الكتاب: تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار المؤلف: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الثامنة، 1430 هـ عدد الأجزاء: 1   الكتاب إهداء من مؤلفه - جزاه الله خيرا - للمكتبة الشاملة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار مساعد الطيار الكتاب: تفسير جزء عم للشيخ مساعد الطيار المؤلف: د مساعد بن سليمان بن ناصر الطيار الناشر: دار ابن الجوزي الطبعة: الثامنة، 1430 هـ عدد الأجزاء: 1   الكتاب إهداء من مؤلفه - جزاه الله خيرا - للمكتبة الشاملة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ـ[عرض كتاب تفسير (جزء عم)]ـ (*) تأليف: د. مساعد بن سليمان الطيار طبعة: دار ابن الجوزي عرض: عمرو الشرقاوي عرض الكتاب: بدأ الكتاب بمقدمة بين فيها المؤلف، شرف علمَ التفسيرِ. وقسم الكتاب إلى متن وحاشية. أمَّا المتنُ، فجعله في صُلْبِ التفسيرِ، وجاء واضح المعنى، سهلَ العبارةِ، مع الحرصِ على بيانِ مفرداتِ القرآنِ اللُّغويةِ في ثناياه. وأمَّا الحاشيةُ، فجعلها للاختلافِ الواردِ في التفسيرِ عن السلفِ، ولتوجيهِ أقوالِهِم، وبيانِ سببِ الاختلافِ، وذكرِ الراجحِ منَ الأقوالِ. ولم تخل الحاشيةُ منْ بعضِ الفوائدِ الأخرى، لكنَّها لمَّا لم تكنْ هي المقصد في هذا التأليفِ، فإنها جاءتْ قليلةً، وليسَ لها نظامٌ، وإنَّما هي ممَّا يطرأُ خلالَ البحثِ، أو يجرُّ إليه. وقبل أن يشرع في التفسير ذكر بعضَ المسائلِ المتعلِّقةِ بالتفسيرِ وأصولِهِ، وهي كالتالي: المسألة الأولى: مفهوم التفسير. المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه. المسألة الثالثة: طبقاتُ السَّلف في التفسير. المسألة الرابعة: تفسير السلف للمُفردات.   (*) قال مُعِدُّ الكتاب للشاملة: هذا العرض ليس في المطبوع، ومصدره الموقع الرسمي للمؤلف - حفظه الله المقدِّمة الحمدُ للَّهِ الرحمنِ، علَّمَ بالقلَمِ، علَّمَ البيانَ، علَّمَ الإنسانَ ما لم يَعْلَمْ، أنزلَ خيرَ كُتبِهِ عربياً، على النبيِّ الأميِّ العربيِّ خيرِ أنبيائِه، صلَّى اللَّهُ عليه وعلى آلهِ وصَحْبِه إلى يومِ الدِّينِ. أما بعد، فإنَّ علمَ التفسيرِ منْ أشرفِ العلومِ؛ لأنَّهُ يتعلَّقُ ببيانِ كلامِ ربِّ السمواتِ والأرضِ، الذي هو أشرفُ كلامٍ، وأعلاهُ وأجلُّهُ، وقد أردتُّ أن أنخرِطَ في سِلْكِ منْ ألَّفَ في هذا العلمِ، وأحُوزَ شرفَ بيانِ كلامِ الربِّ، وأسألُ اللَّهَ سبحانَهُ أنْ يكونَ هذا العملُ خالصاً لوجهِه الكريمِ، وأن يكونَ من الخيرِ المقدَّمِ بين يديَّ يومَ ألقاهُ، وأنْ يكونَ شافعاً لي يومَ العرضِ الأكبرِ. وسيكونُ مجالُ هذا التأليفِ في الجزءِ الأخيرِ منْ أجزاءِ القرآنِ؛ لكثرة تَرْدَادِه بين المسلمينَ في الصلواتِ وغيرِها. ولم أُدخلْ فيه العلومَ التي يتطرقُ إليها المفسِّرون، ويتوسَّعونَ بذِكْرِها، كعلمِ النَّحوِ، وعلمِ البلاغةِ، وعلمِ الفقهِ، وغيرِها. كما لم أُدخلْ فيه الفوائدَ والاستنباطاتِ التي هي خارجةٌ عن حدِّ التفسيرِ، وبها تتمايزُ كتب التفسير في المنهج، وتطول أو تقصرُ بسببِها. وسلكتُ في بيانِ هذا الجزءِ وتفسيره طريقَ المتنِ والحاشية. أمَّا المتنُ، فجعلتُهُ في صُلْبِ التفسيرِ، وجعلتُه ـ قدرَ المستطاعِ ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 واضحَ المعنى، سهلَ العبارةِ، مع الحرصِ على بيانِ مفرداتِ القرآنِ اللُّغويةِ في ثناياه. وأمَّا الحاشيةُ، فجعلتُها للاختلافِ الواردِ في التفسيرِ عن السلفِ، ولتوجيهِ أقوالِهِم، وبيانِ سببِ الاختلافِ، وذكرِ الراجحِ منَ الأقوالِ، كلُّ ذلكَ قدرَ الإمكانِ، واللَّهُ المستعانُ. ولا تخلو الحاشيةُ منْ بعضِ الفوائدِ الأخرى، لكنَّها لمَّا لم تكنْ هي المقصد في هذا التأليفِ، فإنها جاءتْ قليلةً، وليسَ لها نظامٌ، وإنَّما هي ممَّا يطرأُ خلالَ البحثِ، أو يجرُّ إليه. وقدْ اعتمدتُ في الواردِ عنْ السلفِ في التفسيرِ، على تفسيرِ الإمامِ ابنِ جريرِ الطبري (ت:310)، وإنْ نقلتُ عنْ غيرِهِ أفصحتُ عنْ ذلك، وإن كان موطِن التفسيرِ في الآية من السورةِ المفسَّرةِ، لم أذكرِ الجزءَ ولا الصفحةَ؛ لسهولةِ الرجوعِ إليها، وإن كان في غيرِ موطنِ الآيةِ ذكرتهما. كما حرصتُ على نقلِ ترجيحاتِه وتعليقاتِه على أقوالِ المفسرينَ، لما فيها منْ الفوائدِ في قواعدِ الترجيحِ وضوابطِها، وبيانِ المفرداتِ اللغوية وشواهدِها، وغيرِ ذلك ممَّا لا يَخفى على منْ قرأ ترجيحاتِه وتعليقاتِه التفسيريةَ. ورجعتُ إلى بعض التفاسير، ولم أُكثر، لعدم حاجةِ المنهجِ الذي سلَكتُه في هذا التفسير، فرجعتُ إلى دقائقِ التفسيرِ الجامعِ لتفسير الإمام ابن تيمية (ت:728)، وتفسير ابن القيِّم (ت:751) في كتابه التبيان في أقسام القرآن، وغيرها من كُتبه، وتفسير القرآن العظيم لابن كثير (ت:774)، والتحريرِ والتنويرِ للطاهر بن عاشور (ت:1393). وقبلَ أنْ أشرعَ في التفسيرِ، سأذكرُ بعضَ ما سيمُرُّ في هذا البحثِ منَ المسائلِ المتعلِّقةِ بالتفسيرِ وأصولِهِ، واللَّهُ المستعانُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 المسألة الأولى: مفهوم التفسير : التفسيرُ في اللغةِ: الإيضاحُ والكشفُ والبيانُ، ومنه: فَسَرَ عنْ ذراعِهِ: إذا كشفَها. أمَّا في الاصطلاحِ، فله عِدَّةُ تعاريفَ عند العلماءِ، وكثيرٌ منها يَدْخُلُ فيه بعضُ علومِ القرآنِ على سبيلِ الوصفِ لهذا العلمِ، لا بيانِ الحدِّ المطابقِ الذي قدْ يتعذَّرُ في تعريفِ بعضِ العلومِ، فيكونُ التعريفُ بالوصفِ أوضحَ لها. وبعيداً عن هذه التعاريفِ والنَّظَرِ في اختلافِها، أذهبُ بك إلى محاولةٍ لوضعِ ضابطٍ لما يخصُّ هذا العلمَ من المعلوماتِ التي تجدها في كتبِ التفسيرِ، ويكونُ ما وراءَ هذا الضابطِ من متمِّماتِ التفسيرِ وعلومِهِ، لا منْ صُلْبِهِ وأصلِهِ. إذا انطلقتَ من التعريف اللغوي الذي هو البيان، وعرَّفت التفسير بأنه: بيانُ القرآن الكريم وإيضاحُ معانيه، فإنَّ الضابطَ فيما يدخلُ في صُلب التفسير هو البيان؛ أي: ما كان فيه بيانٌ عن المعنى المراد بالآية، فهو من صُلب التفسير، وما كان خارجاً عن حدِّ البيان، بحيث يُفهم المعنى من دونه، فهو من متمِّمات التفسير وعلومِه، لا من صُلْبِه وأصْلِه، إذ المقصودُ من التفسير فَهْمُ معاني القرآن، فإذا حصل هذا الفهمُ وصحَّ، صحَّت الفوائد المستنبطَة عليه غالباً، وإذا كان الفَهمُ غير صحيحٍ، كانت الفوائد المستنبَطة والمترتِّبة عليه غير صحيحة. وهذه العلومُ التي تَرِدُ في كُتب التفسير، وهي خارجةٌ عن حدِّ البَيان، لا يعني أنها غير مفيدة، بل الفائدةُ موجودةٌ فيها قطعاً، وإنما النظرُ هنا إلى كونِها ينطبقُ عليها مصطلحُ البيانِ، أو لا ينطبقُ. فمنَ الأمثلةِ التي ينطبقُ عليها ضابطُ البيان، تفسيرُ قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} [النبأ: 14]، فإنك لا يمكن أن تفهمَ المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 على تمامِه إذا لم تَعْلَمْ معنى {الْمُعْصِرَاتِ}، ومعنى {ثَجَّاجًا}، فإذا عَلِمْتَ أنَّ {الْمُعْصِرَاتِ} هي السَّحاب، وأنَّ {مَاءً ثَجَّاجًا} هو الماءُ المُنْصَبُّ بكثرةٍ وغزارةٍ، اتَّضَحَ لك المعنى العام للآية، وصارَ بيانها: وأنزلنا من السَّحاب ماءً مُنْصَبًّا بكثرةٍ وغزارة، وهو ماءُ المطر. ومن الأمثلةِ التي لا ينطبق عليها ضابطُ البيان، تفسير قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، قال الطاهر بن عاشور: «وتقديمُ خبرِ (كان) على اسمها؛ للرعاية على الفاصلة، وللاهتمام بذكرِ الكفؤ عَقِبَ الفعل المنفي؛ ليكونَ أسبقَ إلى السمع» (1). ذكرَ الطاهر بن عاشور فائدتين من تقديم خبر كان، وهاتان الفائدتانِ من علوم التفسير، لا من صُلبه؛ لأنك لو لم تَعْلَمْهُما، فإنه لا يخفى عليك المعنى المراد بالآية، وهو التفسير، وإن كان في ذِكرهما فائدة. وقِسْ على هذا كثيراً من مسائلِ النَّحْوِ، والفقهِ، والبلاغةِ، وغيرها ممَّا يَتَفَنَّنُ بذِكره من ألَّف في التفسير، فإنه إنَّما زادت المؤلَّفات وتنوَّعت بسبب الاهتمام بعلوم التفسير، لا بصُلبه، ولو اعتنى المفسِّرون بصلبه فقط، لتقاربت مناهجهم، وإنما تمايزت بسبب إدخالهم هذه العلوم التي قد تُبْعِدُ طالبَ التفسير عنه، بل قد تُزهِّده بصُلبه، وهو لا يدري أنه هو المراد الأول، والمَطْلَبُ الأمثل لدارسِ التفسير، وأنَّ هذه الفوائد إنما تُبنى على صِحَّةِ التفسير، فإذا كان الفهمُ خطأً، كانت الفوائدُ المترتبةُ عليه أخطاءً كذلك، فلا تَغْفَلْ عن هذا المعنى، وتأمَّلْهُ، وقَلِّبْهُ في فِكرك لتتبيَّن صِحَّته من خطئِه، والله الموفِّق والهادي إلى سواء السبيل. المسألة الثانية: أنواع الاختلاف وأسبابه : التفسير: إمَّا أن يكون مُجْمَعاً عليه، وإمَّا أن يكون مختلَفاً فيه. وإمَّا   (1) التحرير والتنوير: 30: 620. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أن يكون متعلِّقاً بتفسير الألفاظ، وإمَّا أن يكون متعلقاً بالمعاني. والاختلافُ الوارد في التفسير: إمَّا أن يرجِع إلى معنى، وإما أن يرجِع إلى أكثر من معنى، وهذا ما سأذكرُ تفصيلَهُ. أولاً: الاختلاف الذي يرجِع إلى معنًى واحدٍ: يَرِدُ في هذا القسم ثلاثةُ أنواعٍ من الاختلاف، وهي: النوع الأول: أن يُذكرَ من الاسم العامِّ أمثلةٌ له، فتكونُ كلُّها عائدةً إلى معنًى واحدٍ، وهو المعنى العام، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} [الإنفطار: 5]، وقوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3]، وقوله تعالى: {النَّجْمُ الثَّاقِبُ} [الطارق: 3]، وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 3]، وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} [الشرح: 7]، وغيرها. النوع الثاني: أن يفسَّرَ اللفظُ بألفاظٍ متقاربة، وكلها تعودُ إلى معنًى واحد، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} [الانشقاق: 17]، وقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} [الانشقاق: 18]، وغيرها. النوع الثالث: أن يحتملَ المفسَّرُ أكثرَ من وصف، فيذكُرُ كل مفسِّرٍ وصفاً من هذه الأوصاف، كلّها تعودُ إلى معنًى واحد، مثل تفسير قوله تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} [النبأ: 2]، وتفسير قوله تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34]، وقوله تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ} [التين: 1] وغيرها. وهذه الأنواعُ كلها تدخلُ في اختلاف التنوُّعِ؛ لأنَّ الآيةَ يمكنُ أن تُحْمَلَ على جميع المعاني الصحيحةِ الواردةِ فيها بلا تعارُضٍ ولا تناقُض. وإن قُدِّم أحدها في الترجيح، فعلى سبيل اختيارِ القولِ الأوْلى، دونَ اطِّراحِ غيرِها من الأقوال، والله أعلم. ثانياً: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى أكثرَ من معنى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 وهذا الاختلافُ نوعان، وذلك بحسب احتمالِ الآية له. النوع الأول: أن تحتملَ الآية الأقوالَ الواردةَ فيها، ويدخلُ بذلك في اختلاف التنوُّع، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19]، وقوله تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ} [عبس: 20]، وغيرها. ويكثرُ في هذا النوع ما يَرِدُ من أوصافٍ تحتملُ أكثرَ من موصوف، فيحملُها المفسِّر على أحدِ هذه الموصوفات، ويحملُها غيره على موصوفٍ آخَر، ومن أمثلته: تفسير قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ} [النبأ: 38]، وقوله تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ} [النازعات: 1]، وما بعدها من الأوصاف، وقوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} [التكوير: 15]، وغيرها. النوع الثاني: أن لا تحتملَ الآيةُ الأقوالَ الواردةَ فيها، وذلك بسببِ التضادِّ، وهو أنك إذا حملتَ الآيةَ على قولٍ انتفى الآخَر؛ كاختلافهم في تفسير (القُرْءِ) من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228]، وهذا النوع قليلٌ في التفسير الواردِ عند السلف. ويلاحَظُ أنَّ بعضَ التضادِّ يمكن أن تحتملَهُ الآية لسبب خاصٍّ بها، ومن ذلك تفسير قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ} [التكوير: 17]، حيث فُسِّرَ بـ «أقْبَلَ»، و «أدْبَرَ»، وهما معنيان متضادَّان، لكن لمَّا كان محلُّ الإقبالِ ـ وهو أولُ الليل ـ والإدبار ـ وهو آخر الليل ـ مختلفاً، جاز حملُ الآية على المعنيين معاً؛ ليكونَ الإقسام بأول الليلِ وآخِرِه. ومنه تفسير قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6]، فقد وردَ في تفسيرها: امتلأت، ويَبِسَتْ، وهما من معاني التَسْجيرِ في اللغة، ولكنَّهما ضِدَّان، فإذا حملتَهُما على اختلافِ الزمنِ الحاصلِ فيه هذا الفعلُ، وجعلتَ الفعلَ دالًّا على هذين الحالين، صحَّ حملُ الآيةِ عليهما معاً، لهذا السبب، والله أعلم. أما أسبابُ الاختلافِ في التفسير فكثيرة، ويلاحَظُ أنَّ أنواعَ الاختلافِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 السابقةِ في حقيقتِها أسباب اختلاف، كما يلاحظُ أن أسبابَ الاختلافِ كأنواعِه، منها ما هو اختلافٌ مُحَقَّق، ومنها ما الاختلافُ فيه أشبه بالصُّوَري؛ لائْتلاف الأقوالِ في النهاية على قولٍ واحدٍ، ولذا سأذكرُ بعضها في الأسباب، ومنها: 1 - الاشتراكُ اللغوي، وهو أن يكونَ للَّفْظِ أكثر من معنى في لغةِ العرب، ومنه تفسير قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} [النبأ: 14]، وقوله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا} [النبأ: 24]، وقوله تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ} [المطففين: 25]، وغيرها. 2 - التواطُؤ، وهو أن يَشترِكَ الأفرادُ في المسمَّى اشتراكاً متساوياً، فنسبةُ أحدِهم إلى المسمَّى كنسبةِ الآخَر، ويشملُ التواطؤ الأوصاف التي تحتملُ أكثرَ من وصفٍ؛ كالنَّازعات، والخُنَّس، والغاشية، والفجر، والعادِيات، وغيرها. كما يشمل الضمير الذي يحتملُ رجوعَهُ إلى أكثرِ من مرجع؛ كما في تفسير قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ} [الانشقاق: 6]، فقيل: ملاقٍ ربَّك، وقيل: ملاقٍ عمَلك، وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ} [العاديات: 7]، قيل: إن الإنسان ... ، وقيل: إن ربَّه ... ، وغيرها من الأمثلة. 3 - التفسيرُ بالمِثال، والاختلافُ فيه يعودُ إلى قولٍ واحدٍ، وإنما وردَ الاختلافُ بينهم بسببِ أنهم عمدوا إلى ذكرِ أمثلةٍ للمعنى العام؛ كتفسيرهم قولَ اللَّهِ تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11]، وقوله تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} [التكاثر: 8]، والله أعلم. 4 - أن يكونَ تفسيرُ المفسِّرِ على اللفظ، ويكونَ تفسيرُ غيره على المعنى أو القياس، وهذه هي الأصول التي يعود إليها التفسير: أما التفسيرُ على اللَّفظ، فهو تفسيرُ اللَّفظ بما وردَ في لغةِ العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وأما التفسيرُ على المعنى، فهو ما كان خارجاً عن المعنى المطابقِ للَّفظِ في لغة العرب، مبيِّناً للمعنى المرادِ من اللَّفظ في الآية، ولم يكن من باب القياس؛ كتفسير قتادة لقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} [البلد: 14]، قال: يوم يُشتهى الطعام، والمَسْغَبة: المجاعة، فعبَّر عنها بهذا التعبير، وهو أعمُّ من يوم المجاعة؛ لأن الطعامَ يُشتهى في كلِّ وقتٍ، لكنه في يوم المجاعةِ أكثر. وكذا تفسيره لقوله تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا} [الشمس: 3]، قال: إذا غَشِيَها، والتَّجْلِية: الإظهارُ والإيضاح، فإذا جلاَّها النهار، فقد غَشِيَها، فيكون تعبيراً عن لازمِ اللفظ، لا عن معناه في اللغة، والله أعلم. وأما التفسيرُ على القِياس، فهو حملُ الآيةِ على ما يشابهها في المعنى، أو تدلُّ عليه بدلالةِ الإشارة؛ كتفسيرِ سورة النصر بأنها قُرْبُ أجلِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، قال ابن عبَّاسٍ: «كان عمرُ يُدْخِلُني مع أشياخِ بدرٍ، فكأنَّ بعضَهم وَجَدَ في نفسه، فقال: لم تُدْخِل هذا معنا ولنا أبناءٌ مثلُه؟ فقال عمر: إنه من حيث عَلِمْتُم، فدعا ذاتَ يوم، فأدخلني معهم، فما رُئيت أنه دعاني يومئذ إلا ليُرِيَهُم. قال: ما تقولونَ في قول الله تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} [النصر: 1]؟ فقال بعضُهم: أمَرَنا نحمدُ اللَّهَ ونستغفرَه إذا نَصَرنا وفتحَ علينا، وسكتَ بعضهم فلم يقُل شيئاً. فقال لي: أكذاكَ يا ابن عباس؟ فقلت: لا، قال: فما تقول؟ قلت: هو أجلُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم أعلَمَهُ له، قال: إذا جاءَ نصرُ اللَّهِ والفتحِ، وذلك علامةُ أجَلِكَ، فسبِّح بحمدِ ربِّك واستغفِره إنه كان توَّاباً. فقال عمر: ما أعلمُ منها إلا ما تقول». وأسبابُ الاختلافِ غير هذه كثيرة، وإنما أشرتُ هنا إلى بعضِها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 المسألة الثالثة: طبقاتُ السَّلف في التفسير: فسَّرَ السَّلفُ القرآنَ باجتهادهم، وكان ممَّن خاضَ فيه: الصحابةُ والتابعونَ وأتباعُ التابعين. وهؤلاء همُ الذين نَقَلَتْ أقوالَهم الكتبُ التي تحرِصُ على التفسير المأثور عنهم. وَقَلَّ أن تجدَ بعدَ هذه الطبقات من اشتهرَ برأيه في التفسير، بل صارَ الحالُ على نقلِ أقوالهم، ولا يُعرفُ من كان له اجتهادٌ بارزٌ فيمن تأخَّر عنهم كاجتهاد ابن جرير الطبري (ت:310)، فقد كان يتخيَّرُ من أقوالهم، وينقدُ بعضَها بأسلوبٍ عِلْمِيٍّ متين، ويسيرُ في ذلك على قواعدَ واضحةٍ، حتى بَرَزَتْ فيه شخصيَّةُ المفسِّرِ المرجِّح، أو المفسِّر الناقد. وقد برزَ في جيل الصحابة حَبْرُ الأمةِ وتُرْجُمانُ القرآن: عبد الله بن العباس بن عبد المطلب (ت:65)، وكان بحقٍّ رائدَ التفسير، وأستاذَهُ الذي لا يجاريه فيه أحد. وبرزَ بعدَه تلاميذه؛ كسعيد بن جُبير (ت:94)، ومجاهد بن جَبْر (ت:104)، وعِكْرِمة (ت:105)، وعطاء بن أبي رَباح (ت:114)، وغيرهم. وبرزَ فيه من أهل البصرة: أبو العالية رفيع بن مِهْران الرِّياحي (ت:93) الذي أخذَ عن أهل المدينة وعن ابن عباس، فكانت مشاربه العلمية مختلفة، والحسن البصري (ت:110)، وتلميذه قتادة بن دِعامة السَّدوسي (ت:117). وبرز في المدينة: محمد بن كعب القرظي (ت:118)، وزيد بن أسلم (ت:136). وبرزَ في الكوفة: أبو صالح باذام، مولى أمِّ هانئ، وإبراهيم النخَعي (ت:96)، وعامر الشعبي (ت:103)، وأبي مالك غزوان الغِفاري. وفي جيل أتباع التابعين، برز في مكة: عبد الملك بن جُرْيَجٍ (ت:150)، وسُفيان الثوري (ت:161) الذي كان منشأ حياته في الكوفة، ثم سكنَ مكة والمدينة، وسفيان بن عُيينة (ت:195) الكوفي الذي استوطن مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 وبرزَ في المدينة: عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (ت:182). وبرزَ في الكوفة: إسماعيل بن عبد الرحمن السُّدِّي (ت:128)، ومحمد بن السائب الكلبي (ت:146). وبرزَ في بغداد: مُقاتل بن سليمان البَلْخي (ت:150). وبرزَ في خُراسان: الربيع بن أنسٍ البكري، البصري ثم الخُراساني (ت:139)، والضحَّاك بن مُزاحم البلخي (ت:105)، ومُقاتل بن حيَّان البلخي (ت:150). وفي الشام: عطاء بن أبي مُسلم بن مَيْسَرة الخراساني (ت:135). والموضوعُ في المفسِّرين وتراجمِهم يطول، وهذه الإشارةُ لا تُغني، وإنما ذكرتُهم لتَعْرِفَ طبقاتهم ووفاتهم إذا مرَّ بكَ تفسيرٌ من تفاسيرهم، وليس هؤلاء كل المفسرين في هذه الطبقات، وإنما هم أمثلةٌ تيسَّرت لي أثناء هذه الكتابة، فقيَّدتُهم. وأسألُ اللَّهَ تعالى أن يوفِّقني للكتابة في هذا الموضوع، إنه مجيبُ الدُّعاء. المسألة الرابعة: تفسير السلف للمُفردات: طبقاتُ السلفِ في التفسير ثلاث، وهي: طبقةُ الصحابةِ، وطبقةُ التابعينَ، وطبقة أتباعِ التابعين. وهذه الطبقاتُ هي التي نُقِلَ عنها التفسير، وغالِبُ من كَتَبَ بعدَهم ينقُلُ أقوالَهم، حتى جاء ابن جريرٍ فظهرَ في منهجه التفسيري المفسرُ الناقدُ، أو المرجِّح، فأخذَ هذه الأقوالَ ووازَنَ بينها، وبيَّن الراجحَ منها على غيرِه بقواعدَ كان ينتهِجُها ويسيرُ عليها. والمقصودُ أنَّ السلفَ في طبقاتهم الثلاث تكلَّموا في التفسير أو نقلُوه ممَّن تقدَّمهم، ويرِدُ عنهم ـ كثيراً ـ تفسيراتٌ لألفاظ القرآن، فما الموقفُ منها من حيثُ اللغة؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 أمَّا الصحابةُ فلا خِلافَ في حُجِّيَّتِهِمْ في اللغة، وأنَّ الوارِدَ عنهم كالوارِدِ عن غيرِهِم من شعراءِ الجاهليةِ وغيرِهم من العرب، ويَلْحَقُ بهمُ التابعونَ الذين عاصَروا زَمَنَ الاحتِجاج، ولا يخرُجُ أحدُهم من الاحتجاج بقوله إلاَّ بعلَّةٍ ظاهِرة. أما أتباعُ التابعين، فقد كانوا في أوَّلِ عصرِ تدوينِ اللغة، ولذا، فإن لم تحتجَّ بما ورد عنهم من تفسيراتٍ لُغوية في ثبوتِ معاني الألفاظ في اللغة، فالأقربُ أن يكونوا من نَقَلَةِ اللغة. وإذا نظرتَ في تدوين معاني مفرداتِ اللغة وجدتَ أنه بدأ في النِّصف الثاني من القرنِ الثاني على يدِ جمعٍ من علماءِ اللغة، وكانت كتاباتهم أشبهَ بالرسائلِ الصغيرة تكونُ في الموضوعِ والموضوعَيْنِ، أو في أشياءٍ شتَّى. وكانت أولُ محاولةٍ لجمعِ ألفاظِ العربِ على يدِ الخليل بن أحمد (ت:175) في كتابه العَيْن، ثم تبِعَه غيره من علماء اللغة؛ كتلميذِه النَّضْرِ بن شُميل (ت:204) الذي ألَّف كتابَ الجيم، وأبي عمرو شمر بن حَمْدَوَيْه (ت:255) الذي ألَّف كتابَ الجيم، وأبي طالب المفضَّل بن سَلَمة (ت:290) الذي ألَّف كتابَهُ البارع في اللغة، وأبي بكر بن دُرَيْد (ت:321) الذي ألَّف كتابه الجَمْهَرة في اللغة، وغيرهم. وهذه المؤلَّفات اللُّغوية وغيرها مما ألَّفه علماءُ اللغة فيها، صارت المرجِعَ لأيِّ دارسٍ يبحثُ عن معاني مفرَدات كلامِ العرب، فهل يعني أن هذه المؤلَّفات اللغوية شملَت كلَّ معاني مفرَدات ألفاظِ العرب؟ قال أبو عُبيدٍ القاسم بن سلام (ت:224): « ... الجدف: لم أسمعه إلا في هذا الحديث، وما جاء إلاَّ وله أصلٌ، ولكن ذهبَ من كان يعرِفُه ويتكلَّمُ به، كما ذهب من كلامِهم شيءٌ كثير» (1). وقال الأَزْهري (ت:370): «ورُوي عن إبراهيم أنَّ المسيحَ: الصدِّيق.   (1) تهذيب اللغة: 10: 671. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 قال أبو بكر (1): واللغويونَ لا يعرفونَ هذا، قال: ولعلَّ هذا قد كان مستعمَلاً في بعض الأزمانِ فدَرَسَ فيما دَرَسَ من الكلام. قال: وقال الكسائي: قد دَرَسَ من كلام العرب شيءٌ كثير» (2). وقد وردَ هذا المعنى عن غيرِ واحدٍ من اللُّغويينَ، فإذا كان ذلِكَ كذلِكَ، فاعلَمْ أنه قد وردَ عن السلفِ تفسيرٌ لبعض المفرَدات قد لا تجِدها في معاجم اللغة، فما الموقفُ منها؟ لأذكر لك مِثالاً يجري عليه التطبيق، وهو تفسيرُ قولِه تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ} [التكوير: 5]، فقد وردَ عن أُبي بن كعب تفسير حُشرت: اختلطت، وإذا رجعتَ إلى المعاجم (3) لا تجِد هذا المعنى، بل تجِد أنَّ الحشر: جمعٌ مع سَوْق، كما تجد حكايةَ تفسيرِ ابن عباس لهذه الآية، وهو أن الحشر: الموت، فما الموقفُ من تفسيرِ أُبيِّ بن كعب؟ الموقفُ الأول: أن تجعلَ هذا المعنى الذي ذكرهُ الصحابي أُبيُّ بن كعب معنًى لغوياً لهذه اللفظة، فيكون أحد معانيها التي لم يطَّلع عليها اللغويون، وكادت أن تَنْدَرِسَ مع ما انْدَرَسَ من كلام العرب، فلم ينقلوها، ويكون معنى الحشرِ في لغة العرب: الجمع، والموت، والخلط. الموقفُ الثاني: أن تَرُدَّ هذا المعنى ولا تقبَلَهُ، وتقول: إنه غير معروفٍ من كلام العرب؛ لأنك لمَّا بحثتَ في كُتب اللغة لم تجد هذا المعنى، ولا وجدتَ شاهداً يدلُّ عليه من لُغتِها. وإذا ذهبتَ هذا المذهب، فلاحِظْ أنَّكَ وقعتَ في عدمِ الاعتدادِ بقولِ الصحابي العربي الذي هو أدرَى بلُغتِه وبتفسيرِ كلامِ ربِّه منك، وأَنكَ حملتَهُ على ما نقلَهُ من جاءَ بعدَهُ ممن جَهِلَ هذا المعنى فلم ينقله، ولم تجعلْ   (1) هو ابن الأنباري. (2) تهذيب اللغة: 4: 347. (3) انظر مثلاً: مقاييس اللغة، ولسان العرب، وتاج العروس، مادة (حشر). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 تفسيرَ الصحابي أصلاً تعتمده، وتجعله هو بذاته شاهداً عربياً كغيره من شواهدِ العربية عند اللغويين. وأنتَ بهذا الفعلِ كأنَّكَ ممن يحمِلُ المتقدِّمين على مصطلحاتِ من جاء بعدَهم فتُلزمهم بها، وهذا العمل معروفٌ بطلانه وما فيه من الخطأ؛ أعني: كأنَّكَ تريده على ما علِمَه من جاء بعدَه دونَ ما علِمَه هو، وليس هذا المعنى الذي عرفتَه ـ وهو الجمع ـ مما قد خَفِيَ عليه، بل هو مشهورٌ معروفٌ في كلامه. الموقفُ الثالث: أن تتوسَّطَ بين الموقِفَيْنِ السابقين، فتجتهدَ في توجيه المعنى الذي ذكرَهُ إلى المعنى المشهور، فتقول: إن أُبيَّ بن كعب فسَّرَ حُشِرَت باخْتَلَطَتْ من باب التفسير بلازمِ اللفظ، لا بمطابِقِه، ذلك أن كلَّ جمعٍ بين أشياءٍ يلزَمُ منه الاختلاط، فيكون عبَّر عن المعنى اللازِم دون البيانِ عن معنى الكلمة المباشِرِ في لغة العرب. وتكون بهذا قَبِلْتَ قولَهُ، وجعلتَهُ مُنْدَرِجاً تحتَ المعنى المشهورِ من اللفظ، والله أعلم. وهذا الموقفُ الأخيرُ لا يتأتَّى في كلِّ مثالٍ واردٍ عن السلفِ في معاني المفرَدات التي لا تجِدها في كتب اللغة، فكن على علم بذلك. ومما أختمُ به هذه المسألة: أن تُفَرِّقَ بين ترجيحِ قولٍ من أقوالهم، وبين الاعتراضِ عليه لغة، والأمرُ في هذا أنك لو رَجَّحْتَ معنى الجمعِ في تفسير الحشر، فإنَّ هذا لا يعني أنك تردُّ الدلالاتِ اللغوية الأخرى الواردةِ عن السلف، أما إذا أنكرتَ أن يكونَ الخَلْطُ من معاني الحشرِ في اللغة، فقد وقعتَ في ردِّ ما وردَ عنهم، فتأمَّل الفرقَ بين الأمرين، والله الموفِّق. وأخيراً، هذا جُهدي، فما كان فيه من خطأ وزَلَلٍ فمنِّي وحدي، وما كان فيه من صوابٍ فبفضلِ الله ومِنَّتِه. وفي ختامِ هذه المقدِّمة أسألُ اللَّهَ القبولَ، والثباتَ على دينه حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الممات، وأسألُه أن يُيسِّرَ لي خِدْمةَ كتابِه، إنه على كلِّ شيءٍ قدير، والحمدُ لله رب العالمين. كتبه: مساعد بن سليمان الطيار المملكة العربية السعودية/الرياض. ص. ب: 43058/الرياض: 11561 ناسوخ (فاكس): 4923616 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 سُورةُ النَّبأ آياتها:40 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 سورة النبأ بسم الله الرحمن الرحيم عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ سُورةُ النَّبأ 1 - قولُه تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ}؛ أي: عن أيِّ شيءٍ يسألُ كفَّارُ مكَّةَ بعضُهم بعضاً. 2 - قولُه تعالى: {عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ}؛ أي: يتساءلونَ عن الخبرِ العظيمِ الذي استَطارَ أمرُهُ بينهم، وهو القرآن، ويُحتملُ أن يكونَ البعث (1). 3 - قولُه تعالى: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ}؛ أي: صاروا فيه فِرَقاً في حقيقةِ هذا النبأ وصِحَّته (2). 4 - 5 - قولُه تعالى: {كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ}؛ أي: ليس الأمرُ (3) كما يزعمُ هؤلاء المختلفونَ في النبأ، وسيعلمونَ عاقبةَ اختلافِهم   (1) يشهد لمن قال: القرآن، وهو مجاهد، أنَّ الاختلاف وقع فيه بين كفارِ مكة، فوصفوه بأنه شِعر، وكِهانة، وكَذِب، وغيرها، وهو أعمُّ من القول الثاني؛ لأنَّ البعثَ جزء من أخبار القرآن الذي وقع فيه الاختلاف. أمَّا من قال: هو البعث، وهو قولُ قتادة وابن زيد، فلم يرد عنهم وقوع الاختلاف فيه، بل هم مُنكرون له، ولكن يشهد له موضوع السورة، إذ موضوعها في البعث، والله أعلم. (2) يلاحَظُ أنَّ اللَّهَ سبحانه لم ينصَّ على النبأ بعينه، وإنما اكتفى بذكر وصفه: بأنهم اختلفوا فيه، وهذا سببٌ في وقوع الخلاف، ولك أن تقول: إن سببَ الاختلاف التواطؤ، أو ذكر وصفٍ لموصوفٍ محذوف، وهذا من اختلاف التنوُّع الذي يرجِع إلى قولينِ، والله أعلم. (3) كذا فسَّر الطبري لفظَ «كلاَّ»، وهو من أفضل التعبيرات عن معناها، وهي هنا بمعنى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فيه (1)، وهذا وعيدٌ للمختلِفين في النبأ، وكرَّر الوعيدَ لتأكيدِه. 6 - عدَّدَ اللَّهُ في هذه الآياتِ نِعَمَهُ الكونيةَ على النَّاسِ، التي لو تَفَكَّرَ فيها هؤلاءِ الكفَّار، لما وقعَ منهم اختلافٌ في النَّبأ العظيمِ الذي جاءَهم من عندِ الله، فقال تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ مِهَادًا}، وهو استفهامٌ على سبيل التقرير، معناه: أنَّ اللَّهَ جعلَ هذه الأرضَ البسيطةَ مهيَّئةً للناسِ كالمِهَادِ الذي يَمْتَهِدُونَه ويفْتَرِشونَه. 7 - قولُه تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا}؛ أي: وجعلنا الجبالَ الرَّاسِياتِ كالوتِد الذي تُشدُّ به أطنابُ الخيْمة، فتُمْسِكُ الأرضَ كي لا تَميدَ بأهلها كما تُمسِكُ الأوتادُ الخيمةَ فلا تسقط. 8 - قولُه تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا}؛ أي: أنشأناكُم وقدَّرناكُم وجعلناكُم أيها الناس من ذكرٍ وأنثى. 9 - قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}؛ أي: جعلنا نومَكم راحةً ودَعَةً لكم، تهدأون به وتسكُنون (2). 10 - قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا}؛ أي: جعلناه يغْشَاكم بظلامِه،   = الردّ، ويعبِّر عنه بعض العلماء بالرَّدْعِ والزَّجْرِ، وهي تكون كذلك إذا وقع قبلَها باطل أو خطأ من كلامٍ أو فعل، والله أعلم. (1) عبَّر بعض المفسِّرين عن ذلك أنهم سيعلمون حقيقة النبأ، وذلك القول أعمُّ، لأنهم إذا علِموا عاقبتهم فيه، فإنهم سيكونون قد علِموا حقيقته لزوماً، والله أعلم. (2) يذكرُ بعض المتأخرين ممن يحرِص على تكثير الاحتمالات اللغوية في معاني الآي أقوالاً خمسةً في معنى السُّبات، وهو تكثُّر لا داعي له؛ لأن أشهر المعاني في مادة سبت: الراحة، قال ابن فارس في مقاييس اللغة (3: 124): السين والباء والتاء أصل واحد يدل على راحة وسكون. أما تفسيره: بالموت، أو النوم، أو التمدد، أو القطع، فإنها وإن كانت صحيحة لغة، فإنها مما تَنْبُو عنها فصاحة القرآن في هذا الموضع، كما أن سياق الآية الوارد في مجال الامتنان يردُّها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 فيكون لكم كاللباس الذي يَسْتُرُكم (1)، فتستريحونَ فيه بعد عَناء التَّقَلُّبِ في النهار. 11 - قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا}؛ أي: جعلنا لكم النهارَ المبصرَ وقتاً للتعيُّشِ؛ أي: طلبُ المعاشِ الذي تقومُ به حياتكم. 12 - قولُه تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا}، أي: رفعنا فوقكُم بناءً: سبعَ سماواتٍ مُحْكَمَةٍ قويةِ البُنيانِ، ليس فيها فُطورٌ ولا خَللٌ في الخَلْقِ. 13 - قولُه تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا}؛ أي: جعلنا في السماء الشمسَ كالسِّراجِ المتَّقِدِ المضيء. 14 - قولُه تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا}؛ أي: أنزلنا من السَّحاب (2) مطراً غزيراً.   (1) قال قتادة: لباساً: سَكَناً، وهذا تفسيرٌ بالمعنى، وكأنه اعتبر قوله تعالى: {وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام: 96]، وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} [يونس: 67]، وهو يؤول إلى معنى اللباس بالنظر إلى التغطية والستر فيهما، والله أعلم. (2) وردَ هذا عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن أبي العالية، والضحَّاك، والربيع بن أنس، وسفيان. وفسَّرها مجاهد وعكرمة وقتادة ومقاتل وابن زيد بأنها الرياح، وعليه فقوله: «من» يكون بمعنى الباء؛ أي: أنزلنا بالرياح، والصواب أنها السحاب، وعليه تبقى «من» على بابها، وهو أولى؛ لأنه إذا تعارض ظاهر الآية مع احتمال التأويل، قُدِّم الظاهر. ويبقى أنه يستفاد من تفسير هؤلاء صحة إطلاق المُعْصِرات على الرياح من حيث اللغة، لورودِه عنهم، وإن لم تحتمله الآية. وقد ورد عن الحسن وقتادة تفسير غريب، وهو أن المعصِرات: السماء، وهذا إن حُمل على التفسير على المعنى، كان له وجه، ويكون تفسيرهما على إرادة الجهة التي تأتي منها المعصِرات، لا أنه تفسير مطابق لمعنى المعصِرات؛ كما جاء في قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا} [الفرقان: 48]، والله أعلم. ويكون الاختلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى. وسبب الاختلاف = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 15 - قولُه تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا}؛ أي: أنزلنا المطرَ من السَّحاب لأجلِ أن نُخرجَ الحَبَّ، وهو شاملٌ لجميع الحبوب؛ كالقمحِ والشعير والأرز، وغيرِها، ونخرجَ النباتَ، وهو ما عدا الحبوب مما ينبتُ في الأرض؛ كالنخيل والرُّمَّان والأعناب، وغيرها. 16 - قولُه تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} (1)؛ أي: ونخرجُ بالمطرِ البساتينَ (2) التي التفَّت أغصانُ أشجارِها بعضُها على بعض (3). 17 - قولُه تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا}؛ أي: إنَّ يومَ القيامة كان موعداً مؤقتاً للجَمْع بين هذه الخلائق، ليفصِلَ اللَّهُ فيه بينها (4). 18 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَاتُونَ أَفْوَاجًا}؛ أي: يوم الفصل هو يوم ينفخُ إسرافيلُ عليه السلام النفخةَ الثانيةَ في البوق، فتجيئونَ أيها الناس زُمَراً زُمَراً، وجماعاتٍ جماعاتٍ (5).   = هنا أن المعصِرات وصف لموصوف محذوف، وهو محتمِل لأحد المعنيين المذكورين، ويترجح أحدهما بدلالة ظاهر الآية. (1) في هذه الآيات (6 - 16) أدلة على البعث، انظر في تفصيلها: تتمة أضواء البيان، لمحمد عطية سالم. (2) سُمِّيت البساتين جنَّات، لأنها تَجِنُّ من بداخلها؛ أي: تستره، وهذا هو أصل معنى هذه المادة في لغة العرب. (3) عبَّر بهذا ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد، وقتادة من طريق سعيد بن أبي عروبة ومعمر بن راشد، وابن زيد، وسفيان. وجاء عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: مجتمعة، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من لازِمِ التفافها أن تكون مجتمعة. (4) أكَّد الخبر بـ «إن» لأنه مما كان يخالف فيه المشركون، وقد وقعت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا *لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} [النبأ: 14 - 16]، للمشابهة التي بين خروج النبات وخروج الناس من قبورهم يوم البعث. (5) جاء الفعل «ينفخ» مبنياً للمفعول اهتماماً بالحدث، وهو النفخ في الصُّور، وطُوي ذكر قيامهم من قبورهم، وسَيْرهم إلى أرض المحشر تنبيهاً على سرعة هذا الحدث، وأن الفاصل بين البعث والإتيان يسيرٌ جداً، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 19 - قولُه تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا}؛ أي: صارَ في السماء فُرُوجٌ على هيئة الأبواب، حتى أنَّ الناظرَ إليها يراها أبواباً مفتَّحة (1). 20 - قولُه تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}؛ أي: يجعل اللَّهُ هذه الجبالَ الأوتاد للأرض تسير، حتى تصلَ إلى مرحلةِ الهباءِ الذي يتطاير، فيحسَبُهُ الرائي جبلاً، وإذا هو كالسَّراب الذي يراه الرائي على أنه ماء، وهو ليس كذلك (2). 21 - قولُه تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا}؛ أي: إنَّ نارَ جهنَّمَ كانت ذاتَ ارتقابٍ، ترقُبُ من يجتازُها وترصُدُهم (3).   (1) بُني الفعل «فُتحت» للمفعول للاهتمام بالحدث، وقرئ بتشديد التاء، وفيه مبالغة: إما لكَثرة الفتح، وإما لشدَّته. وجاء الفعل ماضياً، والحدث لم يقع بعد، لتأكُّد وقوعه وتحقُّقه، وفي هذا الحدث فساد لنظام هذا الجِرم العظيم، وهو إيذانٌ بنهاية هذا العالم الفاني. وقد ورد هذا المعنى في غير ما آية؛ كقوله تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلاَئِكَةُ تَنْزِيلاً} [الفرقان: 25]، وقوله: {فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} [الحاقة: 16]، وقوله: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} [المرسلات: 9]، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} [الانفطار: 1]، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]. (2) بُني الفعل للمفعول للاهتمام بالحدث، وقد ذكر الله في هذه الآية حالين للجبال في هذا اليوم، وهما التسيير، وتحولها إلى هيئة السَّراب، وهي مرحلة الهباء والعِهْنِ الذي ذكره الله بقوله: {وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا *فَكَانَتْ هَبَاءَ مُنْبَثًّا} [الواقعة: 5 - 6]، وقوله: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]، وقوله: {وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [المزمل: 14]، وبين هذين الحالين أحوالٌ تمر بها في هذا اليوم؛ كالدَّكِّ، والنَّسف، والرَّجف، ذكرَها الله في مواضعَ من القرآن. (3) لما كان المقامُ مُقامَ وعيدٍ وتهديدٍ للمختلِفين في النبأ قُدِّم ذكرُ جهنم، التي هي اسمٌ من أسماء دار العذاب الأخروي، والمِرصاد: مكان الرصد والترقُّب، وفي هذا إشارة إلى ما ذكره الرسول صلّى الله عليه وسلّم من أمر الصراط الذي يوضع على متن جهنم، فيمرُّ الناس عليه، فتختَطِفُ النار بكَلالِيبها وخطاطيفها أهلها الذين حكمَ الله عليهم بدخولها، وقد أشار السلف في تفسير هذه الآية إلى المرور على النار؛ كالحسن، وقتادة، وسفيان الثوري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 22 - قولُه تعالى: {لِلطَّاغِينَ مَآبًا}؛ أي: إنَّ جهنَّم للذين تجاوَزوا الحدَّ في العِصيان حتى بلغوا الكُفر، مرجِعٌ ومصيرٌ يَصيرون إليه ويَستقِّرون فيه. 23 - قولُه تعالى: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا}؛ أي: إنَّ هؤلاءِ الطاغينَ ماكِثونَ ومقيمونَ في النار أزماناً طويلةً تِلْوَ أزمانٍ لا انقطاعَ لها (1).   (1) ورد عن بعض السلف ـ كالحسن وقتادة والربيع بن أنس ـ تحديد مدة الحِقْب، ومع ذلك نبَّهوا على أن هذه الأحقاب تتوالى على الكافرين فلا تنتهي، وهذا يرفع ما يورده بعض من استدل على فناء النار بهذه الآية، وذلك أنه وإن كان للحِقْب مدة محدَّدة، لكن الله أطلق هذه الأحقاب فلم يقيِّدها بعدد، فصدَقَ عليهم أنهم يمكثون في النار أحقاباً لا حصر لها، كما لو قيل: لابثين فيها سنين، فهذا لا يمنع الخلود، فهم يصدق عليهم أنهم يلبثون سنين، لكن لا حصر لها. وفيه توجيه آخر ذكره الطبري، فقال: وقد يحتمل أن يكون معنى ذلك: لابثين فيها أحقاباً في هذا النوع من العذاب، هو أنهم: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا *إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} [النبأ: 24 - 25]، فإذا انقضت تلك الأحقاب، صار لهم من العذاب أنواع غير ذلك؛ كما قال جل ثناؤه في كتابه: {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} [ص: 55 - 58]، وهذا القول عندي أشبه بمعنى الآية. وقد ذكرَ الإمام الطبري عن مقاتل بن حيان أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]، ثم قال: «ولا معنى لهذا القول؛ لأن قوله: {لاَبِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} [النبأ: 23] خبر، والأخبار لا يكون فيها نسخ، وإنما النسخ في الأمر والنهي». ولو حُمل كلام مقاتل على مفهوم النسخ عند السلف ـ وهو مطلقُ الرفع لشيء من معنى الآية أو حُكمها، وهو أعمُّ من المصطلح الذي ذكره الطبري ـ لَما كان في الأمر إشكال، ويكون مراد مقاتل أن الآية الأخرى تبيِّن أنهم إذا انتهوا من العذاب في هذه الأحقاب، فإنه يزاد عليهم العذاب بعد ذلك، وهذا هو معنى التوجيه الثاني الذي ذكره الطبري واختاره. ويظهر من هذا المثال وغيره أن الإمام الطبري رحمه الله تعالى لم يكن يُعمِل مصطلح السلف في النسخ، ولذا كان يعترض على مثل هذا المثال، وفي هذا فائدة علمية ذات خطر، وهي أن تعرفَ مصطلحَ كل قوم، ولا تحمل كلامهم على مصطلح غيرهم، فتقع في الخطأ، وأعظم ما يكون الخطأ إذا حُمِلَتْ ألفاظ القرآن والسنَّة على مصطلحات = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 24 - قولُه تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلاَ شَرَابًا}؛ أي: لا يحسُّون ولا يُطْعَمونَ فيها هواءً يُبَرِّدُ حَرَّ السعير عنهم (1)، ولا يشربون شيئاً يروي عطشهم الذي نتجَ عن هذا الحرِّ. 25 - قولُه تعالى: {إِلاَّ حَمِيمًا وَغَسَّاقًا}؛ أي: لا يذوقونَ البردَ والشرابَ، لكن يذوقونَ الماءَ الذي بلغَ النهايةَ في حرارته، وصديدَ أهل النار المنتِن الذي بلغ النهايةَ في بُرودَته (2).   = حادثةٍ مبتدَعة، فتقع بذلك الطَوَام، وتُحَرَّف نصوص الكتاب والسنة. انظر في ذلك: الصواعق المرسلة، لابن القيم، تحقيق: الدخيل الله (1: 189 - 192). (1) ذكر في معنى البَرد قول آخر، وهو أن يكون البرد النوم، وقال عنه الطبري: «وقد زعم بعض أهل العلم بكلام العرب ـ يعني: أبا عبيدة معمر بن المثنى ـ أن البردَ في هذا الموضع النوم، وأن معنى الكلام: لا يذوقون فيها نوماً ولا شراباً، واستشهد لقيلِه ذلك بقول الكِنْدي: بردَت مراشِفُها عليَّ فصدَّني عنها وعن قُبُلاتها البرد يعني بالبرد: النُعاس. والنوم، وإن كان يُبرد غَليلَ العطش، فقيل له من أجل ذلك: البرد، فليس هو باسمه المعروف، وتأويل كلامِ الله على الأغلب من معروف كلام العرب دون غيره». وقد نُسب هذا القول لابن عباس (تفسير البغوي)، ومجاهد والسُّدي (تفسير الماوردي)، وهو قول يحتمله السياق، غير أنه غير مترجَّحٍ للسبب الذي ذكره الطبري، وإذا كان كذلك، فإن سببَ الاختلاف: الاشتراك اللغوي، ويكون من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى. (2) اختلفت عبارة السلف في تفسير الغسَّاق، فقال بعضهم: الغسَّاق: هو ما سال من صديد أهل النار، ورد ذلك عن عطية العوفي، وعِكرمة، وأبي رزين، وإبراهيم النخعي، وابن زيد. وعن عبد الله بن بريدة أنه المنتِنُ بالطخارية [أي بلغة أهل طخارستان]. وقال بعضهم: الغسَّاق: الزمهرير، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعن مجاهد من طريق ليث، وعن أبي العالية، والربيع ابن أنس. ومادة (غسق) فيها هذان المعنيان، أما الغَسق بمعنى البرد، فمنه غسَق الليل، سمي بذلك لبرودته. وأما الغسق بمعنى الصَّديد المنتن الذي يسيل من أهل النار، فمن قولهم غسق الجرح: إذا سال قَيْحه. وعلى هذا، فالتفسيران صحيحان، وجائز اجتماعهما في = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 26 - قولُه تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا}؛ أي: ثواباً موافِقاً لأعمالهم (1). 27 - قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لاَ يَرْجُونَ حِسَابًا}؛ أي: إنَّ هؤلاء الطاغينَ كانوا في الدنيا لا يخافونَ (2) أن يُجازيَهم أحدٌ على سُوء أعمالهم، فوقعتْ منهم هذه الأعمال التي جُوزوا عليها جزاءً وِفاقاً. 28 - قولُه تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا}؛ أي: كذَّبوا تكذيباً شديداً، ولم يصدِّقوا بالقرآن وغيره من الآيات. 29 - قولُه تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا}؛ أي: ضَبَطْنا وعدَدْنا عليهم كلَّ شيء عَمَلوه، فكتبناهُ وحفِظناهُ عليهم (3). 30 - قولُه تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا}؛ أي: ذوقوا أيها الكفار الطاغون من عذابِ هذه الأحقاب، فلن نزيدَكم إلا عذاباً من جنسِ عذاب   = معنى الغسَّاق، ويكون من عذاب النار الذي يعذِّب الله به الكفار. وهذا هو ترجيح الإمام الطبري. وعلى هذا فسبب الاختلاف: الاشتراك اللغوي، وهو من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى. (1) كذا وردَ عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع من طريق أبي جعفر، وابن زيد الذي جعل نظيرها قوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى} [الروم: 10]. (2) عبَّر مجاهد وقتادة عن جملة «لا يرجون» بأنهم لا يخافون، وقد ورد عن أهل اللغة كذلك (تهذيب اللغة: 11: 182)، ويردُ الإشكال في تفسير الرجاء الذي هو ترقُّب حصول أمر محبوب للنفس، بالخوف الذي هو ضد له. وتحرير ذلك: أن الرجاء بمعنى الخوف لا يأتي إلا منفيًّا؛ أي: لا يرجون (انظر: معاني القرآن، للفرَّاء: 1: 286)، وإنما اشتمل الرجاء على معنى الخوف؛ لأن الرجاء أمل قد يُخاف ألاَّ يتم (انظر: معاني القرآن، للزجَّاج: 2: 100). (3) يظهر من السياق أن الحديث عن كتاب الأعمال الذي تسجِّله الملائكة على العباد؛ لأن المقام ـ فيما يظهر ـ مقامُ محاسبة، وهم سيُحاسَبون على ما كتب عليهم، لا على عموم قدر الله سبحانه، ذلك أن بعض المفسِّرين جعل المُحْصَى هنا كل قدر الله الذي في اللوح المحفوظ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 النار (1)؛ كما قال تعالى: {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ *وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ}، والعياذُ بالله. وهذه الآيةُ من أشدِّ ما نزلَ في عذاب الكفَّار (2). 31 - قولُه تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا}: عَقَّبَ بذكرِ المتَّقين على عادة القرآنِ في ذكرِ الفريقين وأحوالِهم ومآلهم. والمعنى: إنَّ للذين اتقوا اللَّهَ بطاعته وتجنُّبِ معصيتِه مكانَ فَوْزٍ، وهو الجنة (3). 32 - قولُه تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا}؛ أي: إنَّ مكانَ الفوزِ هو هذه البساتينُ المسوَّرة: إما بجدارٍ، وإما بأشجار، وخَصَّ العِنَبَ لفضله عِنْدَهُم. 33 - قولُه تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا}؛ أي: ومن المَفاز: الجواري المستوِيات الأسنان، اللواتي قد استدارت نُهودهنَّ وتفلَّكت. 34 - قولُه تعالى: {وَكَاسًا دِهَاقًا}؛ أي: ومن المفاز: إناء الخمر، أو غيره، المملوء عن آخِرِه، الذي يشرَبونَهُ صافياً متتابِعاً بلا انقطاع (4).   (1) هذه الآية مرتبطةٌ بقوله: {جَزَاءً وِفَاقًا} [النبأ: 26]، وما قبلها من قوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} [النبأ: 21]، وتكون الجمل التي بينهما معترضة، والله أعلم. انظر: التحرير والتنوير. (2) أسند الطبري، عن عبد الله بن عمرو، قال: لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَابًا} [النبأ: 30]، قال: فهم في مزيد من العذاب أبداً. (3) عبَّر ابن عباس عن المفاز بأنه المُتَنَزَّه، وعبَّر عنه مجاهد وقتادة أنهم فازوا بأن نجوا من النار، وعند التأمل تجد أن نتيجة هذه الأقوال ومؤدَّاها واحد، والله أعلم. (4) عبَّر جمهور السلف عن معنى الدِّهاق بالامتلاء، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق مسلم بن نسطاس وأبي صالح وعلي بن أبي طلحة، وعن الحسن من طريق أبي رجاء ويونس، وعن مجاهد من طريق منصور، وعن قتادة من طريق معمر وسعيد، وعن ابن زيد. وورد تفسيرها بالمتتابعة عن أبي هريرة، وعن ابن عباس من طريق عمرو بن دينار، وعن سعيد بن جبير. ووردَ تفسيرها بالصافية عن عكرمة. ويظهر أن التفسير الأول هو التفسير اللغوي الأشهر في معنى اللفظ، أما الثاني، فقد أشار الطبري إلى وجود أصله في اللغة، بقوله: «وقوله: {وَكَاسًا دِهَاقًا} [النبأ: 34] يقول: وكأساً ملأى متتابعة على شاربيها بكثرة امتلائها، وأصله من الدَّهق، وهو متابعة الضغط على الإنسان بشدة وعنف، وكذلك الكأس الدِّهاق: متتابعة على شاربيها بكثرة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 35 - قولُه تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ كِذَّابًا}؛ أي: لا يسمعونَ في الجنة التي هي المفاز (1) أيّ كلامٍ باطل، ولا يكذِّبُ بعضُهم بعضاً (2). 36 - قولُه تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا}؛ أي: أثابهم الربُّ (3) بهذا المفازِ وما فيه من النعيم المذكورِ مقابلَ أعمالهم الصالحة في الدنيا، ثم إنه تفضَّلَ عليهم بالعطاء الذي فيه الكفاية لهم (4)، وهو عطاءٌ من غير مقابِل، وهو زيادةٌ في الجنة يَزيدها الربُّ لمن شاء من عبادِه. 37 - قولُه تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَانِ لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا}؛ أي: هذا الربُّ الذي جازاهم وأعطاهم هو ربُّ السموات والأرض وما بينهما، وهو الرحمنُ الذي بيدِه جلائِلُ النِّعَم، وفي هذا تنبيهٌ على أنه أعطاهم ما أعطاهم برُبوبيته ومُلكِه ورحمته لهم. وقوله: {لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا}؛ أي: هؤلاء الخلق المذكورون في   = وامتلاء». (انظر في هذا المعنى: تاج العروس، مادة: دهق). وأما التفسير الأخير فلا تُعطيه اللفظة ولا يخصُّها، بل هو تفسير مبني على ما عُرف من صفاء شراب الجنة وعدم وجود الغِشِّ فيه، وهل يجوز أن تكون لغة من لغات العرب عَلِمَها عكرمة، ففسَّر بها؟! الله أعلم. وعلى هذا يكون الاختلاف من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، ويكون سبب الاختلاف في القولين الأولين: الاشتراك اللغوي. (1) ذكر بعض المفسِّرين أن الضمير في {فِيهَا} يعود إلى قوله: {وَكَاسًا}؛ أي: خمراً، ويجعل «في» بمعنى «الباء»؛ أي: بسببها، ويكون المعنى: لا يسمعون بسبب شرب خمر الجنة لغواً ولا كِذَّاباً. والأَوْلى أن يعود الضمير إلى الجنة المشار إليها بالمفاز، وعليه فلا تحتاج إلى هذا التأويل. (2) هذا فيه دلالة على طِيب أكلِهم وشُربهم فلا يحدث بسببه ما يصدر منه لغو ولا كذب كما هو الحال في الدنيا في شرب الخمر وغيره من المسكِرات. (3) في إيثار اسم الربوبية هنا ما يشعر بأن النِعم من آثار ربوبية الله لعباده، والله أعلم. (4) جعل بعض المفسِّرين لفظ «حساباً» صفة للجزاء، ومن ثَمَّ يكون الحساب بمعنى المعدود؛ أي: جزاء معدوداً على قدر أعمالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 قوله: {السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} لا يستطيعونَ مخاطبةَ الله في يوم القيامة إلا بإذنه، كما سيرِدُ في الآية بعدَها. 38 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلاَئِكَةُ صَفًّا لاَ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَقَالَ صَوَابًا}؛ أي: لا يملِك الخلقُ من الله مخاطبته في هذا اليوم الذي يقومُ فيه هذا الخلق العظيم ـ الروح (1) والملائكة ـ صفًّا، تعظيماً لله، كما لا يستطيعون مكالَمته إلا مَنْ قَبِلَ الله منه أن يتكلَّم، وتكلَّم بالحق،   (1) وقع خلاف بين السلف في تحديد الروح على أقوال: الأول: أنه ملَك من أعظم الملائكة، وردَ ذلك عن ابن مسعود وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، مع زيادةٍ في تفصيل خلقه عند ابن مسعود. الثاني: أنه جبريل، ورد ذلك عن الشعبي والضحاك من طريق سُفيان وثابت. الثالث: خَلْقٌ من خَلْقِ الله في صورة آدم، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومسلم وسليمان، وأبي صالح من طريق إسماعيل ابن أبي خالد، والأعمش. الرابع: أنهم بنو آدم، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق معمر وسعيد. الخامس: أنه أرواح بني آدم، عن ابن عباس من طريق العوفي. السادس: أنه القرآن، عن زيد بن أسلم من طريق ابنه عبد الرحمن، واستشهد لذلك بقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]. وقال الطبري ـ معلقاً على هذه الأقوال ـ: «والروح خَلْقٌ من خلقه، وجائز أن يكون بعض هذه الأشياء التي ذُكرت، والله أعلم أي ذلك هو، ولا خبرٌ بشيء من ذلك أنه المعني به دونَ غيره يجب التسليم له، ولا حجة تدل عليه، وغير ضائر الجهل به». والروحُ فيما يظهر من هذه الأقوال أمرٌ غيبي، والمرجع فيه إلى الأثر عن المعصوم في خبره، ولم يرِد إسناد شيء من هذه الأقوال إليه، ويظهر على بعضها أنها اجتهاد من قائله نظر فيه: إما لقرآن؛ كالقول بأنه جبريل؛ لوروده صراحة في غير هذا الموضع بهذا الوصف؛ كقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ} [الشعراء: 193]، والقول بأنه القرآن، لوروده في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52]، وإما لدلالة عقل وإطلاق لغوي؛ كمن قال: هم بنو آدم، أو أرواحهم، في مقابل ذكر الملائكة. أما القول الأول الذي ورد عن ابن عباس وابن مسعود فممَّا لا يمكن أن يُعلم إلا من طريق الوحي، ومن القواعد المقررة عند أهل العلم أن الصحابيَّ إذا فسَّرَ شيئاً غيبياً، فإن الأصلَ قَبول قوله، ما لم يَرِدْ ما يدل على أنه لم يتلقَّه من الرسول صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وعملَ به في الدنيا. وأعظمُ الحقِّ قول لا إله إلا الله، والعمل بها (1). 