الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ   (تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً) المؤلف: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] تنبيه:   توجد بالنسخة الورقية للكتاب أخطاء وتصحيفات في الآيات القرآنية فاقت الحصر قمت بتصويبها بحمد الله وتوفيقه، وأرجو ممن له صلة بدار نشر هذا الكتاب أن يتكرم بمراسلتهم لتصويب الآيات الكريمة.   وفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. ---------- المهذب في علم أصول الفقه المقارن عبد الكريم النملة الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ   (تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً) المؤلف: عبد الكريم بن علي بن محمد النملة دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 5   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع] تنبيه:   توجد بالنسخة الورقية للكتاب أخطاء وتصحيفات في الآيات القرآنية فاقت الحصر قمت بتصويبها بحمد الله وتوفيقه، وأرجو ممن له صلة بدار نشر هذا الكتاب أن يتكرم بمراسلتهم لتصويب الآيات الكريمة.   وفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الكتاب: الْمُهَذَّبُ في عِلْمِ أُصُولِ الفِقْهِ الْمُقَارَنِ (تحريرٌ لمسائِلِه ودراستها دراسةً نظريَّةً تطبيقيَّةً) المؤلف: د. عبد الكريم بن علي بن محمد النملة دار النشر: مكتبة الرشد - الرياض الطبعة الأولى: 1420 هـ - 1999 م عدد الأجزاء: 5 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   تنبيه: توجد بالنسخة الورقية للكتاب أخطاء وتصحيفات في الآيات القرآنية فاقت الحصر قمت بتصويبها بحمد الله وتوفيقه، وأرجو ممن له صلة بدار نشر هذا الكتاب أن يتكرم بمراسلتهم لتصويب الآيات الكريمة. وفقنا وإياكم لما يحب ويرضى. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 5 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ مقدمة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الحمد لله رب العالمين، حمداً يليق بجلاله وعظمته، وأشكره شكراً يوافي نعمه الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى، سبحانه وتعالى لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، مبدع البدائع، وشارع الشرائع. وأشهد أن لا إله إلا اللَّه وحده لا شريك له شهادة أرجو أن يكفر بها عنا سيئات أعمالنا، ويرفع بها درجاتنا، وينجينا بها من صغير الموبقات وكبيرها. وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، إمام المتقين، وخاتم الأنبياء والمرسلين، العبد المرتضى، والنبي المجتبى، والرسول المصطفى، المرسل بالبراهين الساطعة، والآيات الدامغة، والبينات الواضحة صلى اللَّه عليه، وعلى آله وسلم تسليما كثيراً، ورضي اللَّه عن صحبه الهداة الأعلام الذين بذلوا النفس والنفيس، لإعلاء كلمة اللَّه. أما بعد: فإن أقوى المهمات بعد الإيمان بالله: طلب العلم، حيث إن العلم ميراث النبوة كما قال - صلى الله عليه وسلم -: "إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورثوا العلم فمن أخذ به أخذ بحظ وافر ". وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العلماء ورثة الأنبياء "، ومما يؤكد ذلك أنه سبحانه قد جعل العلماء في درجة الأنبياء في الدعوة إلى اللَّه، فقال سبحانه: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ مهه، فإنه هنا قد جعل ولاية الإنذار والدعوة للفقهاء، وهذه درجة الأنبياء قد تركوها ميراثا للعلماء. والعلم علمان: " علم التوحيد "، و " علم الفقه ". أما علم التوحيد فالأصل فيه التمسك بما جاء في الكتاب والسُّنَّة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 7 ومجانبة الهوى والبدع، كما كان عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم - والتابعون والسلف الصالح. أما علم الفقه: فهو الخير الكثير، وهو الحكمة التي ذكرها الله تعالى بقوله: (من يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً) ، وروي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: " الحكمة: معرفة الأحكام من الحلال والحرام ". فدرجة العلم هي النهاية في القوة والخيرية، وهو ما أراده الرسول - صلى الله عليه وسلم - بقوله: " من يرد اللَّه به خيراً يفقهه في الدين "، وقوله: "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ". لذلك تجد الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد حرصوا على طلب العلم لما علموا درجته العليا ومنزلته الكبرى، وقصصهم في طلبه والحرص عليه لا تخفى على ذي لب، لا سيما حرص ابن عباس وابن عمر وغيرهما. وعلم الفقه - وهو: معرفة الحلال والحرام من الأحكام - لا يمكن إلا بعد معرفة أدلة الأحكام، ومعرفة أدلة الأحكام وما يتعلق بها هو علم أصول الفقه، فيكون علم أصول الفقه هو أصل لذلك الخير الموجود في الفقه. فبفضله - أي: علم أصول الفقه - يتعلم الفقيه المناهج والأسس والطرق التي يستطيع عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة. وبفضله - أيضاً - يعرف المكلَّف العلَل والحِكَم التي من أجلها شرعت الأحكام الشرعية؛ ليعبد اللَّه تعالى على بصيرة. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 8 وبفضله - أيضاً - يستطيع طالب العلم تخريج المسائل والفروع على قواعد إمامه. وبفضله - أيضاً - يستطيع الداعية إلى اللَّه تعالئ: أن يدعو إلى الله وإلى دينه بناء على أسس ومناهج وطرق يستطيع بها أن يقنع الآخرين. وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يبين لأعداء الإسلام: أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه لا يوجد أي حادثة إلا ولها حكم شرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أن الإسلام قاصر وعاجز عن حل القضايا المتجددة، قاتل اللَّه من قال ذلك، ولعن من نصر هذا القول وأبعده من رحمته. وبفضله - أيضاً - يستطيع أن يفسر الشخص القرآن، ويشرح الأحاديث، خيث إنه لا يمكنه معرفة دلالة النصوص، وكونها دلَّت بالمنطوق أو المفهوم، أو الإشارة، أو العبارة، أو الاقتضاء، أو الإيماء إلا بمعرفة أصول الفقه. وبفضله - أيضاً - يعرف من يريد كتابة أي بحث من البحوث العلمية كيفية كتابة ذلك البحث؛ حيث إن علم أصول الفقه قد جمع بين النقل والعقل، فمن تعمق فيه: عرف طريقة إيراد المسألة، وتصويرها؛ والاستدلال عليها، وطريقة الاعتراض، والجواب، والمناقشة بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها في غير هذا العلم. فالمتعلم لهذا العلم - وهو أصول الفقه - والمدقق فيه يدرك من المنافع الشرعية، والأحكام الفقهية، والفوائد والمقاصد العامة ما لا يحصى. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 9 فيكون هذا العلم أجل العلوم قدراً، وأعظمها نفعاً، وأعمها فائدة، وأكثرها أهمية، وأعلاها شرفاً، وأميزها ذكراً، وذلك لما يتعلق به من مصالح العباد في المعاش والمعاد. ومع هذا النفع، وعلو المرتبة والرفعة، والأهمية لهذا العلم قد ترك تعلمه كثير من طلاب العلم؛ لأسباب كثيرة، وقد يكون من أهمها: عدم معرفتهم لهذا الفضل والنفع العظيم لهذا العلم. ومنها: عدم فهمهم لهذا العلم، بسبب صعوبة عباراته، وقلة تطبيقاته، وأمثلته الفرعية. ومنها: عدم إدراكهم للغرض والقصد الذي من أجله يُدرَس هذا العلم. فسألني بعض طلاب العلم أن أضع كتاباً أجمع فيه جميع مسائل أصول الفقه مع شرحها، وبيانها، والاهتمام بتصويرها بالأمثلة بأسلوب عصري مفهوم، دون تعصب لمذهب أو رأي معين، فأجبتهم على ذلك، امتثالاً لأمر اللَّه تعالى بالتبيين للناس، وكشف الشبه والإلباس، ونظراً لشوقي لتحصيل الفضائل والتجنب عن الرذائل، ورغبة في الأجر، والمثوبة. ومما جعلني أقوم بهذا المصنف - أيضاً - ما يلي: أولاً: تيسير وتسهيل علم أصول الفقه لهؤلاء الطلاب، ولغيرهم بأسلوب عصري مفهوم. ثانياً: تكثير طرق الخير ونشره، لأنه كلما كثر التأليف كثرت طرق تعلمه. ثالثاً: تكثير المتعلمين والطالبين، فإن لكل جديد لذة. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 10 رابعاً: التشبه بالسلف الصالح، وهم الراسخون بالعلم؛ حيث روى ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد اللَّه وحده لا شريك له، واجعل رزقي تحت ظل رمحي، واجعل الذل والصغار على من خالف أمري، ومن تشبه بقوم فهو منهم ". فلهذه الأسباب ولغيرها قمت بتأليف هذا الكتاب، وجعلته ميسراً جامعاً، نقَّحت وهذَّبت فيه كثيراً من كلام علماء الأصول في كتبهم. وجعلته في سبعة أبواب هي كما يلي: الباب الأول: في المقدمات. الباب الثاني: في الحكم الشرعي والتكليف به. الباب الثالث: في أدلة الأحكام الشرعية. الباب الرابع: في الألفاظ ودلالتها على الأحكام. الباب الخامس: في القياس. الباب السادس: في الاجتهاد والتقليد. الباب السابع: في التعارض والجمع والترجيح. وقد تكلمت في هذا الكتاب سالكاً المنهج الآتي: أولاً: جمعت كل مسائل أصول الفقه، فلم أترك أيَّ مسألة فيها فائدة لطالب العلم إلا وذكرتها في هذا الكتاب. ثانيا: هذَّبت هذه المسائل ورتبتها ونظمتها ونقحتها وانتقيتها فجعلت هذا الكتاب يتكون من سبعة أبواب، وكل باب يتكون من عدة فصول، وكل فصل يتكون من عدة مباحث، وكل مبحث الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 11 يتكون من عدة مطالب، وكل مطلب يتكون من عدة مسائل، وكل مسألة تتكون من عدة نقاط؛ تسهيلاً لطالب العلم؛ حيث إنه لا فائدة من كتاب لم يرتب وينظم. ثالثاً: لا أقتصر بذكر المسألة فقط، بل أقوم بشرحها وتصوير المراد منها، وبيان الجزئية التي اختلف العلماء حولها. رابعاً: أذكر المذاهب في المسألة، بادئاً بالمذهب الراجح عندي، وذكر الأدلة على ذلك، وأذكر ما وجه إلى كل دليل من اعتراضات - إن وجدت - ثم أجيب عن كل اعتراض بعد ذكره مباشرة، ثم أذكر المذاهب الأخرى، مع أدلة كل مذهب، وأجيب عن كل دليل بعد ذكره مباشرة. خامساً: إذا انتهيت من ذكر المذاهب في المسألة الواحدة، أذكر نوع الخلاف فيها: هل هو خلاف لفظي، أو معنوي؟ فإن كان لفظياً أبين دليل ذلك، وإن كان معنوياً أبين دليل ذلك، مع ذكر بعض الآثار لهذا الخلاف، وإن كان الخلاف قد اختلف فيه فقال بعض العلماء: إنه لفظي، وقال آخرون: إنه معنوي، أذكر القولين، مع دليل كل منهما، ثم أبين ما هو الراجح عندي، مع الجواب عن القول المرجوح. سادساً: أُعرِّف المصطلحات الأصولية تعريفاً لغوياً، وتعريفاً اصطلاحياً، ذاكراً في ذلك أقرب التعريفات إلى الصواب. سابعاً: أذكر أهم الأدلة للمذهب المختار، وإذا وجدت بعض الاعتراضات على بعض الأدلة: أذكر أقواها، ثم أذكر أهم الأجوبة عن كل اعتراض وأقواها، وكذلك أذكر أهم وأقوى أدلة المذهب المخالف، وأهم الأجوبة عنها. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 12 ثامناً: قمت بالتحقق من نسبة الأقوال والمذاهب والآراء. تاسعاً: أستدل على إثبات القواعد الأصولية بإجماع الصحابة، فإن لم أجد: أستدل بالنصوص من الكتاب والسُّنَّة - هذا غالباً، وفي بعض القواعد الأصولية أستدل بالنص قبل إجماع الصحابة - فإن لم أجد إجماعا ولا نصاً: فإني أستدل بمعقول النصوص، فإن لم أجد: فإني أستدل بالقياس، فإن لم أجد: فإني أستدل بالأدلة الصحيحة الأخرى عندي دون تعصب لمذهب معين. عاشراً: قد أطلت بشرح وبيان بعض المسائل والقواعد، والأدلة؟ نظراً لأهميتها، وحاجة الطلاب إلى بيانها. حادي عشر: ترجمت كلام علماء السلف في أصول الفقه وجعلته في هذا الكتاب بأسلوب عصري مفهوم. ثاني عشر: رجعت في وضع هذا الكتاب إلى أهم كتب أصول الفقه عند الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، سواء كانت قديمة أم حديثة. ثالث عشر: قد نهجت في هذا الكتاب بالمنهج الوسط، دون التطويل الممل، أو الاقتصار المجحف المخل. هذا وقد سميته: " المهذَّب في علم أصول الفقه المقارن - تحرير لمسائله، ودراستها دراسة نظرية تطبيقية ". حيث إني قد هذبت فيه مسائل أصول الفقه، وانتقيتها، وخلصتها من كل ما علق بها مما لا يفيد طالب العلم، وعالجتها معالجة تذهب صعوبتها من نفوس الطلاب إن شاء اللَّه، بحيث يستطيع كل طالب فهمها بيسر وسهولة، وهذا هو أصل التهذيب، وهو - كما ورد في الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 13 لسان العرب -: تنقية الحنظل من شحمه، ومعالجة حبه حتى تذهب مرارته، ويطيب لآكله. أرجو أن يكون كما سميته. وأخيراً: فإن هذا هو جهد من هو معرض للخطأ والصواب: فإن وفقت فمن اللَّه تعالى، وإن كانت الأخرى فمن نفسي ومن الشيطان، وأستغفر اللَّه. وأيضاً: أنا لا أدعي أني أصبت في كل ما كتبت؛ لأني أقطع ويقطع غيري بأن أي مصنِّف وكاتب مهما بلغ من القدرة والجهد الذي بذله فيما كتب لا بد أن يكون في عمله نقص، وذلك لأن النقص والخطأ والسهو من طبيعة البشر، حيث إن الكمال لله وحده لا شريك له. ولكن يكفيني أني لم أقصد بهذا المصنَّف إلا نفع طلاب العلم وإعانتهم على فهم مسائل أصول الفقه. وأسأله سبحانه أن ينفع بهذا الكتاب مؤلفه، وقارئه والناظر فيه، وجميع المسلمين بمنِّه وكرمه، وأن يجعل عملنا في هذا المؤلَّف وفي غيره صالحاً لوجهه خالصاً، ويجعل سعينَا مقرِّباً إليه، مبلِّغاً إلى رضوانه، وصلى اللَّه وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. كتبه أ. د / عبد الكريم بن علي بن محمد النملة الأستاذ بقسم أصول الفقه، بكلية الشريعة بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 14 الباب الأول في المقدمات ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه. الفصل الثاني: مقدمة في المصطلحات التي يحتاج إليها دارس علم أصول الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الفصل الأول في مقدمة في مبادئ علم أصول الفقه ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف أصول الفقه. المبحث الثاني: الفرق بين أصول الفقه والفقه. المبحث الثالث: الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية. المبحث الرابع: في موضوع أصول الفقه. المبحث الخامس: في حكم تعلم أصول الفقه. المبحث السادس: في فوائد علم أصول الفقه. المبحث السابع: الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها. المبحث الثامن: هل يقدم تعلم أصول الفقه أو تعلم الفقه؟ المبحث التاسع: بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه. المبحث العاشر: نشأة علم أصول الفقه. المبحث الحادي عشر: طرق التأليف في علم أصول الفقه، وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 المبحث الأول في تعريف أصول الفقه ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف أصول. المطلب الثاني: تعريف الفقه. المطلب الثالث: تعريف أصول الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 المطلب الأول في تعريف الأصول أولا - تعريف الأصول لغة: الأصول: جمع أصل، والأصل في اللغة يطلق على إطلاقات كثيرة، من أهمها: الإطلاق الأول: أنه يطلق على ما يبتني عليه غيره، ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين، كأبي الخطاب، وأبي الحسين البصري، والإيجي، والشوكاني. وهو الصحيح عندي، لأمور ثلاثة: أولها: أن الأصل - في حقيقته اللغوية - هو: أسفل الشيء، وأساسه، ولا شك أن أسفل الشيء، وأساسه هو الذي يعتمد عليه في البناء. ثانيها: شموله وعمومه لكل ما ذكره العلماء من تعريفات. ثالثها: أنه موافق لتعريف الأصل في الاصطلاح؛ حيث إنه الدليل، والدليل يعتمد عليه الحكم، ويبنى عليه؛ إذ لا حكم بلا دليل يعتمد عليه. الإطلاق الثاني: أن الأصل: ما منه الشيء، ذهب إلى ذلك تاج الدين الأرموي، وصفي الدين الهندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 الإطلاق الثالث: الأصل: ما يتفرع عنه غيره، وهو مذهب القفال الشاشي. الإطلاق الرابع: الأصل هو: المحتاج إليه، وهو مذهب فخر الدين الرازي، وسراج الدين الأرموي. الإطلاق الخامس: الأصل هو: ما يستند ذلك الشيء إليه، وهو ما ذهب إليه الآمدي. وهذه التعريفات - عند التحقيق - لا تعارض بينها؛ حيث إن بعض العلماء عرفوا الأصل بتعريف عام وشامل كالإطلاق الأول، والبعض الآخر عرَّفوا الأصل بتعريف خاص وبمعنى جزئي، فمن الممكن أن تدخل الجزئيات ضمن التعريفات ذات المعنى الشمولي؛ الهدف هو: تعريف الأصل بمعناه الشامل الذي تدخل فيه كل الجزئيات، لذلك رجحت الإطلاق الأول للأصل، وهو: أن الأصل: ما يبتني عليه غيره. اعتراض على ذلك: اعترض بعضهم قائلاً: إنه معروف أن الوالد أصل للولد، ولكن لا يقال: " الولد بني على الوالد "، بل الذي يقال: " إنه فرعه "، ولو كان الأصل يطلق لغة على ما يبنى عليه غيره لما امتنع ذلك. جوابه: نقول في الجواب عنه: إنه لا مانع لغة من أن يقال: إن الولد بني على الوالد إذا لاحظنا المعنى وهو: أن الولد أساسه الوالد، وهو أصله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 ثانياً - تعريف الأصول اصطلاحا: الأصل في الاصطلاح يطلق على معان، من أهمها: أولها: أن الأصل: الدليل. كقولنا: " الأصل في التيمم: الكتاب، والأصل في المسح على الخفين: السُّنَّة " أي: دليل ثبوت التيمم من الكتاب، ودليل ثبوت المسح من السُّنَّة. وهو: المراد من الأصل في علم أصول الفقه عندي؛ لمناسبته وموافقته لما قلناه من أن الأصل لغة يطلق على ما يبتني عليه غيره، فالدليل يبنى عليه الحكم، فأصول الفقه: أدلته. والدليل عام وشامل لجميع الأدلة المتفق عليها، والأدلة المختلف فيها، والقواعد الأصولية مثل: " العبرة بعموم اللفظ "، و " أن الأمر المطلق للوجوب "، و " النهي المطلق للتحريم ". اعتراض على ذلك: قال بعضهم: لا نُسَلِّمُ أنه يطلق على القواعد الأصولية أدلة، لذلك قال: أحسن عبارة في تعريف الأصل في الاصطلاح هي: "ما يبتني عليه غيره "، حتى تدخل الأدلة والقواعد، حيث تبنى على هذه الأدلة وتلك القواعد الأحكام، فيكون تعريفه اصطلاحاً هو تعريفه لغة. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إنه لا داعي لهذا التكلُّف، لأنه يطلق على القواعد أدلة، وهذا ما ثبت بالاستقراء والتتبع لكتب الفقه؛ حيث إن الفقهاء يستدلون بالقواعد الأصولية، ويسمون تلك القواعد أدلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 ثانيها: يطلق الأصل ويراد به القاعدة الكلية المستمرة بقولهم: "تحمل العاقلة للدية خلاف الأصل "، و " الأصل أن النص مقدم على الظاهر "، و " الأصل: أن العموم يعمل بعمومه حتى يرد ما يخصصه ". ثالثها: يطلق الأصل ويراد به الرجحان كقولهم: " الأصل في الكلام الحقيقة " أي: الراجح عند السامع هو المعنى الحقيقي، دون المعنى المجازي. رابعها: يطلق الأصل ويراد به المستصحب كقولهم: " الأصل في الأشياء الإباحة "، أي: نستصحب الإباحة الثابتة في الأشياء حتى يأتي ما يحرم، وقولهم: " الأصل في الإنسان البراءة " أي: أن الإنسان بريء حتى تثبت إدانته بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 المطلب الثاني في تعريف الفقه أولاً - تعريف الفقه لغة: عرف الفقه لغة بعدَّة تعريفات، من أهمها: الأول: الفقه هو: الفهم مطلقاً. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والباجي، وابن عقيل، والإسنوي، وصفي الدين الهندي، والشوكاني. وهو الصحيح عندي؛ لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوص الشرعية أن لفظ " الفقه " ورد بمعنى الفهم من ذلك: قوله تعالى: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً) أي: لا يكادون يفهمون. ومن ذلك قوله تعالى: (واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي) أي: يفهموا قولي. ومنه قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول) أي: ما نفهم كثيراً من قولك، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، فأداها كما وعاها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". وقلنا: الفهم مطلقاً أي: سواء كان عالِماً أو لا، وسواء فهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الغرض من خطاب الشخص، أو فعله، أو إشارته، أو إيمائه، أو غير ذلك. الثاني: أن الفقه لغة هو: العلم، أي: إذا كان الشخص عالماَ بأشياء لا يعلمها غيره من الناس فهو الفقيه، وإن لم يفهم ما يعلمه، ذهب إلى ذلك ابن فارس في " المجمل "، وإمام الحرمين في "البرهان "، وأبو يعلى في " العدة "، والكيا الهراسي. الثالث: الفقه لغة هو: العلم والفهم معاً، يقال: فلان يفقه الخير والشر، و " يفقه الكلام " أي: يعلمه ويفهمه، ذهب إلى ذلك الغزالي في " المستصفى "، والآمدي فى " منتهى السول "، وابن سيده في " المحكم ". الجواب عنهما: أقول - في الجواب عنهما -: إن هذين التعريفين يدخلان ضمن التعريف الأول " حيث إن المراد بالفهم مطلقاً هو: معرفة الشيء، ومعرفة الشيء بالقلب هو: العلم به. الرابع: الفقه لغة هو: إدراك الأشياء الدقيقة. ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، يقال: " فقهت كلامك " أي: أدركت دقائقه، ويقال: " فلان فقيه في الخير وفقيه في الشر " إذا كان يدقق النظر في ذلك، لكن لا يقال: " فقهت أن السماء فوقي والأرض تحتي، وأن الماء رطب، والتراب يابس ". وكان الشعراء يُسمَّون في الجاهلية فقهاء " لإدراكهم المعاني الدقيقة في أشعارهم، وتعبيرهم بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إن هذا من تعريفات الفقه اصطلاحاً؟ وذلك لأنه لم يرد في كلام أهل اللغة. وإذا كان هذا من تعريفات الفقه اصطلاحا، فإنه تعريف ضعيف؟ لأنه يفضي ويؤدي إلى أن من علم الأشياء الظاهرة مثل ما علم من الدين بالضرورة، ككون الصلاة واجبة، والزنا حرام، ونحو ذلك من الأحكام الفقهية لا يُسمى فقيهاً. وليس كذلك؛ حيث إن كل عالم بالأحكام عامة عن طريق الاستنباط يُسمَّى فقيهاً - وسيأتي بيان هذَا إن شاء اللَّه. الخامس: الفقه لغة: فهم غرض المتكلم من كلامه. ذهب إلى ذلك أبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدين الرازي في " المحصول ". جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إن هذا التعريف للفقه بعيد؛ لأمرين: أولهما: أنه مخالف لما نقل عن أهل اللغة؛ حيث إنه نقل عنهم: أن الفقه هو مطلق الفهم. ثانيهما: أن ما قيل في هذا التعريف هو تقييد للمطلق، وتخصيص للعام بدون مقيد، وبدون مخصص. ثانيا - تعريف الفقه اصطلاحاً: 1 - الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: حفظ طائفة من مسائل الأحكام الشرعية العملية الواردة في الكتاب والسُّنَّة، وما استنبط منهما، سواء كان قد حفظها مع أدلتها، أو مجرداً عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 أو تقول: إن الفقه في اصطلاح الفقهاء هو: مجموع الأحكام والمسائل التي نزل بها الوحي، والتي استنبطها المجتهدون، أو أفتى بها أهل الفتوى، أو توصل إليها أهل التخريج، وبعض ما يحتاج إليه من مسائل الحساب التي ألحقت بالوصايا والمواريث. فاسم الفقيه عند الفقهاء لا يختص بالمجتهد - كما هو عند الأصوليين - بل يشمله ويشمل غيره من المشتغلين في هذه المسائل. 2 - أما الفقه في اصطلاح الأصوليين فهو: " العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من الأدلة التفصيلية ". شرح التعريف، وبيان محترزاته: قولنا: " العلم " هو: مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن. أي: مطلق إدراك الحكم، سواء كان عن دليل قطعي، أو عن دليل ظني راجح، فيكون المراد بالعلم هو: ما علمناه بالشرع إما بيقين أو غالب الظن. هذا هو القول الحق " لأن الأحكام الفقهية منها ما هو قطعي، ومنها ما هو ظني، فحمل الفقه على واحد منهما ليس بسديد. والمقصود بالظن - هنا - هو ظن المجتهد الذي توفرت فيه شروط الاجتهاد، وليس ظن كل أحد من العوام، أو طلاب العلم الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد. وبقولنا: إن العلم هو مطلق الإدراك الشامل للقطع والظن، نسلم من اعتراض أبي بكر الباقلاني المشهور وهو: أنه قال: إنكم عرفتم الفقه بأنه " العلم بالأحكام.. "، والعلم معناه: الإدراك الجازم المطابق للواقع عن دليل قطعي؛ الأحكام الفقهية لم تثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 عن طريق أدلة قطعية، بل إن الأقل من تلك الأحكام ثبت عن دليل قطعي، وغالب الأحكام الفقهية ثبتت عن أدلة ظنية، فإدخال لفظ "العلم " في تعريف الفقه مع أن الفقه من باب الظنون باطل. وإليك بيان كيف كان الفقه ظنياً: الفقه من باب الظنون؛ لأنه مستفاد من الأدلة الظنية، وإليك بيان ذلك: الأدلة تنقسم إلى قسمين: " أدلة متفق عليها "، و " أدلة مختلف فيها". والمتفق عليها من حيث الجملة: " الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس ": أما القياس: فإنه لا يفيد إلا الظن، وهو واضح. وأما الإجماع: فإنه يتنوع إلى نوعين: النوع الأول: الإجماع السكوتي، وهو لا يفيد إلا الظن، سواء نقل إلينا عن طريق التواتر، أو الآحاد. النوع الثاني: الإجماع الصريح فيه تفصيل: إن نقل إلينا بطريق الآحاد، فهو لا يفيد إلا الظن. وإن نقل إلينا بطريق التواتر، فهو يفيد القطع، لكنه في غاية البعد. أما السُّنَّة، ففيها تفصيل: إن نقلت الأحاديث عن طريق الآحاد، وهذا أكثر السُّنَّة، فلا يفيد إلا الظن، سواء كانت دلالته قطعية أو ظنية. وإن نقلت الأحاديث عن طريق التواتر - وهو قليل جداً - ففيه تفصيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 إن كانت دلالة الحديث على المعنى قطعية، فيفيد القطع، وهو قليل، وإن كانت دلالة الحديث على المعنى ظنية، فلا يفيد إلا الظن. وأما الكتاب، ففيه تفصيل: إن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة ظهية، فلا تفيد إلا الظن. وإن كانت دلالة الآية على الحكم دلالة قطعية، فإنها تفيد القطع. وما هو مقطوع الدلالة من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، يكون من ضروريات الدين. أما الأدلة المختلف فيها كالمصالح، والاستصحاب، والعرف، وسد الذرائع، وقول الصحابي، وشرَع من قبلنا، والاستحسان، فإنها لا تفيد إلا الظن عند القائلين بها. إذاً يكون غالب الأحكام الفقهية ثابتة عن طريق أدلة ظنية، فيكون الفقه ظنياً على الغالب، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح أن يقال: إن الفقه هو " العلم بالأحكام.. "، بل يقال: " إن الفقه: الظن بالأحكام الشرعية.. "، فإيراد العلم مكان الظن يكون إيراداً لضد الشيء مكانه في التعريف، فيكون التعريف باطلاً. هذا هو اعتراض الباقلاني المشهور. وبتفسيرنا " العلم " بأنه مطلق الإدراك، ومطلق الإدراك يشمل القطع والظن، نسلم من هذا الاعتراض للباقلاني. قولنا: " بالأحكام "، الباء متعلقة بمحذوف تقديره: " المتعلق" ويكون الكلام بعد التقدير: " العلم المتعلق بالأحكام الشرعية ". والمراد بتعلق العلم بالأحكام: التصديق بكيفية تعلقها بأفعال المكلفين، كأن تعلم - مثلاً - أن الوجوب ثابت للصلاة، وأن الزنا محرم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 والأحكام جمع " حكم "، والحكم يطلق على إطلاقات كثيرة تختلف باختلاف الاصطلاحات، وهي كما يلي: الاصطلاح الأول: أن الحكم يطلق على إدراك الوقوع أو عدم الوقوع، أي: إدراك أن النسبة واقعة أو ليست واقعة، وهذا اصطلاح المناطقة. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا الإطلاق؛ لأن العلم هو: الإدراك - كما سبق ذكره - فإذا كان الحكم هو الإدراك فيكون التقدير: الفقه هو: إدراك الإدراك للوقوع، أو عدم الوقوع، وهو معنى فاسد. الاصطلاح الثاني: أن الحكم هو: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع، وهذا اصطلاح الأصوليين. جوابه -: أقول - في الجواب عنه -: إنه لا يصح أن يراد بالحكم هنا هذا الإطلاق " لأن ذلك يجعل قيد: " الشرعية " الوارد في تعريف الفقه لغواً لا فائدة فيه، حيث إن الحكم بهذا الإطلاق لا يكون إلا شرعياً، فيترتب على ذلك حصول التكرار. الاصطلاح الثالث: أن الحكم هو: إسناد أمر إلى أمر آخر إيجاباً، أو سلباً، أو هو ثبوت شيء لشيء آخر، أو نفيه عنه، وهو اصطلاح اللغويين. وهذا هو المراد بالحكم هنا عندي، لأمرين: أولهما: لعمومه وشموله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 ثانيهما: أن الإطلاقات والاصطلاحات الأخرى ثبت عدم صحتها. والحكم على هذا الإطلاق منقسم إلى ما يلي: الحكم الشرعي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الشارع نحو: الصلاة واجبة. الحكم العقلي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من العقل نحو: الخمسة نصف العشرة. الحكم الحسي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الحواس الخمس نحو: الثلج بارد. الحكم التجريبي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من التجربة نحو: الإهليلج مسهل. الحكم الوضعي الاصطلاحي: وهو ما كانت النسبة فيه مستفادة من الوضع اللغوي كالحكم بأن الفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب. وقولنا: " بالأحكام " دخلت " أل " على الأحكام، وهي هنا تكون للعموم، فتعم شيئين: أولهما: العلم بالأحكام بالفعل. ثانيهما: العلم بالأحكام بالقوة. أي: لا يراد من العلم بجميع الأحكام: معرفتها جميعها بالفعل، بمعنى: أن يعرف حكم كل مسألة يسأل عنها، ولا يجهل شيئاً من الأحكام. بل المراد من العلم بالأحكام ومعرفتها: العلم ببعضها بالفعل، والعلم بالباقي بالقوة، بحيث تكون عنده القدرة على تحصيلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 بالأخذ في أسباب الحصول، وهو ما يعرف بالملكة والتهيؤ، ولا شك أن كل مجتهد عنده القدرة والملكة التي يستطيع بها استنباط الحكم واستخراجه إذا لزم الأمر وحدثت حادثة تقتضي ذلك. فيسمى فقيهاً نظراً لوجود الملكة عنده، فيكون عالماً ببعض الأحكام بالفعل، والبعض الآخر بالقوة والاستعداد. وقلنا ذلك لأن " أل " الداخلة على " الحكم ": لا يصح أن تكون للعهد؛ لأنه لم يتقدم للحكم ذكر حتى تكون للعهد الذكري، ولا يوجد بين المعرف والمخاطب معرفة وعهد حتى تكون للعهد الذهني. ولا يصح أن تكون " أل " للجنس؛ لأن أقل جنس الجمع ثلاثة، فيلزم من ذلك أن يسمى العامي فقيهاً إذا عرف ثلاث مسائل بأدلتها؟ لصدق اسم الفقيه عليه، وليس كذلك. ولا يصح أن تكون " أل " لمطلق الحقيقة -؛ لأنه يلزم من ذلك أن من عرف حكماً واحداً بدليله يكون فقيهاً، وليس كذلك. ولا يصح أن يكون " أل " لاستغراق الجنس؛ لأنه يلزم من كونها لاستغراق الجنس أن الشخص لا يُسمَّى فقيهاً إلا إذا علم جميع الأحكام الشرعية الفرعية، فمن لم يعلمها كلها: فإنه يخرج من زمرة الفقهاء، وهذا باطل؛ لأن الأئمة الأربعة وغيرهم من الفقهاء كانوا لا يعلمون كل الأحكام، إذ ما من إمام إلا وقد خفي عليه بعض الأحكام، فقد ذكر الهيثم بن جميل عن الإمام مالك أنه سئل عن ثمان وأربعين مسألة، فقال في اثنتين وثلاثين منها: " لا أدري ". وذكر أبو القاسم بن يوسفما الحسني الحنفي: أن الإمام أبا حنيفة قال في ثمان مسائل: " لا أدري ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وذكر ابن جماعة: أن محمد بن الحكم سأل الإمام الشافعي عن المتعة: أكان فيها طلاق، أو ميراث، أو نفقة؟ فقال: " والله ما ندري ". وذكر الأثرم: أنه كان يسمع الإمام أحمد يكثر من قول: " لا أدري ". والأمثلة على ذلك كثيرة لا تحصى. قولنا: " الشرعية " أي: يجب أن تكون تلك الأحكام شرعية، أي. مستفادة من الأدلة الشرعية، سواء كانت تلك الأدلة متفق عليها، أو مختلف فيها. فلفظ " الشرعية " أخرج الأحكام المستفادة من العقل، أو من الحس، أو من الوضع اللغوي، أو من التجرية. قولنا: " العملية ": يبين أن الأحكام الشرعية ينبغي أن يكون فيها عمل جوارح كالصلاة، والزكاة، والحج، والمعاملات، والجنايات ونحو ذلك. وليس المراد بـ " العملية " هو: أن جميع الأفعال هي عملية وأفعال، بل المراد: أن أكثرها فعلي وعملي، لا كلها، وذلك لوجود بعض الأحكام الفقهية الكائنة بالقلب دون عمل الجوارح؛ الفقيه كما يكون فقيهاً بالعلم بوجوب الصلاة والصيام والحج، كذلك يكون فقيهاً بالعنم بوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء والحسد، وأمور كثيرة لا توجد إلا بالقلب، فيدخل عمل الجوارح، وعمل القلب، وما هو وسيلة إلى العمل كعلم أصول الفقه. وخرج بكلمة " العملية " الأحكام الشرعية العقائدية، وهو علم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 التوحيد، كالعلم بأن اللَّه واحد سميع بصير، فهذا ليس من الفقه في شيء. اعتراض: اعترض بعضهم كالإسنوي على هذا قائلاً: إن هذا تناقض، حيث أدخلتم في لفظ " العملية " عمل القلب كوجوب النية، ولم تدخلوا علم التوحيد فإنه عمل قلب أيضاً. جوابه: إن عمل القلب كوجوب النية، والإخلاص، وتحريم الرياء، والحسد، والحقد، ونحو ذلك تشبه عمل الجوارح أكثر من شبهها بالاعتقاد " لكونها تظهر على المتصف بها ولو بعد حين، فألحقناها بعمل الجوارح لكثرة شبهها به، فلو جالست شخصاً حاقداً، أو حاسداً، أو لا إخلاص عنده، فإنك ستعلم ذلك عنه من خلال عمله وتصرفاته، ولكنك لن تعلم أن جليسك هذا أشعري، أو معتزلي من أي عمل عمله، لأنه بينه وبين اللَّه. اعتراض آخر: ذكر بعض العلماء كفخر الدين الرازي وتلميذه تاج الدين الأرموي: أن كلمة: " العملية " خرج بها - أيضاً - أصول الفقه، لأن العلم بكون الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّة - مثلاً - ليس علماَ بكيفية عمل. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: هذا ليس بصحيح، فلا يخرج بكلمة " العملية " علم أصول الفقه، بل يدخل - كما سبق أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 قلناه -؛ لأن هذه القواعد - ككون الإجماع والقياس وخبر الواحد حُجَّة - هي وسيلة إلى العمل، فالغاية المطلوبة منها العمل، والموضوع عمل من أعمال المكلفين، وتلك هي مسائل المكلفين. أي: أن حكم الشرع بكون الإجماع والقياس وخبر الواحد حُجَّة معناه: أن نتعبد ونعمل بالحكم الذي يثبت عن طريق تلك الأدلة، ويجب العمل بمقتضاه، والإفتاء بموجبه. قولنا: " المكتسب من الأدلة ": لفظ " المكتسب " مرفوع، حيث إنه وصف للعلم، أي: أن هذا العلم بالأحكام الشرعية العملية مأخوذ بسبب النظر بالأدلة واستنباط الأحكام منها، فأي شخص حصل على العلم بالأحكام بدون النظر بالأدلة لا يسمى فقيهاً مهما كان. وعلى هذا خرج بهذه الكلمة - أعني: " المكتسب من الأدلة " - ما يلي: 1 - علم اللَّه تعالى؛ لأنه لا يوصف بأنه أخذ من أدلة، حيث إنه أزلي غير مكتسب. 2 - علم الأنبياء عليهم السلام بالأحكام من غير اجتهاد، حيث يتلقى ذلك عن طريق الوحي. أما علم الأنبياء والرُّسُل الحاصل عن اجتهاد ونظر، فهو علم مكتسب، لذلك يوصف بأنه فقيه في هذا الذي اجتهد فيه. 3 - علم الملائكة؛ لأنه مأخوذ من اللوح المحفوظ. 4 - علم المقلد الذي لم يجتهد في تحصيل واستنباط أي حكم من الأحكام من أدلتها، بل أخذ الحكم عن المجتهد، فمعرفته ببعض الأحكام ليست حاصلة عن دليل أصلاً لا إجمالي، ولا تفصيلي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وقولنا: " التفصيلية " أي: آحاد الأدلة، بحيث يدل كل دليل بعينه على حكم معين مثل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وقوله: (ولا تقربوا الزنا) . وقد جيء بلفظ " التفصيلية " لإخراج الأدلة الإجمالية الكلية كمطلق الأمر، ومطلق النهي، والإجماع، والقياس، وقول الصحابي ونحو ذلك، فالبحث عن هذه الأدلة الإجمالية من عمل وشأن الأصولي. وتعريف الفقه - السابق - يبين ويوضح أن أيَّ حكم شرعي عملي أخذه هذا الشخص من دليل تفصيلي، فإنه يُسمَّى فقيهاً، سواء كان ظاهراً جلياً، أو كان غامضاً خفياً. اعتراض: اعترض فخر الدين الرازي على ذلك قائلاً: إذا كان الحكم معلوماً من الدين بالضرورة كوجوب الصلاة، ووجوب الصوم، وغيرهما مما يعرف من أدلة ظاهرة جلية، فإن العارف لذلك لا يسمى فقيهاً، حيث إنه أخذ ذلك من غير نظر واستدلال. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: ماذا يعني فخر الدين بالضرورة؟ إن كان يعني بها: أن كل من تصور الدين الذي جاء به نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - حصل له العلم الضروري بوجوب الصلاة، ووجوب الصوم ونحوهما، فليس كذلك، لأنه في ابتداء الإسلام لم يكن الأمر كذلك، فإن الفقه كان حاصلاً بها للصحابة - رضي الله عنهم - ولم تكن ضرورية - حينئذٍ - وفقه الصحابة يجب أن يتناوله حد الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 وإن أراد بها: بعد اشتهار الإسلام وانتشاره، فإن أكثر الأحكام كذلك تحريم الزنا، والغصب، والسرقة، والربا، ونحوها، فلو خرجت هذه الأحكام وما شابهها مما اشتهر وعرفه أكثر الناس لخرج أكثر الفقه عن أن يسمى فقهاً؛ لأن هذه المسائل هي المسائل الأصلية في الفقه، وغيرها يتفرع عنها. وبهذا يتبين: أن الفقيه هو العالم الذي علم الأحكام الشرعية العملية المكتسب والمأخوذ من الأدلة التفصيلية، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا توفرت فيه شروط المجتهد. فمن حفظ المسائل الفقهية المدونة في كتب الفقه على مذهب واحد، أو على المذاهب الأربعة بأدلتها، فلا يُسمَّى فقيها، ولكن يُسمَّى ناقل للفقه عن غيره، ولو كان حافظاً للقرآن والسُّنَّة. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 المطلب الثالث في تعريف أصول الفقه لما عرفت تعريف الأصول، وتعريف الفقه، سأبين الآن تعريف أصول الفقه، فأقول: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف أصول الفقه، ولكن أقربها إلى الصحة هو: معرفة دلائل الفقه إجمالاً، وكيفية الاستفادة منها وحال المستفيد. شرح التعريف: المراد بالمعرفة: العلم والتصديق، دون التصور، حيث إن المعرفة تعلقت بالنسبة، ولم تتعلق بالمفرد. والمعرفة جنس دخل فيها معرفة الأدلة، ومعرفة الأحكام. والأدلة جمع " دليل "، والدليل لغة هو: المرشد إلى المطلوب، سواء كان حسيا، أو معنويا. وهو في الاصطلاح: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. وهو شامل للدليل القطعي المفيد للقطع، وشامل للدليل الظني المفيد للظن عندنا. مثال القطعي: الدلالة على حدوث العالم، فتقول: العالم متغير، وكل متغير حادث، فالعالم حادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ومثال الظني: الغيم الذي إذا نظرنا إليه فإنه يوصلنا إلى وقوع المطر. اعتراض: لم يسلم ذلك أبو الحسين البصري، وفخر الدين الرازي، والآمدي، بل قالوا: إن الدليل لا يستعمل إلا فيما يؤدي إلى العلم أما ما يؤدي إلى الظن فلا يسمى دليلاً، وإنما يسمى أمارة. جوابه: هذا غير صحيح؛ لأمور ثلاثة: أولها: أن أهل اللغة لم يفرقوا في التسمية بين ما يؤدي إلى العلم أو الظن، فلم يكن لهذا الفرق وجه. تانيها: أن أهل الشريعة لم يفرقوا بينهما في الاعتقاد والعمل. ثالثها:. أن الدليل هو المرشد إلى المطلوب، والدليل الظني مرشد إلى المطلوب، فوجب أن يكون دليلاً كالموجب للعلم. والمقصود من معرفة أدلة الفقه: معرفة الأدلة وأحوالها المتعلقة بها مثل: أن يعرف أن الأمر يقتضي الوجوب عند الإطلاق، وأن الإجماع يفيد القطع، أو الظن، وأن القياس يفيد الحكم الظني وهكذا. وليس المراد من معرفة الأدلة هو: تصورها كأن يعرف: أن الكتاب هو: اللفظ المنزل على محمد - صلى الله عليه وسلم - المتعبد بتلاوته، وأن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأن الإجماع هو: اتفاق مجتهدي أُمَّة محمد، فهذه كلها تصورات - فقط - وهي من مقاصد علم الأصول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وليس المراد من معرفة الأدلة: حفظها؛ لأن حفظ الأدلة ليست من الأصول في شيء. والمقصود بالأدلة هنا: الأدلة المتفق عليها، والمختلف فيها، والقواعد الكلية، ولو لم نحمل الأدلة على ذلك لخرج كثير من مسائل أصول الفقه عن الحد كقاعدة: " العبرة بعموم اللفظ "، و"الأمر المطلق يقتضي الوجوب "، ونحو ذلك. ومن قال بأن القواعد الكلية لا تسمى أدلة: عرف أصول الفقه بأنه: " القواعد التي يتوصل بها إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة "، ولكن ما أثبتناه هو الأصح، كما سبق بيانه. وأضفنا الأدلة إلى الفقه؛ لإخراج معرفة أدلة غير الفقه، كصرفه أدلة التوحيد مثلاً، فإن ذلك ليس من الأصول. وقولنا: " إجمالاً " هو حال من " دلائل "؛ لأن المراد هو: المعرفة التفصيلية للأدلة الإجمالية؛ حيث إن الأدلة نوعان " كلية وإجمالية "، و " جزئية ". فمعرفة أن الإجماع حُجَّة، والقياس حُجَّة، والنهي يقتضي التحريم تعتبر أدلة إجمالية؛ لأنها لا تدل على حكم معين. أما الأدلة الجزئية: فهي التي تدل على حكم معين في حالة معينة فقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) ، والإجماع على أن الخالة ترث، وقياس الجد على ابن الابن، ولا نكاح إلا بولي، هذه كلها أحكام جزئية؛ لأن كلًّا منها يستفاد منه حكم معين. فالأصولي يبحت عن أحوال الأدلة الكلية، ولا يبحث فيه عن الأدلة الجزئية؛ لأمرين: أولهما: أن الأدلة الجزئية غير محصورة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ثانيهما: أن الأدلة الجزئية داخلة تحت الأدلة الكلية، فالباحث عن أحوال الأدلة الكلية يبحث عن الأدلة الجزئية بطريق التبع، وإذا تعرض الأصولي لدليل جزئي فهو عن طريق ضرب المثال. وقوله: " إجمالاً " قيد أخرج علم الخلاف؛ لأن المقصود منه معرفة أدلة الفقه التفصيلية لا لأجل أن يستفيد منها الأحكام، بل لتكون سلاحا يدافع به كل مناظر عن وجهة نظر إمامه، وهذا لا يدخل في أصول الفقه. وقولنا: " وكيفية الاستفادة منها " معطوف على " دلائل " أي: معرفة الدلائل، ومعرفة كيفية الاستفادة من تلك الدلائل. أي: أن الأصول جث فيه عن الأحوال التي تعترض للأدلة، وكيف نستفيد الحكم من تلك، فلا بد في ذلك من معرفة التعارض بين الأدلة، وكيفية فك هذا التعارض، والترجيح بينها، وذلك لأن الغرض من البحث عن أحوال الأدلة إنما هو التوصل إلى استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة، ومعروف أن الأدلة المفيدة للأحكام ظنية، فهي قابلة للتعارض. وعند التعارض لا بد في استفادة الحكم من دليله من الترجيح بينه وبين معارضه. لذلك لا بد من معرفة متى تتعارض الأدلة، وإذا تعارضت فبأي شيء يكون الترجيح؟ وكذلك لا بد أن يعرف أنه لا تعارض بين دليلين قطعيين، وبين قاطع وظني، وإذا تعارضت الأدلة الظنية فهناك مرجحات كثيرة، بعضها يرجع إلى راوي الخبر، وبعضها يرجع إلى نفس النص، وبعضها يرجع إلى أمور أخرى، فلا بد أن يعرف ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولذلك يرجح الخبر الذي رواته أكثر على من قلَّت رواته " لأن احتمال الكذب والغلط على الأقل أقرب، ويرجح خبر صاحب الواقعة على خبر غيره، فرجح العلماء خبر عائشة: " إذا التقى الختانان وجب الغسل، فعلته أنا والرسول " على خبر ابن عباس: "الماء من الماء "، ونحو ذلك، كما سيأتي تفصيله في الباب السابع. وقولنا: " وحال المستفيد " معطوف على دلائل، فيكون التقدير: " ومعرفة حال المستفيد "، والمستفيد هو طالب الحكم من الدليل، وهو المجتهد، فيكون المراد بالمستفيد هو المجتهد. والمقصود: أن من مواضع أصول الفقه هو البحث عن حال المجتهد والشروط التي يجب أن تتوفر فيه. وإنما كان البحث عن حال المجتهد من أصول الفقه، لأننا قلنا فيما سبق: فائدة البحث عن أحوال الأدلة إنما هو لأجل أن يتوصل بها إلى استنباط الأحكام من الأدلة، ومعروف أن الأدلة ظنية. ومعروف أنه لا يوجد بين الدليل الظني ومدلوله ارتباط عقلي " لأنه يجوز أن لا يدل الدليل عليه، فكان لا بد من رابط يربط بينهما والرابط هو: الاجتهاد، فلذلك بحث في الأصول عن الاجتهاد، وذكر فيه الشروط التي يجب توافرها في المجتهد. وإذا علمت أن المراد بالمستفيد هو المجتهد، فإن المقلد لا يدخل هنا فالمقلد وشروطه وبحثه ليس من علم الأصول، وإنما ذكر ذلك استطراداً لذكر المجتهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المبحت الثاني في الفرق بين الأصول والفقه بعد ما تبينت لنا حقيقة الفقه، وأصولى الفقه: ظهر لنا الفرق بينهما، ولعلي ألخص ذلك وأبين وظيفة الفقيه ووظيفة الأصولي فيما يلي، فأقول: إن أصول الفقه يكون في البحث عن أدلة الفقه الإجمالية بالتفصيل. أما الفقه فهو يبحث في العلم بالأحكام الشرعية العملية المأخوذة والمستنبطة من أدلتها التفصيلية. وعلى هذا تكون وظيفة الفقيه هي: أن يأخذ هذه القواعد والأدلة الإجمالية التي أغناه عن التوصل إليها الأصولي، ويطبقها على الجزئيات. أو أقول بعبارة أخرى: إن أصول الفقه عبارة عن المناهج والأسس التي تبين الطريق وتوضحه للفقيه، الذي يجب عليه أن يلتزمه في استخراج الأحكام من أدلتها، فيرتب الأصولي تلك الأدلة فيقدم الكتاب على السُّنَّة، والسُّنَّة على الإجماع، وهكذا. أما الفقه: فهو عبارة عن استخراج الأحكام من الأدلة مع التقيد بتلك المناهج. وأن مثل علم الأصولى بالنسبة للفقه كمثل علم المنطق بالنسبة لسائر العلوم الفلسفية، فهو ميزان يضبط العقل ويمنعه من الخطأ في الفكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 المبحث الثالث في الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية تبيَّن - فيما سبق - وجود ارتباط وثيق بين أصول الفقه، والفقه، وهذا لا يعني أنهما علم واحد، بل إن كلًّا منهما علم مستقل بحد ذاته، ولكل منهما قواعده، ونظراً إلى أنه قد تختلط القواعد الأصولية بالقواعد الفقهية عند بعض طلاب العلم - حيث إن لكل منهما قواعد تندرج تحتها جزئيات - ذكرتُ هذه الفروق بينهما وهي: الفرق الأول: أن القواعد الأصولية عبارة عن المسائل التي تشملها أنواع من الأدلة التفصيلية يمكن استنباط التشريع منها. أما القواعد الفقهية: فهي عبارة عن المسائل التي تندرج تحتها أحكام الفقه، ليصل المجتهد إليها بناء على تلك القضايا المبينة في أصول الفقه، ويلجأ الفقيه إلى تلك القواعد الفقهية تيسيراً له في عرض الأحكام، فهو - مثلاً - إذا قال: " إن العبرة في العقود بالمقاصد والمعاني " أغناه عن أن يقول في كل جزئية: " البيع منعقد بلفظ كذا "، وأن يقول: " الإجارة تنعقد بلفظ كذا ". الفرق الثاني: أن القواعد الأصولية كلية تنطبق على جميع جزئياتها وموضوعاتها، فكل نهي مطلق - مثلاً - للتحريم، وكل أمر مطلق للوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 أما القواعد الفقهية فإنها أغلبية، يكون الحكم فيها على أغلب الجزئيات. الفرق الثالث: أن القواعد الأصولية وسيلة لاستنباط الأحكام الشرعية العملية. أما القواعد الفقهية فهي مجموعة من الأحكام المتشابهة التي ترجع إلى عِلَّة واحدة تجمعها، أو ضابط فقهي يحيط بها، والغرض من ذلك هو: تسهيل المسائل الفقهية وتقريبها. الفرق الرابع: أن القواعد الأصولية ضابط وميزان لاستنباط الأحكام الفقهية، ويُبين الاستنباط الصحيح من غيره، فهو بالنسبة لعلم الفقه كعلم المنطق يضبط سائر العلوم الفلسفية، وكعلم النحو يضبط النطق والكتابة بخلاف القواعد الفقهية. الفرق الخامس: أن القواعد الأصولية قد وجدت قبل الفروع؟ حيث إنها القيود التي أخذ الفقيه نفسه بها عند الاستنباط. أما القواعد الفقهية فإنها قد وجدت بعد وجود الفروع. هذه أهم الفروق بينهما. وإليك أهم كتب القواعد الفقهية على المذاهب الأربعة: 1 - الأشباه والنظائر لابن السبكي تاج الدين (ت 771 هـ) : "المذهب الشافعي ". 2 - الأشباه والنظائر لابن الوكيل (ت 716 هـ) : " المذهب الشافعي ". 3 - الأشباه والنظائر للسيوطى (ت 911 هـ) : " المذهب الشافعي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 4 - الأشباه والنظائر لابن الملقن (ت 804 هـ) : " المذهب الشافعي ". 5 - الأشباه والنظائر لابن نجيم (ت 970 هـ) : " المذهب الحنفي ". 6 - تأسيس النظر لأبي زيد الدبوسي (تْ 43 هـ) : " المذهب الحنفي ". 7 - شرح القواعد الفقهية لأحمد الزرقاء: " المذهب الحنفي ". 8 - الفرائد البهية في القواعد والفوائد الفقهية لابن حمزة (ت 1305 هـ) : " المذهب الحنفي ". 9 - الفروق للقرافي (ت 682 هـ) : " المذهب المالكي ". ْا - القواعد لابن رجب (ت 795 هـ) : " المذهب الحنبلي ". 11 - القواعد للمقَّري (ت 758 هـ) : " المذهب المالكي ". 12 - القواعد النورانية الفقهية لابن تيمية (ت 728 هـ) : "المذهب الحنبلي ". 13 - قواعد مجلة الأحكام الشرعية على مذهب الإمام أحمد لأحمد القاري (ت - 1358 هـ) . 14 - المجموع المذهب في قواعد المذهب للعلائي (ت 761 هـ) . 15 - المنثور في القواعد للزركشي (ت 794 هـ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المبحث الرابع في موضوع أصول الفقه لقد اختلف في موضوع علم أصول الفقه على مذهبين: المذهب الأول: أن موضوع أصول الفقه هو: الأدلة الإجمالية، وهو مذهب الجمهور، أي: أن موضوع علم أصول الفقه هو: الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية العملية، وأقسامها، واختلاف مراتبها، وكيفية استثمار الأحكام الشرعية منها على وجه كلي، وهو الصحيح عندي، لأن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة وثمرة الشىء تابعة له. فالأصولي يبحث في حجية الأدلة الإجمالية، ثم يبحث عن العوارض اللاحقة لهذه الأدلة من كونها عامة، أو خاصة، أو مطلقة أو مقيدة، أو مجملة، أو مبينة، أو ظاهرة، أو نصاً، أو منطوقاً، أو مفهوماً، وكون اللفظ أمراً، أو نهياً، ومعرفة هذه الأمور هي مسائل أصول الفقه. فمثلاً الكتاب، وهو دليل سمعي كلي لم ترد نصوصه على حَالة واحدة، بل منها ما هو بصيغة الأمر، أو النهي، أو العام، أو الخاص -، أو المطلق، أو المقيد إلى آخره، فهذه الأمور - وهي: الأمر والنهي، والعام والخاص، والمجمل، والمطلق والمقيد، وغيرها، تعتبر من أنواع الدليل الشرعي العام الذي هو الكتاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فيبحث الأصولي هذه الأمور وما تفيده، فبعد بحثه وتمحيصه يتوصل إلى أن الأمر يفيد الفور أو التكرار، ويتوصل إلى أن النهي يفيد التحريم، وأن العام يدل دلالة ظنية، وهكذا. فهذه كلها وجوه الاستدلال بالكتاب، والدليل واحد، وهو نفس الكتاب. ْوالفقيه يأخذ الدليل الإجمالي، أو القاعدة الكلية التي توصل إليها الأصولي، فيجعلها مقدمة كبرى، بعد أن يقدم لها بمقدمة صغرى موضوعها جزئي من جزئيات تلك القاعدة، ودليل تفصيل يعرفه الفقيه، كالأمر بالصلاة في قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) فيكون عندنا مقدمتان ونتيجة: المقدمة الصغرى: الصلاة مأمور بها في قوله تعالى: (وأقيموا الصلاة) ، وهذا دليل تفصيلي. المقدمة الكبرى: وكل مأمور به - إذا تجرد عن القرائن - فهو واجب، وهذه قاعدة أصولية، أو دليل كلي إجمالي. فتكون النتيجة: الصلاة واجبة. المذهب الثاني: أن موضوع علم أصول الفقه هو: الأدلة والأحكام معاً، وذهب إلى ذلك بعض العلماء كصدر الشريعة، وسعد الدين التفتازاني، وبعض العلماء. وقالوا: إنه يبحث فيه عن العوارض الذاتية للأدلة الشرعية، وهي: إثباتها للأحكام، وعن العوارض الذاتية للأحكام وهي: ثبوتها بتلك الأدلة، وعلَّلوا قولهم هذا: بأنه لما كانت بعض مباحث الأصول ناشئة عن الأدلة كالعموم والخصوص والاشتراك، وبعضها ناشئاً عن الأحكام ككون الحكم متعلقاً بفعل هو عبادة أو معاملة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 ولا رجحان لأحدهما على الآخر، فالحكم على أحدهما بأنه موضوع، وعلى الآخر بأنه تابع تحبهم وهو باطل. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إن موضوع أصول الفقه هو: الأدلة الإجمالية، وغير الأدلة يأتي بالتبع، ولا تحكم في ذلك " لأنه كما قلنا: إن الأحكام الشرعية ثمرة الأدلة، وثمرة الشيء تابعة له. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لأن كلًّا من الفريقين قد ذكر الأدلة والأحكام وبحثهما في أصول الفقه، ولكن أصحاب المذهب الأول قد بحثوا الأحكام على أنها تابعة، وأصحاب المذهب الثاني قد بحثوها على أنها أصلية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 المبحث الخامس في حكم تعلم أصول الفقه إن تعلم أصول الفقه يختلف باختلاف المتعلمين، فإن كان الشخص - يهيئ نفسه للوصول إلى درجة الاجتهاد في هذه الشريعة الإسلامية، ويريد رفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن غيره، فإن تعلم أصول الفقه بالنسبة إليه فرض عين، لأنه لا يمكن له أن يتوصل إلى درجة الاجتهاد بدون تعلمه، بل هو أهم العلوم التي يجب تحصيلها والوقوف عليها حتى يكون مجتهداً وقادراً على استنباط الأحكام الشرعية من أدلتها. أما إن كان الشخص طالباً للعلم بصورة عامة، فإن تعلم أصول الفقه فرض كفاية، شأنه شأن أي علم يجب أن يقوم به البعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المبحث السادس في فوائد علم أصول الفقه لقد بيَنت في مقدمتي لهذا الكتاب فضل علم أصول الفقه، وأهميته، ومنزلته من بين العلوم، وهذا المبحث يزيد من أهميته وفضله، حيث إن الأهمية والفضل لا يتضحان لعلم من العلوم إلا إذا كان له فوائد عظيمة، لذلك عقدت هذا المبحث لبيان ماله من فوائد، وإليك بيان تلك الفوائد: الفائدة الأولى: إنه يُبين المناهج والأسس والطرق التي يستطيع الفقيه عن طريقها استنباط الأحكام الفقهية للحوادث المتجددة، فإن المجتهد إذا كان عالماً بتلك الطرق - من أدلة إجمالية وقواعد أصولية - فإنه يستطيعَ إيجاد حكم لأي حادثة تحدث. وهذا موضوع أصول الفقه، وقد سبق بيان ذلك. الفائدة الثانية: إن طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد، يستفيد من دراسة أصول الفقه، حيث يجعله على بينة مما فعله إمامه عند استنباطه للأحكام، فمتى ما وقف ذلك الطالب للعلم على طرق الأئمة، وأصولهم، وما ذهب إليه كل منهم من إثبات تلك القاعدة، أو نفيها، فإنه تطمأن نفسه إلى مدرك ذلك الإمام الذي قلَّده في عين ذلك الحكم أو ذاك، فهذا يجعله يمتثل عن اقتناع، وهذا يفضي إلى أن يكون عنده القدرة التي تمكنه من الدفاع عن وجهة نظر إمامه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 الفائدة الثالثة: أن العارف بأصل هذا الإمام في هذا الحكم أعظم أجراً من الشخص الذي يأتي بالعبادة لفتوى إمامه أنها واجبة أو سُنَّة، ولا يعرف الأصل الذي اعتمد عليه في هذه الفتوى. الفائدة الرابعة: أن العارف بالقواعد الأصولية يستطيع أن يُخرِّج المسائل والفروع غير المنصوص عليها على قواعد إمامه. الفائدة الخامسة: أن العارف بتلك القواعد الأصولية يستطيع أن يدعو إلى الله تعالى وإلى دينه، بناء على أسس ومناهج وطرق يستطيع بها أن يقنع الخصم بما يريد أن يدعوه إليه. الفائدة السادسة: أن العارف بتلك القواعد يستطيع أن يُبيِّن لأعداء الإسلام أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان، وأنه موجد لكل حادثة حكماً شرعياً، وأنه لا يمكن أن توجد حادثة إلا ولها حكم شرعي في الإسلام، بعكس ما كان يصوره أعداء الإسلام من أن الإسلام قاصر عن حل القضايا المتجددة. قاتلهم الله. الفائدة السابعة: أن أهل اللغة يستفيدون من تعلم علم أصول الفقه " حيث إن أهل اللغة يبحثون عن اشتقاقات الكلمة، وهل هي نقلية أو قياسية، أما أهل الأصول فإنهم يبحثون عن معاني تلك الألفاظ، لذلك تجد الأصوليين قد توصلوا إلى نتائج لم يتوصل إليها اللغويون وذلك بسبب جمعهم بين معرفة اللغة ومعرفة الشريعة.، لذلك تجد أكثر أهل اللغة لهم إلمام في علم أصول الفقه. الفائدة الثامنة: أن المتخصص بعلم التفسير وعلم الحديث محتاج إلى دراسة علم أصول الفقه، حيث إنه يبين دلالات الألفاظ، وهل تدل على الحكم بالمنطوق أو بالمفهوم، أو بعبارة النص، أو بإشارته، أو بدلالته، أو باقتضائه، ونحو ذلك، لذلك تجد أكثر المفسرين والشارحين للأحاديث هم من الأصوليين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 الفائدة التاسعة: أن كل شخص يريد كتابة أيَّ بحث من البحوث العلمية محتاج إلى معرفة علم أصول الفقه، ذلك لأن علم أصول الفقه قد جمع بين النقل والعقل، ومن تعمق فيه عرف طريقة إيراد المسألة، وتصويرها والاستدلال عليها، والاعتراض على بعض الأدلة، والجواب عن تلك الاعتراضات بأسلوب مبني على أسس ومناهج وطرق يندر أن تجدها في غير هذا العلم. الفائدة العاشرة: أن كل شخصٍ يريد أن يتخصص بالإعلام محتاج إلى معرفة أصول الفقه، وذلك لأن علم أصول الفقه قد اعتنى عناية فائقة ومميزة في الأخبار، وكيف أنها تنقسم إلى متواتر، وآحاد، ومشهور، وكيف العمل عند تعارض تلك الأخبار، وطريقة الترجيح فيما بينها، واعتنى - أيضاً - في بيان أنه عند إعلان الأخبار لا بد من مراعاة مصالح الناس وأعرافهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 المبحث السابع الشبه التي أثيرت حول علم أصول الفقه وأجوبتها مع تلك الفوائد التي ذكرتها لأصول الفقه، فإنه لم يسلم من بعض الاعتراضات التي وجهت إليه، والشبه التي أثيرت حوله، وإليك بيان أهمها، والأجوبة عنها فأقول: الشبهة الأولى: ورد عن بعض الناس أنهم ذمّوا علم أصول الفقه، وحقَّروه في نفوس طلاب العلم، وذكروا أنه لا فائدة منه لا في الدنيا ولا في الآخرة. جوابها: يجاب عنها: بأن سبب ذمهم لهذا العلم وتحقيرهم له هو: جهلهم بهذا العلم، وعدم قدرتهم على فهمه بالتفصيل، وقديما قيل: " من جهل شيئاً عاداه ". إذ كيف يذمون علما هو من أهم شروط الاجتهاد؛ حيث إنه إذا لم يتعلمه الفقيه بالتفصيل، فإنه لن يتوصل إلى درجة الاجتهاد، ولا يمكنه - بأي حال - استنباط حكم شرعي من دليل، بل لو لم يعرف القياس - فقط - لانتفت عنه صفة الفقه، كما قال الإمام الشافعي: " من لم يعرف القياس فليس بفقيه "، وكما قال الإمام أحمد: " لا يستغني أحد عن القياس "؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وكيف يذمون علما هو أهم علوم الشريعة؟ ؛ لأنه لولا علم أصول الفقه لم يثبت من الشريعة لا قليل ولا كثير، بيانه: إن كل حكم شرعي لا بد له من سبب موضوع، ودليل يدل عليه وعلى سببه، فإذا ألغينا أصول الفقه: ألغينا الأدلة، فلا يبقى لنا حكم ولا سبب، حيث إن إثبات الشرع بغير أدلته وقواعده وبمجرد الهوى خلاف الإجماع. الشبهة الثانية: أن هذا العلم لم يكن في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا عهد الصحابة، ولا عهد التابعين لهم، فهو علم مبتدع، وما كان كذلك، فلا نفع فيه. جوابها: يجاب عنها بأن الصحابة رضوان اللَّه عليهم في عهده - صلى الله عليه وسلم - وبعد عهده، وكذلك التابعين كانوا يتخاطبون بأن هذه الآية ناسخة لتلك الآية، وأن تلك الحادثة مشابهة لتلك الحادثة المنصوص على حكمها، وأن هذا خبر واحد يستدل به على إثبات حكم شرعي، وأن هذا قول صحابي في مسألة " ما "، وأن هذه مصلحة ينبغي أن تراعى، ونحو ذلك، وهذه هي موضوعات أصول الفقه، فأصول الفقه موجود عندهم، وإن لم يسموا ذلك بالمصطلحات الموجودة الآن، وعلى هذا لا يكون علما مبتدعا. الشبهة الثالثة: أنكم جعلتم علم أصول الفقه أهم شرط من شروط الاجتهاد، فلا يمكن لأي شخص أن يبلغ درجة الاجتهاد إلا إذا كان عارفا مدققا في أصول الفقه، كيف يستقيم ذلك، وقد كان الصحابة - رضي الله عنهم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 وأتباعهم من كبار المجتهدين، ولم يكن هذا العلم موجوداً حتى جاء الإمام الشافعي وصنَّف فيه، وسمَّاه بهذا الاسم؟ جوابها: يجاب عنها بأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وأتباعهم من كبار التابعين كانوا من أعلم الخلق بالعلوم التي يتهذب بها الذهن، ويستقيم بها اللسان كأصول الفقه، وعلم العربية، فالله عَزَّ وجَلَّ الذي اختارهم ليكونوا أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، فلم يقع عليهم الاختيار، إلا لأنهم خير من غيرهم في كل الأمور.، فهم الذين بذلوا النفس والنفيس من أجل نصرة اللَّه ورسوله، وهم الذين حملوا الشريعة إلى من بعدهم حتى وصلت إلينا. ولذلك كانوا أفهم الخلق بدلالات الألفاظ، والصحيح من الأدلة من الفاسد، وكانوا عالمين بالقواعد الشرعية، ومقاصد الشريعة، متتبعين لها، محيطين بها، وكانوا متمرسين على ذلك، وهذه الممارسة أكسبتهم قوة يفهمون من خلالها مراد الشارع، وما يصلح من الأدلة، وما لا يصلح، وعرفوا كل ذلك بسبب مشاهدتهم نزول الوحي، وسماعهم الحديث من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن كانت تلك صفاتهم فإنهم عارفون لكل ما يبحث في علم أصول الفقه، وإن لم يسموه بهذا الاسم. ولكن بعد ذهابهم قد فسدت الألسن، وتغيرت المفهوم، وكثرت الحوادث التي تحتاج إلى المجتهد لاستنباط أحكام شرعية لتلك الحوادث، فالشخص الذي يريد بلوغ درجة الاجتهاد لاستنباط أحكام شرعية لتلك الحوادث من الكتاب والسُّنَّة يحتاج إلى قواعد يستند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 إليها؛ ليكون أخذه منهما صحيحاً، فوضع الإمام الشافعي قواعد لذلك وجمعها في علم مستقل، وسماه بأصول الفقه، وهي تسمية صحيحة مطابقة لمسماها، والمقصود: أدلة الفقه والقواعد التي يستند إليها الفقيه، إذا أراد استنباط حكم شرعي من دليل تفصيلي. الشبهة الرابعة: أن هذا العلم لا يُتعلَّم - لقصد صحيح، بل يُتعلَّم للرياء والسمعة. جوابها: يجاب عنها بأن هذا غير صحيح جملة وتفصيلاً، حيث إنا بينا القصد من تعلم أصول الفقه، وهو معرفة كيفية استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة. وكل شخص سيحاسب عن قصده في تعلم أيِّ علم من العلوم. الشبهة الخامسة: أن هذا العلم يتعلم للتغالب والجدال والمناظرة، لا لقصد صحيح. جوابها: يجاب عنها بأن الجدال الموجود في أصول الفقه وسيلة إلى الحق، وإذا كان الجدال بهذه الصفة لا يعاب به، ولا تنقص قيمته من أجله، حيث إن الجدال الحق من شأن اللَّه تعالى، وشأن خاصته من رسله وأنبيائه. فقد أقام اللَّه سبحانه الحجج وعامل عباده بالمناظرة، فقال: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) ، وقال: (فللَّه الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين) ، وقال لملائكته: (ألم أقل لكم إني أعلم غيب السموات والأرض) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 وذلك لما قالت الملائكة: (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء) . وتناظرت الملائكة، قال تعالى: (ما كان لي من علم بالملأ الأعلى إذ يختصمون) ، وتجادلت الأنبياء فيما بينهم، فقد روى أبو هريرة - رضي اللَّه عنه -: أنه احتج آدم وموسى، فقال موسى: يا آدم، أنت أبونا، أخرجتنا من الجنَّة، فقال له آدم: أنت موسى اصطفاك اللَّه بكلامه، أتلومني على أمر قدره اللَّه عليّ قبل أن يخلقني بأربعين سنة، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "فحج آدم موسى، فحج آدم موسى". وجادلت الأنبياء أممها وحاجتها، قال تعالى: (قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا) ، وقال: (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن) ، وقال: (وجادلهم بالتي هي أحسن) . والجدال كالسيف. فالسيف ذو حدين: ممدوح، ومذموم. فإن السيف يمدح إذا استعمل في الجهاد في سبيل اللَّه. ويكون مذموماً إذا استعمل في قطع الطريق، وإخافة المسلمين. فالسيف في نفسه آلة لا تمدح ولا تذم، وإنما الذم والمدح حسب الاستعمال. فكذلك الجدال في نفسه لا يذم ولا يمدح، وإنما المدح والذم حسب الاستعمال. فمن استعمل الجدال في صرف الحق إلى الباطل، فهو مذموم. ومن استعمل الجدال للوصول إلى الحق الذي أمر اللَّه به، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 ممدوح، والجدال الذي جاء به أصول الفقه استعمل للوصول به إلى الحق، فيكون على هذا ممدوحا. الشبهة السادسة: أن أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من علوم شتى، حيث إن بعضه مأخوذ من اللغة، كالكلام عن الأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد، والمجمل، والمبين، والمنطوق، والمفهوم، والحقيقة، والمجاز، ونحو ذلك. وبعضه مأخوذ من النحو كالكلام عن حروف المعاني، والكلام عن الاستثناء، ونحو ذلك. وبعضه مأخوذ من القرآن وعلومه، كالكلام عن مباحث النسخ، والقراءة الشاذة، ووجود المجاز في القرآن -، وهل فيه ألفاظ بغير العربية، والمحكم والمتشابه، ونحو ذلك. وبعضه مأخوذ من السُّنَّة، كالكلام عن الآحاد والمتواتر، والمشهور، وحجية كل نوع، وشروط الراوي المتفق عليها والمختلف فيها. وبعضه مأخوذ من أصول الدين وعلم الكلام، كالكلام عن الحكم الشرعي وأقسامه، وأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -، والتأسي به، وتكليف ما لا يطاق، وتكليف المعدوم، وشرط الإرادة في الأمر، ومسألة التحسين والتقبيح العقليين، ومسألة شكر المنعم، ونحو ذلك. وبعضه مأخوذ من علم الفقه وعلم الجدل، كالكلام عن القياس، وقوادح العِلَّة، والتعارض والترجيح. وهكذا علمت أن علم أصول الفقه ما هو إلا نبذ قد جمعت من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 تلك العلوم، فمن أراد أن يتعلم تلك المباحث فليتعلمها من تلك العلوم، دون الرجوع إلى علم أصول الفقه، وبهذا لو جرد الذي ينفرد به أصول الفقه ما كان إلا شيئاً يسيراً جداً، فتصير فائدة أصول الفقه قليلة جداً بعكس ما كنت قد صورته لنا من أن له فوائد كثيرة. جوابها: أجيب عنها بأنه لا ينكر أن علم أصول الفقه قد استمد من تلك العلوم التي ذكرتموها. ولكن اهتم الأصوليون بتلك المباحث ودرسوها دراسة تختلف عن دراستها لو أخذت من تلك العلوم مباشرة، فقد دقق الأصوليون في فهم أشياء لم يصل إليها المتخصصون بتلك العلوم. فمثلاً: توصل الأصوليون إلى فهم أشياء من كلام العرب لم يصل إليها النحاة ولا اللغويون، فالنظر في كلام العرب متشعب، فكتب اللغة تضبط الألفاظ ومعانيها الظاهرة، واشتقاقاتها، دون المعاني الدقيقة التي تحتاج إلى نظر الأصولي المتعمق بالعلوم الشرعية وقواعده، فلقد توصل الأصوليون إلى أحكام في الاستثناء، لم يتوصل إليها النحاة في كتبهم، كذلك صيغة " افعل " أو صيغة "لا تفعل "، ودلالة الأولى على الوجوب، ودلالة الثانية على التحريم، وغير ذلك من الاستعمالات لو بحثت عن ذلك في كتب اللغة لم تجد شيئاً من ذلك. فالأصوليون يبحثون فيما أخذوه من تلك العلوم - وهي علم اللغة والنحو، وأصو ل الدين، والقرآن، والسُّنَّة، والفقه، والجدل - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 بحثاً خاصاً في جهة الأدلة الموصلة إلى الأحكام الشرعية الفقهية، وأحوال تلك الأدلة. فنظرة الأصولي إلى ما أخذه من تلك العلوم تختلف عن نظرة المتخصصين بتلك العلوم. وبهذا لا يمكن أن يتعلم طالب العلم مباحث الأصوليين بالرجوع إلى تلك العلوم، دون الرجوع إلى ما وضع في علم أصول الفقه. فثبت بذلك أن أصول الفقه فيه ما لا يوجد في غيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 المبحث الثامن هل يُقدَّم تعلُّم أصول الفقه أم تعلُّم الفقه؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن تعلُّم أصول الفقه يقدم على تعلم الفقه. ذهب إلى ذلك أبو إسحاق الشيرازي في " شرح اللمع "، وابن برهان في " الوصول "، وابن عقيل في " الواضح "، وأبو بكر القفال الشاشي، وغيرهم. وهو الصحيح عندي، وذلك ليكون المتعلم على ثقة مما يدخل فيه، ويكون قادراً على فهم مرامي جزئيات الفقه، فالفروع لا تدرك إلا بأصولها، والنتائج لا تعرف حقائقها إلا بعد تحصيل العلم بمقدماتها، وعلى هذا: ينبغي أن تحفظ الأدلة، وتحكم الأصول، ثم حينئذِ تبنى عليها الفروع، لذلك تجد بعض الفقهاء من المالكية وغيرهم يَجعلون القواعد الأصولية كمقدمة لكتبهم الفقهية. المذهب الثاني: أن تعلُّم الفقه والفروع يُقدم على تعلُّم الأصول. ذهب إلى ذلك أبو يعلى في " العدة "، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: إن من لم يعتد طرق الفروع والتصرف فيها لا يمكنه الوقوف على ما يبتغى بهذه الأصول من الاستدلال، والتصرف في وجوه القياس. أي: أنه بتعلُّم الفروع تحصل الدربة والملكة التي تجعله يستفيد من تلك الأصول والقواعد استفادة صحيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 جوابه: يُجاب عنه: بأنه يمكنه الوقوف على المقصود بتلك القواعد الأصولية بمجرد ضرب مثال أو مثالين من الفقه. والحاصل: أنه إذا أتقن علم أصول الفقه أمكنه التوصل إلى الأحكام بصورة صحيحة، قال العكبري: " أبلغ ما يتوصل به إلى إحكام الأحكام أصول الفقه وطرف من أصول الدين ". بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إنه لا تأثير لذلك الخلاف في الأصول ولا في الفروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المبحث التاسع في بيان المصادر التي استمد منها علم أصول الفقه أصول الفقه قد استمد مادته من مصادر كثيرة - وقد سبق بيان ذلك في الشبهة السادسة - ولكن هنا سأحصر تلك المصادر، وأُبيِّن سبب استمداده من كل علم، فأقول: استمد أصول الفقه مادته من مصادر كثيرة، وأهمها ثلاثة: المصدر الأول: أصول الدين. المصدر الثاني: علم اللغة العربية. المصدر الثالث: الأحكام الشرعية. أما أصول الدين - وهو علم الكلام -: فإن علم أصول الفقه قد استمد منه: مسائل، من أهمها: مسألة الحاكم، والتحسين والتقبيح العقليين، والتكليف بما لا يطاق، وتكليف المعدوم، وحكم الأشياء قبل البعثة، والمجتهد يخطئ ويصيب، وخلو الزمان من مجتهد، وشكر المنعم، وبعض مسائل النسخ، وشرط الإرادة في الأمر، ونحو ذلك. وسبب استمداده من