الكتاب: حقيقة البدعة وأحكامها المؤلف: سعيد بن ناصر الغامدي الناشر: مكتبة الرشد، الرياض عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] ---------- حقيقة البدعة وأحكامها سعيد بن ناصر الغامدي الكتاب: حقيقة البدعة وأحكامها المؤلف: سعيد بن ناصر الغامدي الناشر: مكتبة الرشد، الرياض عدد الأجزاء: 2   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] مقدمة الكتاب إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوز بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، واشهد أن لا إله الله وحده لا شريك، واشهد أن محمدا عبده ورسوله. (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) . (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا) . (يأيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً) . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم -، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، (فإن صغار المحدثات من الأمور تعود حتى تصير كباراً وكذلك بدعة أحدثت في هذه الأمة كان أولها صغيراً يشبه الحق، فاغتر بذلك من دخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 فيها ثم لم يستطيع المخرج منها، فعظمت وصارت ديناً يدان به ... ولا تتم السلامة لعبد حتى يكون متبعاً مصدقاً مسلماً، فمن زعم أنه قد بقي شيء من أمر الإسلام لم يذكرناه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقد كذبهم وكفى بهذا فرية ..... ) . وإنها لنعمة خاصة، تستحق شكراً خاصاً أن يوفق المسلم لسلوك منهج السلف الصالح - رضوان الله عليهم - علماً وفهماً وعملاً، وذلك المنهج الذي لا ريب في صحته وسلامته عند أصحاب العقول والقلوب السليمة، التي سلمت من أمراض الشبهات والشهوات. المنهج الذي نجزم بصوابه واستقامته ونقائه وكماله لا جموداً ولا تعصباً ولا ادعاء، بل بالبرهان القاطع والدليل الساطع والحجة البالغة. وقد يتوهم بعض الناس أن في هذا الجزم والإصرار على منهج أهل السنة والجماعة شيئاً من الطائفية، تقابل طائفية الآخرين، وقد يدعوا إلى شيء من التنازل من قبلنا مقابل مل ندعوهم إليه، من ترك للعقائد الباطلة والعبادات المخترعة .... وقد يتكلم بكلام عام عن أننا ندين بالإسلام فحسب، وما هناك ثم مذهب أو عقيدة خاصة ضمنه. وليس الذي ذهب غليه هؤلاء الناس بصواب أبداً، فإن عقيدة أهل السنة والجماعة وعبادتهم هي الصحيحة ليس غير ..... وإنما أطلق السلف هذا المصطلح على مذهبهم وسموا أتباعه الحقيقين (أهل السنة والجماعة) تمييزاً لهم عن عقائد وأعمال طوائف الابتداع. وقد يظن بعض الناس أن الجزم بالصواب مسالة نسبية فكل ذي عقيدة محدثة وعبادة مخترعة، يجزم بأنه الأصح الأقرب إلى الحق، ويبتعد بعمله هذا ن ويرى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 نفسه أنه على صواب كما نرى أنفسنا، ولذلك يدعو إلى صلح بين الطرفين وإلى قرار متبادل متقابل. وهذا بدوره خطأ آخر فإننا لا نصدر عن آراء عقلية، أو اذواق نفسية أو أهواء بشرية حتى نطالب بعدم الجزم بصحة عقيدة وبعادة أهل السنة والجماعة، لأن عقيدتهم وعبادتهم مأثورات وأخبار مسندة مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم - برواية الثقات العدول -، يشهد على صحتها العقل القوي والقلب السليم، والفطرة المستقيمة. ومن اجل هذا كله نجد في النصوص الشرعية والأخبار الماثورة عن السلف الحرص على صيانة المنهج العلمي والعلمي، من كل دخيل سواء كان من المسلمين بالغزو الفكري والتدنيس الثقافي، أم من داخل المسلمين بالإبتداع دين الله أوبالابتعاد عنه، بيد أن من أشنع أنواع الحروب وأفظع أنواع تلك التي حدثت بالإبتداع في دين الله وظهرت للناس مستترة بإسم الدين تحت ستار التعبد لله , فحصل منها التفرق والعداء والشتات والبغضاء على الناس تبين الحق وضطرب عندهم ميزان الصدق واليقين. أماالحروب الأخرى التي يكاد بها دين الله فإن أمرها الغالب وعدائها بين سافر ولذلك يأخذ المسلمون جميعا - في الأعم - وأسلحتهم. هذا هو شأن البدع في الإعتقاد والعمل وخطورتها وهو أحد التي حفزتني للكتابة في هذا الوضوع. وسبب آخر هو أنني رأيت وطلبة العلم خاصة , في مسألة البدع على طرفي نقيض , فهذا متساهل ما استحسنه من المحدثات يجوز عمله , وأن لم يكن له أصل في الدين يتهاون في شأن البدعة والمبتدعة , ولا يرى منها أي خطورة تذكر ولا أي عيب يشينه , بل ربما رأى الكلام عن خطورة البدع وأهلها وترف العلم ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وذاك متشدد يحكم على كل ما لم يألفه , أو يوافق مسلكه بالإبتداع حتى لربما أدخل في البدع بعض المعاصي والمخالفات الشرعية , التي لا يطاق عليها بدع من الجهة الشرعية , وربما أدخل في البدع الشرعية بعض المبتكرات العلمية , والإكتشافات التجريبية , وبالتالي يغالي في الحكم على المبتدعة , ويتجاوز الحدود الشرعية في شأنهم من حيث بغضهم , والتحذير منهم , أو موالاتهم أو معاونتهم على الكافر , ونحو ذلك من العلاقات. وربما بلغ الغلو في شأن البدعة والمبتدعة، نسيان أهل الكفر الصراح وعدم الالتفات إلى خطورتهم وأساليبهم الماكرة، والحق بين طرفي الإفراط والتفريط، وقد جلست إلى بعض الفضلاء المشهورين بالعلم أستشيره في موضوع البدعة، وقد وضعت خطة أولية لطلب أن أقرأ عليه الخطة فلما وصلت إلى ذكر مفهوم البدعة عند غير أهل السنة، صاح بي منكراً وجود معنى أو تعريف للبدعة عند غير أهل السنة. ولما وصلت على ذكر أقسام البدعة أنكر أن تكون البدعة ذات أقسام، فلما بينت له هدأ فتبين لي أن موضوع البدعة بالشكل التأصيلي، غير واضح عند بعض أهل العلم، فكيف بمن هم دون ذلك؟. وسبب ثالث لاختياري هذا الموضوع هو أنني نظرت في الكتب المؤلفة في البدعة فرأيت بعضها اختص برواية الأخبار والآثار، وبعضها اختص بذكر أنواع من المحدثات، من غير اهتمام مجالات البدعة وأقسامها وأحكامها على شكل قواعد وأصول، يستوي في ذلك المؤلفات القديمة والجديدة. نعم، هناك علماء اهتموا بوضع القواعد في أمر البدع، بعد إستقراء النصوص الشريعة وفهم السلف لها وأقوالهم فيها ن وهم قسمان: الأول: لم يخصص لهذه القواعد مصنفاً، بل تركها مبثوثة في مؤلفاته، ومن هذا القسم جماعة من العلماء قديماً وحديثاً، وعلى رأسهم أبو العباس تقي الدين ابن تيمية - رحمه الله - الذي تربع على كرسي الأستاذية - وهو به جديد - بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أن أفنى شطراً من عمره في جمع علم السلف، وتتبع آثارهم في الأبواب الخيرية والطلبية، ونظراً في أصحاب المقالات، وسير أغوار أهل العبادة، والإدارة ... فجمع بين العلم بالشرع، والعلم بأحوال أهل البدع، فأصبح الإمام المجتهد والمتدبر للآثار بفكر ثاقب، وذكاء نادر، وحافظة واعية، وخبرة طويلة، وممارسة أصلية، وشجاعة نادرة ... مع معرفة عميقة بمقالات وأحوال أهل الابتداع، فكان بذلك الإمام القادر على الأخذ والرد في مضمار العقيدة وغيرها، والحجة الثبت الذي يعاد إلى أقواله ويحتج بآرائه، فهو بحق واضع قواعد وأصول الاعتقاد والعمل على حسب ما كان عليه السلف. ومن أجل ذلك اعتمدت في بحثي هذا على اقواله كثيراً، وإن كانت أقواله فيما يختص بمسالة البدعة وأحكامها ليست مجموعة في مكان واحد، بل متنأثرة في سائر مصنفاته - رحمه الله تعالى. القسم الثاني: من خصص لقواعد النظر والحكم على البدعة مصنفاً واحداً وجمعها في مؤلف واحد. ولم أطلع - بحسب علمي الناقص - على مؤلف يضاهي الاعتصام لأبي اسحاق الشاطبي - رحمه الله تعالى - ولذلك اعتمدته كثيراً في هذا البحث، فقد كان المجلي في هذا المضمار، فوضع القواعد ووضع الأمور وأجلى الحقائق، إلا أنه لم يسلم مما لا يسلم منه بشراً!!! فقد كانت روايته للحديث والآثار ليست على درجة كبيرة من الإتقان، مما أدى إلى وضع بعض القواعد بناء على أحاديث ضعيفة كبيراً لا أصل لها. ولم يتعرض في كتابة لكل القواعد والأحكام المتعلقة بالبدعة والمبتدع ولعل في الجزء المفقود من الكتاب استكمالاً لبعض هذا النقص، وأما المطبوع من هذا الكتاب فعلى كثرة الأغلاط فيه نجد أن مؤلفه - رحمه الله - ترك بعض القواعد المهمة في قضايا الابتداع، وخصوصاً في الحكم على البدعة والمبتدع، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 يكن عرض لشيء من هذا فعلى سبيل الإلماح العابر. وهكذا نرى أن البدعة من ناحية تعريفها وأقسامها وأحكامها ودواعيها وأسبابها وطرق مكافتحها، لم تبحث بحثاً مستقلاً يجمع شوارد هذا الموضوع المهم ويقيد أوابده. فمن أجل هذه الأسباب وغيرها ن مما يتعلق بمرادي وقصدي الباطن اخترت هذه الموضوع بعنوان: · حقيقة البدعة وأحكامها: وعلمت فيه على ضوء الخطة التالية المكونة من مقدمة، ومدخل، وثلاثة أبواب وخاتمة. المقدمة: وفيها أسباب اختياري لهذا الموضوع ن ومنهجي وخطواتي في البحث. المدخل: مقسم على خمسة عناصر: الأول: شروط العمل المقبول. الثاني: الاعتصام بالسنة. الثالث: ذم البدع. الرابع: لمحة تاريخية لظهور البدع في الأمة الإسلامية، وأسبابا ذلك وموقف السلف منها. الخامس: نبذة موجزة لبعض المؤلفات في البدعة، ودراسة موجزة لأهمها. الباب الأول: في تعريف البدعة ومفهومها عند أهل السنة وغيرهم وتحته ثلاثة فصول: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 الفصل الأول: أ- المعنى اللغوي للبدعة. ب- المعنى الإصطلاحي للبدعة إجمالاً. الفصل الثاني: مفهوم البدعة عند أهل السنة وأدلتهم. الفصل الثالث: مفهوم البدعة عند غير أهل السنة، وشبههم ومناقشتها. الباب الثاني: في اقسام البدعة وتحته خمس فصول: الفصل الأول: البدعة الحقيقية والإضافية. الفصل الثاني: البدعة المتعلقة بالفعل والشرك. الفصل الثالث: البدعة المتعلقة بالعقائد والاحكام. الفصل الرابع: البدعة المتعلقة بالعبادات والمعاملات. الفصل الخامس: البدعة المتعلقة بالحسن والقبح والمصالح المرسلة. الباب الثالث: في حكم البدعة والمبتدع وتحته أربعة فصول: الفصل الأول: حكم البدعة ذاتها، والبدعة على قسمين: إما مكفرة، وإما مفسقة. الفصل الثاني: حكم المبتدع وهذا مقسم إلى ثلاثة عناصر: الأول: حكم الجاهل والمتأول. الثاني: حكم العالم وغير المتأول. الثالث: حكم الداعي لبدعة. الفصل الثالث: لازم القول هل يقتضي التبيديع؟ الفصل الرابع: توبة المبتدع. الخاتمة: وفيها عرض موجز للبدع في العصر الحاضر ووسائل تغييرها، ونتائج البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 هذا وقد بدأت بجمع الكتب التي تحدثت عن البدعة، وقرأت معظمها، ركزت على مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وبعض مؤلفات ابن القيم، وكتاب الاعتصام، وكنت أثناء ذلك أجمع الشوارد في البحث من الكتب التي تقع في يدي في التفسير أو التاريخ أو التراجم أو الفقه، غير ما تعمدت البحث عنه في هذه الفنون وغيرها، وسافرت إلى مصر لأستطلع ما كتب في هذا الموضوع، فما عدت بطائل، سوى أنني أحضرت كتب خطاب السبكي، وكتاب عثمان فودي، واستطعت أن أطلع على آراء كثير من المبتدعة في فهمهم للبدعة. وبعد ذلك قمت بالنظر في كتب الاعتقاد الواردة على طريقة الأسانيد: كالشريعة، وكتاب الألكاني، والإبانة، والسنة لعبد الله بن أحمد، والسنة لإبن أبي عاصم، وغيرها كثير، وجمعت منها الآثار والأحاديث التي تتعلق بموضوع البحث، وقد استغرق مني جمع المادة العلمية مدة طويلة، ثم بدأت بالكتابة في الموضوع سائراً وفق الترتيب الذي في الخطة إلا في النادر. · وقد حرصت أثنا كتابتي على الترابط المنهجي بين جمل الفصل الواحد ومقدراته، وترابط الفصل مع الباب ومع الموضوع كله. · وحرصت ايضاً على توثيق كثير من المعلومات بالنقل تارة، وبالاقتباس تارات وهذا هو سبب كثرة الإحالات في الهامش. فإن كان النقل حرفياً له علامة تنصيص فإن احتجت إلى حذف شيء من النص وشعت نقاطاً للدلالة على ذلك، أو قلت: إلى أن قال، والثاني أكثر، واشير في الهامش إلى مكان النقل ذاكراً اسم الكتاب والجزء والصفحة. · إذا نقلت بالمعنى أو تصرفت في النص المنقول كثيراً أو أردت الإحالة للتوسع والاستزادة كتبت في الهامش: أنظر كتاب كذا جزء كذا صفحة كذا. · عند تخريج الحديث أذكر إسم الكتاب والباب والجزء والصفحة، إذا كان من البخاري، أو مسلم، أو أبي داود، أو الترمذي، أو النسائي، أو ابن ماجة، أو الدارمي، أو مؤطأ مالك، وما عداها أذكر الجزء والصفحة فقط كالمسند، والحاكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 · حرصت على ذكر درجة الحديث - إذا لم يكن في الصحيحين أو أحدهما - وذلك بنقل كلام العلماء المهتمين بالحكم على الأحاديث قديماً أو حديثاً، ما عدا ما بعض الأحاديث التي درستها دراسة خاصة مستعيناً بأقوال العلماء أيضاً - في تأييد ما ذهبت إليه. · أما الآثار فأخرجها من الكتب التي أوردتها من غير حكم عليها. · ميزات الآيات بجعلها بين () ، والأحاديث بجعلها بين " "، والآثار بجعلها بين () ، سواء داخل النصوص أو خارجها .... · وقد أقول في الهامش عند بعض الأحاديث الواردة في صلب البحت: سبق تخريجه أو أنظر فهرس الأحاديث المخرجة. · ترجمت للأعلام، وعرفت بهم، وذكرت مصادر ترجمة كل واحد منهم في ذيل ترجمته. · تركت ترجمة الأسماء المشهورة، كالأنبياء، والخلفاء الراشدين، ومشاهير الصحابة مثل عائشة، وابن مسعود، وأبي هريرة، وأصحاب الكتب الستة والأئمة الأربعة، وابن تيمية، وابن القيم. · وقد أقول في الهامش عند بعض الأسماء المذكورة في صلب البحث: سبقت ترجمته، أو ستأتي أو انظر فهرس الأعلام المترجمة، وقد اترك ذلك. · عزوت الشعر - وهو قليل جداً - إلى قائله، واثبت مصادره. · شرحت الألفاظ الغربية، وذكرت مصدرها. · قمت بعمل الفهارس التوضيحية الآتية: 1- فهرس للآيات. راعيت فيه ترتيب الآيات والسور، كما في المصحف الشريف. 2- فهر س للأحاديث، والآثار المخرجة في البحث مراعياً فيه الترتيب الهجائي، بناء على أول كلمة وردت في البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3- فهرس للأعلام المترجم لهم، مرتب على حروف المعجم. 4- فهرس للأسماء المراجع والمصادر، الواردة في البحث مرتبة هجائياً. 5- فهرس للموضوعات. ولا أدعي بأنني قد أتيت بما لم تستطعه الأوائل، وإنما من نورهم ما قبست، ومن عملهم ما ألفت، وما أنا إلا من أبناء هذا الزمان الذي نقص فيه العلم والعمل، والمرء بعصره أشبه. ولست أقول إلا ما قاله أبو إسحاق الشاطبي - رحمه الله - في كتاب الاعتصام: (فالإنسان وإن زعم في الامر أنه أدركه وقتله علماً لا يأتي عليه الزمان إلا وقد عقل فيه مالم يكن عقل، وأدرك من عمله مالم يكن أدرك قبل ذلك، كل يشاهد ذلك من نفسه عيناً. وفي الختام: أحمد الله على توفيقه وعونه لي، وأشكره سبحانه، وهو أحق من شكر وأثنى عليه الخير كله، وهو أهل الثناء والحمد، ثم اشكر شيخي الفاضل وأستاذي النبيل الدكتور ناصر بن عبد الكريم العقل الذي شرفت بالتتلمذ عليه من خلال هذه الرسالة، وأفدت من علمه وخلقه فلقد كان - والحق يقال - حريصاً على، ومتباعاً لي بصورة لو وصفت لكانت أنموذجاً مع ما حباه الله من كريم خلق وجميل وتعامل. يا أيها المحسن المشكور من جهتي والشكر من قبل الإحسان لا قبلي فاسأل الله العلي العظيم، أن يجزيه عني خير ما جزى أستاذاً عن تلامذته.. كما أشكر كل من مد لي يد العون في هذا البحث، وأخص بالذكر والدي- حفظه الله - والأخ: محمد بن ناصر الغامدي وسائر الأحبة الذين تفضلوا بمساعدتي ... أسأل الله تعالى أن يجزيهم عني خير الجزاء، وأن يجزل مثوبتهم، ويعلى درجتهم إنه ولي ذلك والقادر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 مدخل كتاب البدعة شروط العمل المقبول: منذ أن خلق الله الإنسان أوجد فيه القلب والعقل، والعاطفة والفكر، ووهبه القدرة والإرادة، أمره وزوجه أن يسكنا الجنة، ونهاهما عن أكل الشجرة، وكان أمره - سبحانه - ووهبه لمقتضي ألوهيته وربوبيته على من كانت مقتضابات بشريته وآدميته محلاً صالحاً للعبودية التامة. ومن أول وهلة نجد أن هذه الحقيقة التي تثبتها عقيدة الرسل الكرام - عليهم السلام - ابتداء، تقول لنا: إن هذا بيان حاسم للتفريق بين ألوهية الباري - سبحانه وتعالى - المقتضيه للخلق والامر، كما يشاء وفق عمله وحكمته، وبين عبودية الخلق المقتضيه للسمع، والانقيادة، وفق التركيب الرباني الموجود في بنى الإنسان المتجلي في الإدارة والقدرة. ومن هنا تتقرر قاعدة الجد والقصد، والحق في بناء هذا الكون بالتفريق بين حقيقة الألوهية بحقوقها ولوازمها، وبين حقيقة العبودية بحدودها وضوابطها، وما يترتب على هاتين الحقيقتين من علامات وصفات ونتائج. وهذه هي البداية الأولى لقضية التوحيد بالنسبة للبشر في الأرض، بدات من آدم - عليه السلام - أبي البشر مروراً بالانبياء والمرسلين - عليهم السلام - حتى قيام الساعة، تحددت بها مهمة الإنسان في هذا الوجود واتضحت وظيفته في هذه الحياة. (فالإنسان وكل مخلوق فقير إلى الله بالذات، وفقره من لوازم ذاته ن يمتنع أن يكون إلا فقيراً إلى خالقه، وليس أحد غنياً بنفسه إلا الله وحده، فهو الصمد الغني عما سواه وكل ما سواه فقير إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فالعبد فقير إلى الله من جهة ربوبيته، ومن جهة إلهيته ... ) ذلك (أن الله خلق الخلق لعبادته الجامعة لمعرفته والإنابة إليه، ومحبته، والإخلاص له ... وحاجتهم غليه في عبادتهم إياه، وتألهم كحاجتهم وأعظم في خلقه لهم وربوبيته إياهم، فإن ذلك هو الغاية المقصودة لهم وبذلك يصيرون عاملين متحركين، ولا صلاح لهم ولا فلاح، ولا نعيم، ولا لذة بدون ذلك بحال، بل من أعرض عن ذكر ربه فإن له معيشة ضنكا ونحشره يم القيامة أعمى) . وهذه الوظيفة، وهذه المهمة للإنسان في الحياة الدنيا، هي التي من أجلها أنزل الله الكتب وأرسل الرسل. فالرسل إنما دعوا إلى: (إياك نعبد وإياك نستعين) فإنهم كلهم دعوا على توحيد الله وإخلاص عبادته من أولهم إلى آخرهم. فقال نوح: (اعبدوا الله مالكم من إله غيره) وكذلك قال هود وصالح شعيب وإبراهيم. قال الله تعالى: (ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبد الله واجتنبوا الطاغوت) وقال: وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا غله غلا أنا فاعبدون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 حقيقة العبادة في الإسلام: وبعد أن تقرر أن العبادة هي الوظيفة الأولى والأساسية للإنسان في هذه الحياة بأتي تقرير معنى العبادة التي شرعها الله لنا، وتحديد مجالاتها وصفاتها. ذلك أن العبادة ليست في حياة الإنسان أمراً هامشياً، أو قضية ثانوية، بل إنها هي المبدأ الأول لوجوده، والغاية الأصلية لحياته. وقد ساد بين الناس مفاهيم خاطئة للعبادة، صرفت عقولهم وقلوبهم وأعمالهم عن هذه الوظيفة التشريفية التي خلق الله الإنسان من أجلها، وسخر له كل شيء في نفسه وفي الكون حوله، ليقوم بها وفق أمر خالقه، وعند تأمل القرآن الكريم والسنة النبوية وما تحويه من أخبار وأوامر ونواهي ووعد ووعيد، نجد أنها كلها تدور حول تقرير ألوهية الله - سبحانه وتعالى - وعبودية الإنسان له. فإذا كان خلق الإنسان وتسخير الكون له، وإيجاد العقل والقلب والإرادة فيه، وإرسال الرسل, وإنزال الكتب وخلق الجنة والنار، وقبل ذلك وبعده ما تقتضيه صفات الباري - جل وعلا - من كونه في ذاته وأفعاله - سبحانه وتعالى - حكيماً عليماً ن خلق كل شيء فقدره تقديراً، لم يخلق شيئاً عبثاً ولم يوجد شيئاً لغير حكمة. وإذا كان القرآن المجيد، وما فيه من أخبار وأوامر ووعد ووعيد، جاء لأجل هذه المهمة العظيمة، ألا وهي تعبيد الخلق كلهم لله سبحانه. فكيف يصح حينئذ أن يتصور أن العبادة هي النية النقيدة وحسب، أو أنها الشعائر التعبدية فقط، أو أنها لبعض نشاطات الإنسان دون بعض، أو لبعض أحواله وأفعاله دون بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 بل إن دائرة العبادة التي خلق الله لها الإنسان ن وجعلها غايته في الحياة، ومهمته في الارض، دائرة رحبة لا حبة واسعة،: إنها تشمل شؤون الإنسان كلها، وتستوعب حياته جميعاً، وتستغرق كافة مناشطه وأعماله. وبهذا المعنى الشامل، فهم السلف الصالح عبادة الإنسان فرداً كان أو جماعة. وقد لخص هذا المعنى الشامل للعبادة، وحدد ماهيتها شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى - حين قال (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة) . وبهذا التعريف الجامع لا يمكن أن يخرج أي شيء من نشاطات الإنسان وأعماله، سواء كان في ذلك العبادات المحضة، أو في المعاملات المشروعة، أو في العاديات التي طبع الإنسان على فعلها. أما في العبادات والمعاملات المشروعة فإنها مما يحبه الله ويرضاه، وهذا أمره الشرعي الدائر بين الأحكام الخمسة التي اصطلح عليها الفقهاء. أما في العاديات فالذي لم يحد منها بأوامر الشرع، ولم يقيد بأحكامه على وجه الخصوص، فإنه لا يخرج عن كونه داخلاً تحت عمومات الشرع باعتبار عبودية الإنسان في كل أحواله لله سبحانه، وباعتبار أن (العادات لها تأثير عظيم فيما يحبه الله، أو فيما يكرهه، فلهذا أيضاً - جاءت الشريعة بلزوم عادات السابقين الأولين في أقوالهم وأعمالهم وكراهة الخروج عنها على غيرها من غير حاجة) . وإن كان ينبغي لنا هنا الإشارة في العبادات المحضة المنع، حتى يرد ما يدل على مشروعيتها، وأن أصل العادات العفو حتى يرد ما يدل على منعها، وذلك مبنى على (أن تصرفات العباد من الأقوال والأفعال نوعان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عبادات يصلح بها دينهم، وعادات يحتاجون إليها في دنياهم) . فباستقراء أصول الشريعة نعلم أن العبادات التي أوجبها الله، أو أحبها لا يثبت الأمر بها إلا بالشرع. وأما العادات فهي ما اعتاده الناس في دنياهم مما يحتاجون إليه، والأصل فيه عدم الحظر، فلا يحظر منه إلا ما حظره الله سبحانه وتعالى. وذلك لأن الأمر والنهي هما شرع الله، والعبادة لا بد أن تكون مأموراً بها، فما لم يثبت أنه مأمور به، كيف يحكم عليه بأنه عبادة؟!. ومالم يثبت من العبادات أنه منهي عنه، كيف يحكم عليه بأنه محظور؟! . والعادات الأصل فيها العفو، فلا يخطر منها إلا ما حرم.) وهذا التقسيم في الحظر والإباحة لا يخرج شيئاً من أفعال الإنسان العادية من دائرة العبادة لله، ولكن ولم يختلف في درجته ما بين عبادة محضة وعادة مشوبة بالعبادة، وعادة تتحول بالنية والقصد إلى عبادة. كما قال ابن حجر ( ... المباحات يؤجر عليها بالنية إذا صارت وسائل للمقاصد الواجبة، أو المندوبة أو تكميلاً لشيء منهما) . وقال النووي في شرحه لحديث: " وفي بضع أحدكم صدقة "، " وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات ". وقال الغزالي: (وما من شيء من المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات، وينال بها معالي الدرجات ـ فما أعظم خسران من يغفل عنها، ويتعاطاها تعاطي البهائم المهملة عن سهو وغفلة، ولا ينبغي أن يستحقر العبد شيئاَ من الخطرات والخطورات واللحظات، فكل ذلك يسأل عنه يوم القيامة أنه لم فعله وما الذي قصد به ..... ) . وقد مثل ابن تيمية - رحمه الله - للعبادة بعد أن عرفها بقوله: (فالصلاة والزكاة والصيام، والحج، وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الارحام، والوفاء بالعهود، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد للكفار والمنافقين، والإحسان على الجار، واليتيم، والمسكين، وابن السبيل، والمملوك من الآدميين، والبهائم، والدعاء والذكر، والقراءة، وأمثال ذلك من العبادة) . وعد - رحمه الله - من العبادة الأعمال القلبية: كالحب، والخشية، والإخلاص، والصبر , والشكر، والرضا، والتوكل، والرجاء، والخوف .... بل وسع المعنى العبادي حين عد كل ما أمر الله به من الأسباب عبادة فقال - رحمه الله: (فما أمر الله به عباده من الأسباب فهو عبادة ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (فالذين على ذلك كله داخل في العبادة، والدين منهج الله جاء ليسع الحياة كلها، وينظم جميع أمورها من أدب الأكل والشرب، وقضاء الحاجة، إلى بناء الدولة، وسياسة الحكم، وسياسة المال، وشؤون المعاملات، والعقوبات وأصول العلاقات الدولية في السلم والحرب ... إن الشعائر التعبدية من صلاة وسوم، وزكاة لها أهميتها، ومكانتها، ولكنها ليست العبادة كلها بل هي جزء من العبادة التي يريدها الله تعالى. إن مقتضي العبادة المطالب بها الإنسان، أن يجعل المسلم أقواله وافعاله وتصريفاته وسلوكه وعلاقاته مع الناس، وفق المناهج والأوضاع التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، يفعل ذلك طاعة لله واستسلاماً لأمره .... ) . والدليل على هذا المفهوم الشامل للعبادة، من الكتاب والسنة وفعل الصحابة رضوان الله عليهم: فأما من القرآن الكريم فقوله - تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) . (وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون) . (فل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين) لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) . (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) . ومن السنة أحاديث كثيرة، بعضها في عموم العادات بدون تخصيص، وبعضها الآخر في أفراد السلوك العادي، وفي هذا الأخير دليل وتنبيه على المعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 العام المقصود إثباته هنا .... فمن ذلك: · قوله - صلى الله عليه وسلم: " خير الكسب كسب يد العامل ". · وقوله - صلى الله عليه وسلم: " خيركم من أطعم الطعام ورد السلام ". · وقوله - صلى الله عليه وسلم: " ... وفي بضع أحدكم صدقة ... " الحديث. · وقوله - صلى الله عليه وسلم: " إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقه، وهو يحتسبها كانت له صدقة ". · وأيضاً ما رواه أحمد من حديث عمرو بن أمية الضمري، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما أعطى الرجل إمرأته فهو صدقة ". · ومثله قوله - صلى الله عليه وسلم: " ما أطعمت زوجتك فهو لك صدقة، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة، وما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ". · وبمعناه قوله - صلى الله عليه وسلم: " كل ما صنعت إلى أهلك فهو صدقة عليهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 · وبمعناه في مسلم من حديث ابي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " دينار أنفقته في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمها أجرا ًالذي أنفقته على أهلك ". · وفي المسند من حديث جابر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " من غرس غرساً فأكل منه إنسان أو طير أو سبع أو دابة فهو له صدقة ". · وفيه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم أنه قال: " من من رجل يغرس غرساً إلا كتب الله عز وجل له من الاجر، قدر ما يخرج من ثمر ذلك الغراس ". · وبمعناهما قوله - صلى الله عليه وسلم: " من غرس غرساً لم يأكل منه آدمي ولا خلق من خلق الله غلا كان له صدقة ". · وفي الصحيحين ومسند أحمد، عن ابي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم قال: " كلا سلامي من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس تعدل بين الاثنين صدقة، وتعين الرجل على دابته فيحمل عليها، أو ترفع له متاعه صدقة، والكلمة الطيبة صدقة ن وكل خطوة تخطوها إلى الصلاة صدقة، ودل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 الطريق صدقة، وتميط الأذى عن الطريق صدقة". · وعن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " كل معروف صدقة، وإن من المعروف أن تلقي أخاك ووجهك إليه منبسط , وأن تصب من دلوك في إناء جارك ". · وقوله - صلى الله عليه وسلم: " دخلت إمرأة النار في هرة، ربطتها فلم تطعمها، ولم تدعها تأكل من خشاش الأرض حتى ماتت ". وأما الاستدلال على عموم العبادة وشمولها لحياة الإنسان بفعل السلف وفهمهم.. ففيما رواه البخاري في صحيحه أن أبي بردة في قصة بعث ابي موسى ومعاذ إلى اليمن، وفي آخره وقال أبو موسى لمعاذ: فكيف تقرأ أنت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 يا معاذ؟ قال (أنام أول الليل فاقوم وقد قضيت جزئي من النوم، فأقرأ ما كتب الله لي فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي) . وفي لفظ آخر أن معاذاً قال: ( ... أما أنا فأقوم وأنام، وأرجو في نومتي ما أرجو في قومتي) . قال ابن حجر: (ومعناه أن يطلب الثواب في الراحة، كما يطلبه في التعب ". و"وأنه يرجو الأجر في ترويح نفسه بالنوم ... وأن المباحات يؤجر عليها بالنية ... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 أساس العبادة وشروط قبول العمل أساس العبادة ودعائمها: اختلفت الأقوال في تحديد العبادة المطالب بها الإنسان، فقد جعل قوم أن ( .... أصل العبودية الخضوع والتذلل) . أو (غاية التذلل ولا يستحقها إلا من له غاية الإفضال وهو الله تعالى) . وقد استخرج هؤلاء هذا المعنى من قول العرب: (طريق معبد أي مذلل بالوطء وبعير معبد مذلل بالقطران ... ) . وجعلوا بذلك معنى الدين هو: (الذل أو القهر) . وهؤلاء خلطوا بين العبودية العامة التي هي: (عبودية أهل السماوات والأرض كلهم لله، برهم وفاجرهم مؤمنهم وكافرهم، فهذه عبودية القهر والملك ... (إن كل من في السماوات والأرض إلا ءاتى الرحمن عبداً) ، فهذا يدخل فيه مؤمنهم وكافرهم) . وبين العبودية الخاصة التي هي: عبودية الطاعة والمحبة الأوامر، قال تعالى: (يا عباد لا خوف عليكم اليوم ولا أنتم تحزنون) . وهناك من جعل العبادة بمعنى الحب فقط وهؤلاء هم المتصوفة الذين ذكر شيخ الإسلام انه: ( ... وجد في المتأخرين من انبسط في دعوى المحبة حتى أخرجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ذلك على نوع من الرعونة والدعوى التي تنافي العبودية وتدخل العبد في نوع من الربوبية التي لا تصلح إلا الله - إلى أن قال - وهذا باب وقع فيه كثير من الشيوخ، وسببه ضعف تحقيق العبودية التي بينتها الرسل، وحررها الأمر والنهي الذي جاءوا به بل ضعف العقل الذي به يعرف العبد حقيقته) . وهؤلاء الذين جعلوا أصل عبادتهم المحبة: ( ... سلكوا في دعوى حب الله أنواعاً من أمور الجهل بالدين، إما من تعدي حدود الله، وإما من تضييع حقوق الله، وإما من ادعاء الدعاوي الباطلة التي لا حقيقة لها ... والذي توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل، وكان هذا أصل مقصدهم ... ". وهناك من جعل أصل عبادته (الخوف) من الله - سبحانه وتعالى - وهؤلاء هم الخوارج الحرورية فقد كانوا يتشددون في أمر الذنب والمعاصي، حتى كفروا المسلمين، وأوجبوا لهم الخلود في النار. وهنا من عكس فجعل أصل العبادة عنده (الرجاء) وهؤلاء هم المرجئة الذين يجعلون مجرد القول كافياً لحصول العبودية والإيمان، وكل هؤلاء جانبوا الصواب في معرفة أصل العبودية لله - سبحانه وتعالى - بل أخذ كل واحد منهم بجزء من الصواب، وأهمل الأجزاء الأخرى. ولهذا فقد جمع شيخ الإسلام بين هذه الدعائم: الذل، والحب، والخوف، الرجاء مقرراً بذلك قول أهل الحق والعلم، أهل السنة والجماعة من خلال استقراء نصوص الشريعة، وأحوال السلف الصالح، وانتقد من جعل واحداً منها فقط هو أصل العبادة فقال - رحمه الله تعالى: (والمقصود وهو أن الخلة والمحبة لله تحقيق عبوديته وإنما يغلط في هذه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 حيث يتوهمون أن العبودية مجرد ذل وخضوع فقط لا محبة معه، أو أن المحبة فيها انبساط مع الأهواء، أو إدلال لا تحتمله الربوبية ... ) . ثم نقل عن بعض السلف قوله: (من عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروري، ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن موحد. فأصل العبادة عند السلف ومن افتقى أثرهم، تتجاوز المعنى اللغوي الذي يدل على أصل استخدام لفظة (الدين والعبادة) إلى معنى آخر مأمور به من الشرع الحكيم. قال شيخ الإسلام بعد أن ذكر الأصل اللغوي للدين والعبادة: (لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل ومعنى الحب فهي تتضمن غاية الذل لله بغاية المحبة له) . وقال: (والإله هو المعبود الذي يستحق غاية الحب والعبودية بالإجلال والإكرام والخوف والرجاء ... ) . وينص ابن القيم - رحمه الله - على أن: (العبادة تجمع أصلين غاية الحب بغاية الذل والخضوع) . ودعائم هذه العبادة التي تنتظم أعمال الإنسان كلها: القلبية، والعملية الفردية والجماعية: المحبة والخوف والرجاء. وقد جعل ابن القيم هذه الثلاث في قلب المؤمن: ( ... بمنزلة الطائرة فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء جناحاه، فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائرة، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ونقل - رحمه الله - عن غيره مثلاً آخر لهذه الدعائم العبادية الأساسية فقال: ( ... أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف وغلبة الحب، فالمحبة هي المركب والرجاء حاد والخوف سائق..) . فهذه هي العبادة، وهذا معناها الشامل، وهذه هي أصولها ودعائمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 * الإنسان عامل مريد * الإنسان بطبعه الذي خلقه الله عليه مريد وعامل، وهو ما أخبر به الصادق - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " أصدق الأسماء حارث وهمام ". (فكل أحد حارث وهمام له عمل ونية) . (إذ كل إنسان لابد له من حرث، وهو العمل، وله هم وهو أصل الإرادة. والنفس بطبعها متحولة، فإنها حية، والإرادة والحركة الإرادية من لوازم الحياة. لكن سعادتها ونجاتها إنما تتحقق بأن تحي الحياة النافعة الكاملة، (فلما كان من طبع النفس اللازم لها: وجود الإدارة والعمل، إذا هو حارث همام، فإن عرفت الحق وأرادته وأحبته وعبدته فذلك من تمام إنعام الله عليها، وإلا فهي بطبعها لا بد لها من مراد معبود غير الله ومرادات سيئة تضرها، فهذا الشرقد تركب من كونها لم تعرف ولم تعبده .... ومن كونها لا بد لها من مراد معبود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فعبدت عيره وهذا هو الشر الذي تعذب عليه ... ) . وبهذا بوب البخاري - رحمه الله تعالى - واستدل بقوله - تعالى: (فأعلم أنه لا إله إلا الله ... ) . قال ابن حجر في شرحه لقول البخاري: باب العلم قبل والعمل نقلاً عن غيره ... (أراد به ألأن العلم شرط في صحة القول والعمل، فلا يعتبران إلا به فهو متقدم عليهما، لأنه مصلح للنية المصلحة للعمل) ، وأرد الحافظ أبو نعيم بسنده أن سفيان بن عينية، سئل عن فضل العلم، فقال: (ألم تسمع إلى قوله حين بدأ به فقال: (فأعلم أنه لا إله إلا الله) ثم أمره بالعمل فقال: (واستغفر لذنبك) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (ومن المعلوم أن الله أن الله خلق في النفوس محبة العلم دون الجهل، ومحبة الصدق دون الكذب، ومحبة النافع دون الضار، وحيث دخل ضد ذلك فملعارض من هوي وكبر وحسد ونحو ذلك ... ) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 فالإنسان مفطور على حب العلم وكراهة ضده، مالم تنحرف فطرته، والعبادة وظيفته في الحياة، والعلم هو الطريق لهذه العبادة بل ( .... العلم أصل العمل وأصل الإدارة والمحبة وغير ذلك .... ) . ( ... فإن العلم شجرة والعمل ثمرة .... وقيل العلم والد، والعمل مولود، والعلم مع العمل، والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ... ) . ويد بوب ابن القيم في كتابه مفتاح درا السعادة باباً بعنوان: (الأصل الأول في العلم وفضله وشرفه وبيان عموم الحاجة إليه وتوقف كما العبد ونجاته في معاشه ومعاده عليه ... ) . فإذا كانت هذه هي منزلة العلم ومكانته، فما علاقته بالعبودية؟ . إن التلازم بين العلم والعبادة من الأمور المعلومة في هذا الدين القويم بالإضطرار وها هو ابن القيم يصف هذا التلازم فيجعل للعبودية مراتب بحسب العلم والعمل، فأما مراتبها العملية فمرتبتان: إحداهما: العلم بالله. والثنية: العلم بدينه. فأما العلم به سبحانه، فخمس مراتب: العلم بذاته، وصفاته، وأفعاله، وأسمائه، وتنزيهه عما لا يليق به. والعلم بدينة مرتبتان: إحداهما: دينة الأمري الشرعي، وهو صراطه المستقيم الموصل إليه. والثانية: دينة الجزائي المتضمن ثوابه وعقابه، وقد دخل في هذه العلم: العلم بملائكته وكتبه ورسله .... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وقال ابن تيمية - رحمه الله - في هذا المعنى: (وأما العلم فيراد به في الأصل نوعان: أحدهما: العلم به نفسه وبما يتصف به من نعوت الجلال والإكرام، وما دلت عليه أسماؤه الحسنى. وهذا العلم إذا رسخ في القلب أوجب خشية الله لا محالة، فإنه لا بد أن يعلم أن الله يثبت على طاعته ويعاقب على معصيته، كما شهد به القرآن والعيان ..... ) إلى أن قال: (والنوع الثاني يراد بالعلم بالله، العلم بالأحكام الشرعية .... ) . وحصول السعادة في الدنيا والآخرة مرهون بالدخول من باب الإرادة الموصل إلى رضوان الله - سبحانه - وفتح باب الإرادة لا يكون إلا بالعلم كما قرر ذلك ابن القيم في قوله: ( ... والصراط المستقيم والنبأ العظيم لا يوصل إليه أبداً، غلا من باب العلم والإرادة، فالإرادة باب الوصول إليه، والعلم مفتاح ذلك الباب المتوقف فتحه عليه، وكمال كل إنسان إنما يتم بهذين النوعين: همة ترقية، وعلم يبصر ويهديه، فإن مراتب السعادة والفلاح، إنما تفوت العبد من هاتين الجهتين أو من إحداهما، إما أن لا يكون له علم بها، فلا يتحرك في طلبها، أو يكون عالماً بها ولا تنهض همته إليها، فلا يزال في حضيض طبعه محبوساً وقلبه عن كماله الذي خلق له مصدوداً، منكوساً) ... إلى أن قال: (ولما كان العلم إمام الإرادة ومقدماً عليها ومفصلاً لها ومرشداً لها، قدمنا الكلام عليه .... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 * شروط العمل المقبول * ومما سلف يتبين أن الإنسان مريد وعامل له قدرة وإرادة، وله عاطفة وفكر كما له قلب وعقل. فهناك في كل إنسان بواعث كامنة في قلبه يطلق عليها (الإرادة) ، (والعزم) ، و (النية) ، و (القصد) ، و (عمل القلب) ، وفي المصطلح النبوي (همام) ، وفي القرآن جاءت بلفظ (الإرادة) ، و (الابتغاء) . وهناك تنفيذ لهذه الأشياء بالجوارح والحركات الظاهرية يطلق عليها: (القدرة) ، و (التنفيذ) ، و (العمل) ، و (حارث) كما في الحديث النبوي. وبهذين العنصرين الأساسين - الإرادة والعمل - يتم نشاط الإنسان وإليهما مرجع سائر أعماله الشعورية والفكرية والعملية. ولهذا جاء الشرع من العليم الحكيم، ليبوجه إرادة الإنسان وقصده كما يرسم عمله وتنفيذه. فجاءت الشروط الشرعية بناء على ذلك، لتكون علامة على قبول الأعمال أوردها، فشروط العمل بمقبول اثنان: أحدهما: للإرادة والقصد. والثاني: للعمل والتنفيذ. الشرط الأول: الإخلاص: وهذا الشرط متعلق بالإرادة والقصد، والنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 والمقصود به: (إفراد الحق - سبحانه - بالقصد في الطاعة) . والنية تقع في كلام العلماء بمعنيين كما قرر ذلك ابن رجب فقال: (أحدهما: تمييز العبادات بعضها عن بعض، كتمييز صلاة الظهر عن صلاة العصر مثلاً) - إلى أن قال: ... (والمعنى تمييز المقصود بالعمل، وهل هو الله وحده لا شريك له، أم لله وغيره، وهذه هي النية التي يتكلم فيها العارفون في كتبهم في كلامهم على الإخلاص وتوابعه، وهي التي توجد كثيراً في كلام السلف المتقدمين ... ) . والأدلة على هذا الأصل من القرآن والسنة وكلام السلف ومن سار على نهجهم، كثيرة. فمن القرآن قوله - تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتب بالحق فاعبد الله مخلصاً له الدين، ألا لله الدين الخالص) . قال ابن كثير: (أي لا يقبل الله من العمل، إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له) . وقوله - جل وعلا: (قل إني أمرت أن أعبد الله مخلصاً له الدين، وأمرت لأن أكون أول المسلمين، قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم، قل الله اعبد مخلصاً له ديني) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وقوله - سبحانه: (قل أمر ربي بالقسط واقيموا وجوهكم عند كل مسجد وأدعوه مخلصين له الدين كما بدأكم تعودون) . قال ابن كثير: (أي أمركم بالإستقامة في عبادته في محالها، وهي متابعة المرسلين المؤدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله، وما جاءوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صواباً موافقاً للشريعة، وأن يكون خالصاً من الشرك) . وقوله - تعالى: (هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين ولو كره الكافرون) . وقوله - تعالى: (هو الحي لا إله فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين) وقوله - عز وجل: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة) . قوله - عز وجل -: (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين) . وقوله تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن) . قال ابن القيم: (فالإسلام الوجه: إخلاص القصد، والعمل لله .... ) . وقال جل في علا: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 قال الحافظ ابن كثير: ( ... وهذان ركنا العمل المتقبل، لا بد أن يكون خالصاً لله، وصواباً على شريعة رسول الله - صلى الله عليه وسلم) . ومن الأحاديث النبوية: قوله - صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل إمرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو إمرأة ينكحها، فهجرته إلى ما هاجر إليه ". قال ابن رجب - رحمه الله - في شرحه لهذا الحديث: ( ... فهذا يأتي على كل أمر من الأمور ... وهو أن حظ العامل من عمله نيته ... وأنه لا يحصل له من عمله إلا ما نواه به، فإن نوى خيراً حصل له خير، وإن نوى شراً حصل له شر ... وهاتان كلمتان جامعتان وقاعدتان كليتان لا يخرج عنهما شيء ... ) . وقال الشوكاني - رحمه الله - رحمه الله: في مقدمة أدب الطلب عند ذكره لهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الحديث: ( ... حصول الأعمال وثبوتها لا يكون إلا بنية، فلا حصول أو لا ثبوت لما ليس كذلك، فكل طاعة من الطاعات، وعبادة من العبادات إذا لم تصدر عن إخلاص نية وحسن طوية، لا إعتداد بها ولا التفات إليها، بل هي إن لكم تكن معصية فأقل الأحوال أن تكون من أعمال العبث واللعب ... ) . وفي الصحيح من حديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " ثلاث لا يغل عليهم قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة ولاة الأمر، ولزوم جماعة المسلمين .... " الحديث. قال ابن القيم: (أي لا يبقى فيه غل ولا يحمل الغل مع هذه الثلاثة، بل تنفي عنه غلة وتنقيه منه، وتخرجه عنه، فإن القلب يغل على الشرك أعظم غل، وكذلك يغل على الغش، وعلى خروجه عن جماعة المسلمين بالبدعة والضلالة، فهذه الثلاثة تملؤوة غلاً ودغلاً، وداء هذا الغل وإستخراج أخلاطه: بتجريد الإخلاص والنصح ومتابعة السنة) ... وفي الحديث الإلهي يقول الله تعالى: " أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري، فهو للذي أشرك به وأنا منه برئ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 وعن أبي أمامة قال: " جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسم - فقال: أرأيت رجلاً غيراً يلتمس الأجر والذكر ماله؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " لا شيء ". ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " إن الله لا يقبل إلا ماكان خالصاً، وابتغى به وجهه ". وعن معاذ قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: " الغزو غزوان، فأما من غزا ابتغاء وجه الله - تعالى -، وأطاع الإمام وأنفق الكريمة، وياسر الشريك، واجتنب الفساد في الأرض، فإن نومه ونبهه أجر كله، وأما من عزا فخراً ورياءً وسمعة، وعصى الإمام، وأفسد في الأرض فإنه لن يرجع بالكاف ". وعنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من طلب العلم ليماري به السفهاء أو يجاري به العلماء، أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله في النار ". وفي مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: " إن أول الناس يقضي يوم القيامة عليه، رجل استشهد فأتى به فعرفه نعمته فعرفها قال: فما عملت فيها؟ قال: قاتلت فيك حتى استشهدت: قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 كذبت، ولكنك قاتلت لأن يقال جرئ فقد قيل، ثم أمر به فحسب على وجهه حتى ألقى في النار. ورجل تعلم العلم وعلمه وقرأ القرآن، فأتى به، فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما علمت؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن، قال: كذبت، ولكنك تعلمت ليقال: علام، وقرأت القرآن ليقال: قارئ، فقد قيل، ثم أمر به فحسب على وجهه حتى القى في النار، ورجل وسع الله عليه وأعطاه من أصناف المال، فأتى به فعرفه نعمه فعرفها، قال: فما علمت فيها قال: ما تركت من سبيل تجب أن ينفق فيها، إلا أنفقت فيها لك، قال: كذبت ولكنك فعلت ليقال: جواد، وقد قيل، ثم أمر به فحسب على وجهه، حتى ألقى في النار ". وأما ما ورد عن السلف في الإخلاص: فهو كثير وفير، أنقل منه بعض ما روي بالسند عنهم: روى الآجري بسنده عن علي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود - رضي الله عنهما - قالا: (لا ينفع قول إلا بعمل، ولا عمل إلا بقول، ولا قول وعمل إلا بنية، ولا نية إلا بموافقة السنة) . وفي كتاب الزهد لهناد بن السري بسنده عن ابي العالية قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 (كنا نحدث منذ خمسين سنة، أن الأعمال تعرض على الله - تعالى -، ما كان له منها قا ل: هذا لي وأنا أجزي به، وما كان لغيره قال: أطلبوا ثواب هذا ممن عملتموه له) . وفي بسنده عن عبادة بن الصامت قال: (يجاء بالدنيا يوم القيامة فيقول: ميزوا ما كان منها لله، وألقوا سائرها في النار) . وروى أبو نعيم بسنده عن مطرف بن عبد الله أنه قال: (صلاح القلب، بصلاح العمل، وصلاح العمل، بصحة النية) . وروى بسنده عن يحيى بن ابي كثير أنه قال: (تعلموا النية فإنها أبلغ من العمل) . ومما روى عن الفضيل بن عياض أنه تلا قوله - تعالى -: (ليبلوكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أيكم أحين عملاً) فقال: (أخلصه وأصوبه، قالوا: يا أبا علي ما أخلصه واصوبه؟ قا ل: إذا كان العمل خالصاً ولم يكن صواباً، لم يقبل، وإذا كان صواباً ولم يكن خالصاً، ولم يقبل، حتى يكون خالصاً صواباً، والخالص إذا كان لله عز وجل، والصواب إذا كان على السنة) . وفي الزهد لإبن المبارك بسنده عن زبيد اليامي أنه قا ل: (إني لأحب أن تكون لي نية في كل شيء حتى في الطعام ... ) . وفيه أيضاً عن جعفر بن حيان أنه قال: (ملاك هذه الأعمال النيات فإن الرجل يبلغ بنيته، ما لا يبلغ بعمله) . الشرط الثاني: الموافقة للشرع: وهذا الشرط متعلق بالعمل سواء كان عمل القلب، وهو ما يسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 بالاعتقاد أو عمل بالجوارح. وهذا هما مدار العبادة، ومحل الإيمان الذي هو: اعتقاد بالجنان، ونطلق باللسان، وعمل بالأركان، فلا بد من متابعة الشرع والانقياد له في أعمال القلوب كالحب والبغض، وفي أعمال الجوارح، التي يتعبد بها الإنسان، وسوف أذكر بعض الأدلة على هذا الأصل من الكتاب والسنة، وكلام السلف وسيأتي الحديث عن هذا الأصل بتوسع في مبحث (الاعتصام بالسنة) قريباً إن شاء الله. أما الدلالة من القرآن الكريم فكثير منها: قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصالكم به لعلكم تتقون) . وقوله - سبحانه -: (اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم بالإسلام ديناً) . قوله - جل وعلا -: (قل إن منتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله) . وقوله - تعالى: (ومن أحسن ديناً ممن أسمل وجهه لله وهو محسن وابتع ملة إبراهيم حنيفاً ... ) . وقوله - سبحانه -: (فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ومن أعرض عن ذكري فإنه له معيشة ضنكاً ونحشره يوم القيامة أعمى) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وقوله - جل وعلا -: (قل إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي ... ) . وقوله - جل وعلا -: (اتبع ما أوحى إليكم من ربك لا إله غلا هو وأعرض عن المشركين) . وقوله تعالى: (المص كتاب أنزل إليك فلا يكن في صدرك حرج منه لتنذر به وذكرى للمؤمنين اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون) . ومن السنة: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما: كتاب الله وسنة رسوله ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أما بعد، فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الامور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة ". زاد النسائي: " وكل ضلالة في النار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ". وقال - صلى الله عليه وسلم -: " من رغب عن سنتي فليس مين ". وعن العرباض بن سارية قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد تركتكم على مثل البيضاء، ليلها كنارها لا يزيع بعدي عنها إلا هالك ". ومن كلام السلف عليهم رضوان الله: ما رواه البخاري بسنده، عن أنس بن مالك، أنه سمع عمر الغد، حين بايع المسلمون أبا بكر، واستوى على منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تشهد قبل أبي بكر، فقال: (أما بعد: فاختار الله لرسوله - صلى الله عليه وسلم - الذي عنده على الذي عندكم، وهذا الكتاب الذي هدى الله به رسولكم، فخذوا به تهتدوا، إنما به رسوله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وما أورده اللالكاني بسنده إلى عبد الله بن مسعود قال: (إنا نقتدي ولا نبتدي، ونتبع ولا نبتدع، ولن نضل ما تمسكنا بالأمر) . وذكره بسنده إلى أبي العالية أنه قال: (تعلموا الإسلام فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام ولا تحرفوا الإسلام يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة أبيكم، والذي كان عليه أصحابه، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء ... ) . وفي مشكاة المصابيح، عن ابن عباس قال: (من تعلم كتاب الله، ثم اتبع ما فيه، هداه الله من الضلالة في الدنيا، ووقاه يوم القيامة سوء الحساب) . وأورد اللالكاني والدامي كل بسنده، عن محمد بن سيرين قال: (كانوا يرون أنهم على الطريق، ما كانوا على الأثر) . وذكر اللالكاني بسنده عن شاذ بن يحيى قوله: (ليس طريق أقصر إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الجنة من طريق من سلك الآثار) . ولسنده أيضاً عن سفيان الثوري، إنه قال: (وجدت الأمر الاتباع) . وذكر الآجري بسنده، أن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال: (إن ناساً يجادلونكم بشبه القرآن، فخذوهم بالسنن، فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله عز وجل -) . وبسنده أيضاً، عن مطرف بن عبد الله يقول: (سمعت أنس بن مالك - إذا ذكر عنده الزائغون في الدين - يقول: قال عمر بن عبد العزيز - رضي الله عنه -: (سن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وولاة الامر بعده سنناً، الأخذ بها إتباع لكتاب الله عز وجل، واستكمال لطاعة الله عز وجل، وقوة دين الله - تبارك وتعالى -، ليس لأحد من الخلق تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في شيء خالفها، ومن اهتدى بها فهو مهتد، ومن استنصر بها فهو منصور ومن تركها واتبع غير سبيل المؤمنين، ولاه الله - تعالى - ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) . وقد ورد عن السلف من هذا القبيل كثير وفي هذا القبيل الذي ذكرناه ما يسد حاجة الاستدلال هنا، وسيأتي بعون الله في الأبواب القادمة، الأحاديث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والآثار على هذا المنوال. وبعد ذكر شرطي العبادة المقبولة عند الله - سبحانه وتعالى - يتبين ( ... دين الإسلام مبني على أصلين: أن نعبد الله وحده لا شريك له، وأن نعبده بما شرعه من الدين، وهو ما أمرت به الرسل .... ) . وهذان الأصلان هما من حقيقة كلمة التوحيد، والركن الأول من هذا الدين، كما قرر ذلك شيخ الإسلام حين قال: ودين الإسلام مبني على أصلين وهما: تحقيق شهادة أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله، وأول ذلك أن لا تجعل مع الله إلهاً آخرا .... الأصل الثاني: (أن نعبده بما شرع على ألسن رسله .... ) (وبالجملة، فمعناه أصلان عظيمان أحدهما: ألا نعبد إلا الله. والثاني: أن لا نعبده غلا بما شرع، لا نعبده بعبادة مبتدعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الاعتصام بالسنة وهذا هو قطب رحي الدين، وحبله المتين، وحصنه الحصين، وعروته الوثقي التي لا تنفصم، والطريق الوحيد، الذي يوصل إلى الله - سبحانه وتعالى -، والنور المضيء الذي تحيا به القلوب، والنفوس وتستقيم به الحياة كلها والضرورة اللازمة لاستمرار الحياة. وهو سبب الرسالة التي هي: ضرورية في إصلاح العبد في معاشه ومعادته، فكما أنه لا صلاح له في آخرته إلا بإتباع الرسالة، فكذلك لا صلاح له في معاشه ودنياه إلا بإتباع الرسالة، فإن الإنسان مضطر إلى الشرع ... والشرع نور الله في أرضه، وعدله بين عباده، وحصنه من دخله كان آمنا ... والدنيا كلها ملعونة، ملعون ما فيها، إلا ما أشرقت عليه شمس الرسالة، وأسس بنيانه عليها، ولا بقاء لأهل الأرض، إلا ما دامت آثار الرسل موجودة فيهم، فإذا درست آثار الرسل من الأرض، وانمحت بالكلية، خرب الله عالم العلوي والسفلي، وأقام القيامة. وليست حاجة أهل الأرض إلى الرسل، كحاجتهم إلى الشمس والقمر، والرياح والمطر، ولا كحاجة الإنسان إلى حياته، ولا كحاجة العين إلى ضوئها، والجسم إلى الطعام والشراب .... بل أعظم من ذلك وأشد حاجة من كل ما يقدر ويخطر بالبال، فالرسل وسائط وبين خلقه، في أمره ونهيه، وهم السفراء بينه وبين عبادة ". ومدار السعادة الدنيوية والأخروية: على الاعتصام بالله، والاعتصام بحبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ولا نجاة إلا لمن تمسك بهاتين العصمتين. الاعتصام لغة وإصلاحاً: مأخوذ من "عصم" وهو في أصل الاستعمال العربي ( ... يدل على إمساك ومنع وملازمة والمعنى في ذلك كله معنى واحد ... ) . ومن أصل الاستعمال يمكن معرفة الانتقال من الأصل اللغوي إلى الاصطلاح الشرعي .... فأما أن أصلها: الإمساك: فـ (تقول العرب: اعتصمت فلاناً، أي هيأت له شيئاً يعتصم بما نالته يده أي يلتجئ به ويتمسك به. و (الاعتصام: الإمساك بالشيء ... وأعصم بالفرس: أي امتسك بعرفة، وكذلك البعير إذا امتسك بحبل من حباله ... ... وأعصم إذا تشدد واستمسك بشيء من أن يصرعه، فرسه أو راحلته. ... أصل العصمة: الحبل وكل ما أمسك شيئاً فقد عصمه ... ) . وهذا الأصل ينطبق على الاستعمال الشرعي الذي سمي بـ (الاعتصام) بالكتاب والسنة) . قال ابن حجر - رحمه الله - في شرحه لقول البخاري - رحمه الله - في كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة: (وقال الكرماني: هذه الترجمة منتزعة من قوله -: (وأعتصموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بحبل الله جميعاً) ، لأن المراد بالحبل: الكتاب والسنة على سبيل الاستعارة ... والجامع كونهما سبباً للمقصود وهو الثواب، والنجاة من العذاب، كما أن الحبل سبب لحصول المقصود به من السقي وغيره ... ) . وقال أبو السعود في تفسيره لقوله - تعالى -: (ومن يعتصم بالله فقد هدى إلى صراط مستقيم) : (أي: ومن يتمسك بدينه الحق الذي بينه وبآياته، على لسان رسوله - عليه الصلاة والسلام - وهو الإسلام والتوحيد ... ) . وقال في تفسير قوله - تعالى -: (وأعتصموا بحبل الله ... ) . ( ... تمثيل للحالة الحاصلة من استظهارهم به، ووثوقهم بحمايته بالحالة الحاصلة من تمسك المتدلي من مكان رفيع بجبل وثيق مأمون الانقطاع ... ) . ومن هذا الباب قوله - تعالى - لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: (فاستمسك بالذي أوحى إليك إنك على صراط مستقيم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وقوله - جل وعلا -: (فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم) . وقوله - سبحانه -: (ومن يسلم وجهه - إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى وإلى الله عاقبة الامور) . قال ابن كثير: (أي أخلص له العمل وانقاذا لأمره واتبع شرعه ... ) . وهذا الاستمساك هو عين الاعتصام، وهو عين العمل المقبول عند الله سبحانه. والعروة الوثقى التي في الآيتين الكريمتين هي الإسلام وهي الشرع، وهي الكتاب الكريم، وهي السنة المطهرة، من اعتصم وتمسك بها نجا وفاز، كما دل على ذلك حديث عبد الله بن سلام - رضي الله عنه - قال: (رأيت كأني في روضة، ووسط الروضة عمود، في أعلى العمود عروة فقيل: أرقة قلت: لا أستطيع، فأتاني وصيف، فرفع ثيابي، فرقيت فاستمسكت بالعروة، فانتبهت وأنا مستمسك بها، فقصصتها على النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " تلك الروضة الإسلام، وذلك عمود الإسلام، وتلك العروة، العروة الوثقى لا تزال مستمسكاً بالإسلام حتى تموت ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وفي الترمذي عن زيد بن أرقم - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من المساء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ". وفي الدارمي بسنده، عند عبد الله بن مسعود قال: (إن هذا الصراط محتضر، تحضره الشياطين، ينادون يا عبد الله: هذا الطريق فاعتصموا بحبل الله، فإن حبل الله القرآن) . · وأما أن أصل الاعتصام (المنع) فإن العصية في كلام العرب المنع، وعصمة الله عبده: أن يعصمه مما يوبقه، عصمه يعصمه عصماً: منعه ووقاه ... ) . والعرب تقول: (عصمة الطعام: منعه من الجوع) . ويقال: ( ... اعتصم فلان بالله إذا امتنع به ... واعتصمت بالله إذا امتنعت بالطفة من المعيصة ... ) . وعلى هذا المعنى قوله - تعالى - لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته، والله يعصمك من الناس .... ) . قالت عائشة: (كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يحرس حتى نزلت هذه الآية: (والله يعصمك من الناس) فأخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - رأسه من القبة فقال لهم: " أيها الناس: انصرفوا فقد عصمني الله ". وعليه قوله - عليه السلام -: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله ". ومنه قوله - تعالى: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله إن أراد سوءا أو أراد بكم رحمة ولا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا) . قال ابن كثير: (قل من ذا الذي يعصمكم من الله) : أي يمنعكم) . ومنه قوله: (ما لكم من الله من عاصم) . قال ابن كثير: (لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه) . وهذا المعنى يوجد كذلك فيما نحن بصدده من كون الاعتصام مانعاًَ من حصول غضب الله ومقته، بسبب الترك، ومانعاً من حصول الضلال في الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بالبدع والمخالفات، ومانعاً من حصول العذاب المرتب على ذلك. في الدنيا وفي الآخرة .... قال - تعالى: (واعتصموا بالله هو مولاكم) . وقال الشوكاني في تفسيرها: (أي اجعلوه عصمة لكم مما تحذرون ـ والتجئوا إليه في جميع أموركم .... ) . وفي الدارمي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (إن هذا القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبته ما استطعتم، إن هذا القرآن حبل الله، والنور، والشفاء النافع عصمة لمن تمسك به ونجاة لمن اتبعه ... ) . ومن ذلك قول سفيان بن عبد الله الثقفي لرسول الله صلى الله عليه وسلم -: حدثني بأمر اعتصم به، قال: " قل ربي الله ثم استقم ". فيصح أن يكون المعنى: حدثني بأمر امتنع به من الزلل والعذاب، ويصحح كذلك أن يكون مغناه: حدثني بأمر اتمسك به. · وأما أن أصل الاعتصام (الملازمة) .... فإنه: ( ... يقال: اعصم به وأخلد إذا لزمه) . · و (أعصم الرجل بصاحبه إذا لزمه ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 · و (العصم: جمع عصام، وهو رباط كل شيء ... ) . · و (من الباب عصام المحمل شكاله وفيده الذي يشد به عارضاه، وعصام القربة عقال نحو ذراعين ... ) . · ... والمزادة على البعير شدها على البعير يسمى عصاماً، واعصمة: القلادة .... ) . وعلى هذا المعنى قوله - تعالى -: (ولا تمسكوا بعصم الكوافر) . قال ابن كثير: (تحريم من الله - عز وجل - على عباده المؤمنين، نكاح المشركات والاستمرار معهن) . قال الشوكاني: (والعصم جمع عصمة، وهي ما يعتصم به، والمراد هنا عصمة عقد النكاح .... ) . ومعنى الملازمة هذا يتوجه مباشرة إلى الأوامر الشرعية الواردة في القرآن والسنة، بالحث على الاعتصام والأمر به. فكما أن الاعتصام يعني التمسك بدلالة التضمن، ويعني المنع بدلالة الالتزام، فإنه يعني الملازمة بدلالة المطابقة. يدل على هذا بوضوح قوله تعالى: (وأعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ... ) . وقوله: (فأقيموا الصلاة وءاتوا الزكاة واعتصموا بالله هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 مولاكم) . قال أبو مسعود: (وأعتصموا بالله أي: لقوا به في مجامع أموركم، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه) . قال ابن كثير: (أي اعتضدوا بالله وأستعينوا به، وتوكلوا عليه، وتأيدوا به) . وهذه الملازمة على التمسك بشرع الله هي الاستقامة التي أمر الله بها رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومن كان على سبيله حيث قال في محكم كلامه: (فاستقم كما أمرت ومن تاب معك ولا تطغوا إنه بما تعلمون بصير) . وقال - جل في علاه -: (فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل ءأمنت بما أنزل الله من كتاب ... ) . قال ابن كثير: (واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله - تعالى، كما أمرك الله عز وجل) . وهذه الإستقامة هي عين الملازمة، وهي الاعتصام بدين الله وشرعه وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم - لمن سأله عن الأمر عن الأمر الذي يعتصم به: " وقل آمنت بالله ثم استقم ". والتمسك بالشرع والملازمة عليه والمداومة على الإعتصام به هي إرادة الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الشرعية التي رضيها لنا - سبحانه - كما أخبرنا عنه ونبيه وحبيبه - محمد صلى الله عليه وسلم - إذ قال: " إن الله كره لكم ثلاثاً ورضى لكم ثلاثاً، رضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً، وأن تنصحوا لولاة الأمر .... وكره لكم قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السوال". وهي وصيته - عليه السلام - حين قال: " أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة، وإن كان عبداً حبشياً فإنه يعش منكم فسيرى الله اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين فتمسكوا بها وعضوا عليها بالتواجذ، وإياكم ومحدثات الامور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". وقال عليه السلام - في خطبه الوداع: " وإني قد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله ..... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 السنة ... تعريفها واستعمالاتها الأصل اللغوي لكلمة سنة هو " سن "، وأصل استخدامها في لغة العرب: ( ... قولهم سننت الماء على وجهه أسنة سناً، إذا أرسلته إرسالاً ... ) . والسنة والسنن: (في الأصل: الطريق) . (وسنن الطريق، وسننه وسينه وسننه: نهجه: يقال: خدعك سنن الطريق وسننه ... ) . ويطلق هذا التركيب عل نهج الطريق وجهته ومحجته. وأطلق هذا الأصل في الإستعمال اللغوي على عدة أمور، هي (السيرة .... ونهج الطريق ... ومقصود الرجل ... ) . أما استعمال السنة بمعنى السيرة، فإنه يراد به: ( ... السيرة حسنة كانت أو قبيحة .... ) . وهذا مشتق من الأصل الأول الذي هو: (جريان الشيء وأطراده بسهولة والأصل قولهم: سننت الماء .... إذا أرسلته، ومما اشتق منه (السنة) وهي السيرة وسنة رسول الله - عليه السلام - سيرته ... ) . وعلى هذا المعنى جرت بعض الاستعمالات الشرعية، التي هي بمعنى السيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 حسنة أو قبيحة. كقوله - صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة .... ". · وعليه كذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -، عن ابن آدم الأول الذي قتل أخاه: " لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من ودمها، لأنه كان أول من سن القتل) . · ومن ذلك أيضاً قول أبي هريرة عن خبيب بن عدي: (فكان خبيب هو من سن الركعتين لكل امرئ مسلم) . · ومنه - صلى الله عليه وسلم - في حديث الفتن ن عند ذكر الخبر الذي فيه دخن، ولما سئل ما دخنه قال: " قوم يستون بغير سنتي ويهدون بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 هدي ... ". · وكل ذلك يطلق على من سار سيرة اقتدي بها وعلى: ( .... كل من ابتدأ أمراً عمل به قوم بعده) . · ومن ذلك قول الشاعر: فلا تجزعن من سنة أنت سرتها فأول راض سنة من يسيرها. (والسيرة السنة ... والسيرة الطريقة يقال: سار بهم سيرة حسنة ... ) . وهذا هو الاستعمال الثاني لكلمة سنة، مأخوذ من الأصل الثاني الذي هو الطريق) . (وقد تكرر في الحديث ذكر السنة وما تصرف منها، والأصل فيه الطريقة والسيرة .... ) . بل إن السنة في الأصل سنة الطريق، وهو طريق سنة أوائل الناس، فصار مسلكاً لمن بعدهم، وسن فلان طريقاً من الخير يسنه إذا ابتدأ أمراً من البر لم يعرفه قوله، فاستسنوا به وسلكوه ... قال ابن كثير في تفسير قوله: - تعالى -: (يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ... ) . يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وعلى هذا الاستعمال توصف الطريق بأنها: ( ... مستقيمة محمودة ... ) أو منحرفة مذمومة. ويقال: ( ... سنن الطريق محجته .... وسننه نهجه .... وسننه أي جهته .... ) . وعلى هذا الاستعمال يقال: (وامض على سننك أي وجهك وقصدك، سنن الرجل قصده وهمته..) . ومن هذه الأصول اللغوية والاستعمالات المتنقلة عنها، يمكن معرفة الأحاديث الواردة في ذلك ومن أمثال هذه الاحاديث: · قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فإذا انقطع خبره فسنته سنة المفقودة ". · قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لتتبعن سنن من كان قبلكم ... ". · وقوله - عليه السلام -: " إنها لسنن، لتركبن سنن من كان قبلكم سنة سنة ... ". · وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... للإيمان فرائض وشرائع وحدوداً وسننا ً ... ". · وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فعليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي .... ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 السنة في الاصطلاح: استعملت كلمة (السنة) في الاصطلاح الشرعي على طريقتين: الأولى منهما: عامة شاملة. والثانية: خاصة مفيدة. وأستحدث عن كل واحدة منهما على حدة: 1- السنة بالمعنى العام: ويراد بها الشريعة الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة، أو ما استنبط منهما من أصول ... وما ورد من أخبار وآثار وأحاديث صحيحة. أو كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: ( ... السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه، بأنه طاعة لله ورسوله، وساء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فعل على زمانه ولم يفعله، ولم يفعل على زمانه لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو جود المانع عنه، فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة ... ) . وبهذا المعنى العام، تكون السنة هي: (إتباع آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - باطناً وظاهراً، وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وإتباع وصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حيث قال: " عليكم بسنتي، وسنة الخلفاء الرادين المهدين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". وهذا المعنى العام يطلق فيراد به القرآن الكريم، والحديث النبوي، والآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 السلفية .... كمثل حديث: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين ". وكمقل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فمن رغب عن سنتي فليس مني "، ويطلق ويراد به ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - خصوصاً غير القرآن الكريم. وهذا المعنى أخص متن المعنى السابق وهو داخل في المعنى العام للسنة باعتباره شاملاً لكل ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويكون هذا فيما ورد من أحاديث أو آثار ... قرن فيها القرآن والسنة ففي: (كثير من الاحاديث جاءت كلمة السنة في مقابلة القرآن الكريم أو معطوفة كلمة الكتاب، والمقابلة والعطف بمقتضيان المغايرة غالباً ... فمن الطبيعي أن تحمل على معنى مستقل يغاير المعنى الأول، الذي هو تعاليم الشريعة، وقد فسر بالوحي غير المتلو وغير المعجز الذي كان ينزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والذي عرف لدى العلماء بالحديث) . والحافز لهذا القول: و ( ... الموجب لهذا التفسير ... هو ذكر السنة في مقابلة القرآن الكريم أو معطوفة على الكتاب ... ويمكن القول بأنه متى اجتمعاً افترقاً وحيث يكتفي بذكر السنة تشمل الاثنين معا ... ) . ومن الأحاديث التي وردت على هذا المعنى، قوله - صلى الله عليه وسلم -: " تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً - كتاب الله وسنة رسوله ". إلى غير ذلك من الأحاديث والآثار الواردة بصيغة تقرن بين الكتاب والسنة أو القرآن والسنة. وفي هذين المعنيين السالفين قال إمام الشاطبي في الموافقات: (يطلق لفظ السنة على ما جاء منقولاً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص، مما لم ينص عليه في الكتاب العزيز، بل إنما نص عليه من جهته - عليه الصلاة والسلام -، كان بياناً لما في الكتاب أو لا ..... ويطلق أيضاً في مقابلة البدعة فيقال: (فلان على سنة) . إذا عمل على وفق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 ما عمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك مما نص عليه في الكتاب أولاً، ويقال: (فلان على بدعة) إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إنما اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة، فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب .... ويطلق أيضاَ لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب والسنة أو لم يوجد لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم ولم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم، أو من خلفائهم، فإن في إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع، من جهة حمل الناس عليه حسما اقتضاه النظر المصلحي عندهم. فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان كما فعلوا في حد الخمر، وتضمين الصناع، وجمع المصحف، وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين، وما أشبه ذلك ويدل على هذا الإطلاق قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهدين .... ". (وبهذين المعنيين عرفت الكلمة السنة في الرعيل الأول وبها اصطبغت الكلمة في المفهوم الإسلامي في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - وعصر الصحابة والتابعين..) . (وهي على هذا المعنى شاملة للواجب والمندوب والمباح سواء كانت من قبيل أو الأقوال أو الاعتقادات وما كان السلف يطلقون اسم السنة إلا بهذا المعنى) . يدخل في ذلك السنة الفعلية والسنة التركية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وبخلاج منه ما اختص به النبي - صلى الله عليه وسلم - كالوصال، ونكاح أكثر من اربع، وما فعله على سبيل الاتفاق أو كان أمراً جبلياً محضاً والمقصود أن السنة التي يهتم هذا البحث بالحديث عنها هي (الطريق المسلوكة في الدين بأن سلكها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو السلف الصالح من بعده ... ) . وهي ما وقفت الكتاب والحديث وإجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات وتقابلها البدعة. 2- أما السنة بالمعنى الخاص: فقد تنوعت العبارات فيها بتنوع الموضوعات والفنون، فهناك إصطلاح المحدثين وإصطلاح الفقهاء وإصطلاح الأصوليين.. ولا علاقة بين هذه التعريفات الخاصة وموضوع البحث فيترك الكلام عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 ذم البدع الإنسان عبد لله، خلقه ليكون كذلك، وكما أن الله - سبحانه - لم يخلقه عبثاً في أصل نشأته، فكذلك لم يتركه هملاً في شؤون حياته. خلقه وعلمه ودله على طريق الخير الذي يوصل إليه سبحانه، وجعلها طريقاً واحدة، دليلها الكتاب وبابها الرسول، فمن أراد سلوك الطريق من غير دليل تاه، ومن أراد الولوج من غير باب الرسالة، وبدون مفتاح النبوة فقد ضيع دنياه وأخراه. ولهذا جاء الأمر الحتمي الملزم بالاعتصام بالوحي المنزل؛ لكونه الصراط المستقيم الموصل.. وجاء النهي الشديد المحتم بترك ما سوى قصد السبيل، ونبذ الجائر المجافي للدليل. وسوف أسرد بإيجاز بعض ما ورد من الكتاب والسنة والآثار في ذم البدع والتنفير منها، والنهي عنها، ثم أورد بعد ذلك باختصار بعض أقوال العلماء في ذلك. والذم هنا يشمل كل أنواع البدع صغيرها وكبيرها، في الاعتقاد أو في الأعمال بالفعل أو بالترك سواء كانت بدعة حقيقية أم إضافية وذلك لعموم حديث المصطفى عليه السلام: "وكل بدعة ضلالة". فمن آيات الكتاب المجيد في ذم البدع: 1- قوله - عز وجل: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وقد جاء تفسيرها في حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كما روت عائشة - رضي الله عنها - أن الرسول - عليه السلام - تلا هذه الآية ثم قال: "فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم". وكذلك فسرها ابن عباس - رضي الله عنهما - كما روى الآجري بسنده أنه ذكر لابن عباس - رضي الله عنهما - الخوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن فقال - رضي الله تعالى عنه -: (يؤمنون بمحكمه ويضلون عند متشابهه وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) . 2- وقوله - جل وعلا: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون) . فالصراط المستقيم الذي أمر الله به هو سبيل الله والسبل الأخرى التي نهى الله عنها هي سبل أهل البدع. والدليل على هذا ما رواه عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: (خط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطاً بيده ثم قال: "هذا سبيل الله مستقيماً"، قال: ثم خط عن يمينه وشماله ثم قال: "هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه ثم قرأ: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل) . وما رواه أبو نعيم بسنده عن مجاهد في قوله: (ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) قال: (البدع والشبهات) . والنهي عن هذه السبل يدل على ذمها. 3- وقوله - سبحانه وتعالى: (ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم، يوم تبيض وجوه وتسود وجوه فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون) . وقد ورد ما يفسر هذه الآية من كلام الصادق - صلى الله عليه وسلم - كما نقل ذلك معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة وهي الجماعة وإنه سيخرج في أمتي أقوام تجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله..". ولما رأى الصحابي الجليل أبو أمامة - رضى الله عنه -رؤوس الخوارج منصوبة على درج مسجد دمشق قال: (كلاب النار ثلاثاً شر قتلى تحت أديم السماء خير قتلى من قتلوه ثم قرأ: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) الآيتين. قل - القائل راوي الحديث أبو غالب - لأبي أمامة: أسمعته من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: لو لم أسمعه إلا مرتين أو ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً أو ستاً أو سبعاً ما حدثتكم) . وقد فسر ابن عباس - رضي الله عنه - قوله تعالى: (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه) بقوله: (فأما الذين ابيضت وجوههم: فأهل السنة والجماعة وأولوا العلم، وأما الذين اسودت وجوههم فأهل البدع والضلالة) . 4- وقوله - سبحانه -: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم) . قال الحافظ ابن كثير: (أي عن أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو سبيله ومنهاجه وطريقته وسنته وشريعته، فتوزن الأقوال والأعمال بأقواله وأعماله، فما وافق ذلك قبل، وما خالفه فهو مردود على قائله وفاعله، كائناً من كان، كما ثبت في الصحيحين وغيرهما عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد". أي: فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً (أن تصيبهم فتنة) ، أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة) . 5- وقوله - تعالى -: (وما ءاتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 6- وقوله - تعالى -: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا) . ومن أحاديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في ذم البدع: 1- قوله - صلى الله عليه وسلم: ".. أما بعد فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد وشر الأمور محدثاتها وكل بدعة ضلالة) . وزاد النسائي: "وكل ضلالة في النار". 2- وقوله - صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد". 3- وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما روى العرباض بن سارية: "أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبداً حبشياً فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة". 4- وقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث معاوية بن أبي سفيان - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 رضي الله عنهما - قال: (ألا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام فينا فقال: "ألا إن من قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على ثنتين وسبعين ملة وإن هذه الملة ستفترق على ثلاث وسبعين، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة وهي الجماعة". 5- وقوله - صلى الله عليه وسلم - كما روى ذلك أنس وعبد الله بن عمرو: "من رغب عن سنتي فليس مني". 6- وعن أبي برزة الأسلمي قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أخشى عليكم بعدي بطونكم وفروجكم ومضلات الأهواء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 ومن الآثار الواردة في ذم البدع: 1- ما رواه أبو داود بسنده عن معاذ بن جبل - رضي الله عنه - قال: (إن من ورائكم فتناً يكثر فيها المال ويفتح فيها القرآن حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والرجل والمرأة، والصغير والكبير، والعبد والحر، فيوشك أن يقول قائل: ما للناس لايتبعوني؟ وقد قرأن القرآن وما هم بمتبعي حتى ابتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع؛ فإن ما ابتدع ضلالة واحذروا زيفة الحكيم فإن الشيطان قد يقول كلمة الضلال على لسان الحكيم وقد يقول المنافق كلمة الحق) . 2- وعن حذيفة - رضي الله عنه - قال: (يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا بعيداً، ولئن أخذتم يميناً أو شمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً.. 3- وروى الآجري بسنده عن أبي العالية قوله: (تعلموا الإسلام، فإذا تعلمتموه فلا ترغبوا عنه، وعليكم بالصراط المستقيم، فإنه الإسلام ولا تحرفوا عن الصراط يميناً ولا شمالاً، وعليكم بسنة نبيكم - صلى الله عليه وسلم - والذي عليه أصحابه، فإنا قد قرأنا القرآن من قبل أن يفعلوا الذي فعلوه خمس عشرة سنة، وإياكم وهذه الأهواء التي تلقي بين الناس العداوة والبغضاء، فحدثت به الحسن فقال: صدق ونصح..) . 4- وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (عليكم بالاستقامة والأثر وإياكم والتبدع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 5- وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال: (اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم كل ضلالة) . 6- وروى الإمام أحمد في الزهد بسنده عن الحسن البصري أنه قال: (اعرفوا المهاجرين بفضلهم، واتبعوا آثارهم وإياكم ما أحدث الناس في دينهم، فإن شر الأمور المحدثات) . 7- وكتب عمر بن عبد العزيز إلى أحد ولاته: (أما بعدن أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره واتباع سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وترك ما أحدث المحدثون بعد ما جرت به سنته، وكفوا مؤنته فعليك بلزوم السنة؛ فإنها لك بإذن الله عصمة ثم اعلم أنه لم يبتدع الناس بدعة إلا قد مضى قبلها ما هو دليل عليها أو عبرة فيها، فإن السنة إنما سنها من قد علم ما في خلافها من الخطأ والزلل، والحمق والتعمق، فارض لنفسك ما رضي به القوم لأنفسهم، فإنهم على علم وقفوا وببصر نافذ كفوا، وهم على كشف الأمور كانوا اقوي، وبفضل ما كانوا فيه أولى فإن كان الهدى ما أنتم عليه لقد سبقتموهم إليه.. ولئن قلتم: 0إنما حدث بعدهم) ما أحدثه إلا من اتبع غير سبيلهم، ورغب بنفسه عنهم، فإنهم هم السابقون فقد تكلموا فيه بما يكفي ووصفوا منه ما يشفي، فما دونهم من مقصر وما فوقهم من محسر وقد قصر قوم دونهم فجفوا وطمح عنهم أقوام فغلوا وإنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 8- وقال أيوب السختياني: (ما ازداد صاحب بدعة اجتهاداً إلا ازداد من الله بعداً) . 