39 - قولُه تعالى: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا}؛ أي: ذلك اليومُ الذي يقومُ فيه الروحُ والملائكةُ، هو اليومُ الكائنُ الثابتُ الذي لا شكَّ فيه، فمن أرادَ منكم أيها العبادُ النجاةَ في ذلك اليوم، فليتَّخذ من الأعمالِ الحسنة ما يكونُ له سبيلاً ومرجِعاً يرجِعُ به إلى الله سبحانه (2). 40 - قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}؛ أي: إنَّا حذَّرناكم أيها العباد (3) عذاباً قد دنا منكم وقَرُب، وذلك كائنٌ يومَ ينظرُ المرءُ منكم إلى أعماله التي قَدِمَ بها إلى الله، ويومَ يتمنَّى الذي لم يؤمن بربِّه وكَفَرَ به أن لو جُعِلَ تُراباً، كما يصيرُ للبهائم في ذلك اليوم (4)، والله أعلم.   = والملاحظ أن ابن جرير لم يعمل بهذا في هذا الموضع، كما أنه رحمه الله تعالى لا يميز ـ في الغالب ـ بين طبقات السلف الثلاث (الصحابة والتابعين وأتباعهم) في التعامل معهم وترجيح أقوالهم؛ أي: لا يقدِّم قول الصحابي دائماً، بل قد يختار عليه قول التابعي، أو تابع التابعي، وهذا المنهج يحتاج إلى دراسة. (1) قال مجاهد في تفسير {صَوَابًا}: «قال حقّاً في الدنيا وعمل به». وفسَّر الصواب بلا إله إلا الله، كل من ابن عباس من رواية علي بن أبي طلحة وأبي صالح مولى أم هانئ، وعكرمة من طريق الحكم بن أبان. (2) وردَ عن قتادة من طريق معمر: {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} سبيلاً. وهذا تفسيرٌ بالمعنى؛ لأن المآب: المرجِع، والسبيل: الطريق إلى هذا المآب، فلا وصول إلى هذا المرجع إلا بسلوك السبيل، وهو الأعمال الصالحة، ففسَّر قتادة بلازم اللفظ، لا بمطابقه، والله أعلم. (3) قال الحسن البصري في {الْمَرْءِ}: المرء المؤمن. وكأنه لما ذكر الكافر بعده، جعل ذلك مقابلاً له، ولو فُسِّر المرء بعمومه فشمل الكافرَ والمؤمنَ، لكان صواباً، والله أعلم. (4) وردت آثار في ذلك عن عبد الله بن عمرو، وأبي هريرة، وأبي الزناد، وقد أورد الطبري في ذلك حديثاً، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أسنده أبو هريرة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 سورة النازعات آياتها:46 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 سورة النازعات بسم الله الرحمن الرحيم وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33) فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 سورةُ النَّازِعات 1 - قولُه تعالى: {وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا}: يُقسِمُ ربُّنَا بالملائكةِ التي تجذبُ أرواحَ الكفَّارِ من أجسادِهم عند الموت جذباً شديداً، كما يَشُدُّ الرامي بالقَوسِ السَّهْمَ إلى آخرِ مداه (1).   (1) وقع خلاف في تفسير النَّازعات بين مفسِّري السلف على أقوال: 1 - الملائكة التي تجذب روحَ الكافرِ من أقاصي بَدَنِه، عن ابن مسعود من طريق مسروق، وابن عباس من طريق العوفي وأبي صالح، وعن مسروق، وسعيد بن جُبير. 2 - الموتُ ينزع النفوس، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. 3 - النجومَ تنزِعُ من أُفُقٍ إلى أُفُق، وهو قول الحسن من طريق أبي العوام، وقتادة من طريق معمر. 4 - القُسِيُّ تنزع بالسهم، وهو قول عطاء. 5 - النفس حين تُنزع، وهو قول السدي من طريق سفيان. وإذا تأملتَ هذه الأقوال، فإنك ستجدها جاءت على دلالة اسم الفاعل؛ أي أنها نازِعة، عدا قول السدي الذي حمل اسم الفاعل على المفعول، وفيه نظر. كما أنها جعلت فعل النازعات من قبيل المتعدِّي؛ كقوله تعالى: {تَنْزِعُ النَّاسَ}، سوى قول من قال هي النجوم، فالفعل عنده لازمٌ لا يحتاج إلى مفعول. وجاء اسم الفاعل، ولم يذكر مفعوله لأن النزع هو المقصود في المقام، كما جاء جمعاً لتأويله بالجماعات النازعات. وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببُ هذا الخلاف أنَّ هذه أوصافٌ لم يُذكر موصوفُها، وهي صالحةٌ لأن تُحمَل على كل ما قيل فيها ـ كما قال ابن جرير ـ وعليه فهي من قَبيل المتواطئ، غير أن الراجحَ من أقوال المفسرين، أن النازعات وما بعدها من الأوصافِ هي للملائكة، وعلةُ ذلك أن المفسِّرين أجمعوا على أن المدبِّرات هي الملائكة، ودلَّت الفاء في قوله تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا} على أنها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 2 - قولُه تعالى: {وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا}: ويقسمُ بالملائكةِ التي تَسُلُّ روحَ المؤمنِ من جسدِه بخفَّة وسهولةٍ (1). 3 - قولُه تعالى: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا}: ويقسمُ بالملائكة التي تجوبُ آفاقَ السماء، وتنزِلُ إلى الأرضِ بأمر الله (2).   = متفرِّعة عن جملة: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا} [النازعات: 4]، وهذه الجملة متفرِّعةٌ عن جملة: {وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا} [النازعات: 3]، وعليه فهذه الأوصاف الثلاثة في الملائكة، وكون الوصفين الأوَّلين فيهما أيضاً أولى؛ لاتحاد هذه الأوصاف في موصوف واحد. وتفريقُ الأوصاف على أجناسٍ مختلفة، مع هذا التأويل غير متمكن، ولا دليلَ عليه، والله أعلم. (انظر: التبيان في أقسام القرآن: 85). (1) اختلف السلف في الناشطات على أقوال: 1 - الملائكة، وهو قول ابن عباس من رواية العوفي، وهو الراجح كما سبق في النازعات. 2 - الموت، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد أدخل ابن جرير ابن عباس والسدي في من قال بهذا القول، ولا يتضح دخولهما فيه؛ لأن عبارتهما مجملة، وقد صرَّح السدي بالسند نفسه في تفسير «النازعات» أنها النفس، والأَوْلى أن يحمل هنا عليها، فيكون قوله في الناشطات كقوله في النازعات. أما ابن عباس فقد ورد بالسند نفسه في تفسير النازعات، وجعله تحت قول من قال هي الملائكة، مع أن عبارته مجملة كذلك، حيث قال: النازعات: حين تنزع نفسه، والناشطات: حين تنشط نفسه، وهذا مشكل، والله أعلم. 3 - أنها النجوم تنشط من أفق إلى أفق، وهو قول قتادة من طريق معمر. 4 - أنها الأَوْهاق، وهي الحبل يُرمى في أُنشوطة، فتؤخذ به الدابة أو الإنسان، وهو قول عطاء. (2) السبح يطلق على العوم في الماء والمرور في السماء؛ كما قال تعالى: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ}. [الأنبياء: 33] وقد اختلف السلف في المراد بالسابحات على أقوال: 1 - الملائكة، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقد ذكر ابن كثير أنه قول ابن مسعود، وروي عن علي ومجاهد وسعيد بن جبير وأبي صالح. 2 - أنها الموتُ يسبحُ في جسد الإنسان، وهو قول مجاهدٍ أيضاً، وقد اختُلف عليه، ويظهر أن هذا القول هو اختياره؛ لأنه مرَّ بالأسانيد نفسها في تفسير النازعات والناشطات أنها الموت، وكون هذا أشبه بما قبله عنده أظهر من كونه قال بغيره ما دام قد ورد عنه، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 4 - قولُه تعالى: {فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا}: عَطَفَ السابقاتِ على السابحاتِ بالفاء، ومعنى ذلك: أنَّ السابقات من جنس السابحات، وهي الملائكة التي يسبِقُ بعضُها بعضاً في تدبير أمر الله تعالى (1). 5 - قولُه تعالى: {فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا}: أجمع المفسِّرون على أنها الملائكة التي تنفِّذُ ما أمر الله به من قضائه (2)؛ كالملائكة الموكَّلون بأعمال العباد، والموكَّلون بالنار، والموكَّلون بالجنة، وغيرهم. وجوابُ هذه الأقسام محذوف (3)، ولما كان موضوع السورة في البعث، جاز تقديرُ الجواب بـ «لَتُبْعَثُنَّ»، ويكون المعنى: والنازعات لتبعثنَّ، وهكذا. 6 - 7 - قولُه تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ *تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ}؛ أي لتبعثُنَّ   = والله أعلم. وقد علَّق أبو جعفر الطبري على هاتين الروايتين بقوله: «هكذا وجدته في كتابي»، وهذا يدل على استشكاله في الرواية التي عنده عن مجاهد، والله أعلم. 3 - أنها النجومُ تسبحُ في فَلَكِها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد. 4 - أنها السفنُ تسبحُ في الماء، وهو قول عطاء. (1) وقع في السابقات اختلاف بين السلف على أقوال: 1 - الملائكة، وهو قول مجاهد، قال ابن كثير: «ورُوي عن علي ومسروق ومجاهد وأبي صالح والحسن البصري». 2 - الموتُ، وهو قولُ مجاهد. (انظر التعليق السابق في السابحات على قولي مجاهد). 3 - الخيلُ، وهو قول عطاء. 4 - النجوم، وهو قول قتادة من رواية معمر وسعيد. (2) الغريب أن قولَ قتادة في هذه الآية أنها الملائكة، مع أن قوله في ما سبقَ من الأوصاف أنها النجوم، ولم يذكر ابن جرير غير قول قتادة، فلم يرِد عنده فيها خلاف في هذه الآية، كما وقع في سابقاتها، وقد حكى الإجماعَ السمعاني في تفسيره، وابن القيم في التِّبيان في القرآن: 86. وقال ابن عطية: «وأما المدبِّرات فلا أحفظ فيها خلافاً»، وقال ابن كثير: « ... هي الملائكة ... ولم يختلفوا في هذا». (3) انظر: (تفسير الطبري، ط: الحلبي: 30:32، والتبيان في أقسام القرآن: 87). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يوم تهتزُّ وتضطربُ الأرضُ بسبب النفخة الأولى التي تتبعُها النفخةُ الثانية (1). 8 - قولُه تعالى: {قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ}؛ أي: قلوبُ خلقٍ من خلقه يوم تقعَ هذه الأحداثُ، خائفة (2). 9 - قولُه تعالى: {أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ}؛ أي: أبصارُ أصحابها ذليلة مما قد نزلَ بها من الخوفِ والرُّعب (3). 10 - قولُه تعالى: {يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ}؛ أي: يقول أصحاب هذه القلوب الذين أنكروا البعثَ في الدنيا: أنرجعُ إلى الحياة بعد أن نموتَ ونُدفَنَ تحت التراب؟ (4).   (1) عبَّر جمهور السلف عن الراجفة بأنها النفخة الأولى، والرادِفة: النفخة الثانية، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعن الحسن من طريق أبي رجاء، وعن قتادة من طريق سعيد، وعن الضحَّاك من طريق عبيد المكتب. وعبَّر مجاهد وابن زيد عن الراجفة بأنها الأرض ترجف، وهذا غير مخالف للأول؛ لأنها ترجف بسبب النفخة، كما في القول الأول، وجعل مجاهد وقت الرادِفة مقروناً بانشقاق السماء، فقال: «هو قوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1] فدُكَّتا دكَّة واحدة»؛ أي: الرادفة هي دكُّ الأرضِ بالجبال. وهذا خلاف لما علية أهل القول الأول، وهم الجمهور، إلا أن يقال إن هذا يكون بعد النفخة الثانية فيلتئِم قوله مع قولهم، والله أعلم. أما ابن زيد فعبَّر عن الرادفة بالساعة، وهذا غير مخالف، لأن الساعةَ لا تقومُ إلا بالنفخة الثانية، والله أعلم. (2) هذا من عبارة الطبري في تفسير هذه الآية، وكذا ورد تفسير «واجفة» عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. وأفاد التنكيرُ في «قلوب»: التكثير؛ أي: قلوبٌ كثيرة خائفة في هذا اليوم. (3) الضمير في ظاهر الكلام يعودُ إلى القلوب، والمرادُ أصحاب القلوب، فعبَّر عنهم بجزء منهم، وهي القلوب، التي هي محلُّ الخوفِ والإذعان، ثم يظهر بعد ذلك على الأبصار، والله أعلم. (4) هذه الجملة مستأنفة للحديث عن أصحاب هذه القلوب الواجفة في الحياة الدنيا، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 11 - قولُه تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً}؛ أي: كيف نرجِعُ إلى حالِنا الأوَّل، وقد تحلَّلت أجسامُنا وصِرنا عظاماً باليةً فارغة (1).   = والاستفهام جاء على سبيل التعجُّبِ من حُصول البعث الذي ينكره هؤلاء، وجاء الفعل «يقولون» مضارعاً؛ لإفادة تجدُّد هذا الحديث، وحصوله منهم مرة بعد مرة. والحافِرة عند العرب: رجوع المرء من الطريق الذي أتى منه، يقولون: رجع فلان إلى حافرته؛ أي: إلى طريقه الذي جاء منه؛ كأنه يتبع حفر قدميه في الأرض في حال رجوعه، ومنه قول الشاعر: أحافِرةٌ على صَلَعٍ وشيبِ ... معاذَ الله من سَفَهٍ وطيشِ وقد ورد خلاف بين السلف في تفسير الحافرة على أقوال: 1 - الحياة بعد الموت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة وعطية العوفي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، ومحمد بن قيس أو محمد بن كعب القرظي، والسدي من طريق سفيان الثوري. 2 - الأرض، وهو قول مجاهد من طريق عبد الله بن أبي نجيح، وقال: «الأرض، نبعث خلقاً جديداً». وقوله في ما يظهر لا يخالف القولَ الأولَ إلا في العبارة، والنتيجة واحدة في القولين؛ لأن العودَ للحياة سيكون على الأرض، وهذان القولان يناسبان المعنى اللغوي للحافرة؛ لأنهما يدُلاَّن على أن الإنسان يعود إلى ما كان عليه قبل موته، والله أعلم. 3 - النار، وهو قول ابن زيد، وقد جعل الحافرة اسماً للنار، وهو مخالف لقول الجمهور، ولو لم ينص على أنها من أسماء النار لاحتمل أن يكون تفسيره مقبولاً على أنه أراد التنبيه على المآل الذي يصيرُ إليه الكافر، فيكون تفسيره على المعنى، لا على مطابق اللفظ، وسياقُ الآيات بعدَها يُضعف أن يكون المراد بالحافرة النار؛ لقوله: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ} [النازعات: 13 - 14] على ما سيرِد في تفسيرها، والله أعلم. (1) عبَّر ابن عباسٍ من طريق العوفي عن ذلك بالفانية البالية، وعبَّر قتادة من طريق سعيد بالبالية، وعبَّر مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمرفوتة، أي: المحطمة المدقوقة. وهذا من اختلاف التنوع الذي يكون التعبير فيه عن المعنى بألفاظ متقاربة. وقد ورد في لفظ «نخِرة» قراءتان: الأولى بلا ألف، والثانية بألف على وزن فاعل، ومعناهما واحد، وقيل باختلافهما في المعنى. فالنَّخِرَة: البالية، والنَّاخِرة، المجوَّفة التي تنخر الريح في جوفِها إذا مرت بها، وتفسير السلف يدل على أن معناهما واحد، إذ لم يرد عنهم التفريق بين المعنيين، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 12 - قولُه تعالى: {قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ}؛ أي: إنَّ الرجعةَ إلى الحياةِ بعد المماتِ رجعةٌ لا خيرَ فيها، بل فيها غَبْنٌ لهم (1). 13 - قولُه تعالى: {فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ}؛ أي: إنَّ الأمرَ لا يحتاجُ إلى كبيرِ عناءٍ، بل هي صيحةٌ واحدةٌ لا ثانيةَ لها ينفُخُها إسرافيلُ في الصُّور، فيقومونَ من قبورهم أحياء (2). 14 - قولُه تعالى: {فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ}؛ أي: بعد أن يسمَعوا الصَّيَحةَ فإنهم سُرعانَ ما سيكونونَ على الأرض (3).   (1) كذا قال قتادة من طريق سعيد، وابن زيد. (2) كذا جاء عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن زيد. (3) ورد خلاف بين السلف في تفسير السَّاهرة على أقوال: 1 - الأرض، وهو قول ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وعكرمة من طريق حصين وعمارة بن أبي حفصة، والحسن من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد بن جبير من طريق عكرمة وأبي الهيثم، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. 2 - اسم مكان معروف من الأرض، وهو بالشام، ورد ذلك عن عثمان بن أبي العاتكة وسفيان الثوري، وهذا القول يمكن أن يُحتمَل على أنهم أرادوا تعيين أرض المحشر، وأنها جزء من الأرض، لا أن السَّاهرة عَلَمٌ مخصوصٌ بهذا المكان دون الأرض. وقال وهب بن منبِّه: هو جبل إلى جنب بيت المقدس، وهذا إن كان أراد أن هذا الجبل بعينه هو الساهرة، فإنه غير صحيح، وهو مخالف لما عليه جمهور السلف، وإن كان إنما ذكر جزءاً من أرض المحشر التي يحشر الناس إليها، فيمكن أن يُحتمل قوله على هذا التوجيه، والله أعلم. 3 - وقال قتادة: في السَّاهرة: في جهنَّم. وهذا مخالف لما ورد عن الجمهور، ولا يظهر موافقته لقولهم من أي وجه، والله أعلم. والقول الأول، وهو قول جمهور السلف، هو القول الراجح، وهو المعروف من لغة العرب، قال أمية بن أبي الصَّلْت: وفيها لحمُ ساهرةٍ وبحر ... وما فاهوا به أبد مقيم وإنما سمِّيت الأرض بهذا الاسم؛ لأن فيها نومَ الحيوانِ وسهرَهم، فسمِّيت بذلك للملابسة، والله أعلم. انظر: معاني القرآن للفراء، وتفسير الطبري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 15 - 16 - قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى *إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوى}: استفهامٌ للتشويق لخبرِ موسى بن عمران، والمعنى: هل جاءك خبرُ موسى حين كلَّمه الله نداءً في وادي طُوى المطهَّر (1). 17 - قولُه تعالى: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى}؛ أي: ناداه أنِ اذْهَبْ إلى فرعونِ مصر، إنه قد تجاوزَ الحدَّ في العُدوان والتكبُّر (2). 18 - قولُه تعالى: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى}؛ أي: اعرض عليه أن   (1) اختلفت عبارة السلف في تفسير طُوى على أقوال: الأول: أنه اسم الوادي، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وهذا هو أظهر الأقوال، والله أعلم. الثاني: أنه أمرٌ لموسى بأن يطأ الأرضَ بقدميه، عن ابن عباس من طريق عكرمة، ومجاهد من طريق ابن جُريج، وعكرمة من طريق يزيد. الثالث: بمعنى الذي طويتَه، عن ابن عباس من طريق العوفي. ويكون المعنى: بالوادي المقدَّس الذي طواه موسى مشياً بقدميه، ويكون «طُوى» مصدراً خرجَ من غير لفظه. الرابع: أن طُوى بمعنى مرتين، عن الحسن من طريق ابن جريج، ومجاهد من طريق ابن جريج. ويكون ـ على قولهم ـ مصدراً من غير لفظه، وهو الشيء الذي يثنَّى؛ أي: يكرَّر مرة بعد مرة، وقد يكون مفعولاً مطلقاً للمقدَّس، ويكون المعنى: بالوادي المقدس مرتين، أو يكون لناداه، فيكون المعنى: ناداه مرتين في الوادي المقدس. وهذه التفاسير مبنيَّة على قراءة طُوى، فقُرئت بالتنوين طوى، وبتركه. (انظر: تفسير الطبري، ط: الحلبي: 16: 146 - 147). (2) فِرعون لَقب ملِك مصرَ في عهد الفراعنة، وقد كان في عصر إبراهيم ويوسف يلقَّب بالملك، كما ورد في سورة يوسف وفي قصة إبراهيم في السنَّة، وهذا يعني أن مصر مرَّت بمرحلتين في الحكم، وهي مرحلة الملوك، وهم من يُطلق عليهم في التاريخ المصري «الهِكْسُوس»، ومرحلة الفراعنة، ومنهم فرعون موسى الذي تربَّى موسى في بيته. وهل فرعون الولادةِ هو فرعون الخروج، أم لا؟ في ذلك خلاف بين المؤرخين الذين درَسوا هذه الفترة، ونصُّ القرآن يعطي أنه فرعونٌ واحد؛ كقوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] والله أعلم بما كان، وليس في ذلك كبير أهمية، غير أن النفس تتطلَّع لما غاب عنها بشيء من الاهتمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 يتطهَّر من الكُفر والتجبُّر، فيُسْلِم لله (1). 19 - قولُه تعالى: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}؛ أي: أدلُّكَ وأرشدُكَ إلى الطريق الموصلِ لمن ملَكَكَ بربوبيته، وهو الاستسلام لله، فيخضعُ قلبك ويلينُ ويُطيع، بعد أن كان قاسياً بعيداً عن الخير (2).   (1) عبَّر عكرمة عن التزكي بأن يقول: لا إله إلا الله، وهذا أول ما يدخل به المتزكي الإسلام، وقال ابن زيد: أن تُسلِم، قال: «والتزكِّي في القرآن كله: الإسلام، وقرأ قول الله: {وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى}، قال: من أسلم، وقرأ: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى} [عبس: 3]، قال يُسلِم، وقرأ: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى} [عبس: 7]: أن لا يُسلِم». وفي هذا فائدتان: الأولى: أن السلف يَرِدُ عنهم مثل هذه الكليَّات التفسيرية، وهي تحتاج إلى جمع، ثم استقراء مواقعها في القرآن، للنظر في تطابق هذه الكليَّة على جميع الآيات، فتكون بعد ذلك مصطلحاً قرآنياً في اللفظة. الثانية: أن ابن زيد يُكثر من ذكر النظائر القرآنية، وهو مِمَّا يُدخل بتفسير القرآن بالقرآن، وهذه المسألة صالحة للدراسة لمعرفة طريقة ابن زيد في هذا الأسلوب التفسيري. (2) علَّق ابن القيم في كتابه (التِّبيان في أقسام القرآن: 88) على ما في هاتين الآيتين من لِين الخطاب، أنقله بطوله لما فيه من الفائدة. قال: «ثم أمره أن يخاطبَه بألْيَن خطابٍ، فيقول: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى *وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى} [النازعات: 18 - 19]، ففي هذا من لُطف الخطاب ولِينه وجوه: أحدها: إخراجُ الكلامِ مخرجَ العَرْضِ، ولم يخرجه مخرج الأمرِ والإلزام، وهو ألطف، ونظيره قول إبراهيم لضيفه المُكْرَمين: {أَلاَّ تَاكُلُونَ} [الذاريات: 27]، ولم يقل: كلوا. الثاني: قوله: {إِلَى أَنْ تَزَكَّى}، والتزكي: النماء والطهارة والبركة والزيادة، فعرض عليه أمراً يقبله كل عاقل ولا يردُّه إلا كل أحمقٍ جاهل. الثالث: قوله: {تَزَكَّى} ولم يقل: أزكِّيك، فأضاف التزكية إلى نفسه، وعلى هذا يُخاطَب الملوك. الرابع: قوله: {وَأَهْدِيَكَ}؛ أي: أكون دليلاً لك، وهادياً بين يديك. فنسب الهداية إليه، والتزكي إلى المخاطب؛ أي: أكون دليلاً لك وهادياً، فتزكى أنت، كما تقول للرجل: هل لك أن أدُّلك على كنز تأخذ منه ما شئت؟ وهذا أحسن من قوله: أعطيتك. الخامس: قوله: {إِلَى رَبِّكَ}، فإن في هذا ما يوجب قَبول ما دلَّ عليه، وهو أن يدعوه ويوصله إلى ربه: فاطره وخالقه الذي أوجده، وربَّاه بنعمه: جنيناً، وصغيراً، وكبيراً، وآتاه الملك. وهو نوع من خطاب الاستعطاف والإلزام: كما تقول لمن خرج عن طاعة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 20 - قولُه تعالى: {فَأَرَاهُ الآيَةَ الْكُبْرَى}؛ أي: فأظهرَ موسى عليه السلام لفرعونَ العصا واليدَ علامةً واضحةً على نبوَّتِه وصدقِه فيما جاء به (1). 21 - قولُه تعالى: {فَكَذَّبَ وَعَصَى}؛ أي: كانت نتيجة هذه المقابلة وعرض الآية أن لم يصدِّقها فرعون، وخالفَ ما أمرَهُ به موسى عليه السلام من الطاعة. 22 - قولُه تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى}؛ أي: ثم أعرضَ عن الإيمانِ بما جاء به موسى عليه السلام ومضى في عملِ الفساد. 23 - 24 - قولُه تعالى: {فَحَشَرَ فَنَادَى *فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى}؛ أي: من سعيِه بالفساد أنه جمعَ قومَه وأتباعَهُ، ونادى فيهم قائلاً: أنا ربُّكُمُ الأعلى، وفي هذه ردٌّ لما جاء به موسى عليه السلام من دعوته لربِّه، فزعَمَ أنه ربٌّ لقومه. 25 - قولُه تعالى: {فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى}؛ أي: فنالَهُ اللَّهُ بعقوبةِ الدنيا بالغرق، والآخرةِ بالنار، على ما فعلَه في أوَّل أمرِه وآخِرِه (2).   = سيده: ألا تطيعَ سيدَكَ ومولاكَ ومالككَ؟ وتقول للولد: ألا تطيع أباكَ الذي ربَّاك. السادس: قوله: {وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}؛ أي: إذا اهتديت إليه وعرفته خشيته؛ لأن من عرَف الله خافه، ومن لم يعرفه لم يخفه، فخشية الله مقرونة بمعرفته، وعلى قدر المعرفة تكون الخشية. السابع: أن في قوله: {هَلْ لَكَ} فائدة لطيفة، وهي أن المعنى: هل لك في ذلك حاجة أو إِرَبٍ؟ ومعلوم أن كل عاقل يبادر إلى قَبول ذلك؛ لأن الداعي إنما يدعو إلى حاجته ومصلحته، لا إلى حاجة الداعي، فكأنه يقول: الحاجة لك، وأنت المتزكي، وأنا الدليل لك، والمرشد لك إلى أعظم مصالحك ... (1) فسَّر السلف الآية بأنها العصا واليد، وفي هذا إشارة إلى أنَّ لفظَ الآية في الآية يرادَ به جنسها، لا أنها آية واحدة. (2) وقع خلافٌ بين السلف في الآخرة والأولى، وسببه أنه وصفٌ لموصوف محذوف، فقال كل منهم ما يناسب هذا الموصوف من الأوصاف على سبيل التواطؤ، وكل الأقوال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 26 - قولُه تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى}؛ أي: إنَّ في ما حَدَثَ لفرعونَ موعظةً لمن يتَّعِظ ويخافُ عقابَ الله (1). 27 - قولُه تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا} يقول تعالى للمكذِّبين بالبعثِ القائلينَ: {أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً}: أأنتم أيها الناسُ أصعبُ في الإيجاد، أم إيجادُ السماء وابتداعها أصعب؟ ولا شك أنَّ خلقَ السماء أصعب، وفي هذا دلالةٌ على وقوعِ البعثِ الذي أنكروه. ثم بيَّن كيفيةَ خلقِهِ للسماء بجُمَلٍ متعاقِبة، فقال: {بَنَاهَا}؛ أي: شيَّدَها. 28 - قولُه تعالى: {رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} بيَّن كيف بِناؤها بقوله: {رَفَعَ سَمْكَهَا}؛ أي جعل ارتفاعَها ارتفاعاً عالياً في البناء، معتدلَةَ الأرجاء، لا فُطور فيها، ولا تفاوت. 29 - قولُه تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا}؛ أي: جعلَ ليلَ السماءِ   = محتَمَلة، وأقوالهم كالآتي: الأول: آخر كلامه وأوله، وهو قوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} [القصص: 38]، وقوله: {أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى} [النازعات: 24]، وهذا قول ابن عباس من طريق أبي الضحى والعوفي، ومجاهد من طريق عبد الكريم الجزري وابن أبي نجيح، والشعبي من طريق إسماعيل الأسدي وزكريا، والضحَّاك من طريق عبيد. الثاني: الآخرة والدنيا، عن الحسن من طريق عوف وقتادة، وعن قتادة من طريق سعيد. الثالث: الأولى: تكذيبه وعصيانه، والآخرة: قوله: أنا ربكم الأعلى، عن أبي رزين من طريق إسماعيل بن سميع. الرابع: أولُ عملِه وآخرُ عملهِ، وهو قول مجاهد من طريق منصور، والكلبي من طريق معمر. (1) جاءت قصة موسى مع فرعون بين إنكار المنكِرين للبعث وبين أدلته التي تبدأ بقوله تعالى: {أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا}، وفيها إشارة إلى تهديد هؤلاء المنكِرين بأن الله قد عذَّب من هو أشد منهم قوة، وأنهم لا يُعجزونه إن لم يؤمنوا بما جاء به نبيُّه أن يقع بهم ما وقع بفرعون، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 مظلماً، وأظهرَ ضُحاها بنور الشمس (1). 30 - قولُه تعالى: {وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا}؛ أي: بسَطَ الأرضَ (2) بعد خلقِ السماء وإغطاشِ ليلِها وإخراجِ ضُحاها (3). 31 - قولُه تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا}؛ أي: أظهرَ من الأرضِ ماءها وكلأها من النبات (4).   (1) لمَّا كان طلوعُ الشمس وغروبها ينتجُ عنهما ظلمة الليل وضَوء الضُّحى، والشمس في السماء، أضاف ظلمة الليل وضَوء الضحى إليها. هذا من قول الطبري في تفسيره. (2) ورد التفسير بذلك عن: قتادة من طريق سعيد، والسدي من طريق أبي حمزة، وسفيان من طريق عبد الرحمن. وعبَّر ابن زيد عن ذلك بقوله: «{دَحَاهَا} حرثها وشقَّها، وقال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 31]، وقرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا} حتى بلغ: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عبس: 29 - 31]، وقال: حين شقَّها أثبت هذا منه، وقرأ: {وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ} [الطارق: 12]». فجعل الدَّحو مفسَّراً بما بعدها، وكذا ورد عن ابن عباس. وهذا من تمام الدَّحْوِ لا من تفسيره على لفظه، والله أعلم. (3) أشكل على بعض العلماء هذ النظم في سياق خلق السماء والأرض، ذلك أنَّ الله ذكرَ في أكثرَ من موضعٍ خلقَ الأرض قبل خلق السماء؛ مثل قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ}، وقال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ *وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ} [فصلت: 9 - 12]. والجواب الصحيح في ذلك ما ذهب إليه حَبْرُ الأمة ابن عباس، وفَحْوَاه: أنَّ الله خلق الأرض في يومين غير مَدْحُوَّةً، ثم استوى إلى السماء فخلقها، ثم دحا الأرض، فالخلق غير الدَّحو الذي تتحدث عنه آية النازعات. انظر: (تفسير الطبري، وفتح الباري، سورة فصِّلت من كتاب التفسير)، وانظر: (تأويل مشكل القرآن: 67، وتهذيب اللغة: 2: 243). وقد جعل مجاهد والسدِّي المعنى: والأرض مع ذلك دحاها، وهذا يبين أن الإشكال قد ورد عليهما، فخلصا منه بهذا التأويل، وهو ضعيف؛ لأن دلالة الآية واضحة على قول ابن عباس، ولا تحتاج إلى تأويل «بعد» بمعنى «مع»، وبقاء اللفظ على معناه، مع صحة تأويل الآية، أَوْلى من جعله بمعنى لفظٍ آخر يُحمل عليه تأويل الآية. وقد ذكر بعض اللغويين أن «بعد» بمعنى «قبل»، وهذا لتخريج الإشكال الوارد على الآية، ويقال فيه ما قيل في القول الذي قبله. (4) هذا الإخراج من توابع دَحْوِ الأرض، والآية تُثبت أن الماء الذي في الأرض أصله من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 32 - قولُه تعالى: {وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا}؛ أي: ثبَّتَ الجبالَ في الأرض، فهي مثبِّتةٌ للأرض، والأرض مثبتة لها (1). 33 - قولُه تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}؛ أي: ما ذكرَهُ من خلقِ السماء ودَحْوِ الأرض وإرساءِ الجبالِ منفعةٌ لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامُكم مُدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع. 34 - قولُه تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى}؛ أي: إذا جاءت الساعة (2) التي تَطُمُّ ـ أي: تغمُر ـ كل هائلةٍ من الأمور فتغمُرُها بعظيم هَوْلِها، حتى لا يوجد أكبر منها، عرفوا سوءَ عاقبتهم وتكذيبهم بالبعث (3). 35 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ مَا سَعَى}؛ أي: إذا جاءت   = الأرض؛ لقوله: {مِنْهَا}، والمرعى في القرآن: مكان الكلأ والعُشب الذي تأكله البهائم، وقد ناسب ذكره هنا، لقوله بعد ذلك: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}، وهو في النهاية يرجِع إليهم؛ لأن الأنعام من متاعهم، غير أن في ذكر الأنعام هنا إشارة إلى أن الأنعام تشاركهم في التمتُّع في الأرض، وأن عليهم زيادةً في ذلك، وهو الاعتبارُ والاتِّعاظُ بما أنعم الله عليهم به، لكيلا يكونوا كالأنعام أو أضل سبيلاً؛ كما قال تعالى: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} [طه: 54]، والله أعلم. (1) تُثبت هذه الآية أن الجبال مُرساة، كما ورد في الآيات الأخرى أنها مُرْسيةٌ للأرض، وهذا يعني أن الجبال تثبت الأرض، كما أن الجبال ثابتة ـ أي: مُرْسَاة ـ في الأرض، فلو قُلِعَت من مكانها لما استقرت الأرض. والله أعلم. (2) قال ابن عباس من طريق ابن أبي طلحة ـ في الطامَّة ـ: من أسماء القيامة، عظَّمَه الله، وحذَّره عباده. (3) هذا جواب إذا، وهو مُضمَر، وذكر الطبري عن القاسم بن الوليد الكوفي القاضي (ت: 141) في قوله: {فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى}، قال: «سيق أهل الجنة إلى الجنة، وأهل النار إلى النار»، وتفسيره هذا يُشعِر بأنه جواب إذا، ويؤخذ منه أن الجوابَ يقدَّر بما يناسب السياق، والله أعلم. وذكر في جوابِ إذا قولٌ آخَر، وهو مبني على قوله: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى} [النازعات: 37]، وما بعدها، والتقدير: إذا جاءت الطامَّة الكبرى، كانت أحوالُ الطاغين كذا، وأحوالُ المتقينَ كذا، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الطامَّة، كان من الإنسان المؤمنِ والكافرِ تذكُّر ما عمله في حياته من خيرٍ وشر (1). 36 - قولُه تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى}؛ أي: جيء بجهنم فأُظهرت، ليراها من يُبصر في هذا اليوم، كما ورد في حديث ابن مسعود: يُؤتى بجهنم يومئذ، لها سبعونَ ألفَ زِمام، مع كل زِمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها (2). 37 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى}: تفصيلٌ في حال الفريقين من أهل السعي من الناس، فبدأ بالذي تجاوزَ الحدَّ في أعماله، وهو المكذِّبُ بالبعثِ؛ لأن السورة في النعي عليه، وإثباتِ ما أنكره. 38 - قولُه تعالى: {وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا}؛ أي: قدَّمَ الحياةَ الدنيا بما فيها من الملذَّات الزائلةِ على نعيمِ الآخرة. 39 - قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَاوَى}؛ أي: مآلُ هذا المكذِّبِ بالبعثِ ومسكنُه النارُ التي قد تجحَّمَت من شدَّة الإيقاد. 40 - قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى}، هذا الفريق الثاني، وهو من امتلأ قلبه بالخوف من قيامه أمامَ ربِّه، وكَفَّ نفسَه عن ما ترغَبه من المعاصي (3). 41 - قولُه تعالى: {فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَاوَى} هذا جوابُ أمَّا، والمعنى: أن الجنة هي مرجِعُ ومستقَر من خاف مقام ربه، ونهى النفس عن الهوى.   (1) غَلَبَ استخدامُ لفظ السعي في القرآن على ما يعمله الإنسان من خير أو شر. (2) رواه مسلم، وقد ورد هذ المعنى في قوله تعالى: {وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ} [الشعراء: 91]، وقوله: {وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} [الفجر: 23]، ويلاحظ في هذه الأفعال أنها جاءت على صيغة المفعول دلالة على الاهتمام بالحدَث دون فاعلِه، كما يلاحظُ أنَّ الآية ذكرت مجيءَ النار دونَ الجنة؛ لأن المقام مع المكذِّبين بالبعث، فناسب ذلك ذكرها تهديداً، والله أعلم. (3) غَلَبَ اسم الهوى على ما هو مذموم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 42 - قولُه تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا}؛ أي: يسألُك المكذِّبونَ بالبعث متى تقع الساعة؟. 43 - قولُه تعالى: {فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا}؛ في أي شيء أنت من ذِكْرِ الساعة والبحثِ عن وقت وقوعها؟؛ أي ليس هذا من شأنِك، بل شأنُكَ الإعداد لها، كما قال صلّى الله عليه وسلّم للسائل عنها: ماذا أعددتَ لها. 44 - قولُه تعالى: {إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا}؛ أي: إلى ربِّك مرجع علمِ وقوعِها، وعلم ما فيها. 45 - قولُه تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا}: هذا بيانٌ لمَهَمَّة الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم، وهي تخويفُ الناس وتحذيرُهم من الساعة وأهوالها، وخصَّ الخائفينَ منها بالذِّكر لأنهم المنتفعونَ بها. 46 - قولُه تعالى: {كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا}؛ أي: كأنَّ هؤلاء المكذبينَ بالبعث يوم يُعايِنون الساعةَ بأبصارهم، لم يمكثوا في هذه الدنيا إلا زمناً يسيراً، لا يتجاوز قَدْرُه آخرَ النهارِ، أو أوَّله، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 سورة عبس آياتها:42 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 سورة عبس بسم الله الرحمن الرحيم عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32) فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 سورةُ عَبَسَ نَزَلَتْ سورةُ عَبَسَ بِشأنِ عبد الله بن أمِّ مكتوم، قالت عائشة: أتى إلى رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فجعلَ يقول: أَرْشِدْني، وعندَه من عُظماء المشركين. قالت: فجعلَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُعْرِضُ عنه، ويُقْبِلُ على الآخر، ويقول: أترى بما أقولُه بأساً؟ فيقول: لا، ففي هذا أُنزلت: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}. 1 - 2 - قولُه تعالى: {عَبَسَ وَتَوَلَّى *أَنْ جَاءَهُ الأَعْمَى}؛ أي: قَطَّبَ وجهَه وكَلَحَ؛ لأجل أن جاءه الأعمى يسترشِدُ عن الدِّين، وأعرضَ وانشغلَ عنه بالغني الكافر رجاءَ أن يُسلم (1). 3 - قولُه تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى}؛ أي: وما يُعْلِمُكَ، لعلَّ هذا الأعمى الذي عَبسْتَ في وجهه يتطهَّر من ذنوبه بموعظتِك، فيُسْلِم؟ (2). 4 - قولُه تعالى: {أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى}؛ أي: فإن لم يقع منه تزكٍّ، حصلَ الاتِّعاظ بالموعظة، فتنفعَه ولو بعد حين؟ (3).   (1) جاء الخطابُ على صيغة الغيبة تلطّفاً في عِتاب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وجاء ذكر عبد الله بن أمِّ مكتومٍ بوصفه إشعاراً بعُذره في عدم معرفته بانشغال الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وترقيقاً لقلب النبي صلّى الله عليه وسلّم لأجل علَّته، وهي العَمَى، حيث يحتاج من الرعاية ما لا يحتاجها غيره، والله أعلم. (2) عبَّر ابن زيد عن معنى «يزَّكى» فقال: يُسلم، وهذا فيه إشارة إلى أن ابن أم مكتوم لم يسلم بعد، وقد سبق بيان كليَّة تفسيريَّة لهذا اللفظِ عند ابن زيد، وهي أن التزكِّي في القرآن بمعنى الإسلام. (3) في ذكر التزكي وبعده التذكر، وهو حصول أثر التذكير احتمالان: الأول: أن يكون الأمر من قَبيل التَّخْلِية والتَّحْلِية، فالتزكي: تطهير، وهذا جانب التخلية، وحصول التذكر في القلب تحلية. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 5 - 6 - قولُه تعالى: {أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى *فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى}؛ أمَّا من عدَّ نفسَه غنيًّا عنكَ، وعن الإيمانِ بكَ (1)، فأنت تتعرَّضُ له. 7 - قولُه تعالى: {وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى}؛ أيْ: أيُّ شيءٍ سيلحقُكَ إذا لم يُسلم هذا الكافر؟ (2). 8 - 10 - قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى *وَهُوَ يَخْشَى *فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى}؛ أي: أمَّا هذا الأعمى الذي أتى يحثُّ الخُطى إليك بنفسه، وقد وَقَرَ في قلبه الخوف من الله، فأنت تنشغل عنه بهذا الكافرِ المظنونِ إسلامُه. 11 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ}؛ أي: ما الأمرُ كما فعلتَ يا محمد ـ (ص) ـ من أن تعبسَ في وجه من جاءك يسعى. إنَّ هذه الآيات موعظةٌ وتذكرةٌ لمن أرادَ أن يتذكَّر. 12 - قولُه تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ}؛ أي: فمن أرادَ من عبادِ الله ـ صادقاً في إرادته ـ أن يتَّعِظَ بالقرآن وآياتِه حصلَ له الاتِّعاظ (3).   = الثاني: أن يكون التزكِّي: كمال حصول الموعظة في القلب، والتذكر: ما يحصل في القلب من يسيرها، ويكون المعنى: إن لم يقع منه كمالُ تَزَكٍّ، وقع منه يسيرٌ ينفعه في المستقبل، والله أعلم. (1) يذكر بعض المفسِّرين أن معنى استغنى: استغنى بماله، ولا يمنع أن يكون هذا الكافر غنياً بماله، غير أن المناسبَ لسبب النزول أن يكون استغنى عن الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. (2) يذكر بعض المفسِّرين في «ما» احتمالاً آخرَ، وهو أن تكونَ نافية، ويكون المعنى: لا شيءَ عليكَ إذا لم يُسلم هذا الكافر، والأوَّلُ أنسبُ لسياق العتاب، والله أعلم. وفي كلا الاحتمالين إشارة لمَهَمَّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهي أنَّ عليه البلاغ، أما الهداية فمن الله، كما قال تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة: 272]، وقال: {وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ} [النور: 54]. (3) أعاد بعض المفسِّرين الضميرَ في «ذكره» إلى الله، والمعنى: فمن شاء من العباد ذكرَ الله. غير أن سياق الآيات يدل على الأوَّل؛ لأن الحديثَ عن القرآن قبل هذه الآية وبعدها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 13 - قولُه تعالى: {فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ}؛ أي: هذا القرآن مكتوبٌ في صُحُفِ الملائكة، وهي صُحُفٌ شريفةٌ رفيعةُ القدرِ (1). 14 - قولُه تعالى: {مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ}؛ أي: هي في مكانٍ عالٍ وقَدْرٍ رفيعٍ؛ لأنها بأيدي الملائكة، ولذا فإنَّ الدَّنَسَ لا يقربها. 15 - قولُه تعالى: {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ}؛ أي: هذه الصحف التي كُتب بها القرآن بأيدي رُسل الله من الملائكة الذين يؤدُّون عنه وحيَه إلى عباده (2). 16 - قولُه تعالى: {كِرَامٍ بَرَرَةٍ}؛ أي: هؤلاء السَّفَرَةُ من الملائكة في مَرْتَبَةٍ شريفةٍ عند الله، حيث خصَّهم بِوَحْيِه (3)، وهم كثيرو الخير، كثيرو   (1) وقع خلافٌ في المراد بالصُّحُف، وهو مبني على الاختلاف في المراد بالسَّفَرة، على قولين: الأول: أن السَّفَرة الملائكة، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وابن زيد، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد والضحَّاك. الثاني: أن السَّفَرة القُرَّاء، قاله قتادة من طريق سعيد، وذكر ابن كثير عن وهب بن منبِّه، قال: هم أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم. والقولُ الأول أرجح؛ لدلالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الماهرُ بالقرآن مع السَّفَرَةِ الكرامِ البَررة ... » فوصفَهم بما ورد في هذه الآيات، وحملُه عليه أولى، ثم إن وصفَ المؤمنين في القرآن جاء على صيغة «الأبرار»، لا البرَرَة، مما يُشعر أن المعني بهذا الوصف الملائكة. (2) عبَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وقتادة من طريق معمر، عن السَّفَرة بأنهم الكَتَبَة، كما عبَّر قتادة من طريق سعيد بأنهم القراء، وتأويل السَّفرة بالرسل يشمل هذه المعاني، قال الإمام الطبري: «وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: هم الملائكة الذين يسفرون بين الله ورُسُلِه بالوحي ... وإذا وُجِّهَ التأويلُ إلى ما قلنا، احتمل الوجه الذي قاله القائلون: هم الكَتبة، والذي قاله القائلون: هم القُرَّاء؛ لأن الملائكة هي التي تقرأ الكتب، وتسفر بين الله وبين رُسُلِه». (3) الكريم: هو الشريف في جنسه، وقد وصف الله الملائكة بهذا الوصف في قوله تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ} [الانفطار: 11]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 الطاعة: {لاَ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} (1) [التحريم: 6]. 17 - قولُه تعالى: {قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ}: هذا دعاءٌ على الإنسانِ الكافر (2) بالقتل (3)، لشدَّةِ كُفره بالله (4)، ومن لازم ذلك لعنُه وطردُه من رحمة الله. 18 - قولُه تعالى: {مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ}: استفهامٌ على سبيلِ التقريرِ، والمعنى: ما أصلُ خلقِ هذا الإنسان حتى يستغني عن الإيمان بربِّه ويكفُر؟. 19 - قولُه تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}: بيَّن اللَّهُ في هذا أصلَ الإنسانِ، وأنَّ منشأَهُ من ماء قليلٍ هو أصلُ هذا التناسلِ البشري، وأنه قدَّره بعد ذلك أطواراً في الخلق، حتى صار جنيناً في بطن أمِّه. 20 - قولُه تعالى: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}؛ أي: ثُمَّ بعدَ هذه الأطوارِ التي عاشَها في بطنِ أمه، سهَّلَ اللَّهُ له الخروجَ من هذا البطن (5).   (1) قال ابن كثير: «ومن هنا ينبغي لحاملِ القرآنِ أن يكونَ في أفعالِه وأقوالِه على السَّدَادِ والرَّشاد». (2) قال مجاهد من طريق الأعمش: «ما كان في القرآن (قُتل الإنسان) أو فُعل بالإنسان، فإنما عنى به الكافر». وقال الطاهر بن عاشور (30:326): «الغالب في إطلاق لفظ الإنسان، في القرآن النازل بمكة؛ كقوله: {إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} [القيامة: 3] ... ». (3) عبَّر المفسِّرون عن معنى «قُتِلَ»: لُعِنَ، وهو تفسير بالمعنى؛ لأن من دعا عليه الله بالقتل، فقد طرَدَه من رحمته، وهو معنى اللعن. (انظر: تفسير ابن عطية لقوله: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ} [البروج: 4])، ويَحْسُنُ الوقفُ في هذه الجملة على «الإنسان»، والاستئناف بما بعدها، لبيان المعنى فيهما. (4) هذا التفسير على أن «ما» تَعَجُّبِيَّة، وقد جعلها بعض المفسِّرين استفهامية، ويكون تقديرُ الكلامِ: أيُّ شيء جعله يكفر؟، والتعجُّب ـ فيما يظهر ـ أبلغ في هذا المقام، وهو أنسب في بيان شدَّة كفر هذا الكافر، والله أعلم. ويكون الخلاف من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه: الاشتراك اللغوي، والله أعلم. (5) السبيلُ في اللغة: الطريق، وقد اختلف السلف في المراد بهذا السبيلِ في الآية، على قولين: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 21 - قولُه تعالى: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}؛ أي: حكمَ اللَّهُ عليه بالموتِ بعد أن عاشَ في هذه الحياة، وأمرَ بدفنه في باطن الأرض (1). 22 - قولُه تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ}؛ أي: بعد أن يموتَ هذا الإنسان، فإن الله سيبعثُه إذا أرادَ ذلك، وهو كائنٌ يوم يُنفخُ في الصُّور (2).   = الأول: السبيل: طريق خروجه من بطن أمه، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وأبي صالح من طريق إسماعيل، والسدي من طريق سفيان، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وهذا القول يناسب السياق. الثاني: السبيل: طريق الحق والباطل، بيَّناه وأعلمناه، وهو قول مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وجعل الآية نظير قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3]، وقول الحسن من طريق قتادة، وعبَّر عنه ابن زيد، بقوله: «والسبيل: سبيل الإسلام»، وهذا القول محمول على نظير له في القرآن. ورجَّح الطبري القول الأول بدلالة السياق، فقال: «وأوْلى التأويلين عندي بالصواب قول من قال: ثم الطريق، وهو خروجه من بطن أمه، يسَّره. وإنما قلنا ذلك أَوْلى التأويلين بالصواب؛ لأنه أشبههما بظاهر الآية، وذلك أن الخبر قبلَها وبعدها عن صفتِه خلقَه، وتدبيرِه جسمَه، وتصريفه إياه في الأحوال، فالأوْلى أن يكون أوسط ذلك نظير ما قبله وما بعده». ويكون هذا الاختلافُ من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه التواطؤ في لفظ السبيل، والله أعلم. (1) يسمَّى المباشر للدفن قابر، والآمر به مُقبر؛ فتقول: أقبره الله، وقَبَرَه فُلان، كما قال الأعشى: لو أُسْنِدَ ميتٌ إلى صَدْرِهَا ... لَعَاشَ وَلَمْ يُنْقَلْ إلى قَابِر أي: إلى دافن يدفنه في قبره. (2) يلاحظ في الآيات السابقة تكرُّر العطف بـ «الفاء»، و «ثم»، أما الأُولى: فللدلالة على تعاقُبِ الحَدَثَيْن، وسُرعة وجودِ الآخِر بعد الأول. وأما الثاني: فللدلالة على تراخٍ وبُعْدٍ بين الحدَثَين؛ فقوله تعالى: {مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ}، إشارة إلى أنَّ الأطوارَ المقدَّرة تعقُبُ حالَ النطفة، ثم قال: {ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ}، وهذا إشارة إلى طول الزمان الذي يقرُّ فيه الجنين في البطن بعد التقدير، ثم قال: {ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ}، وهذا يدلُّ على تراخٍ بين خروجه من بطن أمه إلى موته، وهي فترة الحياة التي يعيشها، أما الفترة التي بين موتهِ ودفنِه فإنها يسيرة، ولذا جاء التعقيب بالفاء، ولمَّا كان الزمن بين الموت والبعث طويلاً، جاء التعقيب بحرف العطف «ثم»، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 23 - قولُه تعالى: {كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ}؛ أي: ليس الأمرُ على ما يظنُّه من اشتدَّ كُفرهُ من أنه أدَّى حقَّ الله، بل إنه لم يؤدِّ أوامرَ الله التي أنزلها على رسوله صلّى الله عليه وسلّم (1). 24 - قولُه تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}؛ أي: فَلْيَعْتَبر هذا الكافر (2) مُستعيناً بما وهبَه الله من النظر بعَيْنَيْهِ إلى الأحوال التي يمرُّ بها طعامه، حتى يصل إليه، فإنه لو اعتبرَ لتَرَكَ كُفره (3). 25 - قولُه تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا}: هذا البدءُ بذكر أحوالِ الطعام، والمعنى: فلينظُر إلى إلقائِنا المطرَ من السماء إلى الأرض بغزارة وقوة (4). 26 - قولُه تعالى: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا}؛ أي: لما أنزلنا هذا المطر على الأرضِ واستقرَّ بها مدَّةً، أنبتَ النباتَ، ففتقَ هذا النباتُ الأرضَ وخرجَ منها. 27 - 29 - قولُه تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا *وَعِنَبًا وَقَضْبًا *وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً}؛ أي: فأنبتنا في هذه الأرض المتشقِّقة: الحبوبَ، وكُرومَ العِنَبِ، والعَلَف (5)، والزيتون، والنخيل، وكلها كانت معروفة لهم يستفيدونَ من شجرها وثمرها.   (1) قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «لا يقضي أحدٌ أبداً ما افتُرض عليه». وهو بهذا يجعل الضمير في «يقض» عامًّا للكافر والمؤمن، ويكون المؤمن على قوله هذا داخلاً في معنى هذه الآية، وهذا القول صحيح في التفسير؛ لأن الآية ـ وإن كانت نازلة في الكافر ـ تَصْدُقُ على المؤمن قياساً، والله أعلم. (2) الخطابُ هنا للكافر، وهو وإن كان نازلاً فيه أولاً، فإنه لا يعني أنه مختصٌ به، بل يدخلُ معه غيره؛ لأن الاعتبارَ مطلوبٌ منه ومن المؤمن، والله أعلم. (3) قال مجاهد: «قوله: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ}: آية لهم». (4) قُرِئَ: «إنا» على الاستئناف؛ أي أنه استأنف الخبر مبيِّناً الأحوالَ التي يمرُّ بها الطعام، والقراءة الأخرى «أنا» على البدل، وهو بدل اشتمال، وهذا يعني أن الأحوال المذكورةَ التي يمر بها الطعام، هي محلُّ النظر والاعتبار، والله أعلم. (5) وردت عبارة السلف عن القضب كالآتي: عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 30 - قولُه تعالى: {وَحَدَائِقَ غُلْبًا}؛ أي: وبساتينَ قد أحيطَ عليها بسُور من شجر أو حَجَر أو غيره، وهذه البساتينُ شجرُها عظيمُ الجذعِ، ملتفٌّ بعضُها على بعضٍ لطولها (1). 31 - قولُه تعالى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا}؛ أي: وأنبتنا بهذا الماء المنصبِّ:   = الفَصْفَصَة، وعن قتادة من طريق سعيد: الفَصَافِص، وعن الضحاك من طريق عبيد: الرَّطْبَةُ، وعن الحسن من طريق يونس: العَلَفُ. وقال ابن جرير: يعني بالقَضْب: الرَّطْبَةُ، وأهل مكة يسمون القَتَّ: القَضْبَ. وهذا يعني أن القضْبَ له أكثر من مسمَّى، فعبَّر عنه كل واحد منهم بأحد أسمائه، وهي: العَلَفُ، والرَّطْبَةُ، والقَتُّ، وهو البَرْسِيمُ كذلك. وإن حُمل تفسير السلف على المثال لا التعيين في هذا الموضع، فإن القضبَ يطلق على ما يُقْضَبُ من النبات؛ أي: يُقطع ثم ينمو، ويشمل ذلك أصنافاً كثيرة تشبه العلف في هذا الوصف؛ كالجرجير والكرَّاث والنعناع، وغيرها، والله أعلم. (1) قال أبو جعفر الطبري: «وقوله: {غُلْبًا}؛ يعني: غلاظاً، ويعني بقوله: {غُلْبًا}: أشجاراً في بساتين غِلاظ ... وبنحو الذي قلنا قال أهل التأويل، على اختلافٍ منهم في البيان عنه». ثم ذكر الرواية عن السلف كالآتي: 1 - ما التفَّ واجتمع، عن ابن عباس من طريق كُلَيْب بن شهاب. 2 - الطَّيِّبة، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. 3 - نبت الشجر كله، عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، ومن طريق عكرمة: الشجر يستظل به في الجنة. 4 - الطِّوال، عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. 5 - النخل الكرام، عن قتادة من طريق سعيد ومعمر. 