أصول الدين وهو علم الكلام هو: توقف الأدلة الشرعية على معرفة البارئ، وصدق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - المبلغ عنه فيما قال لتعلم حجيتها وإفادتها للأحكام الشرعبة. أما اللغة العربية: فإن علم أصول الفقه قد استمد منها مسائل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ومنها: - الأوامر والنواهي، والعموم والخصوص، والمطلق والمقيد، ومعاني الحروف، والمجمل والمبين، والحقيقة والمجاز، والاستثناء، والمنطوق، والمفهوم، والإشا رة، والتنبيه، والاقتضاء، والإيماء، ونحو ذلك. وسبب استمداده من اللغة العربية هو: أن كتاب اللَّه وسُنَّة رسوله قد نزلا بلغة العرب، فيحتاج إلى معرفة قدر كبير من اللغة العربية يستطيع بسببها معرفة دلالة الأدلة وفهمها وإدراك معانيها. فلا يمكنه فهم دلالات الألفاظ من الكتاب والسُّنَّة، والأقوال المنقولة عن مجتهدي الأُمَّة، وأقوال السَّلَف والخلف إلا إذا كان فاهما للغة العربية، واستعمالاتها. وأما الأحكام الشرعية، فإن علم أصول الفقه قد استمد منه بسبب: أن المقصود والغرض من هذا العلم هو - إثبات الأحكام الفرعية، فلا بد للأصولي أن يعرف قدراً ليس بالقليل من الفقه والأحكام الشرعية، ليتمكن عن طريق معرفته تلك من إيضاح المسائل، وضرب أمثلة لتصوير القاعدة الأصولية، وليتأهل بالبحث فيها للنظر والاستدلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المبحث العاشر في نشأة علم أصول الفقه كان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في زمن - صلى الله عليه وسلم - إذا حدثت حادثة أخذوا حكمها من الوحي، سواء كان مباشراً وهو القرآن، أو غير مباشر وهو السُّنَّة، فكانوا يلجأون في هذا كله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. فلما توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - كان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يأخذون حكم أي حادثة من الكتاب، فإن لم يجدوا حكمها فيه، أخذوه من السُّنَّة، فإذا لم يجدوا في السُّنَّة، اجتهدوا وبحثوا عن الأشباه والأمثال، - ومعرفة العلل الشرعية، فيقيسون ما لم يكن بما كان، ويجتهدون في معرفة المقاصد والمصالح، ونحو ذلك، ويحرصون كل الحرص على الأخذ برأي الجماعة. وسار التابعون - رحمهم اللَّه - على هذا المنهج، وزاد بعضهم أصلاً آخر، وهو الرجوع إلى فتاوى الصحابة - رضي اللَّه عنهم -. فكثر الاجتهاد، وكثرت طرقه، وتعددت وجوهه، فبعضهم يكتفي بظاهر النص، وبعضهم لا يكتفي بذلك، بل يغوص على المعاني، فيرى أن أكثر الأحكام معللة، ثم يبنون على هذه العلل الأحكام وجوداً وعدماً. فلما جاء عصر الأئمة المجتهدين: أصبح لكل إمام قواعد قد اعتمدها في الفتوى والاجتهاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 وهذه القواعد موجودة ومنتشرة في مواضع مختلفة في كتبهم وكتب تلاميذهم، وقد راعى هؤلاء الأئمة المجتهدون هذه القواعد في معرفة الأحكام الشرعية، وكيفية استنباطها من أدلتها التفصيلية، ومن هؤلاء الإمام الشافعي - رحمه اللَّه - الذي وضع قواعده التي اعتمدها في كتاب سمّاه بـ " الرسالة "، والإمام الشافعي لم يضع القواعد الأصولية - كلها - في هذا الكتاب، ولكنه بهذا العمل لفت أنظار العلماء من الباحثين المدققين إلى متابعة التدقيق، والبحث والترتيب حتى أصبح علم أصول الفقه علما مستقلاً رتبت أبوابه، وحررت أكثر مسائله، وجمعت مباحثه، وألَّفت فيه المؤلفات والمصنفات على اختلاف في الطرق التي اتبعوها في التأليف والتصنيف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 المبحث الحادي عشر طرق التأليف في أصول الفقه وأهم الكتب المؤلفة على كل طريقة العلماء والباحثون في أصول الفقه اختلفوا في الطرق التي اتبعوها في التأليف والتصنيف في أصول الفقه، فنشأ عن ذلك كثير من الطرق هي كما يلي: الطريقة الأولى: طريقة الحنفية. الطريقة الثانية: طريقة الجمهور. الطريقة الثالثة: الجمع بين الطريقتين. الطريقة الرابعة: طريقة تخريج الفروع على الأصول. الطريقة الخامسة: طريقة عرض أصول الفقه من خلال المقاصد، والمفهوم العام. وإليك بيان ذلك: أما الطريقة الأولى - وهي: طريقة الحنفية - فإنها تتميز بأمرين: أولهما: أنها تقرر القواعد الأصولية على مقتضى ما نقل من الفروع عن أئمتهم. ثانيهما: أنها تغوص على النكت الفقهية. وسميت هذه الطريقة بطريقة " الفقهاء "؛ لأنها أمس بالفقه، وأليق بالفروع، وسبب ذلك: أن تلك القواعد قد أخذت من الفروع؛ ذلك لأن الحنفية المتأخرين لاحظوا واستقرأوا وتتبعوا الفتاوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الصادرة عن أئمتهم المتقدمين، فعمدوا إلى تلك الفتاوى والفروع واستخلصوا منها القواعد والضوابط، وجعلوها أصولا لمذهبهم لتكون لهم سلاحا في مقام الجدل والمناظرة. وقد ألِّف على هذه الطريقة كتب كثيرة، ومنها: 1 - مآخذ الشرائع لأبي منصور الماتريدي. 2 - رسالة في الأصول لأبي الحسن الكرخي. 3 - الفصول في الأصول لأبي بكر الجصاص. 4 - تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي. 5 - أصول البزدوي، مطبوع مع كشف الأسرار لعبد العزيز البخاري. 6 - مسائل الخلاف لأبي عبد اللَّه الصيمري. 7 - أصول السرخسي لأبي بكر السرخسي. 8 - ميزان الأصول لأبي بكر السمرقندي. 9 - المنار لأبي البركات عبد اللَّه النسفي. وذكرت جانبا من تلك الطريقة في كتابي: " طرق دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفية وأثرها الفقهي ". أما الطريقة الثانية - وهي طريقة الجمهور - فإنها تتميز بما يلي: أولاً: أنها اهتمت بتحرير المسائل، وتقرير القواعد على المبادئ المنطقية. ثانيا: الميل الشديد إلى الاستدلال العقلي. ثالثاً: البسط في الجدل والمناظرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 رابعاً: تجريد المسائل الأصولية عن الفروع الفقهية، وقد أشبهت بذلك طريقة أهل الكلام، لذلك سميت طريقتهم بطرياقة المتكلمين. وهذه الطريقة قد سار عليها علماء الشافعية، والمالكية، والحنابلة، والظاهرية، والمعتزلة، وذلك من حيث الترتيب والتنظيم. وإليك ذكر بعض الكتب التي أُلِّفت على هذه الطريقة، ولقد رتبت ذلك على المذاهب: أولاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب المالكي على حسب مذهب المؤلف: 1 - التقريب والإرشاد في ترتيب طرق الاجتهاد للقاضي أبي بكر الباقلاني. 2 - إحكام الفصول في أحكام الأصول، والإشارة، والحدود - كلها لأبي الوليد الباجي. 3 - منتهى السول والأمل في علمي الأصول والجدل لابن الحاجب، وقد اختصر هذا الكتاب بكتاب سمَّاه: " مختصر المنتهى ". وشرح هذا المختصر كثير من العلماء، ومنهم: (أ) عضد الدين الإيجي، شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح المختصر". (ب) ابن السبكي تاج الدين شرحه بكتاب سمَّاه: " رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب ". (ج) شمس الدين الأصفهاني (ت 749 هـ) شرحه بكتاب سمَّاه: " بيان المختصر ". 4 - الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لحلولو المالكي، حققته وطبع بعض المجلدات منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 5 - شرح تنقيح الفصول لشهاب الدين القرافي. 6 - نفائس الأصول شرح المحصول للقرافي، وقد قمت بتحقيق جزء منه، ولم يطبع. 7 - شرح البرهان للمازري. ثانيا: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الشافعي على حسب مذهب المؤلف: 1 - الرسالة للإمام الشافعي، وقد شرح هذه الرسالة الإمام الصيرفي، والقفال الشاشي الكبير، وأبو محمد الجويني، وغيرهم. 2 - اللمع، وشرح اللمع، والتبصرة لأبي إسحاق الشيرازي. 3 - البرهان، والتلخيص، والورقات لإمام الحرمين. 4 - قواطع الأدلة لابن السمعاني. 5 - المستصفى، والمنخول، وشفاء الغليل وأساس القياس للغزالي. 6 - الوصول إلى الأصول لابن برهان. 7 - الإحكام في أصول الأحكام للآمدي. 8 - المحصول للرازي، وقد شرحه كل من القرافي في " نفائس الأصول "، وشمس الدين الأصفهاني (ت 688 هـ) في: "الكاشف عن المحصول ". واختصره كل من: تاج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: " الحاصل من المحصول ". سراج الدين الأرموي في كتاب سمَّاه: "التحصيل من المحصول ". النقشواني في كتاب سمَّاه: " تلخيص المحصول ". التبريزي في كتاب سماه: " تنقيح المحصول ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 9 - منهاج الوصول إلى علم الأصول للبيضاوي، وشرحه كثير من العلماء، ومنهم: شمس الدين الأصفهاني شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح منهاج البيضاوي "، وقد حققته وطبع بمجلدين. الإسنوي شرحه في كتاب سمَّاه: " نهاية السول ". ابن السبكي شرحه في كتاب سمَّاه: " الإبهاج في شرح المنهاج ". البدخشي شرحه في كتاب سمَّاه: " مناهج العقول ". 10 - البحر المحيط للزركشي. ثالثاً: بعض الكتب المؤلَّفة على المذهب الحنبلي - على حسب مذهب المؤلف: 1 - العدة لأبي يعلى. 2 - التمهيد لأبي الخطاب. 3 - الواضح لابن عقيل. 4 - روضة الناظر وجنة المناظر لابن قدامة، وقد قمتُ بتحقيقه، وطبع بثلاثة مجلدات. 5 - شرح الكوكب المنير لابن النجار. 6 - إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر، قمتُ بتأليفه وطبع في ثمان مجلدات. رابعا: الكتب المؤلفة على المذهب الظاهري: 1 - الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم. 2 - النبذ لابن حزم. خامسا: الكتب المؤلفة على المذهب المعتزلي: 1 - العمد للقاضي عبد الجبار بن أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 2 - المعتمد لأبي الحسين البصري. 3 - شرح العمد لأبي الحسين البصري. أما الطريقة الثالثة - وهي الجمع بين طريقة الحنفية وطريقة الجمهور - فقد حقق من جمع بين الطريقتين القواعد الأصولية، وأثبتها بالأدلة النقلية والعقلية، وطبقوها في الفروع الفقهية، فجاءت مؤلفاتهم مفيدة في خدمة الفقه، وتمحيص الأدلة، وكتب في هذه الطريقة جمع من علماء الجمهور، وعلماء الحنفية، ومن أهم كتبهم ما يلي: 1 - بديع النظام الجامع بين أصول البزدوي والأحكام للساعاني. 2 - تنقيح أصول الفقه، وشرحه التوضيح لصدر الشريعة، وقد شرحه التفتازاني في كتاب سمَّاه: " التلويح ". 3 - جمع الجوامع لتاج ابن السبكي، وقد شرحه كثيرون، ومنهم: (أ) جلال الدين المحلي شرحه بكتاب سمَّاه: " شرح جمع الجوامع ". (ب) الزركشي شرحه بكتاب سمَّاه: " تشنيف المسامع ". (ب) حلولو المالكي شرحه بكتاب سمَّاه: " الضياء اللامع "، وقد حققته. 4 - التحرير لكمال الدين ابن الهمام، وقد شرحه كثيرون، ومنهم: أمير الحاج شرحه بكتاب سمَّاه: " التقرير والتحبير ". أمير بادشاه شرحه بكتاب سماه: " تيسير التحرير ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 5 - مسلم الثبوت لمحب الدين بن عبد الشكور الحنفي، وقد شرحه الأنصاري في كتاب سمَّاه: " فواتح الرحموت ". 6 - كتابي هذا، فإنه يعتبر من هذه الطريقة، وهو " المهذب في علم أصول الفقه المقارن ". أما الطريقة الرابعة - وهي طريقة تخريج الفروع على الأصول - فهي تتميز بذكر خلاف الأصوليين في المسألة، مع الإشارة إلى بعض أدلة الفِرَق المختلفة، ثم ذكر عدد من المسائل الفقهية المتأثرة بهذا الخلاف، والغاية منها هو: ربط الفروع بالأصول، ولا يذكر في الكتب المؤلَّفة على هذه الطريقة إلا المسائل التى اختلف العلماء فيها، والخلاف فيها معنوي له ثمرة، أما إذا كان الخلاف لفظيا فلا يرد فيها، لذلك صنَّفت كتابا ذكرت فيه المسائل التي جاء الخلاف فيها لفظيا، وقد طبع في مجلدين. وقد أُلِّف على هذه الطريقة - وهي الطريقة الرابعة - مؤلفات كثيرة، ومنها: 1 - تخريج الفروع على الأصول للزنجاني " شافعي ". 2 - مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للتلمساني "مالكي ". 3 - التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي "شافعي ". 4 - القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحام " حنبلي ". أما الطريقة الخامسة - وهي طريقة عرض أصول الفقه من خلال المقاصد - فلم تسلك هذه الطريقة مسلك المتقدمين، وهي: ذكر القواعد تحت عناوين وأبواب معينة، بل سلكت طريقة أخرى وهي: عرض أصول الفقه من خلال مقاصد الشريعة، والمفهوم العام الكلي للتكليف، وقد ألَّف على هذه الطريقة أبو إسحاق الشاطبي المالكي كتابه: " الموافقات في أصول الشريعة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الفصل الثاني مقدمة في المصطلحات التي يحتاج إليها دارس علم أصول الفقه ويشتمل على مباحث: المبحث الأول: بيان التصوُّر والتصديق. المبحث الثاني: بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بها تدرك العلوم. المبحث الثالث: في الحد وأقسامه. المبحث الرابع: في البرهان وما يتعلق به. المبحث الخامس: في الألفاظ. المبحث السادس: في المعاني وأقسامها. المبحث السابع: في تأليف مفْردات المعاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 المبحث الأول في بيان التصوّر والتصديق اعلم إنه لا يمكن أن تحيط بعلم شيء من الأشياء أو أمر من الأمور إلا إذا عرفت مفرداته أولاً، ثم عرفت وأدركت نسبة تلك المفردات بعضها إلى بعض. فيكون إدراك العلوم على ضربين هما: " التصوُّر " و " التصديق ". فأما الضرب الأول وهو التصوُّر فهو علم الذوات المفردة - فقط - كأن تعلم معنى " العالم "، ومعنى " الحادث "، ومعنى "الجسم "، ومعنى " القديم "، ومعنى " الحركة "، نعلم معاني تلك الكلمات، ونفهمها كل واحدة على حدة بدون إضافتها إلى غيرها، وهذا يُسمَّى بالتصوّر. أي: إدراك وفهم وعلم ماهية الشيء بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، فلم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن - فقط -. والتصور لا يمكن أن يدخله التصديق أو التكذيب، لأمرين: أولهما: أن إدراك الذوات المفردة وعلمها فقط هو: إدراك لماهية الشيء بلا حكم عليها بنفي أو إثبات، فأين الذي يُصدَّق أو يُكذَّب؟ تانيهما: أن التصديق والتكذيب لا يتطرق إلا إلى الخبر، والذوات المفردة، مثل: " العالم "، و " الإنسان "، و " السماء "، ليست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أخباراً؛ لأن أقل ما يتركب منه الخبر مفردان ينسب أحدهما إلى الآخر. فالتصوُّر هو: إدراك الحقائق مجردة عن الأحكام. وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرفه ابن سيناء بقوله: " هو العلم الأول، ويكتسب بالحد وما يجري مجراه مثل تصورنا ماهية الشيء "، وعرَّفه ابن رشد: " بأنه العلم بماذا يدل عليه اسم الشيء". وسمي - تصوراً؛ لأنه لم يحصل سوى صورة الشيء في الذهن. ويسميه النحاة: مفرداً. أقسام التصوُّر: * والتصؤُر - وهو إدراك وفهم المفردات وحدها - قسمان: القسم الأول: أَوَّلي: وهو: ما يُفهم معناه من غير بحث أو طلب، وهو المُسمَّى بـ " الضروري "، وهو الذي لا يحتاج إلى إدراكه وفهمه ومعرفته إلى تأمل ونظر، مثل: لفظ " الموجود "، فإن كل شخص يعلم ضرورة أن هذا الشيء موجود وليس بمعدوم، وكذلك الحرارة، والبرودة، والبياض، والسواد، ونحو ذلك من المفردات التي تدرك وتعلم بمجرد الحس. القسم الثاني: مطلوب، وهو: ما لا يفهم معناه إلا ببحث وطلب، وهو المُسمَّى بـ " النظري "، وهو الذي يحتاج لمعرفة وفهم معناه إلى تأمل ونظر، حيث إن الاسم يدل على أمر مجمل غير مفصل أو مفسر، فيطلب تفسيره بالحد والبيان، مثل: إدراك معنى " العقل " و " الجوهر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وأما الضرب الثاني وهو التصديق فهو: علم نسبة المفردات بعضها إلى بعض بالنفي، أو الإثبات، فمثال نسبة مفرد إلى مفرد آخر بالنفي قولك: " الجسم ليس بمتحرك "، و " العالم ليس بحادث ". ومثال نسبة مفرد إلى مفرد آخر بالإثبات قولك: " الجسم متحرك " وقولك: " العالم حادث " و " زيد كاتب ". وهذا يمكن أن يتطرق إليه التصديق والتكذيب؛ لأن فيه نسبة شيء إلى شيء آخر، وهذا لا يكون إلا من مفردين، فيكون الأول وصفا والآخر موصوفاً، فإذا نسب الوصف إلى الموصوف بإثبات أو نفي، كأن تقول: " العالم حادث "، و " الجسم متحرك "، أو تقول: "العالم ليس بحادث "، فإن هذا قابل للصدق والكذب. أي: أن هذه النسبة قد تكون صحيحة، فيكون صادقا، وقد تكون غير صحيحة فيكون كاذبا. والتصديق هو: إدراك نسبة حكمية بين الحقائق بالإيجاب أو النفي. وهذه تسمية أهل المنطق، لذلك عرَّفه ابن رشد بأنه: " العلم بأن الشيء موجود أو غير موجود ". وسمي تصديقاً؛ لأن فيه حكماً قد يصدق فيه، أو يكذب. فإن قلت: لماذا سموه بالتصديق مع احتمال الكذب؟ قلت: سمي بأشرف لازمي الحكم في النسبة. ويسميه النحاة: " جملة ". وكل علم يتطرق إليه التصديق، فمن ضرورته ولازمه أن يتقدم عليه معرفتان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الأولى: معرفة المفرد - فقط - وهو معرفة البسيط - مثل: " العالم "، و " الحادث ". الثانية: معرفة نسبة ذلك المفرد إلى مفرد آخر - وهو معرفة المركب - مثل: " العالم حادث ". فلا يمكن للشخص أن يعرف المركب من مفردين إلا إذا عرف المفردين واحداً واحداً، فمن لا يفهم معنى " العالم " بمفرده ويتصوره، ولا يعرف معنى " الحادث " بمفرده ويتصوره، فكيف يعرف أن " العالم حادث "؟ فكل تصديق متضمن لعدة تصورات: تصوُّر المحكوم عليه، وتصوُّر المحكوم به، وتصوّر نسبة أحدهما إلى الآخر، فالحكم يكون تصوراً رابعاً، لأنه تصور تلك النسبة هل هي موجبة أو تصورها منفية. فمثلاً: إذا قلنا: " زيد قائم "، فقد اشتمل قولنا هذا على تصورات أربعة: 1 - تصوُّر المو ضوع وهو " زيد ". 2 - تصوُّر المحمول وهو " قائم ". 3 - تصور النسبة بينهما وهو " تعلق المحمول بالموضوع " أي: تصور قيام زيد. 4 - تصور وقوع القيام من زيد. فالتصديق هو: التصوُّرات الأربعة عند الرازي، وعلى هذا يكون التصديق مركباً من الحكم والتصورات الثلاث باعتبارها أجزاء له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 أما عند الحكماء، فإن التصور الرابع يسمى تصديقا، والثلاثة قبله شروط له. أقسام التصديق: كما انقسم التصوُّر إلى قسمين: أَوَّلي، ومطلوب، كذلك التصديق وهو معرفة وإدراك نسبة المفردات بعضها إلى بعض - ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: أوَّلي: وهو الذي يفهم معناه من غير نظر ولا بحث، وهو المُسمَّى بـ " الضروري "، وهو ما يدركه الإنسان بالضرورة بدون تأمل وطلب مثل: إدراك وقوع النسبة في قولنا: "الخمسة نصف العشرة "، و " الواحد نصف الاثنين "، و " السماء فوقنا "، و " النار محرقة "، و " الثلج بارد "، ونحو ذلك مما يتوصل إليه الإنسان بدون أي تفكير. القسم الثاني: مطلوب، وهو الذي لا يفهم معناه، ولا يدرك إلا ببحث وطلب واستدلال، وهو المُسمَّى بـ " النظري "، أي: الذي يحتاج إلى نظر وتأمل وتفكير، مثل: إدراك وقوع النسبة في قولنا: " الواحد نصف سدس الاثني عشر "، وإدراك النسبة في قولنا: " العالم حادث "، ونحو ذلك مما لا يتوصل إليه الشخص إلا بعد تفكير دقيق وتأمل طويل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المبحث الثاني في بيان كيف أن الحد والبرهان هما الآلة التي بها تدرك العلوم لقد علمنا في المبحث الأول أن إدراك العلوم على ضربين: التصوُّر وهو: إدراك المفردات، والتصديق وهو: إدراك النسبة بين تلك المفردات. وعلمنا - أيضاً - أن كلًّا منهما ينقسم إلى أوَّلي، ومطلوب. إذا علمت ذلك فاعلم أن المطلوب، وهو الذي لا يعرف إلا بطلب وبحث ونظر من التصوُّر لا يمكن أن يعرف ويفهم إلا بالحد. وكذا المطلوب من التصديق لا يمكن أن يفهم إلا بالبرهان. فالحد والبرهان هما الالة التي بها تفهم وتدرك سائر العلوم المطلوبة. فمثال التصوُّر: أن يسمع الإنسان اسما لا يفهم معناه، كمن قال: " ما العقار؟ "، فتقول له: هو الخمر، فإن لم يفهمه باسمه يفهم بحده، فيقال له: " الخمر هو: شراب معتصر من العنب مسكر "، فيحصل بذلك علم تصوري بذات الخمر. ومثال التصديق: أن يجهل الإنسان أن للعالم صانعا، فيقول: هل للعالم صانع؛ فتقول له: نعم للعالَم صانع، وتُبيِّن ذلك بالحُجة والبرهان والأدلة التي لا تقبل الشك. ولذلك كان لا بد من بيان الحد وما يتعلق به، والبرهان وما يتعلق به في المباحث التالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 المبحث الثالث في الحد وأقسامه ويشتمل على أربعة مطالب: المطلب الأول: تعريف الحد لغة واصطلاحا، وبيان أقسامه. المطلب الثاني: الحد الحقيقي وشروطه، وأقسامه. المطلب الثالث: الحد الرسمي وشروطه، وأقسامه. المطلب الرابع: الحد اللفظي وشروطه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 المطلب الأول في تعريف الحد، وبيان أقسامه، وسبب ذلك أولاً: الحد لغة هو: المنع، ومنه سمي البواب حداداً؛ لأنه يمنع من دخول الدار، وسميت بعض العقوبات حدوداً؛ لأنها تمنع من العود إلى المعصية، وسمي التعريف حداً؛ لأنه يمنع غير أفراد المعرف من الدخول، ويمنع أفراد المعرف من الخروج. ثانيا: الحد اصطلاحا: هو الوصف المحيط: لموصوفه المميز له عن غيره. ففائدة الحد هي: التمييز بين المحدود وبين غيره. ثالثا: أقسام الحد: ينقسم الحد إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الحد الحقيقي. القسم الثاني: الحد الرسمي. القسم الثالث: الحد اللفظي. رابعا: سبب هذا التقسيم: السبب في هذا التقسيم: أنه إما أن يكون الحد بحسب اللفظ، أو بحسب المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 أما الأول - وهو: الحد بحسب اللفظ - فهو الحد اللفظي. وأما الثاني - وهو: الحد بحسب المعنى - فلا يخلو: إما أن يكون الحد مشتملاً على جميع الذاتيات أو لا. فإن اشتمل على جميع الذاتيات فهو الحد الحقيقي؛ حيث إنه يفيد جميع حقائق الذاتيات. وإن لم يشتمل على ذلك: فهو الحد الرسمي. وسيأتي بيان كل حد وشروطه بالتفصيل إن شاء اللَّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المطلب الثاني في الحد الحقيقي وشروطه وأقسامه أولاً: تعريف الحد الحقيقي: الحد الحقيقي هو: هو الذي ينبى عن جميع ذاتياته الكلية المركبة. شرح التعريف: معنى هذا الحد: أن الحد الحقيقي معرِّف دال على جميع الذاتيات الكلية. فقوله: "هو الذي ينبى" جنس في التعريف يشمل الحقيقي وغيره. وقوله: " جميع ذاتياته ": أخرج التعريف بالعرضيات، وببعض الذاتيات. وقوله: " الكلية ": أخرج العينات والمشخصات، حيث إنها ذاتية للشخص من حيث هو شخص، لكن لا يحد بها؛ لأن الحد للكليات، لا للمشخصات. وقوله: " المركبة ": أخرج الذاتيات التي لم يعتبر تركيبها على وجه تحصل لها صورة وحدانية مطابقة للمحدود، فإنها لا تسمى حداً حقيقياً. ولا يورد في الحد الحقيقي إلا الصفات الذاتية، دون الصفات اللازمة والعرضية، ولكي نعرف ذلك لا بد من بيان الفرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 بين الصفات الذاتية، والصفات اللازمة، والصفات العرضية، فأقول: الوصف الذاتي هو: الوصف الداخل في حقيقة الشيء الموصوف دخولاً لا يمكن أن يتصور شخص فهم معنى ذلك الشيء بدون فهم ذلك الشيء. مثال ذلك: " الجسمية للشجر "، فإن من فهم الشجر فقد فهم - لا محالة - جسماً مخصوصاً معيناً، فتكون الجسمية داخلة في ذات الشجرية دخولاً به قوامها في الوجود. والعقل لو قدر عدم الجسمية لبطل وجود الشجر، وكذلك لو قدر العقل خروج الجسمية عن الذهن: لبطل فهم الشجر، فلا بد للحاد والمعرف أن يعرف أن الجسمية صفة ذاتية للمعرف الذي هو: الشجرة - هنا - فمن أراد أن يحد الشجرة أو أي نبات آخر فلا بد أن يقول: " إنه جسم نام ". والأوصاف الذاتية هي تورد في الحد الحقيقي إيراداً أولياً، وذلك لأنه يتصور بها كنه حقيقة الشيء وماهيته، لذلك ذكرناه أولاً. أما الوصف اللازم فهو: الذي لا يفارق الذات، لكن لا يتوقف عليه فهم حقيقة ذات الشيء. مثال ذلك: " الظل لشخص الفرس عند طلوع الشمس "، فالظل أمر لازم لا يمكن أن يفارق الفرس، ولكنه ليس بذاتى، وإنما هو تابع للذات ولازم له، فحقيقة الفرس قد تفهم ولو لم يفهم الظل ما هو؛ فالغافل عن وقوع الظل يمكنه أن يفهم الفرس، بل يفهم الجسم الذي هو أعم، وإن لم يخطر بباله ظله، وكذلك يقال في ظل الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 بيان وجه الاتفاق ووجه الاختلاف بين الوصف الذاتي والوصف اللازم: أما وجه الاتفاق بينهما فهو في استحالة المفارقة للذات. أما وجه الاختلاف بينهما فهو أن الوصف الذاتي لا يمكن أن يفهم المعنى دون فهم ذلك الوصف أبداً. بخلاف الوصف اللازم، فإنه يمكن أن يفهم المعنى دون فهمه. أما الوصف العارض فهو مأخوذ من عرض له الشيء إذا التصق به زماناً ثم انفصل عنه، ومنه عوارض الأهلية كالنوم، والسهو، تعترض الإنسان ثم تزول وتفارق. فالوصف العارض هو: ما ليس من ضرورته ملازمة الذات، بل يتصور الشخص أن يفارق هذا الوصف تلك الذات. وهذا الوصف العارض إما أن يكون وقته قصيراً كحمرة الخجل، فإن هذه الحمرة الناتجة عن الخجل وصف عارض يزول سريعاً بعد زوال مسببه، وهو الخجل. وإما أن يكون وقته طويلاً مثل الصبا، والشباب، والكهولة، فإن هذه صفات عرضية لمراحل عمر الإنسان تزول ولكن ببطء. وهذا بيان الفرق بين الأوصاف الذاتية، واللازمة، والعارضة، ولا بد للذي نصب نفسه لبيان الحد الحقيقي أن يعرف الفرق بينها. أقسام الأوصاف الذاتية: تنقسم الأوصاف الذاتية إلى قسمين: " جنس "، و " فصل ": أما الجنس فهو: اسم دال على كثيرين مختلفين بالأنواع كالحيوان، فإنه مشترك بين " الإنسان " و " الفرس " و " الأسد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 وقولنا: " مختلفين بالأنواع " أي: أن الجنس يشمل عدداً من الأنواع يختلف كل نوع عن الآخر بالحد، فحد الإنسان: حيوان ناطق، وحد الفرس: حيوان غير ناطق. أما الفصل فهو: ما يفصل المحدود والمعرَّف عما شاركه في الجنس وميزه عن غيره. فمثلاً نقول في حد الإنسان: " حيوان "، فإن هذا الحد يشمل الإنسان والحيوان كالفرس، ولكن إذا أضيف إلى كلمة " حيوان " كلمة أخرى وهي: " الناطق "، فإنه بهذا يفصل الإنسان عن الحيوان ويميز بذلك عن غيره مما يشاركه في جنسه. ثانياً: شروط الحد الحقيقي: يشترط للحد الحقيقي شروط، من أهمها: الشرط الأول: أن تذكر جميع ذاتيات الشيء المطلوب تحديده، وإن كانت كثيرة، وذلك ليحصل البيان الكامل للماهية. الشرط الثاني: أن تذكر جميع الذاتيات مرتبة، بحيث يقدم الأعم على الأخص، فيقدم ذكر الجنس على الفصل، فتقول في حد الخمر: " شراب مسكر "، ولا تقول: " مسكر شراب "، وتقول في حد النبات: " جسم نام "، ولا تقول: " نام جسم " فتقدم العام على الخاص. الشرط الثالث: أن الحاد والمعرف للحد الحقيقي يشترط عليه أن يكون ذا بصيرة بالفرق بين الصفات الذاتية، واللازمة، والعرضية - كما سبق بيانه -. ولا يشترط للحاد والمعرف للحد الرسمي واللفظي ذلك، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 لأن الحد الرسمي الأمر فيه سهل، والمؤنة فيه قليلة؛ حيث إن طالبه قانع بالجمع والمنع بأي لفظ كان. أما الحد اللفظي فإنه يتعلق بنفس اللفظة وشرحها. واشترطنا ذلك في الحد الحقيقي، لأنه أصعب الحدود؛ حيث إنه يذكر فيه كمال المعاني التي بها قوام ماهية الشيء. الشرط الرابع: أن تذكر في الحد الحقيقي الجنس القريب - إن وجد - وذلك لكونه أدل على الماهية، ولا تذكر معه الجنس البعيد فتكون مكرراً، ولا تقتصر على البعيد فتكون مبعداً، فتقول مثلاً - إذا سئلت عن حد الخمر -: " شراب مسكر "، لكن لا تذكر مع الجنس القريب البعيد فلا تقول - مثلاً - في ذلك المثال: " جسم مسكر مأخوذ من العنب ". الشرط الخامس: أن تحترز من إضافة الفصل إلى الجنس، فلا تقل في حد الخمر: " مسكر الشراب "، فلا يكون - حينئذٍ - الحد حقيقياً، بل يكون