9- وقال أبو قلابة: (ما ابتدع رجل بدعة إلا استحل السيف) . 10- وقال حسان بن عطية - كما روى ذلك الأوزاعي عنه: (ما ابتدع قوم بدعة في دينهم إلا نزع الله من سنتهم مثلها ولا يعيدها إليهم إلى يوم القيامة. 11- قال رجل لسفيان الثوري: يا أبا عبد الله أوصني، قال: إياك والأهواء، وإياك والخصومة، وإياك والسلطان) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وهذه بعض أقوال العلماء في ذم البدع: جاءت الشريعة الإسلامية بمصالح الأنام في معاشهم ومعادهم وسلكت لأجل ذلك أوضح المسالك وأعطت كل دارج عليها نوره لتهدي وحذرته من مغبة التنكب المقيت؛ لأنه الضلال والفساد والمهالك. والقلوب كالأبدان، لها غذاء ودواء وبلاء فـ ( … الشرائع أغذية القلوب فمتى اغتذت بالبدع لم يبق فيها فضل للسنن فتكون بمنزلة من اغتذى بالطعام الخبيث. بل بمنزلة من تعاطى السموم المهلكة واتخذ الدواء من أنياب الأفاعي لأن فاعل البدع: (.. يناقض الاعتقادات الواجبة، وينازع الرسل ما جاءوا به.. وحينئذ.. تورث القلب نفاقاً.. فمن تدبر هذا علم يقيناً ما في حشوة البدع من السموم المضعفة للإيمان ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر..) . لأن الجامع بينها هو مشاقة أمر الله - سبحانه وتعالى - والخروج عن الطريق المستقيم القاصد، إلى الطريق الجائز. وهذا هو الجامع أيضاً بين البدع والمعاصي، بيد أن البدع في عمومها أشر من المعاصي، وأشد إثماً، كما قرر ذلك شيخ الإسلام حين قال: (.. والبدعة شر من المعصية كما قال سفيان الثوري: والبدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها) . واستدل - رحمه الله - على أن البدع شر من المعاصي بحديث الرجل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 كان يدعى (حماراً) وكان يضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكان يكثر من شرب الخمر فحده النبي - عليه السلام -، فلعنه أحد الصحابة فقال: "لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله". وشرب الخمر معصية، ولكنه لما كان صحيح الاعتقاد، محباً لله ورسوله شهد له النبي - عليه السلام - بذلك ونهى عن لعنه. واستدل على غلظ البدعة وعظم خطرها بحديث الرجل الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: (هذه قسمة ما أريد بها وجه الله) فقال النبي - صلى الله عليه وسلم: "يخرج من ضئضيء هذا قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم.. يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية". ولكون البدع أشر من المعاصي صار (أئمة أهل البدع أضر على الأمة من أهل الذنوب.. ولهذا أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بقتل الخوارج ونهى عن قتال الولاة الظلمة..) . والسبب في أن البدع أسوأ حالاً ومآلاً من المعاصي ما بينه سفيان الثوري، - رحمه الله - في الكلام المنقول عنه آنفاً، يضاف إلى ذلك أمور هي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من أسباب اعتبار البدع أضخم في الإثم والذم من المعاصي، وهي في ذات الوقت ذم للبدع فمن ذلك: 1- أن المبتدع بلسان حاله يتهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالخيانة في أداء الأمانة والرسالة، وذلك بكونه يحدث من العبادات والاعتقادات والأقوال والأعمال ما يعتقد أنه قربه إلى الله - تعالى -، ولو كان كذلك لأخبرنا به نبينا - محمد صلى الله عليه وسلم - لأنه ما ترك خيراً إلا دلنا عليهن ولا شراً إلا نهانا عنه، وهذا المبتدع كأنه يقول بفعله: هذه طريقة حسنة، وعبادة تقرب إلى الله وتنيل الثواب الوفير، وهذا اتهام للمبلغ الأمين - عليه أفضل الصلاة والتسليم-، كما قال إمام دار الهجرة مالك بن أنس - عليه رحمة الله-: (من أحدث في هذه الأمة شيئاً لم يكن عليه سلفها، فقد زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خان الرسالة، لأن الله يقول: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) ، فما لم يكن يومئذ ديناً فلا يكون اليوم ديناً) . 2- أن البدع مضادة للشريعة ومتهمة لها، إذ تستدرك على الشرع بزيادة أو نقصان، أو تغيير للأصل الصحيح الذي هو الصراط المستقيم، فالبدع عموماً: (.. مضادة للشارع، ومراغمة له حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة لا نصب المكتفي بما حد له) . 3- وعلة ذلك أن المبتدع: (.. المخالف للسنة يرد بعض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو يعارض قول الرسول بما يجعله نظيراً له من رأي أو كشف أو نحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 ولأن أهل البدع عموماً أصلوا أصولاً توافق أهواءهم، وتناقض الحق الذي أمر الله به، فلم يهتدوا إلى الحق، بل جعلوا ما أصلوه مقدماً على الشرع الحنيف، بل إنهم جعلوا كلامهم هو المحكم، وكلام الشارع هو المجمل المتشابه.. وهذا هو عين المضادة والمراغمة التي تقود إلى الاعتقادات الباطلة، والأعمال والأحوال الفاسدة، والخروج عن الشريعة والمنهاج الذي بعث به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلينا. 4- إن الشيطان الرجيم في تدرجه المشين لإضلال بني آدم بشروره واستحواذهن يسعى أولاً إلى إدخال الإنسان في الكفر والشرك، وهذه غاية أمانيه، فإذا لم يستطع ذلك انتقل (.. إلى المرتبة الثانية من الشر، وهي البدعة، وهي أحب إليه من الفسوق والمعاصي؛ لأن ضررها في نفس الدين، وهو ضرر متعد، وهي ذنب لا يتاب منه وهي مخالفة لدعوة الرسل، ودعاء إلى خلاف ما جاءوا به، وهي باب الكفر والشرك فإذا نال منه البدعة، وجعله من أهلها بقي أيضاً نائبه، وداعياً من ذاته، فإن أعجزه من هذه المرتبة، وكان العبد ممن سبقت له من الله موهبة السنة، ومعاداة أهل البدع والضلال، نقله إلى المرتبة الثالثة من الشر، وهي الكبائر على اختلاف أنواعها. ومن هذا الباب يخشى على المبتدع أن يكون كافراً، ويخاف عليه من سوء الخاتمة - نعوذ بالله -. ولهذا قيل: إن البدع مشتقة من الكفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وبسبب خطورة البدع، حذر العلماء الأجلاء من مجالسة ومخاطبة أهل البدع، والصلاة خلفهم، والرواية عنهم، والتحدث معهم؛ إلا لمن كان قادراً على كف شرهم عن نفسه، بالرسوخ في العلم، وعلاج ما هم فيه من البلاء بالحرص على إنقاذهم، ودعوتهم إلى الحق بالرفق والحكمة. فهذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - عليه رحمة الله - كان يغشى مجلسه عبد الرحمن بن صالح الأزدي - وكان رافضياً - فيقربه الإمام أحمد ويدنيه، فقيل له فيهن فقال: (سبحان الله! رجل أحب قوماً من أهل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم -..) . وكان عبد الرحمن هذا يحدث بمثالب الصحابة، وأمهات المؤمنين، ولكن الإمام أحمد - بفقهه، وعلمه بمقاصد هذا الدين، ورسوخه في علم الكتاب والسنة، وحرصه على إنقاذ هذا الرجل - الذي أخبر الإمام بحاله - كان يقربه ويدنيه، لعله يزيل عن قلبه غشاوة البدعة، وعن بصره ضلالة الهوى، ليعود إلى الحق المبين، كما فعل - رحمه الله - مع موسى بن حزام شيخ البخاري والترمذي، والنسائي، حيث (.. كان في أول أمره ينتحل الإرجاء ثم أعانه الله - تعالى - بأحمد بن حنبل، فانتحل السنة وذب عنها، وقمع من خالفها، مع لزوم الدين حتى مات. (.. ألا ترى أن الإمام أحمد لزمه أن يجلس معه المجالس الطوال، مناقشاً له برفق وسكينة، وحكمة وموعظة حسنة، حتى استطاع صرفه عن بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الإرجاء، التي توهمه أن العمل ليس شرطاً في الإيمان، وإنما هو تصديق القلب فقط، ثم مجالس أخرى علمه فيها السنن، ثم مجالس أخرى بعث فيه همة عالية، استمر حتى موته بالدفاع عن السنة وقمع مخالفيها، من أهل البدع والشهوات) . وكلام العلماء في دعوة المبتدعة وإرشادهم، وأمرهم بالمعروف، ونهيهم عن المنكر، واسع، له أحكامه وآدابهن ووسائلهن مما لا يتسع له الموضوع الذي نحن بصدده. وما ورد من أقوال فضلاء هذه الأمة في التحذير من مبتدع بعينه، يتوجه إلى من كان داعياً لبدعته، مصراً عليها، ومن كان مظهراً لها، وهو ممن يقتدى به، أما المسر ببدعته، والمستتر بشبهته، فالأولى عدم تعيينه بتحذير، أو تشهير أو تنفير؛ لما في ذلك من فساد، قد يؤدي إلى إصرار واستكبار، ودعوة إلى البدعة من حيث ظن أنه تنفير عنها، وجلب للفرقة والخلاف، بدلاً من الاجتماع والائتلاف، وسيأتي الحديث عن هذا مفصلاً في حكم المبتدع. أما ما ورد عن الأئمة النبلاء، في التحذير من أهل الأهواء فكثير، اذكر منه على سبيل المثال والاستدلال، لا على سبيل الحصر، ما يلي: أول تنبيه على هذا المعنى ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجليس الصالح والجليس السوء، والتمثيل بحامل المسك ونافخ الكير، وإذا كان هذا الحديث في عموم المعاصي والمخالفات بين، فهو في البدع والأهواء أبين، إذ إن للسنة عبقها وعبيرها، وشذاها ونداها.. وللبدعة نتنها وعفنها، وكيرها وأذاها. وكذلك ما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لا تجالسوا أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 القدر ولا تفاتحوهم". ومما يمكن أن يستدل به من كلام المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في هذا المعنى قوله: ".. ألا وإنه يخرج في أمتي قوم يهوون هوى، يتجارى بهم ذلك الهوى، كما يتجارى الكلب بصاحبه، لا يدع منه عرقاً ولا مفصلاً إلا دخله". ولهذا الحديث وجه في الاستدلال على وجوب الحذر من مجالسة ومخالطة أهل البدع. (وبيان ذلك: أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى، فإن أصل الكلب واقع بالكلب، ثم إذا عض ذلك الكلب أحداً صار مثله، ولم يقدر على الانفصال منه في الغالب، إلا بالهلكة، فكذلك المبتدع إذا أورد على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته، بل غما أن يقع معه في مذهبه، ويصير من شيعته وإما أن يثبت في قلبه شكاً، يطمع في الانفصال عنه فلا يقدر) . وقد فهم هذا المعنى الدقيق ابن طاووس حين دخل عليه وعلى ابنه أحد المبتدعة، فجعل يتكلم في القدر، فأدخل ابن طاووس أصبعه في أذنيه وقال لابنه: (أدخل أصابعك في أذنيك، واشدد، فلا تسمع من قوله شيئاً فإن القلب ضعيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 ووعى هذا من قبل الإمام الحجة محمد بن سيرين - رحمه الله - حين دخل عليه رجل من المبتدعة فقال: (يا أبا بكر، أقرأ عليك آية من كتاب الله، لا أزيد على أن أقرأها، ثم أخرج، فوضع إصبعيه في أذنيه ثم قال: أخرج عليك أن كنت مسلماً لما خرجت من بيتي، فقال يا أبا بكر: إني لا أزيد على أن أقرأ ثم أخرج، قال: فقال بإزاره يشده عليه ويتهيأ للقيام، فأقبلنا على الجرل، فقلنا: قد حرج عليك إلا خرجت، أفيحل لك أن تخرج رجلاً من بيته؟ قال: فخرج. فقلنا: يا أبا بكر ما عليك لو قرأ آية ثم خرج قال: إني والله لو ظننت أن قلبي يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ، ولكني خفت أن يلقي في قلبي شيئاً أجهد أن أخرجه من قلبي فلا أستطيع) . وهذا هو حكم (سماع كلام أهل البدع، والنظر في كتبهم لمن يضره ذلك ويدعوه إلى سبيلهم) . ولكنه ينهى في العموم عن ذلك لما يترتب عليه من مفاسد في الدين والدنيا. فهذا هو سبيل السلف - عليهم رضوان الله - أخذوه من تأديب الرسول - صلى الله عليه وسلم - للثلاثة الذين خلفوا في غزوة تبوك، وإن كان ذلك ليس ابتداعاً منهم، ولكنه مخالفة لأمر النبي - عليه السلام -، فكان ذلك دالاً على هجر أهل البدع، وعدم السماع منهم من باب الأولى، كما بوب أبو داود السجستاني لذلك في سننه بقوله: (باب مجانبة أهل الأهواء وبغضهم) ثم استدل بحديث كعب ابن مالك في قصة تخلفه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة تبوك. وهذا صاحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وابن صاحبه عبد الله ابن عمر - رضي الله عنهما - لما نقل له كلام نجدة الحروري: (.. جعل لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 يسمع منه كراهية أن يقع في قلبه منه شيء) . وقد ذهب إمام دار الهجرة إلى أبعد من ذلك فجعل تلقي العلم عن المبتدع الداعي لبدعته أمراً منهياً عنه، وهذا من باب الأولى أيضاً فإذا كان السماع قد نهي عنه فتلقي العلم أحرى بالنهي. قال مالك - رحمه الله -: (لا يؤخذ العلم عن أربعة: سفيه يعلن السفه وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعة يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنت لا أتهمه في الحديث، وصالح عابد فاضل إذا كان لا يحفظ ما يحدث به) . هذا في سماعهم والتلقي عنهم، أما في مجادلتهم والخوض معهم فيما خاضوا فيه، فقد نبه السلف على ذلك كثيراً، إذ جعلوا مصطلح (أهل الجدل والخصومات) مرادفاً لمصطلح (أهل البدع والأهواء) فهذا أبو قلابة يقول: 0إياكم وأصحاب الخصومات، فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم، أو يلبسوا عليكم بعض ما تعرفون. بل قد جعل الحكم بن عتيبة الخصومات سبباً في دخول الناس في الأهواء والبدع حين سأله أحد أصحابه: (ما اضطر الناس إلى هذه الأهواء أن يدخلوا فيها؟ قال: الخصومات) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 ولعله يدخل في هذا ما يسلكه بعض أهل السنة، بدافع حبهم للسنة وتحذيرهم من البدعة، فيجادلون عن السنن، ويخاصمون أهل البدع، فيكون ذلك سبباً في نشر بدعة كانت نائمة، والإشارة إلى مبتدع لم يكن معروفاً، قال الفضيل ابن عياض: (لا تجادلوا أهل الخصومات، فإنهم يخوضون في آيات الله) . وقد بوب اللالكائي - رحمه الله - لهذا باباً سماه: (سياق ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في النهي عن مناظرة أهل البدع، وجدالهم والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة وآرائهم الخبيثة) . وهذا لا يعارض ما ذكرناه آنفاً من دعوة المبتدعة، وإرشادهم، ولا يعارض كذلك التحذير منهم وكشف شبههم والرد عليها. بشرط أن يلتزم في ذلك بآداب الدعوة إلى الله عز وجل، ومعرفة المهم والأهم، وقاعدة أخف الضررين، وأعلى المنفعتين. وما يقال في ترك السماع من أهل البدع، وترك الخوض فيما خاضوا فيه، يقال كذلك في مجالستهم، وجامع ذلك هو الذم للمبتدع ولبدعته، والتحذير منه، فعن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (لا تجالس أهل الأهواء؛ فإن مجالستهم ممرضة للقلوب) . وعن عبد الله بن المبارك: (يكون مجلسك مع المساكين، وإياك أن تجالس صاحب بدعة) . وعن الحسن البصري قال: (لا تجالسوا أهل الأهواء، ولا تجادلوهم، ولا تسمعوا منهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 وهذا ما يسميه العلماء: (هجر أهل البدع والأهواء) . ولابد من التنبيه هنا إلى أن الهجر حكم شرعي، يأتي على وجه التأديب لمن أظهر المنكرات والمحدثات (.. وهذا حقيقة قول من قال من السلف والأئمة: إن الدعاة إلى البدعة لا تقبل شهادتهم، ولا يصلى خلفهم، ولا يؤخذ عنهم العلم، ولا يناكحون، فهذه عقوبة لهم حتى ينتهوا، ولهذا يفرقون بين الداعية وغير الداعية..) . ولابد من تنبيه آخر يناسب هذا المقام وهو: أن الذم الوارد للمبتدعة وللبدع، فإذا ثبت ذم البدع فقد ثبت ذم صاحبها، وإذا تأكد ذم مقارف البدع دل ذلك من باب الأولى على ذم ما كان سبباً في استحقاقه لهذا الذم. وإنما تطلق هذه المعاني التي ذكرناها آنفاً في باب التحذير من البدع والتنفير من أهلها، ولهذا الباب متعلقات حكمية تفصيلية، تختلف باختلاف البدعة من حيث ضخامتها، أو ضآلتها، وكونها في الأصول أو الفروع العلمية العملية، وتختلف كذلك باختلاف أحوال المبتدع جهلاً أو علماً، وهوى أو تأولاً، ودعوة أو استتاراً، مما ينبغي مراعاته والعناية به، وسوف يأتي تفصيله - بعون الله - في الباب الثالث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 لمحة تاريخية عن ظهور البدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المبحث الأول: اللمحة التاريخية الموجزة لظهور البدع: لم يكن ظهور البدع في دين الإسلام على شكل طفرة في زمن واحد وبشكل مفاجئ، وإنما كان ذلك في أزمنة مختلفة متباعدة، وبهيئات وكيفيات متنوعة، وفي أشخاص وثبات وجماعات متباينة. وكلما ظهرت شمس النبوة في مكان أو زمان، أو شخص أو جماعة، اختفت حنادس البدع، وكلما حجبت أنوار الرسالة، بدت دياجير ظلام الهوى والابتداع، ولذلك فسوف أعرض لتاريخ البدع هنا بإيجاز، على حسب الفترات التاريخية، ذاكراً أهم البدع وأغلظها في كل فترة، لأجمع بين المنهجين اللذين ذكرهما شيخ الإسلام في ترتيب الناس لأهل الأهواء، إذ إن ( … منهم من يرتبهم على زمان حدوثهم، فيبدأ بالخوارج، ومنهم من يرتبهم بحسب خفة أمرهم وغلظه..) . الفترة الأولى: "فترة ما قبل ظهور البدع". من بعثته - صلى الله عليه وسلم - حتى عام 35 هـ. فيها بعث المصطفى - عليه السلام - فنشر الإسلام، وأقام على طريق الجنة المعالم بسيرته وسنته، وبه اقتدى ذلك الرهط الكريم. وشعت أنوار النبوة، فزهق الباطل، وتراجع حزب الشيطان مذؤوماً مدحوراً، وأقيم صرح الملة الحنيفية، وتزلزل كيان الوثنية. وتحرر الإنسان من ربقة العبوديات المتفرقة، ونجا من نيران الشهوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والشبهات المحرقة، ليصبح عبداً للإله الواحد الأحد، الفرد الصمد، ثم ليكون بعد ذلك في نور التوحيد معتصماً بالعروة الوثقى لا انفصام لها. وفي فترة حياة الرسول - عليه السلام - كان ينزل الوحي الكريم، فكان منه ري القلوب، وشبع العقول، وطمأنينة الأرواح، وكان الصحابة - رضوان الله عليهم - يجدون فيه أمنهم وأمانهم، وإسلامهم وإيمانهم، فمنه كانوا ينهلون وعليه كانوا في أقوالهم وأعمالهم واعتقادهم يعتمدون. استناروا بنوره فلم يضلوا، وتمسكوا بقوته فلم يذلوا، آمنوا بغيبه وعملوا بشرعه، فخافوا من وعيده واطمأنوا لوعده، حفظوه من بعد أن وعته قلوبهم، وفهمته عقولهم، وطبقته جوارحهم. وكان الوحي الطريق الوحيد لاعتقادهم، والسبيل الفريد لأعمالهم، فلم تجرفهم الشبهات، ولم تلعب بهم الأهواء، فكانوا على هدى من الله وفي صراط مستقيم، قدوتهم نبيهم، يبلغهم عن ربهم، فيصل الأرض بالسماء ويربط الدنيا بالآخرة.. وبه كانوا يقتدون، وعلى سنته يسيرون، أفعاله وأقواله وأحواله - عليه السلام - محط أنظارهم، ومجال تنافسهم، وقرة أعينهم وبهجة أفئدتهم، فكانوا لذلك خير أمة أخرجت للناس، وكانوا خير القرون.. أهم ما يشغلهم تطبيق هذا الدين، واتباع الرسول الأمين، والحذر من مخالفته بالتقصير عنه، أو الاستدراك فيه، أو الإفراط بالغلو والتعمق والتنطع، أو التفريط بالتكاسل والتهاون، فكانوا بذلك أمة وسطاً وكانوا على عقيدة واحدة؛ لإدراكهم زمن الوحي، وحيازتهم شرف صحبة النبي - صلى الله عليه وسلم - وشدة تمسكهم بالمأثور، ونفورهم من الابتداع والافتراق، وإن كان قد حصل بينهم تنازع في مسائل الاجتهاد؛ فذلك لسعة هذا الباب، وارتفاع الملام عن كلا المتنازعين باجتهاد. إلا أن الصحابة الكرام لم يتنازعوا في مسألة من قواعد هذا الدين أو كلية من كلياته، أو أصل من أصوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 كما قال ابن القيم - رحمه الله -: (.. أهل الإيمان قد يتنازعون في بعض الأحكام، ولا يخرجون بذلك عن الإيمان، وقد تنازع الصحابة في كثير من مسائل الأحكام، وهم سادات المؤمنين، وأكمل الأمة إيماناً.. ولكن - بحمد الله - لم يتنازعوا في مسألة واحدة من مسائل الأسماء، والصفات، والأفعال، بل كلهم على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة، كلمة واحدة من أولهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلاً، ولم يحرفوها عن مواضعها تبديلاً ولم يبدوا لشيء منها إبطالاً، ولا ضربوا لها أمثالاً، ولم يدفعوها في صدورها، وأعجازها، ولم يقل أحد منهم يجب صرفها عن حقائقها، وحملها على مجازها، بل تلقوها بالقبول والتسليم، وقابلوا بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلها أمراً واحداً، وأجروها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع، حيث جعلوها عضين، وأقروا ببعضها وأنكروا بعضها، من غير فرقان مبين..) . هكذا كان عصر خيرة أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -: اتباع عن طواعية ومحبة، وبعد عن البدع والجدل والخصومات، والمشكلات والمشتبهات، وكل ما فيه مغبة، وانتصار للحق الذي يؤمنون به، ودعوة إلى الله وجهاد في سبيله. وإن كان قد حدث بعض الميل عن هذا الخط العام، والصراط الواضح، فإنما كان ذلك من بعضهم - عليهم رضوان الله - وكان بمثابة قزعة صغيرة من السحاب، في ليلة بدر ساطعة، لاحت ثم راحت، وأطلت ثم اضمحلت، فمن ذلك ما أراده النفر الثلاثة - عليهم رضوان الله - حين سألوا عن عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فكأنهم استقلوها، فقال أحدهم: أصوم ولا أفطر، وقال الثاني: لا أتزوج النساء، وقال الثالث: لا آكل اللحم، فنهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك، وأخبرهم بالسنة، فانتهوا - عليهم الرضوان. وحين تكلم بعض الصحابة في القدر، فخرج عليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فنهاهم عن ذلك الصنيع فانتهوا، ومنعهم من هذا ومثله فامتنعوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 ففي مسند الإمام أحمد، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أن نفراً كانوا جلوساً بباب النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ وقال بعضهم: ألم يقل الله كذا وكذا؟ فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فخرج، فكأنما فقيء في وجهه حب الرمان، فقال: "بهذا أمرتم، أو بهذا بعثتم، أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض؟ إنما ضلت الأمم قبلكم في مثل هذا، إنكم لستم مما ههنا في شيء، انظروا الذي أمرتم به فاعملوا به، والذي نهيتم عنه فانتهوا) . وفيه بالسند نفسه أنه - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يتنازعون في القدر، هذا ينزع آية، وهذا ينزع بآية، فذكر الحديث. وهذا الذي حدث بين بعض الصحابة - عليهم رضوان الله - شذوذ يؤكد القاعدة ولا ينفيها، وأمر عارض اقتضته الحكمة الإلهية، ليكون منه التأديب والتعليم، والتشريع إلى قيام الساعة.. ولذلك فإننا نرى أن الصحابة - عليهم رضوان الله - لما قامت فتنة القدرية، كانوا مصابيح الهداية في ظلمات الشبهات، التي علقت بأذهان بعض الناس. وفي العهد النبوي بعد الهجرة، ظهرت بعض البذور الخبيثة لبعض البدع لكنها لم تكن ظاهرة على السطح، أو بارزة للعيان، ولم تكن قد اتخذت مساراً فكرياً أو عملياً واضحاً.. وإنما كانت بمثابة اعتراضات سطحية جانبية لم تشكل عمقاً، ولم تكن ذات بال، ولولا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر بأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بذرة لفرقة تخرج فيما بعد، لما التفت لها إلا كما التفت إلى اعتراضات المنافقين أو اليهود، وذلك أن نور النبوة الساطع كان هو الأعم الأغلب، ومثل هذه النتوءات الضئيلة ما كانت لتحجب ضوء الرسالة الصافي. (والنبي - صلى الله عليه وسلم - إنما ذكر الخوارج الحرورية لأنهم أول صنف من أهل البدع خرجوا بعده، بل أولهم خرج في حياته فذكرهم لقربهم من زمانه..) . قال شيخ الإسلام في المعنى الذي قررناه آنفاً: (ومعلوم أنه كلما ظهر نور النبوة كانت البدعة المخالفة أضعف، فلهذا كانت البدعة الأولى أخف من الثانية، والمتأخرة تتضمن من جنس ما تضمنته الأولى وزيادة عليها، كما أن السنة كلما كان أصلها أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - كانت أفضل، فالسنن ضد البدع، فكل ما قرب منه - صلى الله عليه وسلم - مثل سيرة أبي بكر وعمر كان أفضل مما تأخر كسيرة عثمان وعلي، والبدع بالضد كلما بعد عنه كان شراً مما قرب منه، وأقربها من زمن الخوارج فإن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه، ولكن لم يجتمعوا وتصير لهم قوة إلا في خلافة أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه-) . ويشير شيخ الإسلام بقوله: (إن التكلم ببدعتهم ظهر في زمانه - صلى الله عليه وسلم - إلى قصة ذي الخويصرة المروية في الصحيح عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال: (بينما نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم قسماً أتاه ذو الخويصرة وهو رجل من بني تميم فقال: يا رسول الله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 اعدل، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "فمن يعدل إذا لم أعدل.."، فقال عمر بن الخطاب: ائذن لي فيه فأضرب عنقه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "دعه فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية، ينظر أحدهم إلى نصله، فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى رصافه فلا يوجد فيه شيء، ثم ينظر إلى قذذه فلا يوجد فيه شيء، سبق الفرث والدم، آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل البضعة تدردر يخرجون على حين فرقة من الناس.. قال أبو سعيد: فأشهد أني سمعت هذا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأشهد أن علي ابن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل فالتمس فوجد فأتي به حتى نظرت إليه على نعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي نعت) . وهذه البدعة التي فاح شيء من نتنها في عهد النبوة المبارك، لم تكن سوى ومضة تشبه ارتداد الطرف، في ضحاً أشرق بالسنا النبوي وأضاء بسراج الرسالة المحمدي، فلم يكن لها أن تطمس شيئاً من ذلك وأتي لها؟ بيد أن هذه البدعة كانت نواة بدع ضخام كبرى فيما بعد، ومن هذا الباب عد العلماء الفضلاء بدعة الخوارج أول البدع ظهوراً، وعدوها كذلك البدعة التي حدثت في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم-. ولا تناقض بين قول هؤلاء وقول الذين قالوا بأنه لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - شيء من البدع والأهواء فإن كلا القولين صحيح من جهة، فأما قول الأولين فإنهم قصدوا أن جذور بدعة الخوارج وجدت منذ أن اعترض ذو الخويصرة على حكم الرسول - عليه السلام -، ودليلهم في ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: " … إن من ضئضيء هذا قوماً يقرأون القرآن ولا يجاوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 حناجرهم". والضئضيء بالهمز: الأصل، والمراد يخرج من صلبه ونسله وهذا ما حدث في آخر العهد الراشد. وبهذا الاعتبار عدت هذه أول بدعة في الإسلام حدثت في مدة حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم-. لأن هذه معارضة للشرع بالهوى، ومعاندة للنص بالرأي الباطل، فمن هنا كانت أولى البدع. وأما من قال بأنه لم يكن في عهده - صلى الله عليه وسلم - شيء من البدع، فينصرف إلى اعتبار ظهورها وتفشيها وانتشارها، وتجمع الناس حولها، وهذا لم يحدث في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، وما كان ليحدث والوحي يتنزل والإسلام في زيادة، والنبي حي - عليه أفضل الصلاة والتسليم - وهو الناصح الأمين والمجاهد الجاهد في طمس كل ما لا يحبه الله. وبدأو ببعض المخالفات التي قد تحسب في حساب البدع كقول الثلاثة، وتنازع بعض الصحابة في القدر، واعتراض ذي الخويصرة.. لا يشكل ظاهرة يشار إليها.. وإنما كان حدوث ذلك وفق حكمة الباري - عز وجل - ليكون بسببها التنبيه على خطورة البدع، والتحذير من شرها، وفي ذلك بلاغ وذكرى للمؤمنين. وبعد وفاة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ظهرت الاعتراضات كالبذور، وظهر منها الشبهات كالزروع، ولكنها كانت في أغلبها اختلافات اجتهادية، خصوصاً ما حدث بين الصحابة - عليهم رضوان الله - وكان كل قصدهم إقامة مراسم الدين وفق مناهج الشرع القويم، وحفظ الملة من كل خطأ وزلة، فكان بينهم اختلافات اجتهادية، لم تصل إلى حد البدعة والفرقة، مثل ما حدث في مرضه - عليه السلام - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 في شأن الكتاب الذي طلب النبي - صلى الله عليه وسلم - كتابته، وما حصل بين ابن عباس وعمر - رضي الله عنهما - في ذلك، وما حصل كذلك عند وفاته - عليه السلام -، حينما اعتقد عمر أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يمت وإنما رفع إلى السماء. وما حصل في موضع دفنه عليه السلام. ثم ما حصل من خلاف في السقيفة بين المهاجرين والأنصار، في موضع الإمامة، ولكن الله سلم تلك الأمة المختارة من الفتنة في هذا الباب، الذي كان فيما بعد سبباً من أسباب الفتن، ومدخلاً من مداخل البدع، ثم ما حصل من اختلاف بين الصحابة في أمر فدك وفي إرث النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم في قتال مانعي الزكاة وأشباه هذه المسائل التي لم تكن من البدع في شيء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 والحمد لله؛ بل كانت من الأمور الاجتهادية التي يؤجر فيها المصيب والمخطئ لكونها من مسائل الأحكام. وهكذا كان عهد أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - هو أقرب العهود إلى العهد النبوي المبارك، وكان من أهم ما حدث في هذا العهد قتال المرتدين، ولم يعتبر العلماء أهل الردة من المبتدعة لكونهم جحدوا بعض أركان الإسلام، وأعلنوا الخروج على الدين باتباعهم للكاذبين المدعين للنبوة، وتصريح بعضهم بالكفر والردة عن الإسلام. وفي عهد الفاروق عمر - رضي الله عنه - حدثت حوادث مفردة وحيدة في عصر الخلافة التي هي على منهاج النبوة.. وكانت نادرة في زمان، السنة فيه هي الملتزم، والشرع هو المحترم، والوحي هو المقدم، وهذا ما حدث من (صبيغ بن عسل) الذي كان يطرح على الناس ما استشكل عليه من متشابه القرآن، فأخذه عمر وضربه، حتى زال ما كان يجد في رأسه من شبه) . وبهذا تبددت نأمة هذه الشبهة وتلاشت نبتة هذه الفتنة، وهكذا مضى العهد العمري، فلما قُتل - رضي الله عنه - عام 24هـ انكسر الباب، ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 الفتن والبدع لم تطل برأسها في أول عهد ذي النورين - رضي الله عنه -، ولكنها قد فشت سراً بين الناس عن طريق عبد الله بن سبأ، وأشياعه، حتى حاصر الناسُ عثمان - رضي الله عنه - سنة خمس وثلاثين واقتحموا داره، وذبحوه، وهنا وقع السيف، وأسقط في أيدي كبار الصحابة، وبدت بوادر الفتنة التي حضر لها اليهودي، وإن كانت مقدمات هذه الفتنة، وما ترتب عليها فيما بعد من حروب ومشكلات، تعد من الخلافات السياسية، والأمور التي اختلفت فيها اجتهادات الصحابة - عليهم رضوان الله - إلا أنها كانت إرهاصات لبدع كبيرة هزت الأمة الإسلامية ولا تزال. ومن خلال هذا العرض الموجز، لهذه الفترة التاريخية، يتبين لنا بالمقارنة مع الفترات الآتية صفاء هذه الفترة من المحدثات، ونقاؤها من البدع والانحرافات، وما حدث من أمور مبتدعة في هذه الفترة، لم يكن سوى نقطة سوداء صغيرة في ثوب أبيض نقي، وحالة نادرة عابرة في حياة مليئة بالحرص على السنة وتطبيقها. الفترة الثانية من سنة 36 - 100 هـ: وتبدأ هذه الفترة من بداية ولاية أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - وقد اختلفت آراء الناس، وتفرقت أمورهم، وزاد ابن سبأ اليهودي أمور الفتنة بما كان يصنعه في السر بين الناس، حتى اقتتلوا وكانت وقعة الجمل سنة ست وثلاثين، وقد أثار فتنتها ابن سبأ ومن معه من السفهاء صباح ذلك اليوم، بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 أن تم في اليوم الأول ما يشبه الصلح بين الناس.. وفي سنة سبع وثلاثين وقعت موقعة صفين، وفيها رفع أهل الشام المصاحف، ودعوا إلى الحكم بما في كتاب الله، وقبل علي ذلك مكرهاً من بعض جيشه، ثم إنهم اعترضوا على قبول التحكيم بعد ذلك فكانت فرقة الخوارج الذين كفروا علياً - رضي الله عنه - ثم جعلوا أن من تبرأ من عثمان وعلي وطلحة والزبير والحكام من بني أمية فهو منهم، وانحازوا بعد ذلك وكونوا قوة تقوم على مبدأ تكفير العصاة من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - واعتبارهم من الخالدين في النار. وبدأ الخروج على الإمام، وقد جهد أمير المؤمنين علي في ردهم عن غيهم وتوضيح الشبهة لهم، ولكنهم لم يقبلوا منه بل كانوا يقاطعونه ويؤذونه ويشتمونه، وانتهى بهم الأمر إلى قتاله - رضي الله عنه -. وظهر على إثر فتنة الخوارج فتنة الشيعة، الذين أفرطوا في محبة علي - رضي الله عنه - كما أفرط الخوارج في بغضهم وإن كانت فكرة التشيع أسبق في عهد علي من فكرة الخوارج، فإن الناس كانوا يتعاطفون مع علي - رضي الله عنه - وكانت الشيعة المفضلة يفضلون علياً على عثمان من غير تجريح لأحد من الصحابة.. وبعد أن ازدادت الفتنة ووقعت المعارك، ازداد تعلق الناس بعلي - رضي الله عنه - وقد استغل ابن سبأ اليهودي الذي أظهر الإسلام هذه المحبة، الموجودة في قلوب الناس، فأظهر التعلق بمحبة آل البيت وخاصة علي - رضي الله عنه - وزعم أن علياً أوصى له بالخلافة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ونشر ذلك بين الناس، ثم غالى حتى زعم أن علياً كان نبياً يوحى إليه، ثم غلا حتى ادعى له الألوهية من دون الله - عز وجل -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 قال شيخ الإسلام: (وأول بدعة حدثت في الإسلام بدعة الخوارج والشيعة، حدثتا في أثناء خلافة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فعاقب الطائفتين، أما الخوارج فقاتلوه فقتلهم، وأما الشيعة فحرق غالبيتهم بالنار، وطلب قتل عبد الله ابن سبأ فهرب منه، وأمر بجلد من يفضله على أبي بكر وعمر". إلا أن الشيعة في تلك الفترة لم يكن لهم قوة ولا جماعة ولا إمام يقاتلون به المسلمين، نما كان ذلك للخوارج الذين تميزوا بدارٍ سموها دار الهجرة، وجعلوا ديار المسلمين الأخرى ديار كفر وحرب، وتميزوا كذلك بجماعة أطلقوا عليها الشراة، وجعلوا غيرهم من المسلمين كافراً، وتميزوا كذلك بقوة وقيادة، ولهذا كان فسادهم ظاهراً في سفك الدماء وأخذ الأموال والخروج بالسيف، وهنا ندرك حكمة الأحاديث النبوية التي جاءت بقتالهم وهي كثيرة جداً. الخوارج: منذ سنة سبع وثلاثين وشر الخوارج يزداد أواره؛ بسبب شدة الخوارج وتمسكهم بمبادئهم وتحمسهم لآرائهم، على شدة جهل بالدين، وقوة اندفاع نحو ما اعتقدوه؛ فاستولت على أذهانهم بعض المفاهيم للإيمان والكفر والحكم، فانطلقوا من فهمهم القاصر واستنباطهم الجزئي باسم الإيمان والحكم، فقتلوا المسلمين وأهرقوا الدماء، كما استهواهم فكرة البراء من الظالمين، فخرجوا على أئمة المسلمين، ومزقوا قوة الأمة وشتتوا جهودها، وفرقوا شملها، وكانوا من الأسباب القوية لضعف الفتح الإسلامي الرشيد. ومن أهم بدعهم: 1- الحكم على كل مرتكب للكبيرة بأنه كافر مخلد في النار حلال الدم والمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 2- أن من خالف القرآن بعمل أو برأي أخطأ فيه فهو كافر. 3- الخروج على الحاكم الظالم والفاسق. 4- يردون الأحاديث الواردة عن طريق عثمان وعلي ومعاوية - رضي الله عنهم - وكل من كان في حزبهم. 5- يرون أن الخلافة لا يشترط أن تكون في قريش أو في العرب، بل تكون بالشورى فيمن يختاره عقلاء الأمة. 6- يردون أخبار الآحاد التي فيها زيادة على ما في القرآن، كأحاديث الرجم ونحوها. هذه هي جملة المبادئ التي اتفق أكثر الخوارج عليها، وإن كانوا فيما بعد اختلفوا فيها وفي غيرها اختلافاً كبيراً. فإنهم كانوا كثيري الخلاف شديدي النزاع، يختلفون في أصغر الأمور وأدق المسائل، فيفترقون ويقتتلون، وربما كان هذا هو السبب الذي أدى إلى انهزامهم، وتضاؤلهم وانكسار شوكتهم فيما بعد، بالرغم من قوتهم وشدة شكيمتهم في القتال وندرة صبرهم فيه. وقد تفرع من فرقة الخوارج فرق كثيرة.. ففي سنة ثمان وثلاثين كانت وقعة النهروان بين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والخوارج (.. فقاتلهم علي - رضي الله عنه - بالنهروان مقاتلة شديدة فما انفلت منهم إلا أقل من عشرة، وما قتل من المسلمين إلا أقل من عشرة، فانهزم اثنان منهم إلى عمان، واثنان إلى كرمان، واثنان إلى سجستان، واثنان إلى الجزيرة، وواحد إلى تل مورون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 باليمن.. وظهرت بدع الخوارج في هذه المواضع منهم..". وهذا أحد أسباب تفرقهم في البلدان، وما ذكر آنفاً من شدة نزاعهم وغلظة جدالهم، هو السبب في تفرقهم إلى فرق متناحرة متقاتلة، لكل منها مقولة وعقيدة، كالأزارقة، والنجدات، والصفرية، والعجاردة، والإباضية..) وكانت لهم دولاً وحكومات في نجد واليمن وعمان والمغرب العربي ولا يزال من بقاياهم الإباضية المنتشرة في عمان وليبيا وأجزاء من المغرب العربي، وعلى منهجهم الفكري وطريقتهم العملية والاعتقادية وجدت في مصر في هذا القرن (جماعة المسلمين) أو ما يسمى بجماعة التكفير والهجرة. الشيعة: في أواخر عهد الخليفة الراشد عثمان - رضي الله عنه - نقم عليه بعض الناس أموراً بعضها لا يثبت بدليل، والآخر مما ثبت له مجال من الاجتهاد المقبول. وهناك أثيرت الفتن في الأقطار الإسلامية ضد الخليفة الراشد. وسواء أكانت هذه الفتن مثارة من قبل عبد الله بن سبأ اليهودي الذي تظاهر بالإسلام، أم أنه استغل وجود هذه الفتن لينشر أفكاره وسمومه، وهي مسألة تمسك كل فريق من المؤرخين قديماً وحديثاً فيها بجانب.. وهذا لا يعنينا هنا، ولكن الذي يعنينا أن ابن سبأ قد فعل فعلته تلك ومعه من المؤيدين من يثير الفتنة ويذكيها، ويجمع أراذل الناس وأوباش القبائل، والهمج والرعاع والغوغاء وسفلة الناس، ويرتب لكل منهم مسؤولاً ويكاتبهم ويحرضهم، حتى اجتمعوا على قتل الخليفة - رضي الله عنه - ووقعت الفتنة التي تموج كموج البحر، كما أخبر المصطفى - صلى الله عليه وسلم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وتولى علي - رضي الله عنه - في هذه الظروف الصعبة بعد أن بقيت المدينة والأمة الإسلامية فترة بدون خليفة، وكانت لعلي - رضي الله عنه - محبة في قلوب الناس، بما وهبه الله من علم وتقوى، وسابقة في الإسلام، وقرب من النبي - صلى الله عليه وسلم - وقوة في الحق. ولما تولى ازداد المعجبون به إعجاباً، وأصبحوا يعلنون على الناس آراءهم فيه ومحبتهم له، حتى وصل بهم الأمر إلى تفضيله على عثمان - رضي الله عنه - ولا سيما بعد أن انقسم الناس بينه وبين معاوية - رضي الله عنه - من جانب، وطلحة والزبير وعائشة - رضي الله عنهم - من جانب آخر. وازداد تعلق هؤلاء به بعد مقتل عمار ورجوع عائشة من معركة الجمل وندمها، وفي هذه الأثناء عملت السبئية عملها مستغلة هذه العواطف، وهذه القلوب المائلة نحو أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - فزادت في إذكائها، وأظهر ابن سبأ محبته لآل البيت وعلي بالذات، وغالى فيه وزعم أنه الوصي بالخلافة، ثم زعم له الرجعة، ثم زعم له الألوهية، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.. وبهذا يتضح لنا أن المتشيعين لعلي - رضي الله عنه - لم يكونوا على درجة واحدة منذ بداية الأمر. فالمفضلة على قسمين: الأول من يرى أفضليته على عثمان دون أبي بكر وعمر، والثاني من يرى أفضليته على سائر الصحابة وعلى أبي بكر وعمر، من غير تكفير أو ذم لأحد منهم. والسابة هم الذين كانوا يسبون أبا بكر وعمر، وتفرع منهم الرافضة الذين جاءوا في خلافة هشام بن عبد الملك للخروج مع زيد بن علي بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الحسين فخرجوا عليه وتركوه لرفضه التبري من الشيخين ولترحمه عليهما، فانقسم الشيعة: الرافضة فتولى أخاه أبا جعفر محمد بن علي، والزيدية يتولون زيد بن علي. والسبئية: وهم الذين كانوا يقولون بأنه إله وقد أحرقهم علي - رضي الله عنه -. وهم أصل فرق الشيعة الباطنية كالإسماعيلية والدروز والنصيرية. ومن أهم بدع الشيعة التي تكاد سائر الطوائف الشيعية أن تتفق عليها: 1- تفضيل علي - رضي الله عنه - على سائر الصحابة. 2- القول بإمامته نصاً ووصية. 3- القول بعصمته. 4- القول بإمامة وعصمة ذريته من بعده. مع أن بعض طوائف الشيعة تخالف في بعض هذه الأمور بزيادة فيها أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 نقصان، وبإضافات بدعية أخرى ليس هذا مجال استقصائها. وكما نشأت بدعة التشيع متعددة، فإنها اطردت في التعدد إلى عشرات الفرق والأهواء، فكان منها: الزيدية بفرقها المتعددة، وكان منها الإمامية الإثنى عشرية، والإمامية الإسماعيلية، وسائر الفرق الباطنية. القدرية: كان الكفار يتذرعون بالقدر ويحتجون به لتبرير شركهم ولتسويغ أعمالهم الفاسدة المبتدعة.. ففي القرآن المجيد: (يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك، واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم: (لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء) . أي: من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك مما كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً.. ومضمون كلامهم أنه لو كان - تعالى - كارهاً فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما مكننا منه، قال الله - تعالى - راداً عليهم شبهتهم: (فهل على الرسل إلا البلاغ المبين) .. أي: ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار، ونهاكم عنه آكد النهي، وبعث في كل أمة: أي في كل قرية وطائفة من الناس رسولاً..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وكان مشركوا قريش يخاصمون في القدر، ويجعلونه حجة لهم في ترك عبادة الله ووسيلة لهم في التخلي عن وحدانية الله. فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: (جاء مشركوا قريش يخاصمون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في القدر فنزلت: 0يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر) . وفي حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - تكلم بعض الصحابة في القدر فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - غضباناً ونهاهم عن ذلك وقد تقدم الحديث على ذلك. وقد حذر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه وأمته من القدرية وآرائهم، وأمر بهجرهم وتركهم وسماهم: مجوس هذه الأمة. فقد روى ابن أبي عاصم بسنده في كتاب السنة عدة أحاديث في ذلك منها: 1- عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: "إن لكل أمة مجوساً وإن مجوس هذه الأمة القدرية فلا تعودوهم إذا مرضوا ولا تصلوا على جنائزهم إذا ماتوا) . ولم يظهر الكلام في القدر إلا في عهد عبد الملك بن مروان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وكان هذا في آخر عصر الصحابة - رضوان الله عليهم - وكان أول من تكلم في القدر معبد الجهني، قال الأوزاعي: (أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له: سوسن كان نصرانياً فأسلم ثم تنصر، فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد". فكان أول من قال بها هو سوسن النصراني، وأول من أظهرها معبد الجهني، الذي قتله عبد الملك بن مروان في سنة ثمانين للهجرة. أما سوسن النصراني هذا فقد قال عنه ابن عون، كما روى اللالكائي بسنده: (أدركت الناس وما يتكلمون إلا في علي وعثمان حتى نشأ ها هنا حقير يقال له: سنسويه البقال.. قال: فكان أول من تكلم في القدر..". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وروى اللالكائي بسنده أيضاً عن يونس بن عبيد قال: (أدركت البصرة وما بها قدري إلا سنسويه ومعبد الجهني، وآخر ملعون في بني عوافة) . هذا هو أول بدعة القدرية (.. وأصل بدعتهم كانت من عجز عقولهم عن الإيمان بقدر الله، والإيمان بأمره ونهيه ووعده ووعيده. وظنوا أن ذلك ممتنع، وكانوا قد آمنوا بدين الله، وأمره ونهيه ووعده ووعيده، وظنوا أنه إذا كان كذلك لم يكن قد علم قبل الأمر، من يطيع ومن يعصي، لأنهم ظنوا أن من علم ما سيكون لم يحسن منه أن يأمر، وهو يعلم أن المأمور يعصيه، ولا يطيعه، وظنوا أنه إذا علم أنهم يفسدون لم يحسن أن يخلق من يعلم أنه يفسد، فلما بلغ قولهم بإنكار القدر السابق الصحابة، أنكروا إنكاراً عظيماً وتبرأوا منهم.. ثم كثر الخوض في القدر وكان أكثر الخوض فيه بالبصرة والشام، وبعضه في المدينة، فصاروا هم وجمهورهم يقرون بالقدر السابق وبالكتاب المتقدم، وصار نزاع الناس في الإرادة وخلق أفعال العباد، فصاروا في ذلك حزبين: (النفاة) يقولون: لا إرادة إلا بمعنى المشيئة، وهو لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد، وقابلهم الخائضون في القدر من (المجبرة) مثل الجهم بن صفوان وأمثاله فقالوا: ليست الإرادة إلا بمعنى المشيئة، والأمر والنهي لا يستلزم إرادة، وقالوا: العبد لا فعل له البتة، ولا قدرة، بل الله هو الفاعل القادر فقط". ثم أخذت المعتزلة القول بالقدر على أن الله عالم بأفعال العباد قبل أن تقع، ولكن أفعال الشر ليست بمشيئته وخلقه، وإنما هي من أفعال العباد فقط، ثم تعددت فرق القدرية وتشعبت مذاهبها وكل فرقة تكفر سائرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 المرجئة: لما وقعت الفتنة بعد مقتل عثمان بن عفان - رضي الله عنه - انقسم الصحابة كل بحسب اجتهاده، فرهط منهم مع علي وآخرون مع طلحة والزبير، وجماعة منهم مع معاوية، وبقيت فئة منهم لم تشارك في القتال، ولم يبدو رأيهم في المقاتلين، ومن هؤلاء سعد بن أبي وقاص وأبو بكرة، وابن عمر وعمران بن حصين، وأرجؤوا الحكم في أي الطائفتين أحق، وفوضوا أمرهم إلى الله - تعالى -. وهذا هو أول الكلام عن الإرجاء، وهو كما ترى ليس الإرجاء البدعي المتعلق بالإيمان، كما قال سفيان بن عيينه عندما سئل عن (الإرجاء فقال: " الإرجاء على وجهين: قوم أرجأوا أمر علي وعثمان فقد مضى أولئك.. فأما المرجئة اليوم فهم قوم يقولون: الإيمان قول بلا عمل، فلا تجالسوهم، ولا تؤاكلوهم، ولا تشاربوهم، ولا تصلوا معهم، ولا تصلوا عليهم ". قال الطبري بعد أن ساق جملة من الآثار في ذم المرجئة والتحذير منهم: (الإرجاء معناه ما بيّنا قبل من تأخير الشيء، فمؤخر أمر علي وعثمان - رضي الله عنهما - إلى ربهما، وتارك ولايتهما والبراءة منهما، مرجئاً أمرهما فهو مرجيء، ومؤخر العمل والطاعة عن الإيمان ومرجئهما عنه فهو مرجيء ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 وأول من أظهر الإرجاء، بمعنى إرجاء أمر المتحاربين من الصحابة إلى الله - عز وجل - هو (الحسن بن محمد بن الحنفية) كما ذكر ذلك علماء التراجم، وذكروا ندمه على تأليفه للكتاب الذي وضعه في الإرجاء. وذكروا نقد بعض الأئمة له بسبب هذا المؤلف، وعدّوه بذلك من المرجئه، وقد نقل العراقي عن الدارقطني قوله: (هو صحيح الحديث واحتج به أهل الصحيح، فلا اعتبار بكونه نسب إلى الإرجاء، فلم ينقل أنه عاد إليه بل قد روي عنه أنه ندم عليه.. ". وإن كان هذا الإعتذار عن الحسن بن محمد وله وجاهته من جانب، إلا أنه يوهم كما نقلت كتب التراجم أنه من المرجئة المبتدعة، وقد محّص الحافظ بن حجر القول في ذلك، وذكر أنه اطلع على كتاب الحسن بن محمد ولم يجد فيه القول المبتدع، الذي يعزل العمل عن الإيمان، فقال في تهذيب التهذيب ما نصه: ( ... قلت: المراد بالإرجاء الذي تكلم الحسن بن محمد فيه، غير الإرجاء الذي يعيبه أهل السنة، المتعلق بالإيمان، وذلك أني وقفت على كتاب الحسن بن محمد المذكور ... ) ، إلى أن قال الحافظ ناقلاً من هذا الكتاب: ( ... ونوالي أبا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 بكر وعمر - رضي الله عنهما - ونجاهد فيهما، لأنهما لم تقتتل عليهما الأمة ونرجيء من بعدهما ممن دخل في الفتنة، فنكل أمرهم إلى الله إلى آخر الكلام. فمعنى الذي تكلم فيه الحسن أنه كان يرى عدم القطع على إحدى الطائفتين المقتتلتين في الفتنة، يكون مخطئاً أو مصيباً، وكان يرى أنه يرجيء الأمر فيهما، أما الإرجاء الذي يتعلق بالإيمان، فلم يعرج عليه فلا يلحقه بذلك عاب) . وقد خصص البخاري - رحمه الله - باباً في كتاب الإيمان للرد على المرجئة خاصة كما قال ابن حجر: (قوله: (باب خوف المؤمن من أن - يحبط عمله وهو لا يشعر) هذا الباب معقود للرد على المرجئة خاصة "، وقد روى البخاري بسنده في هذا الباب عن زبيد قال: سألت أبا وائل عن المرجئة فقال: حدثني عبد الله أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر ". وفي هذا دلالة على أن قول المرجئة المبتدعة قد شاع فيما قبل سنة مائة للهجرة. إلا أن هذه البدعة لم تكن في بداية الأمر إلا موقفاً مضاداَ لموقف الخوارج، الذين يرون كفر مرتكب الكبيرة وخلوده في النار، فجاء هؤلاء بالقول بأن الأعمال ليست من الإيمان، مع أنه لابد في الإيمان من الإقرار باللسان، وأن الأعمال المفروضة واجبة وتاركها مستحق للذم والعقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ولذلك عد العلماء هذه البدعة بهذا المعنى من أخف البدع. فقال الحافظ الذهبي بعد أن ساق أسماء بعض العلماء الذين كانوا ينتحلون الإرجاء بالمعنى السالف.. ( ... قلت: الإرجاء مذهب لعدة من جلة العلماء ولا ينبغي التحامل على قائله ... ) . ولكن بدعة الإرجاء لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزه قوم حتى عدّوا الإيمان هو معرفة الله بالقلب فقط، وأن المعاصي والطاعات غير مضرة ولا نافعة، وأن إيمان الفاسق والعاصي كإيمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - وجبريل - عليه السلام -.. وهؤلاء هم غلاة المرجئة، منهم غيلان الدمشقي، ثم بعد ذلك جهم ابن صفوان كما سيأتي.. وقد افترقت المرجئة إلى فرق عديدة كل فرقة تضلل أختها. الفترة الثالثة: 101 - 177هـ: وفيها تأصلت بعض البدع السابقة وتطور بعضها، كما نشأت بدع جديدة. فكان للخوارج شوكة ظهرت بعد وفاة الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، وصار بينهم وبين الناس معارك، وظهرت الشيعة سنة إحدى وعشرين ومائة، وبايعوا زيد بن الحسين بن علي بالكوفة، ثم إنهم افترقوا عنه ورفضوه بسبب ترحمه على الشيخين، وبقي معه أناس قاتل بهم الكوفة، وانصرف آخرون وبايعوا جعفر بن محمد إماماً لهم ومن هنا افترقت الشيعة إلى إماميّة وزيديّة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وفي هذه الفترة ظهرت دعوة القرامطة على يد عمار بن يزيد: (خداش) في مرو، فدعا على دين الخرمية، وأباح النساء ونادى بأن لا صلاة ولا صوم ولا حج، وأظهر تأويلات الباطنية وذلك في سنة 118هـ. وفي هذه الفترة وجدت نواة الاتجاه الصوفي في كثير من بلدان الإسلام، لكنها كانت في بداية الأمر زهداً في الدنيا، وتقللاً منها وتزكية للنفس، ومجاهدة للطبائع والأخلاق الرذيلة ... مما سوف نعرض له بعد قليل، وقد تميزت هذه الفترة بظهور شخصيات كان لأعمالها وأفكارها أثراً عميقاً في وجود تأصيل بدع كثيرة، وسوف أذكر أشهر هذه الشخصيات التي كانت ذات أثر في تكريس بدعة سابقة، أو إيجاد بدعة لاحقة، مرتباً ذلك بحسب سني الوفاة: 1- غيلان بن مسلم الدمشقي (105هـ) : قال الأوزاعي: (أول من نطق في القدر رجل من أهل العراق يقال له سوسن، كان نصرانياً فأسلم، ثم تنصر فأخذ عنه معبد الجهني وأخذ غيلان عن معبد "، وقد أصبح غيلان الدمشقي فيما بعد ( ... داعية إلى القدر) ، وكان له مناقشات مع محمد بن كعب وربيعة الرأي، ذلك أن غيلان ( ... قدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 بكلمة قد صاغها حتى وقف على ربيعة فقال له: أنت الذي تزعم أن الله أحب أن يعصى، فقال له ربيعة: أنت الذي تزعم أن الله يعصى كرهاً؟ فكأنما ألقمه حجراً ... ". وكانت بين غيلان والإمام الأوزاعي مناظرة بين يدي الخليفة الأموي هشام ابن عبد الملك، وكان قد نهاه عمر بن عبد العزيز عن أقواله هذه ومنعه من نشر شكوكه وأوهامه، ودعا عليه، ولكنه عاد داعياً إلى بدعته بعد موت عمر فناقشه الأوزاعي وحكم عليه بأنه مرتاب ومن أهل الزيغ، فأمر هشام بقطع يده ورجله ولسانه وضرب عنقه وصلب في دمشق. وكانت بدعة غيلان الدمشقي تتركز في إنكار القدر، وبإنكار خلق الله لأعمال البشر التي فيها معصية لله سبحانه. وقد أصبح هذا القول فيما بعد أصلاً من أصول المعتزلة سموه (العدل) . 2- الجعد بن درهم توفي بعد عام 118هـ وهو من أهل حران: ومن موالي بني مروان، سكن دمشق وكان يتردد على وهب بن منبه، ويسأله عن صفات الله مستشكلاً مشككاً، فنهاه وهب عن ذلك، ومازال فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وهواه، حتى خرج على الناس ببدعة خلق القرآن، ونفي صفات الرحمن - جل وعلا - فأنكر أن يكون الله قد كلم موسى تكليماً أو اتخذ إبراهيم خليلاً، وقد أخذ هذه البدعة عن بيان بن سمعان، وأخذها بيان عن طالوت، هذا هو ابن أخت لبيد بن أعصم وزوج ابنته، ولبيد بن أعصم هو الساحر الذي سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد دعا الجعد إلى بدعته ونشرها في دمشق، وكان هو أول من قال بخلق القرآن، فأخذه هشام وأرسله على خالد القسري وهو أمير العراق، وأمره بقتله، فقتله يوم عيد الأضحى، وقال عند قتله مقولته المشهورة، وقد اختلف في قتله فقيل سنة 118هـ، وقيل 124هـ، ولكن من المؤكد أن لم يقتل إلا بعد عام 118هـ في خلافة هشام بن عبد الملك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 البدع التي دعا إليها الجعد: 1) أول من قال بأن القرآن مخلوق. 2) أنكر تكليم الله سبحانه لموسى عليه السلام. 3) أنكر اتخاذ الله إبراهيم خليلاً. 4) أول من قال بأن الله سبحانه ليس على العرش حقيقة. 5) أول من قال بأن الله استوى بمعنى استولى. ثم إن هذه البدع أخذها عنه الجهم بن صفوان ودعا إليها فنسبت إليه. 3- الجهم بن صفوان (128هـ) : من أهل خراسان ومولى لبني راسب، تتلمذ على الجعد بن درهم، وكان له اتصال بمقاتل بن سليمان، وعمل كاتباً للحارث بن سريج، وكان جهم بن صفوان في جيش الحارث بن سريج، وكان جهم بن صفوان في جيش الحارث فطعنه رجل في فمه فقتله، وقيل بل أسر وأوقف بين يدي سلم بن أحوز فأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 بقتله ... كان كاتباً متكلماً صاحب ذكاء وجدل. البدع التي دعا إليها جهم: 1) إنكار صفات الباري عز وجل. 2) القول بخلق القرآن. 3) القول بأن الله سبحانه في الأمكنة كلها. 4) القول بأن الإيمان عقد القلب وإن تلفظ بالكفر. 5) القول بالجبر وأنه لا فعل للإنسان ولا استطاعة بل كل الأفعال لله فقط. 6) الزعم بأن الجنة والنار تبيدان وتفنيان. 7) الزعم بأن علم الله حادث. وأصبح إطلاق لفظ الجهمية عند العلماء يشمل معنى خاصاً وآخر عاماً ... أما الخاص: فيقصد به من قال بأقوال جهم كلها أو أعظمها، كنفي الصفات والقول بالجبر والقول بفناء الجنة والنار. وأما الإطلاق العام: فيقصد به نفاة الصفات عامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 4- واصل بن عطاء (131هـ) : أبو حذيفة المخزومي مولاهم البصري ولد سنة 80هـ بالمدينة، كان بليغاً يهجر الراء في خطبه لأنه يلثغ فيها، كان يتعلم في مجلس الحسن البصري، فأظهر قولة المبتدع في مرتكب الكبيرة، وكان ذلك في مجلس الحسن البصري حين دخل عليه رجل فقال: (يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة، وهم وعيدية الخوارج، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر، والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان بل العمل على مذهبهم ليس ركناً من الإيمان، ولا يضر مع الإيمان معصية، كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً؟. فتفكر الحسن في ذلك وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء: أنا لا أقول إن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في منزلة بين المنزلتين لا مؤمن ولا كافر، ثم قام واعنزل إلى اسطوانة من اسطوانات المسجد، يقرر ما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن، فقال الحسن: اعتزل عنا واصل، فسمي هو وأصحابه معتزلة ... ". وفي رواية أخرى: أن واصل بن عطاء لما قال قولته هذه في مرتكب الكبيرة، طرده الحسن من مجلسه، فانضم إليه عمرو بن عبيد، واعتزلا حلقة الحسن، وانحاز إليه من وافق مذهبه، فسموا بالمعتزلة. وكان هلاكه في سنة إحدى وثلاثين ومائة وقد أخذ واصل بن عطاء من البدع التي سبقته فتأثر ببعضها، كبدعة الخوارج في الفاسق الملي، وتبنى بعضها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 كالقول بخلق القرآن، وكان هو رأس مذهب المعتزلة ومؤسسه، وأما البدع التي دعا إليها فهي: 1) القول بالمنزلة بين المنزلتين في الفاسق من أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. 2) أخذ رأي معبد الجهني في القدر، إلا أنه قال بأن الله عالم بالأشياء قبل وقوعها ولكن أفعال البشر ليست بمشيئته وإرادته، ولا من خلقه. 3) القول بنفي صفات الله - سبحانه وتعالى -. 4) القول بأن أحد الفريقين المتحاربين من الصحابة فاسق لا محالة، من غير تعيين له بعينه وأنه لا تقبل شهادة أحد منهم. فكانت هذه البدع التي قال بها واصل بن عطاء، كالأساسات التي انبنى عليها مذهب المعتزلة في الاعتقاد، وقد أضيف إلى هذه البدع بدع أخرى وأصلت عند المعتزلة فيما يسمونه بالأصول الخمسة، وكانت منهم فتن كبيرة على أهل السنة، إذ حملوا الناس بالقوة على اعتقاد أن القرآن مخلوق وغير منزل. 5- عمرو بن عبيد بن باب البصري (144هـ) : أصله من كابل وولاؤه لبني تميم، كان والده من شُرُط الحجاج بن يوسف الثقفي، وكان شيعياً، روى عن الحسن وأبي قلابة، وكان وهو وواصل بن عطاء يتعلمان في مجلس الحسن البصري، فطردهما الحسن من مجلسه لما قالا: الفاسق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 لا مؤمن ولا كافر. ونقل الذهبي في الميزان أن أول من تكلم في الإعتزال واصل الغزال، ودخل معه في ذلك عمرو بن عبيد، فأعجب به وزوجه أخته وقال لها: زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة.. . ويعتبر عمرو بن عبيد كبير المعتزلة ورأسهم بعد واصل بن عطاء وكان داعية إلى مذهبه. وسئل عنه يحيى بن معين فقال: (لا يكتب حديثه، فقلت له: كان يكذب؟ فقال: كان داعية إلى دينه ... ) . وكان يكذب لأجل مذهبه، ويروي عن الحسن البصري أشياء لم يقلها. ويعتبر عمرو بن عبيد المؤسس لفرقة المعتزلة، وقد اغتر بعض الناس بزهده وعبادته وتشقفه، حتى قال الإمام ابن عدي في الكامل: (وعمرو بن عبيد قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 كفانا السلف مؤونته حيث بينوا ضعفه في رواياته، وبينوا بدعته ودعاءه إليها ويغر الناس بنسكه ... " إلى أن قال: ( ... وللسلف فيما ينسب إلى الصلاح كلام كثير، حتى قال يحيى القطان: ما رأيت قوماً أصرح كذباً من قوم ينسبون إلى الخير، وكان يغر الناس بنسكه وتشقفه، وهو مذموم ضعيف الحديث جداً معلن بالبدع، وقد كفانا ما قال فيه الناس ". أما البدع التي دعا إليها فهي التي مضى ذكرها عند واصل بن عطاء، وقد ذكر علماء الجرح والتعديل ما قاله عمرو بين عبيد من بدع) . 6- مقاتل بن سليمان (150هـ) : أصله من بلخ، ويقال له الخرساني المروزي وهو أزدي بالولاء، انتقل إلى البصرة من بلخ وعاش بها، يروى على ضعفه وسقوطه ثقته عند بعض العلماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 عن أئمة كابن سيرين وعمرو بن شعيب والمقبري والزهري، اشتهر هذا الرجل بتفسير القرآن، قال الذهبي في السير: (قال ابن المبارك - وأحسن - ما أحسن تفسيره لو كان ثقة ... ". اتهمه أكثر من الأئمة بالكذب والضعف في الرواية، والنكارة في الحديث، والجسارة على الكذب، وغير ذلك من الأوصاف الجارحة، توفي في سنة خمسين ومائة للهجرة. البدع التي دعا إليها مقاتل: في الوقت الذي خرج فيه جهم بن صفوان ببدعة نفي صفات الله - عز وجل - جاء مقاتل بن سليمان ببدعة أخرى كردة فعل لبدع الجهم فأثبت لله الصفات على سبيل تشبهه - سبحانه - بالمخلوقين. روى ابن عدي بسنده في الكامل أن مقاتلاً قدم مرو فتزوج بها، وكان يقص في الجامع بمرو، فقدم عليه جهم فجلس على مقاتل، فوقعت العصبية بينهما فوضع كل واحد منهما على الآخر كتاباً ينقض على صاحبه. وقال ابن حبان: ( ... كان يأخذ عن اليهود والنصارى علم القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الذي يوافق كتبهم، وكان شبيهياً يشبه الرب بالمخلوقين، وكان يكذب في الحديث ". وقد قرن الأئمة بين مقاتل وجهم في الذم والتحذير من كل منهما، بسبب بدعتيهما المتناقضتين، فقال الإمام أبو حنيفة: (أتانا من المشرق رأيان خبيثان جهم معطل ومقاتل مشبه) . وقال: (أفرط جهم في النفي حتى قال إنه ليس بشيء، وأفرط مقاتل في الإثبات حتى جعل الله مثل خلقه ". وقال أبو يوسف: (بخراسان صنفان ما على الأرض أبغض إليّ منهما المقاتلية والجهمية ". ولعل هذه البدعة التي قال بها مقاتل قد أخذها من بعده الهاشمية والكرامية، ودعوا إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 7- عبد الواحد بن زيد (177هـ) : أبو عبيدة البصري أدرك الحسن البصري، وأخذ عنه، كان كما قال ابن حبان: (ممن يغلب عليه العبادة حتى غفل عن الإتقان فيما يروي، فكثر المناكير في روايته فبطل الاحتجاج به ". وقال البخاري: (عبد الواحد بن زيد صاحب الحسن تركوه) . وكان يصاحب عمرو بن عبيد المعتزلي، ففارقه لاعتزاله، وقال بصحة الاكتساب، وقد نسب إليه شيء من القدر ولم يُشهر. وسبب إتيان هذا الرجل ضمن المبتدعة، أنه كان فَرَطاً للصوفية، ومنه ومن تلامذته انبثقت الصوفية بهذا الاسم، وصار لها بعض الاصطلاحات والمراسيم والشارات الخاصة، بل إنه أصبح للصوفيه دار خاصة في البصرة. قال الذهبي عن عبد الواحد بن زيد: ( ... نسب إلى شيء من القدر ولم يشهر، بل نصب نفسه للكلام في مذاهب النساك وتبعه خلق، وقد كان ثابت البُنَانى ومالك بن دينار يعظان أيضاً، ولكنهما كانا من أهل السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وكان عبد الواحد صاحب فنون، داخلاً في معاني المحبة والخصوص، وقد بقي عليه شيء من رؤية الاكتساب، وفي ذلك شيء من أصول أهل القدر، فإن عندهم لا نجاة إلا بالعمل، فأما أهل السنة فيحضّون على الاجتهاد في العمل وليس به النجاة وحدة دون رحمة الله، وكان عبد الواحد لا يطلق: أن الله يضل العباد تنزيهاً له، وهذه بدعة) . وقال الذهبي في الميزان: " عبد الواحد بن زيد البصري الزاهد شيخ الصوفية وواعظهم ". وقال شيخ الإسلام في معرض حديثه عن أصل كلمة صوفية: (وقيل - وهو المعروف - أنه نسبة إلى لبس الصوف، فإنه أول ما ظهرت الصوفية من البصرة، وأول من بنى دويرة الصوفية بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد من أصحاب الحسن، وكان في البصرة من المبالغة في الزهد، والعبادة، والخوف، ونحو ذلك ما لم يكن في سائر الأمصار ... ". وقد ذكر شيخ الإسلام بعض أصحاب عبد الواحد بن زيد الذين كان لهم أثر في إيجاد بعض بدع الصوفية فقال: (وظهر أحمد علي الهجيمي، الذي صحب عبد الواحد بن زيد، وعبد الواحد صحب الحسن ومن اتبعه من المتصوفة وبنى دويرة للصوفية، وهي أول ما بُني في الإسلام، وكان عبد الرحمن ابن مهدي وغيره يسمونهم الفقرية، وكانوا يجتمعون في دويرة لهم، وصار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لهؤلاء من الكلام المحدث طريق يتدينون به، مع تمسكهم بغالب الدين. ولهؤلاء من التعبد المحدث طريق يتمسكون به مع تمسكهم بغالب التعبد المشروع، وضار لهؤلاء حال من السماع والصوت حتى إن أحدهم يموت أو يغشى عليه) . ومن أصحاب عبد الواحد بن زيد: رياح بن عمرو القيسي، وهو أول من نسب للزندقة من الصوفية، قال عنه الذهبي: (رجل سوء) ، وقال: (هو من زهاد المبتدعة بالكوفة) ، وعدّه أبو داود أحد أربعة في الزندقة، وهكذا بدأت الصوفية من المبالغة في العبادة والزهد والمراقبة والحب والمقامات والأحوال والأفعال، وكلما أوغلوا في هذه الأبواب انفتحت عليهم صنوف البدع والأهواء، فأصبحت لهم عبارات ومعان يجعلونها حدوداً وسيراً وأخلاقاً يسير عليها المريد، ثم أصبحت بعد ذلك طرقاً مختلفة، كل طريق لها في السبل متاهات، ولها في البدع ترهات، وأصبحت طرق الصوفية تنتحل من كل فرقة ضلالة، فمنها من يقول بالجبر، ومنها من يقول بالقدر، وآخرون يسلكون الإرجاء، حتى قادتهم البدع إلى وحدة الوجود والاتحاد وتقديس للأولياء، وغير ذلك من البدع الكفرية - نسأل الله العفو والعافية -. وقد ذكر شيخ الإسلام منشأ الصوفية، وحكم الانتساب لها، وحكمها من حيث المدح والذم، ومراحلها التي مرت بها، وأصنافها الموجودة بما فيه الكفاية لمن أراد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الفترة الرابعة: 178 - 300هـ: في هذه الفترة تبلورت كثير من البدع وتداخل بعضها في بعض، وأصبح لبعض المبتدعة قوة وسلطاناً، ولبعض البدع مدارس ومناهج. وفي هذه الفترة توسعت الترجمة عن كتب الفرس، والهند، واليونان، وأصبح الإطلاع والتعلم من الكتب الفلسفية ميزة يحرص عليها الناس، ففُتن كثير من الناس بما يسمى (العقليات) فكانت فتنة الابتداع تترسخ ببعد الناس عن النقل، الذي هو الوحي الموافق للفطرة والعقل، وبما زُعم لهم من مسلمات عقلية وقواعد منطقية لا تقبل النقاش فضلاً عن الرد. فأخذت الفرق المبتدعة من هذه سنداً فكرياً لها، فالصوفية أخذت فلسفة الإشراق من الهند، والمعتزلة أخذت فلسفتها العقلية من المنطق اليوناني، والشيعة والباطنية أخذت فلسفة الإمامية والعصمة والحلول والتناسخ من فلسفات الفرس وهكذا ... وكما قال شيخ الإسلام عن هذه الفلسفات المعربة: ( ... فعُرب بعض كتب الأعاجم الفلاسفة من الروم والفرس والهند في أثناء الدولة العباسية. ثم طُلبت كتبهم في دولة المأمون من بلاد الروم، فعُربت ودرسها الناس وظهر بسبب ذلك من البدع ما ظهر ... ) . وفي هذه الفترة دخلت بعض البدع السالفة في بعض، فالمعتزلة مثلاً أخذت من القدرية والجهمية والخوارج. والشيعة أخذت من المجسمة، والمرجئة أخذت من الجبرية، والصوفية أخذت من التشيع وهكذا ... بيد أنه حصل لهذه الفرق من الشتات ما جعل كل فرقة منها تنقسم إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فرق عديدة، وسبل متفرقة، يلعن بعضها بعضاً، ويكفر بعضها بعضاً، كما هو حال أهل البدع في كل زمان. وقد ورد التعيين لأصول البدع لأول مرة في هذه الفترة على لسان يوسف ابن أسباط ثم عبد الله بن المبارك (وهما إمامان جليلان من أئمة المسلمين قالا: أصول البدع أربعة: الروافض، والخوارج، والقدرية، والمرجئة، فقيل لابن المبارك: والجهمية؟ فأجاب: بأن أولئك ليسوا من أمة محمد) . هذا التعيين لأصول البدع يدلنا على ضخامة كل واحدة من هذه البدع في زمانها، وأنه قد ترتب عليها بدع أخرى، وقد تكلف بعض الناس في تعيين الفرق الاثنتين والسبعين الهالكة بناء على هذا القول، فجعلوا لكل فرقة من هذه الفرق الأربع ثماني عشرة فرقة، ومن أدخل الجهمية مع الفرق الأربع جعل لكل طائفة من هذه البدع الخمس اثنتي عشرة فرقة، لكي يتم العدد الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ولكن هذا التعيين لا دليل عليه، وهو تحكم بغير برهان. والذي يهمنا هنا هو أن هذه الفرق الأربع التي جعلها ابن المبارك وابن أسباط أصل البدع، هي في الحقيقة من أمهات الفرق الضالة ، ولذلك فسوف نتحدث عن كل واحدة من هذه البدع، وما حصل لها ومنها في هذه الفترة بإيجاز. أمهات الفرق الضالة هذه الفرق الأربع التي جعلها ابن المبارك وابن أسباط أصل البدع، هي في الحقيقة من أمهات الفرق الضالة، ولذلك فسوف نتحدث عن كل واحدة من هذه البدع، وما حصل لها ومنها في هذه الفترة بإيجاز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 1- الشيعة: بعد أن وضع ابن سبأ بذور شره وهلك، أخذ مذهب السبئية بعده بنان ابن سمعان، وأنشأ طائفة تسمى البنانية، تقوم على تأليه علي ثم تأليه بنان، والقول بالتناسخ، وكان معه في هذه المدة وهذه البدعة المغيرة بن سعد البجلي، الذي كان يزعم أنه علياً - رضي الله عنه - كان يستطيع أن يحيي الموتى، وأن لمعبوده أعضاءً على صورة حروف الهجاء، ثم ظهر بعدهما وعلى نفس المنوال أبو منصور العجلي، الذي تنسب إليه فرقة المنصورية، وكان يزعم أنه رفع إلى السماء، وأن الله سبحانه مسح على رأسه، وكان هو وأتباعه من الشيعة ينكرون القيامة، ويزعمون أن علياً هو الكسف الساقط من السماء، وأن الجنة رجل أُمرنا بموالاته، وهو إمام الوقت، وأن النار رجل أُمرنا بمعاداته وهو خصم الإمام، وتأول المحرمات والفرائض على أسماء رجال، ثم جاء بعده أستاذ الباطنية وجامع ضلالات من سبق، ومضل من لحق أبو الخطاب الأسدي، الذي تنتسب إليه فرقة الخطابية الكافرة، القائلين بألوهية أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أبناء جعفر الصادق، وبالتناسخ، وبكون الشريعة ذات ظاهر وباطن، وأن الفرائض أسماء رجال ونساء. وكان أبو الخطاب الأسدي أحد شيوخ المفضل بن عمر الجعفي وهذا الأخير هو شيخ محمد بن نصير النميري الذي كون فرقة النصيرية الباطنية، ولما توفي جعفر الصادق سنة 148هـ انقسمت الشيعة بحسب اعتقاداتها السالفة في آل البيت، فالغلاة منهم وهم الذين ذكرنا آنفاً قالوا بإمامة إسماعيل ابن جعفر، الذي توفي قبل والده بخمس سنوات، والإمامية الرافضة قالوا بإمامة أخيه موسى الكاظم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 أما الإسماعيلية فقد بايعت على الإمامة محمد بن إسماعيل بن جعفر الإمام المكتوم كما يقولون، وفي هذه المدة تركز المذهب الباطني بفلسفاته، وظهر بفتنته في أيام المأمون العباسي، وكان تدبير أمر هذه الدعوة ونشرها واستمالة الناس إليها على يد عبد الله بن ميمون القداح، الذي كان مولى لجعفر بن محمد الصادق، وميمون بن ديصان، ومحمد بن الحسين الملقب بدندان، حيث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 اجتمع الثلاثة في سجن العراق، ووضعوا قواعد الملة الإسماعيلية، وبدأوا بنشر دعوتهم في جبال الأكراد، وبلاد المغرب، وفي أهل البحرين، ثم في أهل اليمن، وقد تمكنت الدعوة الباطنية من الانتشار، حتى دخل في دعوتهم من حشم المعتصم، وخاصته، وجلٌ يقال له: (أفشين) وكان يداهن بابك الخرمي الذي قام بحرب المسلمين وقتالهم وكانت منه أمور نكراء. وتفرع من مذهب الباطنية هذا مذاهب عديدة، كالقرامطة، والدروز، وإخوان الصفا، والحشاشين، وقامت لهم دولة العبيدية في المغرب ثم الفاطمية في مصر، والقرمطية في البحرين واليمن، وكانت لهم ثورات مثل ثورة الزنج، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 وكان منهم شر عظيم ومفاسد كبيرة ولا يزال. أما الشيعة الإمامية فإنهم كما سبق قد افترقوا على الإسماعيلية، بزعمهم أن الإمام جعفر الصادق هو موسى الكاظم، وفي الحقيقة أن هذا الإفتراق كان مبنياً على افتراق في المعتقد أساساً، مثلما افترقت الزيدية قبل ذلك عن الشيعة، وقد كان للشيعة الاثني عشرية بعض شأن في هذه الفترة من الزمان، ومما كان منهم أنهم خرجوا في البصرة على المأمون مع زيد بن موسى الكاظم، وكان أخوه علي الرضا وهو ثامن الأئمة الإثني عشر عند الإمامية، قد نال منزلة عند المأمون، فجعله ولي عهده وزوجه ابنته وضرب اسمه على الدنانير والدراهم، وغيّر من أجله زي بني العباس من الأسود إلى الأخضر، وبقي علي الرضا على ذلك حتى توفي بطوس سنة 203هـ. وفي هذه الفترة عاش ستة من الأئمة الإثنا عشر عند الشيعة الإمامية الرافضة وهم بالترتيب: 1) موسى الكاظم، المتوفي عام 183هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 2) علي الرضا، المتوفي عام 203هـ. 3) محمد الجواد، المتوفي عام 219هـ. 4) علي الهادي، المتوفي عام 254هـ. 5) الحسن العسكري، المتوفي عام 260هـ. 6) محمد المنتظر بن الحسن العسكري، الذي يسمونه الإمام المهدي المنتظر. وفي هذه الفترة ظهر متكلموا الشيعة الإمامية، ووضعوا المؤلفات في تأسيس عقائدهم، وأول من ألف في ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 علي ابن إسماعيل بن ميتم التّمار، ألف كتاب الإمامة وتكلم في هذه المسألة على مذهبه الشيعي الرافضي الإمامي. ثم كان بعده تلميذه هشام بن الحكم، الذي كان يعتبر من أكبر الشخصيات الكلامية في القرن الثاني الهجري، وكانت له معارك كلامية لمخالفي مذهبه الإمامي، مثل مناظرته مع أبي الهذيل المعتزلي، ويعتبر هشام بن الحكم عند الشيعة ( ... من متكلمي الشيعة ممن فتق الكلام في الإمامة، وهذب المذهب والنظر، وكان حاذقاً بصناعة الكلام حاضر الجواب ... " وكان مما قرره هشام بن الحكم في فلسفته الكلامية أنه قال: بأن الله - سبحانه وتعالى - جسم ذو أبعاض، وأنه سبعة أشبار بشبر نفسه وأنه - سبحانه - كالبلورة أو كالسبيكة، وغير ذلك من الأقوال التي هي في حقيقتها ولوازمها، تشبيه للباري - سبحانه وتعالى - بخلقه. فقد جمع هشام بن الحكم بين التشبيه والتجسيم في صفات الباري - سبحانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وتعالى - (وزعم أن الله علم بالأشياء بعد أن لم يكن علماً بها) ، وزعم كذلك بأن النبي تقع منه المعصية، ويأتيه الوحي بالتنبيه عليها ... أما الإمام فيجب أن يكون معصوماً عن المعصية، لأنه لا ينزل عليه الوحي. وتعتبر مدرسة هشام بن الحكم الكلامية ومؤلفاته الشيعية الفلسفية هي العمدة عند الشيعة الإمامية، مع بعض المخالفات اليسيرة التي طرأت على هذه النحلة فيما بعد. وممن ظهر في هذه الفترة وكان ينسج على منوال هشام بن الحكم، هشام ابن سالم الجواليقي وبسبب تمازج أقوالهما وتداخل بدعهما نسبت فرقة الهاشمية إليهما، وممن أظهر على هذه الطريقة الشيعية الرافضة الإمامية المجسمة، يونس بن عبد الرحمن القمي إمام الشيعة وفقيههم بالعراق، وإليه تنسب فرقة اليونسية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 من الشيعة الإثنا عشرية. ومحمد بن النعمان الملقب بشيطان الطاق من متكلمة الشيعة وحذاقهم، وله مؤلفات في الإمامة وفي إمامة المفضول وفي أمر طلحة والزبير وعائشة - رضي الله عنهم -. ومنهم علماء وفقهاء الشيعة الإمامية في هذه الفترة، أحمد بن محمد البيزنطي ومحمد بن خالد البرقي القمي، والحسن بن محبوب السراد، ومحمد ابن عيسى بن عبيد بن يقطين وغير هؤلاء مما لا يتسع المجال لحصرهم هنا. وكان انتشار فقه وعقائد الشيعة في هذه الفترة سبباً لقوتهم وتعاظم أمرهم فيما بعد، إذ نشأت بعد سنة ثلاثمائة من الهجرة دول شيعية إمامية وإسماعيلية وكان منهم شر مستطير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ففي سنة 321هـ ابتدأ أمر بني بويه وظهرت دولتهم، وهي دولة شيعية إمامية، قاتلوا خلفاء بني العباس وأظهروا الرفض والشتم للصحابة. وقامت دولة الحمدانية، وهي شيعية بقتال الخليفة العباسي الراضي سنة 327هـ، وما استكملت سنة 346هـ إلا ( ... وقد امتلأت البلاد رفضاً وسباً للصحابة من بني بويه وبني حمدان والفاطميين، وكل ملوك البلاد مصراً وشاماً وعراقاً وخراسان وغير ذلك من البلاد، وكانوا رفضاً، وكذلك الحجاز وغيره، وغالب بلاد المغرب فكثر السب والتكفير منهم للصحابة ". 2- الخوارج: وكانت لهم في هذه الفترة ثورات وحروب، إذ إنهم بعد أن تفرقوا في البلدان، وانتشروا في الأقاليم، نشروا أفكارهم وبثوا دعاتهم، وجمعوا في أماكن عديدة من بلدان المسلمين حولهم أتباعهم من كان قوة لهم في الحروب والمعارك، ولقيت أفكارهم رواجاً بين الناس الذين رأوا إسراف خلفاء بني العباس في الملذات والشهوات وتسلط أمرائهم على الناس بالظلم والاضطهاد، وتنازع بني العباس على الولايات، وتحكم الموالي في شؤون الدولة، وغير ذلك من أمور أحفظت الناس، وجعلتهم يلتفون حول قادة الخوارج فكان من ثوراتهم: خروج خراشة الشيباني الخارجي سنة 180هـ على الرشيد بالجزيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من أرض العراق وفيها قتل، وكان قد خرج قبله بالجزيرة الفراتية الوليد بن طريف الشيباني سنة 177هـ في خلافة الرشيد، وحشد جموعاً كثيرة، وكان ينتقل بين نصيبين والخابور، واستولى على أرمينية وسار إلى أذربيجان، ثم حلوان وأرض السواد، وعبر إلى غرب دجلة واستولى على بلاد الجزيرة بالعراق حتى قتل سنة 179هـ. وفي سنة 180هـ هدم الرشيد سور مدينة الموصل بالعراق لكثرة الخوارج فيها وتحصنهم بها. وفي سنة 180هـ خرج أبو عمرو الشاري على الرشيد بالجزيرة العراقية فأرسل إليه الرشيد من يقاتله. وفي سنة 185هـ قتل أبان بن قحطبة، وكان من رؤوس الخوارج، وكانت له قوة وشوكة، حتى قتل في مرج العلقة، وفي هذه السنة خرج حمزة الشاري في بلاد باذغيس من خراسان، فقاتلهم والي الخليفة حتى انحاز حمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 إلى كابل وزابلستان، وبقي حتى كانت حوادث سنة 192هـ في خراسان، حيث ضعفت قوة الخلافة بسبب ثورات الخرّميّة، وانتقاض القواد والأمراء على الدولة، فخرج حمزة الخارجي وعاث بها فساداً وصار يقتل ويجمع الأموال، ويحملها إلى عمال هراة وسجستان، حتى قاتله والي المأمون عبد الرحمن النيسابوري، وسار خلفه حتى بلغ هراة، وهناك تفرقت قوته وتلاشت، وذلك في سنة 194هـ. ومن ثورات الخوارج التي تذكرها كتب التاريخ، ثورتهم ببلاد ربيعة سنة 231هـ أيام الواثق تحت إمرة محمد بن عبد الله التغلبي الخارجي، فقوتلوا حتى غلبوا وأسر أميرهم وتفرق شملهم. ومن فتنتهم العظيمة بالمشرق ثورة مساور بن عبد الرحمن البجلي، الذي خرج في سنة 252هـ ثائراً على الخليفة في الموصل، وتجمع حوله جمع من الأعراب والأكراد، وكانت له مواقع مع جيش الخلافة في جلولاء سنة 253هـ، وفي الموصل سنة 254هـ حتى دخل الموصل، واستولى عليها سنة 255هـ واتخذ مكاناً يقال له الحديثة، قرب الموصل دار هجرة له، واستولى على بقاع كثيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 من العراق، وحاصر بغداد، ومنع الأموال عن الخليفة حتى ضاقت عليه وعلى جنده البلاد، وتأهبت الجيوش لقتال هذا الخارجي فلم تظفر به وخافه الناس، وجعل ينتقل في البلاد فيُجبى له خراجها، وقتل والي خراسان سنة 261هـ وبقي هذا دأبه حتى توفي وهو يريد لقاء عسكر الخليفة العباسي الموفق بالله سنة 263هـ. وذكر الحافظ ابن كثير أن الخوارج أقاموا خلافةً باسمهم في مدينة هراة لمدة ثلاثين سنة من 229-259هـ حتى ظفر بزعيمهم الذي كان ينتحل الخلافة، فقتل وحمل رأسه على رمح وطيف به في الآفاق. ومن فرق الخوارج التي تشعبت في هذه الفترة فرقة (الحمزية) ، وهم أتباع حمزة بن أكرك الشاري، الماضي ذكره تقريباً، والذي كانت منه فتن وطامات في ارض خراسان. وقد افترق عن الخوارج (الخازمية) في باب القدر والاستطاعة، فقالوا فيهما بقول القدرية، وقالوا بتكفير كل من لا يوافقهم، وكانوا يزعمون أن مخالفيهم من هذه الأمة مشركون، لا تحل غنائمهم، وكانوا يحرقون غنائم معاركهم مع مخالفيهم، ويعقرون دوابهم. وقد ذكر ابن النديم في كتابه (الفهرست) طائفة من متكلمي الخوارج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 وأسماء كتبهم. وفي موضع آخر من (الفهرست) ذكر طائفة من فقهائهم وأسماء ما صنفوه من الكتب، وقد كان لطائفة (الإباضية) من الخوارج في هذه الفترة دولة في عمان جنوب شرق جزيرة العرب، وكان أول أئمة الخوارج الإباضية فيها: الوارث ابن كعب الخروصي اليحمدي، ولي إمامة الإباضية سنة 179هـ فأرسل إليه هارون الرشيد جيشاً بقيادة ابن عمه عيسى بن جعفر، فانكسر جيشه وأسر عيسى، وبقي الوارث إماماً للخوارج الإباضية اثني عشر عاماً ونيفاً، حتى مات غرقاً في سنة 192هـ فتولى بعده الإمامة غسان بن عبد الله اليحمدي وبقي حتى توفي عام 207هـ فجاء بعده عبد الملك بن حميد الأزدي وبقي على إمامتهم حتى سنة وفاته 226هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فأخذ إمامتهم بعده المهنا بن جيفر اليحمدي، وكان له جيش قوي، وأسطول بحري ضخم، واستمر إماماً لهم إلى أن توفي سنة 237هـ. فجاء بعده الصلت بن مالك الخروصي اليحمدي، وكانت لدولته قوة ومنعة، حتى قاتل البرتغال عند احتلالهم جزيرة سقطرى في بحر العرب جنوب حضرموت، وبقي إماماً للإباضية خمسة وثلاثين عاماً، وخُلع قبل وفاته التي كانت سنة 275هـ. 3- القدرية: ذكرنا فيما مضى أن القدرية بعد أن نشأت على يد معبد الجهني وغيلان الدمشقي، على أن الله لم يكن عالماً بشيء قبل وقوعه، وأنه لم يرد إلا ما أمر به، ولم يخلق شيئاً من أفعال العباد، تحولت بعض هذه الآراء إلى المعتزلة، وحصل في بعضها تبدل، وذلك حين أخذ واصل بن عطاء قول معبد الجهني في القدر، غير أنه قال بعلم الله سبحانه بالأشياء قبل وقوعها، خلافاً لمعبد وغيلان اللذين كانا يقولان الأمر أنف، ووافقهم واصل الذي يعتبر رأس مذهب الإعتزال، في أن أفعال الشر الواقعة من العباد ليست بإرادته ولا مشئيته، وليست من خلقه - سبحانه وتعالى - وفي هذه الفترة التي نحن بصد الحديث عنها، لم يكن للقدرية فرقة مستقلة كالخوارج والشيعة، بل إن بدع القدرية توزعت بين فرق أخرى، فلأخذت الشيعة منها: كقول الكيسانية بالبداء على الله - سبحانه وتعالى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 زكقول هشام بن الحكم - الذي يعتبر بمثابة المؤسس الكلامي لمذهب الشيعة الإثنا عشرية - أن الله عليم بالأشياء بعد أن لم يكن عالماً بها. وأخذ بعض فرق الخوارج من أقوال القدرية كفرقة (الميمونية) ، الذين قالوا في باب القدر والاستطاعة والإرادة بقول القدرية والمعتزلة، وكفرقة (الحمزية) إذ قال زعيمهم حمزة بن أكرك بقول القدرية، وممن قال بأقوال القدرية من الخوارج، فرقة (الحارثية) من الإباضية، ومن الخوارج غير الإباضية الفرقة التي تسمى (أصحاب طاعةٍ لا يراد الله بها) . وكذلك فقد أخذ بعض فرق المرجئه بأقوال القدرية، وهم الذين يطلق عليهم في كتب الفرق " المرجئه القدرية ". بل لقد تأثر ببدعة القدرية بعض الأئمة الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، ونذكر هنا بعضهم - على سبيل المثال - ممن عاش خلال هذه الفترة التي يجري الحديث عنها وهي من 178هـ إلى 300هـ فمنهم: عبد الأعلى بن عبد الأعلى، وكهمس بن المنهال، ومحمد بن سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العنبري، وغيرهم من الثقات الذين روي لهم في غير الصحيحين. ولكن الفرقة التي أخذت أقوال القدرية، وتولت كِبر هذه البدعة، وتفننت فيها، ووسعت القول البدعي فيها، ووضعت لها الأسس والأصول الفلسفية، هي فرقة المعتزلة، وسيأتي الحديث عنها قريباً بعون الله. 4- المرجئة: انتشرت في هذه الفترة أقوال غيلان الدمشقي وجهم بن صفوان، التي من ضمنها الإرجاء في الإيمان، وجعل الإيمان معرفة الله بالقلب فقط. وتشعبت أقوال المرجئة، وتعددت مدارسها، فأخذ بعضها بالجبر مع الإرجاء، وأخذ بعضها الآخر بالقدر مع الإرجاء، بينما قال البعض بالإرجاء الذي يعتبر مع معرفة القلب إقرار باللسان مع اعتبار زيادة الإيمان دون نقصه، أو نقصه دون زيادته، أو مع نفي زيادة الإيمان ونقصه، وقد أخذت بعض الفرق الأخرى ببعض أقوال المرجئة. وقال ببعض أقوالهم جِلّة من علماء الإسلام، وهنا سنعرض لبعض مشاهير المرجئة وبعض من قال بالإرجاء أو رمي به: 1) يونس بن عون صاحب فرقة اليونسية: وقد زعم أن الإيمان في القلب واللسان، وأنه لا يزيد ولا ينقص، وحقيقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 الإيمان المحبة لله والخضوع له والتصديق برسله، وأن معرفة ما جاءت به الرسل في الجملة من الإيمان، وليست المعرفة التفصيلية لذلك من الإيمان، وأن كل خصلة من خصال الإيمان ليست بإيمان ولا بعض إيمان ومجموعها إيمان. ولم تخض هذه الفرقة في القدر والجبر كغيرها كما سيأتي، وخالفت فرقة " الغسانية " فرقة اليونسية بقولهم: إن الإيمان يزيد وينقص. 