَحَ سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصَاهُ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ الْمُؤْمِنُ؟ قَالَ: الَّذِي إذَا أَمْسَى سَأَلَ مِنْ أَيْنَ قُرْصَاهُ، قُلْت: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَوْ عَلِمَهُ النَّاسُ لَتَكَلَّفُوهُ، فَقَالَ: قَدْ عَلِمُوا وَلَكِنَّهُمْ قَدْ غَشَمُوا الْمَعِيشَةَ غَشْمًا» . قَالَ الشَّيْخُ أَبُو مُحَمَّدٍ: تَعَسَّفُوا تَعَسُّفًا، وَالْجَمْعُ بَيْنَ تَسْتَعْمِلُ وَتَنْتَفِعُ بَعْضُ تَكْرَارٍ لِسَبَبٍ ارْتَكَبَهُ الشَّيْخُ إيضَاحًا لِلطَّلَبِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ حَلِّ مَجْهُولِ الْأَصْلِ دُخُولُ الْمُتَشَابِهِ قَالَ كَالْمُسْتَدْرِكِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: (وَمِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ) الْحَلَالِ أَشْيَاءُ (مُشْتَبِهَاتٌ) بَيْنَ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ وَهِيَ مَا اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي حِلِّهَا وَحُرْمَتِهَا، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ بِتَحْرِيمٍ وَلَا تَحْلِيلٍ. (مِنْ تَرَكَهَا سَلِمَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 أَخَذَهَا كَانَ كَالرَّاتِعِ حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَقَعَ فِيهِ. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكَلَ الْمَالَ بِالْبَاطِلِ وَمِنْ الْبَاطِلِ الْغَصْبُ وَالتَّعَدِّي وَالْخِيَانَةُ وَالرِّبَا وَالسُّحْتُ وَالْقِمَارُ وَالْغَرَرُ وَالْغِشُّ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِلَابَةُ، وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ،   [الفواكه الدواني] وَمَنْ أَخَذَهَا) أَيْ اسْتَعْمَلَهَا (كَانَ كَالرَّاتِعِ) أَيْ الرَّاعِي (حَوْلَ الْحِمَى) أَيْ الْمَحَلِّ الْمَحْمِيِّ لِغَيْرِهِ (يُوشِكُ) أَيْ يَقْرُبُ (أَنْ يَقَعَ فِيهِ) سَرِيعًا وَهَذِهِ إشَارَةٌ إلَى قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ وَبَيْنُهُمَا أُمُورٌ مُشْتَبِهَاتٌ لَا يَعْلَمُهُنَّ كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الشُّبُهَاتِ فَقَدْ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ وَقَعَ فِي الْحَرَامِ، كَالرَّاعِي يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يَرْتَعَ فِيهِ» الْحَدِيثَ. وَمَعْنَاهُ: أَنَّ اللَّهَ بَيَّنَ حِلَّ بَعْضِ أَشْيَاءَ وَحَرَّمَ بَعْضَ أَشْيَاءَ بَيَانًا ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا اخْتِلَافَ فِيهِ، وَبَقِيَتْ أَشْيَاءُ اخْتَلَفَتْ فِيهَا الْعُلَمَاءُ لِتَعَارُضِ أَدِلَّةِ الْحِلِّ وَالتَّحْرِيمِ فِيهَا وَهُوَ الْمُتَشَابِهُ، وَقِيلَ: مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ، وَمَعْنَى اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ احْتَاطَ لِنَفْسِهِ وَطَلَبَ الْبَرَاءَةَ لِدِينِهِ، وَمَعْنَى الْوُقُوعِ فِي الْمُتَشَابِهِ اسْتِعْمَالُهُ لِقَوْلِهِ: «وَقَعَ فِي الْحَرَامِ» ، وَالْوَاقِعُ فِي الْحَرَامِ يُخْشَى عَلَيْهِ مِنْ سَطْوَةِ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا يُخْشَى عَلَى مَنْ رَعَى فِي حِمَى غَيْرِهِ مِنْ سَطْوَةِ مَالِكِهِ، وَالْحِمَى الْمَحَلُّ الَّذِي يَحْمِيهِ صَاحِبُ الشَّوْكَةِ وَيَمْنَعُ غَيْرَهُ مِنْ الرَّعْيِ فِيهِ، وَالْقَصْدُ مِنْ الْحَدِيثِ الدَّلَالَةُ عَلَى اجْتِنَابِ الْمُتَشَابِهِ وَالِاقْتِصَارُ عَلَى اسْتِعْمَالِ مُحَقَّقِ الْحَمْلِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِ الْمُتَشَابِهِ بِمَا تَعَارَضَتْ فِيهِ أَدِلَّةُ الْحِلِّ وَالْحُرْمَةِ أَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ أَنَّ الْحَلَالَ مَا اتَّفَقَتْ الْأَدِلَّةُ عَلَى حِلِّهِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَيْهِ مَا مَرَّ فِي تَفْسِيرِ الْحَلَالِ بِأَنَّهُ مَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ حَقٌّ لِلَّهِ وَلَا حَقٌّ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مَا جُهِلَ أَصْلُهُ، لِأَنَّ الْمُرَادَ جَهْلُهُ مِنْ جِهَةِ تَعَلُّقِ حَقِّ الْغَيْرِ بِهِ بِدَلِيلِ قَوْلِ الْفَاكِهَانِيِّ: لَا يَنْبَغِي الْيَوْمَ السُّؤَالُ عَنْ الْأَشْيَاءِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَصْلَهُ مِنْ حَيْثُ دَلَالَةُ الدَّلِيلِ عَلَى حِلِّهِ أَوْ حُرْمَتِهِ أَوْ يُحْمَلُ عَلَى ذَلِكَ وَيَكُونُ مَبْنِيًّا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْأَشْيَاءِ الْحِلُّ حَتَّى يَثْبُتَ دَلِيلُ التَّحْرِيمِ، وَأَمَّا مَا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ وَاخْتُلِفَ هَلْ تَعَلَّقَ بِهِ حَقٌّ لِغَيْرِهِ جَائِزَةٌ أَمْ لَا فَإِنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْمُتَشَابِهِ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْأَوْجُهُ وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الَّذِي كَثُرَ فِيهِ النَّهْبُ وَالْغَصْبُ وَنَدَرَ فِيهِ الْحَلَالُ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ، وَلَمَّا قَدَّمَ الْأَمْرَ بِأَكْلِ الْحَلَالِ وَكَانَ الْأَمْرُ يَقَعُ بِغَيْرِ الْوَاجِبِ بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ بِقَوْلِهِ: (وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ) أَيْ تَنَاوُلَ (الْمَالِ) الْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ اخْتِيَارًا (بِالْبَاطِلِ) أَيْ بِغَيْرِ سَبَبٍ يَقْتَضِي الْحِلَّ، قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 188] وَلِذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ الْبَيْعَ لِيَتَوَصَّلَ بِهِ الشَّخْصُ إلَى إبَاحَةِ مَالِ غَيْرِهِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمَمْلُوكِ لِلْغَيْرِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ نَحْوِ السَّمَكِ وَثِمَارِ الْجِبَالِ وَحَيَوَانِهَا الَّذِي يُصَادُ مِنْهَا فَإِنَّ الْجَمِيعَ حَلَالٌ، وَبِالِاخْتِيَارِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالِ الضَّرُورَةِ فَإِنَّهُ يَحْرُمُ مَالُ الْغَيْرِ وَلِوُجُوبِ مُوَاسَاةِ الْمُضْطَرِّ، وَيُقَدَّمُ مَالُ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ وَيُقَاتِلُ صَاحِبُهُ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ لَهُ سَرِقَتُهُ إنْ لَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ وَنَحْوَهُ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ طَلَبِهِ مِنْ مَالِكِهِ وَلَوْ بِالشِّرَاءِ وَيَمْتَنِعُ، وَلَا ثَمَنَ عَلَى الْمُضْطَرِّ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعَهُ. (تَنْبِيهٌ) وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَكْلِ مِمَّا يَمُرُّ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فِي الطَّرِيقِ مِنْ نَحْوِ الْفُولِ وَالْفَوَاكِهِ وَلَبَنِ الْغَنَمِ بِغَيْرِ إذْنِ الْمَالِكِ، وَمُحَصِّلُهُ الْجَوَازُ لِلْمُحْتَاجِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُحْتَاجِ فَقِيلَ بِالْجَوَازِ وَقِيلَ بِعَدَمِهِ، وَثَالِثُهَا الْجَوَازُ لِلصِّدِّيقِ دُونَ غَيْرِهِ، وَرَابِعُهَا يَجُوزُ فِي اللَّبَنِ دُونَ الْفَوَاكِهِ وَالثِّمَارِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْوَالِ الْمَنْعُ لِعُمُومِ: لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا عَنْ طِيبِ نَفْسٍ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْعُمُومِ، كَمَا يَشْهَدُ بِهِ الْحِسُّ وَالْعِيَانُ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِوَضْعِهِمْ الْحَرَسَ عَلَى نَحْوِ الْفُولِ وَالذُّرَةِ وَسَائِرِ الثِّمَارِ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنْوَاعَ الْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ الْبَاطِلِ الْغَصْبُ) لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهِ وَهُوَ أَخْذُ الْمَالِ قَهْرًا تَعَدِّيًا بِلَا حِرَابَةٍ. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (التَّعَدِّي) وَهُوَ التَّصَرُّفُ فِي مِلْكِ الْغَيْرِ بِغَيْرِ إذْنِهِ مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ تَمَلُّكِ الذَّاتِ، وَمِنْهُ التَّجَاوُزُ عَنْ الْمَأْذُونِ فِيهِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمُتَعَدِّي جَانٍ عَلَى بَعْضٍ غَالِبًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا مِنْ غَيْرِ نِيَّةِ تَمَلُّكِ الذَّاتِ لِيَمْتَازَ عَنْ الْغَصْبِ. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْخِيَانَةُ) وَهِيَ أَخْذُ الْمَالِ مِنْ الْمَحَلِّ الْمَأْذُونِ فِي دُخُولِهِ لِلْآخِذِ، كَأَخْذِ الضَّيْفِ أَوْ أَخْذِ الْأَمِينِ مِنْ الْمَالِ الَّذِي ائْتُمِنَ عَلَيْهِ فِيهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْخِيَانَةُ أَنْ يَخُونَ الشَّخْصُ غَيْرَهُ فِي أَمَانَتِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي مَالِهِ أَوْ فِي مَحْرَمِهِ وَتَكُونُ لِلْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرَّمَ خِيَانَةَ أَسِيرٍ ائْتُمِنَ طَائِعًا، وَقَدْ تُطْلَقُ الْخِيَانَةُ عَلَى إظْهَارِ مَا خَالَفَ الْوَاقِعَ، كَأَنْ يُظْهِرَ الشَّخْصُ أَنَّهُ عَالِمٌ أَوْ صَالِحٌ أَوْ زَاهِدٌ وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ هَذَا. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الرِّبَا) بِالْقَصْرِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ رِبَا الْفَضْلِ وَهُوَ الزِّيَادَةُ كَبَيْعٍ أَوْ إقْرَاضِ دِرْهَمٍ بِاثْنَيْنِ أَوْ النَّسَاءِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحَرُمَ فِي نَقْدٍ وَطَعَامٍ رِبَا فَضْلٍ وَنَسَاءٍ. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (السُّحْتُ) وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالرِّشْوَةِ عَلَى إمْضَاءِ الْحُكْمِ وَبِمَا يَأْخُذُهُ الشَّاهِدُ عَلَى شَهَادَتِهِ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مَهْرُ الْبَغِيِّ وَهُوَ مَا تَأْخُذُهُ الْمَرْأَةُ مِمَّنْ يَزْنِي بِهَا، وَحُلْوَانُ الْكَاهِنِ وَثَمَنُ الْكَلْبِ وَالْقِرْدِ وَالسُّؤَالُ لِلتَّكْثِيرِ، وَثَمَنُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَمَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَمَا أَعَانَ عَلَى مَوْتِهِ تَرَدٍّ مِنْ جَبَلٍ أَوْ وَقْذَةٍ بِعَصًا أَوْ غَيْرِهَا وَالْمُنْخَنِقَةُ بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ إلَى ذَلِكَ كَالْمَيْتَةِ وَذَلِكَ إذَا صَارَتْ بِذَلِكَ إلَى حَالٍ لَا حَيَاةَ بَعْدَهُ فَلَا ذَكَاةَ فِيهَا،   [الفواكه الدواني] الْجَاهِ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الرَّجُلُ مِنْ غَيْرِهِ عَلَى شَفَاعَةٍ سَوَاءٌ اشْتَرَطَهُ الشَّافِعُ عَلَى الْمَشْفُوعِ لَهُ أَمْ لَا، وَمِنْ ذَلِكَ مَا يَأْخُذُهُ الْكَبِيرُ مِنْ الْمُسَافِرِينَ عَلَى أَنْ يُخْرِجَهُمْ مِنْ مَوْضِعِ الْخَوْفِ إلَى الْأَمْنِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اسْتَأْجَرَ غَيْرَهُ لِيَدُلَّهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَإِنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَحُرْمَةُ السُّحْتِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ. فَفِي الْحَدِيثِ: «كُلُّ لَحْمٍ نَبَتَ بِالسُّحْتِ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ» . (وَ) مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ (الْقِمَارُ) وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ الشَّخْصُ مِنْ غَيْرِهِ بِسَبَبِ الْمُغَالَبَةِ عِنْدَ اللَّعِبِ بِنَحْوِ الطَّابِ أَوْ الْمُسَابِقَةِ عَلَى غَيْرِ الْوَجْهِ الشَّرْعِيِّ. (وَ) مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْغَرَرُ) الَّذِي لَا يَغْتَفِرُهُ الشَّرْعُ وَهُوَ الْكَثِيرُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَاغْتُفِرَ غَرَرٌ يَسِيرٌ لِلْحَاجَةِ كَالشُّرْبِ مِنْ السِّقَاءِ وَدُخُولِ الْحَمَّامِ، بِخِلَافِ الْكَثِيرِ كَشِرَاءِ الطَّيْرِ فِي الْهَوَاءِ وَالسَّمَكِ فِي الْبَحْرِ وَالْمُزَابَنَةُ كَبَيْعِ الثَّمَرِ بِمِثْلِهِ عَلَى أَصْلِهِ بِالْخَرْصِ. (وَ) مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْغِشُّ) بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ وَالشَّيْنِ الْمُشَدَّدَةِ وَهُوَ إظْهَارُ خِلَافِ مَا فِي الْوَاقِعِ كَخَلْطِ الْجَيِّدِ بِالرَّدِيءِ لِتَكْثِيرِهِ، وَكَخَلْطِ السَّمْنِ بِمَا يُشْبِهُ لَوْنَهُ لِيَظْهَرَ لِلْغَيْرِ أَنَّ الْجَمِيعَ جَيِّدٌ، وَمِنْ الْغِشِّ الْكِيمْيَاءُ وَوَضْعُ نَحْوِ الْكَتَّانِ فِي النَّدَى لِيَثْقُلَ، وَتَلَطُّخُ الثِّيَابُ بِالنَّشَا، وَسَقْيُ الْحَيَوَانِ الْمَاءَ عِنْدَ إرَادَةِ بَيْعِهِ بَعْدَ إطْعَامِهِ شَيْئًا مِنْ الْمِلْحِ، وَخَلْطُ اللَّبَنِ بِالْمَاءِ. وَاعْلَمْ أَنَّ الْغِشَّ كَمَا يَكُونُ فِي الْأَمْوَالِ يَكُونُ فِي الْأَدْيَانِ، كَأَنْ يَرَى الشَّخْصُ غَيْرَهُ أَنَّهُ صَالِحٌ أَوْ عَالِمٌ أَوْ زَاهِدٌ وَهُوَ بِخِلَافِ ذَلِكَ، وَبَنَوْا عَلَى ذَلِكَ مَسْأَلَةً وَهِيَ: لَوْ أَعْطَاك شَخْصٌ شَيْئًا لِوَصْفٍ يَعْتَقِدُهُ فِيك مِنْ تِلْكَ الْأَوْصَافِ وَأَنْتَ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَلَا يَجُوزُ لَك قَبُولُهُ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْعَطَاءِ عَلَى شَرْطٍ. وَالْغِشُّ حُرْمَتُهُ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» . (وَ) مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْخَدِيعَةُ) وَهِيَ لَبَنُ الْكِلَابِ أَوْ تَحْسِينُ الْفِعْلِ لِلْغَيْرِ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ إلَى غَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ كَمَا يَفْعَلُهُ التَّاجِرُ مَعَ مُرِيدِ الشِّرَاءِ. (وَ) مِنْ الْبَاطِلِ أَيْضًا (الْخِلَابَةُ) بِكَسْرِ الْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ وَاللَّامِ الْمُخَفَّفَةِ هِيَ الْخَدِيعَةُ فَعَطْفُهَا عَلَيْهَا مِنْ عَطْفِ الشَّيْءِ عَلَى مُرَادِفِهِ الْمُخَالِفِ لَهُ فِي اللَّفْظِ الْمُوَافِقِ لَهُ فِي الْمَعْنَى. وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَنْوَاعَ الْبَاطِلِ لَا خِلَافَ فِي حُرْمَتِهَا، مَنْ اسْتَحَلَّ شَيْئًا مِنْهَا كَفَرَ، وَإِنْ كَانَتْ حُرْمَتُهُ مَعْلُومَةً مِنْ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَمَنْ ارْتَكَبَ شَيْئًا مِنْ الْبَاطِلِ مِنْ غَيْرِ اسْتِحْلَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ مِنْهُ وَيَجِبُ رَدُّهُ أَوْ عَرَضُهُ لِرَبِّهِ أَوْ وَارِثِهِ حَيْثُ عَرَفَهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْهُ فَإِنَّهُ يَتَصَدَّقُ بِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْحَرَامِ لِتَعَلُّقِهِ بِالْغَيْرِ شَرَعَ فِي الْحَرَامِ لِتَحْرِيمِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: [أَكْلَ الْمَيْتَةِ] (وَحَرَّمَ اللَّهُ) عَزَّ وَجَلَّ (أَكْلِ الْمَيْتَةِ) مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَحَقِيقَةُ الْمَيْتَةِ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ كُلُّ مَا خَرَجَتْ رُوحُهُ بِغَيْرِ ذَكَاةٍ شَرْعِيَّةٍ مِمَّا يَفْتَقِرُ إلَيْهَا، وَذَلِكَ كَبَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الْبَرِّيَّةِ وَلَوْ جَرَادَةً تَمُوتُ حَتْفَ أَنْفِهَا، وَأَمَّا لِلضَّرُورَةِ فَيَجُوزُ كَمَا تَقَدَّمَ فِي كَلَامِهِ، وَنَصَّ عَلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرٍ، وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْبَحْرِيَّةُ فَلَا تَفْتَقِرُ إلَى ذَكَاةٍ فَتَحِلُّ مَيْتَتُهَا بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّهُورُ مَاؤُهُ الْحِلُّ مَيْتَتُهُ» . (وَ) وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (الدَّمَ) الْمَسْفُوحَ الْخَارِجَ مِنْ مَحَلِّهِ وَلَوْ بِغَيْرِ سَبَبٍ وَلَوْ مِنْ سَمَكٍ وَذُبَابٍ أَوْ خَارِجٍ مِنْ الْمُذَكَّى بَعْدَ تَقْطِيعِ لَحْمِهِ لَا مَا بَقِيَ فِي الْعُرُوقِ وَلَمْ يَنْفَصِلْ مِنْ اللَّحْمِ بِحَالٍ فَيَجُوزُ أَكْلُهُ كَدَمِ حُوتٍ طُبِخَ أَوْ شُوِيَ مِنْ غَيْرِ تَقْطِيعِهِ، هَذَا هُوَ الَّذِي يَدُلُّ عَلَيْهِ كَلَامُ خَلِيلٍ دُونَ مَا قَرَّرَهُ شَيْخُ شُيُوخِنَا. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَكْلَ (لَحْمِ) وَشُرْبَ لَبَنِ (الْخِنْزِيرِ) بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَةِ الْمَكْسُورَةِ، وَالْمُرَادُ الْخِنْزِيرُ الْبَرِّيُّ لِإِبَاحَةِ أَكْلِ خِنْزِيرِ الْمَاءِ وَكَلْبِهِ وَآدَمِيِّهِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ حُرْمَةِ خِنْزِيرِ الْبَرِّ فَقِيلَ لِلتَّعَبُّدِ وَقِيلَ لِأَنَّهُ يُذْهِبُ الْغَيْرَةَ. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا أَكْلَ (مَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) هُوَ (مَا ذُبِحَ) أَيْ ذُكِّيَ (لِغَيْرِ اللَّهِ) لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ} [الأنعام: 121] وَعُورِضَ بِمَا تَقَدَّمَ فِي الضَّحَايَا وَهُوَ قَوْلُهُ: وَلَا بَأْسَ بِطَعَامِ أَهْلِ الْكِتَابِ فَإِنَّهُ شَامِلٌ لِمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْإِشْكَالِ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ، الْأَوَّلُ: أَنَّ هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَّاهُ نَحْوُ الْمَجُوسِيِّ مِمَّنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا تَقَدَّمَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا ذَكَّاهُ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّا هُوَ حَلَالٌ لَهُمْ وَمَمْلُوكٌ لَهُمْ فَإِنَّهُ مُبَاحٌ لَنَا لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ} [المائدة: 5] . وَالثَّانِي: أَنَّ هَذَا مُتَنَاوِلٌ حَتَّى لِأَهْلِ الْكِتَابِ، وَيُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا ذَكَرَ عَلَيْهِ اسْمَ غَيْرِ اللَّهِ بِأَنْ ذَبَحَ بِاسْمِ الصَّنَمِ وَلَمْ يَذْكُرْ اسْمَ اللَّهِ فَإِنَّهُ لَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّ حِلَّ مَا ذَكَّاهُ الْكِتَابِيُّ مَشْرُوطٌ بِأَنْ لَا يَذْكُرَ عَلَيْهِ نَحْوَ اسْمِ الصَّنَمِ. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَيْضًا أَكْلَ (مَا أَعَانَ عَلَى مَوْتِهِ تَرَدٍّ) أَيْ سُقُوطٌ. (مِنْ) فَوْقُ نَحْوُ (جَبَلٍ أَوْ) أَعَانَ عَلَى مَوْتِهِ (وَقْذَةٌ) أَيْ ضَرْبَةٌ (بِعَصًا أَوْ غَيْرِهَا) مِنْ حَجَرٍ. (وَ) حَرَّمَ اللَّهُ أَيْضًا (الْمُنْخَنِقَةَ) أَيْ الْمَمْسُوكَةَ بِعُنُقِهَا (بِحَبْلٍ أَوْ غَيْرِهِ) وَكَذَا النَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ شَيْئًا مِنْهَا قَالَ تَعَالَى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ} [المائدة: 3] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 وَلَا بَأْسَ لِلْمُضْطَرِّ أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ وَيَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا إذَا دُبِغَ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُبَاعُ وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ إذَا ذُكِّيَتْ وَبَيْعِهَا وَيُنْتَفَعُ بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا وَمَا يُنْزَعُ   [الفواكه الدواني] وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ} . (إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ) الشَّخْصُ (إلَى) أَكْلِ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ نَحْوِ الْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ لِأَنَّهَا صَارَتْ (كَالْمَيْتَةِ) بِغَيْرِ تَرَدٍّ وَنَحْوِهِ. (وَذَلِكَ) أَيْ عَدَمُ حِلِّهَا إلَّا عِنْدَ الضَّرُورَةِ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ. (إذَا صَارَتْ) أَيْ الْمُتَرَدِّيَةُ وَمَا مَعَهَا (بِذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ التَّرَدِّي وَالْخَنْقِ (إلَى حَالٍ لَا حَيَاةَ) مَرْجُوَّةَ لَهَا (بَعْدَهُ) وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْفُذَ التَّرَدِّي أَوْ الْخَنْقُ مَقْتَلَهَا بِأَنْ قَطَعَ نُخَاعَهَا أَوْ نَثَرَ دِمَاغَهَا أَوْ حَشْوَتَهَا. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى قَوْلِهِ كَالْمَيْتَةِ قَوْلَهُ: (فَلَا ذَكَاةَ) تَصِحُّ (فِيهَا) وَلَا يُنْظَرَ لِمَا فِيهَا مِنْ الْحَيَاةِ بَعْدَ إنْفَاذِ مَقْتَلِهَا لِعَدَمِ اسْتِقْرَارِهَا، وَلَا يُقَالُ: الْمَأْيُوسُ مِنْ حَيَاتِهِ تُعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمَأْيُوسُ مِنْ حَيَاتِهِ مِنْ غَيْرِ إنْفَاذِ مَقْتَلٍ تُمْكِنُ حَيَاتُهُ بِصِحَّتِهِ، بِخِلَافِ مَنْفُوذِ الْمَقَاتِلِ تَسْتَحِيلُ حَيَاتُهُ فَهُوَ شَبِيهٌ بِالْمَيِّتِ بِالْفِعْلِ وَالْمَيِّتُ لَا تُعْمَلُ فِيهِ الذَّكَاةُ فَافْهَمْ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: إذَا صَارَتْ إلَخْ أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصِرْ إلَى تِلْكَ الْحَالَةِ بِأَنْ نُطِحَتْ أَوْ تَرَدَّتْ أَوْ خُنِقَتْ وَلَمْ يَنْفُذْ مَقْتَلٌ مِنْ مَقَاتِلِهَا فَإِنَّهَا تَصِحُّ ذَكَاتُهَا لِقَوْلِ خَلِيلٍ عَنْ الْمُدَوَّنَةِ: وَفِيهَا أَكْلُ مَا دُقَّ عُنُقُهُ أَوْ مَا عُلِمَ أَنَّهُ لَا يَعِيشُ إنْ لَمْ يَنْخَعْهَا، وَلَمَّا اُخْتُلِفَ فِي دَلَالَةِ الْمَفْهُومِ السَّابِقَةِ فِي قَوْله: إلَّا أَنْ يَضْطَرَّ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَنْ يُؤْذَنَ (لِلْمُضْطَرِّ) وَهُوَ مَنْ وَصَلَ فِي الْجُوعِ إلَى مَا لَا يَسْتَطِيعُ الصَّبْرُ عَلَيْهِ وَلَوْ لَمْ يَصِلْ إلَى الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ (أَنْ يَأْكُلَ الْمَيْتَةَ) وَيَشْرَبَ سَائِرَ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ سِوَى مَيْتَةِ الْآدَمِيِّ وَسِوَى الْخَمْرِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرٍ إلَّا لِغُصَّةٍ، وَقَدَّمَ الْمَيِّتَ عَلَى خِنْزِيرٍ وَصَيْدٍ لِمُحْرِمٍ لَا عَلَى لَحْمِهِ، وَأَمَّا مَيْتَةُ الْآدَمِيِّ فَلَا تُبَاحُ لِلْمُضْطَرِّ، وَصَحَّحَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَكْلَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَالنَّصُّ عَدَمُ جَوَازِ أَكْلِهِ لِمُضْطَرٍّ وَصَحَّحَ أَكْلَهُ أَيْضًا، وَلَا فَرْقَ فِي تِلْكَ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْحَضَرِ وَالسَّفَرِ، فَيَحِلُّ لِلْمُضْطَرِّ أَكْلُ الْمَيْتَةِ وَلَوْ كَانَ عَاصِيًا بِسَفَرِهِ، بِخِلَافِ قَصْرِ الصَّلَاةِ وَالْفِطْرِ فِي رَمَضَانَ، وَفَسَّرْنَا لَا بَأْسَ بِالْإِذْنِ لِوُجُوبِ أَكْلِ الْمُضْطَرِّ الْمَيْتَةَ لِحِفْظِ حَيَاتِهِ عَلَى إبَاحَةِ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ قَوْله تَعَالَى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي صِفَةِ أَكْلِ الْمَيْتَةِ بَيْنَ الْمَشْهُورِ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَ) يَجُوزُ لَهُ إذَا أَكَلَ الْمَيْتَةَ أَنْ (يَشْبَعَ وَيَتَزَوَّدَ) إلَى مَحَلٍّ يُظَنُّ فِيهِ وُجُودَ مَا يُغْنِي عَنْهَا مِنْ الْمُبَاحِ وَلَوْ بِالشِّرَاءِ فِي ذِمَّتِهِ. (فَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْهَا طَرَحَهَا) وُجُوبًا هَذَا هُوَ الْمُعْتَمَدُ وَبِهِ الْفَتْوَى، وَمُقَابِلُهُ يَقْتَصِرُ عَلَى سَدِّ الرَّمَقِ وَهُوَ ضَعِيفٌ حَتَّى اعْتَرَضُوا عَلَى قَوْلِ خَلِيلٍ وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ، وَادَّعَوْا بِأَنَّهُ مُصَحَّفُ يُشْبِعُ وَمَعَ ذَلِكَ يَكُونُ سَاكِتًا عَنْ التَّزَوُّدِ، فَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ مُوفٍ بِالْمَشْهُورِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ كَمَا يُبَاحُ تَنَاوُلُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِجُوعِهِ يُبَاحُ لَهُ سَائِرُ الْمَائِعَاتِ النَّجِسَةِ لِعَطَشِهِ سِوَى الْخَمْرِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْعَطَشِ لِأَنَّهُ يَزِيدُهُ وَإِنْ بَحَثَ فِيهِ بَعْضُهُمْ، وَأَمَّا شُرْبُهُ لِإِسَاغَةِ الْغُصَّةِ فَيَجُوزُ عَلَى كَلَامِ خَلِيلٍ وَيَحْرُمُ عِنْدَ ابْنِ عَرَفَةَ. الثَّانِي: قَدْ أَسَلَفْنَا أَنَّ الْمُضْطَرَّ يُقَدِّمُ طَعَامَ الْغَيْرِ عَلَى الْمَيْتَةِ إنْ لَمْ يَخَفْ الْقَطْعَ، لَكِنْ يَقْتَصِرُ عَلَى مَا يُذْهِبُ أَلَمَ الْجُوعِ فَلَا يَشْبَعُ وَلَا يَتَزَوَّدُ وَلَا ثَمَنَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ وَرَاجِعْ مَا سَبَقَ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ جِلْدِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ عَدَمُ جَوَازِ الِانْتِفَاعِ بِهَا مُطْلَقًا قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهَا) أَيْ مَيْتَةِ غَيْرِ الْآدَمِيِّ (إذَا دُبِغَ) بِمَا أَزَالَ الرِّيحَ وَالدُّسُومَةَ وَالرُّطُوبَةَ وَحَفِظَهُ مِنْ الِاسْتِحَالَةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَرَخَّصَ فِيهِ مُطْلَقًا إلَّا مِنْ خِنْزِيرٍ بَعْدَ دَبْغِهِ فِي يَابِسٍ وَمَاءٍ، وَأَمَّا فِي الْمَائِعَاتِ غَيْرِ الْمَاءِ فَلَا يَجُوزُ لِأَنَّ الْمَاءَ لَهُ قُوَّةُ الدَّفْعِ عَنْ نَفْسِهِ، وَأَمَّا الدَّبْغُ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهَا فِي شَيْءٍ، وَإِنَّمَا حَرُمَ الِانْتِفَاعُ بِجِلْدِ الْآدَمِيِّ وَالْخِنْزِيرِ وَلَوْ بَعْدَ الدَّبْغِ لِشَرَفِ الْآدَمِيِّ وَقَذَارَةِ الْخِنْزِيرِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ عَدَمِ طَهَارَةِ جُلُودِ الْمَيْتَةِ بِالدِّبَاغِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَيُّمَا إهَابٍ دُبِغَ فَقَدْ طَهُرَ» لِحَمْلِهِ عِنْدَنَا عَلَى الطَّهَارَةِ اللُّغَوِيَّةِ وَهِيَ النَّظَافَةُ لَا الطَّهَارَةُ الْحَقِيقِيَّةُ لِتَوَقُّفِهَا عَلَى مُطْلَقٍ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْصُلُ بِهِ التَّطْهِيرُ كَاسْتِحَالَةِ الذَّاتِ النَّجِسَةِ، كَانْقِلَابِ الْخَمْرِ خَلًّا، وَالدَّمِ مِسْكًا أَوْ لَبَنًا، وَالنَّجَاسَةِ رَمَادًا عَلَى كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ، وَالدِّبَاغُ لَا يُحِيلُ الْجِلْدَ فَهُوَ بَاقٍ عَلَى نَجَاسَتِهِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلَا) يَصِحُّ أَنْ (يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا) أَنْ (يُبَاعَ) لِاشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ فِيمَا يُصَلَّى فِيهِ وَمَا يُبَاعُ قَالَ خَلِيلٌ: وَشُرِطَ لِلْمَعْقُودِ عَلَيْهِ طَهَارَةٌ، وَشُرِطَ لِصَلَاةٍ طَهَارَةُ حَدَثٍ وَخَبَثٍ، وَلَمَّا كَانَ جِلْدُ مَكْرُوهِ الْأَكْلِ كَجِلْدِ مُبَاحِ الْأَكْلِ بِالذَّكَاةِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ عَلَى جُلُودِ السِّبَاعِ) وَهِيَ كُلُّ مَا لَهُ جَرَاءَةٌ أَيْ شِدَّةٌ عَلَى الِافْتِرَاسِ وَالْعَدَاءِ بِشَرْطٍ أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إذَا ذُكِّيَتْ) وَلَوْ بِقَصْدِ أَخْذِ جِلْدِهَا فَقَطْ. (وَ) كَذَا لَا بَأْسَ عَلَيْهِ فِي (بَيْعِهَا) وَأَوْلَى غَيْرُ الْبَيْعِ مِنْ أَنْوَاعِ الِانْتِفَاعِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 مِنْهَا فِي الْحَيَاةِ وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُغْسَلَ وَلَا يُنْتَفَعَ بِرِيشِهَا وَلَا بِقَرْنِهَا وَأَظْلَافِهَا وَأَنْيَابِهَا، وَكُرِهَ الِانْتِفَاعُ بِأَنْيَابِ الْفِيلِ، وَكُلُّ شَيْءٍ مِنْ الْخِنْزِيرِ حَرَامٌ وَقَدْ أُرْخِصَ فِي الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ. وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ شُرْبَ الْخَمْرِ قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا وَشَرَابُ الْعَرَبِ يَوْمئِذٍ فَضِيخُ التَّمْرِ وَبَيَّنَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ مِنْ الْأَشْرِبَةِ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ وَكُلُّ مَا خَامَرَ   [الفواكه الدواني] وَلَوْ بِوَضْعِ الْمَائِعِ غَيْرِ الْمَاءِ فِيهِ لِطَهَارَتِهِ بِالذَّكَاةِ، وَكَمَا يَجُوزُ بَيْعُ جُلُودِ السِّبَاعِ بَعْدَ تَذْكِيَتِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ يَجُوزُ بَيْعُ ذَاتِ السِّبَاعِ لِأَخْذِ جُلُودِهَا وَأَعْظَامِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ هِرٌّ وَسَبُعٌ لِلْجِلْدِ، قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِهِ: لَا مَفْهُومَ لِلْجِلْدِ، وَأَمَّا شِرَاءُ السِّبَاعِ لِلَّحْمِ أَوْ لَهُ وَلِلْجِلْدِ فَمَكْرُوهٌ، وَإِذَا ذُكِّيَتْ لِجُلُودِهَا حَلَّ أَكْلُهُ مُطْلَقًا كَلَحْمِهَا أَيْضًا لَكِنْ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَبْعِيضِهَا، وَرَجَّحَ الْأُجْهُورِيُّ التَّبْعِيضَ وَاللَّقَانِيُّ عَدَمَهُ، وَلَمَّا كَانَ شَعْرُ الْمَيْتَةِ لَيْسَ لَهُ حُكْمُهَا قَالَ: (وَيُنْتَفَعُ) عَلَى وَجْهِ الْجَوَازِ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ. (بِصُوفِ الْمَيْتَةِ وَشَعْرِهَا) وَوَبَرِهَا وَلَوْ مَيْتَةَ خِنْزِيرٍ، وَيَجُوزُ بَيْعُهُمَا أَيْضًا لِلطَّهَارَةِ بِالْجَزِّ، لَكِنْ يَجِبُ الْبَيَانُ عِنْدَ الْبَيْعِ. (وَ) مِثْلُ مَا يُؤْخَذُ مِنْ الْمَيْتَةِ (مَا يُنْزَعُ مِنْهَا فِي) حَالِ (الْحَيَاةِ) إنْ جُزَّ أَيْضًا وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: (وَأَحَبُّ إلَيْنَا أَنْ يُغْسَلَ) وُجُوبًا إنْ ظَنَّ عَدَمَ طَهَارَتِهِ وَنَدْبًا عِنْدَ الشَّكِّ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الظَّاهِرِ: وَشَعْرٌ وَلَوْ مِنْ خِنْزِيرٍ إنْ جُزَّتْ، وَأَمَّا إنْ لَمْ تُجَزَّ فَتَكُونُ مُتَنَجِّسَةً لِنَجَاسَةِ مَا اتَّصَلَ بِالْجِلْدِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ صِحَّةِ الصَّلَاةِ عَلَى الصُّوفِ الْمُتَّصِلِ بِالْجِلْدِ، لِأَنَّ الْمَحْكُومَ عَلَيْهِ بِالنَّجَاسَةِ الْمُبَاشِرُ لِلْجِلْدِ، وَلَمَّا كَانَتْ قَصَبَةُ الرِّيشِ كَبَقِيَّةِ الْعَظْمِ لَيْسَتْ كَالشَّعْرِ قَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَنْتَفِعَ بِرِيشِهَا) أَيْ قَصَبَةِ رِيشِهَا أَيْ الْمَيْتَةِ. (وَلَا بِقَرْنِهَا وَلَا أَظْلَافِهَا وَلَا أَنْيَابِهَا) لِنَجَاسَتِهَا وَالْمُرَادُ بِالْأَنْيَابِ الْأَسْنَانُ وَلَوْ مِنْ الْفِيلِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْيَانِ النَّجِسَةِ: وَمَا أُبِينَ مِنْ حَيٍّ وَمَيِّتٍ مِنْ قَرْنٍ وَعَظْمٍ وَظِلْفٍ وَعَاجٍ وَظُفْرٍ وَقَصَبَةِ رِيشٍ وَجِلْدٍ وَلَوْ دُبِغَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا أَيْ قَصَبَةٌ إلَخْ لِأَنَّ الرِّيشَ كَالشَّعْرِ فِي طَهَارَتِهِ بِالْجَزِّ، وَلَمَّا وَقَعَ فِي أَنْيَابِ الْفِيلِ غَيْرِ الْمُذَكَّى خِلَافٌ قَالَ: [الِانْتِفَاعُ بِأَنْيَابِ الْفِيلِ] (وَكُرِهَ الِانْتِفَاعُ بِأَنْيَابِ الْفِيلِ) وَالْمُعْتَمَدُ الْحُرْمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ) وَقَدْ قَدَّمَ ذَلِكَ فِي الضَّحَايَا مَعَ مُعْظَمِ مَا ذَكَرَهُ هُنَا (وَكُلُّ شَيْءٍ) نُزِعَ (مِنْ الْخِنْزِيرِ) مِنْ لَحْمٍ أَوْ جِلْدٍ أَوْ عَظْمٍ (حَرَامٍ) لَا يَجُوزُ اسْتِعْمَالُهُ فِي حَالِ الِاخْتِيَارِ سِوَى شَعْرِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ أَرْخَصَ) أَيْ سَهَّلَ الشَّارِعُ (فِي) جَوَازِ (الِانْتِفَاعِ بِشَعْرِهِ) بَعْدَ جَزِّهِ لِطَهَارَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعِطْفِ عَلَى الطَّاهِرِ: وَشَعْرٍ وَلَوْ مِنْ خِنْزِيرٍ إنْ جُزَّتْ. (تَنْبِيهٌ) لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ حُرْمَةِ اسْتِعْمَالِ أَجْزَاءِ الْخِنْزِيرِ نَجَاسَتُهُ حَتَّى فِي حَالِ الْحَيَاةِ، لِأَنَّ كُلَّ حَيٍّ طَاهِرٌ وَلَوْ خِنْزِيرًا أَوْ شَيْطَانًا، فَمَنْ حَمَلَ خِنْزِيرًا أَوْ شَيْطَانًا وَصَلَّى بِهِ لَمْ تَبْطُلْ صَلَاتُهُ. [شُرْبَ الْخَمْرِ] (وَحَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شُرْبَ الْخَمْرِ) طَوْعًا بِلَا عُذْرٍ وَبِلَا ضَرُورَةٍ وَبِلَا ظَنِّهِ غَيْرًا. (قَلِيلِهَا وَكَثِيرِهَا) سَوَاءٌ فِي الْحُرْمَةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ} [المائدة: 90] وَالرِّجْسُ وَالْخَمْرُ قَوْلُ: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ} [الأعراف: 33] الْمُرَادُ بِهِ الْخَمْرُ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ لِمَنْ قَالَ لَهُ إنَّهَا دَوَاءٌ: «لَيْسَتْ بِدَوَاءٍ إنَّمَا هِيَ دَاءٌ» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَةِ شُرْبِهَا. وَوَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّدَاوِي بِهَا وَالْمُعْتَمَدُ عِنْدَنَا الْحُرْمَةُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْزَلَ الدَّاءَ وَالدَّوَاءَ وَجَعَلَ لِكُلِّ دَاءٍ دَوَاءً وَلَا تَتَدَاوَوْا بِحَرَامٍ» . (وَ) كَانَ (شَرَابُ الْعَرَبِ) وَلَوْ مِنْ الصَّحَابَةِ (يَوْمئِذٍ) أَيْ يَوْمَ أَوْحَى اللَّهُ إلَى نَبِيّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَحْرِيمِ الْخَمْرِ (فَضِيخَ التَّمْرِ) وَهُوَ مَا يُهْرَسُ مِنْ التَّمْرِ وَيُجْعَلُ فِي إنَاءٍ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ مَاءٌ وَيُتْرَكُ حَتَّى يَتَخَمَّرَ ثُمَّ يُشْرَبَ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «كُنْت سَاقِي الْقَوْمِ حِينَ حُرِّمَتْ الْخَمْرُ فِي بَيْتِ أَبِي طَلْحَةَ وَمَا شَارِبُهُمْ إلَّا الْفَضِيخُ وَالْبُسْرُ وَالتَّمْرُ» الْحَدِيثَ، وَالْفَضِيخُ بِالْفَاءِ وَالضَّادِ وَالْخَاءِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَبَيْنَهُمَا مُثَنَّاةٌ تَحْتِيَّةٌ. (وَبَيَّنَ) بِصِيغَةِ الْمَاضِي أَيْ أَظْهَرَ (الرَّسُولُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ أَنَّ كُلَّ مَا أَسْكَرَ) أَيْ غَيَّبَ الْعَقْلَ. (كَثِيرُهُ مِنْ) كُلِّ (الْأَشْرِبَةِ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ) وَلَوْ لَمْ يُسْكِرْ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْبَيْهَقِيُّ: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» . وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ يَقْتَضِي أَنَّ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ مِنْ غَيْرِ الْأَشْرِبَةِ كَالْحَشِيشَةِ وَحَبِّ الْبَلَاذِرِ وَالدَّاتُورَةِ لَيْسَ مِنْ الْمُسْكِرَاتِ بَلْ مِنْ الْمُفْسِدَاتِ وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْحَاجِّ، وَقَالَ الشَّيْخُ زَرُّوقٌ وَسَيِّدِي عَبْدُ اللَّهِ الْمَنُوفِيُّ وَابْنُ مَرْزُوقٍ أَنَّهَا مِنْ الْمُسْكِرَاتِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَامِدَ فِيهِ قَوْلَانِ، وَاَلَّذِي ظَهَرَ لِي أَنَّ الْجَامِدَ إنْ تَحَقَّقَ مِنْ الْإِسْكَارِ فَهُوَ حَرَامٌ، وَيَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ غَيْرَ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ الْحَدِيثِ إذْ لَمْ يُقَيَّدْ الْمُسْكِرُ بِالْمَشْرُوبِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَةِ تَغْيِيبِ الْعَقْلِ لِأَنَّهُ مِنْ الْكُلِّيَّاتِ الْوَاجِبِ حِفْظُهَا كَالْأَدْيَانِ وَالْأَنْسَابِ، وَيَتَرَتَّبُ عَلَى شَارِبِ الْمُسْكِرِ الْحَدُّ بِشَرْطِهِ السَّابِقِ وَإِنْ جَهِلَ وُجُوبَ الْحَدِّ أَوْ الْحُرْمَةَ لِقُرْبِ عَهْدِهِ بِالْإِسْلَامِ، وَوُجُوبُ غَسْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 الْعَقْلَ فَأَسْكَرَهُ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ فَهُوَ خَمْرٌ وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا حَرَّمَ بَيْعَهَا وَنَهَى عَنْ الْخَلِيطَيْنِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ أَنْ يُخْلَطَا عِنْدَ الِانْتِبَاذِ وَعِنْدَ الشُّرْبِ، وَنَهَى عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ. وَنَهَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -   [الفواكه الدواني] مَا أَصَابَ جَسَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ مِنْهُ لِنَجَاسَتِهِ وَتَقَايُئِهِ قَبْلَ صَلَاتِهِ إنْ قَدَرَ، وَإِلَّا أَثِمَ فَتَجِبُ عَلَيْهِ التَّوْبَةُ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ قَصْرُ الْخَمْرِ عَلَى مَاءِ الْعِنَبِ قَالَ: (وَكُلُّ مَا خَامَرَ) أَيْ لَابَسَ (الْعَقْلَ فَأَسْكَرَهُ) أَيْ غَيَّبَهُ (مِنْ كُلِّ شَرَابٍ) وَلَوْ مِنْ الْبِطِّيخِ أَوْ اللَّبَنِ أَوْ الطَّعَامِ الْمَائِعِ (فَهُوَ خَمْرٌ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ» وَلَا يَتَقَيَّدُ بِمَاءِ الْعِنَبِ الْمَغْلِيِّ عَلَى النَّارِ وَهِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنْ التَّخْمِيرِ وَهُوَ التَّغْطِيَةُ لِأَنَّهَا تُغَطِّي الْعَقْلَ، وَقِيلَ مِنْ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا تُخَالِطُ الْعَقْلَ فَتُغَيِّبُهُ، وَلِذَا فَرَّقُوا بَيْنَ الْمُسْكِرِ وَالْمُفْسِدِ، وَيُرَادِفُهُ الْمُخَدِّرُ وَالْمُرَقِّدُ بِأَنَّ الْمُسْكِرَ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ. وَالْمُفْسِدُ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ دُونَ الْحَوَاسِّ لَا مَعَ نَشْوَةٍ وَفَرَحٍ كَحَبِّ الْبَلَاذِرِ، وَالْمُرَقِّدُ مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ وَالْحَوَاسَّ كَالسَّيْكُرَانِ وَأَحْكَامُهَا مُخْتَلِفَةٌ لِوُجُوبِ الْحَدِّ وَالنَّجَاسَةِ فِي الْمُسْكِرِ وَحُرْمَةِ الْقَلِيلِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُسْكِرِ فَلَا يَحْرُمُ مِنْهُ إلَّا مَا غَيَّبَ الْعَقْلَ عَلَى كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فَإِنَّهُ صَرَّحَ بِجَوَازِ تَنَاوُلِ مَا قَلَّ مِنْ نَحْوِ الْحَشِيشَةِ، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ عِبَارَةِ التَّوْضِيحِ لِلْعَلَّامَةِ خَلِيلٍ حُرْمَةَ حَقِّ الْقَلِيلِ. (وَقَالَ الرَّسُولُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ إنَّ الَّذِي حَرَّمَ شُرْبَهَا) وَهُوَ الْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (حَرَّمَ بَيْعَهَا) وَإِنْ كَانَتْ حَلَالًا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا} [النحل: 67] أَيْ خَمْرًا يُسْكِرُ سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ وَهَذَا قَبْلَ تَحْرِيمِهَا ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} [النساء: 43] ثُمَّ حُرِّمَتْ فِي كُلِّ وَقْتٍ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} [المائدة: 90] أَيْ الْقِمَارُ، وَالْأَنْصَابُ الْأَصْنَامُ، وَالْأَزْلَامُ أَقْدَاحُ الِاسْتِقْسَامِ رِجْسٌ خَبِيثٌ مُسْتَقْذَرٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ الَّذِي يُزَيِّنُهُ، فَاجْتَنِبُوهُ أَيْ الرِّجْسَ الْمُعَبَّرَ بِهِ عَنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ الَّتِي أَحَدُهَا الْخَمْرُ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخَمْرِ عَشَرَةً: عَاصِرُهَا وَمُعْتَصِرُهَا وَشَارِبُهَا وَحَامِلُهَا وَالْمَحْمُولَةُ إلَيْهِ وَسَاقِيهَا وَبَائِعُهَا وَآكِلُ ثَمَنِهَا وَالْمُشْتَرِي وَالْمُشْتَرَاةُ لَهُ» . (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَمْ يَذْكُرْ الْمُصَنِّفُ حُكْمَ بَيْعِهَا بَعْدَ الْوُقُوعِ، وَالظَّاهِرُ بَلْ الْمُتَعَيِّنُ التَّفْصِيلُ بَيْنَ كَوْنِ الْبَائِعِ ذِمِّيًّا فَتُرَدُّ لَهُ، فَإِنْ أَرَاقَهَا الْمُشْتَرِي لَهَا ضَمِنَ قِيمَتَهَا وَبَيْنَ كَوْنِهِ مُسْلِمًا فَتُرَاقُ عَلَيْهِ بِحَاكِمٍ إنْ كَانَ ثَمَّ حَاكِمٌ يَرَى تَحْلِيلَهَا وَإِلَّا أَرَاقَهَا مِنْ غَيْرِ رَفْعٍ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَصِحُّ لَهُ تَمَلُّكُ الْخَمْرِ. الثَّانِي: كَمَا يَحْرُمُ بَيْعُ الْخَمْرِ يَحْرُمُ بَيْعُ الْعِنَبِ لِمَنْ تَعْلَمُ أَنَّهُ يَعْصِرُهُ خَمْرًا، وَيُفْسَخُ إنْ وَقَعَ وَيُرَدُّ لِبَائِعِهِ وَلَوْ مُسْلِمًا، وَمِثْلُهُ كُلُّ مَا عُلِمَ أَنَّ الْمُشْتَرِيَ يَفْعَلُ بِهِ مَا لَا يَحِلُّ كَشِرَاءِ مَمْلُوكٍ لِلْفِعْلِ بِهِ أَوْ خَشَبَةٍ لِمَنْ يَتَّخِذُهَا نَاقُوسًا أَوْ أَرْضًا لِمَنْ يَعْمَلُهَا كَنِيسَةً. الثَّالِثُ: هَذَا حُكْمُ الْخَمْرَةِ إذَا اسْتَمَرَّتْ عَلَى حَالِهَا، وَأَمَّا لَوْ تَحَجَّرَتْ وَتَخَلَّلَتْ فَإِنَّهَا تَطْهُرُ وَيَجُوزُ بَيْعُهَا وَشُرْبُهَا وَيَطْهُرُ إنَاؤُهَا تَبَعًا لَهَا وَلَوْ فَخَّارًا بِغَوَّاصٍ وَلَوْ ثَوْبًا وَيُصَلَّى بِهِ مِنْ غَيْرِ غَسْلٍ، بِخِلَافِ الثَّوْبِ الْمُصَابِ بِالْبَوْلِ أَوْ الدَّمِ فَلَا بُدَّ مِنْ غَسْلِهِ وَلَوْ ذَهَبَتْ عَيْنُ النَّجَاسَةِ، وَالْفَرْقُ أَنَّ نَجَاسَةَ الْخَمْرِ عَارِضَةٌ بِالشِّدَّةِ وَنَجَاسَةُ نَحْوِ الْبَوْلِ أَصْلِيَّةٌ، وَلَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ تَخْلِيلِهَا بِنَفْسِهَا أَوْ بِفِعْلِ فَاعِلٍ، وَإِنْ اُخْتُلِفَ فِي الْإِقْدَامِ عَلَى تَخْلِيلِهَا بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ، فَإِنْ قِيلَ: حُكْمُ الْخَبَثِ لَا يُزَالُ إلَّا بِالْمُطْلَقِ. فَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الِاسْتِحَالَةَ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ أَيْضًا، فَقَوْلُهُمْ: لَا يُرْفَعُ الْحَدَثُ أَوْ حُكْمُ الْخَبَثِ إلَّا بِالْمُطْلَقِ الْحَصْرِ إضَافِيٌّ أَيْ لَا يُرْفَعُ بِشَيْءٍ مِنْ الْمَائِعَاتِ إلَّا بِالْمُطْلَقِ. فَإِنْ قِيلَ: يَرِدُ عَلَى قَوْلِنَا الِاسْتِحَالَةُ تَحْصُلُ بِهَا الطَّهَارَةُ الْمَاءُ الْمُتَغَيِّرُ بِالنَّجَسِ يَزُولُ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ الرَّاجِحَ فِيهِ الْبَقَاءُ عَلَى التَّنْجِيسِ، فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمَاءَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ اسْتِحَالَةُ الدَّمِ كَاسْتِحَالَةِ الدَّمِ مِسْكًا أَوْ لَبَنًا أَوْ الْخَمْرِ خَلًّا بَلْ هُوَ بَاقٍ عَلَى حَقِيقَتِهِ فَافْهَمْ، فَإِنَّ الْفَقِيهَ قَدْ يَرْتَبِكُ فِي هَذِهِ الْأَبْحَاثِ فَلَا يَجِدُهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمُتَّفَقِ عَلَى حُرْمَتِهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَهُوَ الْخَمْرُ، شَرَعَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِي حُرْمَتِهِ وَكَرَاهَتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَنَهَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ) تَنَاوُلِ (الْخَلِيطِينَ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَذَلِكَ) النَّهْيُ فِي صُورَتَيْنِ إحْدَاهُمَا (أَنْ يُخْلَطَا عِنْدَ الِانْتِبَاذِ) بِأَنْ يُفْضَخَ التَّمْرُ وَالْعِنَبُ مَثَلًا وَبَعْدَ هَرْسِهِمَا أَوْ دَقِّهِمَا مَعًا يُصَبُّ عَلَيْهِمَا الْمَاءُ وَيُتْرَكَانِ حَتَّى يَصِيرَ الْمَاءُ حُلْوًا. (وَ) الصُّورَةُ الثَّانِيَةُ أَنْ يُنْبَذَ وَاحِدٌ عَلَى حِدَتِهِ فِي إنَاءٍ، فَإِذَا خَرَجَ مَاءُ كُلٍّ يُخْلَطَانِ (عِنْدَ الشُّرْبِ) لِمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: «مِنْ نَهْيِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالْبُسْرِ، وَعَنْ خَلِيطِ التَّمْرِ وَالزَّبِيبِ، وَعَنْ خَلِيطِ الزَّهْوِ وَالرُّطَبِ» ، وَقَالَ أَيْضًا: «مَنْ شَرِبَ مِنْكُمْ النَّبِيذَ فَلْيَشْرَبْهُ زَبِيبًا فَرْدًا أَوْ تَمْرًا فَرْدًا» وَاخْتُلِفَ فِي النَّهْيِ فَقِيلَ عَلَى الْحُرْمَةِ لِاحْتِمَالِ تَخَمُّرِ أَحَدِهِمَا بِسَبَبِ مُخَالَطَةِ الْآخَرِ، وَقِيلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَاَلَّذِي رَجَّحَهُ خَلِيلٌ وَشُرَّاحُهُ الْكَرَاهَةُ فَإِنَّهُ قَالَ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَشَرَابُ خَلِيطَيْنِ وَمَحَلُّ النَّهْيِ حَيْثُ طَالَ زَمَنُ الِانْتِبَاذِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 عَنْ أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَعَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ وَدَخَلَ مَدْخَلَهَا لُحُومُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَلَا ذَكَاةَ فِي شَيْءٍ مِنْهَا إلَّا فِي الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ وَلَا بَأْسَ بِأَكْلِ سِبَاعِ الطَّيْرِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْهَا. وَمِنْ الْفَرَائِض ِ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ وَإِنْ كَانَا فَاسِقَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ فَلْيَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا لَيِّنًا وَلْيُعَاشِرْهُمَا   [الفواكه الدواني] لَا إنْ قَصُرَ بِحَيْثُ يُقْطَعُ بَعْدَ تَوَقُّعِ الْإِسْكَارِ مِنْهُمَا وَإِلَّا جَازَ، كَمَا يَجُوزُ شُرْبُ كُلٍّ مِنْ غَيْرِ خَلْطٍ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: وَيَدْخُلُ فِي شَرَابِ الْخَلِيطَيْنِ مَا يُفْعَلُ لِلْمَرِيضِ مِنْ وَضْعِ الزَّبِيبِ وَالْقُرَّاصِيَّةِ وَالْمِشْمِشِ، وَهَذَا بِخِلَافِ خَلْطِ اللَّبَنِ بِالْعَسَلِ أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَقْطَعُ بِعَدَمِ إسْكَارِهِ فَيَجُوزُ. [الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ وَالْمُزَفَّتِ] (وَنَهَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الدُّبَّاءِ) بِالْمَدِّ وَالصَّرْفِ فِي غَيْرِ لَفْظِ الْمُصَنِّفِ وَهِيَ الْقَرْعُ يُجَفَّفُ حَتَّى يَصِيرَ ظَرْفًا فَيُوضَعُ فِيهِ الزَّبِيبُ وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَاء حَتَّى يَصِيرَ حُلْوًا. (وَ) نَهَى أَيْضًا عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْإِنَاءِ (الْمُزَفَّتِ) أَيْ الْمَدْهُونِ بَاطِنُهُ بِالزِّفْتِ، وَيُقَالُ لَهُ الْمُقَيَّرُ لِدَهْنِهِ بِالْقَارِ الَّذِي هُوَ الزِّفْتُ، وَنَهَى أَيْضًا عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي النَّقِيرِ وَهُوَ جِذْعُ النَّخْلَةِ يُنْقَرُ وَيُجْعَلُ ظَرْفًا كَالْقَصْعَةِ، وَنَهَى أَيْضًا عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْحَنْتَمِ وَهُوَ مَا طُلِيَ مِنْ الْفَخَّارِ بِالزُّجَاجِ كَالْأَصْحُنِ الْخُضْرِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَنَا وَالنَّهْيُ وَلَوْ كَانَ الْمُنَبَّذُ فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ شَيْئًا وَاحِدًا، وَأَمَّا تَنْبِيذُ شَيْئَيْنِ فَمَنْهِيٌّ عَنْهُ وَلَوْ فِي نَحْوِ الصِّينِيِّ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ عَنْ الِانْتِبَاذِ فِي الْمَذْكُورَاتِ لِأَنَّ السُّكْرَ شُرِعَ لِمَا فِيهَا لِتَبَادُرِ الْحُمُوضَةِ لِمَا يُوضَعُ فِيهَا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ انْتِبَاذَ نَحْوِ شَيْئَيْنِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي كُلِّ ظَرْفٍ، وَأَمَّا انْتِبَاذُ شَيْءٍ وَاحِدٍ فَإِنَّمَا يُنْهَى عَنْهُ فِي هَذِهِ الْأَرْبَعِ: الدُّبَّاءُ وَالْمُزَفَّتُ وَالْمُقَيَّرُ وَالنَّقِيرُ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَنَبْذٌ بِكَدُبَّاءٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الْمَشْرُوبَاتِ شَرَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ الْمَأْكُولَاتِ فَقَالَ: [أَكْلِ كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاع وَأَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ] (وَنَهَى عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ عَنْ أَكْلِ) شَيْءٍ مِنْ (كُلِّ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ) وَهِيَ كُلُّ مَا لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الِافْتِرَاسِ كَالسَّبُعِ وَالضَّبُعِ وَالثَّعْلَبِ وَالذِّئْبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَالْمَكْرُوهُ سَبُعٌ وَضَبُعٌ وَثَعْلَبٌ وَذِئْبٌ وَهِرٌّ وَإِنْ وَحْشِيًّا، وَقِيلَ: لِأَنَّهُ ذُو نَابٍ، وَكَذَلِكَ دُبٌّ وَنِمْسٌ وَفَهْدٌ وَنَمِرٌ، وَأَمَّا الْكَلْبُ الْإِنْسِيُّ فَصَحَّحَ فِي الشَّامِلِ كَرَاهَةَ أَكْلِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ بِحُرْمَتِهِ أَوْ إبَاحَتِهِ، وَأَمَّا كَلْبُ الْمَاءِ وَخِنْزِيرُهُ وَآدَمِيُّهُ فَالْمَشْهُورُ فِيهَا الْإِبَاحَةُ كَسَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ، وَأَمَّا الْقِرْدُ فَفِيهِ قَوْلَانِ بِالْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ، وَأَمَّا الْفَأْرُ فَالْمَشْهُورُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ إنْ كَانَ يَأْكُلُ النَّجَاسَةَ، وَأَمَّا فَأَرَ الْغَيْطِ فَمُبَاحٌ لِعَدَمِ تَعَاطِيه النَّجَاسَةَ، وَأَمَّا بِنْتُ عُرْسٍ فَيَحْرُمُ أَكْلُهَا حَتَّى قِيلَ إنَّهُ يُورِثُ الْعَمَى. (تَنْبِيهٌ) قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَنَهَى إلَخْ لَمْ يُبَيِّنْ حُكْمَ النَّهْيِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَنْ خَلِيلٍ أَنَّهُ عَلَى الْكَرَاهَةِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ وَبِهِ الْفَتْوَى وَهِيَ تَنْزِيهِيَّةٌ، لِأَنَّ خَلِيلًا صَدَّرَ أَوَّلًا بِالْمُحَرَّمِ وَذَكَرَ ثَانِيًا الْمَكْرُوهَ، فَهُوَ صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْكَرَاهَةَ تَنْزِيهِيَّةٌ فَافْهَمْ: وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ شَرَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى جِهَةِ الْحُرْمَةِ فَقَالَ: (وَ) نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا تَحْرِيمًا (عَنْ أَكْلِ لُحُومِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ) أَيْ فِي الْحَالِ لِتَتَنَاوَلَ الْوَحْشِيَّةَ إذَا دُجِّنَتْ وَتَأَنَّسَتْ وَصَارَتْ مُرَوَّضَةً لِلْعَمَلِ عَلَيْهَا كَالْإِنْسِيَّةِ فَيَحْرُمُ أَكْلُهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ أَكْلِهَا نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ. (وَدَخَلَ مَدْخَلُهَا) أَيْ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ بِمَعْنَى شَارَكَهَا فِي حُرْمَةِ الْأَكْلِ (لُحُومُ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ) وَبَيَّنَ عِلَّةَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (لِقَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى) {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] وَلَا يُقَالُ: إنَّ الْإِبِلَ وَالْبَقَرَ يُنْتَفَعُ بِهَا فِي الْحَمْلِ وَالْعَمَلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، لِأَنَّا نَقُولُ: اللَّهُ نَصَّ عَلَى إبَاحَةِ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ، وَأَشَارَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ بِعِبَارَةٍ مُسْتَغْنِيَةٍ عَنْ التَّقْيِيدِ حَيْثُ قَالَ: وَالْمُحَرَّمُ النَّجَسُ وَالْخِنْزِيرُ وَبَغْلٌ وَفَرَسٌ وَحِمَارٌ وَلَوْ وَحْشِيًّا دُجِّنَ، وَأَشَارَ إلَى أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تَنْفَعُ فِي الْمُحَرَّمِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا ذَكَاةَ) نَافِعَةً (فِي شَيْءٍ مِنْهَا) أَيْ الْحُمُرِ وَمَا دَخَلَ مَدْخَلَهَا، وَإِنَّمَا قُلْنَا نَافِعَةً لِأَنَّ مَشْهُورَ الْمَذْهَبِ أَنَّ الذَّكَاةَ لَا تُفِيدُ فِي الْمُحَرَّمِ لَا مِنْ جِهَةِ الْأَكْلِ وَلَا مِنْ جِهَةِ الطَّهَارَةِ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا تُفِيدُ طَهَارَةَ مَيْتَةٍ فَهُوَ شَاذٌّ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تَعْمَلُ الذَّكَاةُ عِنْدَنَا فِي الْمُبَاحِ الْأَكْلِ، وَأَمَّا مَكْرُوهُ الْأَكْلِ فَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ السِّبَاعَ إذَا ذُكِّيَتْ لِلَحْمِهَا يُكْرَهُ تَنَاوُلُ لَحْمِهَا وَجِلْدِهَا وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِتَبْعِيضِ ذَكَاتِهَا لِتَبَعِيَّةِ الْجِلْدِ لِلَّحْمِ، وَأَمَّا لَوْ ذُكِّيَتْ لِلْجِلْدِ فَقَطْ فَكَذَلِكَ عَلَى الْقَوْلِ بِعَدَمِ تَبْعِيضِ الذَّكَاةِ، وَأَمَّا عَلَى التَّبْعِيضِ فَيَجُوزُ تَنَاوُلُ الْجِلْدِ وَيَحْرُمُ أَكْلُ اللَّحْمِ، وَلَمَّا كَانَ مَفْهُومُ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مُعْتَبَرًا قَالَ مُسْتَثْنِيًا عَلَى جِهَةِ الِانْقِطَاعِ: (إلَّا فِي الْحُمُرِ الْوَحْشِيَّةِ) الْمُسْتَمِرَّةِ عَلَى تَوَحُّشِهَا فَإِنَّ الذَّكَاةَ تَنْفَعُ فِيهَا مِنْ حَيْثُ الْأَكْلُ وَالطَّهَارَةُ وَحِلُّ الْبَيْعِ، وَأَمَّا لَوْ تَأَنَّسَتْ فَلَا تَنْفَعُ فِيهَا لِأَنَّهَا صَارَتْ كَالْإِنْسِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ أَكْلِ كُلِّ سَبُعٍ مِنْ الْحَيَوَانِ مَحْمُولًا عِنْدَ مَالِكٍ عَلَى غَيْرِ الطَّيْرِ، وَأَمَّا الطَّيْرُ فَجَمِيعُهُ مُبَاحٌ عِنْدَهُ سِوَى مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ فِيمَا يَأْتِي قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ (بِأَكْلِ) لَحْمِ (سِبَاعِ الطَّيْرِ وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنْهَا) وَلَوْ جَلَّالَةً مُلَازِمَةً لِأَكْلِ النَّجَاسَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ بِالْعَطْفِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 بِالْمَعْرُوفِ وَلَا يُطِعْهُمَا فِي مَعْصِيَةٍ كَمَا قَالَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَعَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ وَعَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] عَلَى الْمُبَاحِ: وَطَيْرٌ وَلَوْ جَلَّالَةً وَذَا مِخْلَبٍ كَالْحِدَأَةِ وَالْبَازِي، وَالْمِخْلَبُ الظُّفْرُ الَّذِي يَعْقِرُ بِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ سَائِرَ الطُّيُورِ مُبَاحَةٌ عِنْدَ مَالِكٍ كَإِبَاحَةِ سَائِرِ الْحَيَوَانَاتِ الْوَحْشِيَّةِ الَّتِي لَا تَفْتَرِسُ، كَيَرْبُوعٍ وَخُلْدٍ وَوَبَرٍ وَأَرْنَبٍ وَقُنْفُذٍ وضربوب وَحَيَّةٍ أُمِنَ سُمُّهَا وَسَائِرُ حَشَائِشِ الْأَرْضِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا سِوَى مَا نُنَبِّهُ عَلَيْهِ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ الْوَطْوَاطَ الْمَشْهُورُ فِيهِ الْكَرَاهَةُ وَمِثْلُهُ هُدْهُدُ سُلَيْمَانَ، لِغَلَبَةِ أَكْلِ الْأَوَّلِ لِلنَّجَاسَةِ وَأَمَّا الثَّانِي فَكَذَلِكَ وَلِأَنَّهُ كَانَ رَسُولًا لِسُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ قَوْلِنَا بِمَعْنَى الْإِبَاحَةِ مُسَاوَاةُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لِكَلَامِ خَلِيلٍ، وَعُلِمَ أَنَّ غَيْرَ الطَّيْرِ مِنْ ذَوَاتِ الْأَرْبَعِ الْبَرِّيَّةِ مِنْهَا الْمُحَرَّمُ وَمِنْهَا الْمَكْرُوهُ وَمِنْهَا الْمُبَاحُ، وَأَمَّا الْحَيَوَانَاتُ الْبَحْرِيَّةُ فَجَمِيعُهَا مُبَاحٌ وَلَوْ كَلْبًا وَخِنْزِيرًا وَآدَمِيًّا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْمَأْكُولَاتِ وَالْمَشْرُوبَاتِ، شَرَعَ يَتَكَلَّمُ عَلَى مَا يُفْتَرَضُ عَلَى الْمُكَلَّفِ فِي حَقِّ الْعِبَادِ مُبْتَدِئًا بِالْوَالِدَيْنِ فَقَالَ: [بِرُّ الْوَالِدَيْنِ] (وَمِنْ الْفَرَائِضِ) الْعَيْنِيَّةِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (بِرُّ الْوَالِدَيْنِ) أَيْ الْإِحْسَانُ إلَيْهِمَا (وَلَوْ كَانَا فَاسِقَيْنِ) بِغَيْرِ الشِّرْكِ بَلْ (وَإِنْ كَانَا مُشْرِكَيْنِ) لِلْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى الْعُمُومِ، وَالْحُقُوقُ لَا تَسْقُطُ بِالْفِسْقِ وَلَا بِالْمُخَالَفَةِ فِي الدِّينِ، فَيَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ الْمُسْلِمِ أَنْ يُوَصِّلَ أَبَاهُ الْكَافِرَ إلَى كَنِيسَتِهِ إنْ طَلَبَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعَجَزَ عَنْ الْوُصُولِ بِنَفْسِهِ لِنَحْوِ عَمًى كَمَا قَالَهُ ابْنُ قَاسِمٍ، كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَدْفَعَ لَهُمَا مَا يُنْفِقَانِهِ فِي أَعْيَادِهِمَا لَا مَا يَصْرِفَانِهِ فِي نَحْوِ الْكَنِيسَةِ أَوْ يَدْفَعَانِهِ لِلْقِسِّيسِ. ثُمَّ فَرَّعَ عَلَى الْفَرِيضَةِ الْمَفْهُومَةِ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ قَوْلَهُ: (فَلْيَقُلْ لَهُمَا) أَيْ لِلْوَالِدَيْنِ (قَوْلًا لَيِّنًا) أَيْ لَطِيفًا دَالًّا عَلَى الرِّفْقِ بِهِمَا وَالْمَحَبَّةِ قَالَ تَعَالَى: {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} [الإسراء: 23] {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] قَالَ الْمُفَسِّرُ: أَيْ وَرَحِمَانِي صَغِيرًا، وَيُجْتَنَبُ غَلِيظُ الْقَوْلِ الْمُوجِبِ لِنَفْرَتِهِمَا مِنْهُ وَيُنَادِيهِمَا بِيَا أُمِّي وَيَا أَبِي، وَلْيَقُلْ لَهُمَا مَا يَنْفَعُهُمَا فِي أَمْرِ دِينِهِمَا وَدُنْيَاهُمَا بِأَنْ يُعَلِّمَهُمَا مَا يَحْتَاجَانِ إلَيْهِ مِنْ الِاعْتِقَادِيَّات وَمِنْ الْفَرَائِضِ وَالسُّنَنِ وَفَضَائِلِ الْأَعْمَالِ وَمِنْ أَنْوَاعِ الْمُعَامَلَاتِ إنْ احْتَاجَا إلَيْهَا، دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ مُجْتَهِدِي الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ نَحْوُ: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [الإسراء: 23] {وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا} [العنكبوت: 8] وَأَمَّا السُّنَّةُ فَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ: «سَأَلْت النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيُّ الْأَعْمَالِ أَحَبُّ إلَى اللَّهِ؟ قَالَ: الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا، قُلْت: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَبَرُّ الْبِرِّ أَنْ يَصِلَ الرَّجُلُ وُدَّ أَبِيهِ» . وَقَدْ اجْتَمَعَتْ الْأُمَّةُ عَلَى وُجُوبِ بِرِّهِمَا وَحُرْمَةِ عُقُوقِهِمَا لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ ثَلَاثًا؟ قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: الْإِشْرَاكُ بِاَللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» . وَجَاءَ فِي حَدِيثٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ: «أَنَّ مَنْ فَاتَهُ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ فِي حَيَاتِهِمَا أَنْ يُصَلِّيَ لَيْلَةَ الْخَمِيسِ رَكْعَتَيْنِ يَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ بَعْدَ فَاتِحَةِ الْكِتَابِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَقُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَالْمُعَوِّذَتَيْنِ خَمْسَ مَرَّاتٍ، فَإِذَا سَلَّمَ مِنْهُمَا اسْتَغْفِرْ اللَّهَ خَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً ثُمَّ وَهَبَ ذَلِكَ لِأَبَوَيْهِ فَإِنَّهُ يُدْرِكُ بِرَّهُمَا بِذَلِكَ» . (وَلْيُعَاشِرْهُمَا بِالْمَعْرُوفِ) أَيْ بِكُلِّ مَا عُرِفَ مِنْ الشَّرْعِ جَوَازُهُ، فَيُطِيعُهُمَا فِي فِعْلِ جَمِيعِ مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مِنْ وَاجِبٍ أَوْ مَنْدُوبٍ وَفِي تَرْكِ مَا لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي تَرْكِهِ. (وَلَا يُطِعْهُمَا) بِالْجَزْمِ لِحَذْفِ الْيَاءِ (فِي) مَا يَأْمُرَانِهِ بِهِ مِنْ فِعْلِ (مَعْصِيَةٍ) وَالْمُرَادُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ إطَاعَتُهُمَا لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ لَيْسَتْ مِنْ الْمَعْرُوفِ (كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى) {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا} [لقمان: 15] وَكَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ» . وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَجِبُ بِرُّهُمَا بِالْقَوْلِ وَالْجَسَدِ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ وَلَا يُجَاذِبُهُمَا فِي الْمَشْيِ، فَضْلًا عَنْ الْمُتَقَدِّمِ عَلَيْهِمَا إلَّا لِضَرُورَةٍ نَحْوَ ظَلَامٍ، وَإِذَا دَخَلَ عَلَيْهِمَا لَا يَجْلِسُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَإِذَا قَعَدَ لَا يَقُومُ إلَّا بِإِذْنِهِمَا، وَلَا يَسْتَقْبِحُ نَجْوَهُمَا نَحْوَ الْبَوْلِ عِنْدَ كِبَرِهِمَا أَوْ مَرَضِهِمَا لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّتِهِمَا، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَا يُطِعْهُمَا فِي مَعْصِيَةٍ أَنَّهُ يُطِيعُهُمَا فِي فِعْلِ الْمَكْرُوهِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَيُطِيعُهُمَا فِي تَرْكِ الْمَسْنُونَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ إلَّا أَنْ تَكُونَ السُّنَّةُ رَاتِبَةً وَيَأْمُرَانِهِ بِتَرْكِهَا عَلَى الدَّوَامِ كَالْفَجْرِ وَالْوِتْرِ فَلَا تَجِبُ إطَاعَتُهُمَا عَلَى مَا قَالَهُ بَعْضُ عُلَمَائِنَا، وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خِلَافَهُ، لِأَنَّ الْإِطَاعَةَ فِي تَرْكِ مَا ذُكِرَ لَا تُوجِبُ مَعْصِيَةً وَلَا يَلْحَقُهُ بِهَا مَضَرَّةٌ، وَلَيْسَ مِنْ الْإِطَاعَةِ فِي الْمَعْصِيَةِ إطَاعَتُهُمَا فِي الْفِطْرِ مِنْ صَوْمِ النَّفْلِ لِاسْتِثْنَاءِ الْعُلَمَاءِ لَهُ مِنْ حُرْمَةِ الْفِطْرِ فِيهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ. قَالَ مَالِكٌ: لَوْ صَامَ تَطَوُّعًا وَأَجْهَدَهُ الْعَطَشُ وَعَزَمَا عَلَيْهِ أَنْ يُفْطِرَ شَفَقَةً عَلَيْهِ فَلْيُطِعْهُمَا وَلَا يُطِعْ غَيْرَهُمَا وَلَوْ حَلَفَ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَقَضَاءٌ فِي النَّفْلِ بِالْعَمْدِ الْحَرَامِ وَلَوْ بِطَلَاقِ بَتٍّ إلَّا لِوَجْهٍ كَوَالِدٍ وَشَيْخٍ وَإِنْ لَمْ يَحْلِفَا أَيْ فَلْيُفْطِرْ لِأَجْلِهِمَا وَلَا يَلْزَمُهُ قَضَاءٌ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِ مَالِكٍ: أَجْهَدَهُ الْعَطَشُ الْإِجْهَادُ الَّذِي لَيْسَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 مُوَالَاةُ الْمُؤْمِنِينَ وَالنَّصِيحَةُ لَهُمْ وَلَا يَبْلُغُ أَحَد ٌ حَقِيقَةَ الْإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ كَذَلِكَ رُوِيَ   [الفواكه الدواني] بِالْقَوِيِّ، وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْفِطْرُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى أَمْرِهِمَا كَمَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ، وَبِهَذَا وَافَقَ ظَاهِرَ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي عَدَمِ تَقْيِيدِهِ، وَإِنَّمَا قَيَّدُوا كَلَامَهُ بِكَوْنِ أَمْرِهِمَا لَهُ بِالْفِطْرِ عَلَى وَجْهِ الرَّأْفَةِ وَالشَّفَقَةِ مِنْ ضَرَرِ إدَامَةِ الصَّوْمِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْوَالِدَيْنِ خُصُوصُ الْأَبِ وَالْأُمِّ دُونَ الْجَدِّ وَالْجَدَّةِ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِقَوْلِ الطُّرْطُوشِيِّ: لَمْ أَجِدْ نَصًّا لِلْعُلَمَاءِ فِي الْأَجْدَادِ، وَاَلَّذِي عِنْدِي أَنَّهُمْ لَا يَبْلُغُونَ مَبْلَغَ الْآبَاءِ، وَرَدَّ عَلَيْهِ عِيَاضٌ قَائِلًا: الَّذِي عِنْدِي هَذَا، وَالْمَعْرُوفُ مِنْ قَوْلِ مَالِكٍ: وَمَنْ وَافَقَهُ مِنْ أَصْحَابِهِ وَغَيْرِهِمْ لُزُومُ بِرِّ الْأَجْدَادِ، وَقَدْ رَأَى مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ أَنَّهُ لَا يُقْتَصُّ مِنْ الْجَدِّ فِي ابْنِ ابْنِهِ إلَّا أَنْ يَفْعَلَ بِهِ مَا لَا يُشَكُّ مَعَهُ فِي قَصْدِهِ قَتْلَهُ كَالْأَبِ سَوَاءً، وَأَقُولُ تَقْيِيدُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ لِلْأَبَوَيْنِ بِدَنِيَّةٍ فِي بَابِ النَّفَقَاتِ. وَفِي بَابِ الصَّوْمِ إذَا أَمَرَاهُ بِالْفِطْرِ، وَفِي الْجِهَادِ إذَا مَنَعَاهُ مِنْ الْجِهَادِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ، يُوَافِقُ كَلَامَ الطُّرْطُوشِيِّ مِنْ عَدَمِ مُسَاوَاةِ الْجَدِّ لِلْأَبِ، وَلَا يَشْكُلُ تَسْوِيَةُ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ بَيْنَ الْجَمِيعِ فِي سُقُوطِ الْقِصَاصِ لِفَظَاعَةِ أَمْرِ الْقِصَاصِ بِخِلَافِ غَيْرِهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّانِي: وَقَعَ الِاضْطِرَابُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي بِرِّهِمَا هَلْ هُوَ عَلَى السَّوَاءِ أَوْ عَلَى التَّفَاوُتِ، فَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّسَاوِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ، وَمِنْ قَائِلٍ بِالتَّفَاوُتِ فَيَكُونُ فِي حَقِّ الْأُمِّ أَكْثَرُ، وَيَنْبَنِي عَلَيْهِ مَا قَالُوهُ فِي النَّفَقَةِ مِنْ أَنَّهُ إذَا وَجَبَ عَلَيْهِ النَّفَقَةُ لَهُمَا وَلَمْ يَقْدِرْ إلَّا عَلَى نَفَقَةِ أَحَدِهِمَا فَيُنْفِقُ عَلَى الْأُمِّ وَلَا يَظْهَرُ عِنْدِي لِلْخِلَافِ ثَمَرَةٌ فِي الِاحْتِرَامِ وَالْإِجْلَالِ بِالْقَوْلِ وَالْقَالِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الِاسْتِغْفَار لِلْوَالِدَيْنِ] (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ (عَلَى الْمُؤْمِنِ) الْمُكَلَّفِ (أَنْ يَسْتَغْفِرَ لِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ) أَيْ يَطْلُبَ مِنْ رَبِّهِ الْمَغْفِرَةَ لَهُمَا امْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24] وَفِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الْمَيِّتَ يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي الْحَدِيثِ: «إذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إلَّا مِنْ ثَلَاثٍ وَعَدَّ مِنْهَا دُعَاءَ الْوَلَدِ الصَّالِحِ» . وَكَمَا يَنْتَفِعُ بِالدُّعَاءِ لَهُ يَنْتَفِعُ بِالصَّدَقَةِ عَنْهُ، وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي انْتِفَاعِهِ بِالْقِرَاءَةِ لَهُ وَرَجَّحَ بَعْضٌ انْتِفَاعَهُ بِهَا، فَلَا يَنْبَغِي إهْمَالُهَا سَوَاءٌ وَقَعَتْ عَلَى قَبْرِهِ أَوْ فِي غَيْرِهِ حَتَّى تَصِحَّ الْإِجَارَةُ عَلَيْهَا وَتَلْزَمُ، وَقَيَّدَ بَعْضٌ الْخِلَافَ بِمَا إذَا لَمْ يَجْعَلْ أَوَّلَ ذَلِكَ دُعَاءً، وَإِلَّا انْتَفَعَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ أَوْصِلْ ثَوَابَ مَا أَقْرَؤُهُ إلَى فُلَانٍ، وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى نَفْعِ الدُّعَاءِ، وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ الِاسْتِغْفَارُ لِلْأَبَوَيْنِ الْكَافِرَيْنِ بَلْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ لِآيَةِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى} [التوبة: 113] الْآيَةَ فَإِنَّهَا نَزَلَتْ فِي اسْتِغْفَارِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَاسْتِغْفَارِ بَعْضِ الصَّحَابَةِ لِأَبَوَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ حُرْمَةَ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكَافِرِ بَعْدَ مَوْتِهِ مُجْمَعٌ عَلَيْهَا وَلَوْ لِلْأَبَوَيْنِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ خِلَافٌ فِي اسْتِغْفَارِهِ لِلْأَبَوَيْنِ حَالَ حَيَاتِهِمَا إذْ قَدْ يُسْلِمَانِ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْقَدْرُ الْوَاجِبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ لِأَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ وَصَرَّحَ بِهِ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يَحْصُلُ وَلَوْ بِمَرَّةٍ فِي عُمُرِهِ مَعَ قَصْدِ أَدَاءِ الطَّالِبِ، كَمَا تَكْفِي الْمَرَّةُ فِي وُجُوبِ الِاسْتِغْفَارِ لِلسَّلَفِ الصَّالِحِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجِبُ عَلَى الْوَلَدِ لِخُصُوصِ أَبَوَيْهِ الْمُؤْمِنَيْنِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لِبَقِيَّةِ الْمُؤْمِنِينَ. (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَنَّهُ يَجِبُ (عَلَيْهِ مُوَالَاةُ) أَيْ مُوَادَّةُ إخْوَانِهِ (الْمُؤْمِنِينَ) لِحَدِيثِ: «لَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إخْوَانًا» وَالْمُرَادُ بِمُوَالَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعُ عَلَيْهِمْ وَإِظْهَارُ الْمَحَبَّةِ لَهُمْ، وَاجْتِنَابُ مَا يُوجِبُ الْمُنَافَرَةَ مِنْ الْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِمُوَالَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعُ بِالْأَبْدَانِ الْعَارِي عَنْ الْمَحَبَّةِ الْقَلْبِيَّةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ لِينَ الْجَانِبِ الْمَعْرُوفِ بِالتَّوَاضُعِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: وَاجِبٌ كَالتَّوَاضُعِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْحَاكِمِ وَالْعَالِمِ وَالْوَالِدِ، وَحَرَامٌ كَالتَّوَاضُعِ لِأَهْلِ النَّارِ وَالظُّلْمِ وَالْكِبْرِ لِأَنَّ التَّوَاضُعَ لِهَؤُلَاءِ هُوَ الذُّلُّ الَّذِي لَا عِزَّ مَعَهُ وَالْخِسَّةُ الَّتِي لَا رِفْعَةَ مَعَهَا، وَمَنْدُوبٌ كَالتَّوَاضُعِ لِعِبَادِ اللَّهِ سِوَى مَنْ ذُكِرَ، وَمَفْهُومُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْكُفَّارَ لَا يَجُوزُ مُوَالَاتُهُمْ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة: 22] بَلْ نَقْصِدُهُمْ بِالسُّوءِ وَنُقَاتِلُهُمْ عَلَى الْإِيمَانِ إنْ كَانُوا جَاهِلِيِّينَ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَا نَتَعَرَّضُ لَهُمْ إلَّا بِقَدْرِ الْحَاجَةِ لِحُرْمَةِ أَذِيَّةِ الذِّمِّيِّ، وَكَذَلِكَ لَوْ صَنَعَ الذِّمِّيُّ وَلِيمَةً لِخِتَانٍ أَوْ غَيْرِهِ وَدَعَا الْمُسْلِمَ فَقِيلَ يُجِيبُهُ وَقِيلَ لَا. (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (النَّصِيحَةُ لَهُمْ) أَيْ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِإِرْشَادِهِمْ إلَى مَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُمْ فِي دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، وَالدَّلِيلُ عَلَى وُجُوبِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ، قُلْنَا: لِمَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَصِلَ رَحِمَهُ وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى الْمُؤْمِنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ وَيَعُودَهُ إذَا مَرِضَ وَيُشَمِّتَهُ إذَا   [الفواكه الدواني] يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ» . فَالنَّصِيحَةُ لِلَّهِ أَنْ يَصِفَهُ بِمَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ مِنْ سَائِرِ الصِّفَاتِ الْوَاجِبَةِ لَهُ وَيُنَزِّهَهُ عَنْ سَائِرِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ. وَالنَّصِيحَةُ لِرَسُولِهِ أَنْ يُؤْمِنَ بِهِ وَبِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ وَيَمْتَثِلَ أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ وَيُحْيِيَ سُنَّتَهُ بِتَعْلِيمِهَا لِلنَّاسِ وَيُحَافَظَ عَلَى شَرِيعَتِهِ بِالْعَمَلِ بِهَا. وَالنَّصِيحَةُ لِكِتَابِهِ أَنْ يَتَأَوَّلَهُ بِتَأْوِيلِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَيَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ وَيَجْتَنِبَ نَوَاهِيَهُ وَيَتْلُوَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ مَعَ السَّكِينَةِ وَالْوَقَارِ. وَالنَّصِيحَةُ لِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ امْتِثَالُ أَوَامِرِهِمْ وَقَوَانِينِهِمْ الْمُوَافَقَةِ لِلشَّرْعِ مِنْ الْمَوَازِينِ وَالْمَكَايِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَأَنْ يُبَلِّغَ لَهُمْ أُمُورَ الْعَامَّةِ مِمَّا يَطْرَأُ عَلَيْهِمْ مِنْ الْجَوْرِ، وَهَذَا إنَّمَا يَجِبُ عَلَى مَنْ فِيهِ أَهْلِيَّةُ ذَلِكَ. وَالنَّصِيحَةُ لِعَامَّةِ الْمُسْلِمِينَ مُعَامَلَتُهُمْ بِالصِّدْقِ فَلَا يَغُشَّهُمْ وَلَا يَكْذِبَ عَلَيْهِمْ. (تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النَّصِيحَةَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَةٌ سَوَاءٌ طَلَبُوا ذَلِكَ أَوْ لَا وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ. قَالَ الشَّاذِلِيُّ: وَبِمَا قَالَهُ الْغَزَالِيُّ أَقُولُ: فَمَنْ رَأَى شَخْصًا لَا يُحْسِنُ الْوُضُوءَ أَوْ الصَّلَاةَ أَوْ شَيْئًا مِنْ أُمُورِ دِينِهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ إرْشَادُهُ وَإِنْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ ذَلِكَ، لِأَنَّهُ إنْ كَانَ جَاهِلًا يُعَلِّمُهُ وَإِنْ كَانَ عَالِمًا يَنْصَحُهُ لِفِعْلِ الصَّوَابِ بِالزَّجْرِ عَنْ هَذَا الْفِعْلِ الْبَاطِلِ، وَتَكُونُ النَّصِيحَةُ بِالْقَوْلِ اللَّيِّنِ وَالرِّفْقِ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى قَبُولِهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا هُوَ كَالتَّأْكِيدِ لِمَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: [حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ] (وَلَا يَبْلُغُ أَحَدٌ) كَمَالَ (حَقِيقَةِ الْإِيمَانِ) قَدْ مَرَّ تَفْسِيرُهُ (حَتَّى يُحِبَّ) بِالنَّصْبِ بِأَنْ مُضْمَرَةٍ (لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ) مِنْ الْخَيْرِ مِثْلَ (مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ) إذْ عَيْنُهُ مُحَالٌ لِأَنَّ الشَّيْءَ لَا يَكُونُ عَيْنُهُ فِي مَحَلَّيْنِ. (كَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) وَكَانَ الْأَحْسَنُ أَنْ لَوْ قَالَ: لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِصِيغَةِ الْجَزْمِ لِأَنَّ صِيغَةَ رُوِيَ وَذَكَرَ تُشْعِرُ بِالتَّمْرِيضِ وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَلَفْظُ الْمَرْوِيِّ مَا فِي مُسْلِمٍ: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» قَالَ النَّوَوِيُّ مَعْنَاهُ: لَا يَكْمُلُ إيمَانُ أَحَدِكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ فِي الْإِسْلَامِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ، وَتَكُونُ الْمَحَبَّةُ بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، وَيَبْغَضُ لَهُ مِثْلُ مَا يَبْغَضُ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا لَمْ يَذْكُرْهُ مَعَ كَوْنِهِ مِنْ الْإِيمَانِ اكْتِفَاءً بِذَكَرِ ضِدِّهِ عَلَى حَدِّ: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] أَيْ وَالْبَرْدَ، أَوْ بِنَاءً عَلَى أَنَّ حُبَّ الشَّيْءِ مُسْتَلْزِمٌ لِبُغْضِ نَقِيضِهِ، وَبِقَوْلِنَا مِنْ الْخَيْرِ كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ انْدَفَعَ قَوْلُ بَعْضِهِمْ إنَّ هَذَا عَامٌّ مَخْصُوصٌ بِأَنَّ الْإِنْسَانَ يُحِبُّ لِنَفْسِهِ وَطْءَ حَلِيلَتِهِ وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحِبَّ لِأَخِيهِ وَطْأَهَا مَعَ كَوْنِهَا حَلِيلَتَهُ لِحُرْمَةِ ذَلِكَ، وَالِانْدِفَاعُ بِوَجْهَيْنِ: التَّصْرِيحُ بِلَفْظِ الْخَيْرِ فِي الرِّوَايَةِ، وَثَانِيهمَا أَنَّ كَامِلَ الْإِيمَانِ لَا يَصْدُرُ مِنْهُ ذَلِكَ لِحُرْمَتِهِ، نَعَمْ التَّعْبِيرُ بِأَخِيهِ جَرَى عَلَى الْغَالِبِ، فَيُحِبُّ لِلْكَافِرِ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ وَسَائِرُ الْكَمَالَاتِ الدِّينِيَّةِ كَمَا يُحِبُّهَا لِنَفْسِهِ، وَلِذَلِكَ يُسْتَحَبُّ الدُّعَاءُ لِلْكَافِرِ بِالْهِدَايَةِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَا يَكْمُلُ إيمَانُ الشَّخْصِ إلَّا إذَا أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ أَحْسَنَ مِنْهُ، وَهَذَا مُشْكِلٌ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَحْسَنَ النَّاسِ عِلْمًا وَوَرَعًا وَزُهْدًا، وَالْجَوَابُ أَنَّ الْمُرَادَ أَنْ يُحِبَّ أَنْ يَكُونَ غَيْرُهُ مِثْلَهُ فِي أَوْصَافِ الْخَيْرِ بِحَيْثُ لَا يَنْقُصُ عَنْهُ شَيْئًا، وَهَذَا أَمْرٌ سَهْلٌ عَلَى أَصْحَابِ الْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا يَعْسُرُ عَلَى مَنْ لَمْ يَكْمُلْ إيمَانُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِثْلِيَّةِ الْمُشَارَكَةُ فِي أَوْصَافِ الْكَمَالِ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِكَفِّ الْأَذَى وَالْحَسَدِ، فَفِي الْحَدِيثِ: «اُنْظُرْ مَا تُحِبُّ أَنْ يَصْنَعَهُ غَيْرُك مَعَك اصْنَعْهُ مَعَهُ» وَمِنْ ثَمَّ قِيلَ لِلْأَحْنَفِ: مِمَّنْ تَعَلَّمْت الْحِلْمَ؟ قَالَ: مِنْ نَفْسِي، قِيلَ لَهُ: وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: كُنْت إذَا كَرِهْت شَيْئًا مِنْ غَيْرِي لَمْ أَفْعَلْ بِأَحَدٍ مِثْلَهُ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْصُلُ الْإِيمَانُ الْكَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ الْمَذْكُورَةِ مَعَ أَنَّ الْإِيمَانَ لَهُ أَرْكَانٌ أُخَرُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذِكْرَ الْمَحَبَّةِ مُبَالَغَةٌ لِأَنَّهَا الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ لِلْإِيمَانِ الْكَامِلِ نَحْوَ الْحَجُّ عَرَفَةَ، أَوْ هِيَ مُسْتَلْزِمَةٌ لِبَقِيَّةِ أَرْكَانِهِ، وَحَقِيقَةُ الْمَحَبَّةِ الْمَيْلُ إلَى مَا يُوَافِقُ الْمُحِبَّ، وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَيْلُ الِاخْتِيَارِيُّ دُونَ الطَّبِيعِيِّ، إذْ لَا قُدْرَةَ لِلْإِنْسَانِ عَلَى تَحْصِيلِهِ، كَمَيْلِهِ إلَى أَنْ يَكُونَ أَوَرَعَ أَوْ أَعْلَمَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ، وَاحْتَرَزَ بِمَحَبَّةِ أَخِيهِ عَنْ مَحَبَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهَا شَرْطٌ فِي وُجُودِ الْإِيمَانِ، فَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا حَتَّى يَكُونَ أَحَبَّ إلَيْهِ مِنْ مَالِهِ وَوَلَدِهِ وَنَفْسِهِ. (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ عَلَى الْمُكَلَّفِ أَيْضًا (أَنْ يَصِلَ) أَيْ يَزُورَ (رَحِمَهُ) أَيْ قَرَابَتَهُ الْمُؤْمِنِينَ وَإِنْ بَعُدُوا سَوَاءٌ الْوَارِثُ وَغَيْرُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَكُون الصِّلَةُ بِالزِّيَارَةِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَبِبَذْلِ الْمَالِ وَبِالْقَوْلِ الْحَسَنِ، وَبِالسُّؤَالِ عَنْ الْحَالِ وَالصَّفْحِ عَنْ زَلَّاتِهِمْ وَبِالْمَعُونَةِ لَهُمْ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَقَيَّدْنَا بِالْمُؤْمِنِينَ لِأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُسْلِمِ لَهُمْ إلَّا بِرَّ وَالِدَيْهِ، وَأَمَّا الصِّلَةُ وَمَا شَابَهَهَا مِمَّا يَسْتَدْعِي كَثْرَةَ التَّرَدُّدِ وَمَحَبَّةَ جَمِيعِ مَا عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ فَلَا، قَالَ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] وَالصِّلَةُ بِالزِّيَارَةِ إنَّمَا تَكُونُ مِمَّنْ قَرُبَ مِنْ مَحَلِّ أَرْحَامِهِ، وَأَمَّا بَعِيدُ الْمَحَلِّ فَتَكُونُ زِيَارَتُهُ بِالْكُتُبِ إلَيْهِ أَوْ إرْسَالِ الرَّسُولِ، دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّةِ صِلَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الْأَرْحَامِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةُ. قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: 1] وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّةِ صِلَةِ الرَّحِمِ، مَنْ تَرَكَهَا يَكُونُ عَاصِيًا، وَيَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ وَصَلَكَ أَوْ قَطَعَكَ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَيْسَ الْمُوَاصِلُ مِنْ يَصِلُ مَنْ وَصَلَهُ وَإِنَّمَا الْمُوَاصِلُ مِنْ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، لِأَنَّ مُوَاصِلَ الْمُوَاصِلِ بَائِعٌ وَمُشْتَرٍ، يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ رَحِمُهُ يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَصِلَهُ وَيَتَضَرَّرُ مِنْ حُضُورِهِ لَهُ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي بَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ لَا يُحِبُّونَ مِنْ أَرْحَامِهِمْ الْفُقَرَاءِ الْقُرْبَ إلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلَبُ مِنْ الْقَرِيبِ الْفَقِيرِ صِلَتُهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي إثْمِ الْغَنِيِّ بَلْ هُوَ اللَّئِيمُ، لِأَنَّهُ الَّذِي إذَا اسْتَغْنَى يَجْفُو قَرَابَتَهُ الْفُقَرَاءَ وَيُنْكِرُ نِسْبَتَهُمْ إلَيْهِ. وَفِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: أَنَّهَا تُطِيلُ فِي الْعُمُرِ وَتَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَتَدْعُو لِمَنْ يَصِلُهَا، فَفِي الصَّحِيحِ: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ وَصَلَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَهَا وَقَطَعَ اللَّهُ مَنْ قَطَعَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي عُمُرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» وَيُنْسَأَ مِنْ النُّسَأِ فَهُوَ بِالْهَمْزِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّحِمُ حُجْنَةٌ مُتَمَسِّكَةٌ بِالْعَرْشِ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلْقٍ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي» وَشُجْنَةٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مَا فِي أُصُولٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ فِي إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ لِلسُّيُوطِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ حُجْنَةٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَفِي مُقَدِّمَةِ فَتْحِ الْبَارِي قَوْلُهُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحِمِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ وَحُكِيَ الْفَتْحُ أَيْضًا، وَأَصْلُهَا اشْتِبَاكُ الْعُرُوقِ وَالْأَغْصَانِ. وَفِي النِّهَايَةِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحِمِ أَيْ قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ وَشِبْهِهَا فَهُوَ مَجَازٌ، لِأَنَّ الشُّجْنَةَ فِي الْأَصْلِ شُعْبَةٌ مِنْ غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، وَبِضَبْطِ السُّيُوطِيّ الْتَبَسَ الْحَقُّ عِنْدِي هَلْ شُجْنَةٌ بِالشِّينِ أَوْ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ يُحَرَّرُ. وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ قِيلَ حَقِيقَةٌ وَقِيلَ مَجَازٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ، وَكَمَا تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي الْعُمُرِ كَذَلِكَ الصَّدَقَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَبِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ لَقِيته مِنْ الْأُمَّةِ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَسٍ: «أَلَا أُعَلِّمُك ثَلَاثَ خِصَالٍ تَنْتَفِعُ بِهَا؟ فَقُلْت: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ لَقِيت مِنْ أُمَّتِي فَسَلِّمْ عَلَيْهِ يَطُلْ عُمُرَك، وَإِذَا دَخَلْت بَيْتَك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِك، وَتَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ مِنْ الرَّأْسِ عَلَى الدَّوَامِ» لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ عَلَى ذَلِكَ تَحْفَظُ مِنْ الْبِلَى وَتُطِيلُ مِنْ الْعُمُرِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ طُولُ الْعُمُرِ بِفِعْلِ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهَا، وَالزِّيَادَةُ فِي الْعُمُرِ بِالْمَذْكُورَاتِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً بِأَنْ يُبَارِكَ فِي عُمُرِهِ بِحَيْثُ يَعْمَلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِطُولِ الْعُمْرِ وَعَدَمُ جَوَازِهِ وَالْحَقُّ الْجَوَازُ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَبِاعْتِبَارِ مَا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ وُجُوبِ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُلَازَمَةُ فِي كُلِّ زَمَنٍ بَيَّنَ هُنَا الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ) الثَّابِتِ لَهُ (عَلَى) أَخِيهِ (الْمُؤْمِنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ) بِأَنْ يَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِنَّمَا وَصَفْنَا الْحَقَّ بِالثَّابِتِ دُونَ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْآتِيَةَ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالتَّشْمِيتِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْهُجْرَانِ الْمُحَرَّمِ يَكُونُ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ سُنَّةً فَلَا تَتَوَهَّمُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْحَقِّ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا، وَإِذَا سَلَّمَ الْمُؤْمِنُ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ خَالِيًا مِنْ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ حَتَّى يَكُونَ مُوَالِيًا لَهُ. (وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَعُودَهُ) أَيْ يَزُورَهُ وَيَقُومَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (إذَا مَرِضَ) وَالْمَطَالِبُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً الْقَرِيبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَصْحَابُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْحَابٌ فَأَهْلُ مَوْضِعِهِ، فَإِنْ تَرَكُوا جَمِيعًا عَصَوْا لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْغَيْرِ وَإِلَّا تَعَيَّنَتْ، وَتَكُونُ الْعِيَادَةُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كُنَّ مِنْ الْمَحَارِمِ لَهُ، وَتَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَقِيلَ بِطَلَبِهَا لَيْلًا فِي الشِّتَاءِ وَنَهَارًا فِي الصَّيْفِ لِشِدَّةِ تَأَذِّي الْمَرِيضِ لِطُولِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ وَلِطُولِ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَنْ يَشْتَدُّ بِهِ الْمَرَضُ، وَإِلَّا فَقَدْ تَجِبُ فِي كُلَّ وَقْتٍ وَتُشْرَعُ لِكُلِّ مَرِيضٍ وَلَوْ أَرْمَدَ، وَخَبَرُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُعَادُونَ: صَاحِبُ الضِّرْسِ وَصَاحِبُ الرَّمَدِ وَصَاحِبُ الدُّمَّلِ» ضَعَّفَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ، فَالصَّوَابُ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فِي الرَّمَدِ أَنْ يُعَادَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلزَّائِرِ مُطْلَقًا أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُ عَلَى وَجْهٍ وَفِي وَقْتٍ يَرْضَاهُ الْمَرِيضُ وَيَأْنَسُ بِهِ، فَلَا يَزُورُهُ فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ زِيَارَتُهُ فِيهِ كَوَقْتِ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةٍ، أَوْ يَكُونُ نَحْوُ زَوْجَتِهِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يَرْتَاحُ مَعَهَا أَكْثَرَ، وَفِي الْعِيَادَةِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزُلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ يُغْمَسُ فِيهَا» . وَيُطْلَبُ مِنْ الزَّائِرِ أُمُورٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا كَمَالُ الْأَجْرِ، مِنْهَا: قِلَّةُ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ، وَإِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَقِلَّةُ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ لَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 عَطَسَ وَيَشْهَدَ جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ وَيَحْفَظَهُ إذَا غَابَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَلَا يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَالسَّلَامُ يُخْرِجُهُ   [الفواكه الدواني] وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَجْلِسَ عِنْدَهُ بِخُشُوعٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَوْرَةِ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يُبَشِّرَ بِالْمَثُوبَاتِ لِلْمَرِيضِ. وَمِنْ أَدْعِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرِيضِ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا زَارَ مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ قَالَ فِي دُعَائِهِ: أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» أَيْ لَا يَتْرُكُ سَقَمًا، وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَك إلَّا شَفَاهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرَ أَجَلُهُ» هَذَا مُحَصَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الْأَجْرِ لِلزَّائِرِ، وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ أَجْرِ الْمَرَضِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ، فَهِيَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ فِي مَرَضِهِ، فَلَا يُضَيِّعُهَا بَلْ يَأْتِي بِصَلَاتِهِ وَلَوْ مِنْ جُلُوسٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ، وَأَنْ يُكْثِرَ الرَّجَاءَ، وَلَا يَقْنَطَ مِنْ عَفْوِ رَبِّهِ، وَلَا يُكْثِرَ الشَّكْوَى إلَّا عِنْدَ صَالِحٍ تُرْتَجَى بَرَكَةُ دُعَائِهِ، وَأَنْ لَا يَنْطِقَ لِسَانُهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي فِي حَقِّ الْبَارِي، بَلْ يُلَاحِظُ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلْعِبَادِ يَفْعَلُ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءَ، فَإِنْ خَفَّفَ فَبِمَحْضِ فَضْلِهِ، وَإِنْ شَدَّدَ فَبِعَدْلِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ حَكِيمٌ يُدَاوِيه، لِأَنَّ الْمُدَاوِيَ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَرَضَ، وَجَوَازُ التَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ قَوْلِ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَاطَى لِأَسْبَابِ التَّدَاوِي مَعَ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. (وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَنْ (يُشَمِّتَهُ إذَا عَطَسَ) إذَا سَمِعَهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِتْيَانَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لِسَمَاعِهِ تَشْمِيتَ غَيْرِهِ لَهُ مَثَلًا، وَجَرَى خِلَافٌ فِي تَنْبِيهٍ عَلَى الْحَمْدِ إذَا تَرَكَهُ لِيُشَمِّتَهُ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الصَّوَابَ تَنْبِيهُهُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَنْبِيهِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى فِعْلِ مَطْلُوبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ التَّشْمِيتِ فَرَجَّحَ بَعْضٌ وُجُوبَهُ كِفَايَةً، وَرَجَّحَ بَعْضٌ سُنِّيَّتَهُ كِفَايَةً، وَحَقِيقَتُهُ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الْعُطَاسِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ كَرِيهَةٌ شَبِيهَةٌ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، وَأَقَلُّ الدُّعَاءِ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ وَيُشَمِّتُهُ وَلَوْ تَسَبَّبَ فِي الْعُطَاسِ، وَالتَّشْمِيتُ يُقَالُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ جَعَلَك اللَّهُ عَلَى سَمْتٍ حَسَنٍ، وَبِالْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَ اللَّهُ عَنْك الشَّمَاتَةَ بِأَنْ أَعَادَك إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَعَطَسَ مِنْ بَابِ ذَهَبَ وَنَصَرَ. (وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَشْهَدَ) أَيْ يَحْضُرَ (جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ) لِأَجَلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمُوَارَاتِهِ، لِأَنَّ تَجْهِيزَ الْأَمْوَاتِ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. (وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَحْفَظَهُ إذَا غَابَ) لِوُجُوبِ حِفْظِهِ عَلَيْهِ (فِي السِّرِّ) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَا يُؤْذِيهِ بِبَاطِنِهِ بِأَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِهِ أَوْ يَغْتَابَهُ أَوْ يَحْقِدَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْسُدَهُ أَوْ يَتَعَدَّى عَلَى حَرِيمِهِ أَوْ أَمَانَتِهِ. (وَ) فِي (الْعَلَانِيَةِ) فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يُؤْذِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي عِرْضِهِ وَلَا مَالِهِ وَلَا فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُ وَعَنْ عِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حَقِيَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاَللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» . وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ نُصْرَتَهُ أَدْرَكَهُ إثْمُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ طَلَبِ السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كُلَّمَا لَقِيَهُ إثْمُهُ بِتَرْكِ ذَلِكَ مُطْلَقًا قَالَ: (وَلَا) يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ (يَهْجُرَ أَخَاهُ) الْمُؤْمِنَ بِحَيْثُ لَا يُكَلِّمُهُ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ. (فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» أَيْ مَعَ أَيَّامِهَا. وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ: «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيَعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» فَمَنْ زَادَ عَلَى التَّحْدِيدِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ مُقَاطَعَةٌ وَمُدَابَرَةٌ، وَالْمُوَالَاةُ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا إذَا هَجَرَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ بِأَنْ كَانَ لِمُلَابَسَتِهِ لِمَعْصِيَةٍ أَوْ لِأَجْلِ الْأَدَبِ وَالرَّدْعِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، كَهَجْرِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ لِزَجْرِهَا، وَكَهُجْرِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالشَّيْخِ مَعَ تِلْمِيذِهِ حَتَّى يُقْلِعَ الْمَهْجُورُ عَمَّا لِأَجْلِهِ الْهَجْرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ وَلَوْ زَادَتْ الْمُدَّةُ فَوْقَ شَهْرٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْحَدِيثِ أَنَّ هِجْرَانَ الثَّلَاثِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَوْ حَرُمَ الْهِجْرَانُ مُطْلَقًا لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ، لِأَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ قَلَّ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْ غَضَبٍ، فَالْهِجْرَان الْمُحَرَّمُ الزَّائِدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِلَيَالِيِهَا إذَا كَانَ لِغَيْرِ حَقِّ اللَّهِ وَلِغَيْرِ الْأَدَبِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَرَدَ: «أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تُفْتَحُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اُنْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» . وَلَمَّا قَدَّمَ حُرْمَةَ هِجْرَانِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّلَامُ) الْوَاقِعُ مِنْ مُرْتَكِبِ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ (يُخْرِجُهُ مِنْ) إثْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 مِنْ الْهِجْرَانِ وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ، وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ هِجْرَانُ ذِي الْبِدْعَةِ أَوْ مُتَجَاهَرٍ بِالْكَبَائِرِ لَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ أَوْ لَا يَقْبَلُهَا وَلَا غِيبَةَ فِي هَذَيْنِ فِي ذِكْرِ حَالِهِمَا وَلَا فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ لِنِكَاحٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] (الْهِجْرَانِ) إذَا قَصَدَ بِسَلَامِهِ الْخُرُوجَ مِنْ الْهِجْرَانِ، وَأَمَّا لَوْ لَمْ يَقْصِدْ ذَلِكَ فَلَا يَخْرُجُ بِهِ مِنْ الْهِجْرَانِ وَهُوَ نِفَاقٌ، وَإِذَا سَلَّمَ بِقَصْدِ الْخُرُوجِ مِنْ الْهِجْرَانِ فَإِنْ رَدَّ عَلَيْهِ الْآخَرُ خَرَجَا مِنْ الْهِجْرَانِ، وَإِنْ لَمْ يَرُدَّ خَرَجَ الْمُسَلِّمُ فَقَطْ، وَيُفْهَمُ مِنْ اشْتِرَاطِهِمْ قَصْدَ الْخُرُوجِ أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ غَيَّرَ مِنْ هَجْرِهِ هِجْرَانًا مُحَرَّمًا لَا يَخْرُجُ مِنْ الْإِثْمِ. (وَ) إذَا خَرَجَ مِنْ الْهِجْرَانِ بِسَلَامِهِ بِشَرْطِهِ. (لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتْرُكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ) بَلْ الْمُسْتَحَبُّ الِاسْتِرْسَالُ عَلَى كَلَامِهِ كُلَّمَا يَرَاهُ، لِأَنَّ تَرْكَ ذَلِكَ مُوجِبٌ لِإِسَاءَةِ الظَّنِّ بِبَقَائِهِ عَلَى الْهِجْرَانِ، وَصَرِيحُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ خَرَجَ مِنْ الْحُرْمَةِ بِمُجَرَّدِ السَّلَامِ، خِلَافًا لِمَنْ شَرَطَ فِي خُرُوجِهِ كَلَامَهُ مَعَ مُخَالَطَتِهِ، بَلْ إنْ تَرَكَ كَلَامَهُ بَعْدَ السَّلَامِ زِيَادَةً عَلَى ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيِهَا كَانَ هِجْرَانًا ثَانِيًا يَحْتَاجُ إلَى الْخُرُوجِ مِنْ إثْمِهِ، لِأَنَّ مَذْهَبَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا تَبْطُلُ بِمُعَاوَدَةِ الذَّنْبِ بَلْ يُجَدِّدُ التَّوْبَةَ لِمَا اقْتَرَفَ،. [الْهِجْرَانُ الْجَائِزُ] وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ الْمُحَرَّمَ مِنْ الْهِجْرَانِ إنَّمَا هُوَ مَا كَانَ لِحُظُوظِ الدُّنْيَا، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ يَجُوزُ إذَا كَانَ لِدَيْنِ اللَّهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْهِجْرَانُ الْجَائِزُ) أَيْ الْمَأْذُونُ فِيهِ فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ وَاجِبٌ (هِجْرَانُ ذِي) أَيْ صَاحِبِ (الْبِدْعَةِ) الْمُحَرَّمَةِ كَالْخَوَارِجِ وَسَائِرِ فَرْقِ الضَّلَالِ لِأَنَّ مُخَالَطَتَهُمْ تُؤَدِّي إلَى الْمُشَارَكَةِ، وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَصْحَبَ إلَّا أَصْحَابَ الْفَضْلِ، وَحَقِيقَةُ الْبِدْعَةِ إحْدَاثُ أَمْرٍ فِي الدِّينِ يُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ وَلَيْسَ مِنْهُ وَهُوَ قَرِيبٌ أَوْ مُسَاوٍ لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: الْبِدْعَةُ عِبَارَةٌ عَمَّا لَمْ يُعْهَدُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، وَقَيَّدْنَاهَا بِالْمُحَرَّمَةِ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهَا مُنْقَسِمَةٌ إلَى أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الْخَمْسَةِ: وَاجِبَةٌ كَتَدْوِينِ أُصُولِ الدِّينِ وَأُصُولِ الْفِقْهِ كَالْعَرَبِيَّةِ وَاللُّغَةِ لِأَنَّهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَيْهِمَا فَهْمُ الْكِتَابِ وَضَبْطُ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بِحِفْظِهَا وَكِتَابَتِهَا. وَمَنْدُوبَةٌ كَإِحْدَاثِ الْمَدَارِسِ وَالرَّبْطِ. وَمُحَرَّمَةٌ كَالِاعْتِزَالِ وَوَضْعِ الْمُكُوسِ. وَمَكْرُوهَةٌ كَتَطْوِيلِ الثِّيَابِ وَتَوْسِيعِهَا وَالتَّغَالِي فِي أَثْمَانِهَا لِغَيْرِ الْعُلَمَاءِ وَالْحُكَّامِ وَتَزْيِينِ الْخُيُولِ وَغَيْرِهَا فِي غَيْرِ الْجِهَادِ. وَمُبَاحَةٌ كَاِتِّخَاذِ الْمَنَاخِلِ وَالتَّوْسِيعِ فِي الْمَآكِلِ وَالْمَشَارِبِ. وَتَوَقَّفَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي حِلِّ هِجْرَانِ ذِي الْبِدْعَةِ الْمَكْرُوهَةِ وَيَظْهَرُ لِي عَدَمُ حِلِّ ذَلِكَ، لِأَنَّ الْهِجْرَانَ مُحَرَّمٌ فِي الْأَصْلِ وَلَا يُرْتَكَبُ الْمُحَرَّمُ لِأَجَلِ مَكْرُوهٍ هَذَا مَا ظَهَرَ لِي. (أَوْ) أَيْ وَمِنْ الْهِجْرَانِ الْجَائِزِ بِالْمَعْنَى السَّابِقِ هِجْرَانُ كُلِّ (مُتَجَاهِرٍ بِالْكَبَائِرِ) كَشُرْبِ الْخَمْرِ وَالزِّنَا وَشَهَادَةِ الزُّورِ وَالسَّرِقَةِ، وَإِنَّمَا يَقْتَصِرُ الْمُكَلَّفُ عَلَى هِجْرَانِ الْمُجَاهِرِ إذَا كَانَ (لَا يَصِلُ إلَى عُقُوبَتِهِ) أَيْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى زَجْرِهِ عَنْهَا إذَا كَانَ لَا يَتْرُكُهَا إلَّا بِالْعُقُوبَةِ. (وَلَا يَقْدِرُ عَلَى مَوْعِظَتِهِ) لِشِدَّةِ تَجَبُّرِهِ. (أَوْ) يَقْدِرُ لَكِنْ (لَا يُقَلِّبُهَا) لِعَدَمِ عَقْلٍ وَنَحْوِهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ يَتَمَكَّنُ مِنْ زَجْرِهِ عَنْ مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ بِعُقُوبَتِهِ بِيَدِهِ إنْ كَانَ حَاكِمًا أَوْ فِي وِلَايَتِهِ أَوْ يَرْفَعُهُ لِلْحَاكِمِ أَوْ بِمُجَرَّدِ وَعْظِهِ لَوَجَبَ عَلَيْهِ زَجْرُهُ وَإِبْعَادُهُ عَنْ فِعْلِ الْكَبَائِرِ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَرْكُهُ بِهَجْرِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُتَجَاهِرَ بِالْكَبَائِرِ لَا يَجِبُ هِجْرَانُهُ مَعَ بَقَائِهِ عَلَى مُخَالَطَةِ الْكَبَائِرِ إلَّا عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ زَجْرِهِ وَبَقِيَ حُكْمُ مَا إذَا كَانَ يَسْتَطِيعُ هِجْرَانَهُ لِخَوْفِهِ مِنْهُ بِعَدَمِ مَوَدَّتِهِ وَمُخَالَطَتِهِ وَالْحُكْمُ فِيهِ أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ مُدَاهَنَتُهُ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: إنَّا لَنَبَشُّ فِي وُجُوهِ قَوْمٍ وَإِنَّ قُلُوبَنَا لَتَلْعَنُهُمْ، يُرِيدُ بِهِمْ الظَّلَمَةَ وَالْفَسَقَةَ الَّذِينَ يُتَّقَى شَرُّهُمْ، يَتَبَسَّمُ فِي وُجُوهِهِمْ وَيُشْكَرُونَ بِكَلِمَاتٍ مُحِقَّةٍ، فَإِنَّهُ مَا مِنْ أَحَدٍ إلَّا وَفِيهِ صِفَةٌ تُشْكَرُ وَلَوْ كَانَ أَخْبَثَ النَّاسِ، فَيُقَالُ لَهُ ذَلِكَ اتِّقَاءً لِشَرِّهِ، وَلَا يُقَالُ: الْمُدَاهَنَةُ حَرَامٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْمُحَرَّمُ قَدْ يُبَاحُ لِلضَّرُورَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمُدَاهَنَةَ وَهِيَ بَذْلُ الدِّينِ لِإِصْلَاحِ الدُّنْيَا حَرَامٌ، كَشُكْرِ ظَالِمٍ عَلَى ظُلْمِهِ لِيَعْظُمَ عِنْدَهُ مُحَرَّمُهُ. وَقَدْ تَعْرِضُ لَهَا مَا يُوجِبُهَا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى دَفْعِ مَفْسَدَةٍ لَا تَنْدَفِعُ إلَّا بِهَا، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهَا مَا يَقْتَضِي نَدْبُهَا إنْ كَانَ يَتَوَصَّلُ بِهَا إلَى مَنْدُوبٍ، وَقَدْ تَكُونُ مَكْرُوهَةً إنْ كَانَتْ لِمُجَرَّدِ الضَّعْفِ وَالْجُبْنِ لَا لِضَرُورَةٍ تَقْتَضِيهَا فَلَيْسَتْ مُحَرَّمَةً مُطْلَقًا، خِلَافًا لِمَا يَتَوَهَّمُهُ بَعْضُ النَّاسِ، وَأَمَّا الْمُدَارَاةُ وَهِيَ بَذْلُ الدُّنْيَا لِإِصْلَاحِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ فَجَائِزَةٌ مَشْرُوعَةٌ دَلَّ عَلَى مَشْرُوعِيَّتِهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أُمِرَتْ بِمُدَارَاةِ النَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِالْفَرَائِضِ فَهِيَ صَدَقَةٌ» وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ لَا إثْمَ فِي هِجْرَانِ الْمُبْتَدِعِ وَذِي الْكَبَائِرِ الْمُتَجَاهِرِ بِهَا ذَكَرَ أَنَّهُ لَا تَحْرُمُ غِيبَتُهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَلَا غِيبَةَ) مُحَرَّمَةً (فِي هَذَيْنِ) اللَّذَيْنِ يَجُوزُ هِجْرَانُهُمَا وَهُمَا الْمُبْتَدِعُ وَالْمُتَجَاهِرُ بِكَبَائِرِهِ. (فِي) أَيْ بِسَبَبِ (ذِكْرِ حَالِهِمَا) فَيَجُوزُ ذِكْرُهُمَا بِبَيَانِ حَالِهِمَا بِأَنْ يُقَالَ فِي الْمُبْتَدِعِ: فُلَانٌ اعْتِقَادُهُ بَاطِلٌ لِمُخَالِفَتِهِ أَهْلَ السُّنَّةِ، أَوْ فُلَانٌ مُعْتَزِلِيٌّ، وَفِي حَقِّ الْمُتَجَاهِرِ فُلَانٌ مُصِرٌّ عَلَى الْكَبَائِرِ وَلَا يُبَالِي مِنْ الْخَلْقِ وَنَحْوُ ذَلِكَ، وَلَكِنْ لَا تَحِلُّ غِيبَةُ هَذَيْنِ إلَّا إذَا كَانَ الْمُبْتَدِعُ مُتَجَاهِرًا بِبِدْعَتِهِ، كَمَا أَنَّ الْفَاسِقَ مُتَجَاهِرٌ بِكَبَائِرِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ كُلٍّ بِمَا يَتَجَاهَرُ بِهِ، وَيَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِغَيْرِهِ مِنْ الْعُيُوبِ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِجَوَازِهِ وَجْهٌ آخَرُ مِمَّا سَنَذْكُرُهُ، هَذَا كَلَامُ النَّوَوِيِّ وَنَحْوُهُ قَوْلُ الْقَرَافِيِّ الْمُعْلِنُ بِالْفُسُوقِ، وَكَقَوْلِ امْرِئِ الْقِيس: فَمِثْلُك حُبْلَى قَدْ طُرِقَتْ وَمُرْضِعٌ. فَيَفْتَخِرُ بِالزِّنَا فِي شِعْرِهِ، فَلَا يَضُرُّ أَنْ يُحْكَى ذَلِكَ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَلَّمُ إذَا سَمِعَهُ بَلْ يُسَرُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 مُخَالَطَةٍ وَنَحْوِهِ وَلَا فِي تَجْرِيحِ شَاهِدٍ وَنَحْوِهِ. وَمِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَنْ تَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَك وَتُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك وَتَصِلَ   [الفواكه الدواني] بِتِلْكَ الْمَخَازِي، وَالْغِيبَةُ إنَّمَا حَرُمَتْ لِحَقِّ الْمُغْتَابِ وَتَأَلُّمِهِ بِذَكَرِ الْمَكَارِهِ وَهَذَا لَا يَتَأَلَّمُ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ الْمُعْلِنُ بِنَحْوِ الْمَكْسِ وَتَمَدُّحُهُ بِأَخْذِهِ مِنْ الظَّلَمَةِ وَالْمُلُوكِ وَقَهْرِهِمْ فَلَا يَحْرُمُ ذِكْرُهُ بِذَلِكَ، مِثْلُ اللِّصِّ الَّذِي يَتَجَاهَرُ بِسَرِقَتِهِ وَيَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَا يَتَأَذَّوْنَ بِسَمَاعِ تِلْكَ الْمَخَازِي فِيهِمْ بَلْ يُسَرُّونَ، انْتَهَى كَلَامُ الْقَرَافِيِّ. قَالَ اللَّقَانِيُّ وَغَيْرُهُ: لَا يُقَالُ اشْتِرَاطُ الْإِعْلَانِ وَالْمُجَاهَرَةِ يُخَالِفُهُ إطْلَاقُ حَدِيثِ «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ جَوَازُ غِيبَةِ الْفَاسِقِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُعْلِنًا بِفِسْقِهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتِ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَوْ سَلِمَتْ صِحَّتُهُ يَجِبُ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا اُغْتِيبَ بِجِنْسِ مَا بِهِ فِسْقٌ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ وَمُجَاهَرَتِهِ بِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، أَمَّا بَعْدَ التَّوْبَةِ أَوْ لَمْ يَتَجَاهَرْ بِهِ فَلَا تَجُوزُ غِيبَتُهُ، وَلَا يَجُوزُ حَمْلُ الْحَدِيثِ عَلَى إطْلَاقِهِ اتِّفَاقًا، وَظَاهِرُ كَلَامِ اللَّقَانِيِّ كَظَاهِرِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ غِيبَةِ هَذَيْنِ بِمَا تَجَاهَرَا بِهِ سَوَاءٌ سُئِلَ عَنْهُمَا أَمْ لَا، وَقَيَّدَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ الْجَوَازَ بِمَا إذَا سُئِلَ عَنْ حَالِهِمَا أَوْ قَصَدَ بِذَكَرِ حَالِهِمَا تَحْذِيرَ النَّاسِ مِنْهُمَا مَخَافَةَ أَنْ تُنْسَبَ النَّاسُ لِمِثْلِ طَرِيقَتِهِمَا وَالرِّضَا بِهَا. (وَلَا) تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا (فِيمَا يُشَاوَرُ فِيهِ) الْإِنْسَانُ (كَنِكَاحٍ) بِأَنْ يَقُولَ شَخْصٌ لِآخَرَ: أُرِيدُ أَنْ أَتَزَوَّجَ بِنْتَ فُلَانٍ وَلَا أَعْرِفُ فَيَجُوزُ حَالُهُ فَيَجُوزُ لَهُ ذِكْرُ حَالِهِ بِقَصْدِ النَّصِيحَةِ لَا لِغَيْرِ ذَلِكَ، دَلَّ عَلَى الْجَوَازِ فِعْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَإِنَّهُ ذَكَرَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ مَا فِي مُعَاوِيَةَ وَأَبِي جَهْمٍ حِينَ خَطَبَاهَا فَقَالَ لَهَا: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ الْعَصَا عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ» . وَالْجَوَازُ هُنَا مَعَ النَّدْبِ عِنْدَ عَدَمِ السُّؤَالِ عَلَى كَلَامِ الْقُرْطُبِيِّ وَكَلَامِ غَيْرِهِ كَالْقَرَافِيِّ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ مُطْلَقًا، لِأَنَّ النَّصِيحَةَ وَاجِبَةٌ حَيْثُ مَسَّتْ الْحَاجَةُ إلَيْهَا بِأَنْ كَانَ الْمَنْصُوحُ شَرَعَ فِي فِعْلِ تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَكُونَ هُنَاكَ مَنْ يُعْرَفُ حَالُهُ أَمْ لَا عَلَى الصَّوَابِ، لَكِنْ شَرَطَ الْقَرَافِيُّ فِي الْجَوَازِ أَنْ يَقْتَصِرَ النَّاصِحُ عَلَى ذِكْرِ الْوَصْفِ الْمُخِلِّ بِتِلْكَ الْمَصْلَحَةِ فَلَا يَتَجَاوَزُهُ لِعَيْبٍ آخَرَ، فَإِذَا اسْتَشَارَهُ فِي النِّكَاحِ فَلَا يَذْكُرُ لَهُ عَيْبًا فِي نَحْوِ الشَّرِكَةِ. (أَوْ) أَيْ وَلَا تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا فِي ذِكْرِ عُيُوبِ شَخْصٍ سُئِلَ عَنْهُ لِأَجْلِ (مُخَالَطَةٍ) مُشَارَكَةٍ أَوْ سَفَرٍ لِتِجَارَةٍ. (وَنَحْوِهِ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ النِّكَاحِ وَالْمُخَالَطَةِ، كَالْمُشَاوَرَةِ فِي التَّصَدُّقِ عَلَيْهِ أَوْ لِيَسْتَأْجِرَهُ لِلْخِدْمَةِ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَخْفَى عَلَى السَّائِلِ وَيَحْتَاجُ إلَى مِنْ يَنْصَحُهُ فِيهِ. (وَلَا) تَحْرُمُ الْغِيبَةُ أَيْضًا (فِي) ذِكْرِ أَوْصَافٍ لِأَجْلِ (تَجْرِيحِ شَاهِدٍ) لِرَدِّ شَهَادَتِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ حَاكِمٍ وَعِنْدَ تَوَقُّعِ الْحُكْمِ بِشَهَادَتِهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبِلِ، أَمَّا عِنْدَ غَيْرِ الْحَاكِمِ فَيَحْرُمُ التَّجْرِيحُ لِعَدَمِ الْحَاجَةِ قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَالضَّمِيرُ فِي (وَنَحْوِهِ) لِلشَّاهِدِ كَرَاوِي الْحَدِيثِ يُذْكَرُ حَالُهُ لِيُتْرَكَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِهِ الَّذِي لَا يُعْلَمُ إلَّا مِنْهُ، وَإِنَّمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِطَلَبَةِ الْعِلْمِ الَّذِينَ يَنْتَفِعُونَ بِالْبَيَانِ، وَكَذَا لَا غِيبَةَ فِي ذِكْرِ أَوْصَافِ مَنْ يُرَادُ تَقْدِيمُهُ لِصَلَاةٍ وَحَصَلَ السُّؤَالُ عَنْ بَيَانِ حَالِهِ، فَيَجُوزُ ذِكْرُ وَصْفِهِ الَّذِي يُكْرَهُ لِلتَّنْفِيرِ مِنْ تَقْدِيمِهِ، كَمَا يَجُوزُ ذِكْرُ حَالِ مَنْ يُتَظَلَّمُ مِنْهُ لِنَحْوِ سُلْطَانٍ أَوْ لِأَجْلِ تَعْيِينِ شَخْصٍ لِكَوْنِهِ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِذَلِكَ نَحْوَ الْأَعْرَجِ وَالْأَعْمَشِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ إلَّا بِذَلِكَ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُهُمْ الْمَوَاضِعَ الَّتِي تَجُوزُ فِيهَا الْغِيبَةُ فِي بَيْتٍ غَيْرِ مَا قَدَّمْنَاهُ حَيْثُ قَالَ: تَظَلَّمْ وَاسْتَغِثْ وَاسْتَفْتِ حَذِّرْ ... وَعَرِّفْ بِدْعَةً فِسْقَ الْمُجَاهِرْ فَيَجُوزُ لِلْمَظْلُومِ التَّظَلُّمُ وَالشَّكْوَى مِنْ الظَّالِمِ لِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ ظُلْمِهِ بِذِكْرِ قَبَائِحِهِ الَّتِي فَعَلَهَا مَعَ الْمَظْلُومِ، وَكَذَا يَجُوزُ لَهُ الِاسْتِعَانَةُ بِمَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى إزَالَةِ مُنْكَرٍ وَقَعَ مِنْ شَخْصٍ وَيَقُولُ لِمَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ: حَصَلَ مِنْ فُلَانٍ كَذَا فَأَعِنِّي عَلَى زَجْرِهِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ قَصْدُهُ بِذَلِكَ إزَالَةَ الْمُنْكَرِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ، وَكَذَا يَجُوزُ لِلْمُسْتَفْتِي أَنْ يَقُولَ لِلْمُفْتِي: فُلَانٌ قَالَ لِي كَذَا، وَالتَّحْذِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الشِّرَاءِ كَمَا لَوْ أَرَادَ شَخْصٌ شِرَاءَ عَبْدٍ وَأَنْتَ تَعْرِفُ أَنَّهُ مَشْهُورٌ بِالسَّرِقَةِ أَوْ أَنَّهُ حُرٌّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهُ ذِكْرُ وَصْفِهِ لِمَا يَلْحَقُ الْمُشْتَرِيَ مِنْ الضَّرَرِ. وَكَذَا تَجُوزُ الْغِيبَةُ لِبَيَانِ الْبِدْعَةِ كَمَا لَوْ رَأَيْت فَقِيهًا يَتَرَدَّدُ عَلَى مُبْتَدَعٍ أَوْ فَاسِقٍ لِيَأْخُذَ عَنْهُ الْعِلْمَ وَخِفْت أَنْ يَنْقُلَ عَنْهُ خِلَافَ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ لِلْعَمَلِ بِهِ، فَيَجِبُ عَلَيْك بَيَانُ حَالِهِ كُلُّ ذَلِكَ بِقَصْدِ النَّصِيحَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا مُعْظَمَ ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ آدَابٍ مِنْ أَخْلَاقِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تُطْلَبُ مِنْ الْعَاقِلِ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا فَقَالَ: [مَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ] (وَمِنْ مَكَارِمِ) أَيْ مَحَاسِنِ (الْأَخْلَاقِ أَنْ تَعْفُوَ) أَيْ تَصْفَحَ (عَنْ) زَلَّةِ (مَنْ ظَلَمَك) وَتَعَدَّى عَلَيْك بِشَتْمٍ أَوْ ضَرْبٍ أَوْ أَخْذِ مَالٍ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ} [آل عمران: 134] وَقَالَ أَيْضًا: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} [الشورى: 40] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ الصَّرِيحَةِ فِي مَدْحِ مَنْ يَصْفَحُ عَنْ زَلَّةِ غَيْرِهِ. (وَ) مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَيْضًا أَنْ (تُعْطِيَ مَنْ حَرَمَك) شَيْئًا مِنْ الْمَالِ أَوْ غَيْرِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 مَنْ قَطَعَك، وَجِمَاعُ آدَابِ الْخَيْرِ وَأَزِمَّتِهِ تَتَفَرَّعُ عَنْ أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ قَوْلُ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تُرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لِلَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ لَا تَغْضَبُ وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» ، وَلَا يَحِلُّ لَك أَنْ تَتَعَمَّدَ سَمَاعَ الْبَاطِلِ كُلِّهِ وَلَا أَنْ تَتَلَذَّذَ بِسَمَاعِ كَلَامِ امْرَأَةٍ لَا تَحِلُّ لَك وَلَا سَمَاعِ شَيْءٍ مِنْ الْمَلَاهِي وَالْغِنَاءِ وَلَا قِرَاءَةُ   [الفواكه الدواني] مِمَّا يَطْلُبُهُ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ كَإِفَادَتِهِ عِلْمًا مَثَلًا وَلَوْ لَمْ يَطْلُبْ مِنْك بَلْ هُوَ أَدَلُّ عَلَى الْإِخْلَاصِ. (وَ) مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ أَيْضًا أَنْ (تَصِلَ) مَوَدَّةَ (مَنْ قَطَعَك) وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَرْحَامِك لِخَبَرِ: «أَمَرَنِي رَبِّي أَنْ أَصِلَ مَنْ قَطَعَنِي، وَأُعْطِيَ مَنْ حَرَّمَنِي، وَأَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنِي» . وَقَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: وَهَذِهِ الْخِصَالُ الثَّلَاثُ تَفْسِيرُ قَوْله تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] وَالْحَدِيثُ صَرِيحٌ كَالْمُصَنِّفِ فِي نَدْبِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ، وَقَدْ يَعْرِضُ مَا يُوجِبُ الصَّفْحَ كَمَا إذَا كَانَ الْمَظْلُومُ يَتَوَقَّعُ مَفْسَدَةً مِنْ الظَّالِمِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَفْوِ وَهُوَ مُشَاهَدٌ مَعَ كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَمَنْ نُحِبُّ مِنْ الشُّرُورِ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ الْعَمَلُ بِالْخِصَالِ الثَّلَاثِ السَّابِقَةِ، شَرَعَ فِي ذِكْرِ أَحَادِيثَ دَالَّةٍ عَلَى بَيَانِ مَا يَصِيرُ بِهِ الْعَاقِلُ مُتَّبِعًا لِطَرِيقَةِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - وَمُتَخَلِّقًا بِأَخْلَاقِهِ بِحَيْثُ يَصِيرُ كَامِلَ الْإِيمَانِ بِقَوْلِهِ: (وَجِمَاعُ) أَيْ جَمِيعُ (آدَابِ الْخَيْرِ) كُلُّهَا الظَّاهِرَةُ وَالْبَاطِنَةُ. (وَأَزِمَّتِهِ) أَيْ الْخَيْرِ وَالْمُرَادُ بِآدَابِ الْخَيْرِ الْخِصَالُ الْحَمِيدَةُ، سُمِّيَتْ بِالْآدَابِ جَمْعُ أَدَبٍ لِأَنَّ بِهَا يَحْصُلُ التَّأْدِيبُ، إذْ يَحْصُلُ تَأْدِيبُ الظَّاهِرِ بِفِعْلِ الْمَأْمُورَاتِ، وَتَأْدِيبُ الْبَاطِنِ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ الْمَنْهِيَّاتِ، وَالْمُرَادُ بِأَزِمَّتِهِ جَمْعُ زِمَامٍ الطَّرِيقُ الْمُوَصِّلَةُ إلَيْهِ، وَالزِّمَامُ فِي الْأَصْلِ مَا يُقَادُ بِهِ الْبَعِيرُ، أُطْلِقَتْ هُنَا عَلَى الطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ لِلْخَيْرِ عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ، لِأَنَّ كُلًّا يَقُودُ إلَى مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْمُقَادُ. (تَتَفَرَّعُ) خَبَرُ جِمَاعُ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً وَمَا عُطِفَ عَلَيْهِ، وَالْمَعْنَى: وَجَمْعُ خِصَالِ الْخَيْرِ وَالطُّرُقِ الْمُوَصِّلَةِ إلَيْهِ تَنْشَأُ (عَنْ) الْعَمَلِ بِمَضْمُونِ (أَرْبَعَةِ أَحَادِيثَ) جَمْعُ حَدِيثٍ وَهُوَ مَا أُضِيفَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلًا أَوْ فِعْلًا أَوْ صِفَةً، أَحَدُهَا: (قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» بِضَمِّ الْمِيمِ وَسُمِعَ فِيهِ الْكَسْرُ، وَالْمُرَادُ فَلْيَقُلْ خَيْرًا يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَلِيَصْمُتْ عَنْ شَرٍّ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ، وَمَا فِي الْمُصَنَّفِ بَعْضُ حَدِيثٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَتَمَامُهُ: «وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» . (وَ) ثَانِيهَا: (قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -) فِي الْمُوَطَّإِ: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ» الْمُرَادُ الشَّخْصُ وَلَوْ أُنْثَى «تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه» يَعْنِي مَا لَا تَعُودُ عَلَيْهِ مِنْهُ مَنْفَعَةٌ لِدِينِهِ وَلَا لِدُنْيَاهُ الْمُوَصِّلَةُ لِآخِرَتِهِ وَمَا يَعْنِيه عَكْسُهُ. (وَ) ثَالِثُهَا: (قَوْلُهُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ، وَ (السَّلَامُ) فِي الْبُخَارِيِّ (الَّذِي اخْتَصَرَ لَهُ فِي الْوَصِيَّةِ) «حِينَ سَأَلَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي كَلِمَاتٍ أَعِشْ بِهِنَّ وَلَا تُكْثِرْ عَلَيَّ فَأَنْسَى، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لَا تَغْضَبْ» أَيْ لَا تَعْمَلْ مُوجِبَاتِ الْغَضَبِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ النَّهْيُ عَنْ الْغَضَبِ جُمْلَةً لِأَنَّ الْإِنْسَانَ مَجْبُولٌ عَلَى الْغَضَبِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَنْ اُسْتُغْضِبَ فَلَمْ يَغْضَبُ فَهُوَ حِمَارٌ، وَمَنْ اُسْتُرْضِيَ فَلَمْ يَرْضَ فَهُوَ شَيْطَانٌ، وَوَرَدَ: «إذَا غَضِبْت وَأَنْتَ قَائِمٌ فَاقْعُدْ، وَإِذَا كُنْت قَاعِدًا فَاضْطَجِعْ أَوْ تَوَضَّأَ لِأَنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَالشَّيْطَانُ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَطَفْؤُهَا يَكُونُ بِالْمَاءِ» وَلَعَلَّ اقْتِصَارَ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَلَى الْغَضَبِ لِأَنَّ السَّائِلَ لَهُ كَانَ يُكْثِرُ الْغَضَبَ، وَمَعْنَى أَعِشْ بِهِنَّ أَسْتَعِنْ عَلَى عِيشَتِي، أَوْ الْمُرَادُ أَتَأَنَّسُ بِهِنَّ فِي حَيَاتِي. (وَ) رَابِعُهَا: (قَوْلُهُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ «الْمُؤْمِنُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ الْمُؤْمِنِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وَفِي رِوَايَةٍ: أَوْ لِجَارِهِ عَلَى الشَّكِّ. وَفِي الْحَدِيثِ أَيْضًا: «اتَّقِ الْمَحَارِمَ تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَارْضَ بِمَا قَسَمَ اللَّهُ تَكُنْ أَغْنَى النَّاسِ، وَأَحْسِنْ إلَى جَارِك تَكُنْ مُؤْمِنًا، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِك تَكُنْ مُسْلِمًا، وَلَا تُكْثِرْ الضَّحِكَ فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ يُمِيتُ الْقَلْبَ» . وَمَعْنَى لَا يُؤْمِنُ الْإِيمَانَ التَّامَّ وَإِلَّا فَأَصْلُ الْإِيمَانِ حَاصِلٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهَذِهِ الصِّفَةِ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّ لِأَخِيهِ مِنْ الطَّاعَاتِ وَالْأَشْيَاءِ الْمُبَاحَةِ كَمَا جَاءَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ مِنْ الْخَبَرِ، وَالْمُرَادُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ لِأَخِيهِ مِثْلُ مَا لَهُ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ مِنْهُ فِي الْمَرْتَبَةِ وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يُحِبُّهُ الْإِنْسَانُ لِنَفْسِهِ، لِأَنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ أَعْظَمَ النَّاسِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ عَسِيرِ هَذَا إلَّا عَلَى مَنْ وَفَّقَهُ اللَّهُ تَعَالَى. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَنْبَغِي التَّخَلُّقُ بِهِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَعَدَمُ التَّلَبُّسِ بِهِ فَقَالَ: [سَمَاعَ الْأَمْرِ الْبَاطِلِ] (وَلَا يَحِلُّ لَك) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ (أَنْ تَتَعَمَّدَ سَمَاعَ) الْأَمْرِ (الْبَاطِلِ كُلِّهِ) كَالشَّهَادَةِ الْبَاطِلَةِ أَوْ الْغِيبَةِ أَوْ النَّمِيمَةِ أَوْ الْقَذْفِ، بَلْ يَجِبُ عَلَى مَنْ طَرَقَ سَمْعَهُ شَيْءٌ مِنْهُ النَّهْيُ عَنْهُ بِلِسَانِهِ وَيَدِهِ وَإِنْ قَدَرَ وَإِلَّا فَبِقَلْبِهِ وَمُفَارَقَةُ الْمَجْلِسِ إنْ اسْتَطَاعَ، وَأَمَّا لَوْ نَهَى بِلِسَانِهِ وَقَلْبُهُ مُشْتَهِي الِاسْتِمْرَارِ عَلَى ذَلِكَ فَحَرَامٌ كَمَا هُوَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الْقُرْآنِ بِاللُّحُونِ الْمُرَجَّعَةِ كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ وَلْيُجَلَّ كِتَابُ اللَّهِ الْعَزِيزِ أَنْ يُتْلَى إلَّا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ وَمَا يُوقَنُ أَنَّ اللَّهَ يَرْضَى بِهِ وَيُقَرِّبُ مِنْهُ مَعَ إحْضَارِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ. وَمِنْ الْفَرَائِضِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ فِي الْأَرْضِ وَعَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُ يَدُهُ إلَى ذَلِكَ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ فَبِقَلْبِهِ وَفُرِضَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ أَنْ يُرِيدَ   [الفواكه الدواني] مُشَاهَدٌ الْيَوْمَ لِبَعْضِ النَّاسِ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا (أَنْ تَتَلَذَّذَ بِسَمَاعِ كَلَامِ امْرَأَةٍ) وَلَوْ بِالْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَتْ (لَا تَحِلُّ لَك) وَلِذَلِكَ يُطْلَبُ مِنْ الْمَرْأَةِ الْإِسْرَارَ بِقِرَاءَتِهَا وَلَوْ فِي الصَّلَاةِ الْجَهْرِيَّةِ وَلَوْ عِنْدَ مَحْرَمِهَا، وَمِثْلُ الْمَرْأَةِ فِي حُرْمَةِ التَّلَذُّذِ بِكَلَامِهَا الْأَمْرَدُ، وَأَمَّا سَمَاعُ كَلَامِهَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ تَلَذُّذٍ بِهِ فَلَا شَكَّ فِي جَوَازِهِ، وَأَمَّا قَصْدُ الِالْتِذَاذِ بِكَلَامِ مَنْ تَحِلُّ مِنْ زَوْجَةٍ أَوْ أَمَةٍ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ مِنْ نَوْعِ مَا لَا يَصْدُرُ إلَّا مِنْ الزَّوْجَةِ وَحَرَّرَهُ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا أَنْ تَتَعَمَّدَ (سَمَاعَ شَيْءٍ مِنْ الْمَلَاهِي) كَالْمِزْمَارِ وَالطُّنْبُورِ وَالْعُودِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْغِرْبَالُ وَهُوَ الدُّفُّ الْمَعْرُوفُ بِالطَّارِّ فَإِنَّهُ يَجُوزُ فِعْلُهُ وَسَمَاعُهُ فِي النِّكَاحِ. قَالَ خَلِيلٌ مُخْرِجًا مِنْ الْكَرَاهَةِ لَا الْغِرْبَالَ وَلَوْ لِرَجُلٍ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ مُوَافِقٌ لِإِطْلَاقِ الْمُتَقَدِّمِينَ وَلَوْ كَانَ فِيهِ جَلَاجِلُ أَوْ صَرَاصِيرُ كَمَا فِي الْأُجْهُورِيِّ، وَأَمَّا الْكِبْرُ وَهُوَ الطَّبْلُ الْكَبِيرُ وَالْمِزْهَرُ فَفِيهِمَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ أَشَارَ إلَيْهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي الْكِبْرِ وَالْمِزْهَرِ ثَالِثُهَا يَجُوزُ فِي الْكِبْرِ ابْنُ كِنَانَةَ وَتَجُوزُ الزَّمَّارَةُ وَالْبُوقُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ خَلِيلٍ وَغَيْرِهِ الْمَنْعُ فِي غَيْرِ الْعُرْسِ لِخَبَرِ «كُلُّ لَهْوٍ يَلْهُو بِهِ الْمُؤْمِنُ بَاطِلٌ إلَّا مُلَاعَبَةَ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ وَتَأْدِيبَهُ فَرَسَهُ وَرَمْيَهُ عَنْ قَوْسِهِ» وَالْبَاطِلُ خِلَافُ الْحَقِّ فَيَكُونُ مَنْهِيًّا عَنْهُ، وَالْأَصْلُ فِي النَّهْيِ التَّحْرِيمُ. وَبَحَثَ الْغَزَالِيُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِهَذَا الْخَبَرِ عَلَى حُرْمَةِ سَمَاعِ الْمَلَاهِي إذْ غَايَةُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَى سَمَاعِهَا عَدَمُ الْفَائِدَةِ. وَيُؤَيِّدُ بَحْثَ الْغَزَالِيِّ قَوْلُ الْفَاكِهَانِيِّ مِنْ عُلَمَائِنَا: لَا أَعْلَمُ فِي كِتَابِ اللَّهِ آيَةً صَرِيحَةً وَلَا فِي السُّنَّةِ حَدِيثًا صَحِيحًا صَرِيحًا فِي تَحْرِيمِ الْمَلَاهِي، وَإِنَّمَا هِيَ ظَوَاهِرُ وَعُمُومَاتٌ تُوهِمُ الْحُرْمَةَ لَا أَدِلَّةٌ قَطْعِيَّةٌ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا سَمَاعُ (الْغِنَاءِ) بِكَسْرِ الْغَيْنِ وَالْمَدِّ وَهُوَ الصَّوْتُ الْمُتَقَطِّعُ الَّذِي فِيهِ تَرَنُّمٌ لِتَحْرِيكِ الْقَلْبِ وَالْمُحَرَّمُ سَمَاعُهُ مَا كَانَ بِآلَةٍ وَمِمَّنْ يُلْتَذُّ بِصَوْتِهِ وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا. قَالَ عِيَاضٌ فِي الْإِكْمَالِ: صِفَةُ الْغِنَاءِ الَّذِي مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ مَا كَانَ مِنْ أَشْعَارِ الْعَرَبِ لِلتَّهْيِيجِ عَلَى فِعْلِ الْكَرْمِ وَالْمُفَاخَرَةِ بِالشَّجَاعَةِ وَالْغَلَبَةِ، وَالْمُحَرَّمُ مَا كَانَ مُشَوِّقًا لِفِعْلِ الْفَوَاحِشِ وَمُشْتَمِلًا عَلَى تَكَسُّرٍ أَوْ فِعْلِ شَيْءٍ مِمَّا لَا يَحِلُّ كَالتَّشْبِيبِ بِأَهْلِ الْجَمَالِ، وَقَالَ بَهْرَامَ فِي الشَّامِلِ: وَتُرَدُّ شَهَادَةُ الْمُغَنِّي وَالْمُغَنِّيَةِ وَالنَّائِحِ وَالنَّائِحَةِ، وَسَمَاعُ الْعُودِ حَرَامٌ عَلَى الْأَصَحِّ إلَّا فِي عُرْسٍ أَوْ صَنِيعٍ لَيْسَ فِيهِ شَرَابٌ مُسْكِرٌ فَإِنَّهُ يُكْرَهُ فَقَطْ انْتَهَى، وَغَيْرُ الْعُودِ مِنْ بَقِيَّةِ الْآلَاتِ الَّتِي يُلْعَبُ بِهَا يَجْرِي فِيهَا مَا فِي الْعُودِ، وَأَمَّا سَمَاعُ الْمُتَصَوِّفَةِ الْمَعْرُوفُ بِالتَّحْزِينَةِ فَالْمَشْهُورُ جَوَازُهُ حَيْثُ يَحْصُلُ بِالسَّمَاعِ إرْشَادٌ أَوْ زِيَادَةُ يَقِينٍ أَوْ غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا يُطْلَبُ شَرْعًا، وَلَمْ يَشْتَمِلْ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا يُنْكَرُ كَاجْتِمَاعِ نِسَاءٍ أَوْ صِبْيَانٍ يُتَوَقَّعُ الِالْتِذَاذُ بِهِمْ وَإِلَّا مُنِعَ، وَاعْلَمْ أَنْ مَا لَا يَحِلُّ سَمَاعُهُ لَا يَحِلُّ فِعْلُهُ عَلَى مَا يَظْهَرُ، وَأَمَّا الْغِنَى بِالْكَسْرِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ الْيَسَارُ، وَأَمَّا بِالْفَتْحِ وَالْقَصْرِ فَهُوَ النَّفْعُ. (وَلَا) يَحِلُّ لَك أَيْضًا (قِرَاءَةُ) شَيْءٍ مِنْ (الْقُرْآنِ بِاللُّحُونِ الْمُرَجَّعَةِ) أَيْ الْأَصْوَاتِ الَّتِي يُرَجِّعُهَا الْقَارِئُ. (كَتَرْجِيعِ الْغِنَاءِ) وَالْمُرَادُ بِعَدَمِ الْحِلِّ الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنْ يُخْرِجَهُ التَّرْجِيعُ عَنْ حَدِّ الْقِرَاءَةِ، كَقَصْرِ الْمَمْدُودِ وَمَدِّ الْمَقْصُورِ، وَكَمَا لَا تَحِلُّ الْقِرَاءَةُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ لَا يَحِلُّ سَمَاعُهَا، لِأَنَّ الْقُرْآنَ يُطْلَبُ تَنْزِيهُهُ عَنْ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ، وَأَمَّا قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ بِالصَّوْتِ الْحَسَنِ مَعَ النَّغَمَاتِ الْمَعْرُوفَةِ بِنَحْوِ عُشَّاقٍ مَعَ تَجْوِيدِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، بَلْ يُكْسِبُ السَّامِعَ الْخُشُوعَ وَالِاتِّعَاظَ بِكَلِمَاتِ الْقُرْآنِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَتَغَنَّ بِالْقُرْآنِ» لِأَنَّ مَعْنَاهُ لَيْسَ مِنَّا مِنْ لَمْ يَتَلَذَّذْ بِسَمَاعِهِ لِرِقَّةِ قَلْبِهِ وَشَوْقِهِ إلَى مَا عِنْدَ رَبِّهِ، كَمَا يُلْتَذُّ أَهْلُ الْغَوَانِي بِسَمَاعِ غَوَانِيهِمْ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْوَاجِبُ احْتِرَامُ الْقُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْمَشْرُوعِ وَلِذَلِكَ قَالَ: (وَلِيُجِلَّ كِتَابَ اللَّهِ الْعَزِيزِ) أَيْ يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْ (أَنْ يُتْلَى إلَّا بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ) أَيْ طُمَأْنِينَةٍ وَتَعْظِيمٍ. (وَ) يَقْرَؤُهُ الْقَارِئُ عَلَى (مَا يُوقِنُ أَنَّ اللَّهَ) تَعَالَى (يَرْضَى بِهِ) مِنْ الْأَحْوَالِ (وَيُقَرِّبُ) بِشَدِّ الرَّاءِ (مِنْهُ) بِأَنْ يَقْرَأَهُ عَلَى طَهَارَةٍ وَفِي مَكَان طَاهِرٍ وَمِنْ جُلُوسٍ وَهُوَ مُسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةِ، وَ (مَعَ إحْضَارِ الْفَهْمِ لِذَلِكَ) الَّذِي يَتْلُوهُ بِأَنْ يُلَاحِظَ أَنَّهُ الْمَنْهِيُّ عِنْدَ آيَةِ النَّهْيِ، وَأَنَّهُ الْمَأْمُورُ عِنْدَ آيَةِ الْأَمْرِ، لِمَا وَرَدَ أَنَّهُ: «لَا خَيْرَ فِي قِرَاءَةٍ لَا تَدَبُّرَ فِيهَا» . [الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ] (وَمِنْ الْفَرَائِضِ) عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ (الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ) وَالْمُرَادُ بِالْمَعْرُوفِ كُلُّ مَا أَمَرَ اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ بِهِ، وَالْمُنْكَرُ كُلُّ مَا نَهَى اللَّهُ أَوْ رَسُولُهُ عَنْهُ، وَقَدَّمَ الْمَعْرُوفَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدَّمَهُ عَلَى الْمُنْكَرِ عِنْدَ ذِكْرِهِمَا، وَأَيْضًا أَمَرَ إبْلِيسَ بِالسُّجُودِ أَوَّلًا وَنَهَى آدَمَ بَعْدَهُ عَنْ أَكْلِ الشَّجَرَةِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ الْمَذْكُورَانِ (عَلَى كُلِّ مَنْ بُسِطَتْ يَدُهُ) أَيْ انْتَشَرَ حُكْمُهُ (فِي الْأَرْضِ) لِكَوْنِهِ سُلْطَانًا أَوْ أَمِيرًا أَوْ قَاضِيًا. (وَ) كَذَا يَجِبُ (عَلَى كُلِّ مَنْ تَصِلُ يَدُهُ) مِنْ غَيْرِ الْحُكَّامِ (إلَى ذَلِكَ) مِمَّنْ لَهُ شَأْنٌ وَعَظَمَةٌ فِي نُفُوسِ النَّاسِ بِحَيْثُ يُمْتَثَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ كُلَّ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ يَجِبُ عَلَيْهِ لِعُمُومِ آيَةِ: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] لَكِنَّ نَحْوَ السُّلْطَانِ صِفَةُ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ أَنْ يُعَرِّفَ الْمَأْمُورَ أَوْ الْمَنْهِيَّ بِذَلِكَ، فَإِنْ امْتَثَلَ بِمُجَرَّدِ التَّعَرُّفِ وَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ هَدَّدَهُ بِالضَّرْبِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ ضَرَبَهُ بِالْفِعْلِ، فَإِنْ لَمْ يَمْتَثِلْ أَشْهَرَ لَهُ السِّلَاحَ إنْ وَجَبَ قَتْلُهُ، وَلَا يَنْتَقِلُ عَنْ مَرْتَبَةٍ إلَّا عِنْدَ عَدَمِ إفَادَةِ مَا قَبْلَهَا، وَأَمَّا غَيْرُ نَحْوِ السُّلْطَانِ فَإِنَّمَا يَأْمُرُ وَيَنْهَى بِالْقَوْلِ الْأَرْفَقِ فَالْأَرْفَقِ وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) الْمُكَلَّفُ عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِيَدِهِ لِكَوْنِهِ غَيْرَ سُلْطَانٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ الْأَبِ وَالسَّيِّدِ وَالزَّوْجِ لِأَنَّ غَيْرَ مَنْ ذُكِرَ لَا يَأْمُرُ بِالْيَدِ، وَحِينَئِذٍ فَمَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَدَمُ التَّمَكُّنِ شَرْعًا مِنْ الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِالْيَدِ. (فَبِلِسَانِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِلِسَانِهِ. (فَإِنْ لَمْ يَقْدِرْ) عَلَى الْأَمْرِ أَوْ النَّهْيِ بِلِسَانِهِ لِشِدَّةِ صَوْلَةِ مَنْ يُرَادُ أَمْرُهُ أَوْ نَهْيُهُ (فَبِقَلْبِهِ) أَيْ فَيَأْمُرُ وَيَنْهَى بِقَلْبِهِ، بِمَعْنَى أَنَّهُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ: لَوْ كُنْت أَقْدِرُ عَلَى ذَلِكَ بِيَدِي أَوْ لِسَانِي لَفَعَلْت، وَيَبْغَضُ ذَلِكَ مَعَ تَرْكِ مُخَالَطَةِ الْمُتَلَبِّسِ بِالْمُنْكَرِ إنْ اسْتَطَاعَ، وَإِلَّا انْتَقِلْ إلَى الْمُدَارَاةِ لِأَنَّهَا صَدَقَةٌ وَمَشْرُوعَةٌ لِخَبَرِ: «أُمِرْت بِالْمُدَارَاةِ لِلنَّاسِ كَمَا أُمِرَتْ بِأَدَاءِ الْفَرَائِضِ» وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا بَذْلُ الدُّنْيَا لِحِفْظِ الدِّينِ أَوْ الْعِرْضِ أَوْ الْجَاهِ، بِخِلَافِ الْمُدَاهَنَةِ فَإِنَّهَا بَذْلُ الدِّينِ لِحِفْظِ الدُّنْيَا وَهِيَ حَرَامٌ إلَّا لِمَفْسَدَةٍ أَعْظَمَ. وَفَرِيضَةُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عمران: 104] . وَ {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] الْآيَةَ. وَأَمَّا السُّنَّةُ فَأَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا حَدِيثُ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ» أَيْ الْأَعْمَالِ، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَبَعْدَهُ كَانُوا يَتَوَاصَوْنَ بِذَلِكَ وَيَنْهَوْنَ تَارِكَهُ مَعَ الْقُدْرَةِ، فَإِنْ قُلْت: فَمَا الْجَوَابُ عَنْ مِثْلِ قَوْله تَعَالَى: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ} [المائدة: 105] وقَوْله تَعَالَى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] وَعَنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ: «قُلْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى لَا نَأْمُرُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا نَنْهَى عَنْ الْمُنْكَرِ؟ قَالَ: إذَا كَانَ الْبُخْلُ فِي خِيَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْحُكْمُ فِي أَرْذَالِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الِادِّهَانُ فِي كِبَارِكُمْ، وَإِذَا كَانَ الْمُلْكُ فِي صِغَارِكُمْ» . فَالْجَوَابُ بِالنِّسْبَةِ لِلْآيَةِ الْأُولَى أَنَّ عَدَمَ الضَّرَرِ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ بَعْدَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يَضُرُّ النَّاهِيَ عِنَادُهُمْ وَإِصْرَارُهُمْ عَلَى الْمَعْصِيَةِ، وَبِالنِّسْبَةِ لِآيَةِ: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] بِأَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ الْقِتَالِ، وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَلَا يَدُلُّ إلَّا عَلَى نَفْيِ الْوُجُوبِ عِنْدَ فَوَاتِ الشَّرْطِ بِلُزُومِ الْمَفْسَدَةِ أَوْ انْتِفَاءِ الْفَائِدَةِ، وَاعْلَمْ أَنَّ فَرْضِيَّةَ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عَلَى الْكِفَايَةِ إنَّمَا هِيَ عِنْدَ الْأَمْرِ بِالْيَدِ أَوْ اللِّسَانِ وَأَمَّا بِالْقَلْبِ فَفَرْضُ عَيْنٍ، وَذَكَرُوا لِذَلِكَ شُرُوطًا، أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِالْمَعْرُوفِ وَالْمُنْكَرِ، فَمَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا الْمُنْكَرِ لَا يَأْمُرُ وَلَا يَنْهَى. وَثَانِيهَا: أَنْ يَأْمَنَ أَنْ يُؤَدِّيَ إنْكَارُهُ إلَى مُنْكِرٍ أَكْبَرَ مِنْهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ. وَثَالِثُهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَوْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِفَادَةُ وَإِلَّا لَمْ يَجِبْ عَلَيْهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ، فَالْأَوَّلَانِ لِلْجَوَازِ وَالثَّالِثُ لِلْوُجُوبِ. وَرَابِعُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ ظَاهِرًا بِحَيْثُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى تَجَسُّسٍ وَلَا اسْتِرَاقِ سَمْعٍ وَلَا بَحْثٍ بِوَجْهٍ كَتَفْتِيشِ دَارٍ أَوْ ثَوْبِهِ لِحُرْمَةِ السَّعْيِ فِي ذَلِكَ. وَخَامِسُهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُنْكَرُ مُجْمَعًا عَلَى تَحْرِيمِهِ أَوْ يَكُونَ مُدْرَكُ عَدَمِ التَّحْرِيمِ فِيهِ ضَعِيفًا كَالنَّبِيذِ، فَإِنَّ الْحَنَفِيَّ يَقُولُ بِحِلِّهِ فَمَنْ فَعَلَ الْمُخْتَلَفَ فِي تَحْرِيمِهِ فَإِنْ كَانَ مَذْهَبُهُ التَّحْرِيمُ أَنْكَرَ عَلَيْهِ إلَّا أَنْ يَدَّعِيَ تَقْلِيدَ مَنْ يَقُولُ بِعَدَمِ الْحُرْمَةِ فَلَا يُنْكَرُ عَلَيْهِ، كَالْمَالِكِيِّ يَأْكُلُ الْبَصَلَ فِي الْمَسْجِدِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مُدْرَكُ الْمُخَالِفِ فِيهِ ضَعِيفًا فَيُنْكَرُ عَلَيْهِ كَمَا يُنْكَرُ عَلَى مُعْتَقِدِ حِلِّهِ حَيْثُ كَانَ يَنْقُضُ حُكْمَ الْحَاكِمِ فِيهِ بِأَنْ كَانَ مُخَالِفًا لِقَاطِعٍ أَوْ جَلِيِّ قِيَاسٍ، وَأَمَّا مَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَلِّدًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا بِأَنْ كَانَ جَاهِلًا وَالْمُدْرِكُ فِي الْحِلِّ وَعَدَمِهِ مُتَوَازٍ فَإِنَّهُ يُرْشِدُ لِلتَّرْكِ بِرِفْقٍ مِنْ غَيْرِ إنْكَارٍ وَلَا تَوْبِيخٍ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الشُّرُوطَ خَمْسَةٌ وَلَيْسَ مِنْهَا عَدَالَةُ الْآمِرِ وَلَا إذْنُ الْإِمَامِ عَلَى الْمَشْهُورِ فَيَجِبُ عَلَى شَارِبِ الْخَمْرِ نَهْيُ غَيْرِهِ عَنْ شُرْبِهِ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: يَنْبَغِي لِلْآمِرِ وَالنَّاهِي أَنْ يَكُونَ بِصُورَةِ مَنْ يُقْبَلُ أَمْرُهُ وَنَهْيُهُ، فَلَا يَنْبَغِي لِلْعَالَمِ عِنْدَ نَزْعِ عِمَامَتِهِ أَمْرٌ وَلَا نَهْيٌ إذَا كَانَ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِهَا، كَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بِالرِّفْقِ، فَلَا يُرْتَكَبُ فِي ذَلِكَ غَلِيظُ الْقَوْلِ وَلَا الشَّتْمُ إلَّا فِي نَحْوِ السُّلْطَانِ وَغَيْرِهِ مِمَّنْ لَهُ الْإِنْكَارُ بِالْيَدِ كَمَا مَرَّ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: وُجُوبُ النَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ لَا يُشْتَرَطُ فِيهِ كَوْنُ الْمُتَلَبِّسِ بِهِ عَاصِيًا بَلْ الشَّرْطُ كَوْنُهُ مَعْصِيَةً فِي نَفْسِ الْأَمْرِ وَاجِبَةَ الدَّرْءِ لِمَنْ شَرِبَ خَمْرًا يَظُنُّهُ لَبَنًا، أَوْ تَرَكَ أَمْرًا وَاجِبًا فِعْلُهُ كَصَلَاةِ فَرْضٍ قَبْلَ عِلْمِهِ بِفَرْضِيَّتِهَا فَيَجِبُ النَّهْيُ وَالْأَمْرُ وَلَوْ مَعَ عَدَمِ عِصْيَانِ الْمَأْمُورِ وَالْمَنْهِيِّ، لِأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَتْ تَأْمُرُ وَتَنْهَى أُمَمَهَا أَوَّلَ بَعْثَتِهَا، وَمَعْلُومٌ عَدَمُ عِصْيَانِهِمْ إذْ ذَاكَ. الثَّانِي: يَجِبُ كُلٌّ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهِمَا عَلَى الْفَوْرِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْمَأْمُورُ أَوْ الْمَنْهِيُّ جَمَاعَةً لَوَجَبَ خِطَابُهُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ مِنْ الْبِرِّ وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَمَنْ أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ لَمْ يُقْبَلْ عَمَلُهُ وَالرِّيَاءُ الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ، وَالتَّوْبَةُ   [الفواكه الدواني] بِلَفْظِ الْجَمْعِ نَحْوَ: قُومُوا لِلصَّلَاةِ فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ. الثَّالِثُ: تَعْبِيرُهُ بِقَوْلِهِ وَمِنْ الْفَرَائِضِ الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمُنْكَرِ يَقْتَضِي قَصْرَ الْمَعْرُوفِ عَلَى الْوَاجِبِ وَالْمُنْكَرِ عَلَى الْمُحَرَّمِ وَهُوَ كَذَلِكَ عَلَى الرَّاجِحِ لِأَنَّهُمَا يَنْصَرِفَانِ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُحَرَّمِ، وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَنْدُوبِ وَالنَّهْيُ عَنْ الْمَكْرُوهِ فَقَدْ قَالَ ابْنُ بَشِيرٍ فِي كَوْنِهِ فِي الْمَنْدُوبَاتِ نَدْبًا أَوْ وُجُوبًا قَوْلَانِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ مِنْهُمَا أَرْجَحِيَّةُ النَّدْبِ كَنَدْبِ النَّهْيِ عَنْ الْمَكْرُوهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ مَعَ غَيْرِهِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُطْلَبُ مِنْهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ مِنْ إخْلَاصِهِ فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ بِقَوْلِهِ: (وَفَرْضٌ) بِلَفْظِ الْمَصْدَرِ (عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ) مُكَلَّفٍ مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ (أَنْ يُرِيدَ) أَنْ يَقْصِدَ (بِكُلِّ قَوْلٍ وَعَمَلٍ مِنْ) أَعْمَالِ (الْبِرِّ) وَلَوْ مَنْدُوبَةً وَمَفْعُولُ يُرِيدُ (وَجْهَ اللَّهِ الْكَرِيمِ، وَ) هُوَ الْمُرَادُ بِالْإِخْلَاصِ الْمَأْمُورِ بِهِ فِي قَوْله تَعَالَى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] وَالْإِخْلَاصُ إفْرَادُ الْمَعْبُودِ بِالْعِبَادَةِ وَهُوَ وَاجِبٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ، فَالْكِتَابُ الْآيَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ، وَأَمَّا السُّنَّةُ فَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» . وَالْإِجْمَاعُ قَائِمٌ عَلَى فَرْضِيَّةِ الْإِخْلَاصِ عَلَى الْأَعْيَانِ فِي سَائِرِ الْأَعْمَالِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِاَللَّهِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةٍ، وَإِنَّمَا فَرَضَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْعَمَلَ لِوَجْهِ اللَّهِ حَتَّى يُرْجَى قَبُولُهُ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ بِغَيْرِ الْفَاءِ الَّتِي كَانَتْ أَوْلَى مِنْ الْوَاوِ قَوْلَهُ: (وَمَنْ) عَمِلَ عَمَلًا يَتَوَقَّفُ عَلَى نِيَّةٍ وَقَدْ (أَرَادَ بِذَلِكَ غَيْرَ اللَّهِ) بِأَنْ أَرَادَ بِهِ النَّاسَ (لَمْ يُقْبَلْ) أَيْ وَلَمْ يَصِحَّ (عَمَلُهُ) لِأَنَّ إرَادَةَ غَيْرِ اللَّهِ بِالْعَمَلِ مَحْضُ رِيَاءٍ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي الذَّخِيرَةِ: الرِّيَاءُ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ يَقْصِدُ بِهَا النَّاسَ، فَلَا يَتَأَتَّى فِي غَيْرِ الْقُرْبَةِ كَالتَّجَمُّلِ بِاللِّبَاسِ، وَخَرَجَ إرَادَةُ غَيْرِ النَّاسِ بِالْقُرْبَةِ فَلَيْسَ بِرِيَاءٍ، كَمَنْ حَجَّ لِيَتَّجِرَ أَوْ جَاهَدَ لِيَغْنَمَ. (وَالرِّيَاءُ) يُقَالُ لَهُ (الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ) فَهُوَ مُحَرَّمٌ إجْمَاعًا سَوَاءٌ الرِّيَاءُ الْخَالِصُ وَهُوَ إيقَاعُ الْقُرْبَةِ لِقَصْدِ النَّاسِ فَقَطْ، وَرِيَاءُ الشِّرْكِ وَهُوَ الْعَمَلُ لِوَجْهِ اللَّهِ وَالنَّاسِ، وَإِنْ كَانَ الثَّانِي أَخَفُّ مِنْ الْأَوَّلِ، وَهَذَانِ يُقَالُ لَهُمَا الشِّرْكُ الْأَصْغَرُ وَيُبْطِلَانِ الْعِبَادَةَ كَمَا عَرَفْت، وَأَمَّا الشِّرْكُ الْأَكْبَرُ فَهُوَ كُفْرٌ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجْعَلُ فِيهِ الشَّخْصُ مَعَ اللَّهِ إلَهًا غَيْرَهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِخْلَاصَ فَرْضُ عَيْنٍ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَهُوَ قَصْدُ وَجْهِ اللَّهِ تَعَالَى وَحْدَهُ بِالْعِبَادَةِ قَوْلِيَّةً أَوْ فِعْلِيَّةً ظَاهِرَةً أَوْ خَفِيَّةً، فَإِنْ شَمِلَ الرِّيَاءُ جَمِيعَ الْعِبَادَةِ بَطَلَتْ إجْمَاعًا كَمَا قَالَهُ الْقَرَافِيُّ، وَإِنْ شَمِلَ بَعْضَهَا وَتَوَقَّفَ آخِرُهَا عَلَى أَوَّلِهَا كَالصَّلَاةِ فَفِي صِحَّتِهَا تَرَدُّدٌ، وَإِنْ عَرَضَ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهَا أُمِرَ بِدَفْعِهِ وَعَمَلِهَا وَإِنْ تَعَذَّرَ وَلَصِقَ بِصَدْرِهِ، فَإِنْ كَانَتْ مَنْدُوبَةً تَعَيَّنَ لِتَقْدِيمِ الْمُحَرَّمِ عَلَى الْمَنْدُوبِ، وَإِنْ كَانَتْ وَاجِبَةً أُمِرَ بِمُجَاهِدَةِ النَّفْسِ إذْ لَا سَبِيلَ إلَى تَرْكِ الْوَاجِبِ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قَدَّرْنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَلَمْ يَصِحَّ لِأَنَّ قَوْلَهُ لَمْ يُقْبَلُ عَمَلُهُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ عَدَمُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ قَدْ تُوجَدُ مَعَ عَدَمِ الْقَبُولِ، إذَا الصِّحَّةُ سُقُوطُ الْأَدَاءِ بِفِعْلِ الْمُؤَدَّى بِشُرُوطِهِ وَفَقْدِ مَوَانِعِهِ وَإِنْ لَمْ يُقْبَلْ مِنْ الْفَاعِلِ، وَأَمَّا الْقَبُولُ فَهُوَ الرِّضَا بِالْعَمَلِ مَعَ الْإِثَابَةِ عَلَيْهِ وَيَلْزَمُ مَنْعُ الصِّحَّةِ، بِخِلَافِ الصِّحَّةِ قَدْ تُوجَدُ مِنْ غَيْرِ قَبُولٍ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْقَبُولَ أَخَصُّ وَالصِّحَّةُ أَعَمُّ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيُ الْأَعَمِّ مَكَانَ الْأَنْسَبِ، أَنْ لَوْ قَالَ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَصِحَّ عَمَلُهُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ الرِّيَاءِ مُبْطِلٌ لِلْعِبَادَةِ إجْمَاعًا، وَالْبَاطِلُ وَالْفَاسِدُ عِنْدَنَا بِمَعْنًى، وَلَعَلَّهُ آثَرَ التَّعْبِيرَ بِعَدَمِ الْقَبُولِ لِأَنَّهُ مَلْزُومٌ لِعَدَمِ الصِّحَّةِ غَالِبًا، وَبَنَوْا عَلَى مَا قَرَّرْنَا مِنْ أَهَمِّيَّةِ الصِّحَّةِ وَأَخَصِّيَّةِ الْقَبُولِ صِحَّةَ الدُّعَاءِ بِتَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ عَقِبَ الْعَمَلِ الصَّحِيحِ، وَلَوْ كَانَ يَلْزَمُ عَنْ الصِّحَّةِ الْقَبُولُ لَلَزِمَ طَلَبُ تَحْصِيلِ الْحَاصِلِ فَافْهَمْ. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الرِّيَاءَ مُفْسِدٌ لِلْعِبَادَةِ عَلَى الْوَجْهِ السَّابِقِ فَرْضِيَّةُ الْإِخْلَاصِ وَعَدُّهُ مِنْ فُرُوضِ الصَّلَاةِ، مَعَ أَنَّا لَمْ نَرَ مَنْ عَدَّهُ مِنْ فَرَائِضِهَا إلَّا أَنْ يُقَالَ فَرْضِيَّةُ النِّيَّةِ كَافِيَةٌ لِتَضَمُّنِهَا لَهُ لِأَنَّهُ قَصَدَ فِعْلَ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنَّ الْعَمَلَ لِلَّهِ، بَلْ قَالَ بَعْضُهُمْ: النِّيَّةُ هِيَ الْإِخْلَاصُ لِأَنَّ النَّاوِيَ فَعَلَ الْمَأْمُورَ بِهِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ خَالِقِهِ قَدْ قَصَدَ وَجْهَهُ بِالْعِبَادَةِ. الثَّالِثُ: فُهِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا عَمِلَ لِوَجْهِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بِمَحَبَّةِ عِلْمِ النَّاسِ بِعِلْمِهِ وَمَدْحِهِمْ لَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ لَا يُبْطِلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ رِيَاءً، كَمَا لَا يَبْطُلُ عَمَلُهُ بِعَجَبِهِ بِعَمَلِهِ أَيْ بِرُؤْيَتِهِ حَسَنًا وَاسْتِعْظَامِهِ فِي نَفْسِهِ وَإِنْ حَرُمَ عَلَيْهِ ذَلِكَ لِأَنَّهُ إسَاءَةُ أَدَبٍ مَعَ الْبَارِئِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. قَالَ تَعَالَى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} [الزمر: 67] أَيْ مَا عَبَدُوهُ حَقَّ عِبَادَتِهِ، وَكَذَا لَا يَبْطُلُ بِالتَّسْمِيعِ وَهُوَ إعْلَامُ النَّاسِ بِعِلْمِهِ بَعْدَ فَرَاغِهِ لِقَصْدِ تَعْظِيمٍ أَوْ إعْطَاءِ دُنْيَا، وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ التَّسْمِيعِ كَالْعُجْبِ لِخَبَرِ مَنْ سَمَّعَ بِالتَّشْدِيدِ سَمَّعَ اللَّهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَيْ يُنَادَى عَلَيْهِ فُلَانٌ قَدْ عَمِلَ عَمَلًا أَرَادَ بِهِ غَيْرِي، وَإِنَّمَا لَمْ يُبْطِلْ الْعُجْبُ وَالتَّسْمِيعُ الْعِبَادَةَ لِحُصُولِهِمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ. (فَائِدَةٌ) وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّ مَنْ أَرَادَ أَنْ يَتَّقِيَ الرِّيَاءَ وَلَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فَرِيضَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ الْعَوْدِ إلَيْهِ وَمِنْ التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ وَاجْتِنَابُ الْمَحَارِمِ وَالنِّيَّةُ أَنْ لَا يَعُودَ وَلْيَسْتَغْفِرْ رَبَّهُ وَيَرْجُو رَحْمَتَهُ وَيَخَافُ عَذَابَهُ وَيَتَذَكَّرُ نِعْمَتَهُ لَدَيْهِ وَيَشْكُرُ فَضْلَهُ عَلَيْهِ   [الفواكه الدواني] يَحْصُلُ لَهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ إنَّا نَعُوذُ بِك مِنْ أَنْ نُشْرِكَ بِك شَيْئًا نَعْلَمُهُ وَنَسْتَغْفِرُك لِمَا لَا نَعْلَمُهُ» . وَلَمَّا كَانَ الرِّيَاءُ مُحَرَّمًا بِالْإِجْمَاعِ وَمُفْسِدًا لِلْعِبَادَةِ، وَكَانَ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ مُوجِبًا لِلتَّوْبَةِ قَالَ عَقِبَ الرِّيَاءِ: [حُكْم التَّوْبَةُ] (وَالتَّوْبَةُ فَرِيضَةٌ) عَلَى الْفَوْرِ إجْمَاعًا. (مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ) مِنْ الْكَبَائِرِ اتِّفَاقًا وَمِنْ الصَّغَائِرِ أَيْضًا عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الذَّنْبُ مَعْلُومًا أَوْ مَجْهُولًا، لَكِنَّ الْمَعْلُومَ تَجِبُ التَّوْبَةُ مِنْهُ تَفْصِيلًا وَالْمَجْهُولُ إجْمَالًا، وَقِيلَ: إنَّ الصَّغَائِرَ لَا تَحْتَاجُ إلَى تَوْبَةٍ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ حَيْثُ قَالَ: ثُمَّ الذُّنُوبُ عِنْدَنَا قِسْمَانِ ... صَغِيرَةٌ كَبِيرَةٌ فَالثَّانِي مِنْهُ الْمَتَابُ وَاجِبٌ فِي الْحَالِ ... وَلَا انْتِقَاضَ إنْ يَعُدْ لِلْحَالِ وَأَمَّا الصَّغَائِرُ فَلَهَا مُكَفِّرَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا: اجْتِنَابُ الْكَبَائِرِ كَمَا قَالَ اللَّهُ وَقَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ أَيْضًا، وَبِالصَّلَوَاتِ وَالْحَسَنَاتِ وَبِالْأَمْرَاضِ وَالْمَصَائِبِ. وَتَوْبَةُ الْكَافِرِ إسْلَامُهُ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قَطْعًا بِنَصِّ الْقُرْآنِ {إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] إلَّا أَنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا أَوْ يُغَرْغِرَ، وَتَوْبَةُ الْمُؤْمِنِ الْعَاصِي رُجُوعُهُ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلَى أَفْعَالٍ حَسَنَةٍ وَهِيَ مَقْبُولَةٌ قِيلَ قَطْعًا وَقِيلَ ظَنًّا، وَتُقْبَلُ مِنْهُ وَلَوْ بَعْدَ الْغَرْغَرَةِ وَلَوْ بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا، بِخِلَافِ الْكَافِرِ فِيهِمَا إلَّا أَنْ يَكُونَ مَعْذُورًا لِصِبَاهُ أَوْ جُنُونِهِ فَيُقْبَلُ مِنْهُ إسْلَامُهُ عَلَى مَا ارْتَضَاهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِهِ عَلَى خَلِيلٍ، وَوُجُوبُ التَّوْبَةِ مِنْ الْكَبَائِرِ لَا يُنَافِي جَوَازَ غُفْرَانِهَا بِمَحْضِ الْعَفْوِ، وَقَدْ تَكُونُ التَّوْبَةُ مُسْتَحَبَّةً وَهِيَ التَّوْبَةُ مِنْ ارْتِكَابِ الْمَكْرُوهَاتِ وَأَكْلِ الْمُتَشَابِهَاتِ وَهِيَ تَوْبَةُ الزُّهَّادِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا عَلَى الْفَوْرِ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (مِنْ غَيْرِ إصْرَارٍ) وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَالْإِصْرَارُ الْمُقَامُ) بِضَمِّ الْمِيمِ بِمَعْنَى الْإِقَامَةِ (عَلَى الذَّنْبِ وَاعْتِقَادُ) أَيْ نِيَّةُ (الْعُودِ إلَيْهِ) لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مُنَافٍ لِحَقِيقَةِ التَّوْبَةِ إذْ هِيَ النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ. (فَائِدَةٌ) يُقَالُ: الْعَجَلَةُ فِي الْأُمُورِ مِنْ الشَّيْطَانِ إلَّا فِي مَسَائِلَ مِنْهَا: التَّوْبَةُ وَالصَّلَاةُ إذَا دَخَلَ وَقْتُهَا، وَدَفْنُ الْمَيِّتِ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَإِنْكَاحُ الْبِكْرِ إذَا بَلَغَتْ، وَتَقْدِيمُ الطَّعَامِ لِلضَّيْفِ إذَا قَدِمَ، وَقَضَاءُ الدَّيْنِ إذَا حَلَّ، فَهَذِهِ سِتَّةٌ يُطْلَبُ فِيهَا الْعَجَلَةُ. (وَمِنْ) وَاجِبَاتِ (التَّوْبَةِ رَدُّ الْمَظَالِمِ) إلَى أَهْلِهَا بِأَنْ يَدْفَعَهَا إلَيْهِمْ إنْ كَانَتْ أَمْوَالًا وَلَوْ أَتَى ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ مَا عِنْدَهُ أَوْ يَرُدَّهَا إلَى الْوَارِثِ، فَإِنْ لَمْ يَجِدْ لَهُ وَارِثًا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى الْمَظْلُومِ، وَإِنْ كَانَتْ أَعْرَاضًا كَقَذْفٍ أَوْ غِيبَةٍ اسْتَحْلَلَ الْمَقْذُوفَ أَوْ الْمُغْتَابَ إنْ كَانَ حَيًّا، وَإِنْ وَجَدَهُ مَاتَ فَيُكْثِرُ مِنْ فِعْلِ الْحَسَنَاتِ لِيُعْطَى مِنْهَا الْمَظْلُومُ. (وَ) مِنْ وَاجِبَاتِ التَّوْبَةِ أَيْضًا (اجْتِنَابُ الْمُحَرَّمَاتِ) وَهُوَ الْمُرَادُ بِالْإِقْلَاعِ فِي الْحَالِ عَنْهَا. (وَ) مِنْ وَاجِبَاتِهَا أَيْضًا (النِّيَّةُ) أَيْ الْعَزْمُ عَلَى (أَنْ لَا تَعُودَ) إلَيْهِ فَتَلَخَّصَ أَنَّ التَّوْبَةَ لَا بُدَّ فِي صِحَّتِهَا مِنْ أَرْكَانٍ وَهِيَ: النَّدَمُ عَلَى مَا فَعَلَ، وَالْإِقْلَاعُ فِي الْحَالِ، وَالْعَزْمُ عَلَى عَدَمِ الْعُودِ، وَرَدُّ الْمَظَالِمِ عَلَى مَا فِيهِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَى تِلْكَ الْأَرْكَانِ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ مَبْسُوطًا فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ، وَأَشَارَ هُنَا إلَى شُرُوطِ التَّوْبَةِ الْكَمَالِيَّةِ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَسْتَغْفِرْ) التَّائِبُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (رَبَّهُ) أَيْ يَطْلُبْ مِنْهُ أَنْ يَسْتُرَ مَا سَلَف مِنْهُ، وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ التَّائِبِ الِاسْتِغْفَارُ لِمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَأَتُوبُ إلَيْهِ فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ» . وَالْمَطْلُوبُ مِنْ الِاسْتِغْفَارِ هُوَ مَا يَحُلُّ عُقْدَةَ الْإِصْرَارِ، وَيَثْبُتُ مَعْنَاهُ فِي الْجِنَانِ بِأَنْ يُوَافِقَ مَا فِي قَلْبِهِ مَا نَطَقَ بِهِ لِسَانُهُ لَا مُجَرَّدَ التَّلَفُّظِ بِاللِّسَانِ، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحْوِجٌ لِلِاسْتِغْفَارِ وَصَغِيرَةٌ لَاحِقَةٌ بِالْكَبَائِرِ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَرْجُوَ رَحْمَتَهُ) بِأَنْ يَطْمَعَ فِي حُصُولِهَا مَعَ أَخْذِهِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ بِالْمُوَاظَبَةِ عَلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (يَخَافَ عَذَابَهُ) لِأَنَّهُ وَإِنْ تَابَ تَوْبَةً نَصُوحًا فِي الظَّاهِرِ لَا يُقْطَعُ بِالْإِتْيَانِ بِهَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَطْلُوبِ شَرْعًا، فَالْمَطْلُوبُ مِنْهُ الْخَوْفُ وَلِذَا قَالَ تَعَالَى: {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] وَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الشَّخْصِ قَبْلَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمَوْتِ غَلَبَةُ الْخَوْفِ، لِأَنَّ الْخَوْفَ مُطْفِئٌ لِنَارِ الشَّهْوَةِ وَقَامِعٌ لِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا مِنْ الْقَلْبِ، وَأَمَّا عِنْدَ الْمَوْتِ فَالْأَفْضَلُ الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ، لِأَنَّ الْخَوْفَ جَارٍ مَجْرَى السَّوْطِ الْبَاعِثِ عَلَى الْعَمَلِ وَقَدْ انْقَضَى وَقْتُ الْعَمَلِ، فَالْمُشْرِفُ عَلَى الْمَوْتِ لَا يَقْدِرُ عَلَى الْعَمَلِ فَالْمَطْلُوبُ عَنْهُ إذْ ذَاكَ الرَّجَاءُ وَزِيَادَةُ حُسْنِ الظَّنِّ فِي رَبِّهِ لِخَبَرِ: «لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِرَبِّهِ» وَلِذَا لَمَّا حَضَرَتْ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيَّ الْوَفَاةُ قَالَ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ حَدِّثْنِي بِالرُّخَصِ وَاذْكُرْ لِي الرَّجَاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ فِعْلَهُ وَيَتَقَرَّبُ إلَيْهِ بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ، وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ مِنْ فَرَائِضِهِ فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ وَلْيَرْغَبْ إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ وَيَتُوبُ إلَيْهِ مِنْ تَضْيِيعِهِ وَلْيَلْجَأْ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ عَلَيْهِ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ وَمُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ مُوقِنًا أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ لَا يُفَارِقُ ذَلِكَ عَلَى مَا فِيهِ مِنْ حَسَنٍ أَوْ قَبِيحٍ وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ اللَّهِ مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ فَاسْتَعِنْ بِذِكْرِ الْمَوْتِ وَالْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ وَفِي نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك وَإِمْهَالِهِ لَك وَأَخْذِهِ   [الفواكه الدواني] حَتَّى أَلْقَى اللَّهَ عَلَى حُسْنِ الظَّنِّ بِهِ، وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ عِنْدَ الْمَوْتِ لِابْنِهِ: اُذْكُرْ لِي الْأَخْبَارَ الَّتِي فِيهَا الرَّجَاءُ وَحُسْنُ الظَّنِّ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ أَنْ (يَتَذَكَّرَ نِعْمَتَهُ) تَعَالَى (لَدَيْهِ) وَهِيَ تَوْفِيقُهُ لِلتَّوْبَةِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، قَالَ تَعَالَى: {اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] لِأَنَّ ذِكْرَ النِّعْمَةِ يَكُون سَبَبًا لِتَرْكِ الْمَعْصِيَةِ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْهُ أَيْضًا أَنْ (يَشْكُرَ فَضْلَهُ) تَعَالَى (عَلَيْهِ) بِأَنْ يَأْتِيَ (بِالْأَعْمَالِ بِفَرَائِضِهِ) الَّتِي افْتَرَضَهَا عَلَيْهِ، قَالَ تَعَالَى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} [سبأ: 13] (وَ) بِالِامْتِثَالِ لِ (تَرْكِ مَا يُكْرَهُ) أَوْ يُحَرِّمُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (فِعْلَهُ) أَوْ قَوْلَهُ فَمَكْرُوهُ الْفِعْلِ كَالصَّلَوَاتِ فِي أَوْقَاتِ الْكَرَاهَةِ، وَمَكْرُوهُ الْقَوْلِ كَالتَّكَلُّمِ مِمَّا لَا يَعْنِي، وَالْمُحَرَّمُ فِعْلُهُ كَالزِّنَا، وَالْمُحَرَّمُ الْقَوْلُ كَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَتَقَدَّمَ شَرْحُ الْحَمْدِ وَالشُّكْرِ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْ التَّائِبِ أَيْضًا أَنْ (يَتَقَرَّبَ إلَيْهِ) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى (بِمَا تَيَسَّرَ لَهُ مِنْ نَوَافِلِ الْخَيْرِ) كَالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ وَغَيْرِهِمَا لِخَبَرِ: «لَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْته كُنْت سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْته، وَإِنْ اسْتَعَاذَ بِي لَأُعِيذَنَّهُ» . (وَكُلُّ مَا ضَيَّعَ) أَيْ التَّائِبُ عَمْدًا أَوْ سَهْوًا (مِنْ فَرَائِضَ) قَبْلَ تَوْبَتِهِ (فَلْيَفْعَلْهُ الْآنَ) وُجُوبًا عَلَى الْفَوْرِيَّةِ وَلَوْ فِي أَوْقَاتِ النَّهْيِ حَيْثُ تَحَقَّقَ تَرْكُهَا وَإِلَّا تَوَقَّى أَوْقَاتَ النَّهْيِ، وَلَا يُوَسَّعُ لَهُ فِي التَّأْخِيرِ إلَّا زَمَنَ اشْتِغَالِهِ فِي نَوْمِهِ أَوْ ضَرُورِيَّاتِهِ أَوْ حُضُورِ عِلْمِ مُتَعَيِّنٍ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّوَافِلُ قَبْلَ قَضَاءِ الْفَرْضِ سِوَى الْمُؤَكَّدِ كَالْوِتْرِ وَالْعِيدِ وَالْفَجْرِ، وَإِذَا لَمْ يَدْرِ مَا فِي ذِمَّتِهِ مِنْهَا احْتَاطَ. (وَلْيَرْغَبْ) التَّائِبُ أَنْ يَتَضَرَّعَ وَيَتَذَلَّلَ (إلَى اللَّهِ فِي تَقَبُّلِهِ) لِمَا يَأْتِي بِهِ مِنْ الْفَرَائِضِ بَعْدَ تَضْيِيعِهَا. (وَ) يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَتُوبَ عَلَيْهِ مِنْ) أَجْلِ (تَضْيِيعِهِ) لِلْفَرَائِضِ لِمَا نَصُّوا عَلَيْهِ مِنْ أَنَّ تَأْخِيرَ الْفَرَائِضِ عَنْ أَوْقَاتِهَا عَمْدًا مِنْ الْكَبَائِرِ. (وَلْيَلْجَأْ) أَيْ يَتَضَرَّعْ (إلَى اللَّهِ) وَيَفْزَعْ إلَيْهِ (فِيمَا عَسُرَ) أَيْ صَعُبَ (عَلَيْهِ مِنْ قِيَادَةِ نَفْسِهِ) إلَى الطَّاعَةِ لِرَغْبَتِهَا عَنْهَا وَعَدَمِ مَيْلِهَا لِفِعْلِهَا، فَيَطْلُبُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُوَفِّقَهُ إلَى فِعْلِهَا، فَمَعْنَى قِيَادَةِ نَفْسِهِ امْتِثَالُهَا وَمَيْلُهَا إلَى الطَّاعَةِ، فَيَلْجَأُ إلَى اللَّهِ أَنْ يُذَلِّلَهَا، وَيَجْعَلَ الطَّاعَةَ سَهْلَةً عَلَيْهَا لِأَنَّهُ الْمُسَهِّلُ وَالْمُوَفِّقُ، وَلِذَلِكَ يَنْبَغِي الْمُوَاظَبَةُ عَلَى الدُّعَاءِ بِقَوْلِهِ: اللَّهُمَّ مَكِّنَّا أَنْفُسَنَا وَلَا تُسَلِّطْهَا عَلَيْنَا. (وَ) كَمَا يَلْجَأُ وَيَتَضَرَّعُ إلَى اللَّهِ فِيمَا عَسُرَ مِنْ قِيَادِ نَفْسِهِ يَلْجَأُ إلَيْهِ فِي (مُحَاوَلَةِ أَمْرِهِ) الْمُشْكِلِ عَلَيْهِ فِي كَوْنِ فِعْلِهِ أَحْسَنَ لَهُ أَوْ تَرْكِهِ، فَيَتَضَرَّعُ إلَيْهِ فِي إلْهَامِهِ لِمَا فِيهِ خَيْرٌ لَهُ فِي دِينِهِ وَدُنْيَاهُ حَالَةَ كَوْنِهِ (مُوقِنًا) أَيْ مُصَدِّقًا (أَنَّهُ الْمَالِكُ لِصَلَاحِ شَأْنِهِ) أَيْ أَمْرِهِ كُلِّهِ (وَ) أَنَّهُ الْمَالِكُ لِ (تَوْفِيقِهِ وَتَسْدِيدِهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ إذْ هُوَ الِاسْتِقَامَةُ عَلَى الطَّاعَةِ وَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ (لَا يُفَارِقَ ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ اللَّجَأِ وَالْيَقِينِ بَلْ يَلْزَمُهَا (عَلَى مَا فِيهِ) أَيْ عَلَى كُلِّ حَالٍ هُوَ فِيهِ (مِنْ حُسْنٍ) أَيْ طَاعَةٍ (أَوْ قُبْحٍ) أَيْ مَعْصِيَةٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْ الْعَاقِلِ مُلَازِمًا اللُّجُوءَ إلَى خَالِقِهِ إصْلَاحُ شَأْنِهِ وَتَوْفِيقُهُ إلَى فِعْلِ مَا يُرْضِيه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ الْكُلَّ مِنْهُ وَإِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ مُتَلَبِّسًا بِطَاعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ، فَلَا تَمْنَعُهُ الْمَعْصِيَةُ مِنْ اللُّجُوءِ إلَى خَالِقِهِ بَلْ يَلْجَأُ إلَيْهِ. (وَلَا يَيْأَسُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ) إذَا صَدَرَتْ مِنْهُ مَعْصِيَةٌ لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ تَوْبَةَ عَبْدِهِ كُلَّمَا يُذْنِبُ، وَلِأَنَّ الْيَأْسَ وَالْقُنُوطَ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ مِنْ الْكَبَائِرِ فَفِي الْحَدِيثِ: «اعْمَلْ مَا شِئْت فَقَدْ غَفَرْت لَك» فَإِنَّ مَعْنَاهُ: مَا دُمْت تُذْنِبُ ثُمَّ تَتُوبُ غَفَرْت لَك، قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَوْ تَكَرَّرَ الذَّنْبُ مِرَارًا وَتَابَ كُلَّ مَرَّةٍ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ وَسَقَطَتْ ذُنُوبُهُ. (تَنْبِيهٌ) اُعْتُرِضَ عَلَى الْمُصَنِّفِ فِي حَذْفِ عَائِدِ مَا الْمَوْصُولَةِ مِنْ قَوْلِهِ: عَلَى مَا فِيهِ، فَكَانَ الْوَاجِبُ أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَا هُوَ فِيهِ لِأَنَّ الْعَائِدَ مُطْلَقًا لَا يُحْذَفُ إذَا كَانَ الْبَاقِي صَالِحًا لِلْوَصْلِ، وَالظَّرْفُ هُنَا فِيهِ بِمَعْنَى الْفِعْلِ فَهُوَ صَالِحٌ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ فِي الْخُلَاصَةِ بِقَوْلِهِ: وَأَبَوَا أَنْ يَخْتَزِلَ ... إنْ صَلُحَ الْبَاقِي لِوَصْلٍ مُكْمِلٍ وَلَمَّا كَانَ يُطْلَبُ مِنْ الْإِنْسَانِ النَّظَرُ وَالتَّأَمُّلُ فِي مَخْلُوقَاتِ اللَّهِ لِيَعْلَمَ بِذَلِكَ عَجْزَ نَفْسِهِ فَيُفَوِّضَ أَمْرَهُ إلَى خَالِقِهِ فِي جَمِيعِ أُمُورِهِ قَالَ: (وَالْفِكْرَةُ) أَيْ التَّفَكُّرُ وَالتَّأَمُّلُ (فِي أَمْرِ اللَّهِ) أَيْ فِي مَصْنُوعَاتِهِ وَخَبَرُ الْفِكْرَةِ (مِفْتَاحُ الْعِبَادَةِ) لِأَنَّ الْمُكَلَّفَ إذَا تَفَكَّرَ وَنَظَرَ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 لِغَيْرِك بِذَنْبِهِ وَفِي سَالِفِ ذَنْبِك وَعَاقِبَةِ أَمْرِك وَمُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك.   [الفواكه الدواني] مَصْنُوعَات خَالِقِهِ عَلِمَ وُجُوبَ وُجُودِهِ وَكَمَالَ قُدْرَتِهِ وَحَقِّيَّةَ رُبُوبِيَّتِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ فَيَجِدُّ فِي عِبَادَتِهِ «قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» وَكَانَ الرَّجُلُ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ إذَا عَبَدَ اللَّهَ ثَلَاثِينَ سَنَةً تُظِلُّهُ سَحَابَةٌ، فَعَبَدَ اللَّهَ فَتًى مِنْهُمْ فَلَمْ تُظِلُّهُ فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: لَعَلَّ وَقَعَ مِنْك فُرُطَةً، فَقَالَ: لَمْ يَقَعْ مِنِّي شَيْءٌ، قَالَتْ: لَعَلَّك نَظَرْت مَرَّةً إلَى السَّمَاءِ فَلَمْ تَعْتَبِرْ، قَالَ: لَعَلَّ ذَلِكَ، قَالَتْ: فَمَا أُتِيتَ إلَّا مِنْ ذَلِكَ. وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْفِكْرَةُ فِي أَمْرِ إلَخْ أَنَّهُ لَا يَتَفَكَّرُ فِي ذَاتِهِ تَعَالَى لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْعَبْدِ عَلَى إدْرَاكِهَا، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِقَوْمٍ اشْتَغَلُوا بِالتَّفَكُّرِ فِي اللَّهِ: «تَفَكَّرُوا فِي خَلْقِ اللَّهِ وَلَا تَفَكَّرُوا فِي اللَّهِ» فَالْأَدَبُ النَّظَرُ فِي عَجَائِبِ مَصْنُوعَاتِهِ، وَيَدْخُلُ فِي الْمَخْلُوقَاتِ نَفْسُ الشَّخْصِ قَالَ تَعَالَى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات: 21] لِأَنَّهُ يُسْتَدَلُّ بِالنَّظَرِ فِي نَفْسِهِ عَلَى وُجُوبِ وُجُودِ صَانِعِهِ لِاسْتِحَالَةِ إيجَادِ الشَّخْصِ نَفْسَهُ، وَعَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «أَتَانِي النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي لَيْلَتِي حَتَّى مَسَّ جِلْدُهُ جِلْدِي ثُمَّ قَالَ: ذَرِينِي أَتَعَبَّدُ لِرَبِّي عَزَّ وَجَلَّ، فَقَامَ إلَى الْقِرْبَةِ فَتَوَضَّأَ مِنْهَا ثُمَّ قَامَ فَصَلَّى فَبَكَى حَتَّى بَلَّ لِحْيَتَهُ، ثُمَّ سَجَدَ حَتَّى بَلَّ الْأَرْضَ، مَا اضْطَجَعَ عَلَى جَنْبِهِ حَتَّى أَتَى بِلَالٌ يُؤْذِنُهُ بِصَلَاةِ الصُّبْحِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا يُبْكِيك وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَك مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِك وَمَا تَأَخَّرَ؟ فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا بِلَالُ وَمَا يَمْنَعُنِي أَنْ أَبْكِيَ قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِي هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} [آل عمران: 190] الْآيَةَ ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأَهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وَقَالَ ابْنُ الْعَبَّاسِ: رَكْعَتَانِ مَعَ تَفَكُّرٍ خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ بِلَا قَلْبٍ. وَقَالَ أَيْضًا: التَّفَكُّرُ فِي الْخَيْرِ يَدْعُو إلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَالنَّدَمُ عَلَى الشَّرِّ يَدْعُو إلَى تَرْكِهِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: تَفَكَّرَ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ قِيَامِ لَيْلَةٍ. وَبَيْنَا ابْنُ سُرَيْجٍ يَمْشِي إذْ جَلَسَ فَتَقَنَّعَ بِكِسَائِهِ وَجَعَلَ يَبْكِي، فَقُلْنَا: مَا يَبْكِيك؟ قَالَ: تَفَكَّرْت فِي ذَهَابِ عُمْرِي وَقِلَّةِ عَمَلِي وَاقْتِرَابِ أَجَلِي. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَالِ، فَإِنَّ النَّفْسَ شَمَخَتْ فِي هَذَا الزَّمَانِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَتَعَلَّقَتْ بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا، فَإِذَا حَصَلَ التَّفَكُّرُ انْقَمَعَتْ وَرَجَعَتْ إلَى الْعِبَادَةِ. وَإِذَا عَلِمْتَ مَشْمَخَةَ النَّفْسِ عَنْ الْعِبَادَةِ وَاشْتَدَّ تَعَلُّقُهَا بِمَحَبَّةِ الدُّنْيَا حَتَّى صَدَّتْهَا عَنْ الْآخِرَةِ (فَاسْتَعِنْ بِذَكَرِ الْمَوْتِ) عَلَى نَفْسِك لِأَنَّهُ هَاذِمُ اللَّذَّاتِ، وَلِأَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا تَفَكَّرَ فِي الْمَوْتِ قَصُرَ أَمَلُهُ وَكَثُرَ عَمَلُهُ وَاسْتَعَدَّ وَتَهَيَّأَ لِلْمَوْتِ، فَيَحْمِلُهُ ذَلِكَ عَلَى كَثْرَةِ الْعِبَادَةِ، وَلِذَلِكَ يُطْلَبُ تَقْصِيرُ الْأَمَلِ إلَّا لِلْعَالِمِ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَكْثِرُوا مِنْ ذِكْرِ هَاذِمِ اللَّذَّاتِ» . (وَ) اسْتَعِنْ عَلَى نَفْسِك أَيْضًا بِذِكْرِ (الْفِكْرَةِ فِيمَا بَعْدَهُ) أَيْ فِيمَا يَحْصُلُ لَك بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ سُؤَالِ الْمَلَكَيْنِ، وَالْعَذَابِ الَّذِي مِنْهُ ضَغْطَةُ الْقَبْرِ الَّتِي لَمْ يَنْجُ مِنْهَا إلَّا الْأَنْبِيَاءُ، وَالْمُكْثِ فِي الْقَبْرِ مُدَّةَ الْبَرْزَخِ مَعَ كَوْنِهِ وَحِيدًا، وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْحِسَابِ وَالْمُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ الَّذِي لَا بُدَّ لِكُلِّ أَحَدٍ مِنْ الْمُرُورِ عَلَيْهِ حَتَّى الْأَنْبِيَاءِ مَعَ كَوْنِهِ دَقِيقًا وَمَمْدُودًا عَلَى ظَهْرِ جَهَنَّمَ، فَإِنَّ التَّفَكُّرَ فِي هَذِهِ الْعَظَائِمِ مُنَغِّصٌ وَمُزَهِّدٌ فِي الدُّنْيَا وَمُرَغِّبٌ فِي الِاشْتِغَالِ بِأَمْرِ الْآخِرَةِ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ لِلْعَمَلِ لَهَا. (وَ) اسْتَعِنْ أَيْضًا أَيُّهَا الْمُنْهَمِكُ عَلَى تَبْلِيغِ نَفْسِك مُشْتَهَاهَا بِالْفِكْرَةِ (فِي) إسْبَاغِ (نِعْمَةِ رَبِّك عَلَيْك) فَإِنَّك إذَا تَفَكَّرْت فِي ذَلِكَ تَسْتَحِي أَنْ تَعْصِيَهُ، لِأَنَّ الْإِحْسَانَ يَسْتَرِقُّ مَنْ يَصِلُ إلَيْهِ وَيَحْمِلُهُ عَلَى خِدْمَةِ سَيِّدِهِ. (وَ) إذَا لَمْ يَقْمَعْهَا التَّفَكُّرُ فِي النِّعْمَةِ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالْفِكْرَةِ فِي (إمْهَالِهِ لَك) أَيْ تَأْخِيرِهِ لَك تَارِكًا عُقُوبَتَك عَلَى عِصْيَانِهِ. (وَأَخْذِهِ لِغَيْرِك) سَرِيعًا (بِذَنْبِهِ) مِثْلَ قَوْمِ نُوحٍ وَقَوْمِ صَالِحٍ مِمَّنْ كَانَ يُؤْخَذُ بِذَنْبِهِ سَرِيعًا، وَقَالَ أَبُو حَازِمٍ: إذَا رَأَيْت رَبَّك يُوَالِي عَلَيْك نِعَمَهُ فَاحْذَرْهُ لِأَنَّهُ رُبَّمَا يَكُونُ لِزِيَادَةِ الْعُقُوبَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] . (وَ) إذَا لَمْ تَنْقَمِعْ نَفْسَك بِالتَّفَكُّرِ فِيمَا سَبَقَ اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ (فِي سَالِفِ ذَنْبِك) أَيْ فِي الذَّنْبِ الَّذِي سَلَفَ وَوَقَعَ مِنْك فِيمَا مَضَى مِنْ الزَّمَانِ وَاخْشَ الْمُعَاقَبَةَ بِهِ سَرِيعًا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْمِلُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ الْمُكَفِّرِ لِلذُّنُوبِ. (وَ) إنْ لَمْ تَنْزَجِرْ وَتُنْقِذْ نَفْسَك اسْتَعِنْ بِالتَّفَكُّرِ فِي (عَاقِبَةِ أَمْرِك) لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الصُّوفِيَّةِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي أَنْ لَا تُخَيِّرَ نَفْسَك عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّك لَا تَدْرِي مَا الْخَاتِمَةُ، فَيَحْمِلُك ذَلِكَ عَلَى هَضْمِ النَّفْسِ وَتَرْكِ الْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَمَحَبَّةِ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ، وَعَلَى عَدَمِ الْعَظَمَةِ عَلَى الْإِخْوَانِ، لِأَنَّ رُؤْيَةَ الشَّخْصِ نَفْسَهُ رَفِيعًا عَنْ إخْوَانِهِ مِنْ أَعْظَمِ الْآفَاتِ أَعَاذَنَا اللَّهُ وَمِنْ نُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ الْمَطْلُوبُ مِنْ الشَّخْصِ أَنْ يَجْعَلَ نَفْسَهُ دَائِمًا فِي حَضِيضِ النُّقْصَانِ فِي سَائِرِ أُمُورِهِ حَتَّى عِبَادَتِهِ، لِأَنَّ التَّوَاضُعَ ذَرِيعَةٌ إلَى الرِّفْعَةِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْأَخْبَارِ. وَفِي كَلَامِ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ: اتَّضِعْ وَلَا تَرْتَفِعْ، وَاتَّبِعْ وَلَا تَبْتَدِعْ مِنْ وَرَعٍ وَلَا يَتَّسِعُ. (وَ) إذَا لَمْ يُكْسِبْك التَّفَكُّرُ فِيمَا مَضَى مَا يَقْمَعُ نَفْسَك عَنْ غَيِّهَا اسْتَعِنْ عَلَيْهَا بِالتَّفَكُّرِ فِي (مُبَادَرَةِ مَا عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدْ اقْتَرَبَ مِنْ أَجَلِك) وَالْمَعْنَى: خَوِّفْ نَفْسَك بِانْقِضَاءِ الْأَجَلِ سَرِيعًا، لِأَنَّك لَا تَدْرِي هَلْ بَقِيَ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] عُمُرِك قَلِيلٌ أَوْ كَثِيرٌ؟ وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: يَنْبَغِي لَك يَا أَخِي إذَا خَرَجَ مِنْك نَفَسٌ أَنْ تُخَوِّفَ نَفْسَك بِقَوْلِك لَهَا: لَا أَدْرِي هَلْ يَخْرُجُ بَعْدَهُ نَفَسٌ أَوْ هُوَ آخِرُ الْأَنْفَاسِ. وَالتَّفَكُّرُ فِي قُرْبِ الْأَجَلِ يُقَلِّلُ الْأَمَلَ وَيُعِينُ عَلَى الِاجْتِهَادِ فِي الْعَمَلِ، وَطُولُ الْأَمَلِ يُقْسِي الْقَلْبَ وَيُضْعِفُ الْعَمَلَ، وَلَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَغْتَرَّ بِمَا هُوَ فِيهِ مِنْ أَوْ صَلَاحٍ أَوْ قُوَّةٍ، لِأَنَّ الَّذِي أَعْطَى مَا ذُكِرَ قَادِرٌ عَلَى سَلْبِهِ وَإِنْزَالِ ضِدِّهِ، فَالْمَطْلُوبُ مِنْ الْعَاقِلِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْمَوْتِ وَمُلَابَسَةُ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ رَجَاءَ أَنْ يَمُوتَ عَلَى السَّعَادَةِ وَهِيَ الْمَوْتُ عَلَى الْإِيمَانِ، وَمَنْ لَا فِكْرَةَ عِنْدَهُ قَدْ يَأْتِيه الْمَوْتُ سُرْعَةً وَهُوَ مُطِيعٌ لِهَوَاهُ فَيَنْدَمُ حَيْثُ لَا يَنْفَعُهُ النَّدَمُ. وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ هَذِهِ الْآدَابَ فِي هَذَا الْبَابِ حَثًّا لِلطَّالِبِ عَلَى التَّخَلُّقِ بِهَا، لِأَنَّ مَنْ تَخَلَّقَ بِهَا صَارَ مِنْ أَكَابِرِ الصُّوفِيَّةِ الَّذِينَ جَرَّدُوا قُلُوبَهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَاسْتَحْقَرُوا جَمِيعَ مَا سِوَاهُ، وَفَّقَنَا اللَّهُ وَمَنْ نُحِبُّ لِلْعَمَلِ بِمَا فِي كِتَابِهِ، لِأَنَّ الْعَامِلَ بِمَا فِيهِ يَكُونُ مُتَّبِعًا لِسُنَّةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَرَحِمَهُ اللَّهُ لَمْ يَدْعُ شَيْئًا مِمَّا يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ فِعْلُهُ إلَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى بَيَانِ مَا يَتَعَلَّقُ بِظَاهِرِ الْمُكَلَّفِ وَبَاطِنِهِ، شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِتَحْسِينِ ظَاهِرِهِ وَهُوَ تَرْتِيبٌ حَسَنٌ لِأَنَّ تَحْسِينَ الْبَاطِنِ أَوْكَدُ مِنْ تَحْسِينِ الظَّاهِرِ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 بَابٌ فِي الْفِطْرَةِ وَالْخِتَانِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَمَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ وَمِنْ الْفِطْرَةِ خَمْسٌ قَصُّ الشَّارِبِ وَهُوَ الْإِطَارُ وَهُوَ طَرْفُ الشَّعْرِ الْمُسْتَدِيرِ عَلَى الشَّفَةِ لَا إحْفَاؤُهُ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي الْفِطْرَةِ وَالْخِتَانِ وَحَلْقِ الشَّعْرِ وَاللِّبَاسِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ] (بَابٌ فِي) تَفْسِيرِ (الْفِطْرَةِ) مِنْ قَوْله تَعَالَى: {فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا} [الروم: 30] فَإِنَّ الشُّيُوخَ اخْتَلَفُوا فِي تَفْسِيرِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالسُّنَّةِ الْقَدِيمَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا لِأَنْبِيَائِهِ وَاتَّفَقَتْ عَلَيْهَا الشَّرَائِعُ حَتَّى صَارَتْ كَأَنَّهَا أَمْرٌ جِبِلِّيٌّ فُطِرُوا عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالْخِصَالِ الَّتِي يَتَكَمَّلُ بِهَا الْإِنْسَانُ بِحَيْثُ يَصِيرُ بِهَا عَلَى أَشْرَفِ الْأَوْصَافِ، وَمِنْهُمْ مَنْ فَسَّرَهَا بِالدِّينِ وَرُبَّمَا يَدُلُّ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ» . (وَ) فِي حُكْمِ (الْخِتَانِ) وَالْخِفَاضِ (وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (حَلْقِ الشَّعْرِ) الَّذِي يُؤْذَنُ فِي حَلْقِهِ وَمَا لَا يُؤْذَنُ فِي حَلْقِهِ، وَذَكَرَ هَذَيْنِ مَعَ دُخُولِهِمَا فِي الْفِطْرَةِ عَلَى بَعْضِ التَّفَاسِيرِ مِنْ بَابِ ذِكْرِ الْخَاصِّ بَعْدَ الْعَامِّ. (وَ) فِي بَيَانِ مَا يَجُوزُ وَمَا لَا يَجُوزُ مِنْ أَنْوَاعِ (اللِّبَاسِ، وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (سَتْرِ الْعَوْرَةِ) وَتَفْسِيرِهَا. (وَ) فِي بَيَانِ (مَا يَتَّصِلُ بِذَلِكَ) مِمَّا يُنْهَى عَنْهُ وَلَمْ يُصَرِّحْ بِهِ فِي التَّرْجَمَةِ، كَالصُّوَرِ وَالتَّمَاثِيلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَنَقِفُ عَلَيْهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، وَبَدَأَ بِبَيَانِ مَا صَدَّرَ بِهِ فَقَالَ: (وَمِنْ الْفِطْرَةِ خَمْسُ) خِصَالٍ إحْدَاهَا: (قَصُّ الشَّارِبِ) فَإِنَّهُ سُنَّةٌ خَفِيفَةٌ، وَلَمَّا كَانَ إمَامُنَا مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا يَقُولُ بِقَصِّ جَمِيعِهِ وَإِنَّمَا يَقُولُ بِنَدْبِ النَّازِلِ عَلَى الشَّفَةِ مِمَّا يَتَأَذَّى بِهِ الشَّخْصُ قَالَ الْمُصَنِّفُ: (وَهُوَ) أَيْ الشَّارِبُ الَّذِي يُؤْذَنُ فِي قَصِّهِ (الْإِطَارُ) بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ أَوْ فَتْحِهَا وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ طَرَفُ الشَّعْرِ الْمُسْتَدِيرِ) أَيْ النَّازِلِ (عَلَى الشَّفَةِ لَا إحْفَاؤُهُ) أَيْ جَزُّهُ وَاسْتِئْصَالُهُ، قَالَ يَحْيَى فِي الْمُوَطَّإِ: سَمِعْت مَالِكًا يَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنْ الشَّارِبِ حَتَّى يَبْدُوَ طَرَفُ الشَّفَةِ وَهُوَ الْإِطَارُ وَلَا يَجُزُّهُ فَيُمَثِّلُ بِنَفْسِهِ، زَادَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ عَنْ مَالِكٍ: أَنَّ مَنْ جَزَّ شَارِبَهُ يُؤَدَّبُ وَيُبَالَغُ فِي عُقُوبَتِهِ لِأَنَّهُ مُثْلَةٌ وَمِنْ فِعْلِ النَّصَارَى، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: السُّنَّةُ جَزُّهُ تَمَسُّكًا بِرِوَايَةِ: «اُحْفُوَا الشَّوَارِبَ وَاعْفُوَا اللِّحَى» . وَأَخَذَ مَالِكٌ بِخَبَرِ: «قُصُّوا الشَّوَارِبَ» وَجَمَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بَيْنَ الْخَبَرَيْنِ بِأَنْ يُقَصَّ مِنْ أَعْلَاهُ وَيُحْلَقَ مِنْ طَرَفٍ عَلَى مَا هُوَ شَأْنُ الْخَبَرَيْنِ الْمُتَعَارِضَيْنِ. قَالَ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ: وَالْمَتْنُ إنْ نَافَاهُ مَتْنٌ آخَرُ ... وَأَمْكَنَ الْجَمْعُ فَلَا تَنَافُرَ وَفِي قَصِّهِ فَوَائِدُ كَثِيرَةٌ مِنْهَا: ظُهُورُ حَاشِيَتِهِ، وَمِنْهَا: تَسْهِيلُ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِنْهَا: زَوَالُ الْأَدْرَانِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِهِ، وَمِنْهَا: تَحْسِينُ الْخِلْقَةِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ السُّنَّةَ عِنْدَ مَالِكٍ قَصُّ طَرَفِ الشَّارِبِ فَقَطْ، وَأَمَّا قَصُّ جَمِيعِهِ فَمَكْرُوهٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأَمَّا جَزُّهُ فَهُوَ حَرَامٌ عِنْدَهُ وَإِنْ كَانَ سُنَّةً عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَالْمَأْلُوفُ لِلنَّاسِ طَرِيقُ مَنْ جَمَعَ بَيْنَ رِوَايَتَيْ: «قُصُّوا وَاحْفُوا» بِجَزِّ أَسْفَلِهِ وَتَقْصِيرِ أَعْلَاهُ وَهُوَ الْأَمْسُ بِتَحْسِينِ الْخِلْقَةِ، وَسَبَبُ هَذَا الِاخْتِلَافِ فِيمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي نَفْسِهِ هَلْ قَصُّهُ أَوْ اسْتِئْصَالُهُ؟ وَلَمَّا لَمْ يَثْبُتْ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْقَطْعُ بِشَيْءٍ فَوَّضَ الْمُصَنِّفِ عِلْمَ مَا أَرَادَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) وَفِي قَصِّ الشَّوَارِبِ وَإِعْفَاءِ اللِّحَى مُخَالَفَةٌ لِفِعْلِ الْأَعَاجِمِ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَحْلِقُونَ لِحَاهُمْ وَيَعْفُونَ الشَّوَارِبَ، وَآلُ كِسْرَى أَيْضًا كَانَتْ تَحْلِقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 وَقَصُّ الْأَظْفَارِ وَنَتْفُ الْجَنَاحَيْنِ وَحَلْقُ الْعَانَةِ وَلَا بَأْسَ بِحِلَاقِ غَيْرِهَا مِنْ شَعْرِ الْجَسَدِ وَالْخِتَانُ لِلرِّجَالِ سُنَّةٌ وَالْخِفَاضُ لِلنِّسَاءِ مَكْرُمَةٌ وَأَمَرَ النَّبِيُّ أَنْ تُعْفَى اللِّحْيَةُ وَتُوَفَّرَ وَلَا تُقَصَّ قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ بِالْأَخْذِ مِنْ طُولِهَا إذَا طَالَتْ   [الفواكه الدواني] لِحَاهَا وَتُبْقِي الشَّوَارِبَ، فَمَا عَلَيْهِ الْجُنْدُ فِي زَمَانِنَا مِنْ أَمْرِ الْخَدَمِ بِحَلْقِ لِحَاهُمْ دُونَ شَوَارِبِهِمْ لَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ عِنْدَ جَمِيعِ الْأَئِمَّةِ لِمُخَالَفَتِهِ لِسُنَّةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِمُوَافَقَتِهِ لِفِعْلِ الْأَعَاجِمِ وَالْمَجُوس وَالْعَوَائِدُ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهَا إلَّا عِنْدَ عَدَمِ نَصٍّ عَنْ الشَّارِعِ مُخَالِفٍ لَهَا، وَإِلَّا كَانَتْ فَاسِدَةً يَحْرُمُ الْعَمَلُ بِهَا، أَلَا تَرَى لَوْ اعْتَادَ النَّاسُ فِعْلَ الزِّنَا أَوْ شُرْبَ الْخَمْرِ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِجَوَازِ الْعَمَلِ بِهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ إضَافَةِ قَصِّ إلَى الشَّارِبِ يَقْتَضِي أَنَّهُ اسْمٌ لِلشَّعْرِ لِأَنَّهُ الَّذِي يُقَصُّ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ غَيْرُهُ أَنَّ الشَّارِبَ اسْمٌ لِمَحَلِّ الشَّعْرِ، وَعَلَيْهِ فَفِي كَلَامِهِ حَذْفُ مُضَافَيْنِ، وَالتَّقْدِيرُ: قَصُّ طَرَفِ شَعْرِ الشَّارِبِ وَرُبَّمَا يَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ: وَهُوَ الْإِطَارُ. الثَّانِي: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ السَّبَّالِينَ وَهُمَا طَرَفَا الشَّارِبِ، وَاَلَّذِي أَخَذَ بِهِ بَعْضُ الْمَالِكِيَّةِ أَنَّهُمَا لَيْسَا كَذَلِكَ، بِدَلِيلِ أَنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَلَهُمَا وَلَمْ يَقُصَّهُمَا، فَفِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ إبْقَائِهِمَا، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُمَا كَالشَّارِبِ. (وَ) ثَانِيهمَا (قَصُّ الْأَظْفَارِ) فَإِنَّهُ سُنَّةٌ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ إلَّا فِي زَمَنِ الْإِحْرَامِ، وَأَقَلُّ زَمَنِ قَصِّهِ الْجُمُعَةُ لِطَلَبِهِ كُلَّ يَوْمِ جُمُعَةٍ، وَيَكُونُ بِالْمِقَصِّ أَوْ السِّكِّينِ لِكَرَاهَتِهِ بِالْأَسْنَانِ وَلِأَنَّهُ يُورِثُ الْفَقْرَ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أُصْبُعٌ لِلْبُدَاءَةِ بِهِ، كَمَا لَا يَتَعَيَّنُ زَمَنُ الْقَصِّ فِيهِ. (وَ) ثَالِثَةُ الْخِصَالِ (نَتْفُ) أَيْ إزَالَةُ شَعْرِ (الْجَنَاحَيْنِ) وَهُمَا الْإِبِطَانِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالنَّتْفُ فِي الْجَنَاحَيْنِ أَحْسَنُ مِنْ الْحَلْقِ وَمِنْ الْإِزَالَةِ بِالنُّورَةِ، وَسُنَّةُ النَّتْفِ الْبُدَاءَةُ بِالْجَنَاحِ الْأَيْمَنِ وَيُنْدَبُ غَسْلُ الْيَدَيْنِ مِنْهُ. (وَ) رَابِعَةُ الْخِصَالِ (حَلْقُ الْعَانَةِ) وَهِيَ مَا فَوْقَ الْعَسِيبِ وَالْفَرْجِ وَمَا بَيْنَ الدُّبُرِ وَالْأُنْثَيَيْنِ وَهُوَ سُنَّةٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَلْقِ الْإِزَالَةُ بِغَيْرِ النَّتْفِ فَيَشْتَمِلُ الْإِزَالَةَ بِالنُّورَةِ وَبِالْحَلْقِ وَهُوَ الْأَحْسَنُ وَلَوْ فِي حَقِّ النِّسَاءِ، وَيُكْرَهُ إزَالَةُ شَعْرِ الْعَانَةِ بِالنَّتْفِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ لِأَنَّهُ يُرْخِي الْمَحَلَّ وَيُؤْذِي الرَّجُلَ كَمَا أَخْبَرَ بِذَلِكَ بَعْضُ الْأَطِبَّاءِ. (وَلَا بَأْسَ بِحِلَاقِ غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ الْعَانَةِ (مِنْ شَعْرِ الْجَسَدِ) كَشَعْرِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَنَحْوِهِمَا مِنْ بَقِيَّةِ شَعْرِ الْجَسَدِ حَتَّى شَعْرِ حَلَقَةِ الدُّبُرِ، إلَّا الرَّأْسَ وَاللِّحْيَةَ فَإِنَّ حَلْقَهُمَا بِدْعَةٌ مُحَرَّمَةٌ فِي اللِّحْيَةِ وَغَيْرُ مُحَرَّمَةٌ فِي الرَّأْسِ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَحْلِقْ رَأْسَهُ إلَّا فِي التَّحَلُّلِ مِنْ الْحَجِّ، وَالظَّاهِرُ مِنْ لَا بَأْسَ الْإِبَاحَةُ، وَقَالَ بَعْضُ الْأَفَاضِلِ: تَرْكُ إزَالَتِهِ اقْتِدَاءٌ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ: كَرِهَ مَالِكٌ حَلْقَ الرَّأْسِ لِغَيْرِ الْمُتَحَلِّلِ مِنْ الْإِحْرَامِ، وَذَكَرَ الزَّنَاتِيُّ خِلَافًا فِي حَلْقِ الرَّأْسِ ثُمَّ قَالَ: وَالْمَشْهُورُ كَرَاهَتُهُ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّمِ وَإِبَاحَتُهُ لِلْمُتَعَمِّمِ لِوُجُودِ الْعِوَضِ، وَقَالَ الْأُجْهُورِيُّ مَا مَعْنَاهُ: إنَّ عَدَمَ حَلْقِ الرَّأْسِ الْيَوْمَ مِنْ فِعْلِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ، فَالْقَوْلُ بِجَوَازِ حَلْقِهِ وَلَوْ لِغَيْرِ الْمُتَعَمِّمِ أَوْلَى بِالِاتِّبَاعِ فَهُوَ مِنْ الْبِدَعِ الْحَسَنَةِ حَيْثُ لَمْ يَفْعَلُهُ لِهَوَى نَفْسِهِ وَإِلَّا كَرِهَ أَوْ حَرُمَ، كَمَا يَحْرُمُ إبْقَاءُ الشُّوشَةِ لِلْعُجْبِ وَبِدُونِهِ يُكْرَهُ، كَمَا يُكْرَهُ الْقَزَعُ وَهُوَ تَفْرِيقُ شَعْرِ الرَّأْسِ مَعَ حَلْقِ مَا بَيْنَهُ كَمَا يَفْعَلُهُ الْعَرَبُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ عَدِّ قَصِّ الشَّارِبِ وَإِزَالَةِ شَعْرِ الْعَانَةِ وَالْجَنَاحَيْنِ مِنْ الْفِطْرَةِ عَدَمُ سُنِّيَّةِ إزَالَةِ شَعْرِ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ بَلْ الْإِبَاحَةُ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ لَا بَأْسَ كَمَا بَيَّنَّا. الثَّانِي: عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّ إزَالَةَ شَعْرِ الْعَانَةِ وَالْجَنَاحَيْنِ تَشْتَرِك فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، وَأَمَّا شَعْرُ بَقِيَّةِ الْجَسَدِ فَلَا بَأْسَ بِإِزَالَتِهِ فِي حَقِّ الرِّجَالِ فَقَطْ، وَأَمَّا النِّسَاءُ فَيَجِبُ عَلَيْهِنَّ إزَالَةُ مَا فِي إزَالَتِهِ جَمَالٌ لَهَا وَلَوْ شَعْرُ اللِّحْيَةِ إنْ نَبَتَ لَهَا لِحْيَةٌ وَإِبْقَاءُ مَا فِي بَقَائِهِ جَمَالٌ، فَيَحْرُمُ عَلَيْهَا حَلْقُ شَعْرِ رَأْسِهَا وَلِذَلِكَ يَتَعَيَّنُ فِي حَقِّهَا التَّقْصِيرُ عِنْدَ تَحَلُّلِهَا مِنْ إحْرَامِهَا. (وَ) خَامِسَةُ الْخِصَالِ (الْخِتَانُ لِلرِّجَالِ) فَإِنَّهُ (سُنَّةٌ) مُؤَكَّدَةٌ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْكَبِيرِ الْمُتَّضِحِ الذُّكُورَةِ، وَحَقِيقَتُهُ إزَالَةُ الْجِلْدَةِ السَّاتِرَةِ لِرَأْسِ الذَّكَرِ، وَالزَّمَنُ الْمُسْتَحَبُّ فِعْلُهُ فِيهِ عِنْدَ أَمْرِهِ بِالصَّلَاةِ، وَيُكْرَهُ خَتْنُهُ يَوْمَ السَّابِعِ، وَرَوَى ابْنُ حَبِيبٍ عَدَمَ جَوَازِ إمَامَةِ وَشَهَادَةِ تَارِكِهِ عَمْدًا اخْتِيَارًا، وَإِذَا أَسْلَمَ شَيْخٌ كَبِيرٌ سُنَّ خَتْنُهُ بِأَنْ يُؤْمَرَ بِخَتْنِهِ نَفْسَهُ لِحُرْمَةِ نَظَرِ عَوْرَةِ الْكَبِيرِ مَعَ سُنِّيَّةِ الْخِتَانِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَحْصُلُ لَهُ ضَرَرٌ فَيُرَخَّصُ لَهُ تَرْكُهُ، وَاخْتُلِفَ فِيمَنْ وُلِدَ مَخْتُونًا فَقِيلَ يُجْزِئُهُ، وَقِيلَ تُمَرُّ الْمُوسَى عَلَى مَوْضِعِ الْخِتَانِ كَمَا تُمَرُّ عَلَى رَأْسِ الْأَقْرَعِ عِنْدَ التَّحَلُّلِ وَيُخْتَنُ الرِّجَالُ لَا النِّسَاءُ. (وَالْخِفَاضُ) وَهُوَ قَطْعُ مَا عَلَى فَرْجِ الْأُنْثَى كَعُرْفِ الدِّيكِ (لِلنِّسَاءِ) وَحُكْمُهُ أَنَّهُ (مَكْرُمَةٌ) بِضَمِّ الرَّاءِ وَفَتْحِ الْمِيمِ أَيْ كَرَامَةٌ بِمَعْنَى مُسْتَحَبٌّ لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، وَيُسْتَحَبُّ فِيهِ السَّتْرُ بِحَيْثُ لَا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ غَيْرُ الْفَاعِلَةِ وَالْمَفْعُولِ بِهَا وَلِذَلِكَ لَا يُصْنَعُ لِلْخِفَاضِ طَعَامٌ، بِخِلَافِ الْخِتَانِ فَيَجُوزُ أَنْ يُشْهَرَ وَيُدْعَى إلَيْهِ النَّاسُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 كَثِيرًا وَقَالَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَيُكْرَهُ صِبَاغُ الشَّعْرِ بِالسَّوَادِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ وَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ،   [الفواكه الدواني] (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا قُلْنَا الْمُتَّضِحُ الذُّكُورَةِ احْتِرَازًا مِنْ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ، فَقَدْ وَقَعَ التَّرَدُّدُ فِيهِ لِشُيُوخِ مَذْهَبِنَا هَلْ يُخْتَنُ أَمْ لَا، وَعَلَى خَتْنِهِ فَهَلْ فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ أَوْ فِيهِمَا مَعًا أَوْ لَا. قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ لَمْ أَرَ لِأَصْحَابِنَا نَصًّا، وَلِلشَّافِعِيَّةِ فِي ذَلِكَ قَوْلَانِ يُخْتَنُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَقِيلَ لَا حَتَّى يَتَبَيَّنَ وَهُوَ الْأَظْهَرُ عِنْدَهُمْ، ابْنُ نَاجِي: لَا يُخْتَنُ لِمَا عَلِمْت مِنْ قَاعِدَةِ تَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ، وَنَصَّ فِي الْمُدَوَّنَةِ يُخْتَنُ الرِّجَالُ الصِّبْيَانُ وَيُخْفَضُ النِّسَاءُ الْجَوَارِي لِمَنْعِ اطِّلَاعِ الرِّجَالِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَوْلُ ابْنِ نَاجِي لَا يُخْتَنُ فِيهِ شَيْءٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: يُؤْمَرُ بِخَتْنِ نَفْسِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّتَّائِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ: وَمِنْ الْفِطْرَةِ خَمْسٌ لَا يَقْتَضِي الْحَصْرَ، فَلَا يُنَافِي مَا قِيلَ إنَّ مِنْ الْفِطْرَةِ الْمَضْمَضَةُ وَالِاسْتِنْشَاقُ وَالسِّوَاكُ وَمَسْحُ الْأُذُنَيْنِ وَالِاسْتِنْجَاءُ، فَلَعَلَّ اقْتِصَارَهُ عَلَى الْخَمْسِ لِأَنَّهَا أَظْهَرُ فِي تَحْسِينِ الْخِلْقَةِ أَوْ أَوْكَدُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى اللِّحْيَةِ بِقَوْلِهِ: (وَأَمَرَ النَّبِيُّ) - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ لِلْإِمَامِ بِ (أَنْ تُعْفَى اللِّحْيَةُ) أَيْ يُوَفَّرَ شَعْرُهَا وَيَبْقَى مِنْ غَيْرِ إزَالَةٍ لِشَيْءٍ مِنْهَا فَقَوْلُهُ: (وَتُوَفَّرُ وَلَا تُقَصُّ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ وَذَكَرَهُ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ " وَأَمَرَ " الْوُجُوبُ وَهُوَ كَذَلِكَ إذْ يَحْرُمُ حَلْقُهَا إذَا كَانَتْ لِرَجُلٍ، وَأَمَّا قَصُّهَا فَإِنْ لَمْ تَكُنْ طَالَتْ فَكَذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ طَالَتْ كَثِيرًا فَأَشَارَ إلَى حُكْمِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَلَا بَأْسَ بِالْأَخْذِ مِنْ طُولِهَا إذَا طَالَتْ) طُولًا (كَثِيرًا) بِحَيْثُ خَرَجَتْ عَنْ الْمُعْتَادِ لِغَالِبِ النَّاسِ فَيُقَصُّ الزَّائِدُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ يَقْبُحُ بِهِ الْمَنْظَرُ، وَحُكْمُ الْأَخْذِ النَّدْبُ فَلَا بَأْسَ هُنَا لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ وَالْمَعْرُوفُ لَا حَدَّ لِلْمَأْخُوذِ، وَيَنْبَغِي الِاقْتِصَارُ عَلَى مَا تَحْسُنُ بِهِ الْهَيْئَةُ، وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُقَصُّ مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ فِعْلُ عُمَرَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ فَإِنَّهُمَا كَانَا يَأْخُذَانِ مِنْ لِحْيَتِهِمَا مَا زَادَ عَلَى الْقَبْضَةِ، وَالْمُرَادُ بِطُولِهَا طُولُ شَعْرِهَا فَيَشْمَلُ جَوَانِبَهَا فَلَا بَأْسَ بِالْأَخْذِ مِنْهَا أَيْضًا، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: قَالَ مَالِكٌ وَلَا بَأْسَ يُوهِمُ انْفِرَادَ مَالِكٍ بِقَوْلِهِ قَالَ: (وَقَالَهُ) أَيْ نَدْبُ الْأَخْذِ مِنْ الطَّوِيلَةِ قَبْلَ مَالِكٍ (غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ الصَّحَابَةِ وَ) غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ (التَّابِعِينَ) رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْجَمِيعِ، وَالْمُرَادُ قَالَهُ كَثِيرٌ مِنْ الْفَرِيقَيْنِ فَيَكُونُ هَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، وَلَا يُعَارِضُهُ مَا رُوِيَ عَنْ مَالِكٍ: مِنْ تَرْكِ طُولِهَا حَتَّى تَبْلُغَ حَدَّ التَّشْوِيهِ لِأَنَّهُ بَيَانٌ لِلطُّولِ كَثِيرًا لِأَنَّ الْمُطْلَقَ يُحْمَلُ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَكَمَا يُسْتَحَبُّ قَصُّ الزَّائِدِ يُسْتَحَبُّ تَسْرِيحُهَا وَلِمَا وَرَدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ جَالِسًا فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ ثَائِرُ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ فَأَمَرَهُ بِالْخُرُوجِ لِيُسَرِّحَ لِحْيَتَهُ وَرَأْسَهُ، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ بَعْدَ تَسْرِيحِهِمَا قَالَ لَهُ: أَلَيْسَ هَذَا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدُكُمْ ثَائِرَ الرَّأْسِ كَأَنَّهُ شَيْطَانٌ؟» . (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إلَّا أَخْذُ الزَّائِدِ عَلَى الْمُعْتَادِ، فَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ حَلْقُ مَا تَحْتَ الْحَنَكِ وَهُوَ كَذَلِكَ، فَقَدْ نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ كَرَاهَتُهُ حَتَّى قَالَ: إنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْمَجُوسِ، وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الشُّيُوخِ أَنَّ حَلْقَهُ مِنْ الزِّينَةِ فَتَكُونُ إزَالَتُهُ مِنْ الْفِطْرَةِ، وَأَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَمْعُ، يُحْمَلُ كَلَامُ الْإِمَامِ عَلَى مَا يَلْزَمُ عَلَى بَقَائِهِ تَضَرُّرُ الشَّخْصِ وَلَا تَشْوِيهِ خِلْقَتِهِ، وَكَلَامُ غَيْرِهِ عَلَى مَا يَلْزَمُ عَلَى بَقَائِهِ قُبْحُ مَنْظَرِ صَاحِبِهِ أَوْ تَضَرُّرُهُ بِهِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَأْخُذُ مِنْ عَرْضِ لِحْيَتِهِ وَطُولِهَا، وَكَانَ يَأْمُرُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَاطِنِ اللِّحْيَةِ، وَأَمَّا شَعْرُ الْخَدِّ فَاَلَّذِي اخْتَارَهُ ابْنُ عَرَفَةَ جَوَازُ إزَالَتِهِ، وَأَمَّا شَعْرُ الْأَنْفِ فَقَدْ اسْتَحَبَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَصَّهُ لَا نَتْفَهُ لِأَنَّ بَقَاءَهُ أَمَانٌ مِنْ الْجُذَامِ وَنَتْفَهُ يُورِثُ الْأَكَلَةَ، وَأَمَّا شَعْرُ الْعَنْفَقَةِ فَيَحْرُمُ إزَالَتُهُ كَحُرْمَةِ إزَالَةِ شَعْرِ اللِّحْيَةِ، وَقَيَّدْنَا ذَلِكَ بِالرَّجُلِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمَرْأَةَ يَجِبُ عَلَيْهَا إزَالَةُ مَا عَدَا شَعْرَ رَأْسِهَا. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى نَتْفِ الشَّيْبِ مِنْ اللِّحْيَةِ، وَقَالَ مَالِكٌ حِينَ سُئِلَ عَنْهُ: لَا أَعْلَمُهُ حَرَامًا وَتَرْكُهُ أَحَبُّ إلَيَّ، أَيْ إزَالَتُهُ مَكْرُوهَةٌ عَلَى الصَّوَابِ، كَمَا يُكْرَهُ تَخْفِيفُ اللِّحْيَةِ وَالشَّارِبِ بِالْمُوسَى تَحْسِينًا وَتَزْيِينًا، وَإِنْ قَصَدَ بِذَلِكَ التَّلْبِيسَ عَلَى النِّسَاءِ كَانَ أَشَدَّ فِي النَّهْيِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى إزَالَةِ الشَّعْرِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ تَغَيُّرِ لَوْنِهِ مَعَ بَقَائِهِ فَقَالَ: [صِبَاغُ الشَّعْرِ] (وَيُكْرَهُ صِبَاغُ الشَّعْرِ) الْغَيْرِ الْأَسْوَدِ (بِالسَّوَادِ) لِغَيْرِ مُقْتَضًى شَرْعِيٍّ، وَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ قَدْ تَكُونُ مَحْمُولَةً عَلَى التَّحْرِيمِ قَالَ: (مِنْ غَيْرِ تَحْرِيمٍ) بَلْ لِمُجَرَّدِ التَّنْزِيهِ، أَمَّا لَوْ كَانَ الصِّبَاغُ لِغَرَضٍ شَرْعِيٍّ كَإِرْهَابِ الْعَدُوِّ مَثَلًا فَلَا حَرَجَ فِيهِ بَلْ يُؤْجَرُ عَلَيْهِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لِغَرُورِ مُشْتَرٍ لِعَبْدٍ أَوْ مُرِيدِ نِكَاحِ امْرَأَةٍ فَلَا شَكَّ فِي حُرْمَتِهِ، ثُمَّ صَرَّحَ بِمَفْهُومِ السَّوَادِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ الصِّبَاغِ (بِالْحِنَّاءِ) بِالْمَدِّ لِتَحْمِيرِ الشَّعْرِ (وَالْكَتَمِ) بِفَتْحِ الْكَافِ وَالتَّاءِ وَهُوَ وَرَقُ السُّلَّمِ لِتَصْفِيرِ الشَّعْرِ، وَعَلَى جَوَازِهِ لِلرِّجَالِ فِي شَعْرِ الرَّأْسِ وَاللِّحْيَةِ دُونَ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ لِأَنَّ فِيهِمَا مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ فَفِي فِعْلِهِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ تَشَبُّهٌ بِهِنَّ، وَقَدْ لَعَنَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُتَشَبِّهِينَ بِالنِّسَاءِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا فِعْلُ ذَلِكَ فِي غَيْرِ شَعْرِهَا، لَكِنْ حَدَّهُ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِلْمَرْأَةِ فِي الْيَدَيْنِ بِمَوْضِعِ السِّوَارِ، وَنَهَى عَنْ التَّطْرِيفِ وَأَجَازَهُ مَالِكٌ فَلَا يُطْلَقُ الْقَوْلُ (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: الْمُتَبَادَرُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَلَا بَأْسَ بِهِ بِالْحِنَّاءِ إلَخْ الْإِبَاحَةُ لِأَنَّهَا بَعْدَ مَنْهِيٍّ عَنْهُ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 وَنَهَى الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - الذُّكُورَ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ وَتَخَتُّمِ الذَّهَبِ وَعَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ وَلَا بَأْسَ بِالْفِضَّةِ فِي حِلْيَةِ الْخَاتَمِ وَالسَّيْفِ وَالْمُصْحَفِ وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي لِجَامٍ وَلَا سَرْجٍ وَلَا سِكِّينٍ وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ، وَيَتَخَتَّمُ النِّسَاءُ بِالذَّهَبِ.   [الفواكه الدواني] أَظْهَرُهُمَا مَا قَدَّمْنَا، فَفِي الذَّخِيرَةِ: اتَّفَقُوا عَلَى جَوَازِ تَغْيِيرِ الشَّيْبِ بِالصُّفْرَةِ وَالْحِنَّاءِ وَالْكَتَمِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْأَفْضَلِ هَلْ التَّرْكُ أَوْ الْفِعْلُ وَالْقَوْلَانِ لِمَالِكٍ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الصِّبَاغُ بِالسَّوَادِ دُونَ غَيْرِهِ لِأَنَّ فِيهِ صَرْفَ لَوْنٍ إلَى لَوْنٍ مَعَ ذَهَابِ الْأَوَّلِ بِخِلَافِ نَحْوِ الْحِنَّاءِ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ لَمْ يَذْهَبْ جُمْلَةً وَإِنَّمَا تَغَيَّرَ فَلَا يَتَلَبَّسُ الشَّيْبُ عَلَى أَحَدٍ بِاحْمِرَارِهِ أَوْ اصْفِرَارِهِ. الثَّانِي: لَمْ يَثْبُتْ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَبَغَ وَإِنَّمَا قَالَ: «اخْتَضِبُوا وَفَرِّقُوا وَخَالِفُوا الْيَهُودَ» لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى لَا يَصْبُغُونَ فَأَمَرَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمُخَالَفَتِهِمْ، وَإِنَّمَا صَبَغَ أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا يَنْهَى عَنْ لُبْسِهِ بِقَوْلِهِ: [لِبَاسِ الْحَرِيرِ] (وَنَهَى الرَّسُولُ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ الذُّكُورَ عَنْ لِبَاسِ الْحَرِيرِ) لِمَا فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: «إنَّمَا يَلْبَسُ هَذِهِ مَنْ لَا خَلَاقَ لَهُ فِي الْآخِرَةِ» . وَلِخَبَرِ: «مَنْ لَبِسَ الْحَرِيرَ فِي الدُّنْيَا لَمْ يَلْبَسْهُ فِي الْآخِرَةِ» (وَ) نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الذُّكُورَ أَيْضًا عَنْ (تَخَتُّمِ الذَّهَبِ) لِمَا وَرَدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَنَّهُ أَخَذَ حَرِيرًا فَجَعَلَهُ فِي يَمِينِهِ وَأَخَذَ ذَهَبًا فَجَعَلَهُ فِي شِمَالِهِ ثُمَّ قَالَ: إنَّ هَذَيْنِ حَرَامٌ عَلَى ذُكُورِ أُمَّتِي» . (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: أَجْمَلَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّهْيِ وَالْأَصْلُ فِيهِ الْحُرْمَةُ وَهُوَ كَذَلِكَ، لَكِنْ فِي حَقِّ الْبَالِغِينَ اتِّفَاقًا، وَاخْتُلِفَ فِي الصِّغَارِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ: الْجَوَازُ وَالْحُرْمَةُ وَالْكَرَاهَةُ، وَاَلَّذِي اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْحَطَّابُ كَرَاهَةُ تَحْلِيَةِ الصَّبِيِّ بِالذَّهَبِ أَوْ الْحَرِيرِ وَالْجَوَازُ بِالْفِضَّةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ لِقَوْلِهِ: وَحَرُمَ اسْتِعْمَالُ ذَكَرٍ مُحَلًّى وَلَوْ مِنْطَقَةً وَآلَةَ حَرْبٍ، وَالْحُرْمَةُ عَلَى الْمُكَلَّفِ وَلَوْ لِعُذْرٍ وَكَحَكَّةٍ أَوْ جِهَادٍ، وَقَالَ ابْنُ نَاجِي وَهُوَ الْمَشْهُورُ: وَيَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلْمَرَضِ وَإِلَّا جَازَ، وَمَفْهُومُ الذُّكُورِ الْجَوَازُ لِلْإِنَاثِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ الْمَلْبُوسُ مُطْلَقًا وَلَوْ نِعَالًا كَسَرِيرٍ وَهَذَا فِي حَالِ حَيَاتِهَا، وَاخْتُلِفَ فِي تَكْفِينِهَا فِيهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ اللُّبْسِ لِلْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ فَرْشِهِ وَالْجُلُوسِ عَلَيْهِ وَفِيهِ قَوْلَانِ: الْجَوَازُ وَالْحُرْمَةُ، وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُورُ الْحُرْمَةُ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَظَاهِرُهُ وَلَوْ كَانَ تَبَعًا كَزَوْجٍ فَلَا يَجُوزُ لَهُ الْجُلُوسُ عَلَيْهِ تَبَعًا لِزَوْجَتِهِ، خِلَافًا لِابْنِ الْعَرَبِيِّ فِي إجَازَتِهِ تَبَعًا لَهَا وَكَانَتْ مُصَاحِبَةً لَهُ فِي الْجُلُوسِ عَلَيْهِ كَمَا قَيَّدَهُ بَعْضُهُمْ، وَسَيَأْتِي حُكْمُ الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْحَرِيرِ وَأَنَّهُ يَجُوزُ الْخَطُّ الرَّقِيقُ دُونَ الْأُصْبُعِ اتِّفَاقًا، كَمَا تَجُوزُ الْخِيَاطَةُ بِهِ أَوْ اتِّخَاذُ رَايَةٍ فِي دَارِ الْحَرْبِ مِنْهُ، وَحُرْمَةُ الْجُلُوسِ عَلَى الْحَرِيرِ وَالذَّهَبِ مُسْتَمِرَّةٌ وَلَوْ فَرَشَ غَيْرَهُ عَلَيْهِ، فَلَا يَجُوزُ لُبْسُ الْمُبَطَّنِ بِالْحَرِيرِ أَوْ الْمَحْشُوِّ بِالْحَرِيرِ أَوْ الْمَرْقُومِ بِالْحَرِيرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَسِيرًا كَمَا يَأْتِي، وَمِنْ الْمُحَرَّمِ السِّجَافُ الْعَرِيضُ حَيْثُ زَادَ عَلَى أَرْبَعِ أَصَابِعَ وَفِي قَدْرِ عَرْضِ الْأُصْبُعِ أَوْ الْأَرْبَعِ قَوْلَانِ: بِالْجَوَازِ وَالْكَرَاهَةِ كَمَا يَأْتِي، وَأَمَّا تَعْلِيقُ الْحَرِيرِ وَجَعْلُهُ سِتَارَةً مِنْ غَيْرِ جُلُوسٍ عَلَيْهِ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قَالَهُ ابْنُ حَبِيبٍ. الثَّالِثُ: حُرْمَة ُ التَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ شَامِلَةٌ لِلْخَالِصِ وَلِمَا بَعْضُهُ فِضَّةٌ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا مَا بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَلَوْ قَلَّ، وَاخْتُلِفَ فِي إعَادَةِ الْمُصَلِّي بِهِ فِي الْوَقْتِ وَعَدَمِهَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَحُرْمَةُ التَّخَتُّمُ بِهِ لَا يُنَافِي جَوَازَ اتِّخَاذِ السِّنِّ مِنْهُ وَأَوْلَى رَبْطُهَا وَالْأَنْفِ قَالَ خَلِيلٌ: إلَّا الْمُصْحَفَ وَالسَّيْفَ وَالْأَنْفَ وَرَبْطَ سِنٍّ مُطْلَقًا لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبِيحُ الْمُحَرَّمَاتِ. (وَ) نَهَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الرِّجَالَ (عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ) لِأَنَّهُ حَلِيلَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ عَلَى الْحُرْمَةِ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وَالْمُعْتَمَدُ الْكَرَاهَةُ كَكَرَاهَةِ التَّخَتُّمِ بِالنُّحَاسِ إلَّا لِمَنْ بِهِ مَرَضُ الصَّفْرَاءِ بِالنِّسْبَةِ لِخَاتَمِ النُّحَاسِ، وَإِلَّا لُحُوقَ الْجِنِّ بِالنِّسْبَةِ لِخَاتَمِ الْحَدِيدِ فَإِنَّهُ نَافِعٌ كَمَا يَنْفَعُ تَعْلِيقُ الْأُتْرُجِّ فِي الْبَيْتِ مِنْ الْجِنِّ أَيْضًا، وَسَنَذْكُرُ حُكْمَ التَّخَتُّمِ بِغَيْرِ مَا ذُكِرَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ اسْتِعْمَالِ الْحَرِيرِ وَالتَّخَتُّمِ بِالذَّهَبِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ اسْتِعْمَالِ الْمُحَلَّى بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالْفِضَّةِ) الْمَجْعُولَةِ (فِي حَلِيلَةِ الْخَاتَمِ) الْمَصْنُوعِ مِنْ خَشَبٍ أَوْ نَحْوِهِ مِمَّا يَجُوزُ اتِّخَاذُ خَاتَمٍ مِنْهُ وَهُوَ مَا عَدَا الْحَدِيدَ وَالنُّحَاسَ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ مُرَادَهُ بِحِلْيَةِ الْخَاتَمِ نَفْسُ خَاتَمِ الْفِضَّةِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - اتَّخَذَ خَاتَمًا مِنْ فِضَّةٍ وَزْنَ دِرْهَمَيْنِ، فَيَجُوزُ لَنَا اتِّخَاذُهُ بِشَرْطِ الِاقْتِدَاءِ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ يَحْرُمُ لُبْسُهُ عُجْبًا، وَبِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ وَاحِدًا فَلَا يَجُوزُ تَعَدُّدُهُ وَلَوْ كَانَ وَزْنُ الْجَمِيعِ دِرْهَمَيْنِ، كَمَا لَا يَجُوزُ مَا زَادَ وَزْنُهُ عَلَى الدِّرْهَمَيْنِ، أَوْ الَّذِي بَعْضُهُ ذَهَبٌ وَبَعْضُهُ فِضَّةٌ وَلَوْ قَلَّ الذَّهَبُ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يُعْلَمُ مِنْ كَلَامِهِ مَعْنَى لَا بَأْسَ وَالْمَنْصُوصُ الْجَوَازُ، بَلْ صَرَّحَ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ بِنَدْبِ اتِّخَاذِهِ اقْتِدَاءً بِالْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كَمَا يُسْتَحَبُّ وَضْعُهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 وَنُهِيَ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ وَالِاخْتِيَارُ مِمَّا رُوِيَ فِي التَّخَتُّمِ التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ بِالْيَمِينِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ بِيَمِينِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي يَسَارِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي لِبَاسِ الْخَزِّ فَأُجِيزَ وَكُرِهَ وَكَذَلِكَ الْعَلَمُ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْحَرِيرِ إلَّا الْخَطَّ الرَّقِيقَ،   [الفواكه الدواني] فِي خِنْصَرِ الْيَسَارِ وَيُكْرَهُ فِي الْيَمِينِ كَمَا يَأْتِي، وَيُعْلَمُ مِنْ قَصْرِ الْجَوَازِ عَلَى الْخَاتَمِ حُرْمَةُ الطَّوْقِ وَالدُّمْلُجِ مِنْ الْفِضَّةِ لِلرِّجَالِ. (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِتَحْلِيَةِ (السَّيْفِ) بِالْفِضَّةِ أَوْ الذَّهَبِ سَوَاءٌ اتَّصَلَتْ الْحِلْيَةُ كَقَبْضَتِهِ أَوْ انْفَصَلَتْ عَنْهُ كَغِمْدِهِ، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ فِي سَيْفِ الرَّجُلِ، وَأَمَّا سَيْفُ الْمَرْأَةِ فَيَحْرُمُ تَحْلِيَتُهُ وَلَوْ كَانَتْ تُجَاهِدُ لِأَنَّهُ لَا يُبَاحُ لِلْمَرْأَةِ إلَّا الْمَلْبُوسَ، وَمَفْهُومُ السَّيْفِ أَنَّ بَقِيَّةَ آلَاتِ الْحَرْبِ يَحْرُمُ تَحْلِيَتُهَا لِأَنَّ السَّيْفَ أَعْظَمُ آلَاتِ الْحَرْبِ. (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِتَحْلِيَةِ جِلْدِ (الْمُصْحَفِ) بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ تَعْظِيمًا لَهُ، وَإِنَّمَا تَحْلِيَتُهُ مِنْ دَاخِلِ جِلْدِهِ أَوْ كِتَابَتُهُ أَوْ تَجْزِئَتُهُ بِالذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ فَمَكْرُوهَةٌ، بِخِلَافِ كِتَابَةِ الْمُصَنِّفِ فِي الْحَرِيرِ أَوْ تَحْلِيَتِهِ بِهِ فَلَا تَحْرُمُ وَلَا تُكْرَهُ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمُصْحَفِ مِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ فَيَحْرُمُ تَحْلِيَتُهُ فِقْهًا أَوْ حَدِيثًا وَأَوْلَى تَحْلِيَةُ الْإِجَازَةِ. وَلَمَّا كَانَ يَحْرُمُ عَلَى الذُّكُورِ اسْتِعْمَالُ كُلِّ مُحَلًّى سِوَى مَا مَرَّ قَالَ: (وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ) أَيْ مَا ذُكِرَ مِنْ الْفِضَّةِ وَمِثْلُهُ الذَّهَبُ (فِي لِجَامِ وَلَا) فِي (سَرْجٍ) وَلَا فِي رِكَابٍ (وَلَا) فِي (سِكِّينٍ) وَأَوْلَى فِي الْحُرْمَةِ الْخِنْجَرُ (وَلَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ) مِنْ نَحْوِ الْمِنْطَقَةِ وَالْمِهْمَازِ وَسَائِرِ الْآلَاتِ مِثْلُ مَا تَقَدَّمَ جَوَازُهُ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: ظَاهِرُ قَوْلِهِ: وَلَا يُجْعَلُ ذَلِكَ فِي لِجَامٍ إلَخْ أَنَّ ذَاتَ اللِّجَامِ وَالسَّرْجِ وَالسِّكِّينِ مَصْنُوعَةٌ مِنْ غَيْرِ النَّقْدَيْنِ ثُمَّ طُلِيَتْ بِالنَّقْدَيْنِ وَيُقَالُ لِمِثْلِ هَذَا مُمَوَّهٌ وَفِيهِ قَوْلَانِ بِالْحُرْمَةِ وَالْإِبَاحَةِ كَمَا أَشَارَ إلَيْهِمَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَفِي الْمُغَشَّى وَالْمُمَوَّهِ وَالْمُضَبَّبِ وَذِي الْحَلَقَةِ وَإِنَاءِ الْجَوْهَرِ قَوْلَانِ، فَالْمُغَشَّى الْمَصْنُوعُ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ وَيُطْلَى بِنُحَاسٍ أَوْ رَصَاصٍ، وَالْمُمَوَّهُ عَكْسُهُ، وَالْمُضَبَّبُ إنَاءٌ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ يُكْسَرُ فَيُلْحَمُ بِسِلْكِ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ، وَذُو الْحَلْقَةِ إنَاءٌ يُصْنَعُ لَهُ حَلْقَةٌ بِسُكُونِ اللَّامِ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ فِضَّةٍ يُعَلَّقُ بِهَا، وَإِنَاءُ الْجَوْهَرِ كَالدُّرِّ وَالْيَاقُوتِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمُغَشَّى بِالْجَوَازِ وَالْمَنْعِ وَالْمُعْتَمَدُ الْمَنْعُ، وَفِي الْمُمَوَّهِ قَوْلَانِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْعِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمُضَبَّبِ وَذِي الْحَلَقَةِ بِالْمَنْعِ وَالْكَرَاهَةِ عَلَى حَدٍّ سَوَاءٍ، وَالْقَوْلَانِ بِمَعْنَى التَّرَدُّدِ لِلْمُتَأَخِّرِينَ فِي إنَاءِ الْجَوْهَرِ بِالْجَوَازِ وَالْمَنْعِ عَلَى السَّوَاءِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ السَّرْجُ أَوْ اللِّجَامُ أَوْ رَأْسُ السِّكِّينِ مِنْ مَحْضِ الذَّهَبِ أَوْ الْفِضَّةِ لَحَرُمَ قَوْلًا وَاحِدًا. الثَّانِي: مَا حَرُمَ مِنْ الْمَذْكُورَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ كَوْنِهِ مُسْتَعْمَلًا أَوْ مُقْتَنًى. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمُحَرَّمِ: وَإِنَاءُ نَقْدٍ وَاقْتِنَاؤُهُ وَإِنْ لِامْرَأَةٍ، وَلَا يَجُوزُ الِاسْتِئْجَارُ عَلَى صَنْعَةِ مَا لَا يَحِلُّ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَسَرَهُ، وَيَجِبُ عَلَى مَنْ مَلَكَهُ أَنْ يَبِيعَهُ لِمَنْ يَصْنَعُهُ حُلِيًّا، وَيُبَاعُ بِعَرْضٍ أَوْ بِنَقْدٍ مِنْ غَيْرِ نَوْعِهِ وَلَوْ مُتَفَاضِلًا لَكِنْ يَدًا بِيَدٍ، وَأَمَّا بِنَوْعِهِ فَيُبَاعُ بِشَرْطِ التَّمَاثُلِ فِي الْوَزْنِ وَالتَّنَاجُزِ وَيَحْرُمُ بَيْعُهَا لِمَنْ يَقْتَنِيهَا، وَإِنْ وَقَعَ صَحَّ الْبَيْعُ، وَيُجْبَرُ عَلَى بَيْعِهَا بِمَنْزِلَةِ عَبْدٍ مُسْلِمٍ اشْتَرَاهُ كَافِرٌ يَصِحُّ الشِّرَاءُ وَيُجْبَرُ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ. [التَّخَتُّم بِالذَّهَبِ] (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يَتَخَتَّمَ النِّسَاءُ بِالذَّهَبِ) وَأَوْلَى الْفِضَّةُ لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ جَمِيعُ الْمَلْبُوسَاتِ مِنْ النُّقُودِ وَلَوْ نَعْلًا وَقَبْقَابًا، وَمَا أُلْحِقَ بِاللِّبَاسِ كَالْإِزَارِ وَكَالْحِيَاصَةِ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَلْبُوسِ كَمُكْحُلَةٍ أَوْ مِرْوَدٍ أَوْ كُرْسِيٍّ أَوْ مِلْعَقَةٍ فَلَا يَجُوزُ لَهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ لِلْمَرْأَةِ الْمَلْبُوسُ مُطْلَقًا وَلَوْ نَعْلًا لَا كَسَرِيرٍ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ تَخَتُّمِ النِّسَاءِ بِالذَّهَبِ جَوَازُ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ مِنْ بَابِ أَوْلَى قَالَ: [التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ] (وَنَهَى) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - النِّسَاءَ كَالرِّجَالِ (عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ) وَتَقَدَّمَ أَنَّ النَّهْيَ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَإِنَّمَا شَارَكَتْ النِّسَاءُ الرِّجَالَ فِي النَّهْيِ عَنْ التَّخَتُّمِ بِالْحَدِيدِ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ حِلْيَةُ أَهْلِ النَّارِ، وَمِثْلُ الْحَدِيدِ النُّحَاسُ وَالرَّصَاصُ، وَأَمَّا الْجِلْدُ وَالْعَقِيقُ وَالْقَصْدِيرُ وَالْخَشَبُ فَجَائِزٌ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ التَّخَتُّمَ بِالْفِضَّةِ وَغَيْرِ الْحَدِيدِ وَمَا أُلْحِقَ بِهِ جَائِزٌ وَلَوْ لِلرِّجَالِ، وَبِالْحَدِيدِ وَالنُّحَاسُ مَكْرُوهٌ لِكُلٍّ مِنْهُمَا. (تَنْبِيهٌ) إذَا عَرَفْت أَنَّ مَا هُنَا مِنْ خُصُوصِ النِّسَاءِ عَلِمْت عَدَمَ تَكْرَارِ هَذَا مَعَ مَا سَبَقَ، وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخَتُّمُ الرِّجَالِ بِالْفِضَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَحَلِّهِ بِقَوْلِهِ: (وَالِاخْتِيَارُ) أَنَّ الْمُخْتَارَ عَنْ الْجُمْهُورِ (مِمَّا رُوِيَ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِي التَّخَتُّمِ) أَيْ فِي لُبْسِ الْخَاتَمِ، وَخَبَرُ الِاخْتِيَارِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً (التَّخَتُّمُ فِي الْيَسَارِ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، وَاَلَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ جَعْلُهُ فِي الْخِنْصَرِ، وَمِمَّنْ كَانَ يَلْبَسُهُ فِي يَسَارِهِ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَعَلَّلَ نَدْبَ جَعْلِهِ فِي الْيَسَارِ بِقَوْلِهِ: (لِأَنَّ تَنَاوُلَ الشَّيْءِ) الصَّادِقِ بِالْخَاتَمِ يُنْدَبُ كَوْنُهُ (بِالْيَمِينِ فَهُوَ يَأْخُذُهُ) أَيْ الْخَاتَمَ (بِيَمِينِهِ وَيَجْعَلُهُ فِي يَسَارِهِ) وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ يُلْبَسُ فِي خِنْصَرِ الْيَسَارِ، وَكَانَ فَصُّ خَاتَمِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ جَزْعٍ أَوْ عَقِيقٍ مِنْ مَعْدِنٍ بِالْحَبَشَةِ أَوْ الْيَمَنِ وَنَقْشُهُ: مُحَمَّدٌ سَطْرٌ أَعْلَى، وَرَسُولُ سَطْرٌ أَوْسَطُ، وَلَفْظُ اللَّهِ سَطْرٌ أَسْفَلُ، وَكَانَ يَجْعَلُ فَصَّهُ مِنْ دَاخِلِ كَفِّهِ، وَاسْتَمَرَّ فِي يَدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَى أَنْ مَاتَ، ثُمَّ كَانَ بَعْدَهُ فِي يَدِ أَبِي بَكْرٍ ثُمَّ فِي يَدِ عُمَرَ ثُمَّ فِي يَدِ عُثْمَانَ ثُمَّ وَقَعَ مِنْهُ فِي بِئْرِ أَرِيسَ وَلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 وَلَا يَلْبَسُ النِّسَاءُ مِنْ الرَّقِيقِ مَا يَصِفُهُنَّ إذَا خَرَجْنَ، وَلَا يَجُرُّ الرَّجُلُ إزَارَهُ بَطَرًا وَلَا ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ وَلْيَكُنْ إلَى الْكَعْبَيْنِ فَهُوَ أَنْظَفُ لِثَوْبِهِ وَأَتْقَى لِرَبِّهِ، وَيُنْهَى عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ وَهِيَ عَلَى غَيْرِ ثَوْبٍ يَرْفَعُ ذَلِكَ مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ   [الفواكه الدواني] يُوجَدْ، وَسَبَبُ اتِّخَاذِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْخَاتَمَ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ إلَى الْأَعَاجِمِ فَقِيلَ لَهُ إنَّهُمْ لَا يَقْرَءُونَ كِتَابًا إلَّا مَخْتُومًا، فَاتَّخَذَ خَاتَمًا كُلُّهُ مِنْ فِضَّةٍ فَصُّهُ مِنْهُ، وَقَدْ نَبَذَ خَاتَمًا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ ذَهَبٍ وَاسْتَمَرَّ عَلَى لُبْسِ خَاتَمِ الْفِضَّةِ إلَى أَنْ مَاتَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ فَصَّهُ مِنْهُ عَلَى مَا فِي الْقَبَسِ، وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ فَصَّهُ كَانَ حَبَشِيًّا مِنْ جَزْعٍ أَوْ عَقِيقٍ فَعَلَى رِوَايَةِ الْبُخَارِيِّ فَلَا تَنَافِيَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يَحِلُّ مِنْ اللِّبَاسِ وَمَا يَحْرُمُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ شَرَعَ فِي الْمُخْتَلَفِ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَاخْتُلِفَ فِي لِبَاسِ الْخَزِّ) بِالْخَاءِ وَالزَّايِ الْمُعْجَمَتَيْنِ وَهُوَ مَا سُدَاه حَرِيرٌ وَلُحْمَتُهُ صُوفٌ أَوْ قُطْنٌ أَوْ كَتَّانٌ عَلَى أَرْبَعَةِ أَرْكَانٍ اقْتَصَرَ مِنْهَا عَلَى قَوْلَيْنِ أَشَارَ إلَيْهِمَا بِقَوْلِهِ: (فَأُجِيزَ) أَيْ أُبِيحَ هَذَا قَوْلٌ (وَكُرِهَ) وَهَذَا قَوْلٌ ثَانٍ لِابْنِ رُشْدٍ وَهُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ وَأَوْلَى بِالصَّوَابِ، وَثَالِثُهَا تَحْرِيمُهُ، وَرَابِعُهَا التَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْخَزِّ فَيَجُوزُ، وَبَيْنَ غَيْرِهِ مِنْ الثِّيَابِ الْمَشُوبَةِ بِالْقُطْنِ فَتُمْنَعُ لِأَنَّ الْخَزَّ إنَّمَا أُجِيزَ اتِّبَاعًا لِلسَّلَفِ فَلَا يُقَاسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، لِأَنَّ الْمُجِيزَ مِنْ الصَّحَابَةِ نَحْوُ خَمْسَةٍ وَعِشْرِينَ صَحَابِيًّا وَمِنْ التَّابِعِينَ نَحْوُ خَمْسَةَ عَشَرَ. (وَكَذَلِكَ) اُخْتُلِفَ فِي (الْعَلَمِ فِي الثَّوْبِ مِنْ الْحَرِيرِ) الْخَالِصِ وَيُتَصَوَّرُ الْعَلَمُ مِنْ الْحَرِيرِ الْخَالِصِ فِي نَحْوِ الْحَبْكَةِ الَّتِي تُفْعَلُ فِيمَا يُجْعَلُ عَلَى رُءُوسِ النِّسَاءِ فِي حَبَرَةٍ وَنَحْوِهَا، وَاَلَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ مَا كَانَ قَدْرَ أُصْبُعٍ إلَى أَرْبَعَةٍ فَقِيلَ يَجُوزُ وَقِيلَ يُكْرَهُ. (إلَّا الْخَلْطُ الرَّقِيقُ) الَّذِي هُوَ أَقَلُّ مِنْ الْعَلَمِ وَهُوَ مَا نَقَصَ عَنْ قَدْرِ أُصْبُعٍ فَيَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُعْتَبَرُ الْأُصْبُعُ الْمُتَوَسِّطُ. (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ أَنْ (يَلْبَسَ النِّسَاءُ مِنْ الرَّقِيقِ مَا) أَيْ الْمَلْبُوسَ الَّذِي (يَصِفُهُنَّ) لِلنَّاظِرِ إلَيْهِنَّ (إذَا خَرَجْنَ) مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْفَى مَا فِي إسْنَادِ الْوَصْفِ إلَى الثِّيَابِ مِنْ التَّجَوُّزِ وَالْخُرُوجُ لَيْسَ بِقَيْدٍ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَى الْمَرْأَةِ لُبْسُ مَا يُرَى مِنْهُ أَعْلَى جَسَدِهَا كَثَدْيِهَا أَوْ أَلْيَتِهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا، فَالْوَاصِفُ هُوَ الَّذِي يُحَدِّدُ الْعَوْرَةَ، وَمِثْلُ الْوَاصِفِ الَّذِي يَشِفُّ أَيْ يُرَى مِنْهُ لَوْنُ الْجَسَدِ مِنْ كَوْنِهِ أَبْيَضَ أَوْ أَسْوَدَ، وَأَمَّا لُبْسُ النِّسَاءِ الْوَاصِفَ أَوْ الَّذِي يَشِفُّ بِحَضْرَةِ مَنْ يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَيْهَا كَزَوْجِهَا أَوْ سَيِّدِهَا فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِيهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا فِي التَّحْقِيقِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور: 31] الْآيَةَ، وَمَفْهُومُ النِّسَاءِ أَنَّ الرِّجَالَ لَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ لُبْسُ مَا يَصِفُ بَلْ يُكْرَهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ مُحَدِّدٌ لَا بِرِيحٍ وَالْكَرَاهَةُ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي حُرْمَةُ لُبْسِ الرَّجُلِ الْقَمِيصَ الَّذِي يَشِفُّ مُنْفَرِدًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ عِنْدَ مَسْأَلَةِ دُخُولِ الرَّجُلِ الْحَمَّامَ. وَأَيْضًا الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ جَعَلَ الَّذِي يَشِفُّ كَالْعَدَمِ فِي الصَّلَاةِ وَإِنْ نَازَعُوهُ فِي ذَلِكَ، وَاعْتَمَدُوا التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمَا فِي الْكَرَاهَةِ، لِأَنَّ أَمْرَ النَّظَرِ أَشَدُّ مِنْ الصَّلَاةِ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى وُجُوبِ سَتْرِ الْعَوْرَةِ بِالنِّسْبَةِ لِلنَّظَرِ وَوُقُوعِ الْخِلَافِ فِيهَا فِي الصَّلَاةِ. [جَرّ الرَّجُلُ إزَارَهُ فِي الْأَرْضِ] (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَجُرَّ الرَّجُلُ إزَارَهُ) فِي الْأَرْضِ (بَطَرًا) أَيْ تَكَبُّرًا (وَلَا ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ) بِضَمِّ الْخَاءِ أَوْ كَسْرِهَا مَعَ الْمَدِّ أَيْ الْعُجْبِ لِخَبَرِ: «لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إلَى مَنْ يَجُرُّ إزَارَهُ بَطَرًا أَوْ عُجْبًا» وَلَا مَفْهُومَ لِلرَّجُلِ عِنْدَ قَصْدِ الْكِبْرِ أَوْ الْعُجْبِ، وَأَمَّا عِنْدَ انْتِفَائِهِمَا فَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ لِقَصْدِ السَّتْرِ أَوْ تُرْخِيه ذِرَاعًا كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ، وَلَا يَجُوزُ لَهَا الزِّيَادَةُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا كُلُّهُ حَيْثُ لَا خُفَّ لَهَا وَلَا جَوْرَبَ. (تَنْبِيهٌ) مَفْهُومُ بَطَرًا إلَخْ يَقْتَضِي أَنَّهُ يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ أَوْ إزَارَهُ إذَا لَمْ يَقْصِدْ بِذَلِكَ كِبْرًا وَلَا عُجْبًا، وَتَقْيِيدُهُمْ جَوَازَهُ لِلْمَرْأَةِ بِقَصْدِ السَّتْرِ يَقْتَضِي الْحُرْمَةَ فِي حَقِّ الرَّجُلِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْقَصْدِ الْمَذْكُورِ بِالْأَوْلَى، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْجَرَّ مِنْ الرَّجُلِ مَظِنَّةُ الْبَطَرِ وَالْعُجْبِ فَيَحْرُمُ فِي حَقِّهِ ذَلِكَ وَلَوْ تَجَرَّدَ عَنْ ذَلِكَ الْقَصْدِ. وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ. (وَ) إذَا قُلْتُمْ يَحْرُمُ عَلَى الرَّجُلِ جَرُّ ثَوْبِهِ أَوْ إزَارِهِ عَلَى وَجْهِ الْكِبْرِ فَ (لْيَكُنْ) مَا ذَكَرَهُ مِنْ الثَّوْبِ وَالْإِزَارِ مُنْتَهِيًا فِي الطُّولِ إنْ أَرَادَ اللَّابِسُ تَطْوِيلَهُ (إلَى الْكَعْبَيْنِ) لَا أَزْيَدَ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ وَرَدَ: «إزْرَةُ الْمُؤْمِنُ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ لَا جُنَاحَ عَلَيْهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَدَمَيْهِ وَمَا سَفُلَ عَنْ ذَلِكَ فَفِي النَّارِ» . (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا قُلْنَا إنْ أَرَادَ اللَّابِسُ التَّطْوِيلَ لِلْإِشَارَةِ إلَى أَنَّ اللَّامَ لَيْسَتْ لِلْأَمْرِ لِجَوَازِ كَوْنِهِ أَقْصَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهِيَ كَهِيَ فِي: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] لِأَنَّهُ مَقَامُ إبَاحَةٍ بَعْدَ نَهْيٍ، وَيَجُوزُ فِي مِثْلِهِ اسْتِعْمَالُ اللَّازِمِ. ثُمَّ عَلَّلَ مَطْلُوبِيَّةَ كَوْنِ إزْرَةِ الرَّجُلِ إلَى الْكَعْبَيْنِ بِقَوْلِهِ: (فَهُوَ) أَيْ كَوْنُ مَا ذُكِرَ لِلْكَعْبَيْنِ (أَنْظَفُ لِثَوْبِهِ) وَإِزَارِهِ لِعَدَمِ وُصُولِهِ إلَى الْأَرْضِ (وَأَتْقَى لِرَبِّهِ) أَيْ أَبْعَدُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 وَيَسْدُلُ الْأُخْرَى وَذَلِكَ إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ اشْتِمَالِك ثَوْبٌ وَاخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى ثَوْبٍ، وَيُؤْمَرُ بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَآزِرَةُ الْمُؤْمِنِ إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ وَالْفَخِذُ عَوْرَةٌ وَلَيْسَ كَالْعَوْرَةِ نَفْسِهَا، وَلَا يَدْخُلُ الرَّجُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَلَا تَدْخُلُهُ الْمَرْأَةُ إلَّا مِنْ عِلَّةٍ، وَلَا يَتَلَاصَقُ رَجُلَانِ وَلَا امْرَأَتَانِ فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ، وَلَا تَخْرُجُ امْرَأَةٌ إلَّا مُسْتَتِرَةً فِيمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ مِنْ شُهُودِ مَوْتِ   [الفواكه الدواني] لِمَقْتِ رَبِّهِ لِانْتِفَاءِ مَا يُوجِبُ غَضَبَهُ تَعَالَى لِقُرْبِ تِلْكَ الْحَالَةِ مِنْ التَّوَاضُعِ، وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ فَهُوَ عَلَى حَدِّ: {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ} [الإسراء: 54] (وَ) كَمَا لَا يَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَجُرَّ ثَوْبَهُ مِنْ الْخُيَلَاءِ (يُنْهَى) تَحْرِيمًا (عَنْ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ) بِالْمَدِّ (وَهِيَ) أَيْ وَالْحَالُ أَنَّ صِفَةَ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ (عَلَى غَيْرِ ثَوْبٍ) سَاتِرٍ عَوْرَتَهُ وَصَوَّرَهَا بِقَوْلِهِ: (يَرْفَعُ ذَلِكَ) أَيْ طَرَفَ الثَّوْبِ الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ وَيَضَعُهُ عَلَى مَنْكِبَيْهِ (مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ) وَيُخْرِجُ يَدَهُ مِنْ تَحْتِهِ (وَيَسْدُلُ) بِضَمِّ الدَّالِ أَوْ كَسْرِهَا أَيْ يُرْخِي الثَّوْبَ مِنْ الْجِهَةِ (الْأُخْرَى) وَحَاصِلُ مَعْنَاهَا عِنْدَ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَشْتَمِلَ بِثَوْبٍ يُلْقِيه عَلَى مَنْكِبَيْهِ مُخْرِجًا يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ تَحْتِهِ أَوْ مُخْرِجًا إحْدَى يَدَيْهِ مِنْ تَحْتِهِ، هَذَا الثَّانِي هُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَتَفْسِيرُ الْفُقَهَاءِ لَهَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ ابْنِ يُونُسَ. قَالَ فِي الْعُتْبِيَّةِ: وَاشْتِمَالُ الصَّمَّاءِ الْمَنْهِيُّ عَنْهُ أَنْ يَشْتَمِلَ بِالثَّوْبِ عَلَى مَنْكِبَيْهِ وَيُخْرِجُ يَدَهُ الْيُسْرَى مِنْ تَحْتِهِ وَلَيْسَ عَلَيْهِ مِئْزَرٌ، وَأَجَازَهُ مَالِكٌ إنْ كَانَ مَعَهُ سَاتِرٌ ثُمَّ كَرِهَهُ (وَ) مَحَلُّ الْحُرْمَةِ (إذَا لَمْ يَكُنْ تَحْتَ اشْتِمَالِك ثَوْبٌ) لِأَنَّهُ إذَا أَرَادَ أَنْ يَرْفَعَ يَدَهُ الْيُسْرَى تَنْكَشِفُ عَوْرَتَهُ. (وَاخْتُلِفَ فِيهِ) أَيْ فِي الِاشْتِمَالِ الْمَذْكُورِ (عَلَى ثَوْبٍ) فَقِيلَ بِالْحُرْمَةِ وَقِيلَ بِالْكَرَاهَةِ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ. قَالَ خَلِيلٌ مُشَبِّهًا فِي الْكَرَاهَةِ: وَصَمَّاءُ بِسَتْرٍ وَإِلَّا مُنِعَتْ، وَإِنَّمَا كُرِهَتْ مَعَ السَّاتِرِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ صَلَّى بِثَوْبٍ لَيْسَ عَلَى أَكْتَافِهِ مِنْهُ شَيْءٌ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ كَشْفَ الْبَعْضِ بِمَنْزِلَةِ كَشْفِ الْكُلِّ، وَأَمَّا الِاضْطِبَاعُ فَهُوَ عَيْنُ اشْتِمَالِ الصَّمَّاءِ فِي التَّحْقِيقِ، وَأَمَّا التَّوْشِيحُ وَهُوَ أَخْذُ أَحَدِ طَرَفَيْ الثَّوْبِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ الْيُمْنَى لِيَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ الْيُسْرَى، وَأَخْذُ الطَّرَفِ الْآخَرِ مِنْ تَحْتِ الْيُسْرَى لِيَضَعَهُ عَلَى كَتِفِهِ الْيُمْنَى فَهُوَ جَائِزٌ كَمَا نَصُّوا عَلَيْهِ، وَأَقُولُ كَلَامُهُمْ مُسَلَّمٌ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَأَمَّا فِي الصَّلَاةِ فَيَتَوَقَّفُ فِي الْجَوَازِ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ إذَا كَانَ يَحْصُلُ مَعَهُ كَشْفٌ لِجَنْبَيْهِ أَوْ أَحَدِهِمَا. (وَيُؤْمَرُ) الْمُكَلَّفُ وَلَوْ جِنِّيًّا (بِسَتْرِ الْعَوْرَةِ) وُجُوبًا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ فِي خَلْوَةٍ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ سَتْرُهَا وَإِنَّمَا يُنْدَبُ. وَتَقَدَّمَ بَيَانُ حَدِّ الْعَوْرَةِ وَأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ السَّاتِرِ وَالْمَسْتُورِ عَنْهُ، وَقَوْلُنَا عَنْ أَعْيُنِ النَّاسِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ حَالَةِ الصَّلَاةِ فَإِنَّهُ يَجِبُ سَتْرُهَا وَلَوْ بِخَلْوَةٍ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا هُوَ الْأَفْضَلُ مِنْ أَنْوَاعِ السَّاتِرِ بِقَوْلِهِ: (وَإِزْرَةُ الْمُؤْمِنِ) الْمُسْتَحَبَّةِ أَنْ تَكُونَ مُنْتَهِيَةً بِالتَّقْصِيرِ (إلَى أَنْصَافِ سَاقَيْهِ) وَيَجُوزُ أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ حَيْثُ يَنْتَهِي إلَى الْكَعْبَيْنِ، وَأَمَّا أَزْيَدُ مِنْ ذَلِكَ فَقَدْ مَرَّ حُكْمُهُ وَهَذَا فِي حَقِّ الذَّكَرِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَيَجُوزُ لَهَا التَّطْوِيلُ لِلثَّوْبِ وَلَوْ ذِرَاعًا حَيْثُ كَانَ لِلسَّتْرِ لَا لِلْكِبْرِ وَإِلَّا حَرُمَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَالْمُرَادُ بِالْإِزْرَةِ هُنَا الثَّوْبُ لَا خُصُوصُ مَا يَأْتَزِرُ بِهِ الْإِنْسَانُ الَّذِي ابْتِدَاؤُهُ مِنْ السُّرَّةِ، وَالْإِزْرَةُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ كَاللِّبْسَةِ وَالْجِلْسَةِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ الْهَيْئَةُ وَهِيَ بِكَسْرِ الْفَاءِ قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَفَعْلَةٌ لِمَرَّةٍ كَجَلْسَةٍ ... وَفِعْلَةٌ لِهَيْئَةٍ كَجِلْسَةٍ ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْفَخِذِ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ بِقَوْلِهِ: (وَالْفَخِذُ) وَهُوَ مَا بَيْنَ السَّاقِ وَالْوَرِكِ وَهِيَ مُؤَنَّثَةٌ وَفِيهَا لُغَاتٌ أَرْبَعُ قَالَهُ فِي التَّحْقِيقِ. (عَوْرَةٌ) لَا يَجُوزُ لِصَاحِبِهِ كَشْفُهُ وَلَا لِغَيْرِهِ مِنْ الْأَجَانِبِ نَظَرُهُ لَكِنْ مَعَ مَنْ يَسْتَحْيِ صَاحِبُهُ مِنْهُ (وَلَيْسَ كَالْعَوْرَةِ نَفْسِهَا) وَلِذَا لَا يُعِيدُ الرَّجُلُ الصَّلَاةَ لِكَشْفِهِ وَلَوْ عَمْدًا، وَإِلَّا أَعَادَتْ الْأَمَةُ فِي الْوَقْتِ وَالْحُرَّةُ أَبَدًا لِأَنَّهُ مِنْ الْأُنْثَى عَوْرَةٌ حَقِيقَةً مُطْلَقًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْفَخِذَ عَوْرَةٌ مُخَفَّفَةٌ يَجُوزُ كَشْفُهَا مَعَ الْخَوَاصِّ وَلَا يَجُوزُ مَعَ غَيْرِهِمْ، فَقَدْ كَشَفَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخِذَهُ مَعَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَسَتَرَهُ حِينَ أَقْبَلَ عُثْمَانُ، فَفِي مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُضْطَجِعًا فِي بَيْتِهِ كَاشِفًا فَخِذَيْهِ وَسَاقَيْهِ، فَاسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ كَذَلِكَ فَتَحَدَّثَ ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُثْمَانُ فَجَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَوَّى ثِيَابَهُ فَدَخَلَ فَتَحَدَّثَ مَعَهُ، فَلَمَّا خَرَجَ قَالَتْ عَائِشَةُ: دَخَلَ أَبُو بَكْرٍ فَلَمْ تُبَالِهِ وَدَخَلَ عُمَرُ فَلَمْ تُبَالِهِ أَيْ لَمْ تَهْتَمَّ لِدُخُولِهِمَا وَتَسْتُرْ فَخِذَيْك ثُمَّ دَخَلَ عُثْمَانُ فَجَلَسَتْ وَسَوَّيْت ثِيَابَك، فَقَالَ: أَلَا أَسْتَحِي مِنْ رَجُلٍ تَسْتَحِي مِنْهُ الْمَلَائِكَةُ؟» وَالِاسْتِحْيَاءُ مِنْهُ مَزِيَّةٌ وَهِيَ لَا تَقْتَضِي الْأَفْضَلِيَّةَ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسَائِلَ مُشَارِكَةٍ قَبْلَهَا فِي النَّهْيِ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ فَقَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَدْخُلَ الرَّجُلُ الْحَمَّامَ) وَلَوْ خَالِيًا (إلَّا بِمِئْزَرٍ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَعَ الْهَمْزَةِ وَيَجُوزُ تَرْكُهَا وَفَتْحُ الْمِيمِ خَطَأٌ وَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ صَفِيقًا لَا تَظْهَرُ مِنْهُ الْعَوْرَةُ، وَالنَّهْيُ عَلَى الْوُجُوبِ إنْ لَمْ يَكُنْ خَالِيًا، وَعَلَى النَّدْبِ إنْ كَانَ خَالِيًا، وَالْحَمَّامُ مَعْرُوفٌ وَهُوَ مُذَكَّرٌ بِاتِّفَاقٍ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تَدْخُلَهُ الْمَرْأَةُ) وَلَوْ بِمِئْزَرٍ (إلَّا مِنْ عِلَّةٍ) لِقَوْلِهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 أَبَوَيْهَا أَوْ ذِي قَرَابَتِهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاحُ لَهَا وَلَا تَحْضُرُ مِنْ ذَلِكَ مَا فِيهِ نَوْحُ نَائِحَةٍ أَوْ لَهْوٌ مِنْ مِزْمَارٍ أَوْ عُودٍ أَوْ   [الفواكه الدواني] - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يَدْخُلُ الْحَمَّامَ إلَّا بِمِئْزَرٍ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلَا يُدْخِلَنَّ حَلِيلَتَهُ الْحَمَّامَ» . وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «سَتُفْتَحُ عَلَيْكُمْ أَرْضُ الْعَجَمِ وَسَتَجِدُونَ فِيهَا بُيُوتًا يُقَالُ لَهَا الْحَمَّامَاتُ فَلَا يَدْخُلُهَا الرِّجَالُ إلَّا بِإِزَارٍ وَامْنَعُوهَا النِّسَاءَ إلَّا مَرِيضَةً أَوْ نُفَسَاءَ» . وَالظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ جَوَازُ دُخُولِهِ لِلرَّجُلِ بِالْمِئْزَرِ وَلَوْ لِغَيْرِ عِلَّةٍ وَلَوْ مَعَ وُجُودِ غَيْرِهِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ مِئْزَرٍ مَنَعَ رُؤْيَةَ مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهِ نَظَرُهُ فَلَا يَجُوزُ، وَجَوَازُ الدُّخُولِ بِالْمِئْزَرِ لَا يُنَافِي قَوْلَ ابْنِ الْقَاسِمِ: تَرْكُ دُخُولِهِ أَحْسَنُ لِاحْتِمَالِ الِانْكِشَافِ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُهُ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: وَاَللَّهِ مَا دُخُولُهُ بِصَوَابٍ، وَمَا وَرَدَ مِنْ مَنْعِ دُخُولِهِ فَمَحْمُولٌ عَلَى الدُّخُولِ بِغَيْرِ مِئْزَرٍ مَعَ وُجُودِ مِنْ لَا يَحِلُّ نَظَرُهُ إلَيْهِ، وَيَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ دُخُولُهُ عِنْدَ الْعِلَّةِ الْمُحْوِجَةِ إلَى دُخُولِهِ كَحَيْضٍ أَوْ نِفَاسٍ أَوْ جَنَابَةٍ أَوْ مَرَضٍ مَعَ زَوْجِهَا، وَأَمَّا مَعَ امْرَأَةٍ فَعَوْرَتُهَا مَعَهَا كَعَوْرَةِ الرَّجُلِ مَعَ الرَّجُلِ حَيْثُ كَانَتْ مُسْلِمَةً اتِّفَاقًا، وَأَمَّا مَعَ الْكَافِرَةِ فَقِيلَ إنَّ الْمُسْلِمَةَ مَعَهَا كَالْأَجْنَبِيَّةِ مَعَ الرَّجُلِ اتِّفَاقًا، وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرَيْهِمَا: إنَّهُ لَا يَحِلُّ لِلْمُسْلِمَةِ كَشْفُ شَيْءٍ مِنْ بَدَنِهَا بَيْنَ يَدَيْ الْكَافِرَةِ إلَّا أَنْ تَكُونَ أَمَتُهَا، وَيَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا جَوَازُ دُخُولِهَا مَعَ الْمَرْأَةِ بِشَرْطِ سَتْرِ مَا لَا يَحِلُّ نَظَرُ تِلْكَ الْمَرْأَةِ إلَيْهِ. قَالَ عَلَّامَةُ الزَّمَانِ أَبُو الْإِرْشَادِ الْأُجْهُورِيُّ: وَاعْلَمْ أَنَّ دُخُولَهُ لَهُ شُرُوطُ جَوَازٍ كَغَضِّ الْبَصَرِ وَسَتْرِ الْعَوْرَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ بِإِعْطَاءِ الْوَاجِبِ وَأَخْذِ الْمُعْتَادِ وَتَغْيِيرِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ مِنْ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ لَا يُمَكِّنَ الدَّلَّاكَ وَلَوْ مَمْلُوكَهُ مِنْ دَلْكِ عَوْرَتِهِ وَهِيَ مَا فَوْقَ الرُّكْبَةِ إلَى جَوْفِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ لِأَنَّ الْجَسَّ أَخَصُّ مِنْ النَّظَرِ إلَّا أَنْ تَكُونَ زَوْجَتُهُ وَأَمَتُهُ، وَلَهُ آدَابٌ أَنْ يَدْخُلَهُ بِالتَّدْرِيجِ وَيَخْرُجَ مِنْهُ كَذَلِكَ، وَصَبُّ الْمَاءِ الْبَارِدِ عَلَى الْقَدَمَيْنِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهُ لِأَنَّهُ أَمَانٌ مِنْ النِّقْرِسِ، وَأَنْ يَتَذَكَّرَ عَذَابَ جَهَنَّمَ وَحَالَةَ الْمَوْتِ، وَمِنْ الْآدَابِ الدُّخُولُ مَعَ الِاعْتِدَالِ مِنْ حَيْثُ الْجُوعُ وَالشِّبَعُ، فَإِنَّ دُخُولَهُ مِنْ غَيْرِ اعْتِدَالٍ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الدَّاخِلِ لِخُرُوجِهِ مِنْهُ قَبْلَ عَرَقِهِ فِيهِ وَالْإِقَامَةُ فِيهِ زِيَادَةٌ عَلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ أَحَدٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دُخُولِهِ إلَّا مَنْ نَدَرَ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَتَلَاصَقَ رَجُلَانِ) الْمُرَادُ بَالِغَانِ وَلَوْ شَيْخَيْنِ أَوْ قَرِيبَيْنِ. (وَلَا امْرَأَتَانِ) كَذَلِكَ (فِي لِحَافٍ وَاحِدٍ) وَالْمُرَادُ بِالتَّلَاصُقِ الِاتِّصَالُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ لِخَبَرِ: «لَا يَنْظُرُ الرَّجُلُ إلَى عَوْرَةِ الرَّجُلِ وَلَا الْمَرْأَةُ إلَى عَوْرَةِ الْمَرْأَةِ، وَلَا يُفْضِي الرَّجُلُ إلَى الرَّجُلِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ وَلَا تُفْضِي الْمَرْأَةُ إلَى الْمَرْأَةِ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ» . وَعُلِمَ مِنْ تَقْرِيرِنَا أَنَّ النَّهْيَ لِلْحُرْمَةِ إنْ كَانَ التَّلَاصُقُ بِالْعَوْرَةِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْتِذَاذٍ، وَالْكَرَاهَةُ إنْ كَانَ بِغَيْرِ الْعَوْرَةِ لَكِنْ مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْتِذَاذٍ، أَوْ بِالْعَوْرَةِ لَكِنْ مَعَ حَائِلٍ كَثِيفٍ بَيْنَهُمَا مِنْ غَيْرِ قَصْدِ الْتِذَاذٍ وَإِلَّا حَرُمَ، وَأَمَّا تَلَاصُقُ غَيْرِ الْبَالِغِينَ فَإِنْ لَمْ يَبْلُغَا الْعَشْرَ فَلَا حَرَجَ فِيهِ، وَبَعْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ فَتُكْرَهُ الْمُلَاصَقَةُ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، وَأَمَّا تَلَاصُقُ الْبَالِغِ وَغَيْرِهِ فَحَرَامٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ وَمَكْرُوهٌ فِي حَقِّ غَيْرِهِ، وَالْكَرَاهَةُ مُتَعَلِّقَةٌ بِوَلِيِّهِ، وَأَمَّا بِحَائِلٍ فَمَكْرُوهٌ فِي حَقِّ الْبَالِغِ إلَّا لِقَصْدِ الِالْتِذَاذِ فَحَرَامٌ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ، وَعِنْدِي وَقْفَةٌ فِيمَا قَالَ فِيهِ يُكْرَهُ لِلْوَلِيِّ مِنْ تَلَاصُقِ عَوْرَةِ الصَّبِيِّ ابْنِ عَشْرِ سِنِينَ فَفَوْقُ بِعَوْرَةِ الْبَالِغِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ، بَلْ الَّذِي يَنْبَغِي حُرْمَةُ ذَلِكَ عَلَى الْوَلِيِّ وَحَرِّرْ الْمَسْأَلَةَ، وَهَذَا التَّفْصِيلُ فِي تَلَاصُقِ الذَّكَرَيْنِ، وَيَجْرِي مِثْلُهُ فِي تَلَاصُقِ الْمَرْأَتَيْنِ، وَأَمَّا تَلَاصُقُ رَجُلٍ وَأُنْثَى فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُشَكَّ فِي حُرْمَةِ تَلَاصُقِهِمَا تَحْتَ لِحَافٍ وَلَوْ بِغَيْرِ عَوْرَةٍ، وَلَوْ مِنْ فَوْقِ حَائِلٍ حَيْثُ كَانَا بَالِغَيْنِ، أَوْ الرَّجُلُ وَالْأُنْثَى مَعَ مُنَاهَزَةِ الذَّكَرِ لِأَنَّ الْمُنَاهِزَ كَالْكَبِيرِ هَكَذَا يَظْهَرُ، لِأَنَّ الرَّجُلَ لَا يَحِلُّ لَهُ الِاخْتِلَاءُ بِالْأُنْثَى فَضْلًا عَنْ تَلَاصُقِهِمَا تَحْتَ لِحَافٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إذَا عَرَفْت مَا ذَكَرْنَاهُ لَك مِنْ التَّفْصِيلِ عَلِمْت مَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مِنْ الْإِجْمَالِ. الثَّانِي: قَوْلُ الْمُصَنِّفِ فِي لِحَافٍ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ أَيْ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ لِحُرْمَةِ تَلَاصُقِ الْبَالِغَيْنِ بِعَوْرَتَيْهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُونَا تَحْتَ لِحَافٍ، كَمَا يَحْرُمُ نَظَرُ كُلٍّ إلَى عَوْرَةِ صَاحِبِهِ مِنْ غَيْرِ حَائِلٍ وَمِنْ غَيْرِ تَلَاصُقٍ. الثَّالِثُ: فَيَبْدَأُ الصَّغِيرُ بِمَنْ بَلَغَ الْعَشْرَ لِأَنَّ مَنْ لَمْ يَبْلُغْ الْعَشْرَ يَجُوزُ تَلَاصُقُهُ مَعَ مِثْلِهِ بِالْعَوْرَةِ، لِأَنَّ طَلَبَ الْوَلِيِّ بِالتَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْأَوْلَادِ فِي الْمَضَاجِعِ بَعْدَ بُلُوغِ الْعَشْرِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ وَهْبٍ الْمُقَدَّمَةُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى طَرِيقَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ الْقَائِلِ بِالتَّفْرِقَةِ عِنْدَ بُلُوغِ السَّبْعِ كَالْأَمْرِ بِالصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (تَخْرُجَ امْرَأَةٌ) شَابَّةٌ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَمْ يَنْقَطِعْ أَرَبُ الرِّجَالِ مِنْهَا، وَلَا يُخْشَى مِنْ خُرُوجِهَا الِافْتِتَانُ بِهَا (إلَّا مُسْتَتِرَةً) وَأَنْ يَكُونَ خُرُوجُهَا (فِيمَا لَا بُدَّ لَهَا مِنْهُ) وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ شُهُودِ مَوْتِ أَبَوَيْهَا) أَوْ أَحَدِهِمَا أَوْ زَوْجِهَا (أَوْ ذِي قَرَابَتِهَا) كَالْإِخْوَةِ وَالْأَعْمَامِ وَالْأَجْدَادِ. (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا يُبَاحُ لَهَا) الْخُرُوجُ مِنْ أَجْلِهِ كَزِيَارَةِ أَبَوَيْهَا أَوْ حُضُورِ عُرْسِ وَاحِدٍ مِمَّنْ ذَكَرَ، أَوْ حَاجَةٍ لَا غِنَاءَ لَهَا عَنْهَا وَلَا تَجِدُ مَنْ يَقُومُ بِهَا. (وَلَا) يَجُوزُ لِتِلْكَ الْمَرْأَةِ بَعْدَ خُرُوجِهَا أَنْ (تَحْضُرَ مِنْ ذَلِكَ) الَّذِي خَرَجَتْ لِأَجْلِهِ (مَا فِيهِ نَوْحُ نَائِحَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 شِبْهِهِ مِنْ الْمَلَاهِي الْمُلْهِيَةِ إلَّا الدُّفَّ فِي النِّكَاحِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي الْكَبَرِ، وَلَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمُحْرِمٍ وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرَاهَا لِعُذْرٍ مِنْ شَهَادَةٍ عَلَيْهَا أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ أَوْ إذَا خَطَبَهَا وَأَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَلَهُ أَنْ يَرَى وَجْهَهَا عَلَى كُلِّ حَالٍ. وَيُنْهَى   [الفواكه الدواني] أَوْ) مَا فِيهِ (لَهْوٌ مِنْ مِزْمَارٍ وَعُودٍ أَوْ شَبَهِهِ مِنْ الْمَلَاهِي الْمُلْهِيَةِ إلَّا الدُّفَّ) بِضَمِّ الدَّالِ أَوْ فَتْحِهَا وَهُوَ الْمُغَشَّى مِنْ جِهَةٍ وَاحِدَةٍ وَيُعْرَفُ بِالطَّارِّ وَيُقَالُ لَهُ الْغِرْبَالُ فَإِنَّهُ يَجُوزُ لَهَا حُضُورُهُ لِجَوَازِهِ بِاتِّفَاقِ أَهْلِ الْعِلْمِ. (فِي النِّكَاحِ) وَإِبَاحَةِ ضَرْبِهِ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَلَوْ كَانَ فِيهَا صَرَاصِرُ أَوْ جَلَاجِلُ عَلَى ظَاهِرِ كَلَامِ أَهْلِ الْمَذْهَبِ خِلَافًا لِمَنْ قَيَّدَ. لِلَّهِ دَرُّ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ فِي الْإِطْلَاقِ الْمَعْرُوفِ لِأَهْلِ الْمَذْهَبِ وَبَقِيَّةِ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعَةِ، وَالْمَشْهُورُ عَدَمُ جَوَازِ ضَرْبِهِ فِي غَيْرِ النِّكَاحِ كَالْخِتَانِ وَالْوِلَادَةِ، وَمُقَابِلُ الْمَشْهُورِ جَوَازُهُ فِي كُلِّ فَرَحٍ لِلْمُسْلِمِينَ. (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي) جَوَازِ ضَرْبِ (الْكَبَرِ) بِفَتْحَتَيْنِ وَهُوَ الطَّبْلُ الْكَبِيرُ الْمُجَلَّدُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَالْمِزْهَرُ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَقْوَالٍ، الْجَوَازُ لِابْنِ حَبِيبٍ وَالْكَرَاهَةُ فِيهِمَا، وَالْجَوَازُ فِي الْكَبَرِ وَكَرَاهَةُ الْمِزْهَرِ، وَأَجَازَ ابْنُ كِنَانَةَ الزَّمَّارَةَ وَالْبُوقَ وَنَحْوَهُمَا مِمَّا لَا يُلْهِي كُلَّ اللَّهْوِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ نَثْرُ اللَّوْزِ وَالسُّكَّرِ لَا الْغِرْبَالِ وَلَوْ لِرَجُلٍ وَفِي الْكَبَرِ وَالْمِزْهَرِ ثَالِثُهَا يَجُوزُ فِي الْكَبَرِ، ابْنُ كِنَانَةَ: وَتَجُوزُ الزَّمَّارَةُ وَالْبُوقُ، وَقَيَّدْنَا الْمَرْأَةَ بِالشَّابَّةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُتَجَالَّةِ الَّتِي لَا أَرَبَ لِلرِّجَالِ فِيهَا، فَهَذِهِ تَخْرُجُ وَلَوْ لِصَلَاةِ الْعِيدِ وَالِاسْتِسْقَاءِ، وَبِمَنْ لَا يُخْشَى مِنْهَا لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الَّتِي يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهَا لِنَجَابَتِهَا فَهَذِهِ لَا تَخْرُجُ أَصْلًا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ النِّسَاءَ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: شَابَّةٌ غَيْرُ مَخْشِيَّةِ الْفِتْنَةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا فَهَذِهِ لَا تَخْرُجُ إلَّا لِصَلَاةِ الْفَرْضِ فِي الْمَسْجِدِ أَوْ لِجِنَازَةِ مَنْ تَتَأَثَّرُ بِمَوْتِهِ كَمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ، وَمُتَجَالَّةٌ لَا رَغْبَةَ لِلرِّجَالِ فِيهَا وَهَذِهِ تَخْرُجُ لِكُلِّ شَيْءٍ، وَشَابَّةٌ يُخْشَى الِافْتِتَانُ بِهَا فَهَذِهِ لَا تَخْرُجُ أَصْلًا، وَلَا يُقْضَى عَلَى زَوْجِ الشَّابَّةِ وَمَنْ فِي حُكْمِهَا بِالْخُرُوجِ لِنَحْوِ صَلَاةِ الْفَرْضِ وَلَوْ شَرَطَ لَهَا فِي صُلْبِ عَقْدِهَا وَحَيْثُ سَاغَ خُرُوجُهَا، فَلَا تَخْرُجُ إلَّا فِي زَمَنِ أَمْنٍ مِنْ الرِّجَالِ، فَلَا يَجُوزُ لَهَا الْخُرُوجُ فِي وَقْتٍ يُخْشَى عَلَيْهَا فِيهِ، وَلَا تَخْرُجُ إلَّا فِي ثِيَابِ الزِّينَةِ، وَلَا تَمْشِي إلَّا بَعِيدَةً عَنْ الرِّجَالِ، وَأَنْ لَا تَتَطَيَّبَ وَأَنْ تُبَالِغَ فِي السَّتْرِ لِمَا لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَيْهِ كَذِرَاعِهَا أَوْ سَاقِهَا لَا كَفَّيْهَا وَلَا وَجْهِهَا إلَّا أَنْ تَكُونَ جَمِيلَةً أَوْ يَكْثُرَ الْفَسَادُ، فَيَجِبُ عَلَيْهَا سَتْرُ حَتَّى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَخْلُوَ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ) وَلَا زَوْجَةٍ بَلْ أَجْنَبِيَّةٍ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَكُونُ ثَالِثُهُمَا يُوَسْوِسُ لَهُمَا فِي الْخَلْوَةِ بِفِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَخْلُو رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ ثَالِثُهُمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِمَا وَيَسْتَوْجِبَانِ الْعُقُوبَةَ وَلَوْ ادَّعَيَا الزَّوْجِيَّةَ إلَّا أَنْ يُثْبِتَاهَا أَوْ يَكُونَا طَارِئَيْنِ» . وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ جَوَازُ الْخَلْوَةِ بِذَاتِ الْمَحْرَمِ وَلَوْ بِرَضَاعٍ أَوْ مُصَاهَرَةٍ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ تَنَاوُلُ الرَّجُلِ لِلْحُرِّ وَالْعَبْدِ وَالشَّيْخِ وَالشَّابِّ وَالْمَرْأَةِ لِلشَّابَّةِ وَالْمُتَجَالَّةِ وَهُوَ كَذَلِكَ لَا سِيَّمَا عِنْدَ تَسَاوِيهِمَا فِي السِّنِّ، لِأَنَّ الشَّيْخَ يَمِيلُ لِلشَّيْخَةِ خِلَافًا لِلشَّاذِلِيِّ فِي تَقْيِيدِهِ الْمَرْأَةَ بِالشَّابَّةِ وَالرَّجُلَ بِالشَّابِّ، فَأَجَازَ خَلْوَةَ الشَّيْخِ الْهَرَمِ بِالْمَرْأَةِ شَابَّةً أَوْ مُتَجَالَّةً، وَخَلْوَةَ الشَّابِّ بِالْمُتَجَالَّةِ وَالْعُهْدَةُ عَلَيْهِ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ خَلْوَةُ الْمَرْأَةِ بِعَبْدِهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَلِعَبْدٍ بِلَا شِرْكٍ وَمُكَاتَبٍ وَغْدَيْنِ نَظَرُ شَعْرِ السَّيِّدَةِ وَبَقِيَّةِ أَطْرَافِهَا الَّتِي يَنْظُرُهَا مَحْرَمُهَا وَالْخَلْوَةُ بِهَا، وَأَمَّا عَبْدُ زَوْجِهَا فَيَجُوزُ بِشَرْطَيْنِ: أَنْ يَكُونَ خَصِيًّا وَأَنْ يَكُونَ قَبِيحَ الْمَنْظَرِ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي تَقْيِيدُ هَذَا بِالْمَرْأَةِ الْمَشْهُورَةِ بِالدِّينِ، وَإِلَّا فَقَدْ تَمِيلُ الْمَرْأَةُ لِلنَّصْرَانِيِّ الْخَادِمِ فِي أَسْفَلِ الدَّارِ، وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِهِ جَوَازُ خَلْوَةِ الْمَرْأَةِ بِمِثْلِهَا، وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ وَلَوْ كَانَتْ إحْدَاهُمَا فَائِقَةً فِي الْجَمَالِ، وَكَذَا خَلْوَةُ الذَّكَرِ بِالذَّكَرِ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا شَابًّا تَمِيلُ إلَيْهِ النُّفُوسُ وَأُخْرَى لَوْ كَانَا شَابَّيْنِ مَشْهُورَيْنِ بِالْجَمَالِ بِحَيْثُ يُتَوَقَّع مَيْلُ أَحَدِهِمَا إلَى صَاحِبِهِ فَلَا يَجُوزُ، وَلَا سِيَّمَا فِي هَذَا الزَّمَانِ الْفَاسِدِ، وَلَمَّا كَانَتْ حُرْمَةُ نَظَرِ الرَّجُلِ إلَى الْأَجْنَبِيَّةِ غَيْرِ الْمُتَجَالَّةِ مُقَيَّدَةً بِحَالِ الِاخْتِيَارِ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ أَنْ يَرَاهَا) أَيْ يَجُوزُ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ الْمَرْأَةَ الْأَجْنَبِيَّةَ غَيْرَ الْمُتَجَالَّةِ (لِعُذْرٍ مِنْ شَهَادَةٍ عَلَيْهَا) أَوْ لَهَا حَيْثُ كَانَتْ غَيْرَ مَعْرُوفَةِ النَّسَبِ لِلشَّاهِدَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا عَلَى مَنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا عَلَى عَيْنِهِ. (أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ عُذْرِ الشَّهَادَةِ كَعُذْرِ الطِّبِّ، فَإِنَّهُ يَجُوزُ لِلطَّبِيبِ النَّظَرُ إلَى مَحَلِّ الْمَرَضِ إذَا كَانَ فِي الْوَجْهِ أَوْ الْيَدَيْنِ قِيلَ وَلَوْ بِفَرْجِهَا لِلدَّوَاءِ، كَمَا يَجُوزُ لِلْقَابِلَةِ نَظَرُ الْفَرْجِ. قَالَ التَّتَّائِيُّ: وَلِي فِيهِ وَقْفَةٌ إذْ الْقَابِلَةُ أُنْثَى وَهِيَ يَجُوزُ لَهَا نَظَرُ فَرْجِ الْأُنْثَى إذَا رَضِيَتْ لِأَنَّهَا لَا تُجْبَرُ عَلَى رُؤْيَةِ فَرْجِهَا، وَلَوْ زَوْجَةٌ ادَّعَى زَوْجُهَا عَيْبًا بِفَرْجِهَا وَادَّعَتْ عَدَمَهُ فَيُقْبَلُ قَوْلُهَا فِي نَفْيِهِ، وَقَدْ بَسَطْنَا الْكَلَامَ فِي ذَلِكَ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَحَلِّ. (وَ) أَيْ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِرُؤْيَتِهَا (إذَا خَطَبَهَا) رَجُلٌ لِنَفْسِهِ قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ نَظَرُ وَجْهِهَا وَكَفَّيْهَا فَقَطْ بِعِلْمِهَا وَيُكْرَهُ اسْتِغْفَالُهَا، وَمَحَلُّ الْجَوَازِ لِرُؤْيَةِ الشَّاهِدِ وَالطَّبِيبِ وَالْخَاطِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ بِخَلْوَةٍ بِالْمَرْأَةِ وَإِلَّا حَرُمَتْ، وَهَذَا كُلُّهُ بِالنِّسْبَةِ لِرُؤْيَةِ الْأَجْنَبِيِّ لِغَيْرِ الْمُتَجَالَّةِ. (وَأَمَّا الْمُتَجَالَّةُ) وَهِيَ الْعَجُوزُ الْفَانِيَةُ (فَلَهُ) أَيْ الْأَجْنَبِيِّ (أَنْ يَرَى وَجْهَهَا) وَكَفَّيْهَا (عَلَى كُلِّ حَالٍ) وَلَوْ لِغَيْرِ عُذْرٍ لِلْأَمْنِ مِمَّا يَحْصُلُ بِرُؤْيَةِ الشَّابَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: إلَّا أَنْ يَكُونَ مُرِيدُ الرُّؤْيَةِ لِلْمُتَجَالَّةِ مِثْلَهَا، فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَيَّدَ جَوَازُ رُؤْيَتِهِ لَهَا بِالْعُذْرِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي الشَّابَّةِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 النِّسَاءُ عَنْ وَصْلِ الشَّعْرِ وَعَنْ الْوَشْمِ، وَمَنْ لَبِسَ خُفًّا أَوْ نَعْلًا بَدَأَ بِيَمِينِهِ وَإِذَا نَزَعَ بَدَأَ بِشِمَالِهِ، وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِعَالِ قَائِمًا،   [الفواكه الدواني] وَالدَّلِيلُ عَلَى مَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ قَوْله تَعَالَى: {وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللاتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ} [النور: 60] الْآيَةَ أَيْ مُتَزَيِّنَاتٍ بِزِينَةٍ خَفِيَّةٍ كَقِلَادَةٍ وَخَلْخَالٍ، وَهَذَا كُلُّهُ مُكَرَّرٌ مَعَ مَا قَدَّمَهُ الْمُصَنِّفُ أَوَّلَ الْبَابِ. [وَصَلّ الشعر] (وَيُنْهَى النِّسَاءُ عَنْ وَصْلِ الشَّعْرِ) وَالنَّهْيُ لِلْحُرْمَةِ عِنْدَ مَالِكٍ لِخَبَرِ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة» وَحُرْمَةُ الْوَصْلِ لَا تَتَقَيَّدُ بِالنِّسَاءِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَغْيِيرِ خَلْقِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا خُصَّ النِّسَاءُ لِأَنَّهُنَّ اللَّاتِي يَغْلِبُ مِنْهُنَّ ذَلِكَ عِنْدَ قِصَرِ أَوْ عَدَمِ شَعْرِهِنَّ يَصِلْنَ شَعْرَ غَيْرِهِنَّ بِشَعْرِهِنَّ، أَوْ عِنْدَ شَيْبِ شَعْرِهِنَّ يَصِلْنَ الشَّعْرَ الْأَسْوَدَ بِالْأَبْيَضِ لِيَظْهَرَ الْأَسْوَدُ لِتُغْرِيهِ الزَّوْجَ، وَمَفْهُومُ " وَصْلِ " أَنَّهَا لَوْ لَمْ تَصِلْهُ بِأَنْ وَضَعَتْهُ عَلَى رَأْسِهَا مِنْ غَيْرِ وَصْلٍ لَجَازَ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْقَاضِي عِيَاضٌ، لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ بِمَنْزِلَةِ الْخُيُوطِ الْمَلْوِيَّةِ كَالْعُقُوصِ الصُّوفِ وَالْحَرِيرِ تَفْعَلُهُ الْمَرْأَةُ لِلزِّينَةِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهَا فِي فِعْلِهِ فَلَمْ يَدْخُلْ فِي النَّهْيِ وَيَلْتَحِقُ بِأَنْوَاعِ الزِّينَةِ، وَيُفْهَمُ مِنْ النَّهْيِ عَنْ وَصْلِ الشَّعْرِ عَدَمُ حُرْمَةِ إزَالَةِ شَعْرِ بَعْضِ الْحَاجِبِ أَوْ الْحَاجِبِ وَهُوَ الْمُسَمَّى بِالتَّرْجِيحِ وَالتَّدْقِيقِ وَالتَّحْفِيفِ وَهُوَ كَذَلِكَ وَسَيَأْتِي لَهُ مَزِيدُ بَيَانٍ. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى الصَّلَاةِ بِالشَّعْرِ الْمَوْصُولِ لِلْعِلْمِ بِصِحَّتِهَا مِمَّا مَرَّ إنْ كَانَ مَخْرُوزًا مُطْلَقًا، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَبَاطِلَةٌ إنْ كَانَ مِمَّا مَيْتَتُهُ نَجِسَةٌ. (وَ) يُنْهَى النِّسَاءُ أَيْضًا (عَنْ الْوَشْمِ) فِي الْوَجْهِ أَوْ فِي الْيَدِ أَوْ غَيْرِهِمَا وَهُوَ النَّقْشُ بِالْإِبْرَةِ حَتَّى يَخْرُجَ الدَّمُ وَيُحْشَى الْجُرْحُ بِالْكُحْلِ أَوْ الْهِبَابِ مِمَّا هُوَ أَسْوَدُ لِيَخْضَرَّ الْمَحَلُّ الْمَجْرُوحُ، وَالنَّهْيُ لِلْحُرْمَةِ عَامٌّ فِي الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ، بَلْ النَّهْيُ فِي الرِّجَالِ أَشَدُّ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: وَمَا يُحْكَى مِنْ إبَاحَتِهِ فَمَرْدُودٌ لِمُخَالَفَتِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ ذَلِكَ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَة، وَالْوَاشِرَةَ وَالْمُسْتَوْشِرَة، وَالْوَاشِمَةَ وَالْمُسْتَوْشِمَة، وَالْمُتَنَمِّصَات وَالْمُتَفَلِّجَات لِلْحُسْنِ الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ» وَالْوَشْرُ نَشْرُ الْأَسْنَانِ أَيْ بَرْدُهَا حَتَّى يَحْصُلَ الْفَلْجُ وَتَحْسُنُ الْأَسْنَانُ بِذَلِكَ، وَمِثْلُهُ لَوْ كَانَتْ طَوِيلَةً فَتَنْشُرُ حَتَّى يَحْصُلَ لَهَا الْقِصَرُ، وَالتَّنْمِيصُ هُوَ نَتْفُ شَعْرِ الْحَاجِبِ حَتَّى يَصِيرَ دَقِيقًا حَسَنًا، وَلَكِنْ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جَوَازُ إزَالَةِ الشَّعْرِ مِنْ الْحَاجِبِ وَالْوَجْهِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ الْمُعْتَمَدَ جَوَازُ حَلْقِ جَمِيعِ شَعْرِ الْمَرْأَة مَا عَدَا شَعْرَ رَأْسِهَا، وَعَلَيْهِ فَيُحْمَلُ مَا فِي الْحَدِيثِ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمَنْهِيَّةِ عَنْ اسْتِعْمَالِ مَا هُوَ زِينَةٌ لَهَا كَالْمُتَوَفَّى عَنْهَا وَالْمَفْقُودِ زَوْجُهَا. قَالَ خَلِيلٌ: وَتَرَكَتْ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا فَقَطْ وَإِنْ صَغُرَتْ وَلَوْ كِتَابِيَّةً وَمَفْقُودًا زَوْجُهَا التَّزَيُّنَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ تَأْوِيلِ الْمُحْتَمَلِ عِنْدَ وُجُوبِ الْعَارِضِ، وَلَا يُقَالُ فِيهِ تَغْيِيرٌ لِخَلْقِ اللَّهِ، لِأَنَّا نَقُولُ: لَيْسَ كُلُّ تَغْيِيرٍ مَنْهِيًّا عَنْهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ خِصَالَ الْفِطْرَةِ كَالْخِتَانِ وَقَصِّ الْأَظْفَارِ وَالشَّعْرِ وَغَيْرِهَا مِنْ خِصَاءِ مُبَاحِ الْأَكْلِ مِنْ الْحَيَوَانِ وَغَيْرِ ذَلِكَ جَائِزَةٌ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: لَا مُعَارَضَةَ بَيْنَ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مِنْ اللَّعْنِ وَبَيْنَ مَا اشْتَهَرَ مِنْ عِنْدِ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِاللَّعْنِ عَلَى الْمُعَيَّنِ لِحَدِيثِ: «الْمُؤْمِنُ لَا يَكُونُ لَعَّانًا» لِأَنَّ مَا فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ إخْبَارٌ عَنْ اللَّهِ بِبُعْدِ هَذِهِ الطَّوَائِفِ عَنْ رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْمَنْهِيُّ عَنْهُ الدُّعَاءُ بِاللَّعْنِ كَمَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ مِنْ الْحَدِيثِ، أَوْ إنَّ لَفْظَ لَعَّانٍ صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ إنَّمَا تَصْلُحُ لِمَنْ يَكْثُرُ مِنْهُ ذَلِكَ بِحَيْثُ صَارَ عَادَةً لَهُ، وَالْأَحْسَنُ الْجَوَابُ الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنَّ الْمُؤْمِنَ لَا يَسُوغُ لَهُ لَعْنُ غَيْرِهِ. الثَّانِي: قَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَشْمَ حَرَامٌ لِلظَّاهِرِ مِنْ الْحَدِيثِ حَتَّى صَرَّحَ ابْنُ رُشْدٍ وَابْنُ شَاسٍ بِأَنَّهُ مِنْ الْكَبَائِرِ يُلْعَنُ فَاعِلُهُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ بِالْكَرَاهَةِ، وَيُمْكِنُ حَمْلُهَا عَلَى التَّحْرِيمِ، وَلَا يُعَارِضُ النَّهْيَ عَنْ الْوَشْمِ مَا وَرَدَ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَيَّنَ بِهَا لِزَوْجِهَا، وَقَدْ جَاءَ أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي أَسْمَاءَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لِإِمْكَانِ حَمْلِهِ عَلَى ذَاتِ الزَّوْجِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ حُرْمَتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَى مَنْ يَحْرُمُ عَلَيْهَا الزِّينَةُ كَالْمُحْتَدَّةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّامِصَةِ الَّتِي تُزِيلُ شَعْرَ بَعْضِ الْحَاجِبِ. الثَّالِثُ: قَالَ بَعْضٌ: وَيَنْبَغِي أَنَّ مَحَلَّ حُرْمَةِ الْوَشْمِ حَيْثُ لَا يَتَعَيَّنُ طَرِيقًا لِمَرَضٍ وَإِلَّا جَازَ، لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ قَدْ تُبِيحُ الْمَحْظُورَاتِ فِي زَمَنِ الِاخْتِيَارِ فَكَيْفَ بِالْمُخْتَلَفِ فِيهِ؟ . الرَّابِعُ: الْوَشْمُ إذَا وَقَعَ عَلَى الْوَجْهِ الْمَمْنُوعِ لَا يُكَلَّفُ صَاحِبُهُ بِإِزَالَتِهِ بِالنَّارِ بَلْ هُوَ مِنْ النَّجَسِ الْمَعْفُوِّ عَنْهُ فَتَصِحُّ الصَّلَاةُ بِهِ، هَذَا هُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ كَلَامِ أَهْلِ مَذْهَبِنَا، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِمَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَابِ فَقَلَّ أَنْ تَجِدَ الْكَلَامَ عَلَيْهِ مُسْتَوْفًى عَلَى مَا ذَكَرْنَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَعْضِ آدَابٍ وَمَكْرُوهَاتٍ فَقَالَ: (وَمَنْ لَبِسَ) أَيْ أَرَادَ عَلَى حَدِّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [النحل: 98] (خُفًّا أَوْ نَعْلًا) أَوْ سِرْوَالًا. (بَدَأَ) اسْتِحْبَابًا (بِيَمِينِهِ وَإِذَا نَزَعَ بَدَأَ بِشِمَالِهِ) لِأَنَّ كُلَّ كَمَالٍ يُطْلَبُ فِيهِ الْبَدْءُ بِالْيَمِينِ، وَكُلَّ نَقْصٍ يُبْدَأُ فِيهِ بِالْيَسَارِ، وَالْخُلُوُّ نَقْصٌ لِأَنَّهُ تَعَرٍّ، وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ: «إذَا انْتَعَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَبْدَأْ بِالْيَمِينِ وَإِذَا نَزَعَ فَلْيَبْدَأْ بِالشِّمَالِ» وَخَبَرُ مُسْلِمٍ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 وَيُكْرَهُ الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَتُكْرَهُ التَّمَاثِيلُ فِي الْأَسِرَّةِ وَالْقِبَابِ وَالْجُدَرَانِ وَالْخَاتَمِ وَلَيْسَ الرَّقْمُ فِي الثَّوْبِ مِنْ ذَلِكَ وَتَرْكُهُ أَحْسَنُ.   [الفواكه الدواني] عَائِشَةَ: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ» وَالْقَاعِدَةُ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ أَخْذًا مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ مِنْ بَابِ التَّكْرِيمِ وَالتَّشْرِيفِ كَاللُّبْسِ وَدُخُولِ الْمَسَاجِدِ وَتَقْلِيمِ الْأَظْفَارِ وَقَصِّ الشَّارِبِ وَتَرْجِيلِ الشَّعْرِ وَنَتْفِ الْإِبْطِ وَحَلْقِ الرَّأْسِ وَالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَغَسْلِ أَعْضَاءِ الطَّهَارَةِ يُنْدَبُ فِيهِ التَّيَامُنُ، وَمَا كَانَ بِضِدِّ ذَلِكَ فَالتَّيَاسُرُ، وَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الرَّأْسِ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْحَلْقَ لِلرَّأْسِ صَارَ مِنْ الْبِدْعَةِ الْحَسَنَةِ. (وَلَا بَأْسَ بِالِانْتِعَالِ) أَيْ لُبْسِ النَّعْلِ حَالَ كَوْنِهِ، (قَائِمًا) كَمَا يَجُوزُ لُبْسُهُ حَالَةَ كَوْنِهِ جَالِسًا فَلَا بَأْسَ لِلْجَوَازِ الْمُسْتَوِي، وَمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ الِانْتِعَالِ حَالَ الْقِيَامِ فَغَيْرُ صَحِيحٌ، وَعَلَى الصِّحَّةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا إذَا كَانَ لَا يُمْكِنُ مِنْ قِيَامٍ، نَعَمْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِوُرُودِ النَّهْيِ عَنْ التَّعَمُّمِ حَالَ الْقُعُودِ، وَعَنْ التَّسَرْوُلِ حَالَ الْقِيَامِ. (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (الْمَشْيُ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ) إلَّا أَنْ يَكُونَ أَقْطَعَ الرِّجْلِ فَلَا بَأْسَ بِمَشْيِهِ بِنَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا كُرِهَ الْمَشْيُ فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ، لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَمْشِي فِي نَعْلٍ وَاحِدَةٍ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ كَرَاهَةُ الْمَشْيِ فِي النَّعْلِ الْوَاحِدَةِ وَلَوْ لَبِسَهُمَا مَعًا، وَلَكِنْ انْقَطَعَتْ إحْدَاهُمَا وَاسْتَمَرَّ لَابِسًا لِلْأُخْرَى وَهُوَ يَمْشِي، وَأَمَّا وُقُوفُ الشَّخْصِ فِي نَعْلٍ وَاحِدَةِ لِإِصْلَاحِ الْأُخْرَى فَلَيْسَ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ. (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا فِعْلُ (التَّمَاثِيلِ) جَمْعُ تِمْثَالٍ بِكَسْرِ التَّاءِ وَهِيَ صُورَةُ الْحَيَوَانَاتِ (فِي الْأَسِرَّةِ) بِكَسْرِ السِّينِ الْمُهْمَلَةِ جَمْعُ سَرِيرٍ وَهُوَ الَّذِي يُصْنَعُ لِلرُّقَادِ عَلَيْهِ. (وَ) كَذَا يُكْرَهُ فِعْلُ التَّمَاثِيلِ فِي (الْقِبَابِ) جَمْعُ قُبَّةٍ وَهِيَ مَا يُجْعَلُ مِنْ الثِّيَابِ عَلَى الْهَوْدَجِ أَوْ عَلَى السَّرِيرِ أَوْ عَلَى الْخَيْمَةِ. (وَ) كَذَلِكَ يُكْرَهُ التِّمْثَالُ أَيْضًا فِي (الْجُدَرَانِ) بِضَمِّ الْجِيمِ جَمْعُ جَدْرٍ بِفَتْحِ الْجِيمِ وَسُكُونِ الدَّالِ الْحَائِطُ. (وَ) كَذَا فِي (الْخَاتَمِ) بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِهَا وَفِيهِ لُغَاتٌ أُخَرُ مَشْهُورَةٌ، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: تُكْرَهُ التَّمَاثِيلُ الَّتِي فِي الْأَسِرَّةِ وَالْقِبَابِ وَالْمَنَابِرِ وَلَيْسَ كَالثِّيَابِ وَالْبُسُطِ الَّتِي تُمْتَهَنُ انْتَهَى، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ فِي الْأَسِرَّةِ وَالْقِبَابِ إلَخْ أَنَّ التِّمْثَالَ مَنْقُوشٌ فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَهُوَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا لَوْ جُعِلَ التِّمْثَالُ صُورَةً مُسْتَقِلَّةً لَهَا ظِلٌّ كَمَا لَوْ صُنِعَ صُورَةَ سَبُعٍ أَوْ كَلْبٍ أَوْ آدَمِيٍّ وَوَضَعَهَا عَلَى الْحَائِطِ أَوْ عَلَى الْأَرْضِ فَإِنَّ ذَلِكَ حَرَامٌ، حَيْثُ كَانَتْ الصُّورَةُ كَامِلَةً سَوَاءٌ صُنِعَتْ مِمَّا تَطُولُ إقَامَتُهُ كَحَجَرٍ أَوْ خَشَبٍ أَوْ مِمَّا لَا تَطُولُ إقَامَتُهُ، كَمَا صُنِعَ صُورَةُ السَّبُعِ أَوْ الْفَرَسِ مِنْ عَجِينٍ أَوْ حَلَاوَةٍ مِمَّا لَا تَطُولُ إقَامَتُهُ، وَلَوْ كَانَتْ الصُّورَةُ نَاقِصَةً كَصُورَةِ حِمَارٍ أَوْ سَبُعٍ غَيْرِ كَامِلَةٍ فَلَا حُرْمَةَ فِيهَا بَلْ قِيلَ بِكَرَاهَتِهَا وَقِيلَ خِلَافُ الْأَوْلَى. وَالْحَاصِلُ كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ كَلَامِ ابْنِ رُشْدٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ التَّمَاثِيلَ عَلَى الثَّلَاثَةِ أَقْسَامِ: الْمُحَرَّمُ مِنْهَا مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ حَيَوَانٍ كَامِلَةٍ وَلَهَا ظِلٌّ قَائِمٌ وَحُمِلَ عَلَيْهَا مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ أَنَّ فَاعِلَ تِلْكَ الصُّورَةِ يُعَذَّبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيُقَالُ لَهُ: أَحْيِ مَا خَلَقْت» وَالْمُبَاحُ مَا كَانَ عَلَى صُورَةِ غَيْرِ حَيَوَانٍ كَصُورَةِ الْأَشْجَارِ وَالْفَوَاكِهِ وَالسَّحَابِ مِمَّا هُوَ مَصْنُوعٌ لِلَّهِ وَلَيْسَ حَيَوَانًا، وَالْمَكْرُوهُ مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ صُوَرِ الْحَيَوَانَاتِ الْمَرْسُومَةِ فِي الْأَسِرَّةِ وَالْحِيطَانِ مِنْ كُلِّ مَا كَانَ غَيْرَ مُمْتَهَنٍ، وَأَمَّا التَّمَاثِيلُ الْمَرْسُومَةُ فِي الْأَشْيَاءِ الْمُمْتَهَنَةِ فَلَا كَرَاهَةَ فِيهَا وَلَكِنَّ تَرْكَهَا أَوْلَى وَهِيَ الْآتِيَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ. (تَنْبِيهٌ) يُسْتَثْنَى مِمَّا لَهُ ظِلٌّ قَائِمٌ الْمُجْمَعُ عَلَى حُرْمَتِهِ صُوَرُ لَعِبِ الْبَنَاتِ فَإِنَّهُ لَا تَحْرُمُ، وَيَجُوزُ اسْتِصْنَاعُهَا وَصُنْعُهَا وَبَيْعُهَا وَشِرَاؤُهَا لَهُنَّ لِأَنَّ بِهِنَّ يَتَدَرَّبْنَ عَلَى حَمْلِ الْأَطْفَالِ، فَقَدْ كَانَ لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - جِوَارٍ يُلَاعِبْنَهَا بِصُوَرِ الْبَنَاتِ الْمَصْنُوعَةِ مِنْ نَحْوِ خَشَبٍ، فَإِذَا رَأَيْنَ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَسْتَحِينَ مِنْهُ وَيَتَقَنَّعْنَ وَكَانَ الرَّسُولُ يَشْتَرِيهَا لَهَا، وَأَمَّا فِعْلُهَا لِلْكِبَارِ فَحَرَامٌ، وَلَمَّا كَانَتْ تَمَاثِيلُ الْحَيَوَانَاتِ إنَّمَا تُكْرَهُ فِيمَا لَا يُمْتَهَنُ كَالْمَصْنُوعَةِ فِي الْحَائِطِ، ذَكَرَ أَنَّ مَا صُنِعَ فِي الْمُمْتَهَنِ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ الرَّقْمُ) لِصُورَةِ الْحَيَوَانِ (فِي الثَّوْبِ) وَالْبِسَاطِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ كُلِّ مُمْتَهَنٍ (مِنْ ذَلِكَ) الْمَنْهِيِّ عَنْهُ لِقَوْلِ الْجَلَّابِ: وَلَا بَأْسَ بِاِتِّخَاذِ التَّمَاثِيلِ فِي الثِّيَابِ وَالْبُسْطِ. (وَ) لَكِنْ (تَرْكُهُ) فِي الثَّوْبِ أَوْ غَيْرِهِ (أَحْسَنُ) مِنْ فِعْلِهِ لِأَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ قَالَ بِتَحْرِيمِهِ، وَلَوْ فِي الثَّوْبِ فَفِي تَرْكِهِ سَلَامَةٌ بِالْخُرُوجِ مِنْ الْخِلَافِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 بَابٌ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ تَقُولَ بِسْمِ اللَّهِ وَتَتَنَاوَلَ بِيَمِينِك فَإِذَا فَرَغْت فَلْتَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحَسَنٌ أَنْ تَلْعَقَ يَدَك قَبْلَ مَسْحِهَا وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا لِلنَّفَسِ وَإِذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ] (بَابٌ فِي) بَيَانِ آدَابِ اسْتِعْمَالِ (الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ) لِأَنَّ الْعَبْدَ لَا غِنَى لَهُ عَنْهُمَا، جَعَلَهُمَا - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - سَبَبًا لِبَقَاءِ بِنْيَتِهِ وَتَقْوِيَتِهِ عَلَى الطَّاعَةِ، فَيَنْبَغِي لَهُ عِنْدَ اسْتِعْمَالِهِمَا أَنْ يَقْصِدَ بِهِمَا قِيَامَ الْبِنْيَةِ وَالتَّقَوِّي عَلَى الطَّاعَةِ لَا مُجَرَّدَ شَهْوَةِ النَّفْسِ، وَيُثَابُ عَلَى ذَلِكَ الْقَصْدِ، إذْ كَثِيرًا مَا يَنْقَلِبُ الْمُبَاحُ طَاعَةً بِحَيْثُ يُثَابُ عَلَيْهِ الْفَاعِلُ بِالنِّيَّةِ، وَهَذَا شَأْنُ الْأَنْبِيَاءِ لَا يَقَعُ الْمُبَاحُ مِنْهُمْ إلَّا عَلَى وَجْهٍ بِحَيْثُ يُثَابُونَ عَلَيْهِ، وَالْآدَابُ الْمَذْكُورَةُ مِنْهَا سَابِقٌ عَلَى الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَمِنْهَا لَاحِقٌ، وَمِنْهَا مُقَارِنٌ، فَمِنْ السَّابِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا أَكَلْت أَوْ شَرِبْت) أَيْ أَرَدْت فِعْلَهُمَا (فَوَاجِبٌ عَلَيْك) وُجُوبَ السُّنَنِ (أَنْ تَقُولَ بِاسْمِ اللَّهِ) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَقِيلَ تَقْتَصِرُ عَلَى بِسْمِ اللَّهِ، وَوَرَدَ فِي الْحَدِيثِ زِيَادَةٌ عَلَى التَّسْمِيَةِ: «وَبَارِكْ لَنَا فِيمَا رَزَقْتنَا» وَإِنْ كَانَ الطَّعَامُ لَبَنًا تَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ: وَزِدْنَا مِنْهُ، وَيُنْدَبُ الْجَهْرُ بِهَا لِيَتَنَبَّهَ الْغَافِلُ عَنْهَا وَيَتَعَلَّمَ الْجَاهِلُ، وَإِذَا نَسِيَهَا فِي أَوَّلِهِ أَتَى بِهَا حَيْثُ ذَكَرَهَا فَيَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ فِي أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَتَقَايَأُ مَا أَكَلَهُ، وَالْمُرَادُ يَتَقَايَؤُهُ خَارِجَ الْإِنَاءِ، وَالتَّسْمِيَةُ سُنَّةٌ عَلَى الْأَعْيَانِ. (وَ) الْآدَابُ الْمُقَارِنَةُ أَنْ (تَتَنَاوَلَ) الْمَأْكُولَ وَالْمَشْرُوبَ (بِيَمِينِك) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ لِخَبَرِ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَأْكُلْ بِيَمِينِهِ، وَإِذَا شَرِبَ فَلْيَشْرَبْ بِيَمِينِهِ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَيَشْرَبُ بِشِمَالِهِ» . وَاخْتَلَفَ الشُّيُوخُ فِي أَكْلِهِ فَقِيلَ حَقِيقَةً وَقِيلَ مَجَازًا عَنْ الشَّمِّ وَفِيهِ شَيْءٌ مَعَ قَوْلِهِ فِي الرِّوَايَةِ أَنَّهُ يَتَقَايَأُ مَا أَكَلَهُ، وَمِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (فَإِذَا فَرَغْت) مِنْ الْأَكْلِ أَوْ الشُّرْبِ (فَلْتَقُلْ) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ سِرًّا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) لِأَنَّ اللَّهَ رَضِيَ عَنْهُ بِالْحَمْدِ بَعْدَ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، وَأَيْضًا كَانَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ عِنْدَ فَرَاغِهِ مِنْ طَعَامِهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا وَجَعَلَنَا مُسْلِمِينَ» . وَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ نَدْبِ إسْرَارِ الْحَمْدِ وَإِجْهَارِ التَّسْمِيَةِ مَا سَبَقَ مِنْ تَذْكِيرِ النَّاسِي لَهَا، وَلِئَلَّا يَحْصُلَ الْحَيَاءُ وَالْخَجَلُ لِمَنْ يَشْبَعُ إذَا سَمِعَ حَمْدَ غَيْرِهِ. وَمِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَحَسَنٌ) بِلَفْظِ الِاسْمِ خَبَرٌ مُقَدَّمٌ أَيْ مُسْتَحَبٌّ وَمُبْتَدَؤُهُ (أَنْ تَلْعَقَ) أَيْ تَلْحَسَ (يَدَك قَبْلَ مَسْحِهَا) لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامَهُ فَلَا يَمْسَحْ يَدَهُ حَتَّى يَلْعَقَهَا أَوْ يُلْعِقَهَا» زَادَ التِّرْمِذِيُّ: «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي الْبَرَكَةَ فِي أَوَّلِ طَعَامِهِ أَوْ آخِرِهِ» وَلِمَا وَرَدَ أَيْضًا مِنْ «أَنَّ مَنْ لَعِقَ الْقَصْعَةَ مِنْ الطَّعَامِ وَغَسَلَهَا وَشَرِبَ ذَلِكَ عُوفِيَ مِنْ نَفْسِهِ مِنْ الْجُنُونِ وَالْجُذَامِ وَالْبَرَصِ هُوَ وَوَلَدُهُ» وَنَحْوِ هَذَا، وَجَاءَ أَيْضًا: «مَنْ الْتَقَطَ فُتَاتًا مِنْ الْأَرْضِ أَوْ أَكَلَهَا كَانَ كَمَنْ أَعْتَقَ رَقَبَةً» وَجَاءَ فِي الْتِقَاطِ مَا يَقَعُ مِنْ الطَّعَامِ أَنَّهُ مَهْرُ الْحُورِ الْعِينِ، وَجَاءَ أَنَّهُ مَنْ دَاوَمَ عَلَى ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فِي سَعَةٍ، وَفِي نُسْخَةٍ بَدَلَ يَدِك أَصَابِعُك وَهِيَ مُفَسِّرَةٌ لِلْيَدِ فِي نُسْخَةِ يَدِك، لِأَنَّ الْيَدَ كَمَا تُطْلَقُ عَلَى الْكَفِّ تُطْلَق عَلَى الْأَصَابِعِ، وَالْمُرَادُ هُنَا ثَلَاثَةُ أَصَابِعَ، وَيَدُلُّ لَهُ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَأْكُلُ بِثَلَاثَةِ أَصَابِعَ وَيَلْعَقُ يَدَهُ قَبْلَ أَنْ يَمْسَحَهَا» قَالَ عِيَاضٌ: وَهَذَا مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ وَسُنَنِهِ، وَالْأَكْلُ بِأَكْثَرَ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ شَرَهٌ وَسُوءُ أَدَبٍ، إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ لِلْأَكْلِ بِأَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ لِرِقَّةِ الطَّعَامِ مَثَلًا. وَقَالَ فِي التَّحْقِيقِ: وَالْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ: تَلْعَقُ يَدَك أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْكُلَ بِجَمِيعِ أَصَابِعِهِ، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُ التِّلْمِسَانِيِّ: يَبْدَأُ فِي لَعْقِ أَصَابِعِهِ مِنْ الْخِنْصَرِ ثُمَّ الْإِبْهَامِ ثُمَّ الْوُسْطَى ثُمَّ الْبِنْصِرِ ثُمَّ السَّبَّابَةِ، وَأَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مَا فِي مُسْلِمٍ لَا يُخَالِفُ مَا قَالَهُ التِّلْمِسَانِيُّ، لِأَنَّ حَدِيثَ مُسْلِمٍ لَيْسَ فِيهِ مَا يَقْتَضِي حَصْرَ الْأَكْلِ فِي الثَّلَاثَةِ، وَفُهِمَ مِنْ قَوْلِهِ: قَبْلَ مَسْحِهَا أَنَّهُ يَمْسَحُهَا بِمِنْدِيلٍ أَوْ غَيْرِهِ ثُمَّ يَغْسِلُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إنْ كَانَ فِي طَعَامِهِ غَمَرٌ نَحْوُ اللَّبَنِ وَالزَّيْتِ وَاللَّحْمِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ غَسْلُ فَمٍ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ وَالْيَدُ كَذَلِكَ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّ الْمَنْدُوبَ لَعْقُهَا قَبْلَ مَسْحِهَا أَوْ غَسْلِهَا؛ لِأَنَّهُ يَكْفِي الْمَسْحُ بَعْدَ اللَّعْقِ فِيمَا لَا غَمَرَ فِيهِ، وَمَا فِيهِ غَمَرٌ يُنْدَبُ غَسْلُهَا بَعْدَ لَعْقِهَا. [آدَابِ الْأَكْلِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ] (وَمِنْ آدَابِ الْأَكْلِ) الْمُقَارِنَةِ لَهُ (أَنْ تَجْعَلَ بَطْنَك) ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ (ثُلُثًا لِلطَّعَامِ وَثُلُثًا لِلشَّرَابِ وَثُلُثًا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 أَكَلْت مِمَّا يَلِيك وَلَا تَأْخُذْ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرُغَ الْأُخْرَى وَلَا تَتَنَفَّسْ فِي الْإِنَاءِ عِنْدَ شُرْبِك وَلْتُبِنْ الْقَدَحَ عَنْ فِيك ثُمَّ تُعَاوِدْهُ   [الفواكه الدواني] لِلنَّفَسِ) لِاعْتِدَالِ الْجَسَدِ وَخِفَّتِهِ؛ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَى الشِّبَعِ ثِقَلُ الْبَدَنِ وَهُوَ يُورِثُ الْكَسَلَ عَنْ الْعِبَادَةِ، وَلِأَنَّهُ إذَا أَكْثَرَ مِنْ الْأَكْلِ لَمَا بَقِيَ لِلنَّفَسِ مَوْضِعٌ إلَّا عَلَى وَجْهٍ يَضُرُّ بِهِ، وَلِمَا وَرَدَ: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبَرَدَةُ. وَالْحَمِيَّةُ خُلُوُّ الْبَطْنِ مِنْ الطَّعَامِ، وَالْبَرَدَةُ إدْخَالُ الطَّعَامِ عَلَى الطَّعَامِ، وَلَفْظُ الْمَعِدَةِ» إلَخْ مِنْ كَلَامِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ أَدْخَلَهُ بَعْضُ الْوُضَّاعِ فِي الْمُسْنَدِ الْمَرْفُوعِ تَرْوِيجًا لَهُ، كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ بِقَوْلِهِ: وَالْوَاضِعُونَ بَعْضُهُمْ قَدْ صَنَعَا ... مِنْ عِنْدِ نَفْسِهِ وَبَعْضٌ وَضَعَا كَلَامُ بَعْضِ الْحُكْمَا فِي الْمُسْنَدِ قَالَ شَارِحُهَا تَرْوِيجًا لَهُ مِنْهُ الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ إلَخْ كَمَا قَدَّمْنَا، وَمِنْ كَلَامِهِمْ أَيْضًا مَا قَالَهُ مَالِكٌ: وَمِنْ طِبِّ الْأَطِبَّاءِ أَنْ تَرْفَعَ يَدَك مِنْ الطَّعَامِ وَأَنْتَ تَشْتَهِيهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَكَثْرَةُ الْأَكْلِ لَا خَيْرَ فِيهَا لِإِنْسَانٍ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ أَدْهَمَ: صَحِبْت أَكْثَرَ رِجَالِ اللَّهِ وَقَدْ أَوْصَوْنِي بِأَنْ أَعِظَ غَيْرِي بِأَرْبَعِ خِصَالٍ: إحْدَاهَا أَنَّ مَنْ يُكْثِرُ الْأَكْلَ لَا يَجِدُ لَذَّةَ الْعِبَادَةِ، وَمَنْ يَنَامُ كَثِيرًا لَمْ يَرَ فِي عُمْرِهِ بَرَكَةً، وَمَنْ يَطْلُبُ رِضَا النَّاسِ لَا يَنْتَظِرُ رِضَا الرَّبِّ، وَمَنْ يُكْثِرُ الْكَلَامَ بِفُضُولٍ وَغِيبَةٍ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى دِينِ الْإِسْلَامِ. وَقَالَ سَهْلٌ: الْخَيْرُ كُلُّهُ فِي خِصَالٍ أَرْبَعٍ بِهَا صَارَتْ الْأَبْدَالُ أَبْدَالًا: إخْمَاصُ الْبُطُونِ، وَالصَّمْتُ، وَالْعُزْلَةُ عَنْ الْخَلْقِ، وَسَهَرُ اللَّيْلِ. وَقَالَ سَحْنُونٌ: كُلُّ شَيْءٍ يَعْمَلُ عَلَى الشِّبَعِ إلَّا ابْنَ آدَمَ إذَا شَبِعَ رَقَدَ، وَأَيْضًا قَالُوا: الشِّبَعُ مِنْ الْحَلَالِ يُقَسِّي الْقَلْبَ، وَيُقِلُّ الْحِفْظَ، وَيُفْسِدُ الْعَقْلَ، وَيُكْثِرُ الشَّهْوَةَ، وَيُقَوِّي جُنُودَ الشَّيْطَانِ، وَفَسَدَ الْجَسَدِ، فَمَا بَالُك بِالْحَرَامِ؟ وَبِالْجُمْلَةِ: الشِّبَعُ مَمْدُوحٌ فِي الْبَهَائِمِ وَمَذْمُومٌ فِي حَقِّ ابْنِ آدَمَ، وَيُعْرَفُ الثُّلُثُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى ثُلُثِ مَا كَانَ يَشْبَعُ بِهِ، وَقِيلَ يُعْرَفُ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى نِصْفِ الْمُدِّ، وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ لِاخْتِلَافِ النَّاسِ، وَهَذَا كُلُّهُ فِي حَقِّ مَنْ لَا يُضْعِفُهُ قِلَّةُ الشِّبَعِ، وَإِلَّا فَالْأَفْضَلُ فِي حَقِّهِ اسْتِعْمَالُ مَا يَحْصُلُ لَهُ بِهِ النَّشَاطُ لِلْعِبَادَةِ وَاعْتِدَالُ الْبَدَنِ. وَمِنْ خَطِّ عَلَّامَةِ الزَّمَانِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا الْأُجْهُورِيِّ الْأَكْلُ الَّذِي تَحْصُلُ بِهِ الْحَيَاةُ أَوْ الْقُدْرَةُ عَلَى الصِّيَامِ الْوَاجِبِ أَوْ الصَّلَاةِ الْوَاجِبَةِ وَاجِبٌ، وَاَلَّذِي يَحْصُلُ بِهِ التَّقَوِّي عَلَى الْعِبَادَةِ الْغَيْرِ الْوَاجِبِ مَنْدُوبٌ، وَالْمُبَاحُ مِلْءُ ثُلُثِ بَطْنِهِ، وَالزَّائِدُ عَلَى ذَلِكَ مَكْرُوهٌ. قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ إذَا امْتَلَأَتْ الْمَعِدَةُ مَاتَتْ الْفِكْرَةُ، وَخَرَسَ لِسَانُ الْحِكْمَةِ، وَقَعَدَتْ الْأَعْضَاءُ عَنْ الْعِبَادَةِ. وَقَالَ بَعْضُ الْحُكَمَاءِ: مَنْ كَثُرَ أَكْلُهُ كَثُرَ شُرْبُهُ، وَمَنْ كَثُرَ شُرْبُهُ كَثُرَ نَوْمُهُ وَكَثُرَ لَحْمُهُ، وَمَنْ كَثُرَ لَحْمُهُ قَسَا قَلْبُهُ، وَمَنْ قَسَا قَلْبُهُ غَرِقَ فِي الْآثَامِ، وَالزَّائِدُ الَّذِي يَنْشَأُ عَنْهُ الضَّرَرُ حَرَامٌ، قَالَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ. (وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّك (إذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك) وَلَوْ كَانَ مُشَارِكًا لَك فِي الطَّعَامِ (أَكَلْت مِمَّا يَلِيك) لِأَنَّ أَكْلَك مِنْ الَّذِي يَلِي صَاحِبَك تَعَدٍّ، وَبِهِ تُنْسَبُ إلَى الشَّرَهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُصَاحِبُ لَك فِي الْأَكْلِ وَلَدًا لَك أَوْ يَكُونَ الطَّعَامُ مُخْتَلِفًا، وَأَمَّا وَلَدُك فَلَا يَلْزَمُك التَّأَدُّبُ مَعَهُ، وَإِنْ لَزِمَهُ التَّأَدُّبُ مَعَك فَلَا يَأْكُلُ مِمَّا يَلِيك. (وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك أَنْ (لَا تَأْخُذَ لُقْمَةً حَتَّى تَفْرَغَ) مِنْ بَلْعِ (الْأُخْرَى) لِئَلَّا تُنْسَبَ إلَى الشَّرَهِ وَالْحِرْصِ عَلَى الْأَكْلِ وَلِئَلَّا تَشْرَقَ فَيَحْصُلَ لَك الْخَجَلُ، هَكَذَا عَلَّلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ، وَيُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ هَذَا عِنْدَ أَكْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ، وَيَنْبَغِي الْإِطْلَاقُ لِئَلَّا يَتَّخِذَهُ عَادَةً فَيَتَوَصَّلَ إلَى فِعْلِهِ مَعَ غَيْرِهِ. وَمِنْ الْآدَابِ تَصْغِيرُ اللُّقْمَةِ إنْ أَكَلَ مَعَ مَنْ يُصَغِّرُهَا وَيَتَمَهَّلُ مِثْلَهُمْ، وَيَتَأَخَّرُ عَنْهُمْ إنْ كَانُوا يُعَجِّلُونَ لِأَنَّ سَبْقَهُمْ مَذْمُومٌ. قَالَ الشَّاعِرُ: وَإِنْ مُدَّتْ الْأَيْدِي إلَى الزَّادِ لَمْ أَكُنْ ... بِأَعْجَلِهِمْ إذْ أَجْشَعُ الْقَوْمِ أَعْجَلُ وَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ هُنَا لَيْسَ عَلَى بَابِهِ. وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَفْعَلَ عِنْدَ أَكْلِك مَا يَسْتَقْذِرُهُ غَيْرُك مِنْ نَحْوِ الْبُصَاقِ أَوْ الِامْتِخَاطِ، أَوْ رَدِّ بَعْضِ اللُّقْمَةِ فِي الْإِنَاءِ بَعْدَ وَضْعِهَا فِي فَمِك. وَمِنْ الْآدَابِ الْإِكْثَارُ مِنْ حِكَايَاتِ الصَّالِحِينَ وَمَنَاقِبِ نَحْوِ الصَّحَابَةِ مِمَّا يُرِيحُ الْآكِلَ وَيُقَوِّي نَهِمَتَهُ وَيُنْبِئُ عَنْ سَمَاحَتِك، وَلَا سِيَّمَا إنْ كَانَ الْمُصَاحِبُ لَك ضَيْفًا. وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَنْظُرَ إلَى غَيْرِك حَالَ أَكْلِهِ، وَأَنْ لَا تَقُومَ قَبْلَ قِيَامِهِ، هَكَذَا قَالُوهُ، وَأَقُولُ: يَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَكُونَ وَالِدَك أَوْ سَيِّدَك مِمَّنْ لَا يَحْصُلُ لَهُ الْخَجَلُ بِقِيَامِك قَبْلَهُ. 1 - وَمِنْ الْآدَابِ أَنْ لَا تَقُولَ لِمَنْ يَأْكُلُ مَعَك فِي حَالِ أَكْلِهِ كُلْ فَإِنَّهُ يُخْجِلُهُ، بِخِلَافِ لَوْ تَرَكَ الْأَكْلَ فَلَا بَأْسَ بِقَوْلِك لَهُ كُلْ فَإِنَّهُ يُنْبِئُ عَنْ الِاعْتِنَاءِ بِشَأْنِهِ وَبِسَمَاحَتِك وَيَزْدَادُ جَبْرًا، وَلَكِنْ لَا يَحْلِفُ عَلَيْهِ لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ قَالَ بِكَرَاهَةِ الْحَلِفِ عَلَى الطَّعَامِ، لِأَنَّ الْوَارِدَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّمَا هُوَ قَوْلُ: «كُلْ كُلْ كُلْ ثَلَاثًا» ، أَوْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ الْحَلِفَ لِأَنَّ الشَّخْصَ رُبَّمَا يَكُونُ خَجِلًا وَيَتَوَهَّمُ عَدَمَ سَمَاحَتِك إلَّا بِالْحَلِفِ، وَإِذَا حَلَفَ عَلَى غَيْرِهِ لَيَأْكُلَنَّ فَقِيلَ يَبَرُّ بِثَلَاثِ لُقَمٍ، وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فَقَالَ: إنْ كَانَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 إنْ شِئْت وَلَا تَعُبَّ الْمَاءَ عَبًّا وَلْتَمُصَّهُ مَصًّا وَتَلُوكُ طَعَامَك وَتُنَعِّمُهُ مَضْغًا قَبْلَ بَلْعِهِ وَتُنَظِّفُ فَاك بَعْدَ طَعَامِك وَإِنْ غَسَلْت يَدَك مِنْ الْغَمَرِ وَاللَّبَنِ فَحَسَنٌ وَتُخَلِّلُ مَا تَعَلَّقَ بِأَسْنَانِك مِنْ الطَّعَامِ وَنَهَى الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْأَكْلِ   [الفواكه الدواني] فِي أَثْنَاءِ الْأَكْلِ وَهُوَ الْمَوْضُوعُ فَيَبَرُّ بِثَلَاثٍ، وَإِنْ يَكُنْ فِي ابْتِدَائِهِ فَلَا يَبَرُّ إلَّا بِشِبَعِ الْمَحْلُوفِ عَلَيْهِ وَيَعْلَمُ بِإِقْرَارِهِ. [الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ لِلشُّرْبِ] (وَ) مِنْ الْآدَابِ الْمُقَارِنَةِ لِلشُّرْبِ أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك أَنْ (لَا تَتَنَفَّسَ فِي الْإِنَاءِ عِنْدَ شُرْبِك) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - نَهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الشَّرَابِ وَأَمَرَ مُرِيدَ التَّنَفُّسِ بِإِبَانَةِ الْقَدَحِ عَنْ فِيهِ وَقْتَ تَنَفُّسِهِ، وَإِنَّمَا نَهَى عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّهُ يَتَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَلِأَنَّهُ رُبَّمَا يَنْفَصِلُ مِنْ فِيهِ عِنْدَ التَّنَفُّسِ لُعَابٌ وَهُوَ سُمٌّ عَلَى غَيْرِ صَاحِبِهِ. (وَلْتُبِنْ) أَيْ تُبْعِدُ (الْقَدَحَ عَنْ فِيك) عِنْدَ إرَادَةِ التَّنَفُّسِ حَتَّى تَتَنَفَّسَ. (ثُمَّ تُعَاوِدُهُ إنْ شِئْت) لِخَبَرِ: «إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَنَفَّسْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَإِنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ» وَذُكِرَ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يَشْرَبُ ثُمَّ يُبِينُ الْقَدَحَ وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يُبِينُهُ وَيَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، ثُمَّ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ ثُمَّ يَشْرَبُ ثُمَّ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ» وَالْحَدِيثُ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى مُرِيدِ إعَادَةِ الشُّرْبِ كَمَا يُشْعِرُ بِهِ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إنْ شِئْت، فَلَا يُنَافِي جَوَازَ الشُّرْبِ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: يُكْرَهُ الشُّرْبُ فِي نَفَسٍ وَاحِدٍ لِمَا وَرَدَ مِنْ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَشْرَبُ مِنْ ثَلَاثَةٍ» وَقَالَ: «إنَّهُ أَهْنَأُ وَأَمْرَأُ وَأَبْرَأُ» وَلِمَا قِيلَ إنَّهُ يُؤْذِي الْكَبِدَ. (وَ) مِنْ آدَابِ الشُّرْبِ أَيْضًا أَنَّك (لَا تَعُبُّ الْمَاءَ عَبًّا) أَيْ لَا تَبْتَلِعُهُ كَابْتِلَاعِ الْبَهِيمَةِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نَهَى عَنْ الْعَبِّ» . (وَلْتَمَصَّهُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ مُضَارِعُ مَصِصَ بِالْكَسْرِ (مَصًّا) أَيْ تَبْتَلِعُهُ بِرِفْقٍ شَيْئًا فَشَيْئًا بِحَيْثُ لَا يُسْمَعُ مِنْك صَوْتٌ بِشُرْبِهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إذَا شَرِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَمَصَّهُ مَصًّا» وَتَقَدَّمَ تَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ أَهْنَأُ وَأَبْرَأُ وَأَمْرَأُ لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِعُرُوقِ الْجَسَدِ، بِخِلَافِ عَبِّهِ رُبَّمَا يَأْخُذُ عِرْقٌ أَكْثَرَ مِمَّا يَحْتَاجُهُ فَيَتَأَذَّى صَاحِبُهُ، أَلَا تَرَى الْمَطَرَ الرَّقِيقَ الدَّائِمَ فَإِنَّهُ أَنْفَعُ لِلْأَرْضِ مِنْ الْوَابِلِ الَّذِي يَنْقَطِعُ سَرِيعًا قَدْ يَذْهَبُ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَلَا يُدَاخِلُهَا كَالرَّقِيقِ الدَّائِمِ، وَمِثْلُ الْمَاءِ اللَّبَنُ وَالْعَسَلُ وَغَيْرُهُمَا مِنْ كُلِّ مَائِعٍ لِلتَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ. . (وَ) مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ الْمُقَارِنَةِ لَهُ أَيْضًا أَنَّك (تَلُوكُ طَعَامَك) أَيْ تَمْضَغُهُ (وَتُنَعِّمُهُ مَضْغًا) أَيْ بِالْمَضْغِ (قَبْلَ بَلْعِهِ) لِأَنَّهُ أَنْفَعُ لِلْمَعِدَةِ وَلِأَنَّهُ إذَا أَدْخَلَهُ قَبْلَ الْمُبَالَغَةِ فِي مَضْغِهِ رُبَّمَا يَغَصُّ بِهِ فَيَحْصُلُ لَهُ الضَّرَرُ أَوْ الْخَجَلُ مِنْ الْمُصَاحِبِينَ لَهُ. . (وَ) مِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ لِلْأَكْلِ أَيْضًا أَنَّهُ يُنْدَبُ لَك أَنْ (تُنَظِّفَ فَاك بَعْدَ) أَكْلِك (طَعَامَك) الَّذِي فِيهِ الدَّسَمُ كَاللَّحْمِ وَالزَّيْتِ وَاللَّبَنِ بِالْمَضْمَضَةِ مَعَ الِاسْتِيَاكِ وَلَوْ بِإِصْبَعِكَ لِتُزِيلَ أَثَرَ الطَّعَامِ مِنْ أَسْنَانِك، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «شَرِبَ لَبَنًا فَمَضْمَضَ فَاهُ وَقَالَ: إنَّ فِيهِ دَسَمًا» وَإِنَّمَا نُدِبَ تَنْظِيفُهُ لِدَفْعِ مَا يَبْقَى مِنْ تَغْيِيرِ طَعْمِ الْفَمِ، وَالتَّعْلِيلُ يَقْتَضِي نَدْبَ التَّنْظِيفِ وَلَوْ كَانَ الطَّعَامُ لَا دَسَمَ فِيهِ، وَقَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ فِيهِ دَسَمًا يَقْتَضِي أَنَّ مَا لَا دَسَمَ فِيهِ لَا يُنْدَبُ تَنْظِيفُهُ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ يَقْتَضِي نَدْبَ التَّنْظِيفِ مُطْلَقًا. (وَإِنْ غَسَلْت يَدَك مِنْ الْغَمَرِ) بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمِيمِ رِيحُ الطَّعَامِ، (وَ) مِنْ (اللَّبَنِ) أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا فِيهِ دَسَمٌ (فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ. قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ غَسْلُ فَمٍ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ، وَقَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَأَحَبُّ إلَيَّ أَنْ يَتَمَضْمَضَ مِنْ اللَّبَنِ وَاللَّحْمِ وَيُقِلَّ الْغَمَرُ، وَالنَّدْبُ عَامٌّ أَرَادَ الصَّلَاةَ أَمْ لَا، خِلَافُ ظَاهِرِ الْمُدَوَّنَةِ وَيَتَأَكَّدُ النَّدْبُ عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ، وَمُقْتَضَى كَلَامِ خَلِيلٍ وَالْمُدَوَّنَةِ أَيْضًا أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ غَسْلُ الْفَمِ وَتَنْظِيفُهُ وَلَا الْيَدِ إلَّا إذَا كَانَ الْمَأْكُولُ أَوْ الْمَشْرُوبُ فِيهِ دَسَمٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ بَاتَ وَفِي يَدِهِ غَمَرٌ لَمْ يَغْسِلْهُ فَأَصَابَهُ شَيْءٌ فَلَا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ» . مَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ مَا لَا غَمَرَ فِيهِ وَلَا دَسَمَ كَالْعَدَسِ وَالتَّمْرِ لَا يُنْدَبُ لَهُ غَسْلُ يَدَيْهِ مِنْهُ وَلَا فَمِهِ، فَقَدْ كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إذَا أَكَلَ مَا لَا دَسَمَ فِيهِ يَمْسَحُ كَفَّهُ بِبَاطِنِ قَدَمِهِ، وَسَيَأْتِي أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ الْأَكْلِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ. وَقَوْلُنَا غَمَرٌ بِفَتْحِ الْغَيْنِ وَالْمِيمِ احْتِرَازٌ عَنْ مَضْمُومِ الْغَيْنِ سَاكِنِ الْمِيمِ فَهُوَ الرَّجُلُ الْجَاهِلُ، وَعَنْ مَكْسُورِ الْغَيْنِ فَهُوَ الْحِقْدُ، وَعَنْ مَفْتُوحِ الْغَيْنِ سَاكِنِ الْمِيمِ فَهُوَ السِّتْرُ نَحْوُ غَمَرَ الْمَاءَ وَالْأَرْضَ غَمْرًا سَتَرَهَا. (وَ) مِنْ الْآدَابِ اللَّاحِقَةِ لِلْأَكْلِ أَيْضًا أَنَّهُ يَنْبَغِي لَك أَنْ (تُخَلِّلَ) أَيْ تُزِيلَ (مَا تَعَلَّقَ بِأَسْنَانِك) وَدَخَلَ بَيْنَهَا (مِنْ الطَّعَامِ) لِخَبَرِ: «نَقُّوا أَفْوَاهَكُمْ بِالْحَلَالِ فَإِنَّهَا مَجَالِسُ الْمَلَائِكَةِ» وَلَيْسَ شَيْءٌ أَضَرَّ عَلَى الْمَلَائِكَةِ مِنْ بَقَايَا الطَّعَامِ بَيْنَ الْأَسْنَانِ، وَيُتَخَلَّلُ بِكُلِّ مَا يَجُوزُ الِاسْتِيَاكُ بِهِ. (تَتِمَّةٌ) لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى بَلْعٍ مِنْ مَا يُخْرِجُ الْأَسْنَانُ عِنْدَ تَخْلِيلِهَا، وَالْحُكْمُ الْجَوَازُ عَلَى مَا يُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ فِي الصَّلَاةِ فِي السَّهْوِ، وَتَعَمُّدِ بَلْعِ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ، وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِعَدَمِ تَغَيُّرِهِ، وَأَمَّا لَوْ تَغَيَّرَ عَنْ حَالَةِ الطَّعَامِ فَلَا يَجُوزُ بَلْعُهُ لِأَنَّهُ صَارَ نَجِسًا، وَنَظَرَ بَعْضُهُمْ فِي نَجَاسَتِهِ وَادَّعَى أَنَّهُ بَاقٍ عَلَى طَهَارَتِهِ، وَقَالَ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ: نَجَاسَةُ مَا بَيْنَ الْأَسْنَانِ لَيْسَتْ لِمُجَرَّدِ تَغَيُّرِهِ بَلْ لِمَا يَغْلِبُ عَلَى الظَّنِّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ لِشَيْءٍ مِنْ دَمِ اللِّثَاتِ، فَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمَدْخَلِ أَنَّ الْمُتَغَيِّرَ لَا يَجُوزُ بَلْعُهُ. وَفِي التَّتَّائِيِّ أَيْضًا: وَإِذَا تَغَيَّرَ لَمْ يَجُزْ بَلْعُهُ. (وَنَهَى الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - عَنْ الْأَكْلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 وَالشُّرْبِ بِالشِّمَالِ وَتَنَاوَلْ إذَا شَرِبْت مِنْ عَلَى يَمِينِك وَيُنْهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِتَابِ وَعَنْ الشُّرْبِ فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ قَائِمًا وَلَا يَنْبَغِي لِمَنْ أَكَلَ الْكُرَّاثَ أَوْ الثُّومَ أَوْ الْبَصَلَ نِيئًا أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ   [الفواكه الدواني] وَالشُّرْبِ بِالشِّمَالِ) لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ بِشِمَالِهِ وَالنَّهْيُ لِلْكَرَاهَةِ وَهِيَ مَحْمُولَةٌ عَلَى مَنْ لَهُ يَمِينٌ. (وَ) مِنْ الْآدَابِ أَيْضًا إذَا صَاحَبَك مَنْ هُوَ عَلَى يَمِينِك وَعَلَى يَسَارِك أَنْ (تُنَاوِلَ إذَا شَرِبْت) أَوْ أَكَلْت (مَنْ) هُوَ (عَلَى يَمِينِك) مُقَدِّمًا لَهُ عَلَى مَنْ هُوَ عَلَى شِمَالِك لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يُقَدِّمُ مَنْ هُوَ عَلَى جِهَةِ الْيَمِينِ وَيَقُولُ: «الْأَيْمَنُ فَالْأَيْمَنُ» فَمِنْ جُمْلَةِ مَا وَرَدَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَّهُ أُتِيَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَ مِنْهُ وَعَنْ يَمِينِهِ غُلَامٌ وَعَنْ يَسَارِهِ الْأَشْيَاخُ فَقَالَ لِلْغُلَامِ: أَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُعْطِيَ هَؤُلَاءِ؟ فَقَالَ: لَا وَاَللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا أُوثِرُ بِنَصِيبِي مِنْك أَحَدًا، قَالَ: فَتَلَّهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي يَدِهِ» يَعْنِي أَعْطَاهُ، وَهَذِهِ قَاعِدَةُ الشَّرْعِ وَهِيَ أَنَّ الْقُرْبَ لَا يُقَدِّمُ الشَّخْصُ غَيْرَهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ إلَّا مَسْأَلَةٌ وَهِيَ إذْنُ عَائِشَةَ لِعُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - فِي دَفْنِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانَتْ أَعَدَّتْهَا لِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا خَالَفَتْ عَائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - تِلْكَ الْقَاعِدَةَ لِاعْتِقَادِهَا أَنَّ دَفْنَ عُمَرَ عِنْدَ النَّبِيِّ أَقْرَبُ إلَى خَاطِرِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ دَفْنِهَا، فَآثَرَتْ مَا فِيهِ رِضَاهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَا تُحِبُّهُ لِنَفْسِهَا، فَلَمْ تَنْتَقِلْ مِنْ قُرْبَةٍ إلَّا لِأَعَمَّ مِنْهَا. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْآدَابِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ شَرَعَ فِي الْمَنْهِيَّاتِ فَقَالَ: (وَيُنْهَى) لِلْآكِلِ وَالشَّارِبِ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ، وَ) عَنْ النَّفْخِ فِي (الشَّرَابِ) خَوْفَ إصَابَةِ رِيقِهِ لِلْبَاقِي، وَاخْتُلِفَ فِي عِلَّةِ النَّهْيِ فَقِيلَ لِإِهَانَةِ الطَّعَامِ وَعَلَيْهِ فَيُكْرَهُ النَّفْخُ فِيهِ وَإِنْ أَكَلَ وَحْدَهُ، وَقِيلَ لِئَلَّا يُصِيبَ رِيقُهُ الْبَاقِيَ فَيُؤْذِيَ غَيْرَهُ وَعَلَيْهِ فَمَحِلُّ النَّهْيِ إذَا كَانَ مَعَهُ غَيْرُهُ. (وَ) يُنْهَى الشَّخْصُ أَيْضًا عَنْ النَّفْخِ فِي (الْكِتَابِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ مُطْلَقُ الْكِتَابِ فِقْهًا أَوْ حَدِيثًا لَهُ أَوْ كِتَابًا كَتَبَهُ لِغَيْرِهِ خَوْفَ مَحْوِهِ وَإِهَانَتِهِ، أَوْ خَوْفَ التَّفَاؤُلِ بِعَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ إذَا كَانَ مُرْسَلًا لِلْغَيْرِ، وَالْمَطْلُوبُ فِيهِ التَّتْرِيبُ بَدَلَ النَّفْخِ، فَقَدْ كَتَبَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كِتَابَيْنِ وَتَرَّبَ أَحَدَهُمَا وَتَرَكَ الْآخَرَ، فَحَصَلَ الْمَقْصُودُ بِالْمُتَرَّبِ دُونَ غَيْرِهِ، وَالشَّائِعُ عَلَى الْأَلْسِنَةِ: مَا خَابَ كِتَابٌ تَرِبَ، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ: وَيُنْهَى عَنْ النَّفْخِ فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالْكِتَابِ إذْ النَّاهِي هُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمِمَّنْ رَوَى حَدِيثَ النَّهْيِ الْمَذْكُورِ الْبَزَّارُ وَغَيْرُهُ. أَمَّا قَوْلُ يُوسُفَ بْنِ عُمَرَ: إنَّ الْمُصَنِّفَ انْفَرَدَ بِالْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ النَّفْخِ فِي تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ فَلِعَدَمِ اطِّلَاعِهِ عَلَى الْحَدِيثِ، أَوْ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: انْفَرَدَ بِهِ مِنْ حَيْثُ ذِكْرِهِ لَهُ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَظَاهِرُ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ كَرَاهَةُ النَّفْخِ فِي الْكِتَابِ وَلَوْ قَصَدَ تَجْفِيفَهُ، بِدَلِيلِ قَوْلِ بَعْضِ الشُّيُوخِ: وَالتُّرَابُ أَبْرَكُ. (وَ) يُنْهَى عَلَى وَجْهِ الْحُرْمَةِ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ (عَنْ الشَّرَابِ) أَوْ الْأَكْلِ أَوْ الْوُضُوءِ (فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ) لِمَا فِي الْحَدِيثِ: «لَا تَشْرَبُوا فِي آنِيَةِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، وَلَا تَأْكُلُوا فِي صِحَافِهِمَا، فَإِنَّهَا لَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَكُمْ فِي الْآخِرَةِ» وَأَلْحَقَ أَهْلُ الْمَذْهَبِ بِالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ سَائِرَ الِاسْتِعْمَالَاتِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَحُرِّمَ اسْتِعْمَالُ ذَكَرٍ مُحَلًّى وَلَوْ مِنْطَقَةً وَآلَةَ حَرْبٍ، ثُمَّ قَالَ بِالْعَطْفِ عَلَى الْمُحَرَّمِ: وَإِنَاءُ نَقْدٍ وَاقْتِنَاؤُهُ وَإِنْ لِامْرَأَةٍ، وَيَتَعَيَّنُ كَسْرُ أَوَانِي الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَلَا ضَمَانَ عَلَى مَنْ كَسَرَهَا، وَلَا تَجُوزُ شَهَادَةُ مُقْتَنِيهِمَا، وَيَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا لِمَنْ يَكْسِرُهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهَا تُبَاعُ بِعَرْضٍ أَوْ بِنَقْدٍ، لَكِنْ إنْ كَانَ مِنْ نَوْعِهَا فَلَا بُدَّ مِنْ الْمُمَاثَلَةِ وَالْمُنَاجَزَةِ وَبِغَيْرِ نَوْعِهَا وَلَوْ مَعَ التَّفَاضُلِ حَيْثُ حَصَلَتْ الْمُنَاجَزَةُ، وَاخْتُلِفَ فِي إعَادَةِ مَنْ تَوَضَّأَ مِنْهُمَا، فَقِيلَ أَبَدًا، وَقِيلَ فِي الْوَقْتِ، وَقِيلَ لَا إعَادَةَ، وَالْقَوْلُ بِالْأَبَدِيَّةِ ضَعِيفٌ لِأَنَّ الصَّلَاةَ تَصِحُّ بِالْحَرَامِ، وَقَالَ خَلِيلٌ: وَعَصَى وَصَحَّتْ إنْ لَبِسَ حَرِيرًا أَوْ ذَهَبَا أَوْ سَرَقَ أَوْ نَظَرَ مُحَرَّمًا، وَمَنْ حَضَرَتْهُ صَلَاةٌ وَآلَةُ إخْرَاجِ الْمَاءِ مِنْ النَّقْدِ فَإِنَّهُ لَا يُخْرِجُ الْمَاءَ بِهَا بَلْ يَتْرُكُهَا وَيَتَيَمَّمُ لِحُرْمَةِ الْوُضُوءِ مِنْهَا مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ، وَأَمَّا الْمُغَشَّى وَالْمُمَوَّهُ وَالْمُضَبَّبُ وَذُو الْحَلْقَةِ فَفِيهَا قَوْلَانِ بِالْحُرْمَةِ وَالْجَوَازِ فِي الْمُغَشَّى وَالْمُمَوَّهِ، وَبِالْكَرَاهَةِ وَالْمَنْعِ فِي الْمُضَبَّبِ، وَذِي الْحَلَقَةِ، وَالرَّاجِحُ فِي الْمُغَشَّى الْمَنْعُ وَكِلَاهُمَا رُجِّحَ فِي الْمُمَوَّهِ، وَالْقَوْلَانِ فِي الْمُضَبَّبِ وَذِي الْحَلْقَةِ عَلَى السَّوَاءِ، وَأَمَّا الْأَوَانِي الْمُتَّخَذَةِ مِنْ نَحْوِ الْيَاقُوتِ وَالْجَوْهَرِ فَفِيهَا تَرَدُّدٌ لِلْمُتَأَخِّرِينَ، أَمَّا أَوَانِي النُّحَاسِ وَالرَّصَاصِ وَالْحَدِيدِ فَلَا نِزَاعَ فِي الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ فِيهَا كَأَوَانِي الْخَشَبِ وَالْفَخَّارِ، وَقَدْ قَدَّمْنَا بَعْضَ الْمَذْكُورَاتِ قَبْلَ هَذَا الْمَحِلِّ. (وَلَا بَأْسَ بِالشُّرْبِ) أَوْ بِالْأَكْلِ حَالَةَ كَوْنِ الْآكِلِ وَالشَّارِبِ (قَائِمًا) لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - شَرِبَ قَائِمًا، وَكَذَا عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَقِيلَ وَعَائِشَةُ وَغَيْرُهُمْ فَلَا بَأْسَ لِلْإِبَاحَةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْحَدِيثِ الدَّالِّ عَلَى كَرَاهَةِ الشُّرْبِ مِنْ قِيَامٍ فَضَعِيفٌ عِنْدَ مَالِكٍ، وَأَمَّا الْأَكْلُ مِنْ قِيَامٍ فَلَا نِزَاعَ فِي جَوَازِهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ، وَبَعْضُهُمْ حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى الشُّرْبِ حَالَ الْمَشْيِ. (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ لَا يَجُوزُ (لِمَنْ أَكَلَ الْكُرَّاثَ) بِالرَّاءِ الْمُشَدَّدَةِ وَيَجُوزُ تَخْفِيفُهَا وَالْمُثَلَّثَةِ. (أَوْ الثُّومَ) بِالْمُثَلَّثَةِ الْمَضْمُومَةِ. (أَوْ الْبَصَلَ) حَالَةَ كَوْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا (نِيئًا) بِالنُّونِ الْمَكْسُورَةِ وَالْمَدِّ وَالْهَمْزِ أَيْ مَطْبُوخٌ (أَنْ يَدْخُلَ الْمَسْجِدَ) أَيْ كُلَّ مَسْجِدٍ وَلَوْ خَالِيًا كَمَا اسْتَظْهَرَهُ الْبَاجِيُّ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ تَتَأَذَّى بِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وَيُكْرَهُ أَنْ يَأْكُلَ مُتَّكِئًا وَيُكْرَهُ الْأَكْلُ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ وَنُهِيَ عَنْ الْقِرَانِ فِي التَّمْرِ وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ مَعَ الْأَصْحَابِ الشُّرَكَاءِ   [الفواكه الدواني] يَتَأَذَّى مِنْهُ بَنُو آدَمَ» . وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ أَكَلَ ثُومًا أَوْ بَصَلًا فَلْيَعْتَزِلْنَا وَلْيَعْتَزِلْ مَسْجِدَنَا وَلْيَقْعُدْ فِي بَيْتِهِ» فَأَلْ فِي الْمَسْجِدِ لِلِاسْتِغْرَاقِ، فَيَتَنَاوَلُ غَيْرَ مَسْجِدِ الْخُطْبَةِ، وَيَتَنَاوَلُ مُصَلَّى الْعِيدِ، وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَجَالِسُ الْعِلْمِ، وَحِلَقُ الذِّكْرِ، وَمَجْمَعُ الْوَلَائِمِ الْمَطْلُوبُ الِاجْتِمَاعُ فِيهَا، وَأُلْحِقَ بِالْمَذْكُورَاتِ الْفُجْلُ وَمَنْ بِفَمِهِ نَحْرٌ أَوْ بِجَسَدِهِ جُرْحٌ مُنْتِنٌ، وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ فَلَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ حُضُورُ مَجَالِسِ الْجَمَاعَاتِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهَا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنْ لَا يَنْبَغِيَ بِمَعْنَى لَا يَجُوزُ هُوَ الْمُعْتَمَدُ كَمَا يُفِيدُهُ كَلَامُ خَلِيلٍ حَيْثُ جَعَلَ أَكْلَ كَالثُّومِ أَوْ الْبَصَلِ مِنْ الْأَعْذَارِ الْمُبِيحَةِ لِلتَّخَلُّفِ عَنْ الْجُمُعَةِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ دُخُولُ الْمَسْجِدِ مَكْرُوهًا لِمَنْ أَكَلَهَا لِمَا جَازَ لَهُ التَّخَلُّفُ لِأَنَّهُ لَا يُتْرَكُ وَاجِبٌ لِمَكْرُوهٍ، وَعِنْدَ ابْنِ نَاجِي وَغَيْرِهِ بِمَعْنَى الْكَرَاهَةِ. الثَّانِي: مَفْهُومُ نِيئًا يُفِيدُ أَنَّ مَنْ أَكَلَ الْمَطْبُوخَ وَيُلْحَقُ بِهِ الْمُخَلَّلُ لَا يُمْنَعُ مِنْ حُضُورِ الْمَسَاجِدِ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا وَهُوَ كَذَلِكَ، وَمَفْهُومُ الْمَسْجِدِ أَنَّهُ يَجُوزُ لِمَنْ أَكَلَ الْبَصَلَ أَوْ الثُّومَ نِيئًا أَنْ يَدْخُلَ نَحْوَ السُّوقِ، وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ بِالْكَرَاهَةِ لِأَنَّ فِيهِ نَقْصَ مُرُوءَةٍ. (وَيُكْرَهُ) لِمَنْ شَرَعَ فِي الْأَكْلِ عَلَى جِهَةِ التَّنْزِيهِ (أَنْ يَأْكُلَ مُتَّكِئًا) بِأَنْ يَأْكُلَ مَائِلًا عَلَى مِرْفَقِهِ الْأَيْسَرِ وَقِيلَ مُتَرَبِّعًا، وَالْأَفْضَلُ أَنْ يَجْلِسَ كَمَا كَانَ يَجْلِسُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَإِنَّهُ كَانَ يَضَعُ إحْدَى فَخِذَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَإِحْدَى سَاقَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، كَمَا كَانَ يَجْلِسُ فِي التَّشَهُّدِ وَيَأْكُلُ وَيَقُولُ: «أَجْلِسُ كَمَا يَجْلِسُ الْعَبْدُ، وَآكُلُ كَمَا يَأْكُلُ الْعَبْدُ» لِأَنَّ الِاتِّكَاءَ إمَّا فِعْلُ الْأَعَاجِمِ وَالْجَبَابِرَةِ أَوْ يَسْتَدْعِي كَثْرَةَ الْأَكْلِ، وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ الرَّجُلِ يَأْكُلُ وَهُوَ وَاضِعٌ يَدَهُ عَلَى الْأَرْضِ فَقَالَ: إنِّي لَأَتَّقِيهِ وَأَكْرَهُهُ، وَمَا سَمِعْت فِيهِ شَيْئًا، وَالسُّنَّةُ الْأَكْلُ جَالِسًا عَلَى الْأَرْضِ عَلَى هَيْئَةٍ يَطْمَئِنُّ عَلَيْهَا، وَلَا يَأْكُلُ مُضْطَجِعًا عَلَى بَطْنِهِ، وَلَا مُتَّكِئًا عَلَى ظَهْرِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْبُعْدِ عَنْ التَّوَاضُعِ، وَوَقْتُ الْأَكْلِ وَقْتُ تَوَاضُعٍ وَشُكْرٍ لِلَّهِ عَلَى نِعَمِهِ. (وَيُكْرَهُ) تَنْزِيهًا (الْأَكْلُ مِنْ رَأْسِ الثَّرِيدِ) بِالْمُثَلَّثَةِ الْخُبْزُ الْمَفْتُوتُ فِي نَحْوِ الْقَصْعَةِ لِمَا وَرَدَ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُتِيَ بِقَصْعَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ فَقَالَ: كُلُوا مِنْ جَوَانِبِهَا وَلَا تَأْكُلُوا مِنْ وَسَطِهَا، فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ عَلَى وَسَطِهَا وَتَحِلُّ فِي جَوَانِبِهَا» . وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: إذَا أَكَلَ أَحَدُكُمْ طَعَامًا فَلَا يَأْكُلْ مِنْ أَعْلَى الصَّفْحَةِ وَلَكِنْ لِيَأْكُلْ مِنْ أَسْفَلِهَا فَإِنَّ الْبَرَكَةَ تَنْزِلُ مِنْ أَعْلَاهَا وَمِثْلُ الثَّرِيدِ سَائِرُ الطَّعَامِ حَتَّى الرَّغِيفُ لَا يَأْكُلُ مِنْ وَسَطِهِ، بَلْ إنْ كَانَ وَحْدَهُ أَكَلَ مِنْ طَرَفِهِ، وَإِنْ كَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ قَسَمَهُ أَجْزَاءً يَجْعَلُ فِي كُلِّ حَاشِيَةٍ إنْ أَمْكَنَهُ، وَيَقْسِمُهُ بِيَدِهِ وَلَا يَقْسِمُهُ بِنَحْوِ الْخِنْجَرِ لِأَنَّهُ مِنْ فِعْلِ الْأَعْجَامِ، وَالسُّنَّةُ فِي أَكْلِ اللَّحْمِ أَنْ يُؤْكَلَ بَعْدَ الطَّعَامِ، وَالسُّنَّةُ فِي أَكْلِهِ النَّهْشُ وَهُوَ أَفْضَلُ الْإِدَامِ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خَيْرُ إدَامِكُمْ اللَّحْمُ» . وَقَالَ: «سَيِّدُ إدَامِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ اللَّحْمُ، وَسَيِّدُ شَرَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ الْمَاءُ» . (وَنَهَى) الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (عَنْ الْقِرَانِ فِي) أَكْلِ (التَّمْرِ) حَتَّى يَسْتَأْذِنَ مَرِيدُ الْقِرَانِ أَصْحَابَهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ، وَمَعْنَى الْقِرَانِ جَمْعُ التَّمْرَتَيْنِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ، بَلْ الْأَدَبُ أَكْلُ كُلِّ تَمْرَةٍ وَحْدَهَا، ثُمَّ بَيْنَ حَمْلِ النَّهْيِ بِقَوْلِهِ: (وَقِيلَ إنَّ ذَلِكَ) النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ (مَعَ الْأَصْحَابِ الشُّرَكَاءِ فِيهِ) أَيْ التَّمْرِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ أَنَّ هَذَا مُقَابِلُ قَوْلِهِ قَبْلَهُ: وَنَهَى إلَخْ، وَلِذَا قَالَ سَيِّدِي يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ وَتَبِعَهُ الشَّاذِلِيُّ وَالْقِيلُ تَفْسِيرٌ لِلْعُمُومِ الْأَوَّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ عَقِبَ كَلَامِهِمَا: فَيَكُونُ هَذَا مِنْ الْأَمَاكِنِ الَّتِي حَكَى الْمَشْهُورَ فِيهَا بِقِيلٍ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ مَحَلَّ النَّهْيِ عَنْ الْقِرَانِ إذَا كَانَ مَعَ جَمَاعَةٍ شُرَكَاءَ فِي التَّمْرِ إمَّا بِمِلْكٍ بِشِرَاءٍ أَوْ بِتَقْدِيمٍ مِنْ الْغَيْرِ لَهُمْ وَاسْتَوَوْا فِي الشَّرِكَةِ، فَلَا يَأْخُذُ وَاحِدٌ تَمْرَتَيْنِ فِي مَرَّةٍ إلَّا بَعْدَ إذْنِ أَصْحَابِهِ لِيُسَاوُوهُ، وَلَا يَسْتَبِدُّ بِالزِّيَادَةِ دُونَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَنْصِبَاؤُهُمْ فَيَأْخُذُ كُلُّ وَاحِدٍ قَدْرَ حِصَّتِهِ، وَاخْتُلِفَ هَلْ النَّهْيُ لِلْأَدَبِ أَوْ لِئَلَّا يَأْخُذَ كُلُّ وَاحِدٍ أَكْثَرَ مِنْ حَقِّهِ، فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ نَهْيَ كَرَامَةٍ، وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ لِلْحُرْمَةِ قَالَهُ الْأَقْفَهْسِيُّ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: فِي التَّمْرِ غَيْرُ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ لِأَنَّهُ مَفْهُومُ لَقَبٍ وَهُوَ ضَعِيفٌ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، فَيَدْخُلُ فِي النَّهْيِ نَحْوُ التِّينِ وَالزَّبِيبِ، وَالْمُصَنِّفُ اقْتَصَرَ عَلَى التَّمْرِ تَبَعًا لِلْحَدِيثِ، وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا خَصَّ التَّمْرَ لِأَنَّهُ غَالِبُ اسْتِعْمَالِهِمْ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: إنَّمَا أَدْخَلْنَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الطَّعَامَ الْمُقَدَّمَ لَهُمْ مِنْ الْغَيْرِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّعَامَ الْمُقَدَّمَ لِلضُّيُوفِ يَمْلِكُونَهُ بِمُجَرَّدِ التَّقْدِيمِ، وَمُقَابِلُهُ لَا يُمْلَكُ إلَّا بِالْأَكْلِ، وَقِيلَ بِمُجَرَّدِ الدُّخُولِ، وَعَلَى كُلِّ الْأَقْوَالِ لَا يَجُوزُ لِوَاحِدٍ مِنْ الضُّيُوفِ أَنْ يُعْطِيَ أَحَدًا شَيْئًا مِنْهُ بِغَيْرِ إذْنِ صَاحِبِهِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ إلَّا بِالْأَكْلِ أَوْ بِغَيْرِ إذْنٍ مِنْ بَقِيَّةِ أَصْحَابِهِ بِنَاءً عَلَى مِلْكِهِ بِالدُّخُولِ وَالتَّقْدِيمِ. الثَّانِي: الطَّعَامُ الْمَصْنُوعُ بِالْقَهْرِ عَلَى صَاحِبِهِ كَالْمَصْنُوعِ لِلظَّلَمَةِ وَالْمُحَارِبِينَ، وَمِنْهُ الْوَجْبَةُ الْمَعْرُوفَةُ لِلْفَلَّاحِينَ هَلْ يَمْلِكُونَهُ بِمُجَرَّدِ تَقْدِيمِهِ؟ فَلَا يَجُوزُ أَكْلُ غَيْرِهِمْ مَعَهُمْ مِنْهُ أَوْ هُوَ بَاقٍ عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ، فَيَجُوزُ لِلْغَيْرِ الْأَكْلُ مِنْهُ، هَكَذَا قَالَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 فِيهِ وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ مَعَ أَهْلِك أَوْ مَعَ قَوْمٍ تَكُونُ أَنْتَ أَطْعَمْتهمْ وَلَا بَأْسَ فِي التَّمْرِ وَشِبْهِهِ أَنْ تَجُولَ يَدُك فِي الْإِنَاءِ لِتَأْكُلَ مَا تُرِيدُ مِنْهُ وَلَيْسَ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ الطَّعَامِ مِنْ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ يَكُونَ بِهَا أَذًى وَلْيَغْسِلْ يَدَهُ وَفَاهُ بَعْدَ الطَّعَامِ مِنْ الْغَمْرِ وَلْيُمَضْمِضْ فَاهُ مِنْ اللَّبَنِ وَكُرِهَ غَسْلُ الْيَدِ بِالطَّعَامِ أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَطَانِيّ وَكَذَلِكَ بِالنُّخَالَةِ وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ وَلْتُجِبْ إذَا دُعِيت إلَى وَلِيمَةِ الْمُعْرِسِ إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ لَهْوٌ مَشْهُورٌ وَلَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ وَأَنْتَ فِي الْأَكْلِ بِالْخِيَارِ وَقَدْ   [الفواكه الدواني] بَعْضُهُمْ قِيَاسًا عَلَى الْمُقَدَّمِ لِلضَّيْفِ. وَلِي فِيهِ بَحْثٌ لِاخْتِلَافِ الْمَوْضُوعِ، إذْ مَا تَقَدَّمَ يَسْمَحُ بِهِ مَالِكُهُ لِلضَّيْفِ غَالِبًا بِالْبَاطِنِ وَالظَّاهِرِ، فَيَقْوَى جَانِبُ التَّمْلِيكِ وَالْمَصْنُوعُ لِلظَّلَمَةِ لَمْ يَسْمَحْ بِهِ، وَاَلَّذِي يَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْأَكْلُ مِنْهُ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ مَالِكِهِ إذَا كَانَ يُؤْكَلُ عَلَى هَيْئَتِهِ الَّتِي كَانَ عَلَيْهَا عِنْدَ مَالِكِهِ، وَأَمَّا لَوْ غَيَّرَهُ الظَّالِمُ كَخَرُوفٍ ذَبَحَهُ وَطَبَخَهُ فَهَذَا يَمْلِكُهُ الظَّالِمُ بِتَفْوِيتِهِ عَلَى رَبِّهِ، فَيَجُوزُ لِلْغَيْرِ الْأَكْلُ مِنْهُ، قِيلَ مُطْلَقًا، وَقِيلَ إنْ عَلِمَ مُرِيدُ الْأَكْلِ أَنَّ الظَّالِمَ يَدْفَعُ قِيمَتَهُ وَإِلَّا لَمْ يَجُزْ لَهُ، هَذَا مَا تَحَرَّرَ لِي أَخْذًا، مِنْ كَلَامِ شُرَّاحِ خَلِيلٍ، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ الْقِرَانِ إنَّمَا هُوَ فِي الطَّعَامِ الْمُشْتَرَكِ بَيْنَ الْآكِلِينَ ذَكَرَ مَا لَوْ كَانَ مَمْلُوكًا لِمُرِيدِ الْقِرَانِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ) أَيْ بِالْقِرَانِ (مَعَ أَهْلِك) كَزَوْجَتِك أَوْ أَوْلَادِك اللَّازِمِ لَك نَفَقَتُهُمْ لِأَنَّ الطَّعَامَ لَك وَلَا يَلْزَمُك التَّأَدُّبُ مَعَهُمْ وَإِنْ لَزِمَهُمْ لَك. (أَوْ) أَيْ وَكَذَا لَا بَأْسَ بِهِ (مَعَ قَوْمٍ تَكُونُ أَنْتَ أَطْعَمْتَهُمْ) عَلَى وَجْهِ الضِّيَافَةِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَهُ إلَّا بِالْأَكْلِ، وَأَمَّا عَلَى مِلْكِهِمْ بِالتَّقْدِيمِ أَوْ بِالدُّخُولِ فَيُنْهَى عَنْهُ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْهُمْ. وَلَمَّا كَانَتْ السُّنَّةُ أَنْ يَأْكُلَ الشَّخْصُ مِمَّا يَلِيهِ إذَا أَكَلَ مَعَ غَيْرِهِ ذَكَرَ هُنَا أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ فِي) حَالِ أَكْلِك مِنْ (التَّمْرِ وَشِبْهِهِ) مِنْ سَائِرِ الْفَوَاكِهِ (أَنْ تَجُولَ يَدُك فِي الْإِنَاءِ) الَّذِي تَأْكُلُ أَنْتَ وَغَيْرُك مِنْهُ تَمْرًا أَوْ شِبْهَهُ فَتُرْسِلَ يَدَك فِيهِ يَمِينًا وَشِمَالًا. (فَتَأْكُلُ مَا تُرِيدُ مِنْهُ) لِاخْتِلَافِ أَفْرَادِ التَّمْرِ وَشِبْهِهِ، وَأَلْحَقُوا بِهِ الْأَطْعِمَةَ الْمُخْتَلِفَةَ نَحْوَ عَدَسٍ وَيَخْنَى وَأَرُزٍّ فَتَأْكُلُ مِمَّا تُرِيدُهُ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ ذِكْرَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَقِبَ قَوْلِهِ فِيمَا سَبَقَ: وَإِذَا أَكَلْت مَعَ غَيْرِك أَكَلْت مِمَّا يَلِيك، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَمِيعِ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ: «أَنَّ عِكْرَاشًا أَكَلَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَرِيدًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ مَوْضِعٍ وَاحِدٍ فَإِنَّهُ طَعَامٌ وَاحِدٌ، ثُمَّ أَتَى بِطَبَقٍ فِيهِ أَلْوَانٌ مِنْ الرُّطَبِ فَجَعَلْت آكُلُ بَيْنَ يَدِي وَجَالَتْ يَدُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الطَّبَقِ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: يَا عِكْرَاشُ كُلْ مِنْ حَيْثُ شِئْت لِأَنَّهُ غَيْرُ لَوْنٍ وَاحِدٍ» . وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ مِنْ آدَابِ الْأَكْلِ غَسْلُ الْيَدِ بَعْدَ الْأَكْلِ مِنْ الْغَمَرِ، بَيَّنَ هُنَا أَنَّهُ لَا يُنْدَبُ غَسْلُهَا قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَيْسَ غَسْلُ الْيَدِ قَبْلَ) أَكْلِ (الطَّعَامِ مِنْ السُّنَّةِ) بَلْ مَكْرُوهٌ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ، وَإِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ بِغَسْلِهَا قَبْلَ الطَّعَامِ فَإِنَّ مَالِكًا قَالَ: لَيْسَ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَأَنَا أَقُولُ: قَدْ تَقَرَّرَ جَوَازُ الْعَمَلِ بِالْحَدِيثِ الضَّعِيفِ فِي الْأَعْمَالِ، وَالْمَسْأَلَةُ هُنَا مِنْ الْعَمَلِ، فَلَعَلَّ الْأَوْلَى الْغَسْلُ قَبْلَ الطَّعَامِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ يَنْفِي الْفَقْرَ، وَبَعْدَهُ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهُ يَنْفِي اللَّمَمَ، وَلَا سِيَّمَا وَقَدْ اُشْتُهِرَ أَنَّ الْغَسْلَ الْيَوْمَ قَبْلَ الْأَكْلِ مِنْ شَعَائِرِ الْأَكَابِرِ وَمَا كُلُّ بِدْعَةٍ مَذْمُومَةٌ وَمَحِلُّ النِّزَاعِ (إلَّا أَنْ يَكُونَ) قَدْ حَلَّ (بِهَا أَذًى) أَيْ قَذَرٌ وَلَوْ طَاهِرًا فَإِنَّهُ يُطْلَبُ غَسْلُهُ وُجُوبًا إنْ كَانَ نَجِسًا وَنَدْبًا إنْ كَانَ طَاهِرًا، وَرُبَّمَا يَجِبُ إنْ كَانَ عَدَمَ الْغَسْلِ يُؤْذِي غَيْرَهُ، كَمَا لَوْ كَانَ يَمْتَخِطُ بِيَمِينِهِ وَأَرَادَ الْأَكْلَ بِهَا فَيَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْأَكْلِ مَعَ غَيْرِهِ غَسْلُهَا هَكَذَا يَنْبَغِي، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ كَوْنِ الطَّعَامِ رَطْبًا أَوْ يَابِسًا حَارًّا أَوْ بَارِدًا لِامْتِهَانِ الطَّعَامِ عِنْدَ تَنَاوُلِهِ بِالْيَدِ الْقَذِرَةِ. (تَنْبِيهٌ) الِاسْتِثْنَاءُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ غَسْلَ الْيَدِ مِنْ الْأَذَى إمَّا وَاجِبٌ أَوْ مَنْدُوبٌ وَكِلَاهُمَا لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ، وَاسْتَقْرَبَ ابْنُ نَاجِي اتِّصَالُهُ بِاعْتِبَارِ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ مِنْ الْأَذَى إنَّمَا جَاءَ بِالسُّنَّةِ أَيْ عُلِمَ مِنْ السُّنَّةِ وَإِنْ كَانَ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ. وَلَمَّا ذَكَرَ أَنَّ غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ تَنَاوُلِ الطَّعَامِ لَيْسَ مِنْ السُّنَّةِ نَاسَبَ ذِكْرَ مَفْهُومٍ قَبْلَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلْيَغْسِلْ) نَدْبًا (يَدَهُ وَفَاهُ بَعْدَ الطَّعَامِ مِنْ الْغَمَرِ) وَيُقَالُ لَهُ الْوَدَكُ. (وَلْيُمَضْمِضْ فَاهُ مِنْ اللَّبَنِ) قَالَ خَلِيلٌ: وَنُدِبَ غَسْلُ فَمٍ مِنْ لَحْمٍ وَلَبَنٍ، وَهَذَا قَدْ تَقَدَّمَ مَا يُغْنِي عَنْ إعَادَتِهِ لَوْلَا زِيَادَةُ الْإِيضَاحِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ نَدْبِ غَسْلِ الْيَدِ مِنْ الْغَمْرِ جَوَازُ غَسْلِهَا بِكُلِّ مُزِيلٍ لَهُ قَالَ: (وَكُرِهَ غَسْلُ الْيَدِ بِالطَّعَامِ) كَالدَّقِيقِ (أَوْ بِشَيْءٍ مِنْ الْقَطَانِيِّ) كَدِقَاقِ التُّرْمُسِ عِنْدَنَا بِمِصْرَ (وَكَذَلِكَ) أَيْ يُكْرَهُ الْغَسْلُ (بِالنُّخَالَةِ) الْمُسْتَخْرَجَةِ مِنْ الْقَمْحِ، وَأَمَّا نُخَالَةُ الشَّعِيرِ فَلَا كَرَاهَةَ فِي الْغَسْلِ بِهَا. وَلَمَّا كَانَتْ الْكَرَاهَةُ الْمَذْكُورَةُ غَيْرَ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا قَالَ: (وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الطَّعَامِ وَمَا بَعْدَهُ بِالْجَوَازِ، بِدَلِيلِ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَثِيرًا مَا كَانُوا يَمْسَحُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ الطَّعَامِ بِأَقْدَامِهِمْ الَّتِي هِيَ مَحَلُّ الْأَقْذَارِ وَالْأَوْسَاخِ، وَبِالْكَرَاهَةِ لِإِهَانَةِ الطَّعَامِ وَهِيَ تَنْزِيهِيَّةٌ. وَالْمُعْتَمَدُ مِنْ هَذَا الْخِلَافِ الْكَرَاهَةُ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ لَا فَرْقَ بَيْنَ زَمَنِ الرَّخَاءِ وَالْغَلَاءِ، وَمُقَابِلُ الْكَرَاهَةِ الْإِبَاحَةُ وَهِيَ مَرْوِيَّةٌ عَنْ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ فِي الْجُلُبَّانِ وَالْفُولِ وَمَا أَشْبَهَهُ: لَا بَأْسَ أَنْ يُتَوَضَّأَ بِهِ وَيُتَدَلَّكَ بِهِ فِي الْحَمَّامِ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمَشْهُورَ مَا صُدِّرَ بِهِ مِنْ الْكَرَاهَةِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسْأَلَةٍ زَائِدَةٍ عَلَى التَّرْجَمَةِ فَقَالَ: (وَلْتُجِبْ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ عَلَى جِهَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 أَرْخَصَ مَالِكٌ فِي التَّخَلُّفِ لِكَثْرَةِ زِحَامِ النَّاسِ فِيهَا.   [الفواكه الدواني] الْوُجُوبِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ (إذَا دُعِيت) أَيْ طُلِبْت (إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ) أَيْ النِّكَاحُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إلَى وَلِيمَةِ الْعُرْسِ فَلْيَأْتِهَا» وَالْمُتَبَادَرُ مِنْ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ وَصَرَّحَ بِهِ فِي حَدِيثِ: «مَنْ لَمْ يُجِبْ الدَّعْوَةَ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَالْعِصْيَانُ إنَّمَا يَكُونُ بِتَرْكِ الْوَاجِبِ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ: دُعِيت أَنَّ وُجُوبَ الْإِجَابَةِ مَشْرُوطٌ بِالدَّعْوَةِ وَبِتَعْيِينِ الْمَدْعُوِّ وَهُوَ كَذَلِكَ. قَالَ خَلِيلٌ: تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ عَيَّنَ وَإِنْ صَائِمًا، وَتَعْيِينُهُ يَحْصُلُ بِقَوْلِ صَاحِبِ الْعُرْسِ: تَحْضُرُ عِنْدَنَا فِي وَقْتِ كَذَا، أَوْ بِقَوْلِهِ لِشَخْصٍ: اُدْعُ لِي فُلَانًا بِعَيْنِهِ، أَوْ أَرْسَلَ لَهُ وَرَقَةً فِيهَا اسْمُهُ، أَوْ قَالَ لِشَخْصٍ: اُدْعُ لِي أَهْلَ الْمَحِلِّ الْفُلَانِيِّ وَهُمْ مَحْصُورُونَ، لَا إنْ قَالَ: اُدْعُ لِي مَنْ لَقِيت. (تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ لِبَيَانِ حُكْمِ مَشْرُوعِيَّتِهَا وَلَا كَوْنِهَا قَبْلَ الدُّخُولِ أَوْ بَعْدَهُ وَلَا كَوْنِهَا مَرَّةً أَوْ أَكْثَرَ، وَالْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ أَنَّ حُكْمَهَا النَّدْبُ عَلَى الزَّوْجِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِيهَا ذَبْحٌ وَالْمُسْتَحَبُّ كَوْنُهَا بَعْدَ الْبِنَاءِ، وَيَحْصُلُ النَّدْبُ بِفِعْلِهَا وَلَوْ مَرَّةً، وَلَوْ كَانَ الزَّوْجُ كَثِيرَ الْمَالِ، وَاسْتَحَبَّهَا بَعْضُ الْعُلَمَاءِ لِأَهْلِ السَّعَةِ أُسْبُوعًا وَهُوَ مُنَاسِبٌ لِمَطْلُوبِيَّةِ إفْشَاءِ النِّكَاحِ إلَّا أَنْ لَا يَقْصِدَ الزَّوْجُ ذَلِكَ فَيُكْرَهُ تَكْرَارُهَا. فَإِنْ قِيلَ: الْقَوْلُ بِوُجُوبِ الْإِجَابَةِ مُنَافٍ لِنَدْبِ فِعْلِهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ إذْ قَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مَنْدُوبًا وَيَجِبُ بِسَبَبِهِ أَشْيَاءُ. أَلَا تَرَى أَنَّ صَلَاةَ الضُّحَى مَنْدُوبَةٌ وَيَجِبُ لَهَا الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ، وَابْتِدَاءُ السَّلَامِ سُنَّةٌ وَيَجِبُ رَدُّهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُسْقِطُ الْإِجَابَةَ بِقَوْلِهِ: (إنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ) أَيْ فِي مَحَلِّ الْوَلِيمَةِ (لَهُمْ مَشْهُورٌ) أَيْ ظَاهِرٌ بِحَيْثُ يُخَالِطُهُ الْمَدْعُوُّ وَهُوَ مِمَّا يَحْرُمُ حُضُورُهُ وَفَسَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا مُنْكَرٌ بَيِّنٌ) أَيْ مَشْهُورٌ ظَاهِرٌ، كَاخْتِلَاطِ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، أَوْ الْجُلُوسِ عَلَى الْفُرُشِ الْكَائِنَةِ مِنْ الْحَرِيرِ، أَوْ الِاتِّكَاءِ عَلَى وَسَائِدَ مَصْنُوعَةٍ مِنْهُ، سَوَاءٌ كَانَ الْجُلُوسُ مِنْك أَوْ مِنْ غَيْرِك بِحَضْرَتِك، وَلَا تَزُولُ الْحُرْمَةُ بِوَضْعِ حَائِلٍ عَلَيْهِ. قَالَ خَلِيلٌ: تَجِبُ إجَابَةُ مَنْ عَيَّنَ وَإِنْ صَائِمًا إنْ لَمْ يَحْضُرْ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ وَلَمْ يَكُنْ مُنْكَرٌ كَفَرْشِ حَرِيرٍ وَصُوَرٍ كَجِدَارٍ، وَأَنْ لَا يَحْضُرَ مَنْ يَتَأَذَّى بِهِ الْمَدْعُوُّ، وَأَنْ لَا يَخُصَّ الْفَاعِلَ بِهَا الْأَغْنِيَاءَ، وَأَنْ لَا يَكُونَ بِحَيْثُ إذَا جَلَسَ جَمَاعَةٌ لِلْأَكْلِ تَقِفُ جَمَاعَةٌ عَلَى رُءُوسِهِمْ يَنْظُرُونَهُمْ، وَأَنْ لَا يَكُونَ هُنَاكَ كَثْرَةُ زِحَامٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ الْبَابُ مَغْلُوقًا بِحَيْثُ لَا يَدْخُلُ إلَّا بِإِذْنٍ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْغَلْقُ لِمَنْعِ مَنْ يَضُرُّ دُخُولُهُ، وَأَنْ تَكُونَ الْوَلِيمَةُ لِمُسْلِمٍ فَلَا تَجِبُ إجَابَةٌ لِوَلِيمَةِ كَافِرٍ، وَمَفْهُومُ الْعُرْسِ أَنَّ وَلِيمَةَ غَيْرِهِ لَا تُجَابُ بَلْ تُكْرَهُ. قَالَ اللَّخْمِيُّ: كَرِهَ مَالِكٌ لِأَهْلِ الْفَضْلِ إتْيَانَ طَعَامِ غَيْرِ الْعُرْسِ، وَأَرَى إنْ كَانَ الْمَدْعُوُّ صَدِيقًا أَوْ جَارًا أَوْ قَرِيبًا كَانَ طَعَامُهُ كَالْعُرْسِ. وَبَحَثَ الْأُجْهُورِيُّ فِي قَوْلِهِ كَالْعُرْسِ بِأَنَّهُ يَقْتَضِي الْوُجُوبَ وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ نَفْيُ كَرَاهَةِ الْحُضُورِ، وَأَقُولُ: مَا الْمَانِعُ مِنْ إبْقَائِهِ عَلَى ظَاهِرِهِ مِنْ اقْتِضَائِهِ الْوُجُوبَ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى عَدَمِ إجَابَةِ نَحْوِ الْقَرِيبِ وَالصَّدِيقِ مِنْ الْعَدَاوَةِ وَالْمُقَاطَعَةِ الْمَنْهِيِّ الْمُكَلَّفُ عَمَّا يُوجِبُهُمَا. أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ أَوْجَبُوا الْقِيَامَ لِمَنْ يُعَادِيك بِتَرْكِهِ، وَمَفْهُومٌ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ إنَّهُ لَوْ كَانَ هُنَاكَ غَيْرُ الْمُنْكَرِ، وَإِنَّمَا كَانَ هُنَاكَ مُبَاحٌ كَضَرْبِ الْغِرْبَالِ وَالْغِنَاءِ الْخَفِيفِ لَا يُبَاحُ التَّخَلُّفُ لِأَجْلِهِ، وَلَوْ كَانَ الْمَدْعُوُّ مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - حَضَرَ ضَرْبَ الدُّفِّ وَلَا أَعْظَمَ مِنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَمَّا كَانَ الْأَكْلُ غَيْرَ لَازِمٍ لِمَنْ حَضَرَ الْوَلِيمَةَ قَالَ: (وَأَنْتَ) يَا حَاضِرَ الْوَلِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ (فِي الْأَكْلِ) إنْ كُنْت مُفْطِرًا (بِالْخِيَارِ) أَيْ لَا يَجِبُ عَلَيْك الْأَكْلُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ وَمُقَابِلُهُ الْوُجُوبُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي وُجُوبِ أَكْلِ الْمُفْطِرِ تَرَدُّدٌ، وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَاضِرِهَا: «فَإِنْ كَانَ مُفْطِرًا فَلْيَأْكُلْ وَإِنْ كَانَ صَائِمًا فَلْيُصَلِّ» أَيْ يَدْعُو مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ لِقَوْلِ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الْمُسْتَحَبُّ الْأَكْلُ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ ابْنُ رُشْدٍ، وَلَا يَجُوزُ لِلصَّائِمِ الْفِطْرُ وَلَوْ حَلَفَ الزَّوْجُ أَوْ غَيْرُهُ عَلَيْهِ بِالطَّلَاقِ وَيَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ إنْ أَفْطَرَ لِأَنَّهُ مِنْ الْعَمْدِ الْحَرَامِ. (وَقَدْ أَرْخَصَ مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فِي التَّخَلُّفِ) عَنْ حُضُورِ وَلِيمَةِ النِّكَاحِ (لِكَثْرَةِ زِحَامٍ) وَالْمُعْتَمَدُ جَوَازُ التَّخَلُّفِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ خَلِيلٌ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى الْحُضُورِ عِنْدَ الزِّحَامِ مِنْ الْمَشَقَّةِ وَلَا سِيَّمَا كَثْرَةُ الزِّحَامِ غَالِبًا مِنْ السَّفَلَةِ وَمِمَّنْ تُزْرِي مُجَالَسَتُهُمْ، وَفُهِمَ مِنْ سَوَابِقِ الْكَلَامِ وَلَوَاحِقِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ حُضُورُ الْوَلِيمَةِ إلَّا بِإِذْنٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَلَا يَدْخُلُ غَيْرُ مَدْعُوٍّ إلَّا بِإِذْنٍ مِنْ صَاحِبِ الْوَلِيمَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَثِيرٌ مِنْ الْأَحْكَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِالْوَلِيمَةِ. [بَابٌ فِي السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَالتَّنَاجِي] ثُمَّ شَرَعَ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ جَامِعًا لَهَا بَابٌ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 بَابٌ فِي السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ وَالتَّنَاجِي وَالْقِرَاءَةِ وَالدُّعَاءِ وَذِكْرِ اللَّهِ وَالْقَوْلِ فِي السَّفَرِ وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ وَالِابْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ مُرَغَّبٌ فِيهَا وَالسَّلَامُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَيَقُولَ الرَّادُّ وَعَلَيْكُمْ   [الفواكه الدواني] (بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (السَّلَامِ، وَ) فِي حُكْمِ (الِاسْتِئْذَانِ) وَهُوَ طَلَبُ الْإِذْنِ فِي الدُّخُولِ لِبَيْتِ غَيْرِك فِي حُكْمِ (التَّنَاجِي، وَ) فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْمَطْلُوبُ مِنْ صِفَةِ (الْقِرَاءَةِ، وَ) فِي بَيَانِ مَوَاضِعِ (الدُّعَاءِ) وَالنَّصِّ عَلَيْهِ (وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (ذِكْرِ اللَّهِ) - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (وَ) فِي بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ مِنْ (الْقَوْلِ فِي السَّفَرِ) وَالْمُصَنِّفُ لَمْ يُرَتِّبْ الْمَذْكُورَاتِ عَلَى حُكْمِ التَّرْجَمَةِ بَلْ قَدَّمَ وَأَخَّرَ فِيمَا بَعْدَ السَّلَامِ فَقَالَ: (وَرَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ) عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَيَكْفِي فِي أَدَائِهِ وُقُوعُهُ مِنْ وَاحِدٍ مِنْ جَمَاعَةٍ وَمُقَابِلُهُ فَرْضُ عَيْنٍ، وَعَلَى كُلٍّ لَا بُدَّ مِنْ إسْمَاعِ الْمُسْلِمِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، دَلَّ عَلَى الْوُجُوبِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] وَالسُّنَّةُ فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقُدِّمَ حُكْمُ الرَّدِّ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ التَّصْدِيرَ بِحُكْمِ الِابْتِدَاءِ لِأَنَّهُ وَسِيلَةٌ اهْتِمَامًا بِشَأْنِ الْوَاجِبِ لِأَنَّهُ مَقْصِدٌ. (وَالِابْتِدَاءُ بِهِ سُنَّةٌ) عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَدَلَّ عَلَى طَلَبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النور: 61] أَيْ فَلْيُسَلِّمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ؟ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ» وَوَصَفَ السُّنَّةَ بِقَوْلِهِ: (مُرَغَّبٌ فِيهَا) أَيْ مُشَدَّدٌ عَلَى الْإِتْيَانِ بِهَا لِمَا جَاءَ مِنْ أَنَّ: «مَنْ قَالَ: سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ، فَإِذَا قَالَ: وَرَحْمَةُ اللَّهِ كَتَبَ لَهُ عِشْرِينَ حَسَنَةً، وَإِذَا قَالَ: وَبَرَكَاتُهُ كُتِبَ لَهُ ثَلَاثُونَ حَسَنَةً» وَتِلْكَ السُّنَّةُ لِكُلِّ مَنْ لَقِيتَهُ عَرَفْتَهُ أَوْ لَمْ تَعْرِفْهُ، وَلَوْ كَانَ امْرَأَةً أَوْ صَبِيًّا أَوْ قَارِئًا أَوْ آكِلًا أَوْ شَارِبًا أَوْ مُشْتَغِلًا بِذِكْرٍ أَوْ دُعَاءٍ أَوْ صَلَاةٍ أَوْ أَصَمَّ عَلَى مَا يَنْبَغِي سِوَى شَابَّةٍ لَيْسَتْ مَحْرَمًا لِلْمُسْلِمِ، وَسِوَى قَاضِي الْحَاجَةِ أَوْ مُلَبٍّ وَمُؤَذِّنٍ وَصَاحِبِ بِدْعَةٍ وَكَافِرٍ وَسَكْرَانَ وَمَجْنُونٍ وَنَائِمٍ، وَمَنْ تَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَا يَرُدُّ سَلَامَك فَهَؤُلَاءِ لَا يُسَلَّمُ عَلَيْهِمْ، وَكُلُّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى وَاحِدٍ مِنْهُمْ لَا يَسْتَحِقُّ رَدًّا. قَالَهُ صَاحِبُ الْمَدْخَلِ فِي السَّلَامِ عَلَى قَاضِي الْحَاجَةِ وَالْمُؤَذِّنِ وَالْمُلَبِّي، وَقَالَهُ غَيْرُهُ فِي السَّلَامِ عَلَى الشَّابَّةِ فَلَا تَرُدُّ سَلَامًا وَلَا تَبْتَدِئُ بِسَلَامٍ. وَيَظْهَرُ أَنَّ غَيْرَهُمْ كَذَلِكَ، وَيَبْقَى النَّظَرُ لَوْ سَلَّمَ وَاحِدٌ مِمَّنْ لَا يُسَنُّ السَّلَامُ عَلَيْهِ غَيْرُ هَؤُلَاءِ هَلْ يَجِبُ رَدُّ سَلَامِهِ أَوْ لَا؟ وَيَظْهَرُ عَدَمُ وُجُوبِ رَدِّ سَلَامِهِ، لِأَنَّ الْقَصْدَ هِجْرَانُهُ، لِأَنَّهُ إمَّا بِدْعِيٌّ أَوْ كَافِرٌ أَوْ مِنْ أَهْلِ الْمَعَاصِي وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَقَوْلُنَا: وَلَوْ صَبِيًّا «لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَرَّ عَلَى صِبْيَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ» ، وَيَجِبُ عَلَيْنَا رَدُّ سَلَامِ الصِّبْيَانِ، وَيَكْفِي رَدُّهُ عَلَى جَمَاعَةٍ بَالِغِينَ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ وَلَنَا فِيهِ وَقْفَةٌ لِأَنَّ الرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْبَالِغِينَ، وَرَدُّ الصَّبِيِّ غَيْرُ فَرْضٍ عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يَكْفِي عَنْ الْفَرْضِ الْوَاجِبِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، فَلَعَلَّ الْأَظْهَرَ عَدَمُ الِاكْتِفَاءِ بِرَدِّهِ عَنْ الْبَالِغِينَ وَإِنْ كَانَ يَجِبُ رَدُّ سَلَامِهِ عَلَى الْبَالِغِ، وَمَا فِي النَّظْمِ الْمَشْهُورِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا ذَكَرْته لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْأَصَمَّ يُسَلَّمُ عَلَيْهِ حَيْثُ كَانَ بَصِيرًا، لِأَنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالتَّأْمِينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ يَكُونُ بِمَا يَفْهَمُ مِنْهُ السَّلَامُ، كَمَا أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْنَا رَدُّ سَلَامِهِ وَإِنْ كَانَ أَخْرَسَ حَيْثُ صَدَرَ مِنْهُ مَا يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّهُ سَلَامٌ، كَذَا ظَهَرَ لِي لِأَنِّي لَمْ أَرَ مَنْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَدْ جَرَى الْخِلَافُ مِنْ الشُّيُوخِ فِي أَفْضَلِيَّةِ السَّلَامِ عَلَى رَدِّهِ وَعَكْسِهِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضٌ أَفْضَلِيَّةَ الرَّدِّ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ. وَاسْتَشْكَلَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَفْضَلِيَّةَ الِابْتِدَاءِ مَعَ كَوْنِهِ سُنَّةً، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ عُهِدَ تَفْضِيلُ الْمَنْدُوبِ عَلَى الْفَرْضِ وَذَلِكَ كَإِبْرَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 السَّلَامُ أَوْ يَقُولَ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَمَا قِيلَ لَهُ وَأَكْثَرُ مَا يَنْتَهِي السَّلَامُ إلَى الْبَرَكَةِ أَنْ تَقُولَ فِي رَدِّك وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ   [الفواكه الدواني] الْمُعْسِرِ مِنْ الدَّيْنِ، فَإِنَّهُ أَفْضَلُ مِنْ إنْظَارِهِ مَعَ وُجُوبِهِ. الثَّانِي: قَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الِابْتِدَاءَ سُنَّةُ كِفَايَةٍ، وَالرَّدَّ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى الْمَشْهُورِ فِيهِمَا، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَطْلُوبَ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ يَسْقُطُ عَنْ الْبَعْضِ بِفِعْلِ غَيْرِهِ، وَوَقَعَ التَّرَدُّدُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ لِلْجَمِيعِ الْفَاعِلِ وَغَيْرِهِ أَوْ قَاصِرٌ عَلَى الْفَاعِلِ، وَاَلَّذِي صَرَّحَ بِهِ الْقَرَافِيُّ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ قَاصِرٌ عَلَى الْفَاعِلِ، وَثَوَابُ سُقُوطِ الطَّلَبِ يَسْتَوِي فِيهِ الْفَاعِلُ وَغَيْرُهُ. [صِفَةُ السَّلَامِ] (وَ) صِفَةُ (السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ) الْمُرَادُ الْمُسَلِّمُ (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ) بِزِيَادَةِ مِيمِ الْجَمْعِ وَلَوْ كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ وَاحِدًا لِأَنَّ مَعَهُ الْحَفَظَةَ وَهُمْ كَجَمَاعَةٍ مِنْ بَنِي آدَمَ، فَلَوْ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك لَمْ يَكُنْ مُسَلِّمًا، وَهَذِهِ الصِّفَةُ هِيَ الْمَرْوِيَّةُ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَمْ يُنْقَلْ عَنْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنَّ السَّلَامَ عَلَى خِلَافِ تِلْكَ الصِّفَةِ، لَكِنْ قَوْله تَعَالَى: {سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ} [الزمر: 73] وَ {قَالُوا سَلامًا} [هود: 69] قَالَ: سَلَامٌ يَقْتَضِي جَوَازَ التَّنْكِيرِ، فَلَيْسَ السَّلَامُ هُنَا كَالسَّلَامِ مِنْ الصَّلَاةِ وَلِذَا قَالَ فِي الْقَبَسِ: وَقَدْ قَالَ مُعَرِّفًا السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَمُنَكِّرًا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، فَإِذَا نَكَّرَ فَهُوَ مَصْدَرٌ، وَإِذَا عَرَّفَ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا مُعَرَّفًا، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ عِبَارَةً عَنْ اللَّهِ تَعَالَى، فَإِذَا كَانَ مُنَكَّرًا يَكُونُ التَّقْدِيرُ: أَلْقَيْت عَلَيْك سَلَامَةً، وَإِذَا كَانَ مُعَرَّفًا احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ: اللَّهُ رَقِيبٌ عَلَيْك. هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ بَعْضِ الشُّرَّاحِ، وَفِي الِاسْتِدْلَالِ بِلَفْظِ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ تَنْكِيرِ سَلَامِ الِابْتِدَاءِ شَيْءٌ لِأَنَّ تَحِيَّتَنَا لَا تُقَاسُ عَلَى تَحِيَّةِ اللَّهِ أَوْ مَلَائِكَتِهِ، لِأَنَّهُ لَوْ جَازَ الْقِيَاسُ عَلَيْهَا لَجَازَ الِاقْتِصَارُ عَلَى لَفْظِ السَّلَامِ، فَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَعْرِيفِ سَلَامِ الِابْتِدَاءِ وَالْإِتْيَانِ بِمِيمِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ الْوَارِدُ فِي الْحَدِيثِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّ سَلَامَ الِابْتِدَاءِ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ لَامِ التَّعْرِيفِ وَمِيمِ الْجَمْعِ، بِخِلَافِ سَلَامِ الرَّدِّ. (وَ) صِفَةُ الرَّدِّ أَنْ (يَقُولَ الرَّادُّ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ) بِتَقْدِيمِ الْخَبَرِ وَبِالْوَاوِ مُسْمِعًا لِمَنْ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْإِمْكَانِ، وَتَكْفِي الْإِشَارَةُ إلَى الْأَصَمِّ وَلَا يَرُدُّ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ إلَّا إنْ كَانَ يَفْهَمُ مِنْهُ كَالْإِشَارَةِ، وَمِثْلُ الرَّدِّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ الْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ مُصَلِّيًا، وَمَا يَصْدُرُ مِنْ بَعْضِ أَهْلِ الْكِبْرِ مِنْ رَدِّهِمْ بِالْإِشَارَةِ بِنَحْوِ الرَّأْسِ مَعَ قُدْرَتِهِمْ عَلَى النُّطْقِ فَلَا يَكْفِي، كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَوْ الْمُتَعَيَّنَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي فِي الِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ الْإِشَارَةُ إلَّا إذَا كَانَ الْمُسَلَّمُ عَلَيْهِ بَعِيدًا عَنْ الْمُسَلِّمِ بِحَيْثُ لَا يَسْمَعُ صَوْتَهُ، فَيَجُوزُ أَنْ يُشِيرَ إلَيْهِ بِالسَّلَامِ بِيَدِهِ أَوْ رَأْسِهِ لِيُعْلِمَهُ أَنَّهُ يُسَلِّمُ عَلَيْهِ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي صِفَةِ السَّلَامِ مِنْ تَقْدِيمِ الْمُبْتَدَأِ عَلَى الْخَبَرِ فَهُوَ الَّذِي وَرَدَتْ بِهِ السُّنَّةُ فَالْأَوْلَى فِعْلُهُ وَإِنْ جَازَ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ. قَالَ ابْنُ رُشْدٍ: الِاخْتِيَارُ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ، وَيَقُولَ الرَّادُّ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، وَيَجُوزُ الِابْتِدَاءُ بِلَفْظِ الرَّدِّ، وَالرَّدُّ بِلَفْظِ الِابْتِدَاءِ، وَلَا يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ، فَالسَّلَامُ هُنَا كَسَلَامِ الصَّلَاةِ فِي عَدَمِ الِاقْتِصَارِ عَلَى الْمُبْتَدَأِ، فَلَيْسَتْ الْعِبَادَةُ جَارِيَةً عَلَى سُنَنِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَمَّا كَانَ الرَّادُّ لَا يَلْزَمُهُ تَقْدِيمُ الْخَبَرِ قَالَ: (أَوْ يَقُولُ) الرَّادُّ (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ) بِتَنْكِيرِ السَّلَامِ وَتَقْدِيمِهِ عَلَى الْخَبَرِ. (كَمَا قِيلَ لَهُ) أَيْ الْمُرَادُ فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا فِي الْجُمْلَةِ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ سَلَامَ الِابْتِدَاءِ لَا يَكُونُ إلَّا مُعَرَّفًا، وَمَا هُنَا مُنَكَّرٌ فِي الِابْتِدَاءِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يَكْفِي أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ: وَعَلَيْك السَّلَامُ بِحَذْفِ الْمِيمِ لِأَنَّهُ يَجُوزُ فِي الصَّلَاةِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَأَجْزَأَ فِي تَسْلِيمَةِ الرَّدِّ سَلَامٌ عَلَيْك: وَعَلَيْك السَّلَامُ، فَيَكُونُ الْجَوَازُ هُنَا أَوْلَى وَحَرَّرَهُ، وَأَمَّا سَلَامٌ عَلَيْك بِتَنْكِيرِ السَّلَامِ وَحَذْفِ مِيمِ عَلَيْكُمْ وَتَقْدِيمِ لَفْظِ السَّلَامِ فَلَا يَكْفِي كَمَا يَأْتِي فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ اللَّحْنُ هُنَا قَطْعًا. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: عُلِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الْإِتْيَانَ بِالْوَاوِ غَيْرُ لَازِمٍ. قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ: مَوْضِعَانِ يَجُوزُ فِيهِمَا وَتَرْكُهَا: عَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَبَّنَا وَلَك الْحَمْدُ فِي الصَّلَاةِ، فَإِثْبَاتُهَا يَقْتَضِي مَعْطُوفًا وَمَعْطُوفًا عَلَيْهِ فَيَصِيرُ الْكَلَامُ جُمْلَتَيْنِ، وَيَكُونُ التَّقْدِيرُ عَلَى السَّلَامِ: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ، فَيَصِيرُ الرَّادُّ مُسَلِّمًا عَلَى نَفْسِهِ مَرَّتَيْنِ، وَفِي الصَّلَاةِ يَكُونُ التَّقْدِيرُ: رَبَّنَا لَك الْحَمْدُ وَلَك الثَّنَاءُ فَيَكُونُ مُثْنِيًا عَلَى اللَّهِ مَرَّتَيْنِ، وَبِغَيْرِ وَاوٍ يَكُونُ الْكَلَامُ جُمْلَةً وَاحِدَةً، فَهَذَا يَتَرَجَّحُ إثْبَاتُهَا عَلَى حَذْفِهَا. الثَّانِي: أَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَمَا بَيَّنَّا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ لَا يَكْفِي الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمُبْتَدَأِ أَوْ الْخَبَرِ وَإِنْ جَازَ فِي الْعَرَبِيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِ، كَمَا أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِهِمَا عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الصَّلَاةِ، إذْ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْمَذْهَبِ الِاكْتِفَاءُ بِلَفْظِ السَّلَامِ فَقَطْ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْهَا، وَيَبْقَى النَّظَرُ هُنَا فِي شَيْءٍ وَهُوَ أَنَّهُ هَلْ لَا بُدَّ مِنْ الْإِتْيَانِ بِالسَّلَامِ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ كَمَا شَرَطُوهُ فِي الصَّلَاةِ أَوْ يُكْتَفَى بِالْعَجَمِيَّةِ وَلَوْ مِنْ الْقَادِرِ؟ لِأَنَّ الْقَصْدَ مِنْ التَّحِيَّةِ التَّأْمِينُ وَهُوَ يَحْصُلُ بِالْعَجَمِيَّةِ وَيَظْهَرُ الِاكْتِفَاءُ لِأَنَّ أَمْرَ الصَّلَاةِ أَشَدُّ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. وَلَمَّا بَيَّنَ مَا يَكْفِي فِي السُّنَّةِ وَأَدَاءِ الْوَاجِبِ شَرَعَ فِي مُنْتَهَاهُ بِقَوْلِهِ: (وَأَكْثَرُ مَا يَنْتَهِي السَّلَامُ) فِي الِابْتِدَاءِ أَوْ الرَّدِّ عِنْدَ إرَادَةِ الزِّيَادَةِ عَلَى الْمَطْلُوبِ (إلَى الْبَرَكَةِ) وَذَلِكَ بِأَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْك شَخْصٌ بِلَفْظِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ، فَلَكَ (أَنْ تَقُولَ فِي رَدِّكَ) عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَلَا تَقُلْ فِي رَدِّك سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْك وَإِذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ أَجْزَأَ عَنْهُمْ وَكَذَلِكَ إنْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَلْيُسَلِّمْ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ وَالْمُصَافَحَةُ حَسَنَةٌ وَكَرِهَ مَالِكٌ الْمُعَانَقَةَ وَأَجَازَهَا ابْنُ عُيَيْنَةَ   [الفواكه الدواني] (وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ) وَلَا تَتَجَاوَزْ ذَلِكَ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَزَادَ فَأَمَرَ بِإِحْضَارِهِ وَقَالَ لَهُ: إنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إلَى الْبَرَكَةِ، وَتِلْكَ الزِّيَادَةُ وَاجِبَةٌ حَيْثُ أَتَى بِهَا الْمُسَلِّمُ عَلَيْك كَمَا قَرَّرْنَا، وَأَمَّا لَوْ كَانَ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ لَكَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْك: وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَيَجُوزُ زِيَادَةُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] فَقَوْلُهُ: {بِأَحْسَنَ مِنْهَا} [النساء: 86] إذَا كَانَ الْمُسَلِّمُ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَإِذَا كَانَ الْمُسَلِّمُ انْتَهَى إلَى لَفْظِ " وَبَرَكَاتُهُ " فَلَا بُدَّ مِنْهَا وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا. وَلَمَّا كَانَ سَلَامُ الرَّدِّ يَجُوزُ مُخَالَفَتُهُ لِسَلَامِ الِابْتِدَاءِ أُخْرِجَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَلَا تَقُلْ) عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (فِي الرَّدِّ سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْك) بِتَقْدِيمِ لَفْظِ " سَلَامُ " وَتَنْكِيرِهِ وَحَذْفِ مِيمِ الْجَمْعِ لِأَنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِهَذِهِ الصِّيغَةِ خَبَرٌ وَإِنَّمَا هِيَ تَحِيَّةُ أَهْلِ الْقُبُورِ، وَحُمِلَ الْمَنْهِيُّ فِي كَلَامِهِ عَلَى الْكَرَاهَةِ كَمَا فِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ يَقْتَضِي الْإِجْزَاءَ بِذَلِكَ فِي الرَّدِّ وَحَرَّرَهُ، وَأَمَّا سَلَامُ اللَّهِ عَلَيْك فَيَظْهَرُ مِنْ قَوْلِ التَّتَّائِيِّ أَنَّهُ مَمْنُوعٌ عَدَمُ إجْزَائِهِ، وَلَمَّا كَانَ الِابْتِدَاءُ بِالسَّلَامِ سُنَّةَ كِفَايَةٍ قَالَ: (وَإِذَا سَلَّمَ وَاحِدٌ مِنْ الْجَمَاعَةِ) عَلَى وَاحِدٍ أَوْ أَكْثَرَ (أَجْزَأَ عَنْهُمْ) وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ الْوَاحِدُ صَبِيًّا وَيَجِبُ رَدُّ سَلَامِهِ كَالْكَبِيرِ. (وَكَذَلِكَ) يَحْصُلُ الْإِجْزَاءُ (إنْ رَدَّ وَاحِدٌ مِنْهُمْ) أَيْ مِنْ الْجَمَاعَةِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الِابْتِدَاءَ سُنَّةٌ، وَالرَّدَّ فَرْضٌ عَلَى الْكِفَايَةِ فِيهِمَا عَلَى الْمَشْهُورِ، وَأَشْعَرَ قَوْلُهُ: أَجْزَأَ فِي سَلَامِ الْوَاحِدِ مِنْ الْجَمَاعَةِ، وَرَدِّ الْوَاحِد مِنْهُمْ أَنَّ الْأَفْضَلَ الْبَدْءُ مِنْ الْجَمِيعِ، وَالرَّدُّ مِنْ الْجَمِيعِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي الْمَحَبَّةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِهِ: مِنْ الْجَمَاعَةِ أَنَّ الْمُسَلِّمَ لَوْ كَانَ مِنْ غَيْرِ الْجَمَاعَةِ أَوْ الرَّدُّ مِنْ غَيْرِ الْمُسَلَّمِ عَلَيْهِمْ لَا إجْزَاءَ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ثَوَابَ الِابْتِدَاءِ أَوْ الرَّدِّ خَاصٌّ بِمَنْ وَقَعَ مِنْهُ، وَأَمَّا ثَوَابُ سُقُوطِ الْخِطَابِ فَيَحْصُلُ لِلْجَمِيعِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الرَّدَّ عَنْ الْجَمَاعَةِ الْبَالِغِينَ إذَا كَانَ مِنْ صَبِيٍّ مُجْزٍ وَتَقَدَّمَ لَنَا الْبَحْثُ فِيهِ. (تَنْبِيهٌ) مَحَلُّ إجْزَاءِ الْوَاحِدِ عَنْ الْجَمَاعَةِ حَيْثُ لَمْ يَكُنْ الْمَقْصُودُ بِالسَّلَامِ وَاحِدًا بِخُصُوصِهِ، وَإِلَّا فَلَا بُدَّ مِنْ رَدِّ الْمَقْصُودِ بِالسَّلَامِ بِخُصُوصِهِ. وَلَمَّا كَانَ الْقَصْدُ مِنْ السَّلَامِ الْأَمَانَ، وَكَانَ الشَّأْنُ حُصُولَ خَوْفِ الْمَاشِي مِنْ الرَّاكِبِ قَالَ: (وَلْيُسَلِّمْ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي وَالْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ) لِأَمْرِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: «لِيُسَلِّمْ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَيُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي» وَإِنَّمَا أَمَرَ الرَّاكِبَ وَمَنْ هُوَ فِي حُكْمِهِ بِالِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ لِمَزِيَّتِهِ عَلَى مُقَابِلِهِ، وَهَكَذَا يُسَلِّمُ رَاكِبُ الْفَرَسِ عَلَى رَاكِبِ الْبَغْلِ أَوْ الْحِمَارِ، وَرَاكِبُ الْبَغْلِ عَلَى رَاكِبِ الْحِمَارِ، وَأَمَّا رَاكِبُ الْجَمَلِ وَالْفَرَسِ فَيَظْهَرُ أَنَّ الَّذِي يُؤْمَرُ رَاكِبُ الْفَرَسِ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ وَأَقْدَرُ عَلَى الْبَطْشِ مِنْ رَاكِبِ الْجَمَلِ، وَكَذَلِكَ يُسَلِّمُ الْمَاشِي عَلَى الْجَالِسِ، وَأَمَّا إذَا تَسَاوَى شَخْصَانِ فِي الْمُرُورِ أَوْ الرُّكُوبِ فَيَظْهَرُ أَنْ يُطَالَبَ كُلُّ وَاحِدٍ حَتَّى يَبْدَأَ أَحَدُهُمَا، كَكُلِّ فَرْضِ كِفَايَةٍ أَوْ سُنَّةِ كِفَايَةٍ، فَإِنَّ الْخِطَابَ يَتَوَجَّهُ لِلْجَمِيعِ ابْتِدَاءً حَتَّى يَشْرَعَ فِيهِ وَاحِدٌ. وَهَذَا عِنْدَ التَّسَاوِي فِي الْأَفْضَلِيَّةِ وَعَدَمِهَا، وَأَمَّا عِنْدَ الِاخْتِلَافِ فَيَبْتَدِئُ الْمَفْضُولُ لِأَنَّ الْأَدْنَى يُؤْمَرُ بِبِرِّ الْأَعْلَى، وَلِذَلِكَ يُسَلِّمُ الْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ، وَالصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالْعَبْدُ عَلَى الْحُرِّ، وَالْمُتَجَالَّةُ عَلَى الرَّجُلِ، وَاللَّاحِقُ عَلَى الْمَلْحُوقِ، وَالدَّاخِلُ عَلَى الْمَدْخُولِ عَلَيْهِ، وَلَوْلَا الْحَدِيثُ صَرَّحَ بِمَا تَقَدَّمَ لَقِيلَ بِسَلَامِ الْكَبِيرِ عَلَى الصَّغِيرِ، وَالْكَثِيرِ عَلَى الْقَلِيلِ، لِمَا مَرَّ مِنْ أَنَّ السَّلَامَ أَمَانٌ، وَالْمَطْلُوبُ إيقَاعُهُ مِمَّنْ لَهُ الْقُوَّةُ عَلَى الْأَضْعَفِ مِنْهُ. (تَنْبِيهٌ) الْمُتَبَادِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ أَنَّ ابْتِدَاءَ مَنْ ذُكِرَ بِالسَّلَامِ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ، فَلَا يُنَافِي أَنَّهُ لَوْ سَلَّمَ الْمَاشِي عَلَى الرَّاكِبِ، أَوْ الْكَثِيرُ عَلَى الْقَلِيلِ، وَالْحُرُّ عَلَى الْعَبْدِ، لَحَصَلَتْ السُّنَّةُ، هَكَذَا ظَهَرَ لِي وَلَمْ أَرَ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُ وَلَعَلَّهُ لِظُهُورِهِ، وَلَمَّا كَانَ الْغَالِبُ أَنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى شَخْصٍ يُصَافِحُهُ عَقِبَ السَّلَامِ، فَقَالَ: (الْمُصَافَحَةُ) وَهِيَ وَضْعُ أَحَدِ الْمُتَلَاقِينَ يَدَهُ عَلَى بَاطِنِ كَفِّ الْآخَرِ إلَى الْفَرَاغِ مِنْ السَّلَامِ. (حَسَنَةٌ) أَيْ مُسْتَحَبَّةٌ عَلَى الْمَشْهُورِ وَعِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لِخَبَرِ: «تَصَافَحُوا يَذْهَبْ الْغِلُّ، وَتَهَادَوْا تَحَابُّوا وَتَذْهَبْ الشَّحْنَاءُ» . وَلِخَبَرِ: «مَا مِنْ مُسْلِمَيْنِ يَلْتَقِيَانِ فَيَتَصَافَحَانِ إلَّا غُفِرَ لَهُمَا قَبْلَ أَنْ يَفْتَرِقَا» وَلِذَلِكَ يُكْرَهُ اخْتِطَافُ الْيَدِ بِأَثَرِ التَّلَاقِي قَبْلَ فَرَاغِ السَّلَامِ أَوْ الْكَلَامِ، وَفِي شَدِّ كُلِّ وَاحِدٍ يَدَهُ عَلَى يَدِ مُصَافِحِهِ قَوْلَانِ بِالْجَوَازِ وَعَدَمِهِ، وَإِذَا نَزَعَ كُلُّ وَاحِدٍ يَدَهُ مِنْ يَدِ صَاحِبِهِ لَا يُقَبِّلُ يَدَهُ وَلَا يَدَ صَاحِبِهِ لِمَا يَأْتِي عَنْ مَالِكٍ مِنْ كَرَاهَةِ تَقْبِيلِ الْيَدِ، وَإِنَّمَا تَحْسُنُ الْمُصَافَحَةُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ أَوْ بَيْنَ امْرَأَتَيْنِ، لَا بَيْنَ رَجُلٍ وَامْرَأَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً، وَلَا بَيْنَ مُسْلِمٍ وَكَافِرٍ أَوْ مُبْتَدَعٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حُسْنِ الْمُصَافَحَةِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحَادِيثِ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَنْ قَالَ لَهُ: «يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلُ مِنَّا يَلْقَى أَخَاهُ أَوْ صَدِيقَهُ أَيَنْحَنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ وَلَا تُبْتَدَأُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ فَمَنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ فَلَا يَسْتَقْبِلُهُ وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ فَلِيَقُلْ عَلَيْك وَمَنْ قَالَ عَلَيْك السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ فَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] لَهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَلْزَمُهُ وَيُقَبِّلُهُ؟ قَالَ: لَا، قَالَ: أَفَيَأْخُذُ بِيَدِهِ وَيُصَافِحُهُ؟ قَالَ: نَعَمْ» . وَأَفْتَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ بِجَوَازِ الِانْحِنَاءِ إذَا لَمْ يَصِلْ إلَى حَدِّ الرُّكُوعِ الشَّرْعِيِّ. (وَكَرِهَ مَالِكٌ) كَرَاهَةً تَنْزِيهِيَّةً (الْمُعَانَقَةَ) وَهِيَ جَعْلُ الرَّجُلِ عُنُقَهُ عَلَى عُنُقِ صَاحِبِهِ لِأَنَّهَا مِنْ فِعْلِ الْأَعَاجِمِ، وَلَمْ يَرِدْ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ فَعَلَهَا إلَّا مَعَ جَعْفَرٍ، وَلَمْ يَجْرِ الْعَمَلُ بِهَا مِنْ الصَّحَابَةِ بَعْدَهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -. (وَأَجَازَهَا) سُفْيَانُ (بْنُ عُيَيْنَةَ) قَالَ فِي (الذَّخِيرَةِ) : وَجَوَّزَ مَالِكٌ الْمُصَافَحَةَ، وَدَخَلَ عَلَيْهِ سُفْيَانُ فَصَافَحَهُ وَقَالَ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ لَوْلَا أَنَّهَا بِدْعَةٌ لَعَانَقْتُكَ، فَقَالَ سُفْيَانُ: عَانَقَ مَنْ هُوَ خَيْرٌ مِنِّي وَمِنْك وَهُوَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ عَانَقَ جَعْفَرًا حِينَ قَدِمَ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ. قَالَ مَالِكٌ: ذَلِكَ خَاصٌّ بِهِ. قَالَ سُفْيَانُ: بَلْ عَامٌّ مَا يَخُصُّ جَعْفَرًا يَخْصُصْنَا، وَمَا يَعُمُّهُ يَعُمُّنَا إذَا كُنَّا صَالِحِينَ، أَفَتَأْذَنُ لِي أَنْ أُحَدِّثَ فِي مَجْلِسِك؟ قَالَ: نَعَمْ يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: «لَمَّا قَدِمَ جَعْفَرٌ مِنْ أَرْضِ الْحَبَشَةِ اعْتَنَقَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبَّلَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ وَقَالَ: جَعْفَرٌ أَشْبَهُ النَّاسِ بِي خَلْقًا وَخُلُقًا مَا أَعْجَبُ مَا رَأَيْت بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ» . وَرَأَى مَالِكٌ أَنَّ عَمَلَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عَلَى عَدَمِ فِعْلِهَا وَلِنُفْرَةِ النُّفُوسِ عَنْهَا غَالِبًا، وَإِنَّمَا حَدَّثَ بِهِ سُفْيَانُ مَعَ عِلْمِ مَالِكٍ بِهِ لِلْإِعْلَامِ بِأَنَّهُ مِنْ رِوَايَتِهِ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لَهُ مَالِكٌ بِالتَّحْدِيثِ مَعَ عِلْمِهِ بِالْحَدِيثِ لَعَلَّهُ تَطْيِيبًا لِخَاطِرِهِ لِأَنَّهُ اسْتَجَازَهُ فِي التَّحْدِيثِ وَمِنْ التَّلَطُّفِ بِهِ الْإِذْنُ لَهُ، وَأَوَّلُ مَنْ فَعَلَ الْمُعَانَقَةَ إبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَإِنَّهُ حِينَ كَانَ بِمَكَّةَ وَقَدِمَهَا ذُو الْقَرْنَيْنِ وَعَلِمَ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ: مَا يَنْبَغِي لِي أَنْ أَرْكَبَ فِي بَلْدَةٍ فِيهَا خَلِيلُ الرَّحْمَنِ، فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَمَشَى إلَى إبْرَاهِيمَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ إبْرَاهِيمُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاعْتَنَقَهُ وَكَانَ أَوَّلَ مَنْ عَانَقَ. (وَكَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ) أَيْ يَدُ الْغَيْرِ حِينَ السَّلَامِ عَلَيْهِ (وَأَنْكَرَ مَا رُوِيَ فِيهِ) أَيْ التَّقْبِيلُ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي مِنْهَا: «أَنَّ وَفْدَ عَبْدِ الْقَيْسِ لَمَّا قَامُوا عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَدَرُوا يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ» وَهُوَ صَحِيحٌ وَمِنْهَا تَقْبِيلُ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ يَدَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَمِنْهَا تَقْبِيلُ الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي قَالَ: «أَرِنِي آيَةً، فَقَالَ: اذْهَبْ إلَى تِلْكَ الشَّجَرَةِ وَقُلْ لَهَا: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدْعُوك فَتَحَرَّكَتْ يَمِينًا وَشِمَالًا وَأَقْبَلَتْ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهِيَ تَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ لَهَا ارْجِعِي فَرَجَعَتْ كَمَا كَانَتْ، فَقَبَّلَ الْأَعْرَابِيُّ يَدَهُ وَرِجْلَهُ وَأَسْلَمَ» . وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ إنْكَارُ مَالِكٍ لِمَا رُوِيَ فِي تَقْبِيلِ الْيَدَيْنِ إنْ كَانَ مِنْ جِهَةِ الرِّوَايَةِ، فَمَالِكٌ حُجَّةٌ فِيهَا لِأَنَّهُ إمَامُ الْحَدِيثِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ جِهَةِ الْفِقْهِ، فَلِمَا تَقَدَّمَ وَعَمَلِ النَّاسِ عَلَى جَوَازِ تَقْبِيلِ يَدِ مَنْ تَجُوزُ التَّوَاضُعُ لَهُ وَإِبْرَارُهُ، فَقَدْ قَبَّلَتْ الصَّحَابَةُ يَدَ رَسُولِ اللَّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمِنْ الرَّسُولِ لِفَاطِمَةَ، وَمِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ بَعْضِهِمْ، وَظَاهِرُ كَلَامِهِ وَلَوْ كَانَ ذُو الْيَدِ عَالِمًا أَوْ شَيْخًا أَوْ سَيِّدًا أَوْ وَالِدًا حَاضِرًا أَوْ قَادِمًا مِنْ سَفَرٍ وَهُوَ ظَاهِرُ الْمَذْهَبِ، وَمَحِلُّ الْكَرَاهَةِ إذَا كَانَ الْمُقَبِّلُ مُسْلِمًا، وَأَمَّا لَوْ قَبَّلَ يَدَك نَصْرَانِيٌّ أَوْ يَهُودِيٌّ فَلَا كَرَاهَةَ، وَإِنَّمَا كَرِهَ مَالِكٌ تَقْبِيلَ الْيَدِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ الْكِبْرِ وَرُؤْيَةِ النَّفْسِ عَظِيمَةً، وَلِأَنَّ الْمُسْلِمَ أَخُو الْمُسْلِمِ، وَلَعَلَّ الْمُقَبِّلَ بِالْكَسْرِ أَفْضَلُ مِنْ ذِي الْيَدِ عِنْدَ اللَّهِ، وَبِالْجُمْلَةِ لَا يُنْكَرُ عَلَى مَنْ فَعَلَهَا مَعَ ذَوِي الشَّرَفِ وَالْفَضْلِ لِوُرُودِهَا فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ، وَلِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى تَرْكِهَا مَعَ مَنْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْ الْمُقَاطَعَةِ وَالشَّحْنَاءِ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي زَمَانِنَا، وَمَفْهُومُ تَقْبِيلِ الْيَدِ أَنَّ تَقْبِيلَ الْفَمِ أَحْرَى بِالْكَرَاهَةِ، إذْ لَا رُخْصَةَ فِي تَقْبِيلِ الرَّجُلِ فَمَ رَجُلٍ، وَأَمَّا تَقْبِيلُ ابْنَتِهِ أَوْ أُخْتِهِ أَوْ أُمِّهِ فَمَهُ إذَا قَدِمَ مِنْ سَفَرٍ فَلَا بَأْسَ بِهِ كَمَا قَالَهُ، كَمَا لَا بَأْسَ أَنْ يُقَبِّلَ خَدَّ ابْنَتِهِ، وَيُكْرَهُ أَنْ تُقَبِّلَهُ خَتَنَتُهُ وَمُعْتَقَتُهُ وَإِنْ كَانَتْ مُتَجَالَّةً. . (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يُكْرَهُ أَنْ (تَبْدَأَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى) وَسَائِرَ فِرَقِ الضَّلَالِ (بِالسَّلَامِ) لِأَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةٌ وَالْكَافِرُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْإِذْلَالِ لِحَدِيثِ: «لَا تَبْدَأْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى بِالسَّلَامِ، وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي الطَّرِيقِ فَاضْطَرُّوهُمْ إلَى أَضْيَقِهِ» وَمِثْلُ الْكُفَّارِ فِي كَرَاهَةِ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ سَائِرُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ. (فَمَنْ سَلَّمَ عَلَى ذِمِّيٍّ) غَيْرَ عَالِمٍ بِأَنَّهُ ذِمِّيٌّ أَوْ نَاسِيًا لِلنَّهْيِ أَوْ جَاهِلًا بِالْحُكْمِ (فَلَا يَسْتَقْبِلُهُ) أَيْ لَا يَطْلُبُ مِنْهُ أَنْ يَرُدَّ سَلَامَهُ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: رُدَّ سَلَامِي الَّذِي سَلَّمْته عَلَيْك لِأَنِّي لَوْ عَلِمْت أَنَّك كَافِرٌ مَا سَلَّمْت عَلَيْك. (وَ) أَمَّا (إنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى الْمُسْلِمِ (الْيَهُودِيُّ أَوْ النَّصْرَانِيُّ فَلْيَقُلْ) أَيْ الْمُسْلِمُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ فِي رَدِّ سَلَامِ الذِّمِّيِّ عَلَيْهِ (عَلَيْك) بِغَيْرِ وَاوٍ لِمَا فِي مُسْلِمٍ: «إنَّ الْيَهُودَ إذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ: السَّامُ عَلَيْكُمْ» فَالْمُنَاسِبُ لِذَلِكَ أَنْ يَقُولَ فِي الرَّدِّ عَلَيْكَ أَوْ عَلَيْكُمْ بِغَيْرِ وَاوٍ لِيَكُونَ دُعَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْمُرَادَ عَلَيْك أَوْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ وَالسَّامُ الْمَوْتُ وَأَمَّا لَوْ تَحَقَّقَ الْمُسْلِمُ أَنَّ الذِّمِّيَّ نَطَقَ بِالسَّلَامِ بِفَتْحِ السِّينِ فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الرَّدُّ لِاحْتِمَالِ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ الدُّعَاءَ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ. (وَمَنْ قَالَ) مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي رَدِّ سَلَامِ الَّذِي عَلَيْهِ (عَلَيْك السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ وَهِيَ الْحِجَارَةُ فَقَدْ قِيلَ) يَجُوزُ (ذَلِكَ) قَالَ الْقَرَافِيُّ: يَنْبَغِي فِي الرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَنْ يَقُولَ الرَّادُّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 وَالِاسْتِئْذَانُ وَاجِبٌ فَلَا تَدْخُلْ بَيْتًا فِيهِ أَحَدٌ حَتَّى تَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَإِنْ أُذِنَ لَك وَإِلَّا رَجَعْت وَيُرَغَّبُ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى   [الفواكه الدواني] عَلَيْك بِغَيْرِ وَاوٍ، فَإِنْ تَحَقَّقْت أَنَّهُمْ قَالُوا: سَامٌ عَلَيْك أَوْ السِّلَامُ بِكَسْرِ السِّينِ، فَإِنْ شِئْت قُلْت: وَعَلَيْك بِالْوَاوِ لِأَنَّهُ يُسْتَجَابُ لَنَا فِيهِمْ وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِينَا، فَإِنْ لَمْ تَتَحَقَّقْ ذَلِكَ قُلْت: وَعَلَيْك بِالْوَاوِ لِأَنَّك إنْ قُلْت عَلَيْك بِغَيْرِ وَاوٍ وَقَدْ كَانَ قَالَ: السَّلَامُ عَلَيْك كُنْت قَدْ نَفَيْت السَّلَامَ عَنْ نَفْسِك وَرَدَدْته عَلَيْهِ، وَاعْلَمْ أَنْ إفْشَاءَ السَّلَامِ عَلَى مَنْ لَمْ يُنْهَ عَنْ السَّلَامِ عَلَيْهِ مِنْ حَقِّ الطَّرِيقِ لِمَا فِي الْبُخَارِيِّ: «قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ؟ قَالَ: غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَإِفْشَاءُ السَّلَامِ وَرَدُّهُ، وَأَمْرٌ بِمَعْرُوفٍ وَنَهْيٌ عَنْ مُنْكَرٍ، وَإِرْشَادُ ابْنِ السَّبِيلِ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَإِغَاثَةُ الْمَظْلُومِ، وَإِحْسَانُ الْكَلَامِ» . وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَحْثِ السَّلَامِ شَرَعَ فِي بَحْثِ الِاسْتِئْذَانِ، فَقَالَ: (وَالِاسْتِئْذَانُ) وَهُوَ طَلَبُ الْإِذْنِ بِدُخُولِ غَيْرِ بَيْتِهِ (وَاجِبٌ) عَلَى مُرِيدِ الدُّخُولِ وُجُوبَ الْفَرَائِضِ، دَلَّ عَلَى وُجُوبِهِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ، فَالْكِتَابُ قَوْله تَعَالَى: {وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا} [النور: 59] وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا} [النور: 27] قَالَ مَالِكٌ: الِاسْتِئْنَاسُ الِاسْتِئْذَانُ، وَالسُّنَّةُ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: «أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إنِّي مَعَهَا فِي الْبَيْتِ، قَالَ: اسْتَأْذِنْهَا، قَالَ: إنِّي خَادِمُهَا، قَالَ: اسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً؟» وَالْإِجْمَاعُ عَلَى وُجُوبِهِ، فَمَنْ تَرَكَهُ فَهُوَ عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَحِكْمَةُ فَرْضِيَّتِهِ خِيفَةُ كَوْنِ أَهْلِ الْبَيْتِ عَلَى ضَرْبٍ مِنْ الِانْبِسَاطِ يَكْرَهُونَ الِاطِّلَاعَ عَلَيْهِمْ. (وَ) إذَا عَرَفْت أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ فَرْضٌ فَوَاجِبٌ عَلَيْك أَنْ (لَا تَدْخُلَ بَيْتًا) غَيْرَ بَيْتِكَ (فِيهِ أَحَدٌ) وَلَوْ مَحْرَمًا لَك (حَتَّى تَسْتَأْذِنَ) أَيُّهَا الْمُكَلَّفُ ذَكَرًا أَوْ أُنْثَى (ثَلَاثًا فَإِنْ أُذِنَ لَك) فِي الدُّخُولِ دَخَلْت (وَإِلَّا رَجَعْت) وَلَا يَجُوزُ لَك الدُّخُولُ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَإِلَّا كُنْت عَاصِيًا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ، وَيُطْلَبُ الْإِذْنُ مِنْ كُلِّ مَنْ فِي الْبَيْتِ إلَّا الصَّغِيرَ الَّذِي لَمْ يَنْتَهِ إلَى وَصْفِ الْعَوْرَةِ، وَاخْتُلِفَ فِي الْأَعْمَى هَلْ يُطَالَبُ بِهِ أَمْ لَا عَلَى قَوْلَيْنِ، وَتَسْتَأْذِنُ الْعَبِيدُ وَالصِّبْيَانُ الْمُلَازِمُونَ فِي الثَّلَاثَةِ أَوْقَاتٍ الْمَذْكُورَةِ فِي آيَةٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنْ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ. وَأَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَنْ لَا يَدْخُلَ مَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُمْ مِمَّنْ يَمْلِكُهُ صَاحِبُ الْمَحِلِّ وَلَا الْأَطْفَالُ عَلَى أَهْلِيهِمْ فِي هَذِهِ الْأَوْقَاتِ الثَّلَاثَةِ، لِأَنَّ هَذِهِ الْأَوْقَاتِ مَظِنَّةُ كَشْفِ الْعَوْرَاتِ، وَمَا عَدَاهَا لَا حَرَجَ فِي دُخُولِهِمْ بِغَيْرِ إذْنٍ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ: ثَلَاثًا أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّلَاثِ وَهُوَ كَذَلِكَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَغْلِبَ عَلَى ظَنِّهِ عَدَمُ السَّمَاعِ ثُمَّ حَيْثُ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ السَّمَاعُ فَإِنْ أُذِنَ لَهُ وَإِلَّا انْصَرَفَ، وَاحْتُرِزَ بِقَوْلِهِ بَيْتًا عَنْ نَحْوِ الْمَسْجِدِ وَالْحَمَّامِ وَالْفُنْدُقِ وَمَا شَابَهَهَا مِنْ كُلِّ مَحَلٍّ مَطْرُوقٍ، كَبَيْتِ الْعَالِمِ وَالْقَاضِي وَالطَّبِيبِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ دُخُولُهُ فِي أَوْقَاتِ الدُّخُولِ، وَلَا يُحْتَاجُ إلَى إذْنٍ، وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِينَ أَنْ يَقُولَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ؟ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّلَامِ وَالِاسْتِئْذَانِ، وَقِيلَ: يَبْدَأُ بِالِاسْتِئْذَانِ قَبْلَ السَّلَامِ، وَاخْتَارَهُ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ وَمِنْهُمْ ابْنُ رُشْدٍ، وَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ النَّاسِ فِي الِاسْتِئْذَانِ مِنْ نَحْوِ: سُبْحَانَ اللَّهِ أَوْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ فَهُوَ بِدْعَةٌ مَذْمُومَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إسَاءَةِ الْأَدَبِ مَعَ اللَّهِ فِي اسْتِعْمَالِهِ اسْمَهُ فِي الِاسْتِئْذَانِ، بِخِلَافِ التَّنَحْنُحِ أَوْ قَرْعِ الْبَابِ ثَلَاثًا كَانَ الْبَابُ مَفْتُوحًا أَوْ مَغْلُوقًا فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ الِاسْتِئْذَانِ بِالْكَلَامِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يُسْتَأْذَنُ عَلَى كُلِّ مَنْ لَا يَحِلُّ لَهُ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ حَتَّى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَإِذَا اسْتَأْذَنَ بِالسَّلَامِ فَقِيلَ لَهُ مَنْ هَذَا؟ فَلْيُسَمِّ نَفْسَهُ بِاسْمِهِ وَبِمَا يُعْرَفُ بِهِ وَلَا يَقُولُ: أَنَا لِأَنَّ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَرِهَهَا مِمَّنْ أَجَابَهُ بِأَنَا حَتَّى خَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ أَنَا أَنَا، وَلِأَنَّ بِهَا هَلَكَ مَنْ هَلَكَ كَفِرْعَوْنَ وَإِبْلِيسَ، وَإِنَّمَا قُلْنَا غَيْرَ بَيْتِك تَبَعًا لِلْآيَةِ. وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ إشَارَةٌ إلَى مَا فِي الْآيَةِ، وَأَمَّا دُخُولُ الْمُكَلَّفِ بَيْتَ نَفْسِهِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَصَّلْ فِيهِ إنْ كَانَ مَعَ أَهْلِهِ مَنْ لَا يَحِلُّ النَّظَرُ إلَى عَوْرَتِهِ فَكَذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ إلَّا مَنْ يَحِلُّ لَهُ فَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لَهُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ التَّنْبِيهُ بِالتَّنَحْنُحِ وَنَحْوِهِ فِي حَالِ دُخُولِهِ وَخُرُوجِهِ خَوْفَ اطِّلَاعِهِ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ السَّلَفُ، وَيَكْتَفِي فِي الْإِذْنِ حَيْثُ طَلَبَ وُجُوبًا أَوْ نَدْبًا بِإِذْنِ الصَّبِيِّ أَوْ الْعَبْدِ حَيْثُ يُوثَقُ بِإِذْنِهِ لِضَرُورَةِ النَّاسِ. وَلَمَّا كَانَتْ عِيَادَةُ الْمَرِيضِ مُشَارِكَةً لِمَا قَبْلَهَا فِي الطَّلَبِ ذَكَرَهَا عَقِبَهَا، فَقَالَ: (وَيُرَغَّبُ فِي عِيَادَةِ الْمَرْضَى) عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ إذَا قَامَ بِهَا الْغَيْرُ وَإِلَّا وَجَبَتْ لِأَنَّهَا مِنْ الْأُمُورِ الْوَاجِبَةِ عَلَى جِهَةِ الْكِفَايَةِ، إلَّا عَلَى مَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عِيَادَتُهُ عَلَيْهِ عَيْنًا، وَكُلُّ مَنْ قَدَّمَ لِعِيَادَتِهِ لَا يَدْخُلُ بِهِ إلَّا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ وَلَوْ كَانَتْ عِيَادَتُهُ مُرَغَّبًا فِيهَا لِمَا جَاءَ مِنْ الْأَحَادِيثِ الَّتِي مِنْهَا: «مِنْ عَادَ مَرِيضًا خَاضَ فِي رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِذَا جَلَسَ عِنْدَهُ اسْتَقَرَّ فِيهَا، وَمَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ ثُمَّ عَادَ مَرِيضًا أَبْعَدَهُ اللَّهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا» . وَشَرْطُهَا أَنْ تَكُونَ لِلَّهِ وَأَنْ يُخَفِّفَ فِي جُلُوسِهِ عِنْدَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «رَحِم اللَّهُ عَبْدًا زَارَ فَخَفَّفَ» اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُطْلَبَ مِنْهُ الْجُلُوسُ وَأَنْ يَدْعُوَ لَهُ وَيُبَشِّرَهُ بِحُصُولِ صِحَّةٍ لَهُ، وَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَارَةَ مَطْلُوبَةٌ لِكُلِّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 وَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ وَكَذَلِكَ الْجَمَاعَةُ إذَا أَبْقَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ وَقَدْ قِيلَ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ إلَّا بِإِذْنِهِ وَذِكْرُ الْهِجْرَةِ قَدْ تَقَدَّمَ فِي بَابٍ قَبْلَ هَذَا قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَقَالَ عُمَرُ أَفْضَلُ   [الفواكه الدواني] مَرِيضٍ وَلَوْ أَرْمَدَ أَوْ صَاحِبَ ضِرْسٍ، وَأَمَّا حَدِيثُ ثَلَاثَةٌ إلَخْ فَقَدْ ضَعَّفَهُ بَعْضُ الْمُحَدِّثِينَ. (فَائِدَةٌ) وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ قَوْلِ الشَّخْصِ لِمَنْ صَحَّ مِنْ مَرَضِهِ: ذَهَبَ الشَّرُّ فَأَفْتَى الْغُبْرِينِيُّ بِعَدَمِ الْجَوَازِ، وَأَفْتَى ابْنُ عَرَفَةَ بِالْجَوَازِ مُحْتَجًّا بِآيَةِ: {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الشَّرَّ الْمَرَضُ فَقَدْ قِيلَ لِعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ مَرِيضٌ: كَيْفَ أَصْبَحْت؟ فَقَالَ: بِشَرٍّ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَقُولُ هَذَا؟ فَقَالَ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] وَالشَّرُّ الْمَرَضُ وَالْخَيْرُ الصِّحَّةُ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا يُقَالُ لِلْمَرِيضِ: لَا تَتَسَاهَلْ هَذَا، أَوْ لَا يَسْتَحِقُّ فُلَانٌ هَذَا، وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَوَامّ فَإِنَّهُ حَرَامٌ بِإِجْمَاعٍ، كَمَا أَفْتَى بِهِ السَّكُونِيُّ وَغَيْرُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ نِسْبَةِ الْبَارِئِ لِلْجَوْرِ، وَلَوْلَا الْقَوْلُ بِأَنَّ لَازِمَ الْمَذْهَبِ لَيْسَ بِمَذْهَبٍ لَكَانَ قَائِلُ ذَلِكَ يَكْفُرُ لِاسْتِحَالَةِ الْجَوْرِ فِي حَقِّهِ - تَعَالَى - لِاسْتِحْقَاقِهِ التَّصَرُّفَ فِي سَائِرِ الْكَائِنَاتِ بِشَهَادَةِ: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] فَهُوَ حَكَمٌ عَدْلٌ يُمْرِضُ وَيَشْفِي وَيُحْيِي وَيُمِيتُ لَا مُعَقِّبَ لَهُ فِي حُكْمِهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهَا فِي بَابٍ جُمَلٍ مُسْتَوْفٍ. وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ أَعَادَهَا فِي بَابِ الِاسْتِئْذَانِ دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ جَوَازِ الدُّخُولِ عَلَى الْمَرِيضِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ لِشِدَّةِ حَاجَتِهِ إلَى مَنْ يَعُودُهُ، خِلَافًا لِمَنْ ادَّعَى تَكَرُّرَهَا الْخَالِيَ عَنْ الْفَائِدَةِ. وَلَمَّا كَانَ بَيْنَ التَّنَاجِي وَالدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ مُنَاسَبَةٌ وَهِيَ الِاشْتِرَاكُ فِي النَّهْيِ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ التَّنَاجِي عَقِبَ مَسْأَلَةِ الِاسْتِئْذَانِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ أَنْ (يَتَنَاجَى) أَيْ يَتَسَارَرُ (اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ) لِخَبَرِ: «لَا يَحِلُّ لِثَلَاثَةِ نَفَرٍ يَكُونُونَ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ يَتَنَاجَى مِنْهُمْ اثْنَانِ دُونَ صَاحِبِهِمَا» . وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ بِأَرْضٍ فَلَاةٍ وَصْفٌ طَرْدِيٌّ لِأَنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ عَلَى عُمُومِ النَّهْيِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَإِذَا خَشِيَ الْمُتَنَاجِيَانِ أَنَّ صَاحِبَهُمَا يَظُنُّ أَنَّهُمَا يَتَحَدَّثَانِ فِي غَدْرِهِ حَرُمَ عَلَيْهِمَا كَانَ فِي سَفَرٍ أَوْ حَضَرٍ، وَإِنْ أَمِنَا مِنْ ظَنِّهِ ذَلِكَ كُرِهَ تَنَاجِيهِمَا فِي السَّفَرِ وَالْحَضَرِ لِأَنَّهُ يَغُمُّ الْمُنْفَرِدَ، وَمَفْهُومُ دُونَ وَاحِدٍ أَنَّهُ يَجُوزُ تَنَاجِي اثْنَيْنِ دُونَ اثْنَيْنِ أَوْ جَمَاعَةٍ، وَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ اثْنَيْنِ لَا مَفْهُومَ لَهُ قَالَ: (وَكَذَلِكَ) أَيْ لَا يَجُوزُ تَنَاجِي (الْجَمَاعَةِ إذَا أَبْقَوْا وَاحِدًا مِنْهُمْ) فَعَنْ مَالِكٍ: «لَا يَتَنَاجَى ثَلَاثَةٌ دُونَ وَاحِدٍ» لِلنَّهْيِ عَنْ تَرْكِ وَاحِدٍ وَلَوْ كَانُوا عَشَرَةَ آلَافٍ، فَلَوْ أَبْقَوْا أَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فَلَا كَرَاهَةَ كَمَا قَدَّمْنَا، وَلَمَّا كَانَ النَّهْيُ عَنْ التَّنَاجِي مُقَيَّدًا بِمَا إذَا حَصَلَ مِنْ غَيْرِ إذْنِ الْمُنْفَرِدِ قَالَ: (وَقَدْ قُيِّدَ لَا يَنْبَغِي ذَلِكَ) أَيْ تَنَاجِي الِاثْنَيْنِ أَوْ الْجَمَاعَةِ دُونَ وَاحِدٍ (إلَّا بِإِذْنِهِ) لِأَنَّ الْحَقَّ لَهُ فَإِذَا أَسْقَطَهُ سَقَطَ، وَهَذَا الَّذِي حَكَاهُ بِقِيلَ هُوَ الْمُعْتَمَدُ فَهُوَ تَقَيُّدٌ لِلنَّهْيِ السَّابِقِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا أَنَّ النَّهْيَ عَنْ التَّنَاجِي الْمَذْكُورِ نَهْيُ كَرَاهَةٍ إلَّا أَنْ يَحْصُلَ خَوْفُ الْمُنْفَرِدِ فَيَحْرُمُ، وَفِي مَعْنَى التَّنَاجِي التَّكَلُّمُ بِغَيْرِ الْعَرَبِيَّةِ مَعَ مَنْ لَا يَعْرِفُهَا بِحَضْرَةِ مَنْ لَا يَعْرِفُ سِوَى الْعَرَبِيَّةِ. (وَذَكَرَ الْهِجْرَةَ) بِمَعْنَى الْهِجْرَانِ الْمَعْرُوفِ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْخِصَامِ (قَدْ تَقَدَّمَ) الْكَلَامُ عَلَيْهِ (فِي بَابٍ قَبْلَ هَذَا) فَلَا حَاجَةَ إلَى إعَادَتِهِ، وَإِنْ كَانَ الْأَنْسَبُ لِلْمُصَنِّفِ تَأْخِيرُهُ لِمَا بَيْنَ الْهِجْرَانِ وَالتَّنَاجِي مِنْ الْمُنَاسَبَةِ وَهِيَ الْمُشَارَكَةُ فِي النَّهْيِ. [الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ السَّفَرِ أَوْ النَّوْمِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَحْثِ الذِّكْرِ وَالدُّعَاءِ عِنْدَ السَّفَرِ أَوْ النَّوْمِ أَوْ غَيْرِهِمَا بِقَوْلِهِ: (قَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ) الصَّحَابِيُّ قَالَ فِي حَقِّهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَعْلَمُكُمْ بِالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ» وَعُمْرُهُ ثَلَاثُونَ وَقِيلَ ثَمَانٍ وَعِشْرُونَ سَنَةً، وَمَقُولُ مُعَاذٍ: (مَا عَمِلَ آدَمِيٌّ عَمَلًا) بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ (أَنْجَى لَهُ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ) إكْثَارِ (ذِكْرِ اللَّهِ) تَعَالَى وَالذِّكْرُ الْكَامِلُ مَا كَانَ بِالْقَلْبِ وَاللِّسَانِ مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى. قَالَ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] أَيْ اُذْكُرُونِي بِأَلْسِنَتِكُمْ أَذْكُرْكُمْ بِرَحْمَتِي. وَفِي الْحَدِيثِ: «قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَعْطَيْت أُمَّتَك مَا لَمْ أُعْطِ أُمَّةً مِنْ الْأُمَمِ، قَالَ: وَمَا ذَاكَ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: قَوْله تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152] لَمْ يَقُلْ هَذَا لِأَحَدٍ غَيْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «يَقُولُ اللَّهُ: مَنْ ذَكَرَنِي ذَكَرْتُهُ» وَجَاءَ: أَفْضَلُ الْعِبَادَاتِ الذِّكْرُ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَفْضَلِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ، وَخَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا عُنُقَهُ؟ قَالُوا: مَاذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «لَا عِبَادَةَ كَالذِّكْرِ، قِيلَ لَهُ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ قَالَ: وَلَا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا أَنْ تَضْرِبَ بِسَيْفِك حَتَّى يَنْقَطِعَ، قَالَ ذَلِكَ ثَلَاثًا» وَغَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا وَرَدَ فِي فَضْلِ الذِّكْرِ فَالذِّكْرُ بَابُ الْوِلَايَةِ وَمِفْتَاحُ الْعِنَايَةِ، قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: هُوَ رُكْنٌ قَوِيٌّ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بَلْ هُوَ الْعُمْدَةُ فِي الطَّرِيقِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَمِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى «اللَّهُمَّ بِك نُصْبِحُ وَبِك   [الفواكه الدواني] وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إلَى اللَّهِ إلَّا بِدَوَامِ الذِّكْرِ. قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَجَدَّدَ خُشُوعُهُ وَكَثُرَ إيمَانُهُ وَازْدَادَ يَقِينُهُ وَبَعُدَتْ الْغَفْلَةُ عَنْ قَلْبِهِ، وَكَانَ إلَى التُّقَى أَقْرَبَ، وَعَنْ الْمَعَاصِي أَبْعَدَ، وَهَذَا حَامِلٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَوَسِيلَةٌ إلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْكَرِيمِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ طَائِعًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا الذِّكْرُ الْكَامِلُ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ذِكْرُ اللِّسَانِ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ، فَذِكْرُ اللِّسَانِ بِهِ يَصِلُ الْعَبْدَ إلَى اسْتِدَامَةِ فِكْرِ الْقَلْبِ وَالتَّأْثِيرِ بِذِكْرِ الْقَلْبِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكِرًا بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ الْكَمَالُ فِي وَصْفِهِ فِي حَالِ سُلُوكِهِ. وَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ، بَلْ مَا مِنْ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا عَلَى جِهَةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ النَّفْلِيَّةِ، وَالصَّلَاةُ مَعَ كَوْنِهَا أَشْرَفَ الْعِبَادَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الذِّكْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لِسَانِيٍّ وَقَلْبِيٍّ بَيَّنَ الْأَفْضَلَ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ بِالْفَارُوقِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (أَفْضَلُ) بِمَعْنَى أَكْثَرُ ثَوَابًا (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ) وَخَبَرُ أَفْضَلَ (ذِكْرُ اللَّهِ) بِالْقَلْبِ (عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ) بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ سَمَاعِ أَمْرِ خَالِقِهِ وَنَهْيِهِ يَسْتَحْضِرُ بِقَلْبِهِ الْحَقَّ - جَلَّ وَعَلَا - وَيَسْتَحْضِرُ اطِّلَاعَ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَأَنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، هَذَا مَعْنَى الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الذَّكَرُ الْقَلْبِيُّ أَفْضَلَ مِنْ اللِّسَانِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذِكْرِهِ - تَعَالَى - عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْحُدُودِ، إنْ رَأَى وَاجِبًا ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَفَعَلَهُ، وَإِنْ رَأَى مَحْظُورًا ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَاجْتَنَبَهُ. وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، فَقَوْلُهُ: عِنْدَ أَمْرِهِ أَيْ بِالِامْتِثَالِ وَعِنْدَ نَهْيِهِ بِالِاجْتِنَابِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْعُظَمَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك أَنْ لَا تَرَانَا حَيْثُ نَهَيْتَنَا، وَلَا تَفْقِدَنَا مِنْ حَيْثُ أَمَرْتَنَا. وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذِكْرُ اللَّهِ ضَرْبَانِ: ذِكْرٌ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ أَيْ مَعَ الْقَلْبِ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَرْفَعُ الْأَذْكَارِ وَأَجَلُّهَا: التَّفَكُّرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَآيَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَالثَّانِي: ذِكْرُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَيَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَيَقِفُ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الثَّانِي، وَالثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ أَيْ مَعَ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَذْكَارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثَوَابٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ. قَالَ الْقَاضِي: وَالْخِلَافُ عِنْدِي إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُجَرَّدِ ذِكْرِ الْقَلْبِ تَسْبِيحًا وَتَهْلِيلًا وَشَبَهَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَارِبُهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ فَكَيْفَ يُفَاضِلُهُ، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فَإِنْ كَانَ لَاهِيًا فَلَا، وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ ذِكْرَ الْقَلْبِ بِأَنَّ عَمَلَ السِّرِّ أَفْضَلُ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَأَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَذْكُرَهُ بِلِسَانِي سَبْعِينَ مَرَّةً. وَمَنْ رَجَّحَ ذِكْرَ اللِّسَانِ قَالَ: لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ زَادَ بِاسْتِعْمَالِ اللِّسَانِ. وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي كَتْبِ الْمَلَائِكَةِ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ فَقِيلَ تَكْتُبُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكْتَبْ لَمَا طُلِبَ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَفْضَلَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِمَا فِي الْقَلْبِ، وَقِيلَ لَا يُكْتَبُ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرَّاجِحَ الْأَوَّلُ. (تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الذِّكْرُ كُلُّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ، فَقَوْلُ الذَّاكِرِ: اللَّهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مِنْ الْبِدَعِ وَأَفْعَالِ الْجَهَلَةِ، وَنَحْوُهُ لِلْبُلْقِينِيِّ وَسَلَّمَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ فِيهِ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ فِيهِ ثَوَابًا مَا. الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ وَالتَّسْبِيحُ نَفْيٌ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ: «أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ أَنَّ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلْبِيَّةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ اللَّقَانِيُّ. الثَّالِثَةُ: شَرَطَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حُصُولِ ثَوَابِ الذِّكْرِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْعَلَّامَةِ السَّنُوسِيِّ: لَا يَنْتَفِعُ الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي خَلَاصِ بَدَنِهِ مِنْ النَّارِ إلَّا إذَا قَالَهَا مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي تَخْصِيصُ هَذَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ الْقَارِئُ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ. الرَّابِعَةُ: أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ الْقُرْآنُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ لِلْقَارِئِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ، إنْ صَلَّى مِنْ قِيَامٍ وَإِنْ صَلَّى مِنْ جُلُوسٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةٍ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 نُمْسِي وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ» وَيَقُولُ فِي الصَّبَاحِ «وَإِلَيْك النُّشُورُ» وَفِي الْمَسَاءِ «وَإِلَيْك الْمَصِيرُ» وَرُوِيَ مَعَ ذَلِكَ «اللَّهُمَّ   [الفواكه الدواني] وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ. 1 - وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الذِّكْرِ شَرَعَ فِي الدُّعَاءِ وَفِي تَأْخِيرِهِ عَنْ الذِّكْرِ الْإِشْعَارُ بِأَفْضَلِيَّةِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ رَفْعُ الْحَاجَاتِ إلَى رَافِعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَأَنَّهُ يَنْفَعُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، فَيَقْتَضِي اللَّهُ بِهِ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْبَلِيَّاتِ، وَيَكْشِفُ بِهِ الْمُلِمَّاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ نَافِعٌ لَمَا أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِهِ بِقَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ: وَعِنْدَنَا أَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ ... كَمَا مِنْ الْقُرْآنِ وَعْدًا يُسْمَعُ وَفِي الْحَدِيثِ «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» وَيُطْلَبُ وَلَوْ بِمَا عَلِمْت السَّلَامَةَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي نَفْسِهِ عِبَادَةٌ، وَقَدْ دَعَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَعَلَى قُرَيْشٍ وَعَلَى قَاتِلِي أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَعَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، وَحُكْمُ الدُّعَاءِ فِي الْأَصْلِ النَّدْبُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَالدُّعَاءِ عَلَى الْجِنَازَةِ، أَوْ الْحُرْمَةُ كَالدُّعَاءِ عَلَى شَقِيٍّ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَالْكَرَاهَةُ كَالدُّعَاءِ بِشَيْءٍ يَكُونُ وَسِيلَةً لِمَكْرُوهٍ. قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلِإِجَابَتِهِ شُرُوطٌ فِي الدَّاعِي وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ إلَّا اللَّهُ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ مَعَ حُضُورِ قَلْبٍ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ أَكْلَ الْحَرَامِ، وَأَنْ لَا يَمَلَّ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَتْرُكَ وَيَقُولُ: دَعَوْت وَدَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، وَشُرُوطُهُ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ، فَلَا يَدْعُو بِمَا فِيهِ إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إضَاعَةُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ آدَابٌ مِنْهَا: التَّعْمِيمُ فِي الدُّعَاءِ. وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَا يَخْتَرِعُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَدْعُو بِهِ مَعَ وُجُودِ الْمَأْثُورِ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ لِعَدَمِ التَّكَلُّمِ. وَمِنْهَا: عَدَمُ اللَّحْنِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ. وَمِنْهَا: ابْتِدَاؤُهُ بِالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا: الْعَزْمُ فِيهِ فَلَا يَدْعُو وَيُعَلِّقُ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت يَا اللَّهُ. وَمِنْهَا: تَحَرِّي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ كَالسَّحَرِ، وَعِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَفِي السُّجُودِ وَعِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا: عَدَمُ الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَمِنْهَا: الْبُدَاءَةُ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ. وَاخْتُلِفَ هَلْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَوْ لَا؟ وَعَلَى الرَّفْعِ فَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِهِمَا عَقِبَهُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» . فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أَدْعِيَةٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا أَصْبَحَ) أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (وَ) كُلَّمَا (أَمْسَى) أَيْ دَخَلَ فِي الْمَسَاءِ فَأَصْبَحَ وَأَمْسَى هُنَا تَامَّتَانِ. وَفِي الْإِتْيَانِ بِكُلَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ: (اللَّهُمَّ) أَيْ يَا اللَّهُ (بِك نُصْبِحُ وَبِك نُمْسِي) وَمَعْنَى نُصْبِحُ وَنُمْسِي بِك أَيْ بِقُدْرَتِك. (وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ) وَقَدَّمَ لَفْظَ بِك عَلَى الْعَوَامِلِ فِيهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ عَلَى حَدِّ: إيَّاكَ نَعْبُدُ أَيْ لَيْسَ الدُّخُولُ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَلَيْسَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى. (وَ) كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ (يَقُولُ فِي الصَّبَاحِ وَإِلَيْك النُّشُورُ) أَيْ الْقِيَامُ مِنْ نَوْمِنَا هَذَا مَعْنَاهُ هُنَا، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ انْتِشَارُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاسْتِعْمَالُ النُّشُورِ فِي الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَطَرِيقُهَا أَنَّهُ شَبَّهَ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ بِالْبَعْثِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَإِعَادَتُهُمْ كَمَا كَانُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُلَاءَمَةُ بَيْنَهُمَا عَوْدُ التَّمْيِيزِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، ثُمَّ اُعْتُبِرَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْبَعْثِ وَهُوَ النُّشُورُ لِانْتِشَارِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا لِلْمُشَبَّهِ الَّذِي هُوَ الْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ، فَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ لِلتَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا حَالِيَّةٌ. (وَ) كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ: (فِي الْمَسَاءِ وَإِلَيْك الْمَصِيرُ) أَيْ وَإِلَيْكَ الْمَرْجِعُ، وَمَعْنَى إلَيْك النُّشُورُ وَالْمَصِيرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مُنْتَهٍ إلَيْك يَا اللَّهُ، وَمَعْنَى انْتِهَائِهِ إلَيْهِ أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِرَادَتِهِ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا لِتَشْبِيهِ النَّوْمِ الْمُقْبِلِ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْعِلَاقَةُ ذَهَابُ التَّمْيِيزِ عِنْدَ كُلٍّ، وَلَعَلَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْمَوْتِ رُجُوعُهُ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ مِنْ عَالِمِ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ بِك أَصْبَحْنَا وَبِك أَمْسَيْنَا وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ بِك أَمْسَيْنَا وَبِك أَصْبَحْنَا وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ وَإِلَيْك الْمَصِيرُ» . وَالدُّعَاءُ أَوْ الذِّكْرُ الْمَطْلُوبُ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَدْخُلُ وَقْتُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، لَكِنَّ الْأَحْسَنَ فِعْلُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 اجْعَلْنِي مِنْ أَعْظَمِ عِبَادِك عِنْدَك حَظًّا وَنَصِيبًا فِي كُلِّ خَيْرٍ تَقْسِمُهُ فِي هَذَا الْيَوْمِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ نُورٍ تَهْدِي بِهِ أَوْ رَحْمَةٍ تَنْشُرُهَا أَوْ رِزْقٍ تَبْسُطُهُ أَوْ ضُرٍّ تَكْشِفُهُ أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ أَوْ شِدَّةٍ تَدْفَعُهَا أَوْ فِتْنَةٍ تَصْرِفُهَا أَوْ مُعَافَاةٍ تَمُنُّ بِهَا بِرَحْمَتِك إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ» وَمِنْ دُعَائِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عِنْدَ النَّوْمِ أَنَّهُ كَانَ يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَالْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَقُولُ «اللَّهُمَّ بِاسْمِك وَضَعْت جَنْبِي وَبِاسْمِك أَرْفَعُهُ اللَّهُمَّ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِك اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفْسِي إلَيْك وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك وَفَوَّضْت أَمْرِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك رَهْبَةً مِنْك وَرَغْبَةً إلَيْك لَا مَنْجَا وَلَا مَلْجَأَ مِنْك إلَّا إلَيْك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك آمَنْت بِكِتَابِك   [الفواكه الدواني] طُلُوعِ الشَّمْسِ. وَالْمَطْلُوبُ فِي الْمَسَاءِ الْأَحْسَنُ فِعْلُهُ عِنْدَ اصْفِرَارِ الشَّمْسِ أَوْ قُرْبِهِ يَسِيرًا، وَبَعْدَهُ إلَى النَّوْمِ وَالسَّحَرُ وَقْتُ الْمُنَاجَاةِ، وَكَذَا عِنْدَ النَّوْمِ وَالِانْتِبَاهِ فِي اللَّيْلِ وَالِاسْتِيقَاظِ لِلْفَجْرِ. وَعَدَّ الْأَقْفَهْسِيُّ فِي الْأَوْقَاتِ الْمُسْتَحَبِّ فِيهَا عِنْدَ صِيَاحِ الدِّيَكَةِ بِاللَّيْلِ، وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ، وَعِنْدَ إقَامَةِ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ وَبَيْنَ الْأَذَانِ وَالْإِقَامَةِ، وَإِثْرَ كُلِّ صَلَاةٍ وَخُصُوصًا الصَّلَاةُ الْمَفْرُوضَةُ، وَقَدَّمْنَا قَبْلَ هَذَا الْمَوْضُوعِ مَا فِيهِ الْكِفَايَةُ. (وَرُوِيَ) عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي الصَّبَاحِ (مَعَ ذَلِكَ) الدُّعَاءَ الْمُتَقَدِّمَ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ أَعْظَمِ) أَيْ أَوْفَرِ وَأَكْبَرِ (عِبَادِكَ عِنْدَكَ حَظًّا وَنَصِيبًا) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (فِي كُلِّ خَيْرٍ تَقْسِمُهُ) أَيْ تُيَسِّرُهُ وَتُنْجِزُهُ لَنَا، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا تَقْسِمُهُ بِتُيَسِّرُهُ لِأَنَّ تَقْسِيمَ الْأَشْيَاءِ وَتَقْدِيرَهَا حَاصِلٌ فِي الْأَزَلِ، لَا يَتَغَيَّرُ بِزِيَادَةِ الصَّلَاحِ وَلَا يَنْقُصُ بِعِصْيَانٍ (فِي هَذَا الْيَوْمِ وَفِيمَا بَعْدَهُ) وَبَيَّنَ ذَلِكَ الْخَيْرَ بِقَوْلِهِ: (مِنْ نُورٍ تَهْدِي بِهِ) أَيْ تُرْشِدُ بِهِ إلَى الطَّاعَةِ وَفِعْلِ الْخَيْرِ. (أَوْ) مِنْ (رَحْمَةٍ تَنْشُرُهَا) أَيْ تَبْسُطُهَا عَلَيْنَا. (أَوْ) مِنْ (رِزْقٍ تَبْسُطُهُ) أَيْ وَاسِعٍ تُنَعِّمُنَا بِهِ، وَالْمُرَادُ هُنَا الرِّزْقُ الْحَلَالُ لِأَنَّهُ الَّذِي يَجُوزُ طَلَبُهُ، وَإِنْ كَانَ جَمِيعُ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْحَيَوَانُ يُسَمَّى رِزْقًا وَلَوْ مِنْ حَرَامٍ عَلَى الْمَشْهُورِ. (أَوْ ضُرٍّ تَكْشِفُهُ أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ) أَيْ تَسْتُرُهُ. فَإِنْ قِيلَ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَعْصُومٌ مِنْ الذُّنُوبِ فَكَيْفَ يَقُولُ: أَوْ ذَنْبٍ تَغْفِرُهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ: وَجَوَابٌ آخَرُ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّهُ مِنْ كَلَامِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَهُوَ الظَّاهِرُ أَنَّهُ قَالَ ذَلِكَ شَفَقَةً عَلَى أُمَّتِهِ وَدُعَاءً لِأُمَّتِهِ أَوْ عَلَى سَبِيلِ الْفَرْضِ، وَالتَّقْدِيرُ عَلَى حَدِّ: {قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} [الزخرف: 81] (أَوْ شِدَّةٍ) أَيْ كُرْبَةٍ تَحْصُلُ (تَدْفَعُهَا أَوْ فِتْنَةٍ) تَحْصُلُ وَهِيَ كُلُّ مَا يُشْغِلُ عَنْ اللَّهِ تَعَالَى (تَصْرِفُهَا) أَيْ تُبْعِدُهَا عَنَّا (أَوْ مُعَافَاةٍ) سَلَامَةٍ (تَمُنُّ بِهَا) عَلَيْنَا (بِرَحْمَتِك) أَيْ بِفَضْلِك وَإِحْسَانِك لَا بِالْجَوَابِ وَلَا بِالْإِيجَابِ لِأَنَّك الْفَاعِلُ بِالِاخْتِيَارِ، وَ (إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ) مِنْ الْمُمْكِنَاتِ (قَدِيرٌ) وَقَالَ الْعَلَّامَةُ الْأَقْفَهْسِيُّ: إنَّ هَذَا الْمَرْوِيَّ حَدِيثٌ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا كَانَ يَفْعَلُهُ وَلَمْ يَثْبُتْ اخْتِصَاصُهُ بِهِ وَلَمْ يَكُنْ فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ الْجَوَازِ فَيَطْلُبُ مِنَّا فِعْلَهُ لِأَنَّا مَأْمُورُونَ بِالِاقْتِدَاءِ بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، بِخِلَافِ مَا ثَبَتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ كَنِكَاحِهِ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعٍ، وَبِخِلَافِ مَا فَعَلَهُ لِمُجَرَّدِ الْجَوَازِ كَالِاقْتِصَارِ فِي الْوُضُوءِ عَلَى غَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ فَيَحْرُمُ الِاقْتِدَاءُ بِهِ فِي الْأَوَّلِ، وَيُكْرَهُ الثَّانِي لِغَيْرِ الْعَالِمِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَمِنْ دُعَائِهِ عَلَيْهِ) الصَّلَاةُ وَ (السَّلَامُ عِنْدَ) إرَادَةِ (النَّوْمِ) عَلَى مَا خَرَّجَهُ مَنْ تَقَيَّدَ بِنَقْلِ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ (أَنَّهُ كَانَ) يَضْطَجِعُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ، وَ (يَضَعُ يَدَهُ الْيُمْنَى تَحْتَ خَدِّهِ الْأَيْمَنِ وَ) يَدَهُ (الْيُسْرَى عَلَى فَخِذِهِ الْأَيْسَرِ ثُمَّ يَقُولُ) مِنْ غَيْرِ تَقْيِيدٍ بِسِرٍّ وَلَا جَهْرٍ: (اللَّهُمَّ بِاسْمِك) أَيْ بِقُدْرَتِك (وَضَعْتُ جَنْبِي وَبِاسْمِك أَرْفَعُهُ اللَّهُمَّ إنْ أَمْسَكْت نَفْسِي) أَيْ قَبَضْتَهَا قَبْضَ وَفَاةٍ. (فَاغْفِرْ لَهَا وَإِنْ أَرْسَلْتهَا) أَيْ أَطْلَقْتهَا عِنْدَ النَّوْمِ وَرَدَدْتهَا إلَى جَسَدِهَا. (فَاحْفَظْهَا بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِك) وَفِي هَذَا إشَارَةٌ إلَى أَنَّ الرُّوحَ تَخْرُجُ مِنْ الْبَدَنِ عِنْدَ النَّوْمِ وَتَعُودُ إلَيْهِ عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ هَكَذَا قَالَ بَعْضٌ، وَهَذَا ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الرُّوحَ وَاحِدَةٌ، وَعِنْدِي وَقْفَةٌ فِي بَقَاءِ الْجَسَدِ حَيًّا بَعْدَ خُرُوجِ الرُّوحِ مِنْهُ، وَأَمَّا عَلَى مَا قَالَهُ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ مِنْ أَنَّ الْجَسَدَ فِيهِ رُوحَانِ: رُوحُ الْحَيَاةِ وَهِيَ الَّتِي يَمُوتُ بِمُفَارَقَتِهَا، وَرُوحُ الْيَقَظَةِ وَهِيَ الَّتِي يَنَامُ عِنْدَ خُرُوجِهَا وَيَكُونُ مُسْتَيْقِظًا بِوُجُودِهَا فَلَا إشْكَالَ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِحَقِيقَةِ الْحَالِ. وَفِي قَوْلِهِ: بِمَا تَحْفَظُ بِهِ الصَّالِحِينَ الْإِشَارَةُ إلَى مَزِيَّةِ الصَّالِحِينَ مِنْ الْإِنْسِ وَغَيْرِهِمْ. (اللَّهُمَّ إنِّي أَسْلَمْت نَفْسِي) أَيْ ذَاتِي (إلَيْك) لِأَنِّي لَا قُدْرَةَ لِي عَلَى تَدْبِيرِهَا وَلَا عَلَى جَلْبِ نَافِعٍ لَهَا وَلَا دَفْعِ ضُرٍّ عَنْهَا. (وَأَلْجَأْت ظَهْرِي إلَيْك) أَيْ أَسْنَدْته إلَيْك لِيَتَقَوَّى بِك، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ اسْتَنَدَ إلَى شَيْءٍ يَتَقَوَّى بِهِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ الِاسْتِنَادَ الْحِسِّيَّ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي حَقِّهِ تَعَالَى وَكَنَّى بِالظَّهْرِ عَنْ نَفْسِهِ. (وَفَوَّضْت) أَيْ وَكَّلْت (أَمْرِي إلَيْك وَوَجَّهْت وَجْهِي إلَيْك) بِكُلِّيَّتِي وَذَاتِي وَالْمَعْنَى: قَصَدْتُك يَا اللَّهُ دُونَ غَيْرِك بِالْعِبَادَةِ، وَخَصَّ الْوَجْهَ لِأَنَّهُ أَشْرَفُ الْجَسَدِ (رَهْبَةً) أَيْ خَوْفًا (مِنْك وَرَغْبَةً إلَيْك) فِي نَيْلِ عَطَائِك (لَا مَنْجَا) بِالْقَصْرِ مِنْ غَيْرِ هَمْزٍ أَيْ لَا مَهْرَبَ مِنْك. (وَلَا مَلْجَأَ) بِالْهَمْزَةِ أَيْ مَرْجِعَ (مِنْك) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 الَّذِي أَنْزَلْت وَبِنَبِيِّك الَّذِي أَرْسَلْت فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت وَمَا أَخَّرْت وَمَا أَسْرَرْت وَمَا أَعْلَنْت أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّ قِنِي عَذَابَك يَوْمَ تَبْعَثُ عِبَادَك» وَمِمَّا رُوِيَ فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك أَنْ أَضِلَّ أَوْ أُضَلَّ أَوْ أَزِلَّ أَوْ أُزَلَّ أَوْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ أَوْ أَجْهَلَ أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ» وَرُوِيَ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ أَنْ يُسَبِّحَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيُكَبِّرَ اللَّهَ   [الفواكه الدواني] أَيْ لَا نَجَاةَ لِأَحَدٍ مِنْك وَلَا مَرْجِعَ لِأَحَدٍ (إلَّا إلَيْك أَسْتَغْفِرُك وَأَتُوبُ إلَيْك) أَيْ أَرْجِعُ إلَيْك وَهَذَا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُمَّتِهِ، لِأَنَّ تَوْبَتَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنَّمَا هِيَ تَوَاضُعُهُ وَشُكْرُهُ: لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ يَقُومُ حَتَّى تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ، فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا» (آمَنْت) أَيْ صَدَّقْت (بِكِتَابِك الَّذِي أَنْزَلْت) عَلَى رَسُولِك وَهُوَ الْقُرْآنُ. (وَبِرَسُولِك الَّذِي أَرْسَلْت) قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: الَّذِي فِي مُسْلِمٍ وَنَبِيِّك أَيْ بَدَلَ رَسُولِك حَتَّى نُسِبَ الْمُصَنِّفُ إلَى الْوَهْمِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ وَرَدَ أَيْضًا بِلَفْظِ رَسُولِك وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: يَنْبَغِي الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يَقُولَ: نَبِيِّك وَرَسُولِك احْتِيَاطًا، لِأَنَّ بَعْضَ الشُّيُوخِ مَنَعَ الرِّوَايَةَ بِالْمَعْنَى فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّ الْأَذْكَارَ وَالْأَدْعِيَةَ تَوْقِيفِيَّةٌ، وَلِذَا رَدَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى مَنْ قَالَ فِي هَذَا الدُّعَاءِ وَبِرَسُولِك وَقَالَ لَهُ قُلْ وَبِنَبِيِّك، وَأَيْضًا الْمُعْتَمَدُ مَنْعُ إبْدَالِ لَفْظِ النَّبِيِّ بِالرَّسُولِ وَعَكْسِهِ وَقْتَ التَّحَمُّلِ أَوْ الْأَدَاءِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ فِي مُصْطَلَحِ الْحَدِيثِ: وَإِنْ رَسُولٌ بِنَبِيٍّ أُبْدِلَا ... فَالظَّاهِرُ الْمَنْعُ كَعَكْسٍ فُعِلَا وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِجَوَازِ رِوَايَةِ الْحَدِيثِ بِالْمَعْنَى لِاخْتِلَافِ مَعْنَى الرَّسُولِ وَالنَّبِيِّ، وَإِنْ رَجَا الْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ الْجَوَازَ وَاسْتَصْوَبَ النَّوَوِيُّ كَلَامَهُ لِأَنَّ الْقَصْدَ نِسْبَةُ الْحَدِيثِ لِقَائِلِهِ بِخِلَافِ الدُّعَاءِ فَهُوَ تَوْقِيفِيٌّ كَمَا عَرَفْت. (فَاغْفِرْ لِي مَا قَدَّمْت) مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَخَّرْت) أَيْ مَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبِلِ وَهَذَا أَيْضًا تَعْلِيمٌ مِنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأُمَّتِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ ذَنْبٌ، وَهَذَا أَحْسَنُ مَا يُحْمَلُ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ وَمَا عَدَاهُ تَكَلُّفَاتٌ لَا حَاجَةَ إلَيْهَا. (وَ) اغْفِرْ لِي أَيْضًا (مَا أَسْرَرْت) أَيْ أَخْفَيْته مِنْ الذُّنُوبِ (وَمَا أَعْلَنْت) أَيْ أَظْهَرْته مِنْ الذُّنُوبِ. (أَنْتَ إلَهِي لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ رَبِّ قِنِي عَذَابَك) أَيْ نَجِّنِي مِنْ عَذَابِك (يَوْمَ تَبْعَثُ) أَيْ تُحْيِي وَتَنْشُرُ (عِبَادَك) قَائِمِينَ مِنْ قُبُورِهِمْ لِحِسَابِك وَعَرْضِهِمْ عَلَيْك، وَهَذَا الدُّعَاءُ مُجَمَّعٌ مِنْ عِدَّةِ أَحَادِيثَ مَعَ زِيَادَةٍ وَنَقْصٍ غَيْرِ مُخِلَّيْنِ. وَفِي الْحَدِيثِ ثَلَاثُ خِصَالٍ مُسْتَحَبَّةٌ يَنْبَغِي لِكُلِّ أَحَدٍ الْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا اقْتِدَاءً بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إحْدَاهَا: النَّوْمُ عَلَى طَهَارَةٍ وَإِنْ كَانَ الْمُصَنِّفُ لَمْ يَذْكُرْهُ فَقَدْ ذَكَرَهُ مُسْلِمٌ بِقَوْلِهِ: إذَا أَخَذْت مَضْجَعَك فَتَوَضَّأْ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّك الْأَيْمَنِ، وَفَائِدَةُ الْوُضُوءِ مَخَافَةُ أَنْ يَمُوتَ فِي لَيْلَةٍ وَلِيَكُونَ أَصْدَقَ لِرُؤْيَاهُ وَأَبْعَدَ مِنْ تَلَعُّبِ الشَّيْطَانِ بِهِ. وَثَانِيهَا: النَّوْمُ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ كَمَا يُوضَعُ فِي قَبْرِهِ وَلِأَنَّهُ أَسْرَعُ إلَى الِانْتِبَاهِ لِأَنَّ الْقَلْبَ فِي نَاحِيَةِ الْيَسَارِ فَإِذَا اضْطَجَعَ عَلَى شِقِّهِ الْأَيْمَنِ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَغْرِقُ فِي النَّوْمِ فَالنَّوْمُ عَلَى الشِّقِّ الْأَيْمَنِ سُنَّةٌ، وَعَلَى الظَّهْرِ فِكْرَةٌ، وَعَلَى الْيَسَارِ اضْطِجَاعُ الْمُلُوكِ، وَعَلَى الْبَطْنِ اضْطِجَاعُ الشَّيَاطِينِ وَأَهْلِ النَّارِ. وَثَالِثُهَا: ذِكْرُ اللَّهِ لِيَكُونَ خَاتِمَةَ عَمَلِهِ. وَمِمَّا يَنْبَغِي ذِكْرُهُ عِنْدَ إرَادَةِ النَّوْمِ مَعَ الدُّعَاءِ الْمُتَقَدِّمِ مَا وَرَدَ فِي رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ: «مَنْ قَالَ حِينَ يَأْوِي إلَى فِرَاشِهِ: أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ وَأَتُوبُ إلَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ غَفَرَ اللَّهُ لَهُ ذُنُوبَهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَنْدُبُ عِنْدَ إرَادَةِ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنَازِلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِمَّا رُوِيَ) عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي السُّنَنِ الْأَرْبَعِ (فِي الدُّعَاءِ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْمَنْزِلِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ) أَيْ أَتَحَصَّنُ (بِك أَنْ أَضِلَّ) أَيْ أَخْرُجَ عَنْ الْحَقِّ فَهُوَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ بِالْبِنَاءِ لِلْفَاعِلِ. (أَوْ أُضَلَّ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ أَيْ يُضِلُّنِي الْغَيْرُ عَنْ الْحَقِّ. (أَوْ أَزِلَّ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَمِيلُ عَنْ الْحَقِّ (أَوْ أُزَلَّ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ يُزِيغُنِي الْغَيْرُ. (أَوْ أَظْلِمَ) غَيْرِي (أَوْ أُظْلَمُ) بِضَمِّ الْهَمْزَةِ أَيْ يَظْلِمُنِي الْغَيْرُ. (أَوْ أَجْهَلَ) بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ أَيْ أَسْفَهُ عَلَى أَحَدٍ. (أَوْ يُجْهَلَ عَلَيَّ) فَيُسْتَحَبُّ لِكُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَيْتِهِ، وَالْجَهْلُ وَالظُّلْمُ قِيلَ هُمَا مُتَرَادِفَانِ، وَقِيلَ الظُّلْمُ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ عَمْدًا، وَالْجَهْلُ وَضْعُهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يَقُولُ ذَلِكَ كُلَّمَا يَخْرُجُ وَلَوْ تَكَرَّرَ خُرُوجُهُ، لِأَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْ الدُّعَاءِ مُسْتَحَبٌّ فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَقَوْلُهُ مِنْ الْمَنْزِلِ لَيْسَ بِقَيْدٍ بَلْ مِثْلُهُ لَوْ خَرَجَ مِنْ حَائِطِهِ أَوْ مِنْ فُنْدُقِهِ، وَظَاهِرُ اللَّفْظِ كَانَ الْخُرُوجُ لِسَفَرٍ أَوْ غَيْرِهِ بَلْ هُوَ لِلسَّفَرِ أَشَدُّ طَلَبًا خِلَافًا لِمَنْ خَصَّهُ بِالْحَضَرِ. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُد بِسَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ: «إذَا خَرَجَ الرَّجُلُ مِنْ بَيْتِهِ احْتَوَشَتْهُ الشَّيَاطِينُ، فَإِذَا قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ تَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ قَالَ الْمَلَكُ: كُفِيتَ وَهُدِيتَ وَوُقِيتَ فَتَتَفَرَّقُ عَنْهُ الشَّيَاطِينُ وَيَقُولُونَ: مَا تَصْنَعُونَ عِنْدَ رَجُلٍ كُفِيَ وَهُدِيَ وَوُقِيَ» . وَفِي رِوَايَةٍ يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا، وَيَنْبَغِي حِينَئِذٍ لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَنْ يَجْمَعَ بَيْنَ الدُّعَاءِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَحْمَدَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَيَخْتِمَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَعِنْدَ الْخَلَاءِ تَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي لَذَّتَهُ وَأَخْرَجَ عَنِّي مَشَقَّتَهُ وَأَبْقَى فِي جِسْمِي قُوَّتَهُ وَتَتَعَوَّذُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَخَافُهُ وَعِنْدَمَا تَحِلُّ بِمَوْضِعٍ أَوْ تَجْلِسُ بِمَكَانٍ أَوْ تَنَامُ فِيهِ تَقُولُ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَمِنْ التَّعَوُّذِ أَنْ تَقُولَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ   [الفواكه الدواني] الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ وَبَيْنَ مَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ عَمَلًا بِالْحَدِيثَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي مَنَاسِكِهِ: وَيُسْتَحَبُّ لَهُ أَيْضًا أَنْ يَتَصَدَّقَ وَلَوْ بِالْقَلِيلِ عِنْدَ خُرُوجِهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَنْدُبُ عَقِبَ الصَّلَاةِ الْمَفْرُوضَةِ فَقَالَ: (وَمِمَّا رُوِيَ) عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ الْأَذْكَارِ (فِي دُبُرِ) بِضَمِّ الدَّالِ وَالْبَاءِ أَيْ عَقِبَ (كُلِّ صَلَاةٍ) مَفْرُوضَةٍ (أَنْ تُسَبِّحَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) تَسْبِيحَةً (وَتُكَبِّرَ اللَّهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) تَكْبِيرَةً (وَتَحْمَدَ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (اللَّهَ) تَعَالَى (ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ) تَحْمِيدَةً (وَتَخْتِمَ الْمِائَةَ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وَفِي أَكْثَرِ الرِّوَايَاتِ إسْقَاطُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَإِذَا حَصَلَ لِلْإِنْسَانِ الشَّكُّ فِي الْعَدَدِ فَيَحْتَاطُ وَيُكْمِلُ وَتُكْرَهُ الزِّيَادَةُ عِنْدَ تَحَقُّقِ الْعَدَدِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ تَقْدِيمُ التَّكْبِيرِ عَلَى التَّحْمِيدِ، وَفِي رِوَايَةٍ أَنَّ التَّكْبِيرَ أَرْبَعٌ وَثَلَاثُونَ. قَالَ النَّوَوِيُّ: وَيَنْبَغِي أَنْ يُحَاطَ بِثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ تَسْبِيحَةً وَمِثْلُهَا تَحْمِيدَاتٍ وَبِأَرْبَعٍ وَثَلَاثُونَ تَكْبِيرَةً وَيَقُولَ مَعَهَا: لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فَيَجْمَعُ بَيْنَ الرِّوَايَاتِ. قَالَ ابْنُ بَطَّالٍ: وَلَهُ أَنْ يَجْمَعَ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ بِأَنْ يَقُولَ: سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً، وَتُسَمَّى هَذِهِ الْكَلِمَاتُ الْمُعَقِّبَاتِ لِكَوْنِهَا تُقَالُ عَقِبَ الصَّلَوَاتِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ فَائِدَةَ هَذَا الذِّكْرِ أَنَّهُ تُغْفَرُ بِهِ الذُّنُوبُ وَإِنْ كَانَتْ أَكْثَرَ مِنْ زَبَدِ الْبَحْرِ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا أَنَّ سَبَبَ مَشْرُوعِيَّتِهِ «مَجِيءُ الْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالُوا لَهُ: قَدْ ذَهَبَ أَهْلُ الدُّثُورِ بِالدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةِ يُصَلُّونَ وَيَصُومُونَ مِثْلَنَا وَيَتَصَدَّقُونَ بِفُضُولِ أَمْوَالِهِمْ وَنَحْنُ فُقَرَاءُ لَا نَتَصَدَّقُ وَلَا نُعْتِقُ، فَقَالَ لَهُمْ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَفَلَا أُعَلِّمُكُمْ شَيْئًا تُدْرِكُونَ بِهِ مَنْ سَبَقَكُمْ وَلَا يَكُونُ أَحَدٌ أَفْضَلَ مِنْكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: تُسَبِّحُونَ وَتُكَبِّرُونَ وَتَحْمَدُونَ دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ» إلَى آخِرِ مَا سَبَقَ. قَالَ أَبُو صَالِحٍ: «فَرَجَعَ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَسَمِعَ إخْوَانُنَا أَهْلُ الْأَمْوَالِ، فَقَالُوا مِثْلَ مَا قُلْنَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ} [المائدة: 54] » . ثُمَّ شَرَعَ فِيمَا يَطْلُبُ عِنْدَ الْخُرُوجِ مِنْ الْخَلَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَ) مِمَّا يُطْلَبُ عَلَى جِهَةِ النَّدْبِ (عِنْدَ) خُرُوجِك مِنْ (الْخَلَاءِ) بِالْمَدِّ وَهُوَ مَوْضِعُ قَضَاءِ الْحَاجَةِ أَنْ (تَقُولَ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَزَقَنِي لَذَّتَهُ) أَيْ الطَّعَامُ الْمَفْهُومُ مِنْ السِّيَاقِ (وَأَخْرَجَ عَنِّي مَشَقَّتَهُ) الَّتِي تَحْصُلُ مِنْهُ لَوْ بَقِيَ بَعْدَ خُبْثِهِ. (وَأَبْقَى فِي جِسْمِي قُوَّتَهُ) وَالْأَصْلُ فِي هَذَا فِعْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُهُ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ نَحْوِ غُفْرَانُكَ، قَالَ فِي الْمُعَارَضَةِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا خَرَجَ مِنْ الْخَلَاءِ قَالَ: اللَّهُمَّ غُفْرَانُكَ، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي سَوَّغَنِيهِ طَيِّبًا وَأَخْرَجَهُ عَنِّي خَبِيثًا» وَبِذَلِكَ سُمِّيَ نُوحٌ عَبْدًا شَكُورًا. 1 - (تَنْبِيهٌ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا يُقَالُ عِنْدَ الْخُرُوجِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يُنْدَبُ عِنْدَ الدُّخُولِ وَهُوَ مَذْكُورٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَدْخُلَ الْخَلَاءَ يَقُولُ: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ الْخُبُثِ وَالْخَبَائِثِ» وَالْخُبُثُ بِضَمِّ الْخَاءِ وَالْبَاءِ جَمْعُ خَبِيثٍ وَالْخَبَائِثُ جَمْعُ خَبِيثَةٍ، وَيُسْتَحَبُّ التَّعَوُّذُ مِنْ ذُكْرَانِ الشَّيَاطِينِ وَمِنْ إنَاثِهِمْ. (فَائِدَةٌ) تَقَدَّمَ أَنَّ الْخَلَاءَ اسْمٌ لِلْمَحَلِّ الَّذِي تُقْضَى فِيهِ الْحَاجَةُ، فَقَوْلُ الْعَامَّةِ بَيْتُ الْخَلَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْإِضَافَةِ الْبَيَانِيَّةِ أَيْ بَيْتٌ هُوَ الْخَلَاءُ، وَسُمِّيَ بِالْخَلَاءِ لِأَنَّ الْإِنْسَانَ حِينَ اسْتِقْرَارِهِ فِيهِ يَكُونُ خَالِيًا عَنْ النَّاسِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ قَصْرُ التَّعَوُّذِ فِي الْخَلَاءِ قَالَ: (وَ) يُسْتَحَبُّ لَك أَنْ (تَتَعَوَّذَ) أَيْ تَتَحَصَّنُ (مِنْ كُلِّ شَيْءٍ تَخَافُهُ) مِنْ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَغَيْرِهِمَا وَأَنْتَ سَائِرٌ. (وَ) كَذَا (عِنْدَمَا تَحِلُّ بِمَوْضِعٍ أَوْ تَجْلِسُ بِمَكَانٍ أَوْ تَنَامُ فِيهِ) بِأَنْ (تَقُولَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) ثَلَاثًا كَمَا فِي مُسْلِمٍ فَإِنَّك إنْ قُلْت ذَلِكَ عِنْدَ الْمَسَاءِ وَلَوْ لَدَغَتْك عَقْرَبٌ أَوْ غَيْرُهَا لَمْ تَضُرَّك لَدْغَتُهَا كَمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «إنْ قَالَهَا مُسَافِرٌ ثَلَاثًا عِنْدَ نُزُولِهِ لَمْ يَزَلْ مَحْفُوظًا حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ» قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: وَقَدْ جَرَّبْتُهُ أَحَدَ عَشَرَ عَامًا فَوَجَدْته صَحِيحًا، وَمَعْنَى التَّامَّاتِ الْبَالِغَةُ الْغَايَةِ فِي الْبَلَاغَةِ وَالْفَصَاحَةِ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ مُعْجِزُ الْبَشَرِ، وَوَصْفُ كَلِمَاتِ اللَّهِ بِالتَّامَّاتِ مِنْ بَابِ الْوَصْفِ الْكَاشِفِ لَا الْمُخَصِّصِ لِأَنَّ كَلِمَاتِهِ كُلَّهَا تَامَّاتٌ، وَالْمُرَادُ بِمَا خَلَقَ كُلُّ مَخْلُوقٍ لَهُ شَرٌّ، وَمَعْنَى أَعُوذُ أَسْتَجِيرُ وَأَتَحَصَّنُ وَأَعْتَصِمُ، وَهَذَا حَدِيثٌ خَرَّجَهُ أَصْحَابُ الصَّحِيحِ. (وَمِنْ) صِيَغِ (التَّعَوُّذِ) الْوَارِدَةِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا (أَنْ تَقُولَ أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ) أَيْ ذَاتُهُ الْكَرِيمَةُ (وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّذِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ) أَيْ لَا يَتَوَصَّلُ إلَى مَنْ تَحَصَّنَ بِهِنَّ مَكْرُوهٌ مِنْ بَرٍّ أَوْ مَكْرُوهٌ مِنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا وَمِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمِنْ فِتْنَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ وَيُقَالُ فِي ذَلِكَ أَيْضًا وَمِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ رَبِّي آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إنْ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ أَنْ يَقُولَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ وَيُكْرَهُ الْعَمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ مِنْ خَيَّاطَةٍ وَنَحْوِهَا   [الفواكه الدواني] فَاجِرٍ، وَالْبَرُّ الْمُحْسِنُ الْمُطِيعُ وَالْفَاجِرُ ضِدُّهُ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْفَاجِرَ إنَّمَا يَكُونُ مِنْ الْإِنْسِ أَوْ الْجِنِّ لِعِصْمَةِ الْمَلَائِكَةِ فَكُلُّهُمْ أَبْرَارٌ (وَ) أَعُوذُ (بِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ) وَمَعْنَى الثَّلَاثَةِ وَاحِدٌ بِنَصِّ الْقُرْآنِ وَهُوَ الْإِيجَادُ مِنْ الْعَدَمِ. قَالَ تَعَالَى: {خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} [البقرة: 29] وَقَالَ تَعَالَى: {ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المؤمنون: 79] وَقَالَ: {فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] أَيْ خَالِقُكُمْ، فَلَعَلَّهُ ذَكَرَهَا لِلتَّنْبِيهِ عَلَى اتِّحَادِ مَعْنَاهَا، وَيُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ: مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَعْلَمُ جَمِيعَ أَسْمَائِهِ تَعَالَى، وَاخْتُلِفَ فِي عِدَّتِهَا فَقِيلَ أَلْفُ اسْمٍ وَوَصْفُهَا بِالْحُسْنَى بَيَانٌ لِوَصْفِهَا اللَّازِمِ فَهُوَ وَصْفٌ كَاشِفٌ. (وَمِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنْ السَّمَاءِ) مِنْ الصَّوَاعِقِ وَغَيْرِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْعَذَابِ. (وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا) أَيْ يَصْعَدُ فِي السَّمَاءِ مِمَّا هُوَ سَبَبٌ لِنُزُولِ الْعَذَابِ وَهُوَ الْأَعْمَالُ الْقَبِيحَةُ. (وَ) أَعُوذُ بِأَسْمَائِهِ الْحُسْنَى (مِنْ شَرِّ مَا ذَرَأَ فِي الْأَرْضِ وَمِنْ شَرِّ مَا يَخْرُجُ مِنْهَا) كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ (وَمِنْ) شَرِّ (فِتْنَةِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ) الْمُرَادُ مَا يَحْصُلُ فِيهِمَا مِمَّا فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الْإِنْسَانِ. (وَ) أَعُوذُ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى (مِنْ طَوَارِقِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ يَا رَحْمَنُ) وَالطَّارِقُ هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَغْتَةً، وَأَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ لَيْسَ فِيهَا لَفْظُ طَوَارِقِ النَّهَارِ، فَيَكُونُ زِيَادَتُهَا مِنْ بَابِ الْمُشَاكَلَةِ لِطَوَارِقِ اللَّيْلِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الطَّارِقَ لَا يَكُونُ إلَّا بِاللَّيْلِ كَمَا قِيلَ، وَعَلَى ثُبُوتِهَا لَا حَاجَةَ إلَى دَعْوَى الْمُشَاكَلَةِ. (وَيُقَالُ فِي ذَلِكَ) التَّعَوُّذُ (أَيْضًا) زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ: (وَ) أَعُوذُ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى الْحُسْنَى (مِنْ شَرِّ كُلِّ دَابَّةٍ رَبِّي) أَيْ خَالِقِي وَمَالِكِي (آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا) وَهِيَ مُقَدَّمُ الرَّأْسِ فَهِيَ هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، لِأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُقْهَرُ وَيُغْلَبُ يُمْسَكُ بِنَاصِيَتِهِ، فَالْمُرَادُ بِأَخْذِ الرَّبِّ لَهَا قَهْرُهُ وَغَلَبَتُهُ عَلَيْهَا لِاسْتِحَالَةِ الْأَخْذِ الْحِسِّيِّ فِي حَقِّهِ تَعَالَى. (إنَّ رَبِّي) أَيْ أَمْرَهُ أَوْ رَسُولَهُ (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) أَيْ عَلَى غَايَةٍ مِنْ الِاعْتِدَالِ لِأَنَّهُ حَكَمٌ عَدْلٌ وَالْعَادِلُ لَا يَضَعُ الشَّيْءَ إلَّا فِي مَحِلِّهِ، وَهَذَا التَّعَوُّذُ بِهَذَا اللَّفْظِ لَفْظُ حَدِيثٍ: «عَلَّمَهُ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ حِينَ تَبِعَهُ عِفْرِيتٌ مِنْ الْجِنِّ بِشُعْلَةٍ مِنْ نَارٍ، وَكُلَّمَا يَلْتَفِتُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَرَاهُ، فَقَالَ لَهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: أَفَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ تَقُولُهُنَّ تُطْفِئُ شُعْلَتَهُ وَيَخِرُّ عَلَى فِيهِ؟ فَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: بَلَى، فَقَالَ جِبْرِيلُ قُلْ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْكَرِيمِ» إلَى آخِرِ مَا سَبَقَ. وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْلَا كَلِمَاتٌ أَقُولُهُنَّ لَجَعَلَنِي يَهُودُ حِمَارًا، فَقِيلَ لَهُ: وَمَا هُنَّ؟ فَقَالَ: أَعُوذُ بِوَجْهِ اللَّهِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَيْسَ شَيْءٌ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَبِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ، وَبِأَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى كُلِّهَا مَا عَلِمْت مِنْهَا وَمَا لَمْ أَعْلَمْ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعَوُّذَ بِأَسْمَائِهِ تَعَالَى مُسْتَحَبٌّ عِنْدَ كُلِّ أَمْرٍ يُخَافُ مِنْهُ اقْتِدَاءً بِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَيُسْتَحَبُّ لِمَنْ دَخَلَ مَنْزِلَهُ) أَوْ حَانُوتَهُ أَوْ بُسْتَانَه (أَنْ يَقُولَ) بَعْدَ قَوْلِهِ السَّلَامُ عَلَيْكُمْ إنْ كَانَ بِهِ أَحَدٌ، أَوْ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ إنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَحَدٌ عَلَى وَجْهِ السُّنِّيَّةِ فِي الْأَوَّلِ وَعَلَى النَّدْبِ فِي الثَّانِي. (مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ) فَإِنَّ قَوْلَهَا حِرْزٌ لِمَنْزِلِ قَائِلهَا الَّذِي قَالَهَا فِيهِ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ «مَنْ قَالَ أَرْبَعًا يَحْصُلُ لَهُ الْأَمْنُ مِنْ أَرْبَعٍ» : إحْدَاهَا مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ، وَثَانِيهَا مَنْ قَالَ: حَسْبُنَا اللَّهُ وَنَعَمْ الْوَكِيلُ أَمِنَ مِنْ كَيْدِ النَّاسِ، ثَالِثُهَا مَنْ قَالَ: وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إلَى اللَّهِ كَفَاهُ اللَّهُ مَكِيدَةَ النَّاسِ، رَابِعُهَا مَنْ قَالَ: لَا إلَهَ إلَّا أَنْتَ سُبْحَانَك إنِّي كُنْت مِنْ الظَّالِمِينَ أَمِنَ مِنْ الْغَمِّ. وَرُوِيَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَيْضًا: «أَنَّ مَنْ أَصَابَهُ هَمٌّ أَوْ غَمٌّ أَوْ سَقَمٌ أَوْ شِدَّةٌ فَقَالَ اللَّهُ اللَّهُ رَبِّي لَا شَرِيكَ لَهُ كَشَفَ اللَّهُ ذَلِكَ عَنْهُ» وَبِالْجُمْلَةِ فَالدُّعَاءُ مَطْلُوبٌ أَمَرَ اللَّهُ بِهِ. قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: وَعِنْدَنَا أَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ ... كَمَا مِنْ الْقُرْآنِ وَعْدًا يُسْمَعُ وَحَقِيقَتُهُ رَفْعُ الْحَاجَاتِ إلَى كَاشِفِ الْكُرُبَاتِ وَدَافِعِ الْبَلِيَّاتِ يَنْفَعُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتِ، وَالدُّعَاءُ يُوصِلُ إلَى الْمَطْلُوبِ وَلَوْ صَدَرَ مِنْ الْكَافِرِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «دَعْوَةُ الْمَظْلُومِ مُسْتَجَابَةٌ وَإِنْ كَانَ كَافِرًا» . وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُغْنِي حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ» «وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ، وَإِنَّ الْبَلَاءَ لَيَنْزِلُ فَيَلْقَاهُ الدُّعَاءُ فَيَتَعَالَجَانِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَيْ يَتَصَارَعَانِ وَيَتَدَافَعَانِ» . وَاعْلَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 وَلَا يَغْسِلُ يَدَيْهِ فِيهِ وَلَا يَأْكُلُ فِيهِ إلَّا مِثْلَ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ وَلَا يَقُصُّ فِيهِ شَارِبَهُ وَلَا يُقَلِّمُ فِيهِ أَظْفَارَهُ وَإِنْ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ وَلَا يَقْتُلُ فِيهِ قَمْلَةً وَلَا بُرْغُوثًا وَأُرَخِّصُ فِي مَبِيتِ الْغُرَبَاءِ فِي مَسَاجِدِ الْبَادِيَةِ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَقْرَأَ فِي   [الفواكه الدواني] أَنَّ الْقَضَاءَ عَلَى قِسْمَيْنِ: مُبْرَمٌ وَمُعَلَّقٌ، وَالْمُعَلَّقُ لَا اسْتِحَالَةَ فِي رَفْعِ مَا عَلِقَ مِنْهُ عَلَى الدُّعَاءِ وَلَا فِي نُزُولِ مَا عَلِقَ نُزُولُهُ عَلَى دُعَاءٍ، وَأَمَّا الْمُبْرَمُ فَالدُّعَاءُ يَرْفَعُهُ وَإِنْ لَمْ يَرْفَعْهُ، لَكِنْ رُبَّمَا أَثَابَ اللَّهُ الْعَبْدَ عَلَى دُعَائِهِ أَوْ خَفَّفَ عَنْهُ مَا نَزَلَ بِهِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالدُّعَاءُ أَفْضَلُ مِنْ السُّكُوتِ وَالتَّسْلِيمِ لِلْقَضَاءِ وَالْقَدَرِ، لِأَنَّ اللَّهَ أَمَرَ بِهِ وَيُحِبُّ الدُّعَاءَ وَيَغْضَبُ لِتَرْكِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي اسْتِجَابَةِ دُعَاءِ الْكَافِرِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: الِاسْتِجَابَةُ قَاصِرَةٌ عَلَى الْمُسْلِمِ وَنَسَبَهُ لِلْجُمْهُورِ مُسْتَدِلًّا بِظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى: {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} [الرعد: 14] . وَكَلَامُ الْفُقَهَاءِ مِنْ بَابِ الِاسْتِسْقَاءِ يَقْتَضِي عَدَمَ قُصُورِ الِاسْتِجَابَةِ عَلَى الْمُسْلِمِ وَعَلَى مَا قَالَهُ ذَلِكَ الْبَعْضُ يَخُصُّ بِالْمَظْلُومِ لِحَدِيثِ أَنَسٍ الْمُتَقَدِّمِ. وَاعْلَمْ أَنَّ لِإِجَابَةِ الدُّعَاءِ شُرُوطًا فِي الدَّاعِي وَهِيَ: أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ إلَّا اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَأَنْ يَدْعُوَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ وَحُضُورِ قَلْبٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُجْتَنِبًا لِاسْتِعْمَالِ الْحَرَامِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ عِنْدَهُ مَلَالَةٌ مِنْ الدُّعَاءِ بِحَيْثُ يَقُولُ فِي نَفْسِهِ كَمْ دَعَوْت وَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، وَأَنْ يَكُونَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ السَّكِينَةِ، وَشُرُوطًا فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ الْمُمْكِنَةِ، فَلَا يَدْعُو بِمُسْتَحِيلٍ وَلَا بِمُحَرَّمٍ، وَأَنْ يَكُونَ مُصَدَّرًا بِالثَّنَاءِ عَلَى اللَّهِ وَالصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْ يَكُونَ فِي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ كَوَقْتِ السَّحَرِ أَوْ وَقْتِ النِّدَاءِ أَوْ عِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ عِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ أَوْ زَمَنِ السُّجُودِ أَوْ عِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ، وَأَنْ يَكُونَ بِاللَّفْظِ الْعَرَبِيِّ وَغَيْرِ مَلْحُونٍ لِلْقَادِرِ عَلَى الصَّوَابِ، وَاخْتُلِفَ فِي بَسْطِ الْيَدِ وَلَا بَأْسَ بِهِ لِأَنَّهُ أَمَارَةُ الذُّلِّ وَالسَّكِينَةِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَمْسَحَ وَجْهَهُ بِيَدَيْهِ عَقِبَهُ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. ثُمَّ شَرَعَ فِي مَسَائِلَ كَانَ يَنْبَغِي ذِكْرُهَا فِي مَبَاحِثِ الْأَحْكَامِ: (وَيُكْرَهُ) عَلَى وَجْهِ التَّنْزِيهِ (الْعَمَلُ فِي الْمَسَاجِدِ) حَيْثُ لَا يَمْنَعُ مُصَلِّيًا وَلَا يُقَذِّرُهُ (مِنْ خِيَاطَةٍ وَنَحْوِهَا) كَالنَّسْخِ لِلْكَاتِبِ، وَأَمَّا مَا يُقَذِّرهُ أَوْ يُضَيَّقُ عَلَى مُصَلٍّ فَيَحْرُمُ لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ وُضِعَتْ لِلْعِبَادَةِ، وَأُجِيزَتْ الْقِرَاءَةُ وَالذِّكْرُ وَتَعْلِيمُ الْعِلْمِ تَبَعًا لِلصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يُشَوِّشُ شَيْءٌ مِنْهَا عَلَى مُصَلٍّ، وَإِلَّا مُنِعَ كَمَا يُمْنَعُ كُلُّ مَا يُقَذِّرُ مِنْ نَحْوِ حِجَامَةٍ أَوْ فِصَادَةٍ أَوْ إصْلَاحِ النِّعَالَاتِ الْعَتِيقَةِ، وَمِنْ الْمَكْرُوهِ رَفْعُ الصَّوْتِ فِيهِ بِالْعِلْمِ زِيَادَةً عَلَى الْمَطْلُوبِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَكُرِهَ أَنْ يُبْصَقَ بِأَرْضِهِ وَتَعْلِيمُ صَبِيٍّ وَبَيْعٌ وَشِرَاءٌ وَسَلُّ سَيْفٍ وَإِنْشَادُ ضَالَّةٍ وَهُتُفٌ بِمَيِّتٍ وَرَفْعُ صَوْتٍ كَرَفْعِهِ بِعِلْمٍ وَوَقِيدُ نَارٍ وَدُخُولٌ كَخَيْلٍ لِنَقْلٍ وَفُرُشٌ أَوْ مُتَّكَأٌ، وَمِنْ الْمَكْرُوهِ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ الِاسْتِيَاكُ وَالْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ، وَأَمَّا غَرْسُ الشَّجَرِ أَوْ الزَّرْعِ فِيهِ فَيَحْرُمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، كَمَا يَحْرُمُ حَفْرُهُ وَالدَّفْنُ فِيهِ، وَمَا غُرِسَ فِيهِ مِنْ الْأَشْجَارِ يُقْطَعُ قَالَ ابْنُ سَهْلٍ: وَهِيَ حَلَالٌ لِلْفَقِيرِ وَالْغَنِيِّ لِأَنَّ سَبِيلَ ذَلِكَ كَالْفَيْءِ. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَغْسِلَ يَدَيْهِ فِيهِ) أَيْ فِي الْمَسْجِدِ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِنَا لَا يَجُوزُ الْكَرَاهَةُ إنْ كَانَتَا طَاهِرَتَيْنِ وَالْحُرْمَةُ إنْ كَانَتَا نَجِسَتَيْنِ أَوْ بِهِمَا مَا يُقَذِّرُ وَلَوْ طَاهِرًا، وَاخْتُلِفَ فِي الْوُضُوءِ فِيهِ عَلَى قَوْلَيْنِ: الْجَوَازُ لِابْنِ الْقَاسِمِ وَالْكَرَاهَةُ لِسَحْنُونٍ كَمَجِّ الرِّيقِ فِيهِ وَرِحَابُ الْمَسْجِدِ كَالْمَسْجِدِ. (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يُكْرَهُ أَنْ (يَأْكُلَ فِيهِ) نَحْوَ بِطِّيخٍ أَوْ فُولٍ مِمَّا يَعْفِشُهُ وَلَا يُقَذِّرُهُ (إلَّا مِثْلَ الشَّيْءِ الْخَفِيفِ) الَّذِي لَا يَحْصُلُ مِنْهُ تَلْوِيثٌ (كَالسَّوِيقِ وَنَحْوِهِ) فَلَا يُكْرَهُ فِعْلُهُ فِي الْمَسْجِدِ (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يُكْرَهُ أَنْ (يَقُصَّ فِيهِ شَارِبَهُ) وَلَا يَحْلِقُ فِيهِ رَأْسَهُ (وَلَا يُقَلِّمُ فِيهِ ظُفْرَهُ) إنْ كَانَ مَا يُزِيلُهُ يُلْقِيهِ عَلَى أَرْضِهِ بَلْ (وَإِنْ أَخَذَهُ فِي ثَوْبِهِ) بِحَيْثُ لَا يَنْزِلُ مِنْهُ شَيْءٌ عَلَى أَرْضِهِ، لِأَنَّهُ لَا يُؤْمَنُ سُقُوطُ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ بِأَرْضِهِ، وَالْمَسَاجِدُ مُنَزَّهَةٌ عَنْ جَمِيعِ مَا يَعْفِشُهَا وَإِنْ كَانَ طَاهِرًا. (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يَقْتُلَ فِيهِ) أَيْ الْمَسْجِدُ (قَمْلَةً وَلَا بُرْغُوثًا) الْمُرَادُ الْكَرَاهَةُ. قَالَ خَلِيلٌ عَاطِفًا عَلَى الْمَكْرُوهِ: وَقَتْلُ كَبُرْغُوثٍ بِمَسْجِدٍ، وَالْكَرَاهَةُ فِي الْقَمْلَةِ أَشَدُّ لِأَنَّهَا مِمَّا لَهُ نَفْسٌ سَائِلَةٌ وَمَحَلُّ كَرَاهَةِ قَتْلِ الْقَمْلَةِ فِي الْمَسْجِدِ حَيْثُ لَمْ يَطْرَحْ قِشْرَهَا فِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ لِأَنَّ لَهَا نَفْسًا سَائِلَةً فَمَيْتَتُهَا نَجِسَةٌ، كَمَا أَنَّ مَحَلَّ كَرَاهَةِ قَتْلِ الْبُرْغُوثِ بِهِ مَعَ طَرْحِ قِشْرِهِ فِيهِ حَيْثُ لَمْ يَكْثُرْ بِحَيْثُ يُقَذِّرُهُ لِأَنَّ تَقْذِيرَ الْمَسَاجِدِ حَرَامٌ وَلَوْ بِالطَّاهِرِ، وَلَا يُقَالُ: تَعْفِيشُ الْمَسَاجِدِ مَكْرُوهٌ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّقْذِيرُ أَشَدُّ مِنْ التَّعْفِيشِ. (تَنْبِيهٌ) تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى قَتْلِ مَا ذُكِرَ فِي الْمَسْجِدِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ طَرْحِهِ فِيهِ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ طَرْحَ مَا ذُكِرَ فِي الْمَسْجِدِ حَيًّا لَا حَرَجَ فِيهِ بِالنِّسْبَةِ لِلْبُرْغُوثِ، وَأَمَّا الْقَمْلَةُ فَاخْتَارَ اللَّقَانِيُّ حُرْمَةَ طَرْحِهَا فِيهِ لِأَنَّهَا تُؤْذِي الْغَيْرَ، وَاخْتَارَ الْأُجْهُورِيُّ الْكَرَاهَةَ مَعَ الِاتِّفَاقِ عَلَى حُرْمَةِ طَرْحِ قِشْرِهَا فِيهِ لِحُرْمَةِ وَضْعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ وَلَوْ مَعْفُوًّا عَنْهَا وَقِشْرُهَا نَجِسٌ، وَأَمَّا طَرْحُهَا حَيَّةً خَارِجَ الْمَسْجِدِ فَقَدْ نَصَّ خَلِيلٌ عَلَى الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ: وَفِيهَا يَجُوزُ طَرْحُهَا خَارِجَهُ وَاسْتُشْكِلَ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ كَرَاهَةِ الْعَمَلِ كَالْخِيَاطَةِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِي الْمَسَاجِدِ عَدَمُ جَوَازِ الْبَيَاتِ بِهَا مُطْلَقًا قَالَ: (وَأَرْخَصَ) أَيْ سَهَّلَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (فِي مَبِيتِ الْغُرَبَاءِ فِي مَسَاجِدِ الْبَادِيَةِ) لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَبِيتُونَ فِيهِ مِنْ نَحْوِ فُنْدُقٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ مَسَاجِدِ الْحَاضِرَةِ فَلَا تَرْخِيصَ فِي الْبَيَاتِ بِهَا لِلْغُرَبَاءِ إلَّا أَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 الْحَمَّامِ إلَّا الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ وَلَا يُكْثِرُ وَيَقْرَأُ الرَّاكِبُ وَالْمُضْطَجِعُ وَالْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ وَيُكْرَهُ ذَلِكَ لِلْمَاشِي إلَى السُّوقِ وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ لِلْمُتَعَلِّمِ وَاسِعٌ وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعٍ فَذَلِكَ حَسَنٌ وَالتَّفَهُّمُ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ أَفْضَلُ وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - لَمْ يَقْرَأْهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ وَيُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ أَنْ يَقُولَ عِنْدَ رُكُوبِهِ بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمُنْقَلَبِ وَسُوءِ الْمَنْظَرِ فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ   [الفواكه الدواني] لَا يَجِدُوا مَحِلًّا يَبِيتُونَ بِهِ وَإِلَّا جَازَ، لِأَنَّ الضَّرُورَاتِ تُبَاحُ لِأَجْلِهَا الْمَحْظُورَاتُ فَكَيْفَ بِالْمَكْرُوهِ كَمَا هُنَا وَذَلِكَ كَمَا فِي مِصْرَ الْيَوْمَ فَإِنَّ بَعْضَ الْغُرَبَاءِ لَا يُمْكِنُهُ الْبَيَاتُ فِي الْفُنْدُقِ إلَّا إذَا كَانَ لَهُ دَابَّةٌ أَوْ مِنْ ذَوِي الْمَالِ بِحَيْثُ يَسْتَطِيعُ كِرَاءَ مَحَلٍّ، وَأَمَّا غَيْرُ مَالِكٍ كَالشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُ أَجَازَ الْبَيَاتَ فِي الْمَسَاجِدِ لِلْغُرَبَاءِ وَلَوْ فِي الْحَاضِرَةِ، بِدَلِيلِ أَهْلِ الصُّفَّةِ الَّذِينَ كَانُوا فِي مَسْجِدِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَإِنَّهُمْ كَانُوا مُقِيمِينَ بِهِ لَيْلًا نَهَارًا. وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ أَهْلَ الصُّفَّةِ كَانُوا مُشْتَغِلِينَ بِالْعِبَادَةِ، وَيَجُوزُ لِمَنْ تَجَرَّدَ لِلْعِبَادَةِ السُّكْنَى فِي الْمَسْجِدِ فَضْلًا عَنْ الْبَيَاتِ. (تَنْبِيهٌ) نَصَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى بَيَاتِ الْغَرِيبِ فِي الْمَسْجِدِ وَسَكَتَ عَنْ دَابَّتِهِ وَالْحُكْمُ فِيهَا أَنَّهُ إنْ لَمْ يَجِدْ مَحَلًّا يَحْفَظُهَا وَلَوْ بِأُجْرَةٍ وَخَافَ عَلَيْهَا مِنْ اللُّصُوصِ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُدْخِلَهَا الْمَسْجِدَ، كَمَا أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ اتِّخَاذُ إنَاءٍ يَبُولُ فِيهِ إنْ كَانَ يَخَافُ عِنْدَ خُرُوجِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ مِنْ نَحْوِ سَبُعٍ أَوْ سَبْقِ بَوْلِهِ، لِأَنَّ الْمَسَاجِدَ مَوْضُوعَةٌ لِلْعِبَادَةِ لِتَحْصِيلِ الثَّوَابِ لِفَاعِلِهَا، وَجَمِيعُ مَا ذَكَرْنَاهُ مُحَصِّلٌ الثَّوَابَ. [آدَابِ قَارِئِ الْقُرْآنِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي آدَابِ قَارِئِ الْقُرْآنِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ يُكْرَهُ (أَنْ يَقْرَأَ) الشَّخْصُ (فِي الْحَمَّامِ) أَوْ غَيْرِهِ مِنْ مَوَاضِعِ الْأَقْذَارِ شَيْئًا مِنْ الْقُرْآنِ لِأَنَّ مَوَاضِعَ الْأَقْذَارِ مَحَلُّ الشَّيَاطِينِ يُنَزَّهُ الْقُرْآنُ عَنْهَا، وَلَمَّا ضَمَّنَ يَقْرَأُ مَعْنَى يَتَقَرَّبُ قَالَ: (إلَّا الْآيَاتِ الْيَسِيرَةَ) وَقَوْلُهُ: (وَلَا يُكْثِرُ) زِيَادَةُ إيضَاحٍ لِمَا قَبْلَهُ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ اشْتِغَالِ الرَّاكِبِ وَمَا مَعَهُ عَدَمُ جَوَازِ قِرَاءَتِهِ قَالَ: (وَ) يَجُوزُ أَنْ (يَقْرَأَ الرَّاكِبُ وَالْمُضْطَجِعُ وَالْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إلَى قَرْيَةٍ) أَوْ إلَى حَائِطِهِ لِأَنَّ الْقُرْآنَ أَعْظَمُ الْأَذْكَارِ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} [النساء: 103] وَيَحْصُلُ لِلْمَاشِي مِنْ قَرْيَةٍ إلَى أُخْرَى تَوْنِيسِ الْقَلْبِ بِالْقِرَاءَةِ وَالْأَمْنُ مِنْ كُلِّ مَخُوفٍ. (وَيُكْرَهُ ذَلِكَ) الْمَذْكُورُ مِنْ فِعْلِ الْقِرَاءَةِ (لِلْمَاشِي إلَى السُّوقِ) حَيْثُ كَانَ فِي الطَّرِيقِ إنية الْأَقْذَارِ كَأَسْوَاقِ الْحَاضِرَةِ وَلِكَثْرَةِ الْمَارِّينَ بِهَا فَيَفُوتُهُ التَّدَبُّرُ بِالِاشْتِغَالِ بِالْمَارِّ بِهَا، وَرُبَّمَا يُنْسَبُ إلَى الرِّيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْعِلَلِ الْمُقْتَضِيَةِ لِلْكَرَاهَةِ، وَسَوَاءٌ كَانَتْ الْقِرَاءَةُ سِرًّا أَوْ جَهْرًا، وَسَوَاءٌ كَانَ الْقَارِئُ مُتَعَلِّمًا أَوْ غَيْرَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ بِقَرِينَةٍ قَوْلِهِ: (وَقَدْ قِيلَ إنَّ ذَلِكَ) أَيْ الْمَذْكُورَ مِنْ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ الْكَثِيرَةِ فِي الْحَمَّامِ أَوْ فِي حَالِ الْمَشْيِ إلَى السُّوقِ (لِلْمُتَعَلِّمِ وَاسِعٌ) أَيْ جَائِزٌ وَهُوَ ضَعِيفٌ وَلِذَا حَكَاهُ بِقِيلِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَوَاضِعِ كَرَاهَةِ الْقِرَاءَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ صِفَتِهَا الْمَطْلُوبَةِ وَغَيْرِهَا بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ فِي سَبْعِ) لَيَالٍ (فَذَلِكَ حَسَنٌ) أَيْ مَنْدُوبٌ (وَ) لَكِنَّ (التَّفَهُّمَ مَعَ قِلَّةِ الْقِرَاءَةِ) وَلَوْ زَادَتْ مُدَّتُهَا عَلَى سَبْعِ لَيَالٍ (أَفْضَلُ) مِنْ قِرَاءَتِهِ مِنْ غَيْرِ تَأَمُّلٍ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ قِرَاءَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مُتَرَسِّلَةً بِحَيْثُ لَوْ شَاءَ السَّامِعُ عَدَّ حُرُوفِ مَا يَقْرَؤُهُ لَأَمْكَنَهُ، لِأَنَّ الْمُتَأَمِّلَ فِي قِرَاءَتِهِ يَقِفُ عَلَى أَحْكَامِهِ وَمَوَاعِظِهِ وَعَلَى وَعْدِهِ وَوَعِيدِهِ، وَهَذَا يَحْمِلُهُ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَهَذَا لَا يُنَافِي حُصُولَ ثَوَابِ الْقِرَاءَةِ وَإِنْ لَمْ يَفْهَمْ الْقَارِئُ الْمَعْنَى خِلَافًا لِفَتْوَى بَعْضِ الشُّيُوخِ. ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ أَفْضَلِيَّةِ الْقِرَاءَةِ الْقَلِيلَةِ عَلَى الْكَثِيرَةِ مَعَ التَّدَيُّنِ بِقَوْلِهِ: (وَرُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَقْرَأْهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثٍ» مَعَ مَعْرِفَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِمَعَانِيهِ وَفَهْمِ مَا دَلَّ عَلَيْهِ وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَقْرَأْهُ فِي أَقَلَّ مِنْ ثَلَاثِ لَيَالٍ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا مَا قِيلَ إنَّ بَعْضَ الْأَكَابِرِ كَانَ يَخْتِمُ الْقُرْآنَ فِي لَيْلَةٍ لِأَنَّ الْأَوْلِيَاءَ يُفْسَحُ لَهُمْ فِي الزَّمَنِ كَمَا تُطْوَى لَهُمْ الْأَرْضُ، وَكَرَامَاتُهُمْ لَا يُنَازِعُ فِيهَا إلَّا مَحْرُومٌ سَوَاءٌ كَانُوا أَحْيَاءً أَوْ أَمْوَاتًا. (تَتِمَّةٌ) تَشْتَمِلُ عَلَى ثَوَابِ الْقَارِئِ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ لِلْقَارِئِ بِغَيْرِ طَهَارَةٍ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَبِطَهَارَةٍ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ أَوْ فِيهَا إنْ صَلَّى قَاعِدًا بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ مُصَلِّيًا قَائِمًا يَكُونُ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَالْقِرَاءَةُ فِي الْمُصْحَفِ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْأَدْعِيَةِ الَّتِي تُطْلَبُ عِنْدَ إرَادَةِ السَّفَرِ بِقَوْلِهِ: (يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ) أَيْ مَرِيدُ السَّفَرِ (أَنْ يَقُولَ عِنْدَ رُكُوبِهِ) أَيْ عِنْدَ وَضْعِ رِجْلِهِ فِي الرِّكَابِ (بِسْمِ اللَّهِ اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ) أَيْ الْحَافِظُ (فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ) أَيْ الْمُتَكَفِّلُ بِأُمُورِهِمْ عَنِّي (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ وَعْثَاءِ) بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَالْمُثَلَّثَةِ وَأَلِفٍ مَمْدُودَةٍ أَيْ مِنْ مَشَقَّةِ (السَّفَرِ وَ) مِنْ (كَآبَةِ) بِالْكَافِ الْمَفْتُوحَةِ بَعْدَهَا مَدَّةٌ أَيْ سُوءُ (الْمُنْقَلَبُ) بِفَتْحِ اللَّامِ أَيْ الرُّجُوعُ أَيْ أَعُوذُ بِك مِنْ الرُّجُوعِ خَائِبًا مِنْ غَيْرِ قَضَاءِ حَاجَتِي. (وَ) مِنْ (سُوءِ الْمَنْظَرِ) بِفَتْحِ الظَّاءِ أَيْ مَا يُسِيءُ النَّظَرُ إلَيْهِ (فِي الْأَهْلِ وَالْمَالِ) وَفِي بَعْضِ النُّسَخِ (وَالْوَلَدِ) اسْتَعَاذَ بِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مِنْ رُجُوعِهِ إلَى أَهْلِهِ فِي حَالَةٍ يَحْصُلُ لَهُ فِيهَا الْحُزْنُ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَهْلُ الصَّحِيحِ وَغَيْرُهُمْ وَإِنْ وَقَعَ فِي لَفْظِهِ اخْتِلَافٌ. (وَ) يُسْتَحَبُّ لِمَنْ تَلَبَّسَ بِالسَّفَرِ أَنْ (يَقُولَ) عِنْدَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 وَيَقُولُ الرَّاكِبُ إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ وَتُكْرَهُ التِّجَارَةُ إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ وَبَلَدِ السُّودَانِ وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» وَلَا يَنْبَغِي أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا سَفَرَ يَوْمٍ فَأَكْثَرَ إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ مَالِكٍ فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَذَلِكَ لَهَا.   [الفواكه الدواني] مَشْيِهِ إنْ كَانَ مَاشِيًا وَيَقُولَ (الرَّاكِبُ إذَا اسْتَوَى عَلَى الدَّابَّةِ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا بِهِ مُقْرِنِينَ) أَيْ مُطِيقِينَ وَإِنْ كَانَ رَاكِبًا السَّفِينَةَ يَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} [الزخرف: 14] أَيْ رَاجِعُونَ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ مَا يُسْتَحَبُّ لِلْمُسَافِرِ ذِكْرُهُ شَرَعَ فِي أَحْكَامٍ تَتَعَلَّقُ بِالسَّفَرِ بِقَوْلِهِ: (وَتُكْرَهُ التِّجَارَةُ) الَّتِي يُرِيدُ السَّفَرُ بِهَا (إلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ) الْمُرَادُ الْكَافِرُ لِمَا فِيهِ مِنْ إذْلَالِ دِينِ التَّاجِرِ وَالتَّغْرِيرِ بِنَفْسِهِ، فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ كَانَ جُرْحَةً فِي شَهَادَتِهِ. قَالَ خَلِيلٌ فِي قَوَادِحِ الشَّهَادَةِ: وَتِجَارَةُ الْأَرْضِ حَرْبٌ لِأَنَّ الْمُقِيمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ تَجْرِي عَلَيْهِ أَخْلَاقُهُمْ وَرُبَّمَا يَتَطَبَّعُ بِطِبَاعِهِمْ، وَلَا يَأْمَنُ مِنْ جَبْرِهِ عَلَى الْكُفْرِ أَوْ عَلَى شُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ أَكْلِ لَحْمِ الْخِنْزِيرِ مِنْ الْمَعَاصِي. (وَ) كَذَا تُكْرَهُ التِّجَارَةُ إلَى (بَلَدِ السُّودَانِ) الْكُفَّارِ وَيَحْتَمِلُ وَلَوْ غَيْرُ كُفَّارٍ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَخَاطِرِ بِالنَّفْسِ وَالْمَالِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَعَلَى الثَّانِي عَكْسُهُ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ السَّفَرَ إلَى بِلَادِ الْعَدُوِّ وَلِنَحْوِ فَكِّ أَسِيرٍ لَا كَرَاهَةَ فِيهِ، كَمَا لَوْ أَدْخَلَتْهُ الرِّيحُ بَلَدَهُمْ غَلَبَةً، وَالْكَرَاهَةُ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنْزِيهِيَّةٌ، إلَّا أَنْ يَكُونَ يَغْلِبُ عَلَى ظَنِّهِ ارْتِكَابُ الْمُحَرَّمِ عِنْدَهُمْ، وَلَا يُقَالُ: يُشْكِلُ عَلَى ذَلِكَ جَعْلُهُ مِنْ قَوَادِحِ الشَّهَادَةِ مُطْلَقًا، لِأَنَّا نَقُولُ: الْقَدْحُ يَكُونُ بِالْمَكْرُوهِ وَبِكُلِّ مُزَوَّرٍ وَلَوْ مُبَاحًا فِي الْأَصْلِ. وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةً لِارْتِكَابِ الْمَعْصِيَةِ ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا يُنَفِّرُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «السَّفَرُ قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ» وَتَمَامُهُ: «يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ نَوْمَهُ وَطَعَامَهُ وَشَرَابَهُ فَإِذَا قَضَى أَحَدُكُمْ نَهِمَتَهُ مِنْ وُجْهَتِهِ فَلْيُعَجِّلْ الْأَوْبَةَ إلَى أَهْلِهِ» . وَقَوْلُهُ: قِطْعَةٌ مِنْ الْعَذَابِ يَحْتَمِلُ عَذَابَ الدُّنْيَا وَيَحْتَمِلُ مَا هُوَ أَعَمُّ لِأَنَّ الدُّنْيَا مُمْتَزِجَةٌ مَعَ الْآخِرَةِ، لِأَنَّ كُلَّ خَيْرٍ وَسُرُورٍ فِي الدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ الْجَنَّةِ، وَكُلَّ هَمٍّ وَغَمٍّ وَعَذَابٍ فِي الدُّنْيَا إنَّمَا هُوَ مِنْ النَّارِ، وَإِنَّمَا كَانَ قِطْعَةً مِنْ الْعَذَابِ لِأَنَّ فِيهِ فُرْقَةَ الْأَحْبَابِ وَمُجَاهِدَةَ النَّفْسِ وَتَشْتِيتَ الْخَاطِرِ وَمُذَكِّرٌ لِفِرَاقِ الدُّنْيَا، وَيَلْزَمُ عَلَيْهِ مُخَالَطَةُ مَنْ لَا تُشْتَهَى مُخَالَطَتُهُ، وَكَفَى بِمَا ذُكِرَ عَذَابًا فِي الْحِسِّ وَالْمَعْنَى حَتَّى قَالَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْلَا أَنِّي أَزِيدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَقُلْت الْعَذَابُ قِطْعَةٌ مِنْ السَّفَرِ، وَقَوْلُهُ فِي بَقِيَّةِ الْحَدِيثِ: «يَمْنَعُ أَحَدَكُمْ مِنْ نَوْمِهِ» إلَخْ الْمُرَادُ يَمْنَعُهُ كَمَالُ نَوْمِهِ وَلَذَّةُ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ، وَالنَّهِمَةُ الْمُرَادُ بِهَا الْحَاجَةُ. وَلَمَّا كَانَ السَّفَرُ مَظِنَّةَ الْخَلْوَةِ وَالْمُخَالَطَةِ بِالْأَجَانِبِ قَالَ: (وَلَا يَنْبَغِي) بِمَعْنَى لَا يَحِلُّ (أَنْ تُسَافِرَ الْمَرْأَةُ مَعَ غَيْرِ ذِي مَحْرَمٍ مِنْهَا) كَأَبِيهَا أَوْ أَخِيهَا وَمَنْ فِي حُكْمِهَا كَزَوْجِهَا (سَفَرَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَأَكْثَرَ) سَوَاءً فِي بَرٍّ أَوْ بَحْرٍ، وَلَا مَفْهُومَ لِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرَّجُلِ أَنْ يَخْلُوَ بِامْرَأَةٍ لَيْسَتْ مِنْهُ بِمَحْرَمٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ حَدِيثٌ رَوَاهُ أَبُو هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَوَرَدَ بِرِوَايَاتٍ كَثِيرَةٍ سِوَى هَذِهِ، وَحُمِلَ اخْتِلَافُهَا عَلَى اخْتِلَافِ السَّائِلِينَ، وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ مَفْهُومَ الرِّوَايَاتِ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، وَأَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلْمَرْأَةِ السَّفَرُ مَعَ الْأَجْنَبِيِّ مُطْلَقًا، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ شُمُولُهُ لِلشَّابَّةِ وَالْمُتَجَالَّةِ وَقَيَّدَهُ بَعْضُ الشُّيُوخِ لِابْنِ رُشْدٍ بِالشَّابَّةِ، وَأَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَيَجُوزُ لَهَا ذَلِكَ، وَيَنْبَغِي حَمْلُهُ عَلَى الَّتِي انْقَطَعَ أَرَبُ الرِّجَالِ مِنْهَا جُمْلَةً وَسَافَرَتْ مَعَ مَنْ مِثْلُهُ لَا يُتَوَهَّمُ مَيْلُهُ إلَيْهَا ثُمَّ اسْتَثْنَى مِنْ مَنْعِ سَفَرِ الْمَرْأَةِ مَعَ غَيْرِ مَحْرَمٍ مَسْأَلَةً بِقَوْلِهِ: (إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ خَاصَّةً فِي قَوْلِ مَالِكٍ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَيْثُ كَانَ سَفَرُهَا (فِي رُفْقَةٍ مَأْمُونَةٍ إنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ فَذَلِكَ) جَائِزٌ (لَهَا) قَالَ خَلِيلٌ مُشْبِهًا فِي الْوُجُوبِ: كَرُفْقَةٍ أُمِنَتْ بِفَرْضٍ أَيْ فَيَجُوزُ لَهَا أَنْ تُسَافِرَ مَعَهَا وَالْفَرْضُ يَشْمَلُ كُلَّ فَرْضٍ، كَمَا إذَا أَسْلَمَتْ بِدَارِ الْحَرْبِ أَوْ أُسِرَتْ وَأَمْكَنَهَا الْهُرُوبُ، وَيَشْمَلُ حَجَّ النَّذْرِ وَالْقَضَاءِ وَالْحِنْثِ وَالرُّجُوعِ إلَى الْمَنْزِلِ لِإِتْمَامِ الْعِدَّةِ إذَا خَرَجَتْ ضَرُورَةً فَمَاتَ أَوْ طَلَّقَهَا، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ: إلَّا فِي حَجِّ الْفَرِيضَةِ لَا مَفْهُومَ لَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الرُّفْقَةِ فَهَلْ يَكْفِي فِيهَا مَحْضُ النِّسَاءِ أَوْ مَحْضُ الرِّجَالِ أَوْ لَا بُدَّ مِنْ الْمَجْمُوعِ، تَرَدُّدٌ لِلشُّيُوخِ فِي فَهْمِ قَوْلِ الْإِمَامِ تَخْرُجُ مَعَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ هَلْ الْوَاوُ عَلَى بَابِهَا وَلَا بُدَّ مِنْ مَجْمُوعِ الصِّنْفَيْنِ أَوْ الْوَاوُ بِمَعْنَى أَوْ فَيَكْفِي أَحَدُ الصِّنْفَيْنِ. قَالَ خَلِيلٌ: وَفِي الِاكْتِفَاءِ بِنِسَاءٍ أَوْ رِجَالٍ أَوْ بِالْمَجْمُوعِ تَرَدُّدٌ، وَحُكْمُ الْخُنْثَى الْمُشْكِلِ حُكْمُ الْمَرْأَةِ، وَإِذَا امْتَنَعَ الْمَحْرَمُ أَوْ الزَّوْجُ مِنْ الْخُرُوجِ مَعَهَا إلَّا بِأُجْرَةٍ لَزِمَهَا، وَمَفْهُومُ حَجِّ الْفَرِيضَةِ أَنَّ حَجَّ النَّفْلِ أَوْ غَيْرَهُ مِنْ الْأَسْفَارِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ لَا يَحِلُّ لَهَا السَّفَرُ مَعَ الرُّفْقَةِ الْمَأْمُونَةِ وَإِنَّمَا يَحِلُّ لَهَا مَعَ الْمَحْرَمِ أَوْ الزَّوْجِ، وَكَلَامُ الْمُصَنِّفِ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُوَافِقٌ لِلرَّاجِحِ، وَإِنَّمَا قَصَرَهَا عَلَى مَالِكٍ لِكَوْنِ الْمَسْأَلَةِ مَنْسُوبَةً لَهُ، لَا لِلتَّبَرِّي مِنْ قَوْلِهِ فِيهَا كَمَا تَوَهَّمَهُ بَعْضُ الشُّرَّاحِ. ثُمَّ شَرَعَ فِي أُمُورٍ مُهِمَّةٍ يَحْتَاجُ الشَّخْصُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 بَابٌ فِي التَّعَالُجِ وَذِكْرِ الرُّقَى وَالطِّيَرَةِ وَالنُّجُومِ وَالْخِصَاءِ وَالْوَسْمِ وَالْكِلَابِ وَالرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِرْقَاءِ مِنْ الْعَيْنِ وَغَيْرِهَا وَالتَّعَوُّذِ وَالتَّعَالُجِ وَشُرْبِ الدَّوَاءِ وَالْفَصْدِ وَالْكَيِّ وَالْحِجَامَةُ حَسَنَةٌ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي حُكْم التَّعَالُجِ] (بَابٌ فِي) حُكْمِ (التَّعَالُجِ) (بَابٌ فِي) حُكْمِ (التَّعَالُجِ) وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمَرَضِ بِالدَّوَاءِ (وَ) فِي (ذِكْرِ الرُّقَى) مِنْ الْعَيْنِ أَوْ اللَّدْغَةِ، وَالرُّقَى جَمْعُ رُقْيَةٍ كَالدُّمَى جَمْعُ دُمْيَةٍ وَفِي بَيَانِ مَا تَجُوزُ الرُّقْيَةُ وَمُعَالَجَةُ الْمَرَضِ بِهِ. (وَ) فِي حُكْمِ (الطِّيَرَةِ) بِكَسْرِ الطَّاءِ وَفَتْحِ الْمُثَنَّاةِ التَّحْتِيَّةِ عَلَى وَزْنِ الْعِنَبَةِ هَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِيهَا، وَحَقِيقَتُهَا الْعَمَلُ عَلَى مَا يَسْمَعُهُ الْإِنْسَانُ أَوْ يَرَاهُ أَوْ يَتَطَيَّرُ مِنْهُ. (وَ) فِي بَيَانِ مَا يَحِلُّ تَعَلُّمُهُ مِنْ (النُّجُومِ وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (الْخِصَاءِ) أَيْ الَّذِي يَجُوزُ خِصَاؤُهُ (وَ) فِي حُكْمِ (الْوَسْمِ) وَهِيَ الْكَيُّ بِالنَّارِ. (وَ) فِي ذِكْرِ مَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنْ (الْكِلَابِ) وَمَا لَا يَجُوزُ اتِّخَاذُهُ مِنْهَا. (وَ) فِي بَيَانِ حُكْمِ (الرِّفْقِ بِالْمَمْلُوكِ) أَيْ الرَّقِيقِ إذْ لَا يُسَمَّى عُرْفًا بِالْمَمْلُوكِ إلَّا الرَّقِيقُ، فَهَذِهِ ثَمَانِيَةُ أَبْوَابٍ جَمَعَهَا الْمُصَنِّفُ فِي تَرْجَمَةٍ ثُمَّ بَيَّنَ أَحْكَامَهَا مُفَصَّلَةً وَإِنْ لَمْ يُرَاعِ التَّرْتِيبَ لِتَصْدِيرِهِ بِغَيْرِ مَا بَدَأَ بِهِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِالِاسْتِرْقَاءِ مِنْ) ضَرَرِ (الْعَيْنِ) لِأَنَّ الْعَيْنَ سُمٌّ جَعَلَهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ إذَا تَعَجَّبَ مِنْ شَيْءٍ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ لَمْ يُوجَدْ مِنْهُ تَلَفُّظٌ بِتَعَجُّبٍ، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَمْ يُبَارِكْ فِيمَا تَعَجَّبَ مِنْهُ وَيَصِلُ إلَى الْمَنْظُورِ فَيَمْرَضُ أَوْ يَمُوتُ سَرِيعًا، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ بَعْضِ الْحُكَمَاءِ: إنَّ الْعَائِنَ تَنْبَعِثُ مِنْ عَيْنِهِ سُمِّيَّةٌ تَتَّصِلُ بِالْمَعِينِ فَيَهْلِكُ أَوْ يَفْسُدُ، وَأَمَّا لَوْ بَارَكَ عِنْدَ نَظَرِهِ لَمْ يُصِبْهُ شَيْءٌ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْعَائِنِ: «هَلَّا بَارَكْت» فَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مَنْ أَعْجَبَهُ شَيْءٌ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ أَنْ يُبَارِكَ لِيَأْمَنَ مِنْ الْمَحْذُورِ وَذَلِكَ بِأَنْ يَقُولَ: تَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، اللَّهُمَّ بَارِكْ فِيهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الِاسْتِرْقَاءِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى رَقَاهُ جِبْرِيلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ: بِسْمِ اللَّهِ يُبْرِيكَ، وَمِنْ كُلِّ دَاءٍ يَشْفِيك مِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ، وَمِنْ شَرِّ كُلِّ ذِي عَيْنٍ» . وَعَنْهَا أَيْضًا: «كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا اشْتَكَى قَرَأَ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ» . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ «عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ: أَنَّهُ شَكَا إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: ضَعْ يَدَك عَلَى الَّذِي تَأَلَّمَ مِنْ جَسَدِك وَقُلْ بِسْمِ اللَّهِ ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِعِزَّةِ اللَّهِ وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ، قَالَ فَفَعَلْت ذَلِكَ فَأَذْهَبَ اللَّهُ مَا كَانَ بِي مِنْ الْأَلَمِ فَلَمْ أَزَلْ آمُرُ بِهَا أَهْلِي وَغَيْرَهُمْ» . (وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِالِاسْتِرْقَاءِ مِنْ كُلِّ دَاءٍ (غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرُ الْعَيْنِ كَالرَّمَدِ وَالصُّدَاعِ وَاللَّدْغَةِ لِأَنَّ كَلَامَ اللَّهِ فِيهِ الشِّفَاءُ. قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] {فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] وَمِنْ أَسْمَاءِ الْفَاتِحَةِ الشَّافِيَةُ. (تَنْبِيهٌ) تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِلَا بَأْسَ يَقْتَضِي أَنَّ الْأَحْسَنَ عَدَمُ الِاسْتِرْقَاءِ وَتُسَلِّمُ الْأَمْرَ إلَى اللَّهِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِغَيْرِ حِسَابٍ وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَرْقُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ» . فَفِي هَذَا ذَمُّ الِاسْتِرْقَاءِ. وَحَدِيثُ: «أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَرْقِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» يَقْتَضِي مَدْحَ الِاسْتِرْقَاءِ، وَأَنَّ فِعْلَهُ أَحْسَنُ مِنْ تَرْكِهِ. وَالْجَوَابُ عَنْ تِلْكَ الْمُعَارَضَةِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الِاسْتِرْقَاءَ الَّذِي يَحْسُنُ تَرْكُهُ الِاسْتِرْقَاءُ بِكَلَامِ الْكُفَّارِ أَوْ الْأَلْفَاظِ الْمَجْهُولَةِ الَّتِي لَا يُعْرَفُ مَعْنَاهَا كَالْأَلْفَاظِ الْعَجَمِيَّةِ، وَالِاسْتِرْقَاءُ الْحَسَنُ مَا كَانَ بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ أَوْ الْأَسْمَاءِ وَالْكَلِمَاتِ الْمَعْرُوفَةِ الْمَعَانِي. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الِاسْتِرْقَاءَ الْمُسْتَحْسَنُ تَرْكُهُ فِي حَقِّ مَنْ لَهُ قُوَّةٌ عَلَى الصَّبْرِ عَلَى ضَرَرِ الْمَرَضِ كَمَا قِيلَ إنَّهُ قِيلَ لِلصِّدِّيقِ: نَدْعُو لَك طَبِيبًا، فَقَالَ: الطَّبِيبُ أَمْرَضَنِي، وَالْمُسْتَحْسَنُ فِعْلُهُ فِي حَقِّ الضَّعِيفِ، وَلَا يَكُونُ الِاسْتِرْقَاءُ مُنَافِيًا لِلتَّوَكُّلِ عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ الْخِلَافِ الْمُشَارِ إلَيْهِ فِي الْجَوْهَرَةِ بِقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 وَالْكُحْلُ لِلتَّدَاوِي لِلرِّجَالِ جَائِزٌ وَهُوَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ وَلَا يُتَعَالَجُ بِالْخَمْرِ وَلَا بِالنَّجَاسَةِ وَلَا بِمَا فِيهِ مَيْتَةٌ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا   [الفواكه الدواني] فِي الِاكْتِسَابِ وَالتَّوَكُّلِ اُخْتُلِفَ ... وَالرَّاجِحُ التَّفْصِيلُ حَسْبَ مَا عُرِفْ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ عَلَى غَايَةٍ مِنْ التَّوَكُّلِ وَكَانَ يَسْتَعِدُّ لِلْحَرْبِ، وَقَالَ لِصَاحِبِ النَّاقَةِ: «اعْقِلْهَا وَتَوَكَّلْ» . (وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِاسْتِعْمَالِ (التَّعَوُّذِ) أَوْ التَّحَصُّنِ بِشَيْءٍ مِنْ الْقُرْآنِ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْأَسْمَاءِ الْمَفْهُومَةِ الْمَعْنَى مِنْ كَيْدِ الشَّيْطَانِ. قَالَ تَعَالَى: {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [النحل: 98] وَقَالَ: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق: 1] {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ} [الفلق: 2] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ الْآيَاتِ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ وَيَنْفُثُ فِي يَدِهِ وَيَمْسَحُ بِهَا مَا بَلَغَ مِنْ جَسَدِهِ. (وَ) كَذَا لَا بَأْسَ بِارْتِكَابِ (التَّعَالُجِ) وَهُوَ مُحَاوَلَةُ الْمَرَضِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يُنَزِّلْ دَاءً إلَّا أَنْزَلَ لَهُ شِفَاءً» فَإِنْزَالُ الدَّوَاءِ أَمَارَةُ جَوَازِ التَّدَاوِي، وَلَكِنْ لَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الْعَالِمِ بِأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ، وَمَا يُنَاسِبُ كُلَّ مَرَضٍ لِئَلَّا يَكُونَ ضَرَرُهُ أَكْثَرَ مِنْ نَفْعِهِ وَلِذَلِكَ قَالُوا: إنْ عَالَجَ الْعَالِمُ بِالطِّبِّ الْمَرِيضَ وَمَاتَ مِنْ مَرَضِهِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ الْجَاهِلِ أَوْ الْمُقَصِّرِ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ مَا نَشَأَ عَنْ فِعْلِهِ، وَيَجُوزُ التَّعَالُجُ بِكُلِّ مَا يَرَاهُ الْعَالِمُ بِالطِّبِّ نَافِعًا وَمُنَاسِبًا لِصَاحِبِ الْمَرَضِ مِنْ الْأَسْمَاءِ. (وَشُرْبُ الدَّوَاءِ) بِالْمَدِّ مَعَ فَتْحِ الدَّالِ أَوْ كَسْرِهَا. (وَ) بِنَحْوِ (الْفَصْدِ) وَهُوَ قَطْعُ بَعْضِ الْعُرُوقِ لِخُرُوجِ الدَّمِ الْفَاسِدِ. (وَالْكَيِّ) الَّذِي هُوَ الْحَرْقُ بِالنَّارِ فَقَدْ كَوَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْضَ الصَّحَابَةِ وَهُوَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ حِينَ أَصَابَتْهُ اللُّوَقَةُ وَاكْتَوَى بَعْدَهُ جَمْعٌ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ يَجُوزُ التَّعَالُجُ بِهَا كَمَا يَجُوزُ بِغَيْرِهَا، وَإِنَّمَا نَصَّ عَلَى التَّعَالُجِ بِهَا مَعَ جَوَازِهِ بِغَيْرِهَا أَيْضًا لِمَا فِي بَعْضِهَا مِنْ الْخِلَافِ، فَلَا بَأْسَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا لِلْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ بِخِلَافِهِ بِالنِّسْبَةِ لِلِاسْتِرْقَاءِ وَالتَّعَوُّذِ فَإِنَّهُ لِمَا هُوَ خَيْرٌ مِنْ غَيْرِهِ، لِأَنَّ الِاسْتِرْقَاءَ وَالتَّعَوُّذَ مُسْتَحَبَّانِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الشُّيُوخِ. (وَالْحِجَامَةُ) وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ لِكُلِّ أَحَدٍ (حَسَنَةٌ) أَيْ مُسْتَحَبَّةٌ عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهَا لِمَا فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «احْتَجَمَ وَأَمَرَ بِدَفْعِ الْأَجْرِ لِلْحَاجِمِ» . وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «شِفَاءُ أُمَّتِي فِي ثَلَاثٍ» فَذَكَرَ مِنْهَا شَرْطَةَ مِحْجَمٍ، وَتَجُوزُ فِي كُلِّ أَيَّامِ السَّنَةِ حَتَّى السَّبْتِ وَالْأَرْبِعَاءِ، بَلْ كَانَ مَالِكٌ يَتَعَمَّدُ الْحِجَامَةَ فِيهَا، وَلَا يَكْرَهُ شَيْئًا مِنْ الْأَدْوِيَةِ فِي هَذَيْنِ الْيَوْمَيْنِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ الْأَحَادِيثِ فِي التَّحْذِيرِ مِنْ الْحِجَامَةِ فِيهِمَا فَلَمْ يَصِحَّ عِنْدَ مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَعَلَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا نَبَّهَ عَلَى حُسْنِ الْحِجَامَةِ مَعَ إيهَامِهِ عَدَمَ اسْتِحْسَانِ الِاسْتِرْقَاءِ وَالتَّعَوُّذِ مَعَ أَنَّهُمَا كَذَلِكَ، دَفْعًا لِمَا قَدْ يُتَوَهَّمُ مِنْ أَنَّهَا كَالْكَيِّ وَالْفَصْدِ فِي الْجَوَازِ الْمُسْتَوِي لِوُقُوعِهَا بَعْدَهُمَا، وَأَفْضَلُ مَا يُتَعَالَجُ بِهِ الْحَمِيَّةُ، فَقَدْ ذَكَرَ رَجُلٌ عِنْدَ هَارُونَ الرَّشِيدِ حِينَ سَأَلَهُ نَصْرَانِيٌّ: هَلْ تَرَكَ نَبِيُّكُمْ شَيْئًا مِنْ عِلْمِ الْأَبَدَانِ؟ وَهَلْ فِي كِتَابِكُمْ شَيْءٌ مِنْهُ؟ فَقَالَ الرَّجُلُ: فِي كِتَابِنَا شَطْرُ آيَةٍ: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا} [الأعراف: 31] وَمِنْ كَلَامِ نَبِيِّنَا كَلِمَاتٌ: «الْمَعِدَةُ بَيْتُ الدَّاءِ، وَالْحَمِيَّةُ رَأْسُ الدَّوَاءِ، وَأَصْلُ كُلِّ دَاءٍ الْبُرْدَةُ» قَالَ النَّصْرَانِيُّ: مَا تَرَكَ كِتَابُكُمْ وَلَا نَبِيُّكُمْ لِجَالِينُوسَ طِبًّا. (فَوَائِدُ تَتَعَلَّقُ بِالْحِجَامَةِ) مِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ أَرَادَ الْحِجَامَةَ أَنْ لَا يَقْرَبَ النِّسَاءَ قَبْلَ ذَلِكَ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَبَعْدَهُ كَذَلِكَ، وَمِثْلُ الْحِجَامَةِ فِي ذَلِكَ الْفَصَادَةُ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ إذَا أَرَادَ الْحِجَامَةَ فِي الْغَدِ يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ يَتَعَشَّى فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ عِنْدَ الْعَصْرِ، وَإِذَا كَانَ بِهِ مِرَّةٌ بِكَسْرِ الْمِيمِ فَلْيَذُقْ شَيْئًا قَبْلَ حِجَامَتِهِ خِيفَةَ أَنْ يَغْلِبَ عَلَى عَقْلِهِ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ دُخُولُ الْحَمَّامِ فِي يَوْمِهِ ذَلِكَ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْكُلَ مَالِحًا إثْرَ الْحِجَامَةِ فَإِنَّهُ يُخَافُ مِنْهُ الْقُرُوحُ وَالْجَرَبُ، نَعَمْ يُسْتَحَبُّ لَهُ إثْرَهَا الْحُلْوُ لِيَسْكُنَ مَا بِهِ ثُمَّ يَحْسُو شَيْئًا مِنْ الْمَرَقَةِ وَيَتَنَاوَلُ شَيْئًا مِنْ الْحُلْوِ إنْ قَدَرَ، وَيَنْبَغِي لَهُ تَرْكُ اللَّبَنِ بِسَائِرِ أَصْنَافِهِ وَلَوْ رَائِبًا، وَيُقَلِّلُ شُرْبَ الْمَاءِ فِي يَوْمِهِ. وَمِنْهَا: اجْتِنَابُ الْحِجَامَةِ فِي نَقْرَةِ الْقَفَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا تُوَرِّثُ النِّسْيَانَ، وَالنَّافِعَةُ فِي وَسَطِ الرَّأْسِ لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «إنَّهَا فِي هَذَا الْمَحَلِّ نَافِعَةٌ مِنْ وَجَعِ الرَّأْسِ وَالْأَضْرَاسِ وَالنُّعَاسِ وَالْبَرَصِ وَالْجُذَامِ وَالْجُنُونِ» وَلَا تَنْبَغِي الْمُدَاوَمَةُ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا تَضُرُّ. وَمِنْهَا: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ تَرْكُ الْحِجَامَةِ فِي زَمَنِ شِدَّةِ الْحُرِّ فِي الصَّيْفِ، وَمِثْلُهُ شِدَّةُ الْبَرْدِ فِي الشِّتَاءِ، وَأَحْسَنُ زَمَانِهَا الرَّبِيعُ، وَخَيْرُ أَوْقَاتِهَا مِنْ الشَّهْرِ عِنْدَ أَخْذِهِ فِي النُّقْصَانِ قَبْلَ انْتِهَاءِ آخِرِهِ. (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِاسْتِعْمَالِ (الْكُحْلِ) الْإِثْمِدِ (لِلتَّدَاوِي) مِنْ مَرَضِ الْعَيْنِ (لِلرِّجَالِ) وَيَحْتَمِلُ رَفْعُ الْكُحْلِ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَالْخَبَرُ مَحْذُوفٌ وَالتَّقْدِيرُ وَالْكُلُّ بِمَعْنَى الِاكْتِحَالِ لِلتَّدَاوِي حَسَنٌ لِلرِّجَالِ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا مَا قَبْلَهُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْحِجَامَةُ حَسَنَةٌ، وَمَفْهُومٌ لِلتَّدَاوِي أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلرِّجَالِ فِعْلُهُ عَلَى أَحَدِ قَوْلَيْنِ وَلِمَالِكٍ قَوْلٌ آخَرُ جَوَازُهُ، وَعَنْ الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سُنَّةٌ لِمَا رُوِيَ مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «كَانَ لَهُ مُكْحُلَةٌ يَكْتَحِلُ مِنْهَا عِنْدَ النَّوْمِ ثَلَاثًا فِي كُلِّ عَيْنٍ» وَعَلَّلَ الْأَوَّلَ بِقَوْلِهِ: (وَهُوَ) أَيْ الِاكْتِحَالُ بِالْإِثْمِدِ (مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ) فَيَجُوزُ لَهُنَّ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ، وَيَحْرُمُ عَلَى الرِّجَالِ لِغَيْرِ ضَرُورَةٍ اسْتِعْمَالُ مَا هُوَ مِنْ زِينَةِ النِّسَاءِ، وَأَمَّا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 حَرَّمَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِوَاءِ وَالرُّقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ وَلَا بَأْسَ بِالْمَعَاذَةِ تُعَلَّقُ وَفِيهَا الْقُرْآنُ وَإِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ فَلَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ بِهَا فَلَا يَخْرُجُ فِرَارًا مِنْهُ «وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فِي   [الفواكه الدواني] الِاكْتِحَالُ بِغَيْرِ الْإِثْمِدِ فَيَجُوزُ وَلَوْ لِلرِّجَالِ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ وَلَوْ نَهَارًا. وَلَمَّا كَانَ التَّدَاوِي لَا يَجُوزُ بِالْأَشْيَاءِ النَّجِسَةِ فَقَالَ: (وَلَا) يَجُوزُ أَنْ (يُتَعَالَجَ بِالْخَمْرِ) أَيْ يَحْرُمُ التَّدَاوِي بِهِ. قَالَ خَلِيلٌ: لَا دَوَاءَ وَلَا طِلَاءَ لِخَبَرِ: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَجْعَلْ شِفَاءَ أُمَّتِي فِيمَا حَرَّمَ عَلَيْهَا» إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَيْهِ مِثْلَ أَنْ يَدْفَعَ بِالْخَمْرِ غُصَّةً أَوْ عَطَشًا عَلَى قَوْلٍ وَيَنْبَغِي إلَّا أَنْ يَتَعَيَّنَ طَرِيقًا لِلدَّوَاءِ فَيَجُوزُ لِأَنَّهُ مِثْلُ الْغُصَّةِ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: كُلُّ مَا ذُكِرَ مِنْ مَنَافِعِ الْخَمْرِ فَقَدْ ارْتَفَعَ بِتَحْرِيمِهَا. (وَ) كَمَا لَا يَجُوزُ التَّعَالُجُ بِالْخَمْرِ (وَلَا) يَجُوزُ (بِالنَّجَاسَةِ) غَيْرِ الْخَمْرِ (وَلَا بِمَا فِيهِ مَيْتَةٌ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -) وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ عُمُومُ حُرْمَةِ التَّدَاوِي بِالنَّجَسِ وَلَوْ فِي ظَاهِرِ الْجَسَدِ وَلَوْ غَيْرُ خَمْرٍ، وَلَوْ عَلَى الْقَوْلِ بِكَرَاهَةِ التَّضَمُّخِ بِالنَّجَاسَةِ، وَمَفْهُومُ التَّعَالُجِ أَنَّ اسْتِعْمَالَ مَا ذُكِرَ لِغَيْرِ التَّدَاوِي لَيْسَ حُكْمُهُ كَذَلِكَ، وَأَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَلِلضَّرُورَةِ مَا يَسُدُّ غَيْرَ آدَمِيٍّ وَخَمْرٌ إلَّا لِغُصَّةٍ، وَأَمَّا لِغَيْرِ الضَّرُورَةِ فَأَشَارَ إلَيْهِ أَيْضًا بِقَوْلِهِ: وَيَنْتَفِعُ بِمُتَنَجِّسٍ لَا نَجِسٍ. [التَّدَاوِي بِالْكَيِّ] وَلَمَّا وَقَعَ خِلَافٌ فِي جَوَازِ التَّدَاوِي بِالْكَيِّ كَرَّرَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالِاكْتِوَاءِ) أَيْ يَجُوزُ عَلَى قَوْلِ الْأَكْثَرِ بِنَاءً عَلَى الْمَشْهُورِ مِنْ أَنَّ الْأَفْضَلَ اسْتِعْمَالُ الْأَخْذِ فِي الْأَسْبَابِ لِأَنَّهُ لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ كَمَا قَدَّمْنَا بَسْطَهُ، وَمِنْ الْمُتَّفَقِ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ التَّدَاوِي بِهِ الِاكْتِحَالُ بِالْعَذِرَةِ لِلرَّمَدِ، وَظَوَاهِرُ نُصُوصِ الْأَئِمَّةِ جَوَازُ كَفِّ الْعَوْرَةِ لِلتَّدَاوِي، وَقَدْ وَقَعَ الْخِلَافُ فِي الْحُقْنَةِ وَسُئِلَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ ابْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ عَنْهَا فَقَالَ: لَا بَأْسَ بِهَا لِأَنَّهَا ضَرْبٌ مِنْ الدَّوَاءِ وَفِيهَا مَنْفَعَةٌ لِلنَّاسِ، وَقَدْ أَبَاحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - التَّدَاوِيَ وَأَذِنَ فِيهِ فَقَالَ: «مَا أَنْزَلَ اللَّهُ دَاءً إلَّا وَلَهُ دَوَاءٌ عَلِمَهُ مَنْ عَلِمَهُ وَجَهِلَهُ مَنْ جَهِلَهُ فَتَدَاوَوْا عِبَادَ اللَّهِ» وَتُحْمَلُ النُّقُولُ الْمُخَالِفَةُ لِهَذَا عَلَى حَالَةِ الِاخْتِيَارِ وَالْجَوَازُ عَلَى حَالَةِ الِاضْطِرَارِ فَيَتَّفِقُ النَّقْلَانِ. [الرُّقَى بِكِتَابِ اللَّهِ وَبِالْكَلَامِ الطَّيِّبِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُرْقَى بِهِ فَقَالَ: (وَ) لَا بَأْسَ بِ (الرُّقَى) جَمْعُ رُقْيَةٍ (بِكِتَابِ اللَّهِ) وَلَوْ آيَةٌ مِنْهُ قَالَ تَعَالَى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] وَيُرْقَى بِالْفَاتِحَةِ وَآخِرُ مَا يُرْقَى بِهِ مِنْهَا وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، وَمِمَّا يُرْقَى بِهِ كَثِيرًا آيَاتُ الشِّفَاءِ السِّتِّ، وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ مِمَّنْ عُرِفَ بِالْبَرَكَةِ: مِنْ كَتَبَ اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ سِتَّ عَشْرَةَ مَرَّةً فِي إنَاءٍ نَظِيفٍ وَقَرَأَ عَلَيْهَا آيَاتِ الشِّفَاءِ وَمَحَاهُ بِمَاءِ النِّيلِ وَسَقَاهُ لِمَنْ بِهِ مَرَضٌ مُثْقِلٌ فَإِنْ قُدِّرَ لَهُ الْحَيَاةُ شَفَاهُ اللَّهُ بِأَسْرَعِ وَقْتٍ وَإِنْ قُدِّرَ لَهُ الْمَوْتُ سَكَنَ أَلَمُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ الْمَوْتُ، وَقَدْ جُرِّبَ مَرَّاتٍ كَثِيرَةً فَصَحَّ. وَآيَاتُ الشِّفَاءِ سِتٌّ الْأُولَى: {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 14] الثَّانِيَةُ: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ} [يونس: 57] الثَّالِثَةُ: {يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ} [النحل: 69] الرَّابِعَةُ: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . الْخَامِسَةُ: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . السَّادِسَةُ: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ} [فصلت: 44] (وَ) لَا بَأْسَ أَيْضًا بِالرُّقْيَةِ (الْكَلَامِ الطَّيِّبِ) مِنْ غَيْرِ الْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَ عَرَبِيًّا، وَمَفْهُومَ الْمَعْنَى كَالْمُشْتَمِلِ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ أَوْ بَعْضِ الصَّالِحِينَ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُرَادُ بِالطِّبِّ لَا الْحَلَالُ لِعَدَمِ مُنَاسَبَةِ الْمَقَامِ، وَأَمَّا مَا لَا يُفْهَمُ مَعْنَاهُ فَلَا تَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ، لِأَنَّ الْإِمَامَ لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْأَسْمَاءِ الْعَجَمِيَّةِ قَالَ: وَمَا يُدْرِيك أَنَّهَا كُفْرٌ؟ وَمُقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ مَا جُهِلَ مَعْنَاهُ لَا يَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ وَلَوْ جُرِّبَ وَصَحَّ، وَكَانَ الْإِمَامُ ابْنُ عَرَفَةَ يَقُولُ: إنْ تَكَرَّرَ النَّفْعُ بِهِ تَجُوزُ الرُّقْيَةُ بِهِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ تَحَقُّقَ النَّفْعِ بِهِ لَا يَكُونُ كُفْرًا. وَمِنْ ذَلِكَ مَا يُعْمَلُ لِحَلِّ الْمَرْبُوطِ وَلِتَسْكِينِ عَقْلِ الْمَصْرُوعِ وَإِخْرَاجِ الْجَانِّ أَوْ إزَالَةِ النَّزِيفِ وَلَوْ حَدِيدًا كَخَاتَمِ سُلَيْمَانَ يُكْتَبُ عَلَيْهِ بَعْضُ أَسْمَاءٍ، وَتُحْمَلُ كَرَاهَةُ مَالِكٍ عَلَى مَا لَمْ يُتَحَقَّقْ النَّفْعُ بِهِ، وَيَجُوزُ أَخْذُ الْعِوَضِ عَلَى الرُّقْيَةِ كَمَا فِي قَضِيَّةِ الرَّهْطِ الْمَشْهُورَةِ فِي بَابِ الْجُعْلِ حِينَ لُدِغَ كَبِيرُهُمْ وَرَقَاهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -. (وَلَا بَأْسَ بِالْمَعَاذَةِ) بِالذَّالِ الْمُعْجَمَةِ وَهِيَ التَّمِيمَةُ الْمَعْرُوفَةُ عِنْدَ الْعَامَّةِ بِالْحَرَزَةِ (تُعَلَّقُ) فِي عُنُقِ الشَّخْصِ أَوْ ذِرَاعِهِ. (وَفِيهَا) بَعْضُ أَسْمَاءٍ وَشَيْءٌ مِنْ (الْقُرْآنِ) وَرُبَّمَا تُعَلَّقُ عَلَى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] بَعْضِ الْحَيَوَانَاتِ وَيَجُوزُ حَمْلُهَا وَلَوْ كَانَ الْحَامِلُ لَهَا حَائِضًا أَوْ جُنُبًا وَلَوْ كَثِيرٌ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ حَيْثُ كَانَتْ مَسْتُورَةً، وَأَمَّا بِغَيْرِ سَاتِرٍ فَلَا يَجُوزُ إلَّا مَعَ قِلَّةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ كَالْآيَةِ وَنَحْوِهَا، وَلَا فَرْقَ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ بَيْنَ الْمُسْلِمِ وَالْكَافِرِ حَيْثُ كَانَتْ بِسَاتِرٍ يَقِيهَا مِنْ وُصُولِ الْأَذَى. قَالَ خَلِيلٌ: وَحِرْزٌ بِسَاتِرٍ وَإِنْ لِحَائِضٍ، قَالَ شُرَّاحُهُ: وَلَوْ كَافِرًا أَوْ بَهِيمَةً، وَلَا يَنْبَغِي تَعْلِيقُهَا مِنْ غَيْرِ سَاتِرٍ إلَّا مَعَ قِلَّةِ مَا فِيهَا مِنْ الْقُرْآنِ كَمَا قَدَّمْنَا وَكَانَ الْحَامِلُ لَهَا مُسْلِمًا. وَلَمَّا قَدَّمَ حُكْمَ مَا يُفْعَلُ طَلَبًا لِتَحْصِيلِ السَّلَامَةِ مِنْ الْأَشْيَاءِ الْمُضِرَّةِ لِطَبِيعَةِ الْإِنْسَانِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا يُنْهَى عَنْهُ مِمَّا يُوجِبُ عَدَمَ سَلَامَتِهِ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا وَقَعَ الْوَبَاءُ) بِالْقَصْرِ عَلَى الْأَفْصَحِ وَهُوَ كُلُّ مَا يَكْثُرُ مِنْهُ الْمَوْتُ كَالسُّعَالِ وَالرِّيحِ لَا خُصُوصُ الطَّاعُونِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِهِ خُصُوصُ الطَّاعُونِ، وَعِلَّةُ النَّهْيِ الْآتِيَةِ تَقْتَضِي التَّعْمِيمَ، وَإِنْ كَانَ الِاسْتِدْلَال بِالْحَدِيثِ يَقْتَضِي التَّخْصِيصَ بِالطَّاعُونِ وَهُوَ بَثْرَةٌ مِنْ مَادَّةٍ سُمِّيَّةٍ أَيْ قُرُوحٌ تَحْصُلُ فِي بَدَنِ الْإِنْسَانِ مَعَ لَهَبٍ وَاسْوِدَادٍ حَوْلَهَا مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ يَحْدُثُ مِنْهَا وَرَمٌ فِي الْغَالِبِ وَقَيْءٌ وَخَفَقَانٌ فِي الْقَلْبِ، تَحْدُثُ غَالِبًا فِي الْمَوَاضِعِ الرَّخْوَةِ كَتَحْتِ الْإِبْطِ وَخَلْفَ الْأُذُنِ، وَالطَّاعُونُ خِلَافُ الْكُبَّةِ لِأَنَّهَا الظَّاهِرَةُ وَالطَّاعُونُ أَشَدُّ مِنْهَا. (بِأَرْضِ قَوْمٍ) مُتَعَلِّقٌ بِوَقَعَ (فَلَا) يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِمَّنْ كَانَ خَارِجًا عَنْ أَرْضِهِمْ أَنْ (يَقْدُمَ عَلَيْهِ وَمَنْ كَانَ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْأَرْضِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْوَبَاءُ وَلَوْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا (فَلَا يَخْرُجُ) مِنْهَا (فِرَارًا مِنْهُ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الطَّاعُونُ رِجْزٌ أُرْسِلَ عَلَى طَائِفَةٍ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ أَوْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَإِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَدْخُلُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ فِيهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» وَالنَّهْيُ فِي الْوَجْهَيْنِ لِلْكَرَاهَةِ، وَمَا فِي بَعْضِ النُّسَخِ مِمَّا يُخَالِفُ هَذِهِ فَغَيْرُ صَحِيحٍ، وَمَفْهُومُ فِرَارًا أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِحَاجَةٍ فَلَا يُنْهَى عَنْ شَيْءٍ مِمَّا حَصَلَ النَّهْيُ عَنْهُ، وَقِيلَ: يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مُطْلَقًا سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ فِي حَالِ الْقُدُومِ رُبَّمَا يُصِيبُهُ شَيْءٌ فَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ مِنْ الْقُدُومِ، وَفِي حَالِ الْخُرُوجِ مَخَافَةَ أَنْ تَتْبَعَ النَّاسُ بَعْضَهَا فِي الْخُرُوجِ فَيَتَزَلْزَلُ اعْتِقَادُ مَنْ نَجَا وَيَضِيعُ مَنْ كَانَ مَرِيضًا وَعَجَزَ عَنْ الْخُرُوجِ بِفَقْدِ مَنْ يَعُودُهُ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: إذَا عَلِمْت أَنَّ النَّهْيَ عَنْ دُخُولِ بَلَدِ الْوَبَاءِ أَوْ الْخُرُوجِ مِنْهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْفِرَارِ، ظَهَرَ لَك أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ النَّهْيِ وَبَيْنَ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: «الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «إنَّ الطَّاعُونَ كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ فَجَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ بِهِ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يُصِيبَهُ إلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ» وَقَدْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ خَمْسَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفًا عَامَ ثَمَانِ عَشْرَةَ. الثَّانِي: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ كَالْحَدِيثِ عَلَى حُكْمِ الْخُرُوجِ أَوْ الدُّخُولِ إلَى مَحَلِّ الْوَبَاءِ، وَسَكَتَ عَنْ الدُّخُولِ أَوْ الْخُرُوجِ فِي مَحَلِّ الْوَخْمِ الَّذِي نَشَأَ عَنْهُ الْمَرَضُ كَالْأَرْيَاحِ الْمُتَغَيِّرَةِ وَالْحُكْمُ فِيهِ الْجَوَازُ. قَالَ الْجُزُولِيُّ فِي بَابِ السَّفَرِ: وَإِذَا كَانَ بِبَلَدٍ فِيهِ وَخْمٌ نُدِبَ لَهُ الْخُرُوجُ عَنْهُ، بِخِلَافِ الْوَبَاءِ إذَا كَانَ فِي بَلَدٍ يُكْرَهُ الْخُرُوجُ مِنْهُ. الثَّالِثُ: لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ كَغَيْرِهِ لِحُكْمِ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الطَّاعُونِ، وَلِذَا قَالَ شَيْخُ بَعْضِ مَشَايِخِنَا وَهُوَ الْبَدْرُ الْقَرَافِيُّ: وَقَدْ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْ الدُّعَاءِ بِرَفْعِ الطَّاعُونِ هَلْ يَجُوزُ؟ وَأَفْتَى بَعْضُ عُلَمَاءِ الْعَصْرِ مِنْ غَيْرِ الْمَالِكِيَّةِ بِعَدَمِ الْجَوَازِ لِأَنَّهُ شَهَادَةٌ وَالشَّهَادَةُ لَا يَجُوزُ الدُّعَاءُ بِرَفْعِهَا، وَلَمْ أَقِفْ لِلْمَالِكِيَّةِ عَلَى نَصٍّ صَرِيحٍ فِيهِ، غَيْرَ أَنَّ سَيِّدِي أَحْمَدَ زَرُّوقٍ وَالْقَلْشَانِيَّ اسْتَعْمَلَا لِذَلِكَ أَدْعِيَةً لِلِاحْتِرَازِ عَنْهُ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَفْظُ دُعَاءِ سَيِّدِي أَحْمَدَ زَرُّوقٍ: تَحَصَّنْت بِذِي الْعِزَّةِ وَالْجَبَرُوتِ، وَاعْتَصَمْت بِرَبِّ الْمَلَكُوتِ، وَتَوَكَّلْت عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، اصْرِفْ عَنَّا الْأَذَى إنَّك عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثًا وَلَفْظُ دُعَاءِ الْقَلْشَانِيِّ: اللَّهُمَّ سَكِّنْ فِتْنَةَ صَدْمَةِ قَهْرَمَانَ الْجَبَرُوتِ بِأَلْطَافِك الْخَفِيَّةِ الْوَارِدَةِ النَّازِلَةِ مِنْ بَابِ الْمَلَكُوتِ حَتَّى نَتَشَبَّثَ بِأَلْطَافِك، وَنَعْتَصِمَ بِك عَنْ إنْزَالِ قُدْرَتِك، يَا ذَا الْقُدْرَةِ الْكَامِلَةِ وَالرَّحْمَةِ الشَّامِلَةِ، يَا ذَا الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا أُخِذَ مِنْ جَوَازِ الدُّعَاءِ بِسَبَبِ دُعَاءِ هَذَيْنِ الشَّيْخَيْنِ يُشْكِلُ عَلَيْهِ كَوْنُ الْمَوْتِ بِالطَّاعُونِ شَهَادَةً حَتَّى دَعَا الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِهَا لِأُمَّتِهِ حَيْثُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اجْعَلْ فَنَاءَ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» وَالشَّهَادَةُ لَا يَطْلُبُ رَفْعُهَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ شَهَادَةٍ يُطْلَبُ حُصُولُهَا، إذْ قَدْ تَكُونُ الشَّهَادَةُ مَرْغُوبًا عَنْهَا كَمَا وَرَدَ: «لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ» وَمَعَ أَنَّ لِقَاءَهُ يَسْتَلْزِمُ الشَّهَادَةَ غَالِبًا. 1 - (فَائِدَةٌ) مِمَّا جُرِّبَ لِلْحِفْظِ وَمِنْ وَخْزِ الْجِنِّ أَنْ يُكْتَبَ فِي حِرْزٍ آيَاتٌ غَيْرُ مَطْمُوسَةِ الْحُرُوفِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] سَبْعَ مَرَّاتٍ: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [إبراهيم: 47] أَرْبَعَ مَرَّاتٍ. وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَمِمَّا جُرِّبَ لِلْحِفْظِ مِنْ الْجِنِّ أَيْضًا كِتَابَةُ سُورَةِ الْبُرُوجِ فِي حِرْزٍ وَيُعَلَّقُ أَوْ فِي إنَاءٍ وَتُمْحَى وَيُشْرَبُ مَاؤُهَا. [الْكَلَامِ عَلَى الطِّيَرَة] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى التَّعَالُجِ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى ثَانِي مَا فِي التَّرْجَمَةِ وَهُوَ الطِّيَرَةِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 الشُّؤْمِ إنْ كَانَ فَفِي الْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - يَكْرَهُ سَيِّئَ الْأَسْمَاءِ وَيُحِبُّ الْفَأْلَ الْحَسَنَ وَالْغَسْلُ   [الفواكه الدواني] بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي) بَيَانِ (الشُّومِ) بِضَمِّ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْوَاوِ السَّاكِنَةِ بِغَيْرِ هَمْزٍ أَوْ بِهِ (إنْ كَانَ) أَيْ وُجِدَ (فَفِي الْمَسْكَنِ) أَيْ فَيَكُونُ فِي الْمَسْكَنِ. (وَ) يَكُونُ فِي (الْمَرْأَةِ، وَ) يَكُونُ فِي (الْفَرَسِ) وَهَذَا لَفْظُ حَدِيثٍ مَذْكُورٍ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ سَهْلِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بِلَفْظِ الشَّكِّ بَعْدَهُ فِي حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ عَلَى الْجَزْمِ: «الشُّؤْمُ فِي الدَّارِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «إنْ كَانَ الشُّؤْمُ فِي شَيْءٍ فَفِي الرَّبْعِ وَالْخَادِمِ وَالْفَرَسِ» . وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ مَالِكٌ وَطَائِفَةٌ هُوَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَإِنَّ الدَّارَ يَجْعَلُ اللَّهُ سُكْنَاهَا سَبَبًا لِلضَّرَرِ أَوْ لِلْهَلَاكِ، وَكَذَا اتِّخَاذُ الْمَرْأَةِ أَوْ الْفَرَسِ أَوْ الْخَادِمِ، وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ وَجَمْعٌ كَثِيرٌ هُوَ مِنْ مَعْنَى لِلِاسْتِثْنَاءِ مِنْ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عَنْهَا وَكَأَنَّهُ قَالَ: الطِّيَرَةُ مَنْهِيٌّ عَنْهَا إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا أَوْ امْرَأَةٌ يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا أَوْ فَرَسٌ أَوْ خَادِمٌ فَلْيُفَارِقْ الْجَمِيعَ، الدَّارَ وَالْفَرَسَ وَالْخَادِمَ بِالْبَيْعِ، وَالْمَرْأَةَ بِالطَّلَاقِ، فَشُؤْمُ الدَّارِ ضِيقُهَا وَسُوءُ جِيرَانِهَا، وَشُؤْمُ الْمَرْأَةِ قِلَّةُ نَسْلِهَا، وَقِيلَ سُوءُ خُلُقِهَا وَقِيلَ كَثْرَةُ مَهْرِهَا وَسَلَاطَةُ لِسَانِهَا، وَشُؤْمُ الْفَرَسِ تَرْكُ الْغَزْوِ عَلَيْهَا، وَيُمْنُ الْمَسْكَنِ وَالْمَرْأَةِ وَالْفَرَسِ ضِدُّ مَا ذُكِرَ. فَإِنْ قِيلَ: مَا وَجْهُ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ مَعَ أَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَكْرَهُ بَعْضَ أَشْيَاءَ غَيْرِ الْمَذْكُورَاتِ لِحُصُولِ ضَرَرٍ مِنْهُ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ أَكْثَرَ مَا يَتَشَاءَمُ بِهِ الْإِنْسَانُ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتُ لِكَثْرَةِ مُلَازَمَتِهَا لَهُ. فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ نَحْوِ الدَّارِ مِمَّا يَتَشَاءَمُ بِهِ يَجُوزُ مُفَارَقَتُهُ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ، وَبَيْنَ أَرْضِ الْوَبَاءِ يُنْهَى عَنْ الْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ حُصُولِ الضَّرَرِ مِنْ كُلٍّ مِنْهُمَا؟ فَالْجَوَابُ الْمُسْتَحْسَنُ عَنْ هَذَا الْإِشْكَالِ: أَنَّ مَا عَدَا تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ لَمْ يُعْهَدْ التَّشَاؤُمُ بِهِ، وَأَيْضًا الْوَبَاءُ الْمَوْتُ بِهِ شَهَادَةٌ لَا يُتَشَاءَمُ بِهَا، وَإِنَّمَا نُهَى عَنْ دُخُولِ أَرْضِهِ مِنْ الْخَارِجِ عَنْهَا خِيفَةَ اعْتِقَادِ مَا لَا يَحِلُّ اعْتِقَادُهُ كَمَا تَقَدَّمَ. (تَنْبِيهٌ) حَدِيثُ الشُّؤْمِ الْمَذْكُورُ عَلَى جَمِيعِ رِوَايَاتِهِ يُعَارِضُهُ حَدِيثُ «لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ أَوْ لَا عَدْوَى وَلَا هَامَةَ وَلَا صُفْرَ» ، وَوَجْهُ الْمُعَارَضَةِ أَنَّ حَدِيثَ لَا عَدْوَى إلَخْ فِيهِ نَفْيُ الشُّؤْمِ وَالْحَدِيثَانِ أَثْبَتَاهُ، وَالْجَوَابُ أَنَّ ابْنَ رُشْدٍ دَفَعَ التَّعَارُضَ بِأَنَّ مَا أَثْبَتَهُ أَحَدُ الْحَدِيثَيْنِ غَيْرُ الَّذِي نَفَاهُ الْآخَرُ، إذْ قَدْ نَفَى أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ لِشَيْءٍ عَدْوَى وَتَأْثِيرٌ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ، وَأَثْبَتَ فِي الْآخَرِ مَا نَفَاهُ فِي الْآخَرِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِي أَنْ يُسَبِّبَ اللَّهُ ضَرَرًا بِسُكْنَى دَارٍ لِبَعْضِ الْأَشْخَاصِ دُونَ بَعْضٍ، أَوْ قَطْعِ نَسْلٍ لِبَعْضِ النَّاسِ بِنِكَاحِ امْرَأَةٍ دُونَ غَيْرِهَا، وَهَذَا كُلُّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى صِحَّةِ حَدِيثِ الشُّؤْمِ لِأَنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - نَفَتْهُ، وَقَالَتْ مَا قَالَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} [التغابن: 11] وَقَوْلُهُ: «لَا هَامَةَ وَلَا صُفْرَ» . قَالَ مَالِكٌ مَعْنَاهُ لَا يُتَطَيَّرُ بِالْهَامِّ، خِلَافًا لِلْعَرَبِ كَانَتْ تَقُولُ: إذَا وَقَعَتْ هَامَةٌ عَلَى بَيْتٍ خَرَجَ مِنْهُ مَيِّتٌ، وَكَانَتْ تَقُولُ: الصُّفْرُ دَاءٌ فِي الْفَرْجِ يَقْتُلُ صَاحِبَهُ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ. (وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَكْرَهُ سَيِّئَ الْأَسْمَاءِ) كَحَرْبٍ وَمُرَّةَ وَيُحِبُّ حَسَنَ الْأَسْمَاءِ كَعَبْدِ اللَّهِ أَوْ أَحْمَدَ أَوْ مُحَمَّدٍ، فَفِي الْمُوَطَّإِ: أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «قَالَ لِلَّقْحَةِ تُحْلَبُ مَنْ يَحْلُبُ هَذِهِ؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ: مَا اسْمُك؟ قَالَ: مُرَّةُ، قَالَ: اجْلِسْ، ثُمَّ قَالَ: مَنْ يَحْلُبُهَا؟ فَقَامَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: مَا اسْمُك؟ فَقَالَ: يَعِيشُ، فَقَالَ لَهُ: احْلِبْ» وَغَيَّرَ أَسْمَاءَ رِجَالٍ وَنِسَاءٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَسْلَمُوا، وَأَحَبُّ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ نَحْوِ عَبْدِ اللَّهِ وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ لِأَنَّ كُلًّا يَهُمُّ وَيَحْرُثُ فِي الدُّنْيَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ وَبَيْنَ الطِّيَرَةِ أَنَّ الطِّيَرَةَ لَيْسَ فِي لَفْظِهَا مَا يُتَطَيَّرُ بِهِ وَلَا فِي مَعْنَاهَا مَا يُكْرَهُ، بَلْ مُجَرَّدُ الْوَهْمِ الْفَاسِدِ وَسُوءِ الظَّنِّ بِاَللَّهِ تَعَالَى، وَالْمَنْعُ فِي الْأَسْمَاءِ لِلْقُبْحِ أَوْ لِمُخَالَفَةِ الدِّين، كَمَا كَرِهَ بَرَّةَ اسْمَ امْرَأَةٍ «فَقَالَ: تُزَكِّي نَفْسَهَا فَسَمَّاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - زَيْنَبَ» . (وَ) كَانَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (يُحِبُّ الْفَأْلَ) بِالْهَمْزَةِ يُجْمَعُ عَلَى فُؤُولٍ (الْحَسَنَ) وَهُوَ مَا يَنْشَرِحُ لَهُ صَدْرُهُ كَالْكَلِمَةِ الطَّيِّبَةِ، فَفِي الصَّحِيحِ: «لَا طِيَرَةَ وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْفَأْلُ؟ قَالَ: الْكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ يَسْمَعُهَا أَحَدُكُمْ» وَفِي رِوَايَةٍ: «وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «وَأُحِبُّ الْفَأْلَ الصَّالِحَ» مِثَالُهُ: إذَا خَرَجَ لِسَفَرٍ أَوْ إلَى عِيَادَةِ مَرِيضٍ وَسَمِعَ يَا سَالِمُ يَا غَانِمُ أَوْ يَا عَافِيَةُ هَذَا إذَا لَمْ يَقْصِدْهُ، وَأَمَّا إذَا قَصَدَ سَمَاعَ الْفَأْلِ لِيَعْمَلَ عَلَى مَا يَسْمَعُ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ فَلَا يَجُوزُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَزْلَامِ الْمُحَرَّمَةِ الَّتِي كَانَتْ تَفْعَلُهَا الْجَاهِلِيَّةُ وَهِيَ قِدَاحٌ يَكُونُ فِي بَعْضِهَا افْعَلْ وَفِي بَعْضِهَا لَا تَفْعَلْ وَالثَّالِثُ لَا شَيْءَ فِيهِ، فَإِنْ خَرَجَ الَّذِي فِيهِ افْعَلْ مَشَى، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي فِيهِ لَا تَفْعَلْ رَجَعَ، وَإِنْ خَرَجَ الَّذِي لَا شَيْءَ فِيهِ أَعَادَ الِاسْتِقْسَامَ، وَفِي مَعْنَى هَذَا مِمَّا لَا يَجُوزُ فِعْلُهُ اسْتِخْرَاجُ الْفَأْلِ مِنْ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ الِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَخْرُجُ لَهُ مَا لَا يُرِيدُ فَيُؤَدِّي ذَلِكَ إلَى التَّشَاؤُمِ بِالْقُرْآنِ، فَمَنْ أَرَادَ أَمْرًا وَسَمِعَ مَا يَسُوءُ لَا يَرْجِعُ عَنْ أَمْرِهِ وَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ لَا يَأْتِي بِالْخَيْرِ إلَّا أَنْتَ، وَلَا يَأْتِي بِالشَّرِّ أَوْ لَا يَدْفَعُ الشَّرَّ إلَّا أَنْتَ. [صِفَةِ الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ] ثُمَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 لِلْعَيْنِ أَنْ يَغْسِلَ الْعَائِنُ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمَرْفِقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ يُصَبَّ عَلَى الْمَعِينِ وَلَا يُنْظَرُ فِي النُّجُومِ إلَّا مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الْقِبْلَةِ وَأَجْزَاءِ اللَّيْلِ وَيُتْرَكُ مَا سِوَى ذَلِكَ وَلَا يُتَّخَذُ كَلْبٌ فِي الدُّورِ فِي   [الفواكه الدواني] شَرَعَ فِي صِفَةِ الرُّقْيَةِ مِنْ الْعَيْنِ إذَا عُرِفَ الْعَائِنُ. (وَ) صِفَةُ (الْغَسْلِ مِنْ الْعَيْنِ أَنْ يَغْسِلَ الْعَائِنُ) أَيْ النَّاظِرُ (وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ) الْمُرَادُ بِالْإِزَارِ هُنَا الْمِئْزَرُ، وَالْمُرَادُ بِدَاخِلَتِهِ مَا يَلِي الْجَسَدَ مِنْهُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مَوْضِعُهُ مِنْ الْجَسَدِ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهُ أَكْثَرُهُ، كَمَا يُقَالُ عَفِيفُ الْإِزَارِ أَيْ الْفَرْجُ، وَقِيلَ: الْمُرَادُ وَرِكُهُ وَيَكُونُ غَسْلُ تِلْكَ الْأَعْضَاءِ (فِي قَدَحٍ ثُمَّ يَصُبُّ) ذَلِكَ الْمَاءَ الْمَغْسُولَ فِيهِ (عَلَى الْعَيْنِ) أَيْ الْمُصَابِ بِالْعَيْنِ وَهُوَ السُّمُّ الَّذِي خَلَقَهُ اللَّهُ فِي عَيْنِ النَّاظِرِ وَيُصِيبُ الْمَنْظُورَ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَعَدَمِ مُبَارَكَةِ النَّاظِرِ فَيَمُوتُ أَوْ يَمْرَضُ لِوَقْتِهِ، وَلِذَا قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الْعَيْنُ حَقٌّ» وَلَوْ كَانَ هُنَاكَ شَيْءٌ يَسْبِقُ الْقَدَرَ لَسَبَقَتْهُ الْعَيْنُ، وَالْعَيْنُ تُدْخِلُ الرَّجُلَ الْقَبْرَ، وَالْأَصْلُ فِيمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ مَا وَرَدَ: «أَنَّ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ رَأَى سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ وَهُوَ يَغْتَسِلُ فَتَعَجَّبَ مِنْ بَيَاضِهِ وَحُسْنِهِ قَائِلًا: جِلْدُهُ جِلْدُ عَذْرَاءَ مُخَبَّأَةً فَمَرِضَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ لِوَقْتِهِ، فَأَخْبَرُوا بِهِ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَقَالَ لِأَهْلِهِ: تَتَّهِمُونَ بِهِ؟ قَالُوا: نَتَّهِمُ عَامِرَ بْنَ رَبِيعَةَ، فَأَحْضَرَهُ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَزَجَرَهُ وَوَبَّخَهُ وَقَالَ: أَلَا بَارَكْت اغْتَسِلْ لَهُ، فَغَسَلَ عَامِرٌ وَجْهَهُ وَيَدَيْهِ وَمِرْفَقَيْهِ وَرُكْبَتَيْهِ وَأَطْرَافَ رِجْلَيْهِ وَدَاخِلَةَ إزَارِهِ فِي قَدَحٍ ثُمَّ صُبَّ عَلَيْهِ فَرَاحَ سَهْلٌ مَعَ النَّاسِ لَيْسَ بِهِ بَأْسٌ» ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَجْرَى عَادَتَهُ أَنَّ ذَلِكَ الْوَضُوءَ شِفَاءُ الْعَيْنِ وَوَقَعَ اخْتِلَافٌ فِي صِفَةِ ذَلِكَ الْوُضُوءِ وَاَلَّذِي قَالَهُ ابْنُ نَافِعٍ مَا تَقَدَّمَ، وَصِفَةُ صَبِّ الْقَدَحِ عَلَى الْمَعِينِ أَنْ يُصَبَّ عَلَيْهِ مِنْ فَوْقِهِ وَيُقْلَبَ الْقَدَحُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْتَغْفِلُهُ بِذَلِكَ، فَهَذِهِ صِفَةُ رُقْيَةِ مَنْ أُصِيبَ بِالْعَيْنِ، وَيُجْبَرُ الْعَائِنُ عَلَى الْغُسْلِ إنْ امْتَنَعَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى الْمَشْهُورِ إذَا خَشِيَ عَلَى الْمَعِين الْهَلَاكُ وَلَمْ يُمْكِنْ زَوَالُ الْهَلَاكِ إلَّا بِهِ، وَمَنْ عَرَفَ أَنَّهُ مِعْيَانُ وَأَنَّهُ كُلَّمَا يَنْظُرُ إلَى شَيْءٍ يُصِيبُهُ فَإِنَّهُ يَضْمَنُ كُلَّ مَا أَتْلَفَهُ بِعَدَمِ التَّقَدُّمِ إمَّا بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ عِنْدَ الْقَاضِي حَتَّى يَقِفَ عَلَى حَالِهِ، وَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْجُنَ مَنْ عُرِفَ بِهَذَا الْأَمْرِ وَيَكُونُ سِجْنُهُ فِي مَنْزِلِ نَفْسِهِ وَيُنْفَقُ عَلَيْهِ مِنْ مَالِ نَفْسِهِ إنْ كَانَ لَهُ مَالٌ وَإِلَّا فَمِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَنَظِيرُ مَنْ عُرِفَ بِأَنَّهُ يَقْتُلُ بِالْحَالِ مَنْ تَعَمَّدَ مِنْهُمْ قَتْلَ شَخْصٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ شُرَّاحِ خَلِيلٍ فِي بَابِ الْجِنَايَاتِ. 1 - (تَنْبِيهٌ) مِمَّا جُرِّبَ لِلْحِفْظِ مِنْ النَّظْرَةِ أَوْ غَيْرِهَا أَنْ تَقْرَأَ أَوْ تَحْمِلَ تِلْكَ الْآيَاتِ وَهِيَ: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلا هُوَ} [الأنعام: 17] {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس: 107] {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [هود: 6] {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [هود: 56] {وَمَا لَنَا أَلا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12] {وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [العنكبوت: 60] {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ - وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} [الزمر: 2 - 38] . وَشَرْطُ الِانْتِفَاعِ بِهَا أَنْ يَقْرَأَهَا أَوْ يَحْمِلَهَا مَعَ حُضُورِ قَلْبِهِ وَصِدْقِ نِيَّتِهِ بِأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرْشَدَ إلَى التَّحَصُّنِ بِهَذِهِ الْآيَاتِ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الطِّيَرَةِ وَعَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْ الْعَائِنِ الْمُسَمَّى بِالْحَسُودِ وَهُوَ خَاسِرٌ وَفِي الدُّنْيَا لَا يَسُودُ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى النُّجُومِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَجُوزُ لِأَحَدٍ (يَنْظُرُ فِي النُّجُومِ) وَالنَّهْيُ يَحْتَمِلُ الْكَرَاهَةَ وَيَحْتَمِلُ الْحُرْمَةَ (إلَّا) فِي ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ أَحَدُهَا: (فِيمَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى) مَعْرِفَةِ (الْقِبْلَةِ) إذَا تَوَقَّفَتْ مَعْرِفَتُهَا عَلَى النَّظَرِ فِيهَا فَإِنَّ نَظَرَهُ حِينَئِذٍ وَاجِبٌ، وَلِذَا قَالُوا: لَا يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ أَنْ يُسَافِرَ إلَّا مَعَ مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ أَوْ مَعَ مَنْ يَعْرِفُهَا. قَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ فِي بَيَانِ صِفَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِالنُّجُومِ: أَنْ تَسْتَقْبِلَ بِوَجْهِكَ الْقُطْبَ ثُمَّ تَجْعَلَهُ عَلَى يَسَارِك فَمَا اسْتَقْبَلْت فَهُوَ نَاحِيَةُ الْقِبْلَةِ، وَقَالَ سَحْنُونٌ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ: قِبْلَةُ الْمَغْرِبِ مَا بَيْنَ السُّنْبُلَةِ إلَى التَّوْأَمَيْنِ، وَقِيلَ: قِبْلَةُ الْمَغْرِبِ مِنْ تُونُسَ إلَى طَنْجَةَ الثَّوْرُ وَالتَّوْأَمَانِ، وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ: قِبْلَتُنَا فِي قُرْطُبَةَ مَطْلَعُ الْقُطْبِ لِأَنَّهُ يَطْلُعُ عَلَى رُكْنِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ. (وَ) ثَانِيَتُهَا النَّظَرُ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى مَعْرِفَةِ (أَجْزَاءِ) جَمْعُ جُزْءٍ (اللَّيْلِ) لِيَظْهَرَ لَهُ مَا أَمْضَى مِنْهُ وَمَا بَقِيَ لِأَجْلِ نِيَّةِ الصَّوْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 الْحَضَرِ وَلَا فِي دُورِ الْبَادِيَةِ إلَّا لِزَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ يَصْحَبُهَا فِي الصَّحْرَاءِ ثُمَّ يَرُوحُ مَعَهَا أَوْ لِصَيْدٍ يَصْطَادُهُ لِعَيْشِهِ لَا لِلَّهْوِ   [الفواكه الدواني] وَالنِّدَاءِ لِلصُّبْحِ، وَثَالِثُ الْأَحْوَالِ لَمْ يَذْكُرْهُ الْمُصَنِّفُ وَهُوَ النَّظَرُ فِيهَا لِيُسْتَدَلَّ بِهَا عَلَى جِهَةِ مَسِيرِهِ، كَمَا إذَا كَانَ فِي نَحْوِ الْبَحْرِ الْمَالِحِ عِنْدَ اتِّسَاعِهِ بِحَيْثُ لَا يَرَى الْبَرَّ فِيهِ. قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} [الأنعام: 97] وَقَالَ أَيْضًا: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] بِأَنْ يُمَيِّزَهَا وَيَعْرِفَ الشِّمَالَ مِنْهَا وَالْجَنُوبَ وَوَقْتَ طُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا، لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَعْلَمَ خَلْقَهُ أَنَّهُ أَظْهَرَهَا لِذَلِكَ. (وَ) يُطْلَبُ مِنْ الْمُكَلَّفِ أَنْ (يَتْرُكَ) النَّظَرَ فِي النُّجُومِ فِي (مَا سِوَى ذَلِكَ) كَالنَّظَرِ فِيهَا لِيَسْتَدِلَّ بِظُهُورِ بَعْضِ النُّجُومِ عَلَى مَا يَحْدُثُ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ النَّظَرَ فِيهَا الْمُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ الْقِبْلَةِ وَأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ فَرْضُ عَيْنٍ أَوْ كِفَايَةٍ، وَأَمَّا الْمُوصِلُ إلَى مَعْرِفَةِ جِهَةِ الْمَسِيرِ إلَى أَمْرٍ مَطْلُوبٍ غَيْرِ وَاجِبٍ فَمُسْتَحَبٌّ، وَأَمَّا مَعْرِفَةُ مَا يُوصِلُ إلَى نُقْصَانِ الْأَهِلَّةِ أَوْ إلَى رُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَوْ إلَى حُصُولِ الْكُسُوفِ فَمَكْرُوهٌ لِأَنَّهُ لَا يُعْتَمَدُ عَلَيْهِ فِي الشَّرْعِ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيُوهِمُ الْعَامَّةَ أَنَّهُ يَعْلَمُ الْغَيْبَ فَيُزْجَرُ عَنْ ذَلِكَ، وَمَنْ اعْتَقَدَ تَأْثِيرَ النُّجُومِ فِي شَيْءٍ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غَيْرِ اسْتِتَابَةٍ إنْ كَانَ مُسْتَسِرًّا لِأَنَّهُ زِنْدِيقٌ وَبَعْدَ الِاسْتِتَابَةِ إنْ كَانَ مُتَجَاهِرًا، وَأَمَّا مَنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْفَعَّالُ عِنْدَهَا وَلَا يَتَخَلَّفُ هَذَا الْأَمْرُ فَإِنَّهُ يُؤَدَّبُ لِأَنَّهُ فَاسِقٌ مُبْتَدِعٌ، وَالْوَاجِبُ اعْتِقَادُهُ الْجَزْمَ بِأَنَّ ظُهُورَ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ عِنْدَ ظُهُورِ بَعْضِ النُّجُومِ أَمْرٌ أَغْلَبِيٌّ وَيَجُوزُ تَخَلُّفُهُ كَمَا فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذَا نَشَأَتْ بَحْرِيَّةً ثُمَّ تَشَاءَمَتْ فَتِلْكَ عَيْنٌ غُدَيْقَةٌ» أَيْ إذَا طَلَعَتْ السَّحَابَةُ مِنْ جِهَةِ الْغَرْبِ وَمَالَتْ إلَى الشَّامِ فَتِلْكَ السَّحَابَةُ غَزِيرَةُ الْمَطَرِ. 1 - (تَتِمَّةٌ) لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ وَهُوَ الَّذِي يُخْبِرُ بِمَا يَقَعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، وَلَا الْعَرَّافِ وَهُوَ الَّذِي يُخْبِرُ بِمَا وَقَعَ كَإِخْرَاجِ الْمُخَبَّآتِ وَكَتَعْيِينِ السَّارِقِ لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ دَعْوَى عِلْمِ الْغَيْبِ وَلَا يَعْلَمُهُ إلَّا اللَّهُ، وَلِذَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ صَدَّقَ كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا أَوْ مُنَجِّمًا فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ» . وَوَقَعَ خِلَافٌ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ فِي جَوَازِ عَمَلِ الْمُنَجِّمِ بِمَعْرِفَتِهِ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، وَالْمَشْهُورُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ عَدَمُ الْعَمَلِ بِهِ وَلَوْ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ، فَإِذَا غُمَّ الْهِلَالُ وَأَدَّاهُ عِلْمُهُ لِلصَّوْمِ فِي غَدٍ لَا يَلْزَمُهُ الصَّوْمُ فِي غَدٍ، وَلِلشَّافِعِيِّ رِوَايَتَانِ وَالْمَعْلُومُ مِنْ مَذْهَبِهِ وَعَلَيْهِ الْجُمْهُورُ أَنَّهُ يَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ. [اتِّخَاذ الْكِلَاب فِي الْبُيُوت] ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْضِ مَا تَرْجَمَ لَهُ وَهُوَ الْكِلَابُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) يَحِلُّ أَنْ (يُتَّخَذَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ (كَلْبٌ فِي الدُّورِ) الْكَائِنَةِ (فِي الْحَضَرِ وَلَا فِي دُورِ الْبَادِيَةِ) وَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِعَدَمِ الْحِلِّ الْكَرَاهَةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ عَقُورًا فَيَحْرُمُ. (وَإِلَّا) أَنْ يُتَّخَذَ (لِزَرْعٍ) أَوْ غَيْرِهِ مِمَّا يَحْتَاجُ لِلْحِرَاسَةِ. (أَوْ) إلَّا أَنْ يُتَّخَذَ لِحِرَاسَةِ (مَاشِيَةٍ يَصْحَبُهَا فِي الصَّحْرَاءِ ثُمَّ يَرُوحُ) أَيْ يَرْجِعُ (مَعَهَا) لِحِرَاسَتِهَا مِنْ اللُّصُوصِ فِي الطَّرِيقِ أَوْ فِي الْمَبِيتِ. (أَوْ) أَيْ أَوْ إلَّا أَنْ تُتَّخَذَ (لِصَيْدٍ يَصْطَادُهُ لِعَيْشِهِ) أَوْ عَيْشِ عِيَالِهِ فَلَا حَرَجَ فِي اتِّخَاذِهِ لِوَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ، وَلَكِنْ اُخْتُلِفَ هَلْ يَتَقَيَّدُ الْجَوَازُ بِزَمَنِ هَذِهِ الْمَذْكُورَاتِ وَيُطْلَبُ إخْرَاجُهَا مِنْ حَوْزِهِ بَعْدَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهَا أَوْ الْجَوَازُ غَيْرُ مُقَيَّدٍ قَوْلَانِ، وَالْمُرَادُ بِالْمَاشِيَةِ الْغَنَمُ وَكَذَا غَيْرُهَا إنْ احْتَاجَتْ إلَى الْحِرَاسَةِ. (لَا لِلَّهْوِ) فَيُكْرَهُ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ الصَّيْدَ تَعْتَرِيهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ يَجِبُ لِقُوتِهِ وَقُوتِ مَنْ تَلْزَمُهُ نَفَقَتُهُ إنْ لَمْ يُمْكِنْ إلَّا مِنْ الصَّيْدِ، وَيَحْرُمُ اصْطِيَادُ الْمَأْكُولِ لَا بِنِيَّةِ الذَّكَاةِ، وَيُنْدَبُ إذَا كَانَ لِلتَّوْسِعَةِ، وَيُكْرَهُ إذَا كَانَ لِمُجَرَّدِ اللَّهْوِ، وَيُبَاحُ فِيمَا عَدَا ذَلِكَ كَأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ فَاكِهَةً وَنَحْوَهَا مِنْ كُلِّ مُبَاحٍ. (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ فِي غَيْرِ الْمَسَائِلِ الثَّلَاثِ مُقَيَّدٌ بِمَا إذَا لَمْ يُضْطَرَّ إلَى اتِّخَاذِهَا لِحِفْظِ مَحِلِّهِ أَوْ حِفْظِ نَفْسِهِ وَإِلَّا جَازَ، كَمَا وَقَعَ لِلْمُصَنِّفِ حِينَ سَقَطَ حَائِطُ دَارِهِ وَكَانَ يَخَافُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الشِّيعَةِ فَاِتَّخَذَ كَلْبًا، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: كَيْفَ تَتَّخِذُهُ وَمَالِكٌ نَهَى عَنْ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ فِي غَيْرِ الْمَوَاضِعِ الثَّلَاثَةِ؟ فَقَالَ: لَوْ أَدْرَكَ مَالِكٌ زَمَانَنَا لَاِتَّخَذَ أَسَدًا ضَارِيًا، وَلَا ضَمَانَ عَلَى صَاحِبِ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ فِيمَا أَتْلَفَهُ إلَّا أَنْ يَصِيرَ عَقُورًا وَيُنْذَرُ صَاحِبُهُ عَلَى يَدٍ بَيِّنَةٍ، وَقِيلَ لَا بُدَّ مِنْ الْإِنْذَارِ عَلَى يَدِ الْقَاضِي عَلَى قَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ فَيَضْمَنُ جَمِيعَ مَا يُتْلِفُهُ بَعْدَ الْإِنْذَارِ، وَجِنَايَةُ غَيْرِ الْعَقُورِ مِنْ فِعْلِ الْعَجْمَاءِ وَهُوَ جُبَارٌ، هَذَا هُوَ الَّذِي يُفْهَمُ مِنْ شُرَّاحِ خَلِيلٍ قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ فَيَضْمَنُ مُتَّخِذُهُ جَمِيعَ مَا أَتْلَفَهُ وَلَوْ لَمْ يَتَقَدَّمْ لِمُتَّخِذِهِ إنْذَارٌ. الثَّانِي: لَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ قَتْلِ الْكِلَابِ وَمُحَصِّلُهُ أَنَّ الْمَأْذُونَ فِي اتِّخَاذِهِ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَكَثِيرٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَعَلَى قَاتِلِهِ غُرْمُ قِيمَتِهِ لِصِحَّةِ مِلْكِهِ وَإِنْ حَرُمَ بَيْعُهُ لِأَنَّهُ لَا تَلَازُمَ بَيْنَ حُرْمَةِ الْبَيْعِ وَعَدَمِ غُرْمِ الْقِيمَةِ، كَأُمِّ الْوَلَدِ وَلَحْمِ الضَّحِيَّةِ فَيَحْرُمُ بَيْعُهُمَا وَتَلْزَمُ قِيمَتُهُمَا مَنْ أَتْلَفَهُمَا، وَأَمَّا غَيْرُ الْمَأْذُونِ فِي اتِّخَاذِهِ فَلَا غُرْمَ عَلَى قَاتِلِهِ لِعَدَمِ صِحَّةِ تَمَلُّكِهِ وَجَوَازِ بَلْ نَدْبِ قَتْلِهِ. الثَّالِثُ: الدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ لِغَيْرِ الْحِرَاسَةِ وَالصَّيْدِ مَا وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ الْغَنَمِ لِمَا فِيهِ مِنْ صَلَاحِ لُحُومِهَا وَنُهِيَ عَنْ خِصَاءِ الْخَيْلِ وَيُكْرَهُ الْوَسْمُ فِي الْوَجْهِ وَلَا بَأْسَ بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ وَيُتَرَفَّقُ بِالْمَمْلُوكِ وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ.   [الفواكه الدواني] «مَنْ اقْتَنَى كَلْبًا لَا لِصَيْدٍ أَوْ زَرْعٍ أَوْ مَاشِيَةٍ نَقَصَ مِنْ أَجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ» . وَفِي رِوَايَةٍ: «قِيرَاطَانِ» . وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ الْمَلَائِكَةَ لَا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلَا صُورَةٌ مُحَرَّمَةٌ» كَصُورَةِ حَيَوَانٍ كَامِلَةٍ لَهَا ظِلٌّ، وَسَبَبُ امْتِنَاعِ الْمَلَائِكَةِ مِنْ دُخُولِ مَا فِيهِ كِلَابٌ كَمَا قَالَ الْفَاكِهَانِيُّ لِكَثْرَةِ قَذَارَتِهَا مِنْ تَعَاطِي النَّجَاسَاتِ، وَالْمَلَائِكَةُ تَنْفِرُ مِنْ الرَّوَائِحِ الْكَرِيهَةِ، وَلِأَنَّ بَعْضَهَا يُسَمَّى شَيْطَانًا وَالْمَلَائِكَةُ أَضْدَادُ الشَّيَاطِينِ، وَالْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ لَا يَدْخُلُونَ الْبَيْتَ الَّذِي فِيهِ مَا ذَكَرَهُمْ الْمَلَائِكَةُ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالرَّحْمَةِ، وَأَمَّا الْحَفَظَةُ فَيَدْخُلُونَ كُلَّ بَيْتٍ وَلَا يُفَارِقُونَ الْإِنْسَانَ فِي حَالٍ مِنْ الْأَحْوَالِ إلَّا عِنْدَ الْجِمَاعِ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - أَمَرَهُمْ بِإِحْصَاءِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ وَكِتَابَتِهَا، وَأَمَّا الْكِلَابُ الْمَأْذُونُ فِي اتِّخَاذِهَا فَلَا تُمْنَعُ الْمَلَائِكَةُ مِنْ دُخُولِ بُيُوتِهَا كَمَا قَالَهُ الْخَطَّابِيُّ وَالْقَاضِي عِيَاضٌ، خِلَافًا لِلنَّوَوِيِّ فَإِنَّهُ اسْتَظْهَرَ التَّعْمِيمَ فِي الْكِلَابِ وَفِي الصُّوَرِ، فَأَدْخَلَ فِي النَّهْيِ الْكِلَابَ الْجَائِزَةَ الِاتِّخَاذِ، وَفِي الصُّوَرِ الَّتِي لَا ظِلَّ لَهَا كَالْمَرْسُومَةِ فِي الْفُرُشِ أَوْ الْحَائِطِ، وَالْمُرَادُ بِالْجُنُبِ الَّذِي لَا تَدْخُلُ الْمَلَائِكَةُ مَعَهُ فِي بَيْتِهِ الْمُتَهَاوَنُ بِالْغُسْلِ بِحَيْثُ لَا يَفْعَلُهُ جُمْلَةً لَا مَنْ أَخَّرَهُ حَتَّى يَحْضُرَ وَقْتُ الصَّلَاةِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَنَامُ وَهُوَ جُنُبٌ وَيَطُوفُ عَلَى نِسَائِهِ بِغُسْلٍ وَاحِدٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْكِلَابِ، شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْخِصَاءِ فَقَالَ: (وَلَا بَأْسَ بِخِصَاءِ) بِالْمَدِّ (الْغَنَمِ) وَمِثْلُهَا الْمَعْزُ (لِمَا فِيهِ مِنْ إصْلَاحِ لُحُومِهَا) لِأَنَّهُ يُطَيِّبُهُ، وَلَا مَفْهُومَ لِلْغَنَمِ بَلْ الْبَقَرُ وَكُلُّ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ يَجُوزُ خِصَاؤُهُ مِنْ غَيْرِ كَرَاهَةٍ، فَلَا بَأْسَ فِي كَلَامِهِ لِلْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ سَوَاءٌ كَانَ الْخِصَاءُ بِقَطْعِ الْخُصْيَتَيْنِ أَوْ سَلِّهِمَا مَعَ بَقَاءِ الْجِلْدَةِ، وَيَدُلُّ عَلَى التَّعْمِيمِ فِي كُلِّ مَا يَحِلُّ أَكْلُهُ مُقَابَلَتُهُ بِقَوْلِهِ: (وَنُهِيَ) الْمُكَلَّفُ (عَنْ خِصَاءِ الْخَيْلِ) نَهْيَ تَحْرِيمٍ لِأَنَّهَا إنَّمَا تُرَادُ لِلرُّكُوبِ وَالْجِهَادِ عَلَيْهَا وَذَلِكَ يُنْقِصَ قُوَّتَهَا وَيَقْطَعُ نَسْلَهَا، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُكَلَّبَ الْفَرَسُ فَيَجُوزُ خِصَاؤُهُ، أَمَّا خِصَاءُ الْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ فَقَالَ ابْنُ يُونُسَ: يَجُوزُ خِصَاؤُهَا لِأَنَّهَا لَا يُجَاهَدُ عَلَيْهَا وَرُبَّمَا يَزِيدُ خِصَاؤُهَا فِي قُوَّتِهَا وَيَكْثُرُ بِهِ نَفْعُهَا كَخِصَاءِ الثَّوْرِ، وَأَمَّا خِصَاءُ الْآدَمِيِّ فَقَدْ حُكِيَ الْإِجْمَاعُ عَلَى حُرْمَتِهِ وَلَوْ رَقِيقًا، بَلْ حُكِيَ عَنْ الْإِمَامِ مَنْعَ بَيْعِهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْخِصَاءَ إمَّا مُتَّفَقٌ عَلَى جَوَازِهِ وَذَلِكَ فِيمَا يَحِلُّ أَكْلُهُ وَغَيْرِهِ مِنْ الْحَمِيرِ وَالْبِغَالِ. وَإِمَّا مُتَّفَقٌ عَلَى حُرْمَتِهِ وَذَلِكَ فِي الْآدَمِيِّ، وَاَلَّذِي فِيهِ الْخِلَافُ بِالْحُرْمَةِ وَالْكَرَاهَةِ وَالرَّاجِحُ الْحُرْمَةُ هُوَ الْخَيْلُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى الْوَسْمِ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ الْوَسْمُ) بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ الْعَلَامَةُ بِالنَّارِ أَوْ بِالشَّرْطِ بِالْمُوسَى (فِي الْوَجْهِ) أَيْ وَجْهُ غَيْرِ الْآدَمِيِّ لِأَنَّهُ يُؤْذِي الْحَيَوَانَ فِي الْوَجْهَيْنِ، وَإِذَايَةُ الْحَيَوَانِ بِغَيْرِ أَكْلِهِ وَغَيْرِ اسْتِعْمَالِهِ الشَّرْعِيِّ مَنْهِيٌّ عَنْهَا، وَلِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْكَرَ عَلَى مَنْ وَسَمَ حِمَارًا فِي وَجْهِهِ لِمَا أَنَّ الْوَجْهَ أَشْرَفُ الْأَعْضَاءِ. (وَلَا بَأْسَ بِهِ) أَيْ بِالْوَسْمِ (فِي غَيْرِ ذَلِكَ) أَيْ فِي غَيْرِ الْوَجْهِ كَالْجَمَلِ وَالْفَرَسِ وَالْبَقَرَةِ وَيُوسِمُهَا فِي رَقَبَتِهَا أَوْ جَنْبِهَا وَالْعَنْزُ فِي أُذُنِهَا لِئَلَّا تَخْتَلِطَ بِغَيْرِهَا فَيَعْرِفُهَا مَالِكُهَا بِوَسْمِ اسْمِهِ عَلَيْهَا، وَهَذَا كُلُّهُ فِي الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ كَمَا قَدَّمْنَا، وَأَمَّا الْآدَمِيُّ فَتَقَدَّمَ أَنَّهُ يَحْرُمُ وَسْمُهُ بِالنَّارِ فِي وَجْهِهِ وَفِي غَيْرِهِ عَلَى الْمُعْتَمَدِ، وَأَمَّا بِغَيْرِ النَّارِ فِي وَجْهِهِ فَفِيهِ قَوْلَانِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ الْوَسْمِ فِي غَيْرِ وَجْهِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِيِّ مَا وَرَدَ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «نَهَى عَنْ الْوَسْمِ فِي الْوَجْهِ وَأَرْخَصَ فِي الْوَسْمَةِ فِي الْأُذُنِ» لِأَنَّ الْوَسْمَةَ فِي الْأُذُنِ عَلَامَةٌ، وَالْمَالِكُ يَحْتَاجُ إلَى فِعْلِ ذَلِكَ فِي مَاشِيَتِهِ لِتَتَمَيَّزَ لَهُ عِنْدَ اخْتِلَاطِهَا بِغَيْرِهَا. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَحْكَامِ الْمَمْلُوكِ فَقَالَ: (وَ) يَجِبُ عَلَى الْمَالِكِ أَنْ (يَتَرَفَّقَ بِالْمَمْلُوكِ) فِي عَمَلِهِ وَأَكْلِهِ وَشُرْبِهِ وَشَأْنِهِ كُلِّهِ. (وَلَا) يَجُوزُ بِمَعْنَى يَحْرُمُ أَنْ (يُكَلَّفَ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ) عَمَلَهُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «اتَّقُوا اللَّهَ فِي الضَّعِيفَيْنِ الْعَبْدِ وَالْمَرْأَةِ» . وقَوْله تَعَالَى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} [البقرة: 286] وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لِلْمَمْلُوكِ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ بِالْمَعْرُوفِ» وَلَا يُكَلَّفُ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ، فَلَا يَجُوزُ لِلسَّيِّدِ أَنْ يُكَلِّفَ رَقِيقَهُ مَا يَشُقُّ عَلَيْهِ بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ التَّخْفِيفُ عَنْهُ فَإِنَّ ذَلِكَ دَأْبُ أَهْلِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ، وَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَطْحَنُ مَعَ الْخَادِمِ، وَكَذَلِكَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ، خُصُوصًا إنْ كَانَ الرَّقِيقُ مِنْ أَهْلِ الدِّينِ وَالصَّلَاحِ لِيَتَفَرَّغَ لِلْعِبَادَةِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ، وَمَعْنَى الْمَعْرُوفِ فِي الْحَدِيثِ أَنْ يَفْعَلَ مَعَهُ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَلَا يَلْزَمُ السَّيِّدَ إطْعَامُهُ مِنْ مَأْكُولِهِ وَمَشْرُوبِهِ وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ فَقَطْ، وَعَلَيْهِ تُحْمَلُ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِالْأَمْرِ بِإِطْعَامِهِ مِمَّا يَأْكُلُهُ السَّيِّدُ، وَإِذَا كَلَّفَهُ سَيِّدُهُ مَا لَا يُطِيقُهُ وَتَكَرَّرَ مِنْهُ وَلَمْ يَرْتَدِعْ وَيَنْزَجِرْ عَنْهُ فَإِنَّهُ يُبَاعُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا اشْتَكَى الْعَبْدُ الْعَزَبَةَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] فَلَا يَجِبُ عَلَى سَيِّدِهِ تَزْوِيجُهُ وَلَا بَيْعُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَبْرُ الْمَالِكِ أَمَةً وَعَبْدًا بِلَا إصْرَارٍ لَا عَكْسُهُ، وَلَا يُقَالُ: يُشْكِلُ عَلَيْهِ حَدِيثُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ» لِأَنَّا نَقُولُ: ذَاكَ فِي مَنْ لَهُ حَقٌّ وَالرَّقِيقُ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْوَطْءِ، وَهَذَا حُكْمُ الرَّقِيقِ الَّذِي يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ وَالْمُعْتَقِ لِأَجَلٍ فَإِنَّهُ يُؤَجَّرُ أَوْ تُزَوَّجُ أُمُّ الْوَلَدِ. (تَنْبِيهٌ) تَعْبِيرُ الْمُصَنِّفِ بِالْمَمْلُوكِ يَشْمَلُ الْحَيَوَانَ الْبَهِيمِيَّ فَيَجِبُ عَلَى مَالِكِهِ عَلَفُهُ. قَالَ خَلِيلٌ: إنَّمَا تَجِبُ نَفَقَةُ رَقِيقِهِ وَدَابَّتِهِ إنْ لَمْ يَكُنْ مَرْعًى، وَإِلَّا بِيعَ كَتَكْلِيفِهِ مِنْ الْعَمَلِ مَا لَا يُطِيقُ، وَيَجُوزُ مِنْ لَبَنِهَا مَا لَا يَضُرُّ بِنِتَاجِهَا، وَأَمَّا الْمَمْلُوكُ غَيْرُ الْحَيَوَانِ كَالْأَشْجَارِ وَالزَّرْعِ الَّتِي تَحْتَاجُ إلَى سَقْيٍ وَعِلَاجٍ فَيَجِبُ عَلَى مَالِكِهَا الْقِيَامُ بِمَا يُصْلِحُهَا وَيَحْفَظُهَا مِنْ الْإِتْلَافِ، فَإِنْ تَرَكَهَا حَتَّى مَاتَتْ عَطَشًا أَثِمَ لِلنَّهْيِ عَنْ إضَاعَةِ الْمَالِ، وَلَا يَجِبُ عَلَيْهِ بَيْعُهَا لِأَنَّهُ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ يُجْبَرُ رَبُّ الْحَائِطِ عَلَى بَيْعِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْقِيَامُ بِمَا يَحْفَظُهُ عَنْ التَّلَفِ كَمَا ذَكَرْنَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 [الرِّفْق بِالْمَمْلُوكِ] بَابٌ فِي الرُّؤْيَا وَالتَّثَاؤُبِ وَالْعُطَاسِ وَاللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَغَيْرِهَا وَالسَّبَقِ بِالْخَيْلِ وَالرَّمْيِ وَغَيْرِ ذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَمَنْ رَأَى مِنْكُمْ مَا يَكْرَهُ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَقُلْ اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْت فِي مَنَامِي أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ» وَمَنْ تَثَاءَبَ فَلْيَضَعْ يَدَهُ عَلَى فِيهِ وَمَنْ عَطَسَ فَلِيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَعَلَى مَنْ سَمِعَهُ يَحْمَدُ اللَّهَ أَنْ يَقُولَ لَهُ   [الفواكه الدواني] [بَابٌ فِي الرُّؤْيَا وَالتَّثَاؤُبِ وَالْعُطَاسِ وَغَيْرهَا] (بَابٌ فِي الرُّؤْيَا) بِالْقَصْرِ أَيْ مَا يَرَاهُ الشَّخْصُ فِي مَنَامِهِ، وَاخْتُلِفَ فِي حَقِيقَتِهَا، فَقِيلَ: هِيَ عِبَارَةٌ عَنْ أَمْثِلَةٍ يُدْرِكُهَا الرَّائِي بِجُزْءٍ مِنْ الْقَلْبِ لَمْ تُصِبْهُ آفَةُ النَّوْمِ، وَقِيلَ: إدْرَاكٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ يَقُومُ بِجُزْءٍ مِنْ الْقَلْبِ لَمْ يَقُمْ بِهِ النَّوْمُ، وَقِيلَ: فِكْرٌ يَقُومُ بِجُزْءٍ مِنْ الْقَلْبِ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ نَوْمٌ، وَفِي بَيَانِ الْقَوْلِ الَّذِي يَنْبَغِي لِلرَّائِي أَنْ يَقُولَهُ وَبَيَانِ تَفْسِيرِهَا. (وَ) فِي أَحْكَامِ (التَّثَاؤُبِ) بِمُثَنَّاةٍ وَمُثَلَّثَةٍ (وَ) فِي أَحْكَامِ (الْعُطَاسِ، وَ) فِي حُكْم ِ (اللَّعِبِ بِالنَّرْدِ وَغَيْرِهَا) مِنْ آلَاتِ اللَّهْوِ كَالشِّطْرَنْجِ (وَ) فِي أَحْكَامِ (السَّبْقِ بِالْخَيْلِ) وَالْإِبِلِ وَبَيْنَهُمَا. (وَ) فِي حُكْمِ (الرَّمْيِ) بِالسَّهْمِ (وَ) فِي بَيَانِ (غَيْرِ ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ كَبَيَانِ حُكْمِ قَتْلِ الْقَمْلِ بِالنَّارِ، وَكَبَيَانِ أَفْضَلِ الْعُلُومِ وَشَرَعَ فِي بَيَانِهَا عَلَى التَّفْصِيلِ فَقَالَ: (قَالَ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الرُّؤْيَا الْحَسَنَةُ) وَفِي رِوَايَةٍ الصَّالِحَةُ (مِنْ الرَّجُلِ الصَّالِحِ) وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ الشَّخْصُ الشَّامِلُ لِلْمَرْأَةِ كَمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: «لَمْ يَبْقَ مِنْ النُّبُوَّةِ إلَّا الْمُبَشِّرَاتُ، قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُسْلِمُ أَوْ تُرَى لَهُ» . كَمَا أَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالصَّالِحِ الْمُمْتَثِلُ لِلْمَأْمُورَاتِ الْمُجْتَنِبُ لِلْمَنْهِيَّاتِ. (جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ) وَفِي رِوَايَةٍ: «مِنْ سَبْعِينَ جُزْءًا» وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: نُصَدِّقُ بِهِ وَلَا نَخُوضُ فِي طَلَبِ مَعْنَاهُ، وَمِنْهُمْ مِنْ خَاضَ كَالْمَازِرِيِّ وَقَالَ: وَجْهُ كَوْنِ الرُّؤْيَا جُزْءًا مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَقَامَ يُوحَى إلَيْهِ ثَلَاثَةً وَعِشْرِينَ سَنَةً عَشَرَةٌ بِالْمَدِينَةِ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ بِمَكَّةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ بِسِتَّةِ أَشْهُرٍ يَرَى فِي الْمَنَامِ مَا يُلْقِيهِ إلَيْهِ الْمَلَكُ وَذَلِكَ نِصْفُ سَنَةٍ وَنِصْفُ سَنَةٍ مِنْ ثَلَاثَةٍ وَعِشْرِينَ سَنَةً جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ، وَإِلَّا سُلِّمَ تَفْوِيضُ عِلْمِ سِرِّ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى لِاخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ، لِأَنَّ كَلَامَ الْمَازِرِيِّ الْمَذْكُورَ لَا يَأْتِي عَلَى غَيْرِ رِوَايَةِ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا، وَأَمَّا الرُّؤْيَا غَيْرُ الْحَسَنَةِ فَلَيْسَتْ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْحَسَنَةَ مِنْ اللَّهِ كَمَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ» وَلِقِيَامِ الْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّ الرُّؤْيَا حَقٌّ وَبُشْرَى مِنْ اللَّهِ وَهِيَ مِنْ أَجْزَاءِ النُّبُوَّةِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَصْدَقُكُمْ رُؤْيَا أَصْدَقُكُمْ حَدِيثًا» وَأَصْدَقُهَا مَا يَرَاهُ الْإِنْسَانُ وَهُوَ نَائِمٌ عَلَى جَنْبِهِ الْأَيْمَنِ، وَأَقْوَى مَا تَكُونُ فِي الرَّبِيعِ وَالصَّيْفِ، وَأَضْعَفُ مَا تَكُونُ فِي الشِّتَاءِ وَالْخَرِيفِ، وَأَصْدَقُ مَا تَكُونُ عِنْدَ الِاسْتِغْرَاقِ فِي النَّوْمِ، وَرُؤْيَا اللَّيْلِ أَصْدَقُ مِنْ رُؤْيَا النَّهَارِ وَأَقْرَبُهَا انْتِظَارًا إذَا كَانَتْ آخِرَ اللَّيْلِ أَوْ نِصْفَ النَّهَارِ، وَغَيْرُ الصَّالِحَةِ الْحَلْمُ بِفَتْحِ الْحَاءِ مِنْ تَهْوِيلِ الشَّيْطَانِ وَتَخْلِيطِهِ، وَأَمَّا الْحُلُمِ بِضَمِّ الْحَاءِ فَهُوَ بُلُوغُ الصَّبِيِّ. (وَمَنْ رَأَى مِنْكُمْ) مَعَاشِرَ الْمُخَاطَبِينَ (مَا يَكْرَهُ فِي مَنَامِهِ فَإِذَا اسْتَيْقَظَ فَلْيَتْفُلْ) بِضَمِّ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا مِنْ بَابِ قَتَلَ وَضَرَبَ أَيْ يَبْصُقُ مِنْ غَيْرِ تَصْوِيتٍ (ثَلَاثًا عَلَى يَسَارَةِ وَلْيَقُلْ) لِلتَّعَوُّذِ مِنْ شَرِّهَا: (اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ شَرِّ مَا رَأَيْت فِي مَنَامِي أَنْ يَضُرَّنِي فِي دِينِي وَدُنْيَايَ) فَإِنَّهَا لَا تَضُرُّهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ، هَذَا وَرَدَ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي الْمُوَطَّإِ وَالصَّحِيحَيْنِ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ التَّحَوُّلَ عَنْ الْجَنْبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَفِي رِوَايَةٍ: «وَيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ ثَلَاثًا» فَيَنْبَغِي لِلرَّائِي الِاحْتِيَاطُ وَيَجْمَعُ مَا تَفَرَّقَ فِي الرِّوَايَاتِ، وَحِكْمَةُ التَّفْلِ عَنْ الْيَسَارِ أَنَّهُ مَأْوَى الشَّيَاطِينِ، وَحِكْمَةُ التَّحَوُّلِ مِنْ الْجَنْبِ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ التَّفَاؤُلُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَدِّلُ الْمَكْرُوهَ بِالْحَسَنِ، وَيَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَعُودَ إلَى مَنَامِهِ بَعْدَ اسْتِيقَاظِهِ لِأَنَّهُ إنْ عَادَ يَعُودُ إلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 يَرْحَمُك اللَّهُ وَيَرُدُّ الْعَاطِسُ عَلَيْهِ يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَوْ يَقُولُ يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ وَلَا يَجُوزُ اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ وَلَا   [الفواكه الدواني] الشَّيْطَانُ. (تَنْبِيهٌ) ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ مَا يَنْبَغِي قَوْلُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الْمَكْرُوهَ وَلَمْ يَذْكُرْ مَا يَقُولُهُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ الشَّيْءَ الْحَسَنِ، وَتَعَرَّضَ لَهُ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ وَلَفْظُهُ: «الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ مِنْ اللَّهِ فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يُحِبُّ فَلَا يُحَدِّثْ بِهَا إلَّا مِنْ يُحِبُّ» وَظَاهِرُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ التَّعْبِيرِ، وَفِي رِوَايَةِ النَّسَائِيّ: «فَلْيَعْرِضْهُ عَلَى ذِي رَأْيٍ نَاصِحٍ عَالِمٍ بِتَعْبِيرِ الرُّؤْيَا» لِأَنَّهُ الَّذِي يَجُوزُ لَهُ الْخَوْضُ فِي التَّعْبِيرِ، بِخِلَافِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِعِلْمِ التَّأْوِيلِ لَا يَجُوزُ لَهُ التَّعْبِيرُ اعْتِمَادًا عَلَى مُجَرَّدِ مَا يَرَاهُ فِي كُتُبِ التَّفْسِيرِ، كَمَا لَا يَجُوزُ الْإِفْتَاءُ بِالِاعْتِمَادِ عَلَى الْمُسَطَّرِ فِي الْكُتُبِ مِنْ غَيْرِ أَخْذٍ عَنْ شُيُوخِ الْعِلْمِ، لِاحْتِمَالِ خَفَاءِ قَيْدٍ وَالِاحْتِيَاطُ لِمَنْ رَأَى مَا يُحِبُّ كَتْمُ مَا رَآهُ إلَّا عَنْ حَبِيبٍ عَالِمٍ بِتَأْوِيلِ الرُّؤْيَا، بِخِلَافِ مَنْ رَأَى الْمَكْرُوهَ فَإِنَّ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ بَعْدَ قِيَامِهِ الصَّلَاةُ وَالسُّكُوتُ عَنْ التَّحْدِيثِ بِمَا رَأَى كَمَا فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الرُّؤْيَا شَرَعَ فِي أَحْكَامِ التَّثَاؤُبِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ) بِفَتْحِ الْمِيمِ شَرْطِيَّةٌ وَشَرْطُهَا (تَثَاءَبَ) بِمُثَنَّاةٍ وَمُثَلَّثَةٍ وَبِالْوَاوِ مَصْدَرُهَا التَّثَاؤُبُ. قَالَهُ عِيَاضٌ، وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَثَاءَبَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ عَلَى وَزْنِ تَفَاعَلَ، وَلَا يُقَالُ تَثَاوَبَ بِالْوَاوِ وَمَعْنَاهُ أَصَابَهُ الْكَسَلُ وَانْفَتَحَ فَاهُ لِدَفْعِ الْبُخَارَاتِ الْمُحْتَقِنَةِ فِي عَضَلَاتِ الْفَكِّ، وَإِنَّمَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ امْتِلَاءِ الْمَعِدَةِ وَمِنْ الشَّيْطَانِ، وَكَمَا يُورِثُ الْكَسَلَ يُورِثُ ثِقَلَ الْبَدَنِ وَسُوءَ الْفَهْمِ وَالْغَفْلَةَ، وَجَوَابُ الشَّرْطِ (فَلْيَضَعْ) نَدْبًا (يَدَهُ) الْيُمْنَى أَوْ ظَاهِرَ الْيُسْرَى (عَلَى فِيهِ) وَلَا يَضَعُ بَاطِنَ الْيُسْرَى لِأَنَّهَا مُعَدَّةٌ لِمُبَاشَرَةِ الْأَقْذَارِ، عَلَى أَنَّ الْيَدَ لَيْسَتْ شَرْطًا بَلْ الْمَقْصُودُ سَدُّ الْفَمِ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ يَدْخُلُ فِيهِ، وَإِذَا فَرَغَ مِنْهُ وَأَزَالَ يَدَهُ نَفَثَ ثَلَاثًا إنْ كَانَ فِي غَيْرِ صَلَاةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ يَسْتَأْنِفُ الْقِرَاءَةَ مِنْ غَيْرِ نَفْثٍ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْفُثُ فِي حَالِ التَّثَاؤُبِ، وَلَمَّا كَانَ التَّثَاؤُبُ مِنْ الشَّيْطَانِ لَمْ يَتَثَاءَبْ نَبِيٌّ لِأَنَّ الشَّيْطَانَ لَا يَقْرَبُ الْأَنْبِيَاءَ. (وَمَنْ) شَرْطِيَّةٌ شَرْطُهَا (عَطَسَ) بِفَتَحَاتٍ الْمَاضِي وَبِفَتْحٍ أَوْ ضَمِّ الْعَيْنِ مِنْ الْمُضَارِعِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ (فَلْيَقُلْ) نَدْبًا (الْحَمْدُ لِلَّهِ) مُسْمِعًا لِمَنْ يَقْرُبُ مِنْهُ لِكَيْ يُشَمِّتَهُ، لَا إنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَلَا يَحْمَدُ لَا جَهْرًا وَلَا سِرًّا، لِأَنَّ مَا هُوَ فِيهِ أَهَمُّ بِالِاشْتِغَالِ بِهِ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ شُرَّاحُ خَلِيلٍ، وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ فَلْيَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَّهُ يَأْتِي بِخُصُوصِ الْحَمْدِ. وَرُوِيَ زِيَادَةُ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَلَى كُلِّ حَالٍ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا. (فَائِدَةٌ) وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ: «إذَا تَجَشَّأَ أَحَدُكُمْ أَوْ عَطَسَ فَلَا يَرْفَعْ بِهِمَا الصَّوْتُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ بِهِمَا الصَّوْتُ» وَذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ، وَزَادَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ مِثْلَهُمَا رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّثَاؤُبِ. (وَ) يَجِبُ (عَلَى) جِهَةِ الْكِفَايَةِ عَلَى الْمَشْهُورِ عَلَى كُلِّ (مَنْ سَمِعَهُ يَحْمَدُ) بِفَتْحِ الْمِيمِ (اللَّهَ) بِخُصُوصٍ مِنْ لَفْظِ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ (أَنْ يَقُولَ لَهُ يَرْحَمُك اللَّهُ) وَمِثْلُ سَمَاعِهِ الْعَاطِسَ سَمَاعُ تَشْمِيتِ اللَّهِ لَهُ فَقَدْ قَالَ مَالِكٌ: إذَا لَمْ يَسْمَعْ حَمْدَ الْعَاطِسِ فَلَا يُشَمِّتُهُ إلَّا أَنْ يَرَى تَشْمِيتَ النَّاسِ لَهُ فَيُشَمِّتُهُ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى فِي عَدَمِ تَشْمِيتِهِ لَوْ تَرَكَ لَفْظَ الْحَمْدِ لِلَّهِ، وَلَوْ أَتَى بِغَيْرِهِ مِنْ نَحْوِ قَوْلِ الْعَوَامّ: أَشْهَدُ أَنَّ اللَّهَ حَقٌّ، وَيَنْبَغِي لِمَنْ كَانَ قَرِيبًا مِنْهُ أَنْ يُنَبِّهَهُ عَلَيْهِ إذَا تَرَكَهُ لِكَيْ يُشَمِّتَهُ كَمَا جَاءَ عَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ عَطَسَ عِنْدَهُ رَجُلٌ وَلَمْ يَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ فَقَالَ لَهُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَةٍ: مَا يَقُولُ الْعَاطِسُ؟ فَقَالَ: يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَقَالَ لَهُ الْأَوْزَاعِيُّ: يَرْحَمُكَ اللَّهُ، وَنَصَّ عُلَمَاؤُنَا عَلَى نَدْبِ تَنْبِيهِ الْإِمَامِ عِنْدَ نِسْيَانِهِ التَّكْبِيرَ خَلْفَ الْمَفْرُوضَةِ فِي أَيَّامِ النَّحْرِ، وَيُرَجَّحُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ نَدْبِ تَنْبِيهِ الْعَاطِسِ عَلَى الْحَمْدِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنْ يَسْبِقَ الْعَاطِسُ بِالْحَمْدِ يَأْمَنُ مِنْ الشَّوْصِ وَاللُّصُوصِ وَالْعِلَّوْصِ، أَيْ وَجَعُ الضِّرْسِ وَالْأُذُنِ وَالْبَطْنِ، الْأَوَّلُ لِلْأَوَّلِ، وَالثَّانِي لِلثَّانِي، وَهَكَذَا عَلَى التَّرْتِيبِ، وَقَوْلِي: وَلَمْ يَكُنْ فِي صَلَاةٍ لِأَنَّ مَنْ فِي صَلَاةٍ لَا يَجُوزُ لَهُ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، بَلْ لَوْ قَالَ الْمُصَلِّي لِلْعَاطِسِ: يَرْحَمُك اللَّهُ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ صَلَاتُهُ، كَمَا لَا يَرُدُّ الْمُصَلِّي عَلَى مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ، فَإِنْ رَدَّ عَمْدًا أَوْ جَهْلًا بَطَلَتْ لَا سَهْوًا فَيَسْجُدُ الْفَذُّ وَالْإِمَامُ إلَّا أَنْ يَكْثُرَ مِنْهُ ذَلِكَ فَتَبْطُلُ صَلَاتُهُ كَكَثِيرِ كُلِّ سَهْوٍ. 1 - (تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْعَاطِسِ الرَّجُلِ الْمُسْلِمِ وَالْمَرْأَةِ الْمَحْرَمِ أَوْ الْأَجْنَبِيَّةِ الْمُتَجَالَّةِ أَوْ مَا فِي مَعْنَاهَا مِمَّا لَا تَمِيلُ إلَيْهَا النُّفُوسُ، وَأَمَّا الشَّابَّةُ الَّتِي يُخْشَى مِنْهَا الْفِتْنَةُ إذَا سَمِعَهَا الرَّجُلُ الْأَجْنَبِيُّ تَعْطِسُ وَسَمِعَ حَمْدَهَا فَلَا يُشَمِّتُهَا كَمَا لَا يَرُدُّ سَلَامَهَا، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَيُقَالُ لَهُ: هَدَاك اللَّهُ لِمَا وَرَدَ مِنْ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُولُ لِلْيَهُودِ الَّذِينَ يَعْطِسُونَ بِحَضْرَتِهِ: يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ» وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ لِلْكَافِرِ يَرْحَمُك اللَّهُ لِأَنَّ الْكَافِرَ لَا يُرْحَمُ إلَّا أَنْ يُؤْمِنَ. 1 - الثَّانِي: ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى السَّامِعِ تَشْمِيتُ الْعَاطِسِ، وَلَوْ تَكَرَّرَ حَمْدُهُ لِتَكَرُّرِ عُطَاسِهِ وَهُوَ كَذَلِكَ إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ لِمَا وَرَدَ مِنْ الْحَدِيثِ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ فَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ إلَّا أَنْ يَزِيدَ عَلَى ثَلَاثٍ فَلَا يُشَمِّتُهُ وَيَقُولُ لَهُ: إنَّك مَضْنُوكٌ» أَيْ مَزْكُومٌ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا وُجُوبُ تَشْمِيتِهِ وَلَوْ سَمِعَهُ فِي حَالِ قَضَاءِ حَاجَتِهِ، وَرُبَّمَا يَدُلُّ لِهَذَا الظَّاهِرِ قَوْلُ الذَّخِيرَةِ: لَمْ يَكْرَهْ ابْنُ الْقَاسِمِ لِلْعَاطِسِ أَنْ يَحْمَدَ اللَّهَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 بِالشِّطْرَنْجِ وَلَا بَأْسَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى مَنْ يَلْعَبُ بِهَا وَيُكْرَهُ الْجُلُوسُ إلَى مَنْ يَلْعَبُ بِهَا وَالنَّظَرُ إلَيْهِمْ وَلَا بَأْسَ بِالسَّبْقِ   [الفواكه الدواني] وَهُوَ يَبُولُ وَكَرِهَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي الْخَلَاءِ وَالْجِمَاعِ، فَإِنَّ الْأُجْهُورِيَّ قَالَ عَقِبَهُ: وَإِذَا لَمْ يُكْرَهْ لِلْعَاطِسِ الْحَمْدُ فِي حَالِ الْبَوْلِ مَعَ أَنَّهُ مُسْتَحَبٌّ أَوْ سُنَّةٌ فَلَا يُكْرَهُ التَّشْمِيتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الْأُولَى لِأَنَّهُ فَرْضُ كِفَايَةٍ عَلَى أَرْجَحِ الْأَقْوَالِ، وَلَكِنْ ذَكَرَ الْعَلَّامَةُ بَهْرَامُ فِي شَامِلِهِ أَنَّ قَاضِيَ الْحَاجَةِ لَا يَلْتَفِتُ وَلَا يَرُدُّ سَلَامًا وَلَا يَحْمَدُ إنْ عَطَسَ وَلَا يُشَمِّتُ غَيْرَهُ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا بِحَمْلِ مَا فِي الذَّخِيرَةِ عَلَى فَرْضِيَّةِ التَّشْمِيتِ، وَمَا فِي الشَّامِلِ عَلَى عَدَمِ فَرَضِيَتْهُ لِأَنَّ الْخَلَاءَ يُطْلَبُ فِيهِ السُّكُوتُ إلَّا لِمُهِمٍّ، وَغَيْرُ الْفَرْضِ لَيْسَ مِنْ الْمُهِمِّ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ فَرْضِيَّةِ التَّشْمِيتِ عَلَى الْكِفَايَةِ عَلَى أَحَدِ أَقْوَالٍ أَرْبَعَةٍ وَهُوَ أَرْجَحُهَا وَهُوَ الْمُتَبَادِرُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْعُطَاسَ وَيَكْرَهُ التَّثَاؤُبَ، فَإِذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ وَحَمِدَ اللَّهَ كَانَ حَقًّا عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ سَمِعَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ» وَأَمَّا التَّثَاؤُبُ فَهُوَ مِنْ الشَّيْطَانِ، وَكَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا عَطَسَ يَضَعُ يَدَهُ أَوْ ثَوْبَهُ عَلَى فِيهِ حَتَّى لَا يَرْفَعَ صَوْتَهُ وَقَالَ: «إذَا عَطَسَ أَحَدُكُمْ أَوْ تَجَشَّأَ فَلَا يَرْفَعَنَّ بِهِمَا صَوْتَهُ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ يُحِبُّ أَنْ يُرْفَعَ بِهِمَا الصَّوْتُ» . الرَّابِعُ: إنَّمَا طُلِبَ مِنْ الْعَاطِسِ الْحَمْدُ لِمَا فِي الْعُطَاسِ مِنْ الرَّحْمَةِ وَالْمَنْفَعَةِ لِلْعَاطِسِ لِأَنَّهُ يُخَفِّفُ الدِّمَاغَ وَيُسَهِّلُ بَعْضَ الْعِبَادَاتِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «أَنَّهُ يَقْطَعُ عِرْقَ الْفَالِجِ، وَالسُّعَالَ يَقْطَعُ عِرْقَ الْبَرَصِ، وَالزُّكَامِ يَقْطَعُ عِرْقَ الْجُذَامِ، وَالرَّمَدِ يَقْطَعُ عِرْقَ الْعُمْرِ» . وَوَرَدَ: «مِنْ سَعَادَةِ الْمَرْءِ الْعُطَاسُ عِنْدَ الدُّعَاءِ وَأَوَّلُ مَنْ عَطَسَ آدَم» وَإِنَّمَا طُلِبَ مِنْ سَامِعِهِ تَشْمِيتُهُ بِيَرْحَمُكَ اللَّهُ لِأَنَّهُ عِنْدَ عُطَاسِهِ تَتَزَلْزَلُ أَعْضَاؤُهُ فَيُطْلَبُ الدُّعَاءُ لَهُ بِالرَّحْمَةِ كَمَا طُلِبَ مِنْهُ الْحَمْدُ عَلَى نِعْمَةٍ عُوِّدَهَا كَمَا كَانَتْ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: مَعْنَى التَّشْمِيتِ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَ اللَّهُ عَنْك الشَّمَاتَةَ وَجَنَّبَك مَا يُشَمِّتُ بِك، وَيُقَالُ فِيهِ تَسْمِيتٌ أَيْضًا بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وَمَعْنَاهُ: جَعَلَك اللَّهُ عَلَى سَمْتٍ حَسَنٍ، لِأَنَّ عِنْدَ الْعُطَاسِ يُشْبِهُ حَالَ الْأَمْوَاتِ مَعَ فَتْحِ فِيهِ مَعَ التَّكَشُّرِ. (وَ) يُنْدَبُ أَنْ (يَرُدَّ الْعَاطِسُ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى مِنْ شَمَّتَهُ بِيَرْحَمُكَ اللَّهُ بِأَنْ يَقُولَ لَهُ جَوَابَ يَرْحَمُك اللَّهِ. (يَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ أَوْ يَقُولَ) لَهُ (يَهْدِيكُمْ اللَّهُ وَيُصْلِحُ بَالَكُمْ) أَيْ حَالَكُمْ وَقِيلَ قَلْبَكُمْ فَهُوَ مُخَيَّرٌ بَيْنَ اللَّفْظَيْنِ كَمَا قَالَهُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَإِنَّهُ قَالَ أَيْ ذَلِكَ قَالَهُ فَحَسَنٌ، فَمُقْتَضَاهُ أَنَّهُ لَا مَزِيَّةَ لِأَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وَهُوَ كَذَلِكَ لِوُرُودِ كُلٍّ مِنْ اللَّفْظَيْنِ فِي السُّنَّةِ خِلَافًا لِمَنْ ادَّعَى الْمُفَاضَلَةَ، وَقَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ رُشْدٍ وَمِثْلُهُ لِابْنِ شَاسٍ: الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا حَسَنٌ. (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا كَانَ الْمُشَمِّتُ يَقُولُ يَرْحَمُك اللَّهُ بِالْإِفْرَادِ وَالْعَاطِسُ يَرُدُّ عَلَيْهِ بِيَغْفِرُ اللَّهُ لَنَا وَلَكُمْ بِالْجَمْعِ لِأَنَّ الْمَلَائِكَةَ تُشَمِّتُ الْعَاطِسَ أَيْضًا، فَلِذَلِكَ طُلِبَ الْجَمْعُ لِأَنَّهُمْ مَعَ الْمُشَمِّتِ جَمْعٌ هَكَذَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ سَامِعَ الْحَمْدِ مِنْ الْعَاطِسِ يَجِبُ عَلَيْهِ تَشْمِيتُهُ وَلَوْ اقْتَصَرَ عَلَى لَفْظِ الْحَمْدِ لِلَّهِ وَلَمْ يَزِدْ رَبَّ الْعَالَمِينَ. [اللَّعِب بِالنَّرْدِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي حُكْمِ اللَّعِبِ بِالْمَلَاهِي بِقَوْلِهِ: (وَلَا يَجُوزُ) بِمَعْنَى يَحْرُمُ عَلَى مَا فِي الْجَوَاهِرِ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ (اللَّعِبُ بِالنَّرْدِ) وَلَوْ مَجَّانًا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ لَعِب بِالنَّرْدَشِيرِ فَكَأَنَّمَا صَبَغَ يَدَهُ فِي لَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَدَمِهِ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَنْ لَعِبَ بِالنَّرْدِ فَقَدْ عَصَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ» وَالنَّرْدَشِيرُ هُوَ النَّرْدُ [اللَّعِب بِالشِّطْرَنْجِ] (وَلَا) يَجُوزُ أَيْضًا اللَّعِبُ (بِالشَّطْرَنْجِ) بِفَتْحِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْقِيَاسُ كَسْرُهَا وَيُقَالُ بِالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ أَيْضًا، وَمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ اللَّعِبِ بِالشَّطْرَنْجِ هُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ الْحَطَّابُ فَإِنَّهُ حَمَلَ الْكَرَاهَةَ الْوَاقِعَةَ فِي كَلَامِ بَعْضٍ عَلَى التَّحْرِيمِ وَهُوَ قَوْلُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيِّ أَيْضًا، حَتَّى قَالَ إمَامُنَا مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: الشَّطْرَنْجُ أَلْهَى مِنْ النَّرْدِ وَأَشَرُّ، وَمُقْتَضَى اشْتِرَاطِ الْإِدْمَانِ فِي اللَّعِبِ بِهِ لِرَدِّ شَهَادَةِ مَنْ يَلْعَبُ بِهِ إبْقَاءُ الْكَرَاهَةِ عَلَى بَابِهَا، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْإِدْمَانِ اللَّعِبُ بِهِ أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ فِي السَّنَةِ كَمَا قَالُوا فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ بِالْكَذِبِ الْكَثِيرِ فَإِنَّهُمْ فَسَّرُوا الْكَثِيرَ بِأَنْ يَزِيدَ فِي السَّنَةِ عَلَى مَرَّةٍ وَإِلَّا لَمْ يَقْدَحْ مَعَ أَنَّ الْكَذِبَ حَرَامٌ، وَلَعَلَّ هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي فَهْمِ كَلَامِ الشُّيُوخِ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى اشْتِرَاطِ مَا ذُكِرَ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ مَعَ حُرْمَةِ رَدِّهَا بِفِعْلِ الْمُبَاحِ الْمُزْرِي، فَإِنَّ مُقْتَضَى الْإِبَاحَةِ عَدَمُ رَدِّ الشَّهَادَةِ بِهِ وَإِنْ أَدَامَهُ وَأَكْثَرُ مِنْهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: إدَامَةُ الْمُزْرِي مُخِلَّةٌ بِالْعَدَالَةِ الْمُشْتَرَطَةِ فِي الشَّهَادَةِ، فَالْإِكْثَارُ مِنْ الْمُزْرِي كَالْإِكْثَارِ مِنْ الْمُحَرَّمِ فِي رَدِّ الشَّهَادَةِ، وَمُحَصِّلُ الْجَوَابِ أَنَّهُ لَا يَلْزَمُ مِنْ الْحُرْمَةِ الْإِزْرَاءُ بِدَلِيلِ تَفْرِقَتِهِمْ فِي الصَّغِيرَةِ بَيْنَ صَغِيرَةِ الْخِسَّةِ فَتُرَدُّ الشَّهَادَةُ مُطْلَقًا مِثْلَ النَّظْرَةِ لِلْأَجْنَبِيَّةِ وَسَرِقَةِ لُقْمَةٍ وَنَحْوِ ذَلِكَ لِدَلَالَةِ مَا ذُكِرَ عَلَى دَنَاءَةِ الْهِمَّةِ، وَأَمَّا صَغَائِرُ غَيْرِ الْخِسَّةِ فَلَا تَقْدَحُ إلَّا بِشَرْطِ الْإِدْمَانِ عَلَيْهَا مَعَ حُرْمَةِ كُلِّ صَغِيرَةٍ. (تَنْبِيهٌ) وَقَعَ الْخِلَافُ فِي اللَّعِبِ الطَّابِ وَهُوَ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ، وَكَذَا فِي الْمِنْقَلَةِ، وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ بَهْرَامُ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ الْحُرْمَةُ فِي الطَّابِ وَجَعَلَهُ مِثْلَ النَّرْدِ، وَأَمَّا الْمِنْقَلَةُ فَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ الْكَرَاهَةَ فِيهَا، وَكُلُّ هَذَا حَيْثُ لَا قِمَارَ وَإِلَّا فَالْحُرْمَةُ فِيهِمَا مِنْ غَيْرِ نِزَاعٍ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عِصْيَانِ أَصْحَابِ الْمَلَاهِي عَدَمُ السَّلَامِ عَلَيْهِمْ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ) أَنْ يُؤْذَنَ فِي (أَنْ يُسَلَّمَ) بِالْبِنَاءِ لِلْمَجْهُولِ وَنَائِبُ الْفَاعِلِ (عَلَى مَنْ) شَأْنُهُ أَنْ (يَلْعَبَ بِهَا) أَيْ الْمَلَاهِي وَإِنَّمَا قُلْنَا شَأْنُهُ لِأَنَّ الْمُتَلَبِّسَ بِاللَّعِبِ لَا يَجُوزُ السَّلَامُ عَلَيْهِ. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: لِأَنَّهُ مُتَلَبِّسٌ بِمَعْصِيَةٍ. وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حُكْمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 بِالْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَبِالسِّهَامِ بِالرَّمْيِ [حُكْم المسابقة] وَإِنْ أَخْرَجَا شَيْئًا جَعَلَا بَيْنَهُمَا مُحَلِّلًا يَأْخُذُ ذَلِكَ الْمُحَلِّلُ إنْ سَبَقَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ وَقَالَ مَالِكٌ إنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ سَبْقًا فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ أَخَذَهُ وَإِنْ سَبَقَ هُوَ كَانَ لِلَّذِي يَلِيهِ مِنْ الْمُتَسَابِقَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ جَاعِلٍ السَّبْقَ وَآخَرُ فَسَبَقَ جَاعِلَ السَّبْقِ أَكَلَهُ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ وَجَاءَ فِيمَا ظَهَرَ مِنْ الْحَيَّاتِ بِالْمَدِينَةِ أَنْ تُؤْذَنَ ثَلَاثًا وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي غَيْرِهَا فَهُوَ حَسَنٌ وَلَا تُؤْذَنُ فِي الصَّحْرَاءِ وَيُقْتَلُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَيُكْرَهُ   [الفواكه الدواني] السَّلَامِ عَلَى مَنْ يَلْعَبُ بِالْمَلَاهِي ذَكَرَ حُكْمَ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ) لِلْمُكَلَّفِ قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: عَلَى جِهَةِ التَّحْرِيمِ (الْجُلُوسُ إلَى) أَيْ عِنْدَ (مَنْ يَلْعَبُ بِهَا) أَيْ بِتِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مِنْ الْمَلَاهِي مَخَافَةَ أَنْ يُنْسَبَ إلَيْهِمْ لِأَنَّ جَلِيسَ الْقَوْمِ مِنْهُمْ. (وَ) كَذَا يُكْرَهُ (النَّظَرُ إلَيْهِمْ) أَيْ مَنْ يَلْعَبُ بِالْمَلَاهِي، وَأَفْرَدَ الضَّمِيرَ فِي بِهَا وَجَمَعَهُ فِي إلَيْهِمْ الْعَائِدِ عَلَى مَنْ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهَا فِي الْأَوَّلِ وَلِمَعْنَاهَا فِي الثَّانِي نَحْوَ: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ، وَإِنْ كَانَ الْأَكْثَرُ مُرَاعَاةَ اللَّفْظِ، مَا لَمْ يَلْزَمْ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ قُبْحٌ نَحْوَ: مَنْ هِيَ حَمْرَاءُ أُمِّك، فَلَا يُقَالُ: مَنْ هُوَ حَمْرَاءُ أُمِّك، فَيَتَعَيَّنُ مُرَاعَاةُ الْمَعْنَى نَحْوَ: مَنْ هِيَ حَمْرَاءُ أُمِّك، وَمَا لَمْ يَتَرَتَّبْ عَلَى مُرَاعَاةِ اللَّفْظِ لَبْسٌ نَحْوُ: أَعْطِ مَنْ سَأَلَك مَعَ كَوْنِ الْمُعْطِي مُؤَنَّثًا. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى حُكْمِ الْمُسَابَقَةِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِالسَّبْقِ بِالْخَيْلِ) فِيمَا بَيْنَهَا. (وَ) كَذَلِكَ لَا بَأْسَ بِالْمُسَابَقَةِ (بِالسِّهَامِ بِالرَّمْيِ) فَلَا بَأْسَ فِي كَلَامِهِ لِلْإِبَاحَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى إبَاحَتِهَا مَا فِي الْحَدِيثِ: «مِنْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَابَقَ بَيْنَ الْخَيْلِ» . وَقَالَ أَيْضًا: «لَا سَبْقَ إلَّا فِي نَصْلٍ أَوْ خُفٍّ أَوْ حَافِرٍ» ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُسَابَقَةَ إنْ وَقَعَتْ بِغَيْرِ جُعْلٍ تَجُوزُ بِالْمَذْكُورَاتِ وَغَيْرِهَا مِنْ نَحْوِ الْحَمِيرِ وَالطَّيْرِ وَالسَّفَرِ وَالرَّمْيِ بِالْحِجَارَةِ إذَا وَقَعَتْ لِغَرَضٍ صَحِيحٍ. قَالَ خَلِيلٌ: وَجَازَ فِيمَا عَدَاهُ مَجَّانًا، وَأَمَّا بِالْجُعْلِ فَإِنَّمَا يَجُوزُ فِي الْخَيْلِ وَالْإِبِلِ وَبَيْنَهُمَا وَالسَّهْمِ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ الْجُعْلُ مِمَّا يَصِحُّ بَيْعُهُ، وَتَعْيِينُ الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ وَالْمَرْكُوبِ، وَتَعْيِينُ فَرَسِ كُلٍّ وَجَهْلُ كُلِّ سَبْقٍ فَرَسَهُ، وَإِنَّمَا الشَّرْطُ أَنْ لَا يَعْلَمَ أَحَدُهُمَا بِسَبْقِ فَرَسِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ مَرَمَّةُ الرَّكْبِ عَلَيْهِمَا مِنْ كَوْنِهِ جَسِيمًا أَوْ لَطِيفًا، وَإِنَّمَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُمَا، وَمِثْلُ تَعْيِينِ الْمَبْدَأِ وَالْغَايَةِ بِالْفِعْلِ جَرَى الْعُرْفُ بِشَيْءٍ مُعَيَّنٍ، وَإِنَّمَا اُشْتُرِطَ مَا ذُكِرَ فِيهَا مَعَ الْجُعْلِ لِأَنَّهَا مِنْ الْعُقُودِ اللَّازِمَةِ كَالْإِجَارَةِ، وَيُشْتَرَطُ فِي الرَّمْيِ تَعْيِينُ عَدَدِ الْإِصَابَةِ وَنَوْعِهَا مِنْ خَرْقٍ أَوْ غَيْرِهِ، بِخِلَافِ السَّهْمِ فَإِنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ تَعْيِينُهُ وَلَا تَعْيِينُ الْوَتْرِ وَلَا مَوْضِعِ الْإِصَابَةِ. [صُوَرِ الْمُسَابَقَةِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ صُوَرِ الْمُسَابَقَةِ وَهِيَ ثَلَاثَةٌ: لِأَنَّ الْجُعْلَ إمَّا مِنْهُمَا أَوْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَإِمَّا مِنْ عِنْدِ غَيْرِهِمَا تَبَرَّعَ بِهِ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ أَخْرَجَا) أَيْ الْمُتَسَابِقَانِ (شَيْئًا) مِنْ عِنْدِهِمَا سَمَّيَاهُ سَبَقًا بِالْفَتْحِ أَيْ جُعْلًا وَجَوَابُ الشَّرْطِ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ جَازَ عَقْدُهَا إنْ (جَعَلَا بَيْنَهُمَا) ثَالِثًا مُسَابِقًا مِثْلَهُمَا (مُحَلِّلًا) لِعَقْدِهِمَا (يَأْخُذُ ذَلِكَ الْمُحَلِّلُ) هَذَا الشَّيْءَ الَّذِي أَخْرَجَاهُ (إنْ سَبَقَ هُوَ) أَيْ الْمُحَلِّلُ (وَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ الْمُحَلِّلِ وَهُوَ أَحَدُ الْمُخْرِجِينَ لِلْجُعْلِ (لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ) بِسَبَبِ سَبْقِ غَيْرِهِ لَهُ (شَيْءٌ) وَيَأْخُذُ السَّابِقُ جَمِيعَ الْجُعْلِ (هَذَا قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيِّبِ) وَبَعْضُ أَصْحَابِ الْإِمَامِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَأَشَارَ إلَى مُقَابِلِهِ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ مَالِكٌ) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: (إنَّمَا يَجُوزُ) مِنْ صُوَرِ الْمُسَابَقَةِ (أَنْ يُخْرِجَ الرَّجُلُ سَبَقًا) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ جُعْلًا (فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ) أَيْ غَيْرُ مُخْرِجِهِ (أَخَذَهُ إنْ سَبَقَ هُوَ) أَيْ مُخْرِجُ الْجُعْلِ (كَانَ لِلَّذِي يَلِيهِ مِنْ الْمُتَسَابِقِينَ) وَاقْتَصَرَ خَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ مَالِكٍ لِأَنَّهُ الْمُعْتَمَدُ حَيْثُ قَالَ: لَا إنْ أَخْرَجَاهُ لِيَأْخُذَ السَّابِقُ وَلَوْ بِمُحَلِّلٍ يُمْكِنُ سَبْقُهُ، وَإِنَّمَا مُنِعَتْ الْمُسَابَقَةُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لِعَوْدِ الْجُعْلِ لِمُخْرِجِهِ عَلَى تَقْدِيرِ سَبْقِهِ، وَمَحِلُّ الْخِلَافِ كَمَا عُلِمَ مِنْ كَلَامِ خَلِيلٍ إذَا كَانَ يُمْكِنُ سَبْقُ الثَّالِثِ وَإِلَّا اُتُّفِقَ عَلَى مَنْعِهَا وَسُمِّيَ هَذَا الثَّالِثُ الَّذِي لَا يُخْرِجُ الْجُعْلَ مُحَلِّلًا وَإِنْ حَرُمَتْ تِلْكَ الْمُسَابَقَةُ بِحَسَبِ زَعْمَيْهِمَا، هَذَا حُكْمُ مَا إذَا كَانَ الْمُتَسَابِقُونَ أَكْثَرَ مِنْ اثْنَيْنِ. (فَإِنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرُ جَاعِلِ السَّبَقِ) بِفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ أَيْ الْجُعْلِ (وَآخَرُ) وَهُوَ السَّابِقُ لَهُ (فَسَبَقَ جَاعِلُ السَّبَقِ) بِفَتْحِ الْبَاءِ (أَكَلَهُ مَنْ حَضَرَ ذَلِكَ) الْفِعْلَ بِمَعْنَى الْمُسَابَقَةِ فَإِنَّهَا تَجُوزُ، وَبَقِيَ صُورَةٌ ثَالِثَةٌ أَنْ يُخْرِجَهُ مُتَبَرِّعٌ أَيْ غَيْرُ الْمُتَسَابِقِينَ مِنْ وَالٍ أَوْ غَيْرِهِ لِيَأْخُذَهُ كُلُّ مَنْ سَبَقَ مِنْ الْمُتَسَابِقِينَ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْجَائِزَ أَنْ يُخْرِجَ الْجُعْلَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ عَلَى أَنَّهُ إنْ سَبَقَ رَفِيقُهُ يَأْخُذُهُ، وَإِنْ سَبَقَ مُخْرِجُهُ يَكُونُ لِمَنْ حَضَرَ مِنْ الْمُتَسَابِقِينَ عِنْدَهُمْ إذَا كَانَتْ الْمُسَابَقَةُ وَقَعَتْ مِنْ اثْنَيْنِ فَقَطْ. قَالَ خَلِيلٌ فِي بَيَانِ الْجَزَائِرِ: وَأَخْرَجَهُ مُتَبَرِّعٌ أَوْ أَحَدُهُمَا فَإِنْ سَبَقَ غَيْرُهُ أَخَذَهُ وَإِنْ سَبَقَ هُوَ فَلِمَنْ حَضَرَ. (تَنْبِيهٌ) وَقَعَ التَّوَقُّفُ مِنْ الشُّيُوخِ لَوْ لَمْ يَكُنْ سَبَقٌ عِنْدَ إخْرَاجِ الْمُتَبَرِّعِ أَوْ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ عِنْدَ سَبْقِ الْمُخْرِجِ، وَاسْتَظْهَرَ الْحَطَّابُ أَنَّ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْمُتَبَرِّعُ يَكُونُ لَهُمَا سَوِيَّةً عِنْدَ عَدَمِ السَّبْقِ مِنْ أَحَدِهِمَا وَأَقُولُ: إنَّمَا يَتِمُّ الِاسْتِظْهَارُ إذَا كَانَ التَّبَرُّعُ لَا بِقَيْدِ السَّبْقِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَحْضُرْ أَحَدٌ عِنْدَ سَبْقِ الْمُخْرِجِ أَنْ يَبْقَى عَلَى مِلْكِ صَاحِبِهِ وَحُرِّرَ الْحُكْمُ. ثُمَّ شَرَعَ فِي الْكَلَامِ عَلَى مَا أَشَارَ لَهُ فِي التَّرْجَمَةِ بِقَوْلِهِ وَغَيْرُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَجَاءَ) أَيْ وَرَدَ عَنْ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (فِيمَا ظَهَرَ مِنْ الْحَيَّاتِ بِالْمَدِينَةِ) أَيْ بُيُوتِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 قَتْلُ الْقَمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ بِالنَّارِ وَلَا بَأْسَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَتْلِ النَّمْلِ إذَا آذَتْ وَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى تَرْكِهَا وَلَوْ لَمْ تُقْتَلْ كَانَ أَحَبَّ   [الفواكه الدواني] - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَيَلْحَقُ ذَلِكَ أَزِقَّتُهَا وَفَاعِلٌ جَاءَ (أَنْ تُؤْذَنَ) أَيْ الْحَيَّاتُ عَلَى جِهَةِ الْوُجُوبِ كَمَا هُوَ مُقْتَضَى صِيغَةِ الْأَمْرِ الْآتِيَةِ فِي الْحَدِيثِ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ وَهُوَ رَافِعٌ لِلْإِجْمَالِ الْوَاقِعِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ، وَحَذَفَ التَّاءَ حِينَئِذٍ لِحَذْفِ الْمَعْدُودِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى طَلَبِ اسْتِئْذَانِهَا مَا فِي الْمُوَطَّإِ وَغَيْرِهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «إنَّ بِالْمَدِينَةِ جِنًّا قَدْ أَسْلَمُوا، فَإِذَا رَأَيْتُمْ مِنْهَا شَيْئًا فَآذِنُوهُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ، فَإِنْ بَدَا لَكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ الشَّيْطَانُ» . فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُؤْذَنُ مَنْ لَا يَفْهَمُ؟ فَالْجَوَابُ أَنْ نَقُولَ: إنْ كَانَ جِنِّيًّا فَهُوَ أَفْهَمُ مِنْك، وَإِنْ كَانَتْ حَيَّةً فَقَدْ أَمَرَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِاسْتِئْذَانِهَا، وَصِفَةُ الِاسْتِئْذَانِ أَنْ يَقُولَ: أَنْشُدُكُنَّ بِالْعَهْدِ الَّذِي أَخَذَهُ عَلَيْكُنَّ سُلَيْمَانُ أَنْ لَا تُؤْذُونَنَا، وَقِيلَ يَقُولُ لَهَا: يَا عَبْدَ اللَّهِ إنْ كُنْت مُؤْمِنًا بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْتَ مُسْلِمٌ فَلَا تَظْهَرْ لَنَا خِلَافَ الْيَوْمِ، وَقِيلَ يَقُولُ لَهَا: أُقْسِمُ عَلَيْك بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ لَا تُبَادِلُنَا وَلَا تَخْرُجُ فَإِنْ ظَهَرْت لَنَا قَتَلْنَاك، وَصَرَّحَ بِمَفْهُومِ الْمَدِينَةِ بِقَوْلِهِ: (وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ) أَيْ الِاسْتِئْذَانَ (فِي غَيْرِهَا) أَيْ غَيْرِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - (مِنْ الْعُمْرَانِ) وَيَدْخُلُ فِيهِ مَدِينَةُ غَيْرِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (فَهُوَ حَسَنٌ) أَيْ مَنْدُوبٌ فَتَلَخَّصَ أَنَّ وُجُوبَ اسْتِئْذَانِ الْحَيَّاتِ إنَّمَا يَجِبُ بِالْمَدِينَةِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ فَيُنْدَبُ فِي الْعُمْرَانِ، وَأَمَّا فِي غَيْرِ الْعُمْرَانِ فَلَا يَجِبُ وَلَا يُنْدَبُ، وَمَحِلُّ وُجُوبِ الِاسْتِئْذَانِ فِي غَيْرِ الْأَبْتَرِ وَذِي الطُّفْيَتَيْنِ، وَأَمَّا هُمَا فَلَا يَجُوزُ اسْتِئْذَانُهُمَا وَيُقْتَلَانِ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْذَانٍ وَلَوْ بِالْمَدِينَةِ، وَذُو الطُّفْيَتَيْنِ هُوَ الَّذِي عَلَى ظَهْرِهِ خَطَّانِ أَحَدُهُمَا أَخْضَرُ وَالْآخَرُ أَزْرَقُ، وَالْأَبْتَرُ هُوَ الصَّغِيرُ الذَّنَبِ وَقِيلَ هُوَ الْأَزْرَقُ، وَوَجْهُ اسْتِثْنَاءِ هَذَيْنِ لِأَنَّهُمَا يَحْفَظَانِ الْبَصَرَ وَيَطْرَحَانِ مَا فِي بُطُونِ الْأُمَّهَاتِ. (وَلَا تُؤْذَنُ) أَيْ الْحَيَّاتُ لَا وُجُوبًا وَلَا نَدْبًا (فِي الصَّحْرَاءِ، وَ) إنَّمَا (يُقْتَلُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا) فِي الصَّحْرَاءِ وَكَذَا فِي كُلِّ مَوْضِعٍ لَا عِمَارَةَ فِيهِ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ فِي ذَلِكَ لِبَقَائِهَا عَلَى الْأَمْرِ بِقَتْلِهَا فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ: الْحَدَأَةُ وَالْغُرَابُ وَالْحَيَّةُ وَالْفَأْرُ وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ» . ثُمَّ إنَّ قَوْلَهُ: وَيُقْتَلُ مَا ظَهَرَ مِنْهَا يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْ تَمَامِ مَسْأَلَةِ حَيَّاتِ الصَّحْرَاءِ، وَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِيمَا ظَهَرَ مِنْهَا بَعْدَ الِاسْتِئْذَانِ، وَمَفْهُومُ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ الْحَيَّاتُ أَنَّ الثُّعْبَانَ يُقْتَلُ مُطْلَقًا وَلَوْ ظَهَرَ لَهُ فِي بُيُوتِ مَدِينَةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَوْ الثُّعْبَانُ مُلْحَقٌ بِالْحَيَّاتِ فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ كَمَا أُلْحِقَ بِهِ فِي جَمِيعِ الْأَبْوَابِ. (خَاتِمَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى مَسَائِلَ مُنَاسَبَةٍ لِمَا نَحْنُ فِيهِ) الْأُولَى: بِتَرْحِيلِ الدَّبِيبِ حَيَّةً أَوْ ثُعْبَانًا وَذَلِكَ أَنْ تَقُولَ: يَا أَيُّهَا الدَّبِيبُ يَقُولُ لَك الشَّيْخُ حَسَنُ اُلْدُنْ ذَاكَ الْمِفْرَصَ ارْحَلْ وَإِلَّا تَمُوتُ وَتُكَرِّرُهَا ثَلَاثًا فَإِنَّهُ يَرْحَلُ، وَيَنْفَعُ لِتَرْحِيلِهِ أَيْضًا التَّبْخِيرُ بِالنَّشَادِرِ الْمُلَوَّثِ بِالزَّيْتِ الطَّيِّبِ. الثَّانِيَةُ: مِمَّا يَنْفَعُ لِدَفْعِ ضَرَرِهِ شُرْبُ اللَّبَنِ بِالنَّشَادِرِ وَيَتَقَايَؤُهُ الْمَلْسُوعُ، وَكَذَا الرُّقْيَةُ الْمُجَرَّبَةُ لِلْمَسْمُومِ وَصِفَةُ عَمَلِهَا أَنْ تَأْخُذَ حَدِيدَةً وَتُمِرَّهَا مِنْ أَعْلَى اللَّسْعَةِ فِي الْبَدَنِ أَيْ مِنْ مَحَلِّ انْتِهَاءِ السُّمِّ إلَى مَوْضِعِ اللَّسْعَةِ كَأَنَّك تَرُدُّ شَيْئًا وَأَنْتَ تَقُولُ: بِسْمِ اللَّهِ أُومِ سُرّ أُومِ مِنِّي بَقِيَّة بتبة كُرُور مُهَرِيقٌ كورايا أبج بهسترم رِعْلٌ سَهَرًا اسْتَرْوَحَ لَوْنه فَزُفَر سَفَاهَة، وَلَا يُزَالُ يُكَرِّرُهَا وَيُكَرِّرُ مَرَّ الْحَدِيدِ عَلَى الْمَوْضِعِ إلَى أَنْ يَجْتَمِعَ السُّمُّ بِمَوْضِعِ اللَّسْعَةِ فَتَفْتَحُهُ بِإِبْرَةٍ وَنَحْوِهَا. الثَّالِثُ: قَالَ فِي الذَّخِيرَةِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: الْحَيَّاتُ هِيَ مَسْخُ الْجِنِّ كَمَا مُسِخَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ قِرَدَةً، ثُمَّ قَالَ: جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِلْجَانِّ وَالْمَلَائِكَةِ التَّحَوُّلَ فِي أَيِّ صُورَةٍ أَرَادُوهَا، غَيْرَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ إنَّمَا تَقْصِدُ الصُّوَرَ الْحَسَنَةَ، وَالْجَانُّ لَا يَنْضَبِطُ أَمْرُهَا بَلْ بِحَسَبِ أَخْلَاقِهَا وَخَسَاسَتِهَا، فَالْخَسِيسُ يَقْصِدُ الصُّورَةَ الْخَسِيسَةَ، وَمُقَابِلُهُ الصُّورَةُ الْعَظِيمَةُ، وَكُلُّ صُورَةٍ تَصَوَّرَ فِيهَا الْجِنُّ يَثْبُتُ لَهَا خَاصِّيَّةُ تِلْكَ الصُّورَةِ، فَالْمُتَصَوِّرُ بِالْحَيَّةِ يَصِيرُ لَهُ سُمٌّ، وَالْمُتَصَوِّرُ بِصُورَةِ الْغَنَمِ يَصِيرُ لَهُ طِيبُ اللَّحْمِ وَهَكَذَا، وَمَعَ شِدَّةِ قُوَّةِ الْجِنِّ يُقْتَلُونَ بِأَسْمَاءِ اللَّهِ، وَيَحْصُلُ لَهُمْ الْعَجْزُ عَمَّا أَرَادُوهُ مِنْ فَتْحِ الْأَبْوَابِ الْمُغْلَقَةِ وَغَيْرِهَا مِنْ عَظَائِمِ الْأُمُورِ الَّتِي يَقْدِرُ عَلَيْهَا الْجِنِّيُّ. [قَتْلَ جَمِيعِ الْحَشَرَاتِ بِالنَّارِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي قَتْلِ مَا دُونَ الْحَيَّاتِ مِمَّا شَأْنُهُ الْإِيذَاءُ بِقَوْلِهِ: (وَيُكْرَهُ) عَلَى جِهَةِ التَّنْزِيهِ (قَتْلُ) نَحْوِ (الْقَمْلِ وَالْبَرَاغِيثِ) وَسَائِرِ الْحَشَرَاتِ (بِالنَّارِ) لِأَنَّهُ تَعْذِيبٌ وَتَمْثِيلٌ بِخَلْقِ اللَّهِ. وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يُعَذِّبُ بِالنَّارِ إلَّا رَبُّ النَّارِ» . وَفِي الذَّخِيرَةِ عَنْ الْبَيَانِ: كَرِهَ مَالِكٌ وَضْعَ الثَّوْبِ عَلَى النَّارِ بِخِلَافِ الشَّمْسِ لِمَا يُخْشَى مِنْ حَرْقِ الْحَيَوَانِ، لَا يُقَالُ: مُقْتَضَى ذَلِكَ حُرْمَةُ حَرْقِهَا لَا كَرَاهَتُهُ، لِأَنَّا نَقُولُ: إنَّمَا كُرِهَ وَلَمْ يَحْرُمْ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا الْإِيذَاءُ وَلَا سِيَّمَا الْبَقُّ، وَهَذَا مَا لَمْ يَعْظُمْ أَمْرُ مَا ذُكِرَ لِكَثْرَتِهِ وَإِلَّا جَازَ حَرْقُهُ بِالنَّارِ لِأَنَّ تَتَبُّعَهُ بِغَيْرِ النَّارِ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ، وَمَفْهُومٌ بِالنَّارِ أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُهَا بِقَصْعِهَا وَعَرْكِهَا لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَقَدْ سُئِلَ عَنْ حَشَرَاتِ الْأَرْضِ تُؤْذِي أَحَدًا فَقَالَ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 إلَيْنَا وَيُقْتَلُ الْوَزَغُ وَيُكْرَهُ قَتْلُ الضَّفَادِعِ وَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا   [الفواكه الدواني] «مَا يُؤْذِيك فَلَكَ إذَايَتُهُ قَبْلَ أَنْ يُؤْذِيَك» وَمَا خُلِقَ لِلْإِذَايَةِ فَابْتِدَاؤُهُ بِالْإِذَايَةِ جَائِزٌ. فَتَلَخَّصَ أَنَّ قَتْلَ جَمِيعِ الْحَشَرَاتِ بِالنَّارِ مَكْرُوهٌ وَبِغَيْرِهَا جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ إذَايَةٌ بِالْفِعْلِ. [قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَد] وَلَمَّا كَانَ حُكْمُ النَّمْلِ مُخَالِفًا لِمَا ذُكِرَ قَالَ: (وَلَا بَأْسَ إنْ شَاءَ اللَّهُ بِقَتْلِ النَّمْلِ) وَلَوْ بِالنَّارِ بِشَرْطَيْنِ أَشَارَ لَهُمَا بِقَوْلِهِ: (إذَا آذَتْ وَلَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا) وَظَاهِرُهُ سَوَاءٌ كَانَتْ الْأَذِيَّةُ فِي الْبَدَنِ أَوْ الْمَالِ، فَفِي الْجَوَاهِرِ: وَنَهَى عَنْ قَتْلِ النَّمْلَةِ وَالنَّحْلَةِ وَالْهُدْهُدِ وَالصُّرَدِ إلَّا الْمُؤْذِيَ مِمَّا ذُكِرَ فَيَجُوزُ قَتْلُهُ لِإِذَايَتِهِ فَلَا بَأْسَ بِالْجَوَازِ الْمُسْتَوِي الطَّرَفَيْنِ، وَإِنَّمَا قَالَ إنْ شَاءَ اللَّهُ مَعَ الْجَوَازِ لِمَا وَرَدَ مِنْ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِهَا لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا تُسَبِّحُ اللَّهَ وَتُقَدِّسُهُ. وَرُوِيَ أَنَّ نَبِيًّا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ خَرَجَ بِقَوْمِهِ لِلِاسْتِسْقَاءِ فَوَجَدَ نَمْلَةً مُسْتَلْقِيَةً عَلَى ظَهْرِهَا رَافِعَةً قَوَائِمَهَا إلَى السَّمَاءِ فَقَالَ: ارْجِعُوا فَقَدْ أُجِبْتُمْ بِغَيْرِكُمْ فَمُطِرُوا. وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ لَوْ قُدِرَ عَلَى تَرْكِهَا وَقَدْ آذَتْ لَكُرِهَ قَتْلُهَا وَلَوْ بِالنَّارِ وَإِنْ لَمْ تُؤْذِ مُنِعَ قَتْلُهَا، وَلَا يُرَاعَى هُنَا الْقُدْرَةُ عَلَى تَرْكِهَا وَلَا عَدَمُهَا. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ جَوَازَ قَتْلِهَا بِشَرْطَيْنِ صَرَّحَ هُنَا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ الثَّانِي بِقَوْلِهِ: (وَلَوْ لَمْ تُقْتَلْ) أَيْ النَّمْلُ (كَانَ) ذَلِكَ أَيْ عَدَمُ قَتْلِهَا مَعَ أَذِيَّتِهَا (أَحَبُّ إلَيْنَا) إنْ كَانَ يُقْدَرُ عَلَى تَرْكِهَا، وَأَحَبُّ بِمَعْنَى مُسْتَحَبٌّ فَأَفْعَلُ التَّفْضِيلِ لَيْسَ عَلَى بَابِهِ لِاقْتِضَائِهِ الْقَتْلَ مَعَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ قَتْلَهَا حَالَ عَدَمِ الْإِذَايَةِ لَا يَجُوزُ، وَحَالَ الْإِذَايَةِ جَائِزٌ جَوَازًا مُسْتَوِيًا إنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا، وَجَوَازًا مَرْجُوحًا عِنْدَ الْقُدْرَةِ عَلَى تَرْكِهَا لِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ: إنَّ تَرْكَهُ أَحَبُّ إلَيْنَا وَقَتْلُهَا فِي تِلْكَ الْحَالَةِ مَكْرُوهٌ فَيَصِيرُ مَفْهُومُ الشَّرْطَيْنِ مُعْتَبَرًا، لِأَنَّ مَفْهُومَ الْأَوَّلِ مَنْعُ الْقَتْلِ وَمَفْهُومُ الثَّانِي كَرَاهَتُهُ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ: إنَّهُ مُعَطَّلٌ لِأَنَّ الْمَنْطُوقَ جَوَازُ الْقَتْلِ الْمُسْتَوِي، وَمَفْهُومُ الشَّرْطِ الثَّانِي الْجَوَازُ الْمَرْجُوحُ لِكَرَاهَتِهِ الْقَتْلَ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِمَّا قَرَّرْنَا أَنَّهُ يَجُوزُ قَتْلُ النَّمْلِ عِنْدَ الشَّرْطَيْنِ وَلَوْ بِالنَّارِ وَعِنْدَ عَدَمِ الْجَوَازِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا لَمْ تُؤْذِ لَا يَجُوزُ وَلَوْ بِغَيْرِ النَّارِ، وَأَمَّا عِنْدَ كَرَاهَتِهِ وَذَلِكَ فِيمَا إذَا آذَتْ وَقُدِرَ عَلَى تَرْكِهَا بِالنَّارِ، وَلَكِنْ وَقَعَ اضْطِرَابٌ فِي النَّمْلِ الْمَنْهِيِّ عَنْ قَتْلِهِ، فَقِيلَ مُطْلَقُ النَّمْلِ، وَقِيلَ الْأَحْمَرُ الطَّوِيلُ الْأَرْجُلِ لِعَدَمِ أَذِيَّتِهِ بِخِلَافِ الصَّغِيرِ فَإِنَّ شَأْنَهُ الْإِيذَاءُ. (تَنْبِيهٌ) مِمَّا نُهِيَ عَنْ قَتْلِهِ النَّحْلُ وَأَشَارَ إلَيْهِ فِي الذَّخِيرَةِ بِقَوْلِهِ: وَلَا تَقْتُلْ النَّحْلَةَ لِنَفْعِهَا وَقِلَّةِ لَحْمِهَا، وَالنَّمْلَةَ إلَّا أَنْ تُؤْذِي انْتَهَى. قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: فَإِنْ آذَتْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ إنْ قُدِرَ عَلَى تَرْكِهَا كُرِهَ لَهُ قَتْلُهَا وَإِنْ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى قَتْلِهَا كَمَا قِيلَ فِي النَّمْلِ بَلْ هِيَ أَوْلَى بِعَدَمِ الْقَتْلِ مِنْ النَّمْلِ، وَلَعَلَّ وَجْهَ الْأَوْلَوِيَّةِ نَفْعُ النَّحْلَةِ دُونَ النَّمْلَةِ. (وَ) يُسْتَحَبُّ أَنْ (يُقْتَلَ الْوَزَغُ) بِفَتْحِ الزَّايِ فِي أَيِّ مَحَلٍّ وُجِدَ وَلَا يُتَوَقَّفُ عَلَى اسْتِئْذَانٍ، وَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ مِنْهُ أَذِيَّةٌ وَلَا كَثْرَةٌ لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَثٌّ وَرَغَّبَ فِي قَتْلِ الْوَزَغَةِ حَيْثُ قَالَ: «مَنْ قَتَلَهَا فِي الْمَرَّةِ الْأُولَى فَلَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ فَلَهُ سَبْعُونَ حَسَنَةً، وَقِيلَ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَمَنْ قَتَلَهَا فِي الثَّالِثَةِ فَلَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ» وَفِي هَذَا مُخَالَفَةٌ لِقَاعِدَةِ كَثْرَةِ الْأَجْرِ بِكَثْرَةِ الْعَمَلِ لِمَا فِي تَأْخِيرِ الْقَتْلِ مِنْ التَّهَاوُنِ، وَإِنَّمَا خُصَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي قَتْلِ الْوَزَغِ لِمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْوَزَغَةَ كَانَتْ يَهُودِيَّةً مَسَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى لِكَوْنِهَا كَانَتْ تَنْفُخُ النَّارَ الَّتِي أَحْرَقَتْ بَيْتَ الْمَقْدِسِ أَوْ نَارَ إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلِ وَكَانَ الْوَطْوَاطُ يُطْفِئُهَا، وَقِيلَ: لِأَنَّهَا مِنْ ذَوَاتِ السَّمُومِ حَتَّى قَالَ إنَّهَا أَكْثَرُ سُمًّا مِنْ الْحَيَّةِ. (وَيُكْرَهُ قَتْلُ الضَّفَادِعِ) جَمْعُ ضِفْدَعٍ بِكَسْرِ الضَّادِ وَسُكُونِ الْفَاءِ وَكَسْرِ الدَّالِ، حَيَوَانٌ مَعْرُوفٌ يُلَازِمُ الْمَاءَ غَالِبًا، وَعِلَّةُ الْكَرَاهَةِ مَا قِيلَ مِنْ أَنَّهَا أَكْثَرُ الْحَيَوَانَاتِ تَسْبِيحًا حَتَّى قِيلَ: إنَّ صَوْتَهَا جَمِيعَهُ ذِكْرٌ، وَلِأَنَّهَا أَطْفَأَتْ مِنْ نَارِ إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - ثُلُثَيْهِمَا، وَصِيغَةُ تَسْبِيحِهَا: سُبْحَانَ مَنْ يُسَبَّحُ لَهُ فِي لُجَجِ الْبِحَارِ، سُبْحَانَ مَنْ يُسَبَّحُ لَهُ فِي الْأَرْضِ الْقِفَارِ، سُبْحَانَ مَنْ يُسَبَّحُ لَهُ فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ، سُبْحَانَ مَنْ يُسَبَّحُ لَهُ بِكُلِّ شَفَةٍ وَلِسَانٍ، هَكَذَا وَجَدْته بِخَطِّ بَعْضِ الْفُضَلَاءِ، وَمَنْ أَرَادَ أَكْلَهَا فَلَهُ أَكْلُهَا بِالذَّكَاةِ إنْ كَانَتْ بَرِّيَّةً، وَمَحَلُّ الْكَرَاهَةِ مَا لَمْ تُؤْذِ وَإِلَّا جَازَ قَتْلُهَا حَيْثُ لَمْ يُقْدَرْ عَلَى تَرْكِهَا، فَإِنْ قُدِرَ عَلَى تَرْكِهَا اُسْتُحِبَّ عَدَمُ قَتْلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي النَّمْلِ. (تَنْبِيهٌ) كُلُّ مَا قُلْنَا بِجَوَازِ قَتْلِهِ لِدَفْعِ الْإِيذَاءِ يُطْلَبُ مِنْ قَاتِلِهِ أَنْ يَقْصِدَ بِالْقَتْلِ دَفْعَ الْإِيذَاءِ لَا عَبَثًا وَإِلَّا مُنِعَ حَتَّى الْفَوَاسِقُ الْخَمْسُ الَّتِي يُبَاحُ قَتْلُهَا فِي الْحِلِّ وَالْحَرَمِ وَحَرَّرَ الْمَسْأَلَةَ. [التَّفَاخُرَ بِالْآبَاءِ] وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى مَا يَجُوزُ قَتْلُهُ مِنْ الْحَيَوَانَاتِ وَمَا لَا يَجُوزُ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَا هُوَ الْأَوْلَى لِلْعَاقِلِ لِيَلْزَمَهُ وَمَا لَا نَفْعَ لَهُ فِيهِ فَيَجْتَنِبَهُ فَقَالَ: (وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - إنَّ اللَّهَ أَذْهَبَ عَنْكُمْ) مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ بِسَبَبِ الْإِسْلَامِ (عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ) بِضَمِّ الْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ وَكَسْرِهَا وَبَعْدَهَا مُوَحَّدَةٌ قَبْلَ مُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ كُلٌّ مِنْهُمَا مُشَدَّدٌ أَيْ كِبْرَهَا وَتَجَبُّرَهَا مِنْ الْعِبْءِ بِكَسْرِ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْمُوَحَّدَةِ بَعْدَهَا هَمْزَةٌ وَهُوَ الْحِمْلُ الثَّقِيلُ، وَيُسْتَعَارُ لِمَا فِيهِ كُلْفَةٌ مِنْ الْأُمُورِ الشَّاقَّةِ الْعِظَامِ. قَالَهُ التِّلْمِسَانِيُّ فِي شَرْحِ الشِّفَاءِ، وَقِيلَ: الْعُبِّيَّةُ هِيَ وَقْرُ الدَّوَابِّ بِالْأَثْقَالِ أَيْ ثِقْلُ الْجَاهِلِيَّةِ، وَتُرْوَى بِالْغَيْنِ الْمُعْجَمَةِ مِنْ الْغَبَاوَةِ وَهِيَ التَّنَاهِي فِي الْجَهْلِ وَالْجَهَالَةِ، وَلَا خِلَافَ فِي حُرْمَةِ الْكِبْرِ وَهُوَ بَطَرُ الْحَقِّ أَيْ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ، وَغَمْصُ النَّاسِ أَيْ احْتِقَارُهُمْ، أَعَاذَنَا اللَّهُ وَمَنْ نُحِبُّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَفْظُ أَذْهَبَ وَإِنْ كَانَ بِلَفْظِ الْخَبَرِ فَمَعْنَاهُ النَّهْيُ أَيْ يَنْهَاكُمْ عَنْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 بِالْآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ» وَقَالَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي رَجُلٍ تَعَلَّمَ أَنْسَابَ النَّاسِ «عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ وَجَهَالَةٌ لَا تَضُرُّ» وَقَالَ عُمَرُ تَعَلَّمُوا مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ وَقَالَ مَالِكٌ وَأَكْرَهُ أَنْ يَرْفَعَ فِي النِّسْبَةِ فِيمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْآبَاءِ وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ وَمَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفُلْ عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ مِنْ شَرِّ مَا رَأَى وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسِّرَ الرُّؤْيَا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا وَلَا يُعَبِّرُهَا   [الفواكه الدواني] عُبِّيَّةِ الْجَاهِلِيَّةِ. (وَ) أَذْهَبَ عَنْكُمْ أَيْضًا (فَخْرَهَا بِالْآبَاءِ) وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَنْهَاكُمْ مَعَاشِرَ الْمُسْلِمِينَ عَنْ التَّلَبُّسِ بِخِصَالِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ الْكِبْرِ وَالتَّجَبُّرِ، وَمِنْ الطَّعْنِ فِي الْأَنْسَابِ وَالطِّيَرَةِ وَالنِّيَاحَةِ وَالِاسْتِمْطَارِ بِالنُّجُومِ وَمِنْ الْفَخْرِ بِالْآبَاءِ لِأَنَّكُمْ مَا بَيْنَ (مُؤْمِنٍ تَقِيٍّ) أَيْ مُمْتَثِلٍ لِلْمَأْمُورَاتِ مُجْتَنِبٍ لِلْمَنْهِيَّاتِ فَيَكُونُ مُرْتَفِعًا عِنْدَ اللَّهِ بِتَقْوَاهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَسِيبًا. (أَوْ فَاجِرٍ) أَيْ كَافِرٍ (شَقِيٍّ) خَاسِرٍ بِعَدَمِ تَقْوَاهُ وَلَوْ كَانَ نَسِيبًا، فَالتَّفَاضُلُ بِالْآبَاءِ لَا يُكْسِبُ شَيْئًا، وَأَيْضًا (أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ) لِأَنَّهُ أَبُو الْبَشَرِ جَمِيعًا. (وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ) وَإِذَا كَانَ الْأَصْلُ وَاحِدًا فَلَا تَفَاوُتَ بَيْنَ الْفُرُوعِ إلَّا بِالتَّفَاوُتِ فِي خِلَالِ الْخَيْرِ، وَأَيْضًا الْأَصْلُ مِنْ التُّرَابِ الَّذِي يُوطَأُ بِالْأَرْجُلِ، فَكَيْفَ يَتَكَبَّرُ فَرْعُ مَنْ يُوطَأُ بِالْأَقْدَامِ مَعَ إهَانَةِ أَصْلِهِ، وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «الرَّبُّ وَاحِدٌ، وَالْأَبُ وَاحِدٌ، وَالْأُمُّ وَاحِدَةٌ، وَمَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ، وَمَنْ أَسْرَعَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُبْطِئْ بِهِ نَسَبُهُ» وَالْمَعْنَى: أَنَّ مَنْ أَخَّرَهُ عَمَلُهُ السَّيِّئُ أَوْ تَفْرِيطُهُ فِي الْعَمَلِ الصَّالِحِ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ أَيْ لَمْ يَنْفَعْهُ شَرَفُ نَسَبِهِ، فَظَهَرَ بِهَذَا أَنَّ النَّسَبَ لَا يَنْفَعُ وَإِنَّمَا يَنْفَعُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ، وَأَيْضًا التَّفَاخُرُ يُؤَدِّي إلَى إيقَاعِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ وَالتَّنَافُرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْإِجْمَاعِ. قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وَلَمَّا أَفَادَ أَنَّ التَّفَاخُرَ بِالْآبَاءِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ أَتَى بِحَدِيثٍ لِتَأْكِيدِ النَّهْيِ فَقَالَ: (وَقَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي رَجُلٍ تَعَلَّمَ أَنْسَابَ النَّاسِ) بِحَيْثُ صَارَ يَعْرِفُ أَنَّ زَيْدًا ابْنَ عُمَرَ، وَعُمَرَ ابْنَ فُلَانٍ وَابْنَ فُلَانَةَ وَهَكَذَا، لِأَنَّ لَفْظَ رَجُلٍ عَامٌّ، وَالنَّكِرَةُ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ قَدْ تَعُمُّ نَحْوَ عَلِمَتْ نَفْسٌ وَمَقُولُ قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - (عِلْمٌ لَا يَنْفَعُ) أَيْ لَا فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ لِأَنَّهُ لَا ثَوَابَ فِيهِ. (وَجَهَالَةٌ لَا تَضُرُّ) مُرْتَكِبَهَا بِحَيْثُ يَلْحَقُهُ الذَّمُّ وَالْإِثْمُ بِعَدَمِ مَعْرِفَتِهِ، بَلْ تَرْكُ الِاشْتِغَالِ بِهِ أَحْسَنُ لِأَنَّهُ مِمَّا لَا يَعْنِي. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» بَلْ قَالَ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ: وَإِذَا كَانَ لَمْ يَحْمِلْهُ عَلَى عِلْمِ مَا يَخُصُّهُ فِي دِينِهِ فَاشْتِغَالُهُ بِهِ حَرَامٌ، وَعِنْدِي فِيهِ وَقْفُهُ إذَا كَانَ لَا يَمْنَعُهُ عَنْ فِعْلِ وَاجِبٍ وَلَا يَلْزَمُ عَلَى الِاشْتِغَالِ بِهِ ارْتِكَابُ مُحَرَّمٍ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ عَدَمِ النَّفْعِ بِمَعْرِفَةِ الْأَنْسَابِ عُمُومُ ذَلِكَ لِنَسَبِ نَفْسِهِ رَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (تَعَلَّمُوا) وُجُوبًا (مِنْ أَنْسَابِكُمْ مَا تَصِلُونَ بِهِ أَرْحَامَكُمْ) لِأَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ وَاجِبَةٌ، وَمَا لَا يَتَوَصَّلُ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ فَهُوَ وَاجِبٌ، وَالْمُرَادُ بِالرَّحِمِ الَّذِي تَجِبُ صِلَتُهُ كُلُّ مَنْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ قَرَابَةٌ لَا خُصُوصُ مَنْ يَحْرُمُ نِكَاحُهُ، وَنَظَرَ ابْنُ نَاجِي قَائِلًا: وَانْظُرْ هَلْ يَتَعَلَّمُ مِنْ أَنْسَابِهِ إلَى مُنْتَهَى أَجْدَادِهِ فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ الظَّاهِرُ أَوْ يَتَقَيَّدُ بِثَلَاثَةِ أَجْدَادٍ وَنَحْوِهَا، وَأَقُولُ: يَظْهَرُ لِي أَنَّ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِ مَعْرِفَتُهُ مَا تَبْرَأُ ذِمَّتُهُ بِزِيَارَتِهِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِيمَا سَبَقَ أَنَّهُ إذَا كَثُرَتْ أَرْحَامُهُ إنَّمَا يَجِبُ عَلَيْهِ صِلَةُ الْأَقْرَبِ دَفْعًا لِلْحَرَجِ. وَلَمَّا كَانَ الْمَأْمُورُ بِمَعْرِفَتِهِ مِنْ النَّسَبِ مَا يَصِلُ بِهِ رَحِمَهُ قَالَ: (وَقَالَ مَالِكٌ) الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (وَأَكْرَهُ) أَيْ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ كَمَا قَالَهُ الشَّاذِلِيُّ، وَقِيلَ الْكَرَاهَةُ عَلَى التَّحْرِيمِ (أَنْ يَرْفَعَ فِي النَّسَبِ فِيمَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مِنْ الْآبَاءِ) بَلْ إذَا وَصَلَ إلَى جَدٍّ كَافِرٍ أَمْسَكَ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي الْإِسْلَامِ إلَّا جَدٌّ، وَلِذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ لَمْ يَتَعَلَّمْ مِنْهُ شَيْئًا وَيَجِبُ عَلَيْهِ الْوَقْفُ، لِأَنَّ غَيْرَ الْمُسْلِمِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَصِلَهُ لِآيَةِ: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [المجادلة: 22] إلَى قَوْلِهِ {وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ} [المجادلة: 22] وَأَيْضًا لِمَا يَلْزَمُ عَلَى الرَّفْعِ فِي النَّسَبِ مِنْ التَّفَاخُرِ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِالْآبَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَكَيْفَ بِالْكُفَّارِ، وَنَصُّوا هُنَا عَلَى أَنَّ شَرَفَ الْعِلْمِ مُقَدَّمٌ عَلَى شَرَفِ النَّسَبِ، فَالْعَالِمُ أَفْضَلُ مِنْ الشَّرِيفِ الْجَاهِلِ كَمَا ذَكَرَهُ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ وَأَعَادَ قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «وَالرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ» تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ فِيهِ جَمْعٌ بَيْن الرِّوَايَتَيْنِ لِأَنَّهُ هُنَا أَسْقَطَهُ وَأَعَادَ أَيْضًا قَوْلَهُ (وَمَنْ رَأَى فِي مَنَامِهِ مَا يَكْرَهُ فَلْيَتْفُلْ) أَوْ يَنْفُثْ أَيْ يَبْزُقُ مِنْ غَيْرِ صَوْتٍ (عَنْ يَسَارِهِ ثَلَاثًا وَلْيَتَعَوَّذْ) بِاَللَّهِ (مِنْ شَرِّ مَا رَأَى) لِيُرَتِّبَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ يَحْرُمُ (أَنْ يُفَسِّرَ الرُّؤْيَا مَنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِهَا) لِأَنَّهُ يَكُونُ مِنْ الْكَذِبِ لِأَنَّ الْإِخْبَارَ مِنْ غَيْرِ الْعَالِمِ كَذِبٌ قَالَ تَعَالَى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وَمَفْهُومُ كَلَامِهِ أَنَّهُ إنْ كَانَ لَهُ عِلْمٌ بِهَا بِأَنْ كَانَ يَعْلَمُ أُصُولَ التَّعْبِيرِ وَهُوَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَكَلَامُ الْعَرَبِ وَأَشْعَارُهُمْ وَأَمْثَالُهُمْ وَكَانَ لَهُ فَضْلٌ وَصَلَاحٌ وَفِرَاسَةٌ يَجُوزُ لَهَا حِينَئِذٍ تَعْبِيرُهَا، وَلَا يَجُوزُ لَهُ تَعْبِيرُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ وَمَا خَفَّ مِنْ الشِّعْرِ أَحْسَنُ وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ وَمِنْ الشَّغْلِ بِهِ وَأُولَى الْعُلُومِ وَأَفْضَلُهَا وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ عِلْمُ دِينِهِ وَشَرَائِعِهِ مِمَّا أَمَرَ بِهِ وَنَهَى عَنْهُ وَدَعَا إلَيْهِ وَحَضَّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ وَالْفِقْهُ فِي ذَلِكَ وَالْفَهْمُ وَالتَّهَمُّمُ بِرِعَايَتِهِ وَالْعَمَلُ بِهِ وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى   [الفواكه الدواني] بِمُجَرَّدِ النَّظَرِ فِي كِتَابِ التَّفْسِيرِ كَمَا يَفْعَلُهُ بَعْضُ الْجَهَلَةِ يَكْشِفُ نَحْوَ ابْنِ سِيرِينَ عِنْدَمَا يُقَالُ لَهُ أَنَا رَأَيْت كَذَا، وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا عِلْمَ لَهُ بِأُصُولِ التَّعْبِيرِ فَهَذَا حَرَامٌ، لِأَنَّهَا تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ وَالْأَزْمَانِ وَأَوْصَافِ الرَّائِينَ فَعِلْمُهَا غَوِيصٌ يَحْتَاجُ إلَى مَزِيدِ مَعْرِفَةٍ بِالْمُنَاسَبَاتِ، وَلِذَلِكَ سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ سِيرِينَ بِأَنْ قَالَ لَهُ: أَنَا رَأَيْت نَفْسِي أُؤَذِّنُ فِي النَّوْمِ فَقَالَ لَهُ تَسْرِقُ وَتُقْطَعُ يَدُك، وَسَأَلَهُ آخَرُ وَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَهُ الْأَوَّلُ فَقَالَ لَهُ تَحُجُّ، فَوَجَدَ كُلٌّ مِنْهُمَا مَا فُسِّرَ لَهُ بِهِ فَقِيلَ لَهُ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: رَأَيْت هَذَا بِسِمَةٍ حَسَنَةٍ وَالْآخَرُ بِسِمَةٍ قَبِيحَةٍ، وَلَا تَخْرُجُ الرُّؤْيَا عَنْ مَعْنَاهَا وَلَوْ فُسِّرَتْ بِغَيْرِهِ عَلَى الصَّحِيحِ. (وَلَا) يَجُوزُ لِلرَّائِي أَوْ غَيْرِهِ مِمَّنْ يُرِيدُ التَّعْبِيرَ أَنْ (يُعَبِّرَهَا عَلَى الْخَيْرِ وَهِيَ) كَائِنَةٌ (عِنْدَهُ عَلَى الْمَكْرُوهِ) لِأَنَّهُ كَذِبٌ وَلَعِبٌ بِالنُّبُوَّةِ، وَيَنْبَغِي إنْ ظَهَرَ لَهُ خَيْرٌ يَذْكُرُهُ وَإِنْ ظَهَرَ لَهُ مَكْرُوهٌ يَقُولُ خَيْرًا إنْ شَاءَ أَوْ يَصْمُتُ. وَلَمَّا جَرَى خِلَافٌ فِي الْإِنْشَادِ بَيَّنَ حُكْمَهُ فِي الْمَذْهَبِ بِقَوْلِهِ: (وَلَا بَأْسَ بِإِنْشَادِ الشِّعْرِ) أَيْ ذِكْرُ الْإِنْسَانِ شِعْرَ غَيْرِهِ، وَأَمَّا إنْشَاؤُهُ فَلَمْ يَتَكَلَّمْ الْمُصَنِّفُ عَلَيْهِ وَالظَّاهِرُ جَوَازُهُ، فَقَدْ ذُكِرَ عَنْ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُ قَالَ: وَلَوْلَا الشِّعْرُ بِالْعُلَمَاءِ يُزْرِي ... لَكُنْت الْيَوْمَ أَشْعَرَ مِنْ لَبِيدِ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ إنْشَائِهِ كَمَا يَجُوزُ إنْشَادُهُ، فَلَا بَأْسَ فِي كَلَامِهِ لِلْإِبَاحَةِ لِمَا قِيلَ إنَّ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - كَانَتْ تَحْفَظُ أَلْفَ بَيْتٍ، وَكَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ: «إنَّ مِنْ الشِّعْرِ لَحِكْمَةً» ، وَقَالَ: «أَصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا الشَّاعِرُ كَلِمَةُ لَبِيدٍ: أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلَا اللَّهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ لَا مَحَالَةَ زَائِلُ » وَأَيْضًا كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَأْمُرُ حَسَّانًا بِالْإِنْشَادِ، فَلَوْلَا أَنَّ الْإِنْشَادَ جَائِزٌ لَمَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَأْمُرُ بِهِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ يَمْتَلِئَ جَوْفُ أَحَدِكُمْ قَيْحًا خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَمْلَأَهُ شِعْرًا» فَمَحْمُولٌ عَلَى الْإِكْثَارِ مِنْهُ، وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِهِ مَنْ حَرَّمَهُ مُطْلَقًا، نَعَمْ إنْ اشْتَمَلَ عَلَى مَدْحِ مَنْ لَا يَجُوزُ مَدْحُهُ أَوْ ذَمِّ مَنْ لَا يُذَمُّ كَانَ حَرَامًا، وَلَمَّا كَانَ الْإِنْشَادُ لَا يَسْلَمُ مُرْتَكِبُهُ مِنْ مُجَاوَزَةٍ فِي الْكَلَامِ قَالَ: (وَمَا خَفَّ مِنْ الشِّعْرِ أَحْسَنُ) أَيْ مَعَ كَوْنِ الْإِنْشَادِ مُبَاحًا لَا يَنْبَغِي الْإِكْثَارُ مِنْهُ لِقِلَّةِ سَلَامَةِ فَاعِلِهِ مِنْ التَّجَاوُزِ فِي الْكَلَامِ لِأَنَّ غَالِبَهُ مُشْتَمِلٌ عَلَى مُبَالَغَاتٍ، وَهَذَا فِي غَيْرِ الْأَشْعَارِ الَّتِي يَذْكُرُهَا الْمُصَنِّفُونَ لِلِاسْتِدْلَالِ بِهَا فَهَذِهِ لَا نِزَاعَ فِي جَوَازِ تَعَلُّمِهَا. (وَلَا يَنْبَغِي) أَيْ عَلَى جِهَةِ الْكَرَاهَةِ (أَنْ يُكْثِرَ مِنْهُ) أَيْ مِنْ الْإِنْشَادِ غَيْرِ الْمُحْتَاجِ إلَيْهِ فِي الِاسْتِدْلَالَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ. (وَلَا مِنْ الشَّغْلِ بِهِ) هَذَا مُسْتَغْنًى عَنْهُ بِمَا قَبْلَهُ، لِأَنَّ مَا طُلِبَ تَقْلِيلُهُ يُكْرَهُ تَكْثِيرُهُ، وَتَجُوزُ. شَهَادَةُ الشَّاعِرِ إذَا كَانَ لَا يَرْتَكِبُ مُحَرَّمًا وَلَوْ بِذَمِّ مَنْ لَمْ يُعْطِهِ وَإِلَّا امْتَنَعَتْ شَهَادَتُهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْإِكْثَارَ مِنْهُ مَكْرُوهٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ السَّابِقُ. [أَفْضَلِ الْعُلُومِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَفْضَلِ الْعُلُومِ بِقَوْلِهِ: (وَأَوْلَى الْعُلُومِ) بِالِاشْتِغَالِ بِهِ (وَأَفْضَلُهَا وَأَقْرَبُهَا إلَى اللَّهِ) تَعَالَى (عِلْمُ دِينِهِ) هَذَا خَبَرُ أَوْلَى الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً وَعَطْفُ أَفْضَلَ وَأَقْرَبَ عَلَيْهِ مِنْ عَطْفِ السَّبَبِ عَلَى الْمُسَبَّبِ، وَالْمُرَادُ بِعِلْمِ دِينِ اللَّهِ هُوَ عِلْمُ التَّوْحِيدِ، وَيُسَمَّى بِعِلْمِ أُصُولِ الدِّينِ وَبِعِلْمِ الْكَلَامِ وَبِعِلْمِ الصِّفَاتِ، وَإِنَّمَا كَانَ أَفْضَلَهَا وَأَقْرَبَهَا لِأَنَّهُ يُوَصِّلُ إلَى مَعْرِفَةِ ذَاتِ الْبَارِئِ وَصِفَاتِهِ وَمَعْرِفَةِ أَنْبِيَائِهِ، وَالْعِلْمُ يَشْرُفُ بِشَرَفِ مَعْلُومِهِ، وَمَعْلُومُ عِلْمِ التَّوْحِيدِ هُوَ ذَاتُ الْبَارِئِ وَصِفَاتُهُ. (وَ) عِلْمُ (شَرَائِعِهِ) وَبَيَّنَ عِلْمَ شَرَائِعِهِ بِقَوْلِهِ: (مِمَّا أَمَرَ) الْمُكَلَّفَ (بِهِ) مِنْ الْوَاجِبَاتِ وَالْمَنْدُوبَاتِ (وَنَهَى عَنْهُ) مِنْ كُلِّ مُحَرَّمٍ أَوْ مَكْرُوهٍ (وَ) الْمَأْمُورُ بِهِ مَا (دَعَا إلَيْهِ) تَعَالَى (وَحَضَّ عَلَيْهِ) أَيْ عَلَى فِعْلِهِ وَذَلِكَ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ (فِي كِتَابِهِ وَعَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ) - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِأَنَّ جَمِيعَ الشَّرَائِعِ إنَّمَا هِيَ عَنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. (وَ) مِنْ جُمْلَةِ الْمَأْمُورِ بِهِ (التَّفَقُّهُ فِي ذَلِكَ) أَيْ فِي عِلْمِ الدِّينِ وَالشَّرَائِعِ (وَالتَّفَهُّمُ فِيهِ) تَفْسِيرٌ لِمَا قَبْلَهُ (وَالتَّهَمُّمُ) أَيْ الِاهْتِمَامُ (بِرِعَايَتِهِ) أَيْ حِفْظِهِ (وَالْعَمَلِ بِهِ) وَالضَّمَائِرُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ إلَى عِلْمِ دِينِ اللَّهِ، وَإِنَّمَا كَانَ التَّفَقُّهُ فِي عِلْمِ الشَّرَائِعِ مِنْ أَوْلَى الْعُلُومِ، لِأَنَّ الْقِيَامَ بِعُلُومِ الشَّرْعِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ إلَى مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَعْيَانِ مِنْ مَعْرِفَةِ الْفَرَائِضِ وَأَحْكَامِ مَا يُرِيدُ الْعَمَلَ بِهِ، وَذَكَرَ مَعَ ذَلِكَ الْعَمَلَ لِأَنَّهُ ثَمَرَةُ الْعِلْمِ. وَلَمَّا لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَوْنِ عِلْمِ دِينِ اللَّهِ أَوْلَى الْعُلُومِ أَفْضَلِيَّةُ الْعِلْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَعْمَالِ قَالَ: (وَالْعِلْمُ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ) لِمَا رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ فِي الْجِهَادِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 اللَّهِ تَعَالَى وَأَوْلَاهُمْ بِهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً وَفِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً وَالْعِلْمُ دَلِيلٌ إلَى الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إلَيْهَا وَاللَّجَأُ إلَى كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ وَاتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ وَخَيْرِ الْقُرُونِ مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ نَجَاةً فَفِي الْمَفْزَعِ إلَى ذَلِكَ   [الفواكه الدواني] وَمَا جَمِيعُ أَفْعَالِ الْبِرِّ وَالْجِهَادِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ إلَّا كَبَصْقَةٍ فِي بَحْرٍ» . وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا: «أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ طَلَبُ الْعِلْمِ» . وَقَالَ أَيْضًا: «عَالِمٌ وَاحِدٌ أَشَدُّ عَلَى الشَّيْطَانِ مِنْ أَلْفِ عَابِدٍ» . وَقَالَ تَعَالَى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] وَالْمُرَادُ بِهِمْ الْعُلَمَاءُ. وَقَالَ أَبُو ذَرٍّ لِبَنِيهِ: تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنْ كُنْتُمْ صِغَارَ قَوْمٍ فَسَتَكُونُوا كِبَارَ قَوْمٍ آخَرِينَ. وَقَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ: يَا بُنَيَّ تَعَلَّمْ الْعِلْمَ فَإِنْ احْتَجْت إلَيْهِ كَانَ لَك مَالًا، وَإِنْ اسْتَغْنَيْت عَنْهُ كَانَ لَك جَمَالًا. وَرَوَى أَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ حَسَنَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُدَارَسَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ، وَهُوَ الْأَنِيسُ فِي الْوَحْدَةِ وَالصَّاحِبُ فِي الْخَلْوَةِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْخَيْرِ يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً هُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ أَدِلَّةً فِي الْخَيْرِ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ حَتَّى الْحِيتَانُ وَالْهَوَامُّ وَسِبَاعُ الْبَرِّ وَأَنْعَامُهُ» . وَفَضْلُ الْعِلْمِ مَشْهُورٌ لَا يُنْكِرُهُ عَاقِلٌ فَفِي الْحَدِيثِ: «الْبَابُ يَتَعَلَّمُهُ الرَّجُلُ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَلْفِ رَكْعَةٍ تَطَوُّعًا» . وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: «إذَا جَاءَ الْمَوْتُ لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَهُوَ عَلَى هَذِهِ الْحَالَةِ مَاتَ وَهُوَ شَهِيدٌ» ثُمَّ بَيَّنَ أَفْضَلَ الْعُلَمَاءِ بِقَوْلِهِ: (وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى) رِضَا (اللَّهِ) - عَزَّ وَجَلَّ - (وَأَوْلَاهُمْ بِهِ) أَيْ بِمَحَبَّتِهِ تَعَالَى وَخَبَرُ أَقْرَبَ الْوَاقِعُ مُبْتَدَأً (أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً) أَيْ خَوْفًا (وَ) أَكْثَرُهُمْ (فِيمَا عِنْدَهُ رَغْبَةً) أَيْ رَجَاءً. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: أَفْهَمَ قَوْلُهُ: وَأَقْرَبُ الْعُلَمَاءِ إلَى اللَّهِ أَكْثَرُهُمْ لَهُ خَشْيَةً أَنَّ الْعُلَمَاءَ يَتَفَاضَلُونَ وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ، لِأَنَّ التَّفَاوُتَ فِي الْمَرَاتِبِ جَارٍ حَتَّى فِي حَقِّ الرُّسُلِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ. الثَّانِي: وَقَعَ الْخِلَافُ فِي أَفْضَلِيَّةِ الْعُلَمَاءِ الْعَامِلِينَ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ، فَفَضَّلَ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ كَمَالِكٍ وَسُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ وَغَيْرِهِمَا الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ، وَفَضَّلَ جَمَاعَةٌ كَالْقُشَيْرِيِّ وَالْغَزَالِيِّ وَعِزِّ الدِّينِ بْنِ عَبْدِ السَّلَامِ الْأَوْلِيَاءَ الْعَارِفِينَ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ كَمَا قَالَهُ الْبُلْقِينِيُّ بِأَنَّ الْفُتُوحَاتِ الَّتِي يُفْتَحُ بِهَا عَلَى الْعُلَمَاءِ فِي الِاهْتِدَاءِ كَاسْتِنْبَاطِ الْمَسَائِلِ الْمُشْكِلَةِ مِنْ الْأَدِلَّةِ أَعَمُّ نَفْعًا وَأَكْثَرُ فَائِدَةً مِمَّا يُفْتَحُ بِهِ عَلَى الْأَوْلِيَاءِ الْعَارِفِينَ مِنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى بَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ قَدْ لَا يَحْصُلُ بِهِ نَفْعٌ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَصَالِحَ الْمُتَعَدِّيَةَ تُقَدَّمُ مُرَاعَاتُهَا عَلَى الْقَاصِرَةِ، وَوَجْهُ الثَّانِي بِأَنَّ الْعُلُومَ الظَّاهِرَةَ قَدْ تَقْطَعُ طَرِيقَ اللَّهِ وَتَمْنَعُ صَاحِبَهَا عَنْ التَّحْقِيقِ، وَالِاتِّصَافِ بِعُلُومِ الْبَاطِنِ الْمُثْمِرَةِ لِلْخَشْيَةِ وَالزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا وَطَلَبِ الْآخِرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَوْصَافِ، وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ مَا وَرَدَ فِي فَضْلِ الْعُلَمَاءِ وَتَفْضِيلِهِمْ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلْعَامِلِينَ بِعِلْمِهِمْ الْوَاقِفِينَ عَلَى حُدُودِ اللَّهِ لَا عُلَمَاءُ الدُّنْيَا الطَّالِبِينَ جَاهَهَا وَحُطَامَهَا، إذْ الْعِلْمُ حَقِيقَةً مَا أَوْرَثَ صَاحِبَهُ عَمَلًا وَخَشْيَةً وَإِلَّا كَانَ زِيَادَةَ وَبَالٍ وَخَيْبَةٍ عَلَى صَاحِبِهِ لِمَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ: «أَنَّ غَيْرَ الْعَامِلِ بِعِلْمِهِ أَوَّلُ مِنْ تُسَعَّرُ بِهِ النَّارُ» وَلَا يَتِمُّ عِلْمُ الْعَالِمِ حَتَّى يَعْمَلَ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَيُعْرِضَ عَمَّا يَصُدُّهُ عَنْ الْعَمَلِ لِخَالِقِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ مَا فِي عج. [الثَّمَرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ] ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ الثَّمَرَةِ الْمُتَرَتِّبَةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الْعِلْمِ بِقَوْلِهِ: (وَالْعِلْمُ) النَّافِعُ لِصَاحِبِهِ (دَلِيلٌ إلَى) فِعْلِ (الْخَيْرَاتِ وَقَائِدٌ إلَيْهَا) أَيْ إلَى الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ طَرِيقًا إلَى الْجَنَّةِ» . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ» وَهَذَا مِنْ ثَمَرَاتِ الْعِلْمِ، وَمِنْ ثَمَرَاتِهِ أَنَّ جَمِيعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ يَسْتَغْفِرُ لَهُ حَتَّى حَيَوَانَاتُ الْمَاءِ، وَأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَنَّ الْأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ، وَالْمُرَادُ بِالْخَيْرَاتِ مَا اسْتَنَدَ فَاعِلُهُ إلَى مَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَاللَّجَأُ) مُبْتَدَأٌ وَهُوَ بِفَتْحِ اللَّامِ وَالْجِيمِ أَيْ الِاسْتِنَادُ وَالرُّجُوعُ (إلَى كِتَابِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَ) إلَى (سُنَّةِ نَبِيِّهِ وَ) إلَى (اتِّبَاعِ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِجْمَاعُ. (وَ) إلَى (خَيْرِ الْقُرُونِ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ (مِنْ خَيْرِ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ) أَيْ أُظْهِرَتْ (لِلنَّاسِ) وَخَبَرُ اللَّجَأِ الْوَاقِعِ مُبْتَدَأً هُوَ (نَجَاةٌ) وَمَعْنَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّ الِاعْتِمَادَ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ أَوْ عَلَى سُنَّةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ عَلَى الْإِجْمَاعِ فِي عَمَلِ الْخَيْرَاتِ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا أَوْ عَلَى كَلَامِ إمَامِهِ إنْ كَانَ مُقَلِّدًا فِيهِ نَجَاةٌ أَيْ خَلَاصٌ مِنْ الْهَلَاكِ، لِأَنَّ الْأَعْمَالَ الَّتِي لَمْ تَسْتَنِدْ إلَى شَيْءٍ مِنْ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ بَاطِلَةٌ، لِأَنَّ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ مُنْحَصِرَةٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَاتِّبَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَبَيَّنَ وَجْهَ كَوْنِ النَّجَاةِ فِي اللَّجَأِ إلَى مَا ذَكَرَ بِقَوْلِهِ: (فَفِي الْمَفْزَعِ) أَيْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 الْعِصْمَةُ   [الفواكه الدواني] الِاسْتِنَادِ (إلَى ذَلِكَ) الْمَذْكُورِ مِنْ الْكِتَابِ وَمَا بَعْدَهُ (الْعِصْمَةُ) أَيْ الْحِفْظُ مِنْ مُخَالَفَةِ الْمَأْمُورَاتِ. [الْمُحَافَظَةِ عَلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ] (وَفِي) الْمُحَافَظَةِ عَلَى (اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ النَّجَاةُ) مِنْ كُلِّ سُوءٍ وَالْفَوْزُ بِكُلِّ كَمَالٍ (وَهُمْ) أَيْ السَّلَفُ (الْقُدْوَةُ) مُثَلَّثُ الْقَافِ أَيْ الْمُقْتَدَى بِهِمْ (فِي تَأْوِيلِ مَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا اسْتَنْبَطُوهُ) وَالْمُرَادُ بِالسَّلَفِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ، وَإِنَّمَا كَانُوا قُدْوَةً فِيمَا ذَكَرَ لِأَنَّهُمْ جَمَعُوا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: الْعِلْمَ الْكَامِلَ وَالْوَرَعَ الْحَاصِلَ وَالنَّظَرَ السَّدِيدَ. وَلِذَا قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ: فَتَابِعْ الصَّالِحَ مِمَّنْ سَلَفَا ... وَجَانِبِ الْبِدْعَةَ مِمَّنْ خَلَفَا فَأَشَارَ إلَى أَنَّ كُلَّ مُكَلَّفٍ مَأْمُورٌ بِأَنْ يُتَابِعَ فِي عَقَائِدِهِ وَأَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَهَيْئَاتِهِ الْفَرِيقَ الصَّالِحَ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ مِنْ بَعْدِي عَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ» وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَصْحَابِي كَالنُّجُومِ بِأَيِّهِمْ اقْتَدَيْتُمْ اهْتَدَيْتُمْ» الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ مِنْهُمْ، لِأَنَّ غَيْرَ الْخَوَاصِّ مِنْ الصَّحَابَةِ قَدْ يَكُونُ أَهْلًا لِلِاقْتِدَاءِ بِهِ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالسَّلَفِ الصَّالِحِ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ تَبِعَنَا فِيهَا الشُّرَّاحُ وَخَصَّهُ فِي التَّحْقِيقِ بِالصَّحَابَةِ، وَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ وَهُمْ الْقُدْوَةُ قَاصِرًا عَلَى خُصُوصِ الْمُقَلِّدِينَ، أَيْ لَا تَكُونُ الْقُرُونُ الثَّلَاثَةُ قُدْوَةً إلَّا لِلْمُقَلِّدِينَ، وَعَلَى تَخْصِيصِهِ بِالصَّحَابَةِ يَكُونُ عَامًّا، لِأَنَّ الصَّحَابَةَ يَقْتَدِي بِهِمْ الْمُجْتَهِدُ وَالْمُقَلِّدُ خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، هَذَا مُحَصَّلُ كَلَامِ الْأُجْهُورِيِّ. الثَّانِي: فِي إضَافَةِ الْعِصْمَةِ إلَى الِاسْتِنَادِ إلَى الْكِتَابِ وَإِضَافَتِهِ النَّجَاةَ إلَى اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ لِمُجَرَّدِ التَّفَنُّنِ لِأَنَّ الْمَعْصُومَ نَاجٍ وَالنَّاجِي مَعْصُومٌ، كَمَا أَنَّ التَّأْوِيلَ وَالِاسْتِخْرَاجَ بِمَعْنًى، وَقِيلَ: التَّأْوِيلُ صَرْفُ اللَّفْظِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِدَلِيلٍ كَتَأْوِيلِ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «لَا صَلَاةَ لِجَارِ الْمَسْجِدِ إلَّا فِي الْمَسْجِدِ» لِأَنَّ الْمُرَادَ لَا صَلَاةَ كَامِلَةً، وَالِاسْتِخْرَاجُ هُوَ الْقِيَاسُ كَقِيَاسِهِمْ حَدَّ شُرْبِ الْخَمْرِ عَلَى حَدِّ الْقَذْفِ. وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّلَفَ الصَّالِحَ يَجِبُ الِاقْتِدَاءُ بِهِمْ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى عَدَالَتِهِمْ وَقَبُولِ كَلَامِهِمْ شَرَعَ فِيمَا إذَا اخْتَلَفُوا. (وَإِذَا اخْتَلَفُوا) أَيْ الْمُجْتَهِدُونَ (فِي الْفُرُوعِ) جَمْعُ فَرْعٍ وَهُوَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ الْمُتَعَلِّقُ بِكَيْفِيَّةِ عَمَلٍ قَلْبِيٍّ كَالنِّيَّةِ أَوْ غَيْرِ قَلْبِيٍّ كَالْوُضُوءِ، وَيُقَالُ لَهَا الْفُرُوعُ الظَّنِّيَّةُ لِأَنَّهَا لَمْ يَرِدْ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ، وَإِنَّمَا هِيَ مَأْخُوذَةٌ بِالِاجْتِهَادِ وَمَا كَانَ كَذَلِكَ ظَنِّيٌّ. (وَ) فِي أَحْكَامِ (الْحَوَادِثِ) وَالنَّوَازِلِ (لَمْ) يَجُزْ لِأَحَدٍ أَنْ (يَخْرُجَ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ) وَهُمْ الصَّحَابَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ، فَإِذَا كَانَ لِلْمُجْمِعِينَ قَوْلَانِ فِي الْمَسْأَلَةِ لَمْ يَجُزْ لِمَنْ بَعْدَهُمْ أَنْ يُحْدِثَ ثَالِثًا، فَإِذَا اخْتَلَفَتْ الصَّحَابَةُ فِي مَسْأَلَةٍ عَلَى قَوْلَيْنِ جَازَ لِأَحَدِ الصَّحَابَةِ أَنْ يُحْدِثَ ثَالِثًا، فَإِذَا انْقَرَضَ عَصْرُ الصَّحَابَةِ بِحَيْثُ لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ فَلَيْسَ لِلتَّابِعِينَ إحْدَاثُ ثَالِثٍ، وَكَذَا إذَا اخْتَلَفَ التَّابِعُونَ جَازَ لِلتَّابِعِينَ إحْدَاثُ ثَالِثٍ دُونَ تَابِعِ التَّابِعِينَ وَهَكَذَا، لِمَا فِي الْخُرُوجِ عَنْ اتِّبَاعِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْ خَرْقِ الْإِجْمَاعِ، وَقَدْ انْعَقَدَ إجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ الْيَوْمَ عَلَى وُجُوبِ مُتَابَعَةِ وَاحِدٍ مِنْ الْأَئِمَّةِ الْأَرْبَعِ: أَبِي حَنِيفَةَ وَمَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - وَعَدَمِ جَوَازِ الْخُرُوجِ عَنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَإِنَّمَا حَرُمَ تَقْلِيدُ غَيْرِ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَةِ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ، مَعَ أَنَّ الْجَمِيعَ عَلَى هُدًى لِعَدَمِ حِفْظِ مَذَاهِبِهِمْ لِمَوْتِ أَصْحَابِهِمْ وَعَدَمِ تَدْوِينِهَا، وَلِذَا قَالَ بَعْضُ الْمُحَقِّقِينَ: الْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْأَرْبَعَةِ، وَكَذَا مَنْ عَدَاهُمْ مِمَّنْ يُحْفَظُ مَذْهَبُهُ فِي تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ وَدُوِّنَ حَتَّى عَرَفْت شُرُوطَهُ وَسَائِرَ مُعْتَبَرَاتِهِ، فَالْإِجْمَاعُ الَّذِي نَقَلَهُ غَيْرُ وَاحِدٍ كَابْنِ الصَّلَاحِ وَإِمَامِ الْحَرَمَيْنِ وَالْقَرَافِيِّ عَلَى مَنْعِ تَقْلِيدِ الصَّحَابَةِ يُحْمَلُ عَلَى مَا فُقِدَ مِنْهُ شَرْطٌ مِنْ ذَلِكَ مِنْ شَرْحِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيِّ، وَإِنَّمَا قَالَ الْمُصَنِّفُ فِي الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ أُصُولِ الدِّينِ وَسَائِرِ عَقَائِدِ الْإِسْلَامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَجِبُ لِلَّهِ وَمَا يَجُوزُ وَمَا يَسْتَحِيلُ فَلَا يَصِحُّ الِاخْتِلَافُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا. 1 - (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ وُجُوبِ الْمُتَابَعَةِ لِأَحَدِ الْأَئِمَّةِ إنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ مَنْ لَا أَهْلِيَّةَ فِيهِ لِلِاجْتِهَادِ، وَلَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَتَتَبَّعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ وَإِلَّا امْتَنَعَ إجْمَاعًا إلَّا أَنْ يُضْطَرَّ لِتَقْلِيدِ الرُّخْصَةِ يَوْمًا فَيَجُوزُ لِلضَّرُورَةِ. وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي جَوَازِ الِانْتِقَالِ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى آخَرَ عَلَى أَقْوَالٍ ثَلَاثَةٍ اقْتَصَرَ الزَّنَاتِيُّ عَلَى الْجَوَازِ. وَعِبَارَةُ شَرْحِ التَّنْقِيحِ لِلْقَرَافِيِّ. قَالَ الزَّنَاتِيُّ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ فِي النَّوَازِلِ وَالِانْتِقَالُ مِنْ مَذْهَبٍ إلَى مَذْهَبٍ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَنْ لَا يَجْمَعَ بَيْنَ الْمَذْهَبَيْنِ مَثَلًا عَلَى صِفَةٍ تُخَالِفُ الْإِجْمَاعَ كَمَنْ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ صَدَاقٍ وَلَا وَلِيٍّ وَلَا شُهُودٍ فَإِنَّ هَذِهِ الصُّورَةَ لَمْ يَقُلْ بِهَا أَحَدٌ. الثَّانِي: أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُ الْفَضْلَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الثَّالِثُ: أَنْ لَا يَتْبَعَ رُخَصَ الْمَذَاهِبِ. قَالَ الْقَرَافِيُّ نَقْلًا عَنْ غَيْرِ الزَّنَاتِيِّ: يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْمَذَاهِبِ وَالِانْتِقَالُ إلَيْهَا فِي كُلِّ مَا لَا يُنْقَضُ فِيهِ قَضَاءُ الْقَاضِي لَا مَا يُنْقَضُ فِيهِ وَهُوَ أَرْبَعَةُ مَوَاضِعَ: مَا خَالَفَ الْإِجْمَاعَ أَوْ الْقَوَاعِدَ أَوْ النَّصَّ أَوْ الْقِيَاسَ الْجَلِيَّ، فَلِذَا يَجُوزُ تَقْلِيدُ مَالِكٍ فِي مِثْلِ أَرْوَاثِ الدَّوَابِّ، وَتَرْك الْأَلْفَاظِ فِي الْعُقُودِ مِنْ شَرْحِ شَيْخِ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيِّ عَلَى جَوْهَرَتِهِ مَعَ بَعْضِ تَصَرُّفٍ، وَقَدْ أَشْبَعْنَا الْكَلَامَ عَلَى ذَلِكَ فِيمَا سَبَقَ. الثَّانِي: قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ مِنْ جُمْلَةِ شُرُوطِ التَّقْلِيدِ أَنْ يَعْتَقِدَ فِيمَنْ يُقَلِّدُهُ الْفَضْلَ وَلَوْ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِغَيْرِهِ، لَا إنْ اعْتَقَدَ مَفْضُولًا فَلَا يَصِحُّ تَقْلِيدُهُ، وَعَلَى كُلِّ حَالٍّ يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ تَعْظِيمُ مُقَلَّدِهِ وَغَيْرِهِ لَا يَذْكُرُ أَحَدًا مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إلَّا بِمَا يَزِيدُهُمْ جَلَالًا وَعَظَمَةً فِي النُّفُوسِ، لِأَنَّهُ قَدْ رُوِيَ عَنْهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ عَظَّمَ الْعَالِمَ فَإِنَّمَا عَظَّمَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ، وَمَنْ اسْتَخَفَّ بِالْعَالِمِ فَقَدْ اسْتَخَفَّ بِاَللَّهِ وَرَسُولِهِ» . وَعَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ آذَى فَقِيهًا فَقَدْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ، وَمَنْ آذَى رَسُولَ اللَّهِ فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ اسْتَوْجَبَ اللَّعْنَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» كَمَا قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُتَوَهَّمُ مِنْ اسْتِحْقَاقِهِ اللَّعْنَةَ الْكُفْرُ، لِأَنَّ سَبَّ الصَّحَابِيِّ وَالِاسْتِخْفَافَ بِهِ لَا يُوجِبُ الْكُفْرَ بَلْ النَّبِيُّ وَالْمَلَكُ كَذَلِكَ، وَلِذَلِكَ كَانَ قَتْلُ السَّابِّ لَهُمَا حَدًّا لَا كُفْرًا إلَّا أَنْ يُصِرَّ عَلَى ذَلِكَ. [خَاتِمَة الْكتاب] وَلَمَّا مَنَّ اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - عَلَيْهِ بِالْإِتْمَامِ نَاسَبَ أَنْ يَشْكُرَهُ بِحُسْنِ الْخِتَامِ بِقَوْلِهِ: (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ) تَقَدَّمَ مَعْنَاهُ لُغَةً وَعُرْفًا، وَكَوْنُ الْجُمْلَةِ خَبَرِيَّةً أَوْ إنْشَائِيَّةً، وَاخْتَارَتْ خَتْمَهُ بِتِلْكَ الصِّيغَةِ دُونَ غَيْرِهَا مِمَّا فِيهِ مَعْنَى الْحَمْدِ لِمَا قِيلَ إنَّهَا أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ، وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَيَّدَ الْحَمْدَ بِقَوْلِهِ: (الَّذِي هَدَانَا) أَوْ وَفَّقَنَا (لِهَذَا) الْمُؤَلَّفِ الْمُشْتَمِلِ عَلَى جَمِيعِ مَا يَجِبُ عَلَى الْمُكَلَّفِ مَعْرِفَتُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَمَحَاسِنِ خِلْقَتِهِ، لِمَا تَقَرَّرَ مِنْ أَنَّ الْحَمْدَ فِي مُقَابَلَةِ النِّعْمَةِ وَاجِبٌ بِمَعْنَى يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابُ الْوَاجِبِ، وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْحَمْدَ الْمُقَيَّدَ أَفْضَلُ مِنْ الْمُطْلَقِ خِلَافًا لِمَنْ عَكَسَ، وَالْمُطْلَقُ وَهُوَ مَا لَمْ يَكُنْ فِي مُقَابَلَةِ نِعْمَةٍ لَا لَفْظًا وَلَا نِيَّةَ يُثَابُ عَلَيْهِ ثَوَابَ الْمَنْدُوبِ، وَأَمَّا شُكْرُ الْمُنْعِمِ بِمَعْنَى امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ فَهُوَ وَاجِبٌ شَرْعًا عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ إجْمَاعًا، وَالْحَمْدُ يَقَعُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَقُولُ عِنْدَ رُؤْيَةِ مَا يُحِبُّهُ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي بِنِعْمَتِهِ تَتِمُّ الصَّالِحَاتُ» وَعِنْدَ رُؤْيَةِ الْمَكْرُوهِ: «الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى كُلِّ حَالٍ» وَأَمَّا الشُّكْرُ فَلَا يَكُونُ إلَّا عَلَى السَّرَّاءِ. (تَنْبِيهٌ) عُلِمَ مِنْ تَفْسِيرِنَا لِاسْمِ الْإِشَارَةِ بِالْمُؤَلَّفِ أَنَّ الْإِشَارَةَ إلَى مَا وَقَعَ فِي الْخَارِجِ وَهُوَ النُّقُوشُ الدَّالَّةُ عَلَى الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ أَوْ الْأَلْفَاظِ بِاعْتِبَارِ دَلَالَتِهَا عَلَى الْمَعَانِي الْمَخْصُوصَةِ، وَلَا يُقَالُ: الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ لَيْسَ إلَّا الشَّخْصُ وَهُوَ لَيْسَ مُسَمًّى الْكِتَابِ وَإِلَّا انْحَصَرَ فِيهِ وَإِنَّمَا مُسَمَّاهُ النَّوْعُ، لِأَنَّا نَقُولُ: فِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ لِهَذَا أَيْ لِنَوْعِ هَذِهِ النُّقُوشِ أَوْ الْأَلْفَاظِ، وَقِيلَ: إنَّ الْإِشَارَةَ إلَى مَا فِي الذِّهْنِ مُطْلَقًا أَيْ وَلَوْ تَقَدَّمَ تَأْلِيفُ الْكِتَابِ، وَلَا يُقَالُ: الَّذِي فِي الذِّهْنِ مُجْمَلٌ وَالْمُجْمَلُ لَيْسَ هُوَ مُسَمًّى الْكِتَابِ وَإِنَّمَا مُسَمَّاهُ الْمُفَصَّلُ وَهُوَ غَيْرُ حَاضِرٍ فِي الذِّهْنِ وَالْمُشَارِ إلَيْهِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ حَاضِرًا، لِأَنَّا نَقُولُ: فِي كَلَامِهِ حَذْفٌ تَقْدِيرُهُ مُفَصَّلُ هَذَا الْمُجْمَلِ فَالْمُشَارُ إلَيْهِ مُفَصَّلُ الْمُجْمَلِ، ثُمَّ أَكَّدَ مَا دَلَّ عَلَيْهِ الْوَصْفُ بِقَوْلِهِ: (وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ) إلَيْهِ وَلَا لِغَيْرِهِ بِأَنْفُسِنَا لِعَجْزِنَا وَضَعْفِنَا (لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ) أَيْ لَوْلَا هِدَايَةُ اللَّهِ لَنَا، وَهَذَا حَمْدُ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ فَفِيهِ التَّفَاؤُلُ بِأَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُهُ وَمَنْ يَنْطِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ غَيْرِ سَبْقِ عَذَابٍ، وَقَدْ حَقَّقَ اللَّهُ رَجَاءَهُ فَقَدْ رَآهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ يَتَبَخْتَرُ فِي الْجَنَّةِ فَقَالَ لَهُ: بِمَ نِلْت هَذِهِ الْمَرْتَبَةَ؟ فَقَالَ: بِقَوْلِي فِي الرِّسَالَةِ وَيَسْتَرْخِي قَلِيلًا، وَمِثْلُ هَذَا يُسْتَأْنَسُ بِهِ وَإِنْ كَانَتْ الرُّؤْيَا الْمَنَامِيَّةُ لَا تُفِيدُ الْقَطْعَ وَلَا سِيَّمَا قَالَ أَهْلُ التَّعْبِيرِ: أَخْبَارُ الْمَيِّتِ صِدْقٌ. (تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: هَدَى وَمَا تَصَرَّفَ مِنْهُ يَتَعَدَّى إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِاللَّامِ أَوْ بِإِلَى أَوْ بِنَفْسِهِ نَحْوَ: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وَمَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ إمَّا مُطْلَقًا أَوْ الْمُوَصِّلَةُ، وَإِنْ عُدِّيَ إلَى الْمَفْعُولِ الثَّانِي بِنَفْسِهِ فَلَا يَتَعَيَّنُ فِي مَعْنَاهُ ذَلِكَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ خَلْقُ الِاهْتِدَاءِ نَحْوَ: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] أَيْ لَا تَخْلُقُ الِاهْتِدَاءَ فِيمَنْ أَحْبَبْت، وَقَدْ يَكُونُ مَعْنَاهُ الدَّلَالَةُ نَحْوَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أَيْ دَلَلْنَاهُمْ إذْ لَا يَصِحُّ خَلَقْنَا فِيهِمْ الِاهْتِدَاءَ، وَالْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ يَجُوزُ إسْنَادُهُ إلَى اللَّهِ نَحْوَ: {لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وَإِلَى غَيْرِهِ نَحْوَ: {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} [غافر: 38] . الثَّانِي: لَمْ يَذْكُرْ جَوَابَ لَوْلَا لِدَلَالَةِ مَا قَبْلَهُ عَلَيْهِ وَتَقْدِيرُهُ: لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا. وَفِي كَلَامِهِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - هُنَا وَفِي صَدْرِ خُطْبَتِهِ إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ الِاقْتِبَاسِ وَهُوَ الرَّاجِحُ، وَإِنْ كَانَ الْإِمَامُ مَالِكٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - شَدَّدَ فِي مَنْعِهِ لِإِمْكَانِ حَمْلِ مَنْعِهِ عَلَى مَا اقْتَضَى أَمْرًا قَبِيحًا كَقَوْلِهِ: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] وَرِدْفُهُ يَنْطِقُ مِنْ خَلْفِهِ ... لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلْ الْعَامِلُونَ وَالْخِلَافُ فِي الِاقْتِبَاسِ مَشْهُورٌ. قَالَ السُّيُوطِيّ: قُلْت وَأَمَّا حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ ... فَمَالِكٌ مُشَدِّدٌ فِي الْمَنْعِ وَلَيْسَ فِيهِ عِنْدَنَا صَرَاحَهْ ... لَكِنَّ يَحْيَى النَّوَوِيَّ أَبَاحَهْ فِي الْوَعْظِ نَثْرًا دُونَ نَظْمٍ مُطْلَقَا ... وَالشَّرَفُ الْمُقْرِي فِيهِ حَقَّقَا جَوَازَهُ فِي الزُّهْدِ وَالْوَعْظِ وَفِي ... مَدْحِ النَّبِيِّ وَلَوْ بِمَدْحِ مَا اقْتَفَى 1 - وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ شُكْرِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْخِتَامِ، شَرَعَ فِي بَيَانِ الْوَفَاءِ بِمَا اشْتَرَطَ عَلَى نَفْسِهِ الْإِتْيَانَ بِهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ) كُنْيَةُ الْمُصَنِّفِ (عَبْدُ اللَّهِ) اسْمُهُ (ابْنُ أَبِي زَيْدٍ) كُنْيَةُ أَبِيهِ وَاسْمُ أَبِيهِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَفِي تَعْبِيرِهِ يُقَالُ أَبُو مُحَمَّدٍ إيهَامُ أَنَّهُ غَيْرُ الْمُصَنِّفِ، وَكَانَ الْأَنْسَبُ أَنْ لَوْ قَالَ: وَقَدْ أَتَيْت عَلَى مَا شَرَطْت، وَيُمْكِنُ أَنَّهُ أَنَّمَا عَدَلَ إلَى هَذَا لِبَيَانِ كُنْيَتِهِ وَاسْمِهِ بِنَاءً عَلَى الرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ مِنْ عَدَمِ إثْبَاتِهَا فِي صَدْرِ الْكِتَابِ وَمَقُولُ قَالَ: (قَدْ أَتَيْنَا) أَيْ جَرَيْنَا (عَلَى مَا شَرَطْنَا) عَلَى أَنْفُسِنَا (أَنْ نَأْتِيَ بِهِ فِي كِتَابِنَا هَذَا) مِنْ الْمَسَائِلِ بِقَوْلِنَا فِي أَوَّلِهِ: بِأَجَبْتُكَ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا قَالَ هَذَا خَوْفًا مِنْ إرْجَاعِ الضَّمِيرِ إلَى غَيْرِهِ مِنْ كُتُبِ الْمُصَنِّفِ لِأَنَّ لَهُ كُتُبًا كَثِيرَةً، وَبَيْنَ عُمُومِ مَا بِقَوْلِهِ: (مِمَّا يَنْتَفِعُ بِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ) وَفَاعِلُ يَنْتَفِعُ (مَنْ رَغِبَ فِي تَعْلِيمِهِ) أَيْ تَعَلُّمِهِ (ذَلِكَ) الْمَذْكُورَ مِنْ الْمَسَائِلِ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفَسَّرَ عُمُومَ مَنْ بِقَوْلِهِ: (مِنْ الصِّغَارِ وَ) كَذَا كُلُّ (مَنْ احْتَاجَ إلَيْهِ مِنْ الْكِبَارِ) . (تَنْبِيهٌ) إنَّمَا أَوَّلْنَا تَعْلِيمَ بِتَعَلُّمٍ لِأَجْلِ قَوْلِهِ مِنْ الصِّغَارِ إذْ الْوَاقِعُ مِنْهُمْ التَّعَلُّمُ لَا التَّعْلِيمُ، فَالْمُصَنِّفُ أَطْلَقَ الْمَصْدَرَ وَأَرَادَ بِهِ مَا يَنْشَأُ عَنْهُ، هَذَا هُوَ الْمُتَعَيَّنُ فِي فَهْمِ كَلَامِهِ، وَرَغْبَةِ الصِّغَارِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِمْ مِنْ الْكِبَارِ فِي التَّعَلُّمِ لَا يُنَافِي أَنَّ الْمُعَلِّمَ هُوَ مُحْرِزٌ وَأَنَّهُ رَغِبَ فِي تَعْلِيمِهَا لِأَنَّهُ السَّائِلُ فِي كُتُبِ الْجُمْلَةِ، وَحِينَئِذٍ فَالضَّمِيرُ الْمُضَافُ إلَى تَعْلِيمٍ عَائِدٌ عَلَى مَا هَذَا هُوَ الْمُطَابِقُ لِكَلَامِهِ، وَمَا فِي بَعْضِ الشُّرَّاحِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهُهُ، فَإِنَّ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمًا، وَلَعَلَّ وَجْهَ نِسْبَةِ الرَّغْبَةِ فِي التَّعَلُّمِ لِلصِّغَارِ وَالْحَاجَةِ لِلْكِبَارِ لِأَنَّ الصِّغَارَ لِخُلُوِّ أَذْهَانِهِمْ يَرْغَبُونَ وَقِلَّةُ رَغْبَةِ الْكِبَارِ تُدْرَكُ بِمَا قُلْنَاهُ بِالذَّوْقِ السَّلِيمِ وَالطَّبْعِ الْمُسْتَقِيمِ. (وَفِيهِ) أَيْ الْكِتَابِ الَّذِي أَتَى بِهِ عَلَى مَا شَرَطَ (مَا يُؤَدِّي) أَيْ يُوَصِّلُ (الْجَاهِلَ إلَى عِلْمِ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ) أَمْرِ (دِينِهِ) مِنْ الْعَقَائِدِ الْإِسْلَامِيَّةِ الْمُبَيَّنَةِ فِي الْعَقِيدَةِ. (وَ) فِيهِ أَيْضًا مَا يُوَصِّلُهُ إلَى عِلْمِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ (يَعْمَلَ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ) كَالطَّهَارَةِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا. (وَيُفْهَمُ) بِضَمِّ الْيَاءِ مِنْ أَفْهَمَ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرُ الْكِتَابِ وَمَفْعُولُهُ (كَثِيرًا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَفُنُونِهِ، وَ) كَثِيرًا (مِنْ السُّنَنِ وَالرَّغَائِبِ وَالْآدَابِ) الْمُتَعَلِّقَةِ بِالظَّاهِرِ كَالْأَكْلِ وَالشُّرْبِ وَبِالْبَاطِنِ كَحُبِّ الْخَيْرِ لِلْغَيْرِ وَالصَّفْحِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِآفَاتِ النَّفْسِ. (تَنْبِيهٌ) الظَّاهِرُ أَنَّ قَوْلَ الْمُصَنِّفِ: وَفِيهِ مَا يُؤَدِّي الْجَاهِلَ إلَخْ مَفْهُومٌ مِنْ قَوْلِهِ مِمَّا قَبْلَهُ، لِأَنَّ الَّذِي يَنْتَفِعُ بِهِ الصَّغِيرُ وَالْوَافِي بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ الْكَبِيرُ شَامِلٌ لِمَا يُؤَدِّي الْجَاهِلَ إلَى عِلْمِ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَيَعْمَلُ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَقَدْ مَدَحَ النَّاسُ الرِّسَالَةَ وَاعْتَنَوْا بِشَرْحِهَا حَتَّى قِيلَ مُنْذُ وُضِعَتْ: مَا خَلَتْ سَنَةٌ مِنْ شَرْحٍ فَهِيَ عَظِيمَةُ الْقَدْرِ جَلِيلَةُ الْأَمْرِ. وَالْمُتَقَيِّدُ بِهَا مَعَ الْعَمَلِ بِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ مِمَّنْ كَمَّلَهُ دِينُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، وَمَا ذَاكَ إلَّا مِنْ إخْلَاصِ مُؤَلِّفِهَا. وَلَمَّا كَانَ حُسْنُ الْعِبَارَةِ وَكَثْرَةُ الْمَعْنَى لَا يَقْتَضِي بِمُجَرَّدِهِ انْتِفَاعَ الْغَيْرِ بِهَا قَالَ: (وَأَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ) أَيْ لَا غَيْرَهُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ الْمُسْنَدُ إلَيْهِ. (أَنْ يَنْفَعَنَا وَإِيَّاكَ) ضَمِيرُ الْمُتَكَلِّمِ لِلْمُصَنِّفِ وَالْخِطَابِ لِلشَّيْخِ مُحْرِزٍ لِأَنَّهُ السَّائِلُ فِي تَأْلِيفِ هَذَا الْكِتَابِ عَلَى مَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ ضَمِيرَ الْخِطَابِ لِلنَّاظِرِ فِي هَذَا الْكِتَابِ. (بِمَا عَلَّمَنَا) مِنْ التَّعْلِيمِ بِأَنْ يُوَفِّقَنَا لِلْعَمَلِ بِهِ، وَاَلَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ لِلْمُصَنِّفِ عِلْمُ التَّفْسِيرِ وَالسُّنَّةِ وَسَائِرُ أَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَاَلَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ لِلشَّيْخِ مُحْرِزٍ الْقُرْآنُ وَنَحْوُهُ مِمَّا كَانَ يَعْرِفُهُ وَيُفِيدُهُ لِلْأَطْفَالِ لِأَنَّهُ كَانَ مُعَلِّمًا لَهُمْ، وَالنَّفْعُ مَا أَحْسَنْت بِهِ لِغَيْرِك، وَالِانْتِفَاعُ مَا أَحْسَنْت بِهِ إلَى نَفْسِك، تَقُولُ: نَفَعْتُك بِكَذَا نَفْعًا وَانْتَفَعْت بِكَذَا انْتِفَاعًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُصَنِّفَ أَحْسَنَ إلَى نَفْسِهِ بِهَذَا الْكِتَابِ، لِأَنَّهُ يَنَالُ الْعَمَلَ بِمَا فِيهِ الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَإِلَى غَيْرِهِ كَذَلِكَ. (وَ) أَنَا أَسْأَلُ اللَّهَ أَيْضًا أَنْ (يُعِينَنَا وَإِيَّاكَ عَلَى الْقِيَامِ) أَيْ الْوَفَاءِ (بِحَقِّهِ) تَعَالَى (فِيمَا كَلَّفَنَا) أَيْ أَلْزَمَنَا بِهِ مِنْ امْتِثَالِ مَأْمُورَاتِهِ وَاجْتِنَابِ مَنْهِيَّاتِهِ، فَيُعِينُنَا مَعْطُوفٌ عَلَى يَنْفَعُنَا لِاشْتِرَاكِهِمَا فِي الدُّعَاءِ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى مِثْلِهِ وَالْقِيَامُ بِحَقِّهِ تَعَالَى، وَهُوَ مَعْنَى رِعَايَةِ الْوَدَائِعِ وَحِفْظِ الشَّرَائِعِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ فِي كَلَامِهِ، وَالْمُصَنِّفُ قَدَّمَ نَفْسَهُ فِي الدُّعَاءِ لِأَنَّهُ الْمَطْلُوبُ شَرْعًا فِي الْأُمُورِ الدِّينِيَّةِ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَغَيْرُهُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ. قَالَ: إيَّاكَ إنْ كَانَ الْخِطَابُ لِمُحْرِزٍ يَكُونُ ارْتَكَبَ خِلَافَ الْأَوْلَى، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ كُلَّ وَاقِفٍ عَلَى كَلَامِهِ كَانَ جَارِيًا عَلَى الْأَوْلَى مِنْ التَّعْمِيمِ فِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   [الفواكه الدواني] الدُّعَاءِ لِخَبَرِ: «إذَا دَعَوْتُمْ اللَّهَ فَاجْمَعُوا فَلَعَلَّ فِيمَنْ تَجْمَعُونَ مَنْ تَنَالُونَ بَرَكَتَهُ» أَوْ كَمَا قَالَ: وَلَا يُشْكِلُ عَلَى مَا قُلْنَا إيثَارُ عَائِشَةَ لِعُمَرَ عَلَى نَفْسِهَا بِدَفْنِهِ عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَ أَنْ كَانَتْ أَعَدَّتْهُ لِنَفْسِهَا لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ ذَلِكَ لِجَزْمِهَا بِأَنَّ ذَلِكَ أَقْرَبُ لِخَاطِرِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، فَيَكُونُ مِنْ الِانْتِقَالِ مِنْ قُرْبَةٍ إلَى أَعْظَمَ مِنْهَا، وَنَدْبُ التَّقْدِيمِ لِنَفْسِ الدَّاعِي عَلَى غَيْرِهِ فِي الْقُرْبِ شَامِلٌ لِلدُّعَاءِ فِي الْكِتَابِ الَّذِي يُرْسِلُهُ لِغَيْرِهِ. وَفِي الْمَسْأَلَةِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: تَقْدِيمُ الْمَكْتُوبِ إلَيْهِ لِزِيَادَةِ التَّحِيَّةِ، وَتَقْدِيمُ نَفْسِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ، الثَّالِثُ التَّخْيِيرُ، وَجَاءَ عَنْ مَالِكٍ تَقْدِيمُ الدُّعَاءِ لِلْمَكْتُوبِ إلَيْهِ إنْ كَانَ أَكْبَرَ مِنْ الْكَاتِبِ فِي السِّنِّ أَوْ الْعِلْمِ أَوْ النَّسَبِ، وَيُؤْخَذُ مِنْ نَدْبِ الْبُدَاءَةِ بِالنَّفْسِ فِي الدُّعَاءِ جَهْلُ مَنْ قَالَ لَهُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنْكُمْ وَبَدَأَ بِكُمْ، بَلْ الصَّوَابُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: تَقَبَّلَ اللَّهُ مِنَّا وَمِنْكُمْ، وَالْقَاعِدَةُ الْمَذْكُورَةُ فِيمَا إذَا دَعَا الشَّخْصُ لِنَفْسِهِ وَلِغَيْرِهِ لَا إنْ خَصَّ غَيْرَهُ، فَلَا يَتَأَتَّى الدُّعَاءُ لِنَفْسِهِ كَقَوْلِك لِمَنْ عَطَسَ وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ يَرْحَمُك اللَّهُ. وَلَمَّا طَلَب الْمُصَنِّفُ مِنْ اللَّهِ أَنْ يُعِينَهُ عَلَى الْقِيَامِ بِحَقِّهِ تَعَالَى وَكَانَ ذَلِكَ لَا بِحَوْلِ الْعَبْدِ وَلَا قُوَّتِهِ قَالَ: (وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ) فَقَوْلُهُ: لَا حَوْلَ إلَخْ كَالْعِلَّةِ لِسُؤَالِهِ السَّابِقِ، وَلِمَا وَرَدَ أَنَّ مَنْ قَالَهَا أَذْهَبَ اللَّهُ عَنْهُ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ دَاءً أَدْنَاهَا اللَّمَمُ. وَرُوِيَ بَدَلَ اللَّمَمِ الْفَقْرُ فَهِيَ كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ، فَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَقُولَهَا لِقَصْدِ ثَوَابِهَا لَا لِلتَّعَجُّبِ، وَوَقَعَ الِاضْطِرَابُ فِي مَعْنَاهَا فَقِيلَ لَا تَحَوُّلَ لِي عَنْ مَعْصِيَتِك إلَّا بِعِصْمَتِك، وَلَا قُوَّةَ لِي عَلَى طَاعَتِك إلَّا بِتَوْفِيقِك، وَقِيلَ مَعْنَاهَا لَا يُنَالُ مَا عِنْدَك بِالْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ كَمَا يُنَالُ مَا عِنْدَ غَيْرِك بِالْحِيلَةِ وَالْقُوَّةِ، وَوَرَدَ: «أَنَّ مَنْ كَثُرَ هَمُّهُ وَضَاقَ عَلَيْهِ مَا يُحَاوِلُهُ مِنْ أَمْرِهِ فَلْيُكْثِرْ مِنْ قَوْلِ: لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَإِنَّهَا مُذْهِبَةُ كُلَّ هَمٍّ عَنْهُ وَكُلَّ ضِيقٍ وَفَقْرٍ» . وَرُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَا عَلِيُّ أَلَا أُعَلِّمُك كَلِمَاتٍ إذَا وَقَعْت فِي وَرْطَةٍ قُلْتهَا؟ قُلْت: بَلَى جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاك. قَالَ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَصْرِفُ بِهَا مَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَلَاءِ» وَالْعَلِيُّ مَعْنَاهُ التَّامُّ الْقُدْرَةِ وَنَفَاذِ الْأَمْرِ، وَالْعَظِيمُ الَّذِي يَصْغُرُ كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَ ذِكْرِهِ، وَمَعْنَى كَوْنِهَا كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ يَحْتَمِلُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُهَيِّئُ لِقَائِلِهَا كَنْزًا مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ بِسَبَبِ قَوْلِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ أَصْلَهَا كَنْزٌ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ أَنْزَلَهَا اللَّهُ لِعِبَادِهِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا كَانَتْ الصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَقْبُولَةً غَيْرَ مَرْدُودَةٍ كَمَا جَاءَ بِهِ الْحَدِيثُ، وَكَانَتْ الْمَلَائِكَةُ لَا تَزَالُ تُصَلِّي عَلَى رَاقِمِهَا فِي كِتَابٍ مَا دَامَ اسْمُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ، وَكَانَ حُسْنُ الظَّنِّ وَالرَّجَاءِ يَقْتَضِي أَنَّ الْكَرِيمَ إذَا قَبِلَ صَفْقَةَ مُنْكَسِرٍ فَقِيرٍ مُقِلٍّ مُفْلِسٍ وَرَضِيَهَا وَأَثَابَ عَلَيْهَا وَخُلْدُ الْإِنْعَامِ بِإِزَائِهَا لَا يَرُدُّ شَيْئًا مِنْهَا جَعَلَ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ مُكْتَنِفَيْنِ لِمَا أَتَى بِهِ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مِنْ عَقَائِدِ الْإِيمَانِ وَفُرُوعِ الشَّرِيعَةِ، وَمَا أَتَى بِهِ مِنْ الْآدَابِ تَوَسُّلًا إلَى ذَلِكَ. (وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ نَبِيِّهِ وَآلِهِ) الْمُرَادُ أَتْقِيَاءُ أُمَّتِهِ. (وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا) وَقَبُولُ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَطْعِيٌّ كَمَا نَصَّ عَلَيْهِ بَعْضُ الْأَكَابِرِ، وَلَا يُقَالُ: لَوْ كَانَ قَبُولُهَا قَطْعِيًّا لَقُطِعَ لِلْمُصَلِّي بِحُسْنِ الْخَاتِمَةِ، لِأَنَّا نَقُولُ: تَبَعًا لِبَعْضٍ أَنَّ مَعْنَى الْقَطْعِ بِقَبُولِهَا إذَا خُتِمَ لِقَائِلِهَا بِالْإِيمَانِ يَجِدُ حَسَنَتَهَا مَقْبُولَةً مِنْ غَيْرِ شَكٍّ بِخِلَافِ حَسَنَةِ غَيْرِهَا، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ قَبُولَهَا عَلَى الْقَطْعِ إذَا صَدَرَتْ مِنْ قَائِلِهَا عَلَى وَجْهِ مَحَبَّتِهِ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُقْطَعُ بِانْتِفَاعِهِ بِهَا فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ فِي تَخْفِيفِ الْعَذَابِ إنْ قُضِيَ عَلَيْهِ بِهِ وَلَوْ عَلَى وَجْهِ الْخُلُودِ لِعِظَمِ مَحَبَّتِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، أَلَا تَرَى أَنَّ أَبَا طَالِبٍ وَكَذَا أَبُو لَهَبٍ كُلُّ مِنْهُمَا انْتَفَعَ بِمَحَبَّةِ الْمُصْطَفَى، فَقَدْ وَرَدَ أَنَّ أَبَا لَهَبٍ يَشْرَبُ مِنْ نَقْرَةِ الْإِبْهَامِ وَيُخَفَّفُ عَنْهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ لِعِتْقِهِ ثُوَيْبَةَ لِبِشَارَتِهَا بِوِلَادَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالتَّخْفِيفُ عَنْ أَبِي طَالِبٍ بِنَقْلِهِ مِنْ مَحَلٍّ إلَى مَحَلٍّ أَخَفَّ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ذَلِكَ فِي صَدْرِ الْكِتَابِ عَنْ الْعَلَّامَةِ السَّنُوسِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَذَكَرَ لَفْظَ السَّيِّدِ فِي الصَّلَاةِ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ فِي جَوَازِهِ وَاسْتِجْوَابِهِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي اسْتِعْمَالِهِ فِي تَشَهُّدِ الصَّلَاةِ وَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ فِي الْمَسْأَلَةِ الِاسْتِحْبَابُ. وَأَمَّا حَدِيثُ: «لَا تُسَيِّدُونِي فِي الصَّلَاةِ» فَقَالَ الْجَلَالُ: لَا أَصْلَ لَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَوْ وَرَدَ لَأَمْكَنَ تَأْوِيلُهُ بِأَنَّ الْمُرَادَ لَا تُسَيِّدُونِي سِيَادَةً تُؤَدِّي إلَى تَنْقِيصِ النُّبُوَّةِ، وَوَرَدَ أَيْضًا: «أَنَّ الدُّعَاءَ مَحْجُوبٌ حَتَّى يُصَلِّيَ الدَّاعِي عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَوَرَدَ أَيْضًا: «إذَا أَرَادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يَسْأَلَ اللَّهَ شَيْئًا فَلْيَبْدَأْ بِمَدْحِهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ حَتَّى يُصَلِّيَ الدَّاعِي عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَسْأَلَ اللَّهَ فَإِنَّهُ أَجْدَرُ أَنْ يُنْتِجَ» أَيْ يُسْتَجَابُ لَهُ، لَكِنْ يَتَوَقَّى الشَّخْصُ الْأَمَاكِنَ الَّتِي تُكْرَهُ فِيهَا الصَّلَاةُ عَلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَحْرُمُ، فَإِنَّهَا تَحْرُمُ وَمِثْلُهَا التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ عِنْدَ كُلِّ عَمَلٍ مُحَرَّمٍ، وَتُكْرَهُ عِنْدَ التَّعَجُّبِ وَالذَّبْحِ وَالْعُطَاسِ وَعِنْدَ الْبَيْعِ وَفِي الْحَمَّامِ وَفِي الْخَلَاءِ وَعِنْدَ الْجِمَاعِ، وَكَذَا كُلُّ مَوْضِعٍ قَذِرٍ، مِمَّنْ نَصَّ عَلَى كَرَاهَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ التَّعَجُّبِ سَحْنُونٌ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِحْبَابِ وَطَلَبِ الثَّوَابِ. وَفِي شَرْحِ الْمُلُوكِ لِلْعَيْنِيِّ: وَيَحْرُمُ التَّسْبِيحُ وَالتَّكْبِيرُ وَالصَّلَاةُ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عِنْدَ عَمَلٍ يَحْرُمُ أَوْ عَرْضِ سِلْعَةٍ، وَيَلْحَقُ بِالتَّعْجِيبِ الصَّلَاةُ عَلَيْهِ عِنْدَ الْغَضَبِ كَأَنْ يُقَالَ لَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ: صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ خَوْفًا مِنْ أَنْ يَحْمِلَهُ الْغَضَبُ عَلَى الْكُفْرِ، كَمَا حَكَاهُ النَّوَوِيُّ فِي الْأَذْكَارِ عَنْ بَعْضِهِمْ وَأَقَرَّهُ، انْتَهَى رَاجِعِ التَّحْقِيقَ. 1 - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 وَفِي اتِّبَاعِ السَّلَفِ الصَّالِحِ النَّجَاةُ وَهُمْ الْقُدْوَةُ فِي تَأْوِيلِ مَا تَأَوَّلُوهُ وَاسْتِخْرَاجِ مَا اسْتَنْبَطُوهُ وَإِذَا اخْتَلَفُوا فِي الْفُرُوعِ وَالْحَوَادِثِ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ جَمَاعَتِهِمْ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ.   [الفواكه الدواني] (خَاتِمَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ) مِنْهَا: مَا قَالَهُ جَمْعٌ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي وَالتَّرَحُّمُ عَلَى الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ، وَلَا تَخْتَصُّ التَّرْضِيَةُ بِالصَّحَابَةِ وَالتَّرَحُّمُ بِغَيْرِهِمْ خِلَافًا لِبَعْضِهِمْ. وَمِنْهَا: أَنَّ الْأَصَحَّ كَرَاهَةُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَى غَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْمَلَائِكَةِ اسْتِقْلَالًا، وَالْمُرَادُ بِغَيْرِ الْأَنْبِيَاءِ مَنْ لَمْ يَقَعْ فِي نُبُوَّتِهِ خِلَافٌ، فَالْمُخْتَلَفُ فِي نُبُوَّتِهِ لَا بَأْسَ بِالصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ عَلَيْهِ كَمَا قَالَهُ النَّوَوِيُّ. 1 - وَمِنْهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ الشَّخْصُ: اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنْ النَّارِ، وَاجْعَلْنَا مِمَّنْ تَنَالُهُ شَفَاعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، خِلَافًا لِمَنْ مَنَعَ مُعَلِّلًا بِمَا يَطُولُ وَلَا يُفِيدُ ذِكْرُهُ. 1 - وَمِنْهَا: أَنَّ الْإِنْسَانَ إذَا أَوْرَدَ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ عَقِبَ إتْمَامِ عَمَلٍ كَمَا هُنَا لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَقْصِدَ بِهِمَا الْإِعْلَامَ بِإِتْمَامِهِ، بَلْ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ لَا يَقْصِدَ إلَّا تَحْصِيلَ فَضِيلَتِهِمَا وَإِلَّا دَخَلَ فِي الْكَرَاهَةِ، وَكَذَا قَوْلُهُمْ عِنْدَ التَّمَامِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ سَوَاءٌ. وَمِنْهَا: أَنَّ الصَّلَاةَ وَالسَّلَامَ يُؤْجَرُ عَلَيْهِمَا الْآتِي بِهِمَا وَلَوْ لَمْ يَكُونَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ وَهُوَ الْحَقُّ، نَعَمْ الْإِتْيَانُ بِهِمَا عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ فِي الْأَجْرِ أَكْمَلُ. وَمِنْهَا مَا قَدَّمْنَاهُ صَدْرَ الْكِتَابِ مِنْ اسْتِحْبَابِ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ فِي ابْتِدَاءِ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ وَبَعْدَ الْبَسْمَلَةِ وَبَعْدَ تَمَامِ الْكِتَابِ، وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ وَإِنَّمَا أُحْدِثَ عِنْدَ وِلَايَةِ بَنِي هَاشِمٍ 1 - وَمِنْهَا: يَجُوزُ رُؤْيَتُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْيَقَظَةِ وَالْمَنَامِ بِاتِّفَاقِ الْحُفَّاظِ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا هَلْ يَرَى الرَّائِي ذَاتَه الشَّرِيفَةَ حَقِيقَةً أَوْ يَرَى مِثَالًا يَحْكِيهَا، فَذَهَبَ إلَى الْأَوَّلِ جَمَاعَةٌ وَذَهَبَ إلَى الثَّانِي الْغَزَالِيُّ وَالْقَرَافِيُّ وَالْيَافِعِيُّ وَآخَرُونَ، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِأَنَّهُ سِرَاجُ الْهِدَايَةِ وَنُورُ الْهُدَى وَشَمْسُ الْمَعَارِفِ كَمَا يَرَى النُّورَ وَالسِّرَاجَ وَالشَّمْسَ مِنْ بُعْدٍ، وَالْمَرْئِيُّ جُرْمُ الشَّمْسِ بِأَعْرَاضِهِ فَكَذَلِكَ الْبَدَنُ الشَّرِيفُ، فَلَا تُفَارِقُ ذَاتُهُ الْقَبْرَ الشَّرِيفَ، بَلْ يَخْرِقُ اللَّهُ الْحُجُبَ لِلرَّائِي وَيُزِيلُ الْمَوَانِعَ حَتَّى يَرَاهُ كُلُّ رَاءٍ وَلَوْ مِنْ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ أَوْ تُجْعَلُ الْحُجُبُ شَفَّافَةً لَا تَحْجُبُ مَا وَرَاءَهَا، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ الْقَرَافِيُّ أَنَّ رُؤْيَاهُ مَنَامًا إدْرَاكٌ بِجُزْءٍ لَمْ تَحِلَّهُ آفَةُ النَّوْمِ مِنْ الْقَلْبِ فَهُوَ بِعَيْنِ الْبَصِيرَةِ لَا بِعَيْنِ الْبَصَرِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدْ يَرَاهُ الْأَعْمَى. وَقَدْ حَكَى ابْنُ أَبِي جَمْرَةَ وَجَمَاعَةٌ أَنَّهُمْ رَأَوْا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقَظَةً. وَرُوِيَ: «مَنْ رَآنِي مَنَامًا فَسَيَرَانِي يَقَظَةً» . وَمُنْكِرُ ذَلِكَ مَحْرُومٌ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ فَالْبَحْثُ مَعَهُ سَاقِطٌ لِتَكْذِيبِهِ مَا أَثْبَتَتْهُ السُّنَّةُ أَشَارَ إلَى جَمِيعِ ذَلِكَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا اللَّقَانِيُّ فِي شَرْحِ جَوْهَرَةِ التَّوْحِيدِ. 1 - (وَهَذَا مَا تَيَسَّرَ لَنَا ذِكْرُهُ) . وَنَعُوذُ بِك يَا خَالِقَنَا مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَقَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَدُعَاءٍ لَا يُسْمَعُ، وَنَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، نَعُوذُ بِك اللَّهُمَّ مِنْ شَرِّ هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعِ، وَنَسْأَلُك يَا رَبِّ بِحَقِّ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ تَنْفَعَ بِهِ مَنْ كَتَبَهُ أَوْ قَرَأَهُ أَوْ حَصَّلَهُ أَوْ سَعَى فِي شَيْءٍ مِنْهُ. وَكَانَ الْفَرَاغُ مِنْ جَمْعِهِ رَابِعَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ بَعْدَ الْمِائَةِ الْمَسْبُوقَةِ بِالْأَلْفِ. وَعَلَّقَهُ بِيَدِهِ جَامِعُهُ أَفْقَرُ عِبَادِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ غُنَيْمٍ، النَّفْرَاوِيُّ بَلَدًا، الْأَزْهَرِيُّ مَوْطِنًا، الْمَالِكِيُّ مَذْهَبًا، يَرْجُو مِنْ اللَّهِ قَبُولَهُ، وَإِلَى أَعَالِي الدَّرَجَاتِ وُصُولَهُ، وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ، وَحَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360