6 - العِظام، عن ابن زيد: عظام، النخل العظيمة الجذع، وعن عكرمة: عظام الأوساط. وإذا تأمَّلْتَ هذه الأقوال وجدتها تأتلفُ ولا تختلِف كما قال ابن جرير، فالغُلب: العظيمة الجذع، وهو تعبيرُ عكرمة، ومثَّلَ له ابن زيد بالنخل، وإذا كانت عظيمة الجذع، فإنها ستلتف وتجتمع كما قال ابن عباس، وهي نبت الشجر كله، وهو الشجر الطويل كما قال ابن عباس، فنبَّه على أن الشجر يصلح أن يكون بهذه الصفة، والعادة جرت على طيب شجر هذه الحدائق، وهو تفسير مجاهد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فاكهةً من ثمار هذه الأشجار يتفكَّهُ الناس بأكلِها، وعشباً تأكله أنعامُهم في المرعى (1). 32 - قولُه تعالى: {مَتَاعًا لَكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ}؛ أي: جعلنا هذا الطعامَ منفعةً لكم، تنتفعونَ به أنتم وأنعامكم مدةً من الزمان، ثم ينتهي هذا الانتفاع.   (1) جعل السلف الفاكهة للناس، فقال الحسن من طريق مبارك: الفاكهة: ما يأكل ابن آدم، وقال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: ما أكلَ الناس، وقال قتادة من طريق سعيد: أما الفاكهة فلكم، وقال ابن زيد: الفاكهة لنا. أما الأبّ، فالجمهور على أنه الكلأ والعشب الذي للحيوان، وقد عبَّر السلف عن ذلك بقولهم: الأبُّ: ما أنبتت الأرض مما لا يأكل الناس، أو الكلأ والمرعى كله، ورَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق كليب بن شهاب، وعن سعيد بن جبير، وعن العوفي، وعن مجاهد من طريق الأعمش أو غيره وسفيان وابن أبي نجيح، والحسن من طريق مبارك ومعمر ويونس، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. وعبر أبو رزين، فقال: الأبُّ: النبات. وهذا أعمُّ من الأقوال التي ذكرت. ووردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، أنه الثمار الرطبة، وهو غريب. ونُسب للضحاك أنه التِّبن (الدر المنثور)، ويجوز أن يعودَ إلى معنى النبات أو العشب على أنه يَبِيسُهما، فيكون فسِّر بمآل الأبِّ لا عينهِ، والله أعلم. وأصل الأبِّ في اللغة دالٌّ على العَوْدِ؛ أي: أنه الشيء الذي يذهب ثم يعود؛ كقولهم: «أبَّ إلى وطنه»؛ أي: عاد إليه، وهذا المعنى متحقق فيما قاله المفسِّرون في معنى الأبِّ من أنه: النبات، أو العشب، أو الثمار الرطبة، أو التبن؛ لأنها تجيء بعد ذَهاب، غير أن الأوَّل أَوْلى؛ لأنه قول الجمهور، وللإشارة إليه بقوله: {وَلأَنْعَامِكُمْ} على ما فسَّره أصحاب هذا القول، والله أعلم. أما ما ورد عن صدِّيق الأمة رضي الله عنه من أنه سُئل عن الأبِّ، فقال: «أيُّ سماء تُظِلُّني، وأي أرضٍ تُقِلُّني إن قلتُ في كتاب الله ما لا أعلم»، فهو منقطع الإسناد. وما صحَّ عن عمر أنه قرأ هذه الآية، فقال: «قد عرفنا الفاكهة، فما الأبُّ؟ قال: لعمرك يا ابن الخطاب، إنَّ هذا لهو التكلُّف»، وله روايات أخرى. فإنَّ فيه أن عمر لم يعرف معنى الأبِّ، ولعلها ليست من لغة قريش، فجهِلَها. وفيه أنه جعل طلب معرفة ذلك من التكلف، وفي هذا إشكال، وهو هل تطلُّب مثل هذا يدخل في التكلُّف؟! الله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 33 - قولُه تعالى: {فَإِذَا جَاءَتِ الصَّآخَّةُ}؛ أي: تنتفعونَ بهذا المتاعِ الذي سُرعان ما ينتهي، وذلك بمجيء تلك الصَّيحة العظيمة التي تَصُكُّ الآذان بشدَّة صوتها (1). 34 - 36 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ *وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ *وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ}؛ أي: إذا جاءت تلك الصيحة وقعَ هروبُ الإنسان من هؤلاء القرابة، وهم الإخوة والأبوان والزوجة والأبناء. 37 - قولُه تعالى: {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ}؛ أي: يهربُ هؤلاء من بعضهم لأنَّ لكلٍّ منهم حالَه التي تشغله عن غيره (2). 38 - 39 - قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ *ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ}؛ أي: في ذلك اليوم ينقسمُ الناس إلى فريقين: فريقٌ قد أضاء وجهُهُ واستنار، فهو منبسطٌ منشرحٌ فَرِحٌ بسبب ما سيلاقيه من النعيم. 40 - 42 - قولُه تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ *تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ *أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ}؛ أي: وفريقٌ قد تغبَّرت وجوهُهُم، وعَلاها السوادُ والظُّلمةُ بسبب ما هي صائرةٌ إليه من العذاب، وهي وجوهُ الذين ستروا فِطَرَهُم بالكُفر، وشقُّوا رِبْقَةَ الإيمانِ بأعمال الفجور، فجمعوا بين فسادِ الاعتقادِ والعمل، والله أعلم.   (1) ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة أن الصاخَّة من أسماء يوم القيامة. (2) استشهد النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآية لبيان انشغال كل واحد بنفسه في هذا اليوم، فقد وردَ في الحديث أنه قال: «يُحشر الناس حُفاةً عُراةً غُرْلاً، فقالت عائشة: أيُبصِرُ بعضُنا بعضاً؟! فقال: يا عائشة: {لِكُلِّ امْرِىءٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَانٌ يُغْنِيهِ}». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 سورة التكوير آياتها:29 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 سورة التكوير بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 سورةُ التَّكْوِير قال صلّى الله عليه وسلّم: من سرَّه أن ينظرَ إلى يوم القيامة كأنه رأيَ عَيْنٍ، فليقرأ: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}، و {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. وقد وردَ عن أُبي بن كعبٍ رضي الله عنه أنَّ الآيات الستَّ الأُولى تكونُ في آخرِ الزمان والناس ينظرونَ إليها، والستَّ الأخيرةَ تكون في يوم القيامة. 1 - قولُه تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ}؛ أي: إذا جُمع جِرمُ الشمس، وذهب ضوؤها، فأُلقيت في النار (1).   (1) عبَّر السلف عن التكوير بالعبارات الآتية: 1 - ذهبت، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وقال مجاهد من طريق أبي يحيى: اضمحلَّت وذهبت، وقال سعيد بن جبير من طريق جعفر: غُوِّرت. 2 - ذهب ضوؤها، وهو قول أبي بن كعب من طريق أبي العالية، وقتادة من طريق شعبة، وقال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: أظلمت. 3 - رُمي بها، وهو قول الربيع بن خثيم، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وفي رواية أخرى من طريق إسماعيل: نُكِّسَت. وهذه الأقوال ترجع إلى معنيين: ذهابها بذاتها، يلحقه ذهاب ضوئها، ورميها، وعلى هذه التفاسير يكون التكوير محتملاً لهذين الأمرين، ويربط بينهما أنهما من الأحوال التي تَمُرُّ بها الشمس في ذلك اليوم، فجاءت هذه اللفظةُ الواحدةُ دالةٌ على هذه المعاني، والله أعلم. قال ابن جرير الطبري: «والصواب من القول عندنا في ذلك أن يقال: «كُوِّرت» كما قال الله جل ثناؤه، والتكوير في كلام العرب: جمع بعض الشيء إلى بعض، وذلك كتكوير العمامة، وهو لَفُّهَا على الرأس، وكتكوير الكَارَةِ، وهي جَمْعُ الثيابِ بعضها إلى = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 2 - قولُه تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ}؛ أي: وإذا نجومُ السماءِ وقعت وانتثَرت، فتغيَّرت وطُمسَ ضوؤها (1). 3 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ}؛ أي: وإذا هذه الجبالُ العظيمةُ قد أمر الله بتحريكِها من مكانها، فسَارت (2).   = بعض ولفِّها، وكذلك قوله: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إنما معناه: جُمِعَ بعضُها إلى بعض، ثم لُفَّت، فرُمي بها، وإذا فُعل ذلك بها ذهب ضوؤها، فعلى التأويل الذي تأوَّلناه وبينَّاه لكِلا القولين اللذَينِ ذكرتُ عن أهل التأويل وجه صحيح، وذلك أنها إذا كوِّرت ورُمي بها ذهب ضوؤها». وعلى هذا الترجيح من الطبري يزيد معنى اللفِّ والجمع، ولم أجِدْهُ لأحدٍ من السلف قبل الطبري، وهو مستنبَطٌ من المعنى اللغويِّ للتكوير، كما أنَّ من قال: رُمي بها، فإنه مأخوذٌ من معنًى لغويٍّ آخر في مادة التكوير، تقول: كوَّرتُ الرجلَ؛ أي: طرحتَه في الأرض، وقد ورد في الحديث: «الشمسُ والقمرُ ثورانِ مكوَّران في النار». وهذا يشهد لهذا المعنى التفسيري، ويزيد عليه بيانَ مآلِ الشمس. أمَّا من فسَّرها بذهبت واضمحلَّت فإن ذلك لازمُ لفِّها كما ذكر الطبري، وإذا ذهبت ذهبَ ضوؤها، والله أعلم. (1) ورد في تفسير الانكدار قولان: الأول: تناثرت، وهو قولُ الربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وقتادة من طريق سعيد، وعبارته: «تساقطت وتهافتت»، وابن زيد، وعبارته: «رُمي بها من السماء إلى الأرض». والثاني: تغيَّرت، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. وهذان القولان ليس بينهما تضاد، بل الثاني من لوازِم الأول، والمعنى أنها إذا تساقطت؛ كما قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2]، فإنها تتغير ويذهب ضوؤها؛ كما قال تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} [المرسلات: 8]. وهذان القولانِ مرجِعهما اللغة، فالأولُ جعل اللفظَ من الانكدار، أي الانصباب؛ كما قال العجاج: تقضَّى البازي إذا البازي كسر ... أبصر غربان فضاء فانكدر والمعنى الثاني مأخوذ من الكُدرة، وهي التغيُّر، تقول: كدرت الماء فانكدر؛ أي: تغيَّر بما يكدر صفاءَهُ، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى معنيين غير متضادين، ويجوز أن يرادا في الآية، ويكون سببُ الاختلافِ الاشتراكَ اللغوي في لفظ: انكدرت، والله أعلم. (2) عبَّر مجاهد عن معنى التسيير بقوله: «ذهبت»، وهذا من لوازم تسيير الجبال؛ لأنها إذا سارت فقد ذهبت، والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 4 - قولُه تعالى: {وإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ}؛ أي: وإذا النُّوقُ الحوامِلُ التي بلَغت الشهرَ العاشرَ من حَمْلِها، التي هي أنفسُ أموالهم، قد أهملَها أهلها وتركوها من هَوْلِ الموقف (1). 5 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}؛ أي: وإذا الحيواناتُ البرِّيَّة التي لم تأنسْ بالإنسان جُمِعت معه وزالَ ما بينهما من الاستيحاشِ بسبب هَوْلِ الموقف (2).   = وهذه الآية كقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا}، وجاء الفعلُ على صيغة المفعول للاهتمام بالحَدَثِ، وللدلالة على أن هذا الفعل يكون مبدؤه بفعلِ فاعلٍ فيها، ثم إنها تنفعلُ لهذا الحدَث فتسير؛ كما قال تعالى: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا}، ويظهر أن هذه أولُ حالٍ من الأحوال التي تمرُّ بها الجبال في ذلك اليوم، والله أعلم. (1) كذا قال السلف: أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية، والربيع بن خثيم، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى، والحسن من طريق عوف، وقتادة من طريق معمر، والضحَّاك من طريق عبيد المكتب. (2) اختلف السلف في تفسير عبارة الحشر هنا: 1 - فجعله ابن عباس من طريق عكرمة: الموت، وقال الربيع بن خثيم: أتى عليها أمرُ الله. 2 - وقال أُبيُّ بن كعب من طريق أبي العالية: اختلطت. 3 - وفسَّره قتادة من طريق سعيد بالجمْعِ، قال: «هذه الخلائقُ موافيةٌ يومَ القيامة، فيقضي الله فيها ما يشاء». وهذا تفسيرُ معنى، ولم ينص فيه على مدلول اللفظ مطابَقَةً، لكن يفهم من قوله أن الحشرَ الجمعُ، والله أعلم. وقد رجَّح الإمام ابن جرير قول قتادة وأردفَه بقول ابن عباس فقال: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قولُ من قال: معنى حشرت: جُمعت، فأميتت؛ لأن المعروفَ في كلام العربِ من معنى الحشر: الجمع؛ ومنه قول الله: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} [ص: 19]؛ يعني مجموعة، وقوله: {فَحَشَرَ فَنَادَى} [النازعات: 23]، وإنما يُحمل تأويلُ القرآنِ على الأغلب الظاهر من تأويله، لا على الأَنْكَرِ المجهول». ولعلَّكَ تلاحظُ أنه استشهد لمعنى الجمع، ولم يستشهد لمعنى الموتِ الذي ذكره في أولِ كلامه! وتفسيرُ ابن عباس يظهر منه أن هذه الدلالة اللغوية للحشر مختصَّة بحشر الحيواناتِ في آخر الزمانِ، حيث قال: «حَشْرُ البهائم: موتها، وحَشرُ كل شيء: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 6 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ}؛ أي: وإذا هذه البحارُ امتلأت بالماء، ففاضت به، ثم أُوقِدت، فذهبَ ما فيها من الماء (1).   = الموت، غير الجنِ والإنسِ، فإنهما يوقَفان يوم القيامة». وإن لم تحمله على ذلك، فإنك ستلاحظ أنه أفادَ زيادةً على معنى الجمع؛ أي: نتيجة هذا الجمع ولازمه، وهو مآل هذه الحيوانات بعد هذا الحشر، والله أعلم. أما تفسيرُ أبي بن كعب، فإن لم تحمله على أنه معنًى لغوي آخر للحشر، فإنه من لوازم الحشر؛ أي: أنَّ جمعَ هذه الحيوانات جعلها تختلطُ ببعضها دون خوفٍ أو غيره مما كان من حالها قبل ذلك، والله أعلم. (1) قُرئ حرف «سُجِّرت» بتخفيف الجيم وتشديدها، وفي التشديد مبالغة في السَّجْرِ، وكِلا القراءتين جاءت على صيغة المفعول للاهتمام بالحدث. وقد اختلف السلف في تفسير التَّسْجير في هذه الآية على أقوال: الأول: أُشعلت وأُوقدت، وهذا قول أُبي بن كعب من طريق أبي العالية، وابن عباس من طريق شيخ من بجيلة، وابن زيد، وشمر بن عطية، وسفيان الثوري من طريق ابن مهران، ومن طريق سعيد بن المسيب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «قال علي رضي الله عنه لرجل من اليهود: أين جهنَّم؟ فقال: في البحر، فقال: ما أُراه إلا صادقاً {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]، {وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ} [التكوير: 6] مخفَّفة». الثاني: فاضت، وهو قول الربيع بن خثيم، وقال الكلبي: مُلئت، وجعلها نظير قوله تعالى: {وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ} [الطور: 6]. الثالث: فجِّرت، وهو قول الضحَّاك من طريق عبيد، وكأنه جعلها نظير قوله تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]. الرابع: ذهبَ ماؤها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد، وقال الحسن من طريق أبي رجاء وسليمان بن المعتمر: يبسَت. قال أبو جعفر الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: مُلئت حتى فاضت، فانفجرت وسالت، كما وصفها الله به في الموضع الآخر، فقال: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ} [الانفطار: 3]، والعرب تقول للركِيِّ المملوء: ماء مسجور، ومنه قول لبيد: فتوسطا عرض السري وصدعا مسجورة متجاوراً قلامها ويعني بالمسجورة: المملوءة ماء». والسَّجْرُ في لغة العرب يطلق على معان ثلاثة مما ذكر في التفسير، وهي: الامتلاء، والإيقاد، واليُبس، ومن ثَمَّ فإن الآية تحتمل هذه المعاني الثلاثة التي ذكرها السلف، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 7 - قولُه تعالى (1): {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ}؛ أي: إذا الأشخاصُ الذين يعملونَ أعمالاً متشابهة، يُقْرَنُ بينهم، فيُقرنُ الكافرُ مع الكافرِ، والمؤمنُ مع المؤمنِ، واليهوديُّ مع اليهوديِّ، والنصرانيُّ مع النصراني، وهكذا (2). 8 - 9 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ *بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ}؛ أي: وإذا سألَ اللَّهُ البنتَ المدفونةَ وهي على قيد الحياة: ما الجريمةُ التي فَعلتيها   = ويمكن الجمع بينها على أن هذه من المراحل التي تمرُّ بها البحار في ذلك الزمان، فعبَّر بلفظٍ يدلُّ على هذه المراحل جميعها، والله أعلم. وإذا صحَّ ذلك، فإن الأمرَ يكون بأن تتفجَّر البحارُ ويفيضَ بعضها على بعض، حتى تصير بحراً واحداً ممتلئاً، ثم تُوقدَ بالنار ـ التي ورد في بعض الآثار أنها تحت البحر ـ ثم تَيْبَسَ ويذهبَ ماؤها، والله أعلم. ويظهرُ أن سببَ الاختلاف هنا: الاشتراك اللغوي في لفظ «سُجِّرت»، وهو من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، كما يُلاحَظُ أن بين قولي الامتلاء واليُبس تضاداً، ولكن جاز حمل الآية عليهما لاختلاف الحال والوقت الذي يكون فيه هذان المعنيان، والله أعلم. (1) هذه الآية وما بعدها تكون بعدَ البعثِ كما ذكر أبي بن كعب، وهذا ظاهر من أمر هذه الآياتِ الستِّ القادمة، والله أعلم. (2) اختلف السَّلف في تفسير الآية على قولين: الأول: أُلحِقَ كلُّ إنسانٍ بشكله، وقُرِنَ بين الضُّرَباء والأمثال، وهذا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، قال: هما الرجُلان يعملان العمل، فيدخلان به الجنة، وقال: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] قال: ضُرَباءهم. وقال ابن عباس من طريق العوفي: ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة، وهو قول الحسن من طريق عوف، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والربيع بن خثيم. الثاني: رُدَّتِ الأرواحُ إلى الأجسادِ، فجُعلت لها زوجاً، وهو قول عكرمة من طريق أبي عمرو، والشعبي من طريق داود. والقول الأول هو الراجح، قال الطبري: «وأَوْلى التأويلين في ذلك بالصحَّة، الذي تأوَّلَه عمر بن الخطاب رضي الله عنه للعلَّة التي اعتلَّ بها، وذلك قوله تعالى ذكره: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاَثَةً} [الواقعة: 7]، وقوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وذلك ـ ولا شكَّ ـ الأمثال والأشكال في الخير والشر، وكذلك قوله: {وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] بالقُرناء والأمثال في الخير والشر». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 حتى يدفِنكِ أهلُك، فيقتلونَكِ بهذا الدفن (1)؟، وهذا فيه تبكيتٌ لقاتِلها، وتهويلٌ للموقف الذي يُسأل فيه المجني عليه، فما ظنُّكَ بما يلاقيه الجاني لهذه الجنايةِ البشعة؟. 10 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ}؛ أي: وإذا ما كُتِبَتْ به أعمالُ العبادِ من الصُّحف قد فُتحت، ليقرأَ كلٌّ كتابَ أعمالِه؛ كقوله تعالى: {اقْرَا كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14]. 11 - قولُه تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ}؛ أي: وإذا نُزِعَتِ السماءُ كما يُنزعُ الجلدُ من الذبيحة (2). 12 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ}؛ أي: وإذا نارُ الجحيمِ أُوقِدَت، فزاد حرُّها. 13 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ}؛ أي: وإذا الجنةُ التي أُعِدَّت للمتقين، قُرِّبَت وأُدْنِيَت (3). 14 - قولُه تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ}؛ أي: إذا وَقعت هذه   (1) لا يخفى عليك أيها القارئُ ما تقومُ به الحضارة المعاصِرة من الوَاد، وذلك ما يسمَّى بالإجهاض. (2) قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: جُذِبَت، وهذا من لوازم الكَشْطِ؛ لأنه لا يكون كَشْطٌ إلا بِجَذْبٍ، والله أعلم. وهذه أحدُ الأحوالِ التي تمرُّ بها السماء في يوم القيامة، ومن أحوالها ما ذكرَهُ الله في قوله: {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104]، وقوله: {فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ} [الرحمن: 37]، وقوله: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وغيرها. (3) قال الربيع بن خثيم ـ في قوله تعالى: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ *وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ} ـ: «إلى هذين ما جرى الحديث: فريق إلى الجنة، وفريق إلى النار». وشرح الطبري قوله هذا فقال: «يعني الربيع بقوله: «إلى هذين ما جرى الحديث»: أن ابتداء الخبر {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} إلى قوله: {وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ} إنما عدِّدت الأمور الكائنة التي نهايتُها أحد هذين الأمرين، وذلك المصير إما إلى الجنة، وإما إلى النار». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الأحداث، فإنَّ كُلَّ نفسٍ مؤمنةٍ وكافرةٍ تعلمُ علماً يقينياً بالذي جاءت به من الأعمالِ لهذا اليوم؛ كما قال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا} (1) [آل عمران: 30]. 15 - 16 - قولُه تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ}: لمَّا ذكرَ الآياتِ التي تكون في آخرِ هذا العالمِ وفي يوم القيامة، أتبعَهُ بالقَسَمِ على القرآن (2)، فأقسَمَ ربُّنا (3) بالنجوم التي تكون مختفيةً قبلَ ظهورِها بالليل، الجاريةِ في فلكِها، والداخلةِ وقتَ غروبها في النهار إذا طلع، كما تدخلُ بقرُ الوحشِ والظباءِ في كِناسِها؛ أي: بيتها (4).   (1) روي عن عمر بن الخطاب قوله: «إلى هذا جرى الحديث». وجملة: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} جواب «إذا» في المواطن السابقة كلِّها، والتقدير: إذا الشمسُ كوِّرت، علِمت نفسٌ ما أحضرت، وإذا النجوم انكدرت، علِمت نفسٌ ما أحضرت، وهكذا. ولا شك أن العلمَ بما عمِلت يتفاوتُ في هذه الأزمان التي تقع فيها هذه الأحداث، غير أنها لما كانت مترابطةً إذا حدثَ الحدثُ الأول تبعته الأحداثُ الأخرى كما تنفرِطُ خرزات السُّبْحة من خيْطِها، جاز الجوابُ عنها بهذا الجوابِ الشاملِ، وإن كان وقوعُ ذلك الجواب وقوعاً عينياً يكون بعد كشفِ الصحفِ وقراءتها، والله أعلم. (انظر: التحرير والتنوير). (2) جاءت الفاء لتربط بين المقطعين، والأول يتحدَّث عن البعث ومبادئه، وتقديرُ الربطِ بينهما: أنهم لو كانوا آمنوا بالقرآن الذي جاء القَسَمُ عليه، لصدَّقوا بما هو من أعظم أخباره، وهو البعث، والله أعلم. (3) وقع خلافٌ في هذا التركيب «لا أقسم» على أقوال، منها: 1 - أنه نفي للقَسَم، والمعنى أن هذه القضية من الظهور بحيث لا تحتاجُ إلى قَسَمٍ عليها. 2 - أن المنفيَّ محذوفٌ يقدَّر بما يناسبُ السياق، ويكون المعنى: لا ليس الأمرُ كما زعمتُم في القرآن، أُقسم بالخنَّس ... إنه لقولُ رسولٍ كريم. 3 - أن «لا» جاءت لتأكيد القَسَم، ويدل عليه قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} [الواقعة: 75]، ثم قال بعده: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76]، فأثبتَ أنه أَقْسَمَ، وأنهم لو كانوا يعلمون، لعلموا أنه قَسَمٌ عظيم، وهذا أقرب الأقوال للصواب، والله أعلم. (4) اختلف السلف في المراد بهذه الأوصافِ الثلاثةِ على قولين: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 17 - قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ}؛ أي: وأقسمَ بالليلِ إذا أقبلَ أو أدبر (1).   = الأول: أنها النجومُ أو الكواكب، وهو قولُ علي بن أبي طالب من طريق خالد بن عرعرة، ورجل من مراد، والحسن من طريق جرير بن حازم ومعمر، وبكر بن عبد الله، ومجاهد من طريق الأعمش، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد. الثانية: أنها بقرُ الوَحْشِ، وهو قول ابن مسعود من طريق أبي ميسرة عمرو بن شرحبيل، وجابر بن زيد، وعبد الله بن وهب، ومجاهد من طريق الصَّلت بن راشد، وإبراهيم النخعي من طريق الأعمش، ومغيرة. وقال بعضُهم: الظِّباء، وهم: ابن عباس من طريق العوفي، وسعيد بن جبير من طريق جعفر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحَّاك من طريق عبيد. ومعناه قريبٌ من الذي قبله؛ لأنهما من الوحوش، ولاتفاقهما في الوصف المذكور. قال ابن جرير: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إنَّ اللَّهَ ـ تعالى ذِكْرُه ـ أقسمَ بأشياء تخنسُ أحياناً؛ أي: تغيب، وتجري أحياناً، وتكنِس أخرى، وكُنوسها: أن تأوي في مكانِسهِا، والمكانس عند العرب: هي المواضع التي تأويَ إليها بقر الوحش والظباء ... وغير مُنْكَرٍ أن يُستعارَ ذلك في المواضع التي تكون بها النجوم من السماء، فإذا كان ذلك كذلك، ولم يكن في الآية دلالةٌ على أن المراد بذلك النجوم دون البقر، ولا البقر دون الظباء، فالصوابُ أن يُعَمَّ بذلك كل ما كانت صفته الخنوس أحياناً، والجري أخرى، والكُنوس بآنات على ما وصف جل ثناؤه من صفتها». وسببُ الخِلاف أن هذا الوصفَ صالحٌ لأكثرِ من موصوف، فذكر هؤلاء ما يرونه أنسب من غيره من الموصوفات، وهذه الموصوفاتُ تتواطأ على هذا الوصف، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من قولٍ، ويمكن حملُ الآية عليهما كما قال ابن جرير، غير أن في سياق الآيةِ ما يدلُّ على ترجيح أحدِ القولين، وهو أن المرادَ: النجومُ والكواكبُ، وذلك أن السياق بعدها يذكر آياتٍ كونية، وهي الليل والصبح، والنجومُ ألصق بذلك من بقرِ الوحشِ والظباء، ثم إن الغالبَ على أقسام القرآن: أن يكونَ القسمُ بما هو ظاهرٌ للناس، أو له آثار ظاهرة، والنجومُ والكواكب أظهر لكل الناس من بقر الوحش والظباء، وبهذا يترجح القول بأنها النجوم والكواكب، والله أعلم. (1) اختلف السلف في المراد بـ «عَسَعَس» في هذا الموضع، على قولين: الأول: أدْبَر، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعلي بن أبي طالب من طريق أبي ظبيان وأبي عبد الرحمن السلمي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 18 - قولُه تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ}؛ أي: وأقسمَ بالصُّبح إذا بَزَغَ ضوؤه، وانتشرت نسماته الباردة. 19 - قولُه تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} هذا جوابُ القَسَم، والمعنى: إنَّ القرآنَ تبليغُ جبريلَ أشرفِ الملائكة (1). 20 - قولُه تعالى: {ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ} (2) {مَكِينٍ}؛ أي: جبريلُ صاحب قوةٍ عظيمة، وهو ذو مكانةٍ ومنزلةٍ عند الله سبحانه، ولذا خصَّه بوحيِه، فهو أمينُ السماء. 21 - قولُه تعالى: {مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}؛ أي: جبريلُ المؤتَمن على الوحي، الذي لا يخونُ، يُطيعه أهلُ السموات. 22 - قولُه تعالى: {وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ}؛ أي: وما محمدٌ الذي لازمَكم أكثرَ من أربعين عاماً، فلا تخفى عليكم دقائق أحواله، ما هو بمخبولٍ ولا بممْسوسٍ من الجنِّ كما تزعمون.   = الثاني: أقبلَ، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق معمر، وعطية العوفي من طريق الفضيل وسببُ الاختلاف في هذه اللفظةِ الاشتراك اللغوي، وهو من قبيل المشترَكِ المتضادِّ، ويجوز في هذا المثال حمله على معنييه، لاختلاف الزمنِ المحمولِ عليه اللفظ، وهو أولُ الليل وآخرُه، وبهذا يكون من قبيل اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، وفي إيثار هذا اللفظ الدالِّ على الحالين معاً ما يُظهر بلاغةَ القرآنِ وإيجازَه في الألفاظ مع اتِّساعِ المعاني، دونَ تعارضٍ بينهما؛ أي: أنه إذا قيل بأحدهما لزمَ منه انتفاءُ الآخَر؛ كما في لفظ القُرء من قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228]، فإنك لا يمكن أن تقولَ بالقولين معاً؛ لأن المطلوبَ من المرأة أن تتريَّثَ ثلاثةَ أطهارٍ أو ثلاثَ حِيَضٍ، والله أعلم. (1) نسبَ إليه القول هنا لأنه المبلِّغ عن ربِّه، ولذا عبَّر عنه بلفظِ «رسول» للتنبيه على مَهِمَتِّهِ، وهي تبليغُ كلام الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم. (2) العرشُ من المخلوقات العُلوية الغيبية التي أطلعنا الله على بعض أوصافها، ومنها: أنه سريرٌ ذو قوائم، وهو أعلى المخلوقات، وأوسعِها، وأن الملائكةَ تحمِله، وعليه استوى الرحمن؛ كما قال تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 23 - قولُه تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ}؛ أي: أقسمُ أنَّ محمداً رأى جبريلَ على صورته الملَكية في أفقِ السماءِ الواضح، مكانَ طلوع الشمس أو غروبها، ولم يكن ذلك رِئياً من الجن كما تزعمون. 24 - قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ}؛ أي: ليس محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم ببخيلٍ عليكم (1) فيما بلَغه من الوحي، فيكتُمه عنكم، أو يأخذ عليه أجراً كما يأخذه الكاهن الذي يأتيه رِئيٌ من الجن (2). 25 - قولُه تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ}؛ أي: ليس القرآنُ من كلامِ الشيطانِ الملعونِ المطرود، ولكنه كلامُ الله ووحيه. 26 - قولُه تعالى: {فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ}؛ أي: ما هو المسلكُ الذي ستسلُكونه بعد هذا البيانِ والإيضاح عن صِدْقِ القرآن؟. 27 - قولُه تعالى: {إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ}؛ أي: ما هذا القرآن الذي ذكرتُ لكم أحوالَه إلا موعظة لكم أيها المكلَّفون من الإنسِ والجن. 28 - قولُه تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ}؛ أي: هذا القرآنُ موعظةٌ لمن صَدَقَ في توجُّهه إلى الله، وأرادَ أن يكونَ مُسلِماً لله، مستقيماً على دينه، وفي هذا دلالة على أن العبدَ قد يحجبُ نفسَه عن الهداية؛ كما قال تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 10]. 29 - قولُه تعالى: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}؛ أي:   (1) وردَ تفسيرُ هذهِ القراءة عن زر بن حبيش من طريق عاصم، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وسفيان الثوري من طريق مهران. (2) قرئ: «بظنين»؛ أي: متَّهم، والمعنى: ما محمدٌ صلّى الله عليه وسلّم بكاذبٍ فيما يبلِّغكم من الوحي، وقد وردَ تفسير هذه القراءة عن ابن عباس من طريق الضحاك والعوفي، وزِر بن حبيش من طريق عاصم، وسعيد بن جبير من طريق أبي المعلى، وإبراهيم النخعي من طريق مغيرة، والضحاك من طريق عبيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ولا تقع منكم إرادةٌ كائنة ما كانت، إلا بعد أن يأذنَ الله بوقوعِها؛ لأنه ربُّ جميعِ العوالم، فلا يقع في مُلكه إلا ما يشاء (1).   (1) هاتان الآيتان وردَ فيهما إثباتُ مشيئةِ العبدِ ومشيئةُ الربِّ، والمرادُ أنَّ مشيئةَ العبدِ ليست نافذةً على كلِّ حال، بل هي مقيَّدة بإذن الربِّ لها بالنَّفَاذ، وفي هذا ردٌّ على الجبرية الذين يرون أنه لا فِعل لهم البتَّة، بل كل فعل يفعلونَهُ هم مجبولون عليه ليس لهم فيه اختيار، وهذا مخالِفٌ للواقع؛ لأنك ترى من نفسِك اختياراً وتصرفاً، ولكنَّ وقوعَ هذا الاختيار بمشيئة الله تعالى. كما أن في الآية الثانية ردّاً على الذين يزعمون أن العبدَ قادرٌ على خلقِ فعلِه، وهم المعتزلة؛ لأن الله أثبتَ أن فعلَ العبدِ لا يقع إلا بعدَ مشيئة الله، ولو كان ما قالوه صحيحاً لما لزِمَ ورودُ مشيئة الله هنا، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 سورةُ الإنفِطار آياتها:19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 سورة الانفطار بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 سورةُ الانفِطار 1 - قولُه تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ}؛ أي: إذا انشقَّت السماءُ، كما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} [الانشقاق: 1]، وغيرها. 2 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ}؛ أي: وإذا كواكبُ السماء، وهي نجومها، تساقطت وتفرَّقت (1). 3 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ}؛ أي: وإذا هذه البحارُ العظيمةُ قد فُتِحَ بعضُها على بعضٍ فصارت بحراً واحداً ممتلئاً (2).   (1) جاء فعل «انفطرت» و «انتثرت» ماضيان مبنيان للفاعل، والحدثُ في المستقبل، للدلالة على تحقُّق الوقوع، كما جاءا على صيغة المطاوعة؛ أي: فَطَرْتُه فانفطر، ونَثَرتُه فانتثر، وفيه دلالةٌ على إيجاد هذا الحدث فيهما ومطاوعتِهما وإجابتِهما لهذا المطلوبِ منهما، فكأنه بقوة صيغة المفعول؛ أي: الذي فُعِلَ به بغير إرادته فاستجاب لذلك، والله أعلم. (2) فسَّر السلف التفجير بهذا المذكور، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وقتادة من طريق سعيد، والحسن من طريق معمر، والكلبي من طريق معمر. والتفجير: فتحُ بعضها على بعض، وزاد الحسن في تفسيره: «فذهب ماؤها»، وهي تحتمل أنه ذهب من مكانه إلى غيره، وهذا واضح، ويحتمل أنه أراد ذهب الماء بالكليَّة، وهذا المعنى لا تعطيه اللفظة من مدلولها، ولو كان مراده هذا فإنه يمكن أن يُقْبَلَ على باب التوسع في التفسير؛ لأن هذه الحالة التي ذكرها ستصِير للبحار، على ما مرَّ في تفسير التَّسْجير، فيقبَلُ هذا التفسير هنا من باب التجَوّزِ، وتفسير الكلبي بأنها «ملئت» تفسير باللازم؛ أي: من لازم فتح بعضها على بعض أن تمتلئ. والله أعلم. ومما ينبغي الإشارة إليه هنا: أن الكلبيَّ هنا يفسِّر وليس راوياً، فلا يقال: لا يُقْبَلُ تفسيره، لأنه كذاب، فعليكَ أن تفرِّقَ بين رأيه إذ هو مُحْتَمَلٌ مقبولٌ من التفسير، وبين روايته التي فيها التضعيف وعدم القَبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 4 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ}؛ أي: وإذا القبورُ التي دُفِنَ بها الموتى أُثيرت وقُلبت، فجُعِلَ أعلاها أسفلها، فخرجَ ما بها (1). 5 - قولُه تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ}؛ أي: علِمَت كلُّ نفسٍ الذي عملته من أعمال الخير والشر، والذي لم تعمَلْه منهما (2).   (1) قال ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: بُحِثَت. وقد ذكر بعض المفسِّرين المتأخِّرين أن هذه اللفظة يجوز أن تكونَ من باب النحت؛ أي: أنَّ أصلها من كلمتين، فنُحِت منهما هذه اللفظة، كالبسملة المنحوتة من «بسم الله»، وقالوا أصلها من: بعث وأثار، وقال آخرون أصلها: بعث، وضُمَّت إليها الراء (انظر: التحرير والتنوير)، وهذه الأقوال لا داعي لها ما دام للفظة معنًى معروف في لغة العرب، وليس لها مستند لغوي سوى التخمين والاشتباه. يلاحظ أنّ الفعلين: «فُجِّرَت» و «بُعثرت» جاءا ماضيين كسابقيهما، غير أنهما اختلفا عنهما بمجيئهما على صيغة المفعول اهتماماً بالحدث ذاتِه دون فاعله، والله أعلم. (2) هذا جوابُ إذا في الآيات الأربع السابقة، والقولُ في هذا الجوابِ كالقول في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ} في سورة التكوير. وقد اتفقَ السلف في تفسير المقدَّم والمؤخَّر على أنه العمل، واختلفت عبارتهم فيه على أقوال: الأول: علِمت ما قدَّمت من عمل صالح، وما أخَّرت من سُنَّة يعمل بها بعد موتها، وهو قول محمد بن كعب القرظي. الثاني: ما قدَّمت من الفرائض، وما أخَّرت من الفرائض فضيَّعتها، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وعكرمة من طريق سعيد بن مسروق، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد. الثالث: ما قدَّمت من خير أو شر، وما أخَّرت من خير أو شر، وهو قول إبراهيم التيمي من طريق العوام. ورجَّح الطبري القول الأول، فقال: «وإنما اخترنا القول الذي ذكرناه؛ لأن كل ما عمل العبد من خير أو شر، فهو مما قدَّمه، وأن ما ضيَّع من حق الله عليه وفرَّط فيه فلم يعمله، فهو مما قد قدَّم من شر، وليس ذلك مما أخَّر من العمل: لأن العمل هو ما عمله، فأما ما لم يعمله، فإنما هو سيئة قدَّمها، فلذلك قلنا: ما أخرَّ هو ما سنَّه من سُنَّةٍ حسنةٍ وسيئة مما إذا عمَل به العامل، كان له مثل أجر العامل بها أو وِزره». ولو حُمل المعنى على العموم، لكان وجهاً أوفق، ويكون المؤخَّر بمعنى المتروك مما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 6 - قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ}؛ أي: يا أيُّها الإنسانُ الكافرُ (1)، أيُّ شيءٍ سوَّلَ لك وجعلكَ تخالفُ أمرَ ربِّكَ الذي أوجدَكَ وربَّاك بنِعَمِه، ولم يعاجِلْكَ بعقوبته بكَرَمِه؟، سوَّل لك جهلُك، أو شيطانُك (2)؟! 7 - قولُه تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ}؛ أي: ربُّك الكريم: الذي أوجدَك من العدَمِ، فجعلَ خلقك سويًّا قويماً لا خلَلَ فيه، وجعله متناسباً في الخلق يدان ورِجلان وعينان ... إلخ، وكلٌّ في مكانه المناسبِ له. 8 - قولُه تعالى: {فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ}؛ أي: جمعَ خلقكَ في شكلٍ خاصٍّ بك، مائلٍ في الشَبَهِ إلى أمٍّ أو أبٍ أو عمٍّ أو خالٍ أو غيرهم (3). 9 - قولُه تعالى: {كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ} هذا خطابٌ للكفار، والمعنى: ليس الأمرُ كما تظنُّون يا من اغتررتم بجهلِكم فكفرتُم بربِّكُم، ولكن أنتم تكذِّبون بيوم الجزاء والحساب، ولا تصدِّقون به، فتعملون له (4).   = لم يعمل به، وتكون السنَّة التي يعمل بها بعده داخلة فيما قدَّم، وهذا يعني أن هذه التفاسير السَّلَفية أمثلة لعمل مقدَّم وآخر مؤخَّر، وأعمُّها قول إبراهيم التيمي، وليس بين هذه الأقوال على هذا السبيل تعارض، بل هي راجعة إلى معنىً واحدٍ وهو العموم، والله أعلم. (1) لفظُ الإنسان في القرآن المكيِّ يُطلق على الكافر في الغالب، والخطابُ في مثلِ هذا يشملُ من اتصف به من المسلمين قياساً، وإن كان أصلُ نزوله في الكافر، والله أعلم. (2) وردَ عن عمر وابنه عبد الله وابن عباس والربيع بن خثيم: غرَّه جهله (تفسير ابن كثير)، وعن قتادة: شيء ما غرَّ ابن آدم: هذا العدو المسلَّط. (3) هذا قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقد جعله عكرمة من طريق أبي رجاء، وأبو صالح من طريق إسماعيل على معنى آخر، وهو: إن شاء في صورة كلب، وإن شاء في صورة حمار، وكأنه على قولهم بيان للطف الله بالعبد أن خلقه مستقيماً معتدِلاً متناسب الأعضاء، وأبعده عن هذه الصوَر التي هو قادر على أن يخلقَه مثلها. (4) في مجيء الفعل «تكذبون» مضارعاً، إشعارٌ بتجدُّد تكذيبهم وتكرُّر وقوعه منهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 10 - قولُه تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ}؛ أي: وإنَّ عليكم حَفَظَةً من الملائكة يرقبون أعمالكم ويسجِّلونها عليكم (1). 11 - 12 - قولُه تعالى: {كِرَامًا كَاتِبِينَ *يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ}؛ أي: هؤلاء الحَفَظَةُ من الملائكة شرفاءُ أمناءُ يحفَظونَ بالتدوين والكتابةِ أعمالكم كلها التي يسَّر الله لهم أن يطَّلِعوا عليها، فلا يزيدون فيها، ولا يُنقصون. 13 - قولُه تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ}؛ أي: إنَّ الذين اتَّصفوا بكثرة الطاعاتِ يحيطُ بهم التنعُّم الدائم الذي لا يزول، وهو نعيم الجنة. 14 - قولُه تعالى: {وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ}؛ أي: وإنَّ الذين شقُّوا سترَ الدينِ بالكفر، وفَجَروا في أعمالهم، وكَفَروا بالبعث، يحيطُ بهم عذابُ النار، ويخلدون فيها بسبب كُفرهم. 15 - قولُه تعالى: {يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ}؛ أي: يدخلونها فتحرقهم بِحَرِّها وتشوِيهم في ذلك اليوم العظيم: يوم الجزاء والحساب. 16 - قولُه تعالى: {وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ}؛ أي: هم خالدون فيها أبدَ الآباد (2)؛ كما قال تعالى: {وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [البقرة: 167]. 17 - 18 - قولُه تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ *ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}؛ أي: أيُّ شيءٍ تعلمُ عن يوم الجزاء والحساب، ذلك اليوم العظيم (3)؟،   (1) أُكِّدت هذه الجملة بثلاث مؤكِّدات: إن، واللام، والجملة الاسمية. وقدَّم الجار والمجرور «عليكم» ـ الذي يعود إليهم ـ للاهتمام به؛ لأنهم الذين من أجلهم سيق الكلام. وفي حرف «على» ما يفيد التسلُّط والمراقبة من الحَفَظَة. (2) جاءت الجملة الاسمية منفية للدلالة على ثبوت هذا النفي واستمرارِه؛ أي: هم لا يغيبون أبداً عن النار، بل يلازمونها ملازمةً دائمة. والباء في «بغائبين» فيها تأكيد لهذا النفي، وقدَّم الجار والمجرور للاهتمام بالمصير الذي يصيرونَ إليه، وهو النار. (3) روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: يوم الدِّين من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله وحذَّره عبادَه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وكرَّرَ الاستفهامَ لتهويلِ أمرِ هذا اليومِ وتعظيمه (1). 19 - قولُه تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ}: هذا بيانٌ لذلك اليوم؛ أي: ذلك اليومُ هو يوم لا يستطيع أن ينفعَ أحدٌ من البشر غيره، فَبَطَلَ كل مُلْكٍ وأمر، وصار الأمر والإذن كله لله وحده (2)، كما قال تعالى: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (3) [غافر: 16].   (1) روى سعيد بن أبي عروبة عن قتادة، قال: «قوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ} تعظيماً ليوم القيامة، يوم تُدان فيه الناس بأعمالهم». (2) روى معمر عن قتادة، قال: «ليس ثَمَّ أحد يومئذٍ يقضي شيئاً، ولا يصنعُ شيئاً، إلا ربّ العالمين». وعن سعيد بن أبي عروبة عنه، قال: «والأمر ـ والله ـ اليوم لله، ولكن يومئذ لا ينازعه أحد». (3) هذه الآية من التفسيرات القرآنيةِ الصريحةِ التي وقعت جواباً لسؤالٍ سابقٍ لها. وهذا النوعُ من تفسيرِ القرآنِ بالقرآن حجَّة بلا إشكال، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 سورةُ المطِّففين آياتها:39 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 سورة المطففين بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 سورةُ المطِّففين عن ابن عباسٍ رضي الله عنهما قال: لما قدِمَ نبيُّ الله صلّى الله عليه وسلّم المدينةَ، كانوا من أخبثِ الناسِ كَيْلاً، فأنزل الله: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}، فحسَّنوا كَيلَهُم. 1 - قولُه تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ}: يتوعَّدُ اللَّهُ سبحانَه بالهلاكِ والخسارة، الذين يبخسونَ حقَّ الناس بأخذ القليلِ منه: إما بنقصِ كَيْلِ الناس ووزنِهم، وإما بزيادتهم كيلَ أنفسِهم ووزنه على حساب الناس. 2 - 3 - قولُه تعالى: {الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ *وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ}: هذا بيانٌ للتطفيفِ الذي يكونُ من هؤلاء المطفِّفين، وذلك أنهم إذا أخذوا كيلَهم أو وزنَهم من الناس أخذوه تامًّا غير ناقصٍ، وإذا أعطوا الناسَ كيلهم أو وزنهم نقصوا منه الشيءَ القليل، ظلماً منهم ولؤماً (1).   (1) في الآية قولٌ آخرَ ذكرهُ الطبري عن عيسى بن عمر النَّحْوي، وهو أن تكون «هم» من قوله: كالُوهم ووزَنُوهُم من ضمير الكائلين والوازنين، لا من ضميرِ الناسِ المكيلِ لهم، ويكون الوقف صالحاً على «كالوا» و «وزنوا»، ويكون المعنى: «إذا كالوا للناس هم يُخسرون»، قال الطبري: « ... ومن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى، جعل الوقف على «هم»، وجعل «هم» في موضع نَصب. وكان عيسى بن عمر ـ فيما ذُكر عنه ـ يجعلهما حرفين، ويقف على «كالوا»، وعلى «وزنوا»، ثم يبتدئ: «هم يُخسرون». فمن وجَّه الكلام إلى هذا المعنى، جعل «هم» في موضعِ رفعٍ، وجعل «كالوا» و «وزنوا» مكتفيين بأنفسهما. والصوابُ في ذلك عندي، الوقف على «هم»؛ لأن «كالوا»، و «وزنوا» لو كانا مكتفيين، وكانت «هم» كلاماً مستأنفاً، كانت كتابة «كالوا» و «وزنوا» بألف فاصلة بينها = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 4 - 5 - قولُه تعالى: {أَلاَ يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ *لِيَومٍ عَظِيمٍ}؛ أي: ألا يقعُ في حسِّ هؤلاء المطفِّفين أنهم سيُبعثونَ يومَ القيامة الذي عَظُمَ بما يقعُ فيه من الأهوالِ، ويحاسَبونَ على تطفيفِهم؟. 6 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}: هذا بيانٌ لليومِ العظيمِ، وهو يومُ قيامِ الناسِ أمامَ ربِّهم للحساب، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمين، «حتى يغيبَ أحدُهم في رشحهِ إلى أنصافِ أُذُنَيه». 7 - 9 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ *كِتَابٌ مَرْقُومٌ}: رَدَّ على المطفيين بأن الأمر ليس كما يعتقدونَ من عدمِ البعث، ثمَّ أخبرَ عن كتابِ الذين فَجَروا في أعمالهم أنه في سِفَالٍ وخَسَارٍ في الأرض السُّفلى (1)، ولتهويلِ أمرِ هذا الكتابِ استفهمَ على طريقة   = وبين «هم» مع كل واحدة منهما، وإذا كان بذلك جرى الكتاب في نظائر ذلك، إذا لم يكن متصلاً به شيء من كنايات المفعول، فكتابتهم ذلك في هذا الموضع بغير ألفٍ أوضح الدليل على أن قوله: «هم» إنما هو كناية أسماء المفعول بهم، فتأويلُ الكلام إذا كان الأمر على ما وصَفْنا وبينَّا». وهذا الترجيحُ من الطبري اعتمد فيه رسمَ المصحف، وهو أحد المرجِّحات في الاختلاف، والله أعلم. (1) أصل مادة سجِّين من «سجن»، وهي تدل على التضييقِ والحَبْسِ، ومنها السِّجن، وقد اختلفت عبارة السلف في «سجَّين» على أقوال: 1 - الأرضُ السابعةُ السُّفلى، وردَ ذلك عن: عبد الله بن عمرو من طريق قتادة بلاغاً، وابن عباس من طريق العوفي، ومغيث بن سُمَي من طريق مجاهد، وقتادة من طريق معمر وأبي هلال، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وحكاه ابن زيد، وبه أجاب كعب الأحبار عن سؤال ابن عباس له. 2 - حدُّ إبليس، ورد ذلك عن: سعيد بن جبير، وقد ورد عن مغيث بن سمي وكعب الأحبار أن حدَّ إبليسَ في الأرض السفلى. 3 - صخرةٌ في الأرض السابعة، يُجعلُ كتابُ الفجَّار تحتها، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. ويشهدُ لكونِ سجِّين الأرض السفلى ما ورد في بعض طرق حديث البراء بن عازب في صعودِ روحِ الكافرِ إلى السماء، ثم أمرَ اللَّهُ بأن لا تدخل السماء، قال صلّى الله عليه وسلّم: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 القرآن في الاستفهامِ عن سِجِّين، وبيَّن أن كتابَهم قد فُرِغَ منه، فلا يُزادُ فيه ولا يُنقص منه (1)، ولا يزولُ رَقْمُهُ كما لا يزول الخيطُ الذي على الثوب، والله أعلم. 10 - 11 - قولُه تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ *الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ}؛ أي: يومَ يقومُ الناسُ لربِّ العالمينَ فالهلاك والثبور لمن كذَّبَ بيوم الجزاءِ والحساب. 12 - قولُه تعالى: {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ}؛ أي: ما يقعُ التكذيبُ بيوم الدِّين إلا من كلِّ من هو متجاوزٌ لما أحلَّ الله، مرتكِبٌ لما حرَّمَ الله. 13 - قولُه تعالى: {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ}؛ أي: من صفةِ هذا المعتدي الأثيمِ أنه إذا قُرئت عليه آياتُ القرآنِ قال عنها: إنها شبه الأقاصيصِ المكذوبةِ والمخترَعَةِ على السابقين من الأمم. 14 - قولُه تعالى: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}؛ أي: ليس الأمرُ كما يقول هذا المكذِّب في القرآن، ويعتقدُ في البعث، ولكن غلبَ على قلبه وغطَّاه ما كسَبَهُ من الذنوب، فجعَلَتهُ لا يُبصرُ الحق، كما قال صلّى الله عليه وسلّم: «إذا أذنبَ العبدُ نُكِتَ في قلبه نُكْتَةً سوداء، فإن تاب، صقلَ منها، فإن عاد، عادت، حتى تعظم في قلبه، فذلك الرَّانُ الذي يقول الله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (2)».   = فيقول الله: اكتبوا كتابَه في أسفل الأرض في سجِّين في الأرض السفلى. وقد وردَ في تفسير سجِّين حديثٌ يُنسبُ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو لا يَصِحُّ عنه: «الفلق جُبٌّ في جهنَّم مغطَّى، وأما سجِّين فمفتوح»، قال عنه ابن كثير أنه حديث غريب منكر لا يصح. (1) قال ابن كثير: وقوله: {كِتَابٌ مَرْقُومٌ}: ليس تفسيراً لقوله: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ}، وإنما هو تفسيرٌ لما كُتبَ لهم من المصير إلى سجِّين؛ أي: مرقوم: مكتوبٌ مفروغٌ منه لا يُزادُ فيه أحد، ولا يُنقصُ منه أحد، قاله محمد بن كعب القرظي. (2) هكذا وردَ تفسيرُ السلفِ لهذه الآية، وقد ذُكر عن مجاهدٍ صفة غَشَيانِ الرَّيْنِ، قال = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 15 - 17 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ *ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ *ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ}: هذا تكرارٌ للرَّدِّ على أولئك المكذِّبين، وبيانُ أنهم ممنوعونَ من رؤيةِ اللَّهِ سبحانه (1)، ثمَّ إنهم سيدخُلونَ   = الأعمش: «أرانا مجاهد بيده، قال: كانوا يرون القلب في مثل هذا؛ يعني: الكفَّ، فإذا أذنب العبد ذنباً ضُمَّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب، ضمَّ أصبعاً أخرى، حتى ضمَّ أصابعه كلها، ثمَّ يُطبَع عليه بطابع، قال مجاهد: وكانوا يرون أن ذلك الرَّين». وقد ورد التفسير عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، والحسن من طريق خُليد وأبي رجاء وسفيان الثوري، ومجاهدٍ من طريق منصور والأعمش وابن أبي نجيح، وعطاء من طريق طلحة، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. وقد وردت عنهم في تفسير الرَّين ألفاظٌ متقاربة، وهي: تغشى القلب، غمرتهُ خطاياه، يُطبع على قلبه، غُلِبَ على قلوبهم. (1) استدلَّ علماءُ السلفِ بهذه الآية على وقوع رؤية المؤمنين ربَّهم يوم القيامة، فقالوا: لما حُجِبَ هؤلاء في حال السخطِ، دلَّ على أن قوماً يرونه في حال الرضا، ويشهدُ لهذا أن الله أثبتَ للأبرار الذين هم مقابل لهؤلاء القوم، أثبت لهم الرؤية بقوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}، كما سيأتي، فَكَوْنُ هذهِ الآية نظيراً لتلك أَوْلى، والله أعلم. وقد أورد ابن جرير عن الحسن البصري في تفسيرِ هذه الآية قوله: يكشِفُ الحجاب، فينظرُ إليه المؤمنونَ كلَّ يومٍ غدوة وعشيَّة، وهذه الرواية من طريق عمرو بن عبيد المعتزلي، وكأن الإمام يرمي إلى مخالفة المعتزلة لما رواه عمرو بن عبيد أحد شيوخهم في إثبات الرؤية عن الحسن الذي يَدَّعون ـ زوراً ـ أنه من المعتزلة، والله أعلم. وقد أورد الطبري قولاً آخر وترجمَ له بقوله: «فقال بعضهم: معنى ذلك: إنهم محجوبون عن كرامته»، وأورد تحت هذه الترجمة قول قتادة من طريق خليد، قال: «هو لا ينظر إليهم، ولا يزكِّيهم، ولهم عذابٌ أليم». وقول ابن أبي مليكة: «المنَّان، والمُختال، والذي يقتطع أموال الناس بيمينه بالباطل». وهذا القول أعمُّ من نفي رؤيتهم لربهم، والرؤيةُ أعلى كراماتِ الربِّ لعباده، وعلى هذا فإنه لا تنافي بين القولين من هذا الوجه، ولذا قال ابن جرير الطبري: «وأَوْلى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكره أخبرَ عن هؤلاء القومِ أنهم عن رؤيته محجوبون، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به الحجاب عن كرامته، وأن يكون المراد به الحجاب عن ذلك كلِّه، ولا دلالةَ في الآية تدلُّ على أنه مُرادٌ بذلك الحجابِ معنى دون معنى، ولا خبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قامت حُجته. فالصوابُ أن يقال: هم محجوبون عن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 النارَ التي تشويهم بحرِّها، ثم تقولُ لهم ملائكةُ العذابِ: هذا العذابُ الذي كنتم لا تصدِّقونَ به. 18 - 20 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ *كِتَابٌ مَرْقُومٌ}؛ أي: ليس الأمرُ كما تقولونَ من تكذيبِكم بالجزاء والعذابِ، ثم أخبرَ عن كتابِ الذين أطاعوا ربَّهم فأكثروا، وعبَدوه فأحسنوا، أخبرَ أنَّ كتابَهم عالٍ قدرُهُ في السماء السابعة (1)، ولتعظيمِ أمرِ هذا الكتابِ   = رؤيته، وعن كرامتهِ، إذ كان الخبر عاماً، ولا دلالة على خصوصه». وما ذكرته سابقاً يرجِّح المعنى الأول على الثاني، والله أعلم. وهذا الاختلاف من قبيل اختلافِ التنوُّع؛ لصحَّة القولين، واحتمال الآية لهما معاً، وسببُ الخلاف: أنَّ في الآية حذفاً، وقد اختلفوا في تقديره، فقدَّره بعضهم: محجوبون عن كرامته، وقدَّره آخرون: محجوبون عن رؤيته. والله أعلم. (1) اختلف السلف في المراد بعلِّيِّين، على أقوال: الأول: السماءُ السابعة، وهو قول كعب الأحبار، وقتادة من طريق عبيد الله العتكي، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. الثاني: قائمةُ العرشِ اليُمنى، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد. الثالث: الجنة، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. الرابع: عند سِدْرَةِ المنتهى، وهو قول الضحَّاك من طريق الأجلح. الخامس: في السماء عند الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد. ويجمعُ هذه الأقوالُ أنَّ هذا الكتابَ في السماء السابعة؛ لأن المذكورات المحدَّدة ـ سدرة المنتهى وغيرها ـ في السماء السابعة، وليس هناك خبرٌ قاطع بهذه التحديدات. قال الطبري: « ... فبيَّن أن قوله: {لَفِي عِلِّيِّينَ} معناه: في عُلُوٍ وارتفاع، في سماءٍ فوق سماء، وعُلُوٍ فوق عُلُوٍ. وجائزٌ أن يكونَ ذلك إلى السماء السابعة، وإلى سدرة المنتهى، وإلى قائمةِ العرش اليُمنى، ولا خبرَ يقطعُ العُذْرَ بأنه معنيٌّ به بعضٌ دون بعض. والصوابَ أن يقال في ذلك كما قال الله جل ثناؤه: إن كتابَ أعمالِ الأبرار لفي ارتفاعٍ إلى حدٍّ قد عَلِمَ الله جلَّ وعزَّ منتهاه، ولا علمَ عندنا بغايته، غير أن ذلك لا يقصرُ عن السماء السابعة؛ لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك». ويشهدُ لهذا أنه قد وردَ في بعض طرقِ حديثِ البراء بن عازب: «اكتبوا كتابَ عبدي في علِّيِّين في السماء السابعة»، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 استفهمَ عن موضعِ كتابِهم على طريقة القرآنِ في الاستفهام، فقال: وما أعلمكَ ما عِلِّيُّون؟