2) بشر المريسي وهو زعيم فرقة (المريسية) الذين يسمون مرجئة بغداد، وقد جمع المريسي بين ضلالات عدة وبدع مختلفة، فكان يقول بأقوال المعتزلة، ما عدا الوعد والوعيد فإنه كان فيهما مرجئاً على مذهب جهم بن صفوان، بيد أن المريسي اعتنق آراء جهم بن صفوان ولم يدركه، واحتج لها ودعا إليها ونافح عنها، وأثر بها على المأمون الخليفة العباسي فأضله أيما ضلال. وأم البدع التي أخذها عن جهم ودعا إليها فهي: 1/ القول بخلق القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 2/ القول بنفي صفات الباري، وصنف في ذلك كتاباً سماه (كفر المشبهه) ، وقد رد عليه الإمام الدارمي بكتاب سماه (الرد على بشر المريسي) فيما ابتدعه من التأويل لمذهب الجهمية. 3/ القول بالجبر وأن الإنسان لا فعل له ولا استطاعة، ثم قيل إنه رجع عن هذا أو قال بالاستطاعة. 4/ القول بأن الإيمان: التصديق بالقلب واللسان جميعاً وإن سجد للصنم فليس بكافر، ولكن فعله دلالة على الكفر، ففارق جهم في هذه البدعة بجعل تصديق اللسان من الإيمان، كما فارق المعتزلة الذين يكفرون بالكبائر ويقولون بالمنزلة بين المنزلتين، على أصلهم الباطل في الوعد والوعيد، وإن كان يعتبر شيخ المعتزلة في عصره، فهو يعتبر أيضاً رأساً للجهمية في عصره، كذلك وراساً للمرجئة المريسية، فكم جمع هذا الرجل من شر، وكم حوى من بدع، نسأل الله العافية. وكان من المرجئة في هذه الفترة من أُطلق عليهم: المرجئة القدرية، إذ جمعوا بين القول بالإرجاء والقول بالقدر. وقد قال بالإرجاء أو رُمي به عدد من رواة الصحيحين، وإن كان قولهم بالإرجاء ليس كقول جهم بن صفوان، وإنما يتراوح قولهم بين تأخير العمل عن الإيمان وعدم اعتباره منه، ونفي زيادة الإيمان ونقصانه، مع التبري من الذنوب والنهي عنها، والقول بأنها سبب في عذاب الإنسان ودخوله النار ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وهذا ما سماه شيخ الإسلام إرجاء الفقهاء حين قسم الإرجاء إلى ثلاثة أقسام فقال: (والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون الإيمان مجرد ما في القلب ... ، الثاني: من يقول هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية، الثالث: تصديق القلب وقول اللسان وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم.. - إلى أن قال - دخل في إرجاء الفقهاء جماعة عم عند الأئمة أهل علم ودين، ولم يكفّر أحد من السلف أحداً من مرجئة الفقهاء، بل جعلوا هذا من بدع الأقوال والأفعال، لا من بدع العقائد، فإن كثيراً من النزاع فيها لفظي، نعم اللفظ المطابق للكتاب والسنة هو الصواب فليس لأحد أن يقول بخلافه ... ) . وهنا سأذكر بعض هؤلاء العلماء الذين أخرج لهم البخاري ومسلم، أو أحدهما، على سبيل التمثيل لامتداد فكرة الإرجاء، وتأثر الناس بها في ذلك العصر فمنهم: شبابة بن سوار، وعبد الحميد بن عبد الرحمن الحمَّاني، وعبد المجيد ابن عبد العزيز بن أبي روّاد، ويونس بن بكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 5- الصوفية: من سمات هذه الفترة الانفتاح على الثقافات والعلوم والفنون المختلفة، ودخول طوائف من البشر من مختلف الشعوب في الدين الإسلامي، وترجمة الكتب التي تحوي فلسفات وأفكار أمم سلفت.. وكان لكل هذا الأثر البالغ في إيجاد بدع مبتكرة جديدة، أو في تاصيل بدع سبقت. وكما أسلفنا فإن عبد الواحد بن زيد وتلامذته الذين كانوا في البصرة هم البذرة الأولى للتصوف بمعناه المتضمن إيجاد طريقة في العبادة، ليست من المشروع في الدين.. وكانت هذه البذرة قد نشأت في جو قابل للترعرع والنماء في البصرة، بتأثير العوامل الدينية مع العوامل السياسية والاقتصادية، فنشأت هذه البذرة في تلك البيئة القابلة، ثم اتسع نماؤها فتجاوزت حدود المبالغة في الزهد، والعبادة، والخوف، وتجاوزت محل النشأة إلى بلدان أخرى، فأصبحت الصوفية علماً يتخذ من الكلام المحدث والعمل المبتدع طريقة متميزة، وأصبحت كذلك علماً على طائفة متميزة مخصوصة بسلوك وعلم وعمل، ثم اتسعت المسألة حتى أصبح لهؤلاء وأتباعهم فلسفة تقوم على ما يشبه الباطنية، التي اتسعت آنذاك وانتشرت أفكارها، فكان علم الباطن وعلم الحقيقة، الذي يعتمد على ما وراء الظاهر من ذوق ووجد، على أساس هذا العلم تناولوا القرآن والسنة. وبدأ الحديث عن الفناء والبقاء، والصحو والمحو والصلم والوسواس، وغير ذلك من المصطلحات الصوفية المحدثة.. ونشأت الفُرقة العلمية والعملية في تناول المبتدعة للشرع الحنيف، فالمتكلمة تناولوا النصوص بميزانهم العقلي، والمتصوفة تناولوها بميزانهم الذوقي، وانتهى كل منهما إلى الفلسفة المحضة، كما انتهت الباطنية إلى ذلك من قبل، وذلك بتناولهم النصوص على أساس باطني فلسفي، يستتر بالرفض ويبطن الكفر المحض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وإن كان التصوف في هذه الفترة الزمنية قد سلك مناهج عدة أبرزها منهجان: الأول: ما يسمى بصوفية الورع والزهد والعبادة، ويقوم عليه (شيوخ الصوفية) كما سماهم شيخ الإسلام وابن كثير أو (أئمة الطريق) كما سماهم ابن القيم. قال شيخ الإسلام: (.. شيوخ الصوفية الكبار كالفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم وابي سليمان الداراني، وعمرو بن عثمان الشبلي، والجنيد ابن محمد وسهل بن عبد الله التستري وابي عبد الله محمد بن خفيف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 الشيرازي ونحوهم - رضي الله عنهم -) . وبعد أن ذكر ابن القيم بعض هذه الأسماء قال: ".. فإنهم تكلموا على أعمال القلوب وعلى الأحوال كلاماً مفصلاً جامعاً مبيناً مطلقاً من غير ترتيب، ولا حصر للمقامات بعدد معلوم، فإنهم كانوا أجل من هذا وهمهم أعلى وأشرفن إنما هم حائمون على اقتباس الحكمة والمعرفة، وطهارة القلوب وزكاة النفوس، وتصحيح المعاملة، ولهذا كلامهم قليل فيه البركة..) . وهذه الفئة من المتصوفة هي التي انقسمت آراء الناس حولها، فمنهم من جعلهم من الصديقين، وأنهم أفضل الخلق وأكملهم بعد الأنبياء، ومنهم من جعلهم من المبتدعين الخارجين عن الدين، والقول الوسط في هؤلاء أن يقال: (.. أنهم مجتهدون في طاعة الله، كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين..". وهؤلاء الأعلام في الزهد والعبادة كانت لهم مسالك في النسك والزهد والعبادة غير مأثورة، فكان النقض عليهم من هذا الباب، ولهذا نهى الإمام أحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 عن مجالسة الحارث المحاسبي وأصحابه، وامتحن ذا النون المصري لكونه أتى بعلم لم يعهده الناس، وكان أول من تكلم بمصر في الأحوال ومقامات الأولياء، وكان أوائل الصوفية هؤلاء يقرون بأن الاعتماد في العبادة والذكر وأحوال القلوب وأعمالها، إنما يكون على الكتاب والسنة، ولكن لبس عليهم الشيطان لقلة علمهم. ثاني المسالك الصوفية في تلك الفترة: الصوفية الفلسفية: وهي التي حوت الطامات، وجمعت سائر البليات، فكان ظاهرها الزهد والعبادة، وباطنها الكفر والإلحاد، فأتوا بألفاظ ومصطلحات تحوي عدة معان وتجمع الصحيح والسقيم من المقاصد، مثل الفناء، والبقاء، والصحو، والسكر، والذوق، والمحو، والتجلي، والمكاشفة، واللوائح، والطوالع، واللوامع، والتمكين، إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 غير ذلك من المتواضع عليه في كتب التصوف. وجاؤوا كذلك بنظريات في التعبد والذكر تنافي الدين، مثل جواز النظر إلى المردان والنساء والجميلات، من أجل التفكر في خلق الله، ومثل سقوط التكليف عمن وصل إلى مرتبة كذا، ومثل جعل رسوم وهيئات - تشبه العبادات - للمريد بين يدي سيده، ومثل استحلال المحرمات، كالزنا والخمر والغناء، ومثل تأويلهم للآيات القرآنية والأحاديث النبوية - مع جهلهم بها - بما يوافق تفسيرات الباطنية ويتجانس معها، وانحدروا بعد ذلك إلى هوة الحلول والاتحاد ووحدة الوجود، نسأل الله العافية، ومن هؤلاء الضالين: الحسين بن منصور بن محمي الحلاج: كان جده محمي مجوسياً من أهل فارس، ونشأ هو بواسط، وكان يظهر الزهد والعبادة والمجاهدة، حتى اغتر به طوائف من الناس في عصره، قيل إنه كان من القرامطة، وكان يكتب إلى خاصته وأتباعه: (من الرحمن الرحيم إلى فلان ابن فلان) ، كان يعتقد الحلول ومن ذلك قوله: سبحان من أظهر ناسوته سر سنا لاهوته الثاقب ثم بدا في خلقه ظاهراً في صورة الآكل والشارب حتى وقد عاينه خلقه كلحظة الحاجب بالحاجب سافر إلى الهند وتعلم بها السحر، فكان يحتال على الناس، ويظهر لهم المخاريق، وكان يكتب ويؤلف زاعماً أنه يعارض القرآن ويؤلف مثله، وابتلى كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 من الناس والجهلة باتباعه والدفاع عنه، بسبب ما كان يظهره من صلاح وورع وتقوى وعبادة وتأله.. وكان يروج على الناس منكره، من خلال سحره وشعوذته، ومن خلال أتباعه، أجمع على تكفيره وحل دمه جماعة من الفقهاء والصوفية في عهد الخليفة العباس المقتدر، بعد أن وجدوا كتباً بخطه تدل على ادعائه الربوبية، وإجازته جعل الكعبة والحج داخل منزل نظيف من النجاسات، وأن ذلك يكفي عن الحج إلى مكة والمشاعر، وأن من صام ثلاثة أيام متواصلة، لا يفطر إلى في اليوم الرابع، أجزأه ذلك عن صيام رمضان، وغير ذلك من ضلالاته. وقد تأثر بالحلاج جماعة من الصوفية في عصره، فقالوا بأقواله ودافعوا عنه فمنهم: 1- دلف بن جعفر الشبلي: أبو بكر الشبلي: وكان من نساك بغداد، ولكنه اشتبه عليه أمر الحلاج فيما نسب إليه من الأقوال، من غير تأمل لما فيها، وخدع بما أظهره الحلاج من زهد وملازمة للعبادة، فأحسن فيه الظن فكان يقول: كنت أنا والحسين بن منصور شيئاً واحداً، إلا أنه أظهر وكتمت، ولما سئل الشبلي عن قول الحلاج: هل الكاتب إلا الله، وأنا واليد آلة؟ قال: من يقول بهذا يمنع. وكان قد قال العلماء قبله: من يقول بهذا كافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 2- أبو العباس ابن عطاء: وكان من أئمة الصوفية في عصرهن واشتبه عليه أمر الحلاج وأيده في قوله: هل الكاتب إلا الله، وأنا واليد آلة؟ فسأل الوالي فقهاء بغداد فانكروا ذلك وكفروا من اعتقده، فأحضر ابن عطاء وسأله عن قول الحلاج، فقال: من لا يقول بهذا القول فهو بلا اعتقاد. فأمر الوالي بضرب رأسه حتى سال الدم من منخريه، ثم مات بعد سبعة أيام من ذلك في سنة 309هـ. محمد بن خفيف الشيرازي: برغم ما قيل عنه من تمسك بالسنة إلا أنه خُدِع بالحلاج، فكان يقول عنه أنه: عالم رباني، ووقع في بعض موبقاته وأخذ ببعض ضلالاته. وهكذا دخلت فلسفة الملاحدة والإباحية والزنادقة عن طريق الصوفية الذين تظاهروا بالزهد والعبادة، وتراءوا بالصلاح والنسك، وأظهروا تعظيم الدين وهم يهدمونه، وادعوا حماية شعائره وهم في الحقيقة يحطمونه، فهؤلاء هم المنافقون الذين يظهرون الإيمان والإسلام ويبطنون الكفر والإلحاد. 6- المعتزلة: تعاظمت المعتزلة ونشطت في هذه الفترة وانتشرت أفكارها وكثر أتباعها، وتوسعت مؤلفاتها. ومن أسباب ذلك تعريب كتب الفلاسفة من الروم والفرس في أثناء الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 العباسية، حين طلب المأمون العباسي 198-218هـ كتب هؤلاء الفلاسفة، فعربت ودرسها الناس، فكان منها شر عظيم؛ إذ إنها - وهي التصورات والتخصرات البشرية - أصبحت في تلك الفترة مقدمة على الوحي عند أهل الابتداع، إلا أن علماء السنة دافعوا عن الحق ونافحوا عنه، فوقعت الفتنة واستمرت في عهد المأمون، ثم في عهد المعتصم، ثم في عهد الواثق، ثم لما جاء عهد المتوكل، رفع الله لواء أهل السنة ونصرهم على أعدائهم. ويمكن أن يطلق على هذه الفترة بأنها (فترة المعتزلة) لما كان لها من أثر بالغ في الحياة العامة والخاصة، سياسية أو علمية أو عملية، فقد تأثر الخلفاء بأفكارهم واستعانوا بهم على ولاياتهم. وانتشر الفكر الاعتزالي وألفت فيه الكتب، وحدثت في داخل المعتزلة بدع كثيرة، أدت إلى تكفير بعضهم وغيرهم إلا أن هناك عقائد مبتدعة، وأصولاً محدثة، يكاد يتفق عليها سائر فرق المعتزلة، وهي التي أسموها: الأصول الخمسة وهي: 1- العدل: ويقصدون به نفي القدر، وأن الله لا يخلق الشر ولا يقضي به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وأن الله لم يخلق أفعال العباد، وأن الإنسان خالق أفعاله.. وقالوا: إن الله لا يخلق الشر ولا يريده، إذ لو خلقه ثم عذب العباد لأجله يكون ذلك جوراً والله عادل لا يجور. 2- التوحيد: ويقصدون به نفي صفات الباري - سبحانه وتعالى - تنزيهاً له - بزعمهم - وهذا من أهم أصولهم، فهم يصفون الله سبحانه بصفات السلوب، فيقولون: لا حي ولا سميع، ولا فوق العالم، ولا يقوم به علم ولا قدرة. وبناءً على أصلهم هذا قالوا ببدعة خلق القرآن ونفي رؤية الله - سبحانه-. 3- الوعد والوعيد: ويقصدون به إيجاب وقوع الثواب للمطيع، وإيجاب وقوع العقاب على مرتكب المعاصي، فلا يجوز على الله - بزعمهم - أن لا يعذبهم ويخلف وعيده، ولا يجوز كذلك عفوه عن الكبيرة من غير توبة. 4- المنزلة بين المنزلتين: وهذا الأصل متلازم مع أصل الوعد والوعيد، فزعموا أن المسلم العاصي بارتكاب الكبيرة في منزلة بين الإيمان والكفر، فلا يسمى مؤمناً ولا يسمى كافراً، وإذا مات وهو مقيم على كبيرة، فهو من أهل النار خالداً فيها. 5- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وقصدوا به الخروج على الحاكم الفاسق الظالم، وحمل الناس على ما يؤمنون به بالحجة والبرهان، أو بالقوة والسلطان، كما فعلوا في محنة خلق القرآن. هذه هي أهم أصولهم التي بنوا بدعهم الكلامية عليها، وأهم مسالك المعتزلة في الاستدلال على العقائد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 1- العقل: فكل ما قبله العقل أقروه، وكل ما لم يقبله رفضوه، ولذلك جعلوه هو الأصل، وجعلوا الشرع شاهداً له، فكل ما خالف معقولاتهم من النصوص أولوه حتى يوافقها، وسبب ذلك ثقتهم المطلقة بالعقل، مما قادهم إلى رعونات في العقائد والأعمال، دفعتهم إليها نزعتهم العقلية فقالوا: (إذا تعارضت الأدلة السمعية والعقلية.. فإما أن يجمع بينهما، وهو محال؛ لأنه جمع بين النقيضين، وإما أن يردا جميعاً، وإما أن يقدم السمع وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل شيء قدح فيه، فكان تقديم النقل قدحاً في النقل والعقل جميعاً، فوجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يُتأول وإما أن يفوض..) . فهذا هو القانون الكلي الذي يعتمد عليه هؤلاء ويطردونه في سائر مسائل العلم والعمل الخبرية والإرادية. 2- الفلسفة: لما ترجمت كتب الفلسفة وانتشرت أخذ منها المعتزلة وتأثروا بها، فكانت أدلتهم واستدلالاتهم وأقوالهم معتمدة على الأراء الفلسفية، والمقدمات المنطقية، والأقيسة الكلامية، التي تعود في مجملها إلى الفلسفة اليونانية، وجعلوا ما جاء به الأنبياء من باب الظن الذي لا يفيد يقيناً، كما تفيده معقولاتهم، ولذلك أدخلوا النقل من باب التأويل فهم يقولون: بأن الأنبياء لم يقصدوا بهذه الأقوال إلا الحق، والحق هو ما علمناه بعقولنا، فيجتهدون في تأويل النصوص إلى ما يوافق رأيهم، بأنواع التأويلات التي هي في حقيقتها تحريفات للشريعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أسباب انتشار مذهب المعتزلة: 1- تأثيرهم على خلفاء بني العباس: حتى إنهم استطاعوا إقناعهم بأقوالهم، وأخذ مهام الدولة والعمل فيها، والتأثير من خلالها في نشر بدعهم، وحمل الناس عليها وفتنتهم بها.. فقد كان عمرو بن عبيد، وهو المؤسس الثاني لمذهب المعتزلة بعد واصل بن عطاء، كان من جلساء الخليفة أبي جعفر المنصور وأحمد بن أبي دؤاد، كان قاضي القضاة لثلاثة من الخلفاء: المعتصم، والواثق، والمتوكل، وفي زمن المتوكل طرد من القضاء، وكان بشر المريسي أستاذاً للمأمون، وأحد كبار المؤثرين فيه. حتى إنه كانت تعقد للمعتزلة مجالس المناظرة مع أهل السنة تحت نظر الخليفة وسمعه، في مجالس الخلافة. 2- قدرتهم الكلامية وفصاحتهم اللسانية: فقد أوتوا قوة في الجدال، وفصاحة في الألسن، فكان منهم أهل البيان والفصاحة، يلقون أفكارهم ممزوجة بحكم العرب وأمثالهم وأشعارهم، فكان ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 من أسباب انتشار مذهبهم، إذ خدعوا الناس بالبيان "وإن من البيان لسحرا" كما قال عليه الصلاة والسلام، وسبب ذلك أن المعتزلة جمعوا بين علوم الكلام والجدل، وهذه بطبيعتها تقود إلى المناظرات والمخاصمات وكثرة الكلام، وعلوم الأدب والغة وهي ثوب قثيب يخدع الناس ويستهويهم، وممن اشتهر بفصاحته من المعتزلة، ابن أبي دؤاد، وواصل بن عطاء، وأبو الهذيل العلاف، وأبو علي الجبائي وغيرهم، ولا تخلو طبقة من طبقات المعتزلة من وجود مفوه فصيح. هذا وقد جمعت المعتزلة بين بدع سلفت وبدع حدثت، فأما البدع السالفة فقد أخذوا القول بالقدر، ولكن ليس لعى ريقة القدرية الغلاة النفاة، الذين يقولون بأن الأمر أنف، وإنما قالوا بنفي خلق الله لأعمال العباد وهو ما أسموه بالعدل، ونفي إرادة الله وقضائه، وخلقه للشر، ولذلك سموا بالقدرية، وأخذوا من الخوارج الحكم على مرتكب الكبيرة، ولكنهم حوروه إلى ما أطلقوا عليه المنزلة بين المنزلتين، وأخذوا منهم الخروج على الحاكم الظالم، وأخذوا من الجهمية نفي صفات الباري سبحانه، والقول بخلق القرآن، ولذلك سموا بالجهمية، فإنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 كانوا أكثر الفرق ترسيخاً لبدعة الجهمية، وعلى أيديهم انتشرت مقالات جهم، ولذلك فإنه كما يقال المعتزلة القدرية فإنه يقال المعتزلة الجهمية. وهذه الأقوال والأصول الخمسة التي ذكرت آنفاً هي جماع قول المعتزلة، وإن كان لبعض زعمائهم أقوال تخالف بعض ذلك أو تزيد عليه، فقد كثرت فرق المعتزلة في هذه الفترة، وتعددت مقالاتها، وتنوعت بدعها في كثير من المسائل الاعتقادية والعملية، مما لا يتسع المجال في هذه العجالة لحصره. وأهم حدث حصل في هذه الفترة الزمنية، هو الابتلاء الواقع من قبل المعتزلة، ومعهم السلطة، على أهل السنة، في الفتنة التي سميت فتنة خلق القرآن، من سنة 218هـ، حين أجمع المأمون رأيه على القول بخلق القرآن والدعاء له، وإكراه الناس عليه، إلى أن أفضت الخلافة إلى المتوكل سنة 234هـ فأمر بترك هذا القول المبتدع، ونبذ قائله وإظهار السنة. 7- أشخاص لهم أقوال قامت عليها بدع: عاش في هذه الفترة مجموعة من الأعلام، الذين كان لهم أثر في إيجاد بعض الأقوال البدعية، التي قامت عليها بعد ذلك فئات من الناس، ودعت إليها، وهؤلاء الأعلام الذين سنعرض لهم بإيجاز هنا ليسوا من أصحاب الفرق السالفة الذكر، فلذلك خصصناهم هنا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 (أ) ابن كلاب: أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب القطان البصري، أحد المتكلمين في أيام المأمون، وصاحب التصانيف في الرد على الجهمية والمعتزلة، تتلمذ عليه داود الظاهري والحارث المحاسبي، وعنه أخذ الكلام، وكانت له مع المعتزلة مناظرات ومناقشات في إثبات الصفات لله - سبحانه وتعالى-، توفي بعد الأربعين ومائتين بقليل. ويعتبر ابن كلاب من متكلمة الصفاتية، وطريقته يميل فيها إلى مذهب أهل الحديث والسنة، لكنها فيها نوع من البدعة، وكان ممن انتدب للرد على الجهمية النفاة، والمعتزلة الجهمية، ولذلك فقد اتهموه بالبدعة ومواطأة قول النصارى، ولكن هذا من الكذب عليه (وإنما افترى هذا عليه المعتزلة والجهمية، الذين رد عليهم فإنهم يزعمون أن من أثبت الصفات فقد قال بقول النصارى) . ولما رد ابن كلاب على الجهمية وقع في بدع أخرى، وسلك مسالك مبتدعة في تقرير الصفات، اضطره إلى ذلك المسلك الكلامي الذي سار عليه، وعدم اتباهه لأصل كلام الجهمية الذي أحدثوه، ولكنه مع ذلك له فضله في الرد على الجهمية نفاة الصفات، والعلو؛ إذ بسط القول ووضع الدلائل وأظهر الحجج في هذا الباب، حتى صار قدوة لمن بعده وإماماً، وممن اتبعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي ثم أبو الحسن الأشعري فإنه لما ترك مذهب المعتزلة النفاة، سلك مسلك ابن كلاب، وهؤلاء الذين سلكوا هذا المسلك يلقبون بنُظار أهل الحديث هذا وأشهر البدع التي خالف فيها ابن كلاب وأتباعه من الكلابية مذهب أهل الحق ما يلي: 1- القول بنفي الصفات الاختيارية الفعلية الثابتة لله - سبحانه وتعالى - دون قيام الحوادث به، ويقصدون بذلك نفي كون الصفات الفعلية متعلقة بمشيئته سبحانه، فلا يجعلون الكلام مثلاً متعلقاً بمشيئته إن شاء تكلم، وإن لم يشأ لم يتكلم. قالوا بهذا لنفي الحوادث عن الله، وتنزيهه عنها، ولأن إثبات الصفات الفعلية يلزم منه التسلسل كما يزعمون. 2- زعموا أن الله لم يزل يتكلم بالقرآن، بخلاف قول أهل السنة، إنه إنما تكلم الله بالقرآن حين خاطب جبريل، وكذلك سائر الكتب. 3- قالوا في حروف القرآن ومعانيه: (إن المعاني التي هي معاني الحروف المنتظمة، هي معنى واحد في نفسه، والأمر والنهي والخبر صفات لموصوف واحد، فالذي هو الأمر هو الخبر، والذي هو الخبر هو النهي، وقالوا: إن ذلك الواحد إن عبر عنه بالعربية كان قرآناً، وغن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسيريانية كان إنجيلاً". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 4- قالوا في تكليم الله لعباده: إنه مجرد خلق إدراك لهم، من غير تجدد تكليم منه سبحانه. 5- أثبتوا ذواتاً قديمة قائمة بذات الباري سبحانه، منها ذوات توجب أن يكون عالماً، ولولاها لم يكن عالماً، وذات توجب كونه قادراً، ولولاها لم يكن قادراً. (ب) محمد بن كرام بن عراق أبي عبد الله السجستاني المتوفي سنة 255هـ: كان زاهداً عابداً، بعيد الصيت، كثير الأصحاب، جالس بعض الوضاعين في الحديث الكاذبين فيه، وأكثر الرواية عنهم، نشأ بسجستان، وجاور بمكة خمس سنين، وورد نيسابور وحبس فيها بسبب بدعته، فأقام ببيت المقدس، ثم أخرج منها حتى توفي ببلدة تسمى زغر من بلاد الشام. وقد ابتدع محمد بن كرام وإليه تنسب فرقة (الكرامية) بدعاً عديدة، وإن كان يعد هو وفرقته من متكلمي أهل الإثبات، ويطلق عليهم هم والكلابية والأشعرية متكلمة الصفاتية، إلا أن الكرامية بالغوا في الإثبات إلى حد التشبيه والتجسيم (فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضاً، كما لم يمتنعوا من تسميته جسماً) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ومن بدعهم أنهم قالوا عن كلام الله - سبحانه وتعالى - بأنه حروف وأصوات حادثة في ذاته بعد أن لم يكن متكلماً، فهم وإن قالوا بأن الله يتكلم بمشيئته وقدرته - وهذا حق - إلا أنه يمتنع عندهم أنه كان في الأزل متكلماً بمشيئته وقدرته. ومن بدع محمد بن كرام قوله: (الإيمان هو نطق اللسان بالتوحيد مجرد عن عقد قلب وعمل جوارح) . وهذا هو عين قول المرجئة، بل إن ابن كرام قال الإيمان قول باللسان، وإن اعتقد الكفر بقلبه فهو مؤمن، فعليه يكون المنافق مؤمناً. ومما ابتدعته الكرامية قولهم: (إن النبي تجوز منه الكبائر سوى الكذب) . وقد نسب إلى ابن كرام تجويز وضع الأحاديث على الرسول - عليه السلام -. (ج) أبو الحسن الأشعري: علي بن إسماعيل بن إسحاق، يصل نسبه إلى الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري، ولد سنة ستين ومائتين للهجرة وتوفي سنة 324هـ وقيل 330هـ وقيل بعد ذلك. دخل بغداد، وتعلم الحديث بها على زكريا بن يحيى الساجي، وروى عنه جماعة، وتعلم الكلام من زوج أمه: أبي علي الجبائي شيخ المعتزلة في زمانه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 واعتنق بسببه مذهب الاعتزال، وبلغ فيه الغاية، ثم إنه كان يورد الأسئلة على أستاذه في الدرس، فلا يجد فيها جواباً شافياً، فكان ذلك سبب مراجعته لمعتقده، إذ عارض مسائل الكلام بما في القرآن والسنة، فوجد بينها بوناً شاسعاً، فأثبت ما وجد من أدلة الاعتقاد بالنص، ونبذ ما وراء ذلك، ثم خرج على الناس في البصرة، وعلى منبرها فأعلن توبته من اعتقاد المعتزلة، وأظهر للناس فضائح المعتزلة وقبائحهم، وكانت له مناظرة مع الجبائي في القدر، ألزمه فيها بقول أهل السنة وأفحمه حتى انقطع الجبائي، وقد ألف في أوبته هذه كتاب (الإبانة عن أصول الديانة) أبان فيه مسلكه في الاعتقاد، وأظهر فيه طريقته فقال: (قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها التمسك بكتاب ربنا - عز وجل - وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون، وبما كان يقول به ابو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل - نضر الله وجهه ورفع درجته وأجزل مثوبته - قائلون، ولمن خالف قوله مجانبون لأنه الإمام الفاضل، والرئيس الكامل، الذي أبان الله به الحق ودفع به الضلال، وأوضح به المنهاج، وقمع به بدع المبتدعين، وزيغ الزائفين وشك الشاكين..) . إلا أن الأشعري (لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، ومال إلى أهل السنة والحديث، وانتسب إلى الإمام أحمد، كما قد ذكر ذلك في، كتبه كلها كالإبانة، والموجز، والمقالات، وغيرها، وكان مختلطاً بأهل السنة والحديث كاختلاط المتكلم بهم..". ولذلك فإنه يعد من متكلمي أهل الإثبات، ومن متكلمة الصفاتية، ويعتبر من أقربهم إلى السنة وأتبعهم لأحمد بن حنبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 بل إنه (.. أقرب إلى مذهب أحمد بن حنبل وأهل السنة من كثير من المتأخرين المنتسبين إلى أحمد، الذين مالوا إلى بعض كلام المعتزلة كابن عقيل وابن الجوزي) . وقد ذكر شيخ الإسلام ذم ابن حزم للأشعري وأصحابه ومبالغته في ذلك فقال: (وكذلك أبو محمد بن حزم، مع معرفته بالحديث وانتصاره لطريقة داود، وأمثاله من نفاة القياس أصحاب الظاهر، قد بالغ في نفي الصفاتن وردها إلى العلم.. ويدعي أن قوله هو قول أهل السنة والحديث، ويذم الأشعري وأصحابه ذماً عظيماً، ويدعي أنهم خرجوا عن مذهب السنة والحديث في الصفات. ومن المعلوم الذي لا يمكن مدافعته، أن مذهب الأشعري وأصحابه في مسائل الصفات، أقرب إلى مذهب أهل السنة والحديث من مذهب ابن حزم وأمثاله) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ومما تقدم يظهر أن الأشعري كانت له ثلاث مراحل في الاعتقاد، كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام بقوله: (وكنت أقرر للحنبلية وأبين أن الأشعري وإن كان من تلامذة المعتزلة ثم تاب، فإنه كان تلميذ الجبائي، ومال إلى طريقة ابن كلاب، وأخذ عن زكريا الساجي أصول الحديث بالبصرة، ثم لما قدم بغداد أخذ عن حنبلية بغداد أموراً أخرى، وذلك آخر أمره، كما ذكره هو وأصحابه في كتبهم) . المرحلة الأولى: القول بالاعتزال وقد تلقاه عن أبي علي الجبائي، ومكث عليه فترة من الزمن، ثم أعلن توبته منه ومعاداته له. قال شيخ الإسلام: (هذا أبو الحسن الأشعري نشأ في الاعتزال أربعين عاماً يناظر عليه، ثم رجع عن ذلك، وصرح بتضليل المعتزلة، وبالغ في الرد عليهم. المرحلة الثانية: أخذه عن ابن كلاب، وقوله ببعض أقوالهن واعتقاده على طريقة الكلابية، مع بعض أشياء تفرد بها. فإن أبا الحسن لما رجع عن مذهب المعتزلة سلك طريقة ابن كلاب، فقد كان ابن كلاب إماماً للأشعري وأصحابه. وفي هذه المرحلة حصل الاضطراب حول اعتقاد الأشعري، فأتباعه الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ينتسبون إليه يأخذون أقواله التي قال بها في هذه المرحلة، ويزيدون عليها وينقصون منها، ويعتبرون هذا آخر ما وصل إليه، ولذلك ينتمون إليه، ولكن أتباع مذهب الأشعري الذين سلكوا مسلكه في هذه المرحلة، لم يكتفوا بما قاله الأشعري بل قالوا بأقوال لم يقل بها، وسلكوا مسالك نهى عنها وذمها، وهم مع ذلك مختلفون في مذهبهم، فليست مقولاتهم في أبواب الاعتقاد متفقة، فتجد أن لأئمة الأشاعرة مقولات مختلفة ومتباينة في قضايا العقيدة. وهذه المرحلة التي مر بها الأشعري، هي التي كان أئمة السنة ينكرون فيها مقولاته ويردونها. قال شيخ الإسلام: (والذي كان أئمة السنة ينكرونه على ابن كلاب والأشعري بقايا التجهم والاعتزال..". فقد بقي عند الأشعري بعد رجوعه عن الاعتزال بعض أصولهم العقلية، فقال ببعض الأقوال المبتدعة مثل نفي قيام الأفعال الاختيارية بالله - سبحانه -، وبسبب ذلك وغيره تكلم الناس فيه ونسبوه إلى البدعة، وبقايا بعض الاعتزال، فقد (وافق الأشعري ابن كلاب في إثبات الصفات اللازمة، ونفي أن يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها) . المرحلة الثالثة: عقيدته التي استقر عليها أخيراً، وهي عقيدة أهل السنة في جمهور ما ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 إليه. يظهر ذلك جلياً في مؤلفه المشهور: (الإبانة عن أصول الديانة) حيث قال فيه: (قولنا الذي نقول به وديانتنا التي ندين بها: التمسك بكتاب ربنا - عز وجل- وبسنة نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وما روي عن الصحابة والتابعين وأئمة الحديث، ونحن بذلك معتصمون وبما يقول أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل.. قائلون ولمن خالف قوله مجانبون..) . ثم سرد جملة أقواله في سائر أبواب الاعتقاد، وفيها إثبات صفات الله - سبحانه وتعالى - كما وردت بدون تأويل. وفيها طائفة من أبواب الاعتقاد على منهاج السلف، ومما يدل على ترك الأشعري لعقيدة ابن كلاب وانتقاله عنها إلى عقيدة أهل السنة، ما ذكره الذهبي في كتاب العلو حيث قال: (ونقل الإمام أبو بكر بن فورك المقالة المذكورة عن أصحاب الحديث، عن أبي الحسن الأشعري في كتاب (المقالات والخلاف بين الأشعري وبين أبي محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب البصري) تأليف ابن فورك فقال: الفصل الأول: في ذكر ما حكى أبو الحسن - رضي الله عنه - في كتاب (المقالات) من جمل مذاهب أصحاب الحديث، وما أبان في آخره أنه يقول بجميع ذلك، ثم سرد ابن فورك المقالة بهيئتها، ثم قال في آخرها: فهذا تحقيق لك من ألفاظه أنه معتقد لهذه الأصول التي هي قواعد أصحاب الحديث، وأساس توحيدهم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ويعتبر كتاب (الإبانة) من المؤلفات المعتمد عليها في تقرير عقدية أهل السنة والجماعة - في الجملة - وممن اعتبر ذلك محمد بن أحمد السفاريني في (لوامع الأنوار) وابن القيم في (النونية) وابن تيمية في (درء التعارض) ولهذا فقد شكك بعض الناس في نسبة كتاب الإبانة إلى الأشعري؛ بسبب وقوفهم على ما اعتقده بعد انتقاله من الاعتزال إلى ابن كلاب، وقد فند هذا الزعم وأبان حقيقة الأمر الشيخ حماد الأنصاري، في رسالته عن أبي الحسن الأشعري. إذ وثق نسبة هذا الكتاب إليه بأنواع من التوثيق تكفي المنصف، ومن قبله ابو القاسم بن درباس في رسالته: (الذب عن أبي الحسن الأشعري) وبهذا يظهر لنا أن الأشعري في آخر أمره قد قال بأقوال أهل السنة، ودافع عن معتقاداتهم، ورد على من خالفهم، كما في كتابيه (مقالات الإسلاميين) و (الإبانة) وصار الأشعري بذلك يعد متكلماً لأهل السنة، وموافقاً لأئمة الحديث في جمهور ما يقولونه، مع حصول بعض المخالفات منه في بعض أقواله لما كان يقول به السلف، وقد أشار إلى ذلك ابن عساكر في تبيين كذب المفترى وأشار إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ذلك شيخ الإسلام مبيناً السبب في بقاء بعض أصول المعتزلة معه فقال: (.. ولهذا كان هو - أي الأشعري - وأمثاله يعدون من متكلمة أهل الحديث، وكانوا هم خيرة هذه الطوائف، وأقربها إلى الكتاب والسنة، ولكن خبرته بالكتاب والسنة كانت مجملة، وخبرته باكلام كانت مفصلة، فلهذا بقي عليه بقايا من أصول المعتزلة) وهذا القول لا ينافي ما ذكرنا من كونه استقر على اعتقاد السلف، وقال بقولهم، وسلك طريقة أهل السنة والحديث، وذهب إلى ما كان يقوله إمام أهل السنة أحمد بن حنبل. ولكن يمكن أن يقال إن الأشعري مع كل هذه التوبة الصادقة، بقيت معه بقايا من علم الكلام لا يقر عليها، ولا تنقص من فضله (والأشعري ابتلي بطائفتين، طائفة تبغضه، وطائفه تحبه..) وخير من ذلك ما قاله شيخ الإسلام، بعد أن ذكر طائفة من العلماء، الذين كانت لهم مقولات مبتدعة وأقوال مخالفة للصواب.. قال: (.. ثم إنه ما من هؤلاء إلا من له في الإسلام مساع مشكورة، وحسات مبرورة، وله في الرد على كثير من أهل الإلحاد والبدع، والانتصار لكثير من أهل السنة والدين، ما لا يخفى على من عرف أحوالهم، وتكلم فيهم بعلم وصدق، وعدل وإنصاف، لكن لما التبس عليهم هذا الأصل المأخوذ ابتداءً عن المعتزلة، وهم فضلاء عقلاء، احتاجوا إلى طرده، والتزام لوازمه، فلزمهم بسبب ذلك من الأقوال ما أنكره المسلمون من أهل العلم والدين، وصار الناس بسبب ذلك: منهم من يعظمهم لما لهم من المحاسن والفضائل، ومنهم من يذمهم لما وقع في كلامهم من البدع والباطل، وخيار الأمور أوساطها.. والله يتقبل من جميع عباده الحسنات، ويتجاوز لهم عن السيئات.. ولا ريب أن من اجتهد في طلب الحق والدين من جهة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأخطأ في بعض ذلك فالله يغفر له خطأه..) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أسباب ظهور البدع مر معنا في أثناء العرض التاريخي الموجز للبدع بعض الأسباب التي أدت لظهور البدع، ويمكن هنا أن نذكر تلك الأسباب وغيرها على سبيل الإيجاز، والأسباب على ضربين: أحدهما: سبب قدري أزلي: وهو معنى قوله تعالى (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين) فالله جل وعلا قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة، على إيمان أو على كفر، كما قال سبحانه: (ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً) ، ولكنه سبحانه أراد كوناً لحكمة تقتضيها هذه الإرادة أن: (لا يزال في الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم. قال عكرمة: (مختلفين في الهدى) .. قال تعالى: (ولا يزالون مختلفين غلا من رحم ربك) . فإن الله - سبحانه - أراد قدراً أن يكون هذا الخلق صائراً إلى الرحمة أو الاختلاف، وهذه هي الغاية التي غليها يصيرون، وهي مرادة بخلقه - سبحانه - وهي العاقبة الكونية التي قدرها أزلاً، بعد أن هدى الناس بالدلالة والإرشاد، إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 أوجد الفطرة القابلة، والعقول الباصرة، وأرسل الرسل الهادية، والكتب الدالة (وأما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى) وهذا الاختلاف الوارد في الآية يقصد به: الاختلاف في أصل الملة على أديان شتى كاليهودية والنصرانية. ويقصد به كذلك الاختلاف بين أهلة ملة الإسلام وهو على نوعين: النوع الأول: الاختلاف في مسائل الاجتهاد، وهو اختلاف التنوع وهذا ليس بمذموم وليس أهله من أهل التفرق والعذاب. النوع الثاني: اختلاف أهل البدع والأهواء، في القواعد الكلية والأصول الشرعية الاعتقادية والعبادية، فهذا داخل تحت هذه الآية؛ لأنه يؤدي إلى التفرق شيعاً. فالمرحومون في هذا التفرق والخلاف هم: (.. أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين..) واتبعوا هدي الرسول الأمين، وهم الفرقة الناجية الذين أخبر عنهم - عليه السلام - في حديث افتراق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، وما سواهم من الفرق فهو من أهل الأهواء المختلفين الموعودين بالجحيم. والضرب الثاني من أسباب الابتداع: كسبي، وهو على أنواع: 1- اتباع الهوى: ومن هذا الباب سمي أهل البدع أهل الأهواء؛ لأنهم قدموا أهواءهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ورجحوا آراءهم، وجعلوها مساويةً للنصوص الشرعية، أو أعلى منها درجة ودلالة، بل ربما جعلوا عقولهم وأذواقهم هي الأساس والأدلة الشرعية للتعضيد والاستئناس. قال ابن القيم: (وكان السلف يسمون أهل الأراء المخالفة للسنة وما جاء به الرسول في مسائل العلم الخبرية، وأهل مسائل الأحكام العملية يسمونهم أهل الشبهات والأهواء؛ لأن الرأي المخالف للسنة جهل لا علم، وهوى لادين فصاحبه ممن اتبع هواه بغير هدى من الله، وغايته الضلال في الدنيا والشقاء في الآخرة..) . وقال شيخ الإسلام: (وأصل الضلال: اتباع الظن والهوى..) . وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السنن، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا) . وهذا هو دأب أهل البدع، يضعون أهوائهم أولاً، ثم يطلبون الأدلة عليه من الشرع وكلام العرب، بعكس أهل الحق فإنهم يضعون الدليل أولاًن ثم ينقادون له فيعتقدون ويحكمون بعد ما يستدلون. وأهل الأهواء إذا وجدوا الأدلة على خلاف ما يعتقدون، أولوها وحرفوها وصرفوها عن حقيقة معناها. كما فعل المعتزلة في الأدلة المخالفة لأصولهم الخمسة، وكما فعلت الجهمية في آيات الصفات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ومما يدل على أن اتباع الهوى هو أحد أسباب البدع، أنك تجد من أهل البدع من يرد النصوص الصريحة الصحيحة؛ لأنها خالفت هواه كما فعلت الشيعة في النقول الواردة في فضائل الشيخين. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (.. وأما أهل البدع من أهل الكلام والفلسفة ونحوهم، فهم لم يثبتوا الحق، بل أصلوا أصولاً تناقض الحق، فلم يكفهم أنهم لم يهتدوا، ولم يدلوا على الحق، حتى أصلوا أصولاً تناقض الحق، ورأوا أنها تناقض ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقدموها على ما جاء به الرسول) والهوى المضاد للهدى، والمتسبب في إيجاد البدع، قد يكون هوى الإنسان نفسه وقد يكون هوى لغيره وهو يتبعه، وقد يكون هوى التحسين والتقبيح، أو هوى اتباع الأقيسة والآراء، أو هوى الذوق والوجد، أو هوى الحب والبغض. 2- قلة العلم بالشرع المنزل: كما قال الإمام أحمد في وصف المبتدعة: (.. عقدوا ألوية البدعة وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهال الناس بما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 يشبهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلين". فشعار المبتدعة ترك الآثار، وشعار أهل السنة مثل ما قال محمد بن سيرين - رحمه الله -: (كانوا يرون أنهم على الطريق ما كانوا على الأثر) . ولذلك فإن أهل السنة أتباع الحق والهدى، يسمون أهل الحديث تارة، وأهل الأثر تارة، كما قال هارون الرشيد: (طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته في الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث". فانظر كيف فرق بين اتباع الهدى أصحاب الاتباع، وأتباع الردى ذوي الابتداع؛ لأن الله عصم أولئك بمسلكهم خلف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كما قال وكيع بن الجراح: (لو أن الرجل لم يصب في الحديث شيئاً إلا أن يمنعه من الهوى كان قد أصاب فيه) . وأساس علوم الإسلام كتاب الله وسنة رسوله، وقد أخبر المصطفى - عليه السلام - عن ذهاب العلم فقال: ".. إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس ولكن قبض العلم قبض العلماء، فإذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً فيسألون، فافتوا بغير علم فضلوا وأضلوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 ولقلة علمهم اتبعوا المتشابه، وتركوا المحكم، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - (سيأتي ناس يجادلونكم بشبهات القرآن، فخذوهم بالسنن فإن أصحاب السنن أعلم بكتاب الله - عز وجل -) . وقد وصف الصادق - صلى الله عليه وسلم - الخوارج بصفات منها: ما رواه علي - رضي الله عنه - حيث قال: (.. وإني سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقوم: "سيخرج قوم في آخر الزمان، حدثاء الأسنان، سفهاء الأحلام، يقولون من قول خير البرية، يقرأون القرآن لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم عند الله يوم القيامة". وهم على عكس أهل السنة الذين من صفاتهم الرسوخ في العلم ورد المحكم إلى المتشابه، إذ من صفات المبتدعة الزيغ، وقلة العلم، وابتاع المتشابه، فمن جهة الجهل بالشرع حصل لهم الزيغ، فتركوا الأدلة المحكمة واتبعوا المتشابه فقادهم ذلك إلى الابتداع. وفروع جهل المبتدعة بالشريعة كثيرة ومتنوعة منها: 1- الجهل بالحديث النبوي وبمراد النبي - صلى الله عليه وسلم -. 2- الجهل بالآثار الواردة عن السلف - رضوان الله عليهم-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 3- الجهل بمقاصد الشريعة. 4- الجهل بكلام العرب وأساليبهم. 5- الجهل بقواعد العلوم وأصولها، كالمطلق والمقيدن والعام والخاص، والناسخ والمنسوخ، والمجمل والمبين. 6- الأخذ بالأحاديث والآثار والنقولات الواهية، والمكذوبة. 7- أخذ الأدلة الشرعية مجزأة عن بعضها، وعدم تصور الشريعة صورة واحدة متكاملة متصلة. 8- جعل كلامهم وأصولهم هي المحكمة، وكلام الشارع هو المتشابه المجمل. 3- اتباع العوائد: وهي على أقسام: 1- اتباع الآباء والمشائخ: على طريقة أولئك الذين حكى الله عنهم (إنا وجدنا اباءنا على أمة وإنا على اثرهم مقتدون) وهذا هو التقليد المذموم الذي يقود صاحبه إلى الاستنان بآراء واقوال الرجال، وطرح الهدى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، التقليد الذي يطرح صاحبه به الحق، ويعتنق بسببه الباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 ومن أمثلة ذلك: التغالي في تعظيم الشيوخ، وزعماء المذاهب والطوائف، تعظيماً يجعلهم في منزلة من لا يسال عما يقول. أو يفعل، كما تفعل الصوفية والشيعية والمتفلسفة، فالشيخ عند الصوفية محل السمع والطاعة المطلقة (وكثير من أتباع المتعبدة يطيع بعض المعظمين عنده في كل ما يأمر به، وإن تضمن تحليل حرام أو تحريم حلال) . حتى أن عبارة (من اعترض فقد انطرد) من المسلمات عند المريدين والسالكين أتباع الصوفية. والإمام عند الشيعة بمنزلة النبي، وكلامه إما وحياً أو كالوحي. 2- اتباع المذهب والطائفة: وهو أيضاً من التقليد المذموم، الذي قاد إلى بدع كثيرة، إذ إن أكثر فرق المبتدعة تضع لنفسها أصولاً وقواعد بدعية عقلية كالمعتزلة، أو ذوقية كالصوفية، فمن تقيد بهذه الأصول وسار عليها، فهو عندهم المؤمن، ومن خالفها فهو الكافر أو الفاسق. بل ربما جعل ذلك المبتدع طائفته هم أهل السنة والجماعة، ومن خالفها فهو من أهل البدع. وبذلك تنتشر البدع في أغمار الناس، وفي من التبس عليه الحق بالباطل أو اتبع هواه وظنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 واتباع المذاهب والطوائف في الحق والباطل، من أكبر المنكرات وأعظم المحرمات، بل هو مسلك اليهود كما قال الله عنهم: (وكانوا من قبل يسفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) . (فوصف اليهود: أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والداعي واتباع المذاهب والطوائف في الحق والباطل، من أكبر المنكرات وأعظم المحرمات، بل هو مسلك اليهود كما قال الله عنهم: (وكانوا من قبل يسفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين) . (فوصف اليهود: أنهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والداعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلوا الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها، مع أنهم لا يتبعون ما لزمهم في اعتقادهم. وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين - غير النبي صلى الله عليه وسلم - فإنهم لا يقبلون من الدين رأياً ورواية إلا ما جاءت به طائفتهم) . 3- ابتاع العادة والعرف والشائع: وهذا من أسوء أنواع التقليد، إذ يظن البعض أن الأمر المبتدع إذا جرت به العادة بين الناس أو أصبح عرفاً عندهم، أو شاع وانتشر في الناس فإنه لا يقبل المعارضة ولا يتطرق إليه النقض. بل مما يزيد هذا الأم سوءاً: أن يعتقد أن مجرد الاعتياد على الفعل وكونه أصبح شائعاً متعارفاً عليهن يكسبه شرعية تجيز فعلهن مع أنه من المعلوم الثابت في الشريعة أن 0شيوعه الفعل لا تدل على جوازه) ومع ذلك فإن كثيراً من العامة وأشباههم، يعتنقون كثيراً من البدع على أنها سنن، بسبب عمومها وشهرتها واستدامة مبتدعيها لفعلها. بل ويحتجون بذلك على كونها سنناً، أو بدعاً حسنة، ويجعلون ذلك الجاري والشائع بين الناس إجماعاً لا تصح مخالفته، ولو كانت مباينته للسنة جلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 واضحة. قال شيخ الإسلام في مثل هذا الاحتجاج: (.. فكيف يعتمد المؤمن العالم على عادات، أكثر من اعتادها عامة، أو من قيدته العامة، أو قوم مترأسون بالجهالة، لم يرسخوا في العلم ولا يعدون من أولي الأمر ولا يصلحون للشورى، ولعلهم لم يتم إيمانهم بالله وبرسوله، أو قد دخل معهم فيها بحكم العادة قوم من أهل الفضل، من غير روية أو لشبهة أحسن أحوالهم فيها أن يكون فيها بمنزلة المجتهدين من الأئمة والصديقين. والاحتجاج بمثل هذه الحجج، والجواب عنها معلوم أنه ليس من طريقة أهل العلم، ولكن لكثرة الجهالة قد يستند إلى مثلها خلق كثير من الناس، حتى من المنتسبين إلى العلم والدين..) . ومما يمكن أن يلحق بهذا القسم: الاحتجاج على صحة البدعة ومشروعيتها، بعمل من عملها أو قال بها من ذوي العلم والفضل. والاحتجاج بثبوت منفعة هذه البدعة - التي لا أصل لها - بالتجارب والأقسية كأن يقال: بأن الدعاء عند قبور الصالحين مستحب أو جائز؛ لكونه ثبت بالتجربة أنه يستجاب للإنسان عندها، والخلاصة أن التصميم على اتباع العوائد وإن فسدت، أو كانت مخالفة للحق سبب من أسباب انتشار البدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ومن أسباب انتشار البدع: 4- أخذ أهل السلطة بها أو سكوتهم عنها: أما أخذ السلطة بالبدعة، وكونه سبباً في انتشارها، فيؤكده ما ذكرناه سابقاً عند الحديث عن المعتزلة، وكيف أنهم استطاعوا من خلال التأثير على خلفاء بني العباس، أن ينشروا بدعهم ويرغموا الناس على الأخذ بها، واعتقاها، وكثير من البدع انتشرت تحت وطأة الرغبة أو الرهبة من الحاكمين أو المتسلطين. كما انتشرت بدع الخوارج في خراسان، وبدع القرامطة في البحرين، وبدع الشيعة في اليمن وإيران. قال اللالكائي: (.. ومقالة أهل البدع لم تظهر إلا بسلطان قاهر أو بشيطان معاند فاجر، يضل الناس خفياً ببدعته، أو يقهر ذاك بسيفه وسوطه أو يستميله بماله ليضله عن سبيل اللهن حمية لبدعته وذباً عن ضلالتهن ليرد المسلمين على أعقابهم ويفتنهم عن أديانهم..) . أم السكوت عن المبتدعة الدعاة، فإنه سبب من اسباب انتشار البدع، سواء كان السكوت من العلماء أو الولاة. ومن الأسباب: 5- كون المبتدع من ذوي الفصاحة والبيان: وقد قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: "إن من البيان لسحراً". وهكذا كان حال المعتزلة فما من طبقة من طبقاتهم إلا وفيها فصحاء بلغاء كواصل بن عطاء، وأبي الهذيل العلاف، ومن البيان الذي يعتمد عليه أهل البدع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 الشعر وسائر صنوف الأدب، وهذا مما يروق للسامعين، ويستميل قلوبهم ويخلب عقولهم، وهو الذي يشبه بالسحر، إذ يغلب على النفس حتى يحول الشيء عن حقيقته ويصرفه عن جهته. وهذا إذا صرف إلى الحق يمدح ويحمد؛ لأن في تحسين الكلام وتحبير الألفاظ وتجميل الأساليب تزييناً للحق، كما أن العكس بالعكس، فكم أضل ابن الفارض بقصائده، والمعري بشعره، والجاحظ بمؤلفاته وكتبه. 6- احتفاء المبتدعة ببعضهم وتعاونهم فيما بينهم: وهذا من الأسباب القوية التي أدت إلى انتشار البدع، ومما قيل في هذا المعنى وأصبح كالمثل السائر: (احتفى به كاحتفاء الشيعي بالشيعي والمعتزلي بالمعتزلي) . وفي تاريخ القرامطة والإسماعيلية والرافضة، أكبر دليل على ما نقول. موقف السلف من البدع: يختلف الموقف من البدع باختلاف البدعة ذاتها، من حيث ضخامتها أو حقارتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وباختلاف المبتدع من حيث كونه داعياً لها أو مستتراً بها، أو كونه مع جماعة لهم قوة وسلطان، أو ليس لها ذلكن وعلى هذا فقد اختلفت مواقف السلف من البدع وأهلها إلا أنه من المتفق عليه بينهم هو التحذير من البدع والتنفير من المبتدعة، هذا في العموم أما على وجه التفصيل فسيأتي بعون الله في فصل: حكم المبتدع. ولا يمنع أن نعرض هنا لبعض مواقف السلف المتنوعة بتنوع الأسباب والبواعث والملابسات: 1- التأديب والتعزير بالضرب والحبس، كما فعل عمر مع صبيغ بن عسل. 2- النهي عن مجالسة ومحادثة أهل البدع، والأمر بهجرهم ومقاطعتهم وترك مجادلتهم. 3- مناظرتهم وتبيين الحق لهم، كما فعل ابن عباس - رضي الله عنهما - مع الخوارج. 4- قتالهم ومحاربتهم، كما فعل علي - رضي الله عنه - مع الخوارج. 5- حمل السيف وإعلان الخروج على المبتدعة، كما فعل الإمام أحمد بن نصر الخزاعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 6- إظهار السنة والدفاع عنها، كما فعل الإمام أحمد بن حنبل. 7- مجالسة المبتدعة وزيارتهم وردهم عن البدعة، كما فعل أحمد بن حنبل مع أحد الرافضة، ومع أحد المرجئة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 نبذة موجزة لبعض المؤلفات في البدعة ودراسة موجزة لأهمها: حظي موضوع البدعة باهتمام كبير من قبل علماء الإسلام، حتى أنك لتجد الحديث عنه في غالبية العلوم الشريعة، ففي الحديث وشروحه: تجد أبواب الاعتصام بالسنة، وذم البدع والأهواء، والتوحيد، والسنة، وغير ذلك من الأبواب المختصة بالكلام عن البدعة، ويوجد الكلام عنها في كثير من الأبواب الحديثية الأخرى، بل كل باب من أبواب الحديث ينص على سنة، وباللازم ينهي عن بدعة. وفي مصطلح الحديث: تجد الكلام عن رواية المبتدع، وحكم الداعي وغير الداعي، وفي التفسير: تجد الكلام عن البدعة عند آيات الاعتصام وذم التفرق. وفي الفقه: حكم شهادة أهل الأهواء، وحكم المناكحة والمبايعة والإرث، مع المبتدعة. وفي أصول الفقه: تجد للبدعة علاقة بأبواب الإجماع والاستحسان والمصالح المرسلة، وقول الصحابي، وفي تعريف السنة وأحكام السكوت عنه، والاجتهاد والتقليد، وغير ذلك من المباحث والأبواب الأصولية. وفي العقيدة: تجد الكلام عن البدعة والمبتدعة في كل باب منها. وفي تراجم الرجال: تجد ذكر من جرح بالبدعة، ومن ردت روايته بسبب ابتداعه. وفي التاريخ: تجد سير المبتدعة أفراداً وفرقاً، وما أحدثوه من حروب وفتن وما قام لهم من دول وما وقع معهم من وقائع. أما المؤلفات التي تكلم أصحابها عن البدعة، فهي - بحسب ما اطلعت - تنقسم في تناولها لموضوع البدعة إلى أقسام: القسم الأول: مؤلفات تكلمت عن بعض البدع وتناولتها بالرد والتبيين، من غير تعرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 لتعريفات البدعة وأقسامها وأحكامها وأحكام المبتدع، وإن تعرضت لشيء من هذا فإنما يكون بصورة عرضية، من غير تعمق بحسب حاجة المؤلف إلى ذلك، مثل المؤلفات التي تتكلم عن بدعة المولد، وبدع الاحتفال بليلة الإسراء، أو النصف من شعبان ونحو ذلك. وهذه المؤلفات كثيرة، أذكر منها على سبيل المثال: 1) القول الفصل في حكم الاحتفال بمولد خير الرسل، للشيخ إسماعيل بن محمد الأنصاري. 2) الرد القوي على الرفاعي، والمجهول، وابن علوي، وبيان أخطائهم في المولد النبوي، للشيخ حمود بن عبد الله التويجري. 3) هذه مفاهيمنا، للشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ. 4) حوار مع المالكي في رد منكراته وضلالاته، للشيخ عبد الله بن سليمان بن منيع. وهذه الكتب تصدت لمسألة الاحتفال بمولد النبي - صلى الله عليه وسلم - بشكل موسع، بالرد على مزاعم المحسنين لهذه البدعة، وكشف زيوف أدلتهم، وبيان تهافت استدلالات أصحاب بدعة المولد، خصوصاً وأهل التحسين البدعي عموماً، والإجابة بصورة جليّة عن شبههم التي يتعلقون بها ويعتمدون عليها، وبين هذه المؤلفات خصوص وعموم من حيث العمق وشمول التناول. 5) الإنصاف فيما قيل في المولد من الغلو والإجحاف، للشيخ جابر الجزائري، المشهور بأبي بكر الجزائري. 6) التحذير من البدع، وهو مؤلف يحوي أربع رسائل في حكم الاحتفال بالمولد النبوي، وليلة الإسراء والمعراج، وليلة النصف من شعبان، وتكذيب الرؤيا المزعومة من خادم الحجرة النبوية، للشيخ بقية السلف الصالح عبد العزيز بن عبد الله بن باز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 7) تبصير أولي الألباب ببدعة تقسيم الدين إلى قشر ولباب، تأليف محمد بن أحمد ابن إسماعيل. 8) تمام الكلام في بدعية المصافحة بعد السلام، تأليف محمد موسى نصر. 9) تحذير الساجد من بدعة منع الصبيان من المساجد، وبدعة الحجز المكان في المساجد، تأليف أبي حذيفة بن محمد البرقاوي. والكتب من هذا القبيل كثيرة ومعظمها يتعلق بالبدعة العملية. القسم الثاني: مؤلفات تكلمت عن جملة من البدع، مع التناول اليسير، وغير المتعمق أيضاً لحكم البدعة وتعريفها، وحكم المبتدعة. ومن هذه المؤلفات: 1) إصلاح المساجد من البدع والعوائد، لعلامة الشام الشيخ محمد جمال الدين القاسمي رحمه الله. 2) تحذير الساجد من اتخاذ القبور مساجد، للشيخ محمد ناصر الدين الألباني. 3) رياض الجنة في الرد على أعداء السنة، ومعه الطليعة في الرد على غلاة الشيعة، ورسالة في القبة المبنية على قبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - للشيخ مقبل ابن هادي الوادعي. 4) رسالة الدعي إلى السنة الزاجر عن البدعة، للشيخ عبد الصمد بن حبيب الله المختار الكشني الغاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 5) السيف القاطع للنزاع، تأليف محمد المرزوق بن عبد المؤمن الفلاتي. 6) منهاج أهل الحق والاتباع في مخالفة أهل الجهل والابتداع، للشيخ سليمان ابن سمحان. 7) القول الأسمى في ذم الابتداع والتقليد الأعمى، تأليف ابي عبد الرحمن سليم حمد السالم. 8) البدعة أسبابها ومضارها، للشيخ محمود شتلوت. 9) فتاوى أئمة المسلمين بقطع لسان المبتدعين، للشيخ محمود محمد خطاب السبكي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 القسم الثالث: مؤلفات تكلمت عن جملة من البدع، مع ذكر موجز نافع فيه بعض الشمول، عن تعريف البدعة وأقسامها وأحكامها وأقسام المبتدعة وأحكامهم، وغير ذلك من المسائل المتعلقة بقواعد النظر في مسألة البدعة، وقواعد التأصيل في حكمها وحكم فاعليها. وليست هذه المؤلفات على درجة واحدة في ذلك بل بعضها أشمل من بعض، وبعضها تكلم عن غالبية هذه المسائل التأصيلية، وبعضها لم يتجاوز إلا أجزاء يسيرة منها. ومن هذه المؤلفات: 1) الإبداع في مضار الإبتداع، للشيخ علي محفوظ. وقد خصص القسم الأول من الكتاب في تعريف البدعة وشرح معناها، وفي ذكر بعض أقسامها، وفي الفرق بين البدعة وبين المصالح المرسلة، ثم في معنى " كل بدعة ضلالة "، ثم في أحكام البدعة، ثم تكلم عن جملة من البدع الواقعة في العبادات والعادات والاعتقادات، وجملة الخرافات والأوهام الشائعة بين العامة، وعليه مآخذ منها: · ترجيحه للتعريفات المقتضية حسن بعض البدع. · وقوله بانقسام البدع إلى واجبة، ومندوبة، ومباحة، ومحرمة، ومكروهة. · وقوله بوجوب تخصيص قوله - صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ضلالة ". 2) السنن والمبتدعات المتعلقة بالأذكار والصلوات، للشيخ محمد عبد السلام خضر الشقيري وقد تكلم في مطلع كتابه عن ذم البدعة، ثم عن تعريف البدعة والسنة، ثم عن البدعة المكفرة، والمحرمة، والمكروهة، وكل ذلك بإيجاز شديد، ثم شرع في تعداد البدع المتعلقة بالأذكار والصلوات وغيرها، ذاكراً ما يقابلها من سنن ومأثورات. 3) تحذير المسلمين من الابتداع والبدع في الدين، للشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي وهو كتاب يشارك سابقيه في ذكر جملة من البدع العملية والاعتقادية والرد عليها، غلا أنه يتميز بوضوح الرؤية في كثير من المسائل التي عرض لها، ويتميز كذلك بما وضعه المؤلف في صدر هذا الكتاب من كلام عن تعريف البدعة، وأسباب انتشارها، وتعريف السنة والرد على الجاهلين بها أو المكتفين بغيرها، ثم الكلام عن بدعة تقسيم البدع إلى سيء وحسن، ورد شبهات المحسنين للبدع بالنقل والعقل. ثم الكلام عن الفرق بين البدع والمصالح المرسلة، وعن انقسام السنة إلى فعلية وتركية، ثم الكلام عن بعض أقسام البدعة. ثم شرع في ذكر البدع الاعتقادية، ثم العملية، ثم ختم بذكر بعض الأحاديث الموضوعة المتعلقة بمسائل عملية وعلمية. 4) إحياء السنة وإخماد البدعة، للشيخ عثمان بن فودي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ويشتمل على ثلاثة وثلاثين باباً فيها: ذكر لكثير من البدع المتعلقة بالعبادات والعادات، وبعض الاعتقادات، وقدم لها بثلاثة أبواب الأول: عن حد الكتاب والسنة والإجماع، وأدلة وجوب اتباعها، والثاني: عن حد البدعة وأقسامها، وأدلة وجوب تركها، وهجر أصحابها، والثالث: عن الأدلة والآثار الموجبة لاتباع السنة وآثار القرون الفاضلة. وقد اعتمد على كتب وآراء فقهاء المالكية كثيراً، لاسيما كتاب المدخل لابن الحاج، فإنه نسج على منواله، وأكثر من النقل والاقتباس عنه، وعلى هذا الكتاب مآخذ منها: قوله عند ختام الباب: (اللهم وفقنا لاتباع سنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - بجاهه عندك) وهذا القول من التوسل البدعي الذي لم ينقل عن الصحابة ولا التابعين، ولا أحد من أئمة الدين القول به، ولا الإفتاء بجوازه، والمؤلف مع جلالته وحرصه على الاتباع وقع في هذه الزلة، والله يغفر له ويسامحه، فلعله لم تبلغه الحجة، ولم يصل إليه في ذلك علم يزيل عنه الشبهة. ومنها موافقته لمن قال بانقسام البدعة إلى خمسة أقسام: وتجبة ومحرمة ومندوبة ومكروهة ومباحة. ومنها قوله - بناء على أخذه بالتقسيم السابق -: إن من البدع ما ينكر ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 ما لا ينكر، وأن منها ما هو حسن، ومنها ما هو قبيح. ومنها: أنه عند ذكره لباب الإيمان، وما أحدث الناس فيه من البدع ذكر بعض الأسماء والصفات، واستدل بالقرآن على ثبوتها غير أنه ذكر منها: واجب الوجود مستدلاً بقوله تعالى: [أفي الله شك فاطر السماوات والأرض] والقديم، مستدلاً بقوله: [هو الأول] ، وليس من أسماء الله أو صفاته واجب الوجود أو القديم، وإنما حدثت هذه التسميات من قبل أهل الكلام. ومنها: أنه ذكر أموراً لا تعد من البدع، تابع فيها ابن الحاج في المدخل كجعله نَتْر الذَكَر بقوة بعد البول بدعة محرمة إجماعاً، وجعله الاستنجاء من الريح، والتغوط عرياناً وصب الماء في الأذن حال الغسل، وصوت مج الماء من المضمضة أثناء الوضوء، وبسط الفرش في المسجد واتخاذ المراوح فيها، ونسخ القرآن وكتب العلم وتعليم الصبيان فيها، كل ذلك - وغيره كثير في أغلب الأبواب - جعله بدعة. وكذلك جعله بعض المعاصي والمخالفات بدعة، والأمثلة موجودة في كل باب. 5) المدخل، لابن الحاج. وهو مصنف كبير جمع فيه طائفة كبيرة من الأعمال المخالفة وسماها بدعاً، فأما بعضها فليست ببدع ولا مخالفات، كبعض الأعمال العادية، التي ظنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 مخالفات شرعية، وأما بعضها فهي من المعاصي وليست من البدع. وفيه ذكر جملة من البدع والمحدثات، في العوائد والعبادات والمعاملات وبعض الاعتقادات، وفيه بعض السنن التي عدها من البدع. وقد ذكر هذا الكتاب الحافظ ابن حجر في الدرر الكامنة عند ترجمته لابن الحاج فقال: ( ... وجمع كتاباً سماه المدخل، كثير الفوائد كشف فيه معايب وبدع يفعلها الناس ويساهلون فيها وأكثرها مما ينكر وبعضها مما يحتمل ... ) . والنقد السابق لكتاب إحياء السنة وإخماد البدعة، يصدق جله على كتاب المدخل لابن الحاج؛ لأن عثمان فودي اعتمد كثيراً على هذا الكتاب كما سبق ذكر ذلك. 6) العلم الشامخ في إيثار الحق على الآباء والمشايخ، للشيخ العلامة صالح بن مهدي المقبلي. وهو رجل نبذ التقليد وعاداه أشد المعاداة، وتحرر مؤثراً الحق الذي أداه إليه اجتهاده على كل شيء، غير مبال بمن خالفه ولا آبه بمن عاداه، فرد بقوة على المعتزلة والأشاعرة والصوفية، ولكنه تجاسر حتى نال من بعض علماء السلف، ووقع في بعض الهفوات، والله يعفو عنه. أما كتاب العلم الشامخ، فحقه أن يكون مع الكتب المذكورة في القسم الآتي لولا أنه ملأه بكثير من المباحث الأصولية والفقهية والحديثية والتاريخية، ومسائل الجرح والتعديل، وغير ذلك من المباحث والمسائل التي تجعله من الكتب غير المتخصصة في مسألة البدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 ومع ذلك فقلما يخلو - مبحث من هذه المباحث من ذكر للبدعة - إما قصداً وإما عرضاً واستطراداً، على رشاقة في عبارته، وسلاسة في أسلوبه، ولذلك لا تجد كلامه عن البدعة والمبتدعة في مكان واحد، بل مبثوث في هذا الكتاب، الذي قال عنه في مقدمته أنه لم يسقه مساق التصنيف فتارة تجده يتكلم عن فرقة من الفرق، وتارة عن حكم تكفير المبتدعة، وتارة عن أقسام البدعة، وأخرى يورد النصوص المحذرة منها وهكذا ... وقد أكسبه نظره المتجرد عن التقليد جرأة على تناول الموضوعات، وشجاعة هجم بها على سائر المقالات، حتى أنه لشدة معاداته للتقليد في العقائد والفروع أخذ على نفسه أن يقف على المسائل التي يتحدث عنها موقف الجهل الذي خرج به من بطن أمه، حتى يضطره اليقين المدعوم بالدليل إلى نيل مطلبه، إلا أنه لم يسلم له ذلك تماماً، فقد تأثر بابن الوزير وكان مراده - رحمه الله - بلوغ الحق وتحقيق الإنصاف بعيداً عن التعصب لقول فلان ورأي فلان، وهو في معظم أبحاثه على طريقة السلف، غير أنه احتوشته جرأته فوق بعض الهنات: كانتقاده للإمام أحمد، وابن معين، وابن المديني، والذهبي في رد روايات بعض المبتدعة وقبول روايات بعضهم، وكشكه في عدالة الصحابة وإضافته مذهب الزيدية إلى نفسه وقد تبرأ منه، وقوله بقول المعتزلة والأشاعرة في بعض مسائل القدر، وغير ذلك من المآخذ التي جاءت من رواسب نشأته القديمة، أو بسبب ردة فعلة الشديدة نحو التقليد، والمصنف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه، والرجل ما أراد إلا الحق، وما قصد سوى الإنصاف والله رؤوف بالعباد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 7) الباعث على إنكار البدع والحوادث، للإمام أبي شامة. وهو كتاب جمع فيه مؤلفه - رحمه الله - جملة من البدع المنتشرة في زمانه؛ ليحذر الناس منها، وقد بدأه بالأحاديث والآثار المحذرة من البدع والمحدثات، والموجبة لاتباع سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين، وإنكار المنكر وإحياء السنة وإماتة البدع. ثم أتبه ذلك بفصل فيه المعنى الشرعي للبدعة، ثم فصل على تقسيم الحوادث إلى بدع مستحبة ومستقبحة، وذكر أمثلة على ما أرتاه من بدع حسنة، ثم عقب بذكر البدع التي يظنها الناس قربة وهي بخلاف ذلك، وساق أمثلة من البدع في عصره، وأطنب في بدعة صلاة الرغائب، ثم أورد في آخر الكتاب البدعة المشعرة بأنها من السنة وليس كذلك، ثم ختم بالبدعة الحادثة في مناسك الحج، وهو في خلال سوقه للأمثلة على البدع يأتي ببعض القواعد الجليلة كقوله: (المكلف ليس له منصب التخصيص بل ذلك إلى الشارع) . وككلامه على ملازمة المندوب، بحيث ينتقل إلى مرتبه الوجوب. وككلامه عن فعل العالم المرموق بعض البدع، وأن ذلك يوهم العامة أنها من السنن، وكلامه عن ترك بعض المستحبات أحياناً من قبل المقتدى بهم لئلا يظن أنها حتم واجب. وكضربه بعض الأمثلة على البدع في العادات، وغير ذلك من الفوائد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ومما يؤخذ عليه: تقسيمه البدعة إلى مستحبة ومستقبحة ووصفه بدعو المولد بأنها من أحسن ما ابتدع في زمانهم ووصفه بعض الأمور المشروعة بأنها من البدع الحسنة، كتأليف الكتب وبناء المنابر والمدارس وغي ذلك. وجعله بعض الأمور التي قد تعد من المخالفات والمعاصي بدعة كالصلاة في أوقات النهي. ونفيه أن يكون هناك حديث صحيح في ليلة النصف من شعبان مع أنه ورد فيها أحاديث صحيحة ولكنها لا تقتضي تخصيصها بنوع من العبادة. 8) الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع للسيوطي. وقد بدأه بالآيات والأحاديث والآثار المتعلقة بلزوم السنة والجماعة، وذم البدعة والتفرق ثم عقب بفصل في تمييز السنة من البدعة، أتى فيه بالمعنى العام للسنة، وبعض معاني البدعة من غير أن يذكر تعريفاً يحدهما، ثم أتبعه بفصل المحدثات والبدع التي لا تصادم الشريعة حسب رأيه وفيه قسم البدع إلى مستحسنة ومستقبحة. وقسم المستقبحة إلى بدع في العقائد تؤدي إلى الضلال والخسران، وجعلها في الثنتين والسبعين فرقة. وبدع الأفعال، وقسم هذه إلى ما تعرف العامة والخاصة أنه بدعة، وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إما محرمة أو مكروهة، وما يظنه بعضهم أنها عبادة وقربة وسنة ثم ساق في بقية الكتاب أمثلة على هذا التقسيم وإن لم يلتزم به، فذكر بدع المعاشرة والنظر والسماع والرقص، ثم بدع تعظيم الأماكن والقبور، ثم بدع الأعياد والمناسبات والمواسم، ثم بدع الكلام والمشي ثم بدع التبتل والانصراف عن الدنيا ونفع الناس، ثم ختم بذكر ألوان من البدع متفرقة في العبادات والعادات والمعاملات وجعل في آخر الكتاب وصايا في الحث على التمسك بالسنة. وفي هذا الكتاب تحذير من كثير من البدع المنتشرة بين المسلمين في عصره، وبعضها باق إلى الآن، وليس فيه جديد من حيث التأصيل في مسالة البدعة والمبتدع وأحكامها، اللهم إلا في التقسيمات التي ذكرتها آنفاً، وهي تقسيمات لا تتفق مع مذهب السلف في البدع لاسيما فيما سماه البدع المستحسنة المحمودة، وعرفها بأنها كل موافق لقواعد الشريعة غير مخالف لشيء منها، ولا يلزم من فعله محظور شرعي مثل بناء المنابر والمدارس، وغير ذلك من أنواع البر والتصانيف في العلوم النافعة. وهذه لا يطلق عليها بدعة شرعية لأنها كما قال موافقة لقواعد الشريعة وغير مخالفة لشيء منها، فكيف يصح تسميتها بدعة شرعية ولها أصل في دين الله؟ ، إلا إن كان مراده بتسميتها بدعة من جهة اللغة، فذلك جائز ولكن لابد من البيان حتى لا يوهم الكلام أن في البدع الشرعية ما هو حسن. ومن المآخذ أنه نقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابة اقتضاء الصراط المستقيم نصوصاً حرفية ولم يشر إلى ذلك أدنى إشارة، ونقل نم أبي شامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 في الباعث على إنكار البدع والحوادث ولم يعزه وعند النظر والمقارنة بين ما نقله عن غيره، وما كتبه هو تجد أن المنقول هو الأكثر والغالب. ومن المآخذ أنه استحب إحياء ليلة النصف من شعبان بالعبادة، بشرط أن يكون ذلك بانفراد من غير جماعة، وهذا التخصيص بدعة محدثة لا دليل عليها. ومن المآخذ اعتباره بعض المعاصي بدعاً كالكبر والاستعلاء واحتقار الناس، نعم من فعل ذلك بقصد العبادة والقربة فعمله بدعة، وكذلك اعتباره قول الشخص كيف أصبحت وكيف أمسيت قبل السلام.. بدعة، وهي مسالة مختلف فيها بين من يقول بجواز ذلك ومن يقول بكراهته والصحيح جوازه. وكذلك اعتباره اللعب النرد والشطرنج، والقمار من البدع والصحيح أن اللعب بها من المعاصي والمخالفات، وليس من البدع بالمعنى الشرعي. القسم الرابع: مؤلفات عنيت بمسائل التأصيل في النظر إلى البدعة والمبتدع، وهي على أقسام: - الأول: - مؤلفات تكلمت بشمول وعمق عن سائر مسائل التأصيل هذه أو بعضها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 مثل الاعتصام واقتضاء الصراط المستقيم، والرسائل التي خصصها شيخ الإسلام للكلام عن البدعة، مثل رسالة العبادات الشرعية والفرق بينها وبين البدعية، ومثل قاعدة في تكفير أهل البدع والأهواء، وغير ذلك من الرسائل والقواعد المبثوثة في مجموع الفتاوى. الثاني: - مؤلفات اختصرت أو اقتبست من المؤلفات التي اعتنت بالتأصيل كالاعتصام والاقتضاء وغيرها، ومع زيادات يسيرة في هذا الباب مثل: 1- أصول في البدع والسنن، تأليف محمد أحمد العدوي، وهو تلخيص لكتاب الاعتصام ليس إلا. 2- البدعة وأثرها السيء في الأمة، تأليف سليم الهلالي. وفيه جمل منقولة أو مقتبسة من الاعتصام، وزاد أشياء وناقش مسائل فيها نفع وفائدة، ويظهر فيه حرص مؤلفه علة مسلك أهل السنة والجماعة وطريقة السلف - رضي الله عنهم - إلا أن عليه مآخذ: منها أنه وضع تعريفاً للبدعة صدره مأخوذ من الاعتصام، وعجزه من عند المؤلف، ونسبه في الهامش إلى الاعتصام، وكان الأولى أن يشير بقوله: انظر أو من الاعتصام بتصرف، ونحو ذلك حتى لا يوهم القارئ أن التعريف هو تعريف الشاطبي. ومنها: أنه عندما رد على قسم البدع إلى حسن وقبيح - وقد أجاد في ردوده - تعرض في الأخير لمسألة التحسين والتقبيح العقليين فقال: (وإنما أتي المبتدع من باب التحسين والتقبيح العقلي، والحقيقة أن العقل غير مستقل البتة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ولا ينبني على غير أصل، وينبني على أصل متقدم على الإطلاق، ففي الأمور الشرعية لا يستقل بإدراكها دون الوحي ... ) . ففي الجملة الأخيرة وافق الأشعرية في مذهبهم، وستأتي مناقشة هذه المسألة مفصلة في الفصل الخامس من الباب الثاني. ومنها: وهي يسيرة أنه يورد بعض الأقوال وينسبها لغير أهلها فربما كان سبق قلم. ومنها: أنه اعتبر الحجية في فعل الصحابة بشرط أن يكون الفعل معقول المعنى بحيث لو عرض على العقول لتلقته بالقبول، أما التي لا يعقل معناها على التفصيل فلا حجية لقول الصحابي فيه. والراجح من أقوال العلماء في حجية الصحابي أنه حجة ... يجب العمل به سواء كان فيما يعقل معناه أو لا، بشروط وضوابط مذكورة في الفصل الثاني من الباب الأول. ومنها قوله: (الإثم قدر مشترك بين البدع كلها فلا يجوز أن نحكم على بدعة بأنها أقل إثماً من غيرها، والتفريق في الوصف قائم على الرأي المحض، وهو بدعة في نفسه ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 وهذا القول ربما أن صاحبه أراد به المبالغة في الزجر عن البدع ولكن حكمه بالتبديع على فرق في مراتب الإثم بين البدع فيه تجاوز وخشونة، إذ لا شك في أن من البدع ما هو مخرج عن الملة، وفيها ما هو بمنزلة الكبائر، وفيها ما هو من الصغائر، وكلها مشتركة في عموم الضلالة والقبح والفاسد ... فهل تستوي هذه وتلك مع بدعة الموالد والصيام قائماً في الشمس؟ ... اللهم لا، فلكل حكم يدل على أن بعضها أكثر إثماً من بعض وسيأتي تفصيل هذا في الفصل الأول من الباب الثالث. ثم إن المؤلف ناقض نفسه في هذه المسألة إذ بين أن العلماء اتفقوا على رد رواية من يكفر ببدعته، واختلفوا في رواية الذي لا يكفر ببدعته وهذا دليل على تفاوت البدع في المفسدة والحكم والإثم. ومن المآخذ وهو أيسر من كل ما سبق، أنه أكثر في هذه الرسالة الصغيرة من الإحالة على كتبه الأخرى مثل: انظر كتابي كذا وكذا، انظر الكتاب الفلاني بتحقيقي وهكذا ... مع ألأن هذه الكتب ليست من المراجع والمصادرالمعتمدة أو المعروفة في بحث البدعة. 3- البدعة والمصالح المرسلة، للدكتور توفيق الواعي. وهو من أجود الكتب التي تعرضت لموضوع البدعة، وقد ركز فيه على علاقة البدعة بالمصالح المرسلة فأجاد أيما إجادة. بدأ الكتاب بتعريف الاتباع والتقليد وصلتهما بالبدعة، ثم ذكر أقسام البدعة، ثم حكم البدعة والمبتدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وفي الباب الأخير تكلم عن المصالح المرسلة وتعريفاتها المختلفة وأدلة مشروعيتها وأنواعها والصلة بينها وبين البدعة. وقد اعتمد في الجملة على كتاب الاعتصام وحق له ذلك، إذ هو الأم في هذا الباب، واعتمد في التعاريف المنقولة عن العلماء في كتاب عزت عطية وتبعه في نقل أقوال لم يذكر مصادرها، غير أنه في رده على القائلين بتقسيم البدعة تميز عن عزت عطية، وأتى بكلام جيد ومفيد وناقش شبه المحسنين مناقشة موضوعية. في تخريجه للأحاديث يكتفي أحياناً بذكر مخرجه من أهل الكتب، دون ذكر الجزء أو الصفحة أو الباب. وأحياناً يقول في الحديث: لم أجده. ويكون قد خرجه في موضع آخر في نقله لأقوال العلماء لا يذكر أحياناً الكتب التي نقل منها، وفي بعض المواطن ينقل كلام بعض العلماء نصاً أو معنى من غير أن يشير إلى ذلك منقول أو مقتبس. عند كلامه عن العلاقة بين التعريفات التي تذم البدعة بإطلاق، والتي تقول بالبدعة الحسنة قال: (وينفرد أصحاب البدعة الحسنة في العادات غير العبادية مثل الأكل على الموائد ونخل الدقيق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 والأمر ليس كذلك، بل الذين يقولون بتحسين بعض البدع، يجوزون الابتداع في الأقوال والأفعال والاعتقادات، مثل تحسينهم بدعة المولد وبدعة صلاة الرغائب وغير ذلك ... أما هذا الذي مثل به أمر عادي مقبول عند من يقول بذم البدع مطلقاً، فلم ينفرد أصحاب التحسين البدعي به. ومع كل هذا فالكتاب من أحسن ما قرأت في باب البدعة، خصوصاً في مسألة البدعة والمصالح المرسلة والعلاقة بينهما. 4- البدعة تحديدها وموقف الإسلام منها، للدكتور عزت علي عطية، وسوف أفرده بدراسة موجزة مع بعض المؤلفات الأخرى. الثالث: - مؤلفات استقلت فلم تعن بقضايا التأصيل كالمؤلفات المذكورة سلفاً، أي أن مسائل تعريف البدعة وأقسامها وأحكامها، وأحكام المبتدع لم تجر فيها على وجه التقنين والتصنيف، ولكنها تعد أصولاً اعتمد عليها من ألف في البدعة وأخذ عنها واقتبس منها ومن أجل هذا، جعلتها في هذا القسم والمؤلفات، التي أعني هي: 1- البدع والنهي عنها لابن وضاح. 2- الحوادث والبدع لأبي بكر الطرطوشي. وسوف أذكر لهما دراسة موجزة مع بعض المؤلفات الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وبعد هذا الاستعراض السريع للمؤلفات في البدعة، بحسب ما وصل إلى يدي منها على التقسيم الذي اجتهدت أن يكون مطابقاً لحال هذه الكتب المدروسة أقوم الآن بدراسة موجزة لبعض المؤلفات المذكورة آنفاً وهي: 1- البدع والنهي عنها لابن وضاح، توفي سنة 287هـ. 2- الحوادث والبدع للطرطوشي، توفي سنة 520هـ. 3- الاعتصام للشاطبي، توفي سنة 790هـ. 4- البدعة للدكتور عزت علي عطية. وسبب اختيار هذه المؤلفات للدراسة مايلي: 1) أن كل واحد منها يمثل حقبة من الزمان. 2) أن بينها اختلافاً في المنهج والأسلوب، وطريقة العرض، فكل واحد منها يمثل منهج وأسلوب عصره. 3) أن بينها تباين في طريقة عرض موضوع البدعة، فالأول: على طريقة المحدثين ومن خلاله نتعرف على مناهج الكتب المشابهة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 والثاني: على طريقة الفقهاء، والثالث: على طريقة الأصوليين، والأخير: على طريقة التأليف المعاصر ... ومن خلال كل واحد تتضح لنا طريقة أمثاله. * أما كتاب البدع والنهي عنها لابن وضاح: فمعدود من الأجزاء الحديثيه وقد جمع فيه مؤلفه ما وصل إليه من أحاديث وآثار وأخبار عن الصحابة والتابعين في موضوع البدع, ويعد هذا المؤلف من أشهر الكتب المصنفة في البدع , ولذلك تجد النقل عنه في بعض الكتب المؤلفة في البدع كالحوادث للطرطوشي.. والاعتصام للشاطبي , والباعث على إنكار البدع , والحوادث لأبي شامة. وتجد ذكره في مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية , وابن القيم وغيرهما, بل تجد الشاطبي في الاعتصام أخذ معظم استشهادا ته من ابن وضاح واستخرج من الأحاديث والآثار التي رواها ابن وضاح , قواعد أصولية في مسألة البدعة ,فأشبه حاله حال الصائغ الذي يأخذ سبيكة الذهب فيصوغ منها الحلي والدينار. وهذا الكتاب المطبوع فيه أغلاط وتصحيفات كثيرة, وقد ذكر ذلك محققه وذكر أنه لم يجد منه سوى نسخة واحدة رديئة الخط فطبع عليها واجتهد جزاه الله خيراً- في تخريج أحاديثه, وبيان معاني ألفاظه , والتنبيه على مواطن الغلط والتصحيف ,ومع ذلك لم يخل من أغلاط. وقد بدأ ابن وضاح بذكر الأحاديث والآثار الحاثة على إتباع السنة, وأنها محفوظة بحفظ العدول لها, وأن الله يهيئ لكل بدعة يكاد بها الإسلام ,ولياً من أوليائه يذب عن السنة والدين. ثم ذكر محبة السلف وحرصهم على رد الناس عن البدعة والتحذير من أهلها. ثم قال: باب ما يكون بدعة, وأتى فيه ببعض الآثار التي أنكر فيها الصحابة على المبتدعين, الذي تنادوا للصلاة في جامع البلد بعد هجعة من الليل, والذين اعتزلوا بمسجد دون الناس, والذين جلسوا يسبحون بطريقة جماعية, والذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يصومون أيام المجوس, ثم ساق آثار عن الصحابة في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع, ثم عقبها بأخبار عمليه في زجر المبتدعة, كضرب القاص وضرب أحد الصحابة لولده لما جلس مع المبتدعة, ثم ذكر كلام السلف عن القصاص ومحدثاتهم , ثم قال: باب كل محدثة بدعة, وأتى بالأحاديث والآثار على هذا المعنى ثم عطف مرة أخرى على ذكر الآثار الآمرة بالاتباع, والناهية عن الابتداع, والمحذرة من كل بدعة, وفي أثنائها ساق الآثار الواردة في توبة المبتدع. ثم قال: باب إحداث البدع, وساق حديثاً في عقوبة من أحدث في الدين ما ليس منه, ثم آثاراً في التثبت في الفتيا والاستفهام من السائل قبل إجابته لئلا تؤدي الفتيا إلى الابتداع, ثم ذكر أثراً في نظرة السلف نحو البدعة, ومقارنتها بالمعصية, وأن البدعة أشنع, ثم قال: باب تغير البدع, وهكذا في المطبوع, ولعل الصحيح تغيير البدع, لأن الآثار التي ساقها عن الصحابة في تبيان ضرر البدعة ووجوب تغييرها, تدل على عكس ذلك, وأورد بعد ذلك أحاديث وآثاراً في تقابل السنة والبدعة, وأن وجود واحدة منهما يرفع الأخرى. ثم قال: باب في إتباع الآذان, هكذا في المطبوع وهو غلط بين , ولعل الصحيح إتباع الآثار, لأنه ساق مجموعة من الآثار في النهي عن تتبع الآثار المكانية التي صلى عندها النبي- صلى الله عليه وسلم- أو التي بايع تحتها. ثم قال: ما جاء في ليلة النصف من شعبان, وأورد فيها أثرين, ثم قال: كراهية اجتماع الناس عشية عرفة, وأورد خمسة أثار, ثم قال: النهي عن الجلوس مع أهل البدع, وخلطتهم , والمشي معهم, وبعد إيراد جمله من الآثار قال: باب هل لصاحب البدعة توبة؟ وساق آثاراً ختمها بقصة صبيغ العراقي مع عمر, ثم قال: باب نقص عرى الإسلام, ودفن الدين وإظهار البدع, وأتى بالأحاديث والآثار في غربة الدين وأهله وما في هذا المعنى, وأطال, ثم قال: باب فيما يدال الناس بعضهم من بعض والبقاع, وذكر فيه الآثار الواردة في دولة الحمق والسفلة على الحلماء والأشراف وارتفاع الأشرار على الأخيار, وسيادة المنافقين وتملك من ليس أهلاً, واختلاف أهواء الناس, وصدودهم عن من يعظهم ويذكرهم, الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وغير ذلك من الفتن والبليات التي هي من علامات الساعة, ثم أورد بعض أحاديث وآثار في افتراق هذه الأمة, وأحاديث وآثار في الخوارج , وفي الفتن والنفاق الذي يحصل من قراء هذه الأمة وعلمائها, ثم ساق جملة من الأحاديث والآثار في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وبها ختم كتابه. هذا موجز ما في الكتاب, أما ما يتميز به, وما يؤخذ عليه فهو ما يلي: 1. جاء الكتاب في جميع أحاديثه وآثاره بالسند, ومؤلفه عاش في تدوين الحديث, وعصر أئمة الكبار, وكانت له لقياً وتتلمذ على كبار أئمة أهل السنة كأحمد, وابن معين, وابن المديني, وسعيد بن منصور, وابن المبارك , وابن أبي شيبة, وغيرهم. وقد جعله الذهبي من طبقة الإمام مسلم. وعرف من مشائخه ثلاثة وثلاثون شيخاً من البغداديين, والشاميين, والمصريين, وقيل في ترجمته: عدة الرجال الذين سمع منهم ابن وضاح, مائة وخمسة وستون رجلاً. 2. جمع الكتاب من الأحاديث والآثار ما جعله عمدة المتكلمين والمصنفين, في هذا الباب بعده. 3. حرص مؤلفه-رحمه الله- أن تكون الأحاديث والآثار المجموعة في مكان واحد, ذات معنى واحد أو متقارب, وإن لم يطرد هذا في كل الأبواب. 4. الكتاب مروي عن ابن وضاح, ولذلك يجد القارئ في أول السند غالباً: حدثني محمد بن وضاح, أو حدثنا وأحياناً تكون بداية السند باسم آخر. 5. غالب البدع المنهي عنها في هذا الكتاب من البدع العملية. 6. تجد تعليقات لابن وضاح على بعض الأحاديث والآثار وهي تعليقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قليلة وهي على قلتها تعطي صورة لفقه ابن وضاح وعلمه. أما المآخذ فهي: 1. هذا الكتاب على جلالته وقدره , لم ينل من التحقيق والتخريج ما يستحقه. 2. عدم التزام المصنف-رحمه الله- بالترتيب والتبويب الذي وضعه, فيورد في الباب المتأخر, ما سبق ذكره في الأبواب متقدمة أو العكس. 3. إيراده للآثار الناهية عن مجالسة القصاصين والتحذير منهم واعتبار عملهم بدعة, ثم إيراده أن ابن مسعود كان يقص. 4. إيراده للآثار بأسانيد فيها مجاهيل, كأن يقول: عن بعض مشيخته أو يقول حدثنا بعض أصحابنا أو يقول: عن رجل أخبره , ولعله لو درس الكتاب دراسة حديثية مدققة لوجد في أسانيده أنواعاً أخرى من العلل, كالانقطاع والجهالة والضعف. 5. إيراده بعض الأعمال وتسميتها بدعة, وهي من الأمور الجائزة كقراءة سورة الإخلاص في كل ركعة , وسجود الشكر, أو من الأمور المختلف فيها التثويب بالصلاة أي أن يقول المؤذن بعد أن يمضي وقت من أذانه: الصلاة يرحمكم الله, وما أشبه ذلك, أو من الأمور العادية كالتنحنح في المنارة. *أما كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي: فهو كتاب جرى فيه صاحبه على الأسلوب الفقهي واعتمد-بحكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 مذهبه- على كتب المالكية وأقوالهم, واعتنى بالبدع العملية, ومع ذكر يسير للبدع الاعتقادية ووقد قسم الكتاب إلى أربعة أبواب: الباب الأول: فيما انطوى عليه الكتاب العزيز من الأمور, التي ظاهرها سلم جرت إلى هلك, وليس تحت هذا الباب فصول. الباب الثاني: فيما اشتملت عليه السنة من التحذير من الأهواء والبدع وتحت هذا الباب, فصل في أصول البدع والفرق, وآخر تعريف البدعة. الباب الثالث: في منهاج الصحابة في إنكار البدع وترك ما يؤدي إليها وتحته فصول وفروع كثيرة, أهمها ما يتعلق بصلاة التروايح, ومشروعيتها جماعة والفصل الذي عقده في مسألة سد الذريعة, والآخر الذي سماه: شيعوعة الفعل لا تدل على جوازه, والذي بعده وهو في بيان الوجه الذي يدخل منه الفساد على عامة المسلمين. الباب الرابع: في نقل غرائب البدع وإنكار العلماء لها, وفيه ساق إلى نهاية الكتاب, مجموعه من البدع الشائعة في عصره وكلها من البدع العملية. والكتاب حققه محمد الطيبي, وقدم له مقدمة فيها نفس لا ينسجم مع طريقة السلف, بل هو أقرب إلى التأليف النظري الثقافي الذي لا يلامس المقصود من هذا الكتاب, بل حمل المؤلف ما لا يحتمل في دراسته لهذا الكتاب, وانتقد عليه أنه لم يشر إلى البدع المستحسنة, وأنه استخدم الأسلوب الجدلي ويقصد به المناقشة الفقهية للآراء المخالفة, وأنه استعان بالمعتزلة لكي يضفي على الكاتب صفة التحرر, ثم وصف الكتاب بأنه شعبي متين الصلة بالشعب ومتعلقاً بخيوط الشعارات العنكبوتية, التي شاعت بين المسلمين في هذا العصر. وانتقد هذا المحقق على الطرطوشي أموراً, هي من الدين: كالمص في شرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الماء, والنهش في أكل اللحم, وليس العمامة والاستياك. وسخر من الطرطوشي والفقهاء الذين سبقوه أو لحقوه, حين ظنوا أن العصر الذهبي هو في عهد الرسول -صلى الله عليه وسلم- والسلف, وبالجملة فالمحقق في هذه الدراسة, أساء إلى المؤلف والكتاب من حيث ظن أنه أحسن ..... وكتاب الطرطوشي هذا قد استفاد منه بعض من كتب في البدع بعده كالشاطبي في الاعتصام, وابن شامة في الباعث, والسيوطي في الأمر بالإتباع. قال أبو شامة: (وقد صنف الإمام الشيخ الزاهد أبو بكر محمد بن الوليد الفهري الطرطوشي- رحمه الله تعالى- كتاباً ذكر فيه جملاً من بدع الأمور ومحدثاتها التي ليس لها أصل في كتاب أو سنة, ولا إجماع ولا غيره, وهو كتاب مشحون بالفوائد على صغره) . وقد عني الطرطوشي بمسائل التأصيل في قضية البدعة, فتكلم عن أقسامها من حيث معرفة الناس بها وعدمها , وتكلم عن إمكانية حصر البدع في عدد معين وعن أصول البدع الاعتقادية, وخصص فصلاً لتعريف البدعة في اللغة والاصطلاح وتكلم عن صلاة التروايح, وقول عمر فيها, وبين أنها سنة ولا حجة فيها للمحسن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ووضع قاعدة سماها شيعوعة الفعل لا تدل على جوازه, وضرب لها الأمثلة, وتعرض لمسألة سد الذرائع وله في ثنايا كلامه عن البدع التي تحدث عنها, كلام يصلح أن يكون من الأقوال التأصيلية في البدعة. أما ما يؤخذ على هذا الكتاب فهو ما يلي: 1. اعتماده الكثير على المذهب المالكي في تقرير المسائل والحكم عليها. 2. بسبب اعتماده على المذهب المالكي في أكثر المسائل, عد من البدع ما فقال فيه الإمام مالك مكروه أو أكره ذلك, أولا يعجبني, ونحو ذلك مع أن في بعض هذه التي كرهها الإمام مالك ليست من البدع. 3. وقوله في صلاة التراويح: (وجرت عادة الأئمة أن يفصلوا بين كل ترويحتين بركعتين خفيفتين يصلونهما أفذاذاً ..... ) . ومع كون هذا العمل غير مشروع ولا دليل عليه, فهو مناقض لقوله في موضع آخر: (اعلم أن الحرف الذي يدور عليه هذا المذهب, إنما هو حماية الذرائع وألا يزاد في الفروض, ولا في السنن المسننة, وألا يعتقد أيضاً في النوافل المبتدأة أنها سنن مؤقتة..) . 4. إطلاقه لفظ القيم الباري على الأول- سبحانه- وهذا إطلاق محدث لم يعرف عن السلف. 5. قوله رحمه الله: ( .... وهذا هو حال المقرئين في هذه الأعصر, فإنك تجد أحدهم يروي القرآن بمائة رواية, ويثقف حروفه تثقيف القدح, وهو أجهل الجاهلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 بأحكامه, فلو سألته عن حقيقة النية في الوضوء ومحلها وعزوبها ورفضها, وتفريقها على أعضاء الوضوء لم يخرج جواباً) . وهذه الدقائق التي يجهل بها القراء ليست من السنة ولا أصل لها, فهي غير مشروعة, بل هي من المحدثات التي اخترعها مقلدة المذاهب في باب النية وإلا فأين الدليل الشرعي على تفريق النية على أعضاء الوضوء؟. 6. نقله عن الإمام مالك النهي عن رفع اليدين حال الدعاء, ونقله أيضاً عن الحسن البصري أن مد الأيدي بالدعاء بدعة. وقد ثبت في السنة بأحاديث كثيرة مشروعية رفع الأيدي عند الدعاء, فلا عبرة بقول أحد إذا كان النص بخلافه. 7. نقله عن الإمام مالك جواز نشدان الضالة في المسجد إذا كان بصوت غير مرتفع. وقد ثبت في صحيح مسلم نهيه- صلى الله عليه وسلم- عن ذلك. 8. ذكره أن صوم رجب يكره على أحد ثلاثة أوجه, ثم أتى بواحد منها وترك الباقية فلعله سهى عنها. 9. تعليله لنهي عمر- رضي الله عنه- عن لبس الجارية للإزار, لئلا يظن الناس أن الحرة والأمة في الستر سواء, فتموت سنة وتحيا بدعة , التعليل بالتفريق بين الحرة والأمة صحيح, أما كون هذا الفعل بدعة ومقابلة سنة فلا, فإن أقصى ما يمكن أن يقال فيه, أنه معصية إلا إن أراد البدعة بالمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 اللغوي فنعم, ولكن ذلك ليس بظاهر قوله, لكونه قابل بين السنة والبدعة. 10. نقله عن مالك كراهية قراءة القرآن في المصحف في المسجد وأن ذلك محدث. ولا وجه لكراهة ذلك, ولا لعده من المحدثات إلا من حيث المعنى اللغوي. 11. عده المجبنات والإسفنج من الأطعمة المبتدعة. نعم من حيث أنها حادثة ومخترعة هي بدعة, ولكن لا يطلق عليها بدعة بالمعنى الشرعي. 12. جعله الحمام واتخاذ الألوان في الأطعمة والأكل على الخوان, وتقديم اللحم على الفاكهة, وأكل اللحم من غير نهش, وشرب الماء من غير مص, والأكل بأزيد من ثلاثة أصابع من البدع ... وهذه من الأمور العادية المباحة التي لا تعد مخالفات أو معاصي, فضلاً عن كونها بدعاً. 13. عده بعض الأعمال المكروهة شرعاً من البدع, وهي ليست كذلك, بل هي من المخالفات, كالكلام والإمام يخطب, وحفر القبر بدون لحد. 14. قوله في شأن زيارة قبر النبي-صلى الله عليه وسلم-: (ويصلى ركعتين قبل السلام عليه ... ) . وهاتين الركعتين من المحدثات التي لا أصل لها. 15. إيراد أقوالاً فقهية لا دخل لها بموضوع الكتاب, كاستطراده في التعزية وآدابها ونحو ذلك. 16. قوله: إن الخضر- عليه السلام- جاء يعزي في النبي -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وهذا القول من الترهات التي يرويها الصوفية ومن لا علم عنده بالسنة والآثار. هذه هي جملة المآخذ على كتاب الطرطوشي, وهي بالنسبة لما فيه من العلم والفوائد, كالشعرات البيض المعدودة في الحيوان الأسود. * أما كتاب الاعتصام للشاطبي: فهو العمدة في هذا الباب, والمورد لكل من تكلم في البدعة بعده, فقد نزع الشاطبي- رحمه الله- في هذا الكتاب بقوة فما رؤي عبقري يفري فرية حتى ضرب الناس حول كتاب الاعتصام بعطن, وعلوا منه ونهلوا وحرموا ليدركوا شأوه فما وصلوا. ومؤلفه- رحمه الله- من العلماء الذين تحروا من ربقة التقليد الأعمى, ونير الجمود والتعصب المذهبي, واستقل في زمن كثر فيه إتباع العوائد والآباء, والمشائخ والمذاهب, مع ما حباه الله من توسع في العلوم الشرعية والعقلية, وإلمام بالأخبار والآثار غير يسير, أما علم الأصول الذي به تفهم مقاصد الشرعية, وقواعدها وكلياتها, فمن أحسن الناس علماً بهو وحسبك في أصول الفقه من بين المؤلفات كتاب الموافقات, وأما اللغة العربية فله فيها الطولى والباع العريض, وقد ذكر مترجموه مؤلفات له في أصول النحو وشرح الألفية, وصفها بعضهم بأنها لم يؤلف مثلها. فانعقدت لهذا الإمام الجليل ألوية العلم, وجمع بين معرفة الآثار والعلم باللغة, وفهم مقاصد الشريعة, فتأهل لخوض ميدان التأصيل والتقعيد في مجال السنة والبدعة, فأجاد وأفاد, والناظر فيه وفي آثاره في الخلق وما لقيه من قبول ومحبة, يوقن أن أبا إسحاق قد بورك له في علمه وعمله, فرحمه الله ورضي عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقد ذكر في مقدمة كتابه منة الله عليه في فهم معاني الشريعة ومقاصدها وأن من أعظم ذلك الإيقان بأن كتاب الله وسنة رسوله- صلى الله عليه وسلم- لم يتركا في سبيل الهداية لقائل ما يقول, ولا أبقيا لغيرهما مجالاً يعتد فيه.. وأن الدين قد كمل والسعادة الكبرى فيما وضع, والطلبة فيما شرع, وما سوى ذلك فضلال وبهتان وإفك وخسران. وبين أنه اختار طريق الدليل والمشي مع الجماعة, التي هي السواد الأعظم والسبيل الذي كان عليه محمد-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه, ثم ذكر أنه تولى من الأعمال المتصلة بالناس الخطابة والإمامة, وأراد أن يسلك فيها طريق الاستقامة على السنة, بترك العوائد البدعية التي ألفها جمهور أهل زمانه, وأنه نظر في أمره هذا بين أن يتبع السنة ولو خالف ما اعتاد الناس وألفوا, وما يترتب على هذه المخالفة من اتهامات وأضرار تلحق به, أو يتبع ما ألف الناس من البدع معرضاً عن السنة, ونهج السلف الصالح وأنه اختار متابعة السنة, لأن الهلاك في إتباعها هو النجاة, وأن الناس لن يغنوا عنه من الله شيئاً, وأنه عزم على ذلك متخذاً طريق التدرج في بعض الأمور, فلما أنفذ- رحمه الله- عزمه هذا وذلك بترك الدعاء الجماعي في أدبار الصلوات, وترك التزام ذكر الخلفاء الراشدين في الخطبة وترك الدعاء للسلاطين فيها, كانت النتيجة كما قال هو-رحمه الله-: (فقامت علي القيامة وتواترت على الملامة, وفوق إلى العتاب سهامه, ونسبت إلي البدعة والضلالة, وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة .... ) . وأدت مقاومته العملية لهذه البدعة المعتادة أن نسب إلى الرفض, وبغض الصحابة, وإلى اتهامه بأنه يجوز الخروج على السلطان, والتخلي عن طاعته, وأنه يقول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه ... وأنه يلتزم الحرج والتنطع في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وغير ذلك من التهم. وكانت أرض الأندلس-آنذاك- قد انحسر فيها مد الإسلام واستولى النصارى على كثير من المدن والبلدان, ويكاد ينحصر النفوذ الإسلامي في مملكة غرناطة الممتدة في الجزء الجنوبي من الأندلس إلى ساحل البحر الأبيض, ومضيق جبل طارق. وكانت الفتن بين الدويلات المفتتة, قد أضعف قوة المسلمين والتصارع بين أبناء الأسر المالكة على تفتيت الفتات المتبقي, قد أثخن أهل ملة الإسلام والاضطرابات والثورات على أشدها, والنصارى يزحفون وبعض ملوك المسلمين يحاربهم, وبعضهم يحارب معهم, وأهل العلم على أقسامهم منهم من قصد للتأليف والتدريس, ومنهم من انزوى للنسك والعبادة, ومنهم من سعى يجاهد ويحرك حميات ذوي البصائر ويستنهض عزمات أهل القلوب, ويقاوم انحرافات أهل الترف والمعاصي, وأهل البدع والمحدثات, ويحاول مد ظل الإسلام الذي تقلص, ورفع لواءه الذي تنكس, وكان من أجلاء هذا الصنف الإمام الشاطبي- رحمه الله- وقد ألف كتابه-الاعتصام- في هذه الأجواء المشحونة, والأحوال المتردية. وبعد أن حصل عليه من الإنكار ما سبق ذكره, اجتهد في تتبع النظر في البدع, أصول وقواعد قررت الشريعة, وفروع وجزئيات كثيرة لكنها منتظمة تحت تلك الأصول والقواعد, ورأى الالتباس بين السنة والبدعة, وقع بين الناس بسبب كثرة البدع وانتشارها, ودوام الإكباب عليها, وسكوت العلماء عنها مع قلة من صنف في البدعة على الخصوص من حيث التأصيل, وأن الوجوب متأكد بالنسبة إلى من عنده فيها علم, كل ذلك أداه إلى وضع كتاب يشتمل على بيان البدع, وأحكامها وما يتعلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 بها من المسائل أصولاً وفروعاً, وسماه الاعتصام قال فيه: (وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه, من هذا القبيل, لأني رأيت باب البدع في كلام العلماء مغفلاً جداً, إلا من النقل الجلي, كما نقل ابن وضاح, أو يؤتى بأطراف من الكلام لا يشفي الغليل بالتفقه فيه, كما ينبغي ولم أجد على شدة بحثي عنه إلا ما وضع فيه أبو بكر الطرطوشي, وهو يسير في جنب ما يحتاج إليه فيه, إلا ما وضع الناس في الفرق الثنتين والسبعين, وهو فصل من فصول الباب, وجزء من أجزائه فأخذت نفسي بالعناء فيه, عسى أن ينتفع به, واضعه وقارئه وناشره وكاتبه والمنتفع به وجمع المسلمين أنه ولي ذلك ومسديه بسعة رحمته) . والكتاب المطبوع المتداول مقسم على عشرة أبواب: الباب الأول: في تعريف البدعة وبيان معناها. الباب الثاني: في ذم البدع وسوء منقلب أهلها. وهو على سبعة فصول, ذكر في كل فصل وجها من الذم الوارد في النقل, أو المعروف بالعقل. الباب الثالث: في أن ذم البدع والمحدثات عامة. وقد تكلم في هذا الباب عن عموم الضلالة فيكل بدعة وأجاب عن شبه المبتدعة, ومن قسم البدع إلى حسن وقبيح كل ذلك وغيره مندرج تحت ثمانية فصول. الباب الرابع: في مآخذ أهل البدع في الاستدلال, وفيه يبين أقسام الناس من حيث الرسوخ في العلم وعدمه, وكيفية استدلالهم بالشرع, ومعنى إتباع المتشابه, والتحريف, وأنواع الأدلة والاستدلالات التي يعتمد عليها المبتدع من الشرع أو من غيره, وقد جعل هذه المعاني موزعة على عشرة فصول. الباب الخامس: في البدع الحقيقية والإضافية, والفرق بينهما, وتحته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 عشرون فصلاً, ذكر فيها حدود البدعة الحقيقية وأمثلتها, والإضافية وأمثلتها, واستطرد في بيان البدعة الحقيقية وأقسامها لكثرة الإشكال الحاصل فيها, وتكلم عن حكم العمل المتذرع به إلى البدعة وأصله مشروع, وحكم الذرائع عموماً ... وعالج في هذا الباب رهبانية الصوفية, وأخذهم بالشدة على أنفسهم والمشقة على أجسادهم, ثم بدعة الدعاء الجماعي أدبار الصلوات. الباب السادس: في أحكام البدع, وأنها ليست على رتبة واحدة, وتحته ثمانية فصول, تناول فيها التفاوت الحاصل بين البدع بسبب تفاوت متعلقاتها, وأنها تنقسم إلى كبائر وصغائر, ومحرمة ومكروه تحريماً وأن عموم لفظ الضلالة يشمل كل هذه الأقسام. الباب السابع: في الابتداع: هل يدخل في الأمور العادية أم يختص بالأمور العبا دية؟ .. وحصر الكلام في فصلين, تحدث فيهما عن أفعال المكلفين في نظر الشرع, وأن لكل فعل حكمه, ثم يبين كيفية دخول الابتداع في الأمور العادية, وضرب على ذلك أمثلة عديدة تدل على دخول الابتداع في العادات والمعاملات. الباب الثامن: في الفرق بين البدع والمصالح المرسلة والاستحسان, وفيه خمسة فصول, وقد بدأ الباب بتبيان معنى المصالح المرسلة, ثم ضرب لها عشرة أمثلة, من المأثور والمعقول.. ثم أتبع ذلك بالكلام عن الاستحسان, وذكر له عدة تعريفات, شملت مسألة الحسن والقبيح, العقليين, ومسألة الاستحسان الفقهي والأصولي, ثم ضرب على ذلك عشرة أمثلة, ثم بين تعلق أهل البدع بالاستحسان, ورد على احتجاجاتهم, وبين بالدليل سقوط ما تعلقوا به, وكشف الإشكالات الواردة في هذا الباب. الباب التاسع: في السبب الذي من أجله افترقت فرق المبتدعة عن جماعة المسلمين.. وقد أطال في هذا الباب, وتعرض لكثير من القضايا الاعتقادية والعملية, مفصلاً ذلك ضمن خمسة وعشرين مسألة. بدأ ببيان أسباب الاختلاف الواقع في الفرق, وأنها كسبية وغير كسبية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ثم بين وجوه الاختلاف الكسبي, وبين أحكام المبتدع من خلال هذه الوجوه من حيث الأعذار, وعدمية التكفير والتفسيق, ومتى يطلق مسمى الفرقة, والكلام عن تعيين الفرق وحصرها في عدد معين, ثم الكلام عن خواص وعلامات أهل الفرقة والابتداع, وحكم أهل الفرق من حيث الكفر وعدمه, ومعاني نصوص الوعيد الواردة فيهم.. ثم تحدث عن الفرقة الناجية, وأوصافها, ومعنى الجماعة, وعلى من يطلق هذا الوصف. ثم تكلم عن حديث الكلب والمعاني المستنبطة منه, واستطرد من ذلك إلى توبة المبتدع, وإمكان وقوعها وقبولها, ومعاني الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب. الباب العاشر: في معنى الصراط المستقيم, الذي انحرفت عنه سبل الابتداع, فضلت عن الهدى بعد البيان. وفيه تحدث عن الصراط المستقيم وأهله, ثم عن المداخل التي تلج منها البدعة على الشرع, وأنها أربعة: الجهل بأدوات المقاصد, والجهل بالمقاصد, وتحسين الظن بالعقل, وإتباع الهوى. وتكلم عن كل واحد من هذه المداخل كلاماً مفصلاً مؤيداً بالأدلة النقلية والعقلية, والأمثلة الواقعية. وفي ختام الكتاب ضرب عشرة أمثلة لا تباع الهوى والتقليد, وبعد نهاية الأمثلة قال: (فصل: إذا ثبت أن الحق هو المعتبر دون الرجال, فالحق لا يعرف دون وسائطهم, بل بهم يتوصل إليه وهم الأدلاء على طريقة) . ولم يزد على ذلك, وهذا يدل على أن الكتاب غير مكتمل, فإما أن يكون المؤلف-رحمه الله تعالى- لم يكمله, كما جاء في آخر النسخة المخطوطة منه, والتي طبع عليها الكتاب المتداول ولفظه: (هذا ما جاء في آخر النسخة المخطوطة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وجدت في مكتبة الشنقيطي, وقد تم نسخها في 25 المحرم سنة 1295 من هجرة النبي- صلى الله عليه وسلم-) . وأما أن يكون المؤلف قد أكمله ولكن الناسخ ظن- بسبب نقصان النسخة التي نقل عنها- أن المؤلف لم يكمل الكتاب.. وعلى كل حال فالكتاب أجل من ثنائي عليه, ومؤلفه- رحمه الله- أكبر من إشادتي به. وهو في حاجة شديدة إلى تحقيق علمي دقيق, وإكمال للنواقص الموجودة في أثناء هذا السفر الجليل وأخره, والنسخة المطبوعة والمتداولة قامت بسد فراغ فقده, ولكنها لكثرة سلبياتها في الطباعة والتحقيق والتخريج أخلت بكثير من فوائد ومقاصد هذا الكتاب. نسأل الله أن يهيئ له من طلبة العلم من يقوم بخدمته على الوجه الصحيح, أ/االنقد الذي يمكنه توجيهه إلى كتاب الاعتصام ومؤلفه, فهو مندرج تحت الأرقام الآتية: 1. قوله عند الكلام عن إتباع المتشابهات: (ومثاله في ملة الإسلام مذهب الظاهرية في إثبات الجوارح للرب-المنزه عن النقائص- من العين واليد والوجه المحسوسات, والجهة وغير ذلك من الثابت للمحدثات) . فإن كان مراده بالظاهرية المجسمة والمشبهة فلا اعتراض, وإن كان مراده الذين يأخذون بظواهر نصوص الصفات ويثبتونها كما وردت من غير تحريف \, ولا تأويل, ولا تعطيل, فهذا هو القول الحق الذي لا تدل الأدلة الشرعية على سواه, وهو مذهب السلف الصالح وأتباعهم, والمعترض عليهم بتأويل أو تعطيل مبتدع. 2. قوله في رده على المعتزلة الذين زعموا أن القرآن مخلوق: (وأما كون الكلام هو الأصوات والحروف فبناء على عدم النظر في الكلام النفسي وهو مذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في الأصول) . والكلام النفسي في مصطلحات الأشاعرة, التي أطلقوها على كلام الله-سبحانه وتعالى- حيث قالوا: كلام الله تعالى القديم هو الكلام النفسي وهو معنى واحد قائم بذاته, غير مخلوق وهو صفة من صفاته, غير بائن عنه ليس بحرف ولا صوت ... وهذا القول فيه جملة من البدع, لا مجال هنا لذكر الرد عليها, وإنما المراد 1كر مذهب الشاطبي في هذه المسألة. 3. جعله النيروز من أعياد النصارى, وهذا خطأ يسير, والصحيح أنه من أعياد المجوس. 4. جعله التثويب بدعة, تبعاً لمذهب المالكية في ذلك, وقد روي فيه أحاديث وآثار, منها ما هو صحيح, ومنها ما هو حسن, ومنها ما هو ضعيف, فلا وجه لاعتباره بدعة. 5. جعله مذهب الظاهرية في الفقه بدعة, وهذا ليس بصحيح, بل في مذهب الظاهرية من الحرص على السنة وإتباع الآثار وحفظها وروايتها, ما ليس في المذاهب الفقهية الأخرى, التي اعتمدت الرأي والتقليد, نعم في المذهب الظاهري بعض المسالك المبتدعة, كإلغاء القياس الصحيح, وعدم القول به, كما أن في غيره من المسالك المبتدعة الأخذ بالقياس الفاسد, وتقديم قول المذهب على النص, وهي مسألة سيأتي بسطها في الفصل الثالث من الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 الثاني, إن شاء الله. 6. في رده على بدعة إدعاء المهدية التي زعمها ابن تومرت قال: (وكذب فالمهدي عيسى -عليه السلام-) . وهذا القول مخالف للحديث الصحيح عنه-صلى الله عليه وسلم-: (لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض ظلماً وجوراً وعدواناً, ثم يخرج رجل من عترتي أو من أهل بيتي يملؤها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً) . 7. وقوعه في بعض الأخطاء والآثار, منها استشهاده بحادثة ابنة النضر بن الحارث, حين ألقت شعرها على النبي-صلى الله عليه وسلم- بعد مقتل والدها صبراً, حين عادوا من بدر , ومنها تفسير الآية بخبر إسرائيلي واستشهاده به, وقوله عن أحد الأحاديث أنه في صحيح البخاري, وليس كذلك وإيراده قصة صبيغ بن عسل العراقي بغير الطريقة الواردة في كتب الآثار, كالدار مي, وابن وضاح, فأن بين ما أورد وما يثبت بالسند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 اختلاف في المعنى. ومن ذاك قوله عن الأحاديث المتواترة وأحاديث الآحاد: ( ... فإن كان وارداً من السنة فمعظم نقل السنة بالآحاد, بل أعوز أن يوجد حديث عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- متواتراً .... ) . مع أن المنقول من السنة المتواترة ليس معوزاً لقلته كما يقول-رحمه الله- بل هو كثير, وفي ذلك مصنفات عديدة. وقوله: وفي مسلم مرفوعاً عن ابن مسعود- رضي الله عنه- قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) وهذا الحديث ليس بمرفوع إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- بل في سنده إلى ابن مسعود إرسال. ومن ذلك إيراده لبعض الأحاديث واستدلاله بها, ووضعه بعض القواعد والمعاني عليها ثم تشككه في صحتها. ومن ذلك حكمه على بعض الأحاديث بالضعف, وعدم الصحة, وهي صحيحة أو في معناها أحاديث صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 8. قوله عند الكلام عن الحكم بالتكفير أو عدمه للفرق الهالكة: (وإذا قلنا بعدم التكفير, فيحتمل على مذهب أهل السنة أمرين: أحدهما: نفوذ الوعيد من غير غفران, ويدل على ذلك ظواهر الأحاديث, وقوله هنا (كلها في النار) أي مستقرة ثابتة فيها, فإن قيل: ليس إنفاذ الوعيد بمذهب أهل السنة, قيل: بلى قد قال به طائفة منهم ..... ) . ونسبة إنفاذ الوعيد من غير غفران في ما دون الشرك إلى بعض أهل السنة نسبة غير صحيحة, بل أهل السنة مجمعون على أن ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي والبدع, إذا مات صاحبها عليها من غير توبة, فهو في مشيئة الله, إن شاء عذبه, وإن شاء غفر له, ولا يقولون بتخليد مؤمن في النار. 9. قوله في مسألة التقبيح والتحسين العقليين يقول الأشاعرة. وقد سبق الإشارة إلى هذا المسألة عند الكلام عن كتاب البدعة وأثرها السيئ في الأمة لسليم الهلالي, وسيأتي الكلام عليها مفصلاً في الفصل الخامس من الباب الثاني, وهذه المأخذ مغمورة في بحر فوائد ومنافع هذا المصنف النادر, ومستورة برداء فضائل ومحاسن مؤلفه-رحمه الله- والمنصف من اغتفر قليل خطأ في كثير صوابه, وكما قال الذهبي-رحمه الله-: (إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق, واتسع علمه, وظهر ذكاؤه, وعرف صلاحه وورعه وإتباعه, يغفر له زلله ,ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه, نعم ولا نقتدي به في بدعته وخطئه, ونرجو له التوبة من ذلك) . ولست أخص بهذا المعنى الإمام الشاطبي, بل كل من قدمت لمؤلفه دراسة أو نقداً في هذه العجالة, وحتى الذي تجنى على الشاطبي وقال فيه: (وكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 الاعتصام للشاطبي-رغم اتساعه وطول نفس مؤلفه- فيه تكرار وإطناب وتضارب واختلاط, ولم ينجح في ستر ذلك قدرة مؤلفه على التحليل والتعليل, وتمتعه بأسلوب مؤثر جميل- ثم نقل عن غيره قولاً فيه شطط- فقال: (غير أن سيئاته لا تذهب بها الحسنات, إطنابه ممل, وإيجازه مخل, وخياله غزير, وفي التحقيق مقل, يغتر به من يغرهم زخرف المقال, ويرتضيه من ليس له في ميدان البحث مجال) ولست بصدد الدفاع عن الشاطبي أو تبرير زلاته, وهل يخلو من الزلات بشر؟ ولكن حسن الأدب واجب مع مثل هؤلاء الأئمة الأجلاء, فهل أقول لهذا الكاتب ما قاله الحافظ ابن كثير في الشيخ البكري علي بن يعقوب حين عارض شيخ الإسلام ابن تيمية: (وما مثاله إلا مثال ساقية ضعيفة لا طمت بحراً عظيماً صافياً, أو رملة أرادت زوال جبل .... ) . وأختتم بقول شيخ الإسلام ابن تيمية بما لعله يبرئ أسقام الاعتراضات الجافية, قال-رحمه الله-: (من له في الأمة لسان صدق عام, بحيث يثني عليه ويحمد في جماهير الأمة, فهؤلاء هم أئمة الهدى, ومصابيح الدجى, وغلطهم قليل بالنسبة إلى صوابهم, وعامته من موارد الاجتهاد, والتي يعذرون فيها, وهم الذين يتبعون العلم والعدل, فهم بعداء عن الجهل والظلم, وعن إتباع الظن وما تهوى الأنفس..) . وإني لأحسب الإمام الشاطبي من هذا الصنف- رحمه الله- وأعلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 درجاته في الجنة. أما كتاب (البدعة تحديدها موقف الإسلام منها) للدكتور عزت علي عطية: فأصله رسالة دكتوراه تقدم بها المؤلف بجامعة الأزهر، وهو يمثل الأسلوب الحديث في التأليف والبحث والدراسة. وقد بدأه المؤلف بتقديم، ذكر فيه اطلاعه على المؤلفات في البدعة وتناولها مبتدئاً بالبدع والنهي عنها لابن وضاح، ثم كتاب الطرطوشي ثم الباعث لأبي شامة، ثم الاعتصام للشاطبي، ثم الإبداع لعلي محفوظ وغيرها ... وأزرى بهذه المؤلفات، وذكر أن قلة اعتمادهم على الحديث النبوي الصحيح أدى إلى اختلال قواعدهم ... ثم ذكر أنه سار في هذا الكتاب بعقلية متجردة، وأن ما اقتنع بأنه الحق من خلال الدراسة المتأنية للنصوص، والفحص المدقق لآراء العلماء، أخذ به وقرره. ثم بين أن هذا الكتاب يقوم على مقدمة وتمهيد وأربعة أبواب. أما المقدمة فقد سبق ذكر شيء ٍ منها. وأما التمهيد فيشتمل على فصلين: الفصل الأول: عن نشأة البدع في الإسلام، وفيه أجمل الكلام عن العصر النبوي وعصر الشيخين، ثم تكلم عن عهد عثمان وبداية تحرك الفتنة، وما حصل من ابن سبأ، وأفاض في الكلام عنه. الفصل الثاني: في الحث على التباع السنة والتحذير من البدعة، وفيه ساق الآيات، ثم أتبعها بالأحاديث والآثار الدالة على هذا المعنى. أما الباب الأول: فتكلم فيه عن السنة، وجعل الفصل الأول منه عن ماهية السنة وتعريفها في اللغة، ثم تعريفها في اللغة، ثم تعريفها في الشرع (يقصد في الاصطلاح) وذكر التعريفات المختلفة. باختلاف الفنون، ثم تكلم في الفصل الثاني عن سنة القول، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وفيه تعرض لمسألة التعارض والترجيح بين السنن، وتكلم عن النسخ وأدلته، ثم تكلم في الفصل الثالث عن سنة الفعل، وأقسام أفعاله - صلى الله عليه وسلم - وما الذي يكون منها محل اقتداء، وأدلة ذلك، ثم تكلم في الفصل الرابع عن سنة الترك، وأقسام المتروك منه - صلى الله عليه وسلم -، ثم في الفصل الخامس عن سنة الإقرار، وماذا يراد بها، وأقسامها وأمثلتها. ثم في الفصل السادس عن سنة الخلفاء الراشدين، وما حد الاقتداء والاستنان بالخلفاء الراشدين. أما الباب الثاني فتكلم فيه عن البدعة، وجعل الفصل الأول في تعريف البدعة في اللغة ثم في الاصطلاح، وفيه ذكر الاتجاهات المختلفة في تعريف البدعة، وناقش هذه الاتجاهات، ثم تكلم عن ما أسماه بالمحدثات في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجعل الفصل الثاني عن أسباب الابتداع، وهي القول في الدين بغير علم، وذلك بسبب الجهل باللغة، والجهل بالسنة، وبمكانتها في التشريع، واتباع المتشابهة، وفيه بين معنى المحكم والمتشابه، واتباع الهوى والتسليم لغير المعصوم، ثم ختم الفصل بذكر الأسباب المعينة على انتشار البدع، وجعل الفصل الثالث في تقسيم البدعة، فذكر انقسامها إلى عادية وعبادية وحقيقية وإضافية، ثم قال: تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، ثم تقسيمها إلى فعلية وتركية، وإلى اعتقادية وقولية وعملية، وإلى كلية وجزئية وإلى بسيطة ومركبة. وجعل الفصل الرابع في حكم البدعة، وفيه ذكر البدعة المكفرة، ومتى تعتبر ومتى لا تعتبر البدعة مكفرة. تم الباب الثالث سماه: نماذج من البدع، وجعل الفصل الأول عن الخوارج، وذكر الأحاديث فيهم، وكيف نشأت هذه الفرقة وكيف ترعرعت. ثم ذكر أشهر بدعهم وناقشها بالتفصيل، وجعل الفصل الثاني عن المعتزلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 وعن تاريخ ظهورهم وتطور بدعهم، ثم تكلم بإيجاز عن أربعة من أصولهم الخمسة، وجعل الفصل الثالث في التوسل والوسيلة، والكلام عن بعض أنواع التوسل وبعض الأدلة والواردة فيه. وجعل الفصل الرابع عن التصوير والنحت والفنون التشكيلية، وتكلم فيه عن بعض أنواع التصوير وبعض أحكامه. وجعل الفصل الخامس في الاحتفال بالمولد النبوي، وذكر كلام المانعين منه والمبيحين له، ثم ختم ما يرجح استحباب الاحتفال بالمولد، على حسب ما وصف. ثم الباب الرابع سماه: كيف نقضي على البدع. جعل الفصل الأول منه في وسائل الوقاية من البدع. وجعل الفصل الثاني في وسائل القضاء عل البدع، وفيه استطرد في مسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومراتبهما وبذلك ختم الكتاب. والكتاب في جملته يحوي مباحث مفيدة، ومسائل نافعة، وعناية جيدة بالأحاديث والُآثار، وتركيز تسلسل منهجي في إيراد الأدلة وأقوال العلماء وترتيب للحجج، بحيث تؤدي إلى النتيجة التي يريدها، مع تناسق وترابط بين بعض موضوعات البحث وفصوله. أما الملاحظات التي تؤخذ على كتاب البدعة للدكتور علي عزت عطية، فهي ما يلي: 1. المؤلف هيأ كتابه منذ البداية لتسويغ رأيه في حسن بعض البدع وذلك باعتراضه الخشن على كتاب الاعتصام، والإشارة إلى وجود ما هو حسن من المحدثات. 2. يكاد يكون الكتاب في مجموعه العام، ومن خلال التعريفات والتقسيمات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 ومناقشة الآراء وغير ذلك، إنما جاء لتقرير قول من حسّن بعض البدع. 3. نفيه لوصف المضاهاة الذي جعله الشاطبي من أوصاف البدعة، حين قال: (طريقة في الدين مخترعة، تضاهي المشروع، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) . وسبب نفي الدكتور عزت عطية لوصف المضاهاة الذي اشترطه الإمام الشاطبي، وقاله جملة من العلماء: أنه ممن يقول بحسن بعض البدع، ولا يعتبر أن كل بدعة ضلالة، وستأتي مناقشة نفيه لو صف المضاهاة عند الكلام عن التعريف الاصطلاحي للبدعة. 4. من أكبر الأخطاء التي قام عليها الكتاب تأصيلا ً وتمثيلا ً، أنه بعد ذكر الأحاديث والآثار التي توهم أنها تفيد بمفهومها انقسام البدعة في نظر الشارع إلى حسنة وسيئة، قال: ( ... وهو بمفهومة يفيد أن من البدع ما ليس بضلالة، وهو ما لا يقابل السنة الحسنة بل يساويها ويكون مثلها ... ) . وقال: ( ... البدعة التي عمم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وصفها بالضلالة هي البدعة المصادمة للسنة، المخرجة عن الاتباع، وذلك لا ينفي أن من البدع ما لا يخالف السنة، أو ما ليس بضلالة، وهو البدعة الحسنة ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وهذا القول تقرير ٌ للمبدأ الذي دخل منه سائر أهل الابتداع، وتكريس للمفهوم البدعي في النظر إلى البدعة. فهو مخالف للنصوص الشرعية الكلية، الجامعة المانعة، ومخالف لأقوال أهل السنة والجماعة، وسيأتي ذكر هذه المسألة والتفصيل فيها عند ذكر شبه المحسنين للبدع في الفصل الثالث من الباب الأول. 5. ومن الأخطاء الكبيرة الشائعة في هذا الكتاب والمنبنية على الخطأ السالف قوله بالحسن في بعض البدع، واعتناؤه بهذه المسألة تأصيلا ً وتدليلا ً وتمثيلا ً. وسيأتي الرد على شبهات المحسنة. 6. نقله عن الشاطبي، ثم إضافة بعض الكلام من عنده، مما يوهم أنه للشاطبي. 7. قوله: ( ... البدعة في نظر الشرع إذا أطلقت عن التقييد بوصف أو إضافة أو غيرها، لا تدل إلا على ما هو مخالف للشرع، ولا يقصد بها غير ذلك فيه ... ) . وهذا القول فيه إجمال، فإن كان مراده بأن البدعة الشرعية لا تكون إلا فيما نهى عنه الشرع بخصوصه فهذا غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وإن كان مراده أن البدعة من أوصافها المخالفة للشرع فهذا صحيح. 8. جعل المضاهاة من الأمور المشتركة بين البدع والمعاصي يسوغ نفي اختصاص البدعة بوصف المضاهاة. وهذا القول فيه إجمال ٌ أيضا ً من حيث اشتراك البدع والمعاصي في وصف المضاهاة. فالبدع من جنس المعاصي والمخالفات بلا شك، ولكن قصد القربة يميز بينهما، وقصد القربة نوع من المضاهاة، فأيما معصية عملها صاحبها قاصداً بها القربة فإنها تكون بدعة 9. قوله تحت عنوان: ما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ( ... من هذه المحدثات ما أقره - صلى الله عليه وسلم -، بل استحسنه، ومثل هذه لا تعتبر بدعا ً على أي اتجاه من الاتجاهات الثلاثة في تعريف البدعة، بل هي قسم من أقسام السنة كما تقدم، وهو سنة الإقرار، ومن هذه المحدثات ما أنكره - صلى الله عليه وسلم - ورده على فاعليه، ومثل هذه المحدثات تعتبر بدعا ً على أساس كل الاتجاهات التي ذكرناها في تعريف البدعة) . وهذا الكلام في جملته صحيح، لولا أنه يوهم أن النبي صلى الله عليه وسلم استحسن بعض البدع، وشرعها، وأنكر بعض البدع وردها، وهذا المعنى يتوافق مع مراد المؤلف حين قسم البدع إلى حسن وقبيح. ولو قبل هذا الكلام على إطلاقه، لقيل في كل الأمور الشرعية بمثل هذا القول، لأنها جديدة، وهل يقول مسلم إن النبي صلى الله عليه وسلم لما علم بما أحدثه بلال من إلزام المداومة على صلاة ركعتين بعد الوضوء استحسن هذه البدعة وأقرها؟!! . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 اللهم إلا إن كان المراد بالبدعة والمحدثة هنا المعنى اللغوي فلا بأس ... أما قوله في المحدثات التي أنكرها النبي صلى الله عليه وسلم ورها بأنها تعتبر بدعا ً فليس على إطلاقه؛ لأن بعض الذي رده النبي صلى الله عليه وسلم يعتبر من المعاصي، كرده على الذي عير الآخر بأمه السوداء، وبعض الذي رده يعتبر من البدع، كرده على الثلاثة الذين تقالوا عبادته صلى الله عليه وسلم، ورده على من أراد الاختصاء، ونحو ذلك، والمميز بين الفعلين إرادة القربة بالعمل المحدث. 10. جعل الضرر في المصنوعات الحديثة وصفا ً يصح به إطلاق الابتداع على هذه المصنوعات، أي اعتبارها بدعا ً شرعية. ولم يقل أحد من العلماء بأن كل ما فيه ضرر أو أدى إلى مفسدة يعتبر بدعة، لأن مسألة الضرر في المصنوعات الحديثة مسألة نسبية، وحتى الذي يتمحض فيه الإضرار لا يعتبر بدعة، إلا إذا عمله الشخص متقربا ً به إلى الله، أما إذا لم يكن هذا مقصده فإنه يكون قد ارتكب معصية لا بدعة. 11. قوله ( ... من العادات ما قيده الشارع بنظام خاص أو أسلوب معين، فالخروج عن ذلك بدعة - على ما اخترناه في تحديد مفهوم البدعة - لما في ذلك من إحداث ما خالف الشرع، كالأكل بالشمال بدلا ً من اليمين، ولبس الحرير والذهب للرجال ونحو ذلك) . وهذا رأي مجانب للصواب؛ لأن المخالفة الشرعية لا تسمى بدعة إلا إذا اقترن بها قصد القربة، أو كانت فعلا ً عباديا ً محضا ً لا يتصور فيه إلا قصد القربة. ولو طرد هذا المفهوم الذي ذكره لاعتبرنا جميع المعاصي المنتشرة بين الناس بدعا ً، وهذا غير صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 12. بعد أن ذكر قصة ابن مسعود مع الذين اجتمعوا على الذكر، وإنكاره عليهم، واعتباره الذكر الجماعي بدعة، جعل إنكار ابن مسعود وتبديعه لهؤلاء متوجها ً إلى كونهم من الخوارج، لا لأنهم ابتدعوا هذه الطريقة المحدثة في الذكر ... وهذا الاستنتاج مناف ٍ للصواب، ومخالف لنص الخبر الوارد عند ابن وضاح، ومنه: ( ... ثم بلغه أنهم يجتمعون في ناحية من مسجد الكوفة يسبحون تسبيحا ً معلوماً، ويهللون ويكبرون، قال: فلبس برنسا ً ثم انطلق فجلس إليهم، فلما عرف ما يقولون رفع البرنس عن رأسه، ثم قال: أنا أبو عبد الرحمن، ثم قال: لقد فضلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو لقد جئتم ببدعة ظلماً ... ثم قال رجل من بني تميم، والله ما فضلنا أصحاب محمد ٍ علما ً ولا جئنا ببدعة ٍ ظلما ً ولكنا قوم نذكر ربنا، فقال: بلى، والذي نفس ابن مسعود بيده لقد فضلتم أصحاب محمد علما ً أو جئتم ببدعةٍ ظلما ً ... ) الخبر. وفي البدع لابن وضاح بسنده أن ابن مسعود مر برجل يقص في المسجد على أصحابه هو يقول: سبحوا عشرا ً، وهللوا عشرا ً، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أو أضل، بل هذه بل هذه، يعني أضل) . فأين في هذين الأثرين ذكر الخوارج؟ وصرف تبديع ابن مسعود لهؤلاء عن الذكر الجماعي تعسف يخالف ظاهر الأثر. أما قوله: بأن (القراء) لقب عرف به الخوارج قبل خروجهم، وتميزوا به عن غيرهم من صالحي المسلمين، ونسبته هذا القول إلى الباعث لأبي شامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 ص 7 غير صحيح، من حيث إن هذا اللقب مختص بالخوارج، ومن حيث نسبة القول إلى الباعث لأبي شامة. وإنما حاول المؤلف جعل كلام ابن مسعود متوجها ً نحو كون المجتمعين على الذكر من الخوارج، ليبرر قوله بتحسين المولد، والذكر الجماعي كما سيأتي، وأين ابن مسعود من زمن الخوارج، فقد توفي رضي الله عنه سنة 32 هـ، وخروج الخوارج سنة 37 هـ. 13. اعتراضه على الشاطبي حين جعل التزام هيئة معينة في وقت ٍ معين بذكر ٍ مخصوص من البدع. وعد هذا القول من الأخطاء الواضحة، وعقب عليه بجعل الاجتماع على الذكر بصفة وهيئة غير محددة شرعا ً من الجائز بل المندوب، وقوله: بأن كثيرا ً من المجتهدين استحبها وأجازها، وهذا القول فيه مجاوزة. ثم تأكيده مشروعية التزام الهيئات المعينة في الذكر، حتى ولو كانت غير مشروعة، وتلبيس ذلك بالمناقشات المخالفة للنصوص وأقوال السلف، والمناقضة لمفهوم البدعة عندهم، واستدلاله بفعل عمر في التراويح على جواز ابتداع ما هو حسن - على حد تعبيره - مثل الاجتماع للذكر بهيئة معينة ولو لم تكن مشروعة. 14. استشهاده بفعل عمر في التراويح على أنه مظهر حسن من مظاهر هذه العبادة المندوبة أو المسنونة، وأن ما كان مثلها يقال فيه مثل الذي قيل في فعل عمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وهذا القول هو عين استدلال المحسنين للبدع، وهو فتح لأبواب البدع على مصاريعها..نسأل الله العفو والعافية. 15. تأويله لإنكار ابن مسعود على أهل الذكر الجماعي المبتدع، بأنه نهى عن ذلك لخوفه عليهم من العجب، أو لئلا يظنون أنهم أهدى من الصحابة. وقوله في إنكار ابن مسعود وغيره من السلف على مثل هذه البدع بأنها وقائع أحوال لا تفيد حكما ً عاماً. وهذا التأويل مخالف لمنطوق النص ومفهومه، ومناقض لمراد السلف وطريقتهم في إنكار البدع، ومتناقض مع قوله السابق. 16. تجويزه التبرك بآثار الصالحين لأنه - حسب قوله - من باب الحب في الله، أما قطع عمر للشجرة، فعنده أنه واقعة حال، وأما ترك السلف لذلك فلأنهم اكتفوا برؤية النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، وأن الممنوع في التبرك هو ما يستدام كالخشب، والحديد، والبناء، وغير ذلك من الاستدلالات التي زعم فيها أنه يرد على الشاطبي الذي عد التبرك بآثار الصالحين بدعة. ولا شك أن تجويزه التبرك بآثار الصالحين من البدع عند أهل السنة والجماعية، الذين هم السلف الصالح وأتباعهم. 17. سلوكه طريقة الفلاسفة المتكلمين، واستشهاده بكلامهم تحت عنوان: قانون التأويل، وقد أتى فيه بشوب من الأقوال، وأخلاط من المبتدعات الكلامية وغيرها. 18. رده على شيخ الإسلام ابن تيمية في منع التوسل إلى الله بذوات أحد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المخلوقين، وقوله صراحة بجواز التوسل بذوات الصالحين، وتعسف الأدلة لإثبات جواز هذا الفعل المبتدع. 19. قوله باستحباب الاحتفال بالمولد النبوي، ورده على من اعتبره بدعة وشبه الأدلة التي تعلق بها لتبرير هذا العمل المبتدع. هذه جملة المآخذ التي استطعت جمعها عن هذا الكتاب، وهناك مآخذ كثيرة في تخريج الأحاديث، وعزو النقولات، والتقسيم المنهجي للموضوع، أعرضت عنها خوف الإطالة.. وأخشى أن يكون هذا الكتاب حجة للمبتدعين في تسويغ المبتدعات التي استحسنها المؤلف، أو وسيلة لفتح أبواب الابتداع في دين الله، وذلك بما طرحه من استدلالات وشبه وردود. وبهذا الكتاب أكون قد ختمت العنصر الخامس من عناصر المدخل الذي أسميته (نبذة موجزة لبعض المؤلفات في البدعة ودراسة لأهمها) ، وفيه تعرضت لثلاثة وثلاثين مؤلفا ً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المعنى اللغوي والاصطلاحي للبدعة الباب الأول: تعريف البدعة ومفهومها عند أهل السنة وغيرهم وفيه ثلاثة فصول: الفصل الأول: أ - المعنى اللغوي للبدعة. ب - المعنى الاصطلاحي للبدعة إجمالا ً. الفصل الثاني: مفهوم البدعة عند أهل السنة وأدلتهم. الفصل الثالث: مفهوم البدعة عند غير أهل السنة وشبههم ومناقشتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 فالفصل الأول ذكرت فيه المعنى اللغوي والاصطلاحي للبدعة، أما المعنى اللغوي فيدخل فيه: أصل استعمال لفظ بدعة في لغة العرب، ثم الاشتقاقات اللفظية لهذه الكلمة، وانتقال دلالة لفظ بدعة من الأصل اللغوي إلى الاستعمال الشرعي، والترابط بين المعاني اللغوية في أصل الاستعمال، والمعاني الشرعية بعد الانتقال. وأما المعنى الاصطلاحي للبدعة، فيأتي على سبيل الإجمال، وذلك باختيار التعريف الذي يتطابق مع مفهوم أهل السنة والجماعة للبدعة، مع ذكر بعض محترزاته، وشرح بعض معانيه ثم أورد تعريفات أخرى متلائمة مع هذا التعريف، وإن لم تكن من حيث الشمول والإحاطة على مستوى التعريف المختار. ثم يأتي الفصل الثاني، وفيه ذكر بعض مفهوم البدعة عند أهل السنة، وأدلتهم على ذلك مبتدئا ً ببيان معنى المفهوم في هذا الفصل، وفي الذي يليه. ثم يأتي الفصل الثالث وفيه ذكر بعض المفاهيم الخاطئة، والتعريفات المغالطة للبدعة عند غير أهل السنة، مبينا ً المراد بغير أهل السنة، ثم ذكر الشبهات التي اعتمد عليها هؤلاء في تعريفاتهم، مع مناقشتها ونقض الاستدلال بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 الفصل الأول: ويشمل: أ - المعنى اللغوي للبدعة. ب - المعنى الاصطلاحي للبدعة إجمالا ً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 أ - المعنى اللغوي للبدعة: البدعة مصدر (بَدَعَ) ولهذه الكلمة في كتب اللغة ذكرٌ يتناول أصل استخدامها عند العرب، والمعاني التي تدل عليها هذه الكلمة، ثم انتقال هذه المعاني إلى دلالات أخرى اشتقت من المعاني الأصلية لكلمة بدع. فأما أصل استعمالها في لغة العرب فأصلان: ( ... أحدهما: ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال، والآخر: الانقطاع والكلال) . وشواهد هذين الأصلين في لغة العرب كثيرة، ومن ذلك: قولهم: وهو يتعلق بالأصل الأول: (بدعتُ الرَّكيَّ، إذا استنبطتها، ركيَّ بديع: حديثة الحفر، وقول العرب: لست ببدع في كذا وكذا، أي لست بأول من أصابه هذا) . وقال في معجم مقاييس اللغة: (والعرب تقول: ابتدع فلان الركي إذا استنبطه) . فهذا في معنى الأصل الأول الذي هو: (إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة) . أما الأصل الثاني وهو الكلال، والانقطاع، فإنه يأتي من (بَدَعَ) بهذا المعنى مضارعا ً (أبْدِعَ) و (أَبْدَعَ) واسم مفعول (مُبْدِع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 ففي كتاب العين: ( ... وأُبْدِع البعير فهو مُبْدِع، وهو من داء ٍ ونحوه، ويقال هو داء بعينه) . وأُبْدِعَتْ الإبل: إذا تركت في الطريق من الهزال. وأبدع الرجل: إذا حسر عليه ظهره) . وقال في معجم مقاييس اللغة: ( ... أبدعت الراحلة إذا كلت وعطبت وأبدع بالرجل إذا كلت ركابه وبقي منقطعا ً به) . وفي الحديث: (إن رجلا ً أتاه فقال: يا رسول الله صلى إني أبدع بي فاحملني) . ويقال: الإبداع لا يكون إلا بضلع، وقد نقل هذا صاحب لسان العرب وزاد بعده ( ... يقال: أبدع فلان بفلان إذا قطع به وخذله، ولم يقم له بحاجته ولم يكن عند ظنه به، وأبدع به ظهره) . قال الأفوه: ولكل ساع سنة ممن مضى تَنْمي به في سعيه أو تبدع وفي حديث الهدي: (فأزْحَفَتْ عليه بالطريق فَعَيَّ بشأنها إن هي أُبْدِعَتْ) . أي: انقطعت عن السير بكلال أو ظلع، كأنه جعل انقطاعها عما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعاً، أي: إنشأ أمر خارج عما اعتيد عليه منها، ومن الحديث: (كيف أصنع بما أُبْدَع عليَّ منها) . ( ... وأُبْدِعَ علي ما لم يسم فاعله، ... وفي المثل: إذا طلبت الباطل أبدع بك) . وقد ذكر علماء اللغة ما اشتق من لفظة (بدع) من ألفاظ ومعان أنقل منها هنا ما له علاقة بموضع البحث: ففي كتاب العين: (البدع: إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة، والله بديع السماوات والأرض، ابتدعها ولم يكونا قبل ذلك شيئا ً يتوهمهما متوهم وبدع الخلق. البدع: الشيء الذي يكون أولا ً في كل أمر، كما قال تعالى: (قل ما كنت بدعا ً من الرسل) ، أي: لست بأول مرسل ... ابتدعت: جئت بأمر مختلف لا يعرف ... البدعة: اسم ما ابتدع من الدين وغيره ... ما استحدث بعد رسول الله صلى - الله عليه وسلم - من أهواء وأعمال، ويجمع على: البدع) . وفي جمهرة اللغة: (كل من أحدث شيئا ً فقد ابتدعه، والاسم البدعة، والجمع: البدع) . وفي الصحاح: (أبدعت الشيء: أخرجته لا على مثال، والله تعالى بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 السماوات والأرض والبديع: المُبْتَدِع. والبديع: المُبْتَدَع. وشيء بِدّع بالكسر: أي: مُبْتَدِع. البدعة: الحدث في الدين بعد الإكمال ... بدعة: نسبة إلى البدعة) . وفي معجم مقاييس اللغة: ( ... أَبْدِعَتُ الشيء قولا ً وفعلا ً، وإذا ابتدأته لا عن سابق مثال ... وابتدعت الراحلة إذا كلت ... أبدع بالرجل إذا كلت ركابه أو عطبت وبقي منقطعاً به ... ومن بعض ذلك اشتقت البدعة) . وبعد ذكر أصل الاستعمال والاشتقاقات اللفظية من كلمة (بدع) ، أذكر الترابط بينها وبين الاستعمالات الشرعية أو بمعنى آخر: اذكر الدلالة المشتركة بين الأصل اللغوي والاشتقاقات اللفظية والاستعمال الشرعي على ضوء ما ذكر آنفا ً. أما الأصل اللغوي بالمعنى الأول فإنه يتفق تماما ً على البدعة بالمعنى الشرعي، إذ هو كما مضى (ابتداء الشيء وصنعه لا عن مثال) . أو (إحداث شيء لم يكن له من قبل خلق ولا ذكر ولا معرفة) . وهذا المعنى ينطبق على البدعة الشرعية؛ لأنها إحداث في دين الله وابتداء أشياء في الشرع لا دليل عليها منه، واختراع ما يضاهي المشروع بما ليس له ذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فيه، وبما ليس عند فاعله معرفة ولا برهان (فإن جميع البدع إنما هي رأي على غير أصل) . والأصل الثاني في استعمال كلمة (بدع) هو: الانقطاع والكلال مأخوذ من الإبداع وهو المرض الذي يصيب الإبل فيمنعها عن المسير، من هزال أو عطب أو كلال. فكأن العرب جعلوا الانقطاع الإبل عما كانت مستمرة عليه من عادة السير إبداعا ً، أي: إنشاء أمر خارج عما اعتيد منها. وهذا المعنى ينطبق على البدعة بالمعنى الشرعي، إذ المبتدع حين ينشىء بدعته مضاد للشرع ومراغم له ((حيث نصب المبتدع نفسه نصب المستدرك على الشريعة، لا نصب المكتفي بما حد له)) . وهذا هو عين الانقطاع، بل هو أشنع انقطاع وأخبثه، لأنه يزيح الإنسان عن تحصيل كمال خلقه بالعبودية التامة لله، والتي لا تتحقق إلا باتباع الشارع، ( ... فأكمل الخلق وأفضلهم وأعلاهم، وأقربهم إلى الله وأقواهم، وأهداهم أتمهم عبودية لله ... وهذا هو حقيقة دين الإسلام الذي أرسل الله به رسله، وانزل به كتبه، وهو أن يستسلم العبد لله لا لغيره مشرك، والمتنع عن الإسلام له مستكبر) . فإذا حصل هذا الانقطاع تبعه انقطاع عن تحصيل لذاته في العاجلة والآجلة، بمرض قلبه واسوداده وانتكاسه (فإذا اسود وانتكس عرض له من هاتين الآفتين مرضان خطران متراميان به إلى الهلاك: أحدهما: اشتباه المعروف عليه بالمنكر، فلا يعرف معروفا ً ولا ينكر منكرا ً وربما استحكم عليه هذا المرض حتى يعتقد المعروف منكرا ً والمنكر معروفا ً، والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 بدعة والبدعة سنة، والحق باطلا ً والباطل حقا ً. الثاني: تحكيمه هواه على ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - وانقياده للهوى واتباعه له) . وهذا هو حال البدع؛ - نسأل الله العافية - تنقطع بالإنسان عن الوصول إلى مراداته، وفي المثل: إذا طلبت الباطل أبدع بك وكل من ابتدع في دين الله ما ليس منه وقع في الوهن والضعف والكلال، إما بالانقطاع عن العمل المشروع كما هو حال كثير من المبتدعة في الأعمال ... وإما بانقطاع إرادة القلب عن التلقي من الشرع، كما ذكر ربنا سبحانه وتعالى عن بني إسرائيل (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها) . (والظاهر من سياق الآية مع ما قبلها وما بعدها: أن الله سبحانه يقصد إلى ذم الابتداع في الدين، ويبين أنه مناف للفطرة أن يهن ويضعف عن القيام بها، لأنها مخالفة ومجافية للفطرة والعقل السليم ... فأما الدين الذي شرعه الرب العليم الحكيم لإتمام النعمة على عباده، فإنه لإصلاح الإنسانية، وأخذها إلى الصراط المستقيم بفطرة الله التي فطر الناس عليها) . والبدعة تخلف صاحبها وتخذله، إذ يحسب أنه على شيء وهو يطلب الأجر كمن يطلب الماء من السراب، حتى إذا جاءت أعماله لم يجدها شيئا ً ووجد الله عنده فوفاه حسابه ... وهذا معنى قول العرب: فلان أبدع بفلان إذا قطع به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وخذله ولم يقم بحاجته ولم يكن عند ظنه به) . ويقول أهل اللغة: (الإبداع لا يكون إلا بظلع) ويقولون: ( ... أبدعت به راحلته: أي ظلعت) . وهذا المعنى ينطبق على الابتداع في دين الله، إذ البدعة ظلع واعوجاج في نفس صاحبها وفي عمله. وذلك باتباع الهوى، ولذلك سمي أهل البدع أهل الأهواء؛ لأنههم اتبعوا أهواءهم، وما تشتهيه أنفسهم، وما تمليه عقولهم، ولم يأخذوا الأدلة الشرعية مأخذ الافتقار إليها، والتعويل عليها، حتى يصدروا عنها، بل قدموا أهواءهم واعتمدوا على آرائهم، ثم جعلوا الأدلة الشرعية منظورا ً فيها من وراء ذلك. وهذا الظلع الذي يبدع بصاحبه هو الذي سماه الله (زيغا ً) في قوله تعالى: ((فأما الذين في قلوبهم زيغٌ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ... )) . وفي الحديث: ((أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية على عائشة ثم قال: ((فإذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله فاحذروهم)) ، فإبداع أهل البدع: انقطاعهم عن السير في صراط الله المستقيم الذي ذكره في قوله تعالى: ((وأن هذا صراطي مستقيما ً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون)) . ( ... فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه وهو السنة، والسبل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 هي سبل أهل الاختلاف الحائرين عن الصراط المستقيم وهم أهل البدع..) . وبعد فهذا بيان معاني ودلالات لفظ (بدعة) وما اشتق منها: 1- البدعة: اسم يطلق على العمل المحدث ذاته، والجمع بدع. ففي كتاب العين: (البدعة: اسم ما ابتدع من الدين وغيره) . وفي الصحاح: (البدعة الحدث في الدين بعد الإكمال) . وفي الجمهرة: ( ... كل من أحدث شيئا ً فقد ابتدعه، والاسم البدعة والجمع بدع) . وفي التعريفات: (البدعة هي الفعلة المخالفة للسنة وهي الأمر المحدث) . وقال في الاعتصام: ( ... وقد يسمى العمل المعمول على ذلك الوجه بدعة، فمن هذا العمل سمي العمل الذي لا دليل عليه في الشرع بدعة) . والبدعة: (اسم هيئة من الابتداع كالرفعة من الارتفاع) . قال الشاطبي: ( ... فاستخراجها للسلوك عليها هو الابتداع، وهيئتها هي البدعة ... ) . والدليل الشرعي على أن لفظ البدعة يراد به العمل المحدث قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن كل محدثة بدعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 2- الابتداع: مصدر للمضارع ابتدع يبتدع. ويطلق على الاستخراج للبدعة. أي: أن إيجاد البدعة وإحداثها يسمى ابتداعا ً. ففي مسند الإمام أحمد أن الوليد بن عقبة أخر الصلاة مرةً فقام عبد الله بن مسعود فثوب بالصلاة فصلى بالناس، فأرسل إليه الوليد: ما حملك على ما صنعت، أجاءك من أمير المؤمنين أمر فيما فعلت أم ابتدعت، قال لم يأتني أمر من أمير المؤمنين ولم أبتدع، ولكنه أبى الله عز وجل علينا ورسوله أن ننتظرك بصلاتنا وأنت في حاجتك) . وفي كتاب العين: (ابتدعت: جئت بأمر مختلف لم يعرف ... ) . وفي جمهرة اللغة: (وكل من أحدث شيئا ً فقد ابتدعه) . ويطلق الابتداع على الفعل المبتدع ذاته فتقول: هذا ابتداع، ولو كان الفاعل مقلدا ً غير مخترع. ومثل هذا الابتداع في المعنى: الإحداث والاختراع. 3- المُبْتَدَعْ: اسم مفعول دال على الحدث ومفعوله، ويراد به الأمر المحدث ذاته، ومن ذلك قول معاذ بن جبل رضي الله عنه: ( ... فيوشك قائلٌ أن يقول: ما للناس لا يتبعوني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وقد قرأت القرآن؟ ما هم بمتبعي حتى أبتدع لهم غيره، فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضلالة) . 4- المُبْتَدِعْ: اسم فاعل دال على الحدث وفاعله، ويراد به الذي وقعت منه البدعة، والجمع: مبتدعة. (وأكثر ما يستعمل المبتدع عرفا ً في الذم) . وفي صحيح البخاري: (باب: إمامة المفتون والمبتدع) . ومن كلام عمر بن عبد العزيز رحمه الله: ( ... ألا وإني لست بقاض، ولكني منفذ، ولست بمبتدع ولكني متبع ... ) . وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: ( ... سمي المبتدع في الدين مُبتدعا ً لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره) . 5- التَّبَدُّعْ: وردت في اللغة بمعنى مبتدع، ففي اللسان: (تبدَّع: أتى ببدعة) ، ووردت بمعنى التحول من السنة إلى البدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 ففي تاج العروس: (وتبدَّع الرجل تحول مبتدعاً) ، ومن ذلك قول ابن مسعود رضي الله عنه ( ... وإياكم والتبدُّع) . 6- المُبَدَّع: من رُمي ببدعة: وفي الصحاح: (بدَّعه: نسبه إلى البدعة) ، سواء ً كان المرمي بالبدعة ممن يصدق عليه هذا كالجهم بن صفوان، وواصل بن عطاء، وعمرو بن عبيد، أو لا يصدق رميه بالبدعة كالبخاري في مسألة اللفظ. والجمع (مُبَدَّعين، أو مُبَدَّعة) . وهناك رأي للشيخ جمال الدين القاسمي في إطلاق هذه التسمية على من يكون، فقال: (المُبدَّعين ... بتشديد الدال المفتوحة أي المنسوبين للبدعة، وإنما آثرنا هذا على تسمية الأكثرين لهم بالمبتدعين؛ لأني لا أرى أنهم تعمدوا البدعة؛ لأنهم مجتهدون يبحثون عن الحق، فلو أخطأوه بعد بذل الجهد كانوا مأجورين غير ملومين، فلا يليق تسميتهم مبتدعة بل مبدَّعة ... ) . ب - المعنى الاصطلاحي للبدعة إجمالا ً: اختلفت عبارات الناس سلفا ً وخلفا ً في تعريف البدعة الشرعية، تبعاً لاختلاف تصورهم لماهية البدعة المنهي عنها، وتنوع مشاربهم، فالذي تلبس ببدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 عملية أو اعتقادية يحاول أن يضع تعريفا ً للبدعة يتلاءم مع مسلكه وهناك من التبس عليه فهم بعض النصوص الواردة في السنة والبدعة فوضع تعريفا ً ملتبسا ً، وسيأتي تفصيل هذا - إن شاء الله - في الفصلين التاليين. والذي سأورده هنا التعريف الاصطلاحي الذي تدل على صحته نصوص الشريعة، وأحوال السلف وأقوالهم، ثم أورد بعض الأقوال القديمة والحديثة التي تتناسق مع هذا التعريف المختار كليا ً أو جزئيا ً. وهذا المعنى الاصطلاحي الذي أختاره كحد جامع مانع للبدعة المنهي عنها شرعاً يلخص لنا ما ورد من نصوص شرعية، وأقوال مأثورة عن السلف في حوادث جزئية وحالات مفردة، أو بصيغ عامة، وأقوال مطلقة، مجملة أو مفصلة. ومن هذه النصوص والأقوال يمكن أن يجتمع لنا معنى ً تركيبيا ً جامعاً مانعا ً يغني عن المعنى الإفرادي، فإن المعنى الإفرادي قد لا يعبأ به إذا كان المعنى التركيبي مُفهما ً مؤديا ًللغرض، ولا يلتفت للمعنى الإفرادي إلا من حيث إنه يشكل مع غيره من المعاني المنفردة المبثوثة تركيبا ً كليا ً، أو يشكل كل واحد منها دليلا ً على كلية أو جزئية في المعنى الكلي التركيبي الجامع. ومثال ذلك ما ورد في الحوادث المفردة من نصوص دالة على بدعيتها، كترك النكاح، وترك أكل اللحم تعبدا ً، أو تقديم الخطبة على الصلاة في العيدين، وغير ذلك من الجزئيات التي جاء الحكم عليها المحدث فيها بالابتداع. وكذلك ما يرد من أقوال للعلماء في تعريف البدعة، وهذه الأقوال تتناول جانبا ً واحداً من جوانب المعنى الشرعي للبدعة، كقول القائل: البدعة مالم يشرعه الله ورسوله، أو قوله: البدعة ما ليس له أصل في الدين ونحو ذلك من الأقوال التي لا تشمل كل جوانب المعنى الشرعي للبدعة. فكل هذه النصوص والأقوال تشكل بمجموعها معنى ً تركيبيا ً كليا ً جامعا ً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 يغني عن المعنى الإفرادي لكل واحد من النصوص أو الأقوال. ومن هذه التعريفات الكلية الجامعة: ما ذكره الإمام الشاطبي - رحمه الله - في كتاب الاعتصام، حيث بوب لتعريف البدعة بابا ً مستقلا ً ذكر فيه معناها الاصطلاحي، وشرح التعريف وذكر محترزاته، وقد عرف البدعة بتعريفين: أحداهما: على رأي من يقول بعدم دخول الابتداع في العادات والمعاملات، وإنما يخصه بالعبادات، فقال فيه: ( ... فالبدعة ... عبارة عن طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه) . الثاني: على رأي من يقول بدخول الابتداع في الأمور العادية، كدخوله في الأمور العبادية، فقال فيه: (البدعة طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية، يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) . وسيتبين الرأي الراجح في قضية دخول الابتداع في الأمور العادية أو عدم دخوله، من خلال محترزات التعريف، وبالتالي يتبين التعريف الراجح، مع العلم أن الفصل الرابع من الباب الثاني مخصوص بهذه المسألة. شرح التعريف وبيان محترزاته: قوله: طريقة: يقصد بها السبيل والسنة، وكل ما رُسم للسلوك عليه أو اتخذ للتعبد به، سواء ً كان في المسائل العليمة أو المسائل العملية. قوله: في الدين: تقييد للطريقة المسلوكة بأنها في الدين؛ لأنها فيه تخترع وإليه تنسب، وبه يلصقها مخترعها، فلو كانت طريقة مخترعة في الدنيا على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 الخصوص لم تسم بدعة. قوله: تضاهي الشرعية: يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها، سواء ً كانت المضاهاة بالإلزام أو المنع، كمن يلزم نفسه بعمل لم يلزمه الشرع به، أو يمنع نفسه من شيء لم يمنعه الشرع منه، على وجه القربة والديانة، وتكون المضاهاة بالإلزام أو المنع، كما تكون بقصد القربة، وتخصيص زمان أو مكان أو هيئة بصفة أو عمل لم يخصصها الشرع، وتكون بإلحاق حكم شرعي بالعمل المحدث، من غير أن يكون له ذلك الحكم، وغير ذلك من أنواع المضاهاة، فإن صاحب البدعة إنما يخترعها ليضاهي بها السنة، أو تكون هي مما تلبس عليه بالسنة، ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيّل التشريع، بل كل خارج عن السنة بشيء من الابتداع لا بدله من تكلف الاستدلال بأدلة السنة على خصوص هذه المسألة المبتدعة، وإلا لكذَّب إطّراحه للدليل صدق دعواه ونقض تركه للسنة، ما يدعيه من الدخول فيها والكون من أهلها. وإلى هذه الجملة من التعريف يتفق تعريف من خص البدعة بالدخول على العبادات، وتعريف من لم يخصها بالعبادات بل جعل العادات داخلة في التعريف. فقال في التعريف على رأي من خصها بالعبادات: (يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى) . وقال في شرح هذا: ( ... وذلك أن أصل الدخول فيها [يعني البدعة] يحث على الانقطاع إلى العبادة، والترغيب في ذلك؛ لأن الله تعالى يقول: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) فكأن المبتدع رأى أن المقصود هذا المعنى، ولم يتبين له أن ما وضعه الشارع فيه من القوانين والحدود كافٍ، - إلى أن قال - وأيضا ً فإن النفوس قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 تمل وتسأم من الدوام على العبادات المرتبة، فإذا جدد لها أمر لا تعهده حصل لها نشاط ٌ آخر، لا يكون لها مع البقاء على الأمر الأول، ولذلك قالوا: (لكل جديد لذة) بحكم هذا المعنى - إلى أن قال - وفي حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه: (فيوشك قائل أن يقول وقد تبين بهذا القيد أن البدع لا تدخل في العادات ... ) . وقال في التعريف الثاني: الذي لا يختص بالعبادات بل يدخل معها العادات: (يقصد بالسلوك عليها ما يقصد بالطريقة الشرعية) . وعند شرحه لهذا قال: (ومعناه أن الشريعة إنما جاءت لمصالح العباد في عاجلتهم وآجلتهم، لتأتيهم في الدارين على أكمل وجوهها، فهو الذي يقصده المبتدع ببدعته، فإن تعلقت بالعبادات فإنما أريد بها أن يأتي العبد على أبلغ ما يكون في زعمه؛ ليفوز بأهم المراتب في الآخرة في ظنه، وإن تعلقت بالعادات فكذلك؛ لأنه إنما وضعها لتأتي أمور دنياه على تمام المصلحة فيها) . وقد رجح الشاطبي هذا التعريف، الذي يقول بدخول البدع في العادات والمعاملات، وهذا الترجيح هو الصحيح الموافق لأدلة الشريعة، والمتفق مع أصولها وقواعدها، والمطابق لمقاصدها، وقد لخص رحمه الله رأيه في هذه المسألة، وبين معنى القيد السابق بصورة أوضح حين قال: (ثبت في الأصول الشرعية أنه لا بد في كل عادي من شائبة التعبد؛ لأن ما يُعقل معناه على التفصيل من المأمور به أو المنهي عنه فهو المراد التعبدي، وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو مفسدته فهو المراد بالعادي، فالطهارات والصلوات والصيام والحج كلها تعبدي، والبيع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 والنكاح والشراء والطلاق والإجارات والجنايات كلها عادي، لأن أحكامها معقولة المعنى، ولا بد فيها من التعبد، إذ هي مقيدة بأمور شرعية لا خيرة للمكلف فيها - إلى أن قال - فإن جاء الابتداع في الأمور العادية من ذلك الوجه صح دخوله في العاديات كالعبادات وإلا فلا) . ولا أريد الإطناب في هذا المعنى فسيأتي فيه بعض التفصيل في الفصل الثاني من هذا الباب، وزيادة تفصيل في الفصل الثالث من الباب الثاني إن شاء الله. وقد اعترض الدكتور عزت علي عطية في كتابه البدعة على شرط المضاهاة في البدعة، حين تعرض لكلام الشاطبي في ذم البدع وتقبيحها، فقبل عموم الذم والتقبيح، ثم قال: (ولكنه غير مقبول من ناحية تخصيص البدعة بما ضاهى الدين من المحدثات المخالفة له) . وقال: ( ... فلا دلالة لوصف البدعة بالضلالة على تخصيصها بما قصد به مضاهاة الشريعة، على أن كثيرا ً من الأمور التي وصفها السلف بأنها بدعة، لا تتسق مع قصد مضاهاة الشرع بها) ثم ضرب لهذا القول مثلا ً بالأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها وأن ذلك منهم تساهلا ً وتشاغلاً، وهو معصية يعلمون حرمتها، ولم يحدثوا ذلك على أن يكون دينا ً لله، ومع ذلك سماها النبي صلى الله عليه وسلم بدعة، وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 نقل الدكتور عزت عطية هذا الاستدلال من غيره مشيرا ً إلى ذلك. وهذا الاستدلال منقوض من عدة وجوه: الأول: إن الحديث يدل بلفظه على أن هؤلاء الأمراء يقومون بأعمال مخالفة لأمر الله، وهذه الأعمال مختلفة فمنها إخفاء السنة، ومنها العمل بالبدعة، ومنها تأخير الصلاة عن مواقيتها. الثاني: أنه لا دليل من لفظ الحديث على أن تأخير الصلاة بدعة وإلا لما عطف بين هذه الأعمال المخالفة بالواو، التي من معانيها المغايرة. الثالث: أنه لو كان المراد في الحديث وصف تأخير الصلاة بالبدعية، لقال: (ويعملون البدعة حين يؤخرون الصلاة) ، أو لقال: (يؤخرون الصلاة وذلك بدعة) ، أو غير ذلك من التراكيب الدالة على نعت تأخير الصلاة بالبدعية. الرابع: على افتراض أن تأخير الصلاة من الأمراء وُصف في لفظ الحديث بالبدعية، فذلك لا ينفي وصف المضاهاة عن البدعة؛ الأمراء أخروا الصلاة عن وقتها إنما فعلوا ذلك مضاهاة للشريعة إذ علموا من نصوصها وجوب طاعة ولي الأمر المسلم، فاتخذوا ذلك ذريعة لبدعة تأخير الصلاة عن وقتها، بل بدعوا من خالفوا في بدعتهم هذه كما فعل الوليد بن عقبة مع ابن مسعود عندما أقام الصلاة وصلى بالناس حينما تأخر الوليد، فقال له: (أجاءك أمر من أمير المؤمنين أو ابتدعت؟) ، فرميه ابن مسعود بالبدعة واتهامه بها مبني على أنه ظن أن من حقه أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 يؤخر الصلاة عن وقتها، وأن ذلك لكونه من أمراء المسلمين الذين تجب طاعتهم، وهذا فيه مضاهاة للشرع بإبطال التخصيص الزماني المشروع للصلاة، وإيجاد وقت آخر يوافق هواه المبني على النصوص الموجبة لطاعة ولي الأمر ( ... فالمبتدع من هذه الأمة إنما ضل في أدلتها حيث أخذها مأخذ الهوى والشهوة، لا مأخذ الانقياد لحكم الله) . وقد احتج الدكتور عزت عطية على نفي صفة المضاهاة عن البدعة بقوله: (وعلى فرض أن هذه الصفات بمجموعها جعلت للبدعة سمة خاصة تميزها عن مجرد المخالفة الحادثة، فلماذا جعلت هذه الخاصية هي مضاهاة الشارع، ولماذا لا تكون تلك السمة الخاصة هي وقوع الذنب موقع الاقتداء، حيث يعامل مرتكبه معاملة من سنه، ويتحمل وزره ووزر من تابعه عليه ... ) . وهذه الحجة أيضا ً منقوضة بما يلي: 1- البدعة من جنس المعاصي، كما قال الشاطبي: (ولا شك أن البدع من جملة المعاصي على مقتضى الأدلة المتقدمة، ونوع من أنواعها) . ولكن البدعة تزيد في إثمها وضررها عن المعصية التي ليست ببدعة، (لأن المبتدع مع كونه مصراً على ما نهي عنه يزيد على المصر بأنه معارض للشريعة بعقله، غير مسلم لها في تحصيل أمره، معتقدا ً في المعصية أنها طاعة حيث حسن ما قبحه الشارع) . 2- أما لماذا لا تكون السمة الخاصة للبدعة كونها ذنبا ً واقعاً موقع الاقتداء، فهذا الوصف لا يصح أن يكون سمة خاصة للبدعة؛ ذلك أن البدعة قد تكون فردية مسرا ً بها صاحبها غير داعٍ إليها، وغير مجاهرٍ بها، ومع ذلك فلا تخرج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 عن مسمى البدعة ولا مسمى الضلالة، وإن كان الحكم على المبتدع يختلف باختلاف حاله من حيث الجهر والإستتار، والاستتار، والدعوة وعدمها كما سيأتي. ويا للعجب كيف ينفي وصف المضاهاة عن البدعة، وهو وصف معلوم بالاستقراء من الأدلة، وأحوال المبتدعة، ويضيف إليها وصف الاقتداء الذي ليس بلازم لها، فكأنه يقول: إذا لم تكن البدعة في موضع اقتداء فليست ببدعة. 3- أما وقوع الذنب موقع الاقتداء، فلا شك أن ذلك مما تشترك فيه المعاصي والبدع، من حيث وقوع الوزر على من سن السنة السيئة، لقوله تعالى: ((ليحملوا أوزارهم كاملة ً يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم)) . قال الشاطبي رحمه الله: (وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة، كبرت بالنسبة إليه، لإن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم الزور، وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي ... ) . على هذا لا يصح أن يكون وصف الاقتداء خاصاً بالبدعة، أما المضاهاة فتصح أن تكون وصفا ً خاصاً بالبدعة الشرعية. ولا يشترط أن تكون المضاهاة خاصة بالإلزام أو المنع أو التشريع الزائد فقط، بل وتكون مع ذلك بالتخصيص الزماني أو المكاني، والتخصيص بالهيئة والطريقة، ونحو ذلك من أنواع التخصيص، الذي لا يكون إلا من قبل الشرع، وتكون بالاعتماد على شبه الأدلة الشرعية، وتكون المضاهاة كذلك بقصد القربة بالعمل المبتدع، وهذا أوسع أبواب المضاهاة، فإن المبتدع إنما يريد ببدعته القرب إلى الله سبحانه والتعبد بهذا العمل المحدث، فهو يضاهي بقصده هذا وإرادته العمل المشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: ( ... فإن البدعة لا تكون حقا ً محضا ً موافقا ً للسنة؛ إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلاً، ولا تكون باطلاً محضا ً لا حق فيه؛ إذ لو كانت كذلك لم تخف على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل إما مخطئا ً غالطاً، وإما متعمداً لنفاق فيه وإلحاد) . وهذا هو حال المبتدعة وواقعهم، فهم يستدلون بالمتشابه، وببعض الأدلة دون بعض، ولو لم يكونوا كذلك لكانوا في عداد الخارجين عن الدين حتى في تصورهم لأنفسهم، ولكنهم يعتقدون أنهم على الدين القويم " ولذلك تجد المبتدع ينتصر لبدعته بأمور تخيّل التشريع، ولو بدعوى الاقتداء بفلان المعروف منصبه في أهل الخير، فأنت ترى العرب في الجاهلية في تغيير ملة إبراهيم عليه السلام كيف تأولوا فيما أحدثوه احتجاجا ً منهم كقولهم في أصل الإشراك (ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى) - إلى أن قال - فما ظنظ بمن عُدَّ أو عَدَّ نفسه من خواص أهل الملة؟ فهم أحرى بذلك وهم المخطئون وظنهم الإصابة) . والدليل على هذا المعنى أنك لا تجد مبتدعاً ينتسب إلى الملة الإسلامية إلا وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي ينزله على ما يوافق هواه وشهوته، وينساق مع الأدلة المتشابهة لا الواضحة. وسبب نفي الدكتور عزت عطية لقيد المضاهاة الذي اشترطه الشاطبي في تعريف البدعة: أنه ممن يقول بحسن بعض المحدثات، ولا يعتبر أن كل بدعة ضلالة. فهو يقسم البدع إلى حسن وقبيح، ويعتبر أن البدعة في عرف السلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ما هو مذموم فقط فيقول: (ومن المحدثات ما لا يخالف الدين ولا يخرج عن إطاره، وهو من الدين يدور مع أصله الذي يدل عليه من النصوص، وهو مقبول، بل إن حديث (وكل بدعة ضلالة) يفيد ذلك أيضا ً فلم يرد على إطلاقه وإنما سبق هذا القول الأمر بالمحافظة على سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، ومما يشير بدقة إلى أن البدعة التي عمم الرسول صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء الراشدين، ومما يشير بدقة إلى أن البدعة التي عمم الرسول صلى الله عليه وسلم وصفها بالضلالة: هي البدعة المصادمة للسنة، المخرجة عن الإتباع وذلك لا ينفي أن من البدع ما لا يخالف السنة أو ماليس بضلالة وهو البدعة الحسنة) . وبناء ً على نفي صفة المضاهاة، اعترض على الشاطبي حين بدَّع من اتخذ المولد النبوي عيدا ً أو من التزم عبادة معينة في وقت معين. ويعتبر أن المبتدع هو من أبطل شرعا ً أو أسقط حكما ً أو بدل آية، أو ألزم الناس بما ألزم به نفسه. ويعتبر البدعة المنهي عنها ما ورد فيها الذم على وجه الخصوص، فيقول: ( ... وقد قدمنا ما يفيد عدم اشتراط مضاهاة الدين في معنى البدعة وأن السلف لم يطلقوا لفظ البدعة إلا على ما هو في نظرهم مذموم) . وسوف يأتي رد هذه المزاعم عند الكلام عن مفهوم البدعة عند غير أهل السنة وشبههم ومناقشتها، وقد أطنبت في الرد على من نفى المضاهاة لأهمية ذلك. وهذا التعريف الذي اختاره الشاطبي ورجحه - أقصد التعريف الذي ينص على دخول الابتداع في العبادات والعادات يمكن شرحه تفصيليا ً بأن معناه: ما فُعل أو ترك بقصد القربة لله تعالى مما ليس له أصلٌ في الشريعة سواء ً كان ذلك في العقائد أو في الأحكام، وفي العبادات أو العادات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وللعلماء أقوالٌ تتفق مع هذا التعريف كليا ً أو جزئيا ً، أذكر بعضها هنا: 1- قول شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فمن ندب إلى شيءٍ يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله من غير أن يشرعه الله فقد شرع من الدين ما لم يأذن به الله) . وقوله - رحمه الله -: ( ... البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله وهو ما لم يأمر به أمر إيجاب ولا استحباب، فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعُلم بالأدلة الشرعية، فهو من الدين الذي شرعه الله - إلى أن قال - سواء ً كان هذا مفعولا ً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أو لم يكن ... ) . وقال أيضا ً: ( ... والبدعة ما خالفت الكتاب والسنة أو إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات، كأقوال الخوارج والروافض والقدرية والجهمية، وكالذين يتعبدون بالرقص والغناء في المساجد، والذين يعتبدون بحلق اللحى وأكل الحشيشة، وأنواع ذلك من البدع التي يتعبد بها طوائف من المخالفين للكتاب والسنة) . وقال أيضا ً: ( ... السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعةٌ لله ولرسوله، سواءً فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعل على زمانه، أو لم يفعله ولم يفعل على زمانه، لعدم المقتضي حينئذ لفعله أو وجود المانع منه - إلى أن قال - فما سنه الخلفاء الراشدون ليس بدعة شرعية يُنهى عنها، وإن كان يسمى في اللغة بدعة لكونه اُبتدئ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 وقال أيضا ً: ( ... فإن البدعة ما لم يشرعه الله من الدين، فكل من دان بشيءٍ لم يشرعه الله فذلك بدعة، وإن كان متأولا ً فيه) . 2- قول أحمد بن حجر الهيتمي المكي: (البدعة: هي ما لم يقم دليل شرعي على أنه واجب أو مستحب سواء ً فعل في عهده صلى الله عليه وسلم أو لم يفعل كإخراج اليهود والنصارى من جزيرة العرب ... ) . 3- قول الحافظ ابن حجر: (والمحدثات ... جمع محدثة، والمراد بها ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة، فالبدعة في عرف الشرع مذمومة بخلاف اللغة: فإن كل شيء أحدث على غير مثال يسمى بدعة، سواءٌ كان محمودا ً أو مذموما ً) . 4- قول الإمام النووي: (البدعة: بكسر الباء في الشرع: هي إحداث ما لم يكن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) . 5- قول الإمام العيني: (قوله: (محدثاتها) جمع مُحدثة، والمراد به ما أُحدث وليس له أصل في الشرع، وسمي في عرف الشرع بدعة، وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 6- قول الجرجاني في التعريفات: (البدعة: هي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي) . 7- قول ابن الجوزي: (والبدعة: عبارة عن فعل ما لم يكن فابتُدع، والأغلب في المبتدعات أنها تصادم الشريعة بالمخالفة، وتوجب التعاطي عليها بزيادة أو نقصان) . 8- قول ابن رجب الحنبلي: (والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه، أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه، فليس ببدعة شرعا ً، وإن كان بدعة ً لغة ً - إلى أن قال - فكل من أحدث شيئا ً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل ٌ من الدين يرجع إليه فهو ضالة، والدين بريءٌ منه، وسواء ٌ في ذلك مسائل الاعتقاد أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة أو الباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية) . 9- قول الشيخ محمد بن صالح العثيمين: عن البدعة أنها (ما أُحدث في الدين على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من عقيدة ٍ أو عمل) . 10- قو ل الشيخ الألباني: عند كلامه عن البدعة المنصوص على ضلالتها من الشارع، وقد ذكر جملة أوصاف أنقل منها ما يتلاءم مع التعريف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 (كل أمر يتقرب إلى الله به، وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكل أمر ٍ لا يمكن أن يُشرع إلا بنص أو توقيف، ولا نص عليه فهو بدعة، إلا ما كان عن صحابي، وكل ما ألصف بالعبادة من عادات الكفار. وكل عبادة لم تأت كيفيتها إلا في حديث ضعيف أو موضوع. وكل عبادة أطلقها الشارع وقيدها الناس ببعض القيود، مثل المكان أو الزمان أو صفة أو عدد) . 11- قول الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي البنعلي: (والبدعة شرعا ً هي: التي أُحدثت بعد الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل التقرب إلى الله ولم يكن قد فعلها الرسول صلى الله عليه وسلم ولا أمر بها ولا أقرها ولا فعلتها الصحابة) . 12- قول الشيخ محمد بن عبد السلام الشقيري: (والبدعة: هي الحدث في الدين بعد الإكمال، وما استحدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم من الأهواء والأعمال - إلى أن قال - وقيل هي: ما أحدث على خلاف الحق المتلقَّى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل ديناً قويماً وصراطاً مستقيماً) . 13- قول الشيخ حسن البنا: (وكل بدعة في دين الله لا أصل لها - استحسنها بعض الناس بأهوائهم سواء ً بالزيادة فيه أو النقص - ضلالة تجب محاربتها والقضاء عليها بأفضل الوسائل التي لا تؤدي إلى ما هو شر منها) . 14- قول الشيخ حافظ الحكمي: ( ... ومعنى البدعة: شرع ما لم يأذن به الله، ولم يكن عليه أمر النبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه) . 15- قول الشيخ علي الطنطاوي: (والبدعة إذا أُطلقت يراد بها المستحدث الذي لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم) . 