، ثم بيَّنَ أن كتابَهم قد فُرِغَ منه، فلا يُزادُ فيه ولا يُنقصُ منه، ولا يزولُ رَقْمُهُ كما لا يزولُ الخيطُ الذي على الثوب، والله أعلم. 21 - قولُه تعالى: {يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ}؛ أي: يحضرُ كتابَ هؤلاء الأبرارِ مقرَّبو كلِّ سماءٍ (1). 22 - 24 - قولُه تعالى: {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعْيمٍ *عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ *تَعْرِفُ فِي وَجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ}؛ إنَّ الذين برُّوا باتِّقاء الله وأداءِ فرائضِه لفي تنعُّمٍ دائمٍ لا يزول، وذلك في الجنَّة، التي يجلسونَ على سُرُرِها المزيَّنة في الغُرَفِ (2)، ينظرونَ ـ وهم عليها ـ إلى ما آتاهم الله من النَّعيم، وأعلى هذا النَّعيم رؤية الباري جلَّ وعزَّ (3). وإذا رأيتَهم، فإنكَ ترى أَثَرَ التنعُّم على وجوهِهِم بما يظهرُ عليها من الحُسْنِ والبهاء. 25 - 26 - قولُه تعالى: {يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ *خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ}؛ أي: يسقيهم خَدَمُهُم من خمرِ الجنة (4) الذي قد   (1) يمكنُ أن يكونَ تفسيرُ هذا ما وردَ في حديث البراء بن عازب في صعودِ روحِ العبدِ المؤمن، قال: «ثم يُشَيِّعُهُ مقرَّبو كلِّ سماء»، وقد وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد، والله أعلم. (2) الأرائكُ هي السُّرُرُ في الحِجَال، والحَجَلَة: المكان المزيَّن والمهيَّأ. (3) يلاحظ أن مفعولَ ينظرون محذوف، والتقدير العام أنهم ينظرون إلى ما نعمَ الله عليهم من نعيمِ الجنة، وأعلى هذا النعيم رؤية الله سبحانه، ويكون في هذا مقابَلَةٌ لعذاب الكفَّار بحَجْبِهم عن رؤية الربِّ الوارد في قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}، والله أعلم. (4) فسَّر السلف الرحيقَ بخمر الجنة، وردَ ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق مسروق، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والحسن من طريق أبي رجاء، وابن زيد، وذكر له شاهداً من شعر حسَّان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 خُلِطَ بالمِسك، وجُعِلَ في نهايته (1)، فهم يشمُّونه من أوَّلِ شُربهم إلى   (1) اختلفت عبارة السلف في تفسير «مختوم وخِتامه» على ثلاثة أقوال: الأول: ممزوجٌ مخلوط، وردَ ذلك عن ابن مسعود من طريق علقمة ومسروق، وعلقمة من طريق يزيد بن معاوية. الثاني: أن آخرَ شرابهم من الخمر يُجعل فيه مِسك، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد، وإبراهيم النَخَعي والحسن من طريق أبي حمزة. الثالث: مطيَّنٌ بمسك؛ أي: غطاؤه من مسك، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن زيد. وقد رجَّحَ ابن جرير أن المعنى: عاقبته ونهايته مسك، فقال: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك عندنا بالصواب، قولُ من قال: معنى ذلك آخره وعاقبته مسك؛ أي: هي طيِّبة الريح، إن ريحَها في آخر شربهم يُختمُ لها بريحِ المسك. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال في ذلك بالصحَّة؛ لأنه لا وجهَ للخَتْمِ في كلام العرب إلا الطبعَ والفراغ؛ كقولهم: ختمَ فلان القرآن: إذا أتى على آخِره، فإذا كان لا وجهَ للطبعِ على شراب أهلِ الجنةِ يُفهم إذا كان شرابهم جارياً جريَ الماء في الأنهار، ولم يكن معتَّقاً في الدِّنان، فيطيَّنُ عليها وتختم، تعيَّنَ أن الصحيح من ذلك الوجه الآخر، وهو العاقبة والمشروب آخراً، وهو الذي يختم به الشراب. وأما الختمُ بمعنى: المزجِ، فلا نعلمهُ مسموعاً من كلام العرب». وهذا الترجيحُ مبنيٌ على أمرين: الأول: أن خمرَ الجنةِ نهرٌ كنهر الماء فلا يُتصوَّرُ فيه أن يكون له غطاء من المسك، وهذا صحيح، إلا إنْ ورد في الأحاديث ما يدل على وجود خمر في الدِّنان. وبهذا التعليل رَدَّ قول مجاهد وابن زيد. الثاني: أنه لم يعلم من كلام العرب: ختامه: خلطه ومزجه، ورَدَّ بهذا على القولِ الذي رواه عن ابن مسعود وعلقمة، وهذا فيه نظر؛ لأن هؤلاء الذين فسَّروا من العرب، وكلامهم في اللغة حجَّة، فلمَ لم يقبل تفسيرهم؟! ولو وازنتَ هذا الموضع بما ورد عنه في تفسيره للفظ الدُّلُوك في قوله تعالى: {أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} [الإسراء: 78]، لتبيَّن لك أنه قد خالف ما قعَّدَهُ هناك حيث جعل كلام ابن مسعود حجة في اللغة، ولم يبيِّن هنا سبباً في ردِّهِ هذا القول غير ما قاله، وهو غير صحيح، إذ عدم علمِه بهذا لا يعني عدم وجودِه، مع أنه رواه عمَّن ذكر، والله أعلم. وهذا الاختلافُ كما رأيتَ سببه الاشتراك اللغوي في لفظِ الخَتمِ، وهو من قبل اختلاف التنوُّع، ولو قيل في الترجيح: إنَّ القولَ بأنه عاقبته = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 آخِره. وفي طلبِ هذا التنعُّم يجبُ أن يَتبارَى ويَتسابقَ في الحصولِ عليه الذين يريدون النعيمَ الأبديَّ (1). 27 - 28 - قولُه تعالى: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ *عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ}؛ أي؛ وهذا الرحيقُ المختومُ بالمسكِ يُخْلَطُ به ماءٌ من عَيْنِ تسنيم، التي ينزلُ عليهم ماؤها من أعلى الجنة، فيشربُه (2) المقرَّبونَ صِرْفاً غير مخلوطٍ، ويشربه سائرُ المؤمنينَ مخلوطاً بغيره (3).   = ونهايته مسك؛ لأن هذا المعنى هو الأشهرُ في إطلاق اللفظة، لكان وجهاً في الترجيح، والله أعلم. (1) يظهرُ ـ والله أعلم ـ أن جملةَ: {وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} مَعْتَرِضَةٌ بين قوله: {خِتَامُهُ مِسْكٌ}، وقوله: {وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ}. وفي إيثار مادة التنافس ما يشعر بنفاسَةِ هذا الشيء الذي جُعل للمتسابقين إليه (انظر: التحرير والتنوير). (2) عُدِّيَ الفعلُ «يشرب» بالباء، وهو يتعدَّى بدونها، وإنما ذكرت الباء، إشارة لتضمين فعل آخر، ويمكن تقديره بـ «يُروى» أو «يتلذذ» بها المقرَّبون، وهذا مذهبُ أهل البصرة من النحْويين. والكوفيون يرون أن الباء بمعنى «من» في مثل هذا الموضع على التعاقب بين حروف الجر، والأول أمتن في اللغة، وأعمقُ في البلاغة، والله أعلم. (3) وردَ ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق مسروق، ومسروق من طريق مالك بن الحارث وعبد الله بن مرَّة، ومالك بن الحارث من طريق منصور، وابن عباس من طريق سعيد بن جُبير، وأبي صالح من طريق إسماعيل، وقتادة من طريق سعيد. وورد عن ابن عباس من طريق العوفي: عيناً من ماء الجنة تُمزج به الخمر. وعن الحسن من طريق أبي رجاء: خفايا أخفاها الله لأهل الجنة. وعن ابن زيد: بلغنا أنها عينٌ تخرجُ من تحت العرش، وهي مزاج هذا الخمر. وعن الضحاك من طريق عبيد: شرابٌ اسمه تسنيم، وهو من أشرفِ الشراب. وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: يعلو شراب أهل الجنة (تفسير مجاهد وعبارته أوضح مما في الطبري). وعن الكلبي من طريق معمر: تسنيم: ينصب عليهم من فوقهم، وهو شراب المقرَّبين. ويتلخَّص من ذلك أن تسنيم: عين، وماؤها يأتيهم من علو، وهو أعلى شراب أهل الجنة، وأنه يشربه المقرَّبون صِرْفاً، ويُخلطُ لغيرهم من أهل الجنة، والله أعلم. أما تحديد أنه من تحت العرش فهو قول من تابع التابعي، ويتوقف في قَبول خبرِه هذا: لأنه أمر غيبي. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 29 - قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ}؛ أي: إنَّ الكفارَ الذين اكتسبوا المآثم، كانوا في الدنيا يهزأون بالمؤمنين ويضحَكون منهم (1). 30 - قولُه تعالى: {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ}؛ أي: وإذا مرَّ الكفَّار بالمؤمنين، أشاروا إليهم: إمَّا باليد، وإمَّا بالعينِ، سُخْرِيةً واستِهْزاءً (2). 31 - قولُه تعالى: {وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ}؛ أي: وإذا عادَ هؤلاءِ الكفارُ إلى بيوتهم بعد أعمالهم هذه التي عَمَلوها للمؤمنين، عادوا وهم متلذِّذون بما فعلوا. 32 - قولُه تعالى: {وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلاَءِ لَضَآلُّونَ}؛ أي: وإذا قابلَ هؤلاءِ الكفار المؤمنين، فرأَوْهُم، قالوا مُصْدِرينَ الحكمَ عليهم: إنَّ هؤلاء الذين آمنوا لتائِهونَ عن الحق؛ لأنهم ليسوا على ديننا. 33 - قولُه تعالى: {وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ}: هذا تعقيبٌ من الله على هؤلاء الكفارِ الذين يُصْدِرونَ مِثْلَ هذه الأحكام، بأنَّ الله لم يبعثهم رسلاً ليسَجِّلوا على المؤمنين أعمالَهم!.   = أما الأوصافُ الأخرى فقد وردت عن صحابيين وجمعٍ من التابعين، وكونه أعلى الجنة مأخوذٌ من مدلولِ لفظ تسنيم؛ لأن مادة «سنم» تدل على الارتفاع، والله أعلم. فائدة: الأصلُ أن يُحْمَلَ الإعراب على الوارد عن السلف في التفسير، وقد كان هذا منهج الإمام الطبري، ومن ذلك هذا الموضع، فبعد أن ذكر أقوال المعربين من نَحْوِيِّي البصرة والكوفة للفظ «عيناً»، قال: «والصواب من القول في ذلك عندنا: أن التسنيمَ اسمٌ مَعْرِفَة، والعين نكِرة، فنُصبت لذلك إذ كانت صفة له. وإنما قلنا: ذلك هو الصواب، لما قد قدَّمنا من الرواية عن أهل التأويل: أن التسنيم هو العين، فكان معلوماً بذلك أن العينَ إذ كانت منصوبة، وهي نكرة، أنَّ التسنيم معرفة». (1) جاء فعل الضَّحِكِ مضارعاً، للدلالة على تكرُّر هذا الحدث منهم، وهذا الفعلُ حكاية عنهم في الدنيا بدلالة قوله: «كانوا» التي تدل على الماضي، ودلالة قوله: «فاليوم الذين آمنوا ... ». (2) جاء الفعل «يتغامزون» مضارعاً، للدلالة على تكرُّر الحدث أو لاستحضاره في ذهن السامع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 34 - قولُه تعالى: {فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ}؛ أي: فاليومَ الذي هو يوم القيامة يضحكُ المؤمنون من الكفارِ لِما يَرَوْنهم فيه من الخزِي، وهذا مقابلُ ضَحِكِ الكفارِ عليهم في الدنيا. 35 - قولُه تعالى: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ}؛ أي: هؤلاء المؤمنونَ جالسونَ على سُرُرٍ في مكان مزيَّن لهم ينظرونَ إلى الكفار وهم يعذَّبون، فَيُسَرُّون بذلك، ويضحَكون من أعداء الله الذين كانوا يضحكون منهم في الدنيا (1). 36 - قولُه تعالى: {هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}؛ أي: هل جُوزِيَ الكفارُ بهذا العذابِ الذي رآه المؤمنون بما فعلوا؟ ولا شكَّ أنهم قد جُوزوا بسوء عملِهم، والله أعلم.   (1) وردَ التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي والضحاك، وكعب الأحبار من طريق قتادة، وسفيان الثوري من طريق مهران، وفي رواياتهم تفاصيل عن كيفية نظرِ المؤمنين لعذابِ الكفَّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 سورةُ الإنشِقاق آياتها:25 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 سورة الانشقاق بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15) فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 سورةُ الانشِقاق 1 - 2 - قولُه تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}؛ أي: إذا السماءُ تصَدَّعَتْ وتَقَطَّعَتْ، وسَمِعَت وأطاعَت أمْرَ ربِّها في تصدُّعها (1)، وحُقَّ لها أن تطيع، فهي أهلٌ لهذه الطاعة (2). 3 - 5 - قولُه تعالى: {وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ *وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ *وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}؛ أي: وإذا الأرض بُسِطت يوم القيامة (3)، فزِيدَ في سَعَتِها (4)، وأَخرَجتْ ما في بطنها من الموتى وغيرهم (5)، وسمِعَت وأطاعت أمرَ ربِّها   (1) كذا وردَ التفسير عن السَّلف: ابن عباس من طريق العوفي، وسعيد بن جبير من طريق جعفر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحَّاك من طريق عبيد. (2) ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: حُقَّت لطاعة ربها، وعن سعيد بن جبير من طريق جعفر: وحقَّ لها. (3) بيَّن مجاهد في تفسيره من طريق ابن أبي نجيح أن هذا كائنٌ يومَ القيامة. (4) أورد الطبري عن علي بن الحسين، أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا كان يومُ القيامة مدَّ الله الأرضَ، حتى لا يكون لبشرٍ إلا موضعَ قَدَمَيْهِ، فأكونُ أولَ من يُدْعَى، وجبريل عن يمين الرحمن، والله ما رآه قبلها، فأقول: يا رب، إنَّ هذا أخبرني أنك أرسلته إلي، فيقول: صَدَق، ثم أشفع فأقول: يا رب، عبادك عبدوك في أطراف الأرض، قال: وهو المقام المحمود». وهذا حديث مرسل، وقد ورد في بعض طرقه: حدثني بعض أهل العلم، فإن كان هذا المحدِّث صحابياً، فالحديثُ صحيحٌ، ورجاله ثقات، والله أعلم. (5) قال قتادة من طريق سعيد: ألقَت أثقالها وما فيها، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: أخرجَتْ ما فيها من الموتى. ويظهرُ أن هذا مثالٌ لما تخرجه من بطنها، ولذا ورد عن ابن عباس: ألقت سواري الذَّهب. (الدر المنثور، عن ابن المنذر)، والنصُّ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 في مَدِّها وإخراج ما في بطنها، وحُقَّ لها أن تطيع، فهي لا تعصي أمره (1). 6 - قولُه تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ}؛ أي: إنك تعملُ عملاً تلقى اللَّهَ به، خيراً كان أم شراً (2). 7 - 9 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ *فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا *وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا}: هذا تفصيلٌ لأهلِ الكَدْحِ، فمن أُعطِي صحيفةَ أعمالِه بيدِه اليُمنى، فإنَّ الله يَعْرِضُ عليه ذنوبَه ولا يُدَقِّقُ عليه، فلا يحاسِبُه بها، بل يسهِّلُ أمرَهُ، ويتجاوزُ عنه (3)، ثمَّ ينصرفُ بعد هذا الحسابِ اليسيرِ إلى أهله في الجنة (4)، وهو فَرِحٌ بما أُعطِيَ. 10 - 12 - قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ *فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا *وَيَصْلَى سَعِيرًا}: هذا الفريقُ الثاني من أهلِ الكَدْحِ، وهم من يُعطَى صحيفةَ أعمالِه السيئةِ بيدِه الشِّمالِ من وراء ظهرِه (5)، فأولئك ينادُون بالهلاك   = عَامُّ، وليس هناك ما يدل على التخصيص، ولذا يُحملُ ما ورد عنهم أنه تفسيرٌ بالمثال، وتفسير قتادة على العموم، والله أعلم. (1) جواب قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} محذوف، تُرك استغناءً بمعرفة المخاطَبين به بمعناه، وتقديره: رأى الإنسان ما قدَّم من خير أو شرٍّ، وقد بيَّن ذلك قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاَقِيهِ}. (انظر تفسير الطبري). (2) أوردَ بعض المفسِّرين في الضمير في «فملاقيه» احتمالين في عَودِهِ إلى الظاهر قبله، فقيل: ملاقٍ ربك، وقيل: ملاقٍ عملك، وهما متلازمان؛ لأنه سيلاقي ربَّه بعملِه، كما فسَّر ابن عباس من طريق العوفي، وهذا من اختلاف التنوع الذي تحتمله الآية، وهو يرجع أكثر من معنى، غير أنهما متلازمان، والله أعلم. (3) روى البخاري ومسلم وغيرهما عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال صلّى الله عليه وسلّم: «من نوقشَ الحسابَ عُذِّب»، قالت: فقلت: أليس قال الله: {فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا}؟، قال: «ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العَرْض، من نوقشَ الحسابَ يوم القيامة فقد عُذِّب». وهذا تفسيرٌ نبويٌ صريحٌ لمعنى هذه الآية. (4) قال قتادة من طريق سعيد: إلى أهلٍ أعدَّهم الله له في الجنَّة. (5) قال الإمام الطبري: «وأما من أُعطِيَ كتابَهُ منكم أيها الناس يومئذ وراءَ ظهره، وذلك بأن = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 على أنفسِهم (1)، ويدخلونَ نار جهنَّمَ التي أُوقِدَتْ مرةً بعد مرةٍ، فتشويَهُم وتحرقَهُم بحرِّها (2). 13 - 15 - قولُه تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا *إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ *بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا}؛ أي: إنَّ هذا الذي أوتي كتابه وراءَ ظهرِه كان في أهله في الدنيا (3) فَرِحاً لما هو فيه من المعاصي، وكان يعتقدُ أنه لن يرجع إلى الحياة بعد الممات (4)، ولذا كان يركَبُ المعاصي ولا يُبالي، ولكنه مخطئٌ في هذا الاعتقاد، بل سيرجع ويحاسَب على أعماله التي كان الله مطَّلِعاً عليها. 16 - 18 - قولُه تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ *وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ *وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}: يُقْسِمُ الربُّ سبحانه بحُمْرَةِ الأُفُقِ التي تظهرُ عندَ غروبِ الشمس (5)،   = جعلَ يدَه اليُمنى إلى عنقِه، وجعلَ الشمالَ من يديه وراء ظهره، فيتناول كتابَهُ بشماله من وراء ظهره، ولذلك وصفهم ـ جلَّ ثناؤه ـ أحياناً أنهم يؤتون كُتُبَهُم بشَمائِلِهم، وأحياناً أنهم يؤتَوْنها من وراء ظهورهم». (1) قال الضحاك من طريق عبيد المكتب: «يدعو بالهلاك». (2) في قوله: {يَصْلَى} قراءتان، الأولى: بتخفيف اللام، والثانية بتشديدها، وفائدة التَّشْدِيد كما قال الطبري: «أن الله يصليهم تَصْلِيَةً بعد تَصْلِيَة، وإنضاجَةً بعد إنضاجة ... »، وهذا يعني أن صيغة «فَعَّلَ» تدل على تكرُّرِ الحدَث وتكثيرِه. أما قراءة التخفيف، فتدل على أنهم يدخلونها ويَرِدونها فقط، دون معنى التكرار، والله أعلم. (3) قال قتادة من طريق سعيد: «أي في الدنيا». (4) كذا ورد عن السلف: ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «يبعث»، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «ألا يرجع إلينا»، وقتادة من طريق سعيد: «أن لا مَعاد ولا رَجْعة»، ومن طريق معمر: «أن لن ينقلب، يقول: لن يبعث»، وكذا قال ابن زيد، وقال سفيان الثوري من طريق مهران: «يرجع». وهذه الأقوال متَّفِقة، وإنما بينها اختلافُ عبارة، والله أعلم. (5) نسبَ ابنُ جريرٍ إلى بعض أهل العراق هذا القول، ولم يذكرهم، وقد وردَ تفسيره بذلك عن ابن عمر (الدر المنثور)، ومكحول (تفسير عبد الرزاق)، ونسبه ابن كثير في تفسيره إلى عليٍّ وابن عباس وعُبادة بن الصامت وأبي هريرة وشدَّاد بن أوس وابن عمر = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 ويقسمُ بالليلِ وما جَمَعَ فيه من الخلقِ وحَواهم (1)، ويقسِمُ بالقمرِ إذا تمَّت   = ومحمد بن علي بن الحسين ومكحول وبكر بن عبد الله المزني وبكير بن الأشج ومالك وابن أبي ذئب وعبد العزيز بن سلمة بن الماجشون، ونقل هذا المعنى عن الخليل والجوهري من علماء اللغة. ويلاحَظُ أنَّ هذا اللفظَ مما يتعلقُ به حكمٌ شرعيٌّ، فقد ورد في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «وقت المَغْرِبِ ما لم يغب الشفق». وهذا القول هو الصواب، وهو اختيار ابن جرير وابن كثير وغيرهم من المفسِّرين، والله أعلم. وقد قال مجاهد في تفسير الشَّفَق: «النهارُ كله»، ورد ذلك عنه من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقال في رواية العوَّام بن حَوْشَب: «إن الشفقَ من الشمس»، ويظهر أنه إنما حملَهُ على هذا، قَرْنَهُ بقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} (تفسير ابن كثير)، وقال عنه ابن القيم: «وهذا ضعيف جداً ... ». (التبيان في أقسام القرآن: 69). وحكى ابن جرير عن بعضِهم أنه من الأضداد، فيقال للحمرة: شَفَق، وللبياض شَفَق، ولم ينسبه إلى أحد، وقد ورد عن أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز تفسير الشفق بالبياض (تفسير عبد الرزاق)، والله أعلم. (1) قال ابن جرير: «والليل وما جمع مما سكنَ وهدأَ فيه من ذي رُوح كان يطيرُ أو يَدِبُّ نهاراً ... وبنحْوِ الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل». ثم ذكرَ الروايةَ عن مفسِّري السلف: عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة ومجاهد وابن أبي مليكة، والحسن من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم، وعكرمة من طريق سماك، وابن زيد. والروايةُ عن مجاهد من طريق منصور، جاءت مرَّة: «وما أظلمَ عليه، وما دخلَ فيه»، ومرَّة: «وما لفَّ»، ومرة: «وما لفَّ عليه»، ومرَّة: «وما دخلَ فيه». وهذه تفاسيرٌ بالمعنى؛ لأن ما لفَّ عليه الليل فقد جمَعهُ، وما دخل فيه فقد جمعَهُ، وما أظلمَ عليه فقد جمعَهُ، وبهذا لا تكون خارجة عن معنى الجمع، ولذا لم يجعله ابن جرير قولاً آخر في معنى وَسَق، والله أعلم. وقد ترجم ابن جرير لقول آخر، فقال: وقال آخرون: معنى ذلك: «وما ساق، ثم ذكر الروايةَ عن ابن عباسٍ من طريق عطيَّة العوفي، قال: وما ساق الليل من شيء جمعه: النجوم». قال عطية العوفي: «ويقال: والليل وما جمع»، وعن عكرمة من طريق حسين، قال: «وما ساق من ظُلمة، فإذا كان الليل، ذهبَ كلُّ شيءٍ إلى مأواه»، وعن الضحاك من طريق عبيد، قال: «ما ساق معه من ظُلمةٍ إذا أَقْبَلَ». = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 استدارَتَه، واجتمعَ فصار بَدْراً (1). 19 - قولُه تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: إنكم أيها الناس ستمُّرونَ بأحوالٍ تركَبونها حالاً بعد حال، من ابتداء أمرِكم بكونِكم نُطَفَاً في الأرحام إلى خروجِكم من بطون أمهاتِكم، إلى معايَنَتِكم أحوالَ الدنيا ونَكَدِها، إلى وصولِكم لأحوالِ الآخرة وهَوْلِها، حتى يدخلَ كل فريق منزِلَه: الجنة أو النار (2).   = وإذا تأملتَ هذه الأقوال، وجدتَها لا تخرجُ عن معنى الجمع، ومن ثَمَّ فهي لا تخالفُ القولَ الأول، بل هي تفاسيرٌ على المعنى، فيها زيادةُ بسطٍ لأمثلةِ ما يجمعه الليل، أو طريقة هذا الجمع، والله أعلم. (1) كذا ورد عن السلف في تفسير «اتَّسَق»، ويلاحَظُ أن مادة «وسق» و «اتسق» واحدة، أما عبارات السلف فهي: 1 - إذا استوى، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وزاد العوفي لفظة «اجتمع»، وعن عكرمة من طريق سماك، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وسعيد بن جبير من طريق أبي الهيثم، وقتادة من طريق سعيد، وتفسير الضحاك من طريق عبيد، مثل تفسير ابن عباس من طريق العوفي، وابن زيد. 2 - إذا اجتمع وامتلأ، عن الحسن من طريق حفص. 3 - لثلاث عشرة ـ أي: صار مستديراً ـ عن سعيد بن جبير من طريق جعفر بن أبي المغيرة، ومجاهد من طريق منصور. 4 - إذا استدار، عن قتادة من طريق معمر. وهذه الأقوال من قَبيلِ اختلافِ التنوُّع في التعبير عن المعنى الواحدِ بعباراتٍ مختلِفة، وذلك لتقريبِ المعنى إلى ذِهْنِ السامع، ولذا وردَ عن الواحد منهم عبارتان في التفسير، والله أعلم. (2) ورد في هذه الآية قراءتان متواتِرتان: الأُولى: بضمِّ الباء من «تَرْكَبُنَّ»، وتأويلها ما سبق ذكره. والثانية: بفتح الباء من «تَرْكَبَنَّ»، وقد اختلف السلف في المخاطَبِ بهذا الخطاب، كما اختلفوا في الطَبَقِ المركوب على أقوال: الأول: لتركبنَّ يا محمد حالاً بعد حالٍ، وأمراً بعد أمرٍ من الشدائد، من قول العرب: «وقع فلانٌ في بناتِ طبق»، إذا وقع في أمرٍ شديد، وهذا قول ابن عباس من طريق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 20 - قولُه تعالى: {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ}؛ أي: لم لا يصدِّقُ هؤلاء المشركونَ بالله، ويُقِرُّون بالبعث، مع ما قد عاينوا من حُجَجِ الله بحقيقة توحيدِه؟.   = مجاهد، وقد ذكر ابن جرير تحت هذا القول أقوال بعض السلف، ولكنهم لم يصرِّحوا بأن الخطابَ للرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهم عكرمة والحسن ومرة وسعيد بن جبير، ومجاهد وقتادة والضحاك. وقد جعل الطبريُّ هذا القول عائداً إلى معنى ما ذكرتُه في المتن، فقال: «فالصواب من التأويل، قول من قال: لتركبنَّ يا محمد حالاً بعد حال، وأمراً بعد أمر من الشدائد، والمرادُ بذلك ـ وإن كان الخطابُ إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم موجَّهاً ـ جميع الناس أنهم يَلْقَوْنَ من شدائد يوم القيامة وأهوالِه أحوالاً. وإنما قلنا: عنى بذلك ما ذكرنا، أن الكلامَ قبل قوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} جرى بخطاب الجميع، وكذلك بعده، فكان أشبه أن يكونَ ذلك نظيرَ ما قبلَه وما بعدَه». الثاني: لتركبنَّ يا محمد سماءً بعد سماء، وهذا قولُ ابن مسعود من طريق علقمة، والحسن وأبي العالية من طريق قتادة، ومسروق من طريق أبي الضحى، والشعبي من طريق إسماعيل، وقد ورد وصفُ السموات بالطَّبَقِ في قوله تعالى: {وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الملك: 3، نوح: 15]، وهذا القول فيه إشارة إلى عُروج النبي صلّى الله عليه وسلّم للسماء. الثالث: لتركبنَّ السماءُ حالاً بعد حالٍ من ضُروب التغيُّر التي تَلْحَقُها، من كونها تتشقَّق، وتَحْمَرَّ فتكون وردةً كالدِّهان، وتكون كالمُهْلِ، وغيرها. وهذا قول ابن مسعود من طريق مرة الهمذاني وإبراهيم النَخَعي. وعلى هذه القراءة يكون الاختلافُ راجعاً إلى أكثر من معنى، وسبب هذا الاختلاف أنه ذكر في الآية الوصف، وهو «طبقاً عن طبق»، وهو محتمِلٌ لأكثر من موصوف، فحمَلَهُ كل مفسِّر على ما يصلُحُ له، ولذا وردَ عن بعضهم فيه قولان. وقد ورد تأويلاتٌ أخرى عن السلف ذكرَها ابن كثير، وهي داخلةٌ تحتَ هذا السبب، ولا يهولَنَّكَ هذا الاختلاف، إذ الأمر فيه سَهْلٌ، فلا تَسْتَصْعِبه، قال الطاهر بن عاشور: «وجملة {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} نسج نظمها نسجاً مجملاً لتوفير المعاني التي تذهب إليها أفهامُ السامعين، فجاءت على أبدعِ ما يُنْسَجُ عليه الكلام الذي يُرسلُ إرسالَ الأمثالِ من الكلام الجامعِ، البديعِ النسجِ، الوافرِ المعنى، ولذلك كثُرت تأويلاتُ المفسِّرينَ لها». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 21 - قولُه تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمْ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ}؛ أي: ولمَ إذا تُلِيَ عليهمْ كتابُ الله لا يخضَعون فيسجُدون لله تعالى تعظيماً واحتراماً؟. 22 - 23 - قولُه تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ *وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ}؛ أي: ولكن الذين كفروا من سَجِيَّتِهِم تكذيب ما جاء عن الله تعالى، الذي هو عالمٌ بما تحوِيه صدورُهم وتُخْفِيه من التكذيبِ بكتابِ الله ورسولِه، وغيره. 24 - 25 - قولُه تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: فأخْبِرهم بما سيلقَونه بسببِ تكذيبِهم من العذابِ المؤلم، لكن من تابَ منهم فآمنَ وعَمِلَ من الأعمالِ الصالحاتِ بأداء فرائضِ الله واجتنابِ نواهيه، فإنَّ لهم ثواباً من الله لا يُنقص ولا يُقطع، بل هو دائم. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 سورةُ البُروج آياتها:22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 سورة البروج بسم الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 سورةُ البُروج 1 - قولُه تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}: يقسمُ ربُّنا بالسماءِ صاحبةِ النجومِ ومنازِلها (1).   (1) تدلُّ مادة برج في اللغة على البروزِ والظُّهور، ومنه سُمِّيَ القصرُ والقلعةُ بُرجاً؛ لظهورِهما وبروزهما فوقَ الأرض يراهما المشاهِد دون عناء، وبها سُمِّيت منازل الشمس والقمر بروجاً، ومنه تبرُّجُ المرأة، وهو إظهاره محاسنها. وقد وقع اختلافٌ بين السلف في معنى البروج هنا على أقوال: الأول: قصورٌ في السماء، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وحكاه الضحاك من طريق عبيد المكتب، وقد أوردَ الطبريُّ في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} قولَ عطية العوفي من طريق إدريس، ويحيى بن رافع من طريق إسماعيل، وإبراهيم من طريق منصور، وأبي صالح من طريق إسماعيل. وهذا القول مبناه: تسميةُ القصورِ بالبروج، والله أعلم. الثاني: النجوم، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وابن أبي نجيح من طريق سفيان الثوري، وقتادة من طريق سعيد، وذكر الطبري في آية الفرقان قول أبي صالح من طريق إسماعيل، وقتادة من طريق معمر، ونسبَهُ ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد والحسن وقتادة والسدي. ويظهرُ أن من فسَّرها بالقصور، اعتمد المعنى الأشهر من اللفظ، ولذا قال ابن جرير الطبري في ترجيحِ معنى البروج في قوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا} [الفرقان: 61]: «وأَوْلى القولين في ذلكَ بالصواب، قول من قال: هي قصورٌ في السماء؛ لأن ذلك في كلام العرب {وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78]، وقول الأخطل: كأنها برجُ روميٍّ يشيِّدُهُ ... بانٍ بجصٍّ وآجُرِّ وأحجارِ يعني بالبرج: القصر». وتفسيرها بمطلق القَصْرِ يمكن أن يدخل فيه تفسيرها بمنازل الشمس والقمر؛ لأنهما = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 2 - قولُه تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}: ويقسمُ ربُّنا باليومِ الذي وعدَ به عبادَهُ للفصلِ بينهم، وهو يوم القيامة. 3 - قولُه تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ}: ويقسمُ ربُّنا بكلِّ راءٍ مشاهِدٍ ومَرئيٍ مُشاهَدٍ، وكلِّ شاهدٍ على أحدٍ ومشهودٍ عليه؛ كيوم الجُمعة شاهدٌ لمن حضره، وهو مشهودٌ بمن حضره، وكذا يوم عرفة، أو الرسولُ صلّى الله عليه وسلّم شاهدٌ على أمتِّه، وأمته مشهودٌ عليها، وكذا غيرها من الأقوال (1). وجوابُ القَسَمِ محذوف، تقديره: «لتُبْعَثُنَّ» بدلالة قوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ}، وهو اليوم الذي يكذِّبُ به الكفَّار. 4 - 5 - قولُه تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ *النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ}: أصحابُ الأخدود (2) هم الذين أمروا بحفر الشقوقِ الكبيرة في الأرض،   = كالقصر بالنسبة لغيرهما، أما من جعل هذه القصور لحرسِ السماء؛ كما ورد عن عطية العوفي وأبي صالح، فإنه يحتاج إلى ما يعضده من خبرِ الصادق؛ لأن مثل ذلك التحديد لا يمكن أن يُعرفَ إلا من جهة الخبر، والله أعلم. وأمَّا تفسيرها بالنجوم، فإنَّ أصلَ المادةِ التي تدلُّ على الظهور تحتملُ دخولَ النجومِ فيها؛ لأنها ظاهرةٌ بارزةٌ للعيان، وهذا التفسير أقرب الأقوال؛ لأنَّه أظهر للناس بخلاف غيره، وقاعدةُ القَسَمِ: أن يكونَ المُقْسَمُ به مما يعلمه عامة الناس، أو يرونَ أثرَه، والله أعلم. (1) ورد في تفسير هذه الآية اختلافٌ كثير، وإذا تأملته وجدتَه من اختلاف التنوع، وأنه من قبيلِ الاسم العام الذي يذكر المفسِّرون له أمثلةً تدلُّ عليه، قال ابن القيم: «ثم أقسَمَ سبحانه بالشاهدِ والمشهود مطلَقين غير معيَّنين، وأعمُّ المعاني فيه أنه المدرِك والمدرَك، والعالِم والمعلوم، والرائي والمَرئي، وهذا أَلْيَقُ المعاني به، ما عداه من الأقوال ذكرت على وجه التمثيل، لا على وجه التخصيص» (التبيان في أقسام القرآن: 57). (2) وردَ خلافٌ بين السلف في تحديد أصحابِ الأخدودِ ومكانِهم، وقد وردَ في صحيح مسلم عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ذكر أصحاب الأخدود الذين في اليمن، ولكن الرسولَ صلّى الله عليه وسلّم لم يُشِرْ في هذه القصة التي يذكرها للصحابة إلى هذه الآيات، ولذا يقال: إن كل ما ذكر من أصحابِ الأخاديد فإنه داخلٌ في حُكم هذه الآية، وبالأخصِّ القوم الذين ذكرَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم قصَّتَهُم، وهذا يكونُ من التفسير بالسنَّة؛ لأن المفسِّرَ استفادَ من هذه القصة المطابِقة لخبر الآية ففسَّر بها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ومَلْئِها بالنار، وإلقاء المؤمنين بها، والمعنى: ليحصلِ القتلُ لهؤلاء الكافرين الذين عذَّبوا المؤمنين بإلقائهم في النار التي تُشعَل بالحطب وغيره مما توقَدُ به النار. 6 - قولُه تعالى: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ}؛ أي: إذ هؤلاء الكفار قعودٌ حول النار، وهم متمكِّنون منها، يلقُون فيها من شاءوا من المؤمنين. 7 - قولُه تعالى: {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ}؛ أي: وهؤلاء الكفار يشهدونَ على أنفسِهم بما فعلوه بالمؤمنين، بعد أن حضروا تعذيبَهم. 8 - 9 - قولُه تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؛ أي: ما أنكر هؤلاء الكفار على المؤمنين إلا إيمانَهم بالله القويِّ الذي لا يُقهر، والمحمودِ الذي يكثرُ منه فِعْلُ ما يَحْمَدُهُ عليه خلقُه. والذي له كلُّ ما في السموات والأرض مُلْكاً وحُكْماً، وهو مطَّلِعٌ على كلِّ شيءٍ لا تخفى عليه منهم خافية، وهو مطَّلِعٌ على ما فعلَه هؤلاء الكفار بأوليائه. 10 - قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ}؛ أي: إنَّ الذين عذَّبوا المؤمنين بالنار (1) ـ من الكفَّار أو غيرِهم ممن اتَّصَفَ بعداءِ أولياءِ الله (2) ـ إذا لم يتوبوا إلى الله من   (1) وردَ التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن أبزَى من طريق جعفر. (2) يقول ابن القيم: «وهذا شأنُ أعداءِ الله دائماً يَنْقِمونَ على أولياء الله ما ينبغي أن يُحَبُّوا ويُكرَموا لأجله؛ كما قال تعالى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [المائدة: 59]، وكذلك اللوطية نقموا من عبادِ الله تنزيههم عن مثل فعلِهم، فقالوا: {أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82]، وكذلك أهلُ الإشراك ينقِمونَ من الموحِّدين تجريدهم التوحيد، وإخلاص الدعوةِ والعبوديةِ لله وحدَه، وكذلك أهلُ البدعِ ينقِمون من أهل السنة تجريدَ متابعتِها، وتركَ ما خالفها، وكذلك المعطِّلة ينقِمون من أهل الإثباتِ إثباتَهم لله صفات كماله ونعوت جلاله. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 فعلِهم فيصيروا بهذه التوبةِ من أوليائه (1)، فإن اللَّهَ سيعذِّبهم بنار جهنَّمَ التي تُطْبِقُ عليهم بظلُماتها، وبنارِ الحريقِ التي تحرقهم (2). 11 - قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ}؛ أي: إنَّ الذين أقرُّوا بتوحيد الله من الذين عُذِّبوا بالنار وغيرهم من المؤمنين، وعملوا بطاعة الله: بفعل أوامره واجتنابِ نواهيه، لهم بساتين تجري على أرضها أنهارُ اللَّبَنِ والعَسَلِ والماء، وذلك النعيم هو الظَفَرُ الكبير الذي ينتظرهم في الآخرة. 12 - قولُه تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}؛ أي: إنَّ أخذَ ربِّك يا محمد وانتقامَه قويٌ، كما أخبرَ عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم بقوله: «إن الله لَيُمْلي للظالم، حتى إذا أخذَهُ لم يَفْلِتْهُ، ثمَّ قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}. 13 - 14 - قولُه تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ *وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}؛ أي: إنَّ الله ذا البطشِ الشديدِ يُبدئُ العذابَ على الكافرين في الدنيا، ويعيدُه عليهم في الآخرة (3)، وإنه الذي يسترُ الذنبَ فلا يعاقِبُ به، ويحبُّ   = وكذلك الرافضةُ ينقِمونَ على أهل السنَّةِ محبَّتَهم للصحابةِ جميعِهم، وترضِّيهم عنهم، وولايتَهم إياهم، وتقديمَ من قدَّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منهم، وتنزيلَهم منازِلهم التي أنزلهم الله ورسوله بها. وكذلك أهلُ الرأي المُحدَثِ ينقِمون على أهلِ الحديثِ وحزبِ الرسول أخذَهم بحديثه وتركَهم ما خالفه، وكلُّ هؤلاء لهم نصيبٌ وبهم شبهٌ من أصحابِ الأخدود، وبينهم وبينهم نَسَبٌ قريبٌ أو بعيد». (التبيان في أقسام القرآن: 59). (1) قال الحسن البصري: «انظروا إلى هذا الكرم والجود، يقتلون أولياءَهُ ويفتنونَهم، وهو يدعوهم إلى المغفرة ... » انظر: (التبيان في أقسام القرآن: 59). (2) حَمَلَ بعض المفسِّرين؛ كالربيع بن أنس، هذه الآية على قصَّة أصحاب الأخدود، وقالوا بأن النار التي أوقدوها التَهَمَتْهُم بعد ما ألقَوْا فيها المؤمنين، وأنَّ هذا هو المراد بعذاب الحريق، والله أعلم بما كان، ولكن هذا لا يعني أن نارَ الحريقِ في الدنيا، فالنار دَرَكات، ويجوز أن تكونَ هاتان المذكورتان منها. (3) وردَ في هذا تأويلان عن السلف: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 أولياءَه ويحبونَه (1). 15 - قولُه تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}؛ أي: الله الكريمُ (2) الذي له صفاتُ الكمالِ هو صاحبُ العرشِ الذي وَسِعَ السموات والأرض (3).   = الأول: يُبدئ الخلقَ ويعيدُه، وهو قول الضحاك من طريق عبيد، وقول ابن زيد. والثاني: يُبدىءُ العذابَ في الدنيا ويعيدُه يومَ القيامة، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ورجَّحه ابن جرير، فقال: «وأَوْلى التأويلينِ في ذلكَ عندي بالصواب وأشبههما بظاهر ما دلَّ عليه التنزيل، القول الذي ذكرناه عن ابن عباس، وهو أنه يبدىءُ العذابَ لأهلِ الكفرِ به ويُعيد، كما قال جل ثناؤه: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} في الدنيا، فأبدأ لهم ذلك في الدنيا، وهو يُعيدُه لهم في الآخرة. وإنما قلت: هذا أَوْلى التأويلين بالصواب؛ لأن الله أتبعَ ذلك قوله: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ}، فكان للبيان عن معنى شِدَّةِ بطشِه الذي قد ذكره قبله، أشبه به بالبيان عما لم يَجْرِ له ذِكر، ومما يؤيِّدُ ما قلنا من ذلك وضوحاً وصحَّة، قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ}، فبيَّنَ ذلك عن أن الذي قبلَهُ من ذكرِ خبره عن عذابه وشدَّة عقابه». (1) فسَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة الودود بأنه الحبيب، وفسَّره ابن زيد بأنه الرحيم، والرحمة من لازم المحبة. قال ابن القيم: « ... الودود: المتودِّدُ إلى عبادِه بنِعَمِه، الذي يَوَدُّ من تابَ إليه وأقبلَ عليه. وهو الودود أيضاً؛ أي: المحبوب، قال البخاري في صحيحه: «الودود: الحبيب». والتحقيق أن اللفظَ يدلُّ على الأمرين، على كونه وادّاً لأوليائه، ومودوداً لهم، فأحدهما بالوضع، والآخر باللزوم. فهو الحبيب المحبُّ لأوليائه يحبُّهُم ويحبُّونَه، وقال شعيب: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 9]، وما ألطفَ اقترانَ اسم الودود بالرحيم وبالغفور؛ فإن الرجلَ قد يغفرُ لمن أساءَ إليه ولا يحبُّه، وكذلك قد يرحم من لا يُحِب، والربُّ تعالى يغفرُ لعبده إذا تاب إليه، ويرحمه ويحبه مع ذلك؛ فإنه يحبُّ التوَّابين، وإذا تابَ إليه عبده أحبَّه، ولو كان منه ما كان». (التبيان في أقسام القرآن: 59 - 60). (2) فسَّر ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: المجيدَ بالكريمِ. (3) سبق تفسير العرش، وقد وردَ في المجيد قراءتان: الأولى برفع المجيد، وتكون من صفة الله سبحانه، والثانية بخفض المجيد، وتكون من صفة العرش؛ أي: العرش المجيد الذي صار شريفاً ورفيعاً بعلُوِّه على المخلوقاتِ، وكونه هو الذي اختصَّ باستواء الرحمنِ عليه من بين المخلوقات، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 16 - قولُه تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ}؛ أي: من كمالِ هذا الربِّ المجيدِ أنه يفعلُ ما يشاء، متى شاء، وكيف شاء، لا يردُّه أحدٌ عن شيء ولا يَحُدُّه، فمتى شاء ضَحِكَ، ومتى شاء سَخِطَ، ومتى شاء أَحْيَا، ومتى شاء أَمَاتَ، وهكذا غيرها من أفعاله. 17 - 18 - قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ *فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ}: هذا مثالٌ لأُمَمٍ وقع عليها بطشُ الله، والمعنى: قد أتاكَ فيما أنزِلَ عليكَ خبرُ الجموعِ الكافرةِ المتجنِّدة لحربِ أولياءِ الله، وهم فرعون وقومه الذين كذَّبوا موسى عليه السلام، وقومُ ثمودَ الذين كذَّبوا صالحاً عليه السلام، وهم قد كفروا برسُلِهم عن عِلْمٍ، فكان كُفرُهم كُفْرَ جُحود. 19 - 20 - قولُه تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ *وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ}؛ أي: لكن الذين كفروا من قومِك ينسبونَكَ إلى الكَذِبِ ولا يصدِّقونَكَ فيما تخبِرُ به من الوحي، والله المطَّلعُ عليهم متمكِّنٌ منهم، فهم لا يفلِتون منه، ولا يُعْجِزونَه، ولا مكان لهم يُؤويهم من عذابه. 21 - 22 - قولُه تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ *فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ}؛ أي: لكن هذا الوحي الذي يكذِّبون به كلامٌ متلوٌّ باللسانِ، وهو كلامٌ كريمٌ شريفٌ (1)؛ لأنه كلامُ ربِّ العالمين، وهو محفوظٌ مَصُونٌ في اللوح المحفوظ، محفوظٌ من كلِّ ما يُشينه وينقصه (2)، فلا تصِل إليه يدُ التخريب (3)، والله أعلم.   (1) ورد عن قتادة من طريق سعيد، وسعيد بن جبير من طريق جعفر: «مجيد: كريم». (2) قال مجاهد من طريق منصور: «في لوح: أم الكتاب»، وقال قتادة من طريق سعيد: «محفوظٌ عند الله»، ووردَ عن أنس بن مالك أن اللوحَ المحفوظَ المذكور هنا محفوظٌ في جبهة إسرافيل، والله أعلم بصحَّة ذلك. (3) ورد في «محفوظ» قراءتان: الأولى بالرفع، وتكون صفة للقرآن، والثانية بالخفض، وتكون صفة للَّوح، ومؤدَّى القراءتين: أن القرآنَ محفوظٌ في اللوح المحفوظ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 سورةُ الطَّارِق آياتها:17 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 سورة الطارق بسم الله الرحمن الرحيم وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سورةُ الطَّارِق 1 - 3 - قولُه تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ *النَّجْمُ الثَّاقِبُ}: يقسمُ ربُّنا بالسماء وما يأتي ويطرقُ فيها ليلاً، ثمَّ استفهمَ مشوِّقاً لهذا الطارقِ فقال: وما أعلمكَ ما الطارقُ، ثمَّ أجاب عنه بأنه النجوم المتَّقدةُ المضيئةُ في السماء. 4 - قولُه تعالى: {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: لا توجد نفسٌ من نفوسِ بني آدم إلاَّ عليها حافظٌ من الملائكة يحفظونَ عليهم أعمالهم، ثمَّ يُحَاسَبون عليها بعد البعث. 5 - 6 - قولُه تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ *خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ}؛ أي: فلينظرِ الكافرُ الذي يُنكرُ البعثَ، فلينظر مادةَ خَلْقِه، وهي المَنِيُّ المنصبُّ، فالذي خلقه من هذه النطفةِ الحقيرةِ قادرٌ على إعادته. 7 - قولُه تعالى: {يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ}؛ أي: يخرجُ هذا الماء المنصبُّ من موضع العمودِ الفِقْرِيِّ وأضلاعِ الصدرِ التي تضعُ المرأةُ القِلادةَ عليها (1).   (1) هذا القولُ في الترائبِ هو قولُ جمهور المفسرين، وعليه إجماعُ أهلِ اللغة، وممن قال به من السَّلَفِ: ابن عباسٍ من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة، وعكرمة من طريق أبي رجاء وعبد الله بن نعمان الحُدانيّ، وسعيد بن جبير من طريق عطاء، ومجاهد من طريق ثُوَير وابن أبي نجيح، وسفيان الثوري من طريق مهران، وابن زيد. ويظهرُ أن مرادَهم في تفسير الترائب تحديد مكانها بموضع القِلادة، لا أنها أضلاعُ المرأة، لأنَّ الماءَ المدفوقَ، أو ذا الدَّفق، يخرجُ من الرجل لا من المرأة، ونظم هذه الآية نظير نظم قوله تعالى: {نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خَالِصًا}، [النحل: 66] والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 8 - 9 - قولُه تعالى: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ *يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}؛ أي: إنَّ اللَّهَ يستطيعُ أن يَرُدَّ الإنسانَ بعد موته، فيُحْيِيه، وذلك كائنٌ يومَ تُختبرُ ضمائرُ الناسِ وما يخفونَه، فتظهرُ هذه المَخْفِيَّات أمامهم (1). 10 - قولُه تعالى: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}؛ أي: في هذا اليومِ ليس لهذا الإنسانِ الكافرِ من قوة في ذاته يدفعُ بها عن نفسِه، ولا أحدٌ من الخلق مُعينٌ له من عذاب الله.   = وورد عن ابن عباس من طريق العوفي: الترائب: أطراف الرِّجل واليدان والرِّجلان والعينان. وعن الضحاك من طريق أبي روق: اليدان والرِّجلان، وعنه من طريق عبيد المكتب: عيناه ويداه ورِجلاه. (1) ورد في تفسير الضمير في قوله: «رجعِه» قولان: الأول: أنه يعودُ على الإنسان، وفيه تأويلان: الأول: إنه على رجعِ الإنسان بعد مماته لقادر، وهو قول قتادة من طريق سعيد. الثاني: إنه على رَدِّ الإنسان ماءً لقادر، وهو قول الضحاك من طريق عبيد ومقاتل بن حيان. الثاني: أنه يعود على الماء، وفيه تأويلات: الأول: إنه على رَدِّ الماء في الصُّلب لقادر، وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء. الثاني: إنه على رَجْعِهِ في الإحليل لقادر، وهو قول مجاهد من طريق ليث وعبد الله بن أبي بكر وابن أبي نجيح. الثالث: إنه على رَدِّ الماء وحبسِه فلا يخرجْ لَقادر، وهو قول ابن زيد. والقول الأول هو الراجح، قال الطبري: «وأَوْلى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: معنى ذلك: إن الله على رَدِّ الإنسان المخلوقِ من ماءٍ دافقٍ من بعد مماته حيّاً، كهيئتهِ قبل مماته، لقادر. وإنما قلت: هذا أولى الأقوال في ذلك بالصواب؛ لقوله: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ}، فكان في إتباعه قوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} نبأٌ من أنباء القيامة، دلالة على أنَّ السابق قبلها أيضاً منه، ومنه: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ} يقول تعالى ذكره: إنه على إحيائه بعد مماته لقادر يومَ تُبلى السرائر، فاليوم من صفة الرجع، لأن المعنى: إنه على رجعه يوم تبلى السرائر لقادر». وقال ابن القيم: «والقول الأول هو الصواب لوجوه: أحدها: أنه المعهودُ من طريقة القرآن من الاستدلال بالمبدأ على المعاد ... الثالث: أنه لم يأت لهذا المعنى [أي: رد الماء إلى الصلب أو الإحليل] في القرآن نظيرٌ في موضعٍ واحد، ولا أنكرَه أحدٌ حتى يقيم سبحانه الدليل عليه ... الخامس: أن الضمير في «رجعه» هو الضمير في قوله: {فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ}، وهذا للإنسان قطعاً، لا للماء ... ». (التبيان في أقسام القرآن: 66). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 11 - 14 - قولُه تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ *وَالأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ *إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ *وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ}: يقسمُ ربُّنا بالسماء التي يرجِعُ منها المطر مرَّةً بعد مرة (1)، وبالأرضِ التي تتشقَّقُ فيخرُجُ منها النبات (2)، أنَّ هذا القرآن الذي أنزلَهُ على عباده قولٌ جِدُّ، وهو فُرقانٌ يفرِّقُ اللَّهُ به بين الحقِّ والباطل (3)، وليس لَعِباً ولا لَهْواً من القول. 15 - 16 - قولُه تعالى: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا *وَأَكِيدُ كَيْدًا}؛ أي: إنَّ هؤلاء المكذِّبينَ بالبعثِ والقرآنِ يُدبِّرون الحِيَلَ ويمكرون، والله يكيدهم كما هم يكيدون، ولذا ينقلبُ عليهم كيدُهم خُسراناً وهلاكاً، فمن ذا الذي يستطيع حربَ الله والكيدَ له؟!. 17 - قولُه تعالى: {فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا}؛ أي: اتركهُم، ولا تتعجَّل عليهم، واصبِر عليهم قليلاً قليلاً، فإنهم سيلاقونَ ما أوعدَهم الله جزاءً لكيدِهم، والله أعلم.   (1) فسَّر السلفُ الرَّجْعَ بالمطر، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، والحسن من طريق أبي رجاء، وعكرمة من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحاك من طريق عبيد. وانفرد ابن زيد بتفسير الرجع بقوله: «شمسها وقمرها ونجومها يأتين من ها هنا». (2) كذا فسَّر السلف ذلك، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، والحسن وعكرمة من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد، وقرأ: {ثُمَّ شَقَقْنَا الأَرْضَ شَقًّا *فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا} إلى آخر الآيات. [عبس: 29 - 31] (3) قال ابن جرير: «يقول: لقولٌ يفصِلُ بين الحق والباطل ببيانه. وبنحْوِ الذي قلنا في ذلك قال أهلُ التأويلِ على اختلافٍ منهم في العبارة عنه، فقال بعضهم: لقولٌ حقٌ، وقال بعضهم: لقولٌ حكم». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 سورةُ الأعلَى آياتها:19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 سورة الأعلى بسم الله الرحمن الرحيم سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 سورةُ الأعلَى كان صلّى الله عليه وسلّم يقرأُها في صلاةِ العيد، وفي صلاة الشَّفْعِ قبلَ الوتر، وفي صلاة الجمعة. 1 - قولُه تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى}؛ أي: نَزِّهْ ربَّكَ الذي علا على خلقِه في السماء (1)، نَزِّهْهُ ناطقاً باسمه ومتكلِّماً به عند ذكرِك إيَّاه، وتعظيمِكَ له، وصلاتِك له (2).   (1) جاء وصفُ الأعلى على صيغة اسم التفضيل المطلَقِ الذي لا مقابِلَ له، للدلالةِ على كمالِه في هذا الوصف، وأنه لا أحدَ أعلى منه، وعُلُّوُه يشمل علُوَّ الذات على خلقه. فهو مستوٍ على العرش الذي هو أعلى المخلوقات وأوسَعُها، وعلوَّ القهر، فهو القاهرُ فوق عبادِه، وعلوَّ القَدْرِ بما له من الأسماء الحسنى والصفات العُلَى، والله أعلم. (2) ورد في تأويل هذه الجملة إشكال، وهو: هل المراد تسبيحُ الاسم أو تسبيحُ الربِّ؟ والصواب، والله أعلم، أنَّ المرادَ تسبيح الرب، ويدل على ذلك حدِيثُ الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنها لما نزلت قال: اجعلوها في سجودِكم. ونحن مأمورونَ بأن نقول: سبحان ربيَ الأعلى، وقد ورد هذا التفسير عن علي بن أبي طالب من طريق عبد خير، وابن عباس من طريق أبي إسحاق الهمذاني وزياد بن عبد الله. وهذا يستلزمُ تنزيهَ اسمِه تعالى من أن يسمَّى به غيرُه، كما سمَّى المشركون أصنامهم بأسماء الله؛ كاللاَّت والعُزَّى. قال ابن القيم: « ... فصار معنى الآيتين: سبِّح ربَّكَ بقلبِكَ ولسانِكَ، واذكر ربك بقلبك ولسانك، فأقحمَ الاسمَ تنبيهاً على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان؛ لأن ذكر القلبِ متعلَّقُهُ المسمَّى المدلول عليه بالاسم دون ما سواه، والذكر باللسان متعلَّقه اللفظ مع مدلوله؛ لأن اللفظَ لا يرادُ لنفسه، فلا يتوهَّم أحدٌ أن اللفظ هو المُسبَّح دون ما يدل عليه من المعنى. وعبَّر لي شيخنا أبو العباس ابن تيمية ـ قدَّس الله روحه ـ عن هذا المعنى بعبارةٍ لطيفة وجيزة، فقال: المعنى: سبِّح ناطقاً = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 2 - قولُه تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}؛ أي: سبِّحْهُ لأنه خَلَقَ الخلقَ، وجعلَ كلَّ مخلوقٍ مناسباً لما خَلَقَهُ له، فهو يقومُ بالأعمال التي تناسِبه. 3 - قولُه تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى}؛ أي: والذي قدَّر لكلِّ مخلوقٍ مقاديرَه، وهداهُ لإتيانِ هذه الأقدار؛ كتقديرِ الإنسانِ للشِّقْوَة والسعادة، والبهائم للمراتع، وغيرِها من أنواع التقدير (1). 4 - 5 - قولُه تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى *فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى}؛ أي: والذي أخرج المرعى نباتاً أخضرَ، فصيَّرَه بعد ذلك هشيماً يابساً متغيِّراً مائلاً إلى السَّوادِ من شدَّة اليُبْسِ (2). 6 - 7 - قولُه تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنْسَى *إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى}: هذا وعدٌ من الله لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم بأن يجعلَهُ قارئاً للقرآن حافظاً له، فلا يقعُ منه نسيانٌ له (3)، إلاَّ ما نسخَ اللَّهُ تِلاوتَه، ثمَّ أخبرَهُ قائلاً: إنَّ الله يعلمُ   = باسم ربِّك متكلِّماً به، وكذا سبِّح ربَّك ذاكراً اسمه. وهذه الفائدةُ تساوي رحلة لكن لمن يعرِف قَدْرَهَا، فالحمد لله المنَّان بفضله، ونسأله تمامَ نِعمته». (بدائع الفوائد 1:19). (1) قال ابن جرير: «والصوابُ من القولِ في ذلك عندنا: أنَّ الله عمَّ بقوله: «فهدى» الخبرَ عن هدايته خلقَه، ولم يخصِّص من ذلك معنى دون معنى، وقد هداهُم لسبيل الخير والشرِّ، وهدى الذكورَ لمأتى الإناث، فالخبر على عمومه حتى يأتي خبر تقومُ به الحجة دالٌّ على خصوصه». وعلى هذا فما ورد في تفسير السلفِ فهو على سبيل المثالِ لتقدير وهدايةٍ، والله أعلم. (2) قال الطبري: «وكان بعضُ أهل العلم بكلام العربِ يرى أن ذلك من المؤخَّرِ الذي معناه التقديم، وأن معنى الكلام: والذي أخرج المرعى أحوى؛ أي: أخضر إلى السواد، فجعله غثاءً بعد ذلك، وَيَعْتَلُّ لقوله ذلك بقول ذي الرُّمَّة: حَوَّاءُ أشْرَاطِيَّةٌ وَكَفَتْ ... فيها الذَّهَابُ وحَفَّتْها البراعيم وهذا القول ـ وإن كان غير مدفوعٍ أن يكون ما اشتدَّت خُضرته من النبات قد تسمِّيه العربُ أسود ـ غير صواب عندي، بخلافه أهل التأويل في أن الحرفَ إنما يُحتالُ لمعناه المخرج بالتقديم والتأخير، إذا لم يكن له وجهٌ مفهومٌ إلاَّ بتقديمه عن موضِعه أو تأخيره، فأمَّا وله في موضعِه وجهٌ صحيحٌ، فلا وجهَ لطلبِ الاحتيالِ لمعناه بالتقديم والتأخير». (3) حُكِيَ عن بعض المفسِّرين أنَّ «لا» في قوله: {فَلاَ تَنْسَى} لا الناهية، وهذا مخالفٌ لرسم = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 ما يقعُ منكَ من عملٍ أظْهَرْتَه، وعملٍ كَتَمْتَه فلم تُظْهِرْهُ، فهو يعلمُ جميعَ أحوالِكَ سرِّها وعلانيتِها. 8 - قولُه تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى}: وهذا وعدٌ آخرُ لنبيه صلّى الله عليه وسلّم بأن يُسهِّل له عملَ الخيرِ الموصلَ للجنة. 9 - قولُه تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى}: هذا بيانٌ لمَهَمَّةِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي تذكيرُ الناس كافَّة، فمن آمنَ كانت هذه الذِّكرى نافعةً له، وهو المَعْنِيُّ بقوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}، وإنْ لم يَتَذَكَّرْ كانت حجةً عليه، وهو المَعْنِيُّ بقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى} (1).   = المصحفِ الذي جاء فيه رسمُ «تنسى» بالألف المقصورة، ولو كان كما قال: لحُذِفَت هذه الألف لأجل جزم الفعل المضارع، والله أعلم. ونقل الطبري عن بعض أهلِ العربية، وهو الفرَّاء، فقال: «لم يشأ الله أن تنسى شيئاً، وهو كقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ} [هود: 107]، ولا يشاء. قال: وأنت قائل في الكلام: لأعطينَّكَ كلَّ ما سألتَ إلاَّ ما شئتُ، وإلاَّ أن أشاء أن أمنعَك، والنيةُ أن لا تمنَعه، ولا تشاءَ شيئاً. قال: وعلى هذا مجاري الأيمان، يستثنَى فيها، ونيَّة الحالف اللَّمام». وهذا القول فيه إخراجٌ للاستثناء عن معناهُ دونَ ما يدعو إليه من المعنى، والمعنى المفسَّر على بقاء الاستثناء واضحٌ ومطابِقٌ للواقع، وهذا مما يدلُّ على خطأ هذا القول، والأصلُ بقاء اللفظِ على ما يدلُّ عليه، ولا يُخرَج عنه إلاَّ بدليل، والله أعلم. (1) مقصودُ الآية أنها حجَّةٌ على الكافر وتَذْكِرَةٌ للمؤمن، كما قال الحسن البصري، وهذا يدلُّ على أنَّ التذكيرَ واجبٌ في كل حال، وأنها نافعةٌ في كل حال، ولا يصحُّ أن يكون لهذا الشرط مقابِلٌ؛ أي: وإن لم تنفع فلا تذكر، إذ لا وجه لتقييد التذكير بما إذا كانت الذِّكرى نافعة؛ لأنه لا سبيلَ إلى تعرُّفِ مواقع نفعِ الذكرى. فالدعوة عامة، وما يعلمه الله من أحوال الناسِ في قَبولِ الهُدى أو عَدَمِه أمرٌ استأثرَ اللَّهُ بعلمِه، فأبو جهلٍ مَدْعُوٌّ للإيمان، والله يعلمُ أنه لا يؤمِن، لكنَّ اللَّهَ لم يخصَّ بالدعوة من يُرجى إيمانُه دون غيرهم، والواقع يكشفُ المقدور. وعلى هذا فقوله: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} أمرٌ بتذكيرِ كلِّ أحدٍ، فإن انتفعَ كانت تذكرةً تامةً نافعةً، وإلاَّ حصلَ أصلُ التذكيرِ الذي تقومُ به الحجة والله أعلم. (انظر: دقائق التفسير: 5: 75 - 84). = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 10 - قولُه تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى}: هذا بيانٌ للفريقين اللَّذَينِ يسمعانِ الذِّكرى، فالفريقُ الأول هو الذي حَصَلَتْ آثارُ التذكيرِ في قلبه، فوقعَ منه التذكُّرُ، وهو الذي يخافُ اللَّهَ على علمٍ وتعظيمٍ ومحبةٍ له. 11 - 13 - قولُه تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى *الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى *ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا}: وهذا الفريقُ الثاني الذي يسمعُ الذِّكرى، ولكنه يتباعدُ عنها، فلا يقعُ في قلبه تذكُّر، فهو شديدُ الشِّقْوَة، فلا يسعَدُ بسبب تلك الشِّقوة التي حصَلَت له بسببِ كُفره بالله. وهذا الأشقى سيدخلُ النارَ الكبرى التي هي شديدةُ العذابِ والألمِ، فتشويه بحرِّها، ثمَّ هو لا يموتُ فيستريحُ من عذابها، ولا يحيى حياةً كريمةً لا إهانةَ فيها، ومعنى ذلك أنه لا يزولُ عنه الإحساس، بل هو باقٍ فيه، فيذوقُ به العذابَ، والعياذُ بالله. 14 - 15 - قولُه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى}؛ أي: حَصَلَ الظفرُ والفوزُ والنجاح لمن جعلَ نفسَه زاكيةً بتركِ السيِّئات، وحلاَّها بالعملِ الصالح، وذكَرَ ربَّه بقلبِه ولسانه، فأقامَ الصلاةَ لله (1).   = ومجيء «إنْ» المقتضي عدمَ احتمال وقوعِ الشرط، أو نُدرة وقوعه، فيه تنبيهٌ على أنَّ في القوم المذكَّرين من لا تنفعه الذِّكرى، ويفسِّر هذا ما جاء بعدها من قوله: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى}. (1) ورد في تفسير التَّزَكي خلافٌ بين السلف: الأول: من كان عملُه زاكياً، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «من تزكَّى من الشرك»، وهو قول الحسن من طريق هشام، وقتادة من طريق معمر، وعكرمة من طريق الحكم. الثاني: قد أفلح من أدَّى زكاةَ مالِه، وهو قول أبي الأحوص، وقتادة من طريق سعيد. الثالث: من أدَّى زكاةَ الفطرِ، وهو قول أبي العالية من طريق أبي خلدة. والظاهرُ من الخطابِ العموم، وما ذُكِرَ من تفسيراتٍ غيرَه فإنها أمثلة لأعمالٍ تُزَكِّي المسلم، ويظهرُ من رواياتِ مَنْ فسَّر التزكِّي بزكاة المال، أو زكاةِ الفطر، أنَّه استشهد بهذه الآيات، لا أنه أرادَ أنها هي المعنية دون غيرِها؛ لأنَّ السورةَ مكية، وزكاةُ الفطرِ = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 16 - 17 - قولُه تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا *وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}؛ أي: ولكنَّكم أيها الأشْقَوْنَ تختارونَ زينةَ الحياةِ الدنيا على نعيمِ الآخرة الذي هو أدومُ وأعلى من نعيم الدنيا كمًّا وكيفاً ومكاناً وزماناً وهيئةً. 18 - 19 - قولُه تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى *صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى}؛ أي: إنَّ هذه الموعِظة التي في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} وما بعدها (1) موجودةٌ في ما أنزله الله من الكُتب على نبيَّيْهِ إبراهيمَ وموسى، والله أعلم.   = إنما كانت في المدينة، وكذا يحملُ على ما بعدها من الذكر والصلاة إنها على العموم، قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: وذكَرَ اللَّهَ فوحَّدَه، ودعا إليه، ورغَّب؛ لأنَّ كلَّ ذلك من ذِكْرِ الله، ولم يخصِّص الله تعالى من ذكره نوعاً دون نوعٍ». (1) ذكرَ الطبريُّ أقوالاً في مرجع اسم الإشارة «هذا»، ثم قال: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: إنَّ قوله: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى *وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} لفي الصحُفِ الأُولى، صُحُفِ إبراهيمَ خليل الرحمن، وصُحُفِ موسى بن عمران. وإنما قلت: ذلك أَوْلى بالصحَّة من غيره، لأن هذا إشارةٌ إلى حاضِرٍ، فلأَنْ يكونَ إشارةً إلى ما قَرُبَ منها، أولى مِنْ أنْ يكونَ إشارةً إلى غيرِه. وأما الصُّحُف: فإنها جمع صحيفة، وإنما عُنِيَ بها: كُتب إبراهيم وموسى». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 سورةُ الغَاشية آياتها:26 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 سورة الغاشية بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 سورةُ الغَاشية وردَ عن النبيِّ صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يقرأُها في صلاةِ العيدِ والجُمعة. 1 - قولُه تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}: يقولُ اللَّهُ تعالى لنبيِّه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم: هل أتاكَ خبرُ يومِ القيامة التي تغشَى الناسَ بأهوالها وتُغطِّيهم (1)؟.   (1) وردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «الغاشية: من أسماء يوم القيامة، عظَّمه الله، وحذَّره عباده». ومن طريق العوفي قال: «الساعة»، وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد. وذكر الطبري ترجمة أخرى، فقال: «وقال آخرون: بل الغاشية: النار تغشى وجوهَ الكَفَرَة»، وأوردَ الرواية عن سعيد بن جبير، قال: «غاشيةُ النار». ويلاحَظُ أنَّ قول سعيدٍ يَحتمِلُ أن يُرادَ به الذين يغشون النار، وهم الكفَّار، والله أعلم. ثم رجَّح الإمام ابن جرير فقال: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنَّ الله قال لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ}، لم يخبرنا أنه عَنَى غاشيةَ القيامةِ، ولا أنه عَنَى غاشيةَ النَّارِ، وكِلتاهما غاشيةٌ، هذه تَغشَى الناسَ بالبلاءِ والأهوالِ والكُروبِ، وهذه تغشى الكفارَ باللَّفْحِ في الوجوهِ، والشَّواظِ والنُّحاسِ، فلا قول أصحَّ من أنْ يقالَ كما قال جلَّ ثناؤه، ويُعمَّ الخبرُ بذلك كما عَمَّهُ». ويلاحَظُ هنا أن ابن جرير لم يعتمد قولَ ابن عباس ويقدِّمه على أنه قول صحابي، ويترك ما خالفه من قول التابعي، وهذا منهجٌ يحتاجُ إلى بحثٍ ودراسة، والله أعلم. وعلى هذا يكون سبب الاختلاف أن الغاشية وصفٌ لمحذوف، فذكَرَ كلُّ واحدٍ منهم ما يحتمله من الموصوفات، وهذه الموصوفاتُ جاءت على سبيل التواطىء بينها في وصف الغاشية، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 2 - قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ}؛ أي: يومُ الغاشيةِ تكونُ وجوهٌ حاضرةٌ له ذليلةً في النار (1)، وهي وجوهُ الكفَّار. 3 - قولُه تعالى: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ}؛ أي: هذه الوجوهُ الكافرةُ عاملةٌ في النار، تعملُ من الأعمال ما به مشقَّةٌ وتَعَب، ومن ذلك جَرُّ السلاسِلِ والأغلالِ وغيرها من أنواعِ العذابِ التي تعمَلُها في النارِ (2).   (1) فسَّرها قتادة من طريق سعيد: «ذليلة»، وزاد من طريق معمر: «خاشعة في النار»، فبيَّن مكان خشوعِها. (2) سياقُ الآيات يدلُّ على أنَّ هذا العملَ يكونُ في النار، ولا يصحُّ أن يقال: إنَّ الآخرةَ ليس فيها عمل؛ لأنَّ هذه المسألة لا دليلَ عليها من كتابٍ ولا سنَّة، وإنما هي استنباطٌ عقلي، وهو غير صحيح. وبهذا جاء التفسيرُ عن السلف، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والحسن من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. وقد حملَ بعض المفسِّرين الآية على الدنيا، وقال بأنها في الرُّهبانِ الذي يُتعبِون أنفسهم في عبادة الله، وهم على الباطل، فَيَتعَبون في الدنيا ويُعذَّبون في الآخرة، وذكروا في ذلك أثراً عن عمر رضي الله عنه في أنه رأى راهباً فبكى، وقال: ذكرتُ قولَ الله: {عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ *تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}، والأثر فيه انقطاع، ولو صحَّ، فإنه يكون تفسيراً قياسياً، لا أنَّ المرادَ بالآية هذا الرَّاهبُ وجنسُه فقط، بل هي في جميعِ الكفَّارِ، والله أعلم. وقد أوردَ البخاريُّ عن ابن عباسٍ في تفسيرِ هذه الآيةِ أنهم النصارى، وفي روايةِ غير البخاري، اليهود، وهو محمولٌ على ما ذكرت، أو أنه أشارَ إلى قومٍ من الذين يعملونَ وينصبون في الآخرة في النار، فيكون تفسيراً بالمثال، والله أعلم. وقد ذكر ابن تيمية هذين القولين، وقال: « ... والقول الثاني: أن المعنى أنها يوم القيامة تخشع؛ أي: تذل وتعمل وتنصب. قلت: هذا هو الحق لوجوه». ثم ذكر هذه الوجوه، ومنها: «أنه على هذا التقدير يتعلق الظرف بما يليه؛ أي: وجوه يوم الغاشية خاشعة عاملة ناصبة صالية، وعلى الأول لا يتعلق إلا بقوله: «تَصْلى»، ويكون قوله: «خاشعة» صفة للوجوه، قد فَصَلَ بين الصفةِ والموصوف بأجنبي متعلِّق بصفة أخرى متأخِّرة، والتقدير: وجوهٌ خاشعةٌ عاملة ناصبةٌ يومئذ تَصْلَى ناراً حامية، والتقديمُ والتأخيرُ على خلافِ الأصل، فالأصلُ إقرارُ الكلامِ على نَظْمِه وترتيبه، لا تغيير ترتيبه. ثم إنما يجوز فيه التقديم والتأخير مع القرينة، أما مع اللَّبْسِ فلا يجوز؛ لأنه يلتبسُ على المخاطَبِ، ومعلوم أنه ليس هنا قرينة تدلُّ على التقديم والتأخير، بل القَرِينةُ تدلُّ على = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 4 - قولُه تعالى: {تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً}؛ أي: تَرِدُ هذه الوجوهُ ناراً قد اشتدَّ حَرُّها، فتشويها بحرِّها. 5 - قولُه تعالى: {تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ}؛ أي: تَسْقي ملائكةُ العذابِ هذه الوجوهَ الكافرةَ من ماءِ عينٍ قد بلغت حرارتُها أشدَّ ما يكون من الحرارة (1). 6 - قولُه تعالى: {لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ}؛ أي: ليس لهذه الوجوهِ الكافرةِ في النار طعامٌ يأكلونه إلاَّ نباتاً من الشَّوك، وهو الشِّبْرِقُ اليابس (2).   = خلافِ ذلك، فإرادةُ التقديمِ والتأخيرِ بمثل هذا الخطاب خلاف البيان، وأمرُ المخاطَب بفهمِه تكليفٌ لما لا يُطاق ... ». (انظر الوجوه الأخرى في دقائق التفسير: 5/ 123 - 124). (1) كذا فسَّر السلف: ابن عباس من طريق العوفي، والحسن من طريق أبي رجاء ومعمر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد. وفسَّرها ابن زيد، فقال: آنية: حاضرة، وقد وردَ عن مجاهدٍ من الطريق السابق تفسيره: «قد بلغت إنَاهَا، وحانَ شربها»، وعلى هذا فتفسيرها بحاضرةٍ تفسير بلازم المعنى؛ لأنها إنما بلغت إنَاهَا لكي يشربها هؤلاء الكفار، والله أعلم. (2) هذا قول مجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وشريك بن عبد الله. وقد نسبه ابن كثير إلى ابن عباس ومجاهد وعكرمة وأبي الجوزاء وقتادة. ووردَ عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «شجرٌ من النار». ووردَ عن ابن زيد: «الضَّريع: الشوك من النار، قال: وأما في الدنيا، فإن الضَّريع: الشوك اليابسُ الذي ليس له ورق، تدعوه العرب الضَّريع، وهو في الآخرة شوكٌ من نار». وهذا لا يخالِفُ ما وردَ من أنه الشِّبرق اليابس، فإنه يكون من شجر النار، ويكون ناراً كما قال ابن زيد، والله أعلم. ووردَ في تفسير سعيد بن جبير من طريق جعفر بأن الضَّريعَ الحجارة. ولم أجد من فسَّره بهذا التفسير، كما لم أجده في كتب اللغة، فهل هي لغة علِمَها سعيد وجهِلَها غيره، أم ماذا؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 7 - قولُه تعالى: {لاَ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِنْ جُوعٍ}؛ أي: هذا الشِّبْرِقُ اليابسُ الذي يأكلونَه في النار لا يُسْمِنُ آكليه، ولا يسدُّ رَمَقَ جوعِهم. 8 - قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ}؛ أي: ووجوهٌ في يوم الغاشيةِ قد ظهرَ عليها الحُسْنُ والبهاءُ الذي يكون من أثَرِ النعيم، وهذه وجوهُ المؤمنين. 9 - قولُه تعالى: {لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ}؛ أي: لعمَلِها الذي عملَته في الدنيا حامدةٌ غير ساخِطة، وذلك لما وجدتْ من الثوابِ عليه. 10 - 11 - قولُه تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ *لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً}؛ أي: هذه الوجوهُ المؤمنة في بساتين مرتفعة، لا تسمعُ في هذه الجنَّةِ العاليةِ كلمةَ باطل (1)؛ لأنَّ الجنة طيبةٌ، طيِّبٌ ما فيها، وهي دارُ سلامٍ وأمنٍ دائمٍ. 12 - 16 - قولُه تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ *فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ *وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ *وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ *وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ}؛ أي: في هذه الجنةِ العالية من جنسِ عينِ الماءِ، تجري على أرضِها من غير أُخدودٍ، وفيها السُّرُرُ مرتفعةٌ وعاليةٌ يجلسون عليها ويضطَجِعون، لينظروا ما حولَهم من النعيم، وفيها   (1) قال الطبري: «وقوله: {لاَ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} يقول: لا تسمعُ هذه الوجوه؛ المعنى لأهلها، فيها: في الجنة العالية لاغية؛ يعني باللاغية: كلمة لَغْوٍ، واللَّغْوُ: الباطلُ، فقيلَ للكلمة التي هي لَغْوٌ: لاغية، كما قيل لصاحب الدِّرع: دارع، ولصاحب الفَرَس: فارس، ولقائل الشعر: شاعر. وكما قال الحُطَيئة: أغَرَرْتَنِي وَزَعَمْتَ أَنَّـ ... ـك لابِنٌ بالصَّيْفِ تَامِرْ يعني: صاحبَ لَبَنٍ، وصاحبَ تمر. وزعم بعض الكوفيين [هو الفراء] أن معنى ذلك: لا تسمع فيها حالفةٌ على الكذب، ولذلك قيل: لاغية. ولهذا الذي قال مذهبٌ ووجه، لولا أن أهلَ التأويل من الصحابة والتابعين على خلافه، وغير جائز لأحدٍ خلافُهم فيما كانوا عليه مجتمعين». ثمَّ ذكر الرواية عن ابن عباس من طريق العوفي، قال: «لا تسمع أذى ولا باطل»، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «شتماً»، وقتادة من طريق سعيد ومعمر: «لا تسمع فيها باطلاً ولا شتماً». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أواني الشُّرب مُعدَّةٌ عندهم إذا أرادوا أن يشرَبوا من العين أو غيرها، وفيها الوسائد التي قد رُصَّ بعضها بجوار بعضٍ (1)، وفيها البُسُطُ الكثيرةُ الوفيرةُ المنتشرةُ بين يدي المؤمن. 17 - قولُه تعالى: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}: لما ذكرَ أهلَ الشقاءِ في أول السورة ومآلهم، ذكر هنا سبب ذلك الشقاء، وهو إعراضُهم عن دلائل التوحيد، فقال: {أَفَلاَ يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ}؛ أي: هؤلاء المنكِرونَ لقدرة الله، أفلا ينظرُون نظرَ اعتبارٍ وتفكُّرٍ إلى الإبلِ التي هي مركوبهم الأول، ينظرون كيف خَلَقَها اللَّهُ بما فيها من العَظَمةِ والكِبرِ؟، وكيف ذَلَّلَها مع هذا العِظَمِ في خَلْقِها؟. 18 - 20 - قولُه تعالى: {وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ *وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ *وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}؛ أي: وينظرون معتبرينَ إلى هذه السماء العظيمةِ التي تغطِّيهم كيف رفعها الله من غير عَمَدٍ يَرَوْنَها؟ وإلى هذه الجبالِ العظيمةِ التي يتَّخذونَها مأوىً لهم، كيف أقامها اللَّهُ شامخةً عالية؟ وإلى الأرضِ، كيف بَسَطَها الله لهم ومهَّدَها لسكَنِهم وتقلُّبِهِم فيها؟. 21 - قولُه تعالى: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ}: هذا بيانٌ لمَهَمَّة الرسول صلّى الله عليه وسلّم، وهي التذكير، وأن عليه ألا ييأسَ مما يجده من إعراضِ هؤلاء المنكرين لقَدَرِ الله تعالى وتوحيدِه. 22 - قولُه تعالى: {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ}؛ أي: لستَ مُسلَّطاً عليهم تحملهم على ما تريد، وتُكرِههم على الإيمان. 23 - 24 - قولُه تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ *فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ   (1) عبَّر السلف عن النمارِق بالمرافق، وَرَدَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وبالمجالس من طريق العوفي، وبالوسائد عن قتادة من طريق سعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الأَكْبَرَ}؛ أي: لكن من أعرضَ عن التذكُّر وتركَه، وكفرَ بالله فلم يؤمِن، فإن اللَّهَ يعذبه في جهنَّم، وهو العذابُ الأكبر الذي لا أكبرَ منه. 25 - 26 - قولُه تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ *ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ}؛ أي: إنَّ رجوعَهم إلى الله، وإنَّ مجازاتهم على أعمالِهم على الله، فهو يجازيهم بها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 سورةُ الفَجر آياتها:30 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 سورة الفجر بسم الله الرحمن الرحيم وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14) فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سورةُ الفَجر 1 - قولُه تعالى: {وَالْفَجْرِ}: يقسِمُ ربُّنا بالفجرِ الذي هو أوَّلُ النهَار (1). 2 - قولُه تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ}: ويقسمُ ربُّنا بليالٍ عِدَّتها عشرٌ، وهي ليالي عشرٍ من ذي الحِجَّة (2).   (1) وردَ خلافٌ بين السَّلَفِ في هذا القَسَمِ على أقوال: الأول: فجرُ الصُّبح، وهو قول عكرمة من طريق عاصم الأحول، وذكره ابن كثير عن علي، وابن عباس، ومجاهد، وعكرمة، والسدي. الثاني: النَّهار، ورد عن ابن عباس من طريق أبي نصر. الثالث: صلاة الفجر، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي. والمشهورُ من اللفظِ أنه يُطلَقُ على أول النهار، وقد يكون ذكر صلاة الفجر مُراداً به ذكر أفضلِ عملٍ يتضمنه الفجر، لا تفسير معنى الفجر، والله أعلم. وأما الرواية عن ابن عباس من طريق أبي نصر فهي غريبة، ويحتملُ أنه قابلَ القَسَم بالليل بالقسمِ بالنهار على سبيل التوسُّع في إطلاق اللفظ لا على التفسير بالمطابق، والله أعلم. (2) وردَ تفسيرها بهذا عن ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى والعوفي وأبي نصر، وابن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، ومسروق من طريق أبي إسحاق، وعكرمة من طريق عاصم الأحول، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك عندنا: أنها عشرُ ذي الحجة؛ لإجماع الحجَّة من أهلِ التأويل عليه، وأنَّ عبدَ الله بن أبي زياد القطواني، حدثني قال: ثني زيد بن حباب، قال أخبرني عياش بن عقبة، قال: ثني جبير بن نعيم، عن أبي الزبير، عن جابر، أنَّ رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم قال: {وَالْفَجْرِ *وَلَيَالٍ عَشْرٍ}، قال: عشرُ الأضحى». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 3 - قولُه تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ}: ويقسمُ ربُّنا بما هو شَفْعٌ، وما هو وَتْرٌ؛ كالعاشر من ذي الحِجَّة: يوم النَّحر، والتاسعِ من ذي الحِجَّة: يوم عَرَفَة (1). 4 - قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ}: ويقسمُ ربُّنا باللَّيلِ إذا ذهبَ وسَار (2). 5 - قولُه تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حْجِرٍ}: يقولُ تعالى: هل فيما أقسمتُ به من هذه الأمورِ مَقْنَعٌ لصاحبِ عقل (3)؟، والمعنى: إنَّ هذه   (1) وقعَ خلافٌ في المراد بالشفع والوتر عند السلف على أقوال، منها: الأول: الشفعُ يوم النحر، والوترُ يوم عَرَفَة، وهو قول ابن عباس من طريق زرارة بن أبي أوفى وعكرمة، وعكرمة من طريق عبيد الله وعاصم الأحول وسعيد الثوري وقتادة، والضحاك من طريق أبي سنان وعبيد. الثاني: الشفع: الخَلْق، والوتر: الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وابن جريج وأبي يحيى وجابر، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد. الثالث: الصلاةُ المكتوبةُ منها شفعٌ ومنها وتر، وهو قول عمران بن حصين من طريق قتادة، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر. وقيل غير ذلك، قال الطبري: «والصوابُ من القول أن يقال: إن الله تعالى ذِكْرُهُ أقسمَ بالشفع والوتر، ولم يخصِّص نوعاً من الشفع ولا من الوتر دونَ نوعٍ بخبرٍ ولا عقل، وكل شفع ووتر فهو مما أقسمَ به مما قال أهل التأويل أنه داخِلٌ في قَسَمِهِ هذا، لعموم قَسَمِهِ بذلك». (2) كذا ورد عن عبد الله بن الزبير من طريق محمد بن المرتفع، وابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق أبي يحيى، وأبي العالية من طريق الربيع بن أنس، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد، وقال عكرمة: «ليلة جمع»؛ يعني: ليلة مزدلفة، وهذا يُحمَل على التمثيلِ بليلةٍ شريفةٍ، وإلا فالخبرُ عامٌ في كل ليلة، وليس فيه ما يدلَّ على التخصيص، ولذا حملَها الجمهور على العموم، والله أعلم. (3) كذا فسَّر السلف ذلك: ابن عباس من طريق أبي ظبيان والعوفي وعلي بن أبي طلحة وأبي نصر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وأبي يحيى وهلال بن خباب، والحسن من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الأقسامَ فيها مُكْتَفَى لمن له عقلٌ يتدبَّرُ به ويتفكَّر، فيعقِلُ عن ربه أوامرَه ونواهيه. وجوابُ القَسَمِ محذوف، وتقديرُه لتُجازُنَّ بأعمالِكم. 6 - 8 - قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ}: ألم تَنْظُرْ يا محمد صلّى الله عليه وسلّم بعينِ قلبِكَ إلى ما فعلَ الله بقبيلةِ عادِ إرَم (1) ذاتِ البيوتِ التي يقومُ بناؤها على الأعمِدَة؛ كالخيام أو غيرها (2)؟، وفي هذا إشارة إلى ارتفاع بنائِهِم وقوَّتِه، مما يدلُّ   (1) وردَ ذلك عن قتادة من طريق معمر، قال: «قبيلةٌ من عاد، كان يقالُ لهم إرم: جدُّ عاد»، وكذا ورد عن ابن إسحاق. وقد وردَ عن بعض السلف تفسير إرم بأنها مدينتهم، فعن محمد بن كعب القرظي: الإسكندرية، وعن المقبري: دمشق. وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح تفسير إرم بالقديمة، وعنه من طريق أبي يحيى: أمَّة، وفسَّرها ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد بالهالك. قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إنَّ إرمَ إما بلدة كانت عاد تسكُنُها، فلذلك رُدَّت على عاد للاتباع لها، ولم يُجَر [يعني: يُنَوَّن] من أجل ذلك، وأما اسم قبيلة، فلم يُجَر أيضاً كما لا تُجْرَى أسماء القبائل، كتميم وبكر، وما أشبه ذلك إذا أرادوا به القبيلة، وأما اسم عاد فلم يجر، إذ كان اسماً أعجمياً. فأما ما ذُكر عن مجاهد أنه قال: القديمة، فقولٌ لا معنى له، لأن ذلك لو كان معناه، لكان مخفوضاً بالتنوين، وفي ترك الإجراء الدليل على أنه ليس بنعتٍ ولا صفة. وأشبهُ الأقوالِ فيه بالصواب عندي: أنها اسم قبيلة من عاد، ولذلك جاءت القراءة بترك إضافة عادٍ إليها وتركِ إجرائها، كما يقال: ألم تر ما فعل ربك بتميمِ نهشل؟ فيُترك إجراء نهشل، وهي قبيلة، فَتُرِكَ إجراؤها لذلك، وهي في موضعِ خفضٍ بالردِّ على تميم، ولو كانت إرم اسم بلدة أو اسم جدٍّ لعاد لجاءت القراءة بإضافة عاد إليها، كما يقال: هذا عمرو زبيد، وحاتم طيِّء، وأعشى همدان، ولكنها اسم قبيلة منها فيما أرى، كما قال قتادة، والله أعلم، فلذلك أجمعت القُرّاء فيها على ترك الإضافة وترك الإجراء». (2) ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «أهل عمود لا يقيمون»، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، وقال ابن زيد: «عاد قوم هود بنوها وعملوها حين كانوا بالأحقاف». وقال الضحاك من طريق عبيد: «يعني: الشدة والقوة». قال ابن جرير الطبري: «وأشبه الأقوال في ذلك بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيل، قول من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 على قوَّتِهم، ولذا قال: التي لم يُخلقْ في بلادِ الله التي حولَهم مثلهم في القوَّة والشدَّة؛ كما قال الله فيهم: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا} [الأعراف: 69]، وقال: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130]. 9 - قولُه تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ}؛ أي: وكيف فعلَ بثمود قوم النبي صالح عليه السلام الذين شقُّوا الجبال (1) التي في واديهم فنحَتوا منها البيوت؟؛ كما قال الله عنهم: {وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ} [الحجر: 28]. 10 - قولُه تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ}؛ أي: وألم ترَ كيف فعلَ ربُّكَ بفِرعون مصرَ صاحبِ الأوتاد؟، وهي أخشابٌ أو حديدٌ يُثَبِّتُهَا في الأرض، كان يعذِّب بها الناس، أو هي الملاعبُ التي صُنِعَتْ له منها (2).   = قال: عنَى بذلك أنهم كانوا أهل عمود سيارة؛ لأن المعروف في كلام العرب من العِماد: ما عمل به الخيام من الخشب والسواري التي يحمل عليها البناء، ولا يُعلم بناء كان لهم بالعماد بخبر صحيح، بل وجَّهَ أهلُ التأويل قوله: {ذَاتِ الْعِمَادِ} إلى أنه عُني به طولُ أجسامِهِم، وبعضهم إلى أنه عُني به عمادُ خيامِهم، فأما عمادُ البُنيان، فلا يُعلمُ كثيرُ أحدٍ من أهلِ التأويل وجَّهه إليه، وتأويلُ القرآنِ إنما يوجَّه إلى الأغلب من معانيه ما وُجِدَ إلى ذلك سبيل دون الأنكر». (1) ورد عن السلف اختلافُ عِبارة في تفسير هذه اللفظة، فعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «خرقوها»، ومن طريق العوفي: «ينحتون من الجبال»، وكذا ورد عن قتادة من طريق سعيد، وورد عنه من طريق معمر: «نقبوا الصَّخر»، وعن الضحاك من طريق عبيد: «قَدّوا الصخر»، وهذه العبارات ترجع إلى معنى واحد، فهي عباراتٌ متقاربةُ المعنى لبيانِ معنى الجَوْب، وورد عن ابن زيد تفسيره: ضربوا البيوتَ والمساكنَ في الصخر في الجبال، حتى جعلوها مساكن»، وهذا ليس تفسيراً مطابقاً لمعنى الجَوْب، وإنما هو تفسير على المعنى، والله أعلم. (2) اختلفَ السلفُ في تفسير الأوتاد على أقوال: الأول: الجنود، وهو قولُ ابن عباس من طريق العوفي. الثاني: الحبالُ التي كان يُوتِدُ بها الناس فيعذِّبهم، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 11 - 14 - قولُه تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ *فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ}؛ أي: عادٌ وثمود وفرعون الذين تجاوزوا ما أباحَ الله، وكفروا به في البلاد التي كانوا يسكُنونها. فأكثروا في هذه البلادِ المعمورةِ المعاصيَ وركوبَ ما حرَّم الله. فأنزلَ الله عليهم عذابَهُ ونقمَتَه. والله يرقُبُ أعمالَ هؤلاء الكافرين الذين أنزلَ بهم عقوبته، وهو بالمِرْصادِ لكلِّ الكافرين فلا يفلت منهم أحدٌ. 15 - 16 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}: لما ذكرَ الله أنه أوقعَ العذابَ بهذه الأممِ الكافرةِ التي كانت في مَنَعَةٍ وقوَّة، نبَّهَ على اعتقادٍ خاطئٍ عند الناس، وهو أن التوسِعَةَ على العبد في الرِّزق دليلٌ على تكريمِ اللَّهِ له، وأن التضييقَ عليه في الرزق دليلٌ على غضبِ الله عليه، وهذا المفهومُ مما يقعُ فيه الإنسانُ الكافر (1) الذي إذا امتحَنَه رَبُّه المنعِمُ عليه، فأنعمَ عليه بالمال، ووسَّعَ عليه، فَرِحَ وجعلَ هذا دليلاً على رضا الله   = نجيح، وأبي رافع، وسعيد بن جبير من طريق محمود، وعنه من طريق رجل مجهول: «منارات يعذبهم عليها». الثالث: مَظَالٌّ وملاعبُ يلعبُ تحتها، وهو قول قتادة من طريق معمر وسعيد. قال الطبري: «وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قول من قال: عنى بذلك: الأوتاد التي تُوتَد من خشبٍ كانت أو حديد؛ لأن ذلك المعروف من معاني الأوتاد، ووُصِفَ بذلك لأنه: إما أن يكونَ كان يعذِّب الناس بها، كما قال أبو رافع وسعيد بن جبير، وإما أن يكونَ كان يلعبُ بها». ويظهر أن مرجِعَ الخلافِ الاحتمال اللغوي في لفظ الأوتاد، فهو يُطلق على هذه المذكورة، غير أن أشهرَ إطلاقاتِها ما رجَّحه الطبري، والله أعلم. (1) هذا بالنظر إلى أن لفظَ الإنسانِ في القرآن المكيِّ للكافر، ولكن يدخلُ معه من ضَعُفَ إيمانه من المسلمين، واعتقدَ هذا المُعْتَقَدَ، وكذا كلُّ وَصْفٍ اتَّصَفَ به الكافر، فإن من تشبَّه به من المسلمين فإنه يدخل في خطابه، قال ابن عطية: «ومن حيث كان هذا غالباً على الكفار جاء التوبيخُ في هذه الآية باسم الجنس، إذ يقع بعض المؤمنين في شيءٍ من هذا المَنْزَعِ». والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 عنه، ومحبتِه له، وأما إذا ما امتحنه فضيَّق عليه في الإنعام، وجعله فقيراً، فإنه يجعلُ ذلك دليلاً على إذلالِ الله له، وعدم محبَّته له. 17 - 20 - قولُه تعالى: {كَلاَّ بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ *ولاَ تَحَآضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ *وَتَاكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلاً لَمًّا *وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا}؛ أي: ليس الأمرُ كما يعتقدُ هذا الكافرِ في دليل إكرامِ الله وإهانته (1)، ولكنَّكم لا تنفعونَ من ماتَ عنه أبوه وهو دون سِنِّ البلوغ، فتُنعِمون عليه بإعطائه مما أعطاكم الله، ولا يَحُثُّ بعضُكم بعضاً على إعطاء الطعام لمن أصابته الفاقة والمسْكَنة، وأنتم تأخذونَ ما يرِثُه مع ما ترِثونَه أخذاً بالباطل، فتأكُلونه جميعاً (2)، وتحرِصونَ على جمع المال وتحبُّونَهُ حُبًّا كثيراً شديداً.   (1) قال قتادة: «ما أسرعَ ما كفرَ ابن آدم، يقول الله جل ثناؤه: كلا أنا لا أُكْرِمُ من أَكْرَمْتُ بكثرة الدنيا، ولا أهينُ من أهنتُ بقِلَّتِها، ولكن إنما أُكرمُ من أَكرَمتُ بطاعتي، وأُهينُ من أهنتُ بمعصيتي». وقد ذكر الطبري قولاً آخر، ثم قال: «وأَوْلى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي ذكرنا عن قتادة لدلالة قوله: {بَلْ لاَ تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ} والآياتِ التي بعدها على أنه إنما أهانَ من أهانَ بأنه لا يُكرِمُ اليتيمَ، ولا يحضُّ على طعام المسكين، وفي إبانته عن السبب الذي من أجلِه أهانَ من أهان الدلالةُ الواضحةُ على سببِ تكريمِه من أَكرمَ، وفي تبيينه ذلك عَقيبَ قوله: {فَأَمَّا الإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ *وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} بيانٌ واضحٌ عن الذي أنكرَ من قوله ما وصفنا». (2) التُّراث: الميراث، قاله الحسن من طريق أشعث، وقتادة من طريق سعيد. وفي معنى الأكلِ اللَّمِّ عبارات عن السلف: فعن ابن عباس من طريق العوفي، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد: «تأكلون أكلاً شديداً». وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «يقول: سَفَّا». وعن الحسن من طريق يونس: «نصيبه ونصيب صاحبه». وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «اللَّمُّ، السَّفُّ، لف كل شيء». وقال ابن زيد: «الأكل اللَّمُّ: الذي يأكلُ كلَّ شيءٍ يجِده ولا يسأل، فأكلَ الذي له والذي لصاحبه، كانوا لا يرثون النساء، ولا يرثون الصغار، وقرأ: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ}؛ [النساء: 127] أي: لا تورثونهن أيضاً، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 21 - 23 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا *وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا *وَجِيىءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى}: ليس الأمرُ كما تتعاملونَ به في هذه الأعمالِ المذكورة، ثم أخبرَ عن أسَفِهِم على هذه الأعمالِ القبيحةِ إذا دُكَّتِ الأرضُ دكًّا دكًّا وما بعدَها من الأهوال، فإنهم يتذكرونَ حين لا ينفعهم التذكُّر، فقال: {إِذَا دُكَّتِ الأَرْضُ دَكًّا دَكًّا}؛ أي: حُطِّمَتِ الأرضُ وضُرِبَ بعضُها ببعض، وجاء الربُّ سبحانَه مجيئاً يليقُ بجلاله وعَظَمَتِه، وملائكته في هذه الحال يقفونَ صفوفاً تعظيماً له، وجاءت ملائكةُ العذاب يومَ أنْ دُكَّتِ الأرضُ وجاء الربُّ، جاءوا بجهنَّمَ يجرُّونها لها سبعونَ ألفَ زِمام، لكلِّ زمامٍ سبعونَ ألفَ مَلَكٍ يجرُّونها، فعند ذلك يتَّعِظُ الإنسان ويتنبَّه إلى ما كان عليه من الضلال، ولكن لا ينفعه هذا التذكُّر والاتِّعاظ؛ فكيف تنفعُه الذكرى وهي ليست في وقتها؟. 24 - قولُه تعالى: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي}؛ أي: لما عاين هذا الإنسان المفرط هذه الأمور، يقول متمنِّياً: يا ليتني قدَّمتُ عملاً صالحاً لحياتي الآخرةِ الباقيةِ التي لا موتَ بعدَها. 25 - 26 - قولُه تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ *وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ}؛ أي: ففي هذا اليومِ لا أحدَ يُعذِّب في الدنيا كعذابِ الله للكافر، ولا أحدَ يُقَيِّد بالرباط في الدنيا كتقييدِ الله للكافر (1)، وهذا لشدَّة عذابِهم.   = {أَكْلاً لَمًّا}: يأكلُ ميراثَه وكلَّ شيء، لا يسأل عنه، ولا يدري أحلالٌ أو حرام؟». وهذا تفسيرٌ جامعٌ لمعنى هذه الآية، وعبَّر بكر المزني عن ذلك بأخصَرِ من هذا فقال: «اللَّمُّ: الاعتداء في الميراث، يأكل ميراثه وميراثَ غيره». والله أعلم. (1) قال الحسن من طريق معمر: «قد عَلِم الله أنَّ في الدنيا عذاباً ووِثاقاً، فقال: فيومئذ لا يعذِّب عذابه أحدٌ في الدنيا، ولا يوثِقُ وَثاقه أحدٌ في الدنيا». وقد قُرئَ بفتح الذال والثاء من «يعذَّب» و «يوثَق»، والمعنى: فيومئذ لا يعذَّب أحدٌ في الدنيا كعذاب الكافر، ولا يوثَقُ أحدٌ في الدنيا كوِثاق الكافر. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 27 - 30 - قولُه تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي}؛ أي: تُنادى هذه النفوسُ التي هدأَت وسَكَنَت إلى وَعْدِ الله لها (1): ارجعي إلى خالقِكِ (2) راضيةً بما قَسَمَ اللَّهُ لك، مرضيًّا عنكِ من الله، فادخلي في عبادي الصالحين (3)؛ كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ} [العنكبوت: 9]، وادخُلي في جنَّتي التي وعدتُّكِ بها في الآخرة، والله أعلم.   (1) ورد عن السلف تعابير عن معنى النفس المطمئنَّة، ومنها: قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة: «المصدِّقة»، وعن قتادة من طريق سعيد: «هو المؤمنُ اطمأنت نفسه إلى ما وعدَ الله»، وعنه وعن الحسن من طريق معمر: «المطمئِنَّة إلى ما قال الله، والمصدِّقة بما قال»، وعن مجاهد من طريق منصور: «النفس التي أيقنت أنَّ الله ربَها، وضرَبت جأشاً لأمره وطاعته»، وعنه من طريق ابن أبي نجيح: «الْمُخْبِتَة والمطمئِنَّة إلى الله». وهذه أوصافٌ تصدُقُ على النفس المطمئنة. وقد وردَ عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وزيد بن أسلم من طريق ابنه أسامة: أنها تُقالُ للمؤمن عند خروج روحِه، ويشهدُ لهذا ما وردَ في حديث البراء بن عازب في خروج روحِ المؤمن أنه يقال له: اخرُجي راضيةً مرضيّاً عنك. والله أعلم. (2) وردَ عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وعكرمة من طريق سليمان بن المعتمر: أن الربَّ هنا صاحبُ النفس، والمعنى: ارجعي إلى جَسَدِ صاحبِك. قال ابن كثير: «واختاره ابن جرير، وهو غريب، والظاهر الأول؛ لقوله: {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ} [الأنعام: 62]، {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} [غافر: 43]؛ أي: إلى حُكمه والوقوفِ بين يديه». (3) وردَ ذلك عن قتادة من طريق سعيد، وفسَّرها محمد بن مزاحم: «في طاعتي»، وهذا تفسيرٌ غريب، وورد عن ابن عباس أنه كان يقرؤها «في عبدي»، قال الكَلْبي: «الروحُ ترجِعُ إلى الجسد». قال الطبري: «والصوابُ من القراءة في ذلك: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} بمعنى: فادخُلي في عبادي الصالحين؛ لإجماع الحجَّة من القرّاء عليه». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 سورةُ البَلَد آياتها:20 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 سورة البلد بسم الله الرحمن الرحيم لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 سورةُ البَلَد 1 - قولُه تعالى: {لاَ أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}: يقسِمُ ربُّنا بمَكَّةَ (1). 2 - قولُه تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ}؛ أي: وأنتَ بمكَّةَ حلالٌ لكَ أن تصنعَ فيها ما تشاء مما هو حرامٌ في غير هذا الوقتِ الذي أُحِلَّ لك، فلا إثمَ عليكَ ولا حَرَجَ (2).   (1) سَبقَ تفسيرُ تركيبِ هذا القَسَمِ «لا أقسم» عند قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ} من سورةِ التكوير. (2) كذا وردَ عن السلفِ في تفسير هذه الآيةِ مع اختلافِهم في التعبير عن هذا المعنى، وقد وردَ ذلك عن ابن عباسٍ من طريق العوفي، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد، وعطاء من طريق عبد الملك، والضحاك من طريق عبيد. وزاد ابن كثيرٍ ذكرَ الرواية عن سعيد بن جبير، وعكرمة، وعطية، وأبي صالح، والسدي، والحسن البصري. ولم يذكر ابن جرير عنهم غير هذا المعنى، ويشهد له قوله صلّى الله عليه وسلّم: «وإنما أُحِلَّتْ لي ساعة من نهارٍ، وقد عادت حُرْمَتُها اليومَ كحُرْمتِها بالأمس». وبهذا تكونُ هذه الآية من دلائل النبوَّة وبشاراتِ الله لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم بالنصر على أعدائه؛ لأنَّ هذه السورة مكية، ولم يتحقَّق هذا الخبر إلا بعد مُهاجَرِهِ وغزوِهِ مكةَ. وقد ورد في تفسير «حِلٌّ» معنيان آخران: الأول: وأنت حالٌّ ـ أي: مقيمٌ ـ في مكة، وهذا فيه تشريفٌ لمكة حالَ كونِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم مقيماً فيها وساكناً. الثاني: وأنت حلالُ الدم في مكة، حيث كان المشركون يريدونَ قتلَه، والقولُ الأولُ عليه السلف، وهو المقدَّم لأجلِ ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 3 - قولُه تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ}: ويقسِمُ ربُّنا بكلِّ والدٍ وولدِه (1). 4 - قولُه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: أنَّ اللَّهَ أوْجَدَ الإنسانَ وأخرجَهُ وهو يكابِدُ أحوالَ الدنيا ومشقَّاتِها ومصاعبِها، فهو يخرجُ من تَعَبٍ فيها إلى تَعَب، كما قال تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 19] على أحدِ التفسيرات فيها (2).   (1) وردَ في تفسير هذه الآية معنيان: الأول: أن القَسَمَ بكل من يَلِدُ، وبكل عاقِرٍ لا يَلِدُ، وهذا قول ابن عباس من طريق عكرمة، وعكرمة من طريق النضر بن عربي. الثاني: يُقسمُ بالوالد الذي يلد، وبولده، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، وورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحاك من طريق عبيد، وسفيان الثوري من طريق مهران، كلُّهم فسَّر أنه آدم وولده، كأنه لما ذكرَ المسكنَ أشار إلى الساكن. ووردَ عن أبي عمران الجوني أنه إبراهيم وولده؛ كأنه أشارَ إلى باني البيتِ وذرِّيته، وهذان التفسيران جاءا على سبيل المثالِ لوالد وولده، ولذا قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك ما قاله الذين قالوا: إن الله أقسمَ بكلِّ والد وولدِه؛ لأنَّ الله عمَّ كلَّ والدٍ وما ولد. وغير جائزٍ أن يخصَّ ذلك إلا بحجَّة يجب التسليمُ لها من خبرٍ أو عقل، ولا خبرَ بخصوص ذلك، ولا بُرهان يجب التسليم له بخصوصه، فهو على عُمومِه كما عمَّه». ولم يُضعِّف الطبري قول من فسَّر «ولم يلد» بالعاقر، ويظهر أن سبب هذا الخلاف: أنَّ هذا التركيبَ مشتَركٌ بين النفي والإثبات؛ أي أن «ما» يَحتمل أن تكون نافيةً، فيكون المعنى على العاقر، ويَحتمل أن تكون مثبِتة، فيكون المعنى على المولود، وهذا من اختلاف التنوع الذي يرجع إلى أكثر من معنى، والله أعلم. (2) وردَ في تفسير الكَبَدِ أقوال: الأول: لقد خلقنا الإنسان في شدَّةٍ ونَصَبٍ وعناء، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، والحسن من طريق منصور بن زاذان، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسعيد أخو الحسن البصري، وعكرمة من طريق النضر، وسعيد بن جبير من طريق عطاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. الثاني: خلقناهُ منتصِباً معتدلَ القامة، وهذا قول ابن عباس من طريق العوفي، وعكرمة = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 5 - قولُه تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ}؛ أي: أيَظُنُّ هذا الإنسانُ الكافرُ المخلوقُ في كَبَدٍ أنه لا أحدَ يقهرَه ويغلِبَه؟! 6 - قولُه تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُبَدًا}؛ أي: يقولُ هذا الكافرُ المغتَرُّ بقوَّتِه: أنفقتُ مالاً متراكماً بعضه على بعض من كَثْرَتِه، وهو إنما أهلكَهُ في الباطل، فيفتخرُ بذلك. 7 - قولُه تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ}؛ أي: أيظنُ هذا الكافر أنَّ اللَّهَ لم يطَّلع عليه، وهو ينفقُ مالَهُ في الباطل؟! 8 - 10 - قولُه تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلَ لَهُ عَيْنَيْنِ *وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ *   = من طريق عمارة، وإبراهيم النخعي من طريق منصور، وعبد الله بن شداد وأبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحاك من طريق عبيد. الثالث: الكَبَد: السماء، والمعنى: لقد خلقنا آدم في السماء، وهو قول ابن زيد. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصوابِ قول من قال: معنى ذلك أنه خُلِقَ يُكابِد الأمور ويعالجها، فقوله: {فِي كَبَدٍ} معناه: في شدَّة، وإنما قلنا: ذلك أَوْلى بالصواب؛ لأن ذلك المعروف في كلام العرب من معاني الكَبَد، ومنه قول لَبيد بن ربيعة: عَينِ هَلاَّ بَكَيتِ أَرْبَدَ إذْ قُمْنَا وقَامَ الخُصُومُ في كَبَدِ» ويظهرَ أنَّ سببَ هذا الاختلاف أنَّ لفظَ «كَبَدٍ» مشتَركٌ لُغوي بين هذه المعاني، فذكرَ كل واحدٍ منهم أحد هذه المعاني التي يراها مناسبةً لتفسيرِ الكَبَدِ في الآية، مع ملاحظة أنَّ ما ورد عن ابن زيد لم يَرِدْ في كتب اللغة، والوارد إضافةَ الكَبَدِ إلى السماء؛ فيقال: كَبِدُ السماء؛ أي: وسطها، أمّا تفسير الكَبَدِ بالسماء، فهل يُحكى لغةً في الكَبَد؟! وما رجَّحه ابن جرير الطبري هو المعنى المشهور من اللفظة، وهو المناسِبُ لمعنى الآية، ويكون الكَبَدُ بالنسبة للإنسان على نوعين: الأول: كَبَدٌ عام يشترك فيه كل الناس، وهو مكابَدَةُ أمورِ الدنيا، وهو ما أشارَ إليه السلف. الثاني: كَبَدٌ خاصٌ بالكافر، وذلك بسبب كُفْرِهِ وإعراضِه عن الله، وكثرةِ ما يعبده من الآلهة، قاله الطاهر بن عاشور، وهو معنًى قويٌّ مُتَّجِهٌ في الآية، يدل عليه قول الله: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} [طه: 124]، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}: يقولُ اللَّهُ: ألم نجعلْ لهذا الإنسانِ عَيْنَيْنِ يبصرُ بهِما، ولساناً وشفتين ينطقُ بهِما ويعبِّرُ عمَّا يريد، وأرشدناه وبيَّنا له طريقَ الخيرِ والشرِّ؟، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] (1). 11 - 12 - قولُه تعالى: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ}؛ أي: أفلا دخلَ في هذا الطريقِ الصَّعب؟، وما أعلمكَ عن هذا الطريق؟، إنه القيام بهذه الأعمالِ الصالحةِ المذكورة بَعْد هذه الآية، وهذه الجملةُ متصلة بقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، والمعنى: هَدَيْناه إلى الطريقين، فلم يسلُكْ طريق الخير بالدخولِ في هذه الأعمالِ الصالحةِ الشَّاقَّةِ على النَّفْسِ من فَكِّ الرَّقَبَةِ، وما بعدَها. 13 - 16 - قولُه تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} (2) {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ *يَتِيمًا ذَا   (1) كذا فسَّرَ جمهور السلف هذه الآية، ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق زر وأبي وائل، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعكرمة من طريق سماك، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد، وقرأ: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}، ورواه الحسن وقتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم مرسلاً. ووردَ تفسيرٌ آخر، وهو هديناه إلى الثديين: سبيلَي اللَبن الذي يتغذَّى به، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عيسى بن عقال عن أبيه، والضحَّاك من طريق جويبر، وقال الربيع بن خثيم: «أما إنهما ليسا بالثديين»، فردَّ هذا القول، مع أنَّ له وجهٌ في النظر؛ لأنه يناسب المِنَّة بجعل العينين واللسان والشفتين للإنسان، ويكون المعنى: أنه هداه لرضاعة لبن أمِّه، وهو لا يدرك، ولا شكَّ أنَّ من هداه لهذا الأمر الذي به حياته، فإنه سيبيِّن له طريق الخير والشر كما قاله الآخرون. وقولهم في تفسير النجدين أولى كما قال الطبري: «وأولى القولين بالصواب في ذلك عندنا قول من قال: عنى بذلك طريقَ الخير والشر، وذلك أنه لا قول في ذلك نعلمه غير هذين القولين اللذَيْن ذكرنا، والثَّدْيان، وإن كانا سبيلَي اللبن، فإن الله تعالى ذِكْره إذْ عدَّدَ على العبد نِعَمَهُ بقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2]، إنما عدَّد عليه هدايتَه إياهُ إلى سبيل الخير من نعمه، فكذلك قوله: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ}». (2) ورد في هذه الآية قراءتان: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 مَقْرَبَةٍ *أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}: هذا بيانٌ للعَقَبةِ التي تُقْتَحَمُ، وهي هذه الأعمالُ الصالحةُ الشَّاقَّةُ على النَّفْسِ (1)، وهي: عِتْقُ المسلمِ من الرِّقِّ، وتقديمُ الطعامِ للقريبِ الذي فَقَدَ أباهُ وهو دون سِنِّ البلوغ، وللمحتاجِ الذي لَصِقَ بالأرض من شِدَّةِ الفاقَةِ (2)، تقديمه في اليوم شديدِ المجاعة (3) لهؤلاء المحتاجين.   = الأولى: بإضافة الفكِّ إلى الرَّقبة، كما هي في المتن. والثانية: «فَكَّ رقبة» على الفعل، وتكون بدلاً من جملة: {فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ}. انظر توجيههما في تفسير الطبري، والتحرير والتنوير. (1) ورد عن ابن عمر من طريق عطية، والحسن من طريق أبي رجاء وقتادة من طريق معمر أن العَقَبة في جهنم، وقال بعضهم: «جبلٌ في جهنم»، ويكون على هذا: لم يقتحم هذا الجبل الذي في النار؛ لأنه لم يقدِّم هذه الأعمال الصالحة المذكورة، التي مَنْ عَمِلَها جازَ هذه العقبة، والله أعلم. (2) وردت عدَّةُ عباراتٍ عن السلف في تفسير المَتْرَبَة، وكلها محتَملَة، وهي: 1 - الذي لَصِقَ بالتراب من شدَّة الفَقر، وهو قول ابن عباس من طريق مجاهد وسعيد بن جبير، ومجاهد من طريق الحصين وابن أبي نجيح، وعكرمة من طريق جعفر بن برقان ومعمر. 2 - شديدُ الحاجة، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعكرمة من طريق حصين، وابن زيد. 3 - ذو العِيال الذي لا شيءَ معه، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وسعيد بن جبير من طريق جعفر بن أبي المغيرة، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد. قال الطبري: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصحَّة قول من قال: عنى به: أو مسكيناً قد لصقَ بالترابِ من الفقر والحاجة؛ لأن ذلك هو الظاهرُ من معانيه، وأن قوله (متربة) إنما هي مَفْعَلَةٌ من تَرِبَ الرَّجلُ: إذا أصابه التراب». وهذا الترجيح ينتظمُ فيه كل الأقوالِ المذكورة، وما ليس منها مطابِقاً للمعنى الذي اختارَهُ، فإنه مقارِبٌ له في المعنى، ومن ثمَّ فإن هذا الاختلاف يرجع إلى معنًى واحدٍ، والله أعلم. (3) فسَّر السلف المَسْغَبة بالمجاعة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي ومجاهد، وعكرمة من طريق جعفر بن برقان، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحَّاك من طريق عبيد، وقتادة من طريق سعيد، وعبارته جاءت على التفسير على المعنى، حيث قال: «يوم يُشتهى فيه الطعام». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 17 - 18 - قولُه تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ *أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ}؛ أي: ثُمَّ كان هذا المقتحِمُ قبلَ أن يقتحِمَ العَقَبة من المؤمنين الذين آمنوا بالله، وأوصى بعضُهم بعضاً بالصَّبرِ على الطاعات وأقدارِ الله، والصبرِ عن المعاصي، وأوصى بعضُهم بعضاً بالتراحُمِ فيما بينَهُم (1)، فمَنْ تحقَّقت فيه هذه الأوصافُ فهم أصحاب اليمين: أهل الجنة. 19 - 20 - قولُه تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ *عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ}؛ أي: والذين كفروا بأدِلَّتِنا من الكُتب والرُّسُلِ هم أصحابُ الشُّؤمِ وأهلُ الشِّمال، وهم أهلُ النارِ التي هي مُطْبِقَةٌ عليهم يومَ القيامة (2).   (1) ورد عن ابن عباس من طريق عكرمة، قال: «مَرْحَمَةُ الناس». (2) عبَّر السلف عن معنى مُؤْصَدَة: «مُطْبِقَة»، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد، وقال الضحاك من طريق عبيد: «مُغْلَقَةٌ عليهم»، وهذا اختلافٌ في اللفظ، والمعنى واحد، فهو من بابِ التعبيرِ عن المعنى بألفاظٍ متقارِبة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 سورةُ الشَّمس آياتها:15 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 سورة الشمس بسم الله الرحمن الرحيم وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 سورةُ الشَّمس 1 - قولُه تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا}: يقسِمُ ربُّنا بالشمسِ وبضوئِها الذي يكونُ أوَّلَ النهار (1). 2 - قولُه تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا}: ويقسِمُ ربُّنا بالقمرِ إذا تَبِعَ الشمسَ بخروجِه (2). 3 - قولُه تعالى: {وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا}: ويقسِمُ ربُّنا بالنهارِ إذا أظهرَ الشمسَ وضوءها (3).   (1) وردَ عن قتادة من طريق سعيد تفسير «ضُحاها» بأنه النهار، وعن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: بضوئها. قال ابن جرير: «والصوابُ من القولِ في ذلك أن يقال: أقسَم جلَّ ثناؤه بالشمس ونهارِها، لأنَّ ضوءَ الشمسِ الظاهرَ هو النهار». فجعل ابن جرير الطبري معنى الضُّحى في اللغة النهارَ كلَّه، وكذا فسَّره في قوله تعالى: {وَالضُّحَى} [الضحى: 1]، وكذا فسَّرَ الفراءُ في معاني القرآن، والمعروف من الضُّحى في اللغة أنه أولُ النهار، ومنه صلاةُ الضحى، وهي تكونُ بعد ارتفاعِ الشمسِ قِيْدَ رُمْحٍ إلى قُبيل الزوال، وهذا ـ فيما يظهر ـ هو المقسَمُ به؛ لأنَّ القسَمَ بالنهار سيجيء بعدها بآية، ومن ثمَّ يكون تفسير قتادة وغيره بأنه النهار أعمَّ من تفسير اللفظِ في عُرْفِ اللغة، أو يكون معنى آخر للضحى، ومن ثمَّ يكون الخلافُ بسببِ الاشتراكِ اللغوي في هذه اللفظة، والله أعلم. (2) فسَّر السلف معنى تلاها بتبِعَها، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق قيس بن سعد وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وذَكَرَ أن ذلك يكون صبيحةَ الهلال، وابن زيد، وذكر أنه يتلوها في النصف الأول من الشهر، وهو يكون أمامها في النصف الآخر. (3) فسَّر قتادة من طريق سعيد: «إذا غَشِيَها»، وهذا تفسير على المعنى؛ لأن معنى التَّجْلية: الإظهار والإبراز، فإذا ظهرَ النهارُ وبرزَ ضوؤه، فكأنه غَشِيَها، والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 4 - قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا}: ويقسِمُ ربُّنا باللَّيلِ إذا يغطِّي الشمسَ حتى تغيبَ، فتُظلِمُ الآفاق (1). 5 - قولُه تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}: ويقسِمُ ربُّنا بالسماءِ وبمَنْ بناها، أو وببنائِها (2).   = وقد ذكر الطبريُّ عن الفرَّاء وجهاً آخر في التفسير فقال: «وكان بعضُ أهلِ العربية يتأوَّلُ ذلك بمعنى: والنهار إذا جلا الظُّلمة، ويجعل الهاء والألف من جلاَّها كنايةً عن الظلمة، ويقول: إنما جازَ الكناية عنها، ولم يجرِ لها ذكرٌ قبلُ؛ لأن معناها معروف، كما يُعرف قول من قال: أصبحت باردةً، وأمْسَت باردةً، وهبَّت شمالاً، فكنَّى من مؤنَّثات لم يجر لها ذكر إذ كُنَّ معروفاً معناهُنَّ. والصوابُ عندنا في ذلك ما قاله أهلُ العلمِ الذين حكينا قولَهم؛ لأنهم أعلم بذلك، وإن كان للذي قاله، مَنْ ذكرنا قولَه من أهل العربية، وجهٌ». يُلاحظُ في هذا المثالِ أن الطبريَّ لم يذكر في معنى الآية غيرَ قولِ قتادة، فاعتمدَ فهمَهُ في الآية، وهو كذلك يفعل في اعتمادِ قولِ الواحدِ من مفسري السلف إن لم يجد غيرَ قولِه، ولم يقبل قولَ ذلك اللغوي ـ وهو الفراء (انظر: معاني القرآن: 3/ 266) ـ لأنه مخالِف في المعنى لما ذكره عن قتادة الذي وصفه بأنه أعلمَ بذلك من الفراء، وهذه قاعدتُه رحمه الله في أقوال اللغويين التي تخالِف ما ورد عن السلف، فإنه يردّها ولا يقبلها، وقد أشار إلى قاعدتِه هذه في أول تفسيره (1/ 41) فقال في بيانِ وجوهِ تأويلِ القرآن: «والثالث منها: ما كان علمُه عند أهلِ اللسان، الذي نزلَ به القرآن، وذلك تأويلُ عَربيَّتِه وإعرابه، ولا يوصلُ إلى علمِ ذلك إلا من قِبَلِهِم، فإذا كان ذلك كذلك، فأحقُّ المفسِّرين بإصابة الحقِّ في تأويل القرآن الذي إلى علم تأويله للعباد السبيل، أوضحُهم حجةً فيما تأوَّلَ وفسَّرَ، مما كان تأويله إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم دون سائرِ أمته، من أخبار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الثابتةِ عنه، إما من وجهِ النقل المستفيض، وإما من وجه نقلِ العُدُولِ الأثْباتِ فيما لم يكن فيه عنه النقل المستفيض، أو من وجه الدلالةِ المنصوبة على صحَّتِه، وأوضحهم بُرهاناً فيما تُرجِمَ وبُيِّن من ذلك مما كان مُدْرَكاً علمه من جهة اللسان، إما بالشواهد من أشعارهم السائرة، وإما من منطقهم ولغاتهم المستفيضة المعروفة، كائناً من كان ذلك المتأوِّل والمفسِّر، بعد أن لا يكون خارجاً تأويلُه وتفسيرُه ما تأوَّل وفسَّر من ذلك عن أقوال السلف من الصحابة والأئمة والخَلَفِ من التابعين وعلماءِ الأمة». (1) أورد الطبري الروايةَ عن قتادة من طريق سعيد، قال: «إذا غشاها الليل». (2) ورد عن قتادة من طريق سعيد: «وبناؤها: خَلْقُها»، وعن مجاهد من طريق = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 6 - قولُه تعالى: {وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا}: ويقسِمُ ربُّنا بالأرضِ وبمَنْ بسَطَها، أو ببسْطِها (1). 7 - قولُه تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا}: ويقسِمُ ربُّنا بنفسِ الإنسانِ التي خلَقَها، وبمَنْ خلقَها سوِيَّةً، معتدِلَةً غير متفاوِتَة، أو بتَسْوِيَتِها. 8 - قولُه تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا}؛ أي: خلقَ النفسَ مستوِيةً، فألقى فيها عِلْماً من غيرِ تعليمٍ، ألقى فيها ما ينبغي لها أن تأتي من خيرٍ وتَدَعَ من شرٍّ (2).   = ابن أبي نجيح: قال: «الله بنى السماء»، وعلى هذا فإن «ما» يُحتمل أن تكون مصدَرية، وعليه تفسيرِ قتادة، أو تكون موصولة، وعليه تفسير مجاهد، قال الطبري: «وقيل: {وَمَا بَنَاهَا} هو جلَّ ثناؤه بانيها، فوضع «ما» موضِعَ «من»، كما قال: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} [البلد: 2] فوضع «ما» موضِعَ «من»، ومعناها: ومن ولد؛ لأنه قَسَمٌ أُقْسِمَ بآدم وولده (أي: على من قال بهذا، وإلا فالإمام اختار العموم في هذه الآية)، وكذلك: {وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} [النساء: 22]، وقوله: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3]، وإنما هو: فانكحوا من طاب لكم. وجائز توجيه ذلك إلى معنى المصدر؛ كأنه قال: والسماء وبنائها، ووالد وولادته». والكلامُ في «ما» في الآياتِ اللاحقةِ نظير الكلام عليها هنا، والله أعلم. (1) طَحَاها: بَسَطَها، هذا هو المشهور، وقد ورد عن مجاهد وابن زيد، ونسبه ابن كثير إلى مجاهد وقتادة والضحاك والسدي والثوري وأبي صالح وابن زيد، ثم قال: «وهذا أشهرُ الأقوال، وعليه أكثرُ المفسِّرين، وهو المعروف عند أهل اللغة، قال الجوهري: «طَحَوْتُه، مثل: دَحَوْتُه؛ أي: بَسَطْتُه». وقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: «ما خلق فيها»، ومن طريق ابن أبي طلحة: «قسمها»، ورواية العوفي أعمُّ من المعنى المعروف في اللغة، ولستُ أدري مُرادَهُ في رواية ابن أبي طلحة. والله أعلم. (2) الإلهامُ يُطلقُ إطلاقاً خاصاً على حدوثِ علمٍ في النفسِ بدونِ تعليمٍ ولا تجربةٍ ولا تفكير، فهو علمٌ يحصلُ من غيرِ دليل، قال الراغب: الإلهام: إيقاعُ الشيء في الرُّوْعِ، ويختصُ ذلك بما كان من جهةِ الله تعالى وجِهَةِ الملأ الأعلى اهـ. ولذلك، فهذا اللفظ إنْ لم يكن من مبتكراتِ القرآن، فهو مما أحْيَاهُ القرآن؛ لأنه اسمٌ دقيقُ الدلالةِ على المعاني النفسية، وقليلٌ رواجُ أمثالِ ذلك في اللغة قبلَ الإسلام، لقلَّةِ خطورِ مثل تلك المعاني في مخاطَبات عامَّة العرب. (انظر: التحرير والتنوير، بتصرف). = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 9 - 10 - قولُه تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا *وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا}: هذا جوابُ الأقسامِ الماضية (1)، والمعنى: قد نالَ الظَفَرَ والفوزَ من طَهَّرَ نفسَهُ من المعاصي، وأصلَحَها بالأعمالِ الصالحة (2)، وقد خَسِرَ وفاتَه الفوزُ من دسَّ نفسَهُ فأخفاها وأخمَلَها بفعلِ المعاصي، وتركِ الطاعات (3). 11 - قولُه تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا}: هذا مثالٌ لقومٍ خابوا بتَدْسِيَتِهم أنفسَهِم، وهم ثمود قوم صالح عليه السلام، الذين بانَ لهم الحقُّ وظهرَ كظهورِ الشمسِ المُقْسَمِ بها في أول السورة، والمعنى: كذَّبت ثمودُ نبيَّها صالحاً عليه السلام بسببِ تجاوُزِها الحدَّ فيما أحلَّ الله، وارتكابِها ما حرَّمَ الله (4).   = وقد عبَّر السلفُ عن معاني الإلهام بمعانٍ متقاربةٍ، وهي: بيَّن، وأعلَمَ، وقد ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والضحَّاك من طريق عبيد، وسفيان الثوري من طريق مهران. وفسَّر ابن زيد ذلك بقوله: «جعلَ فيها فجورَها وتقواها»، هذا تفسير معنى؛ لأنه لما كان أعلَمَها، فقد جعلَهُ فيها. وفسَّروا الفجورَ والتقوى بالخير والشرِّ، أو المعصية والطاعة، وهما سواء، والله أعلم. (1) قال قتادة من طريق سعيد: «قد وقع القسَمُ هاهنا {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}». (2) ورد ذلك التفسير عن: مجاهد وسعيد بن جبير وعكرمة من طريق خصيف، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، ويشهد لهذا التفسير أن طريقةَ القرآنِ تعليق الفلاحِ على فعلِ العبدِ واختيارِه، وهذا نظيرَ قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} [الأعلى: 14]. وَوَرَدَ عن ابنِ عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وعن ابن زيد: «قد أفلحَ من زكَّى اللَّهُ نفسَه»، ويشهدُ لهذا التفسير ما روي عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال: «اللهمَّ آتِ نفسي تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكَّاها». وسببُ الاختلاف مفسِّرُ الضمير، فهو يحتمل أن يعودَ على العبد، وعلى الربِّ سبحانه، وهو من قبيل المتواطئ، والخلاف من قبيل اختلافِ التنوع الذي يرجعُ إلى أكثر من قولٍ، وبين هذين القولين تلازمٌ من جهة، وذلك أن من زكَّى نفسَهُ زكَّاهُ الله، ومن زكَّاهُ الله، فقد زَكت نفسُهُ، والله أعلم. (3) وردَ في مفسَّر الضمير الخلاف السابق في قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا}. (4) ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد وابن زيد، واختاره ابن كثير. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 12 - قولُه تعالى: {إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا}؛ أي: الوقتُ الذي ظهرَ فيه شِدَّةُ طُغيان ثمود هو وقتُ انتدابِ أشقى ثمود لقتلِ الناقة، وأشقاها هو قُدار بن سالف (1). 13 - قولُه تعالى: {فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا}؛ أي: فقال لهم نبيَّهم صالح عليه السلام: احْذَروا ناقةَ الله، احْذَروا سُقيا الناقة الذي اتفقتُ معكم على أنه يكونَ لها يومٌ تشربُ فيه من الماء، ولكم شِرْبُ يومٍ آخَر، احذروا أن تعتَدوا عليهما (2). 14 - 15 - قولُه تعالى: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا *وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}؛ أي: فكذبت ثمود صالحاً عليه السلام في أمر الناقةَ، ولم يصدِّقوه، ولم يأخذوا بتحذيرِه، فقتَلَ أشقاها الناقةَ، ورضُوا بذلك فكانوا مشارِكينَ له في القَتْلِ (3)، فأَطبقَ اللَّهُ عليهم عذابَهُ،   = وورد عن ابن عباس من طريق عطاء الخُرَساني، قال: «اسمُ العذابِ الذي جاءها الطَّغْوَى، فقال: كذبت ثمودُ بعذابها»، ويشهدُ لهذا التفسيرِ قوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} [الحاقة: 5]، وبه فسَّر الطبري. ووردَ عن محمد بن كعب القرظي من طريق محمد بن رفاعة القرظي، قال: «بأجمعها». ولا أدري ما وجهُ هذا التفسير! والله أعلم. (1) قال صلّى الله عليه وسلّم: «انبعثَ لها رجلٌ عزيزٌ عارِمٌ منيعٌ في رهطه، مثل أبي زمعة». أخرجَه البخاري في تفسيرِ سورة الشمسِ من كتاب التفسير في صحيحه. (2) قال قتادة من طريق سعيد في تفسير سُقياها: «قَسْمُ الله الذي قَسَم لها من هذا الماء». (3) قال الطبري: «وقوله: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا} يقول: فكذَّبوا صالحاً في خبرِهِ الذي أخبرهم به من أنَّ اللَّهَ الذي جعل شربَ الناقةِ يوماً، ولهم شربُ يومٍ معلوم، وأنَّ اللَّهَ يحلُّ بهم نقمتَهُ إن هم عَقَرُوها، كما وصفَهم ـ جل ثناؤه ـ فقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} [الحاقة: 4]. وقد يَحتمل أن يكون التكذيب بالعَقْر، وإذا كان ذلكَ كذلك، جازَ تقديمُ التكذيبِ قبلَ العَقْرِ، والعقر قبلَ التكذيب، وذلك أنَّ كلَّ فعلٍ وقعَ عن سببٍ حَسُنَ ابتداؤه قبل السببِ وبعدَه؛ كقول القائل: أَعطيتَ فأَحسنتَ، وأَحسنتَ فأعطيتَ؛ لأن الإعطاءَ هو الإحسانُ، ومن الإحسانِ الإعطاءُ، وكذلك لو كان العَقْرُ هو سببُ التكذيبِ، جازَ تقديم أيِّ ذلك شاءَ المتكلِّم ... وقد كان القومُ قبلَ قتلِها مُسَلِّمِينَ لها بشِرْبِ يوم، ولهم شِرْبُ يومٍ آخر، قيل: وجاء في الخبرِ أنهم بعد تسلِيمهم ذلك، أجمعوا على منعِها الشِّرْبَ، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وهو الصَّيْحَةُ والرَّجْفَةُ التي أُهْلِكُوا بها، وذلك بسببِ ما فعلوهُ من تكذيبِ صالحٍ عليه السلام وعَقْرِ الناقةِ، فَجَعَلَ هذه الدَّمْدَمَة نازلةً عليهم على السواء، فلم يفلِت منهم أحد (1). ولا يخافُ اللَّهُ عاقبةَ تعذيبِه لهؤلاء من أن يسألَه أحدٌ عن فعلِه، فهو الفعَّالُ لما يُريد، لا يُسأل عمَّا يَفْعَلْ، وهم يُسألون (2)، والله أعلم.   = ورضوا بقتلِها، وعن رضا جميعهم قَتَلَها قاتلُها، وعَقَرَها من عَقَرَها، ولذلك نُسِبَ التكذيبُ والعَقْرُ إلى جميعِهم، فقال جلَّ ثناؤه: {فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا}». (1) قال قتادة من طريق سعيد: «ذكر لنا أن أُحيمرَ ثمود أبى أن يعقرها حتى بايعه صغيرُهم وكبيرُهم، وذكَرُهم وأنثاهم، فلما اشتركَ القومُ في عقرِها، دَمْدَمَ اللَّهُ عليهِم بذنبِهم فسوَّاها». (2) وردَ هذا التفسير عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عمر بن مرثد وعمر بن منبِّه وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وبكر بن عبد الله المزني. وورد عن الضحَّاك من طريق أبي روق، والسدي من طريق سفيان: «لم يخَفِ الذي عقرَها عُقباها»؛ أي: عُقبى فِعْلَتِه، وهذا الاختلاف يرجع إلى معنيين صحيحين محتَمَلين، وسببه الاختلاف في مفسَّر الضمير، واحتماله للمرجعين على سبيل التواطؤ، وإن كان الأول أَولى لأنه قولُ الأكثر، ولقراءةِ عامةِ قُرَّاء الحجازِ والشام: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا}، والفاء تدل على تفريعِ ما بعدَها عن ما قبلَها، وما قبلَها حكايةٌ عن فعلِ الله بهم، فتكون هذه الجملةُ متفرعةً عنها في حكايةِ انتفاءِ خوفِ الله منهم، مع ما لهم من القوة، وفي هذا تهديدٌ للأقوامِ الآخَرينَ بقوةِ الله وأنه الفعَّالُ لما يُريد، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سورةُ اللَّيل آياتها:21 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 سورة الليل بسم الله الرحمن الرحيم وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 سورةُ اللَّيل 1 - 2 - قولُه تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى *وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى}: يُقْسِمُ ربُّنا بالليلِ إذا غطَّى النهارَ بظلامِه، وبالنهارِ إذا هو أضاءَ فأنارَ الأرضَ، وظهرَ للأبصار. 3 - قولُه تعالى: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى}: ويُقْسِمُ ربُّنا بمَنْ خلقَ الذَّكَرَ والأُنثى، أو بخَلْقِ الذَّكَرِ والأُنثى (1). 4 - قولُه تعالى: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى}: هذا جوابُ الأقسامِ الماضية (2)، والمعنى: إنَّ عملَكُم الذي تعمَلونَهُ لمختَلِفٌ، فمنكُم مَنْ يعملُ بالطاعة، ومنكم مَنْ يعملُ بالمعصية. 5 - 7 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى}: هذا تفصيلٌ لأهلِ السَّعْي وسعيِهم، والصِّنْفُ الأوَّل: مَنْ أنفقَ من   (1) قال الطبري: «وقولُه: {وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنْثَى} يَحتملُ الوجهينِ الَّذَينِ وصفتُ في قوله: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا *وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا} [الشمس: 5 - 6]، وهو أن يُجعَلَ «ما» بمعنى «من»، فيكون ذلك قَسَماً من الله جلَّ ثناؤه بخالقِ الذكرِ والأنثى، وهو ذلك الخالق، وأن تُجعلَ «ما» مع ما بعدها بمعنى المصدر، ويكون قَسَماً بخلقه الذكر والأنثى». وقد صحَّ عن أبي الدرداء وابن مسعود أنهما كانا يقرءان: {والذكر والأنثى}، وهذه القراءةُ لا يُقرأ بها، لمخالفتِها رسمَ المصحفِ الذي ثبتَ فيه لفظ: «وما خلق»، وإنما هي منسوخة: قرأ بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم، ثم نُسِخَتْ فيما نُسِخَ في العَرْضَةِ الأخيرة؛ لأنها لو كانت غير ذلك، لثبتَ رسمُها في أحدِ مصاحفِ عثمان، كما وردَ إثباتُ بعضِ الألفاظ في مصحفٍ، وحذفُها من مصحفٍ غيره، والله أعلم. (2) قال قتادة من طريق سعيد: «وقع القَسَمُ هاهنا». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 مالِه في سبيلِ الله، وتجنَّبَ محارِمَ الله فلم يُواقِعْها (1)، وصدَّقَ بموعودِ الله من الخَلَفِ على المنفق مالَه في سبيلِ الله (2)، وبالجنةِ التي هي الموعودُ الأكبرُ للمنفِق، فإنَّ الله يُيَسِّرُ له العمل بما يرضاهُ الله، ليصِلَ به إلى الجنة. 8 - 11 - قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى *وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى *فَسَنُيَسِّرُهُ   (1) ورد ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة، وقتادة من طريق سعيد، والضحَّاك من طريق عبيد. (2) وردَ عن السلف في تفسير الحسنى أقوال: 1 - صدَّق بالخلف من الله، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبي صالح وشهر بن حوشب، وعكرمة من طريق قيس بن مسلم ونضر بن عربي، ومجاهد من طريق أبي هاشم المكي. ووردَ عن قتادة من طريق معمر وسعيد: «صدَّقَ المؤمنُ بموعودِ الله الحَسَن». ويحتمل أن يكونَ مراد قتادة بالموعود: الخَلَفُ من الله، فيكون كهذا القول، والله أعلم. 2 - صدَّقَ بلا إله إلا الله، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، وأبي عبد الرحمن من طريق أبي حصين، والضحاك من طريق عبيد. 3 - وصدَّق بالجنة، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. قال الطبري: «وأشبهُ هذه الأقوال بما دلَّ عليه ظاهرُ التنزيل وأَوْلاها بالصواب عندي، قول من قال: عنى به التصديق بالخَلَفَ من الله على نَفَقَته. وإنما قلت: ذلك أَوْلى الأقوالِ بالصواب في ذلك، لأن الله ذكرَ قبلَه منفِقاً طالباً بنفقته الخَلَف منها، فكان أولى المعاني به أن يكون الذي عَقِيبه الخبر عن تصديقه بوَعْدِ الله إياه بالخلف، إذ كانت نفقته على الوجه الذي يرضاه، مع الخبر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بنحو الذي قلنا في ذلك ورد»، ثم ذكرَ الخبرَ، وهو: عن أبي الدرداء قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم غربت فيه شمسه إلا وبجنبها ملكان يناديان ـ يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين ـ: اللهم أعطِ مُنْفِقاً خَلَفاً، وأعطِ ممسكاً تلَفاً»، فأنزلَ الله في ذلك القرآن: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} إلى قوله: {لِلْعُسْرَى}». والحُسنى وصفٌ لموصوفٍ، وهي الخَصْلَةُ الحُسنى، وما ذكرهُ السلف محتملٌ في التفسير، وبين أقوالهم تلازم واضح، فمن صدَّق بلا إله إلا الله، فهو مصدِّقٌ بالجنة، ومصدِّق بالخَلَفِ من الله، وكذا العكس، والله أعلم. غير أن السِّياقَ فيما يظهر مرتبطٌ بالإنفاق، ولذا ورد أن هذه الآيات نزلت في إنفاق أبي بكر الصديق، وكذا جاء بعد ذكرِ مَنْ بخلَ بماله قولُه تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} وما بعدَها من الآيات في الإنفاق، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 لِلْعُسْرَى *وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى}: هذا الصِّنْفُ الثاني من أهلِ السَّعْيِ، وهم من لم يُنْفِقْ مالَه في سبيلِ الله، بل قَبَضَهُ وبَخِلَ به، واستغنى بنفسِه ومالِه عن ربِّه وعبادتِه (1)، ولم يُصدِّق بموعود الله من الخلف مِنَ الله، ولا بالجنَّةِ (2)، فهذا يسهِّلُ الله له عملَ الشرِّ والوقوعَ فيه، جزاءً له على استغنائه عن ربِّه، وعدمِ إنفاقِ مالِه في الخيرِ، وتكذيبِه بالحُسْنَى (3)، فمن كانَ من هذا الصِّنْفِ، فإنَّ مالَهُ الذي بَخِلَ به، ولم ينفِقْهُ في سبيلِ الله، لن يفيدَهُ إذا سَقَطَ وهوَى في جهنم (4). 12 - 13 - قولُه تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى *وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى}؛ أي:   (1) قال قتادة من طريق سعيد: «وأما من بَخِلَ بحقِّ الله عليه، واستغنى بنفسِه عن ربِّه»، ووردَ عن ابن عباس من طريق العوفي: «من أغناه الله، فبخِلَ بالزكاة»، وهذا يعني أن الآية يدخلُ فيها مانع الزكاة من المسلمين، وهذا منَ التفسيرِ القياسي؛ أي: يقاسُ على هذا الفعل الذي هو من فعلِ الكفَّار كلُّ من فعلَه، وإن كان من المسلمين، والله أعلم. (2) وردَ عَن السلف الخِلاف السابق في: {وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى}. (3) وردَ في هذه الآيات حديثٌ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال علي بن أبي طالب: «كُنَّا في جنازةٍ في بقيعِ الغَرْقَدِ، فأتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فَقَعَدَ وَقَعَدْنَا حولَه، ومعه مِخْصَرَة، فنكَسَ، فجعل ينكثُ بمِخْصَرَتِه، ثم قال: ما منكم من أحدٍ، وما من نفسٍ منفوسة، إلا كُتب مكانها في الجنة والنار، وإلا قد كتبَ شقية أو سعيدة، قال رجل: يا رسول الله، أفلا نتكلُ على كتابنا وندعُ العمل، فمن كان منَّا من أهلِ السعادةِ فسيصير إلى أهل السعادة، ومن كان منَّا من أهلِ الشقاوةِ، فسيصيرُ إلى عمل أهلَّ الشقاوة؟ قال: أما أهل السعادة، فَيُيَسَّرونَ لعملِ أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة، فييسَّرون لعمل أهل الشقاء، ثم قرأ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى *وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى} الآية» (رواه البخاري في تفسير سورة الليل من صحيحه). (4) ورد ذلك عن أبي صالح من طريق إسماعيل بن أبي خالد، وقتادة من طريق معمر وورد عن مجاهد من طريق ليث بن أبي سليم وابن أبي نجيح: «إذا مات». قال الطبري: «وأَوْلى القولينِ في ذلك بالصوابِ، قول من قال: معناه: إذا تردَّى في جهنم؛ لأن ذلك هو المعروفُ من التردِّي، أما إذا أريدَ معنى الموتِ، فإنه يقال: رَدِيَ فلان، قلَّما يقال: تردَّى». وهذا يعني أن تفسيرَ أبي صالحٍ وقتادة على المشهور من معنى اللفظ، أما تفسير مجاهد فهو على معنى قليلٍ في اللفظ، وهو معنًى صحيح، ولكن قدَّم الأول لأنه المعنى الأشهر، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 إنَّ على الله البيان: بيانَ الحقِّ من الباطل، والطاعةِ من المعصية (1)، وإنَّ الحياةَ الدنيا والحياةَ الآخِرةَ وما فيهِما مِلْكٌ لِلَّه، يُعطي من يشاء ويَحْرِمُ من يشاء، ومِنْ ذلك أنه وفَّقَ من أحبَّ لطاعته، وخَذَلَ من أبغضَ بمعصيتِه (2). 14 - 16 - قولُه تعالى: {فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى *لاَ يَصْلاَهَا إِلاَّ الأَشْقَى *الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى}؛ أي: فَحَذَّرْتُكُم أيها الناسُ النارَ التي تتوهَّجُ وتَلْتَهِبُ من شِدَّةِ إيقادِها، تلكَ النارُ التي لا يدخلُها ويُشْوَى فيها إلاَّ الذي شَقِيَ في حياته فكذَّب بما جاءَ عن ربِّه، وأعرضَ عنه فلم يؤمِن به. 17 - 21 - قولُه تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى *إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى *وَلَسَوْفَ يَرْضَى}؛ أي: وسيُبْعَدُ عن هذه النارِ الذي بلغَ الكمالَ في التقوى، الذي من صفتِه أنه يُعطي مالَهُ في الدنيا للمُحتاجين، وينفِقُهُ في سبيل الله، لأجلِ أن يتطهَّرَ بإعطائه هذا المالَ مِنَ الذنوبِ، وما أعطى هؤلاء المحتاجينَ لأنَّ بينَهُ وبينهُم منفعةً أعطاهُ إياهم من أجلِها، ولكنْ أعطاهُ إياهم لأجلِ أن يرضَى عنه ربه العالي على خَلْقِه، ولسوفَ يرضى هذا المُعطي بما سيُخْلِفُه الله عليه في الآخرة من الثواب (3).   (1) قال قتادة من طريق سعيد: «على الله البيان: بيانُ حلالِه وحرامِه، وطاعتِه ومعصيته». (2) قال الطبري: «وقوله: {وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى} يقول: وإن لنا مِلْكَ ما في الدنيا والآخرة، نُعطي منها من أرَدْنا من خلقنا، ونحرمه من شئنا. وإنما عنى بذلك ـ جل ثناؤه ـ أنه يوفِّقُ لطاعته من أحبَّ من خلقه، فيكرِمه بها في الدنيا، ويهيء له الكرامةَ والثوابَ في الآخرة، ويخذلُ من يشاءُ خِذْلانَه من خلقِه عن طاعته، فيُهينه بمعصيته في الدنيا، ويُخزيه بعقوبته عليها في الآخرة». (3) قيل: نزلت هذه الآيات في أبي بكر، وردَ ذلك عن عبد الله من طريق ابن عامر، وقتادة من طريق سعيد، قال ابن كثير: «وقد ذكرَ غيرُ واحدٍ من المفسرين أنَّ هذه الآياتِ نزلت في أبي بكرٍ الصديق رضي الله عنه، حتى إنَّ بعضَهم حكى الإجماعَ من المفسِّرين على ذلك، ولا شكَّ أنه داخلٌ فيها، وأَوْلى الأمة بعمومِها، فإن لفظها لفظُ العُموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى *الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى}، ولكنه مقدَّمُ الأمةِ وسابقُهم في جميع هذه الأوصاف، وسائر الأوصافِ الحميدة ... » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 سورةُ الضُّحى آياتها:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 سورة الضحى بسم الله الرحمن الرحيم وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 سورةُ الضُّحى ثبتَ في الصحيحينِ عن جُنْدُبِ بنِ عبد الله البجلي، قال: دَمِيَتْ أصبعُ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، فاشتكى، فلم يَقُمْ ليلتين أو ثلاثاً، فجاءت امرأةٌ ـ وهي أمُّ جميل بنت حرب، زوج أبي لهب ـ، فقالت: يا محمدُ، إني لأَرجو أن يكونَ شَيْطانك قد تركَك، لم أرَهُ قَرَبَك منذ ليلتين أو ثلاثٍ، فأنزل الله: {وَالضُّحَى *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى *مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}، وحُكِي غير هذا السبب، وكلُّها في تأخُّر نزولِ الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم، وادعاءِ المشركينَ أنَّ ربَّه قد تركَه وقَلاَه. 1 - 2 - قولُه تعالى: {وَالضُّحَى *وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى}: يقسِمُ ربُّنا بأوَّلِ ساعاتِ النهار، وهو الضُّحى (1)، وبالليلِ إذا أقبلَ بظلامِه وسَكَن (2).   (1) سبقَ ذكر الخِلاف في الضحى عند أولِ سورةِ الشمس. (2) اختلف السلفُ في تفسير سَجَى على أقوالٍ: الأول: إذا استوى وسَكَن، وهو قول مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. الثاني: إذا أقبلَ، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي، والحسن من طريق معمر. الثالث: إذا ذهبَ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. قال الطبري: «وأولى الأقوالِ بالصواب عندي في ذلك، قول من قال: معناه: والليلِ إذا سكنَ بأهله، وثبتَ بظلامه؛ كما يقال: بحرٌ ساجٍ: إذا كان ساكناً، ومنه قول أعشى بني ثعلبة: فما ذنبنا إن جاشَ بحر ابن عمكم ... وبحرُك ساجٍ ما يواري الدعامِصَا وقول الراجز: يا حبذا القَمْراء والليلُ السَّاجْ وطُرُقٌ مثلُ مُلاءِ النَّسَّاجْ» = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 3 - قولُه تعالى: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: ما تركَكَ ربُّكَ يا محمد صلّى الله عليه وسلّم وما أبغضَك. 4 - قولُه تعالى: {وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الأُولَى}: يقسِمُ ربُّنا لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم أنَّ الدارَ الآخِرةَ بما أعدَّه الله له فيها خيرٌ له من الدنيا وما فيها، وهذه بشارةٌ للنبيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيها تأكيدُ عَدمِ تركِ الله وبغضِه له، فلا يحزنُ مما يقعُ له. 5 - قولُه تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى}: ويقسِمُ له مؤكِّداً بأنه سيعطيه ويُنْعِمُ عليه كلَّ ما يرجوه من خيرٍ له ولأمَّتِه حتى يرضى بهذا العطاء (1). 6 - 8 - قولُه تعالى: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى *وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فَهَدَى *وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}: يَمْتَنُّ اللَّهُ على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم معدِّداً عليه شيئاً من نِعَمِه،   = والقولان الأول والثاني يرجعان إلى دلالتين في «سجى» الأولى: السكون، والثانية التغطية، ومنه تسجية الميت أي تغطيته، وعلى تفسير الحسن، قال: «إذا لبس الناس، إذا جاء»، ومن ثمَّ يكون الخلاف راجعاً إلى أكثر من معنى بسبب الاشتراكِ اللغوي في هذه اللفظة. أما تفسيرُ ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، فلم أجِدْهُ مذكوراً في كُتب اللغة، وواضح أنه تفسير لغوي، وإذا فُسِّرَ به صارَ اللفظُ من الأضداد؛ لأن أقبلَ بظلامه وذهبَ ضِدَّان، ويبقى أن سببَ الاختلاف الاشتراك اللغوي في معنى اللفظ، والله أعلم. (1) الواردُ عن السلف في التفسير تخصيصه بإعطاء الآخرة، وكأنهم ربطوا الآية بما قبلها، وهي أنَّ خيرَ الآخرةِ له أفضلُ من الدنيا، ولأنه سيُعطى من خيرِها حتى يرضى، ولو حُمِلَ على عمومِ الإعطاء فهو مُحتمل، ويكون تفسير السلف مثالاً لنوع من أشرف أنواع الإعطاء الإلهي للنبي صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. وقد ورد التفسير عن ابن عباس من طريق ابنه علي، قال: «أعطاهُ الله في الجنة ألفَ ألفِ قصر، في كل قصرٍ ما ينبغي له من الأزواج والخَدَم»، قال ابن كثير: «وهذا إسنادٌ صحيح إلى ابن عباس، ومثلُ هذا لا يقالُ إلا عن توقيف». ووردَ عنه من طريق السدي: «من رِضا محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم أن لا يَدْخُلَ أحدٌ من أهلِ بيته النار»، وفيه انقطاعٌ بين السدي وابن عباس. وورد عن قتادة من طريق سعيد أن هذا الإعطاء يكونُ يومَ القيامة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وهي أنه كان يتيماً قد فَقَدَ أباهُ في الصِّغر، فجعلَ له مكاناً يرجِعُ إليه ويسكنُ فيه، وكان ذلك برعاية جَدِّهِ وعَمِّهِ له. وَوَجَدَكَ ضالًّا عن مَعْرِفَةِ الدِّين، فهداكَ إليه؛ كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ} [الشورى: 52]. ووجدَكَ فقيراً فأغناك. 9 - 11 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلاَ تَقْهَرْ *وَأَمَّا السَّائِلَ فَلاَ تَنْهَرْ *وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ}: يقولُ تعالى لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم: فإذا علِمْتَ نِعمتي عليكَ في هذا فاشكُرها بأن لا تغلِبَ من فَقَدَ أباه، وهو دون سنِّ البلوغ، ولا تُذِلَّه بأي نوع من أنواعِ الإذلال، فتظلِمَه بذلك. وأن لا تزجُرَ الذي يسألُ عن دينه، أو يسألُكَ النَفَقَةَ من الفقراء. وأن تُخبِرَ الناسَ على سبيل الشكر لله بما أنعمَ عليك من نِعَمِه؛ كنِعْمَةِ القرآن، أو النبوَّة، أو غيرها، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 سورةُ الشَّرح آياتها:8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 سورة الشرح بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 سورةُ الشَّرح 1 - قولُه تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: يقولُ الله مُمْتَنًّا على نبيِّه صلّى الله عليه وسلّم: لقد وسَّعْتُ لكَ صدرَكَ، فجعلتُه منبسِطاً راضياً، وجعلتُه محلًّا لوحيي، ومتحمِّلاً لأعباء حَمْلِهِ وتبليغِه للناس، ومتحمِّلاً أخلاقَهم، وغير ذلك مما يدلُّ على سَعَةِ الصَّدْرِ وعَدمِ ضِيقِه (1). 2 - 4 - قولُه تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ *الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ *وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ}: ويمتنُّ عليه بأنه قد حطَّ عنه الإثمَ (2) الذي أتعَبَهُ وصارَ   (1) في هذا الشرحِ المعنويِّ إشارةٌ إلى الشرح الحسِّي، وهو شَقُّ صدرِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم وإخراجُ ما في قلبِه من النُكْتَةِ السوداء، وملءُ قلبه إيماناً وحِكْمَة. وقد كان هذا ممهِّداً لذلك الشرحِ الذي ذكر الله في الآية، والله أعلم. (2) أشارَ السلفُ إلى ذلك، فقال: مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «ذنبُك»، قال قتادة من طريق سعيد ومعمر: «كانت على النبي صلّى الله عليه وسلّم ذنوبٌ قد أثقلته، فغفَرها الله له»، وكذا قال ابن زيد. وهذه مسألةٌ تتعلقُ بالعِصْمَة، وللناسِ فيها كلامٌ كثير، وأغلبُ الكلامِ فيها عقليٌّ لا يَعْتَمِدُ على النصوص، وهذا النص صريحٌ في وقوع الرسول صلّى الله عليه وسلّم في شيء من الذنوب التي قد غفرَها الله له، ولكن لم يبيِّن الله نوعَ هذه الذنوب، ولذا فلا تتعدَّ ما أجملَهُ الله في هذا النصِّ، وقُلْ به تَسْلَم. ولا تفترض مصطَلَحاً للعِصْمة من عقلِكَ تحمِل عليه أفعالَ الرسول صلّى الله عليه وسلّم، فتدخُل بذلك في التأويلاتِ السَمِجَةِ التي لا دليلَ عليها من الكتاب ولا السنة؛ كما وقع من بعضِهم في تأويلِ قولِه تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]، قال: «ما تقدَّم: ذنبُ أبيك آدم، وما تأخَّر: ذنوبُ أمَّتِك»، وانظر الشَبَهَ بين هذا القولِ وبين قولِ النصارى في الخطيئة، فالله يقول: ليغفرَ لكَ اللَّهُ ما تقدَّم من ذنبِكَ، وهذا يقول هو = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ثقيلاً عليه كأنه يحمِلُه على ظهرِه. وأنه قد جعلَ له الثناءَ الحسنَ، فصارَ لا يُذكرُ إلاَّ بخيرٍ، ومِنْ أعظمِ ذلك أنه قُرِنَ ذِكْرُه بِذِكْرِ الله؛ كما في الشهادتين (1). 5 - 6 - قولُه تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا *إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}؛ أي: فإذا علمتَ هذا (2)، فاعلم أنَّه يعقبُ الشِّدَّةَ فرجٌ ومخرجٌ، ثمَّ أكَّد هذا   = ذنبُ غيرِه! والله المستعان. واعلم أن في الرسولِ جانبين: جانبٌ بشري، وجانبٌ نَبَوي. أما الجانب البشري فهو فيه كالبشر: يحبُّ ويكرَه، ويرضى ويغضَب، ويأكلُ ويشرب، ويقومُ وينام ... إلخ، مع ما ميَّزَهُ الله به في هذا الجانب في بعض الأشياء؛ كسلامةِ الصدر، والقوةِ في النكاح، وعدمِ نومِ القلب، وغيرِها من الخصوصيات التي تتعلقُ بالجانب البشري. ومن هذا الجانبِ قد يقعُ من النبي بعضُ الأخطاء التي يعاتبُه الله عليها، ولكَ أن تنظُرَ في جملةِ المعاتَبَاتِ الإلهية للنبي صلّى الله عليه وسلّم؛ كعِتابه بشأن أسرَى بدر، وعتابِه بشأن زواجِه من زينب، وعتابِه في عبد الله بن أم مكتوم، وغيرِها، وقد نصَّ اللَّهُ على هذا الجانبِ في الرُّسُلِ جميعِهم صلواتُ اللَّهِ وسلامُه عليهم، ومن الآيات في ذلك: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَرًا رَسُولاً} [الإسراء: 93]، ومن الأحاديثِ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «إنما أنا بَشَرٌ، وإنكم تختصِمونَ إليَّ، ولعلَّ بعضكم يكون ألحن بحجَّتِه من بعض، فأقضي له بنَحْوِ ما أسمع، فمن قضيتُ له بحقِّ أخيه شيئاً، فلا يأخذه، فإنما أقطعُ له من النار» (رواه البخاري). وتكمُنُ العِصمةُ في هذا الجانب في أنَّ الله يُنَبِّهُ نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم على ما وقعَ منه من خطأ، وهذا ما يتأتَّى لأحدٍ من البشر غيره، فتأمله فإنه من جوانب العِصمة المُغْفَلَةِ. وأما الجانب النَّبَوِيُّ، وهو جانب التبليغ، فإنه لم يرِد البتةَ أن النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم خالفَ فيه أمرَ الله؛ كأن يقولَ الله له: قل لعبادي يفعلوا كذا، فلا يقولُ لهم، أو يقولُ لهم خلافَ هذا الأمر، وهذا لو وقعَ فإنه مخالِفٌ للنبوَّة، ولذا لما سُحِرَ النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يؤثِّر هذا السحر في الجانب النبوي، بل أثَّرَ في الجانب البشري، ومن ثمَّ فجانب التبليغ في النبيِّ معصومٌ، ويدلُّ على هذا الجانب قوله تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى *إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}، والله أعلم. (1) كذا فسَّرَ السلف الرفعَ في الذكر بأنه في الشهادة، قال مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: «لا أُذكر إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله». وقال قتادة من طريق سعيد: «رفعَ الله ذِكْرَهُ في الدنيا والآخرة، فليس خطيبٌ، ولا متشهِّدٌ، ولا صاحب صلاة إلا ينادي بها: أشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله». (2) هذا تفسير للفاء في قوله: {فَإِنْ}، وتسمَّى فاء الفصيحة، وهي تدل على كلامٍ محذوف = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 بتَكرارِ الجملة؛ للدلالةِ على أنَّ اليُسْرَ يَلْحَقُ العُسْرَ ويَغْلِبُه (1). 7 - 8 - قولُه تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ *وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}؛ أي: لمَّا تقرَّرَ ما وهبَ اللَّهُ لك، فإنَّ عليكَ إذا فرغتَ من عملٍ أن تَنْصَبَ في عملٍ آخرَ من أعمالِ الخير (2)، وهذا المعنى كالمعنى في قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَاتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99]. وأن تكونَ أيُّ رغبةٍ لك ـ وهي طلبُ حصولِ ما هو محبوبٌ ـ مطلوبةً من الله لا من غيرِه، والله أعلم.   = يُقَدَّرُ حسبَ السياق، وهي تربطُ بين الجملة السابقة واللاحقة. (انظر: التحرير والتنوير). (1) وردَ في حديثٍ من مُرْسَلِ الحسن وقتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لن يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَينِ»، وقد شرحَ بعض العلماء ذلك، على أن العسرَ في الآيتين معرَّف، واليسر مُنَكَّر، فالتعريف دليلُ التوحُّدِ والانفراد، والتنكيرُ دليلُ التعدُّد، والله أعلم. (انظر: تفسير ابن كثير). (2) ذكرَ السلف أمثِلةً لما يَفرغُ منه وينصبُ فيه من الأعمال، ومنها: 1 - إذا فرغتَ من صلاتِك، فانصبْ إلى ربِّك في الدعاء، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وقتادة من طريق سعيد ومعمر. 2 - إذا فرغتَ من جهادِ عدوِكَ فانصبْ في عبادة ربِّك، وردَ ذلك عن الحسن من طريق قتادة، وابن زيد. 3 - إذا فرغتَ من أمرِ دُنياكَ، فانصبْ في عبادة ربِّك، وردَ ذلك عن مجاهد من طريق منصور. قال ابن جرير: «وأولى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: إن الله تعالى ذِكرُه أمرَ نبيَّهُ أن يجعلَ فراغَهُ من كلِّ ما كان به مشتغِلاً من أمر دُنياه وآخرتِه، مما أدَّى له الشغل به، وأمره بالشغلِ به إلى النَّصْبِ في عبادته، والاشتغالِ فيما قرَّبه إليه، ومسألته حاجاته، ولم يخصِّص بذلك حالاً من أحوالِ فراغِه دون حال، فسواءٌ كل أحوال فراغه: من صلاته كان فراغه، أو جهاد، أو أمرِ دنيا كان به مشتغلاً لعمومِ الشرط في ذلك من غير خصوصِ حالِ فراغ دون حال أخرى». وهذا يعني أن لفظ الفراغِ والنَّصَبِ عامٌّ، وما ذُكِرَ من التفسير أمثلةٌ لهذا العام، ولذا وردَ عن مجاهد في التفسير قولان مختلفان، وكلاهما من قبيلِ الأمثلة لهذا العموم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 سورةُ الِّتين آياتها:8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 سورة التين بسم الله الرحمن الرحيم وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 سورةُ الِّتين 1 - 3 - قولُه تعالى: {وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ *وَطُورِ سِينِينَ *وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ}: يُقسِمُ ربُّنا بشجرتَي التِّينِ والزيتونِ، وفيه إشارةٌ إلى مكانِ نباتِهما، وهو الشامُ مَوْطِنُ كثيرٍ من أنبياء بني إسرائيل (1)؛ كعيسى ابن مريم، ويقسِمُ   (1) اختلفت عباراتُ المفسِّرينَ في تفسير التين والزيتونِ على أقوال: 1 - التينُ الذي يؤكل، والزيتونُ الذي يُعْصَر، وهو قول الحسن من طريق عوف وقتادة، وعكرمة من طريق الحكم ويزيد وأبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح وخصيف، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، والكلبي من طريق معمر. 2 - التين: مسجدُ دمشق، والزيتون: بيتُ المَقْدِسِ، وهو قولُ كعبِ الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. 3 - التين: مسجدُ نوح، والزيتون: مسجدُ بيت المقدس، وهو قول ابن عباس من طريق العوفي. قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك عندنا، قول من قال: التين: هو التين الذي يؤكل، والزيتون هو الزيتون الذي يُعْصَرُ منه الزيت؛ لأن ذلك هو المعروفُ عند العرب، ولا يُعرَفُ جبلٌ يُسمَّى تيناً ولا جبلٌ يُسمَّى زيتوناً، إلاَّ أن يقولَ القائل: أقسمَ ربُّنا جلَّ ثناؤه بالتِّين والزيتون، والمرادُ من الكلام القسم بمنابتِ التين ومنابتِ الزيتون، فيكونُ ذلك مذهباً، وإن لم يكن على صحة ذلك أنه كذلك دلالة في ظاهر التنزيل، ولا من قول من لا يجوز خلافه؛ لأنَّ دمشق بها منابت التين، وبيت المقدس منابت الزيتون». وهذا الذي قاله السلفُ في تفسيرِهِم حقٌّ، ويدلُّ عليه ظاهرُ التنزيل؛ لأنَّ الله سبحانه عطف على هاتين أسماء أماكن، وهذا يشير إلى أنَّ المرادَ بالقسَمِ هاتان الشجرتان وأماكن نباتهما، ولهذا كانت كلُّ الأقوال المذكورة في التين والزيتون لا تخرجُ عن الشَّامِ التي هي موطنُ كثيرٍ من النبوات، خصوصاً نبوات بني إسرائيل، ولذا قال بعض العلماء: «هذه محالٌّ ثلاثة بعثَ الله في كلِّ واحدٍ منها نبياً مرسَلاً من أولي العزم أصحاب الشرائع الكبار. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 بجبلِ سَيْناءَ الذي كلَّمَ فيه موسى (1)، ومنه أرسلَه إلى فرعون. ويقسمُ بمكَّةَ   = فالأول: محلة التين والزيتون، وهي بيت المقدِس التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم. والثاني: طور سينين، وهو طورُ سيناء الذي كلَّم اللَّهُ عليه موسى بن عمران. والثالث: مكة، وهو البلد الأمين الذي من دخله كان آمناً، وهو الذي أرسلَ الله فيه محمداً صلّى الله عليه وسلّم. قالوا: وفي آخر التوراة ذِكْرُ هذه الأماكنِ الثلاثة: جاء الله من طُور سيناء ـ يعني: الذي كلَّمَ اللَّهُ عليه موسى بن عمران ـ، وأشرقَ من ساعير ـ يعني: جبلَ بيتِ المقدِس الذي بَعَثَ الله منه عيسى ـ، واستعْلَنَ من جبالِ فاران ـ يعني: جبالَ مكة التي أرسلَ الله منها محمداً ـ، فذَكَرَهُم على الترتيب الوجودي بحسب ترتيبِهم في الزمان. ولهذا أقسمَ بالأشرف، ثُمَّ الأشرفِ منه، ثُمَّ بالأشرفِ منهما». (تفسير ابن كثير، وانظر: التحرير والتنوير). (1) وردَ عن جمعٍ من السلف تفسيره بجبل موسى الذي في سيناء، وردَ ذلك عن الحسن من طريق عوف، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، وابن عباس من طريق العوفي، وذكره بعضهم باسمِ مسجدِ موسى، ورد ذلك عن قتادة من طريق هشام، وابن زيد. وفسَّر بعضُهم معنى الطور، فقال: الطور: الجبل، ورَدَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، وعمرو بن ميمون، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وورد عن عكرمة من طريق النضر، والكلبي، من طريق معمر، تقييدَهُ بالجبل الذي يُنبت. وفسَّر عكرمة من طريق عمارة وأبي رجاء «سينين» بالحسن، قال: «وهي لغة الحَبَشَة، يقولون للشيءِ الحَسَنِ: سينا سينا». وفسَّره مجاهد من طريق ابن أبي نجيح بالمبارك، وقال قتادة من طريق معمر: «جبلٌ بالشام مباركٌ حَسَن». قال الطبري: «وأَوْلَى الأقوالِ في ذلك بالصواب، قول من قال: طور سينين: جبلٌ معروف؛ لأن الطورَ هو الجبلُ ذو النبات، فإضافته إلى سينين تعريفٌ له، ولو كان نعتاً للطور، كما قال من قال: معناه: الحسن أو مبارك، لكان الطورُ منوَّناً، وذلك أنَّ الشيءَ لا يضافُ إلى نعته لغير عِلَّةٍ تدعو إلى ذلك». وهذا الذي قاله الطبري صوابٌ، غير أنه يمكن أن تُحتمل بعض هذه الأقوال، فمن فسَّره بالجبل أراد، ـ والله أعلم ـ بيانَ معنى الطور في اللغة. كما أن قول قتادة: «جبلٌ بالشام مبارَكٌ حَسَن» يمكن أن لا يكون تفسيراً لفظياً لسينين، ولكنه أراد أنَّ هذا الجبلَ الذي في سيناء مبارك بما حفَّه من نزولِ الرسالة على موسى، وهو حسنٌ لما فيه من الأشجار التي تغطِّيه، والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 التي جعلَها آمِنَةً، وأمَّنَ مَنْ فيها (1). 4 - 5 - قولُه تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ *ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}: هذا جوابُ القَسَمِ (2)، والمعنى: لقد خلقنا الإنسانَ في أعدَلِ خلقٍ وأحسنِ صُورةٍ (3)، ولكنه إن لم يشكُرْ هذه النعمة، فأفسَدَ فِطْرَتَهُ، ودسَّ نفسَهُ، فإنَّ اللَّهَ سيردُّه إلى النار التي تغيِّر هذا التقويم الحسَن الذي خلَقه اللَّهُ عليه (4).   = أمَّا تفسيرُ عكرمة على أنَّ اللفظ بلغة الحبشة، فبعيدٌ؛ لاختلافِ اللفظتين، وليس هذا تعريبُها، لو كانت مما وقعَ للعرب من لغةِ الحبشة، ولا هي من العربية، لو قيل باتفاق اللغتين في هذه اللفظ، ويدلُّكَ على ذلك ما وردَ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في نُطق اللفظة الحبشية التي تدلُّ على معنى الحسن، حيث قال: سَنَا، وسنَهْ، وسَنَاهْ. (انظر: صحيح البخاري: كتاب اللباس: 22، ومناقب الأنصار: 27، والجهاد: 188) كلُّ هذا وردَ عنه، وهي لفظةٌ حبشية بمعنى حسن. فأين هذه اللفظةُ من لفظةِ سينين، والله أعلم. (1) وردَ تفسيرُ البلدِ الأمين بمكةَ عن ابن عباس من طريق العوفي، وكعب الأحبار من طريق يزيد أبي عبد الله، والحسن من طريق عوف، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وعكرمة من طريق الحكم وأبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد، وإبراهيم النَخَعي من طريق حماد. (2) ورد عن قتادة من طريق سعيد، قال: «وقع القسَمُ هاهنا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}». (3) كذا فسَّر جمهور السلف، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وأبي العالية من طريق الربيع، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، والكلبي من طريق معمر. ووردَ عن ابن عباس من طريق العوفي: «شبابُه أولَ ما نشأ»، ومن طريق عكرمة: «خلق كل شيء مُنْكَبًّا على وجهِه إلاَّ الإنسان»، وعن عكرمة من طريق الحكم: «الشابُّ القوي الجَلِدُ»، ويمكن أن تكون هذه أمثلةً لأعدَلِ الخلق، فتكون داخلة في قول الجمهور، وعلى العموم، فإن تفسيرَ السلف مُتَّجِهٌ إلى أن أحسن تقويم هو الصورة الجسدية في خلق الإنسان. (4) اختلف تفسيرُ السلفِ لأسفلِ سافلين على أقوال: 1 - ردَدْناه إلى أرذَلِ العُمر، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة وأبي رزين = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 6 - قولُه تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}؛ أي: إلاَّ الذين آمنوا وعمِلوا الصالحاتِ، الذينَ شكروا الله على هذا التقويمِ الحسنِ بعبادتِه، فإنهم لا يُرَدُّونَ إلى أسفلِ سافلين: النار (1)، بل لهم أجرٌ   = والعوفي، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر وسعيد. 