16- قول الشيخ أبي بكر الجزائري: (وهي في عرف الشرع: كل ما لم يشرعه الله تعالى في كتابه أو على لسان رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من معتقد أو قول أو فعل، وبعبارة أسهل البدعة هي: كل ما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أصحابه ديناً يعبد الله به أو يتقرب إليه به من اعتقاد أو قول أو عمل، مهما أُضفي عليه من قداسة، وأُحيط به من شارات الدين وسمات القربة والطاعة) . وأقوال العلماء عن البدعة كثيراً جداً، وهذه الأقوال التي ذكرتها هنا لا تمثل سوى جزءا ً مما جمعته من أقوال العلماء في البدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الفصل الثاني: مفهوم البدعة عند أهل السنة وأدلتهم يطلق مصطلح أهل السنة ويراد به معنيان: الأول: في مقابل الشيعة. الثاني: وهو المراد هنا يقصد به إتباع آثار الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الباطن والظاهر، وإتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، وهي بهذا المعنى في مقابل البدعة. والسنة المقصودة هنا: ما سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما شرعه في العقائد والأقوال، وفي المقاصد والأفعال. والسنة والشريعة تأتيان في الإطلاق العام بمعنى واحد: ( ... فالشريعة جامعة لكل ولاية وعمل، فيه صلاح الدين والدنيا، والشريعة إنما هي كتاب الله وسنة رسوله، وما كان عليه سلف الأمة في العقائد والأحوال والعبادات والأعمال والسياسات والأحكام، والولايات والعطيات) . وأهل السنة هم الذين يعملون بذلك لاسيما في مجال الاعتقاد. ومن هنا جاءت تسمية المؤلفات في ذلك بالسنة، من قبل علماء السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 كابن أبي عاصم وعبد الله بن أحمد بن حنبل، ومحمد بن نصر المروزي، وغيرهم، وقد يسمى أهل السنة بأسماء أخرى تحمل أوصافاً تختص بهم منها: أهل الحديث والأثر: ولا يقصد بهذا من اقتصر على سماعه الأحاديث والآثار وكتابتها وروايتها فقط، بل من عرفها وفهمها واتبعها ظاهراً وباطناً. ويطلق هذا المصطلح على أتباع مذهب السلف أهل السنة والجماعة؛ لأنهم لا يصدرون في أعمالهم وعقائدهم عن آراء عقلية قابلة للتسليم والرد، وإنما عن مأثورات وأخبار مسندة مرفوعة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه الكرام برواية الثقات العدول. فقد روى الخطيب في شرف أصحاب الحديث بسنده، عن سفيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 الثوري قال: (إنما الدين بالآثار وليس بالرأي، إنما الدين بالآثار ليس بالرأي ... ) . وروى بسنده أيضاً عن الإمام أحمد، حين سئل عن أحد علماء الابتداع فكلح وجهه وقال: (إنما جاء بلاؤهم من هذه الكتب التي وضعوها، تركوا آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وأقبلوا على هذه الكتب) . وروى بسنده عن الأوزاعي قال: (عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم) . وروى الحافظ الدارقطني بسنده في كتاب الصفات عن عباد بن العوام قال: قدم علينا شريك بن عبد الله فقلنا: إن عندنا قوماً من المعتزلة ينكرون هذه الأحاديث: إن الله - عز وجل - ينزل إلى سماء الدنيا، وإن أهل الجنة يرون ربهم فحدثني شريك بنحو من عشرة أحاديث في هذا وقال: (أما نحن فأخذنا ديننا عن أبناء التابعين عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهم عمن أخذوا) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 وروى الدارقطني أيضاً بسنده في كتاب الصفات، عن شريك بن عبد الله النخعي أنه قال: (هؤلاء أبناء المهاجرين يحدثون أن الله عز وجل يرى في الآخرة حتى جاءنا ابن يهودي صباغ، فزعم أن الله لا يرى يعني بشراً المريسي) . ومن هنا نلمح اهتمام أهل السنة بالأحاديث والآثار، وحرصهم عليها تأليفاً وشرحاً، بل لا يعرف أن أحداً من العلماء نبغ في مذهب أهل السنة والجماعة وهو غير معتمد على حديث وأثر، قال ابن الجوزي: ( ... ولا ريب في أن أهل النقل والأثر المتبعين آثار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هم أهل السنة؛ لأنهم على تلك الطريق التي لم يحدث فيها حادث) . وأكثر أهل البدع جاهل بالأحاديث وكتبها، والآثار ومصنفاتها، عالم بكلام أهل الكلام، كما قال هارون الرشيد: طلبت أربعة فوجدتها في أربعة: طلبت الكفر فوجدته في الجهمية، وطلبت الكلام والشغب فوجدته في المعتزلة، وطلبت الكذب فوجدته عند الرافضة، وطلبت الحق فوجدته مع أصحاب الحديث) . وكما قال عبد الله بن داوود (ليس الدين بالكلام إنما الدين بالآثار) ، ولأجل هذا جعل من علامات المبتدعة التي تدل عليهم، بغض الحديث وأهله كما قال الأوزاعي: (ليس من صاحب بدعة تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخلاف بدعته بحديث إلا أبغض الحديث) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وقد جعل أحمد بن سنان القطان من سيماء المبتدعة بغضهم للحديث وأهله، فقال: (ليس في الدنيا مبتدع إلا وهو يبغض أهل الحديث فإذا ابتدع الرجل نزع حلاوة الحديث من قلبه) . ومن هنا نجزم بصواب مسلك أهل السنة والجماعة، ولا نظن كما يظن بعض الناس أن الجزم بالصواب مسألة نسبية؛ لأن كل ذي عقيدة يجزم بأنه الأصح الأقرب إلى الحق ... بل الحق الذي لا شك فيه أن طريقة أهل السنة هي الصواب المحض، لأنها مبنية على الإتباع من خلال الآثار المتصلة الموثقة، ولأن شعار الإحتكام لديهم في كل أمر كتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذي قال عنهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما كتاب الله وسنتي، لن يتفرقا حتى يردا على الحوض ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ومن أسمائهم: أهل الجماعة: وقد ورد هذا اللفظ في عدة أحاديث نبوية أشهرها حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن هذه الأمة ستفترق على إحدى وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ". وقد ورد الحديث عن طائفة من الصحابة بألفاظ متقاربة، وحديث أسامة ابن شريك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " يد الله على الجماعة ". وحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 عليه وسلم -: "من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة". وحديثه الآخر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة، فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد، ومن أراد بحبوحة الجنة فعليه بالجماعة ". ومذهب أهل الحق هو مذهب أهل السنة والجماعة، لأنهم معتصمون بكتاب الله وسنة رسوله، مجتمعون على ذلك، وأحق من يوصف بالجماعة (سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، الذين اجتمعوا على الحق الصريح من كتاب الله تعالى وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -) . ومن عدا أهل الجماعة فهم أهل البدع، الذين هم أهل الافتراق المتبعين للسبل المتفرقة عن سبيل الحق. قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قوله سبحانه: [يوم تبيض وجوه وتسود وجوه] ، (تبيض وجه أهل السنة والجماعة وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة) . قال الإمام أحمد عند وصف المبتدعة: ( ... عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 ومن أوصافهم: الفرقة الناجية: هذا الوصف مأخوذ من الحديث النبوي الذي رواه أنس بن مالك وغيره، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن أمتي ستفترق على اثنتين وسبعين كلها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة ". وفي حديث عبد الله بن عمرو قوله - صلى الله عليه وسلم - " كلهم في النار إلا واحدة، قالوا: من هي يا رسول الله، قال: ما أنا عليه وأصحابي ". ومأخذ هذه التسمية الوصفية من أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأن الفرق المعدودة هالكة ماعدا فرقة واحدة، وهي الناجية من الهلاك، وعين هذه الفرقة بالوصف؛ لأن ذلك هو الآكد في جانب التعبد، ولأن ذلك أوجز، فإذا علم الناجي بالوصف، علم أن ما سواه هالك. ومن أسمائهم الوصفية: أتباع السلف: ويطلق مسمى السلف على الصحابة الكرام والتابعين لهم بإحسان، وأتباعهم وأئمة الدين ممن شهد له بالإمامة، وعرف عظم شأنه في الدين، وتلقى الناس كلامهم خلف عن سلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وقد نقل السفاريني في اللوامع عن ابن رجب مقولة يحدد فيها إلى أي زمن يطلق السلف حيث قال: (وفي زماننا تتعين كتابة كلام أئمة السلف المقتدى بهم إلى زمن الشافعي وأحمد وإسحاق وأبي عبيد، وليكن الإنسان في حذر مما حدث بعدهم، فإنه حدث بعدهم حوادث كثيرة ... ) . قال شيخ الإسلام في هذا الصدد: (ومن المعلوم بالضرورة لمن تدبر الكتاب والسنة، وما اتفق عليه أهل السنة والجماعة من جميع الطوائف: أن خير قرون هذه الأمة في الأعمال والأقوال والإعتقاد وغيرها من كل فضيلة أن خيرها: القرن الأول، ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، كما ثبت ذلك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من غير وجه، وأنهم أفضل من الخلف في كل فضيلة: من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم من الدين بالضرورة من دين الإسلام وأضله الله على علم ... ) . هؤلاء هم السلف الذين ينتسب إليهم أهل الحق، ويتبعون آثارهم؛ لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 خير القرون كما جاء في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " خير الناس القرن الذي أنا فيه، ثم الثاني ثم الثالث ". وبنحوه عن ابن مسعود قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء أقوام تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته ". وهؤلاء السلف الذي أمر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - بإكرامهم كما روى عمر رضي الله عنه في خطبته بالجابية فقال: (إن رسول الله قام فينا كمقامي فيكم فقال: أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يظهر الكذب حتى إن الرجل ليحلف ولا يستحلف، ويشهد ولا يستشهد، ألا فمن سره بحبحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد ... ) الحديث. وأتباع السلف هم الذين أخذوا الإسلام محضاً، ولم يشوبوه بشيء من البدع كما كان السلف عليهم رضوان الله، وهم الذين سلكوا في علمهم وعملهم واعتقادهم وسائر أحوالهم مسلك أولئك الأخيار الأبرار. قال ابن حزم: (وأهل السنة الذين نذكرهم هم أهل الحق ومن عداهم فأهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 البدعة، فإنهم الصحابة رضي الله عنهم، وكل من سلك نهجهم من خيار التابعين رحمة الله عليهم، ثم أصحاب الحديث ومن اتبعهم من الفقهاء جيلاً فجيلاً إلى يومنا هذا، ومن اقتدى بهم من العوام في شرق الأرض وغربها ... ) . ومن أوصاف أهل السنة والجماعة الواردة في الأخبار: الطائفة المنصورة: وهم الذين قال فيهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة ". وسبب اختصاصهم بالنصر أنهم أحبوا الله تعالى وأحبوا رسوله - صلى الله عليه وسلم - واتبعوا ما يحبه الله بالطريقة التي يحبها الله. وقد ورد لبعض العلماء تعيين لهذه الطائفة المنصورة، فخصها البخاري بأهل العلم، وقال الإمام أحمد: (إن لم يكونوا أهل الحديث فلا أدري من هم ... ) ، قال القاضي عياض مفسراً قول أحمد هذا: (إنما أراد أحمد أهل السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 والجماعة، ومن يعتقد مذهب أهل الحديث) . ويؤيد هذا المعنى قول شيخ الإسلام الذي نقلناه آنفاً عند ذكر أهل الحديث والأثر. قال النووي رحمه الله بعد أن نقل هذه الأقوال في تعيين الطائفة المنصورة: (يحتمل أن هذه الطائفة مفرقة بين أنواع المؤمنين، منهم شجعان مقاتلون، ومنهم فقهاء ومنهم محدثون، ومنهم زهاد وآمرون بالمعروف وناهون عن المنكر، ومنهم أهل أنواع أخرى من الخير، ولا يلزم أن يكونوا مجتمعين، بل قد يكونوا متفرقين في أقطار الأرض) . ومن أوصافهم أنهم: الخلف العدول: وهم ورثة هذا الدين من سيد المرسلين، الذي قال فيهم عليه الصلاة والسلام: "يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، وينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ومن أسمائهم: أصحاب السنن: الذين هم أعلم الناس بكتاب الله، كما قال ذلك عمر وعلي رضي الله عنهما. هؤلاء هم أهل السنة الذين هم أهل الإسلام، كأهل الإسلام بين سائر الملل. والذين (شهادتهم مقبولة على سائر فرق الأمة، بخلاف أهل البدع والأهواء ... ) . ولذلك فسوف أذكر هنا مفهوم أهل السنة والجماعة للبدعة على اعتبار أن فهمهم هو الأقوم، ونهجهم في العلم والعمل والاعتقاد هو الأسلم والأعلم والأحكم. وأريد بالمفهوم عن قولي في هذا الفصل: (مفهوم البدعة عند أهل السنة) ، وفي الفصل الثاني الذي يليه: (مفهوم البدعة عند غير أهل السنة) معنيين: الأول: فهم هؤلاء وأولئك للنصوص الشرعية الواردة في البدعة وما يترتب على هذا الفهم من تصورات وأحكام وأعمال، وقد جاء في تاج العروس: ( ... الفهم تصور المعنى من اللفظ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الثاني: ما يستخرج من هذه المفاهيم والتصورات من معان ومدلولات، وقد جاء في اللسان قوله: (فهمت الشيء عقلته وعرفته) . والبدعة في هذين الفصلين مأخوذة من تعريف حدي مباشر، يدل على المعنى بمنطوقه الصريح، ومأخوذة كذلك من فحوى العبارات وإشارات الألفاظ. قال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في شرح روضة الناظر: (واعلم أن مراده بالفحوى والإشارة المفهوم، وعُرّف المفهوم بأنه ما يقتبس من الألفاظ من فحواها وإشاراتها، لا من صيغتها) . وأقصد بالمفهوم هنا المعاني التي يحتويها التعريف صراحة؛ لأنها أساسيات في دلالته، والمعاني التي يتضمنها التعريف إيماءً؛ لأنها من لوازمه أو توابعه. فقد تكون الدلالة في هذه المعاني كلية، وقد تكون جزئية، وقد تكون مجملة في مواطن، مبينة في مواطن أخرى، وقد تكون جزءاً من الحد في المواضع وتكون في مواضع أخرى احترازاً أو حكماً ... ولكنها في مجموعها تعطي تصوراً لمعنى البدعة عند الفريقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 ثانيا ً: البدعة هي التي تفعل بقصد القربة: وهذا أصل أصيل عند أهل السنة، يفرقون به بين الفعل الذي يكون بدعة والفعل الذي يكون معصية فقط، وإن كانت البدعة معصية لله سبحانه وتعالى إلا أنها تفوق المعصية في الإثم والحكم. فالمعصية في أصل وقوعها من حيث العمل والاعتقاد تختلف عن البدعة من جهة ما يقترن بكل ٍ منهما .... فالعاصي لا يعتقد أنه بمعصيته يُرضي الله بخلاف المبتدع فإنه يعتقد في عمله المحدث القربة إلى الله، وهذا هو وجه المفارقة. ووجه ٌ آخر: هو ما تؤول إليه البدعة من مفاسدٍ حالية ومآلية في الدنيا والآخرة، وذلك باعتقاد المشروعية أو الجواز فيما ليس له أصل، وما يترتب على هذا الاعتقاد من شيوع وانتشار، حتى ينشأ عليها الصغير ويموت عليها الكبير بخلاف المعصية أو المخالفة. ومن هنا نفهم أن قول سفيان الثوري - رحمه الله - حين قال: (البدعة أحب إلى إبليس من المعصية، فإن المعصية يتاب منها، والبدعة لا يتاب منها) . والسبب في عدم توبة المبتدع أنه يرجو بعمله أو قوله أو اعتقاده المحدث القرب من الله، فلا ينفك من ملازمة العمل. وبسبب كون البدع أشر من المعاصي، وأهلها أضر من أهل الذنوب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتال الخوارج، ونهى عن قتال الولاة الظلمة. ومما جاء عن السلف في اعتبار أن البدعة أشد ضررا ً من المعاصي، ما رواه ابن وضاح بسنده عن أبي بكر بن عياش قال: (كان عندنا فتى ً يقاتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 ويشرب وذكر أشياء من الفسق، ثم أنه تقرَّأ فدخل في التشيع، فسمعت حبيب بن أبي ثابت، وهو يقول: لأنت يوم كنت تقاتل وتفعل ما تفعل خير منك اليوم) . والدليل على اختصاص البدعة بوصف قصد القربة، ما ورد في الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما أخبروا كأنهم تقالَّوها، فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم أما أنا فإني أصلي الليل أبدا ً، وقال الآخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً، فجاء الرسول صلى الله عليه وسلم فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني) . وفي لفظ مسلم: ( ... فقال بعضهم: لا أتزوج النساء، وقال بعضهم: لا آكل اللحم، وقال بعضهم: لا أنام على فراش ... ) الحديث. قال الحافظ ابن حجر: (قوله: " فمن رغب سنتي فليس مني " المراد بالسنة الطريقة - إلى أن قال -: والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمح بذلك إلى طريق الرهبانية، فإنهم الذين ابتدعوا التشديد، كما وصفهم الله تعالى - ثم قال - وطريقة النبي صلى الله عليه وسلم الحنيفية السمحة، فيفطر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة، وإعفاف النفس وتكثير النسل) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... ينكر على من يتقرب إلى الله بترك جنس الملذات، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للذين قال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، - ثم ذكر الحديث - ... ) . فالإنكار إنما توجه إليهم بسبب قصد القربة بهذا الترك. ومثل هذا حديث سعد بن أبي وقاص قال: (رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على عثمان بن مظعون التبتل، ولو أذن له لاختصينا) ، قال النووي: (قال العلماء: التبتل هو الانقطاع عن النساء، وترك النكاح انقطاعاً إلى عبادة الله.. .) ومن هنا تتقرر هذه القاعدة التي نص عليها الشاطبي -رحمه الله - حيث قال: (ولا معنى للبدعة إلا أن يكون الفعل في اعتقاد المبتدع مشروعا ً، وليس بمشروع) . فالفعل الذي يقترن به أصل التشريع بإلحاق حكم شرعي له، كالاستحباب أو الوجوب يكون بدعة، فإن لم يقترن به هذا القصد فهو منهي عنه؛ لكونه معصية أو هو عفو. وباعتبار وصف القربة في البدعة جاء تعريف شيخ الإسلام للبدعة، بأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 الدين الذي لم يأمر به الله، ولا يخفى ما في هذا النعت من اعتبار قصد القربة في العمل المحدث ليكون بدعة. قال - رحمه الله -: (وقد قررنا في القواعد في قاعدة السنة والبدعة، أن البدعة: هي الدين الذي لم يأمر الله به ورسوله، فمن دان دينا ً لم يأمر الله ورسوله به فهو مبتدع بذلك، وهذا معنى قوله تعالى: (أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله) . وقال: ( ... فإن البدعة ما لم يشرعه الله من الدين، فكل من دان بشيء لم يشرعه الله فذاك بدعة، وإن كان متأولا ً فيه) . وقال أبو شامة في الباعث على إنكار البدع والحوادث: (البدعة التي يظن الناس أنها قربة، وهي بخلاف ذلك - ثم قال - فهذا الذي وضعت الكتاب لأجله ... ) . وقال الشيخ عثمان بن فودي في إجياء السنة وإخماد البدعة عند ذكر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)) قال: (وقد بين العلماء رضي الله عنهم أن المعنى في الحديث المذكور راجع لتغيير الحكم باعتقاد ما ليس بقربة قربة، لا مطلق الإحداث إذا تناولته الشريعة بأصولها، فيكون راجعا ً إليها) . وقصد القربة يراد به: إلحاق حكم شرعي بعمل محدث كالندب والاستحباب والإيجاب، أو الكراهة والتحريم، قال شيخ الإسلام: (فمن ندب إلى شيءٍ يتقرب به إلى الله أو أوجبه بقوله أو فعله، من غير أن يشرعه الله فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 شرع من الدين ما لم يأذن به الله) . ويراد به كذلك استحسان الفعل المحدث، وإن لم يلحق به حكما ً شرعيا ً، وإن كان ذلك غير متصور؛ لأن من لوازم استحسانه إلحاق وصف شرعي به، وإلصاق حكم تشريعي بالبدعة. وقصد القربة يتوجه إلى العمل الذي لا يتصور فيه غير إرادة القربة كالعبادات المحضة، وهي حق خالص لله سبحانه، فلا بد من مطابقة فعل العبد لأمر الشرع. وكل ما فهم من الشرع أنه لا خيرة للعبد فيه، سواء ً كان له معنى ً معقول أو غير معقول، فإنه مما يعلم أن قصد الشارع فيه الوقوف عند ما حده من غير زيادة ولا نقصان. والعبادة التي هي حق لله سبحانه وتعالى لا يتصور فيها غير إرادة القربة فالإحداث فيها يسمى ابتداعا ً، سواء ً قصد القربة أو افتراض أنه لم يقصد القربة، فلو أحيا ليلة النصف من شعبان بعبادة ٍ مخصوصة كالصلاة والذكر فهو مبتدع، حتى مع افتراض عدم قصده للقربة.. مع أن هذا الافتراض تخيلي لا يمكن وقوعه. ويتوجه قصد القربة كذلك إلى العمل الذي يحمل أوجهاً متعددة مثل الأمور الدنيوية، فينظر إلى الفعل باعتبار الوجه الغالب عليه، أو باعتبار وجه القربة إذا اتحدت أوجه الفعل الواحد، ويتضح هذا بالمثال: فمن لبس ثوبا ً بلون ٍ معين، ولم يرد بذلك القربة فلا يوصف هذا العمل بالبدعة؛ لأنه مباح، إلا إذا ألحقته أمور منهي عنها، كالإسبال والاشتهار، فإنه يكون معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أما إذا أراد بذلك الثوب المعين، واللون المعين القربة، أو ألحق به وصف استحسان أو استحباب أو ندب أو إيجاب، فإنه يكون حينذاك بدعة، كما تفعل طوائف الصوفية التي تشترط لونا ً معينا ً لمريدي طريقتها. والخلاصة: أن كل ما فعل أو ترك بقصد القربة، مما ليس له أصل في الشرع بدعة ... ويخرج بذلك ما فعل أو ترك لا بقصد القربة، فيكون حينئذٍ معصية أو مخالفة أو عفوا ً، ولا يطلق عليه بدعة. مثال ما فعل أو ترك لا بقصد القربة، فيكون حينئذٍ معصية أو مخالفة أو عفوا ًً، ولا يطلق عليه بدعة. مثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون معصية: جميع المنهيات الشرعية كالنظر إلى النساء، وسماع الغناء، فإذا كان هذا العمل بقصد القربة إلى الله فهو بدعة ... ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون معصية: ترك المأمور به شرعا ً كترك النكاح للقادر عليه، وكترك الدعوة إلى الله لمن وجبت عليه. فإذا كان هذا الترك بقصد القربة إلى الله بذلك فهو بدعة، ومثال ما فعل لا بقصد القربة ويكون عفواً: حلق الرأس في غير نسك، فإن فعل بقصد القربة فهو بدعة. ومثال ما ترك لا بقصد القربة ويكون عفوا ً: الامتناع عن أكل اللحم للتطبب ونحوه، فإن كان الترك للحم تدينا ً فهو بدعة. وقد ذكر شيخ الإسلام ما يشبه هذا الكلام في مواطن من كتبه، ومن ذلك ذكره للحلق الذي يكون مشروعاً والحلق الذي يكون جائزا ً والذي يكون بدعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 وهذا الشرط - الذي هو قصد القربة - هو ما عناه الشاطبي في تعريفه للبدعة بقوله: (طريقة في الدين تضاهي الشرعية ... ) . ثم شرح ذلك بقوله: ( ... يعني أنها تشابه الطريقة الشرعية، من غير أن تكون في الحقيقة كذلك، بل هي مضادة لها من أوجه متعددة - إلى أن قال - فلو كانت لا تضاهي الأمور المشروعة لم تكن بدعة؛ لأنها تصير من باب الأفعال العادية ... ) . ومن هذه المضاهاة طلب القربة من الله سبحانه وتعالى، وقد حاول بعض محسني البدع إلغاء هذا الشرط، واعترض عليه بأنواع من الاعتراضات المقتضية لتحسين بعض البدع، التي قصد بها القربة، كبدعة التوسل بذوات الصالحين، وبدعة التبرك بآثارهم، وبدعة الاحتفال بالمولد النبوي. مع أن المضاهاة من ألزم صفات البدعة؛ لأن ( ... البدعة لا تكون حقا ً محضا ً موافقا ً للسنة؛ إذ لو كانت كذلك لم تكن باطلا ً، ولا تكون باطلا ً محضا ً لا حق فيه؛ إذ لو كانت كذلك لما خفيت على الناس، ولكن تشتمل على حق وباطل، فيكون صاحبها قد لبس الحق بالباطل، إما مخطئا ً غالطا، وإما متعمدا ً لنفاقٍ فيه وإلحاد) . ومن آكد أوجه المضاهاة بين البدعة والسنة قصد القربة؛ لأن (الباطل المحض الذي يظهر بطلانه لكل أحد، لا يكون قولا ً ومذهبا ً لطائفة ٍ تذب عنه، وإنما يكون باطلا ً مشوبا ً بحق، كما قال تعالى: ((لم تلبسون الحق بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وبهذا الاعتبار جعلت البدعة: الإحداث في الدين، وقيدت بالدين، لأنها تخترع فيه، وينسبها صاحبها إليه، ويجعلها منه فيتعبد بها ويتقرب إلى الله بفعلها. ثالثا ً: البدعة تكون بالفعل والترك: وهذا يشمل البدعة الفعلية والبدعة التركية، أي أن البدعة تكون بفعل غير المشروع، كما تكون بترك ما هو مباح أو مشروع، أو بعبارة أخرى فعل ما تركه الشارع وترك ما شرعه، أو ما أباحه تقربا ً وديانة ً ... فأما فعل غير المشروع فواضح، وأمثلته كثيرة، ومن أدلته: ((من عمل عملا ً ليس عليه أمرنا فهو رد)) . فإذا فعل المكلف ما تركه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود الداعي لذلك، وانتفاء الموانع فقد ابتدع، وأمثلة ذلك: الجهر بالنية في الصلاة، والأذان في العيدين، والاجتماع على صلاة معينة في أول رجب، أو أول جمعة فيه، وأو في ليلة النصف من شعبان، ونحو ذلك. وأما ترك المشروع فهو: أن يترك المكلف ما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شرعه أو أباحه تديناً. ومثال ذلك ما رواه الترمذي، عن ابن عباس - رضي الله عنهما -: أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت النساء، وأخذتني شهوة فحرمت علي اللحم، فأنزل الله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 ((يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين)) ، ومثال ذلك أيضاً قصة الثلاثة الذين حرموا على أنفسهم ما أباحه الله بقصد المبالغة في التعبد لله. ومن ذلك ما رواه البخاري وغيره عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: (بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذ هو برجل قائم، فسأل عنه فقالوا أبو سرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم، ويصوم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: مروه فليتكلم، وليستظل، وليقعد، وليتم صومه) . ومن ذلك ما رواه البخاري عن قيس بن أبي حازم، قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تكلم؟ قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت، قال: امرؤ من المهاجرين ... ) الخبر. قال الحافظ ابن حجر: (والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه، وكذا المباح المستوي الطرفين) . قال شيخ الإسلام بعد ذكر هذا الحديث: ( ... فيدخل في هذا، كل ما اتخذ عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام - إلى أن قال - فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام) . وقال رحمه الله: ( ... فالتكلم بالخير، خير من السكوت عنه، والصمت عن الشر خير من التكلم به، فأما الصمت الدائم فبدعة ٌ منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبر واللحم، وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضا ً ... ) . وهناك أمثلة عديدة للترك الذي يعد بدعة، بيد أنه يجب التأمل في المتروك من جهة قصد المكلف، ومن جهة اعتبار الشارع: (فإذا كان الترك: لأمر يعتبر مثله شرعا ً، كالذي يمنع نفسه من الطعام الفلاني، لأنه يضره في جسمه ... فإن قلنا بأن التداوي مطلوب شرعا ً، اعتبر هذا الترك مطلوبا ً، وإن قلنا بإباحة التداوي فالترك مباح. وإذا كان الترك: للشيء الذي لا بأس به، حذرا ً من الشيء الذي به بأس وهو المتشابه ليستبرئ لدينه وعرضه، فهذا من أوصاف المتقين، وإذا كان الترك لأمر غير معتبر في الشرع، فيأتي هنا اعتبار قصد المكلف، فإن كان الترك تديناً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فهو الابتداع. وإن لم يكن بقصد الترك فالتارك عابث بتحريمه الفعل أو بعزيمته على الترك ولا يسمى هذا الترك بدعة ... ) . ومما يلحق بهذا الفصل: ما سكت عنه الشارع، ولم ينص عليه بشيء ٍ يفيد إباحته أو تحريمه، وهذا من الأبواب الكبيرة التي دخل منها المبتدعة لترويج بدعهم. ويمكن ضبط المسكوت عنه بما يلي: أولا ً: أن (الأًصل في العبادات البطلان، حتى يقوم دليل على الأمر والأصل في العقود والمعاملات الصحة، حتى يقوم دليل على البطلان والتحريم) . ثانيا ً: أن السنة كما أنها تكون بفعله صلى الله عليه وسلم، وتقريره، فإنها تكون بسكوته كذلك، وهذا ما يسمى بالسنة التركية، وهي: (أن يسكت الرسول صلى الله عليه وسلم عن الفعل غير الجبلي مع قيام المقتضي وعدم المانع) . فسكوته عليه الصلاة والسلام هو المعتبر بشرط ألا يكون فعلا ًجبليا ً، فإن ترك الفعل الجبلي لا يعتبر سنة تركية، وبشرط أن يكون المقتضي للفعل موجودا ً والمانع مفقودا ً، وهذا يتصور في كل أمر عبادي يراد به القربة من الله تعالى، فإن تركه النبي صلى الله عليه وسلم ولم يعمل به فإن ذلك دليل ٌ على أن تركه هو السنة، وفعله هو البدعة؛ لأن المقتضي موجود وهو التقرب من الله، والوقت وقت تشريع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 والنبي صلى الله عليه وسلم معصوم من الكتمان، فتركه صلى الله عليه وسلم مع وجود كل هذه المقتضيات وانتفاء الموانع دليل ٌ على أن المشروع هو الترك. وبناء ً على ما سبق يتضح لنا ما يلي: أن ترك النبي صلى الله عليه وسلم للفعل مع وجود الداعي إليه وانتفاء المانع منه يعتبر قسما ً من أقسام السنة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم مشرع، ولا يجوز أن يترك ما شرعه الله، لأن ذلك يعتبر تقصيرا ً في البيان، وتأخيراً له عن وقت الحاجة، وهذا ما عصم منه النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا فلا بد أن يكون لسكوت النبي صلى الله عليه وسلم دلالة ولتركه معنى، وهو أنه لا زيادة ولا نقصان على ما صدر منه وأن السنة ترك ما تركه عليه الصلاة والسلام. قال شيخ الإسلام: (ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم مع وجود ما يعتقد مقتضيا ً وزوال المانع سنة، كما أن فعله سنة ... ) . ويشترط لاعتبار الترك سنة مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم على الترك. رابعا ً: كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع: ومما يتعلق به الخطاب الشرعي الفعل والترك، وقد سبق الكلام عن الترك، أما الفعل فهو من حيث تعلق الخطاب الشرعي به على ضربين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 أحدهما: متعلق بمراد الشارع من حيث الحظر والإباحة، ومعرفة الحكم وعدمها، وهذا ما أصطلح عليه باسم: العبادات والمعاملات. الثاني: متعلق بفعل المكلف وهو على ثلاثة أقسام: قسم الاعتقاد، وقسم القول، وقسم الفعل ... وكل هذه الأضرب والأقسام تدخلها البدع وإليك البيان: 1- البدعة تكون في العبادات والمعاملات: أما دخول البدعة في العبادات فظاهر، وأما المعاملات وهي تشمل الشروط والعقود، والأمور الدنيوية العادية، فإنها لا تخلو من شائبة التعبد لله سبحانه. فما ألحق من أحكام شرعية بالأمور العادية بقصد القربة من الله تعالى وهو ليس كذلك في الشريعة فهو بدعة. مثال ذلك في المعاملات: جعل المكوس والضرائب قربة لله بإلحاق حكم الجواز أو الاستحباب أو الوجوب إليها، ومثاله في العادات جعل لباس معين، أو لون معين، أو طعام معين قربة لله تعالى، وهو ليس كذلك في الشرع، والفرق بين العبادات والمعاملات، أن العبادات الأصل فيها المنع، حتى يقوم دليل ٌ على الأمر بعكس المعاملات إذ الأصل فيها الإباحة حتى يقوم دليل ٌ على التحريم. قال ابن القيم رحمه الله: (والفرق بينهما أن الله سبحانه لا يعبد إلا بما شرعه على ألسنة رسله، فإن العبادة حقه على عباده، وحقه الذي أحقه هو ورضي به وشرعه. وأما العقود والشروط والمعاملات فهي عفو ٌ، حتى يحرمها، ولهذا نعى الله سبحانه وتعالى على المشركين مخالفة هذين الأصلين، وهو تحريم ما لم يحرمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 والتقرب إليه بما لم يشرعه ... ) . فإذا كان هذا هو حال المعاملات في الشرع فكيف تدخلها البدع؟ ... وللإجابة على هذا لا بد من إنعام النظر في أمور: 1- المعنى العام الواسع للعبادة، يشمل المعاملات والعقود والعادات، كما مر معنا في شروط العمل المقبول ... وقال النووي رحمه الله في شرحه لحديث: (وفي بضع أحدكم صدقة) ، (وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنيات الصادقات) وقال الغزالي: (وما من شيء ٍ المباحات إلا ويحتمل نية أو نيات يصير بها من محاسن القربات) . 2- وردت نصوص شرعية تدل على اعتبار المعنى العبادي في المعاملات والعادات في الكسب والإنفاق، والإطعام والنكاح، ورد السلام واللباس والغرس، والبشاشة ومعاونة الضعيف، والإحسان إلى الحيوان، والنوم وغير ذلك، وهو كثير. 3- قال شيخ الإسلام: (الأصل الثاني: أن نعبده بما شرع على ألسنة رسله ولا نعبده إلا بواجب ٍ أو مستحب ٍ، والمباح إذا قصد به الطاعة دخل في ذلك) . وقال: (لذات الدنيا ونعيمها إنما هي متاع ووسيلة إلى لذات الآخرة، وكذلك خلقت فكل لذة ٍ أعانت على لذات الآخرة، فهو مما أمر الله به ورسوله، ويثاب على ما يقصد بها وجهه ... ) . 4- (الأمور المشروعة تارة ً تكون عبادية، وتارة عادية، فكلاهما مشروع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 من قبل الشارع، فكما تقع المخالفة بالابتداع في أحدهما تقع في الآخر) . 5- أفعال المكلفين إما أن تكون من قبيل التعبدات، وإما من قبيل العادات.. وقد ثبت في الأصول الشرعية، أنه لا بد في كل عادي ٍ من شائبة التعبد، لكونه مقيدا ً بأوامر الشرع، إلزاما ً أو تخييرا ً أو إباحة. وبعد، فإن البدع لا تدخل في الأمور العادية إلا من الوجه العبادي فيها، فإذا ألحق المكلف حكما ً شرعيا ً بعمل ٍ عادي ٍ وقصد به القربة وهو في حقيقته ليس كذلك فقد ابتدع. قال الحافظ ابن رجب: (فمن تقرب إلى الله بعمل ٍ لم يجعله اله ورسوله قربة إلى الله، فعمله باطل مردود عليه - إلى أن قال - كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص، أو بكشف الرأس في غير الإحرام ... ) ويمكن توضيح هذه المعاني كلها بالأمثلة: ففي المعاملات: وضع المكوس على الناس حتى أصبح أمرا ً محتوما ً دائما ً، أو في أوقاتٍ محددة ٍ على كيفيات ٍ مضروبة ٍ بحيث تضاهي المشروع كالزكاة. ونكاح المحلل الذي يحتال به لإجازة ما هو حرام في الشرع، إذا اعتقد فاعلوه جواز ذلك، وحله في الشريعة، أما إذا لم يعتقدوا ذلك فيكون حراما ًومعصية لا بدعة. وإنكار ذي الخويصرة على النبي صلى الله عليه وسلم توزيع الغنائم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الأغنياء، إنما كان في باب المعاملات، ومع ذلك فقد عد النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضه هذا أصلا ً لبدع الخوارج، الذين أنكروا على علي ٍ رضي الله عنه فيما بعد قبول التحكيم، وترك سبي نساء المسلمين وصبيانهم وبدع الخوارج هذه تدخل في باب المعاملات دخولا ً أوليا ً. أما العادات: فقد سبق حديث أبي إسرائيل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، ونهي النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وسبق حديث الثلاثة الذين استقلوا عبادة النبي صلى الله عليه وسلم. وقد نص شيخ الإسلام على أن التقيد بلباس ٍ معين ٍ أو قول ٍ معين ٍ، أو عادة ٍ معينة بحيث يجعل ذلك لازما ً مستحباً، وهو في الأصل مباح ٌ أن ذلك يعد بدعة. قال رحمه الله عن لبس الصوف: ( ... اتخاذ لبس الصوف عبادة ً وطريقاً إلى الله بدعة ٌ) ، وأشياء من هذا القبيل سيأتي شرحها وبسطها في الفصل الرابع من الباب الثاني بعون الله. 2- البدعة تكون في العقائد والأقوال والأعمال: وهذه متعلقات فعل المكلف بالخطاب الشرعي، وسواءٌ قلنا إن الترك فعل ٌ أو نفي الفعل، أو إنه وجودي ٌ أو غير وجودي، فإنه يدخل معنا هنا من حيث إن الابتداع يقع في الاعتقاد والأقوال والأعمال، من جهة ترك المشروع كما يقع من جهة عمل غير المشروع. ينضاف إلى ذلك ما سلف ذكره، من أن الأمر لا يعد بدعة إلا إذا قصد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 به التقرب، يستوي في ذلك الاعتقاد والقول والعمل. وإنما نصصنا على دخول البدعة في كل هذه الأقسام، لأن البعض قد توهموا أن البدع إنما تكون في قواعد العقائد وأصولها، وما هو منصوص عليه من البدع فقط. والصحيح أن البدعة تدخل في العقائد وفي غيرها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة ٍ بدعة ٌ وكل بدعة ٍ ضلالة ٌ)) . وقوله صلى الله عليه وسلم: ((من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد ٌ)) ، وقد جاء عن الصحابة والتابعين وسائر علماء الدين تسمية الأقوال والأفعال المحدثة بدعة وأمثلة البدع في الاعتقاد ما يلي: بدع المرجئة والخوارج، والأشاعرة والمعتزلة، والرافضة. وأمثلة البدع في الأقوال: الجهر بالنية في الصلاة، واتخاذ الأسماء المفردة لله سبحانه للذكر، أو اتخاذ لفظ (هو) للذكر، كما تفعل الصوفية، وغير ذلك من الأمور المحدثة. وأمثلة البدع في الأعمال: لبس الصوف عبادةً، ومؤاخاة المردان والنساء تديناً، وعمل المولد، وصلاة الرغائب، ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خامساً: البدعة هي ما ليس له أصل في الدين: أعمال الخلق سواء كانت عبادات أو عادات، عقائد أو أقوال أو أفعال لها أصول في الدين لا تصح مخالفتها. ولأجل ذلك كان أصل الضلالات في العبادات والمعاملات، اتخاذ دين لم يشرعه الله، أو تحريم ما لم يحرم الله. وذلك بمخالفة الأصلين العظيمين اللذين لا صحة للعبادة ولا قبول إلا بهما، وهما: 1- العبادة لله وحدة. 2- العبادة له بما شرعة. والمبتدع حقيقة يعبد هواه ورأيه وذوقه، وإن كان قصده ببدعته عبادة الله؛ لأنه سلك لهذه العبادة طريقاً لم يشرعها الله، (وإذا كانت جميع الحسنات لا بد فيها من شيئين: أن يراد بها وجه الله، وأن تكون موافقة للشريعة، فهذا في الأقوال والأفعال ... في الأمور العلمية والأمور العبادية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 فإن المبتدع وإن تعبد ببدعته، وقصد بها وجه الله، فإنه متعبد على غير أصل، مبتدع ما لم يشرعه الله ورسوله. قال الحافظ ابن حجر: (والمحدثات ... جمع محدثة، والمراد بها ما أحدث وليس له أصل في الشرع، ويسمى في عرف الشرع بدعة) ، وقال عند شرحه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، فإن معناه: من اخترع في الدين ما لا يشهد له أصل من أصوله، فلا يلتفت إليه) . وفي عمدة القارئ: (قوله (محدثاتها) جمع محدثة، والمراد به ما أحدث وليس له أصل في الشرع - إلى أن قال - وما كان له أصل يدل عليه الشرع فليس ببدعة) . قال ابن رجب: (والمراد بالبدعة: ما أحدث مما لا أصل له في الشريعة يدل عليه أما ما كان له أصل من الشرع يدل عليه فليس ببدعة شرعاً وإن كان بدعة لغة) . المراد بالأصل: يرد عند تعريف البدعة قول بعض العلماء عنها: إنها ما لا أصل له من الدين، ويراد بالأصل هنا الدليل، فما لا دليل عليه فهو بدعة، والدليل الذي يعتمد عليه في ثبوت العبادة، والذي لا يصح مع ثبوته وصف العمل بالبدعية ما يلي: 1- كتاب الله - سبحانه وتعالى -. 2- سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الثابتة بالأسانيد الصحيحة عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 طريق التواتر أو الآحاد في العبادات أو العقائد أو غيرها، والسنة ما كان فعلاً له - صلى الله عليه وسلم - أو قولاً أو تقريراً، ولم يكن على سبيل الخصوص، ولم يكن من الأفعال الجبلية أو من الأفعال التي عملها بحكم الاتفاق، كنزوله للصلاة في مكان ما لكونه صادف وقت الصلاة. 3- الإجماع وهو (اتفاق مجتهدي هذه الأمة بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - على حكم شرعي) ، أي على أمر من الأمور سواء كان فعلاً أو تركاًَ، وفيه أحكام: 1) إجماع الأمة حق فلا تجتمع الأمة على ضلال. 2) إجماع الأمة حجة قطعية، إذا كان الإجماع قطعياً، وظنية إذا كان الإجماع ظنياًَ. 3) إذا ثبت إجماع الأمة على حكم من الأحكام، لم يكن لأحد أن يخرج على هذا الإجماع. 4) الإجماع السكوتي حجة، ويشترط في الإحتجاج به انتفاء موانع الإنكار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 5) لا يمكن أن يقع الإجماع خلاف دليل صحيح صريح وغير منسوخ. 6) لا توجد مسألة مجمع عليها إلا وفيها بيان من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولكن قد يخفى ذلك على بعض الناس، ويعلم الإجماع فيستدل به، وقد علم باستقراء موارد الإجماع أنها كلها منصوص عليها. 7) لا إجماع مع ثبوت الخلاف. 8) الإجماع الذي ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح، إذ يعدهم كثر الإختلاف وانتشر في الأمة. ومن أدلة الإجماع ما رواه ابن أبي عاصم بسند حسن، عن كعب بن عاصم الأشعري وأنس بن مالك عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إن الله تعالى قد أجار أمتي من أن تجتمع على ضلالة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 وفيه عن عمر قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ". وفيه عن أبي مسعود موقوفاً قال: (عليكم بالجماعة فإن الله لا يجمع أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - على ضلالة) . وهذه الأصول الثلاثة: الكتاب، والسنة، والإجماع هي عمدة أهل السنة والجماعة في معرفة الأحكام جميعها أصولها وفروعها، ( ... وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس، من أقوال وأعمال، باطنة وظاهرة، مما له تعلق بالدين ... ) . ومن أجل ذلك عرفت البدعة بأنها: ( ... ما خالفت الكتاب والسنة أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 إجماع سلف الأمة من الاعتقادات والعبادات ... ) . 4- قول الصحابي وفعله: ومحل الكلام هنا محصور فيما قاله الصحابي أو فعله، ولم يعارض كتاباً ولا سنة صحيحة، وله حالتان: الحالة الأولى: أن يكون لا مجال للرأي فيه بأن كان أمراً تعبدياً لا يمكن تعليله وحكمه حكم المرفوع إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ذكر ابن حجر محترزات لقول الصحابي الذي لا مجال للاجتهاد فيه، ثم ذكر بعض الأمثلة عليه فقال: (ومثال المروفع من القول حكماً لا تصريحاً، أن يقول الصحابي الذي لم يأخذ عن الإسرائيليات ما لا مجال للإجتهاد فيه، ولا له تعلق ببيان لغة أو شرح غريب، كالإخبار عن الأامور الماضية من بدء الخلق وأخبار الأنبياء، أو الآتية كالملاحم والفتن وأحوال يوم القيامة، وكذا الإخبار عما يحصل بفعله ثواب مخصوص، أو عقاب مخصوص، وإنما كان له حكم المرفوع؛ لأن إخباره بذلك يقتضي مخبراً له وما لا مجال للاجتهاد فيه يقتضي موقفاًَ للقائل به، ولا موقف للصحابة إلا النبي - صلى الله عليه وسلم - أو بعض من يخبر عن الكتب القديمة ولهذا وقع الإحتراز عن القسم الثاني، وإذا كان كذلك فله حكم ما لو قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مرفوع سواء كان ما سمعه منه أو عنه بواسطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 ومثال المرفوع من الفعل حكماً، أن يفعل الصحابي ما لا مجال للاجتهاد فيه، فينزل على أن ذلك عنده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ... ) ، وهناك أنواع من المرفوع حكما ً نذكرها وإن كانت محل اختلاف، إلا أن الراجح عند العلماء إلحاقه بالمرفوع، ومن هذه الأنواع: 1- قول الصحابي من السنة كذا: وينصرف المراد إلى سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الصحابي عدل عارف باللسان والشرع، والسنة في عرفهم تطلق على ما سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحة عن سالم بن عبد الله بن عمر عن أبيه في قصته مع الحجاج حين قال له: (إن كنت تريد السنة فاقصر الخطبة وعجل الوقوف) ، وهكذا كان فعله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع. 2- قول الصحابي أمرنا بكذا أو نهينا عن كذا: وهذا اللفظ المطلق ينصرف في ظاهره إلى من له الأمر والنهي وهو النبي - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 صلى الله عليه وسلم - وانصرافه إلى آمر غيره - صلى الله عليه وسلم - احتمال مرجوح، يحتاج إلى دليل، ولا يتصور من الصحابة رضوان الله عليهم إطلاق مثل ذلك على غير النبي - صلى الله عليه وسلم - كعادة من كان في طاعته أمير أو قائد فإنه إذا قال أمرت بكذا، فإن المتبادر أن الذي أمره قائده أو أميره، والصحابة صحاح العقول، فصاح الألسن، لا يشتبه مثل ذلك عليهم، فغن كان هناك قرينة تدل على الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه ينصرف إليه ولا يكون مرفوعاً. 3- قول الصحابي كنا نفعل كذا وكنا نقول كذا: وهو على قسمين: أ - ما كان مضاف إلى زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كقوله كنا لا نرى بأساً بكذا في حياة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو وهو فينا، أو فعلنا كذا وهو بين أظهرنا، أو كانوا يقولون أو يفعلون كذا وكذا في حياته - صلى الله عليه وسلم - ... فهذا حكمه حكم المرفوع. ب - ما لم يكن مضافاً إلى زمنه أو حياته - صلى الله عليه وسلم - ففيه خلاف في كونه آخذاً حكم المرفوع. وقد رجح الحافظ ابن حجر أنه في حكم المرفوع وكذا قال به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 الحاكم، والرازي، والآمدي. 4- أن يحكم الصحابي على فعل من الأفعال بأنه طاعة لله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أو معصية: فهذا له حكم الرفع؛ لأنه معرفة كون هذا الأمر طاعة أو معصية لا يتأتى من قبيل الاجتهاد. مثال ذلك قول عمار رضي الله عنه: (من صام اليوم يشك فيه فقد عصى أبا القاسم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 فالظاهر من هذا ومثله أنه مما تلقاه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. 5- إذا قال الصحابي قولاً يخالف القياس: فحكمه حكم المرفوع على أحد قولي العلماء؛ لأن مخالفته للقياس يدل على أنه توقيف عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول الحنفية وجمهور الحنابلة، وقد نص الإمام أحمد على حجيته في مواضع وهو قول الشافعي في القديم والجديد. وأمثلة ذلك ما أورده أبو الخطاب الحنبلي في التمهيد: قول عمر رضي الله عنه فيمن فقأ عين نفسه على عاقلته دين العين. وقول ابن عباس رضي الله عنهما: فيمن نذر ذبح ولده يذبح شاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 الحالة الثانية: أن يقول الصحابي قولاً يمكن تعليله بعلة معقولة، وهو ما كان للرأي فيه مجال: وهو على نوعين: 1- النوع الأول: فتوى مستندة إلى نص صريح، أو ظاهر من الكتاب أو السنة، مثال ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه عن عطاء عن ابن عباس أنه كان يرى الجد أباً، ويتأول هذه الآية: [واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق] ، فان ينزل الجد منزلة الأب في الميراث عند فقد الأب، وهذا أمر مدرك بالرأي. 2- النوع الثاني: فتوى اجتهادية مستندة إلى حكم ثبت عن طريق القياس أو المصلحة أو سد الذرائع. ومثال ذلك ما رواه عبد الرزاق في مصنفه أن عمر رضي الله عنه كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 يشك في قود القتيل الذي اشترك في قتله جماعة، فقال له علي رضي الله عنه: (يا أمير المؤمنين أرأيت أن نفراً اشتركوا في سرقة جزور فأخذ هذا عضواً وهذا عضواً أكنت قاطعهم؟ قال: نعم، فقال: فكذلك) . فقد قاس القتل على السرقة بجامع أن كلاً منهما اعتداء على محرم شرعاً وهذا أمر مدرك بالرأي. وهناك أمثلة للمصلحة ولسد الذرائع كلها من باب المدرك بالعقل، وقول الصحابي، وفعله، وفتواه، ومذهبه، وقضاؤه، ينقسم من حيث انتشاره وشيوعه، ووقع الخلاف في بينهم إلى أقسام: القسم الأول: إذا شاع القول أو الفعل بين الصحابة، ولم ينقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 خلاف فيه بينهم فهذا إجماع سكوتي يشترط في الاحتجاج به انتفاء موانع الإنكار. القسم الثاني: إذا قال الصحابي قولاً في مسألة تعم بها البلوى، ولم ينقل فيها خلاف أحد من الصحابة فهو بمنزلة الإجماع السكوتي؛ لأن المسالة إذا كانت مما تعم بها البلوى تستلزم انتشار القول واشتهاره. القسم الثالث: إذغ صدر عن الصحابي قول أو فعل ولم ينتشر بين الصحابة ولم ينقل خلاف فيه بينهم، وهذا محل نزاع بين العلماء في حجيته على غير الصحابي، أما على الصحابي فقد حكى الآمدي الإجماع على كونه غير حجة عليه وسيأتي الحديث عن حجيته قول الصحابي والأدلة. القسم الرابع: إذا اختلف الصحابة في مسألة، فإنه يسلك سبيل الترجيح بين أقوالهم، وقد ذكر العلماء مسالك الترجيح بين أقوالهم بتفصيل ليس هذا مكانه. حجية قول الصحابي: تنوعت مذاهب العلماء في هذه المسألة وانقسمت إلى خمسة مذاهب مشهورة: المذهب الأول: قول الصحابي حجة يجب العمل به ... وقد نسب هذا القول إلى مالك والشافعي في القديم، وأحمد في رواية عنه، وعليه أكثر الأصوليين والفقهاء من الحنفية، وابن عقيل من الحنابلة، والعلائي والخطيب البغدادي من الشافعية. واختاره ابن القيم في إعلام الموقعين، والشاطبي في الموافقات وابن تيمية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 المذهب الثاني: أنه ليس بحجة مطلقاً: وقد نسب إلى الشافعي في الجديد - وليس بصحيح كما سنوضح - وأحمد في رواية، ومذهب جمهور الشافعية، منهم الغزالي والآمدي وبه قالت المعتزلة وهو مذهب ابن حزم. المذهب الثالث: أنه حجة إن كان مما لا مجال للرأي فيه فقط، وهو قول جماعة من الأحناف. المذهب الرابع: قول أبي بكر وعمر رضي الله عنهما حجة دون غيرهما. المذهب الخامس: قول الخلفاء الأربعة أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم حجة دون غيرهم. والراجح والله أعلم هو القول الأول ... وأدلة الترجيح التي سوف أذكرها هنا بإيجاز ترد قول من قال أنه ليس بحجة مطلقاً، وقول من خصص الحجية بما لا مجال للرأي فيه وقول من خصص الحجية بقول الخلفاء الراشدين، أو بقول الشيخين وابن مسعود وغيرهم، من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الصحابة الذين وصفوا بالعلم والفتيا والقضاء. فأما التخصيص بما لا مجال للرأي فيه، فقد سبق معنا أنه في حكم المرفوع وهذه ميزة لهذا النوع من أقوال الصحابة، لا تقتضي نفي الحجية عن ما سواه، لاسيما وأن الأدلة من النقل والعقل تدل على عدم التخصيص. وكذلك التخصيص ببعض الصحابة الذين وردت الأحاديث بفضلهم وعلمهم وتميزهم، لا يقتضي إلغاء الحجية عن غيرهم، وأقصى ما يمكن قوله في هذا أن من وردت الأحاديث بتخصيصهم، فإن له مزية في زيادة العلم والفهم الذي يشاركهم فيه غيرهم، وأن قولهم عند الترجيح بين الأقوال مقدم على ما سواهم من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين. أما الأدلة التي يستدل بها الذين يقولون بأن قول الصحابي حجة، يجب العمل به، فهي من الكتاب والسنة والأثر والنظر: فمن الكتاب: قوله تعالى: [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين اتبعوهم بإحسان رضي لله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم] . روى الحافظ ابن جرير في تفسيره لهذه الآية بسنده، عن محمد بن كعب القرضي قال: (مر عمر بن الخطاب برجل يقرأ [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار] حتى بلغ [ورضوا عنه] ، قال: وأخذ عمر بيده فقال: من أقرأك هذا؟ ، قال: أبي بن كعب، قال: لا تفارقني حتى أذهب بك إليه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 فلما جاءه قال عمر: أنت أقرأت هذا هذه الآية هكذا.. قال: نعم. قال: أنت سمعتها من رسول - صلى الله عليه وسلم -؟ قال: نعم. قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعه لا يبلغها أحد بعدنا، فقال أبي: بلى تصديق هذه الآية في أول سورة الجمعة [وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم] . وفي سورة الحشر: [والذين جاءو من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان] . وفي الأنفال: [والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله إن الله بكل شيء عليم] . وسبب سؤال عمر أنه كان يقرأ هذه الآية برفع الأنصار، وبعدم إلحاق الواو في الذين كما أورد ذلك ابن جرير، ثم لما تبين له من أبي بن كعب الخفض وإلحاق الواو قال: لقد كنت أظن أنا رفعنا رفعة لا يبلغها أحمد بعدنا، يقصد المهاجرين وهذا القول منه رضي الله عنه يؤيد ما ذهب إليه أصحاب القول الأول القائلين بحجية أقوال الصحابة من غير تخصيص لبعضهم، إذا اشترك الجميع في وصف الثناء عليهم بكونهم سبقوا في كل علم وفضل وجهاد وعمل، وهذه الآية احتج بها ابن القيم وجعلها من الأدلة الدالة على وجوب اتباع الصحابة) . وحكى احتجاج الإمام مالك بها في هذا المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وذكر أن الآية تتضمن مدح الصحابة والثناء عليهم، واستحقاقهم أن يكونوا أئمة متبوعين يقتدى بهم، وتؤخذ أقوالهم وأنها اقتضت المدح لمن اتبعهم كلهم، أو اتبع كل واحد منهم ما لم يخالف نصاً. ومن الأدلة قوله تعالى: [كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله] ، روى ابن جرير بسنده عند تفسيره لهذه الآية عن الضحاك قال: (هم أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خاصة) . قال ابن جرير بعد إيراده لهذا الأثر مبيناً معناه: (يعني: وكانوا هم الرواة الدعاة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم) . قال ابن القيم في استشهاده بهذه الآية على وجوب اتباع الصحابة واعتبار الحجية في أقوالهم: (شهد لهم الله تعالى بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، فلو كانت الحادثة في زمانهم لم يفت فيها إلا من أخطأ منهم، ولم يكن أحد منهم قد أمر فيها بمعروف، ولا نهى فيها عن منكر، إذ الصواب معروف بلا شك، والخطأ منكر من بعض الوجوه إلى أن قال وإذا كان هذا باطلاً علم أن خطأ من يعلم منهم في العم إذا لم يخالفه غيره ممتنع، وذلك يقتضي أن قوله حجة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 واستشهد بالآية الشاطبي حين قرر أن: (سنة الصحابة رضي الله عنهم سنة يعمل عليها ويرجع إليها) ، فقال في الآية: (إثبات الأفضلية على سائر الأمم، وذلك يقتضي باستقامتهم في كل حال وجريان أحوالهم على الموافقة دون المخالفة) . وقد أفاض الإمام ابن قيم الجوزية في الاستدلال على حجية قول الصحابة بالآيات الكريمة ووجه استدلاله فأجاد وأفاد. أما الأدلة من السنة فهي كثيرة منها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " خير الناس القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث "، فإخباره - صلى الله عليه وسلم - بذلك يقتضي تقديمهم في كل باب من أبواب الخير، ولا سيما في ظفرهم بالصواب. فهم (أفضل من غيرهم في كل فضيلة، من علم وعمل وإيمان وعقل ودين وبيان وعبادة، وأنهم أولى بالبيان لكل مشكل، هذا لا يدفعه إلا من كابر المعلوم من الدين بالضرورة من دين الإسلام ... ) . ومن أدلة السنة - صلى الله عليه وسلم -: " النجوم أمنة للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماء ما توعد، وأنا أمنة لأصحابي فإذا ذهبت أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنة لأمتي فإذا ذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 أصحابي أتى أمتي ما يوعدون ". وتشبيه الصحابة بالنجوم يفيد وجوب الاهتداء بهم، نظير اهتدائهم بنبيهم محمد - صلى الله عليه وسلم - ونظير اهتداء أهل الأرض بالنجوم، وجعل بقائهم بين الأمة أمنة لهم وحرزا من الشر وأسبابه. قال النووي في شرحه لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " أتى أمتي ما يوعدون "، معناه من ظهور البدع والحوادث في الدين والفتن ... ومن أدلة السنة قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً، ما بلغ بد أحدهم ولا نصيفه ". فإذا كان هذا قدرهم فكيف يجوز أن يحرمهم الله الصواب، ويظفر به من بعدهم، لا سيما وهم خيرة خلق الله، كما جاء بذلك الحديث عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " إن الله اختار أصحابي على الثقلين سوى النبيين والمرسلين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ومن الأدلة قوله - صلى الله عليه وسلم -: " أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم يفشو الكذب حتى يحلف الرجل ولا يستحلف - إلى أن قال - صلى الله عليه وسلم - عليكم بالجماعة وإياكم والفرقة فإن الشيطان مع الواحد وهو الاثنين أبعد، من أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ... " الحديث. وهذا صريح فيما نحن بصدد الحديث عنه، إذ قرن النبي - صلى الله عليه وسلم - بين الوصية بأصحابه وإخباره بفشو الكذب، ووقوع الفرقة التي هي سيماء أهل البدع، ثم يذكر الجماعة التي هي أبرز أوصاف الفرقة الناجية مم ايدل دلالة واضحة على أن الوصية بأصحابه، تعني الأخذ عنهم، والتلقي منهم، وهذه شهادة تزكية من الصادق - صلى الله عليه وسلم - ومما يدل على هذا المعنى بصورة أكثر جلاءً حديث الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " ليأتين على أمتي ما أتى على بني إسرائيل حذو النعل بالنعل ... وإن بني إسرائيل تفرقت على ثنتين وسبعين ملة، وتفترق أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا ملة واحدة، ما أنا عليه وأصحابي ". وأصحابه - صلى الله عليه وسلم - هم حواريوه الذين أخذوا سنته، ونصروا دينه واقتدوا بدينه، واتبعوا كل ما جاء به، ونقلوا الدين على من بعدهم، كما جاء في الحديث عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " ما نبي بعثه الله عز وجل إلا كان له في أمته حواريون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره "، وقد استشهد البيهقي بهذا الحديث على أفضليتهم ومنزلتهم العالية في كل علم وعمل وقصد كيف لا وقد شهد بذلك - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أكرموا أصحابي فإنهم خياركم ". أما الأدلة من الآثار فمنها: ما روى عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما أنه قال: (يامعشر القراء خذوا طريق من كان قبلكم، فوالله لئن استقمتم لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن تركتموه يميناً وشمالاً لقد ضللتم ضلالاً بعيداً) . وعنه رضي الله عنه قال: (اتبعوا سبلنا، ولئن اتبعتمونا لقد سبقتم سبقاً بعيداً، ولئن خالفتمونا لقد ضللتم ضلالاً بعيداً) . روى الخطيب بسنده عن عامر الشعبي أنه قال: (ما حدثوك عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - فخذه..) . وروى ابن وضاح بسنده: (أن عبد الله بن مسعود مر برجل يقص في المسجد على أصحابه وهو يقول: سبحوا عشراً، وهللو عشراً، فقال عبد الله: إنكم لأهدى من أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أو أضل بل هذه بل هذه يعني أضل) . ومما يدل على فضل أي واحد من الصحابة كثر لقاؤه للنبي - صلى الله عليه وسلم - أو قل، ما ذكره الحافظ ابن حجر في مقدمة الإصابة أنه قرأ في كتاب أخبار الخوارج لمحمد بن قدمة المروزي خبراً نقله بسنده، وقال فيه بعد نقله له: ورجال هذا الحديث ثقات، ونصه (عن نبيح العنزي، عن أبي سعيد الخدري قال: كنا عنده وهو متكئ فذكرنا علياً ومعاوية، فتناول رجل معاوية فاستوى أبو سعيد الخدري جالساً ثم قال: كنا ننزل رفاقاً مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكنا في رفقة أبو بكر، فنزلنا على أهل أبيات وفيهم امرأة حبلى، ومعنا رجل من أهل البادية، فقال: للمرأة الحامل: أيسرك أن تلدي غلاماً؟ ، قالت: نعم، قال: إن أعطيتني شاة ولدت غلاماً، فأعطته فسجع لها أسجاعاً، ثم عمد إلى الشاة فذبحها وطبخها وجلسنا نأكل منها، ومعنا أبو بكر، فلما علم بالقصة قام فتقيأ كل شيء أكل، قال: ثم رأيت ذلك البدوي أتى به عمر بن الخطاب وقد هجا الأنصار، فقال: لهم عمر: لولا أنه له صحبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما أدري ما نال فيها لكفيتكموه، ولكن له صحبه من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 ذكر ذلك ابن حجر في سياق ذكر عدالة الصحابة جميعاً والرد على من نفى ذلك، قال ابن حجر بعده: (وفي ذلك أبين شاهد على أنهم كانوا يعتقدون أن شأن الصحبة لا يعدله شأن) . فإذا كان هذا فضل صحابي لعله لم ير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا قليلاً، فكيف بفضل غيره، وهذا الفضل مستتبع للعدالة التي تقتضي كون أقوالهم وأفعالهم حجة؛ لأنهم كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلب محمد - صلى الله عليه وسلم - خير قلوب الناس، فاختار محمداً - صلى الله عليه وسلم - فبعثه برسالته، وانتخبه بعلمه، ثم نظر في قلوب الناس بعده فاختار له أصحابه، فجعلهم أنصار دينه، ووزراء نبيه، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوه قبيحاً فهو عند الله قبيح. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يفهمون معنى كون أقوالهم وأفعالهم التي لا تخالف نصاً سنة يقتدى بها، ودليل ذلك ما رواه عبد الرزاق بسنده (أن عمر أصابته جنابة وهو في سفر، فلما أصبح قال: أترون ندرك الماء قبل طلوع الشمس، قالوا: نعم، فأسرع السير حتى أدرك فاغتسل، وجعل يغسل ما رأى من الجنابة في ثوبه، فقال: عمرو بن العاص: لو لبست ثوباً غير هذا وصليت، فقال له عمر: إن وجدت ثوباً وجده كل إنسان؟ إني لو فعلت لكانت سنة، ولكني أغسل ما رأيت وأنضح ما لم أره) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 من أسباب الوقوع في الابتداع 2- الجهل بمقاصد الشريعة: فإن الدين قد كمل، ولم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وقد وضح كل شيء ٍ بشهادة الله سبحانه وتعالى بذلك، حيث قال سبحانه: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ً) ، فأما النوازل الحادثة والوقائع المتجددة، فإنها تنضوي تحت كليات الشرع وقواعده (فلم يبق للدين قاعدة يُحتاج إليها في الضروريات والحاجيات، أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان ... ) . والنوازل والجزئيات التي تستجد تدخل تحت هذه القواعد، وينظر في كل نازلة بمنظار الشرع، فإنه ولا بد أن يكون لها حكما ً بالقبول أو الرد، سواءً كان ذلك في مجال العبادات أو في المعاملات، ومن كليات هذا الدين وقواعده الأساسية التي تنظم كل الجزئيات الحادثة قوله صلى الله عليه وسلم: ( ... وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ... ) . وهذه القاعدة الشرعية تصوغ لنا مقاصد شرعية أغفلها المبتدعة فضلوا وأضلوا، منها: 1- النظر إلى الشرع بعين الكمال لا بعين النقص: بحيث لا تخرج عنه البتة، ولا يتقدم بين يدي الله ورسوله بشيءٍ يخترعه، فإن الزائد في الشريعة والمنقص منها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 هو المبتدع المنحرف عن الجادة إلى بنياَّت الطريق. وعندما أغفل المبتدعة هذا المقصد الشرعي، استدركوا بأقوالهم وأفعالهم على الشرع الكريم فاتهموه - بواقع حالهم أو بمقالهم - بالنقص. 2- الإيقان بأنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، وبين أحدها مع الآخر: بل الجميع جار ٍ في مسار ٍ واحد، ومنتظم في نظام واحد. ولما ترك المبتدعة هذا اليقين في النظر إلى الشريعة، تخبطوا واختلفوا فأعرضوا عن بعض الشرع، وضربوا كتاب الله بعضه ببعض. ومثال ذلك: ما رواه البخاري في صحيحه معلقا ً عن المنهال عن سعيد، قال: قال رجل ٌ: (إني لأجد في القرآن أشياء تختلف علي، فقال: (فلا أنساب بينهم يومئذ ٍ ولا يتساءلون) (وأقبل بعضهم على بعضٍ يتساءلون) (ولا يكتمون الله حديثا ً) (ربنا ما كنا مشركين) فقد كتموا هذه الآية، وقال: (أم السماء بناها) إلى قوله (دحاها) ، فذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 خلق السماء قبل خلق الأرض، ثم قال: (أئنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين) إلى (طائعين) ، فذكر في هذه خلق الأرض قبل السماء، وقال تعالى: (وكان الله غفورا ً رحيما ً) (عزيزا ً) (حكيما ً) (سميعاً) (بصيرا ً) ، فكأنه كان ثم مضى، فقال: (لا أنساب بينهم) في النفخة الأولى (ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله) . فلا أنساب بينهم عند ذلك ولا يتساءلون، ثم في النفخة الأخرى أقبل بعضهم على بعض ٍ يتساءلون. وأما قوله (ما كنا مشركين) (ولا يكتمون الله) ، فإن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، وقال المشركون تعالوا نقول لم نكن مشركين، فختم على أفواههم فتنطق أيديهم، فعند ذلك عرف أن الله لا يكتم حديثا ً، وعنده (يود الذين كفروا) الآية. وخلق الأرض في يومين، ثم خلق السماء، ثم استوى إلى السماء فسوان في يومين آخرين، ثم دحا الأرض، ودحوها أن أخرج منها الماء والمرعى، وخلق الجبال والجمال والآكام وما بينهما في يومين آخرين، فذلك قوله: (دحاها) ، وقوله: (خلق الأرض في يومين) فجعلت الأرض وما فيها من شيء ٍ في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 أربعة أيام، وخلقت السماء في يومين. (وكان الله غفورا ً) سمى نفسه بذلك، وذلك قوله، أي لم يزل كذلك، فإن الله لم يرد شيئا ً إلا أصاب به الذي أراد، فلا يختلفنَّ عليك القرآن، فإن كلا ً من عند الله) . 3- الإيقان بأن لا تعارض بين العقل الصريح والنص الصحيح مطلقا ً: فلما تخلف هذا الإيقان عند بعض المبتدعة، وضعوا ما أسموه بالقانون الكلي للتوفيق بين العلق والنقل أو قانون التأويل. فقالوا: إذا ما تعارضا فإما أن يجمع بينهما وهذا محال؛ لأنه جمعٌ بين النقيضين، وإما أن يردا جميعا ً، وإما أن يقدم السمع وهو محال؛ لأن العقل أصل النقل، فلو قدمناه عليه كان ذلك قدحاً في العقل الذي هو أصل النقل، والقدح في أصل الشيء قدح ٌ فيه، فيجب تقديم العقل، ثم النقل إما أن يتأول وإما أن يفوض وقد بنى أصحاب هذا القانون بدعاً كلامية، قادت إلى بدع ٍ في العمل والاعتقاد، مع أن القاعدة الصحيحة في هذا والتي هي من مقاصد الشريعة الإسلامية: أن العقل والنقل إذا كانا قطعيين، فلا يجوز تعارضهما؛ لأن الدليل القطعي هو الذي يجب ثبوت مدلوله. فإن كان أحد المدلولين المتعارضين قطعيا ً دون الآخر، فإنه يجب تقديم القطعي على الظني، سواءً كان هو السمعي أو العقلي وأما إن كانا جميعاً ظنيين فإنه يصار إلى طلب ترجيح أحدهما، فأيهما ترجَّحَ كان هو المقدم سواء ً كان سمعيا ً أو عقليا ً وهذا هو قانون درء تعارض العقل والنقل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 فمن لم يفقه مقاصد الشريعة الإسلامية، فهمها على غير وجهها أو حرفها عن مقصدها أو عطل بعضها، أو تقدم عليها بالإحداث والابتداع. ومن أجل ذلك فرق - سبحانه - بين الذين يتبعون المتشابه والذين رسخوا في العلم، وجاء وصف النبي صلى الله عليه وسلم للخوارج بأنهم يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم، وفي هذا إشارة إلى قلة العلم بالدين، وندرة الفقه فيه عند هؤلاء فمقامهم مقام ترديد الآيات بالحناجر، لا مقام التدبر والتأمل والفهم الذي هو مقام الراسخين في العلم، والعارفين بمقاصد الشرع المحافظين عليها. ومن أسباب الوقوع في الابتداع: 3- عدم التسليم للنصوص الشرعية والانقياد لها: والمتأمل في حال أهل البدع يجد أن هذا الوصف من أخص نعوتهم؛ ولذلك سماهم عمر بن الخطاب (أعداء السنن) ، وصحت فيهم أوصاف أهل السنة لهم بأنهم: أهل الأهواء وأهل الكلام، وأهل القياس الفاسد، وأهل الابتداع، وأصحاب الرأي المذموم ... وغير ذلك من الأوصاف التي تدل أول ما تدل على ترك هؤلاء للنصوص الشرعية وعدم الاعتماد عليها، وعدم الاعتصام بها، ويظهر ذلك من خلال هذه الملامح: أ. رد الأحاديث التي لا توافق بدعهم بالقدح في الرواة الثقات العدول، أو بنفي حجية خبر الآحاد، أو بتحريف الأدلة عن مواضعها وصرفها عن ظواهرها بتأويلات فاسدة، أو الاحتجاج بأن النصوص تفيد الظن وقواعدهم قطعية. ب. إتباع المتشابه من الأدلة وذلك بحمل النصوص المحكمة على المتشابهة، أو جعل المحكم من الأدلة متشابها ً، كما فعلت الجهمية في الصفات، أو جعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 ما ابتدعوه هو المحكم وما جاءت به الأنبياء هو المتشابه. جـ. معارضة النصوص الشرعية بالأهواء فالصوفي بالكشف والذوق، والمتكلم بالرأي والمنطق والنظر والقياس الفاسد.. أو بما يسمونه قواعد قطعية ذوقية كانت أو عقلية. د. الاستدلال ببعض النصوص دون النظر في غيرها فنافي الصفات مثلاً يستدل بنصوص نفي التماثل بين الله سبحانه وخلقه، ويترك نصوص الإثبات، والخارجي يستدل بنصوص الوعيد وحدها، والمرجئ بنصوص الوعد وحدها، والشيعي بالنصوص الواردة في فضل علي - رضي الله عنه - وحدها وهكذا ... . هـ الاعتماد على الحكايات والرؤى والقياسات والأحاديث الواهية والضعيفة مما يؤدي إلى ترك النصوص الصحيحة، والالتفات عنها إلى هذه الأغلوطات. وأمثلة هذا كثير ٌ عند الذين ضلوا في أبواب القصد والإرادة كالمتصوفة. ومن أسباب الوقوع في الابتداع: 4- إحداث قواعد ونظريات عقلية أو ذوقية أو سياسية يسير عليها المبتدع وينقاد لها: وهذا واضح في مسالك المتكلمة والمتفلسفة، إذ سموا ما وضعوه عقليات، وقطعيات وبراهين ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأطلقوا على أنفسهم أهل التحقيق والنظر والاستدلال والإيقان. وظاهر ٌ أيضا ً في مسالك المتصوفة والمتنسكة إذ سموا ما ابتدعوه: حقيقة ويقينا ً وسموا أنفسهم أهل الحقيقة وغيرهم أهل الشريعة، وفي مسالك المتملكة والمتأمرة إذ سموا طريقتهم بالسياسة الحسنة البديعة، ولو كانت في مخالفة الشريعة، ولهذا فإنك تجد أصناف المبتدعة يبتعدون عن الشرع، ويعتمدون على قواعدهم وأصولهم الضالة تاركين كتاب الله وسنة رسوله خلفهم ظهريا ً، وإن اعتمدوا على شيء ٍ منها فإنما هو للاستئناس ولتعضيد ما أصلوه. مع أن كل دليل ٍ عقليٍ يحتج به المبتدع فيه دليلٌ على بطلان قوله. ومن الأسباب: 5- اتباع العوائد والمشايخ: ويظهر هذا في بدع التشيع والتصوف بصورة جلية، مع أنه لا تكاد طائفة من طوائف المبتدعة تخلو من ذلك ... فعند الشيعة الإمامية: اعتقاد العصمة في أئمتهم، وكذلك عند الإسماعيلية وسائر فرق الباطنية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وعند الصوفية اعتقاد الولاية لفلان، وأنه أعظم من الأنبياء أو مساوٍ لهم إلا أنه لا يوحى إليه، ولا يحق للمريد أن يعترض أو يرفض أمر الشيخ، فإن ذلك نقص ٌ في الاتباع حتى قالوا: ليكن المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي الغاسل، وحتى عند أصحاب البدع الكلامية الذين يزعمون أن طريقتهم في الاعتقاد برهانية يقينية، يجعلون كلام أساتذتهم وقواعدهم الفلسفية من المسلمات التي لا يصح الاعتراض عليها، فضلاً عن نقضها، ولهذا فإنك تجد المتعزلي يقرر قاعدة بدعية ويستدل عليها بقوله - مثلا ً - وقد تقرر برهان هذه القاعدة في مسألة الحسن والقبح، وكذلك يفعل الأشعري، وعندما تعود إلى قاعدتهم تجدها من بدع مشايخهم أهل الكلام ... وأما اتباع العوائد فيظهر مثالها في الأيام المخصصة بنوع ٍ من العبادات المبتدعة، فيحتج المبتدع بأن هذا الفعل اعتاده الناس منذ كذا وكذا، وجرى العمل به في الأقطار، وتلقاه الناس جيلا ً فجيلا ً، وأمثال ذلك من الحجج الواهية. ومن أسباب الابتداع: 6- سوء الفهم للقرآن والسنة: وعدم معرفة أقوال السلف: أما سوء الفهم للقرآن فقد مرَّ قول جابر الجعفي - أحد أئمة الشيعة الإمامية - في قوله تعالى: ((فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي)) ، ومثل ذلك فهم بعض الصوفية لقوله تعالى: ((وعلمناه من لدنا علما ً)) ، وأن المراد به العلم اللدني الذي يؤتاه الولي، فيكون بمثابة الوحي المعصوم وبنوا على ذلك أن الولي أفضل من النبي أو في منزلة مساوية له. ومثال ذلك استدلال الخارجي على أن أهل الكبائر في النار يوم القيامة بقوله تعالى: ((فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فأولئك الذين خسروا أنفسهم بما كانوا بآياتنا يظلمون)) ، فقال: المراد في الآية أن من خفت موازينه فهو كافر، والمعلوم أن موازين أهل الكبائر قد خفت فيجب أن يكونوا كفرة. ومثل ذلك استدلاله بقوله تعالى: ((وهل نجازي إلا الكفور)) ، فقال الخارجي: لا شك بأن صاحب الكبيرة مجازى، فيجب أن يكون من الكفرة، فهذا هو حال المبتدعة مع نصوص الكتاب الكريم، أخْذُ بعضها وترك بعضها مع الفهم السقيم للآيات التي يستدلون بها، مع أنه من المقرر عند أهل السنة والحمد لله (أن كل آية ٍ يستدل بها مبتدع فيها دليلٌ على فساد قوله) . أما السنة فإن المبتدعة على قلة اعتمادهم على الصحيح منها، وكثرة أخذهم بالواهي والضعيف، فإنهم كثيرا ً ما يفهمون الأحاديث الثابتة على يغر وجهها، ويدفعون مقاصدها بالتحريفات والتأويلات الفاسدة، وقد مضى أمثلة هذا، ونوعه كثير جدا ً في كتب المبتدعة. أما عدم معرفتهم لكلام السلف فكما قال شيخ الإسلام في سياق كلامه عن تنازع المبتدعين في كلام الله سبحانه وتعالى: ( ... عامة هؤلاء المختلفين في الكتاب لم يعرفوا القول السديد قول السلف، بل ولا سمعوه ولا وجدوه في كتاب ٍ من الكتب التي يتداولونها؛ لأنهم لا يتداولون الآثار السلفية، ولا معاني الكتاب والسنة إلا بتحريف بعض المحرفين لها، ولهذا إنما يذكر أحدهم أقوالا ً مبتدعة: إما قولين أو ثلاثة، وإما أربعة وإما خمسة، والقول الذي كان عليه السلف ودل عليه الكتاب والسنة لا يذكره؛ لأنه لا يعرفه ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 فترك المبتدعة لكلام السلف وجهلهم به، وإعراضهم عن فهم السلف لنصوص الكتاب والسنة، أحد الأسباب الكبيرة لوقوعهم في الابتداع. ومن أسباب الابتداع: 7- حكاية إجماعات لم تقع، وجعلها أصولا ً يعتمد عليها، وعدم قبول الحق إلا من طائفتهم: أما حكاية الإجماعات فمثل حكاية الرازي أن المعتبرين أجمعوا على إمكان وجود موجود لا داخل العالم ولا خارجه. مع أن المنقول عن الأنبياء والصحابة والتابعين مناقض لهذه الدعوى. ومثل ذلك ما نقله أبو المعالي الجويني من اتفاق المسلمين على أن الأجسام تتناهى في تجزئها وانقسامها حتى تصير أفرادا ً، فكل جزء لا يتجزأ وليس له طرف واحد ومقصده بذلك نفي الصفات عن الله سبحانه؛ لأن الصفات - في زعمه - لا تكون إلا في جسم مبعض، مع أن قوله هذا لم يقله سوى طائفة من أهل الكلام، ولم يقله بقيتهم، ولم يقله أحد من السلف مطلقا ً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ومثل ذلك قول النبهاني: إن جمهور الأمة على تنزيه الله سبحانه عن جميع الجهات وجميع الأمكنة والأزمنة والعلويات والنقليات.. أما عدم قبول الحق إلا من طائفتهم، فهذا من ديدن أصحاب الابتداع ولأجل ذلك تراهم يعتمدون على أقوال أصحابهم ومشايخهم، أكثر من اعتمادهم على النصوص الشرعية، ويزعمون فوق ذلك أنهم أصحاب الحق وحدهم، وأن من عداهم فهم أصحاب الضلال، ويدعون أنهم هم الطائفة المنصورة والفرقة الناجية دون من سواهم، وأنهم هم أهل السنة والجماعة، وأن غيرهم أهل البدعة. وعدم قبول الحق إلا من الطائفة التي يهواها الإنسان ويحبها وينتمي إليها، سبب للابتداع وترك الاتباع، وسبب للضلال ورد الحق، وقد وصف الله اليهود بهذا الوصف، ولعنهم لأجل تلبسهم به، فقال سبحانه: ((ولما جاءهم كتاب ٌ من عند الله مصدق ٌ لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 قال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذه الآية: (فوصف اليهود: أهم كانوا يعرفون الحق قبل ظهور الناطق به والدعي إليه، فلما جاءهم الناطق به من غير طائفة لم يهوونها لم ينقادوا له، وأنهم لا يقبلون الحق إلا من الطائفة التي هم منتسبون إليها إلى أن قال - وهذا يبتلى به كثير من المنتسبين إلى طائفة معينة في العلم أو الدين من المتفقهة أو المتصوفة أو غيرهم، أو إلى رئيس معظم عندهم في الدين غير النبي صلى الله عليه وسلم، فإنهم لا يقبلون من الدين رأيا ً ورواية ً إلا ما جاءت به طائفتهم ... ) . فهذا هو حال أهل الابتداع، وهذه أظهر الأسباب التي حملتهم على الوقوع في البدع، ولا يخلو مبتدع من سبب من هذه الأسباب إن لم تكن كلها أو معظمها فيه، فهو يتبع دينا ً مبدلا ً أو منسوخا ً. بعض تعريفات البدعة وإليك الآن بعض التعريفات التي تلائم هذا السياق السالف، مع ملاحظة أن مدار التعريفات الخاطئة للبدعة - حسب اطلاعي - على أن في البدع ما هو حسن مقبول عند الله مثاب عليه. فإثبات الحسن لبعض المحدثات تصريحا ً أو تلميحا ً، مما تجمع عليه التعريفات أو المفاهيم الخاطئة للبدعة: 1- تعريف عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله تعالى -: قال في قواعد الأحكام: (البدعة: فعل ما لم يُعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 منقسمة إلى بدعة واجبة , وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة. والطريق إلى معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة ... ) . ثم ذكر بعد ذلك أمثلة لما ذكر. وقد جعلت هذا التعريف أولا ً لكونه مُعْتَمدُ كثير ٍ ممن جاء بعده فقد نقله النووي - رحمه الله - مستشهدا ً به، وفعل مثله الزركشي في المنثور، وذكره ابن حجر الهيتمي مستدلا ً به على أن البدعة تعتريها الأحكام الخمسة، وألمح إليه السخاوي في فتح المغيث وبسط القول في ذلك القرافي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المالكي على منوال شيخه العز بن عبد السلام، ونسج على منوال القرافي صاحب تهذيب الفروق ببسط ٍ أكثر، وحكى أسماء مجموعة من الذين ساروا على تقسيم العز. وقد ذكر هذا التقسيم باختصار محمد بن جُزي المالكي ونقل تعريف العز وتقسيمه السيوطي في الحاوي ناصرا ً له، وفي الأمر بالاتباع والنهي عن الابتداع دون إشارة إلى أنه من كلام العز. وأما المؤلفين في العصر الحديث فمنهم الشيخ عثمان بن فودي في إحياء السنة وإخماد البدعة، ومحمد علوي مالكي حيث أشار إلى تعريف العز وتقسيمه، مستدلا ً به ومعتمدا ً عليه في ترويج بِِدَعِه ِ. وابن خليفه عليوي إذ نقل كلام العز بمعناه مؤيدا ً له، واستشهد بتعريف العز وتقسيمه يوسف السيد هاشم الرفاعي ونقل في كتابه كلام عبد الله بن محمد الصديق الغماري، وفيه استدلاله على أن البدع منقسمة إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 حسن وقبيح بكلام العز بن عبد السلام، ورده على الشاطبي - بأسلوب متهكم - في اعتراضه على تقسيمات العز للبدعة. وقد نقل السيد محمد صديق حسن خان في الدين الخالص عن جماعة من علماء الهند، سلكوا مسلك التقسيم هذا، وردَّ عليهم بما يشفي ونقل عنه المباركفوري في تحفة الأحوذي. فتعريف عز الدين بن عبد السلام - رحمه الله - وتقسيمه للبدع عمدة الذين يرون أن في البدع ما هو حسن مقبول، ولذلك فإنه يمكن أن يلاحظ أن غالبية الذين يعتمدون على هذا التعريف هم من أهل البدع. مع أن كلام هذا الإمام ليس بدليل، ولكنه محتاج إلى دليل ككلام غيره من العلماء، وهو مع ذلك يمكن أن يوجه إلى غير ما قصده أهل الابتداع، كما سيأتي بيانه بحول الله في الفصل الخاص بالبدعة، وتعلقها بالحسن والقبح والمصالح المرسلة، وعند الكلام عن شبه المحسَّنة للبدعة. 2- تعريف الزركشي - رحمه الله -: في كتابه المنثور في القواعد، بعد أن عرف البدعة في اللغة قال: (فأما في الشرع فموضوعة للحادث المذموم، وإذا أريد الممدوح قيدت، ويكون ذلك مجازا َ شرعيا ً حقيقة ً لغوية ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 وهذا التعريف سائر على نفس النمط السابق فقوله: (موضوعة للحادث المذموم) يشعر أن من الحوادث ما هو ممدوح، كما دل على ذلك كلامه اللاحق.. وهذا القول مخالف للدليل الشرعي الكلي، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ((وكل بدعة ضلالة)) . ومخالف لطريقة السلف الذين كانوا يعدون كل أمر ٍ محدث ٍ يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى بدعة ً مردودة ً قبيحة ً مذمومة ً. وقوله: (إذا أريد الممدوح قيدت ... ) ، يريد به جواز إطلاق مصطلح البدعة الحسنة على بعض المحدثات المحمودة. وهذا كما سبق مخالف للنصوص الشرعية ولأقوال السلف، أضف إلى ذلك أن كل مبتدع يرى أن بدعته محمودة سواء ً في ذلك المتكلم أوصاحب الذوق والكشف أو غيرهم من المبتدعة، فلا يبقى حينئذٍ شيءٌ يمكن أن يطلق عليه بدعة مذمومة؛ لأن كل فرقة وطائفة ترى ما هي عليه محمودٌ وحسن ٌ، ونافع ٌ وصالح ٌ فلا يمكن على معنى تحسين الممدوح من البدع أن ينضبط معنى الاتباع والابتداع، ولا مصطلح السنة والبدعة، بل تبقى المسائل نسبية فلا يظهر حق يجب اتباعه ولا باطل يلزم اجتنابه. وتعريف الزركشي هذا يدخل تحت التوجيه الذي سيذكر عند مناقشة كلام العز، في الفصل الخامس من الباب الثاني. ومثل تعريف الزركشي وتقسيمه تعريف. 3- ابن الأثير في النهاية في غريب الحديث، إذ قال بعد أن ذكر كلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 عمر - رضي الله عنه -: (نعمت البدعة هذه) . (البدعة بدعتان: بدعة هدى وبدعة ضلال، فما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعاً تحت عموم ما ندب الله إليه وحض عليه ورسوله فهو في حيز المدح ... ) . ثم ذكر أمثلة الممدوح من البدع، فأما التسقيم إلى هدى وضلال فقد سبق الإلماح إلى خطئه وسيأتي - بعون الله - تفصيل ذلك. إلا أن قوله - رحمه الله - في بدعة الضلال إنها ما كان في خلاف ما أمر الله به ورسوله صلى الله عليه وسلم غير ضابط للبدعة حتى على تقسيمه هو؛ لأن البدع المحدثة أيا ً كانت فهي في حقيقتها على خلاف ما أمر الله به ورسوله، وهذا منطبق على كل بدعة صغيرة أو كبيرة، فلا معنى للتقسيم، هذا من جانب، ومن جانب آخر ليست كل مخالفة لأمر الشارع تعتبر بدعة، بل قد تقع المخالفة وتكون معصية وليست بدعة. وقد يلمح من قوله في تعريف البدعة: (بدعة الضلال) ، أن المقصود به ما جاء الأمر الشرعي بتركها على الخصوص، وهذا المفهوم خاطئ، فليست البدع في ما نهى عنها الشارع بخصوصها فقط، وإلا لانحصر المنكر فيما ورد الشرع بالنهي عنه بصفة خاصة، وهذا تعطيل للنصوص وإسقاط لدلالاتها بالكلية. 4- تعريف الجرجاني في كتاب التعريفات: قال: (البدعة هي الفِعلة المخالفة للسنة، سميت البدعة لأن قائلها ابتدعها من غير مقال إمام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وعلى هذا التعريف مآخذ: أ. قوله (المخالفة للسنة) يشمل البدعة والمعصية، فكلتاهما مخالفة للسنة، وعليه فالتعريف غير منضبط. ب. قوله (لأن قائلها ابتدعها) وهذا قد يفهم منه حصر البدع في جانب القول فقط، وهذا غير صحيح فالبدع تكون بالقول والعمل والاعتقاد، فعلا ً أو تركا ً. ج. قوله (من غير مقال إمام) وهذا من أكبر متعلقات المبتدعة في تسويغ بدعهم إذ يقولون: الإمام الفلاني قال كذا، والعالم الفلاني فعل كذا، مستدلين بذلك على جواز الفعل المحدث. وقد سبق الكلام عن اتباع العوائد والمشايخ وأنه من أسباب الابتداع في دين الله، ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله)) الآية، وهذا القيد الذي جعله الجرجاني للبدعة لا يبقي للبدعة معنى ً، إذ كل مبتدع له إمام يتبعه ويقتدي به، ويسلك مسلكه، ويحتج بقوله أو فعله ... والأصل الذي تقرره الأدلة وسار عليه السلف الصالح أنه ما من إمام ٍ ولا عالم ٍ ولا ذي فضل ٍ يستقل قوله أو فعله دليلا ً، بل هو في حاجة ٍ إلى الدليل، فإن وافق الدليل أخذ به، وإن خاله رد على صاحبه كائنا ً من كان ... وللإنصاف لا بد من ذكر تعريف آخر جعله الجرجاني، بعد التعريف السابق وهو قوله: (البدعة هي الأمر المحدث الذي لم يكن عليه الصحابة والتابعون، ولم يكن مما اقتضاه الدليل الشرعي) . وهذا تعريف مقارب، غير أنه ليس بجامع ولا مانع، إذ لا يوجد فيه شرط قصد القربة، ويمكن أن يدخل فيه كل محدث، وإن كان من الأمور العادية التي لا ابتداع فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 5- قول الغزالي في الإحياء: (فليس كل ما أبدع منهيا ً عنه، بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، أو ترفع أمرا ً من الشرع مع بقاء علته ... ) . قوله: (فليس كل ما أبدع منهيا ً عنه) يحتمل البدع الشرعية والبدع الدنيوية، فأما الشرعية فمنهي ٌ عنها كلها بلا استثناء، وأما الدنيوية فالأصل فيها الإباحة ويدخلها الابتداع بالشروط السابقة في الفصل السابق، ومقصد كلام الغزالي كما يظهر من سياق الكلام وسياقه: البدع الدنيوية؛ لأنه كان يرد على من قال بأن الموائد والمناخل والشبع من البدع. وقوله: (بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، أو ترفع أمرا ً من الشرع مع بقاء علته) عليه مآخذ: أ. المضاد للسنة والرافع لأمر من الشرع مع بقاء علته يصح أن يكون معصية، كما يصح أن يكون بدعة. ب. اعتبار البدعة المنهي هي المضادة للسنة أو الرافعة للحكم الشرعي الثابت، اعتبار يتعلق به أكثر أهل البدع، وخصوصاً في البدع الإضافية. نعم لا توجد بدعة إلا ويرفع مثلها في السنة، ولكن ذلك على وجه العموم، فقد توجد بدع لا يقابلها سنة أصلا ً، وهذا هو الفهم الصحيح للأثر: ((ما من أمة ٍ تحدث في دينها بدعة إلا أضاعت مثلها من السنة)) . فرفع السنة لا يشترط فيه أن تكون في مقابل البدعة على التخصيص، بل إذا قابل البدعة سنة رفعت إحداهما بالأخرى، ولكن يحدث بدع لا يقابلها على وجه الخصوص سنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 فهل يقال بأن هذا الأمر المحدث ليس ببدعة، لكونه لم يرفع سنة ثابتة، ولم يلغ حكما ً شرعيا ً باقي العلة؟ .. إن البدعة منهي ٌ عنها سواء ً كانت في مقابل سنة أو لم تكن وسواء ٌ رفعت أمرا ً من الشرع أو لم ترفع. فهذا الاشتراط في وصف البدعة منقوض بعموم النصوص الناهية عن البدع، والآثار السلفية الذامة لها، فلم يكن السلف رحمهم الله في نهيم عن البدع ينظرون إلى الأمر المبتدع بهذا المقياس، بل كانوا ينهون عن كل بدعة.. قابلت سنة ورفعت حكما ً أم لا. وهذا الاشتراط عمدة من استحسن بعض البدع، وأضرب لذلك مثالاً واحدا ً: وهو احتجاج بعض المؤلفين بهذا الاشتراط الذي وضعه الغزالي، على جواز بدعة المولد النبوي، وجواز التزام عبادة معينة في وقت ٍ معينٍ لم يأمر بها الشرع. فقال في معرض رده على الشاطبي حينما شبه اتخاذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم بعمل أهل الجاهلية لكونه عيداً لم يشرعه الله ( ... إن تشبيهه من اتخذ يوم ولادة النبي صلى الله عليه وسلم عيداً أو من التزم عبادة ً معينة ً في وقت ٍ معين ٍ بمن فعل من الجاهليين ما فعل في دين إبراهيم من البدع غير مقبول، فالجاهليون الذين ضُرب بهم المثل خالفوا الأصل، وغيروا الحكم، وأبطلوا ما أمر الله به، واستدلوا به ما شاء لهم الهوى، ثم تأولوا ذلك وعللوا له، أما من حدد لنفسه كيفية خاصة للذكر أو هيئة معينة له، أو نحو ذلك، فلم يبطل شرعاً أو يسقط حكما ً أو يبدل آية، وصلاته هي الصلاة المعهودة، وذكره هو الذكر الوارد، وما دام لم يلزم الناس بما ألزم نفسه، ولم يفرضه عليهم كتشريع محتوم قصد به مشابهة الشارع فيما شرع فلا ينبغي تشبيهه بالجاهليين في تغييرهم شريعة إبراهيم عليه السلام) . على هذا الكلام كثير من المآخذ بيد أن الذي يهمنا هنا هو قوله: (فلم يبطل شرعاً أو يسقط حكما ً أو يبدل آية) ، وهو شبيه بكلام الغزالي آنف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 الذكر ... إلا أن المؤلف زاد مقصده وضوحاً، حين تحدث عن البدعة بمفهومها الشرعي، فقال: (وقيدها بعضهم بما حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسيلم وخالف سنته وهو ما اخترناه وأقمنا الدليل عليه) . فاشتراطه وصف المخالفة للسنة في قوله: (يبطل شرعا ً أو يسقط حكما ً) هو مثل قول الغزالي: (بل المنهي بدعة تضاد سنة ثابتة، أو ترفع أمرا ً من الشرع) ، وقد أخذ هذا المعنى تلميذه ابن العربي المالكي، فقال: (وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة) . وهذه الأوصاف وإن كانت تصح على البدع في عمومها، ولكنها لا تصلح أن تكون شروطا ً لاعتبار الأمر بدعة، لأن القاعدة الكلية في ذلك هي قوله صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) ، فلا معنى لهذا الاشتراط سوى حصر البدع في هذه الأوصاف، وقد علم أن البدع كثيرة متنوعة، وليست كل واحدة منها في مقابل سنة أو رافعة لحكم شرعي، وعلى هذا نقول: إن كل بدعة أحدثت في هذا الدين فهي ضلالة، سواء ً كانت معطلة لحكم شرعي أو سنة نبوية أم غير معطلة، فإنها كلها منهي عنها، ومذموم، ومع اختلاف درجات الذم، وهذه هي الأوصاف القائلة بأن البدعة هي المضادة لسنة ثابتة أو الرافعة لأمر من الشرع مع بقاء علته، أو المبطلة لحكم شرعي، أو المصادمة لنص شرعي في مقابلها أو المخالفة لهدي نبوي يقابلها، أو أن البدعة هي ما نهي عنها بخصوصها، كل هذه الأوصاف لا تصلح أن تكون حدا ً حقيقيا ً لمعنى البدعة، وإن كان بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 هذه الأوصاف ينطبق على المحدثات في وصف من هذه الأوصاف مخالف للنصوص الشرعية ولطريقة السلف الصالح، ويكفي لكي توقن ببذلك أن ترى كيف كان السلف ينكرون كل محدثة في دين الله بالزيادة أو النقصان بالفعل أو الترك من غير اعتبار لوجود هذه الأوصاف المذكورة آنفاً، ثم إذا تأملت هذه الأوصاف وجدت أنها تتضمن في حالة حصر البدعة في وصف ٍ واحد ٍ منها تعطيلاً واضحاً لقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل بدعة ضلالة)) وإسقاطاً بينا ً لمراده عليه الصلاة والسلام؛ لأن كل وصف من هذه الأوصاف معلوم حكمه على وجه الخصوص.. فمثلا ً العمل المصادم للنص، معلوم حكمه، وكذلك ما نهي عنه بخصوصه أو ما خالف هديا ً ثابتاً أو أبطل سنة صحيحة.. ثم إن الزعم بأن المراد بقوله صلى الله عليه وسلم: ((كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)) ما كان متصفا ً بأحد هذه الأوصاف، إحالة على ما لا يمكن حصره من المنهيات والمخالفات، سواء ً كانت بدعا ً أو معاصٍ، وفي ذلك اتهام للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أخفى ما يجب عليه بيانه، وبين ما لم يرد ظاهره، فإن بين قوله: (كل بدعة ضلالة) وهذه الأوصاف فرق كالفرق بين العموم والخصوص، فإن زُعم أن المراد بالحديث أحد هذه الأوصاف، أدى ذلك إلى اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بالتلبيس على أمته لأنه تكلم بلفظ ٍ عام، وأراد معنى خاصاً وأطلق القاعدة الكلية ومراده الوصف الجزئي المقيد.. ومن هنا يتبين أن هذه الأوصاف لا يجوز حمل الحديث على واحد ٍ منها ليكون هو المقصود والمراد بلفظ البدعة. 6- تعريف محمد عبد الحي اللكنوي الهندي: بعد أن ذكر المعنى اللغوي للبدعة، تحدث عن المعنى الشرعي الخاص، فقال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 (هو الزيادة في الدين أو النقصان منه الحادثات بعد الصحابة، بغير إذن الشارع لا قولا ً، ولا فعلا ً، ولا صريحا ً ولا إشارةً، فلا يتناول العادات أصلا ً بل يقتصر على بعض الاعتقادات، وبعض صور العبادات ... ) . وهذا التعريف وإن كان فيه بعض الصواب، كقوله عن البدعة: (هي الزيادة في الدين أو النقصان منه) ، وكقوله: (بغير إذن الشارع) ، إلا أنه يحتوي مع ذلك على جملة من المبهمات المجملة، التي تحتاج إلى إيضاح وتفصيل، وجملة أخرى من الأخطاء.. فأما المجمل في التعريف فقوله: (الحادثات بعد الصحابة) . وهذا يحتاج إلى إيضاح، فليس كل ما أحدث في زمن الصحابة سنة مقبولة، وهذا راجع إلى ما سبق الحديث عنه عن الكلام على مفهوم البدعة عند أهل السنة. ويمكن تلخيصه هنا بما يناسب المقام، وهو أن قول الصحابي وفعله إذا خالف النص فهو غير معتبر، وإذا خالفه صحابي آخر فينظر في المسألة بمقياس الأدلة، ومقاييس الترجيح المذكورة في كتب الأصول والمصطلح، وإذا قال قولاً لم ينتشر ولم يعلم فيه خلاف من أحد فهو محل خلاف، والراجح أنه حجة، وكذلك ما كان في حكم المرفوع فهو حجة، وما عدا ذلك فما حدث في زمانهم فلا يجعل حجة، فضلا ً عن كونه سنة، والدليل على ذلك إنكار بعض الصحابة على بعض أمور حدثت، مثل إنكار ابن عباس رضي الله عنهما على معاوية رضي الله عنه حين مسح في طوافه أركان البيت الأربعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وإنكار سلمان الفارسي رضي الله عنه على أبي الدرداء حين كتب إليه أن: (هلم إلى الأرض المقدسة) فكتب إليه سلمان: (إن الأرض لا تقدس أحدا ً، وإنما يقدس الإنسان عمله) ، وغير ذلك. أما قوله: (بغير إذن الشارع لا قولا ً ولا فعلا ً ولا صريحا ً ولا إشارة) ، ففي قوله: (ولا إشارة) إجمال يحتاج إلى بيان، فكم من مبتدع في الأحوال والسلوك بنى بدعته على ما يدعيه من إشارات النصوص، وقد اشتهر في مناهج تفسير القرآن (التفسير الإشاري) الذي تعتمد عليه الصوفية في فهمها لنصوص القرآن. وإن قصد بالإشارة: إشارة النص الذي: هو العمل بما يثبت بنظم الكلام لغة ً، لكنه غير مقصود، ولا سبق له النص: كقوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن) سبق لإثبات النفقة، وفيه إشارة إلى أن النسب إلى الآباء ... ) فهذا المعنى محتمل، ويختلف الحكم عليه باختلاف الأفهام التي تستنبط الأحكام من النصوص، إلا أن قاعدة (لا اجتهاد مع النص) ، وقاعدة (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) تحكم هذا الفهم وتضبطه، وتحكم عليه بالقبول أو الرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 أما قوله عن المعنى الشرعي للبدعة، وأنه (لا يتناول العادات أصلا ً) فهذا خطأ ظاهر، وقد سبق بيان دخول البدع في العادات والمعاملات، وسيأتي الكلام عنها بعون الله في الفصل الرابع من الباب الثاني بتفصيل أوسع. والأصل في هذا الباب: قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم: فكأنهم استقلوها، فمنع أحدهم نفسه من النوم، والآخر من الأكل نهاراً والثالث من تزوج النساء. ومثل ذلك قصة الرجل الذي نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام صومه، وترك الصمت والشمس والقيام. قال الحافظ ابن رجب: (فمن تقرب إلى الله بعمل ٍ لم يجعله الله ورسوله قربة ٍإلى الله فعمله باطل مردود عليه - إلى أن قال - كمن تقرب إلى الله بسماع الملاهي أو بالرقص أو بكشف الرأس في غير الإحرام) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اتخاذ لبس الصوف عبادة وطريقاً إلى الله بدعة) . فإذا كانت العادات مما يراد به القربة إلى الله سبحانه، وليس لها هذا الوصف شرعا ً فهي بدعة بلا شك، ولهذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم بعد زجره للثلاثة الذين استقلوا عبادته، فألزموا أنفسهم بترك بعض المباحات زيادة ً في القربة إلى الله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (لكني أصوم وأفطر وأصلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني) . أما قوله عن المعنى الشرعي للبدعة، وأنه: (يقتصر على بعض الاعتقادات وبعض صور العبادات) فغلط ٌ واضح. إذ أن البدعة تكون في العقائد والأقوال والأعمال، وهذا معلوم من حال أهل البدع، وقد مر أن كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يتعلق به الابتداع. فالخطاب الشرعي يتعلق بأفعال المكلف الاعتقادية، والقولية، والفعلية، وهذه الأضرب تدخلها البدع، ولا صحة لتخصيص البدعة بنوع ٍ من هذه الأنواع فضلا ً عن بعض هذا النوع، بل إن البدعة تتعلق بالترك كما تتلق بالفعل، وبالعادات كما تتعلق بالعبادات، وقصر البدعة على بعض الاعتقادات وبعض صور العبادات مخالف للواقع، فقد دخل الابتداع في أصول الاعتقاد، وفي فروعه وفي أعمال القلوب وأعمال الجوارح، وأعمال اللسان، وهذا التخصيص مخالف أيضا ً للقاعدة الكلية (وكل محدثة بدعة) . فكيف يمكن تخصيص الابتداع في بعض الاعتقادات، أو بعض صور العبادات.. ومخالف لطريقة السلف فإنهم أنكروا كل بدعة حدثت في الدين بالزيادة فيه أو النقصان منه، في شتى صور العبادات الصغيرة والجليلة، في العقيدة أو العمل، في العادات والمعاملات، أو العبادات المحضة، واعتبروا كل ما أحدث وليس له أصل ٌ في الشرع، وقصد به الديانة بدعة ضلالة. والمفاهيم الخاطئة للبدعة كثيرة وشائعة في كتب ومقولات محسني البدع، وهنا سنعرض لبعض هذه المفاهيم المخالفة لمفهوم أهل السنة، وطريقتهم في تعريف البدعة أو الحكم عليها: 1- قول ابن حجر الهيتمي عندما سئل: هل الاجتماع للبدع المباحة جائز؟.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 فأجاب: (نعم هو جائز) . وهذا القول مناقض لما قاله بعد ذلك تحت عنوان: (مطلب في أن البدعة الشرعية لا تكون إلا ضلالة بخلاف اللغوية) . ومناقض لما اعتبره تفسيرا ً للبدعة، فقال: البدعة (هي ما لم يقل دليل شرعي على أنه واجب، أو مستحب، سواء ً فعل في عهده صلى الله عليه وسلم أو لم يفعل) . وهذا المعنى صحيح ولكنه لم يستقر عليه عند التطبيق، فأجاز ما سماه الاجتماع على البدع المباحة، وأجاز أيضا ً مطالعة كتب ابن العربي وابن الفارض، بل قال إن مطالعتها مستحبة، وإن فيها من عجائب الأسرار، ودقائق المعاني ولطائف العوارض ما لا يوجد في غيرها. مع أن هذه الكتب والقصائد التي ندب إلى قراءتها محشوة بالبدع الكفرية من عقائد الحلول والاتحاد وغير ذلك، من المحدثات المناقضة للدين، وأمثلة التطبيقات البدعية المخالفة لشرع الله في كلام الهيتمي كثيرة. 2- قول السيوطي في الحاوي: عند حديثه عند بدعة المولد النبوي، ورده على من اعتبرها من المحدثات: ( ... البدعة لم تنحصر في الحرام والمكروه، بل قد تكون أيضا ً مباحةً ومندوبة ً وواجبة ً ... ) . ويوجد في كلام السيوطي ما يؤيد تحسينه واستحبابه لبعض البدع، بناء ً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 على فهمه للبدعة الشرعية، وأنها على ضربين قبيحة مذمومة وحسنة محمودة. 3- قول ابن عساكر في كتابه تبيين كذب المفتري: ( ... إذ كل بدعة لا توصف بالضلالة، فإن البدعة هو ما ابتدع وأحدث من الأمور، حسنا ً كان أو قبيحا ً، بلا خلاف عند الجمهور) . فإن كان مراده بقوله: (فأما البدعة ما ابتدع وأحدث من الأمور حسنا ً كان أو قبيحا ً، بلا خلاف عند الجمهور) . فإن كان مراده بقوله: (فأما البدعة ما ابتدع وأحدث من الأمور حسناً كان أو قبيحا ً) البدعة اللغوية فصحيح، وإن كان مراده البدعة بالمعنى الشرعي فكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ودعوى عدم المخالفة عند الجمهور دعوى غير صحيحة، بل السلف قاطبة لم يؤثر عن أحدٍ منهم وصف أي محدثة في دين الله بالحسن الشرعي. 4- قول اللكنوي في إقامة الحجة فيما نقله عن سعد الدين التفتازاني محتجا ً به: ( ... البدعة المذمومة: هي المحدث في الدين من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين، ولا دل عليه الدليل الشرعي..) . وهذا المفهوم في مجمله صحيح إلا في قوله: (من غير أن يكون في عهد الصحابة والتابعين) ، فإنه يحتاج إلى تفصيل فأما ما كان في عهد الصحابة فله أحكام سبق الحديث عنها، وأما التابعين فلا شك في أفضلية قرنهم بنص الحديث، ولكن ذلك لا يقتضي كون أفعالهم حجة ً شرعية ً، بل إن أقوالهم وأفعالهم لا بد من وزنها بميزان الكتاب والسنة، فما وافق ذلك قُبِل، وما خالفه رُدَّ على صاحبه كائنا ً من كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 ثم نقل اللكنوي عن كلام بعض علماء الأحناف ما نصه: (المراد من السنة التي يجب التمسك ما كان عليه القرن المشهود لهم بالخير والصلاح والرشاد، وهم الخلفاء الراشدون، ومن عاصر سيد الخلائق، ثم الذين من بعدهم، فما أحدث بعد ذلك من أمر على خلاف مناهجهم، فهو من البدعة، وكل بدعة ضلالة) . وهذا الكلام ليس بصحيح من كل الوجوه، فأما السنة التي يجب التمسك بها فهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو فعله أو تقريره، وما جاء بعد ذلك من أقوال الصحابة وأفعالهم فبعضه حجة، وبعضه ليس بحجة على التفصيل السابق في الفصل السابق. أما الذين جاءوا بعد الصحابة، وهم التابعون ومن تبعهم، فكلامهم وأفعالهم لا تسمى سنة بالمصطلح الشرعي؛ لأنه حينئذ ٍ ينفرط حبل السنن، ويصبح كل إمام قال أو فعل ما يخالف السنة لعدم بلوغ الدليل أو عدم صحته عنده يحتج أتباعه بأن هذا القول سنة؛ لكونه في عهد التابعين أو تابعيهم، وهذا ما يتشبث به متعصبة المذاهب، بل الصحيح كما قاله الإمام أبو حنيفة - رحمه الله -: ما جاء عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا، وما كان من غير ذلك فهم رجال ونحن رجال) . ويتوجه قول الإمام النعمان فيما جاء عن الصحابة إلى الفتيا والقضاء، فيما للرأي فيه مجال، أما ما كان مرفوعاً أو في حكم المرفوع فهو حجة كما سبق ذكره.. وفي الكلام الذي نقله اللكنوي ما لفظه: (فما أحدث بعد ذلك من أمر على خلاف مناهجهم فهو من البدعة) . متعلق بما سبق بيانه فلا حجية لقول أحد أو فعله، إذا خالف الكتاب والسنة، ولا حجية مطلقة لقول الصحابي أو فعله ... أما من جاء بعدهم فلا تعتبر أقوالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أو أفعالهم حجة، إلا إذا علم عدم معارضتها للشرع، فالصحابة والتابعون لهم بإحسان هم سلفنا - رضي الله عنهم - ومع ذلك فالحجية في مذهب الصحابي مشروطة فيما كان مرفوعاً أو في حكم المرفوع، أما التابعون فقد حصل في زمانهم كثير من البدع، وقال بعضهم أو وقع فيما هو بدعة ٌ باجتهاد ٍ ونحوه، كما قال شيخ الإسلام عند حديثه عن المخالف للسنة في أمور ٍ دقيقة ٍ: (ولهذا وقع في مثل هذا كثير من سلف الأمة وأئمتها، لهم مقالات قالوها باجتهاد وهي تخالف ما ثبت في الكتاب والسنة ... ) ، فعلى هذا فلا يكون قول التابعي أو تابع التابعي سنة أو حجة، بل هو خاضع لميزان الكتاب والسنة. 5- قول الشعراني في كتابه المسمى باليواقيت والجواهر في بيان عقائد الأكابر، وهو مصنف لبيان وشرح اعتقاد محي الدين بن عربي: قال: (فإن قلت: فهل يلحق بالسنة الصحيحة في وجوب الإذعان لها ما ابتدعه المسلمون من البدعة الحسنة؟ ... فالجواب كما قاله الشيخ: أنه يندب الإذعان لها، ولا يجب - إلى أن قال - كما أشار إليها قوله صلى الله عليه وسلم: ((من سن سنة حسنة)) فقد أجاز لنا ابتداع كل ما كان حسنا ً، وجعل فيه من الأجر لمن ابتدعه ولمن عمل به ما لم يشق ذلك على الناس، وأخبر أن العابد لله تعالى بما يعطيه نظره إذا لم يكن على شرع من الله تعالى معين يحشر أمة وحده، يعني بغير إمام يتبعه، فجعله خيرا ً وألحقه بالأخيار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 وهذا القول باطل مخالف للكتاب والسنة وطريقة السلف. فقوله: (من البدع الحسنة) سبق نقض ذلك وسيأتي في نهاية الفصل الحديث عنه. وقوله: (إنه يندب الإذعان لها ولا يجب) تشريع لم يأذن الله به، فكيف يلحق حكم الندب بأمر ٍ محدث؟ مع أنه لا يصح فيه وصف الإباحة؛ لكونه ممنوعا ً من جهة الشارع، الذي قال: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة)) . وهذا التقسيم بين الندب والوجوب، تزييف لحقيقة الحكم، فكأن المسألة مختلف فيها بين الوجوب والندب فقط، خاضعة لمبدأ الإذعان، وهذا ما لم يقل به أحد من سلف الأمة، أو أحد من العلماء أهل العلم والإيمان أتباع منهج السلف. ولو ترك حكم البدع والسنن على هذا المنوال الذي اختطه الشعراني، وابن عربي لما بقي من الدين شيء، ولذهبت معاني الآيات والأحاديث الحاثة على الاتباع أدراج هذا القول المُردي. أما قوله: (إن العابد لله تعالى بما يعطيه نظره، إذا لم يكن على شرع من الله تعالى يحشر أمة وحده , يعني بغير إمام يتبعه فجعله خيراً وألحقه بالأخيار) ..... فهذا عين الضلال , والمضادة لكتاب الله وسنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكيف يكون متقدماً بين يدي الله ورسوله، بما يمليه عليه نظره أو ذوقه، ثم يصير من الأخيار، وأي معنى للعبودية والخضوع لله حينئذ، وما معنى الاتباع لرسوله صلى الله عليه وسلم التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة، كقوله تعالى: ((وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا)) . وقوله: ((يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم)) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وقوله: ((فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا ً مما قضيت ويسلموا تسليما ً)) . وإذا كان كل من أملى عليه نظره أو ذوقه شيئاً أصبح أمة ً وحده، ومن الأخيار فليس هناك مبتدع على وجه الأرض. فهذا القول من أعظم المحادَّة لله ولرسوله، كما قال تعالى: ((أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله)) . وهذا القول مطابق لاعتقادات محي الدين بن عربي الضالة الزائفة، فقد سوغ لنفسه أن يتبع ما يعطيه نظره، وما يملي عليه هواه، حتى تردى في هوة وحدة الوجود، وكفر بالإله المعبود، فكان - كما قضى بذلك علماء الأمة - أمة وحده، ولكن في الكفر والزندقة، إمامه الشيطان، وإلهه هواه، فنسأل الله العفو والعافية. أما استدلاله بقوله صلى الله عليه وسلم فسيأتي تفنيده في نهاية هذا الفصل عند الكلام عن شُبه محسني البدع والرد عليها. 6- قول القاضي أبي بكر بن العربي في شرحه للترمذي، عند قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإياكم ومحدثات الأمور)) : قال: ( ... وليس المحدث والبدعة مذموماً للفظ محدث وبدعة، ولا لمعناها فقد قال الله تعالى: (ما يأتيهم من ذكر ٍ من ربهم محدث)) ، وقال عمر: ((نعمت البدعة هذه)) . وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة، ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 أما لفظ محدث وبدعة ومعناهما اللغوي، فلا يتعلق بهما على خصوصهما مدح أو ذم، ولكنهما بالمعنى الشرعي مذمومان. فما من شيء ٍ حدث بعد أن لم يكن حادثا ً ووجد بعد أن لم يكن موجوداً إلا ويطلق عليه من جهة اللغة " محدث " و " بدعة "، والمصطلح الشرعي الوارد في لفظ الحديث: ((وإياكم ومحدثات الأمور)) هو المقصود بالذم والتحذير، وليس هناك بدعة بالمعنى الشرعي إلا وهي باطلة وضلالة. أما قوله (وإنما يذم من البدعة ما خالف السنة) فإنه ما من بدعة ٍ إلا وهي مخالفة للسنة على وجه العموم أو الخصوص، فإذا تقرر ذلك فإن سائر البدع مذمومة ... فإن كان المراد أنه إنما تذم البدع المخالفة لسنة في مقابلها على وجه الخصوص، فهذا تخصيص لقاعدة " كل بدعة ضلالة " بغير مخصص، وقد سبق الكلام عن هذا عند مناقشة تعريف الغزالي ... أما قوله: (ويذم من المحدثات ما دعا إلى ضلالة) ، فمنطبق على سائر البدع؛ لأن كل بدعة ضلالة في ذاتها داعية إلى الضلال، وذلك من مقتضياتها، ولربما قصد القاضي ابن العربي - رحمه الله - بهذه الجملة أنها إنما يذم المحدث الداعي إلى ضلالة، بخلاف المحدث الداعي إلى الهدى، وهذا ما يفهم من سياق حديثه عن البدعة.. وهذا الفهم مجانب للصواب، فليس هناك محدثة داعية إلى هدى، وإلا لبطل معنى قوله - صلى الله عليه وسلم -: " كل بدعة ضلالة "، ولأصبح كل مبتدع يدعي أنه ببدعته المحدثة داع ٍإلى هدى.. فلا يكون حينئذٍ مجال للإنكار على أي مبتدع لا سيما إذا علمنا أن كل مبتدع إنما يقصد ببدعته التقرب إلى الله، وهذا هو الهدى عنده. 7- قول يوسف السيد هاشم الرفاعي: ( ... البدعة هي ما صادم نصا ً أو خالف هدى الرسول صلى الله عليه وسلم أو ترتب عليه مفسدة، وهذا هو معنى قول علمائنا إن البدعة المضلة الواردة في الحديث الشريف هي المنافية لأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 الشرع..) وفي هذا القول مغالطات مخالفة للحق الذي دل عليه كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وعمل السلف. فقوله: (البدعة هي ما صادم نصا ً) قول محدث مخالف للنصوص، ولطريقة السلف في الحكم على العمل بالبدعية أو عدمها؛ لأنه قيد البدعة بمصادمتها للنص الشرعي، وهذا القيد تحكم بلا دليل، إذ لا يتصور أن يكون إزاء كل بدعة نص شرعي، فقد تكون مصادمة للنص الشرعي صراحة ً، وقد تكون مصادمة لعمومات الشريعة ومقاصدها، وقد لا يكون في مقابل البدعة بعينها نص بعينه، يدل على أنها أمر حادث، ولكنها تكون داخلة في الابتداع من حيث كونها محدثة يراد بها لتقرب إلى الله ولا أصل لها في الشرع. وهذا الذي كان عليه سلف الأمة، ومن أدلة ذلك: ما رواه ابن وضاح بسنده عن أبي حفص المدني، قال: (اجتمع الناس يوم عرفة في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم يدعون بعد العصر، فخرج نافع مولى ابن عمر من دار ٍ لآل عمر، فقال: أيها الناس: إن الذي أنتم عليه بدعة، وليست بسنة، إنا أدركنا الناس ولا يصنعون مثل هذا، ثم رجع فلم يجلس، ثم خرج الثانية ففعل مثلها ثم رجع) . وروى ابن وضاح أيضا ً بسنده إلى إبراهيم النخعي، أنه سئل عن اجتماع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 الناس عشية عرفة، فكرهه، وقال: " محدث ". وروى أيضا ً بسنده قصة ضرب علي بن أبي طالب رضي الله عنه للقاص في مسجد الكوفة. وقصة ضرب عمر رضي الله عنه للقوم الذين اجتمعوا للدعاء للمسلمين وللأمير. فبدعة التعريف في غير عرفة التي نهى عنها نافع والنخعي؛ لم تصادم نصا ً بعينه ينهى عن التعريف، ولم ترفع حكما ً، ولم تُلغ تشريعاً بمنافاتها علين الأمر الشرعي، ومع ذلك فقد سماها السلف بدعة ومحدثة، لإنها اختراع في الدين لا دليل عليه. ولذلك عد أحمد بن حنبل هذا الفهم من أصول السنة، فقال فيما رواه عنه اللالكائي بسنده: (أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بهم، وترك البدع، وكل بدعة ضلالة) . فمن أراد إخراج شيء من البدع من وصف الضلالة، فقد خالف السلف في طريقتهم، وأتى بأمر ٍ حادث ليبرر محدثات أخر.. 8- قول الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي: عند حديثه عن الاحتفال بالمولد النبوي، بعد أن نقل تعريف الشاطبي للبدعة، ووجه هذا التعريف حسب فهمه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 فقال: (فلِكي يأخذ السلوك معنى البدعة وحكمها، يجب أن يمارسه صاحبه على أنه داخل في بنية الدين، وأنه جزء لا يتجزأ منه، مع أنه في واقع الأمر على خلاف ذلك.. وتلك هي روح البدعة وسر تحذير الشارع منها، وذلك هو الملاحظ في تسميتها بدعة - إلى أن قال - إن مناط إنكار البدعة وردها على صاحبها أن المبتدع يقحم في بنية الدين وجوهره ما ليس منه) ، ثم مثل على فهمه هذا بأمور عدها من البدع الحسن، كالاحتفالات ببدء العام الهجري، وبالمولد النبوي والإسراء والمعراج، وبذكرى فتح مكة، وغزوة بدر ... وهذا المعنى مخالف أيضا ً لطريقة السلف في اعتبار العمل المحدث بدعة، إذ قصر البدعة على ما أُدخل في الدين وأقحم فيه واعتبر جزءاً منه. وهذا الوصف يصح إطلاقه على سائر البدع باعتبار الإحداث الملازم لها، ولكن إطلاقه على البدعة الحقيقية أوضح، وعلى هذا الاعتبار تخرج البدع الإضافية من وصف الابتداع؛ لأنها إنما تكون ملازمة لعمل مشروع في الأصل، فعند النظر إلى العمل من حيث أصله نراه مشروعا ً وعند النظر إلى ما ألحق به نراه مبتدعا ً، وهذه هي البدعة الإضافية.. فإذا طبق هذا الوصف الذي ذكره البوطي على البدعة الإضافية، فإنه لا يتضمنها، ولا تدخل فيه صراحة، وبهذا ينفتح باب الابتداع. ولذا نراه عندما ذكر بدع الاحتفالات بالمولد والإسراء ونحوها، عدها من السنن الحسنة. وعلى هذا الفهم لا يدخل في الابتداع عنده ما ألحق بالأعمال المشروعة من محدثات، وهذا ما يطلق عليه اصطلاحا ً بالبدع الإضافية.. ثم إن هذا الاشتراط ينافي القاعدة الكلية (شر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة) ، ويلغي معاني الاعتصام بالسنة والتحذير من البدعة التي أجمع عليها السلف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 من مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه: (إنكم ستجدون أقواما ً يدعونكم إلى كتاب الله، وقد نبذوه وراء ظهورهم فعليكم بالعلم، وإياكم والتبدع وإياكم والتنطع وإياكم والتعمق وعليكم بالعتيق) ، ويناقض ما ورد عن الصحابة والتابعين من إنكار لسائر البدع الحقيقية والإضافية. 9- قول محمد علوي مالكي عند ذكره لحديث: (كل بدعة ضلالة) : (إن المراد بذلك البدعة السيئة التي لا تدخل تحت أصل شرعي - إلى أن قال - وحديث البدعة هذا من هذا الباب، فعمومات الأحاديث وأحوال الصحابة تفيد أن المقصود به البدعة السيئة، التي لا تندر ج تحت أصل كلي ... ) . وهذا القول ينساق في سياق أقوال المحسنين لبعض البدع، ويتناسب مع دعوته لاعتناق التصوف، وحثه على ممارسة بدعة الاحتفال بالمولد النبوي، وهو قول مكرر لأقوال من سبقه في هذا المضمار، ومقرر لآراء محسني البدع، حيث جعل مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كل بدعة ضلالة) محصورا ً في البدع السيئة. وهذا فيه تعدٍ على النص الشرعي، وذلك بالجزم أن هذا الذي قاله هو المراد، ولو قال بأن هذا فهمي للنص لكان أهو ن الشرين، وأخف المفسدتين، ثم يقال: بأن هذا الفهم مبني على أصل فاسد، وهو أن البدع تنقسم إلى سيئ وحسن من الناحية الشرعية، فترتب على هذا الأصل الفاسد هذا الفرع الفاسد المزعوم أنه هو مراد النبي صلى الله عليه وسلم.. وأما قوله في نعته للبدعة السيئة بأنها لا تدخل تحت أصل شرعي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أو أصل كلي فمتصور في سائر المحدثات، التي يقصد بها القربة، وليس عليها دليل من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو فعل الصحابة. وينبني على ذلك، أنه ليس هناك شيء من المحدثات يطلق عليه بدعة حسنة، وآخر يطلق عليه بدعة سيئة؛ لأن المحدث إذا كان تحت أصل شرعي فليس ببدعة شرعية، وإن كان يطلق عليه بدعة من جهة اللغة.. ولكن اعتبار أن لهذا الأمر أصلا ً شرعيا ً، أو أصلا ً كليا ً، لا يمنع أن يكون مخلوطا ً في فعل المكلف بما هو بدعة. ومثال ذلك: حب النبي صلى الله عليه وسلم أصل شرعي ومطلب إلهي، ولكن هذا الأصل قد يدخله الابتداع بفعل المكلف، كأن يحدث طريقة يعبر بها عن حبه للنبي صلى الله عليه وسلم، وهذه الطريقة محدثة وبدعة، داخلة على أصل شرعي أو قاعدة كلية.. فليس بكاف أن يقول المرء بأن هذا الأمر داخل ٌ تحت أصل شرعي حتى يضح أولا ً: هل هذا أصل معتبر من جهة الشرع، ثم ينظر ثانيا ً في الأمر الداخل عليه، هل هو مناف ٍ لهذا الأصل، أو لأصل ٍ آخر أم لا؟ . وقد سبق في هذا الفصل أن من أسباب الابتداع، إحداث قواعد وأصول ونظريات يسير عليها المبتدع وينقاد لها، فيبني على الأصل المحدث فرع محدث، وسبق أيضًا أن من حجج أهل الابتداع ومتعلقاتهم، الزعم بأن هذا العمل داخل تحت أصل شرعي أو قاعدة كلية، وهو ليس كذلك إما بمنافاته لهذا الأصل أو لأصلٍ مثله. وبعد ذكر المفاهيم الخاطئة للبدعة يأتي الحديث عن بعض الشبه التي يتعلق بها هؤلاء، مع ملاحظة أن كل بدعة لها شبه تخصها بذاتها، ولا تتعداها إلى غيرها، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ذكر بعض الشبه التي يحتج بها في سائر البدع أو غالبها. وبعد ذكر المفاهيم الخاطئة للبدعة يأتي الحديث عن بعض الشبه التي يتعلق بها هؤلاء، مع ملاحظة أن كل بدعة لها شبه تخصها بذاتها، ولا تتعداها إلى غيرها، والذي يهمنا في هذا المقام، هو ذكر بعض الشبه التي يحتج بها في سائر البدع أو غالبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 وهذه الشبه على أقسام: القسم الأول: شُبه من الأدلة الشرعية، وهذه الأدلة التي يستدل بها هؤلاء على قسمين: أ - حديث موضوع أو ضعيف. ب - نص صحيح ولكن ليس فيه دلالة على ما ذهبوا إليه. القسم الثاني: شبه من كلام العلماء. القسم الثالث: شبه من جهة النظر والذوق والكلام ونحو ذلك. بيد أنه يُلاحظ مما سبق نقله من تعريفات ومفاهيم خاطئة للبدعة، أنها تشترك في أمر واحد: وهو تحسين بعض البدع. أو تقرير أنه يوجد في المصطلح الشرعي بدعة حسنة وأخرى سيئة، ومن أجل ذلك نرى أن الأدلة التي يستدل بها هؤلاء، تدور في هذه الدائرة نفسها، ولهذا فإن مناقشة الأدلة التي يستدل بها على حسن بعض البدع، ستكون منقسمة بين هذا الفصل، والفصل الخامس من الباب الثاني. القسم الأول: شُبه الأدلة: والأدلة التي يستدل بها من يقول بحسن شيء من البدع، ليس فيها ما يصح أن يكون دليلاً له، إما لأنها غير ثابتة لكونها وردت بسند واهٍ أو ضعيف، وإما لأن وجه الدلالة فيها ليس كما فهمه المستدل به. فمن القسم الأول: 1- ما رواه الترمذي، وابن ماجه كل بسنده إلى كثير بن عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 عمرو بن عوف المزني، عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال ابن الحارث: " أعلم قال: ما أعلم يارسول الله؟ قال: اعلم يا بلال، فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً، ومن ابتدع بدعةَ ضلالةٍ لا تُرضى الله ورسوله، كان عليه مثل آثام من عمل بها، لا ينقص ذلك من أوزار الناس شيئاً " وها لفض الترمذي. استدل بهذا الحديث من استحسن بعض البدع، فقال: قوله صلى الله عليه وسلم ـ: "من ابتدع بدعةَ ضلالةٍ لا ترضي الله ورسوله " دليل على أن البدع لا تذم بإطلاق، بل يذم منها ما كان متصفاً بالضلالة أو مؤدياً إلى سخط الله ورسوله.. أما إذا كانت المحدثة ليست كذلك، فهي داخلة تحت وصف السنة الحسنة التي ينال صاحبها الأجر والثواب، لأن الإضافة الواردة في قوله: " من ابتدع بدعة ضلالةٍ" تفيد مفهوماً مخالفاً مؤداه: أن من ابتدع بدعة ليست بضلالة، فإنه موعود بالإثابة. ولمناقشة هذه الشبه قبل الكلام عن سند هذا الحديث أقول: إن الحديث على افتراض صحة سنده، ليس فيه هذا المعنى الذي يقول به المبتدع، بل هو دليل عليه، لأنه ما من بدعةٍ إلا وهي ملازمة لوصف الضلال، بنص حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة " ... وما من بدعة إلا ويبغضها الله ورسوله، بدليل تحذيره صلى الله عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وسلم من كل محدثة "وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة " فيكون الحديث على هذا المعنى دليلاً ضد المستدل به على حسن بعض البدع، أما الإضافة الواردة في الحديث فلا مفهوم لها، إلا كمفهوم الصِفَةِ في قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ الرّبَا أَضْعَافاً مّضَاعَفَةً} ، وذلك لأن، الضلالة صفة ملازمة للبدعة في كل حال. ثم إن في هذا الحديث دليلاً على إبطال البدع، وذلك بالحض على إحياء سنة قد أميتت، فإنه وعد بالأجر لمن أحيا سنةً ميتةً، لا لمن يخترع شيئاً جديداً، ثم يطلق عليه سنة حسنة، لأن الذي ورد في الحديث، إحياء سنة ثابتة نُسيت أو تُركت، وليس فيه إحداث مالم يثبت، فدل هذا على أن المراد التحذير من الابتداع، لأنه في مقابل الاتباع، ولأنه ملازم للضلال في كل الأحوال. هذا على افتراض صحة الحديث، فكيف وقد ثبت أنه (موضوع) وعلّته كثير بن عبد الله بن عمر بن عوف المُزني، الذي عليه مدار الحديث (فقد سُئل عن أبو داود فقال: كان أحد الكذابين، وقال الشافعي عنه: ذاك أحد الكذابين أو أحد أركان الكذب، وقال ابن حبان: روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنه إلا على جهة التعجب، وقال ابن عبد البر: مجمع على ضعفه) . أما تحسين الترمذي لهذا الحديث، فمنقوض بأقوال أئمة الجرح والتعديل، الذين اتفقوا على جرحه، وقد بين الذهبي أن الترمذي لا يعتمد عليه في التصحيح، وذلك عند ترجمته لكثير بن عبد الله هذا. قال: (وأما الترمذي فروى من حديثه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 الصلح جائز بين المسلمين وصححه، فلهذا لا يعتمد العلماء على تصحيح الترمذي) 2- ومن الشُبه التي يتمسك بها المحسّن للبدع: قوله قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن الله نظر في قلوب العباد، فوجد قلبَ محمد صلى الله عليه وسلم خير قلوب العباد، فاصطفاه لنفسه فابتعثه برسالته، ثم نظر في قلوب العباد، بعد قلب محمد، فوحد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رأوا سيئاً فهو عند الله سيء" وفي بعض الروايات زيادة: (وقد رأى الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر \رضي الله عنه) . وهذا الحديث الذي يستدل به المحسن للبدع، لم يرد مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم إلا عند الخطيب في تاريخ بغداد (4/165) عن أنس بن مالك رضي الله عنه وفي سنده أبو داود النخعي وهو سليمان بن عمرو، وقد تفرد بروايته، كما قال الخطيب، وهو كذاب كما قال الذهبي في الميزان (2/216) ونقل عن الإمام أحمد أنه قال: كان يضع الحديث، فالحديث موضوع، وقد ذكره ابن الجوزي في العلل المتناهية (1/80 (وذَكَر تفرد النخعي، وكلام أحمد عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 ثم قال: وهذا الحديث إنما يعرف من كلام ابن مسعود، أما الأسانيد الأخرى المذكورة فكلها جاءت به موقوفاً على ابن مسعود، وهذا ما جعل الزيلعي في نصب الراية يقول: (غريب مرفوعاً ولم أحده إلا موقوفاً على ابن مسعود) . والغريب عند الزيلعي مصطلح منه لنفسه في الحديث الذي لم يجد له أصلاً. وقال ابن القيم بعد أن أورد هذا الأثر (.. ليس من كلام رسول الله وإنما يضيفه إلى كلام من لا علم له بالحديث، وإنما هو ثابت عن ابن مسعود) وإليك دراسة موجزة لهذه الأسانيد: الطريق الأول: بسند الإمام أحمد في مسنده، وفي فضائل الصحابة، والحاكم في مستدركه وفيه أبو بكر بن عياش، ثقة عابد تغير حفظه بعد ما كبر. قال الذهبي في الميزان: (صدوق ثبت، في القراءة لكنه في الحديث يغلط ويهم) . وفيه عاصم بن بهدلة، قال في الميزان: (ثبت في القراءة وهو في الحديث دون الثبت، صدوق بهم) . وفي التقريب: (صدوق له أوهام) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 وبذلك أصبح هذا الأثر حسن الإسناد. قال عنه الهيثمي في المجمع (رواه أحمد، والبزار، والطبراني، ورجاله موثقون) . وبهذا يظهر أن سند البزار والطبراني، متفق مع سند الإمام أحمد. قال الشيخ أحمد شاكر ـ رحمه الله في تعليقه على المسند: (إسناده صحيح، وهو موقوف على ابن مسعود) . قال الساعاتي في الفتح الرباني مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 وقد روى هذا الحديث الحاكم في مستدركه، من طريق الإمام أحمد، وقال عنه (هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه) . الطريق الثاني: بسند أبي داود الطيالسي في مسنده أخرجه البيهقي في الاعتقاد عن طريق الطيالسي. وأبو نعيم في كتاب الإمامة عن طريق الطيالسي أيضاً والخطيب في الفقيه والمتفقه. ورواه أيضاً أبو نعيم في الحلية، والطبراني في معجمه، عن طريق أبي داود، الطيالسي كما ذكر الزيلعي. وهذا السند يجتمع في الرواية عن المسعودي، عن عاصم عن أبي وائل عن ابن مسعود وهو سند ضعيف، علته المسعودي وهو: عبد الرحمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 ابن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود، قال في التقريب: (صدوق اختلط قبل موته) ، وفي الميزان: (سيء الحفظ) وفي نصب الراية: (المسعودي ضعيف) ، قال ابن الكيال في الكواكب النيرات في معرفة من اختلط من الرواة الثقات: (وقد روى عنه أبو داود الطيالسي بعد اختلاطه، وكذلك عاصم ابن علي) . وروى هذا الأثر عن المسعودي الإمام الطيالسي وعاصم بن علي، وكلاهما رويا عنه بعد اختلاطه، وروى عنه عبد الله بن يزيد المقري بسند رجاله ثقات كما عند أبن حزم في الإحكام ولم يُذكر في كتب التراجم، هل روى عبد الله ابن يزيد عن المسعودي قبل الاختلاط أم بعده؟ . الطريق الثالث: بسند الخطيب في الفقيه والمتفقه والبيهقي في المدخل، كما ذكر ذلك الزيلعي. ورجال هذا السند ثقات، ما خلال صالح بن محمد الأزاذواري لم أجد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 الكتب التي بين يديّ له ترجمة. وأحمد بن إسحاق بن بنجاب الطيبي قال عنه الخطيب في تاريخ بغداد (لم أسمع فيه إلا خيراً) . ومما سبق يتضح أن هذا الأثر الذي يستدل به محسّن البدع، لا تصح نسبته إلى النبي صلى الله عليه وسلم بل هو من كلام ابن مسعود رضي الله عنه هذا من جهة السند، وقد يبقى فيه شائبةُ احتجاج عند من يترك المحكمات من النصوص، ويتعلق بما اشتبه ليبرر بذلك ما أملاه عليه نظره وهواه فيقول: هذا من كلام صحابي جليل أوصى النبي صلى الله عليه وسلم بالأخذ عنه، أو يقول: هذا الكلام من قبيل المرفوع حكماً، لكونه مما لا يُدرك بالعقل. ولمناقشة هذه الشبه لابد من وقفات: الوقفة الأولى: المتأمل للآثار الواردة على الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يرى أنه من أشد الناس على البدع وأهلها، صغيرها وكبيرها كقوله رضي الله عنه (اقتصادٌ في سنةٍ خيٌ من اجتهاد في بدعة) وقوله: (أيها الناس إنكم ستحدثون ويُحْدَثُ لكم، فإذا رأيتم محدثة فعليكم بالأمر الأول) . وقوله (اتبعوا آثارنا فقد كُفيتم) . وقوله: (اتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كُفيتم كل ضلالة) وقوله: (عليكم بالعلم، وإياكم والتبدّع والتنطّع والتعمّق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وعليكم بالعتيق) وهو الذي أنكر على المجمعين في مسجد الكوفة ذكرهم لله بصورة جماعية، وقال لهم: (لقد فَضُلتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً، أو لقد جئتم ببدعة ظلماً إلى أن قال والذي نفسي بيده لئن أخذتم آثار القوم ليسبقنكم سبقاً بعيداً ولئن حرتُم يميناً وشمالاً لتضلُنَّ ضلالاً بعيداً) . وهو الذي حَصَبَ الذين اجتمعوا على الذكر بالحصا في مسجد الكوفة، حتى أخرجهم منه وهو يقول: (لقد أحدثتم بدعةً ظلماً، أو قد فَضُلْتم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم علماً) . والآثار الواردة عنه في ذم البدع والتحذير منها كثيرة، فهل يُعقل أن يقال بعد ذلك أن ابن مسعود رضي الله عنه يقول بحسن بعض البدع، أو بجواز إحداث شيء يُتقرب به إلى الله، لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم. الوقفة الثانية: القول بأن مراد ابن مسعود بقوله هذا، مشروعية أو إباحة شيء من البدع التي يستحسنها لاناس، أتّهام لهذا الصحابي في دينه، فهل يصح أن يقول أحد من عامة المسلمين، أن ما رآه المسلمون حسناً، فإنه يجوز أن يتعبد الله به لأنه عند الله حسن؟ فضلاً عن صحابي عُرف عنه الحرص الشديد في الدعوة، إلى الاعتصام بالسنة ونبذ سائر البدع. الوقفة الثالثة: الزعم بأن المراد بهذا الأثر، جواز إتباع ما استحسنه المجتهد أو العالم أو العابد، تعدٍ على مقام الإلوهية، كما قال الله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 مّنَ الدّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللهُ} قال الطبري رحمه الله في تفسير هذا الآية يقول: (ابتدعوا له من الدين، ما لم يُبح الله لهم ابتداعه) ، (وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله، أن يقول بلا استدلال ... ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يُحدثه لا على مثال سبق) . وهذا الذي يزعمه محسن البدع ويستدل عليه بشبه لا تنهض لتقرير مسألة من مسائل الفروع، يعارض النصوص الكثيرة في الإلزام بالاعتصام بالكتاب والسنة، والنهي عن إحداث شيء لم يأذن به الشرع الحنيف، وقولُ أو فعلُ المجتهد في العبادة أو العلم لا يكون دليلاً، وكذلك محتاج إلى دليل، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: (ولم يجعل الله لأحد بعد رسول الله، أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهةُ العلم بعدُ: الكتابُ والسنةُ والإجماع ُ والآثار ... ) . الوقفة الرابعة: أن العلماء استشهدوا بهذا الأثر في غير ما استدل به محسنو البدع، وعلموا من لفظه ومعناه، غير ما اشتبه على هؤلاء وهذه الاستدلالات، تدور حول عدة معان: الأول: أن هذا الأثر جاء في فضل الصحابة رضوان الله عليهم، وعلو منزلتهم، وارتفاع مكانتهم، يدلُّ على هذا المعنى: ما جاء في الأثر من تصريح بفضلهم.. ويدل عليه الجزء الذي يستدل به المبتدع وهو قوله: (وما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ... ) ولذلاك وضعه الحاكم في مستدركه في كتاب معرفة الصحابة ولم يرو إلا هذا الجزء من الأثر، وكذلك فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 البيهقي في كتاب الاعتقاد، إذ أدخله في باب القول في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكذلك صنع الساعاتي في تريبه لمسند الإمام أحمد، حيث جعل هذا الأثر في كتاب المناقب، باب ذكر مناقبهم على الإجمالي، وقد سبقهم في هذا التصنيف الإمام أحمد، في كتابه فضائل الصحابة، وبما يشبه هذا التصنيف، كان صنيع الحافظ أبي نعيم الأصفهاني في كتاب الإمامة واستدل به ابن كثير في تفسيره لقوله تعالى: {اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . الثاني: هذا الأثر يجيء في أدلة صحة خلافة الصديق رضي الله عنه، وقد استدل به غير واحد، فمنهم على سبيل المثال صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة، بعد أن أورده بالزيادة الواردة في المستدرك وغيره وهي: (وقد رأي الصحابة جميعاً أن يستخلفوا أبا بكر رضي الله عنه) قال: (وهذا من أقوى الأدلة على صحة خلافته رضي الله عنه فإن الإجماع قطعي) وكذلك ابن كثير في البداية والنهاية حيث قال بعد إيراده للأثر من مسند أحمد: (وهذا الأثر فيه حكاية إجماع الصحابة في تقديم الصديق) . وقد جمع بين هذا المعنى والذي قبله، شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث استدل بهذا الأثر في منهاج السنة على فضل الصحابة جميعاً، وعلى فضل أبي بكر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وجه الخصوص، في سيقا رده على الرافضي، الذي زعم أن الذين بايعوا الصديق، إنما كانوا أصحاب جهل وطلب للدنيا، أخزاه الله ورضي الله، عن جميع صحابة نبيه. الثالث: يجيء الاستدلال بهذا الأثر، عند أهل العلم في باب الإجماع عند ذكر حجيته، وممن استدل به ابن قدامه في الروضة وأبو الخطاب الكلوذاني في التمهيد والخطيب في الفقيه والمتفقه وابن القيم في إعلام الموقعين وفي الفروسية. الرابع: مما سبق يتبين أن المراد بقوله: (ما رآه المسلمون ... ) الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بدليل سياق الأثر: (ثم ينظر في قلوب العباد بعد قلب محمد صلى الله عليه وسلم فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد، فجعلهم وزراء نبيه، يقاتلون على دينه، فما رأى المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن ... ) . ويؤيد أن المقصود بالمسلمين في الأثر الصحابة، ما سبق نقله والإشارة إليه من أقوال العلماء، حيث دلت في مجموعها على هذا المعنى، وبذلك لا يبقى لمحتج بهذا الأثر على استحسان بعض البدع أي مستمسك، فإن لم يكن ظاهر اللفظ متضحاً لصاحب الشبهة، فإنه يتوجه إلى الإجماع، كما قال الإمام الشاطبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 رحمه الله في الرد على من استدل بهذا الأثر: (إن ظاهره يدل على أن ما رآه المسلمون حسناً فهو حسن، والأمة لا تجتمع على باطل، فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعاً، لأن الإجماع يتضمن دليلاً شرعياً، الحديث دليل عليكم لا لكم - إلى أن قال- إذا لم يرد به أهل الإجماع وأريد بعضهم، فيلزم استحسان العوام، وهو باطل بإجماع) وقال الحافظ أبو محمد بن حزم الظاهري رحمه الله: (واحتجوا في الاستحسان بقولٍ يجري على ألسنتهم وهو: (ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن) ، وهذا لا نعلمه بسند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجه أصلاً، وأما الذي لا شك فيه فإنه لايوجد البتة في مسند صحيح، وإنما نعرفه عن ابن مسعود ثم ذكر سنده إلى أبن مسعود وأورد الأثر ثم قال: وهذا لو أتى من وجه صحيح لما كان لهم فيه متعلق، لأنه إنما يكون إثبات إجماع المسلمين فقط، لأنه لم يقل ما رآه بعض المسلمين حسناً فهو حسن ... ) . وقد سبق الإلماح إلى استدلال العلماء بهذا الأثر في باب الإجماع، وهنا جاء أن المراد من الأثر كما يدل سياقه، صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم ولا تنافي بين ذلك، ولا حجة فيه على تحسين أية بدعةٍ، بل على العكس من ذلك، فأما إجماع الأمة فإنه لا يمكن أن يكون على خلاف دليل صحيح صريح غير منسوخ كقوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ". ولأجل ذلك تقرر عند علماء الإسلام، أن إجماع الأمة حق فلا تجتمع على ضلالة، فإذا كان الأمر كذلك، والنص بأن " كل بدعة ضلالة " أصبح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الدليل الذي يستدل به المحسن للبدع ضده. وأما على أن المراد إجماع الصحابة، فإن الأثر ينقلب على المستدل به على حسن البدع، ذلك أن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على ذم كل البدع صغيرها وكبيرها، وحذروا منها، ونهوا عن مجالسة أصحابها، بل وحذروا من كل ذريعة تؤدي إلى البدعة، ولم يُنقل عن أحد منهم التوقف في شأن بدعة محدثة في دين الله، بل كان موقفهم كما تشهد بذلك سيرتهم: اعتقادُ أن كل المحدثات ضلال وانحراف عن سواء الصراط، فإذا كان هذا هو حالهم، فهو إجماع منهم على قبح سائر البدع، وحسن محاربتهم وأهلها، وهنا يأتي، مكان الاستدلال بقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما رأى المسلمون حسناً فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً فهو عند الله قبيح ... ) . وقد رأى جميع الصحابة أن الاعتصام بالسنة أمر حسن محمود، وأن ترك البدع والتحذير منها أمر لازم ممدوح، وأن إحداث شيء من البدع سيء وقبيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 القسم الثاني من شبه الأدلة: ما ورد بسند صحيح ووجه الدلالة فيه على خلاف ما فهمه المبتدع، المحسن للبدع، وهذه هي نصوص بعض الأحاديث: (1) عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً". (2) عن جرير بن عبد الله قال: (جاء ناس من الأعراب إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عليهم الصوف، فرأى سوء حالهم قد أصابهم حاجة، فحثّ الناس على الصدقة فأبطأوا عنه، حتى رؤى ذلك في وجهه، قال: ثم إن رجلاً من الأنصار جاء بصرّةٍ من وَرقٍ، ثم جاء آخر، ثم تتابعوا حتى عرف السرور في وجهه، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من سن في الإسلام سنة حسنة فعُمل بها بعده، كُتب له مثل أجر من عمل بها ولا ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة، فعُمل بها بعده كُتب عليه مثل وزر من عمل بها، ولا ينقص من أوزارهم شيء ". (3) عن أبري هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: جاء رجل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحثّ عليه فقال رجل عندي كذا وكذا، قال: فما بقي في المجلس رجل إلا تصدق عليه بما قل أو كثر، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "من استن خيراً فاستن به، كان له أجره كاملاً، ومن أجور من استن به ولا ينقص من أجورهم شيئاً، ومن استن سنة سيئة فاستن به فعليه وزره كاملاً، ومن أوزار الذي استن به ولا ينقص من أوزارهم شيئاً ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 فيقول المبتدع في استدلاله بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من سن سنة حسنة " إن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ (أجاز لنا ابتداع ما كان حسناً، وجعل في الأجر لمن ابتدعه ولمن عمل به، مالم يشق ذلك على الناس ... ) . وعلى هذا المنوال تَردُ استدلالات المبتدعة بهذا الحديث وبقوله: " من دعا إلى هدى، ومن دعا إلى ضلالة ... " وقوله: " من استنَّ خيراً فاستن به ومن استن سنة سيئة فاستن به.. " الحديث. وترد شبهتهم ـ من هذه الأدلة ـ على البدع التي يستحسنونها بقولهم: هذه النصوص نَسَبت الاستننان إلى المكلف، وفي هذه دليل على جواز اختراع شيء في الدين، ولي المراد عَملَ سنةٍ ثابتةٍ، لأنه لو كان هذا هو المراد لقال: (من أحيا سنة، أو من عمل بسنة ثابتةٍ أو من عمل بسنتي) ، ونحو ذلك، ولكن الوارد: " من سن سنة "، " من استن خيراً فاستن به " وهذا اللفظ يدل دلالة واضحة على أن من أوجد شيئاً من أمور الخير واقتُدى به فيه، فإنه يُحمد على ذلك بدوام أجره إلى يوم القيامة، بعكس من أحدث شراً، فإنه يُذم ويجازى باستمرار الآثام عليه إلى يوم القيامة. مناقشة هذه الشبهة: الناظر إلى نصوص الشريعة لا بد أن يوقن بأنه لا تضاد بينها البتة، ويلزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 من ذلك أن يكون نظره غليها نظراً متكاملاً، فلا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، ولا يستدل بنص مُجْتزأ عن النصوص الأخرى أو معزول عنها، كما يفعل غالبية أهل الابتداع، بل لابد من الإحاطة بالنصوص في المسألة التي يريد إصدار الحكم فيها، إحاطة موقن بأنه لا يمكن أن تتناقض النصوص الشرعية الثابتة. وعلى هذا فلا بد من النظر إلى هذه الأحاديث، التي يستدل بها المبتدع بهذا المعيار، الذي من تجاوزه تخبّط في أحكامه. فالدعوة إلى الهدُى أو استنان سنة الخير، أو إيجاد السنة الحسنة، كل ذلك لابد أن يكون مضبوطاً بالضوابط الشرعية الثابتة بالنصوص الكثيرة: وعلى هذا فلا بد من النظر إلى هذه الأحاديث، التي يستدل بها المبتدع بهذا المعيار، الذي من تجاوزه تخبط في أحكامه. فالدعوة إلى الهُدى أو استنان سنة الخير، أو إيجاد السنة السحنة، كل ذلك لابد أن يكون مضبوطاً بالضوابط الشرعية الثابتة بالنصوص الكثيرة: فمن هذه الضوابط أن العمل الذي يعمله الإنسان مريداً به القربة على الله، لابد أن يكون مشروعاً في أصله، فإذا لم يكن كذلك فهو ابتداع أو ضلال، لقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة". فمن رأى هذا النص الذي كان ينادي به الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خُطَبِهِ، وقارنه مع قوله: " من سن سنة حسنة" أو " من استن خيراً فاستُن به " يجد أن لا تناقض بينها ولا تضاد، فاستنان الخير ليس على إطلاقه بل هو مضبوط بكونه مشروعاً، فإن لم يكن له أصل شرعي معتبر يدل عليه، فهو ابتداع وضلال، حتى ولو كان في ذاته فعل خير. فملاً صلاةُ الرغائب تعتبر في ذاتها ـ مجردة عما يلحق بها ـ من أفعال الخير لوجود الذكر والتلاوة والتعبد بالركوع والسجود فيها، ولكن فعل الخير هذا لمّا لم يكن له أصل من الشرع، من حيث الهيئةُ والزمان، أصبح من البدع والمنكرات، وهكذا سائر البدع المحدثة في دين الله، وليس اعتبار الخيرية في عمل من الأعمال كافٍ في جعل هذا العمل مشروعاً، حتى يُعلم أن هذا الخير له أصل في الشرع لا من جهته الذاتية المنفصلة، بل ومن جهة ما يتبعه من هيئات وصفات ومتعلقات ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 ولزيادة التوضيح ترد قصة ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ مع الذين اجتمعوا في مسجد الكوفة، يذكرون الله بصفةٍ جماعية، وبين أيديهم الصحى يذكرون بها فأنكر عليهم ابن مسعود وزجرهم واعتبر عملهم هذا بدعةَ ضلالةٍ، وإحداث على غير هدى، مع أن الذكر في اصله مشروع، وقد وردت أحاديث في فضله، وفضل المجتمعين على ذكر الله، وهو من أمور الخير بلا شك، ولكن ذلك لم يكن مانعاً من إنكار ابن مسعود وتبديعه لهذا العمل، ومع أنه من أعلم أهل زمانه بفضل الذكر ومجالسه، ولكنه لما رأى هؤلاء أحدثوا هيئةً للذكر، وطريقة يتعبدون بها، ولم يكن ذلك معهوداً في عهده ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنكر عليهم ـ رضي الله عنه ـ، وحصبهم حتى أخرجهم من المسجد، ولم ينقل عن أحد منهم أنه احتج بأن: "من استن خيراً فاستُن به كان له أجره كاملاً ومن أجور من استن به". ولم يعتبر ابن مسعود الخيرية الحاصلة بالذكر، منفصلة عن الخيرية الحاصلة بالاتباع وترك الابتداع، ولذلك أنكر عليهم وبدَّع عملهم. وهكذا يطرَّد هذا المعنى في سائر الأمور ... ثم يقال لماذا يتمسّك المبتدع أو المحسن لبعض البدع بقوله: " من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة.. " الحديث. ويعرض عن قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " ... من رغب عن سنتي فليس مني "، مع أنهما متلازمان من حيث المعنى والمقصد. وهكذا كان فهم السلف ـ رضوان الله عليهم ـ للسنة والمراد بها، كما قال عمر ابن عبد العزيز ـ رحمه الله: (سنَّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وولاة الأمر بعده سنناً، الأخذ بها تصديق بكتاب الله، واستعمال لطاعة الله، وقوة على دين الله، ليس لأحد تغييرها ولا تبديلها، ولا النظر في رأي من خالفها، ومن اقتدى بها مهتد، ومن انتصر بها منصور، ومن خالفها واتبع غير سبيل المؤمنين ولاه الله ما تولى، وأصلاه جهنم وساءت مصيراً) . وهذا سعيد بن المسيب ـ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 رحمه الله ـ ينهى الرجل الذي رآه يصلي بعد طلوع الفجر أكثر من ركعتين يكثر فيهما الركوع والسجود، فقال له الرجل: يا أبا محمد يعذبني الله على الصلاة، قال: (لا، ولكن يعذبك على خلاف السنة) . ثم إن الناظر بعين الإنصاف والبحث عن الحق، يجد أن النصوص الذامة للبدع، نصوص عامة تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص، وقول القائل بأن المراد بقوله: " من سن سنة حسنة " الاختراع والابتداع الحسن، يلزم منه التعارض بين الأدلة الثابتة، وهذا غير مقبول، مع أنه قد توضح بأنه لا تعارض مطلقاً وإنما هي من باب المطلق والمقيد ... فقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من سن سنة حسنة " وقوله: " من استن خيراً فاستُّن به " من المطلق الذي قُيّدَ بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وقوله: " من رغب عن سنتي فليس مني " وقوله: " وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة " هذا على افتراض أن المراد بقوله: " من سن سنة حسنة " الاختراع والابتداء والإيجاد، مع أن هذا ليس هو المراد، وإنما المراد العمل بما ثبت أنه من السنة، والدليل على أن هذا هو المراد ما يلي: 1- أن سبب قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " نسنة سنة حسنة " حادثة القوم الحفاة العراة الذين لما رآهم ـ صلى الله عليه وسلم ـ خطب في الناس، وحث على الصدقة عليهم، فأبطأ الناس حتى كره ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم جاء رجل من الأنصار بصّرةٍ من مال فوضعها، ثم تتابع الناس فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " من سن سنة حسنة.. " الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 فدلت هذه القصة على السنة المقصودة في هذا الحديث وهي العمل بما ثبت كونه مشروعاً، إ السنة التي سنّها الأنصاري ـ رضي الله عنه ـ هي: مبادرته إلى الصدقة التي حضّ عليها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ومن هذا السبب لورود الحديث، يتبين أن المراد به عمل ما هو مشروع، وليس إحداث ما ليس مشروعاً ن ثم تسميته سنة حسنة كما فهم المبتدع. 2- أن قوله ـ صلى الله عليه وسلم: " من سن سنة حسنة " لايمكن حمله على الاختراع والأحداث والابتداء عن غير أصل مشروع معتبر، لأن كون العمل حسناً أو سيئاً قبيحاً لا يُعرف إلامن جهة الشرع ... نعم، يدرك العقل حسن الشيء وقبحه، فيما هو متعلق بالمدح والثواب والذم والعقاب، ولكنه لا يستلزم حكماً في فعل العبد، بل يجعل الفعل صالحاً لاستحقاق الأمر والنهي من الحكيم الذي لا يأمر بنقيض ما أدرك العقلُ حسنَه، ولكن إدراك العقل حسن الشيء، لا يلزم منه حكماً بالوجوب أو الاستحباب، بل الحكم من خطاب الشارع، فلو لم يرسل الله رسولاً، لم يكن هناك أمر ولا نهي ولا عقاب، ولا أدرك العقل مصلحةَ أو مفسدةَ الفعل، ومن هنا يقال: بأن حسن الشيء وقبحه وما يترتب عليه من ثواب وعقاب، يأتي كل ذلك من قبل الشرع والعقل يدرك الحسن والقبح، وهذا هو مذهب أهل السنة والجماعة الذي هو وسط في هذا الباب، بين المعتزلة الذين يقولون بأن الحسن والقبح عقلي لا يتوقف معرفته وأخذه عن الدليل السمعي، والأشاعرة الذين قالوا بأن العقل لا يدرك حسن الشيء ولا قبحه مطلقاً، وإنما الحسن ما حسّنه الشرع، والقبح ما قبّحه الشرع. ومذهب أهل السنة هو الوسط الذي قال بإدراك العقل حسن الشيء وقبحه، ولكن بدون أن يكون مستلزماً لأمرٍ أو نهي أو ثواب أو عقاب، لأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 ذلك من خصائص الشارع الحكيم ... ومن هنا نقول بأن استحسان العقل أو الذوق لفعل من الأفعال لا يكون مبرراً لإٌحداثه واعتباره سنة حسنة، لأنه لو اعتبر ذلك، من غير نظر إلى حكم الشارع لا نفرط عقد الشريعة، ولقال كل من شاء ما شاء، ولفعل كل إنسان ما أملاه عليه عقله أو ذوقه، فإذا عُلم ـ مع ما سبق ـ مقدار تنوع عقول الناس وأفهامهم وأذواقهم، عُرف كم في حشايا القول باستحسان البدع من خطرٍ على الدين، وافتئات على الله وشرعه القويم الكامل، الذي قال فيه جل وعلا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} . ومن الأدلة التي اشتبهت على محسنّني البدع: 1- حديث وابصة بن معبد ـ رضي الله عنه ـ قال: (جئت إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أسأله عن البر والإثم فقال: " جئت تسأل عن البر والإثم؟ فقلت: والذي بعثك بالحق ما جئتك أسألك عن غيره، فقال: البر ما انشرح له صدرك، والإثم ما حاك في صدرك وإن أفتاك الناس) . وفي لفظ: " استفت نفسك، البر ما اطمأن إليه القلب واطمأنت إليه النفس، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 والإثم ما حاك في القلب، وتردد في الصدر، وإن أفتاك الناس ". وبمعنى حديث وابصة حديث أبي ثعلبة الخُشني. قال: (قلت: يا رسول الله أخبرني بما يحل لي ويحرم علي، قال فصعّد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصوّب فيّ النظر، فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " البر ما سكنت إليه النفس، واطمأن إليه القلب، وأُم ما لم تسكن غليه النفس ولم يطمئن إليه القلب وإن أفتاك المفتون ... " الحديث. 2- عن أبي أمامه الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال " (سأل رجل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " ما الإثم؟ قال: إذا حكّ في نفسك شيء فدعه، قال: فما الإيمان؟ قال: إذا ساءَتك سيئتُك، وسركتك حسنتك، فأنت مؤمن) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 3- وبمعنى ما مضى: عن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال: (سألت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن البر والإثم؟ فقال البر حسن الخلق، والإثم ما حاك في صدرك، وكرهت أن يطلع عليه الناس) . وهذه الأحاديث الأربعة بمعنى متقارب، يستدل بها وبأمثالها من الأحاديث والآثار، المحسّن للبدع، على أن معناها الرجوع في الأمور الحادثة في الدين إلى ما يقع بالقب، ويهجُس في النفس، فإذا اطمأنت إليه النفس ولم تجد حرجاً فهو صحيح حسن، يصلح أن يكون قربة، لأنه بِرّ يجازي الله عليه بالثواب. وأما إذا تحرّجت النفس فيه وارتابت وترددت، فإنه، قبيح يحظر الإقدام عليه، ولا يصلح أن يكون قربه لكونه مأثماً. وإن في مجموع هذه الأحاديث، دليلاً على أن الاستحسان والاستقباح الذي يقع بالقلب، أمر يصح الاعتماد عليه لقوله: " استفت قلبك ". وفيه دلالة واضحة على أن لاستحسان العقول وميل النفوس أثراً في شرعية الأحكام. مناقشة هذه الشبهة: تتعلق هذه الأحاديث بأمور عدةٍ، منها ما يخص الكلام عن البدعة، ومنها ما تدخل فيه البدعة من وجه دون وجه، ومنها ما لاعلاقة له ببحث البدعة، وسيكون الكلام عن القسمين الأولين وهما يدوران حول الأمور التالية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 1) الإلهام ومتى يعتبر ومتى لا يعتبر؟ 2) متى يصح استفتاء القلب؟ 3) المتشابه. 4) دليل الحكم ومناط الحكم. والكلام على الأمرين الثالث والرابع منضوٍ ـ مع غيره ـ تحت الأمر الثاني أما الأمر الأول فهو: (1) الإلهام: ويراد به ما يُلقى في روح الإنسان من علم أو عمل أو إرادة. وقد يسمى العلم اللدنّّي. وبين الإلهام وكلّ من التحديث والفراسة والإعلام بلا واسطة والكشف، عموم وخصوص من حيث الحقيقة والمتعلق، وتنقسم كل هذه المعاني من حيث الحكم إلى قسمين: الأول: حق في ذاته ومتعلقاته، وهو ما كان ثمرة العبودية والمتابعة والصدق مع الله، والإخلاص له، وبذلك الجهد في تقلي العلم من مشكاة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكمال الانقياد له. الثاني: باطلٌ وشر في ذاته ومتعلقاته، وهو ما كان ثمرة للإعراض عن الوحي وتحكيم الهوى والشيطان، وما تشتهيه الأنفس. وعلى ذلك فإن الإلهام الذي يقع في روع المسلم إما أن يكون رحمانياً أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 شيطانياً، ويُعرف ذلك بحال صاحبه، كما تقدم، ويعرف كذلك بالشيء المُلهَم به، فإن كان ما وقع في القلب من علم أو إرادة أو عمل، مضاداً للشريعة بالابتداع، وللكتاب والسنة بالاستدراك والأحاديث، فهو إلهام شيطاني، كما يقع لكثير من الصوفية وغيرهم المبتدعة، وإن كان الذي وقع في القلب إنما هو من باب الترجيح بين الأدلة المتكافئة، أو النظر في مناط الحكم، أو عند الاشتباه بين الحلال والحرام ونحو ذلك، وكان الذي وقع عليه الإلهام ممن شرح الله صدره بالإيمان، ووفقه للعلم النافع، وهداه للاعتصام بالسنة، فهو إلهام رحماني، يعتبر دليلاً في حقه، وترجيحُهُ بهذا الإلهام ترجيحٌ شرعيٌ، بشرط أن لايكون مخالفاً للشرع. وبهذا التقسيم يمكن معرفة المعتبر من غيره في مسألة الإلهام، التي يُستَدل عليها بالأحاديث السابقة، وغيرها من الأحاديث والآثار.. ويمكن معرفة مراد السلف في إنكارهم وذمهم للمتكلمين على الوساوس والخطرات من الصوفية، حيث كان كلامهم في ذلك لا يستند على دليل شرعي بل إلى مجرد رأي وذوق، وكذلك إنكارهم للكلام في مسائل الحلال والحرم، بمجرد الرأي، من غير دليل شرعي. ومع هذا الإنكار ورد عنهم اعتبار الرجوع إلى ما في القلب عند الاشتباه والترجيح، ونحو ذلك من الحق الذي دلت عليه النصوص النبوية، وفتاوى الصحابة. بحيث لا يكون في ذلك الرجوع، خروج على قاعدة " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " وقاعدة " كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة " ... وبهذا التقسيم المضبوط بالشروط، يتضح موقف من قبل الإلهام من أهل الأصول، ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 رده بيد أنه يجب التنبه إلى أن هذا الباب ولج منه مبتدعة الصوفية والرافضة، إلى اعتقادات هي غاية في الضلال والزندقة، حيث جعلوا ما يقع في القلب بمثابة الوحي من الله، وفي منزلته في وجوب اتباعه، فاعتقدت الاثنى عشرية العصمة في أئمتهم، واعتقدت الصوفية مثل ذل في مشائخهم. كقول أحدهم عند كلامه عن الإلهام: (وإن تأملت في مقامات الأولياء ومواجيدهم وأذواقهم ـ وذكر مجموعة من الصوفية ثم قال: علمت أن ما يلهمون به لا يتطرق إليه احتمال وشبهة، بل حقٌ حقٌ حق، مطابقٌ لما في نفس الأمر ـ على أن قال ـ وإن تأملت في كلام الشيخ الأكبر خليفة الله في الأرضين، خاتم فص الولاية: الشيخ محي الملة والدين، الشيخ محمد بن العربي قُدس سره، ووفقنا لفهم كلماته الشريفة، لما بقي لك شائبةُ وهمٍ وشكٍ في أن ما يُلهمون به من الله تعالى ... ) . وهذا كله من الضلال الذي يُعارض دين الله، فيس لأحد كائناً من كان اعتقادَ الشريعة والعصمة لأحد بعد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لا بذوق ولا برأي ولا بكشف، ومن اعتقد ذلك فقد خلع سربال العبودية لله تعالى، وارتدى مرقعات الإشراك، فتعوذ بالله من الضلال. وجماع القول في باب الإلهام الذي يحتج به طوائف من أهل الابتداع، ويستدلون عليه بأحاديث استفتاء النفس والقلب ما يلي: 1) الإلهام والكشف منه ما هو حق وصواب، ومنه ما هو باطل وضلال. . 2) الإلهام الحق هو الذي توفرت فيه وفي صاحبه هذه الأمور: (أ) الاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله ظاهراً وباطناً، وكمال الانقياد لها والتحلّي بالتقوى والإخلاص والمتابعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 (ب) أن يكون تابعاً لحكم شرعي، ولدليل من الوحي لا مستأنفاً لحكم من عنده، أي أنه ليس بدليل منفصل ولا مستقل. (ج) أن يكون موافقاً للكتاب والسنة، وغير متعارض معهما، لنه لو كان يأتي الإنسان من الله مالا يحتاج عرضه على الكتاب والسنة، لكان مستغنياً عن الرسول في بعض دينه وهذا كفر. 3) الإلهام والتحديث والكف، الواقعة للمؤمن التقي المتبع للسنة، منه ما هو خطأ، ومنه ما هو صواب، والكتاب والسنة تميز صوابه من خطئه. 4) الأصل في رد الأحكام والفتيا في الأعمال والأخبار، إلى كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، وما عدا ذلك من اجتهاد أو نظر أو إلهام فهو تابع في منزلته وحكمه للنقل، لأنه هو حجة الله على خلقه. 5) الإلهام الحق لا يقع في كل شيء، بل هو واقع في حيز الأمور التي يصح استفتاء القلب فيها، وهذا هو الأمر الثاني الذي يجري الحديث عنه. (2) متى يصح استفتاء القلب؟ وقد مر ذكر ذلك عرضاً في مسألة الإلهام، وهنا بعض التفصيل: 1- لايوجد أمر من أمور الدين إلا قد بينه الله ووضّحه رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكمل توضيح، كما قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأِسْلاَمَ دِيناً} . وكما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وهذا الأصل لا ينكره إلا زائع هالك. 2- ينبني على هذا الأصل، أن المرجع في الأمور كلها، كتاب الله وسنة رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، فمنها التشريع وإليهما التحاكم، كما قال تعالى: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمّا جَآءَكَ مِنَ الْحَقّ لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} إلى قوله سبحانه ـ {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ اللهُ وَلاَ تَتّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ اللهُ إِليْكَ ... } . وقد حظر على نبيه محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ العمل والحكم بغير الوحي فقال ـ عز وجل ـ: {إِنّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِمَآ أَرَاكَ اللهُ} (فأمره بالحكم بما أراه الله، لا بما رآه هو أو حدثته به نفسه، فغيره من البشر أولى أن يكون ذلك محظوراً عليه) . وهذا أصل ثان، وعليه من أدلة الكتاب والسنة وأقواله الصحابة والتابعين ما يفوق هذا الحيز المختصر. 1- عند النظر إلى حديث " استفت نفسك "و " استفت قلبك " وما في معناه، فإنه يجب إلحاقها بالأصلين السابقين، فمتى ظن أحدٌ أن استفتاء القلب هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 بإيجاد حكم مستقل عن الدليل الشرعي، فقد ضل ضلالا بعيداً. 2- وارداتُ القلوب من إلهام وكشف وتحديث ونحو ذلك، تدخل عند العلماء في الأمور التالية: أ- الاشتباه في الأمر هل هو بِرّ أو إثم، حلال أو حرام ... والبدعةُ ليست من المشتبه، بل هي واضحة الحكم في قوله صلى الله عليه وسلم "كل بدعةٍ ضلالة " وقوله: " من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد" ب- عند الترجيح بين الأدلة الشرعية المتكافئة، عند من هو أهل للنظر والترجيح علماً وإخلاصاً واتباعاً ... ليست البدعة من هذا الباب حتى يُستفتي القلب فيها، بل هي داخلة تحت الأدلة الشرعية المحكمة، الدالة كلها على أن كل ابتداع شر وفساد. جـ- (الله سبحانه وتعالى ـ فطر عباده على الحنيفية: وهو حب المعروف، وبغض المنكر، فإذا لم تَسْتحِلْ الفطرة فالقلوب مفطورة على الحق، فإذا كانت الفطرة مقومة بحقيقة الإيمان، منّورة بنور القرآن، وخفي عليها دلالة الأدلة السمعية الظاهرة، ورأى قلبه يرجح أحد الأمرين، كان هذا أقوى الأمارات عند مثله) . وهذا الكلام هو معنى " البر ما أطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في صدرك " د - الترجيح بين المباحات من المِلْك والمال وغير ذلك، إذا تعذر الترجيح بسبب شرعي معلوم وكذلك الحكم في فضول المباحات. فإنه قد يُرجع فيها إلى استفتاء القلب، واعتبار ما يُلهمه الله به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 هـ- النظر في دليل حكم المسألة لابد أن يكون من الكتاب والسنة، أما النظر في مناط الحكم، فإنه لا يلزم أن يكون المناط ثابتاً بدليل شرعي فقط، فيصح استفتاء القلب في مناط الحكم إذا لم يكن منصوصاً عليه، ومثال ذلك: إذا سأل العامي عن الفعل الذي ليس من جنس الصلاة، إذا فعله المصلي هل تبطل صلاته أم لا؟ فقال له العالِم إذا كان الفعل يسيراً لم تبطل، وإن كان كثيراً بطلت صلاته ... كان ذلك كافٍ في أن ينظر العامي في الفعل الذي هو مناط الحكم، فيميز بين اليسير والكثير، وفي هذا المثال الأدنى دليل على ما هو أعلى في مسألة مناط الحكم، ومثله الدم الفاحش على الثوب وحكمه في الصلاة ... وهذا التفريق بين دليل الحكم ومناط الحكم، هو ما يمكن أن يطلق عليه من وجه آخر الأحكام الكلية، والأحكام المعينات. (فإن الشارع بين الأحكام الكلية وأما الأحكام المعينات التي تسمى تنقيح المناط، مثل كون الشخص المعين عدلاً أو فاسقاً، أو مؤمناً، أو منافقاً، أو ولياً لله، أو عدواً له، وكون هذا المعين عدواً للمسلمين يستحق القتل، وكون هذا العقار ليتيم أو فقير يستحق الإحسان إليه، وكون هذا المال يُخاف عليه من ظلم ظالم، فإذا زهد فيه الظالم انتفع به أهله، فهذه الأمور لا يجب أن تعلم بالأدلة الشرعية العامة الكلية، بل تعلم بأدلة خاصة تدل عليها. ومن طرق ذلك الإلهام، فقد يُلهم الله بعض عباده حال هذا المال المعين، وحال الشخص المعين، وإن لم يكن هناك دليل ظاهر يشركه فيه غيره ". وهذا المعنى لا ينطبق على المحدثات بوجهٍ من الوجوه، لأن أدلتها العامة الكلية من أوضح الواضحات في دين الله، فلا يرجع فيها بحال من الأحوال إلى الإلهامات، أو زوال الحرج في النفس والقلب، لأنها منضوية تحت الأحكام الكلية في الشريعة، وجميع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 المعينات من الحوادث والبدع لا تخرج عن الأدلة الشرعية العامة الكلية، الناهية عن الابتداع والآمرة بالإتباع. وعلى كل ما سبق يتبين أن البدعة لا تدخل في الأمور التي يستفتى فيها القلب، لكونها بيّنة الحرمة والقبح، غير مشتبهة، ولكون أدلتها الشرعية ناصة على ذلك، ولكونها من المنكر والإثم الذي لا تخفى أدلته السمعية على أحد، وليست من المباحات حتى ينظر فيها بمسبار الحرج القلبي أو عكسه، وليست من أبواب تنقيح المناط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ومن الأدلة التي اشتبهت على محسني البدع: ما ورد عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم، من وصف ٍ لبعض الأعمال بأنها بدعة، من غير ذم ٍ لها: 1- كقول عمر - رضي الله عنه - عن صلاة التراويح جماعة ً: (نعمت البدعة هذه) . 2- وقول غضيف بن الحارث الثمالي - رضي الله عنه -: (بعث إلي عبد الملك بن مروان فقال: يا أبا أسماء إنا قد أجمعنا الناس على أمرين، قال: وما هما؟ ، قال: رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة، والقصص بعد الصبح والعصر، فقال: أما إنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبكم إلى شيء ٍ منهما، قال: ولم؟ ، قال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما أحدث قوم ٌ بدعة ً إلا رفع مثلها من السنة، فتمسكٌ بسنة ٍ خير ٌ من إحداث بدعة) . 3- عن أبي مالك الأشجعي عن أبيه قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقنت، وصليت خلف أبي بكر فلم يقنت، وصليت خلف عمر فلم يقنت، وصليت خلف علي فلم يقنت، ثم قال: يا بني إنها بدعة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 4- قول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما سأله مجاهد، وعروة بن الزبير عن الناس الذين يصلون الضحى في المسجد، قال (بدعة) . وفي لفظ عند عبد الرزاق في المصنف أنه قال: (لقد قتل عثمان، وما أحد يسبحها، وما أحدث الناس شيئا ً أحب إلي منها) . وفي لفظ عنده أيضا ً من طريق سالم بن عبد الله بن عمر، عن ابن عمر أنه قال: (قد أصيب عثمان، وما أحد يسبحها، وإنها لمن أحب ما أحدث الناس إلي ... ) . الأثر. وفي مصنف ابن أبي شيبة عن الحكم بن الأعرج قال: (سألت ابن عمر عن صلاة الضحى فقال: بدعة) ، وقد أورد ابن أبي شيبة هذا الأثر أيضا ً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 عن الحكم بن الأعرج، قال: (سألت محمداً عن صلاة الضحى، وهو مسندٌ ظهره إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فقال: بدعة ٌ ونعمت البدعة) . وفي مصنف ابن أبي شيبة عن سعيد بن عمرو القرشي قال: (ابتعت أبا عبد الله بن عمر لأتعلم منه، فما رأيته يصلي السبحة، وكان إذا رآهم يصلونها قال: من أحسن ما أحدثوا سبحتهم هذه) . وقد احتج المحسّن للبدع بهذه الآثار زاعماً أن الصحابة استحسنوا بعض البدع، فوصفوا بعض المحدثات بأنها: نعمت البدعة، وأنها من أمثل ما أُحدث، أو أحب ما أُحدثه الناس، أو أحسن ما أحدثوا، وسكتوا عن النهي عن بعض البدع مكتفين بوصفها بأنها بدعة، وهذا كاف ٍ في اعتبار أن بعض المحدثات كانت محبوبة ومستحسنة عند الصحابة رضوان الله عليهم، وفي هذا دليل ٌ على أن عموم " كل بدعة ضلالة " مخصص عندهم، إذ لو كان الأمر على إطلاقه لما صح وصف الصحابة لبعض البدع بالحسن أو نعتها بألفاظ التفضيل، كنِعْمَ وأحبُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وأمثلُ وأحسن ُ ونحو ذلك، مما يدل على أن وصف الضلالة، إنما يخص البدع القبيحة والسيئة، أما البدع الحسنة فمحمودة ٌ مثاب ٌ عليها ... ولمناقشة هذا القول، والأدلة التي يستدل بها المحسِّن للبدع يحسُن أن يكون الكلام على الآثار التي استدل بها، ثم على المعنى المراد من هذه الآثار: 1- أما حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه في جَمْع الناس لصلاة التراويح على إمام ٍ واحد فنصه عند البخاري بسنده عن عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: (خرجت مع عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليلة ً في رمضان إلى المسجد، فإذا الناس أوزاع ٌ متفرقون، يصلي الرجل لنفسه، ويصلي الرجل فيصلي بصلاته الرهط، فقال عمر: إني أرى لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل، ثم عزم فجمعهم على أُبيّ بن كعب ثم خرجت معه ليلة ً أخرى، والناس يصلون بصلاة قارئهم، قال عمر: نعم البدعة هذه، والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون، يريد آخر الليل وكان الناس يقومون أوله) . واحتجاج محسِّن البدع بهذا الحديث منقوض بما يلي: أولا ً: أن فعل عمر رضي الله عنه، حينما جمع الناس في التراويح على إمام ٍ واحدٍ مأخوذٌ من فعله صلى الله عليه وسلم، كما روى البخاري وغيره عن عائشة رضي الله عنها أخبرت: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة ً من جوف الليل فصلى في المسجد، فصلى رجال ٌ بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا فاجتمع أكثر منهم، فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بصلاته، فلما كان الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله حتى خرج لصلاة الصبح، فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 قضى الفجر أقبل على الناس فتشهد، ثم قال: أما بعد، فإنه لم يخف علي مكانكم، ولكني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك) . ففي هذا الحديث النص الصريح على أن الناس اجتمعوا على إمام ٍ واحدٍ في عهده صلى الله عليه وسلم، وبفعله عليه الصلاة والسلام، وأنه إنما ترك ذلك رأفة ً بأمته، وخشية ً منه عليه الصلاة والسلام أن تفرض عليهم، وقد ذكر هذا المعنى الحافظ في الفتح نقلا ً عن بعض العلماء عند شرحه لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما رأى الناس يصلون أوزاعا ً قال: (لو جمعت هؤلاء على قارئ واحد لكان أمثل ... ) . قال: ( ... استنبط عمر ذلك من تقرير النبي صلى الله عليه وسلم من صلى معه في تلك الليالي، وإن كان كره ذلك لهم، فإنما كرهه خشية أن يفرض عليهم - إلى أن قال ناقلا ً عن غيره - قيام رمضان سنة؛ لأن عمر إنما أخذه من فعل النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما تركه النبي صلى الله عليه وسلم خشية الافتراض) . وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض رده على الذين يحتجون بقول عمر: (نعمت البدعة) على حسن بعض البدع: (أما قيام رمضان فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنه لأمته، وصلى بهم جماعة ً لعدة ليال، وكانوا على عهده يصلون جماعة ً وفرادى، لكن لم يداوموا على جماعة ٍ واحدةٍ؛ لئلا تفرض عليهم، فلما مات النبي صلى الله عليه وسلم استقرت الشريعة، فلما كان عمر رضي الله عنه، جمعهم على إمام واحد، وهو أُبي بن كعب رضي الله عنه الذي جمع الناس عليها بأمر من عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر رضي الله عنه هو من الخلفاء الراشدين، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ... ) . وقال عليه رحمة الله في الاقتضاء: (فأما صلاة التراويح فليست بدعة في الشريعة، بل سنة بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم وفعله في الجماعة - إلى أن قال - ولا صلاتها جماعة بدعة، بل هي سنة في الشريعة، بل قد صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجماعة أو شهر رمضان ليلتين بل ثلاثا ً، وصلاها أيضا ً في العشر الأواخر في جماعة مرات - إلى أن قال - وكان الناس يصلونها جماعات في المسجد على عهده صلى الله عليه وسلم وهو يقرهم، وإقراره سنة ٌ منه صلى الله عليه وسلم) ، وبمثل قول شيخ الإسلام هذا قال الحافظ ابن رجب الحنبلي رحمه الله والشاطبي في الاعتصام. ثانيا ً: أن قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) ، ينصرف إلى البدعة اللغوية لا الشرعية، وذلك لأمور: الأول: أن صلاة التراويح جماعة قد ثبت فعلها جماعة ً على إمام واحد في عهده صلى الله عليه وسلم فلا يمكن أن يسمي عمر هذه السنة الثابتة بدعة إلا من باب اللغة. الثاني: أن صرف قول عمر إلى البدعة اللغوية هو الأولى والأجمل بالفاروق ومنزلته رضي الله عنه، فهل يعقل أن يرضى عمر بالبدعة في دين الله وقد تلقى مع غيره من الصحابة قول النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بدعة ضلالة) ؟ ! مع ما عرف عنه رضي الله عنه من حرص على اتباع السنة ومحاربة البدعة، بل وقطع كل ذريعة تؤدي إلى البدعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 الثالث: أنه يرد في استعمال الصحابة بعض المصطلحات الشرعية بمعانيها الأصلية في لغة العرب، كقول أُبي بن كعب رضي الله عنه للنبي صلى الله عليه وسلم: (أجعل لك صلاتي كلها، قال: إذا ً تكفى همك ويغفر لك ذنبك) . ومراده بقوله صلاتي: " دعائي "، كما في الرواية الأخرى للحديث ألا أجعل دعائي لك كله) . وكقول عائشة رضي الله عنها: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر ٍ من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له ... ) الحديث. والمراد: أنه طأطأ رأسه وانحنى له، ففي لسان العرب: (أسجد الرجل: طأطأ رأسه وانحنى، وكذلك البعير. قال الأسدي أنشده أبو عبيد: وقلن له اسجد لليلى فاسجدا يعني بعيرها أنه طأطأ رأسه لتركبه) . والسجود بالمعنى الشرعي هو: الجلوس على الأعضاء السبعة عبادةً لله سبحانه. وليس هذا هو مراد أم المؤمنين في وصفها للبعير، وإنما مرادها المعنى اللغوي، وكذلك لفظ الصلاة في حديث أبي بن كعب رضي الله عنه أراد به المعنى اللغوي، قال في لسان العرب نقلا ً عن ابن الأثير: (وقد تكرر في الحديث ذكر الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 وهي العبادة المخصوصة وأصلها الدعاء في اللغة) . ومن هذا الباب قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) أراد بها البدعة بالمعنى اللغوي، وكان هذا المعنى معروفا ً في لغة العرب، فكانت تطلق لفظ البدعة على الأمر الجديد، كما روى الإمام أحمد عن ربيعة بن عباد الديلي قال: (إني لمع أبي، رجل ٌ شاب ٌ أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل ووراءه رجل ٌ أحول وضيء ذو جمة ٍ يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة يقول: يا بني فلان، إني رسول الله إليكم، آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا ً، وأن تصدقوني حتى أُنفِذَ عن الله ما بعثني به، فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من مقالته قال الآخر من خلفه، يا بني فلان إن هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الحي بني مالك بن أقيش إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تسمعوا له، ولا تتبعوه، فقلت لأبي من هذا؟ فقال: عمه أبو لهب) . وقد فهم جماعة من العلماء هذا المراد من قول عمر رضي الله عنه ونصوا على ذلك في كلامهم، وإليك قول طائفة منهم على سبيل التمثيل: قال ابن رجب الحنبلي رحمه الله في جامع العلوم والحكم: (فكل من أحدث شيئا ً ونسبه إلى الدين، ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة والدين بريءٌ منه، وسواء ٌ في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة، وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر رضي الله عنه لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام ٍ واحد ٍ في المسجد وخرج ورآهم يصلون كذلك، فقال: (نعمت البدعة هذه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... أكثر ما في هذا تسمية عمر تلك بدعة مع حسنها، وهذه تسمية لغوية لا تسمية شرعية، وذلك أن البدعة في اللغة تعم كل ما فُعل ابتداء ً من غير مثالٍ سابق ٍ، وأما البدعة الشرعية فما لم يدل عليه دليل شرعي - إلى أن قال - ثم ذلك العمل الذي دل عليه الكتاب والسنة ليس بدعة في الشريعة، وقد عُلم أن قول النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد به كل عمل مبتدأ، فإن دين الإسلام بل كل دين جاء به الرسل فهو عمل مبتدأ، وإنما أراد ما ابتدئ من الأعمال التي لم يشرعها هو صلى الله عليه وسلم) . وقال رحمه الله: ( ... كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة، وما سمي بدعة وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال ليس ببدعة في الدين، وإن كان يسمى بدعة من حيث اللغة، كما قال: (نعمت البدعة هذه) ... ) . وقال في موضع ٍ آخر: (ولا يحتج محتج بجمع التراويح ويقول: (نعمت البدعة هذه) فإنها بدعة في اللغة ... ) . وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: (والبدعة على قسمين: تارة ً تكون بدعة ً شرعية ً كقوله: " فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة "، وتارة ً تكون بدعة ً لغوية ً، كقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم (نعمت البدعة هذه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 وتحدث الشاطبي معبرا ً عن ما يشبه هذه المعاني في معرض رده على المستحسن للبدع، والمستدل عليها بقول عمر رضي الله عنه، فقال: ( ... إنما سماها بدعة باعتبار ظاهر الحال من حيث تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق أن لم تقع في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لا لأنها بدعة في المعنى، فمن سماها بدعة بهذا الاعتبار فلا مشاحة في الأسامي، وعند ذلك فلا يجوز أن يستدل بها على جواز الابتداع بالمعنى المتكلم فيه؛ لأنه نوع من تحريف الكلم عن مواضعه ... ) . وقال في موضع ٍ آخر موجها ً كلام العز في تسمية بعض المصالح المرسلة بدعا ً: ( ... وصار من القائلين بالمصالح المرسلة وسماها بدعاً في اللفظ كما سمى عمر رضي الله عنه الجمع في قيام رمضان في المسجد بدعة) . ثالثا ً: لو افترض أن هذا الفعل من عمر رضي الله عنه ليس له دليل من السنة، ولا يصح صرف معنى قوله: (نعمت البدعة) إلى المعنى اللغوي، فإن فعله رضي الله عنه محل اقتداء لكونه من الخلفاء الراشدين الذين أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتزام سنتهم حيث قال: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ". وإلى هذا المعنى أشار ابن رجب رحمه الله عند كلامه على معنى قول عمر رضي الله عنه: (نعمت البدعة هذه) حيث بين أنه هذا العمل له أصل في الشريعة، ثم ذكر أدلة المشروعية، فقال: (ومنها أنه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع سنة خلفائه الراشدين، فإن الناس اجتمعوا عليه في زمن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وأشار لهذا المعنى أيضا ً شيخ الإسلام فقال: (فلما كان عمر رضي الله عنه جمعهم على إمام واحد، والذي جمعهم أٌبي بن كعب جمع الناس عليها بأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وعمر هو من الخلفاء الراشدين، حيث يقول صلى الله عليه وسلم " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ " يعني بالأضراس لأنها أعظم في القوة) ، وأشار لهذا المعنى كذلك: الحافظ أبو موسى الأصفهاني في المجموع المغيث حيث قال: (وقيام شهر رمضان في حق التسمية غير بدعة؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: " عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي " و " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر ٍ وعمر ") . 2- وأما حديث غضيف بن الحارث عن رفع الأيدي على المنابر يوم الجمعة والقصص بعد الصبح والعصر وقوله فيها: (أما أنهما أمثل بدعتكم عندي، ولست مجيبكم إلى شيء ٍ منها) فالجواب على احتجاج محسن البدع به، من أوجه: الأول: أن الحديث ضعيف الإسناد فلا يصح الاحتجاج به، وإنما أوردته هنا مع أن محله القسم الأول الذي فيه الأدلة الضعيفة والموضوعة التي يحتج بها المبتدع؛ لكونه يتشاكل مع حديث: (نعمت البدعة) وحديث ابن عمر: (إنها لمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أحب ما أحدث الناس إلي) وقوله عن صلاة الضحى: (من أحسن ما أحدثوا سبحتهم هذه) ووجه المشاكلة أن المبتدع وجد في هذه الآثار شبهة تعلق بها، وهي ثناء هؤلاء الأجلاء على بعض ما رأوه من أعمال، ووصفهم لها بالحسن أو الأفضلية، مع أن المعنى على خلاف ما فهمه المبتدع كما مر تفصيل ذلك في حديث عمر (نعمت البدعة) أما وجه ضعف حديث غضيف بن الحارث فهو أن فيه أبا بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني وهو ضعيف، قال ذلك عنه أحمد وغيره، وقد روي عن أبي بكر بن عبد الله بقية بن الوليد وهو مدلس وقد عنعن هذا الحديث. الثاني: وعلى افتراض صحة هذا الأثر عن غضيف بن الحارث فإنه لا حجة فيه لمحسن البدعة؛ لأنه وصف هذا العمل بالبدعية، وتبرأ من إجابة عبد الملك بن مروان على شيء ٍ منها، ثم أردف بما روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أحدث قوم ٌ بدعة ً إلا رفع مثلها من السنة فتمسك بسنة ٍ خير من إحداث بدعة ". وكل ذلك يدل على ذمه للبدعة وبراءته منها، وليس في هذا الأثر ما يدل على حسن البدعة، بل الذي فيه قبح سائر البدع صغيرها وكبيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 الثالث: قوله: (إنهما أمثل بدعتكم) ليس فيه ثناء على البدعة بل حقيقة هذا القول، ومعناه الذي يتناسب مع سياق الحديث ولغة العرب، أنه وصف هذا العمل بالبدعة التي تقرر عند جميع الصحابة ضلالتها وفسادها. أما لفظة.. (أمثل) فإنها تأتي في لغة العرب بعدة معان، منها قولهم: (المريض اليوم أمثل، أي أحسن حالا ً، من حالة ٍ كانت قبلها ... ويقال: هذا أمثل من هذا أي أفضل وأدنى إلى الخير ... ) . وهذا المعنى يمكن أن يطلق على هذه البدع التي أنكرها الصحابي على عبد الملك، فهي بمقارنتها بالبدع الأخرى تعتبر أحسن حالاً وأخف شرا ً، وهي بالنظر إلى ما يخالطها من أعمال مشروعة تعتبر من البدع الإضافية، التي اختلط العمل المشروع فيها بما ليس له أصل في الشريعة، هذا وقد ورد في لغة العرب صيغ على وز أفعل لا يراد بها التفضيل. 3- وأما حديث أبي مالك الأشجعي عن أبيه في القنوت، فقد احتج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 به المحسن للبدع على أنه وصف القنوت في الصلاة بالبدعة ولم يزد، ولم يصف البدعة بالضلالة أو الفساد أو نحو ذلك مما يشعر استقباحه للبدعة، فسكوته عن وصف البدعة يدل على عدم ذمه لها، ثم إن القنوت في الصلاة أمر يقول به طائفة من أئمة الإسلام، ويعمله طوائف من المسلمين قديما ً وحديثا ً ... ومع أنه عبادة محضة ولكنها لم تكن على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ولا على عهد خلفائه الراشدين كما نص على ذلك حديث أبي مالك الأشجعي، ثم مضى العمل بالقنوت بعد ذلك، وقال به وعمله أئمة الدين، وهذا يدل على أن الأمر إذا كان حسناً جاز العمل به، وإن لم يكن له دليلٌ ينص عليه ولمناقشة هذه الشبهة ترد هذه الأمور: الأول: أن هذا الأثر في دليلٌ على ذم البدعة، وحرص الصحابة على التحذير منها، فهذا الصحابي الجليل لما رأى القنوت في صلاة الفجر في عصر بني أمية، ولم يسبق له أن رأى ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه الراشدين، وحكم بأن هذا العمل بدعة، وفي رواية الترمذي وأحمد (أي بنيَّ محدث) وفي رواية ابن أبي شيبة (يا بني َّ هي محدثة) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 وهذا دليل ٌ واضح ٌ على أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقيسون العمل من حيث البدعية وعدمها على المأثور عن الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، فما كان ثابتا ً عنهم فهو سنة يقتدى بها، وما لم يكن فهو محدثة وبدعة ... وأما قوله عن القنوت بأنه بدعة فإنه كاف ٍ في الذم والتحذير، بحسب ما بلغ هذا الصحابي من العلم في هذه المسألة؛ لأنه قد استقر عند الصحابة رضوان الله عليهم أن البدعة بالمعنى الشرعي مذمومةٌ، وهذا هو وجه وصفه للقنوت بأنه بدعة ٌ، على أن هذا اجتهادٌ منه، أو على أنه قصد مطلق القنوت في كل صلاة فجر. الثاني: القنوت يُراد به في الشرع عدة معان، أحدها: إطالة القيام للقراءة، وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " أفضل الصلاة طول القنوت ". والثاني: قنوت الوتر، وهو مشروع، والثالث: قنوت الفجر بعد القيام بعد الركوع الثاني: وهو على قسمين: الأول: قنوت ٌ عند النوازل وفي مشروعيته أحاديث كثيرة صحيحة. الثاني: قنوت ٌ مطلق، وهذا ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم، ولا خلفاؤه، ولعل هذا هو الذي أنكره الصحابي طارق بن أشيم رضي الله عنه، واعتبره بدعة ٌ محدثة، وهذا التقسيم هو الذي يوجه الأحاديث والآثار الواردة في قنوت الفجر، والتي قد يبدو من ظاهرها التعارض. 4- أما حديث صلاة الضحى، وقول ابن عمر رضي الله عنهما (إنهما بدعة) ، وقوله: (ما أحدث الناس شيئا ً أحب إلي منها) . فليس فيها أي مستمسك لمن أراد تحسين بعض البدع، ودليل ذلك عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أمور: أولا ً: ثبت بالأحاديث الصحيحة أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الضحى، ولم يداوم على ذلك وثبت أنه حث عليها. وأداة مشروعية صلاة الضحى كثيرة، منها: ما رواه مسلم وغيره، عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعا ً ويزيد ما شاء الله) . وفي الصحيحين وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (أوصاني خليلي محمد صلى الله عليه وسلم بصيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى وأن أوتر قبل أن أنام) . وفي صحيح مسلم وغيره، عن أبي ذر مرفوعا ً قال: (يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تهليلة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، وأمر بالمعروف صدقة، ونهي عن المنكر صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى) . وفي مسند أحمد، والسنن، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال الله عز وجل: يا ابن آدم لا تعجزن عن أربع كلمات في أول النهار أكفك آخره) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 وفي مستدرك الحاكم، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يحافظ على صلاة الضحى إلا أواب) . ثانيا ً: إنكار ابن عمر رضي الله عنهما على الذين يصلون الضحى، وتسميته الفعل بدعة، يجاب عنه بما يلي: الجواب الأول: في قول الحافظ ابن حجر في الفتح (ليس في أحاديث ابن عمر هذه ما يدفع مشروعية صلاة الضحى؛ لأن نفيه محمول ٌ على عدم رؤيته، لا على عدم الوقوع في نفس الأمر) . الجواب الثاني: يحتمل أن الذي أنكره ابن عمر ليس هو صلاة الضحى، وإنما صفة رآها لاحقة بها، كإظهارها في المسجد، والملازمة لها، وصلاتها جماعة، ونحو ذلك، ذكر هذا الجواب الحافظ ابن حجر في الفتح، والنووي في شرح مسلم، وذكر معناه ابن القيم في الزاد. الجواب الثالث: لعل ابن عمر رضي الله عنهما يرى أن صلاة الضحى، تفعل من أجل سبب من الأسباب، وأن هدي النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الضحى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 أنه يفعلها لسبب، كقدومه من سفر، أو فتحه لبلد، أو زيارته لقوم أو إتيانه لمسجد قباء، ونحو ذلك مما ثبتت به الأحاديث الصحيحة، وأما فعلها من غير سبب من هذه الأسباب فلم يثبت عنده، فرأى أن ذلك بدعة، وذلك اجتهاد منه رضي الله عنه. فعلى الجواب الأول يحمل قوله رضي الله عنه على أنه اجتهاد منه في وصف هذا العمل المشروع بالبدعية، وقد يصيب المجتهد وقد يخطئ. وأما على الجواب الثاني، والثالث، فإن اعتبار التخصيص بصفة ٍ أو هيئة أو سبب ٍ من الأمور التي يرد فيها الاجتهاد أيضا ً، فعلى اعتبار التخصيص هذا تكون البدعة التي أطلقها ابن عمر رضي الله عنهما على هذا العمل بدعة إضافية، اختلط العمل المشروع فيها بما ليس بمشروع، فعلى اعتبار مشروعية العمل يحمل قوله رضي الله عنه: (ما أحدث الناس شيئا ً أحب إلي منها) . وعلى اعتبار ما لحق صلاة الضحى من ترك ٍ لسبب ٍ، أو اتصاف ٍ بصفة ٍ كالصلاة جماعة، أو في المسجد ونحو ذلك، يحمل قوله رضي الله عنه حين سئل عن صلاة الضحى، فقال: " بدعة ". القسم الثاني: شبه من كلام العلماء: كثيرا ً ما يتعلق المحسِّن للبدع والمرغِّب فيها بعبارات وشبهات من كلام العلماء، يحتج بها على ما يريد مدعيا ً أن هذا الكلام البشري هو التوجيه الصحيح للنصوص الشرعية الواردة في البدعة، وأن العالم الفلاني قال في البدعة كذا وكذا، وهو صاحب علم ٍ وفضلٍ وفهم ٍ، وكلامه في هذه المسألة أولى من كلامنا، وفهمه أولى من فهمنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 أقسام العلماء والعلماء الذين يحتج بأقوالهم المحسنُ للبدع على أقسام: القسم الأول: علماء عرف فضلهم وعلمهم واشتهرت إمامتهم في الدين، وأجمع على عدالتهم ومحبتهم للسنة، ومحاربتهم للبدعة، وعدم تلبسهم بشيء منها كالشافعي مثلاً ... القسم الثاني: علماء لهم فضل وعلم، وقدم صدق في الدين والإيمان، ومنزلة جليلة في الفضل والتقوى، ولهم حسب للسنة ونشر لها، وذم للبدعة والمتلبس بها، ولكن لهم مقالات فيها شيء من الابتداع، إما لشبهة أو تقليد، أو نحو ذلك، ومثال هذا القسم: العز بن عبد السلام، والنووي، وابن حجر الهيثمي، والقرافي، والسيوطي، عليهم جميعاً ـ رحمة الله ـ. القسم الثالث: علماء عرفوا بالابتداع، واشتهروا بالإحداث في دين الله، والافتئات على شرعه، والمضادة لسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فهم رأس في الضلالة أساس في الجهالة. ومثال هذا القسم: محيي الدين بن عربي، وعبد الوهاب الشعراني وأضرابهما ممن سبقهما أو لحقهما. وسيكون الحديث عن القسمين الأولين، أما القسم الثالث فحقه الاطراح.. وقبل الكلام على أقوال العلماء التي يتعلق بها المحسن للبدع، لابد من التوطئة ببعض القواعد: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 الأولى: أن ظاهر كلام الشارع هو المعتبر والمعمول به، والمعتمد عليه ما لم يوجد دليل يصرف اللفظ عن ظاهره، ونصوص الشريعة الذامة للبدعة هي من هذا القبيل الثانية: أن الخطاب الموجود في النصوص الشرعية على درجات أعلاها ما لا يحتاج إلى بيان وأدناها ما لا يعرف إلا ببيان يزيل إجماله، ويكشف إبهامه باجتهاد ونحوه، ونصوص الاعتصام بالسنة، وترك كل بدعة من النوع الذي لا يحتاج إلى بيان لوضوح الخطاب الشرعي فيها. الثالثة: أن الواجب على العلماء والمفتين الحكم بالظاهر من الأدلة، وليس لهم أن يحدثوا أحكاماً أو أقساماً لا ترجع إلى الكتاب والسنة أو الإجماع. الرابعة: قول أو فعل أو فهم أي أحد من البشر ـ عدا النبي صلى الله عليه وسلم لا يصار إليه إذا كان مخالفاً للنقل، لأنه ليس في أحد حجة مع النبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يكون قوله المخالف للسنة حجة. الخامسة: من قول الإمام الشافعي رحمه الله في الرسالة: (قال فكل كلام كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 عاماً ظاهراً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على ظهوره وعمومه، حتى يعلم حدي ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ بأبي هو وأمي ـ يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض..) ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة" من هذا الباب، لأنه لم يعلم حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أراد بهذه الجملة العامة الظاهرة بعض البدع دون بعض، بل نص قوله يدل على أن المراد عموم البدع بلا استثناء، ولا تخصيص. ومن العلماء الذين يحتج المحسِّن للبدع بما روي عنهم: 1- الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ: والمنقول عنه في تعريف البدعة ما يلي: أ - ما رواه أبو نعيم في الحلية بسنده عن الشافعي أنه قال: (البدعة بدعتان: بدعة محمودة، وبدعة مذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالف السنة فهو مذموم، واحتج بقول عمر بن الخطاب في قيام رمضان نعمت البدعة هي) . ب - ما رواه ابن عساكر بسنده عن طريق البيهقي عن الربيع بن سليمان والذهبي في السير، بسنده عن الربيع قال: قال الشافعي: (المحدثات من الأمور ضربان: ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو جماعا، فهذه البدعة ضلالة، وما أحدث لا خلاف فيه لواحد منها، فهذه محدثة غير مذمومة، قد قال عمر في قيام رمضان: (نعمت البدعة هذه) يعني أنها محدثة لم تكن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وإذا كانت فليس فيها رد لما مضى) . قال المبتدع: هذا تقسيم إمام معترف بفضله وعلمه وعدالته، من عقدت على إمامته ألوية الزمان، ودان لفقهه وفهمه أعلام هذا الدين في القديم والحديث. وهذا التقسيم صريح في أن من البدع ما هو حسن مقبول في الشرع، وما هو قبيح مردود. والجواب على هذا الاستدلال من عدة أوجه: الوجه الأول: أن قول الشافعي رحمه الله عن البدعة المذمومة هي ما خالف السنة. وقوله عن المحدث المذموم، بأنه ما أحدث يخالف كتاباً أو سنة أو أثراً أو إجماعاً، منطبق على سائر البدع في دين الله، فليس هناك بدعة إلا وهي مخالفة للكتاب والسنة والآثار والإجماع، وإلا لما كانت بدعة، لأنه لو ثبت لها أصل من هذه الأصول لأصبحت عملاً مروعاً في دين الله. وهذا ما يتفق عليه علماء المسلمين قديماً وحديثاً، وما يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم: "ما صنع أمر على غير أمرنا فهو رد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وعلى هذا الوجه لا حجة في كلام الشافعي لمحسن البدع، بل الحجة عليه في كلام هذا الإمام. الوجه الثاني: قول الشافعي رحمه الله أن ما وافق السنة فهو محمود، وقوله: ما أحدث لا خلاف فيه لواحد من هذا يعني الكتاب والسنة والأثر والإجماع فهذه محدثة غير مذمومة، قول فيه إجمال، يحتاج إلى بيان: فإن كان مراده بالبدعة والمحدثة معناهما اللغوي فهذا المعنى مقبول ووارد، وسياق الكلام يدل على أن هذا هو مراد الشافعي رحمه الله، حيث وصف البدعة المذمومة شرعاً، وبين معالمها، ووضح مسالكها، توضيحاً ستغرق سائر أنواع البدع، ثم عطف بذكر البدع المحمودة، مستدلاً عليها بحديث عمر رضي الله عنه وقد مر قبل قليل أن معنى الكلام إليه لتلائمه مع منزلته وعلمه، ومكانته في هذا الدين. وعلى هذا التوجيه نفسه يمكن حم لكلام الشافعي في قوله هذا، لاسيما وقد سبق بيانه للبدعة المذمومة شرعاً، وألحق في نهاية كلامه قول عمر رضي الله عنه، وإن كان مراده بقوله هذا معنى آخر غير المعنى اللغوي، فهذا ما يأتي بيانه. الوجه الثالث: وهو أن يكون مراده رحمه الله الحوادث التي استجدت وليس عليها بأعيانها أدلة من الكتاب أو السنة أو الآثار أو الإجماع، ولكنها تدخل تحت أصل من الدين، وتنضوي تحت قاعدة من قواعده، وهي ليست من العبادات المحضة. فهذه الحوادث إذا كانت بهذه الصفة فهي محمودة من جهة الشرع، ولا تسمى بدعاً في الدين، وإن كانت تسمى بدعاً من جهة اللغة. وفي هذا الوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 تدخل المصالح المرسلة، بناء على أنها لم تدخل أعيانها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع وهذا محمل آخر يمكن توجيه قول الشافعي إليه. الوجه الرابع: من الإنصاف ألا يحمل كلام هذا الإمام أكثر مما يحمل، وألا ينظر إلى كلامه هذا معزولاً عن بقية مقولاته، لا سيما إذا كان في بعض كلامه إجمال، وفي بعضه الآخر تفصيل، فإنه يجب حمل المجمل على المفصل، وتقديم المبين على المبهم، والمنطوق على المفهوم، والعبارة على الإشارة، ومن كلامه الذي يمكن ضمه إلى تعريفه هذا للدعة، ما جاء في الرسالة حيث قال عن الاستحسان الذي يجنح إلى التعلق به كل محسن للبدعة: ( ... وهذا يدل على أنه ليس لأحد دون رسول الله أن يقول إلا بالاستدلال إلى أن قال: ولا يقول بما استحسن، فإن القول بما استحسن، فإن القول بما استحسن شيء يحدثه لا على مثال سبق) . وقال رحمه الله: ( ... وهذا يبين أن حراماً على أحد أن يقول بالاستحسان إذا خالف الاستحسان الخبر، والخبر من الكتاب والسنة عين، يتأخى معناها المجتهد ليصيبه ... ) . وقال: (وإنما الاستحسان تلذذ) . وقال: (ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس كان أقرب من الإثم من الذي قال هو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً ... ولم يجعل الله لأحد بعد رسوله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وضعت من القياس عليها..) . وقال: (وإنما الاستحسان تلذذ) . وقال: (ولو قال بلا خبر لازم ولا قياس كان أقرب من الإثم من الذي قال هو غير عالم، وكان القول لغير أهل العلم جائزاً ... ولم يجعل الله لأحد بعد رسوله أن يقول إلا من جهة علم مضى قبله، وجهة العلم بعد الكتاب والسنة والإجماع والآثار وما وضعت من القياس عليها..) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 فهل يمكن بعد كل هذا أن يقال بأن الشافعي يستحسن البدع، ويمدحها ويثني عليها، ويجيز التقرب بها إلى الله؟ . وهل يعقل أن يكون مراد الشافعي بقوله في تعريف البدعة، تحسين المحدثات والحث على اعتناق ما تراه النفوس والعقول والأذواق حسناً؟ .. إن المقارنة بين كلامه في تعريف البدعة وكلامه في ذم الاستحسان يوجب على العاقل معرفة قدر هذا الإمام، فلا يرمه بهذه الداهية الدهياء، ولا ينسب إليه ما هو منه براء. ذكر الذهبي في ترجمته عن عبد الله بن أحمد بن حنبل قال: سمعت محمد ابن داوود يقول: لم يلحظ في دهر الشافعي كله أن تكلم في شيء من الأهواء ولا نسب إليه ولا عرف به، مع بغضه لأهل الكلام والبدع) . وذكر أن أحمد بن حنبل كان يقول: (ما رأيت أحداً أتبع للأثر من الشافعي) وذكر ابن الإمام سحنون قال: (لم يكن في الشافعي بدعة) ، ولو كان الشافعي ممن يستحسن البدع، أو يجيز وقوع بعضها شرعاً، لما استحق من هؤلاء الأئمة هذه الأوصاف، ولنقل عنه ولو مرة واحدة، أنه وصف بدعة الدين بأنها حسنة محمود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 الوجه الخامس: وضع الشافعي قواعد في أصول هذا الدين، تدل الناظر فيها على عكس ما توهم المبتدع، الذي يستشهد بما توهم من كلام الشافعي في تعريف البدعة، على استحسان بعض المحدثات، وهذا المحدثات وهذه القواعد تدل بجلاء على أن تعريف الشافعي للبدعة المحمودة، لا بد أن يحمل على غير ما ذهب إليه المحسن للبدع. فمن هذه القواعد قوله عليه رحمه الله (وما نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو على التحريم، حتى تأتي دلالة منه على أنه أراد به غير التحريم) . فإذا نظرت إلى قوله صلى الله عليه وسلم: " وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة "، وقوله: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وجدت أن النهي هنا للتحريم، ولم يرد نص واحد فيه دلالة على النهي ليس للتحريم، بل النصوص متضافرة على هذا المعنى، فهل يقال بعد هذه القاعدة، بأن الشافعي يرى تحسين ما حرمه الله؟ معاذ الله. ومن القواعد الأصولية التي قالها الشافعي رحمه الله: (فكل كلام كان عاماً ظاهراً في سنة رسول الله على ظهوره وعمومه، حتى يعلم حديث ثابت عن رسول الله بأبي هو وأمي يدل على أنه إنما أريد بالجملة العامة في الظاهر بعض الجملة دون بعض ... ) . وقوله صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة "، من العام الظاهر الذي لم يرد على الشرع كله، ما يدل ولا بمفهوم المخالفة على تخصيص شيء منه. وهذه القاعدة تنقض ما استدل به المحسن للبدع من كلام الشافعي رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الوجه السادس: لو افترض جدلاً أن الشافعي أراد بقوله في تعريف البدعة ما ذهب إليه المبتدع، فإنه كلام بشر لا يمكن أن يعارض به النصوص الشرعية، لاسيما وقد قرر هذا الإمام المطلبي رحمه الله أنه: ( ... إذا ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الشيء فهو اللازم لجميع من عرفه، لايقويه ولا يوهنه شيء غيره، بل الفرض الذي على الناس إتباعه، ولم يجعل الله لأحد معه أمراً يخالف أمره) . وقال رحمه الله فيما يرويه عنه الربيع بن سليمان: (إذا وجدتم في كتابي خلال سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به ودعوا ما قلته) . وقال: (كل ما قلت فكان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف قولي ما يصح، فحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى) . وقال: (كل حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو قولي، وإن لم تسمعوه مني) . وبمعنى هذا القول وهو من الكلام السائر في الآفاق قوله رحمه الله إذا صح الحديث فهو مذهبي، وإذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط. وقال رحمه الله: كل مسألة تكلمت فيها وصح الخبر فيها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد مماتي) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 ومن العلماء الذين يحتج المحسن للبدع بأقوالهم: 2- سلطان العلماء عز الدين بن عبد السلام رحمه الله. حيث قال في قواعد الأحكام: (البدعة هي فعل ما لم يعهد في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي منقسمة إلى بدعة واجبة، وبدعة محرمة، وبدعة مندوبة، وبدعة مكروهة، وبدعة مباحة ... والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشرعية، فإن دخلت في قواعد الإيجاب فهي واجبة، وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة، وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة، وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة ... ) . ثم ذكر بعد ذلك أمثلة لما ذكر. وهذا التعريف والتقسيم نقله واعتمد عليه كثير من الذين جاءوا بعد العز بن عبد السلام منهم: القرافي في الفروق حيث بسط الكلام في هذه المسألة، شارحاً لرأي شيخه العز، وتبع القوافي صاحب تهذيب الفروق وفعل مثلهما النووي في: تهذيب الأسماء واللغات والزركشي في: المنثور وابن حجر الهيثمي في: الفتاوى الحديثية والسيوطي في: الحاوي، وفي الأمر بالاتباع والسخاوي في: فتح المغيث ومحمد بن جزي المالكي في: قوانين الأحكام الشرعية، وغيرهم من القدماء والمحدثين، مما يدل على اعتمادهم على التعريف والتقسيم الذي قاله العز بن عبد السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 الأول: أن تعريفه للبدعة بأنه فعل ما لم يعهد في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على مراده في تقسيم البدعة، والحادث الذي لم يعهد في عصره صلى الله عليه وسلم ـ كثيراً، يشمل أمور الدين والدنيا، والعبادات والمعاملات، والمصنوعات والمخترعات، والعلوم والأعراف، والعادات وكل شيء جديد لم يكن معهوداً في عصره صلى الله عليه وسلم، داخل تحت هذه القول، ولكنه لا يكون بدعة شرعية، إلا إذا اقترن به قصد التعبد، وليس له أصل في الدين يدل على ذلك. فهذا التعريف يشمل البدع الشرعية التي لا تكون إلا ضلالة، ولا يتصور فيها التقسيم إلا بالكراهية والتحريم. ويشمل كذلك البدع اللغوية التي قد تكون مشروعة، وقد تكون من المباحات، ولكنها تسمى بدعاً في اللفظ، لكونها حادثة بعد أن لم تكن. وعلى ذلك فلا يصح الاحتجاج بهذا القول على أن البدعة الشرعية فيها ما هو حسن ... الثاني: تقسيم العز بن عبد السلام للبدع إلى خمسة أقسام، وإدخال كل قسم منها تحت حكم من الأحكام الشرعية الخمسة، وتمثيله على ذلك يدل على أنه لم يفرق بين البدعة الشرعية التي لا تكون إلا مذمومة، والبدعة اللغوية التي قد تكون مذمومة، وقد تكون محمودة، وقد تكون مباحة. وسبب ذلك أنه إنما نظر إلى العمل من حيث وجه الإحداث فيه، وكونه أمراً مبتدأً، وليس هذا هو مناط النهي عن البدع من الناحية الشرعية، فلا مجال إذاً للاحتجاج بقوله على تحسين البدع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 الثالث: من خلال أمثلة العز بن عبد السلام ـ رحمه الله ـ لما أسماه بالبدع الواجبة والمندوبة والمباحة، نجد أن أكثرها مشروع أو مباح من قبل الشرع، فلا يطلق عليه بدعة من ناحية شرعية إذ البدعة الشرعية كلها مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم: كل بدعة ضلالة " أما ما قام دليل على وجوبه، أو استحبابه، أو إباحته فليس من هذا الباب، ولا يصح إدخاله في مسمى البدعة، إلا من ناحية لفظية وهذه الناحية لا خلاف فيها، لأن كل جديد بدعة من حيث اللغة، ولكن محل الكلام هنا هو في البدعة الشرعية التي حذر منها الشارع ونهى عنها، وذمها السلف. والخلط بين البدعة اللغوية والشرعية قد يؤدي إلى ضرر ولبس، فيظن أن ما ليس ببدعة بدعة والعكس. ولا يتميز حكم الشرع مع التباس التسميات، ولهذا فإن السلف وهم يفتون في المسائل الحادثة بإيجاب أو استحباب أو إباحة، ما كانوا يقولون هذه بدعة، ولكنها واجبة أو مستحبة أو مباحة، لاستقرار مصطلح البدعة الشرعية عندهم، وثبات حكمها المتراوح بين التحريم والكراهية. وكذلك في فتواهم في الأمور الحادثة، مما يعد معصية شرعية تكون بالتحريم أو الكراهية، مع تفريقهم بين ما هو معصية وما هو بدعة. الرابع: يظهر من خلال أمثلة العز بن عبد السلام أنه أدخ المصالح المرسلة في مسمى البدع، بناء على أنها لم تدخل أعيانها تحت النصوص المعينة، وإن كانت تلائم قواعد الشرع. فلكونها داخلة تحت قواعد الشرع، حكم عليها بالوجوب أو الندب أو الإباحة، ولكونها حادثة غير معهودة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم سماها بدعاً، فيكون بذلك من القائلين بالمصالح المرسلة، وهي ليست بدعاً إلا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 اللفظ. فيكون الاحتجاج بقوله وتقسيمه على حسن البدع من الناحية الشرعية احتجاجاً في غير محل النزاع. الخامس: قول شيخ الإسلام: (إن المحافظة على عموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: " كل بدعة ضلالة" متعين، وأنه يجب العمل بعمومه، وأن من أخذ يصنف البدع إلى حسن وقبيح، ويجعل ذلك ذريعة أن لا يحتج بالبدعة على النهي، فقد أخطأ كما يفعل طائفة من المتفقهة والمتكلمة والمتصوفة والمتعبدة، إذا نهوا عن العبادات المبتدعة والكلام في التدين المبتدع، أدعوا أن لا بدعة مكروهة إلا ما نهي عنه، فيعود الحديث إلى أن يقال: " كل ما نهي عنه "، أو " كل ما حرم "، أو " كل ما خالف نص النبوة فهو ضلالة"، وهذا أوضح من أن يحتاج إلى بيان، بل كل ما لم يشرع من الدين فهو ضلالة. وما سمي "بدعة" وثبت حسنه بأدلة الشرع فأحد الأمرين فيه لازم: إما أن يقال: إن ما ثبت حسنه فليس من البدع في الدين وإن كان يسمى من حيث اللغة كما قال عمر: (نعمت البدعة هذه) فيبقى العموم محفوظاً لا خصوص فيه. وإما أن يقال: ما ثبت حسنه فهو مخصوص من العموم، والعام المخصوص دليل فيما عدا صورة التخصيص، فمن اعتقد أن بعض البدع من هذا العموم، احتاج إلى دليل يصلح للتخصيص، وإلا كان ذلك العموم اللفظي المعنوي موجباً للنهي، ثم إن المخصص هو الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة والإجماع نصاً واستنباطاً ... ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 أقسام البدعة: حقيقة وإضافية تنقسم البدعة بحسب متعلقاتها إلى أقسام عديدة تختلف باختلاف النظر إليها, وإلى معتنقيها, فبالنظر إلى البدعة ذاتها تجد أنها تنقسم إلى كلية وجزئية, وبسيطة ومركبة, وهذه يجمعها فصل البدعة الحقيقية والإضافية .. وبالنظر إلى لوازم البدعة وعمل المبتدع, تجد أنها تنقسم إلى فعلية وتركية واعتقا دية وعملية, في العبادات المحضة, والمعاملات والعادات, وتجد أن لها علاقة بمسائل الحسن والقبح والمصالح المرسلة, من حيث التشابه الذي بين البدعة وهذه المسائل, واحتجاج المبتدع بهذا التشابه واعتماده عليه ... وهذا ما ستجده في الفصول الآتية, إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 * الفصل الأول البدعة الحقيقية والإضافية تنقسم البدعة في ذاتها إلى حقيقية وإضافية, وهذا التقسيم ينتج من النظر إلى البدعة, وعلاقتها بالدليل الشرعي من جهة, ثم علاقتها بالعمل من حيث الالتصاق والانفراد من جهة أخرى. فالحقيقة لا تستند إلى دليل معتبر, ولا إلى شبه دليل لا في الجملة ولا في التفصيل. وأما الإضافية فلها نوع تعلق بالدليل الشرعيز والحقيقية قد تنفرد عن العمل المشروع وقد تتصل به. وأما الإضافية فملتصقة بالعمل المشروع, ومتداخلة معه في غالب أحوالها. وسيظهر هذا المعنى من خلال التعريف, وضرب الأمثلة لكل من البدعتين. البدعة الحقيقية: عرفها الشاطبي-رحمه الله- بأنها: (هي التي لم يدل عليها دليل شرعي, لا من كتاب ولا من سنة ولا إجماع, وال استدلال معتبر عند أهل العلم, لا في الجملة وال في التفصيل) . وقد يقول قائل: هذا هو شأن كل بدعة, إذ لا دليل عليها وال أصل لها فكيف توصف البدعة الحقيقية وحدها بهذا الوصف؟ والجواب على هذا التساؤل: أنه ما من مبتدع في دين الله إلا وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 يتعلق في بدعته بدليل يدعي استنادها إليه, ولا يستطيع ترك التعلق بالأدلة لئلا ينسب إليه مضادة الشريعة, أو الخروج عليها صراحة هذا من جهة, ومن جهة أهرى حتى يثبت صلاحية هذه البدعة للتعبد والتقرب بها, ولا يمكن له ذلك, ما لم يساندها بأدلة يزعم أنها تعتمد عليها, والأدلة التي يستدل بها المبتدع على بدعته تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: أدلة غير معتبرة وهي صنفان: الأول: أدلة غير شرعية فاسدة الأصل والدلالة, ويدخل في هذا الصنف كثير من أدلة أهل الأهواء كالرأي والنظر, والذوق, والكشف, ونحو ذلك, ومن أمثلة هذا الصنف: التحسين والتقبيح, عند المعتزلة والأشاعرة, والرؤى والكشوف الشيطانية عند المتصوفة, وعصمة الأئمة عند الرافضة. إذ تجد في كتب المعتزلة والأشاعرة عند حديثهم عن بعض القضايا الاعتقادية أو الأصولية, أنهم يبنون كلالمهم ونقاشهم على التحسين والتقبيح ويستدلون به على صحة القضية أو فسادها, ويجعلونها مقبولة أو مردودة, من خلال موافقتها أو مخالفتها للتحسين والتقبيح الذي يعتقده, ويستدل له وهذا كثير في كتب المعتزلة والأشاعرة. وتجد أن كثيراً من الصوفية يبنون أعمالهم وأقوالهم المبتدعة على رؤيا رآها, أو رؤية له, أو رآها شيخه, أو على كشف شيطاني بان له, أو على ذوق نفسي وجده. ويستدل على مشروعية عمله أو جوازه بهذه الأدلة الفاسدة وأمثالها وهذا داخل في البدع الحقيقية. وأمثلة هذا الصنف عديدة, بعدد الأهواء وأهلها. الصنف الثاني: أدلة شرعية غير ثابتة, كالأحاديث المتفق على أنها صعيفة أو موضوعة, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 أو لا أصل لها, وغير ذلك من أقسام ومسميات الضعيف, فمما انبنى على هذا الصنف فهو من البدع الحقيقية, أما إن كان ثبوتها أو ضعفها محتلفاً فيه بين العلماء المعتبرين فالحديث عنها في البدع الإضافية. القسم الثاني: أدلة معتبرة شرعاً: وهذه ينظر في استدلال المبتدع بها, فإن كان له نوع شبهة في استدلاله كأن يكون للبدعة شائبة تعلق بهذا الدليل, فهذا من قسم البدع الإضافية وسيأتي بيانه.. وإن كان المستدل بالدليل الشرعي الثابت لا وجه لاستدلاله, لا في نفس الأمر, ولا بحسب الظاهر, لا في الجملة, ولا في التفصيل, وليست هناك شائبة تعلق بين الدليل والبدعة, وال شبهة اتصال بينهما, فهذا من قسم البدع الحقيقية, ومثال ذلك: ما رواه مسلم في مقدمة صحيحه عن سفيان الثوري-رحمه الله- قال: (سمعت رجلاً سأل جابراً عن قوله عز وجل: (فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين) فقال جابر: (لم يجيء تأويل هذه) قال سفيان: (وكذب) فقلنا لسفيان: ما أراد بهذا؟ فقال: (إن الرافضة تقول: إن علياً في السحاب, فلا نخرج مع من خرج ولده حتى ينادي مناد من السماء-يريد علياً- أنه ينادي أخرجوا مع فلان) يقول جابر: (فذا تأويل هذه الآية, وكذب كانت في إخوة يوسف- صلى الله عليه وسلم) . ثم إن للبدعة تعلقاً آخر ينبني عليه اعتبار البدعة حقيقة, أو إضافية وكلية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 أو جزئية, ومركبة أو بسيطة, وهو تعلقها بالعمل المشروع أو انفصالها عنه, وسيأتي الحديث هنا عن البدعة الحقيقية, والإضافية, وفي آخر الفصل يأتي الكلام على الكلية والجزئية, والمركبة والبسيطة. أما ما يتعلق بالحقيقية والإضافية من جهة التصاق البدعة بالعمل المشروع أو انفرادها عنه, فإن الأمرلا يخلو من أحد هذه الأوجه الأربعة: 1. أن تنفرد البدعة عن العمل المشروع. 2. أن تلتصق البدعة بالعمل المشروع. 3. أن تصبر البدعة الملتصقة بالعمل المشروع وصفاً لذلك العمل غير منفك عنه. 4. أن لا تصبر وصفاً له. فإذا انفردت البدعة عن العمل المشروع, فينظر في دليلها الذي استند إليه المبتدع, فإن كان ثابتاً أو مختلفاً في ثبوته, وفي الاستدلال به شبهة يمكن أن يتعلق بها المبتدع, وشائبة يمكن أن تتعلق بها البدعة فالبدعة هنا إضافية. وما عدا ذلك فتكون البجعة حقيقية, مع أن الغالب على البدعة المنفصلة عن العمل المشروع أن تكون حقيقة, إلا إذا كان العمل المنفصل عن العبادة المشروعة من العادات, أو مما يفعل اتفاقاً من غير قصد القربة والتعبد, فلا يكون بدعة كأن يقوم إلى الصلاة فيتنحنح أو يتمخط أو يلبس عباءة سوداء, ونحو ذلك, فإذا فعل ذلك بقصد القربة فبدعة حقيقية, وإن لم يكن يقصد القربة فعمل عادي. أما إذا التصقت البدعة بالعمل المشروع فلا يخلو من أحد حالين: الأول: أن تصبر وصفاً للمشروع غير منفك عنه, وهذه قد تكون بدعة حقيقية, وقد تكون إضافية بحسب دليلها الذي قامت عليه كما مر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 إلا أن الغالب فيها: أنها تكون بدعة حقيقية, وذلك أن البدعة التي صارت وصفاً للمشروع بسبب التصاقها به, تكون قد أدت إلى انقلاب العمل المشروع إلى عمل غير مشروع, ويبين ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد) . وهذا العمل المشروع عند اتصافه بالوصف البدعي لأجل الملاصقة والملازمة, أصبح عملاً ليس عليه أمره-صلى الله عليه وسلم- وهو تعبد ببدعة حقيقية, لأن جهة الابتداع قد غلبت على جهة المشروعية. ومن أمثلة ذلك: قراءة القرآن بالإدارة على صوت واحد, فإن قراءة القرآن من الأعمال المشروعة ولكن لما اتخذ لها المبتدع هذا الوصف البدعي الملازم لها صارت من البجع الحقيقية. ومن أمثلته: بدعة المولد. فإن محبة النبي-صلى الله عليه وسلم- وذكر سيرته وصفاته وأحواله من الأعمال المشروعة, ولكنها لما اختلطت بالأعمال المبتدعة كاتخاذ يوم مولده عيداً, وتخصيصه بنوع من الذكر المبتدع, والدعاء المحدث, وغير ذلك من البدع وصارت هذه البدع أوصافاً ملازمة للعمل المشروع, وطاغية عليه, أصبحت هذه البدعة حقيقية. الثاني: أن لا تصبح البدعة الملتصقة بالعمل المشروع وصفاً لازماً له.. وهي في هذه الحالة لا تخلو من أن تكون عرضة لأن تنضم إلى العبادة المشروعة حتى يعتقد أنه من أوصافها, أو جزءاً منها أو لا تكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 كذلك, وهي في حالتيها هاتين قد تكون حقيقية, وقد تكون إضافية بحسب الدليل الذي يستدل الذي يستدل به المبتدع كما مر. إلا أن الغالب على هذه البدعة أ، تكون إضافية, لغلبة دانب العمل المشروع وعدم تغطية البدعة عليه. ومن أمثلة هذا النوع: الجهر بالنية في الصلاة, فإن بدعة ملاصقة للصلاة المشروعة, ولكنها لم تصبح وصفاً لازماً مستولياً على العمل المشروع ومغطياً عليه, بحيث يتغلب جانب الابتداع على جانب المشروعية, كما هو الحال في البدعة الحقيقية ومن أجل ذلك كانت هذه البدعة إضافية. وكل عمل محدث خالط عملاً مشروعاً, ولم يصل إلى درجة أن يصبح العمل المحدث وصفاً للعمل المشروع, فحقه أن ينفرد العمل الزائد بحكمه والعمل المشروع بحكمه, ويسمى الابتداع الذي على هذا النحو: (بدعة إضافية) . كما روى ابن وضاح بسنده عن عبد الرحمن بن أبي بكرة قال: (كنت جالساً عند الأسود بن سريع وكان حجلسه في مؤخر المسجد الجامع فافتتح سورة بني إسرائيل حتى بلغ: (وكبره تكبيراً) فرفع أصواتهم الذين كانوا جلوساً حوله, فجاء مجا لد بن مسعود يتوكأ على عصاه فلما رآه القوم قالوا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 مرحباً مرحباً اجلس قال: ما كنت لأجلس إليكم وإن كان مجلسكم حسناً ولكنكم صنعتم قبل شيئاً أنكره المسلمون فإياكم وما أنكر المسلمون) . فتحسينه المجلس كان لقراءة القرآن, وأما رفع الصوت بالتكبير عند الآية فهو الأمر المحدث الذي نهى عنه مجا لد-رضي الله عنه- ولما لم يكن هذا الأمر المبتدع طاغياً على العمل المشروع بحيث يصير وصفاً لازماً له أعطي هذا الحكم باعتباره بدعة إضافية. وقد تبين فيما سبق غالب ملامح البدع الإضافية, إلا أنه يمكن أن يقال من باب التوضيح أن: (البدعة الإضافية) هي كما قال الشاطبي: التي لها شائبتان: إحداهما: لها من الأدلة تعلق فلا تكون من تلك الجهة بدعة, والأخرى: ليس لها متعلق إلا مثل ما للبدعة الحقيقية ... ) . وقال أيضاً-رحمه الله- ( ... فمعنى الإضافية أنها مشروعة من وجه ورأي مجرد من وجه, إذ يدخلها من جهة المخترع رأي في بعض أحوالها فلم تناف الأدلة من كل وجه ... ) . وعند التأمل في هذا المعنى الذي ذكره الشاطبي يتضح أن نظره انصب على علاقة العمل المخترع بالدليل, وألمح للشق الآخر وهو علاقة العمل المخترع بالعمل المشروع من حيث الانفراد والالتصاق. وقد سبق بيان أثر هاتين العلاقتين في اعتبار البدعة حقيقية أو إضافية. غير أن الشاطبي-رحمه الله- فصل في جانب علاقة البدعة بالدليل تفصيلاً بنى عليه الفرق بين البدعتين فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 ( ... فلما كان العمل الذي له شائبتان لم يتخلص لأحد الطرفين وضعنا له هذه التسمية وهي (البدعة الإضافية) أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة, لأنها مستندة إلى دليل وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ... ) . ومراده بهذا الاستناد ما سلف تفصيلة في شأن الأدلة التي يعتمد عليها المبتدع, ولا بأس من ذكر ذلك مختصراً لاحتياج هذا المقام إليه: الأدلة التي يعتمد عليها المبتدع تنقسم إلى قسمين: الأول: أدلة غير معتبرة شرعاً, وهي إما أن تكون غير شرعية كالذوق والوجد, والرأي, والهوى, فما أنبنى على شيء من هذه الأدلة فهو بدعة حقيقية. وإما أن تكون أدلة شرعية غير ثابتة كالأحاديث الموضوعة والمتفق على ضعفها, فالبدعة فيها حقيقية وإنما سميت شرعية مع أنها غير ثابتة لكونها منسوبة إلى الشريعة ومأخوذة في زعم صاحبها من الوحي. فإن كانت الأدلة الشرعية التي يعتمد عليها المبتدع مختلف في ثبوتها أو ضعفها بين العملاء المعتبرين المشهود لهم بالتقوى وإتباع السنة فتكون البدع المبينة على هذا النوع, من البجع الإضافية بل قد تقترب إلى حد المشروعية وتصل إلى أن تكون سنة محضة, وسيأتي بيان ذلك عند أقسام البدعة الإضافية ... الثاني: أدلة معتبرة شرعاً, ويكون النظر فيها من جهة استدلال المستدل بها, فإن كان له نوع شبهة في استدلاله كأن يكون للبدعة شائبة تعلق بهذا الدليل فهي إضافية وإن لم يكن فهي حقيقة ... وهذا هو معنى قول الشاطبي عن البدعة الإضافية: ( ... أي أنها بالنسبة إلى إحدى الجهتين سنة لأنها مستندة إلى دليل, وبالنسبة إلى الجهة الأخرى بدعة لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل ... ) . وقوله عند ذكر الفرق بين البدعة الإضافية والحقيقية من جهة المعنى: (والفرق بينهما من جهة المعنى أن الدليل عليها من جهة الأصل قائم, ومن جهة الكيفيات أو الأحوال أو التفاصيل لم يقم عليها ... ) . هذا هو الجانب الأول, وهو في النظر إلى البدعة من جهة الدليل أم الجانب الثاني, وهو النظر إلى البجعة من جهة التصاقها بالعمل المشروع أو انفصالها عنه, وقد سبق تفصيل هذا, ولابد من ذكر ما يتلاءم مع هذا المقام أيضاً فيقال: الغالب في البدعة الإضافية أن تلتصق بالعمل المشروع وتخالطه, والغالب في الحقيقية العكس, مع أنه لا بد من ملاحظة الدليل الذي استندنا عليه في حالتي الالتصاق والانفراد. فإذا التصقت البدعة بالعمل المشروع فلا يخلو من أن تصبح وصفاً للمشروع غير منك عنه أولاً, فإن أصبحت وصفاً غير منك فبدعة حقيقية, وإن لم تصبح وصفاً للمشروع غير منفك عنه فبدعة إضافية, حتى ولو صارت مختلطة بالعمل المشروع إلى حد أن يفتقد أن من أجزائه أو من أوصافه .... والفرق بين هذا المعنى والسابق في البدعة الحقيقية, أ، جانب الابتداع في الحقيقية هو الغالب والطاغي, لكونه أصبح وصفاً لازماً غير منفك. بينما هو في الإضافية وصف من الأوصاف, وجزء من الأجزاء, وهو غير غالب وال طاغ على المشروع, بيد أن البدعة الإضافية تختلف مراتبها ودرجاتها باختلاف تعلقها بالدليل وبالعمل المشروع, وهذا ما سيأتي بيانه تخت هذا العنوان. أقسام البدعة الإضافية: قسمها الشاطبي رحمه الله إلى قسمين فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 (الإضافية أولاً على ضربين: أحدهما: يقرب من الحقيقية, حتى تكاد البدعة تعد حقيقية والآخر: يبعد عنها حتى يكاد يعد سنة محضة ... ) . وهذا التقسيم مبنى على النظر المذكور سلفاً من جهة اقتران البدعة بالعمل المشروع, أو انفصالها عنه أولاً, ثم من جهة اعتماد فاعلها على الدليل ثانياً ... وقد بين الشاطبي معنى هذا التقسيم عند ذكره للأمثلة على كل قسم, وأطنب في ذلك وسأكتفي في هذا المجال بذكر بعض الأمثلة ... فمثال القسم الأول: وهو الذي يقرب من الحقيقية حتى يكاد يعد منها: ملازمة الخشن من الثياب أو الطعام مع القدرة على غيره من الطيبات, لمجرد التشديد على النفس, بقصد التقرب إلى الله تعالى بذلك لا لأجل غرض صحيح معتبر شرعاً: ككسر كِبر, أو إسقاط عُجب, أو مقاومة شهوة باطلة, ونحو ذلك.. فهذا من البدع الإضافية الذي يقترب من الحقيقية حتى تكاد تعد البدعة حقيقية, وذلك لأن فيه إيثار الحرمان على التنعم بنعم الله المباحة, وفيه التشدد والتنطع الذي نهى عنهما الشرع, وفيه القصد إلى ما تكرهه النفس بما ليس من مطلوبات الشرع, ولا من مقاصده, لأن الشرع لم يقصد إلى تعذيب النفس والتشديد عليها في التكليف وهذا مخالف لقوله-صلى الله عليه وسلم-: (إن لنفسك عليك حقاً) . وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأكل الطيب إذا وجده, وكان يحب الحلواء والعسل, ويعجبه لحم الذراع, ويستعذب له الماء, فأين المشدد على نفسه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 من هذا؟.) . وقد قال سبحانه وتعالى: (يا أيها الذين أمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم) وقال جل وعلا: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق ... ) . فالله سبحانه لم يطالب العباد بترك الملذوذات من المباحات, وإنما طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها, وعدم الإسراف فيها, فالتحري للامتناع من تناول ما أباحه الله من غير موجب شرعي مفتتات على الشارع, وما جاء عن السلف من الامتناع عن بعض المباحات نجد أنهم إنما امتنعوا لعارض شرعي يشهد الدليل باعتباره, كالامتناع من التوسع لضيق ذات اليد أو لأن المتناول ذريعة إلى ما يكره أو يمنع, أو لأن في المتناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ولم يتفطن إليه غيره ... ونحو ذلك من العوارض والأعذار المستساغة شرعاً. ومن هذا الباب: الاقتصار في الأفعال والأحوال على ما يخالف محبة النفوس وحملها على ذلك في كل شيء من غير استثناء, فهو من قبيل التعمق والتشدد, لأنه قد عرف أن الشرع أباح أشياء فيها قضاء لنهمة النفس واستمتاع بما يلذ لها, فلو كانت مخالفة النفس على الإطلاق مما يحبه الشارع لما أمر بما فيه تحقيق متع النفس بل لأمر بالترك. فمن عمد إلى مخالفة محبات النفس التي أبحها الشرع من غير غرض صحيح معتبر شرعاً, فهو مبتدع يتقرب إلى الله بما لم يشرعه, مثل محالفة النفس في النكاح, أو المنام أو بعض أنواع الطعام أول اللباس المباح, كل ذلك داخل تحت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 هذا النوع من البدع الإضافية, الذي يقترب من البدع الحقيقية بل إن بعض أنواع هذا القسم هو من البدع الحقيقية بلا ريب ... وإنما عدت من البدع الإضافية, لكون فاعلها يعتمد على بعض الأدلة التي تدعو للزهادة في الدنيا, والتخفف من مباحاتها, وبعض سير السلف-رحمهم الله- في ذلك مما قد يعد شبه استدلال, وقد مر أن البدعة الإضافية في إحدى جهتيها تتعلق بالسنة لأنها مستندة إلى دليل شرعي, وفي الجهة الأخرى بدعة, لأنها مستندة إلى شبهة لا إلى دليل. ومن هذا الباب أن يكون للمكلف طريقان في سلوكه للأخرة, أحدهما سهل ميسور, والآخر شاق عسر, وكلاهما في التوصل إلى المطلوب على حد واحد فيأخذ المتشدد بالطريق الأصعب, الذي يشق عليه ويترك الطريق الأسهل بناء على أن التشديد على النفس من القربات, ومن الطرق التي يرضاها الشارع الرحيم ... كالذي يجد للطهارة ماءين: ساخناً وبارداً فيتحرى البارد الشاق استعماله ويترك الآخر, فهذا لم يعط نفسه حقها الذي طلبه الشارع منه, وخالف دليل رفع الحرج, من غير معنى زائد. وزعم بفعله هذا أن القصد إلى مكروهات النفس تشريع من الله, وتقدم بين يدي الشارع بعبادة غير مشروعة, وصار متبعاً لهواه, فتكون بدعته هذه إضافية تقترب من الحقيقية, إذ أن لها شبهة تعلق بالدليل الشرعي في قوله-صلى الله عليه وسلم-: (ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 فيظن المبتدع أن في الحديث دليل, على أن للإنسان أن يسعى في تحصيل هذا الأجر بإكراه النفس, ولا يكون ذلك إلا بتحري إدخال الكراهة عليها, وهذه هي شائبة الاعتماد على الدليل الشرعي, وشبهة الاستدلال التي جعلت هذه البدعة إضافية. وهذا الاستدلال الذي اعتمد عليه المبتدع غير مستقيم, لأنه لا دليل في الحديث على ما أراد, وإنما فيه أن الإسباغ مع وجود الكراهية هو محل الثواب, فهذا أمر زائد غير الأمر الذي ذكر المثال له, كالرجل يجد ماء بارداً في الشتاء ولا يجده ساخناً فلا يمنعه شدة برده عن كمال الإسباغ, وأما القصد إلى الكراهية فليس في الحديث ما يقتضيه بل في الأدلة الشرعية ما يدل على أنه مرفوع عن العباد. ومن هنا كان هذا العمل بدعة. أما القسم الثاني من أقسام البدعة الإضافية: وهو ما يبعد عن البدعة حتى يكاد يعد سنة محضة ... فقد ضرب له الشاطبي بعض الأمثلة منها: العمل الذي شرع أصله ولكنه يصير جارياً مجرى البدعة, من باب سد الذرائع. كأن يلتزم النوافل التزام السنن الرواتب, إما دائماً وإما في أوقات محدودة وعلى طريقة محدودة. ووجه دخول الابتداع في هذا, أن كل ما واظب عليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من النوافل وأظهره في الجماعات, فالمواظبة عليه وإظهاره من السنن, وأما النافلة التي ليست على هذا الوجه ويلتزمها العامل التزام السنن الرواتب بأي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 نوع من الالتزامات التي لم تشرع ... وهذا الالتزام يخرج العمل عن طريقته المشروعة إلى أخرى لم يرد بها دليل, وذلك حين يخرج بالنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً ويلحقها بالراتبة, فيظن أ، ها سنة راتبة, وليست كذلك وهذا افتئات على الشرع وتخصيص بغير مخصص شرعي, ويلزم من هذا اعتقاد العوام ومن لا علم عنده أنها سنة راتبة. ومثال هذا أن يلتزم صلاة نافلة مطلقة في وقت معين, ويداوم على ذلك ويظهرها في المساجد أو يقيمها جماعة. ومنه أيضاً المداومة على السنن التي ثبت أن الرسول-صلى الله عليه وسلم- فعلها أحياناً ولم يداوم عليها, كالمداومة على قراءة سورة السجدة في صلاة فجر في يوم الجمعة, فإن ذلك يخرجها من مجال تشريعها وهو سنيتها في بعض الأيام إلى الوجوب ومن أجل ذلك نبه العلماء على ترك المدوامة على قرائتها, كقول شيخ الإسلام أثناء حديثه عن قراءة سورة السجدة في فجر الجمعة: ( ... لا ينبغي المدوامة عليها بحيث يتوعم الجهال أنها واجبة وأن تاركها مسيء, بل ينبغي تركها أحياناً لعدم وجوبها) ومن هذا الباب ترك من يقتدي به فعل ما هو مشروع, لئلا يظن أنه واجب فيعطى حكماً لم يعطه إياه الشارع, فيكون ابتداعاً أو ذريعة للابتداع. وأصل هذا المعنى فيما رواه البيهقي بسند صحيح, عن أبي سريحة الغفاري وهو حذيفة بن أسيد رضي الله عنه قال: (ما أدركت أبا بكر, أو رأيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 أبا بكر وعمر-رضي الله عنهما- كانا لا يضحيان كراهية أن يقتدى بهما) . وفي البيهقي أيضاً عن أبي مسعود الأنصاري -رضي الله عنه- قال: (إني لأدع الأضحى وإني لموسر مخافة أن يرى جيراني أنه حتم علي) . وهذا فهم من الصحابة-رضوان الله عليهم- لأحكام الشريعة, وأ، كل عمل له حكمه الذي شرعة الله, فانتقاله إلى حكم أعلى منه, أو أدنى منه لا يكون إلى بأمر الشارع, وعلى هذا الاعتبار يعد هذا الانتقال غير المشروع من البدع الإضافية التي تكاد تعد سنة محضة. والسبب في اعتبار هذا العمل وأمثاله من البدع الإضافية, التي تكاد تعد سنة محضة هو أن العامل له يخرج العمل عن بابه الذي وضعه الشرع فيه, ويضع له خاصية ليست مشروعة له.. وهذا زيادة على الشرع وتقييد بلا دليل, حتى مع افتراض أن العمل في ذاته صحيحاً فإخراجه عن بابه اعتقاداً وعمالً من باب إفساد الأحكام الشرعية, ومن باب التزود على الشرع والتقديم بين يدي الله ورسوله. وجميع هذا الذي ينهى عنه من باب سد الذرائع الموصلة إلى البدع, وله شواهد وأدلة من فعل السلف-رضوان الله عليهم- فمن ذلك نهيهم عن اتباع الآثار, كما أخرج ابن وضاح بسنده عن المعرور بن سويد قال: (خرجنا حجاجاً مع عمر بن الخطاب, فعرض لنا في بعض الطريق مسجد فابتدره الناس يصلون فيه, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 فقال عمر: ما شأنهم؟ قفالوا: هذا مسجد صلى فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال عمر: أيها الناس إنما أهلك من كان قبلكم بإتباعهم مثل هذا, حتى أحدثوها بيعاً, فمن عرضت له فيه صلاة فليصل, ومن لم تعرض له فيه صلاة فليمض) . وخرج ابن وضاح أيضاً بطريقين أن عمر بن الخطاب-رضي الله عنه-: ( ... أمر بقطع الشجرة التي بويع تحتها النبي-صلى الله عليه وسلم- فقطعها لأن الناس كانوا يذهبون فيصلون تختها فخاف عليهم الفتنة) . ومن هذا الباب كراهة سفيان الثوري ومالك تخصيص سورة الإخلاص بالقراءة دون غيرها في الصلاة, ففي البدع لابن وضاح: (أن سفيان سئل عن رجل يكثر قراءة قل هو الله أحد, لا يقرأ غيرها كما يقرأها فكرهه, وقال: إنما أنتم متبعون فاتبعوا الأولين, ولم يبلغنا عنهم نحو هذا, وإنما أنزل القرآن ليقرأ ولا يخص شيء دون شيء) . وفيه عن مالك: (أنه سئل عن قراءة قل هو الله أحد مراراً في ركعة فكره ذلك, وقال هذا من محدثات الأمور التي أحدثوها) . ولا يعارض هذا ما رواه مسلم في صحيحه عن عائشة: (أن رسول الله-صلى الله عليه وسلم- بعث رجلاً على سرية وكان يقرأ لأصحابه في صلاتهم فيختم بقل هو الله أحد, فلما رجعوا ذكر ذلك لرسول الله-صلى الله عليه وسلم- فقال: (سلوه لأي شيء يصنع ذلك) فسألوه فقال: لأنها صفة الرحمان فأنا أحب أن أقرأ بها, فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (أخبروه أن الله يحبه) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 ففي هذا الحديث دليل الجواز لا دليل المشروعية هذا أولاً, ثم إن كلام سفيان ومالك منصب على من يقرأها ويخصها بالقراءة دون غيرها, أو يكررها في ركعة واحدة, وكل هذا وإن كان أصله مشروعاً بمثل حديث مسلم وغيره إلى أنه بهذا الالتزام والتخصيص والمداومة يصبح له حكماً آخر ويصير ذريعة إلى اتخاذ العمل غير المسنون وغير المشروع سنة مشروعة. وهذه الأمثلة التي سبق ذكرها تعتبر بلا شك من الأمور الجائزة أو المندوب إليها, ولكنها تخرج من هذا الحيز بأي نوع من التخصيص غير الشرعي, إلى أن تصبح بدعة أو ذريعة إلى البدعة, وسبب اعتبارها إضافية أنها في أصلها لها دليل قائم على جوازها أو مشروعيتها, وأنها مخالطة لأعمال مشروعة ولم تصبح وصفاً ملازماً لها, وإنما صارت كالسبب الموضوع لاعتقاد البدعة أو للعمل بها على غير السنة أو لتصبح ذريعة إلى البدعة) . وهذا هو وجه تسميتها بدعة إضافية, ووجه تصنيفها في القسم الثاني من أقسام الإضافية. بيد أنه لا بد من التنبيه على مسألة سد الذرائع هذه, وأنها ليست على إطلاقها فيبدع بأي عمل يظن أو يتوهم أنه يؤدي إلى بدعة, أو يحكم على كل ذريعة إلى بدعة بأنها من قسم البدع الإضافية وذلك للاعتبارات التالية: 1. أن سد الذرائع أو ترك سدها محل اجتهاد المجتهد. فقد يرى من لا يذهب إلى سد الذريعة في المسألة الفلانية أن العمل عنده مشروع, ويكون لصاحبه أجره, أو يرى أنها-أصلاً- ليست بذريعة حتى يجب سدها.. وقد يذهب من يراها ذريعة يوجب سد الذرائع أن هذا العمل ممنوع, وأن صاحبه ملوم على فعله. وعلى هذا فلا بد من اعتبار الحكم على العمل بالبدعية أو عدمها من هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 الباب الذي يسوغ فيه الاجتهاد, لا سيما في مسألة سد الذرائع هذه. 2. يصح أن يكون العمل مشروعاً أو جائزاً من جهة نفسه, ومنهياً عنه من جهة ما يؤدي إليه من مفاسد, أو من جهة مآله. كقوله تعالى: (ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسب الله عدواً بغير علم) . وهناك أحكام فقهية عديدة علل العلماء فيها الأمر أو النهي بالتذرع وعليه فإدخال ذريعة البدعة في حكم البدعة, من السائغ المقبول شرعاً, وإن كان الأمر المتذرع به مشروعاً أو جائزاً من جهة نفسه. 3. تختلف الذرائع في أحكامها باختلاف منازل المتذرع إليه وأصل هذا المعنى في قوله-صلى الله عليه وسلم-: (من أكبر الكبائر أن يسب الرجل والديه) قالوا: يا رسول الله وهل يسب الرجل والديه؟ قال: (نعم, يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه) . فجعل سب الرجل لوالدي غيره بمنزلة سبه لوالديه نفسه, حتى ترجمة عنها بقوله: (أن يسب الرجل والديه) . فعد ذلك من أكبر الكبائر مع أنه لا يمكن أن يقصد الرجل والديه بالسب, ولكن سبه لوالدي الآخر صار ذريعة لسب والديه هو فعد ساباً لهما. وفي هذا الحديث عدة فوائد: منها اعتبار سد الذرائع, ومنها أن حكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 ذريعة الشيء يختلف باختلاف ما توصل إليه, وكذلك ذرائع البدع يكون حكمها بحسب ما توصل إليه فإن كانت توصل إلى بدعة كبيرة فالوسيلة كذلك, وإن كانت توصل إلى بدعة صغيرة فالوسيلة كذلك, وعليه فلا يعتبر كل ما جاء من باب سد الذرائع في مسألة البدعة من البدع الإضافية التي تقترب من السنة المحضة بل قد تكون إضافية مقتربة من الحقيقية, وقد تكون حقيقية بحتة, وإنما جاء ما ذكر سلفاً عند القسم الثاني من الإضافية من باب التمثيل. وقد تعرض الإمام الشاطبي رحمه الله لأمور أخرى غير ما سبق وعدها من البدع الإضافية منها: 1. المتشابه: ويراد به كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين أهو بدعة فينهى عنه أم غير بدعة فيعمل به. والمشتبه في هذا الباب من ضمن المشتبهات الواردة في الحديث المروي في الصحيحين عن-صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس فيمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه, ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه .... ) الحديث. ويدخل المشتبه أمره من حيث البدعية أو عدمها في هذا الحديث, لأن العامل بهذا المشتبه لا يقطع بأنه يعمل بسنة, كما لا يقطع أنه يعمل ببدعة وهذا كحال ما اختلف في حله أو تحريمه من الأعيان, والأشربة, والألبسة, والمكاسب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 ونحوها, فلم يعلم أهي من الحلال المحض أم من الحرام المحض, كما لو اختلطت الميتة بالمذكاة والرضيعة بالأجنبية ونخو ذلك. وهذا المشتبه فيه من حيث البدعية أو عدمها, يخرج بسبب هذا التردد بين الحل والحرمة من نطاق البدعة الحقيقية, لأنه كما مر: أن البدعة الإضافية ذات وجهين, وتتعلق بأمرين, أحدهما مشروع والآخر ممنوع, ومن أجل ذلك قيل إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية, وله أمثلة ذكرها الشاطبي يأتي هنا إيجاز بعضها. المثال الأول: إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفالني سنة يتعبد بها أو بدعة فلا يصح التعبد بها, ولم يستطع أ، يجمع بين الأدلة ولم يتبين له إسقاط بعضها بنسخ أو ترجيح أو تخصيص أو تقييد وغير ذلك, من طرق ووسائل الترجيح. فلو عمل بمقتضى أدلة المشروعية من غير مرجح لكان عاملاً بمتشابه لإمكان صحة الأدلة على عدم المشروعية, فالصواب الوقوف عن العمل استبراء لدينه وتنزيهاً عن الوقوع في الشبهات, مع أن هذا قد يقع لمجتهد فيكون عنده من المشتبهات, ولا يقع لآخر فيكون من الواضحات. المثال الثاني: التبرك بالصالحين وآثارهم: فهذا العمل متردد بين مجموعتين من الأدلة, إحداها توحي بأن التبرك بالصالحين وآثارهم جائزة, والأخرى تدل على المنع من ذلك. فمن الأدلة التي يعتمد عليها من يجيز التبرك بالصالحين وآثارهم ما ثبت عن الصحابة-رضي الله عنهم- أنهم كانوا يتبركون بأشياء من رسول الله-صلى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 عليه وسلم- كما روى البخاري ومسلم عن أبي جحيفة -رضي الله عنه- قال: (خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالهاجرة فأتي بوضوء فجعل الناس يأخذون من فضل وضوءه فيتمسحون به) . وفي حديث صلح الحديبية: (ما تنخم النبي-صلى الله عليه وسلم- نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم فدلك بها وجهه وجلده) . وفي البخاري عن موسى بن عقبة قال: (رأيت سالم بن عبد الله يتحرى أماكن من الطريق ويصلي فيها, ويحدث أن أباه كان يصلي فيها وأنه رأى النبي-صلى الله عليه وسلم- يصلي في تلك الأمكنة) . وفي الصحيحين عن عتبان بن مالك قال: (كنت أصلي لقومي بني سالم فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: إني أنكرت بصري وإن السيول تحول بيني وبين مسجد قومي, فلوددت أنك جئت فصليت في بيتي مكاناً حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 أتخذه مسجداً فقال: أفعل إن شاء الله, فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر معه, بعد ما اشتد النهار فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فأذنت له, فلم يجلس حتى قال: (أين تحب أن أصلي من بيتكم) ؟ فأشرت له إلى المكان الذي أحب أن يصلي فيه, فقام رسول الله-صلى الله عليه وسلم- فكبر وصففنا وراءه فصلى ركعتين ثم سلم وسلمنا حين سلم) ومن هذا ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم أن أبا بكر الأثرم قال: (قلت لأبي عبد الله-يعني أحمد بن حنبل-: قبر النبي-صلى الله عليه وسلم- يمس ويتمسح به, فقال: ما أعرف هذا, قلت: فالمنبر, فقال: أما المنبر فنعم فنعم قد جاء فيه, قال أبو عبد الله شيء يروونه عن ابن أبي فديك عن ابن أبي ذئب عن ابن عمر أنه مسح على المنبر, قال: ويروون عن سعيد بن المسيب في الرمان قلت: ويروون عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 يحي بن سعيد أنه حين أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر فمسحه ودعا, فرأيته استحسنه ثم قال: لعله عند الضرورة والشيء) . ومن هذا القبيل ما رواه الذهبي في سير النبلاء: أن عبد الله بن الزبير- رضي الله عنه- شرب دم الرسول-صلى الله عليه وسلم- بعد أن احتجم. وأشياء من هذا الباب كثيرة يستدل بها من يجيز التبرك بآثار الصالحين ومقاماتهم ومحل عباداتهم. إلا أن هذا الاستدلال يعارض بمجموعه من الأدلة منها: أنه هذه الأدلة المذكورة, والتي يعتمد عليها من يجيز التبرك خاصة بالنبي-صلى الله عليه وسلم- وأن محل الاختصاص مرتبط بمرتبة النبوة, والخيرية المطلقة التي لا يمكن أن تحقق في أحد بعده, وهذا ما فهمه الصحابة-رضوان الله عليهم- إذ جعلوا هذا التبرك مختصاً به هو -عليه السلام- لاختصاصه بالأفضلية والسيادة على الأنبياء وسائر البشر, واختصاصه -صلى الله عليه وسلم- بجواز التبرك به وبآثاره, كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع والوصال في الصيام وشبه ذلك. فعلى هذا المأخذ لا يصح لمن بعده الإقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها, ومن اقتدى به في هذا كان إقتداؤه بدعة كما كان الإقتداء به في الزيادة على أربعة نسوة أو الوصال في الصيام بدعة. ومن أدلة المعترضين: وهو مرتبط بما سبقه, أن الصحابة-رضوان الله عليهم- بعد موته-عليه السلام- لم يقع من أحد منهم شيء من هذا التبرك بالنسبة إلى من خلفه, وقد كان بين ظهرانيهم أفضل الأمة بعد نبيها: الصديق رضي الله عنه- ثم عمر أفضل الأمة بعده, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 ثم عثمان, ثم علي, ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة, ولم ينقل بطريق صحيح أن أحداً في عصرهم تبرك بهم على أحد تلك الوجوه المنقولة في تبركهم بالنبي-صلى الله عليهم وسلم- أو نحوها. وهذا إجماعاً في القرون الفاضلة على ترك هذا العمل والإجماع أصل مقطوع به لا يجوز الخروج عليه لا سيما وقد انعقد في الزمن الفاضل. ومن الأدلة أيضاً: لو سلمنا أن الصحابة -رضي الله عنهم- لم يعتقدوا اختصاص النبي- صلى الله عليه وسلم- بهذا, ولم ينعقد إجماعهم على ترك التبرك بغيره, فإنه يجب أ، يقال أنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفاً من أن يجعل ذلك سنة كما تقدم في اتباع الآثار ونهي عمر عن ذلك وقطعه للشجرة. أو لأن العامة لا تقتصر في هذا الباب على حد, بل تتجاوز فيه الحدود وتبالغ بجهلها في التماس البركة, حتى تعتقد تعظيم المتبرك به وقد تعتقد عصمته وقدرته على النفع والضر, وهذا من أشنع أنواع الشرك-والعياذ بالله- كما يفعل كثير من الجهلة والمبتدعة مع شيوخهم, من لبس الخرقة والتبرك بالمجلس والتمسح بالأقدام. وقد فتح هذا الباب على كثير من طوائف المسلمين وعامتهم أبواباً من الاعتقادات الضالة, كاعتقاد الولاية في الزنادقة, واعتقاد البركة المطلقة في كل ما يتصل بمن يرونه ولياً, حتى وصل الأمر عند بعضهم أن يعتقد البركة في البول والعذرة ... فإذا علم أن الصحابة كانوا يعتقدون اختصاص النبي-صلى الله عليه وسلم- بجواز التبرك به وبآثاره, بدليل إطباقهم على عدم قياس غيره عليه في هذا وإجماعهم على الترك, إذ لو كان اعتقادهم التشريع لعمل به بعضهم بعده أو عملوا به ولو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 في بعض الأحوال 'ما وقوفاً مع أصل المشروعية وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع. أضف إلى ذلك ما يؤدي 'ليه جواز ذلك من أمور, هي في حقيقتها ذرائع إلى بدع كبيرة ومفاسد خطيرة ... وقد ذكر الإمام الشاطبي هذا المثال ضمن أمثلة المتشابه الدائر بين أمرين من الأدلة وجعله من البدع الإضافية بسبب اعتماد مبتدعها على شيء من الأدلة, وتعلق هذه البدعة بشيء من النصوص الثابتة, وهذه البدعة حقها أن تصنف-في أقل الأحوال- ضمن البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية ... ومن الأمور التي ألحقها الشاطبي بالبدع الإضافية: 2. (أن يكون أصل العبادة مشروعاً إلى أنها تخرج عن صل شرعيتها بغير دليل, توهما أنها باقية على أصلها تخت مقتضى الدليل, وذلك بأن يقيد إطلاقها بالرأي أو يطلق تقييدها) . وقد جعل الشاطبي هذه البدعة من الإضافية التي تقرب من الحقيقية, وقد سبق ذكر شيء من هذا المعنى, ول بأس بذكره هنا منفرداً, لكونه من متعلقات أهل البدع واحتجاجاتهم الكبيرة, إذ لا يعتقدون دخول التخصيصيات والتقييدات العقلية للعمل المشروع في البدع, ولا يعتبرون ذلك مخرجاً للأعمال المشروع أو الجائزة عن حدها الذي حد لها, فيقعون في كثير من البدع من هذا الباب .... وقد ضرب الشاطبي لهذا النوع من البدع الإضافية أمثلة منها: أن الصوم في الجملة مندوب إليه, ولم يخصه الشارع بوقت دون وقت, ما عدا ما نهي عن صيامه على الخصوص كالعيدين وإفراد الجمعة, وما ندب إليه على الخصوص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 كعرفة, وعاشوراء, وأيام البيض والاثنين والخميس ... فإذا جاء إنسان فخصص يوماً من الأسبوع كالأربعاء, أو أياماً من الشهر كالأول والثلاثين وما أشبه ذلك, فإن هذا التخصيص أت من جهة رأيه وهواه ... وهو تخصيص بغير دليل, يضاهي به تخصيص الشارع أياماً بأعيانها دون غيرها فصار هذا التخصيص من المكلف بدعة, لكونه تشريع بغير مستند, وتقييد بغير دليل, وإخراج للعبادة المشروعة عن وضعها الشرعي إلى وضع مبتدع ... ومنها: تخصيص الأيام الفاضلة كعشر ذي الحجة وعاشوراء ويومي العيد بأنواع من العبادات التي لم تشرع, كتخصيص يوم كذا بصلاة كذا وكذا من الركعات, أو ليلة كذا يختم القرآن فيها أو بإحيائها بالصلاة والذكر وما أشبه ذلك من أنواع التخصيصات التي لا دليل عليها. فيكون هذا التخصيص والعمل له من البدع الإضافية التي تقرب من الحقيقية. ولا حجة في القول بأن هذا اليوم أو هذه الليلة لها من الفضل كذا وكذا فيحسن إيقاع العبادات فيها لأن الذي بين فضل هذا الزمان قادر على تشريع ما يلائمه من قربات, وقد عرف من الشرع أنه خصص أياماً فاضلة بأنواع من العبادات والقربات لا توجد في غيرها من الأيام, فدل ذلك على أن مجرد الأفضلية لا يكون سبباً في إيقاع العبادات كما أن التخصيص بعبادة في زمن ما من حقوق الشرع وخصائصه, وليست تابعة لآراء العباد وأهوائهم. ومن الأمور التي ألحقها الشاطبي بالبدع الإضافية: 3. تحديث الناس بما لا يفقهون, وتكليمهم في دقائق العلوم وصعاب المسائل التي لا تصل إليها أفها مهم: وهذا العمل يكون بدعة باعتقاد فاعله: أنه يتقرب إلى الله بحديثه في هذه الأمور, أو أنه بفعله هذا ينشر العلم الشرعي, ونحو ذلك من المتعلقات التي يريد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 من خلالها تحصيل الأجر والمثوبة ... وهذا النوع من العمل من باب وضع الحكمة في غير موضعها, فسامع الكلام الذي لا يصل إليه فهمه إما أن يفهمه على غير وجهه وهو الغالب, وهذه فتنة تؤدي إلى التكذيب بالحق والشك في الشرع والعمل بالباطل, وإما لا يفهم منه شيئاً وهو أسلم من سابقه, ولكن المحدث لم يعط الحكمة حقها من الصون بل صار في التحديث بها كالعابث بنعمة الله ومن منح الجهال علماً أضاعه.. ومثال ذلك أن يطرح على العوام بعض أحاديث الصفات-كحديث الصورة- التي لا تصل إليها أفها مهم, أو بعض شبهات المبتدعة والكافرين, أو بعض النصوص التي قد تبدو للجاهل وبادي الرأي متعارضة, أو بعض مسائل الاختلاف, أو الحديث عن مسائل القضاء والقدر وأطفال المشركين, ووالدي الرسول, ونحو ذلك من المسائل التي قد تكون فتنة للجاهل والعامي. ولأجل هذا جاء انهي عن كثير من السلف عن الأغلوطات والمسائل المشكلة, وقد ترجم لهذا المعنى البخاري في صحيحه فقال: (باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا) . ثم ذكر حديثاً موقوفاً على علي-رضي الله عنه- أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله) . وفي مسلم عن عبد الله بن مسعود رض الله عنه قال: (ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة) . قال الذهبي في سير النبلاء: (كذا ينبغي للمحدث أن لا يشهر الأحاديث التي يتشبث بظاهرها أعداء السنن من الجهمية ... وأهل الأهواء والأحاديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 التي فيها صفات لم تثبت, فإنك لن تحدث قوماً بحديث لا تبلغه عقولهم إلا كان فتنة لبعضهم, فلا تكتم العلم الذي هو علم, ولا تبذله للجهلة الذين يشغبون عليك, أو الذين يفهمون منه ما يضرهم) . وكلام العلماء من السلف والخلف في هذا الباب كثير, والمقصود أن التحدث مع الناس بما لا تبلغه عقولهم يدخل في باب البدع الإضافية وسبب دخول هذا العمل في الابتداع أنه عند عامله منبعث من محبة الأجر وطلب القربة إلى الله بنشر العلم وتعليم الخلق, وهذا المقصد في ذاته من الأعمال المشروعة .... وهو أحد الوجهين اللذين يتعلق بهما هذا العمل, والوجه الآخر: أنه هذا الفعل على خلاف الشرع, وعلى خلاف ما كان عليه سلف هذه الأمة, وفيه من المفاسد الدينية ما سبق بيان بعضه, فلذلك كان هذا العمل من البدع الإضافية التي تقترب من الحقيقية. وبما يمكن إلحاقه بهذا الفصل-وقد سبق الإشارة إليه في أوله-: تقسيم البدعة إلى كلية وجزئية, وإلى بسيطة ومركبة, وسبب الإلحاق هذا, هو أن النظر مرتكز في هذه التقسيمات إلى البدعة ذاتها هذا من جهة, ومن جهة أخرى, فإن البدعة الكلية والمركبة تكون غالباً من البدع الحقيقية, بينما تكون الجزئية والبسيطة من البدع الإضافية في الغالب أيضاً ... ويتحدد هذا بالنظر في الدليل الذي قامت عليه البدعة, وبالنظر في التصاقها بالعمل المشروع أو انفصالها عنه كما سبق بيانه.. فأما البدعة الكلية: فهي التي تعتبر كالقاعدة أو الأصل لبدع أخرى تنبني عليها ويتعدى أثرها إلى أمور كثيرة. مثل بدعة عصمة الأئمة عند الرافضة, فهي بدعة كلية ترتب عليها جملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 من الضلالات والبدع, كإنزالهم أئمتهم منزلة لا يصلها نبي مرسل ولا ملك مقرب, واعتقاد الصواب المطلق في أقوالهم وأفعالهم, وكاعتقاد خروج المهدي من السرداب, وغير ذلك من الانحرافات. ومن البدع الكلية الأصول الخمسة عند المعتزلة, والقول بأن للشريعة ظاهراً وباطناً كما تقول الباطنية, والزعم بأن منزلة الولي فوق منزلة النبي كما يقول زنادقة الصوفية, وترك العمل بالحديث النبوي كما فعلت الخوارج ... وأما البدعة الجزئية: فهي لا تتجاوز ذاتها, فلا يبنى عليها شيء من البدع ولا يمتد أثرها إلى شيء من الأعمال الأخرى, التي يفعلها صاحبها فهي على عكس البدعة الكلية, ومن أمثلتها بدعة المداومة على المصافحة عقب الصلوات, وبدعة الجهر بالنية في الصلاة, وبدعة تلقين الميت في قبره بعد دفنه ونحو ذلكز وأما البدعة المركبة: فهي التي اشتملت على مجموعة من البدع وحوت عدة محدثات, انضمت إلى بعضها حتى أصبحت كأنها بدعة واحدة, ومثالها بدعة المولد, إذ تضم هذه البدعة لفيفاً من البدع, وتشتمل على عدة مخالفات شرعية منها تخصيص يوم معين, وذكر معين, وهيئة معينة بغير دليل, وإحداث أوراد وأشعار مبتدعة تحوي أصنافاً من الأكاذيب والضلالات وغير ذلك. وأما البدعة البسيطة: فهي على عكس المركبة إذ هي مخالفة بدعية لا يدخل معها غيرها وتشبه الجزئية.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 البدعة المتعلقة بالفعل والترك مر سابقاً أن من مفاهيم أهل السنة والجماعة للبدعة أنها تقع بالفعل والترك، أي بفعل غير المشروع، وترك ما هو مباح أو مشروع، وبتعبير آخر: فعل ما تركه الشارع، وترك ما شرعه أو أباحه تقرباً إلى الله بذلك. وهنا سيرد بعض البسط لهذا المفهوم، بتبيين المراد بالفعل والترك، وأدلة ذلك وأمثلة وبالله التوفيق ... أما الفعل فيراد به هاهنا معنيان: الأول : فعل الشارع. الثاني: فعل المكلف. 1- فعل الشارع: فهو ما تقوم به الحجة على وجوب أمر أو استجابة أو ندبة أو إباحته أو تحريمه أو كراهته، وبعبارة أخرى: يراد بفعل الشارع ما يؤدي إلى إلحاق حكم شرعي بالوصف المراد. وهذا يشمل نصوص الكتاب ونصوص السنة الثابتة، وهي فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - أو قوله أو إقراره، مما لا يعد من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -، ولا من الأمور الجبلية، ولا مما فعله على سبيل الاتفاق، كتوقفه أثناء سفره لقضاء حاجته ونحو ذلك. أما فعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على وجه العادة فهو مباح لنا، إلا أن يقوم دليل على اختصاصه. وفعل الشارع بهذا الإطلاق يدخل المعنى العام للسنة الذي هو: الشريعة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 الإسلامية الواردة في الكتاب والسنة، أو ما استنبط منهما من أصول وما ورد من أخبار وآثار، وهذا الذي أراده شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: ( ... السنة هي ما قام الدليل الشرعي عليه بأنه طاعة لله ورسوله، سواء فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو فُعل في زمانه، أو لم يفعله ولم يُفعل في زمانه؛ لعدم المقتضي حينئذ لفعله، أو وجود المانع منه فإنه إذا ثبت أنه أمر به أو استحبه فهو سنة ... ) . وهذا الإطلاق العام يضم مراد الشارع من حيث الحظر والإباحة، وما بينهما من أحكام، في ما عُرفت علته وحكمته، وفي ما لم تُعرف علته وحكمته، وهو ما اصطلح عليه باسم العبادات والمعاملات، سواء كان هذا المراد الشرعي نصاً كألفاظ الكتاب والسنة، أو أصلا يعتمد في ثبوته ودلالته وحجيته على نصوص الكتاب والسنة، كالإجماع، والقياس، والمصالح المرسلة، وقول الصحابي، وقد وضح الشاطبي هذا المعنى في الموفقات أثناء حديثه عن معنى (السنة) واختلاف معاني إطلاقات هذا اللفظ فقال: ( ... ويطلق أيضاً في مقابل البدعة، فيقال: (فلان على سنة) إذا عمل على وفق ما عمل عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - كان ذلك مما نص عليه الكتاب أولاً، ويقال: (فلان على بدعة) إذا عمل على خلاف ذلك، وكأن هذا الإطلاق إذا اعتبر فيه عمل صاحب الشريعة، فأطلق عليه لفظ السنة من تلك الجهة، وإن كان العمل بمقتضى الكتاب. ويطلق أيضاً لفظ السنة على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة، أو لم يوجد لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم ولم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم، فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه، حسبما اقتضاه النظر المصلحي عندهم، فيدخل تحت هذا الإطلاق المصالح المرسلة والاستحسان، كما فعلوا في حد الخمر وتضمين الصناع، وجمع المصحف وحمل الناس على القراءة بحرف واحد من الحروف السبعة، وتدوين الدواوين وما أشبه ذلك ... ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 وهذا الذي ذكره الشاطبي من معاني السنة هو الذي كان رائجاً في العصر الأول، فقد كان السلف يطلقون اسم السنة بهذا المفهوم، وهو ما يتلاءم مع هذا السياق: في بيان المراد بفعل الشارع وفي الحديث عن البدعة ... وبهذا المفهوم العام للفظ السنة أو مراد الشارع أو فعله تدخل سائر الأحكام الشرعية الواجبة والمندوبة، والمباحة والمحرمة والمكروهة، سواء كانت متعلقة بالأعمال أو الأقوال أو الاعتقادات، وسواء كانت فعلاً أو تركاً ... وبإيجاز: كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي، وعلى هذا فإنه يجب أن ينظر إلى أفعال البشر وتصرفاتهم وفق هذا الميزان الشرعي، فإن كانت موافقة لمراد الشرع عُمل بها وإن لم تكن كذلك رُدت وهذا ما سبق بيانه تحت عنوان: (البدعة هي ما ليس له أصل في الدين) . 2- وأما فعل المكلف: فيراد به كل عمل يقوم به بالجوارح أو باللسان أو بالجنان، في مجال العبادات أو المعاملات أو العادات. وهذه الأفعال لا تخرج بحال من الأحوال عن النظر الشرعي؛ لأنه ما من فعل إلا ولله - سبحانه وتعالى - فيه مراد وحكم: [أيحسب الإنسان أن يترك سدى] ، [وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون] . وهذا الحكم الإلهي والمراد الشرعي لله سبحانه وتعالى قد يكون منصوصاً عليه باللفظ، وقد يكون مستنبطاً من لفظ الشارع، أو من سكوته، أو من أصول ومقاصد وكليات وقواعد بنيت على النصوص الشرعية ... وما إلى ذلك مما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 يصلح للاحتجاج. وفعل المكلف إما أن يكون في مجال العبادات، أو في مجال العادات والمعاملات، ولكل من المجالين قاعدة شرعية، وحكم إلهي تسير عليه. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... الأصل الذي بنى الإمام أحمد وغيره من الأئمة عليه مذاهبهم، أن أعمال الخلق تنقسم إلى: عبادات يتخذونها ديناً، وينتفعون بها في الآخرة، أو في الدنيا والآخرة، وإلى عادات ينتفعون بها في معاشهم. فالأصل في العبادات: أن لا يشرع فيها إلا ما شرعه الله. والأصل في العادات: أن لا يحظر منها إلا ما حظره الله. وبهذا القياس توزن أعمال المكلفين، وبهذا المعيار تسير أفعالهم فإن كانت وفق الدليل الشرعي، ولها أصل في دين الله يدل عليها، فهي مقبولة مثاب عليها فاعلها إذا قصد بها وجه الله. وإن كانت مخالفة للشرع، أو مناقضة له فلا تخلو من أحد حالين: الأول: أن لا يقصد بهذه المخالفة القربة إلى الله سبحانه فتعد معصية، وفي هذا تدخل جميع المنهيات الشرعية مثل النظر إلى النساء، وسماع الغناء، والحلف بالطلاق، وشرب المسكر، وكشف العورة، وأكل الربا ... وغير ذلك. الثاني: أن يقصد بالمخالفة القربة على الله - سبحانه وتعالى - فهذه هي التي تعد بدعة، سواء كانت في العبادات المحضة أو المعاملات أو العادات، وسواء كانت بالاعتقاد أو الجواح أو باللسان. فأما في العبادات فالأمر بين وواضح، مثل: صلاة الرغائب، وصلاة النصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 من شعبان، والأوراد البدعية عند الصوفية، واعتقا دالولاية في مظهر الفسوق وغير ذلك، وهو كثير ... وأما المعاملات فمثل: النظر إلى النساء والمردان، أو استماع الغناء بقصد القربة، أو أخذ المكوس والضرائب على الأبدان، والبضائع، مع اعتقاد أن ذلك مما يجيزه الشرع أو يبيحه، ويدخل في هذا المعنى مجموعة من البدع السياسية وكل البيوع والعقود والشروط التي نهى عنها الشارع وألغاها، فإن فعلها على وجه القربة لله، أو إلحاق حكم لها بالوجوب أو الندب أو الإباحة من الإبتداع. ومن أوضح ما يصح التمثيل به في هذا الباب: نكاح المتعة الذي تجيزه الرافضة وتعمل به. ومثله نكاح المحلل، من قال بجوازه وحله فقد أتى بدعة منكرة، إذ أنه وجد في زمان الرسول - صلى الله عليه وسلم - المقتضي للتخفيف والترخيص للزوجين بإجازة التحليل ليتراجعا، ولما لم يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 رجوعها إليه، دل على أن التحليل ليس بمشروع لها ولا لغيرها. وأما في العادات فمثل: لبس الصوف عبادة وحلق الرأس على وجه التعبد في غير نسك ولزوم زي واحد وجعله ديناً وقربة ومن ذلك لباس الفتوة والخرقة عند المتصوفة.. ونحو ذلك، مع أن الأصل في الأفعال العادية عدم التحريم وكذلك في المعاملات، ولكن لما ألحق المبتدع إليها أوصافاً ليست لها من قبل الشارع كاعتقاده التقرب بهذا العمل، وجعله ديناً وعبادة، أو إلحاق حكم شرعي بالندب أو الوجوب أو الجواز، وليس له هذا الحكم من جهة الشرع كان هذا هو سبب اعتبار هذه الأعمال وأمثالها بدعاً في دين الله. وهذا الذي مضى هو قسم البدع الفعلية، وأما البدع التركية، فإن الحديث عنها فيما يلي: وسيكون الكلام عن الترك هنا على قسمين: 1- الترك من قبل الشارع. 