2 - ردَدْناه إلى النار، وردَ ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والحسن من طريق قتادة، وابن زيد. 3 - في شرِّ صورة، في صورةِ خِنزير، وردَ ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس. واختار ابن جرير أنَّ أسفل سافلين: أرذل العمر، واحتجَّ لذلك. وسيأتي عند الاستثناء في قوله تعالى: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا ... } تتمة نقاش لهذا الاختلاف. (1) اختلف السلف في تفسير هذه الجملة بناءً على اختلافهم في سابقتها، ولهم في ذلك أقوال: 1 - أن الذين آمنوا إذا هرموا يكتب لهم ما كانوا يعملونه في حال الصحة وهذا تفسير ابن عباس من طريق عكرمة والعوفي، وإبراهيم النخعي من طريق حماد، وقتادة من طريق معمر. 2 - وفسَّر بعضهم: أنهم لا يؤاخذون بما عملوا في حال الهرم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي رزين، وعكرمة من طريق أبي رجاء والحكم. 3 - وورد عن مجاهد والحسن: إلاَّ الذين آمنوا لا يردون إلى النار. وقد ناقش ابن القيم هذه الأقوال، واختار أن أسفل سافلين: النارُ، وأطال في هذا، وأنا أنقله لك بطوله لفائدته، واللَّهُ الموفِّقُ. قال ابن القيم: «ثمَّ لما كانَ الناسُ في الإجابة لهذه الدعوة فريقين: منهم من أجاب، ومنهم من أبى، ذكر حال الفريقين، فذكر حال الأكثرين، وهم المردودون إلى أسفل سافلين، والصحيح أنه النارُ، قاله مجاهد والحسن وأبو العالية. قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: هي النار، بعضها أسفل من بعضٍ. وقالت طائفة، منهم قتادة، وعكرمة، وعطاء، والكلبي، وإبراهيم: أنه أرذل العمر، وهو مروي عن ابن عباس. والصواب القول الأول؛ لوجوه: أحدها: أن أرذل العمر لا يسمى أسفل سافلين، لا في لغةٍ، ولا عرفٍ. وإنما أسفل = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = سافلين هو سجين، الذي هو مكان الفجار، كما أن عليين مكان الأبرار. الثاني: أن المردودين إلى أرذل العمر بالنسبة إلى نوع الإنسان قليلٌ جداً، فأكثرهم يموت ولا يُرَدُّ إلى أرذل العمر. الثالث: أن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يستوون هم وغيرهم في ردِّ من طال عمره منهم إلى أرذل العمر. فليس ذلك مختصاً بالكفار، حتى يستثني منه المؤمنين. الرابع: أن الله سبحانه لما أراد ذلك لم يخصه بالكفار، بل جَعَلَهُ لجنسِ بني آدم، فقال: {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} [الحج: 5]، فجعلهم قسمين: قسماً متوفى قبل الكِبَرِ، وقسماً مردوداً إلى أرذل العمر، ولم يسمِّهِ أسفل سافلين. الخامس: أنه لا تحسن المقابلة بين أرذل العمر وبين جزاء المؤمنين. وهو سبحانه قابل بين جزاء هؤلاء وجزاء أهل الإيمان، فجعل جزاء الكفار أسفل سافلين، وجزاء المؤمنين أجراً غير ممنون. السادس: أن قول من فسر بأرذل العمر يستلزم خلوَّ الآية عن جزاء الكفار وعاقبته أمرهم، ويستلزم تفسيرها بأمر محسوس، فيكون قد ترك الإخبار عن المقصود الأهم، وأخبر عن أمر يُعرف بالحس والمشاهدة، وفي ذلك هضم لمعنى الآية، وتقصير بها عن المعنى اللائق بها. السابع: أنه سبحانه ذكر حال الإنسان في بدئه ومَعَادِهِ، فمبدؤه: خلقه في أحسن تقويم، ومَعَادُهُ: ردُّه إلى أسفل سافلين أو إلى أجر غير ممنون. وهذا موافق لطريقة القرءان وعادته في ذكر مبدأ العبد ومَعَادِهِ، فما لأرذل العمر وهذا المعنى المطلوب المقصود إثباته والاستدلال عليه؟ الثامن: أن أرباب القول الأول مضطرون إلى مخالفة الحس، وإخراج الكلام عن ظاهره، والتكلف البعيد له. فإنهم إن قالوا: إن الذي يُردُّ إلى أرذل العمر هم الكفار دون المؤمنين، كابروا الحسَّ. وإن قالوا: إن من النوعين من يُردُّ إلى أرذل العمر احتاجوا إلى التكلف لصحة الاستثناء، فمنهم من قدَّرَ ذلك بأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لا تبطل أعمالهم إذا رُدُّوا إلى أرذل العمر، بل تجري عليهم أعمالهم التي كانوا يعملونها في الصحة. فهذا، وإن كان حقاً، فإن الاستثناء إنما وقع من الردِّ لا من الأجر والعمل. ولما علِمَ أرباب هذا القول ما فيه من التكلف، خصَّ بعضُهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات بقراءة القرءان خاصة، فقالوا: من قرأ القرءان لا يُردُّ إلى أرذل العمر. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 غير منقوصٍ، ولا محسوبٍ، ولا منقطِع (1).   = وهذا ضعيف من وجهين: أحدهما: أن الاستثناء عام في المؤمنين: قارئهم وأميهم. وأنه لا دليل على ما ادَّعوه، وهذا لا يعلم بالحسِّ، ولا خبر يجب التسليم له يقتضيه، واللَّهُ أعلمُ. التاسع: أنه سبحانه ذكر نعمته على الإنسان بخلقِه في أحسن تقويمٍ، وهذه النعمة توجب عليه أن يشكرها بالإيمان، وعبادته وحده لا شريك له، فينقله حينئذٍ من هذه الدار إلى أعلى عليين، فإذا لم يؤمن به، وأشرك به، وعصى رسله، نقله منها إلى أسفل سافلين، وبدَّله بعد هذه الصورة التي هي في أحسن تقويم، صورةً من أقبح الصور في أسفل سافلين. فتلك نعمته عليه، وهذا عدْله فيه، وعقوبته على كفرانه نعمته. العاشر: أنَّ نظير هذه الآية قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، فالعذاب الأليم هو أسفل سافلين، والمستثنون هنا هم المستثنون هناك، والأجر الممنون هناك هو المذكور هنا، واللَّهُ أعلمُ». التبيان في أقسام القرآن (ص: 31 - 33). وقد ذكرَ الطاهر بن عاشور في الآية فَهْماً جديداً استنبطَه، وهو فَهْمٌ قويٌّ تدلُّ عليه النصوص، ومُلَخَّصُه: أنَّ أحسنَ تقويم هي الفطرة التي فطرَ الله الناسَ عليها، وأن الردَّ إلى أسفل سافلين للكافر، وذلك ببُعْدِهِ عن فِطرته وكُفْرِه بالله، إلاَّ الذين آمنوا فاستقاموا على ما فُطِروا عليه، واستدلَّ لفَهْمِه هذا بحديث: «ما من مولودٍ إلاَّ يولَدُ على الفطرة ... » وهو فَهَمٌ سديد، يتناسبُ مع المُرادِ من سياق الأقسام الواردة في النبوَّات، فتأمَّلْهُ واعتَبِره، والله الموفق والهادي إلى سواءِ السبيل. (1) وردَ اختلافٌ بين السلف في تفسير «مَمْنون» على أقوال: 1 - غير منقوصٍ، وهو قول ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. 2 - غير محسوبٍ، وهو قول مجاهد من طريق ابن جريج وابن أبي نجيح، وإبراهيم النخعي من طريق حماد. 3 - غير مقطوع. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، قول من قال: فَلَهُم أجرٌ غير منقوص، كما كان له أيام صحَّته وشبابه، وهو عندي من قولهم: حبلٌ مَنين: إذا كان ضعيفاً، ومنه قول الشاعر: أَعْطَوا هُنَيْدَةَ يَحْدُوها ثَمَانِيَة ... مَا فِي عَطَائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ يعني: أنه ليس فيه نقص، ولا خطأ». = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 7 - قولُه تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ}؛ أي: فأيُّ شيءٍ يجعلُكَ أيها الإنسانُ بعدَ هذا البيانِ لا تصدِّقُ بيومِ الحساب (1)، وقد وَضَحَتْ دلائلُ   = وسببُ هذا الاختلاف الاشتراك اللغوي في لفظ «ممنون»، وهو محتملٌ لما قيل من هذه التفاسير، ويكون الاختلاف فيه راجعاً إلى أكثرِ من معنى، والله أعلم. (1) أوردَ الطبريُّ في تفسير «الدين» قولين: الأول: الحساب، وذلك عن عكرمة من طريق النضر بن عربي. والثاني: حُكْمُ الله، عن ابن عباس من طريق العوفي، ثمَّ قال: «وأولى القولين في ذلك بالصواب، قول من قال: الدين في هذا الموضع: الجزاء والحساب، وذلك أنَّ أحدَ معاني الدِّين في كلام العرب: الجزاء والحساب، ومنه قولهم: «كما تَدينُ تُدان»، ولا أعرِفُ في معاني الدِّينِ الحكمَ في كلامهم، إلاَّ أن يكونَ مُراداً بذلك: فما يُكذِّبُكَ بعدُ بأمرِ الله الذي حكمَ به عليكَ أن تُطيعه فيه، فيكون ذلك». يُحْتَمَلُ أن ابن عباس فسَّر الدين هنا بالشريعة، وهي حُكْمُ الله، ومنه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِيَاخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ} [يوسف: 76]؛ أي: في حُكمه، والطبري قد فسَّره بهذا المعنى في هذه الآية، وهو ما أشارَ إليه في توجيه ما روي عن ابن عباس، ويكون المعنى على قول ابن عباس: فمن يكذِّبُكَ بعدَ هذا البيان بحُكم الله الذي أنزلَه عليك، وهذا معنًى مُحتمل، وإن كان الأول أنسب منه للسياق، وعليه فهو أرجح، وبهذا يكون الخلافُ بسبب الاشتراك اللغوي في لفظ «الدين»، ويكون الخلاف فيه راجعاً لمعنيين محتمَلين. ويُحتمل أن ابن عباس أرادَ بالحُكم القضاء، وكأنه اعتبر في هذا التفسير الآية بعدها، ويكون المعنى: فمن يكذّبك يا محمد بعد هذا البيانِ في حُكم الله وقضائِه، وهو أحكمُ الحاكمين، والله أعلم. ومما يلاحظ في ترجيح الطبري أمران: الأول: أنه رجَّح قول التابعي تلميذِ ابن عباس على قول شيخه الصحابيِّ ابن عباس، وهذا يُشْعِرُ بأن الطبريَّ يجعلُ مفسِّري السلفِ في التفسير في طبقةٍ واحدة عند الترجيح، ولا يقدِّم قول فلان لأنه من الصحابة، وهذا المنهجُ هو الغالبُ عليه، وإن كان في بعض المواطِنِ يقدِّم قولَ الصحابة وينبِّه على ترجيحِه لقولهم؛ لأنهم الصحابةُ العالمينَ بالتنزيل، وهذا منهجٌ يحتاجُ إلى استقراءٍ ودراسة. الثاني: أنَّ الطبري قال: ولا أعرفُ من معاني الدين في كلامهم ... ، ألا يكفي ورود تفسير هذه اللفظة عن حَبْرِ الأمة ابن عباس، وهو عربيٌّ يُحتجُّ بعربيَّتِه؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 صِدْقِه؟، أو من يُكَذِّبُكَ يا محمد صلّى الله عليه وسلّم بعدَ هذا البيانِ بيومِ الحساب (1)؟. 8 - قولُه تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}؛ أي: أليسَ اللَّهُ العالمُ بعبادِه بأحكَم من فصَلَ بين عبادِه وقضى بينهم، فلا يظلِمُهُم، ولا يجورُ عليهم (2)؟، والله أعلم.   (1) هذا مُقتضى تفسير مجاهد والكلبي، حيث جعلا الخطابَ للإنسان. ومن جعل الخطابَ للرسول صلّى الله عليه وسلّم، فالمعنى: فمن الذي يكذِّبك بعدَ هذا البيان بالدين. وقد اختاره الطبري، فقال: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: معنى «ما» معنى «من»، ووجه تأويل الكلام إلى: فمن يكذِّبك يا محمد بعدُ بالذي جاءك من هذا البيان من الله بالدين؛ يعني: بطاعة الله، ومجازاتِه العبادِ على أعمالهم». وهما قولان محتَملان، والأول يُبقي «ما» على معناها بلا تأويل، والثاني معنى معروفٌ في «ما» وقد سبق مثله في سورة الشمس وغيرها. ولذا يمكن أن يقال أنَّ سبب الاختلاف الاشتراك اللغوي في دلالة «ما» على معنى الاستفهام، ومعنى الموصولية، ومن ثَمَّ يكون الاختلاف راجعاً إلى معنيَيْنِ محتمَلين، والله أعلم. (2) وردَ في مُرْسَلِ قتادة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال: «بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين». وورد كذلك عن ابن عباسٍ من طريق سعيد بن جبير أنه يقول: «سبحانكَ اللَّهُمَّ، وبلى». وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، قال: «كان قتادة إذا تلا: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ}، قال: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين، أحسبه كان يرفعُ ذلك، وإذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} [القيامة: 40]؟ قال: بلى، وإذا تلا: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} [المرسلات: 50] قال: آمنت بالله، وبما أنزل». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 سورةُ العَلَق آياتها:19 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 سورة العلق بسم الله الرحمن الرحيم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 سورةُ العَلَق آياتُها الخمسُ الأولى أَوَّلُ ما نزلَ من القرآن على النبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان ذلك في غارِ حِراء. 1 - 5 - قولُه تعالى: {اقْرَا بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ *خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ *اقْرَا وَرَبُّكَ الأَكَرَمُ *الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ}: يأمرُ ربُّنا تباركَ وتعالى نبيَّهُ الأميَّ صلّى الله عليه وسلّم أن يتلُوَ ما أنزلَه عليه، وهي هذه الآيات، فيقولُ له: اقرَأ مستعيناً ومستفتِحاً باسمِ ربِّك الذي خلقَ كلَّ شيء. ثمَّ بيَّنَ أصلَ خَلْقِ الإنسانِ فقال: خَلَقَ الإنسانَ من الدَّم المتجمِّدِ العالِقِ بالرَّحِم، ثمَّ كرَّرَ الأمرَ بالقراءة اهتماماً بها، فقال: اقرأ وربُّكَ المتصِف بكمال الكرم، ومن كرَمِهِ أنْ علَّم الإنسانَ الكتابةَ بالقلم، فحفِظَ به علومَه، ومن كرَمِه أنه علَّم الإنسانَ علوماً كان يجهلها. 6 - 8 - قولُه تعالى: {كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى *أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى *إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى}؛ أي: ما هكذا ينبغي أن يكونَ الإنسان، أن يُنْعِمَ عليه ربه بتَسْوِيَةِ خلقِه وتعليمِه ما لا يعلم، ثم يَكْفُرُ ويطْغى (1). إنَّ الإنسانَ الكافرَ لَيتجاوزُ الحدَّ، ويعصي ربَّه؛ لأجل أنه رأى في نفسه الغِنى بما أنعمَ الله عليه، فاستغنى عن ربِّه، ولمَّا كان منه ذلك، هدَّدَهُ اللَّهُ بأنَّ مَرَدَّه ومصيرَه إليه، فليس له عن ربِّه مَفَرٌّ ولا ملجأ. 9 - 10 - قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى *عَبْدًا إِذَا صَلَّى}: نزلت هذه   (1) كذا فسَّر الطبري، لفظ «كلاَّ» في هذا الموضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 الآياتُ في أبي جهلٍ لما نَهى رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاةِ في المسجد الحرام وحَلَفَ لَيَطَأنَّ رقبتَهُ، وهو يصلي (1)، فقال تعالى: أعلِمْتَ أيها المخاطَب عن خبرِ الذي يَنْهَى محمداً صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة في المسجد الحرام، ألم يعلمْ بأن الله يراهُ، فيخاف سطوتَهُ وعقابَه؟. 11 - 12 - قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى *أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى}؛ أي: أرأيتَ أيها المخاطَب إن كان محمداً على الاستقامةِ والسَّدَاد في أمر صلاتِه؟، أو كان آمراً باتقاء الله، والخوفِ منه؟، أيَصِحُّ أن يُنْهَى عن ذلك؟!. والواقعُ أنَّ هذا الكافرَ ينهاه، وهذا تعجيبٌ من حاله، إذ كيف يُنهَى من كان بهذه الصفةِ من الهُدى والأمرِ بالتقوى؟!. 13 - 14 - قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى *أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى}؛ أي: أرأيتَ أيها المخاطَب إن كان هذا الناهي مكذِّباً بالله، ومُعْرِضاً عنه؟، أيعملُ هذه الأعمال، ولم يوقِن بأنَّ الله مطَّلِعٌ عليه، بصيرٌ به، يعلمُ جميعَ أحواله؟!. 15 - 16 - قولُه تعالى: {كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ *نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ}؛ أي: ليس الأمرُ كما قالَ وفعلَ هذا الناهي، فإنه لا يقدِرُ على إنفاذِ ما أراد، ثُمَّ يقسِمُ ربُّنا على أن هذا العبدَ الناهيَ إن لم يترك أعمالَه هذه وينتهي عنها ليأخُذنَّه مجذوباً من مقدِّمة رأسِه، وهذه الناصية ـ والمراد بها صاحبها ـ يصدُرُ عنها الخطأ والذنب، والكذِب في القول. 17 - 18 - قولُه تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ *سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}: لمَّا نهى أبو جهلٍ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم، انتَهَرهُ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم، فقال أبو جهل: «علامَ يتهدَّدُني   (1) ورَدت الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح: أن الناهي أبو جهل، وورد قوله: «لأَطَأنَّ عُنُقَهُ» عن قتادة من طريق سعيد ومعمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 محمد، وأنا أكثرُ أهلِ الوادي نادياً» (1)، فقال الله: فَلْيَدْعُ أبو جهلٍ أهلَ مجلسِه الذين ينتصرُ بهم، فإنه إن فعل، فإننا سندعو لهم ملائكةَ العذاب، الذين يدفعونَهم إلى العذاب دفعاً شديداً. 19 - قولُه تعالى: {كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}؛ أي: ليس الأمرُ كما يظنُّ أبو جهلٍ فيما قاله من اعتزازِه بكثرةِ ناصِريه، فلا تسمعْ له ولا تخفْ منه في نهيِه إياكَ عن الصلاة، بل اسجُدْ لله، وتقرَّبْ إليه بكثرةِ الصلاةِ له (2)، والله أعلم.   (1) وَرَدَتْ الرواية بذلك عن ابن عباس من طريق عكرمة والوليد بن العيزار، وعن أبي هريرة من طريق أبي حازم. (2) هذه الآية فيها إشارةٌ إلى قوله صلّى الله عليه وسلّم: «أقربُ ما يكونُ العبدُ من ربِّه وهو ساجد ... ». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 سورةُ القَدر آياتها:5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سورة القدر بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 سورةُ القَدر 1 - 3 - قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ *لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}: يخبرُ ربُّنا أنه أنزلَ القرآنَ جُمْلَةً واحدةً من اللوح المحفوظِ إلى السماءِ الدنيا (1) في ليلةٍ عظيمةٍ مبارَكةٍ من ليالي شهرِ رمضان، وهي ليلةُ القَدْرِ التي تُقَدَّرُ فيها مقاديرُ السَّنة القادمة (2). ثُمَّ استفهَمَ على طريق التفخيمِ والتعظيمِ لهذه الليلة، فقال: وما أشعركَ وأعلمكَ ما ليلةُ القدرِ هذه؟، ثمَّ أخبرَ عن فضلِها وعِظَمها بأنها تعدِلُ عملَ ألفِ شهرٍ لمن قامَها إيماناً واحتساباً (3). 4 - 5 - قولُه تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ   (1) صحَّ تفسيرُ هذا الإنزالِ عن ابن عباس، وانظر الروايةَ عنه من طريق عكرمة وحكيم بن جبير وسعيد بن جبير، قال في رواية سعيد بن جبير: «أُنزِل القرآن جملةً واحدةً في ليلة القدر إلى السماء الدنيا، فكان بمواقع النجوم، فكان الله ينزِله على رسوله بعضه في إثر بعض، ثمَّ قرأ: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً} [الفرقان: 32]». (2) وردَ ذلك عن سعيد بن جبير من طريق محمد بن سوقة، والحسن من طريق ربيع بن كلثوم، وسمَّاها مجاهد من طريق ابن أبي نجيح: ليلة الحُكم. (3) وردَ في هذا حديثٌ باطلٌ، فيه أنَّ مُلْكَ بني أميةَ ألفَ شهر، قال الطبري: «وأشبه الأقوال في ذلك بظاهر التنزيل قول من قال: عملٌ في ليلة القدر خيرٌ من عملِ ألفِ شهرٍ، ليس فيها ليلة القدر، وأما الأقوال الأُخر فدعاوَى معانٍ باطلة، لا دلالةَ علَيها من خبرٍ، ولا عقلٍ، ولا هي موجودة في التنزيل». وانظر كذلك تفسير ابن كثير فإنه نَقَدَ هذا الأثر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 *سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ}: هذا من بيانِ فضلِ تلكَ الليلة، وهو أنَّ أهلَ السماءِ من الملائكة، ومعهُم الروحُ، وهو جبريلُ على المشهورِ، ينزِلُ منهم من أذِنَ اللَّهُ له بالنزولِ إلى الأرض في هذه الليلة، ومعهُم ما أمرَ اللَّهُ به من قضائِه في هذه السَّنة: من رزقٍ، وأجلٍ، وولادةٍ، وغيرِها، وهذه الليلةُ هي خيرٌ كلها، فهي سالمةٌ من الشَّرِّ كلِّه من أوَّلها إلى طلوعِ الصُّبح (1)، والله أعلم.   (1) وردَ التفسيرُ بذلك عن قتادة من طريق معمر وسعيد، ومجاهد من طريق جابر، وابن زيد، وعبد الرحمن بن أبي ليلى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سورةُ البِّينة آياتها:8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 سورة البينة بسم الله الرحمن الرحيم لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 سورةُ البِّينة 1 - 3 - قولُه تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَاتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ *رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً *فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ}: يقولُ الله تعالى: لم يكن هذان الصِّنْفانِ من الذين كَفروا، وهُم أهلُ الكتابِ من اليهودِ والنصارى، ومشرِكو العرب منفصلينَ عن كُفرِهم وتاركيه (1) حتى تأتيَهُم العلامةُ الواضحةُ من الله، وهي إرسالُ الرسولِ الخاتَمِ صلّى الله عليه وسلّم الذي يقرأُ عن ظهرِ قلبٍ ما في الصُّحُفِ المطهَّرة من المكتوبِ المستقيمِ فيها الذي لا خطأَ فيه، وهو القرآن. وهذا حكايةٌ لحالِهم في ذلك الزمان؛ لأنهم كانوا ينتظرونَ بَعْثَ نَبِيِّ آخِر الزمان، ولكنهم لما بُعِثَ افترقوا فيه، كما سيأتي في قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}. 4 - قولُه تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ}؛ أي: لم يتفرَّق أهلُ الكتابِ (2) في أمرِ النبي صلّى الله عليه وسلّم إلاَّ بعدَ أن جاءَهم   (1) قال ذلك مجاهدٌ من طريق ابن أبي نجيح وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد. ولكنهم لم يبيِّنوا أن ذلك الخبر كان حكاية لحالِ أولئك القوم، ولا بدَّ من تقدير ذلك وإلاَّ كان في الخبر تخلُّفٌ؛ لأنهم لم ينفكُّوا جميعهم عن الكفر، بل بقِيَ عليه كثير منهم بعد مجيء البينة. (انظر: التحرير والتنوير). وقد ذكرَ شيخ الإسلام ابن تيمية تأويلاً آخر، وهو أنَّ الله لا يخلِّيهم ولا يترُكهم سُدى، فهو لا يفكهم حتى يبعث إليهم رسولاً، وهذا كقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} [القيامة: 36]. (انظر: دقائق التفسير: 6/ 293). واعلم أن هذه الآية من أصعبِ الآيات في التفسير، والله المستعان. (2) لم يذكرِ المشركينَ لأنهم كانوا في هذه المسألة تبعٌ لأهل الكتاب، فلم يكن عندَهم من = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وبُعِثَ إليهم، وهُم قد عرَفوه، كما قال تعالى: {فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ} [البقرة: 89]، فكفروا به جُحوداً، وآمنَ به بعضُهم، وقد كانوا قبلَ أن يُبعثَ غيرَ متفرِّقينَ فيه، فهم يعرفونَ صِفتَه. 5 - قولُه تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ}؛ أي: وما أمَرَ الله اليهودَ والنصارى في القرآنِ إلاَّ بما هو في كُتبهم: من عبادةِ الله وحدَهُ والمَيلِ عن الشِّرك، وإقامةِ الصلاة، وإخراجِ زكاةِ أموالهم، وذلك المأمورُ به هو الدينُ المستقيمُ الذي لا اعوِجاجَ فيه، وذلك مما يدلُّ على صِدقِ هذا الرسولِ المرسَلِ إليهم. 6 - قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ}؛ أي: إنَّ هذين الفريقين من الذين كفروا فجَحَدوا نبوَّةَ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم سيدخلونَ نارَ جهنَّمَ ويمكثونَ فيها أبدَ الآباد، لا يخرُجونَ منها، ولا يموتونَ فيها، ثُمَّ وصفَهُم بأنهم شَرُّ مَنْ بَرَأَهُ اللَّهُ وخَلَقَهُ. 7 - 8 - قولُه تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ *جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}؛ لما ذكرَ الصِّنْفَ الأولَ من الذين تفرَّقوا في البيِّنة، وهم الذين لم يؤمنوا، أعقبَهُم بذكرِ الصِّنْفِ الثاني، وهم الذين آمنوا بالبيِّنة وعملوا الأعمال الصالحات التي تقرِّبهم إلى الله، وهؤلاء هُم خيرُ من بَرَأَهُ الله وخلَقَهُ، وسيكون ثوابهم منه تلك البساتين التي هي محلُّ إقامةٍ لا تَحَوُّلَ عنها، وهي التي تسمَّى جنَّاتِ عدن، التي تجري أنهارها على سطح أرضِها بدون أخاديد تحدُّها، وهؤلاء هُم الذين رضيَ الله عنهم بما أطاعوه في الدنيا، ورضوا عنه بما أعطاهُم من النعيم الذي لا يحصَلُ إلاَّ لمن خافَ ربَّه في الدنيا وأحبَّه وعظَّمه، والله أعلم.   = خبرِه شيءٌ، وكانوا يتلقَّفونَ ذلك منهم، ومن ذلك ما كان يتهدَّدُ به يهودُ المدينةِ الأنصارَ، فيقولون لهم: «إذا خرجَ نبي آخِر الزمان، قتلناكُم قتلَ عادٍ». والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 سورةُ الزَلْزَلة آياتها:8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 سورة الزلزلة بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 سورةُ الزَلْزَلة 1 - 5 - قولُه تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا *وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا *وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا *يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا *بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا}: يقولُ اللَّهُ تعالى: إذا حُرِّكتِ الأرضُ حَرَكَةً شديدة، واضْطَرَبت لقيامِ الساعةِ، وأَخْرَجَت الأرضُ ما في بطنِها من الموتى (1)، فصاروا فوقَها، وقال الناسُ: ما للأرضِ؟ لماذا اضطَربت وارتجَّت؟. في هذا اليومِ تتكلمُ الأرضُ وتُخبِرُ (2) عن الذي عُمِلَ عليها من خيرٍ وشرٍّ (3)؛ لأن الله أعلَمَها وأمرَها بهذا التحديث. 6 - 8 - قولُه تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ *فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}؛ أي: يومَ تحصَلُ هذه الزلزلةُ وما بعدَها من الأهوال، يرجِعُ الناس من موقفِ الحساب متفرِّقين، لينظروا إلى أعمالِهم وما جازاهم الله به،   (1) كذا وردَ عن ابن عباسٍ من طريق عكرمة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، ويشبه أن يكون هذا مثالاً لما تخرجُه الأرض، فإنه قد وردَ أنها تُخرجُ كنوزَها، وقد سبقَ مثل هذا في تفسير قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 4]. (2) هذا التحديثُ على الحقيقة، وقد ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق سعيد بن جبير. (3) وردَ ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وسفيان الثوري من طريق مهران، وابن زيد، وقد ورد في ذلك حديثٌ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، قال أبو هريرة: «قرأ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم هذه الآية: {يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} قال: أتدرونَ ما أخبارها؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: فإن من أخبارِها أن تشهدَ على كلِّ عبدٍ وأمَةٍ بما عملَ على ظهرها؛ أن تقول: عملَ كذا وكذا يومَ كذا وكذا، فهذه أخبارها». رواه أحمد والنسائي والترمذي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فالمحسِنُ يرى ما أعدَّه الله له من النعيم، والمسيءُ يرى ما أعدَّه الله له من العذاب، ولذا قال مرغِّباً ومُرَهِّباً: فمن يعملْ في الدنيا أيَّ عملِ خيرٍ، ولو كان في الصِّغَرِ وزنَ ذرَّةٍ، فإنه سَيَلْقَى حُسْنَ جزائه، وكذا من عملَ في الدنيا أي عمل شرٍّ، ولو كان في الصِّغَرِ وزن ذرَّةٍ، فإنه سيلقى سُوءَ عِقابه، والله أعلم (1).   (1) كذا ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ووردَ تفسيرٌ آخرَ عن محمد بن كعب القرظي من طريق عمرو بن قتادة: «أن الكافرَ الذي يعملُ الخيرَ في الدنيا يرى ثوابَه في الدنيا، والمسلمُ الذي يعملُ الشرَّ في الدنيا يرى عقابَهُ في الدنيا». وهذا لا يخالِفُ التفسيرَ الأول؛ إلاَّ إن كان المرادُ تخصيص هذه الآية بهذا النوعِ من العقاب، وإن لم يكن، فإنه أشارَ إلى المُجازاة التي تكونُ على الأعمال في الدنيا. والمعروفُ أنَّ مُجازاة الدنيا إذا لم تكفِ، فإن الله يُكْمِلُ لها الحسابَ في الآخرة، ويشهدُ لهذا ما رَوى أنس قال: «كان أبو بكر يأكلُ مع النبي صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت هذه الآية: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ *وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ}، فرفعَ أبو بكرٍ يده، وقال: يا رسول الله، إني أُجْزَى بما عملتُ من مثقالِ ذرَّةٍ من شرٍّ؟ فقال: يا أبا بكر، ما رأيت في الدنيا مما تكره، فبمثاقيل ذَرِّ الشَّرِّ، ويدَّخر لك مثاقيل ذرِّ الخير، حتى توافاه يوم القيامة». والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 سورةُ العادِيات آياتها:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 سورة العاديات بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 سورةُ العادِيات 1 - 5 - قولُه تعالى: {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا *فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا *فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا *فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا *فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا}: يقسِمُ ربُّنا بالخيلِ التي تجري وهي تُحَمْحِمُ؛ أي: يَصْدُرُ عنها صوتٌ يتردَّدُ في الحَنْجَرَةِ من شدَّة الجري (1)، ويتوقَّدُ شررُ النار من شدَّةِ احتكاك أقدامِها بالحَصَى (2) وهي   (1) اختلفَ السلفُ في المرادِ بهذا القَسَم، والملاحَظُ أن ما بعدَه معطوفٌ عليه، فيكونُ من جنسِه. والقولُ الأول: أنها الخيل، وهو قول ابن عباسٍ من طريق العوفي ومجاهد وعطاء، وعكرمة من طريق أبي رجاء، وعطاءِ بن أبي رباح من طريق ابن جريج وواصل، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وسالم من طريق سعيد بن أبي عروبة، والضحَّاك من طريق عبيد. وإن كانت السورة مكية، ففيها الإشارةُ إلى الجهاد. القول الثاني: أنه الإبل، ويكون التأويل: والإبل التي تَضْبَحُ بصوتها، وقيل هي إبلُ الحُجَّاج، فَتُورِي الشَّرَرَ بشدَّةِ جَرْيِها على الحَصَى، فتدفعُ مسرعةً في سيرها إلى مزدلِفة، فتثيرُ الغبار، فتتوسط مزدلفة، وهي جمع. وقد فسَّرها بأنها الإبل: ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي ومجاهد، وعلي بن أبي طالب من طريق سعيد بن جبير عن ابن عباس، وإبراهيم النخعي من طريق منصور، وعبيد بن عمير من طريق عمرو بن دينار. وقد أنكرَ بعضهم أن تكونَ الإبل؛ لأن الضَّبْحَ إنما يكونُ من الخيل، وهذا فيه نظر؛ لأن ثبوت هذا التفسير عن هؤلاء السلفِ يدل على صحَّة هذا الإطلاقِ في اللغة؛ لأنهم من أهلها، وهم أعلمُ بها من المنكرين من المتأخرينَ عليهم، وأما محاولةُ تخريجِ قولهم على أن مرادَهم تفسير الضبحِ بالضَّبْعِ، وهو مدُّ العُنق في السير، على أسلوبِ القلبِ بين العين والحاء فيهما، فهي دعوى لا دليلَ عليها، ولم يُشر هؤلاء السلف العرب إلى هذا في تفسيرِهم، ومن ثمَّ فإن الصوابَ أن يُحكى هذا لغةً، والله أعلم. (2) اختلف السلفُ في تفسير الموريات، على أقوال: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = الأول: الخيلُ تُوري النار بحوافِرِها، ورد ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء، والكلبي من طريق معمر، وعطاء من طريق واصل، والضحاك من طريق عبيد. وورد عن قتادة من طريق معمر وسعيد تفسير الإيراء من الخيل بأنهن يهيِّجنَ الحربَ بينهم وبين عدوِّهم. الثاني: المقاتِلون الذين يُورون النارَ بعد انصرافِهم من الحرب، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير. الثالث: مكرُ الرجال، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. الرابع: الألسنة، ورد ذلك عن عكرمة من طريق سماك بن حرب. الخامس: الإبلُ تنسِفُ بمناسِفها الحصى، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق إبراهيم النخعي، وهو مقتضى تفسير علي. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك بالصواب، أن يقال: إن اللَّهَ تعالى ذِكْرُه أقسمَ بالمورِيات، التي توري النيران قَدْحاً، فالخيلُ توري بحوافِرها، والناسُ يُورُونَها بالزَّنْد، واللسان ـ مثلاً ـ يُوري بالمنطِق، والرجالُ يورونَ بالمَكر ـ مثلاً ـ، وكذلك الخيل تهيجُ الحربَ بين أهلِها إذا التقت في الحرب، ولم يضعِ الله دلالةً على أن المرادَ من ذلك بعضٌ دون بعضٍ، فكلُّ ما أوْرَتِ النارَ قدحاً، فداخلة فيما أقسمَ به، لعمومِ ذلك بالظاهر». وهذا الحملُ على العموم فيه نظر، لوجودِ الدلالة على أن المرادَ بالمورِيات عين المرادِ بالعاديات؛ للعطف بالفاء الذي يدل على تفريعِ ما بعدها عن الذي قبلها، وتسبُّبِهِ عنه، وإذا كان ذلك كذلك، فإن الصحيحَ أن هذه الأوصاف في الخيل، وإن كانت المذكورات يشمَلُها وصفُ المورِيات ـ كما ذكر الطبري ـ فإنها ألصقُ بالخيلِ من الإبلِ وغيرِها، ذلك أن الضَّبْحَ في الخيل أشهر، وإيراء النار بحوافِرها أوضح، والله أعلم. ويلاحَظُ أن هذه الأقوال ـ غير القول بأنها الخيل أو الإبل ـ كأنها أخرجَت اللفظ عن سِياقه، وحملتهُ على تأويلٍ لا يناسِبُ العطفَ بالفاء، وهذه مسألةٌ تحتاجُ إلى بحثٍ ونظر، إذ يوجد في تفسير السلف من هذه الشاكلةِ أمثِلة، ويظهر أنها تدخلُ في باب التفسير على القياس، أو حملِ اللفظ على عمومه دونَ النظرِ إلى سياقه الواردِ فيه! قال ابن القيم عن هذه الأقوال: «وهذه الأقوال، إن أُريدَ أنَّ اللفظَ دلَّ عليها، وأنها هي المرادُ فغلَطٌ، وإن أريدَ أنها أُخِذت من باب الإشارةِ والقياس، فأمرُها قريب. وتفسيرُ الناس يدور على ثلاثة أصول: تفسيرٌ على اللفظ، وهو الذي ينحُو إليه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 تجري، فَتُغِيرُ وتدخلُ أرضَ العَدُوِّ في أول النهار (1)، فتُصْعِدُ الغبارَ من شدة الجري (2)، فتصيرُ هذه الخيلُ في وسطِ جمعِ العدو (3). 6 - 8 - قولُه تعالى: {إِنَّ الإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ *وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ *وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: إنَّ الإنسانَ لكفورٌ لنعمةِ ربِّه، لا يشكرُها، ويمنعُها غيره، فلا يعطيه (4)، وإن الإنسان   = المتأخرون، وتفسيرٌ على المعنى، وهو الذي يذكره السلف، وتفسيرٌ على الإشارةِ والقياس، وهو الذي ينحُو إليه كثيرٌ من الصوفية وغيرهم، وهذا لا بأسَ به بأربعة شرائِط: • ألا يناقضَ معنى الآية. • وأن يكونَ معنى صحيحاً في نفسه. • وأن يكونَ في اللفظِ إشعارٌ به. • وأن يكونَ بينَهُ وبينَ معنى الآيةِ ارتباطٌ وتلازُم. فإذا اجتمعت هذه الأمورُ الأربعةُ كان استنباطاً حسناً». (التبيان في أقسام القرآن: 51، ونقلته بطوله للفائدة). (1) ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وعكرمة من طريق أبي رجاء، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وفي عبارته من طريق سعيد ما يشعِرُ بأنه أرادَ القوم المُغِيْرون، قال: أغار القومُ بعد ما أصبحوا على عدوِّهم. وورد عن ابن مسعود من طريق إبراهيم أنها الإبلُ حين تدفع من مزدلفة إلى منى، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب. (2) ورد هذا المعنى عن القائلين بأنها الخيل، قال ابن زيد: أثارت الترابَ بحوافرِها. وهو قول عكرمة من طريق أبي رجاء، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وكذا ورد عن القائلين بأنها الإبل، قال علي بن أبي طالب: الأرضُ حين تطؤها بأخفافِها وحوافِرها، وكذا قال ابن مسعود من طريق إبراهيم. (3) كذا قال من فسَّرها بالخيل، وردَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء وسماك، وابن عباس من طريق العوفي، وعطاء من طريق واصل، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، والضحَّاك من طريق عبيد. وورد عن عبد الله بن مسعود من طريق إبراهيم النخعي أنها الإبل حين تتوسَّط مزدلفة، وهو مقتضى قول علي بن أبي طالب. (4) وردَ عن السلف أنه الكَفور، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق مجاهد والعوفي، = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 يشهد على نفسه بكفرانه نعمة الله عليه (1)، وإنَّ هذا الإنسانَ الكنود محبٌّ للمالِ حُبًّا شديداً، فهو يبخَلُ به، وذلك من كفرانِه نعمةَ ربِّه. 9 - 11 - قولُه تعالى: {أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ *وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ *إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ}؛ أي: أفلا يدري هذا الإنسان الكَنودِ عن عقابه إذا أُثيرَ ما في القبور، فأُخرِجَ منها الموتى، وجُمعَ وأُبرِز ما في صدورِ الناس من خيرٍ وشرٍّ؟، فإن عَلِمَ ذلك، فليعلَم أنَّ ربَّه الذي سادَه وصرَّفَ أمرَه بربوبيَّتِه له عالمٌ ببواطِن أعمالهم، وما أسرُّوه في صدورِهم وما أعلَنوه، لا يخفَى عليه شيءٌ، وهو مُجازيهم عليها، والله أعلم.   = ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، والربيع من طريق أبي جعفر، والحسن من طريق معمر، وقتادة من طريق سعيد، وسماك بن حرب من طريق شعبة، وابن زيد، وزاد الحسن من طريق سفيان الثوري في وصفه فقال: هو الكَفورُ الذي يعدُّ المصائب، وينسى نِعَمَ ربِّه، ورواه أيضاً من طريق سفيان عن هشام عنه. (1) ورد هذا التفسير عن قتادة من طريق سعيد، وسفيان من طريق مهران، وفي رواية أخرى عن قتادة من طريق سعيد، قال: «في بعض القراءات: إنَّ الله على ذلك لشهيد»، وهذا تفسيرٌ للضمير في «إنه» على القراءة المعروفة، وقد وردَ عن محمد بن كعب القرظي أن الضميرَ للإنسان، والمعنى: «وإن هذا الكَفورَ شهيدٌ على نفسِه بكُفره؛ أي بلسانِ حاله»، قاله ابن كثير. وهذا القولُ ألْيَقُ باتساق الضمائر، وعودُها على الظاهر في أول الكلامِ من غير حاجةٍ إلى التقديم والتأخير؛ أي: إنَّ الإنسان، وإنه، وإنه. ولهذا جعل قتادة الكلام على التقديم والتأخير، فقال: «هذا في مقاديمِ الكلام، قال: يقول الله: إن الله لشهيدٌ أن الإنسانَ لحبِّ الخير لشديد». والاختلاف هنا من قبيل اختلاف التنوُّع، وهو يرجع إلى أكثر من معنى، وسببه الاختلاف في مفسَّر الضمير، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 سورةُ القَارِعة آياتها:11 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 سورة القارعة بسم الله الرحمن الرحيم الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 سورةُ القَارِعة 1 - 3 - قولُه تعالى: {الْقَارِعَةُ *مَا الْقَارِعَةُ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ}؛ أي: الساعةُ التي تَقْرَعُ قلوبَ الناسِ بهَوْلِها (1)، ثُمَّ هوَّلَ أمرَها مستفهِماً عنها بقوله: {مَا الْقَارِعَةُ}؛ أي: أيُّ شيءٍ هذه القارعة؟، ثم زادَ في تهويلِ أمرِها، فقال: وما أعلمَكَ ما هذه القارعة؟. 4 - 5 - قولُه تعالى: {يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ *وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ}؛ أي: القارعةُ تحصَلُ يومَ يكونُ الناسُ في انتشارِهم وتفرُّقهم، وذَهابِهم ومجيئِهم كأنهم تلك الحشراتُ الطائرةُ المتفرِّقة على وجه الأرض. وتحصلُ يوم تكون الجبالُ الرواسي، إذا دُكَّت، كالصُّوفِ الذي مُزِّق فتفرَّقت أجزاؤه (2). 6 - 7 - قولُه تعالى: {فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ *فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}: هذا تفصيلٌ لما يكونُ عليه الناسُ الذين انتشروا كالفَرَاشِ المبثوث، وهم فريقان: الأول: من إذا وُزِنت أعماله رَجَحَت في الميزان، فهم في حياةٍ هنيئة، قد حلَّ بهم الرضى مما حصلَ لهم من الجزاء في الجنة. 8 - 11 - قولُه تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ *فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَه *نَارٌ حَامِيَةٌ}: هذا الفريقُ الثاني، وهم من إذا وُزِنَت   (1) فسَّر القارعة بالساعة ابنُ عباسٍ من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وقتادة من طريق سعيد. (2) وردَ تفسير العِهْنِ بالصوف عن قتادة من طريق معمر وسعيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 أعمالُهم، لم ترجَحْ في الميزان، فمرجِعُه إلى الهاوية التي يهوي بها على رأسِه، وهي النارُ التي قد اشتدَّ إيقادُها فَحَمِيَت (1).   (1) قال قتادة من طريق معمر: «مصيرُه إلى النار، وهي الهاوية، وهي كلمةٌ عربية كان الرجلُ إذا وقعَ في أمر شديدٍ قال: هَوَتْ أمُّه». وقال ابن زيد: «الهاوية: النار، هي أمُّه ومأواه التي يرجع إليها، ويأوي إليها، وقرأ: {وَمَاوَاهُمُ النَّارُ} [النور: 57]». وقال ابن عباس من طريق العوفي: «وإنما جعل النارَ أمَّه؛ لأنها صارت مأواه، كما تُؤوي المرأةُ ابنَها، فجعلَها إذ لم يكن له مأوًى غيرها بمنزلة أمِّه». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 سورةُ التكاثُر آياتها:8 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 سورة التكاثر بسم الله الرحمن الرحيم أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 سورةُ التكاثُر 1 - 2 - قولُه تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}؛ أي: شغلَكُم أيها الناسُ ما أنعمَ اللَّهُ عليكُم من كثرةِ المالِ والأولادِ وغيرِهم عن طاعتِه سبحانَه (1)، حتى جاءَكُم الموتُ فصِرْتُم من أهلِ المقابر (2). 3 - 4 - قولُه تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ *ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ}؛ أي: ما هكذا ينبغي أن تفعلوا في أنْ يلهيَكم التكاثرُ عن طاعةِ الله، وسوفَ تعلمونَ عاقبةَ تشاغُلِكُم بالتكاثر، وكرَّر الجملةَ للتأكيد، ولزيادةِ التهديد. 5 - قولُه تعالى: {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ}: أعيدَ الزجرُ تأكيداً لإبطالِ ما هم عليه من التشاغُل، وقال: لو أَنكم تعلمونَ علماً يقيناً أنَّ الله سَيَبْعَثُكم (3)، لما شغلَكُم هذا التكاثر.   (1) ورد عن عبد الله بن الشِّخِّير عن أبيه، قال: «انتهيتُ إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} يقول ابن آدم: مالي مالي. وهل لك من مالِك إلاَّ ما أكلتَ فأفنيت، أو لبِستَ فأبْلَيتَ، أو تصدَّقتَ فأمضَيت؟». (2) ورد في تفسير هذه الآية أنَّ قبيلتين افتخرتا وتكاثرتا بما عندهما من العدد، حتى ذهبوا إلى المقابر وتفاخروا بالأموات، وهذا الأثر غيرُ صحيح، ولو صحَّ لجازَ أن يدخلَ في معنى الآية. (انظر في نقدِه: تفسير ابن كثير). وقد وردَ عن عليٍّ رضي الله عنه: «ما زلنا نشُكُّ في عذابِ القبر، حتى نزلت: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ *حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}». وفي التعبير بالزيارةِ دلالةٌ على البعث، كما روى ميمون بن مهران، قال: «قرأ عمر بن عبد العزيز هذه الآيات، فلبِثَ هُنيهة، فقال: يا ميمون، ما أرى المقابر إلا زيارة، وما للزائر بُدٌّ أنْ يرجِعَ إلى منزله». (انظر: تفسير ابن كثير). (3) قال قتادة من طريق سعيد: «كنا نحدَّثُ أن علمَ اليقين: أنْ يعلمَ أنَّ الله باعثُهُ بعد الموت». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 6 - 7 - قولُه تعالى: {لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ *ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ}: يقسِمُ ربُّنا بأنَّ عبادَه سيشاهِدون النارَ بأعينهم، ثمَّ أكدَّ هذا الخبرَ بأنه واقعٌ لا محالة، وأنَّهم سيكونونَ متيقِّنين برؤيةِ النار، يقيناً لا شكَّ فيه (1). 8 - قولُه تعالى: {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}؛ أي: ثمَّ ليسألنَّكُم اللَّهُ يومَ تَرَوْنَ النارَ عن كلِ نِعَمِهِ التي أنعمَها عليكم؛ كالأمنِ والصِّحَّة، والسمعِ، والبصرِ، والعافيةِ، وما يَطْعَمُهُ الإنسانُ ويَشْرَبُه ... إلخ (2).   (1) وردَ عن ابن عباس من طريق العوفي أن هذه الآية في أهل الشرك. (2) فسَّر السلفُ النعيمَ بأمثلةٍ له، فوردَ عن ابن مسعود من طريق الشعبي، ومجاهد من طريق ليث، والشعبي من طريق عبد العزيز بن عبد الله: النعيم: الأمن والصحَّة. وعن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عمر بن شاكر: النعيم: السمع والبصر وصحَّة البدن. وقد ورد في هذه الآية حديث الرسول صلّى الله عليه وسلّم وصاحبيه لمَّا خرجوا من الجوع إلى حائطِ الأنصاري الذي ذبحَ لهمُ الشاة، فلما أكلوا وشربوا، قال: «لتُسألُنَّ عن هذا يوم القيامة، أخرجَكُم من بيوتِكم الجوع، فلم ترجِعوا حتى أصبتُم هذا»، فهذا من النعيم. وعلى هذا، فالخلاف في النعيم يرجع إلى معنًى واحد، وهو كلُّ ما يتنعَّمُ به الإنسانُ في الدنيا، قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك أن يقال: إنَّ اللَّهَ أخبرَ أنه سائلٌ هؤلاء القوم عن النعيم، ولم يخصِّص في خبره أنه سائلُهم عن نوعٍ من النعيم دونَ نوع، بل عمَّ بالخبر في ذلك عن الجميع، فهو سائلُهم، كما قال، عن جميع النعيم، لا عن بعضٍ دون بعض». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 سورةُ العَصْر آياتها:3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 سورة العصر بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) سورةُ العَصْر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 1 - قولُه تعالى: {وَالْعَصْرِ} يقسِمُ ربُّنا بالدَّهر؛ أي: الزمانُ الذي تقعُ فيه حركاتُ بني آدم، على عاقبةِ تلك الأفعالِ وجزائِها (1). 2 - 3 - قولُه تعالى: {إِنَّ الإنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ *إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}: هذا جوابُ القَسَمِ، والمعنى: إنَّ الأصلَ في الناسِ أنهم في نقصٍ وهَلَكَة، ويخرجُ من هذه الصِّفةِ من اتصَفَ بصفاتٍ أربع: معرفةُ الحقِّ، وهو قولُه: {إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا}، والعملُ به، وهو قولُه: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}، وتعليمُه لمن لا يُحسِن، وهو قوله: {وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ} (2)، والصبرُ عليه، وهو قولُه: {وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} من حبسِ   (1) وردَ في تفسيرِ العصرِ أقوالٌ، وتفسيره بالدهر هو أعمُّ الأقوالِ وأشملُها، وهو قولُ الحسن من طريق معمر، وورد أنه وقت العَشِي، وهو آخر ساعاتِ النهار، وقد ورد التفسير بذلك عن ابن عباس من طريق العوفي. قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك أن يقال: إنَّ ربَّنا أقسمَ بالعصر، والعصر: اسم للدَّهر، وهو العَشِي، والليل والنهار، ولم يخصِّص مما شمله هذا الاسم معنًى دون معنى، فكل ما لزِمه هذا الاسم، فداخلٌ فيما أقسمَ الله به جلَّ ثناؤه». ومن هنا فإنَّ سببَ الاختلاف هو الاشتراكُ اللغوي في لفظِ العصر، فهو يطلقُ على عدَّة معانٍ، وبهذا يرجع الخلافُ إلى أكثر من معنى، وكل هذه الأقوال محتملٌ كما قال الطبري، غير أن القولَ بأنه الدهر يظهرُ فيه شموله للأوقات كلِّها، والله أعلم. (2) فسَّر الحسن الحقَّ بأنه كتابُ الله، وهذا تفسيرٌ صحيح؛ لأنَّ القرآنَ حق، فهما كالشيءِ الواحدِ، فعبَّر الحسن عن المسمَّى بأحدِ معانيه التي يحتمِلُها، ولو قيل: وتواصوا بما جاء عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، أو وتواصوا على طاعة الله، لصحَّ ذلك، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 النفسِ على أداءِ الفرائضِ (1)، وعلى المصائبِ من قدره، وحَبْسِها عن المعاصي، فيوصي بعضُهم بعضاً برفقٍ ولينٍ بهذه الأمور، والله أعلم.   (1) كذا وردَ عن قتادة من طريق سعيد، والحسن من طريق عبد الرحمن بن سنان ومعمر، وهو تفسيرٌ بجزءٍ مما يقعُ عليه الصبر إن أريدَ بها جملةُ الفرائض، وإن أريدَ مطلقُ الطاعة، فالتفسير يشملُ جميعَ أنواعِ الصبر؛ لأنها كلها تدخلُ في طاعة الله، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 سورةُ الهُمَزَة آياتها:9 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 سورة الهمزة بسم الله الرحمن الرحيم وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 سورةُ الهُمَزَة 1 - 3 - قولُه تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ *الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ *يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ}: يتوعَّدُ ربُّنا كلَّ من كان خُلُقُهُ أنه يغتابُ الناسَ ويطعنُ فيهم (1)، الذي من صفتِه أنه حريصٌ على جمعِ المالِ والإكثارِ من   (1) اختلفَ السلف في تفسير هذين الوصفين، فوردَ أن الهُمَزَة: المُغتاب، واللُّمَزَة: الطعَّان، ورد ذلك عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد، وورد عن مجاهد من الطريق نفسِها عكس ذلك التأويل، وهو كذلك قول ابن عباس من طريق سعيد بن جبير. ووردَ أن الهُمَزَة: الذي يهمِزُه في وجهه، واللُّمَزَة: الذي يهمزه من خلفِه، ورد ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس. وورد أن الهُمَزة: باليد، واللُّمَزة: باللِّسان، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وقال ابن زيد: «الهُمَزة: الذي يهمِزُ الناسَ ويضربهم بيده، واللُّمَزة: الذي يلمِزهم بلسانه ويعيبهم». والهَمْز: هو عيبُ الناس بالإشارة، سواءٌ أكانت باليد، أم بغيرها، وسواءٌ أكان بحضرة المهْموز، أم بغَيْبته، واللَّمْز: الطعنُ على الناس؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 79]؛ أي: يَعيبون عليهم صَدَقَتُهم، والله أعلم. وقد حُكي أنها نزلت في شخصٍ من الكفار، فقيل: نزلت في جميل بن عامر الجُمَحي، وقيل: في الأخْنَسِ بن شريق، وهذا إن كان هو السبب المباشر، فإن الآية تعمُّ من كان بهذا الوصف نظراً لعموم اللفظ، وإن كان المراد أنهم يدخلونَ في حُكم الآية، فذِكرُهم على سبيل المثال لهامزٍ لامِزٍ، لا أنهما سبب النزول مباشرة، قال الطبري: «والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله عمَّ بالقول كلَّ هُمَزة لُمَزة، كل من كان بالصِّفة التي وُصِفَ هذا الموصوف بها، سبيله سبيله، كائناً من كان من الناس». والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 عدِّهِ وحسابه؛ ولشدَّة وَلَعِه به، يظنُّ أنَّ مالَه سيُبقيه في هذه الدنيا. 4 - 9 - قولُه تعالى: {كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ *وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ *نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ *الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ *إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ *فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ}؛ أي: ما ذلك كما يظنُّ هذا الهامِز اللاَّمِز، ليس ماله بمُخْلِدِه، ثم أخبرَ تعالى أنه سيعاقبُه على أعمالِه التي عَمِلَها، فَذَكَرَ أنَّه سيقذفُه ويُلقيه في الحُطَمَةِ التي تَحْطِمُهُ وتَدُقُّه وتكسره، ثم استفهمَ عنها على سبيل التهويل، فقال: وما أعلمكَ ما هذه التي تَحْطِمُ ما فيها؟. ثُمَّ بيَّن أن هذه الحُطَمة هي النارُ التي تشتعِلُ وتلتهِبُ من شدَّة الإيقاد، هذه النارُ التي يبلغُ حَرُّها قلوبهم، وتحرقُ كل قلبٍ بحسب ذنبه، وهذه النارُ مُطْبِقَةٌ (1) على الكفَّار لا يستطيعونَ الخروجَ منها، وهم يعذَّبون فيها في أعمِدَةٍ طويلةٍ من النار (2)، والله أعلم.   (1) فسَّرها السلف بمُطْبِقَة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي مالك غزوان الغفاري والعوفي، وعطية العوفي من طريق فضيل بن مرزوق، والحسن من طريق أبي رجاء، والضحَّاك من طريق مضرِّس بن عبد الله، وقتادة من طريق سعيد، وابن زيد. (2) وردَ التفسير عن ابن عباس من طريق العوفي، قال: «أدخلَهم في عَمَدٍ، فمُدَّت عليهم بعِماد، وفي أعناقهم السلاسِل، فسدَّت بها الأبواب». وقال ابن زيد: «في عَمَدٍ من حديدٍ مغلولين فيها، وتلك العَمَد من نار قد احترقت من النار، فهي من نارٍ ممدَّدة لهم». وقال قتادة من طريق سعيد: «عَمُودٌ يعذَّبون به في النار». قال الطبري: «وأولى الأقوال بالصواب في ذلك، قول من قال: معناه: أنهم يعذَّبون بعمَدٍ في النار، والله أعلمُ كيف تعذيبُه إياهُم بها، ولم يأتِ خبرٌ تقومُ به الحجة بصفةِ تعذيبِهم بها، ولا وُضِعَ لنا دليلٌ فندرِكُ به صفةَ ذلك، فلا قولَ فيه ـ غير الذي قلنا ـ يصحُّ عندنا». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 سورةُ الفِيل آياتها:5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 سورة الفيل بسم الله الرحمن الرحيم أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 سورةُ الفِيل تحكي هذهِ السورةُ قصةَ أَبْرَهَةَ الحبشيِّ الذي جاءَ لهدمِ الكعبةِ في العامِ الذي وُلِدَ فيه النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وتذكُرُ ما حصلَ لهم من العِقاب. 1 - 2 - قولُه تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ *أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ}؛ أي: ألم تعلمْ بما صنعَهُ الله بأبرهةَ وقومِه الذين غزو مكةَ بجيشٍ فيه أفيال، وأرادوا أن يهدِموا الكعبة؟، لقد جعلَ اللَّهُ سعيَهُم وتدبيرَهم في صَرْفِ الناس عن الكعبةِ ومحاولة هَدْمِها عملاً ضائعاً لا فائدةَ فيه. 3 - 5 - قولُه تعالى: {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ *تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِن سِجِّيلٍ *فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ}؛ أي: وَأَلَمْ تعلمْ بما عاقَبهم به من بَعْثِ طيورٍ من السماءِ جاءت جماعاتٍ كثيرةً متفرِّقةً يتبعُ بعضُها بعضاً (1)،   (1) ورد تفسيرُ الأبابيل عن السلف بعدة عباراتٍ، منها: 1 - الفِرَق، ورد ذلك عن ابن مسعود من طريق زِرِّ، وإسحاق بن عبد الله بن الحارث بن نوفل، وسعيد بن عبد الرحمن بن أبزى، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. 2 - المتتابِعة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحَّاك من طريق عبيد. 3 - الكثيرة، ورد ذلك عن الحسن من طريق الفضل، وقتادة من طريق معمر. 4 - المجتمِعة، ورد ذلك عن أبي سلمة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وهذه التفاسيرُ كلُّها صحيحة، وإن كان بعضُها تفسيراً على المعنى، وهو مأخوذٌ من الوصفِ الذي جاءت عليه هذه الطيور، فهي جاءت مجتمِعةً، ومتفرِّقةً، وكثيرةً، ويتبَعُ بعضُها بعضاً، وكلُّ هذا حق، وما ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح أشمل هذه = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 تحمِلُ حصًى صغيرةً من طين (1)، تُلقيه على أصحابِ الفيل، فتقضي عليهم، حتى صاروا كبقايا الزرعِ المأكولِ الذي تَحَوَّلَ بعد الخُضْرَة والنَّضْرَة، إلى أن صارَ مُلْقًى على الأرضِ يُداسُ بالأقدام (2)؟.   = الأقوال، حيث قال: «هي شتَّى متتابِعة مجتمِعة». والله أعلم. (1) وردَ تفسيرُ سجِّيلٍ بالطِّين في كتاب الله تعالى، فقد وردَ في عذابِ قوم لوطٍ قوله تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ} [هود: 82]، وقال عنه في موضِعٍ آخر: {لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ} [الذاريات: 33]، فدلَّ على أنَّ سجِّيلَ هو الطين، وكذا ورد عن السلفِ في التفسير، ورد عن ابن عباس من طريق عكرمة، وعكرمة من طريق أبي حفصة، وقتادة من طريق معمر. وورد عن ابن عباس من طريق عكرمة، وعكرمة من طريق شرقي أنهما قالا: «سجِّيل: سنك وكل»؛ أي هو مجموع من كلمتين، وهي كلمة فارسية، ولا يبعُد أن تكونَ هذه اللفظةُ مما اتفقت عليه اللغات، فإن لم يكن فإنها مما تقارَضَتْها، وكون الفُرس ينطِقون بها لا يلزم أن تكون من أصل لُغتهم ثم انتقلت إلى العربية، إذ ما المانعُ أن يكونَ العكس؟. وإن قيلَ: إن الوزنَ يدلُّ على خروجِ بعضِ هذه الألفاظ عن العربية فالجواب: إنَّ هذه اللفظة موافِقة لأوزان العربية، والله أعلم. وقد ذكروا أوصافَ هذه الطيور، ومِقدارَ الحجارة، وكيفيةَ وقوعِها على أصحابِ الفيل، وما أثَّرته فيهم. (2) ورد خلافٌ في تفسير العَصْفِ على أقوال: 1 - وَرَقُ الحِنطة، عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح. 2 - التِّبن، عن قتادة من طريق معمر. 3 - كزرعٍ مأكول، عن الضحاك من طريق عبيد، وابن زيد، وقال: «وَرَقُ الزَّرع وورقُ البَقْلِ إذا أكلته البهائم فَرَاثَتْهُ، فصار رَوْثاً». 4 - قِشْرُ البُرِّ الذي يكونُ فوقَ الحبَّة، عن ابن عباس من طريق العوفي. ويظهر من أصل مادة عصف: أن العصفَ هو ما يُعْصَفُ، أي: يُحْطَم من الزرع، وهذا الوصف يشمل جميع ما قاله السلف، فتكون أقوالهم أشبه بالأمثلة لشيءٍ من النبات المعصوف، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 سورةُ قُريش آياتها:4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 سورة قريش بسم الله الرحمن الرحيم لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 سورةُ قُريش 1 - 2 - قولُه تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ *إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ}؛ أي: لِتَعْبُدَ قريشٌ ربَّ هذا البيتِ الذي أطعَمهم من جوعٍ وآمنَهم من خوفٍ، لأجلِ نعمتِه عليهِم بإيلافِهم رحلةَ الشتاءِ إلى اليَمن، والصيفِ إلى الشام (1)؛ أي: ما ألِفُوه واعتادوه من اجتماعِهم (2) في رحلتهِم للشام واليَمَنِ من أجلِ التِّجارة، وقُدِّم ذكرُ الإيلافِ للاهتمام به (3).   (1) هذا المشهورُ في رحلةِ الشتاء والصيف، وقد وردَ قولٌ غريب عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، قال: «كانوا يُشتون بمكة، ويصِيفون بالطائف». (2) الإيلاف: إما أن يكونَ من الإلف، وهو الاعتيادُ على الشيء، وإما أن يكون من الإئتلاف، وهو الاجتماع. (3) اختلفوا في هذه اللام التي في قوله تعالى: {لإِيلاَفِ} على أقوال: الأول: أنها متعلقة بقوله: {فَلْيَعْبُدُوا}، أي: ليعبدوا الله، لأجل نعمته عليهم بالإيلاف. ويشيرُ إلى هذا الارتباط ما رواه عكرمة عن ابن عباس، قال: «أُمروا أن يألَفوا عبادةَ ربّ هذا البيت، كإلفهم رحلةَ الشتاء والصيف»، والله أعلم. الثاني: أنها متعلِّقة بسورة الفيل، والمعنى: جعلتُ أصحابَ الفيل كعَصْفٍ مأكول، لإلفة قريش، فلا أفرق إلفَهم وجماعتهم، التي جاء أصحابُ الفيل لتفريق جماعتهم وهدم كعبتهم التي يجتمع إليها الناس، وهذا قول ابن زيد، وقد نسبه الطبري لابن عباس ومجاهد وفسَّروا: «لإيلاف»: نِعمتي على قريش، ولم يظهر لي من نصوصِهم أنهم يَرَوْنَ تعلقَّ اللام بالسورة التي قبلها، والله أعلم. الثالث: أنها متعلقة بفعل التعجُّب المحذوف، والتقدير: اعجبوا لإيلاف قريشٍ رحلةَ الشتاء والصيف، وتركهم عبادةَ ربِّ هذا البيت، الذي أطعَمهم من جوعٍ وآمنَهم من خوف، وهو اختيارُ الطبري، واستدلَّ له بفعل العرب، فقال: «والعربُ إذا جاءت = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 3 - 4 - قولُه تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ *الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوفٍ}؛ أي: ليعبُدوا ربَّ المسجدِ الحرام الذي سدَّ جوعَهم بالإطعام، وأمَّنهم من الخوف، فلا يعتدي عليهم أحدٌ، ولا يقع عليهم من المرضِ ما يذهبُ بهم، ولا غيرِها من المخُوفات (1)، والمعنى إن   = بهذه اللام، فأدخلوها في الكلام للتعجُّب اكتفوا بها دليلاً على التعجُّب من إظهار الفعل الذي يجلبُها، كما قال الشاعر: أغرَّكَ أن قالوا لِقُرَّةَ شاعراً فيا لأَبَاهُ مِنْ عَريفٍ وشاعرِ فاكتفى باللام دليلاً على التعجب من إظهار الفعل، وإنما الكلام: أغرَّك أن قالوا: أعجبوا القُرَّة شاعراً فكذلك قوله: {لإِيلاَفِ}». أما القول بارتباطِها بسورة الفيل ففيه نظرٌ من جهة انفصالِ كلِّ سورة عن أختِها، قال الطبري: «وأما القول الذي قاله من حكَيْنا قولَه أنه من صِلة {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ}، فإن ذلك لو كان كذلك، لوجبَ أن يكون «لإيلاف» بعض «ألم تر»، وأن لا تكون السورة منفصِلة من «ألم تر». وفي إجماع جميعِ المسلمين على أنهما سورتان تامَّتان، كل واحدةٍ منهما منفصلة عن الأخرى، ما يبيِّن فسادَ القول الذي قاله من قال ذلك. ولو كان قوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}؛ من صلة: {فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَاكُولٍ}، لم تكن {أَلَمْ تَرَ} تامَّة حتى توصَل بقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ}، لأن الكلامَ لا يتم إلاَّ بانقضاء الخبر الذي ذُكِر». (1) ورد عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة رَبْطُ هذه الآية بدعوة إبراهيم عليه السلام، حيث قال: {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً} [إبراهيم: 35]، وقال: {وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ} [البقرة: 126]، وفسَّرها ابن زيد بقوله تعالى: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57]. وقد ورد تفسير الخوفِ على أن معناهُ: آمنَهم من العدوِّ والغاراتِ والحروبِ التي كانت العربُ تخافُ منها. ورد عن مجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد. وقد ورد في تفسيره أنه الجُذام، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق سعيد بن جبير، وسفيان الثوري من طريق مهران، والضحاك بن مزاحم، وفي سنده غرابة؛ لأنه سند ابن أبي نجيح عن مجاهد، ويظهر أن الناسخ لتفسير ابن جرير وقع في سَبْقِ عَين، والله أعلم. = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 لم يعبُدوه على نِعَمِه، فليعبُدوه على هذه النِّعمة، التي هي إيلافهم، وذكرَ البيتَ لأنهم إنما أمِنوا بسبب جِوارهم له. والله أعلم.   = وهذا التفسير ـ فيما يبدو ـ مثالٌ لما كانوا يخافونه، لا أنه هو المَعْنِيُّ دونَ غيره مما يشمَله الخوف، قال الطبري: «والصوابُ من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذِكره أخبرَ أنه آمنَهم من خوف، والعدو مَخُوفٌ منه، والجُذام مَخُوفٌ منه، ولم يخصِّص الله الخبرَ عن أنه آمنهم من العدوِّ دون الجذام، ولا من الجُذام دون العدوِّ، بل عمَّ الخبرَ بذلك، فالصواب أن يُعمَّ كما عَمَّ جلَّ ثناؤه، فيقال: آمنهم من المعنَيَينِ كِلَيْهِما». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 سورةُ الماعون آياتها:7 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 سورة الماعون بسم الله الرحمن الرحيم أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 سورةُ الماعون 1 - 3 - قولُه تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ *فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ *وَلاَ يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ}؛ أي: أرأيتَ الذي لا يُصدِّق بالجزاءِ من الثواب والعِقاب (1)؟، الذي من صفتِه أنه يدفعُ ويظلمُ الطِّفْلَ الذي ماتَ أبوه وهو دونَ سنِّ البلوغ، فلا يُعطيه حَقَّهُ (2)، ولا يحثُّ نفسَه ولا غيرَه على إطعامِ المحتاجِ الذي قد بلغ من المَسْكَنَةِ مَبْلَغاً عظيماً (3). 4 - 7 - قولُه تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ *الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ *الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ *وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ}: يتوعَّدُ ربُّنا المصلِّينَ الذين يَلهونَ عن الصلاة فيؤخِّرونها عن وقتِها، أو يتركونها أحياناً فلا   (1) وردَ عن ابن عباس من طريق العوفي تفسير «الدِّين»، فقال: الذي يكذِّب بحكمِ الله عزَّ وجلَّ، وقد سبقَ التعليقُ على هذا التفسير عند قوله تعالى: {فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ} من سورة التين. وورد عن ابن جريج تفسيره بالحساب. (2) وردت عبارات عن السلف فيها بيانُ معنى دَعِّ اليتيم. الأولى: تفسير لفظي لمعنى «يدُّع»، وهو: يدفعُ اليتيم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وسفيان الثوري من طريق مهران. والثانية: بيانٌ للمعنى، وهو: يظلمُه ويقهرُه، ورد ذلك عن قتادة من طريق سعيد ومعمر، والضحَّاك من طريق عبيد، وهذا اختلاف تنوُّع؛ لأنَّ التفسيرَ فيهما يؤولُ إلى معنًى واحد، فالأوَّلونَ عبَّروا عن المعنى اللغوي، والآخِرون عبَّروا عن المعنى المراد به في السياق، والله أعلم. (3) يلاحظُ ورود هذه الأوصافِ في المجتمع الكافر، وقد وردت في ثلاثِ سُوَرٍ من هذا الجزء، وهي سورةُ الفجر، وسورةُ البلد، وهذه السورة، كما ورد حثُّ النبي صلّى الله عليه وسلّم على الرفق باليتيم وعدم ردِّ السائل المسكين في سورة الضحى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 يصلُّونها (1)، أولئكَ المصلِّين الذين يقومونَ بأعمالِهم ليراهم الناس، وهمُ المنافقون (2)، الذين لا يعطونَ الناس ولا يُعينونَهم بشيء: لا بزكاةٍ ولا بغيرِها من المنافعِ التي يُنْتَفَعُ بها؛ كالقِدْرِ، والفأسِ، والدَّلْوِ، وغيرِها (3).   (1) اختلفَ السلفُ في هذا الوصفِ على أقوال: الأول: الذين يؤخِّرونها عن وقتها، فلا يصلُّون إلا بعدَه، وهو قولُ سعد بن أبي وقاص من طريق ابنه مصعب، وابن عباس من طريق أبي جمرة الضبعي نصر بن عمران، وابن أبزَى من طريق جعفر، ومسروق من طريق أبي الضحى مسلم بن صبيح. الثاني: يتركونَها فلا يصلُّونَها، وردَ ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر، وابن زيد. قال الطبري: «وأَوْلى الأقوال في ذلك عندي بالصواب بقوله: {سَاهُونَ}: لاهونَ يتغافَلونَ عنها، وفي اللهوِ عنها والتشاغُلِ بغيرها تضييعها أحياناً، وتضييع وقتها أخرى، وإذا كان ذلك كذلك، صحَّ بذلك قول من قال: عنَى بذلك ترك وقتها، وقول من قال: عنَى به تركَها، لما ذكرت من أن في السَّهْوِ عنها المعاني التي ذُكرت». ومن ثَمَّ، فالخلاف يرجع إلى أكثر من معنى، وهما معنيان، وكِلاهما محتمَل؛ لأنَّ الذي إن صلاَّها، لا يصلِّيها إلاَّ رياءً، فهو من المنافقين كما ورد عن جمع من السلف، وهذا الصنف أقرب أن يكون هو المَعْنِيُّ بالآية؛ للأوصاف السابقة واللاحقة، ويكون المتهاوِنُ بوقتها السَّاهي عنها لتركِه إيَّاها في الوقت داخِلاً في حُكم المنافقين، فأشبه المنافقين في تهاونِه بالصلاة، والله أعلم. (2) ورد ذلك عن علي من طريق مجاهد، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. (3) أصلُ الماعونِ من كلِّ شيءٍ منفعتُه، ويكون المعنى: يمنعونَ الناسَ منافعَ ما عندهم، وهذا هو العموم في معنى اللفظ: والوارد عن السلف في تفسيرهم أمثلة لهذا العموم، ومنها: الأول: الماعون: الزكاة، وهي منفعةُ المالِ الواجبة، وبه قال علي بن أبي طالب من طريق مجاهد وأبي صالح، وابن عمر من طريق مجاهد وأبي المغيرة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وسعيد بن جبير من طريق حسَّان بن مخارق، وقتادة من طريق سعيد، والحسن من طريق سعيد ومحمد بن عقبة ومبارك، والضحاك من طريق عبيد وسلمة، وابن زيد، ومحمد بن الحنفية. الثاني: الماعون: عاريَّةُ المتاعِ من الدلوِ والقِدْرِ ونحو ذلك، ورد ذلك عن عبد الله بن مسعود من طريق أبي العبيدين وسعد بن عياض والحارث بن سويد ومالك بن الحارث = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وإبراهيم النخعي وأبي وائل، وابن عباس من طريق سعيد بن جبير ومجاهد وعلي بن أبي طلحة والعوفي، وسعيد بن جبير من طريق حبيب بن أبي ثابت، وأبي مالك غزوان الغفاري من طريق حصين، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح. وورد عن محمد بن كعب من طريق محمد بن رفاعة: الماعون المعروف، وهو يدخلُ في الذي قبلَه إلا إن أرادَ التخصيص. كما وردَ عن سعيد بن المسيب والزهري: أن الماعونَ بلسانِ قريشٍ المال، وهذا يمكن أن يدخل في القول الأول، غير أن مرادَهم أن هذه الدلالة اللغوية كانت عند قريش دون غيرهم من العرب. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك عندنا بالصواب ـ إذ كان الماعون هو ما وصفنا قبلُ، وكان الله قد أخبرَ عن هؤلاء القوم، وأنهم يمنعونَه الناس، خبراً عاماً من غير أن يَخُصَّ من ذلك شيئاً ـ أن يقال: إنَّ اللَّهَ وصفهُم بأنهم يمنعونَ الناسَ ما يتعاورونه بينهم، ويمنعونَ أهل الحاجةِ والمسْكَنةِ ما أوجبَ الله لهم في أموالهم من الحقوق؛ لأن كل ذلك من المنافعِ التي ينتفعُ بها الناسُ بعضُهم من بعض». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 سورةُ الكَوْثَر آياتها:3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 سورة الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 سورةُ الكَوْثَر 1 - 3 - قولُه تعالى: {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ *فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ *إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}. يخبرُ ربُّنا تباركَ وتعالى نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم عن هِبَتِه له ذلك النهر العظيمِ في الجنَّة، الذي اسمُه الكَوْثَر، وهو جزءٌ من الخيرِ الكثيرِ الذي أعطاه إيَّاه (1).   (1) الكَوْثَرُ على وزن فَوْعَل، مبالغةٌ في الكَثْرة، وقد حَمَلَ بعضُ السلفِ اللفظَ على عمومهِ، وحملَهُ بعضُهم على النهر الذي وعدَه الله نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم في الجنة، والحملُ على العموم لا يعارِضُ حملَه على نهر الكوثر؛ لأن نهرَ الكوثرِ يكونُ مِثالاً وجُزءاً للخير الكثيرِ الذي أعطاه الله لنبيِّه محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم. وإليك أقوالهم في تفسير الكوثر: الأول: نهرٌ في الجنة، وهو قول ابن عمر من طريق محارب بن دِثار، وعائشة من طريق أبي عبيدة وابن أبي نجيح، وابن عباس من طريق العوفي، ومجاهد من طريق ابنه عبد الوهاب، وأبي العالية من طريق الربيع. وهذا هو الذي وردت فيه الأحاديث، وله أوصافٌ مذكورة فيها، وهو أول ما يدخلُ في تفسير الآية بلا إشكال، والله أعلم. الثاني: الكوثر، الشيء الكثير، وهو الخير الكثير الذي أعطاه الله لنبيِّه صلّى الله عليه وسلّم، ورد ذلك عن سعيد بن جبير من طريق أبي بشر وعطاء بن السائب وهلال، وعكرمة من طريق عمارة بن أبي حفصة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، ونسبه ابن كثير إلى ابن عباس وعكرمة وسعيد بن جبير ومجاهد ومحارب بن دثار والحسن البصري. وقد ورد في رواياتِهم ما يُشْعِرُ بمعرفتِهم لكونِ الكوثر النهر، ولكنهم حملوا على العموم، فعن أبي بشر قال: «قلت لسعيد: إن أناساً يزعُمون أنه نهرٌ في الجنة، فقال سعيد: النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه». وقال عكرمة: «الخير = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 ثم أمرَهُ الله بأن يؤدِّي شُكْرَ هذهِ النعمة بأن تكونَ الصلاةُ والذبحُ له سبحانَه، لا كما يفعلُ المشركونَ الذين يذبحونَ للأصنام (1). ثم أخبرَهُ أنَّ   = الكثير، والقرآن والحِكمة»، وقال مجاهد: «الخير كله»، وقال: «خير الدنيا والآخرة». ومن ثمَّ يكون سبب الاختلاف: أن أصحابَ القولِ الأول حملوا اللفظَ على مصطلحِه الشرعي، وأصحابَ القولِ الثاني حملوه على معناه اللغوي، وإن صحَّ تفسيره بالمعنى اللغوي، فإنَّ الاختلافَ يرجعُ إلى معنًى واحد، وهو معنى العمومِ الذي تكون الأقوالُ الأخرى (نهرٌ في الجنة، القرآن، الحِكمة) أمثلة له، والله أعلم. (1) اختلفَ السلفُ في المراد بقوله تعالى: {وَانْحَرْ} على أقوال: الأول: اذْبَحْ لله، ورد ذلك عن أنس بن مالك من طريق جابر، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، وعكرمة من طريق جابر وثابت بن أبي صفية، والربيع بن أنس من طريق أبي جعفر، وعطاء بن أبي رباح من طريق فطر بن خليفة، والحسن من طريق عوف وأبان بن خالد، وقتادة من طريق معمر وسعيد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، وسعيد بن جبير من طريق أبي معاوية البجلي، وابن زيد، وبينهم في المراد بما نزلت فيه الآية اختلافُ، فقيل: في ذبحِ يوم النحرِ، وقيل: في عُموم الذبح، وقيل: في ذبح الهَدْي يوم الحُديبية، وهذا الاختلاف لا يُخرِج معنى النَّحْرِ عن الذبح، والأَوْلى العموم، وأن تكونَ الأقوالُ الأخرى داخلةً فيه على سبيلِ الأمثلة لهذا العموم؛ لأنه مأمور أن تكونَ ذبيحتُه لله في كل حال، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]. الثاني: ضَعْ يَدَكَ اليمين على الشمال، ثم ضعهُما على صدرِك في الصلاة، وهو قول علي بن أبي طالب من طريق عقبة بن ظبيان (ويقال: ظهير، انظر: الجرح والتعديل) عن أبيه، (قال عنه ابن كثير: ولا يصح)، وعن أبي القموص زيد بن علي من طريق عوف. الثالث: ارفع يدكَ إلى نحرِك عند الدخول في الصلاة، ورد ذلك عن أبي جعفر الباقر من طريق جابر. وقد ذكر الطبري قولاً لبعضِ أهلِ العربية، وهو الفراء، أن المعنى: «استقبِل القبلةَ بنَحْرِكَ»، واستدلَّ الفراء بما سمِعَه من بعض العرب، يقول: «منازلهم متناحرة»؛ أي: هذا بنحر هذا؛ أي: قُبالته، وببيتٍ من الشعر ذكَره. والقولُ الأولُ هو الصحيح؛ لأنه المشهور من معنى اللفظ، ومنه يومُ النَّحْرِ، ونَحْرُ البُدْنِ، وغيرُها، قال الطبري: «وأَوْلى هذه الأقوالِ عندي بالصواب، قول من قال: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 مُبْغِضَهُ هو المنقطِعُ عن كلِّ خير، بخلافِكَ أنتَ فيما أعطاكَ اللَّهُ من الخير (1).   = معنى ذلك: فاجعل صلاتَك كلَّها لربِّكَ خالصاً دون ما سواه من الأندادِ والآلهة، وكذلك نحركَ اجعله له دونَ الأوثان، شكراً له على ما أعطاك من الكرامةِ والخيرِ الذي لا كُفْءَ له، وخصَّكَ به من إعطائه إياكَ الكوثر. وإنما قلت: ذلك أولى الأقوال بالصواب في ذلك؛ لأن الله جلَّ ثناؤه أخبر نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم بما أكرمَه به من عطِيَّتِه وكرامتِه وإنعامِه عليه بالكوثر، ثم أتبع ذلك قوله: {فَصَلِّ لِرَّبِكَ وَانْحَرْ}، فكان معلوماً بذلك أنه خصَّه بالصلاة له والنحر على الشكرِ له على ما أعلمَه من النعمة التي أنعمَها عليه بإعطائه إياه الكوثر، فلم يكن لخصوصِ بعض الصلاة بذلك دون بعضٍ، وبعضِ النحر دون بعضٍ وجهٌ، إذ كان حثًّا على الشكر على النِّعَمِ. فتأويل الكلام إذن: إنا أعطيناك يا محمد الكوثر، إنعاماً منَّا عليكَ به، وتكرِمةً منَّا لك، فأخلِص لربِّك العِبادة، وأَفْرِدْ له صلاتَك ونُسُكَك، خلافاً لما يفعله من كَفَرَ به، وعبدَ غيره، ونحر للأوثان». وقال ابن كثير عن الأقوال الأخرى: «كلُّ هذه الأقوال غريبة، والصحيح القول الأول، أن المراد بالنحر ذبح النسائك ... ». (1) اختلف السلفُ في من نزلت هذه الآيات على أقوال: الأول: نزلت في العاص بن وائل السَّهْمي، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة والعوفي، وسعيد بن جبير من طريق هلال بن خباب، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد. الثاني: نزلت في عقبة بن أبي مُعيط، ورد ذلك عن شمر بن عطية. الثالث: نزلت في جماعة من قريش، ورد ذلك عن عكرمة. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب أن يقال: إن الله تعالى ذِكرُه أخبرَ أنَّ مُبْغِضَ رسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم هو الأقلُّ الأذلُّ المنقطِعُ عَقِبه، فذلك صفةُ كل من أبغضَه من الناس، وإن كانت الآية نزلت في شخصٍ بعينه». ومرادُ الإمام هنا أن العبرةَ بعمومِ اللفظِ لا بخصوصِ السبب، ويكون السببُ المذكور مثالاً لذلك العموم في اللفظ، وهذا هو الصواب، وهو حملُ هذه النزولاتِ المذكورة على التمثيل، وإبقاءُ اللفظِ على عمومِه، فيدخلُ فيه كلُّ من أبغضَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 سورةُ الكافِرون آياتها:6 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 سورة الكافرون بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 سورةُ الكافِرون حُكِيَ في سببِ نزولها أنَّ قريشاً طلبت من الرسولِ صلّى الله عليه وسلّم أن يعبُدَ أصنامَهم سَنة، وهم يعبدونَ إلهَهُ سَنة، فأنزلَ الله هذه السورةَ براءةً من الكافرين وعبادتِهم. وكان صلّى الله عليه وسلّم يقرأُ هذه السورة في الركعة الثانية من الشفع، وفي الركعة الأولى من سُنَّة الطواف وسُنَّة الفجر، ووردَ عنه صلّى الله عليه وسلّم أنها تعدِلُ رُبعَ القرآن. 1 - 6 - قولُه تعالى: {قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ *لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُّمْ *وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ *لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}. يأمرُ اللَّهُ نبيَّه محمداً صلّى الله عليه وسلّم أنْ يوجِّهَ الخِطاب لكلِّ الكافرين، ما داموا على الكُفر (1)، ويُخبرَهم أنَّه لا يعبدُ معبوداتِهم لا في حَاضِرِهِ ولا في مُسْتَقْبَلِهِ، وهو قوله: {لاَ أَعْبُدُ}، ولا في مَاضِيه (2)، وهو قوله: {وَلاَ أَنَا   (1) انظر: دقائق التفسير 6:327. فقد نصَّ على أن الخطابَ موجَّهٌ للكفَّار ما داموا على الكفر، وإن أسلموا بعد ذلك خرجوا عن هذا الخطاب، وهذا يزيلُ إشكالاً وقعَ لبعضِ المفسِّرين المتأخِّرين من أن هذا العمومَ مخرومٌ بإيمانِ من آمنَ منهم بعد هذا الخطاب؛ كأبي سفيان، وغيره، والله أعلم. (2) وقع خلاف بين العلماء في سبب تَكرار هاتين الجُملتين، واختِلاف صيغتِهما، وهو كلامٌ يطولُ ذِكره، فاختصرتُ منه ما اختارَه شيخ الإسلام (انظر: دقائق التفسير 6:315 وما بعدها). وقد سبقَ الحديث على «ما» التي تكرَّرت في الآيات الأربعِ عند قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5]، وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 عَابِدٌ}، كما أنهم هُم لا يعبدونَ إلهه أبداً ما داموا على الكفر، وهو قوله عنهم في الموضِعَين: {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} (1). ثمَّ ختمَ الآيات بتأكيد المُفاصَلةِ والبراءةِ من مِلَّتِهم وشَرْعِهم، فقال: لكم ما تعتقدونَه من المِلَّةِ الكافِرةِ، وليَ ما أعتقِدُه من توحيدِ الله سبحانه، فلا يمكنُ أن نلتقي أبداً (2)، والله أعلم.   (1) يلاحظُ أن قوله تعالى: {وَلاَ أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} جاء في الموضعين جملةً اسميةً للدلالةِ على ثبوتهم في هذا الكُفر، وأن نفسَ نفوسِهِمُ الخبيثةَ الكافرةَ بريئةٌ من عبادة إلهِ محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وأنهم لا يعبدونَ الله ما داموا على الكفر. (انظر: دقائق التفسير: 6/ 328). (2) أطال ابنُ القيم في تفسير هذه الآيات، انظر: بدائع الفوائد (1:133 - 247). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 سورةُ النَّصر آياتها:3 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 سورة النصر بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 سورةُ النَّصر 1 - 3 - قولُه تعالى: {إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ *وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا *فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا}. أي: إذا جاءكَ يا محمد نصرُ اللَّهِ لكَ على قومِكَ من قريش، وجاءَك فتحُ مكة (1)، ورأيتَ قبائلَ العربِ تدخلُ في الإسلام جماعاتٍ تِلْوَ جماعات، فاعلَم أنه قد دَنا أجلُكَ (2)، فأكثِر من طلبِ المغفرةِ من ربِّك، ومن ذِكْرِهِ بأوصافِ الكمالِ التي تدلُّ على حمدِكَ إياه، إنه سبحانَه يرجع لعبده المطيعِ بالتوبة، فيتوبُ عليه. وكان صلّى الله عليه وسلّم كثيرَ الاستغفارِ والحمدِ بعد نزولِ هذه السورة (3)، والله أعلم.   (1) ورد عن مجاهد وغيره أنَّ الفتحَ فتحُ مكة. (2) كذا فسَّر عمر بن الخطاب وحَبر الأمة ابن عباس هذه السورة، وهو فهمٌ صحيح يوافِق ما عليه هذه الشريعة من ختم كثير من الأعمال بالاستغفار، كالصلاة، وغيرها، وكأن في هذا إشارة إلى انتهاء مَهَمَّةِ الرسول صلّى الله عليه وسلّم في هذه الحياة. (3) أخبرت بذلك زوجهُ عائشة رضي الله عنها أنه كان يُكثر أن يقولَ: «سبحانك اللَّهم وبحمدك»، يتأول القرآن. أخرجه البخاري في تفسير هذه السورة من صحيحه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 سورةُ المَسَد آياتها:5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سورة المسد بسم الله الرحمن الرحيم تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 سورةُ المَسَد أخرج البخاري عن ابن عباس: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج إلى البطحاء، فصَعِدَ الجبلَ فنادى: «يا صباحاه». فاجتمعت قريش، فقال: «أرأيتم إن حدَّثتكم أنَّ العدوَ مُصَبِّحَكم أو ممسيكم، أكنتم مصدِّقِيَّ»؟ قالوا: نعم. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: ألهذا جمعتنا؟ تبًّا لك، فأنزل الله: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} إلى آخرها. 1 - 5 - قولُه تعالى: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ *مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ *سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ *وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}. هذا دعاء بالهلاك والخسران على عمِّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم المَكْنِيِّ بأبي لهب، وقد حصل له هذا، ذلك جزاءَ قولِه للنبي صلّى الله عليه وسلّم: «تبًّا لك سائر اليوم، ألهذا جمعتنا (1)؟». ثمَّ أخبر اللَّهُ أنَّ مالَ أبي لهب وولدَه لا ينفعونه ولا يَرُدُّون عنه عذابَ الله (2)، وأنه سيدخل ناراً تتوقَّد تشويه بحرِّها، وأنه ستدخل معه   (1) هذه الجملة: {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ} دعاء على أبي لهب، وإسناد التباب لليدين، كإسناد العمل لهما في مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ}، والمراد: خَسِرَ أبو لهب بسبب عمله الذي عَمِله مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. وجملة: {وتُبْ} جملة خبرية؛ أي: وقد حصل له التباب. (2) تفسير قوله تعالى: {وَمَا كَسَبَ}: وما ولد، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق أبي الطفيل ورجل من بني مخزوم، ومجاهد من طريق ليث وابن أبي نجيح. ونسبه ابن كثير = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 زوجُه أمُّ جميلٍ التي كانت تؤذي رسولَ الله صلّى الله عليه وسلّم بحمل الحطبِ الذي فيه الشوكُ فتلقيه في طريقه (1)، وقد جعل الله في عُنقها حبلاً مجدولاً ومفتولاً من ليف أو غيره، يكون عليها كالقلادة التي توضع على العنق (2)، جزاء ما كانت تصنع في الدنيا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم.   = إلى عائشة وعطاء والحسن وابن سيرين. (1) اختلف السلف في تفسير «حمالة الحطب»: على أقوال: الأول: أنها تحمل الشوك فتلقيه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، ويزيد بن زيد الهمداني، وعطية الجدلي العوفي، والضحاك من طريق عبيد، وابن زيد. الثاني: أنها كانت تمشي بالنميمة، وهو قول عكرمة من طريق محمد، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح ومنصور، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وسفيان الثوري من طريق مهران. وحكى الطبري: أنها كانت تَحْطِبُ (أي: تجمع الحَطَبَ)، فعُيِّرت بذلك، ولم ينسبه، وهو مخالف لحال أمِّ جميل: غناها وشرفها، والله أعلم. قال الطبري: «وأولى القولين في ذلك بالصواب عندي قول من قال: كانت تحمل الشوك، فتطرحه في طريق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ لأن ذلك هو أظهر معنى ذلك». وفسَّر السلف الحطب بالشوك؛ لأنها كانت تحمل أغصان الشوك، وهي الحطب، فتلقيها في طريق الرسول صلّى الله عليه وسلّم لتُأذيَه بها، والله أعلم. وقد فسَّر ابن كثير الآية على أنه في الآخرة فقال: « ... وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم، ولهذا قال: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ *فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ}؛ يعني تحمل الحطب فتلقيه على زوجها، ليزداد على ما هو فيه، وهي مهيَّأة لذلك مستعدَّةٌ له». وهذا الفهم لم يرد عن السلف، بل حملوا حَمْلَها الحَطَبَ على أنه وصفٌ لها في الدنيا، وليس هناك ما يدعو إلى هذا الفهم الذي فهمه ابن كثير، والله أعلم. (2) ورد في تفسير المسد أقوال عن السلف: الأول: حبال من الشجر تكون بمكة، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق العوفي، والضحَّاك من طريق عبيد، وابن زيد. ويظهر أن المراد بهذه الحبال الليف. الثاني: المسد سلسلة من حديد ذرعها سبعون ذراعاً، وهو قول عروة من طريق يزيد وسفيان الثوري، وقال: «حبل في عنقها من النار، طوله سبعون ذراعاً». = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = وهذا التحديد يحتاج إلى قول المعصوم في خبره، وليس في هذه الآثار ما يدل على نقله عنه، وكون المَسَدِ يكون من الحديدِ صحيحٌ، أما هذا التحديد فيُتَوَقَّفُ فيه، والله أعلم. الثالث: الحديد الذي يكون في البَكَرَةِ، ورد عن مجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، من طريق الأعمش، لكن لم يذكر البَكَرَةَ، وعكرمة من طريق محمد. الرابع: قلادة من وَدَعٍ في عنقها، ورد ذلك عن قتادة، ويحتمل أنه أراد أنه من صفتها في الدنيا؛ لأنه قال: «قلادة من ودع»، ولم يحدد زمن لُبْسِها. والله أعلم. قال الطبري: «وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب، قول من قال: هو حبل جُمِعَ من أنواع مختلفة، ولذلك اختلف أهل التأويل في تأويله على النحو الذي ذكرنا، ومما يدل على صحة ما قلنا في ذلك قول الراجز: ومَسَدٍ أُمِرَّ من أَيَانِقِ صُهْبٍ عِتَاقٍ ذاتِ مُخٍّ زَاهِقِ فجعل إمراره من شَتَّى، وكذلك المسد الذي في جيد امرأة أبي لهب، أُمِرَّ من أشياء شتى: من ليف وحديد ولحاء، وجُعل في عنقها طوقاً كالقلادة من ودع؛ ومنه قول الأعشى: تُمْسِي فَيَصْرِفُ بَابَها مِنْ دُونِنَا ... غَلَقاً صَرِيفَ مَحَالَةِ الأمْسَادِ يعني بالأمساد: جمع مَسَدٍ، وهي الحبال». والمسد في اللغة يطلق على معان؛ منها: 1 - المسد: الفتل والجدل، وممسود؛ أي: مجدول من ليف أو غيره، ومنه قول من قال: حبل من شجر بمكة، أو من ليف، وكذا من قال: سلسلة؛ لأنها تكون مجدولة في الغالب، والله أعلم. 2 - المسد: المحور من الحديد، أو البَكَرَة التي يلتف عليها حبل الدلو، وهو تفسير مجاهد وعكرمة، وعليه يحمل قول قتادة؛ كأنه شبه القلادة في جيدها بالبكرة التي تكون من حديد الذي يكون عليه حبل الدلو، ويوضح ذلك ما نسبه ابن كثير لمجاهد، قال: «أي: طَوقُ حديدٍ، ألا ترى أن العربَ يُسمُّون البَكَرَةَ مَسَداً. كما يحتمل أن يكون قولُ قتادةَ قولاً مستقلاً، ويكون معنىً آخرَ من معاني المَسَدِ، ومِنْ ثَمَّ يكونُ الاختلاف عائداً إلى أكثر من معنى بسبب الاشتراك اللغوي، وهما معنيان محتملان، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 سورة الإخلاص آياتها:4 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 سورة الإخلاص بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 سورة الإخلاص ذُكِرَ أنَّ الكفَّارَ قالوا: يا محمد انسِبْ لنا ربَّكَ، فنزلَت هذه السُّورة (1). ومِنْ فَضْلِ هذه السُّورةِ: أنها تعدِلُ ثُلُثَ القرآن، وأنها تُقرأُ في صلاة الوتر، وسُنَّة الفجر، وسنَّة الطَّواف، وفي أذكارِ الصبَاح والمساء، وأذكارِ دُبُرِ الصَّلَوات. 1 - قولُه تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ}؛ أي: قُلْ يا محمد: ربي هو اللَّهُ الذي له العِبادة، لا تنبغي إلاَّ له، ولا تصلُحُ لغيرِه، المتَّصِفُ بالأَحَدِيَّة دون سِواه، لا مثيلَ له، ولا نِدَّ، ولا صاحبةَ ولا ولد (2). 2 - قولُه تعالى: {اللَّهُ الصَمَدُ}؛ أي: الله الموصوف بالأَحَدِيَّة، هو السيِّدُ الذي قد انتهى في سُؤدَدِه، والغني الذي قد كَمُلَ في غِناه، فلا يَحْتَاجُ ما يحتاجُهُ خلقُه من الصَّاحِبةِ والولدِ، ولا من المأكلِ والمَشْرَبِ، ولا   (1) ورد ذلك عن أُبي بن كعب من طريق أبي العالية، وعكرمة من طريق يزيد، وأبي العالية من طريق الربيع بن أنس، وجابر من طريق الشعبي. وورد عن سعيدِ بن جُبير وقتادة أن السائلَ همُ اليهود، والله أعلم. (2) لا يُطلقُ لفظ «أحد» مُنَكَّراً وعلى الإثباتِ إلا على الله سبحانه، أما إذا دخلَه نفيٌ أو استفهامٌ أو شرطٌ أُطلِقَ على غيره؛ كقوله تعالى: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الصمد: 4]، وقوله: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} [مريم: 98]، وقوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: 6]، وهو أخصُّ من اسمِه «الواحِد» الذي يرِدُ في الإثبات وغيره، ويرد منكَّراً ومُعَرَّفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 من غيرِها، فهو الذي قد كَمُلَ في أنواعِ الشَّرَفِ والسُّؤْدَدِ، وهو الله هذه صِفته، لا تنبغي إلاَّ له (1). 3 - 4 - قولُه تعالى: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ *وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ}؛ أي: هذا المعبودُ بحقٍّ ليس ممن يولَد فَيَفْنَى، ولا هو بمُحدَثٍ لم يكن فكان، بل هو الأولُ الذي ليس قبلَه شيء، والآخِرُ الذي ليس بعدَه شيء. ولم يكن له مثيلٌ يكافِئه في أسمائِه وصفاتِه وأفعالِه.   (1) اختلفَت عبارةُ السلفِ في تفسير الصَّمد على أقوال: الأول: الذي لا جَوْفَ له، ورد ذلك عن بريدة الأسلمي من طريق ابنه عبد الله، وابن عباس من طريق عطية العوفي من غير طريقِهِ المشهور، ومجاهد من طريق منصور وابن أبي نجيح، والحسن من طريق الربيع بن مسلم، وسعيد بن جبير من طريق إبراهيم بن ميسرة، والشعبي من طريق إسماعيل بن أبي خالد، والضحَّاك من طريق سلمة بن نبيط وعبيد المكتب، وسعيد بن المسيب من طريق المستقيم بن عبد الملك، وعكرمة من طريق معمر. الثاني: الذي لا يخرجُ منه شيء، وردَ ذلك عن عكرمة من طريق أبي رجاء محمد بن يوسف. الثالث: الذي لم يلد ولم يولد، ورد ذلك عن أبي العالية من طريق الربيع بن أنس. الرابع: السيِّدُ الذي قد انتهى في سُؤدَدِه، ورد ذلك عن أبي وائل شقيق من طريق الأعمش، وابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة. الخامس: الباقي الذي لا يفنَى، ورد ذلك عن الحسن وقتادة من طريق سعيد، وقتادة من طريق معمر: الدائم. وقد وردت عباراتٌ في تفسير بعضِهم؛ كالمُصْمَتِ الذي لا جوفَ له، والذي لا يأكلُ ولا يشربُ، والذي لا حَشْوَةَ له. وهذا الاختلافُ من اختلافِ التنوع الذي يكونُ في العبارةِ لا المعنى؛ لأنَّ هذه الأقوال ترجع إلى معنًى واحد، وهو غِنى الله عن ما يحتاجه خلقه، لكمالِ سُؤدَدِه. ولا يَهُولَنَّكَ إنكارُ بعض الخَلَفِ لبعض هذه المعاني الوارِدة عن السلف، وزعمُهم أن هذه الأقوال لا تساعدُ عليها اللغة، وهذا قولُ من لم يفهم تفسيرَ السلفِ، ولا استفادَ منه في ثبوتِ معاني ألفاظ اللغة من تفسيراتهم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 سورة الفلق آياتها:5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 سورة الفلق بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 سورة الفلق سببُ نزولِ هذه السورةِ والتي بعدها: سحرُ لبيد بن الأعصم اليهودي لرسولِ الله صلّى الله عليه وسلّم، ومما ينبغي أن يُعلمَ أن هذا السِّحْرَ لم يكن له أثرٌ على الجانب النبويِّ (تبليغ الوحي)، بل كان فيما يتعلَّق ببشرِّيته صلّى الله عليه وسلّم، حيث كان يرى أنه فعلَ الشيءَ، ولم يكن قد فعلَه. وهاتانِ السورتانِ ـ الفلق والناس ـ تشتركانِ في اسمٍ واحد، وهو المعوِّذتان، ولهما فضائل؛ منها: أنهما معوِّذتان من السحرِ والعينِ، وأنهما تُقرَءان في أذكارِ دُبُرِ الصَّلَوات، وفي أذكارِ الصَباح والمساء، وعند النوم. 1 - قولُه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ}: يُرشِدُ اللَّهُ سبحانه نبيَّه صلّى الله عليه وسلّم أن يستجيرَ به: برُبوبيَّته للصُّبح، والمعنى: أستجيرُ بربِّ الصُّبح (1).   (1) وردَ تفسير الفَلَقِ بالصُّبح عن ابن عباس من طريق العوفي، وجابر بن عبد الله، والحسن من طريق عوف، وسعيد بن جبير من طريق سالم الأفطس، ومحمد بن كعب القرظي من طريق أبي صخر، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد ومعمر، وابن زيد، وقرأ: {فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً} [الأنعام: 96]، وزاد ابن كثيرٍ نِسبته إلى زيد بن أسْلَم من رواية مالك عنه، والبخاري في صحيحه. ووردت أقوالٌ أخرى، وهي: الفَلَق: جُبٌّ في جهنم، ورد عن ابن عباس من رواية مجهول عنه، ونسبه العوَّام بن عبد الجبار الجولاني لبعض الصحابة، وهو قول السدي من طريق سفيان، وكعب الأحبار، وروي في ذلك حديثٌ مرفوعٌ أن الفَلَقَ جُبٌّ في جهنم، قال ابن كثير: «قد ورد في ذلك حديثٌ مرفوعٌ مُنكر»، ثم ذكرَه، ثم قال: «إسناده غريب، ولا يصحُّ رفعه». = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 2 - 5 - قولُه تعالى: {مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ *وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ *وَمِنْ شَرِّ النَفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ *وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ}؛ أي: أستجيرُ بربِّ الصُّبح من شرِّ كلِّ خلقِه الذين خلقهُم، من جنٍّ وإنسٍ وهوامٍ ودوابَّ وغيرها، ثمَّ خصَّ بعضَ ما خلقَه لزيادةِ ما فيها من شرٍّ، فطلبَ منه أن يستجيرَ به من شرِّ الليل إذا ظهرَ قمره، فدخلَ في الظلام (1)، ويستجيرَ به من شرِّ السَّواحِرِ اللاتي ينفُخْنَ بلا رِيْقٍ على ما يعقِدْنَهُ من خيوطٍ وغيرِها   = الفَلَق: اسم من أسماء جهنم، ورد ذلك عن أبي عبد الرحمن الحبلي. الفَلَق: الخَلق، ورد ذلك عن ابن عباس من طريق علي بن أبي طلحة، ونسبه ابن كثير إلى الضحَّاك. والقولُ الأولُ هو الصحيح؛ لأنه قول الجمهور، وهو المشهور من اللغة في إطلاق الفَلَق، كما قاله الطبري. (1) ورد تفسيرُ الغاسقِ بالليل عن ابن عباس من طريق العوفي وعلي بن أبي طلحة، والحسن من طريق عوف ومعمر وسعيد بن أبي عروبة، ومجاهد من طريق ابن أبي نجيح، وقتادة من طريق سعيد. وقد ورد غير ذلك، وهي: الغاسِقُ: كَوْكَبٌ، ورد عن أبي هريرة، وقال ابن زيد: «كانت العرب تقول: الغاسق: سقوطَ الثُّريَّا، وكانت الأسقامُ والطواعينُ تكثرُ عند وقوعها، وترتفعُ عند طلوعِها». وروي في ذلك حديث: «النجم: الغاسق»، قال ابن كثير: «وهذا الحديث لا يَصِحُّ رفعه إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم». وورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حديث آخر، وهو ما روته عائشة، قالت: أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بيدي، فأراني القمرَ حين طلعَ، وقال: «استعيذي من شرِّ هذا الغاسقِ إذا وَقَب»؛ أي: دخَل. وهذا التفسير لا ينافي تفسير جمهور السلف في أنه الليل، قال ابن القيم: «هذا التفسير حقٌّ ـ يعني: تفسيره في الحديث بالقمر ـ، ولا يناقضُ التفسيرَ الأول، بل يوافقه، ويشهدُ لصحَّته، فإنَّ الله تعالى قال: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً} [الإسراء: 12]، فالقمر آيةُ الليل، وسلطانه فيه، فهو أيضاً غاسق إذا وَقَب، والنبيُّ صلّى الله عليه وسلّم أخبرَ عن القمرِ بأنه غاسقٌ إذا وَقَب، وهذا خبرُ صِدْق، وهو أصدَقُ الخبرِ، ولم ينفِ عن الليل اسم الغاسق إذا وقب، وتخصيصُ النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينفي شمولَ الاسم لغيره. (انظر: بدائع التفسير: 5:398، وله تتمة مهمة). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 عند إرادةِ السِّحر (1)، ويستجيرَ به من الذي يتمنَّى زوالَ نعمةِ الله عن غيرِه، الذي قد تمكَّنَ هذا الإحساسُ النفسيُّ الخبيثُ فيه، يستجير به من شرِّ عينه ونفسِه (2)، والله أعلم.   (1) يشملُ هذا الاستعاذة من السَّحَرَةِ ذُكوراً وإناثاً، كما قاله الحسن من طريق عوف، وقيل: خصَّ إناثَ السَّحَرة بالذِّكر؛ لأن سِحْرَهُنَّ أقوى وأنفَذ، وقيل: أراد الأنفسَ السَّواحِر، والمقصود الاستعاذة من السِّحر عموماً، وبه فسَّر السلف، فقد ورد عن ابن عباس من طريق العوفي: ما خالطَ السِّحر من الرُّقَى، وكذا ورد عن قتادة من طريق معمر، والحسن من طريق قتادة، ومجاهد وعكرمة من طريق جابر، وطاووس بن كيسان من طريق ابنه. (2) ورد ذلك عن قتادة وعطاء الخراساني وطاووس كلهم من طريق معمر، وذكر ابن زيد اليهود في معنى الآية، وهم مثالٌ لمن ظهرَ فيهم الحسدُ لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم على نبوته، والخبر عامٌّ في كلِّ حاسدٍ كما قال الطبري: «وأولى القولين بالصواب في ذلك، قول من قال: أمرَ النبيَّ صلّى الله عليه وسلّم أن يستعيذَ من شرِّ كلِّ حاسدٍ إذا حسدَ، فعانَهُ، [أي: أصابه بعين]، أو سَحَرَه، أو بَغَاهُ بسوءٍ. وإنما قلنا: ذلك أولى الأقوال؛ لأن اللَّهَ عزَّ وجلَّ لم يخصِّص من قوله: {وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ} حاسداً دون حاسد، بل عَمَّ أمرَه إياه بالاستعاذة من شرِّ كلِّ حاسدٍ، فذلك على عمومه». الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 سورة الناس آياتها:5 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 سورة الناس بسم الله الرحمن الرحيم قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 سورة الناس 1 - 3 - قولُه تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ *مَلِكِ النَّاسِ *إِلَهِ النَّاسِ}؛ أي: قلْ يا محمد: أستجيرُ بربِّ الناسِ، فخصَّهم بالذِّكرِ لأنهم المُسْتَعيذون، والربُّ: الذي يسوسُهم ويرعاهُم ويدبِّرُ أمورَهم، وهو مَلِكُهُم الذي يتصرَّفُ فيهم بالأمر والنهي، فهم تحتَ قُدرته، وهو إلههُم المستحِق للعبادة دون سواه. 4 - 6 - قولُه تعالى: {مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ *الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ *مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ}؛ أي: أستجيرُ به سبحانه من شرِّ الشيطان الذي يُلقي في قلبِ العبدِ، إذا غفلَ عن الذكرِ، يُلقي صوتَه الخفِي، الذي لا يُحَسُّ به. ويتأخَّر عن القلب فلا يوسوِسُ فيه إذا ذكرَ العبدُ ربَّه (1). وهذا الشيطانُ يوسوِسُ في محلِّ القلوب، وهي صدورُ الناس: جِنِّهم وإنسِهم، أو هذا الموسوسُ من الجنِّ والناس يوسوسُ في صدور الناس، كما قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام: 112] (2)، والله أعلم.   (1) قال ابن عباس من طريق سعيد بن جبير: «ما من مولود إلاَّ على قلبه الوَسواس، فإذا عقلَ، فذكر الله، خَنَسَ، وإذا غفلَ، وَسْوَسَ، قال: فذلك الوَسْواس الخنَّاس». وقد ورد هذا المعنى عن مجاهد من طريق عثمان بن الأسود وابن أبي نجيح، وقتادة من طريق معمر وسعيد، وابن زيد. (2) في هذه الآية احتمالان: = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .   = الأول: أن يكون الموسوِسُ من الجِنَّةِ والناس، وهم يُوَسْوِسون في صدور الناس. الثاني: أن يكون الموسْوِسُ من الشياطين، وهم يوسْوِسونَ في صدور الجِنَّة والناس، وهو اختيار الطبري، (وانظر في هذين الاحتمالين: تفسير ابن كثير). ويكون فيه جوازُ إطلاقِ لفظ الناس على الجِنِّ، وقد ورد هذا الإطلاق عن ابن مسعود، قال: «كان ناسٌ من الإنس يعبدون ناساً من الجِنِّ ... » (رواه البخاري في الباب السابع من تفسير سورة الإسراء)، وقد حكى الطبري ذلك عن بعضِ العرب، وبهذا تزولُ الغرابةُ التي يدَّعيها بعضُهم في إطلاقِ لفظِ الناسِ على الجنِّ، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فهرس (*) أولاً: فهرس اختلاف التنوع: القسمُ الأول: الاختلافُ الذي يرجعُ إلى معنًى واحد: 1 - أن يكون التعبير عن التفسير بألفاظٍ متقاربة: سورة النازعات (11) سورة الانشقاق (14، 18) سورة البلد (20) 2 - أن يُذكرَ من الاسمِ العامِّ مثالٌ له، على سبيل التمثيل لا التَّخْصيص: سورة عبس (28) سورة الانفطار (5) سورة الانشقاق (4) سورة البروج (3) سورة الأعلى (14) سورة الفجر (3) سورة الشرح (7 - 8) سورة التكاثر (8) سورة العصر (1) سورة الفيل (5) سورة قريش (4) سورة الماعون (7) سورة الكوثر (3)   (*) هذا الفهرس يخصُّ الحاشيةَ. 2 - الأرقام المذكورة بعد السورة هي أرقام الآيات. 3 - قد تَنِدُّ بعضُ الفوائد وغيرِها عن هذا الفهرس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 3 - أن يعبِّرَ المفسِّرُ عن المسمَّى بأحدِ معانيه التي تدلُّ عليه: سورة التين (1) سورة العصر (3) سورة الإخلاص (2) القسمُ الثاني: الاختلافُ الذي يرجع إلى أكثرِ من معنى. سورة النبأ (2، 14، 24، 25، 34) سورة النازعات (1 - 5) سورة عبس (17، 20) سورة التكوير (1، 2، 6، 15، 16، 17) سورة المطففين (25 - 26) سورة الانشقاق (19) سورة الطارق (8) سورة البلد (2، 3، 4) سورة الشمس (9 - 10، 15) سورة الليل (3) سورة التين (6، 7، 8) سورة العاديات (7) سورة الماعون (5) سورة المسد (5). ثانياً: أسبابُ الاختلاف: 1 - الاختلافُ بسبب التواطؤ: سورة النبأ (2) سورة النازعات (1 - 5، 25) سورة عبس (20) سورة التكوير (15 - 16) سورة الغاشية (1). الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 2 - الاختلافُ بسبب ذكرِ وصفٍ لموصوفٍ محذوف: سورة النبأ (2) سورة النازعات (1 - 5، 25) سورة التكوير (15 - 16) سورة الانشقاق (19) سورة الغاشية (1). 3 - الاختلافُ بسبب الاشتراكِ اللُّغوي: سورة النبأ (24، 25، 34) سورة عبس (17) سورة التكوير (2، 6، 17) سورة المطففين (25 - 26) سورة البلد (3، 4) سورة الشمس (1) سورة الضحى (2) سورة التين (6، 7، 8) سورة العصر (1). سورة المسد (5). 4 - الاختلافُ بسبب الحذف: سورة المطففين (15) 5 - الاختلافُ بسبب مفسّر الضمير: سورة الانشقاق (6) سورة الطارق (8) سورة الشمس (9 - 10، 15) سورة العاديات (7) 6 - الحملُ على المعنى اللغوي، والحملُ على المعنى الشرعي: سورة الكوثر (1) ثالثاً: قواعد الترجيح: 1 - الترجيحُ بالأغلب، أو المشهور من لغة العرب: سورة النبأ (24، 34) سورة النازعات (14) سورة التكوير (5) سورة المطففين (25 - 26) سورة الفجر (7) سورة الفلق (1) 2 - الترجيحُ بقول الجُمهور (وقد يسميه عليه الطبري: إجماع الحجة): سورة النازعات (14) سورة عبس (31) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 سورة الفجر (2) سورة البلد (2) سورة الفلق (1) 3 - الترجيحُ بدلالة السنَّة النبوية: سورة عبس (13، 15) سورة المطففين (7، 18) 4 - الترجيحُ بدلالة السِّياق: سورة عبس (20) سورة التكوير (15 - 16) سورة البروج (13) سورة الطارق (8) سورة الليل (6) 5 - الترجيحُ بأصل ترتيبِ الكلام، وعدمِ الحُكم بالتقديم والتأخيرِ إلا لعلَّةٍ توجبُ ذلك: سورة الأعلى (4 - 5) سورة الغاشية (3) 6 - الترجيحُ برَسْمِ المصحف: سورة المطففين (3) سورة الأعلى (6) 7 - الترجيحُ بعَوْدِ اسم الإشارة المُفرَدِ إلى أقربِ مذكورٍ، كالضمير: سورة الأعلى (18) 8 - الترجيحُ باتِّساق الضمائر، وعَوْدِها على المذكور الأوَّل: سورة العاديات (7). رابعاً: اختلافُ المعاني بسبب اختلاف القراءة: سورة التكوير (24) سورة الانشقاق (19) سورة البروج (15، 22) سورة الفجر (25 - 26) سورة البلد (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 خامسا ً: فهرسُ الفوائد العلمية: 1 - مفهومُ مصطلحِ النسخِ عند السلف، وتطبيق ذلك على مثال: سورة النبأ (23) 2 - ابن جرير لا يميِّزُ بين طبقاتِ السلفِ في الترجيح: سورة النبأ (38) سورة الغاشية (1) سورة التين (7) 3 - تفريقُ القرآن بين لَقَبِ حاكمِ مصرَ في عهدِ يوسف عليه السلام وعهدِ موسى عليه السلام: سورة النازعات (17) 4 - التزكِّي في القرآن كله: الإسلام، ابن زيد: سورة النازعات (18) 5 - مفهومُ لفظِ السعي في القرآن: سورة النازعات (35) 6 - الغالبُ في إطلاقِ لفظِ الإنسان في القرآن المكيِّ أنه الكافر: سورة عبس (17) 7 - التفسيرُ بالمعنى: سورة النبأ (3، 14، 16، 39) سورة عبس (17) سورة الانشقاق (17) سورة البلد (14) سورة الشمس (3) سورة الفيل (3) سورة الماعون (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 8 - التفسيرُ باللازم: سورة التكوير (1) سورة الغاشية (5) 9 - الفرقُ بين رواية الكلبيِّ ورأيه في التفسير: سورة الانفطار (3) 10 - فائدةٌ تُساوي رِحلة: سورة الأعلى (1) 11 - الأصولُ التي يدورُ عليها التفسير: التفسيرُ على اللفظ، والتفسيرُ على المعنى، والتفسيرُ على القياس والإشارة: سورة العاديات (2) 12 - شروطُ التفسيرِ الإشاريِّ عند ابن القيم: سورة العاديات (2) 13 - الأصل أن يُجعل الإعراب على الوارد عن السلف: سورة المطففين (28) 14 - مفهوم العصمة: سورة الشرح (2، 3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284