2- الترك من قبل المكلف. القسم الأول: الترك من قبل الشارع: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 ويراد به أحد معنين: المعنى الأول: المطلوب تركه من قبل الشارع، وهو المنهي عنه، أو هو غير المأذون به، وهو المكروه والممنوع، فتركه - صلى الله عليه وسلم - ونهيه عنه دال على مرجوحية الفعل وبطلانه وعدم جوازه. وأصل هذا قوله - صلى الله عليه وسلم -: (ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم ... الحديث) . قال ابن رجب: (قال بعض العلماء: هذا يؤخذ منه أن النهي أشد من الأمر؛ لأن النهي لم يرخص في ارتكاب شيء منه، والأمر قيد بحسب الاستطاعة) . وهذا المعنى يشمل سائر المنهيات من المعاصي والبدع، فأما المعاصي المنهي عنها فكثيرة، وليس هذا محل الحديث عنها، وأما البدع فقد جاء طلب تركها من الشارع بألفاظ عامة مطلقة، وفي أوقات كثيرة، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (.. وإياكم ومحدثات الأمور) فتكون غير مأذون بشيء منها مطلقاً، وحكمها دائر بين التحريم والكراهة، ولا تخرج عن ذلك بحال ... المعنى الثاني: وهو أن يترك الشارع الفعل مع وجود مقتضاه وعدم المانع منه.. وقد يسمى بالمسكوت عنه، أو السنة التركية، وحده الذي له تعلق بموضوع البدعة هو: (أن يسكت الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الفعل غير الجبلي، مع قيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 المقتضى وعدم المانع) . فنسبة السكوت إليه - صلى الله عليه وسلم - قيد، يخرج به سكوت وترك غيره فإنه لا يعد سنة تركية. ووصف الفعل بغير الجبلي: قيد يخرج به الفعل الجبلي، فإن ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو تركه مما يظهر فيه أنه جرى الجبلة كالأكل والشرب والقيام والقعود والنوم وقضاء الحاجة، فهو على الإباحة له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته. ويقصد بالإباحة في الأفعال الجبلية ما يجري على الطبع البشري، كأكله وقت الجوع، وشربه وقت عند الظمأ، ونومه بعد التعب، ونحو ذلك. ولا يدخل في هذا المعنى ما شرعه - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وهيئات تكون مع هذه الأفعال الجبلية، بل قد تكون واجبة كالأكل باليمين، أو مندوبة كالنوم على طهارة، ويخرج بهذا القيد - أقصد وصف الفعل بغير الجبلي - ما فعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً، مثل نزوله لقضاء حاجته أثناء نسك الحج، فإن هذا ما جرى على الجبلة، وليس من السنة التي يقتدى به فيها. وكذلك ما تركه - صلى الله عليه وسلم - اتفاقاً فإنه يلحق بهذا، وما تركه بمقتضى الجبلة لا يعد من السنة التركية، كتركه - مثلاً - الشرب أثناء طوافه - صلى الله عليه وسلم - لعدم احتياجه إليه، فهذا الترك لا يعد سنة تركية. وخرج بقيام المقتضى: سكوته - صلى الله عليه وسلم - عن الفعل مع عدم المقتضي إليه، فهذا لا يكون سنة تركية، بل يجوز أن يفعل بدليل آخر كالقياس والمصلحة المرسلة. فإذا سكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الفعل مقتضاه قائم، كزيادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 التقرب إلى الله بعمل ما، فإن هذا المقتضى موجود في حياته - صلى الله عليه وسلم - فتركه لهذا الفعل مع وجود مقتضاه يدل على أن المشروع هو الترك، وبعبارة أخرى: ألا يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بالفعل مع وجود الداعي إليه، كالأذان لصلاة العيد، فإنها - أي صلاة العيد - مشروعة أن تؤدى في جماعة، وهذا يحتاج إلى نوع من الإعلام بها، والمعهود في الصلاة أن يكون الإعلام بها بالأذان، ومع كل هذا فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر بالأذان لصلاة العيد، فهذا سكوت عن فعل، وترك لعمل مع وجود الداعية إليه، وفيه دلالة على أن عدم الأذان لصلاة العيج سنة تركية. وفي الحقيقة أن كل البدع التي يحدثها المخترع في الأقوال أو الأفعال أو الاعتقادات تدخل تحت هذا المعنى، من قريب أو من بعيد إذ غاية ما يرجوه المبتدع ببدعته تحصيل قربة، وزيادة أجر ومثوبة بعمل يعتقد أنه مشروع، وهو ليس كذلك. وكل هذه مقتضيات موجودة في عهده - صلى الله عليه وسلم - وواجب عليه أن يبلغ أمته طرق القربات، وأنواع العبادات، وأن يشرع لهم الواجبات والمندوبات، وأن لا يكتم من ذلك أي شيء، وقد فعل - بأبي هو وأمي - فلم يكتم شيئاً مما أمر ولم يسكت عن خير يقربنا من ربنا سبحانه، وهو معصوم - صلى الله عليه وسلم - من الكتمان وقت الحاجة، مع حرصه على خير أمته في العاجل والآجل، ووقته وقت تشريع ووحي وبيان ... فإذا علم هذا واستقر، تبين أن كل أمر عبادي يراد به القربة من الله وهو مقتضى عام موجود في عهده - صلى الله عليه وسلم - وليس هناك مانع من عمل هذا الأمر العبادي، ومع ذلك لم بعمله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يشرعه، فإن ذلك دليل على تركه هو المطلوب، وهو السنة وأن فعله هو المنهي عنه وهو الابتداع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 قال الشاطبي في الموافقات: (أن يسكت عنه - أي الشارع - وموجبه المقتضي له قائم، فلم يقرر فيه حكم عند نزول النازلة زائد على ما كان في ذلك الزمان، فهذا الضرب السكوت فيه كالنص، على أن قصد الشارع ألا يزاد فيه ولا ينقص؛ لأنه لما كان هذا المعنى الموجب لشرع الحكم العملي موجوداً، ثم لم يشرع الحكم دلالة عليه، كان ذلك صريحاً في أن الزائد على ما كان هنالك بدعة زائدة، ومخالفة لما قصده الشارع، إذ فهم من قصده الوقوف على ما حد هنالك، لا الزيادة عليه والنقصان منه) . وخرج بشرط انتفاء المانع: سكوته وتركه للفعل من أجل مانع، كتركه - صلى الله عليه وسلم - صلاة التراويح جماعة مخافة أن تفرض على أمته، فلما توفاه الله إليه زال المانع، وانتفى هذا المحذور، وكذلك تركه - صلى الله عليه وسلم - جمع القرآن في مصحف واحد، من أجل نزول الوحي، فلما توفي زال هذا المانع.. فلا يعتبر الترك الذي كان بسبب مانع من السنة التركية. قال شيخ الإسلام في معنى هذا الحد ومحترزاته: (.. فأما ما كان المقتضي لفعله موجوداً لو كان مصلحة، وهو مع هذا لم يشرعه، فوضعه تغيير لدين الله، وإنما دخل فيه من نسب إلى تغيير الدين من الملوك والعلماء والعباد أو من زل منهم باجتهاد - إلى أن قال - فمثال هذا القسم: الأذان في العيدين، فإن هذا لما أحدثه بعض الأمراء أنكره المسلمون، لأنه بدعة، فلو لم يكن كونه بدعة دليلاً على كراهته، وإلا لقيل هذا ذكر الله، وداء للخلق إلى عبادة الله، فيدخل في العمومات كقوله تعلى: [اذكروا الله ذكراً كثيراً] ، وقوله تعالى: [ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله] ، أو يقاس على الأذان في الجمعة، فإن الاستدلال على حسن الأذان في العيدين أقوى من الاستدلال على حسن أكثر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 البدع، بل يقال: ترك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع وجود ما يعتقد مقتضياً وزوال المانع سنة، كما أن فعله سنة، فلما أمر بالأذان في الجمعة وصلى العيدين بلا أذان ولا إقامة، كان ترك الأذان فيهما سنة، فليس لأحد أن يزيد في ذلك، بل الزيادة في ذلك كالزيادة في أعداد الصلوات أو أعداد الركعات، أو صيام الشهر أو الحج، فإن رجلاً لو أحب أن يصلي الظهر خمس ركعات، وقال: هذا زيادة عمل صالح، لم يكن له ذلك، وكذلك لو أراد أن ينصب مكاناً آخر يقصد الدعاء لله فيه وذكره لم يكن له ذلك، وليس له أن يقول هذه بدعة حسنة، بل يقال له: كل بدعة ضلالة، ونحن نعلم أن هذا ضلالة قبل أن نعلم نهياً خاصاً عنها، أو نعلم ما فيها من المفسدة، فهذا مثال لما حدث مع قيام المقتضي له وزوال المانع لوكان خيراً فإن كل ما يبديه المحدث لهذا من المصلحة أو يستدل به من الأدلة قد كان ثابتاً على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ومع هذا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهذا الترك سنة خاصة مقدمة على كل عموم وكل قياس) . أما إذا سكت الشارع أو ترك الفعل ولا داعية له مقتضية، ولا موجب يقرر لأجله، ولا وقع سبب يوجب تقريره، وليس هناك مانع شرعي من فعله فلا يخلو من أحد حالين: الأول: أن يكون هذا المتروك أو المسكوت عنه من العبادات المحضة التي لا يعقل معناها على التفصيل، فلا يجوز فعل هذا المتروك لأن فعله هو عين الابتداع ... وسبب ذلك أنه وإن توهم فاعله أن هذا النوع مما يسكت عنه الشارع، وتركه عفواً، فإن الأمر بخلاف ذلك تماماً، إذ غاية ما يسعى إليه المبتدع في هذا النوع أن يحصل على مزيد قربة بتعبده بهذا العمل، وهذا المعنى موجود في وقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 التشريع. والقربة والتعبد لله مقتضى يوجب تحصيل هذا الفعل، لو كان مراداً لله شرعاً، فإذا لم يشرعه فهذا دليل على أنه في حقيقته ليس بقربة ولا عبادة صحيحة وإن تخيل المبتدع ذلك. الثاني: أن يكون المتروك مما هو معقول المعنى وليس هناك مقتضى لفعله أو سبب محوج لتقريره في عهد التشريع، فهذا إذا حدث أو حصل ما يوجب حدوثه فإنه يرجع إلى أصول الشريعة وكلياتها، للنظر فيه وإثبات حكم شرعي له، بالقياس أو الاستصلاح، أو غير ذلك من الأصول والقواعد والكليات الشرعية. (كالنوازل الحادثة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - فإنها لم تكن موجودة ثم سكت عنها مع وجودها، وإنما حدثت بعد ذلك، فاحتاج أهل الشريعة إلى النظر فيها، وإجرائها على ما تبين في الكليات التي كمل بها الدين وإلى هذا الضرب يرجع جميع ما نظر فيه السلف الصالح، مما لم يسنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الخصوص، وهو معقول المعنى، كتضمين الصناع ... والجد مع الإخوة، وعول الفرائض، ومنه جمع المصحف ثم تدوين الشرائع، وما أشبه ذلك مما لم يحتج في زمانه - صلى الله عليه وسلم - إلى تقريره..) . ومن هذا الوجه سمي مسكوتاً عنه، وإلا ففي الحقيقة ليس ثم مسكوت عنه بحال، بل هو إما منصوص وإما مقيس على النصوص، وإما له من عمومات النصوص وقواعد الشريعة ومقاصدها ما يدل على حكمه، وكل هذه من جملة الأدلة الشرعية فلا نازلة إلا ولها في الشريعة محل حكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 القسم الثاني: الترك من قبل المكلف: وهي عدة أنواع: النوع الأول: أن يترك ما أمره الشارع بتركه، وهذا من العبادة لله - سبحانه - ولكن لا بد من نية في هذا المتروك إذ: ( ... كل ترك لا يكون عبادة ولا يثاب عليه إلا بالنية ... فإذا نوى تركها لله ثم فعلها ناسياً لم يقدح نسيانه في أجره بل يثاب على قصد تركها لله ... ) . النوع الثاني: أن يكون الترك لأمر يعتبر مثله شرعاً وهذا على أقسام: الأول: أن يترك من المباح ما يضر بجسمه أو عقله أو دينه، مثل أن يترك الطعام الفلاني لأنه يضر بجسده، فلا مانع من هذا الترك، بل من قال بطلب التداوي يقول بطلب الترك هنا، ومن قال بإباحة التدواي جعل هذا الترك مباحاً. الثاني: ترك ما لا بأس به حذراً مما به البأس، مثل ترك المتشابه كالمختلف في حله وتحريمه أو إباحته، ومنعه من الأعيان المطعومة والمشروبة والملبوسة، والمعاملات وغير ذلك، مما لم يشتهر بكونه حلالاً أو حراماً ونحو ذلك، مما يدخل تحت مسمى المتشابه ... فترك هذا المشتبه من صفات المتقين وعلامات الصالحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 كما قال - صلى الله عليه وسلم -: " فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه "، ومن هذا القسم ترك المباح الصرف لما هو أفضل، لا من باب تحريم ما أحل الله ولكن من باب الزهد والتخفيف من المباحات فهذا من الفضائل خصوصاً إذا خشي الاشتغال بها عن ما هو أفضل منها، ولم يعتقد حرمتها أو كراهتها أو الامتناع عنها بتاتاً، فإن اعتقد ذلك فيما هو مباح فقد ابتدع. الثالث: أن يترك المباح الذي يكرهه طبعه، وهذا لا حرج فيه بشرط أن لا يعتقد حرمة أو كراهة هذا المباح، وأصل هذا امتناع الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن أكل الضب، ففي البخاري وغيره عن ابن عباس رضي الله عنهما عن خالد بن الوليد رضي الله عنه: (أنه دخل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيت ميمونة فأتي بضب محنوذ، فأهوى إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بيده، فقال بعض النسوة: أخبروا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بما يريد أن يأكل، فقالوا: هو ضب يا رسول الله فرفع يده، فقلت: أحرام هو يا رسول الله؟ فقال: " لا، ولكن لم يكن بأرض قومي فأجدني أعافه "، قال خالد: فاجتررته فأكلته ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينظر) . وفي رواية أخرى عن ابن عباس أيضاً: أن أضباً (دعا بهن النبي - صلى الله عليه وسلم - فأكلن على مائدته، فتركهن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالمعتذر له، ولو كان حراماً ما أكلن على مائدته ولا أمر بأكلهن) . فهذا من ترك المباح بحكم الجبلة والطبع ولا شيء فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ويمكن أن يدخل تحت هذا القسم: الترك لحق الغير كما في تركه - صلى الله عليه وسلم - أكل الثوم والبصل لحق الملائكة، ففي البخاري وغيره عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزلنا، أو ليعتزل مسجدنا وليقعد في بيته "، وإنه أتي ببدر - قال ابن وهب - يعني طبقاً فيه خضروات من بقول - فوجد لها ريحاً، فسال عنها فأخبر بما فيها من البقول فقال: " قربوها "، فقربوها إلى بعض أصحابه كان معه، فلما رآه كره أكلها قال: " كل فإني أناجي من لا تناجي ". وفي الحلية لأبي نعيم بسنده عن علي رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل الثوم نيا، فلولا أن الملك يأتيني لأكلته "، وفيها عن علي قال: (أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأكل الثوم وقال: " لولا أن الملك ينزل علي لأكلته ") . النوع الثالث من أنواع الترك: أن يكون الترك لأمر غير معتبر شرعاً وهو على قسمين: الأول: أن يترك المأمور به بغير قصد التدين أو القربة، إما لكسل أو تهاون أو تضييع وما أشبه ذلك من الدواعي النفسية، فهذا الترك معصية ولا يسمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 بدعة، وهذا الترك يصير عاصياً بتركه لهذا العمل المشروع، مع اختلاف درجات الإثم والعقوبة باختلاف درجات المتروك من حيث الفرضية والوجوب والندب. الثاني: أن يترك المباح أو المأمور به بقصد التدين والتعبد بهذا الترك، سواء كان في العبادات أو المعاملات أو العادات، بالقول أو الفعل أو الاعتقاد، فهذا الترك هو محل الابتداع إذ يعد عاصياً مبتدعاً بتركه هذا، وأصل هذا القسم في قصة الثلاثة الذين منعوا أنفسهم من بعض المباحات للتقوي على العبادة، ففي الصحيحين وغيرهما عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم - فلما أُخبروا كأنهم تقالّوها، قالوا: أين نحن من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ ، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبداً، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء ولا أتزوج أبداً، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، ولكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: (قوله: " فمن رغب عن سنتي فليس مني "، المراد بالسنة الطريقة لا التي تقابل الفرض، والرغبة عن الشيء الإعراض عنه إلى غيره، والمراد من ترك طريقتي وأخذ بطريقة غيري فليس مني، ولمّح بذلك إلى طريق الرهبانية فإنهم الذين ابتدعوا التشديد كما وصفهم الله - تعالى - وقد عابهم بأنهم ما وفوه بما التزموه، وطريقة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحنفية السمحة فيفطر ليتقوى على الصوم، وينام ليتقوى على القيام، ويتزوج لكسر الشهوة وإعفاف النفس وتكثير النسل - إلى أن قال معدداً فوائد هذا الحديث ومنها - إزالة الشبهة عن المجتهدين، وأن المباحات قد تنقلب بالقصد إلى الكراهة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 أو الاستحباب) . وقال شيخ الإسلام بعد ذكره لهذا الحديث: (فإذا كان هذا فيما هو جنسه عبادة، فإن الصوم والصلاة جنسها عبادة، وترك اللحم والتزويج جائز، ولكن لما خرج في ذلك عن السنة فالتزم القدر الزائد على المشروع، والتزم هذا الترك المباح كما يفعل الرهبان، تبرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - ممن فعل ذلك حيث رغب عن سنته إلى خلافها. وقال في موطن آخر بعد أن أورد هذا الحديث: فبين (- صلى الله عليه وسلم - أن مثل هذا الزهد الفاسد، والعبادة الفاسدة ليست من سنته فمن رغب فيها عن سنته فرآها خيراً من سنته فليس منه) . ومثل حديث الثلاثة السابق مارواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: (أن رجلاً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله إني إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء وأخذتني شهوتي، فحرمت عليّ اللحم، فأنزل الله تعالى: [يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين وكلوا مما رزقكم الله حلالاً طيباً] ) . ومثلها حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: (بينما النبي - صلى الله عليه وسلم - يخطب، إذ هو برجل قائم فسأل عنه فقالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم ولا يقعد، ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه ". قال شيخ الإسلام بعد ذكر هذا الحديث: (فأمره النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 بالصوم وحده لأنه عبادة يحبها الله - تعالى - وما عداه ليس بعبادة وإن ظنها الظان تقربه إلى الله تعالى) . وقال في موضع آخر: (فلما نذر عبادة غير مشروعة من الصمت والقيام والتضحية، أمره بفعل المشروع وهو الصوم في حقه، ونهاه عن فعل غير المشروع) . ومن هذا الباب مارواه البخاري عن قيس بن أبي حازم قال: (دخل أبو بكر على امرأة من أحمس يقال لها زينب، فرآها لا تتكلم، فقال: ما لها لا تتكلم؟ ، قالوا: حجت مصمتة، قال لها: تكلمي فإن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية، فتكلمت فقالت: من أنت؟ قال: امرؤ من المهاجرين ... ) الأثر، قال شيخ الإسلام بعد استشهاده بهذا الأثر على وجوب مخالفة طريق أهل الجاهلية، (ومعنى قوله: من عمل الجاهلية أي مما انفرد به أهل الجاهلية، ولم يشرع في الإسلام فيدخل في هذا: كل ما اتخذ من عبادة مما كان أهل الجاهلية يتعبدون به، ولم يشرع الله التعبد به في الإسلام وإن لم ينوّه عنه بعينه كالمكاء والتصدية - إلى أن قال - فاتخاذ هذا قربة وطاعة من عمل الجاهلية الذي لم يشرع في الإسلام. وقال الحافظ ابن حجر عند شرحه للحديث السابق (والصمت المنهي عنه ترك الكلام في الحق لمن يستطيعه وكذا المباح المستوى الطرفين) . وكذلك بروز المحرم وغيره للشمس حتى لا يستظل بظل، أو ترك الطواف بالثياب المتقدمة، أو ترك كل ما عمل في غير المحرم ... ) . فهذه مجموعة أحاديث تبين الترك لما هو مشروع أو مباح بقصد القربة إلى الله بذلك بدعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 وقد مر أن الترك البدعي، أو البدعة التركية تقع في العبادات المحضة والمعملات والعادات، كما أنها تكون في الاعتقاد والقول والفعل، ولعل في الأحاديث السابقة ما يدل على بعض هذا ولكن لا بأس من ذكر بعض الأمثلة لكل قسم من هذه الأقسام للتوضيح: 1- ترك في العبادات: قال ابن القيم: ( ... ما أكثر من يتعبد الله بترك ما أوجب عليه فيتخلى وينقطع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع قدرته عليه، ويزعم أنه متقرب إلى الله - تعالى - بذلك، مجتمع على ربه تارك ما لا يعنيه، فهذا من أمقت الخلق إلى الله - تعالى - وأبغضهم إليه مع ظنه أنه قائم بحقائق الإيمان، وشرائع الإسلام وأنه من خواص أوليائه وحزبه) . ومن أمثلة هذا الترك ما يزعمه ملاحدة الصوفية من سقوط التكاليف عن العارف وجواز تركه للوحي ولوازمه استغناء عنه بالعلم اللدني. ومن أمثلته ترك الرافضة المسح على الخفين. 2- الترك في المعاملات: مثل ترك الزواج، وترك زيارة الأرحام، وترك كسب الرزق لأجل الانجماع للعبادة والخلوة من أجل مزيد القربة ونحو ذلك، مما يفعله المتصوفة ويعتقدونه ديناً وطاعة لله. ومثل ترك بيعة إمام المسلمين وترك طاعته لمجرد الوقوع في الظلم أو الفسق كما يعتقد الخوارج والمعتزلة.. وكترك الخوارج مؤاكلة المسلمين، ومبايعتهم، ومناكحتهم، وغير ذلك.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 3- الترك في العادات: كالامتناع عن اللحم والماء والخبز تديناً وقربة، وكذلك الامتناع عن الكلام. قال شيخ الإسلام: ( ... فأما الصمت الدائم فبدعة منهي عنها، وكذلك الامتناع عن أكل الخبز واللحم وشرب الماء، فذلك من البدع المذمومة أيضاً) . وقال: ( ... وإن كان خالصاً في نيته لكنه يتعبد بغير العبادات المشروعة مثل الذي يصمت دائماً أو يقوم في الشمس أو على السطح دائماً، أو يتعرى من الثياب دائماً ويلازم لبس الصوف أو لبس الليف ونحوه، أو يغطي وجهه أو يمتنع عن أكل الخبز أو اللحم، أو شرب الماء ونحو ذلك، كانت هذه العبادات باطلة ومردودة، كما ثبت في الصحيح عن عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد "، وقال: (.. والصمت وملازمة لبس الصوف والتعري والقيام في الشمس، أو لبس الليف أو أن يغطي وجهه ويمتنع من أكل الخبز واللحم أو شرب الماء ونحوه، كله بدعة مردودة ليست من الدين) . وقال ابن القيم - عند حديثه عن تحير المبتدعة بين الفعل والترك: (وأن بعضهم يتعبد بترك ما له فعله كترك كثير من المباحات ويظن ذلك حقاً عليه، أو يتعبد بفعل ما له تركه ويظن ذلك حقاً عليه. ومثال الأول: ممن يتعبد بترك النكاح، أو ترك اللحم أو الفاكهة مثلاً، أو الطيبات من المطاعم والملابس ويرى - لجهله - أن ذلك مما عليه، فيوجب على نفسه تركه، أو يرى تركه من أفضل القرب وأجل الطاعات وقد أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - على من زعم ذلك، ثم ذكر ابن القيم حديث الثلاثة الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 تقالّوا عبادة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وقال بعده: فتبرأ ممن رغب عن سنته، وتعبد لله بترك ما أباحه لعباده من الطيبات رغبة عنه واعتقاداً أن الرغبة عنه وهجره عبادة ... ) . أما وقوع الترك في الاعتقادات والأقوال والأفعال ففي الأمثلة السابقة ما يدل على ذلك، ولكن لا بأس من ذكر بعض الأمثلة لكل قسم من هذه الأقسام على حده: 1- البدع التركية في الاعتقادات: كل اعتقاد كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ومن تبعهم من السلف الصالح، فإنه يجب الأخذ به والملازمة له؛ لأنه هو الأصح والصواب والأسلم وعليه فإنه يتضح أن كل فرقة من فرق الابتداع قد تركت شيئاً أو أشياء مما كان عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - وهذه بعض الأمثلة: الرافضة تركت اعتقاد محبة أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وموالاتهم. والخوارج تركوا طاعة إمام المسلمين المسلم. والمرجئة تركوا اعتقاد دخول العمل في الإيمان. والجهمية تركوا اعتقاد الصفات لله - سبحانه وتعالى -. وكل فرقة من الفرق الضالة تركت بعض الحق واعتنقت مكانه باطلاً. 2- البدع التركية في الأقوال: كترك المتصوفة لسماع القرآن والحديث، والاستعاضة عنهما بالغناء والرقص والأوراد المبتدعة كصلاة الفتوح ونحوها، وكتركهم للأذكار الشرعية واستبدالها بأذكار طرقهم البدعية المليئة بالشركيات والبدع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 ومن هذا الباب ترك ألفاظ الكتاب والسنة ومصطلحاتهم، كما يفعل أهل البدع الكلامية. 3- البدع التركية في الأفعال: مر ذكر طائفة منها كترك الزواج واللحم والنوم والظل، وترك شرب الماء وأكل الفاكهة ولبس المباح من الثياب، وترك العبادات المالية والبدنية بحجة سقوط التكاليف كما يقول ملاحدة التصوف.. وغير ذلك. وليس المقصود في هذا المقام الحصر والاستقصاء إنما التمثيل والاستشهاد ولعل فيما مضى ما يفي بهذا الغرض ويؤدي هذا المراد ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 البدعة المتعلقة بالعقائد والأحكام تنقسم البدعة من حيث متعلقها إلى أقسام عديدة منها ما يتعلق بالاعتقاد ويسمى البدع الاعتقادية , ومنها ما يتعلق بالأحكام ويمكن أن يطلق على هذا النوع البدع الفقهية, وقد مر عند الحديث عن مفهوم أهل السنة للبدعة أنهم يقولون: (كل ما يتعلق به الخطاب الشرعي يمكن أن يدخله الابتداع) . وقسمي الاعتقاد والعمل داخله ضمن الخطاب الشرعي بلا ريب, ويشمل العمل قول اللسان وعمل الجوارح. وكل هذه داخلة في معنى قوله- صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) . قوله-صلى الله عليه وسلم-: كل بدعة ضلالة. ولكل من هذين القسمين إطلاقات تخصه, فتسمى البدع الاعتقادية خبرية وعلمية, ويطلق عليها أيضاً أصولية. وتسمى البدع في الأحكام عملية وأمرية وفقهية. ويطلق عليها بدع الفرعيات, قال شيخ الإسلام: (والحق المنزل إما أمر ونهي وإباحة, فالبدع الخيرية كالبدع المتعلقة بأسماء الله وصفاته والنبيين واليوم الآخر, لا بد أن يخبروا فيها بخلاف ما أخبر الله به. والبدع الأمرية كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك, لا بد أن يأمروا فيه بخلاف ما أمر الله به .... ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وسيأتي الحديث عن كل من القسمين مفرداً, مع ذكر بعض الأمثلة عليه, ويكون البدء بـ البدع الاعتقادية: والمراد بها: المحدثات التي تقع في المسائل العلمية الخيرية, وهي المسائل التي اصطلح على تسميتها قديماً وحديثاً باسم العقيدة, وهي تشمل أركان الإيمان الستة وتدور حول ثلاث قضايا: الأولى: ما يتعلق بذات الله-سبحانه وتعالى- من حيث ألوهيته وربو بيته وأسمائه وصفاته. الثانية: ما يتعلق بذوات الرسل الكرام, من حيث ما يتصفون به وما يتنزهون عنه, وما يجب عليهم, وما يجب لهم, وما يمتنع عنهم, ويلحق بذلك الكتب المنزلة. الثالثة: الغيبيات: وتشمل الملائكة, والجن, والموت وما وراءه والقضاء والقدر. هذه بإجمال القضايا التي تدرسها العقيدة, وما من واحدة من هذه القضايا إلا دخل على بعض الناس فيها شيء من الابتداع. وقد يسميها بعضهم بمسائل أصول الدين, ويدخلون فيها ما ليس منها, ويحصرون أصول الدين في القضايا الخيرية العلمية. ويجعلون الابتداع المنهي عنه والمذموم هو ما كان في هذا المجال وهذه جملة من الشبه, لا بد من بيانها بين يدي هذا المبحث ... أما تسمية القضايا العلمية الخيرية بأصول الدين, وحصر هذا المسمى فيها فهو أمر محدث كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ( ... إن المسائل الخيرية قد تكون بمنزلة المسائل العملية, وإن سميت تلك مسائل أصول, وهذه مسائل فروع, فإن هذه تسمية محدثة, قسمها طائفة من الفقهاء والمتكلمين, وهو على المتكلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 والأصوليين أغلب لاسيما إذا تكلموا في مسائل التصويب والتخطئة..) وهذا الذي قاله شيخ الإسلام حق, لأن من تأمل نصوص الشريعة وفهم السلف لهذه النصوص, يجد أن أصول الدين غير منحصرة في المسائل الخيرية لوجود أصول للدين في الأحكام العملية, لوجود فروع في المسائل الخيرية لا يمكن أن تعد من أصول الدين.. ومن أجل هذا الحصر الذي يخالف الدليل, وقع خلط واضطراب عند الحكم على المبتدع في فروع المسائل العلمية والمبتدعة في أصول وفروع المسائل العملية ... وقد وضح شيخ الإسلام هذه المعاني فقال: ( ... فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس وتحريم المحرمات الظاهرة المتواترة, كالعلم بأن الله على كل شيء قدير وبكل شيء عليم وأنه سميع بصير, وأن القرآن كلام الله, ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة ولهذا من جحد تلط الأحكام العملية المجمع عليها كفر, كما أن من جحد هذه كفر. وقد يكون الإقرار بالأحكام العلمية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية, بل هذا هو الغالب فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل, وهو الإيمان بالله وملائكته, وكتبه, ورسله, والبعث بعد الموت, والإيمان بالقدر خيره وشرره. وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة) . وعلى ما سبق يتضح أن أصول الدين لا يكن أن تحصر في القضايا الخيرية العلمية, بل ولا تكون كل مسائلها من أصول الدين بل بعضها من فروعه, كما أن الأحكام العملية لا يمكن أن تعد جميعها من فروع الدين, بل بعضها من أصوله.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 ولكن كيف يمكن التمييز بين ما يعد من أصول الدين وما يعد من فروعه في الخيرية أو العملية؟. وضح شيخ الإسلام فيما يمكن أن يعد قاعدة في هذا المجال فقال: (.. بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (مسائل أصول) والدقيق (مسائل فروع) . وكما أن المسائل العلمية والعملية تشترك في هذه القاعدة فهي تشترك في أحكام وأمور أخرى تتعلق بهما منها: أن كل واحدة منهما تنقسم إلى قطعي وظني, وأن الخلاف التنوعي والمتضاد يقع فيهما, وأن الاجتهاد والخطأ فيه يسوغ ويحصل فيهما, وأن مراتب العلم والعمل متفاوتة في كل منهما, وكذلك مراتب الحكم على المبتدع أو التارك أو الجاحد تختلف في كل منهما باختلاف مرتبة الذي وقعت فيه المخالفة, أما حصر البدع في الجوانب العلمية الاعتقادية فهذا غير صحيح أيضاً لكونه محالفاً لعموم أحاديث النهي عن البدع, كقوله-صلى الله عليه وسلم-: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة) . وقد استدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد, بما جاء عن الصحابة والتابعين من تسميتهم الأقوال والأفعال بدعاً إذا خالفت الشريعة, ثم أتى بشواهد من الآثار تدل على ذلك. ولعل هذا الحصر أهون من الحصر الذي يقول أصحابه: إن الفرق المذكورة في حديث الثلاث والسبعين هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص كالجبرية والجهمية والمرجئة وما يشبهها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقد ناقش الشاطبي هذا الزعم وفنده بما سيأتي مجملاً: 1. قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه) . الآية (ما) في قوله (ما تشابه) لا تعطي خصوصاً في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها, بل الصيغة تشمل كل ذلك فالتخصيص تحكم. 2. قوله تعالى: (إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً) الآية, كذلك ليس فيها تخصيص, لأنه جعل التفريق في الدين, ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها. 3. قوله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله … ) . فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم, والسبل كل ما خالف هذه الشريعة في العقائد والأعمال. 4. من المعلوم أن هذه الفرق الهالكة إنما تصير فرقاً بخلافها للفرقة الناجية, في معنى كلي في الدين أو قاعدة من قواعده, أو أصل من أصوله, وقد سبق بيان أن أصول الدين تشمل المسائل العلمية والمسائل الاعتقادية.. أما الجزئي والفرعي من الدين فالابتداع فيها لا يصير صاحبه من الفرق. ولكن يجري مجرى القاعدة الكلية كثرة الجزئيات, فإن المبتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع المخترعة, عاد ذلك على كثير من الشريعة بالمعارضة كما تصير القاعدة الكلية معارضة أيضاً) . هذا ما يتعلق بالشبه التي سبق ذكرها, وهذا الكلام السابق يدور في معظمه على علاقة العقائد بالأعمال, في سياق ذكر المراد بالبدع الاعتقادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 والمسائل الاعتقادية تنقسم إلى: أصول وفروع, وقطعي وظني- كما سبق الإشارة إليه- فالأصول كل جليل من الخبريات مثل: وجود لله وألوهيته واتصافه بالصفات الواردة في كتابه وسنة رسوله-صلى الله عليه وسلم- ووجود الملائكة, والجن, والبعث, والحشر, والصراط, والميزان, والجنة, والنار, ونحو ذلك من القضايا الظاهرة. والفروع كل دقيق من الخبريات مثل: رؤية النبي-صلى الله عليه وسلم- لربه سبحانه, وسماع الموتى في قبورهم لكلام الأحياء, ورؤية الكفار لربهم يوم القيامة ووصول ثواب الأعمال-غير الدعاء- للميت بعد موته والتوسل بذات النبي -صلى الله عليه وسلم- ونحو ذلك.. والقطعي ما كان ثبوته بأدلة قاطعة, كعلو-الله سبحانه- واستوائه على عرشه, وتكلمه بالقرآن, واتصافه بالصفات الذاتية, كالحياة والسمع والبصر أو بالصفات الفعلية كالاستواء, والنزول, والمجيء والكلام. والظني ما كان مختلفاً في ثبوته, أو في فهم الثابت من الأدلة, وسبق أمثلة هذا القسم عند الكلام عن فروع الاعتقاد. ويقع الابتداع في كل قسم من هذه الأقسام, وهو في الأصول والقطعيات خطير, ومتفاوت بحسب تفاوت ما وقع فيه الابتداع, وبحسب تفاوت البدعة ذاتها … فالابتداع في الألوهية أشنع من الابتداع في الملائكة ومثال ذلك: بدع القرامطة والنصيرية في أئمتهم, إذ ألهوهم من دون الله-سبحانه وتعالى- وبدعة من زعم أن الملائكة غير عقلاء, فالبدعة الأولى أشنع وأشر من الثانية. أما التفاوت بين البدع بحسب تفاوت البدعة ذاتها فمثاله بدعة الجهمية الذين نفوا عن الله-سبحانه- الصفات, فشبهوه بالممتنعات, وبدعة الأشاعرة الذين لم ينكروا الصفات ولكن أولوها, فالأولى أفظع وأخطر من الثانية, وإن كان محل الابتداع واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 أما الفرعيات والظنيات فأمرها أهون, والاختلاف فيها غالباً ما يكون من الإختلاف الاعتباري التنوعي السائغ, ولهذا حدود وضوابط تأتي في الباب الثالث بإذن الله. ويقع فيها الابتداع ما لم تكن المسألة من مسائل الاجتهاد. قال شيخ الإسلام في هذا المعنى: (وأما السالمية فهم والحنبلية كالشيء الواحد, إلا في مواضع مخصوصة تجري مجرى اختلاف الحنابلة فيما بينهم وفيهم تصوف, ومن بدع من أصحابنا هؤلاء يبدع أيضاً التسمي بالحنبلية وغير ذلك … ولا يرى أ، يتسمى أحد في الأصول إلى بالكتاب والسنة وهذه طريقة جيدة لكن هذا مما يسوغ فيه الاجتهاد, فإن مسائل الدق في الأصول لا يكاد يتفق عليها طائفة, إذ لو كان كذلك لما تنازع في بعضها السلف من الصحابة والتابعين … ) . فقد اعتبر المسائل الدقيقة في الأصول مما يسوغ فيه الاجتهاد, فلا يقع فيه التبديع, فكيف بالدقيق من مسائل الفروع التي هي في أصلها بالنسبة للأصول دقيقة, كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد الكلام السابق: (بل الحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (يقصد الخبرية والعملية كما سبق) مسائل أصول والدقيق مسائل فروع) . وبعد أن فصل -رحمه الله- مراتب المسائل الخبرية التي هي الاعتقادية وبين أنها تنقسم إلى قطعي وظني, ثم بين أقسامها من حيث وجوب العلم بها وعدمه فقال: (ومما يتصل بذلك: أن المسائل الخبرية العلمية قد تكون واجبة الاعتقاد وقد تجب في حال دون حال وعلى قوم دون قوم, وقد تكون مستحبة غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 واجبة, وقد تستحب لطائفة أو في حال كالأعمال سواء. وقد تكون معرفتها مضرة لبعض الناس فلا يجوز تعريفه بها, كما قال علي-رضي الله عنه-: (حدثوا الناس بما يعرفون ودعوا ما ينكرون, أتحبون أن يكذب الله ورسوله؟) وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (ما من رجل يحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلى كان فتنة لبعضهم) . وبعد استرسال يسير أضاف قائلاً في سياق حديثه عن المسائل الخبرية: (وإذا كانت قد تكون قطعية وقد تكون اجتهادية, سوغ اجتهاديتها ما سوغ في المسائل العملية, وكثير من تفسير القرآن أو أكثره من هذا الباب, فإن الاختلاف في كثير من تفسير القرآن هو من باب المسائل العلمية الخبرية لا من باب العملية, لكن قد تقع الأهواء في المسائل الكبار كما قد تقع في مسائل العمل) . ويستنتج من هذا الكلام أن فروع المسائل الاعتقادية يسوغ في بعضها الاجتهاد, خصوصاً إذا كانت ظنية, ولكن هناك أمر آخر يتبع هذا وهو أن هذا الحكم المتسامح على الاجتهاد في بعض المسائل الاعتقادية الفرعية هذه ليس على إطلاقه, فيبتدع كل من شاء ما شاء تحت حجة الاجتهاد السائغ, بل يختلف الحكم باختلاف حال المجتهد, من حيث بلوغ الدليل وثبوته لديه وعدم ذلك, وقد بين ذلك شيخ الإسلام, وختم به كلامه الذي سلف نقله, وضرب على ذلك مثالاً فقال: ( ... إذا رأيت المقالة المخطئة قد صدرت من إمام قديم فاغتفرت لعدم بلوغ الحجة له, فلا يغتفر لمن بلغته الحجة ما اغتفر للأول فلهذا يبدع من بلغته أحاديث عذاب القبر ونحوها إذا أنكر ذلك ولا تبدع عائشة ونحوها ممن لم يعرف بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 الموتى يسمعون في قبورهم فهذا أصل عظيم فتدبره فإنه نافع) . وأيضاً هناك أمر آخر يلحق بهذا الأصل وهو أن القول بأن هذه المسألة من المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد, لا يعني أنه لكل أحد أن يجتهد كما يشاء, كما لا يعني ذلك أن الصواب معه إذ الحق واحد لا يتعدد, ولكن قد يقال بأن المجتهد الفلاني معذور في خطئه, أو مرفوع عنه الإثم أو مأجور على اجتهاده, ومع كل ذلك فلا يعني أن هذا العمل قد اكتسب صفة المشروعية فلا يسمى بدعة. بل لا بد من بيان الحق وإظهار السنة وعدم متابعة هذا المخطئ فيما ذهب إليه باجتهاده مع القول بإعذاره. قال شيخ الإسلام في حديثه عن بعض أحكام البدعة: (وأقول: إن إثمها قد يزول عن بعض الأشخاص لاجتهاد أو غيره, كما يزول اسم النبيذ والربا المختلف فيهما عن المجتهدين من السلف, ثم مع ذلك يجب بيان حالها وأن لا يقتدى بمن استخلها وأن لا يقصر في طلب العلم المبين لحقيقتها) . فزوال الإثم عن المجتهد في هذه المسائل الفرعية, وحصول الأجر له لا يدل على جواز فعله هذا, ولا على جواز الاقتداء به, ولا يرفع عن العمل المحدث اسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 الابتداع. (فلا بد من التفريق بين العفو والمغفرة له وبين إباحة فعله أو المحبة له) . وليس هذا في المسائل الفرعية فقط بل قد يشمل الأصلية من مسائل الاعتقاد كما أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية في المناظرة التي عقدت بينه وبين خصومه في شأن العقيدة الواسطية, إذ اعترضوا عليه في قوله: (ومن أصول الفرقة الناجية أن الإيمان والدين قول وعمل يزيد وينقص.. قالوا: فإذا قيل إن هذا من أصول الفرقة الناجية, خرج عن الفرقة الناجية من لم يقل بذلك مثل أصحابنا المتكلمين, الذين يقولون: إن الإيمان هو التصديق ومن يقول: الإيمان هو التصديق والإقرار, وإذا لم يكونوا من الناجين لزم أن يكونوا هالكين ... ) . فأجابهم بحديث الافتراق وحديث الفرقة الناجية, وأنها كل من كان على ما كان عليه النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه ثم قال: فهذا الاعتقاد هو المأثور عن النبي-صلى الله عليه وسلم- وأصحابه-رضي الله عنهم- وهم ومن اتبعهم الفرقة الناجية-إلى أن قال- ثم قلت لهم: وليس كل من خالف في شيء من هذا الاعتقاد, يجب أن يكون هالكاً, فإن المنازع قد يكون مجتهداً مخطئاً يغفر الله خطأه, وقد لا يكون بلغه في ذلك من العلم ما تقوم بع عليه الحجة, وقد يكون له من الحسنات ما يمحو الله به سيئاته, وإذا كانت ألفاظ الوعيد المتاولة له لا يجب أن يدخل فيها المتأول, والقانت, وذو الحسنات الماحية, والمغفور له, وغير ذلك فهذا أولى بل موجب هذا الكلام أن من اعتقد ذلك نجا في هذا الاعتقاد, ومن اعتقد ضده فقد يكون ناجياً وقد لا يكون ناجياً كما يقال من صمت نجا) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 فهذا الذي ذكره شيخ الإسلام وإن كان في غالبه يخص الحكم على المبتدع, إلى أنه يستنتج من ظاهره وفحواه أن العذر الذي قد يرفع معه عن المبتدع في مسائل الاعتقاد الذنب والذم, لا يدل على أن ما قاله أو اعتقده من المحدثات ليس ببدعة, بل يكون القول والاعتقاد, والعمل بدعة إذا لم يكن له أصل في الشريعة وقصد به القربة إلى الله-تعالى- بغض النظر عن حكم مبتدعه من حيث الكفر والفسق أ, العفو والأجر .... على أنه لا بد من تبيين أن العقيدة إما أن تكون مسائل يجب اعتقادها قولاً أو قولاً وعملاً كمسائل التوحيد والصفات والقدر والنبوة والمعاد, وتوحيد الألوهية, وإما دلائل لهذه المسائل وهي الطرق البرهانية من العقل والنقل, التي يحتاج إليها في إثبات مسائل الاعتقاد. وكل ما يحتاج الناس إليه من المسائل والدلائل قد بينها الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم- بياناً شافياً قاطعاً للعذر, بل إن هذه القضايا من أعظم ما بلغه الرسول-صلى الله عليه وسلم- البلاغ المبين, وبينه للناس, وهو من أعظم ما أقام الله به الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه. وقد وقع الابتداع في مسائل الاعتقاد ودلائله, فأما الابتداع الذي وقع في المسائل فهو على قسمين: الأول: ابتداع في الدين الذي أرسل به رسوله-صلى الله عليه وسلم- كالابتداع في الصفات بالتعطيل والتأويل, والابتداع في القدر بالجبر ونفي خلق أفعال العباد, والابتداع في الإيمان بالتكفير والإرجاء.. ونحو ذلك من البدع التي حدثت في أمور نزل بها الشرع وبينها الشارع.. الثاني: ابتداع في مسائل العقيدة بإدخال المحدثات الباطلة تحت هذا المسمى, أي باعتبار المبتدعات المحدثة من مسائل العقيدة, مثل نفي الصفات ونفي القدر ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 فالابتداع الأول: إحداث في دين موجود. والابتداع الثاني: إحداث دين لم يأذن به الله. الأول: ابتداع في الدلائل الشرعية الموجودة في الكتاب والسنة بتبديلها وتحريفها عن مواضعها, مثل زعم المتكلمة في قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) . حيث يجعلون دليل التمانع هو معنى هذه الآية, ويستدلون بها على إثبات الربوبية, لاعتقادهم أن توحيد الربوبية الذي قرروره هو توحيد الألوهية الذي بينه القرآن, ودعت إليه الرسل-عليهم السلام. وكثير من الأدلة الشرعية على المسائل الخبرية, يحدث فيها أهل النظر من بدع الكلام ما ليس فيها, إذ يصرفون الأدلة عن مناهجها الشرعية إلى مناهج بدعية وهذا كثير عندهم. الثاني: ابتداع دلائل للمسائل الاعتقادية وجعلها من الدلائل الشرعية أو في منزلتها, بل يجعلها بعضهم من ضروريات الدين وأصوله وفي منزلة أعلى من منزلة الأدلة الشرعية ... كالاستدلال على حدوث العالم بحدوث الأعراض, وتقرير المقدمات التي يحتاج إليها هذا الدليل من إثبات الأعراض أو بعضها ثم إثبات حدوثها, ثم إثبات امتناع حوادث لا أول لها, ثم يفرضون تعلم هذه الطريقة, ويوجبون الإيقان بها, لأنها كما يزعمون طريق الإيقان بوجود الله, ومن المعلوم بالاضطرار أنها من الدلائل الكلامية المبتدعة التي لا تفيد علماً وال تجلب يقيناً وأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وأئمتها. وفي الطريق الاستدلالية عن أهل الكلام من جنس هذه الدلائل المبتدعة الشيء الكثير. فهذه هي الأقسام الأربعة التي ابتدعها أهل الأهواء في مسائل العقيدة ودلائلها, ولا تخلو فرقة من فرق أهل الأهواء من بدع فيها أو في بعضها, ومما يجب ذكره عن د الحديث عن البدع الاعتقادية تأثير هذه البدع في الأحكام الفقهية عند المبتدعة.. فالرافضة بنوا كثيراً من الأحكام الفقهية على أسانيدهم التي فيها أناس جنسهم من المبتدعة, وأسندوا فيها أقوالاً-قد تصح وقد لا تصح- إلى أهل البيت وجعلوا مبدأ عصمة الأئمة- وهي بدعة اعتقا دية- مرجعاً لكثير من الأحكام الفقهية المبتدعة, وذلك حين بنوا صحة الأسانيد أو ضعفها على هذه القاعدة البدعية' وما يلحق بها, وبنوا الأحكام الفقهية على المتون المسندة وفق قاعدتهم, فقالوا في تعريف الصحيح والحسن والموثق والضعيف أقوالاً تدل على هذا الاعتماد البدعي الاعتقادي, فعرفوا الصحيح بأنه: (ما اتصل سنده إلى المعصوم بنقل العدل الإمامي عن مثله, في جميع الطبقات حيث تكون متعددة) . وعرفوا الحسن بأنه: (ما اتصل سنده إلى المعصوم-عليه السلام- بإمامي ممدوح مدحاً معتداً به غير معارض بذم, من غير نص على عدالته, مع تحقق ذلك في جميع مراتب رواة طريقه أو في بعضها) . وعرفوا الموثق بأنه: (ما اتصل سنده إلى المعصوم بمن نص الأصحاب على توثيقه- مع فساد عقيدته- بأن كان من أحد الفرق المخالفة للإمامية وإن كان من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 الشيعة مع تحقق ذلك في جميع رواة طريقه أو بعضهم مع كون الباقين من رجال الصحيح) . وعرفوا الضعيف بأنه: (ما لم يجتمع فيه شرط أحد الأقسام السابقة بل اشتمل طريقه على مجروح بالفسق ونحوه أو على مجهول ... ) . فهذه المراتب الأربع هي أصول الحديث عن الشيعة الإمامية, وعليها ينبت الكتب الحديثية المعتمدة لديهم كالكافي للكليني وكتاب التهذيب والاستبصار للطوسي. وتعتبر هذه الكتب عمدة المذهب الشيعي, الإعتقادي منه والعملي, حتى قيل في مقدمة الكافي: (وقد اتفق أهل الإمامة وجمهور الشيعة على تفضيل هذا الكتاب والأخذ به والثقة بخبره والاكتفاء بأحكامه, وهم مجمعون على الإقرار بإرتفاع درجته وعلو قدره, على أنه القطب الذي عليه مدار روايات الثقات المعروفين بالضبط والإتقان إلى اليوم, وعندهم أجل وأفضل من جميع أصول الحديث) . والمعصوم الذي يقصده هؤلاء هو النبي-صلى الله عليه وسلم- والأئمة الاثني عشر, فالكل عندهم سواء في العصمة, وسواء في حق التشريع, وسيأتي في البدع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 العملية ذكر بعض بدع الرافضة الفقهية التي قامت على البدع الاعتقادية واستمدت منها ... ومن هذا الباب أيضاً تأثير العقيدة الزيدية على الأحكام الفقهية عند الزيود وقد بين ذلك الإمام الشوكاني في كتابه الجليل: (السيل الجرار المتدفق على حدائق الأزهار) .. ولا يخفى تأثير اعتقاد الباطنية في أن للشريعة ظاهر وباطن على الأحكام الفقهية عندهم, وهكذا نجد أن فقه الفرق البدعية يتأثر باعتقادات هذه الفرق وأهوائها. أما البدع في الأحكام فيراد بها المحدثات المتعلقة بالأعمال, وقد تسمى فقهية, وعملية, وأمرية, وعبادية, وشرعية .... ويدخل تحت هذه المسميات بدع الأخلاق والسلوك. وقد يطلق على هذا القسم البدع الفرعية وسبق بيان خطأ هذا القول في أول هذا الفصل, إذ أن من الأحكام العملية ما يعد من أصول الدين كما أن من المسائل الاعتقادية ما يعد من فروع الدين.. وسبق بيان ما تشترك فيه المسائل العملية مع المسائل الاعتقادية بما يغني عن إعادته هنا. وقد حدد شيخ الإسلام مفهوماً للبدع في الأحكام فقال: (والبدع الأمرية كمعصية الرسول المبعوث إليهم ونحو ذلك, لا بد أن يأمر فيه بخلاف ما أمر الله به ... ) . والمراد أن البدع الأمرية هي إحداث شيء لا أصل له في الشرع ونسبته إليه سواء كان ذلك في أعمال الجوارح أو أعمال اللسان, أو غير ذلك من الأعمال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 التي تدخل تحت حيز العمل والتنفيذ والتطبيق, سواء كانت هذه الأعمال من العبادات المحضة كالصلاة والصوم والحج والذكر والدعاء, أو من المعاملات كالبيع والشراء, أو من العادات كالأكل والشرب واللباس ... وقد حصلت البدع في كل هذه الأصناف كما سبق الإشارة إليه, وكما سيأتي في الفصل اللاحق بإذن الله. إلا أن من الجدير بالذكر هنا (أن البدع في أبواب العبادة والإدارة أكثر من البدع في أبواب الاعتقاد والقول, لأن الإرادة يشترك فيها أكثر الناس, أكثر من اشتراكهم في القول, لأن القول لا يكون إلا بعقل, والنطق من خصائص الإنسان, وأما جنس الإرادة فهو مما يتصف به كل الحيوان, فما من حيوان إلا وله إرادة, وهؤلاء اشتركوا في إرادة التأله, لكن افترقوا في المعبود وفي عبادته ... ) . والمراد أن البدع الكثيرة التي حصلت في زمن التابعين وتابعيهم كان غالبها في الاعتقادات كالخوارج, والمعتزلة, والشيعة, والقدرية .... والبدع التي حصلت في المتأخرين من العباد والزهاد والفقراء, والصفوية لم يكن عامتها في زمن التابعين وتابعيهم, وأهلها أجهل من أولئك الذين كانوا في عهد التابعين, وأبعد عن متابعة الرسول فأتوا بطريق في العبادة والسلوك والأقوال, فيها من الضلال والجهل والبعد عن الدين ما ليس في بدع المبتدعة الذين كانوا في عهد التابعين, إذ الشبه فيها أقوى وأهلها أعقل, وأما المتأخرون فأهلها أجهل وبدعهم أضل, وإن كان فيهم من الزهد والعبادة والأخلاق ما لا يوجد في أولئك من الكبر والبخل والقسوة.. وكلهم سواء في باب الابتداع والافتئات على الشرع, والمتأخرون أصحاب البدع العملية فيهم شبه من النصارى وأولئك فيهم شبه من اليهود. ولا ريب أنه كلما قرب الناس من عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم- كانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 بدعهم الاعتقادية والعملية أخف, وكلما بعدوا كانت بدعهم أشد, ولذلك وجد في المتأخرين من المبتدعة في أبواب العبادة والسلوك من يدعي الألوهية والحلول والإتحاد ومن يدعي أن أفضل من الرسول-صلى الله عليه وسلم- وأنه مستغن عن الرسول, وأن لهم طريقاً طريق المسلمين وهذا ليس من جنس بدع المسلمين بل من جنس بدع الملاحدة من المتفلسفة. ومما ينبغي ذكره عند الكلام عن البدع الفقهية أن الصحابة-رضوان الله عليهم- حصل بينهم تنازع في دقائق وفروع مسائل الأحكام, والمنقول من خلافهم في المسائل الفقهية كثير, بينما لم يختلفوا في مسائل العقائد إلا في أشياء قليلة محصورة, ومعدودة ضمن المسائل التي يدخلها الاجتهاد ويسوغ فيها الاختلاف ... وإذا كانت المسائل الحكمية تنقسم إلى قطعي وظني وجليل ودقيق, فكذلك البدع التي تدخلها تختلف مراتبها وأحكامها باختلاف المسائل التي دخل عليها الابتداع, ويكون فيها اختلاف التنوع واختلاف التضاد ... ويكون فيها ما يبدع فاعله ويعنف عليه, وفيها ما يعذر بالخلاف فيه, وليس بصحيح أن مجرد كون المسألة من المسائل الفقهية أنه يرفع عن المحدث فيها اسم الابتداع, كما أنه ليس بصحيح التبديع في كل مسائل الاختلاف لأنه.. كما سبق- من المسائل العملية ما يعد من أصول الدين وهو ما عبر عنه شيخ الإسلام بالجليل الكبير من هذه المسائل, أو ما يمكن أ، يعرف بأنه المعلوم من الدين بالضرورة, أو كما قال شيخ الإسلام: (ومن الناس من يجعل أصول الدين لكل ما اتفقت فيه الشرائع مما لا ينسخ ولا يغير سواء كان علمياً أو عملياً ... ) . وهو ما يرجحه شيخ الإسلام وينسبه لأغلب أهل الحديث والتصوف وأئمة الفقهاء وطائفة من أهل الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 وهذا القول هو الذي يؤيده أدلة الشرع, ويعضده فهم السلف ... قال شيخ الإسلام: (.. والحق أن الجليل من كل واحد من الصنفين (يقصد الخبرية والعملية) مسائل أصول والدقيق مسائل فروع. فالعلم بوجوب الواجبات كمباني الإسلام الخمس, وتحريم المحرمات الظاهرة والمتواترة كالعلم بأن الله على كل شيء قدير, وبكل شيء عليم وأنه سميع بصير, وأن القرآن كلام الله, ونحو ذلك من القضايا الظاهرة المتواترة ولهذا من جحد تلك الأحكام العملية المجمع عليها كفر, كما أن جحد هذه كفر. وقد يكون الإقرار بالأحكام العملية أوجب من الإقرار بالقضايا القولية بل هذا هو الغالب, فإن القضايا القولية يكفي فيها الإقرار بالجمل- إلى أن قال- وأما الأعمال الواجبة فلا بد من معرفتها على التفصيل, لأن العمل بها لا يمكن إلا بعد معرفتها مفصلة .... ) . وبهذا يظهر أن هناك من الفروق في الأحكام على البدع, في المسائل العملية ما لا يمكن ضبطه إلا بمعرفة المسألة التي وقع فيها الابتداع, وإن كان هذا المقام ليس مقام ذكر أحكام البدعة والمبتدع, إلا أنه يتضح من الكلام السالف أن البدعة تدخل في الجليل من مسائل الأحكام, بل وفي بعض أصول مسائل الأحكام كما تدخل في الدقيق منها كالفروع المولدة المحدثة التي لا يوجد لها دليل معتبر في الشريعة. فمن البدع الواقعة في كبرى مسائل الأحكام ما تقوله طائفة الدروز من: (أن الصلاة هي صلة قلوب الدروز بعبادة الحاكم على يد خمسة حدود ... وأن الزكاة فهي عبادة الحاكم وتزكية قلوبهم وتطهيرها وترك ما كانوا عليه, وفيما يتعلق بالصوم فهو صيانة قلوبهم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ويشبه هذا القول الكافر قول النصيرية في كتابهم المسمى (الهفت الشريف (قلت يا مولاي: أما كان أهله من أهل الصلاة, قال: ويحك أتدري ما معنى قوله تعالى: (وكان يأمر أهله بالصلاة) قلت: يعني أهله المؤمنين من شيعته الذين يخفون إيمانهم, وهي الدرجة العالية والمعرفة والإقرار بالتوحيد وأنه العلي الأعلى.. (أي الإمام علي) فأما معنى قوله تعالى: (وكان يأمر أهله بالصلاة والزكاة) فالصلاة أمير المؤمنين, والزكاة معرفته, أما إقامة الصلاة: فهي معرفتنا وإقامتنا) . ويماثل هذه الأقوال الكافرة ما تقوله الإسماعيلية إذ يؤولون العبادات, والتكاليف تأويلات كفرية تخرجها عن حقيقة تشريعها ... وأما البدع الواقعة في أصول الفقه فتختلف باختلاف الطوائف والمذاهب.. فمثلاً أصول الفقه عند الإمامية أربعة أصول: الكتاب والسنة والإجماع والعقل. فأما الكتاب فيرى بعضهم أنه ناقض وحصل فيه تغيير وتبديل في لفظ, ويرى أكثرهم أن التغيير حصل في معناه, ويقولون إن القرآن لم يترك شيئاً كان أو سيكون إلا بين حكمه وأن النبي-صلى الله عليه وسلم- عرف هذه الأحكام وعرف بعضها للناس وترك بعضها, ولكنه أودع ذلك كله عند أوصيائه كل وصي يعهد بها إلى الآخر لينشره في الوقت المناسب له, حسب الحكمة, من عام مخصص أو مطلق مقيد, أو مجمل مبين, فقد يذكر النبي عاماً ويذكر مخصصه بعد برهة من حياته وقد لا يذكره أصلاً بل يودعه عند وصية إلى وقته. وأما السنة فيرون أن المراد بها ما أضيف إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 وإلى الأئمة الاثنى عشر, فالحديث عندهم هو قول المعصوم, والأئمة معصومون كالرسول, ثم إنهم يقيدون الطرق والأسانيد الناقلة بكون رواتها من الإمامية في جميع الطبقات أو بعضها. وأما الإجماع فمفهومه عندهم مرتبط بوجود الإمام المعصوم فكل جماعة كثرت أو قلت كان قول الإمام في جملة أوقوالها فإجماعها حجة, لا لأجل الإجماع وإنما لانضمام قول الإمام إليهز وأما العقل فيجعلونه دليلاً مستقلاً ينبني على أساس التحسين والتقبيح العقليين أي أن الأشياء لها حسن ذاتي أو قبح ذاتي, يمكن إدراكه بالعقل, وإن لم يدل على ذلك الشرع, وهو كرأي المعتزلة, وقد سبق بيان هذه المسألة في هذا البحث, ويتبين مما سبق مقدار الابتداع الحاصل في هذه الأصول الفقهية. ولم يكن هذا الأمر مقتصراً على الفرق الضالة كالرافضة, والمعتزلة بل حصل هناك أنواع من الابتداع في المذاهب الأصولية , عند أهل السنة, أذكر بعض ذلك على سبيل التمثيل: أولاً: مسألة الرأي: وهي مسألة طال فيها النقاش بين العاملين بالرأي والرادين له في مسائل القه وأصوله: ففي الوقت الذي اعتمد فيه أصحاب القسم الأول على الرأي في بعض الأصول وكثير من الفروع متى أطلق عليهم أهل الرأي ألغي القسم الثاني, هذا الاعتماد, وجعل عمدته على النص واستدل على موقفه بالآثار الكثيرة الواردة عن السلف وكبار أئمة الدين في ذم الرأي. ولعل الصواب في هذه المسألة أن العمدة على النصوص الثابتة, واستخدام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 العقل ضروري لفهمها, وتنزيلها منازلها, فلا الإلغاء التام له بصحيح, ولا الاعتماد التام عليه بصواب.. إلا أن إمكانية الابتداع عند العاملين بالرأي أكثر منها عند الرادين له إذ ثبت باستقراء أصول وفروع الفريقين أن حصول المحدثات عند أصحاب الرأي أكثر منها عند أصحاب النص, لاعتماد هؤلاء على الآثار وهي أسلم مسلكاً وأبعد عن الإحداث في الدين. والرأي الذي يعتبر من البدع والمحدثات هو: (إيثار نظر العقل على آثار النبي-صلى الله عليه وسلم- والقول في الشرع بالاستحسان والظنون والاشتغال بحفظ المعضلات, ورد الفروع بعضها إلى بعض, دون ردها إلى أصولها.. وإعمال النظر العقلي مع طرح السنن, إما قصداً أو غلطاً أو جهلاً, والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة) . وهذا النوع من الرأي هو المذموم الذي تتوجه إليه الآثار الواردة عن السلف في ذم الرأي وأهله. أما اجتهاد الرأي في فهم النصوص, والقول بالقياس على طريقته الصحيحة والنظر في النوازل التي لا نصوص عليها, ولا على أشباهها القريبة ... فهذا محل استعمال الاجتهاد العقلي, وهو مع هذا قد يصيب وقد يخطئ, وأما النوع الأول من استخدام العقل والذي يمكن وصفه بالابتداع, فإن أصحابه وإن كانوا مجتهدين مثابين على اجتهادهم, فإن ذلك لا يمنع من وصف العمل بالابتداع, إذ لا تلازم بين إعذار العامل, وتبديع العمل ذاته كما قد سلف بيانه, فقد يكون للقائل بالرأي المذموم في الفقه وأصوله من الأعذار ما يرتفع بها الذم والإثم عنه, ويحصل له الأجر, ولكن كل ذلك لا يعطي عمله وصف المشروعية مطلقاً.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 ومن أمثلة هذا القسم (الاستحسان) الذي يعني القول في الدين بمجرد التشهي والميل النفسي, واتباع الرأي بغير دليل. ومن أمثلته تقديم المصلحة المرسلة على النص, كما يذهب إلى ذلك بعض الحنابلة حين قرر أن المصلحة وباقي الأدلة إما أن تتفقا, أو تختلفا فإن اتفقت فيها, وإن اختلفت فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما جمع, وإن تعذر الجمع بينها قدمت المصلحة على غيرها ... ولا شك أن الاستحسان بالمعنى المذكور سلفاً, والمصلحة المرسلة بهذا المعنى المذكور هنا من الابتداع الذي لا دليل عليه من نص كتاب أو سنة أو أثر أو عمل إمام متبع. ثانياً: القياس: والناس فيه طرفان ووسط, فطرف مؤيد بإطلاقه, وآخر معارض بإطلاقه, وأهل التوسط يأخذون بالقياس الصحيح, ويعملون به, ويردون القياس الفاسد ويبطلونه.. وجانب النظر الذي لا علاقة بموضوع البدعة في مسألة القياس هذه هو: جانب التعبد في القياس, وهل تعبدنا الله تعالى به أم لا؟ ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 فالذين يؤيدون القياس مطلقاً يقولون بالتعبد, وهم على خلاف في إيجاب التعبد به, أو جوازه, وهل هو ثابت بالعقل أم بالشرع أم بهما معاً؟ والذين يعارضون القياس مطلقاً يرون منع التعبد به, لعدم مشروعية القياس وبعضه غير متعبد به وهو الفاسد. ومن هنا يمكن القول بأن الابتداع دخل من هذا الباب في كلا القولين المتقابلين, فالذي رد القياس ولم يعمل به على الإطلاق وقال بعدم مشروعيته قوله باطل, ومخالف لأدلة الشرع المثبتة للقياس الصحيح, ومعارض للشرع بإسقاط أصل ثبت اعتباره والعمل به, والتعبد لله من خلاله ... وكل عمل كان بهذه المثابة فهو ابتداع, ولاسيما إذا انضم إليه قصد القربة ولا شك أن النافي للقياس مطلقاً يتعبد بهذا العمل, فمن هنا كان هذا العمل بدعة, لأنه إذا كان يصح إطلاق الابتداع على ترك فرع من الفروع الفقهية المشروعة, فكيف لا يصح إطلاق الابتداع بترك أصل يشهد له الجم الغفير من نصوص الكتاب والسنة, وأقوال السلف, وأفعالهم, وحكم العقل, والفطرة والطبع الإنساني؟. قال ابن القيم- بعد أن حشد الأدلة على ثبوت القياس واعتباره-: ( ... وأما أحكامه الأمرية الشرعية فكلها هكذا, تجدها مشتملة على التسوية بين المتماثلين, وإلحاق النظير بنظيره, واعتبار الشيء بمثله, والتفريق بين المختلفين, وعدم تسوية أحدهما بالآخر, وشريعته-سبحانه- منزهة أن تنهى عن شيء لمفسدة فيه, ثم تبيح ما هو مشتمل على تلك المفسدة, أو مثلها أو أزيد عنها, فتمن جوز ذلك على الشريعة فما عرفها حق معرفتها ولا قدرها حق قدرها, الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وكيف يظن بالشريعة أنها تبيح شيئاً لحاجة المكلف ومصلحته, ثم تحرم ما هو أحوج إليه والمصلحة في إباحته أظهر, وهذا من أمحل المحال-إلى أن قال- وقد فطر الله سبحانه عباده على أن حكم النظير حكم نظيره, وحكم الشيء حكم مثله, وعلى إنكار التفريق بين المتماثلين, وعلى إنكار الجمع بين المختلفين, والعقل والميزان الذي أنزله الله سبحانه شرعاً وقدراً يأبى ذلك ... ) . ثم ذكر -رحمه الله- بعض الأغلاط التي وقع فيها نفاة القياس, فمنها إخراج بيع الرطب بالتمر من مسمى الربا ... وإخراج الشاهد مع اليمين من لفظ البينة, ومثله إخراج شهادة العبيد العدول الصادقين المقبولي القول على الله ورسوله, وشهادة النساء منفردات في المواضع التي لا يحضرهن فيها الرجال كالأعراس وشهادة الأعمى على ما يتقنه ... ومنها قولهم: إذا بال جرة من بول وصبها في الماء لم تنجسه, وإذا بال في الماء نفسه ولو أدنى شيء نجسه. وقولهم: لو وقع الكلب والخنزير بكماله, أو أي ميتة كانت في أي ذائب كان من زيت, أو خل, أو دبس ألقيت الميتة فقط, وكان ذلك المائع حلالاً طاهراً كله, فإن وقع ما عدا الفأرة في السمن من كلب أو خنزير, أو أي نجاسة كانت فهو طاهر حلال ما لم يتغير. ويتبين أن هذه الفروع التي انبنت على إبطال القياس, والوقوف المحض مع ظواهر النصوص, من الأغلاط التي وقع فيها هؤلاء بسبب طردهم نفي القياس, وتركهم الاعتماد عليه, قال ابن القيم- بعد أن ذكر مؤيدي القياس: - (الفرقة الثانية: قابلت هذه الفرقة, وقالت: القياس كله باطل محرم في الدين, ليس منه, وأنكروا القياس الجلي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 الظاهر, حتى فرقوا بين المتماثلين, وزعموا أن الشارع لم يشرع شيئاً لحكمة أصلاً, ونفوا تعليل خلقه وأمره, وجوزوا بل جزموا بأنه يفرق بين المتماثلين, ويقرن بين المختلفين في القضاء والشرع-إلى أن قال- ولكن ردوا من الحق المعلوم بالعقل والفطرة والشرع ما سلطوا عليهم به خصومهم وصاروا ممن رد بدعة ببدعة, وقابل الفاسد بالفاسد, ومكنوا خصومهم بما نفوه من الحق والرد عليهم, وبيان تناقضهم ومخالفتهم للشرع والعقل) . ويقابل هؤلاء الذين بالغوا في نفي القياس: الطرف الآخر ال1ين بالغوا في إثباته وإعماله, فتجاوزوا به حدوده الصحيحة, وأغرقوا في اعتبار القياس حتى ولدوا به فروعاً كثيرة لم تقع, وتعمقوا فيه حتى خرجوا على نصوص الشريعة وناقضوها بالأقيسة الفاسدة, والرأي المذموم المعيب. ومن هنا اعتبر هذا القول بدعة في دين الله سبحانه وتعالى فإن الرأي, إذا عارض السنة فهو بدعة وضلالة, بغض النظر عن حكم فاعله من حيث الإعذار أو عدمه, وإنما الكلام عن نفس القول أو العمل الذي حدث ... وعلى هذا فتقديم القياس على النص الشرعي, أو اعتبار الأقيسة الفاسدة من الأمور المشروعة, أو توليد فروع على هذا النوع من الأقيسة الباطلة.. كل ذلك من الابتداع في دين الله, وإليه يتوجه الذم المنقول عن السلف, من مثل قول ابن مسعود رضي الله عنه: (لا يأتي عليكم زمان إلا وهو شر من الذي قبله, أما إني لا أقول أمير خير من أمير, ولا عام أخصب من عام, ولكن فقهاؤكم يذهبون, ثم لا تجدون منهم خلقاً, ويجيء قوم يقيسون الأمور برأيهم) . وفي رواية: (ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم, ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم, فيهدم الإسلام ويثلم) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 وقول الشعبي رحمه الله: (إنما هلكتم حيث تركتم الآثار, وأخذتم بالمقاييس) . وقول شريح: (إن السنة سبقت قياسكم, فاتبعوا ولا تبتدعوا, فإنكم لن تضلوا ما أخذتم بالأثر) . وأمثال هذه الآثار كثير عن السلف-رحمهم الله- وقد أورد ابن عبد البر رحمه الله جملة من هذه الآثار, ثم فسر المراد بالرأي والقياس الوارد في هذه الآثار, ذاكراً أقوالاً العلماء في هذه المسألة, ومرجحاً الرأي الأخير الذي نسبه لجمهور أهل العلم, فقال: (وقال آخرون, وهم جمهور أهل العلم: الرأي المذموم المذكور في هذه الآثار عن النبي-صلى الله عليه وسلم- وعن أصحابه والتابعين, وهو القول في أحكام شرائع الدين بالاستحسان والظنون, والاشتغال بحفظ المعضلات والأغلوطات ورد الفروع والنوازل بعضها على بعض قياساً, دون ردها على أصولها والنظر في عللها واعتبارها, فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنزل, وفرعت وشققت قبل أن تقع, وتكلم فيها قبل أن تكون بالرأي المضارع للظن, قالوا: ففي الاشتغال بهذا, والاستغراق فيه تعطيل للسنن, والبعث على جهلها, وترك الوقوف على ما يلزم الوقوف عليها منها ومن كتاب الله عز وجل ومعانيه..) وقد أورد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 ابن القيم آثاراً كثيرة في ذم القياس, والنهي عنه والتحذير منه في كتابه إعلام الموقعين ثم بين أخطاء الذين اعتمدوا على القياس مطلقاً من غير تمييز بين صحيحه وسقيمه, قال: (وأما أصحاب الرأي والقياس, فإنهم لما لم يعتنوا بالنصوص ولم يعتقدوها وافيه بالأحكام, ولا شاملة لها, وغلاتهم على أنها لم بف بعشر معشارها فوسعوا طرق الرأي والقياس, وقالا بقيياس الشبه, وعلقوا الأحكام بأوصاف لا يعلم أن الشارع علقها بها, واستنبطوا عللاً لا يعلم أن الشارع شرع الأحكام لأجلها, ثم اضطرهم ذلك إلى أن عارضوا بين كثير من النصوص والقياس ثم اضطربوا, فتارة يقدمون القياس, وتارة يقدمون النص, وتارة يفرقون بين النص المشهور وغير المشهور, واضطرهم ذلك أيضاً إلى أن اعتقدوا في كثير من الأحكام أنها شرعت على خلاف القياس, فكان خطؤهم من خمسة أوجه: أحدها: ظنهم قصور النصوص عن بيان جميع الحوادث. الثاني: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس. الثالث: اعتقادهم في كثير من أحكام الشريعة أنها على خلاف الميزان, والقياس, والميزان هو العدل, فظنوا أن العدل خلاف ما جاءت به من هذه الأحكام. الرابع: اعتبارهم عللاً وأوصافاً لم يعلم اعتبار الشارع أ، أـ، لها, وإلغاؤهم عللاً وأوصافاً اعتبرها الشارع كما تقدم بيانه. الخامس: تناقضهم في نفس القياس كما تقدم أيضاً) . وعند النظر في هذه الأخطاء التي أجملها ابن القيم في هذه الأوجه الخمسة يمكن استخراج ما بعد منها ابتداعاً, بناء على مفهوم أهل السنة والجماعة للبدعة الذي سبق ذكره ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 من أخطاء المغرقين في القياس ظنهم أن النصوص الشرعية قاصرة عن بيان أحكام الحوادث، وأنها غير شاملة وغير كافية، وغير مغنية عن الرأي والقياس. وهذا المفهوم الذي يجعله المغرقون في القياس مقدمة لاعتمادهم على القياس فيه معنى ابتداعي؛ لأنه قول محدث لا دليل عليه، بل هو مخالف لنصوص الكتاب والسنة وأقوال الصحابة والتابعين، وأئمة الإسلام وعامة الأمة ... ويكفي في الدلالة على شمول النصوص الشرعية وكمالها قوله تعالى: [اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً] ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا على الحوض ". والنظر إلى الشريعة بعين النقصان أساس الابتداع في دين الله سبحانه ومن أكبر مداخل الملحدين من العلمانيين وغيرهم في هذا الزمان. وهذا النظر مناقض لحقيقة التشريع ومضاد لمقاصده ومخالف لأدلته وواقعه ويلزم منه اتهام المشرع بالغفلة والنسيان، أو ترك الأمور الحكمية لآراء الناس وأهوائهم، وكفى بذلك ضلالاً وإثماً. فإذا تقرر هذا المعنى نتج عنه تصور ما في حشو هذا القول من البدعة والمنكر، وإن كان أهله يقولون نحن لا نخرج عن الشريعة ولا نتهمها بالنقصان، لأننا نعود إلى أصل معتبر في الشريعة ألا وهو القياس، فيقال لهم: نعم القياس الصحيح معتبر في الشريعة، وهو من ضمن علامات كمالها، ولكن اعتباره جاء من قبل الشريعة التي تزعمون عدم شمول نصوصها، ومع هذا الاعتبار فإن (.. المذهب المعتدل في القياس ما قاله الشافعي: إن القياس المشروع عند الضرورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 لا أنه أصل برأسه) . وهذا القول موجود في الرسالة. حيث قال رحمه الله: (ونحكم بالإجماع ثم بالقياس، وهو أضعف من هذا ولكنها منزلة ضرورة؛ لأنه لا يحل القياس والخبر موجود، كما يكون التيمم طهارة في السفر عند الإعواز من الماء، ولا يكون طهارة إذا وجد الماء، فإنما يكون طهارة في الإعواز) . وهذا المعنى الذي قرره الشافعي رحمه الله هو القول الوسط بين طرفي المغالاة في إنكار القياس أو اعتباره. والمراد في هذا المقام بيان أن القول بعدم شمول نصوص الشريعة لأحكام المكلفين قول مبتدع، يحوي مفاسد عظيمة، وأخطاراً جسيمة، وفيه من التجني على الشريعة ما لا يتسع المجال لحصره هنا. وقد أجاب شيخ الإسلام ابن تيمية عندما سئل عن صحة قول القائل: إن النصوص لا تفي بعشر معشار الشريعة فقال: (هذا القول قاله طائفة من أهل الكلام والرأي، كأبي المعالي وغيره وهو خطأ، بل الصواب الذي عليه الجمهور وأئمة المسلمين: أن النصوص وافيه بجمهور أحكام أفعال العباد ومنهم من يقول: إنها وافية بجميع ذلك، وإنما أنكر ذلك من أنكره لأنه لم يفهم معاني النصوص العامة التي هي أقوال الله ورسوله، وشمولها لأحكام أفعال العباد، وذلك أن الله بعث محمد - صلى الله عليه وسلم - بجوامع الكلم، فيتكلم بالكلمة الجامعة العامة التي هي قضية كلية، وقاعدة عامة تتناول أنواعاً كثيرة، وتلك الأنواع تتناول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 أعياناً لا تحصى، فبهذا الوجه تكون محيطة بأحكام أفعال العباد) . وقال الشاطبي رحمه الله في هذا المعنى: (.. إن الله تعالى أنزل الشريعة على رسوله - صلى الله عليه وسلم - فيها تبيان كل شيء يحتاج إليه الخلق في تكاليفهم التي أمروا بها، وتعبداتهم التي طوقوها في أعناقهم، ولم يمت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى كمل الدين بشهادة الله تعالى - إلى أن قال - فلا يقال: قد وجدنا من النوازل والوقائع المتجددة ما لم يكن في الكتاب ولا في السنة نص عليه ولا عموم ينتظمه - ثم قال - مبيناً معنى قوله تعالى: [اليوم أكملت لكم دينكم] ، المراد: كلياتها فلم يبق للدين قاعدة يحتاج إليها في الضروريات والحاجيات أو التكميليات إلا وقد بينت غاية البيان، ثم تحدث عن علاقة الجزئيات والنوازل بالكليات، وعمل المجتهد ثم استدل على أن الكليات هي المقصودة بكمال الدين فقال: ومن الدليل على أن هذا المعنى هو الذي فهمه الصحابة رضوان الله عليهم أنهم لم يسمع عنهم قط إيراد ذلك السؤال، ولا قال أحد منهم: لم لم ينص على حكم الجد مع الإخوة، وعلى حكم من قال لزوجته: أنت حرام، وأشباه ذلك، مما لم يجدوا فيه عن الشارع نصاً، بل قالوا فيها وحكموا بالاجتهاد، واعتبروا بمعان شريعة ترجع في التحصيل للكتاب والسنة، وإن لم يكن بالنص فإنه بالمعنى، فقد ظهر إذاً وجه كمال الدين على أتم الوجوه، - ثم انتقل إلى بيان أنه لا تناقض ولا اختلاف في نصوص الشرع وبعد إسهاب طويل في ذلك - قال: فإذا تقرر هذا فعلى الناظر في الشريعة بحسب هذه المقدمة أمران: أحدهما: أن ينظر إليها بعين الكمال لا بعين النقص، ويعتبرها اعتباراً كلياً في العبادات والعادات، ولا يخرج عنها البتة، لأن الخروج عنها تيه وضلال، ورمي في عماية، كيف وقد ثبت كمالها وتمامها؟! ، فالزائد والمنقص في جهتها هو المبتدع بإطلاق والمنحرف عن الجادة إلى بنيات الطريق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 والثاني: أن يوقن أنه لا تضاد بين آيات القرآن، ولا بين الأخبار النبوية، ولا بين أحدهما مع الآخر..) . الوجه الثاني من أخطاء المغرقين في القياس: معارضة كثير من النصوص بالرأي والقياس: وقد سبق بيان أن هذا من الرأي المذموم الذي وردت آثار السلف في التحذير منه، والتنفير عنه، واعتباره من أشنع المبتدعات وأخبث المحدثات.. قال ابن القيم - في سياق إيراده لحجج الذين يعارضون القياس -: (قالوا ونحن نرى أن كلما اشتد توغل الرجل فيه اشتدت مخالفته للسنن، ولا نرى خلاف السنة والآثار إلا عند أصحاب الرأي والقياس، فلله كم من سنة صحيحة قد عطلت به، وكم من أثر درس حكمه بسببه! فالسنن والآثار عند الآرائيين والقياسيين خاوية على عروشها معطلة أحكامها، معزولة عن سلطانها وولايتها، لها الاسم ولغيرها الحكم، لها السكة والخطبة ولغيرها الأمر والنهي) . ثم ذكر بعد هذا الكلام مباشرة أمثلة عديدة على مخالفتهم للنصوص الثابته، وتركهم لها ومعارضتها بالقياس. الوجه الثالث: اعتقاد المغرقين في القياس أن كثيراً من أحكام الشريعة جاءت على خلاف القياس الصحيح، وهذا القول يحوي مجموعة من الأغاليط لا بد من بيانها: الأول: هذا القول بقترب من قول بعض المتكلمة في أن العقل الصريح والنص الصحيح يتعارضان، وبينهما اشتراك في اعتقاد نوع التعارض هذا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 إذ القياس محل اجتهاد ونظر عقلي، والنص نقل شرعي، فإذا قال القياسي هذا الحكم الشرعي جاء على خلاف القياس، فكأنه يقول: هذا الحكم جاء على خلاف ما يقرره العقل والنظر والرأي السليم ... وقد سبق بيان أنه لا تعارض مطلقاً بين العقل الصريح والنقل الصحيح، وأن من قال بالتعارض بينهما فقد وقع في الابتداع ... الثاني: أن القياس الصحيح هو الميزان، كما قال تعالى: [الرحمن علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان - إلى قوله - والسماء رفعها ووضع الميزان] ، قال ابن القيم: (والميزان يراد به العدل، والآلة التي يعرف بها العدل وما يضاده، والقياس الصحيح هو الميزان، فالأولى تسميته بالاسم الذي سماه الله به، فإنه يدل على العدل، وهو اسم مدح، واجب على كل واحد في كل حال، بحسب الإمكان ... ) . وقال ابن تيمية: (والقياس الصحيح من باب العدل فإنه تسوية بين المتماثلين وتفريق بين المختلفين ... ) . فإذا تقرر أن القياس الصحيح هو الميزان وأنه من العدل، تبين ما في قول هؤلاء من شناعة وذلك حين يقولون بأن من أحكام الشريعة ما جاء على خلاف القياس. الثالث: قولهم: إن الحكم الشرعي الفلاني جاء على خلاف القياس مردود بأحد هذه الاحتمالات: الأول: أن يكون النص الشرعي الذي ثبت به هذا الحكم غير صحيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 الثاني: أن يكون الاستنباط من النص الشرعي الصحيح غير سليم. الثالث: أن ما أسموه قياساً ليس من القياس المعتبر شرعاً، بل هو قياس فاسد. وفي هذا المعنى وضع شيخ الإسلام قاعدة بناها على الاستقراء فقال: (وبالجملة فما عرفت حديثاً صحيحاً إلا ويمكن تخريجه علىر الأصول الثابيته وتدبرت ما أمكنني من أدلة الشرع، فما رأيت قياساً صحيحاً يخالف حديثاً صحيحاً، كما أن المعقول الصريح لا يخالف المنقول الصحيح، بل متى رأيت قيساً يخالف أثراً فلابد من ضعف أحدهما، لكن التمييز بين صحيح القياس وفاسدة مما يخفي كثيراً منه على أفضال العلماء، فضلاً عمن هو دونهم ... ) ، بل لقد ذهب شيخ الإسلام إلى أبعد من هذا، فبعد أن ذكر فتاوى الصحابة وأقسامها، وبعض الأمثلة على فتاواهم التي ظن أنها تخالف القياس قال: (وإلى ساعتي هذه ما علمت قولاً قاله الصحابة ولم يختلفوا فيه إلا وكان القياس معه، ولكن العلم بصحيح القياس وفاسدة من أجل العلوم، وإنما يعرف ذلك من كان خبيراً بأسرار الشرع ومقاصده ... ) . الرابع: أن الأحكام الشرعية التي قال فيها القياسيون أنها مخالفة للقياس قد أجيب عنها بما يتوافق مع الوجه السالف، مع أن المسألة لا تعدو الاحتمالات الثلاثة السابقة، فإنما نص شرعي ثابت، وحكم صحيح مستنبط منه، وقياس سليم فلا يمكن أن تتعارض مطلقاً، وقد رد شيخ الإسلام على جملة من مسائل الأحكام التي قيل فيها أنها مناقضة للقياس، وتابعه في ذلك ابن القيم وزاد عليه، وقال في آخر كلامه: (فهذه نبذه يسيرة تطلعك على ما وراءها من أنه ليس في الشريعة شيء يخالف القياس، ولا في المنقول عن الصحابة الذي لا يعلم لهم فيه مخالف، وأن القياس الصحيح دائر مع أوامرها ونواهيها وجود أو عدماً، كما أن المعقول الصحيح دائر مع أخبارها وجوداً وعدماً، فلم يخبر الله ولا رسوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 بما يناقض صريح العقل ولم يشرع ما يناقض الميزان) . وبالجملة فإن قول المبالغين في الأخذ بالقياس: إن في أحكام الشريعة ما يناقض القياس الصحيح، نوع ابتداع يتجلى بالنظر في الأحكام التي يقال أنها على خلاف القياس والنظر إلى القياس، فإنما الأحكام التي قالوا فيها أنها على خلاف القياس فهي على نوعين: ( ... نوع مجمع عليه، ونوع متنازع فيه، فما لا نزاع في حكمه تبين أنه على وفق القياس الصحيح) . وهذا النوع من الأحكام لا يمكن أن يخالف القياس الصحيح، فإذا قال بذلك قائل فقد ابتدع. وأما النوع المتنازع فيه فالأمر فيه أهون، وإن كانت طريقة أهل الحديث في مثله أقوم وأسلم، إذ أنهم يخطئون من قال بالتعارض، ويجعلون النص إما موافق للأصول وإذا لم يمكن ذلك جعلوه أصلاً كما أن غيره أصل ... قال شيخ الإسلام: ( ... فقال المتبعون للحديث: بل ما ذكرتموه خطأ والحديث موافق للأصول ولو خالفها لكان هو أصلاً، كما أن غيره أصل، فلا تضرب الأصول ببعضها ببعض، بل يجب اتباعها كلها، فإنها كلها من عند الله) ، هذا في حالة وجود القياس الصحيح، أما إذا كان القياس فاسداً فلا عبرة به، إذا هو في حد ذاته بدعة كما سبق بيانه عند ذكر الآثار الذامة للقياس والرأي. القول الوسط في القياس: بالجملة أن لفظ القياس لفظ محتمل، فهو ينقسم إلى حق وباطل وممدوح ومذموم، ومقبول ومردود، وصحيح وفاسد، ولهذا لم يجيء في القرآن مدحه أو ذمه ولا الأمر به ولا النهي عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 فالقياس الفاسد هو ما سبق ذكره والحديث عنه، وهو الذي يتوجه إليه كلام السلف في ذمهم للقياس، وأنه ليس من الدين، والقياس الصحيح هو الميزان الذي أنزله الله مع كتابه، كما قال سبحانه: [لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط] . وهذا القياس هو الموجود في كلام السلف واستعمالاتهم واستدلالاتهم. وبهذا التقسيم يرتفع اللبس الذي قد يحدث لبادئ الرأي عندما ينظر لذم السلف للقياس، وتحذيرهم منه واستعمالهم له واستدلالهم به. وقد نص شيخ الإسلام ابن تيمية على أن القياس الصحيح ينقسم إلى قسمين: هما اللذان كان الصحابة والتابعون يستعملنهما، فقال رحمه الله: (والقياس الصحيح نوعان: أحدهما: أن يعلم أنه لا فارق بين الفرع والأصل إلا فرقاً غير مؤثر في الشرع، كما ثبت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح أنه سئل عن فأرة وقعت في السمن، فقال: " ألقوها وما حولها وكلوا سمنكم ". وقد أجمع المسلمون على أن هذا الحكم ليس مختصاً بتلك الفأرة وذلك السمن، فلهذا قال جماهير العلماء: أنه أي نجاسة وقعت في دهن من الأدهان كالفأرة التي تقع في الزيت، وكالهر الذي يقع في السمن، فحكمها حكم تلك الفأرة التي وقعت في السمن، ومن قال من أهل الظاهر: إن هذا الحكم لا يكون إلا في فأرة وقعت في سمن، فقد أخطأ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يخص الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 بتلك الصورة، ولكن لما استفتي فيها والاستفتاء إذا وقع عن قضية معينة أو نوع فجاب المفتي عن ذلك خصه لكونه سئل عنه، لا لاختصاصه بالحكم، إلى أن قال والنوع الثاني من القياس أن ينص على حكم لمعنى من المعاني، ويكون ذلك المعنى موجوداً في غيره فإذا قام دليل من الأدلة على أن الحكم متعلق بالمعنى المشترك بين الأصل والفرع سوى بينهما، وكان هذا قياساً صحيحاً. فهذان النوعان كان الصحابة والتابعون لهم بإحسان يستعملونهما وهما من باب فهم مراد الشارع، فإن الإستدلال بكلام الشارع يتوقف على أن يعرف ثبوت اللفظ عنه وعلى أن يعرف مراده باللفظ، وإذا عرفنا مراده فإن علمنا أنه حكم للمعنى المشترك لا لمعنى يخص الأصل أثبتنا الحكم حيث وجد المعنى المشترك، وإن علمنا أنه قصد تخصيص الحكم بمورد النص منعنا القياس ... ) . وليس المقصود هنا التوسع في باب القياس، وإنما المقصود البيان بإجمال أن هذا الباب الذي ترتبت عليه كثير من الأحكام الفرعية قد حصل فيه شيء من الابتداع عند المتوسعين فيه والملغين له، وأن القول الوسط هو المعتبر شرعاً والمتعبد به ديناً، والمنقول بالأسانيد عن القرون الفاضلة، ومع هذا التقرير فلابد من التنبيه على أن الأئمة المجتهدين من أهل العلم والإيمان من سلك منهم مسلكاً فيه خطأ أو ابتداع فإن ذلك لا ينزل من مقدارهم، فهم على هدى من ربهم، بذلوا جهدهم في سبيل تحري الحق وإصابة الصواب، واتباع الدليل، وفيهم من العلم والتقوى والعبادة والزهادة ما يجعلهم من ذوي الدرجات العالية عند الله، وعند المؤمنين وهم حملة العلم وورثة الأنبياء، والموقعون عن رب العالمين والحاملون لألوية الحق والخير، ومناقبهم عديدة تجل عن الحصر، وهم مع كل هذه المنازل العالية غير معصومين من الخطأ والزلل، ولكنهم ينزهون عن قصد معارضة الشريعة أو مناقضة النصوص أو القول في دين الله بمجرد الهوى والشهوة، وبين الإقرار بفضلهم والاعتراف بإمكان مجانبة الصواب مع حصول العفو من الله لهم، ونيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 الثواب يتجلى مما سبق الإشارة إليه من أن إعذار المجتهد لا يقتضي شرعية اجتهاده الخاطيء، وأنه لا تلازم بين وصف العمل بالبدعية والحكم لفاعلة بالغفران والمثوبة، وهذا ما سيأتي بيانه مفصلاً بإذن الله في الباب القادم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95