حداً لفظياً. الشرط السادس: أن تحترز أن تجعل بدل الجنس شيئاً كان في الماضي، ثم عدم الآن، فتقول لمن سألك عن حد الرماد: "خشب محترق "، فهذا الجواب ليس بصحيح؛ لأن الجنس وهو " الخشب " لا يوجد بل صار رماداً، ومعروف أن الرماد ليس بخشب. ثالثا؛ أقسام الحد الحقيقي: الحد الحقيقي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: حقيقي تام وهو: ما يتركب من الجنس والفصل القريبين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 مثل: أن يسألك شخص عن الإنسان، فتقول له: " حيوان ناطق " فالجنس القريب هو: " الحيوان "، والفصل القريب هو: "الناطق ". وسمي بالتام لذكر جميع الذاتيات فيه. القسم الثاني: حقيقي ناقص وهو: ما يكون بالفصل القريب وحده، أو بالفصل القريب، وبالجنس البعيد، فله صورتان: الصورة الأولى: إن ورد الحد من المجيب بفصل قريب - فقط - فهذا يُسمَّى حداً حقيقياً ناقصاً، مثاله أن يقال: ما الإنسان؛ فيقول المجيب في حده: " هو الناطق ". الصورة الثانية: إن ورد الحد من المجيب بفصل قريب مع جنس بعيد فيُسمَى هذا - أيضاً - حداً حقيقياً ناقصاً، مثاله: أن يقال: ما الإنسان؛ فيقول المجيب: " هو جسم ناطق "، فالجنس البعيد هو: " الجسم "، والفصل القريب هو: " الناطق ". وسمي بالناقص لعدم ذكر جميع الذاتيات فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 المطلب الثالث الحد الرسمي، وشروطه، وأقسامه أولاً: تعريف الحد الرسمي: الحد الرسمي هو: ما أنبأ عن الشيء بلازم له. أي: أن الحد الرسمي هو: معرِّف أنبأ عن الشيء بلازم من لوازمه، وخاصية من خصوصياته لا يوجد في غيره. مثاله: لو طلب تحديد الخمر، فإن المجيب يقول في ذلك: "هو مائع يقذف بالزبد يستحيل إلى الحموضة ". ثانياً: شروط الحد الرسمي: لكي يكون الحد الرسمي صحيحاً لا بد أن تتوفر فيه الشروط التالية: الشرط الأول: أن يكون الحدُّ مطَّرداً ومنعكساً. والطرد لغة هو: الإبعاد، واصطلاحاً هو: استلزام من جانب الوجود والثبوت، أي: إذا وجد الحد وجد الحدود، وهو: معنى كونه " مانعاً ". والعكس لغة هو: قلب الشيء ورد أعلاه إلى أسفله، واصطلاحاً هو: استلزام من جانب العدم، أي: إذا عدم الحد عدم المحدود، وهو معنى كونه جامعاً. الحاصل: أن الحد يجب أن يكون مطابقاً للمحدود في العموم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 والخصوص، فيكون جامعاً لأفراد المعرف، بحيث لا يخرج عنه أي فرد، ويكون مانعاً من دخول غيره فيه، وهو: المراد بالاطراد والانعكاس. الشرط الثاني: أن يكون هذا اللازم الذي عرَّفنا به ذلك الشيء من اللوازم الظاهرة المعروفة، فلا يجوز تحديد شيء بلازم غير معروف، كأن يقول قائل: ما الأسد؛ فيقول المجيب هو: " سبع أبخر " ليتميز بالبخر عن الكلب، فالبخر من خواص الأسد ولوازمه لكن هذا اللازم - وهو البخر - غير معروف وغير مشهور عنه، فلذلك لا يصلح أن يكون حداً، فلو قيل في الجواب: " هو سبع شجاع عريض الأعالي "، لكانت هذه اللوازم والأعراض أقرب إلى المقصود؛ لأنها معروفة مشهورة عنه. الشرط الثالث: أن يوجز الحادُّ في الحدِّ على حسب الاستطاعة. أي: أن يقتصر على ما هو أشد مناسبة للغرض. فإن لزم الأمر أن يطيل الحاد عبارات الحد، وذكر ما يبين المحدود فلا ضير في ذلك، ولا ينبغي أن ينكر عليه ذلك؛ لأنه أراد بهذه الإطالة الكشف عن حقيقة المحدود. الشرط الرابع: أن يأتي الحاد بلفظ صريح واضح، ويبتعد عن الكنايات؛ لأن الكنايات أمر لا يطلع السائل عليه، فلا يحصل له البيان، فيقع الخلل في التعريف والحد. الشرط الخامس: ألا يحد شيئاً بأخفى منه، كأن يحد " البقلة الحمقاء " بقوله: " هي العرفج "، فهذا غير سديد؛ لأن البقلة الحمقاء هي أشهر عند السامع من العرفج. الشرط السادس: ألا يحد شيئاً بما يساويه في الخفاء والظهور، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فلا يقول في حد الزوج مثلاً: هو عدد يزيد على الفرد بواحد، فهنا عرَّف الزوج بالفرد الزائد على الواحد، وهما متساويان عند التحقيق في الظهور والخفاء. الشرط السابع: ألا يحد شيئاً بألفاظ مجازية، أو بألفاظ مشتركة؛ الحد مميز للمحدود، ولا يمكن أن يحصل التميز مع الألفاظ المشتركة؛ لأن الاشتراك مخل بفهم المعنى المقصود، وكذلك لا يحصل التميز مع الألفاظ المجازية؛ حيث إن الغالب تبادر المعاني الحقيقية إلى الفهم دون المجازية. الشرط الثامن: ألا يحد شيئاً بنفي ضده، فلا يقول في حد الزوج: هو ما ليس بفرد، أو يقول في حد الفرد: هو ما ليس بزوج؛ لأنه يلزم منه الدور؛ حيث إنه عرَّف الشيء بنفسه، فلم يحصل بذلك بيان ولا توضيح ولا شرح؛ لأن مهمة الحاد هي: تبيين المحدود وتوضيحه للسائل. ثالثاً: أقسام الحد الرسمي: الحد الرسمي ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: الحد الرسمي التام وهو: ما كان بالجنس القريب والخاصة كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب: " حيوان ضاحك "، فالجنس القريب هو الحيوان، والخاصة هو الضاحك. وسمي تاماً لاشتماله على الجنس القريب وعلى الخاصة المميزة للشيء من غيره. القسم الثاني: الحد الرسمي الناقص وهو: ما كان بالجنس البعيد، والخاصة كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب هو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 جسم ضاحك "، فالجنس البعيد هو: " الجسم "، والخاصة هو: " الضاحك ". والحد الرسمي إذا عرف بالخاصة - فقط - فإنه يَكون حداً رسمياً ناقصاً، كقول السائل: ما الإنسان؛ فيقول المجيب هو: "الضاحك ". وسمي ناقصاً؛ لنقصان بعض أجزاء الرسم التام عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 المطلب الرابع الحد اللفظي، وشرطه أولاً: الحد اللفظي هو: شرح اللفظ بمرادف له أظهر وأشهر عند السائل من المسؤول عنه. فمثلاً يسأل سائل ويقول: ما الخندريس؛ فيقول المجيب والحاد: " هو الخمر "، ويسأل ويقول: ما الليث؛ فيقول المجيب: " هو الأسد ". ثانيا: شرط الحد اللفظي: يشترط للحد اللفظي: أن يكون اللفظ الذي يأتي به المجيب أظهر وأشهر من اللفظ المسؤول عنه كما مثلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المبحث الرابع في البرهان وما يتعلق به عرفنا فيما سبق أن المطلوب من التصوُّر - وهو: إدراك المفردات - لا يعلم إلا بالحد، وأن المطلوب من التصديق - وهو: إدراك النسبة بين تلك المفردات - لا يفهم إلا بالبرهان والحُجَّة. وقد بيَّنا الحد وأقسامه، وشروط كل قسم. والآن سنتكلم عن البرهان؛ لأنه هو الذي يتوصل به إلى العلوم التصديقية التي تطلب بالنظر، وذلك في المطالب الآتية: المطلب الأول: تعريف البرهان. المطلب الثاني: مم يتكون البرهان؟ المطلب الثالث: وجه لزوم النتيجة من المقدمتين. المطلب الرابع: هل تسمية البرهان بالقياس تسمية حقيقية؟ المطلب الخامس: كيف يتطرق الخلل إلى البرهان؟ المطلب السادس: أسباب مخالفة نظم البرهان. المطلب السابع: أقسام البرهان. المطلب الثامن: في اليقين ومداركه. المطلب التاسع: في الاستقراء المطلب العاشر: في التمثيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 المطلب الأول في تعريف البرهان البرهان هو: قول مؤلف من قضايا يلزم عنها لذاتها قول آخر. مثال ذلك: أن تقول في بيان البرهان على أن " العالَم حادث ": العالَم متغير، وكل متغير حادث، إذن: العالَم حادث. فعندنا مقدمتان: " مقدمة صغرى "، و " مقدمة كبرى "، و"نتيجة". أما المقدمة الصغرى فهي: العالَم متغير. أما المقدمة الكبرى فهي: كل متغير حادث. أما النتيجة فهي: العالَم حادث. ويسمى ذلك بالنتيجة والرأي الذي هو مطلوب الناظر بالنظر. والأقاويل أو القضايا إذا وضعت في البرهان لاقتباس المطلوب منها تسمى مقدمات. والمقدمات قد تكون عقلية كما سبق. وقد تكون سمعية، أو بعضها سمعي، فإن السمع يفيد اليقين كخبر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع. ولا تستغرب من جعلنا البرهان يتكون من مقدمتين - وذلك في المثال - مع أننا عرفنا البرهان بأنه قول مؤلف من قضايا وأقاويل.. والسبب في ذلك: أن المراد بالقضايا والأقاويل عند أهل المنطق: ما فوق القول الواحد، أو القضية الواحدة، بناء على أن أقل الجمع عند المناطقة اثنان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 المطلب الثاني مم يتكون البرهان؟ البرهان يتكون من مقدمتين، أي: علمين يتطرق إليهما التصديق والتكذيب، وأقل ما تحصل منه المقدمة: معرفتان توضع إحداهما مخبراً عنها، والأخرى خبراً ووصفاً. فيكون البرهان - على هذا - منقسماً إلى مقدمتين تنقسم إلى معرفتين تنسب إحداهما إلى الأخرى، وكل مفرد فهو معنى ويدل عليه لا محالة بلفظ معين، فيجب أن ينظر في المعاني المفردة وأقسامها، ثم ينظر في الألفاظ المفردة ووجوه دلالتها، ثم إذا فهمنا اللفظ مفرداً والمعنى مفرداً أَلَّفنا بذلك معنيين، وجعلناهما مقدمة، وننظر في حكم المقدمة وشروطها، ثم نجمع مقدمتين ونصوغ منهما برهاناً، وننظر في كيفية الصياغة الصحيحة. وهذا هو الطريق الحق لمعرفة البرهان. يقول التفتازاني في حاشيته: " القياس المنتج لمطلوب واحد لا يكون مؤلفا بحكم الاستقراء الصحيح إلا من مقدمتين لا أزيد ولا أنقص، لكن ذلك القياس قد تفتقر مقدمتاه، أو إحداهما إلى الكسب بقياس آخر، كذلك إلى أن ينتهي إلى المبادئ المسلَّمة أو البديهية، فيكون هناك قياسات مترتبة محصلة للقياس المنتج المطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 المطلب الثالث في وجه لزوم النتيجة من المقدمتين إن كل مفردين جمعتهما القوة المفكرة، ونسبت إحداهما إلى الآخر، إما بإثبات مثل: " النبيذ حرام " أو " النبيذ مسكر "، وإما بنفي مثل: " النبيذ ليس بمسكر "، وعرضت ذلك على العقل لم يخل العقل فيه من أحد أمرين: إما أن يصدِّق به، أو يمتنع عن التصديق. فإن صدَّق العقل فهو الأوَّلي والضروري المعلوم بغير واسطة، - ويقال لذلك: إنه معلوم بغير نظر ودليل وطلب. وإن لم يُصدِّق فلا بدَّ من واسطة للتصديق، وتلك الواسطة هي التي تنسب إلى الحكم فيكون خبراً عنها وحكما لها، وتنسب إلى المحكوم عليه فتجعل خبراً عنه، فيُصدِّق، فيلزم من ذلك بالضرورة التصديق بنسبة الحكم إلى المحكوم عليه، بيان ذلك: لو أنا قلنا للعقل: احكم على النبيذ بالحرام، فإنه يقول: لا أدري ولا يصدق به، فعلمنا من ذلك: أنه لا يلتقي في الذهن طرفا هذه القضية وهما: " الحرام " و " النبيذ "، فلا بد من طلب واسطة ربما صدَّق العقل بوجودها في " النبيذ "، وصدَّق بوجود وصف الحرام لتلك الواسطة فيلزمه التصديق بالمطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 فيقال للعقل: هل النبيذ مسكر؛ فيقول: نعم، وقال: نعم؛ كونه مسكراً ثبت عن طريق التجربة. ثم يقال له: هل المسكر حرام؛ فيقول: نعم، وقال: نعم؟ لأنه علم كون المسكر حراماً عن طريق السمع. فإذا صدَّق العقل بهاتين المقدمتين: لزم التصديق بالثالث ضرورة وهو: أن النبيذ حرام، فيلزم العقل التصديق بذلك ويذعن للتصديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 المطلب الرابع هل تسمية البرهان بالقياس تسمية حقيقية؟ أقول: إن تسمية المناطقة للبرهان المتكون من مقدمتين ونتيجة بالقياس، جاء عن طريق التجوز، وذلك لأن القياس في أصول الوضع اللغوي هو: تقدير شيء بشيء آخر، كتقدير الثوب بالذراع. أما هنا، فإن حاصله راجع إلى إدراج خصوص تحت عموم، وهذا ليس بقياس، إذ ليس فيه تقدير ولا حمل، بل فيه إدراج، بيان ذلك: أن المقدمة الكبرى عموم، والمقدمة الصغرى خصوص، وقلنا ذلك لأن الحكم في الكبرى على جميع ما صدق عليه الأوسط، فيتناول الأصغر وغيره، والحكم في الصغرى مخصوص بالأصغر فقط، وإذا كان الأمر كذلك وجب إدراج الأصغر تحت الأوسط في الحكم بالأكبر على جميع ما صدق عليه الأوسط؛ لأن الأصغر من جملتها، فيلتقي بالضرورة موضوع الصغرى - أعني الأصغر - ومحمول الكبرى - أعني الأكبر - إما إيجابا إن كانت الكبرى موجبة، أو سلبا إن كانت الكبرى سالبة. مثال الموجبة قولنا: " الوضوء عبادة، وكل عبادة تصح بنية "، فإنه ينتج: أن الوضوء يصح بنية. مثال السالبة قولنا: " النبيذ مسكر، ولا شيء من المسكر ليس بحلال "، فإنه ينتج منه: أن النبيذ ليس بحلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 المطلب الخامس كيف يتطرق الخلل إلى البرهان؟ يتطرق الخلل إلى البرهان من ثلاث جهات: الجهة الأولى: من جهة نفس المقدمات؛ لأنها قد تكون خالية من شروطها. الجهة الثانية: من جهة كيفية الترتيب والتركيب والنظم، ولو كانت المقدمات صحيحة يقينية. الجهة الثالثة: من جهة نفس المقدمات، والكيفية والترتيب والتركيب جميعاً. وإليك بيان ذلك بمثال من المحسوس، وهو البيت المبني، فإنه يتطرق إليه الخلل من ثلاث جهات: الأولى: أنه قد يختل بسبب وجد في هيئة التأليف، وذلك بأن تكون الحيطان معوجة، أو يكون السقف منخفضاً إلى موضع قريب من الأرض، فيكون البيت فاسداً وإن كانت الأحجار والجذوع متينة وصحيحة. الثانية: أنه قد يختل بسبب رخاوة في الأصل والأساس، وذلك بأن يكون البيت صحيحا من حيث الصورة في ترتيبها وهندستها، ووضع حيطانها، وسقفها، ولكن يكون الخلل بسبب رخاوة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الجذوع وتشعب في اللبنات، فيكون البيت فاسداً من حيث الأساس، وإن كانت الصورة صحيحة. الثالثة: أنه قد يختل البيت بالسببين السابقين معاً، فيكون الخلل بسبب التأليف، وبسبب رخاوة في الأساس. فكذلك هنا، فإن الخلل إما أن يكون في هيئة تركيبه، وإما أن يكون في الأصل الذي يرد عليه التركيب، وإما أن يكون فيهما معاً. فمن يريد بناء بيت سالم من أي خلل فعليه أولاً: بإعداد الآلات المفردة التي يتكون منها البناء كالجذوع، واللبن، والطين، والسعف، والجريد، ونحو ذلك، ثم إذا أراد أن يكون لبنا صالحاً للبناء عليه بإعداد مفرداته وهي: الماء، والتبن، والطين، والقالب الذي يضرب به اللبن. فلا بد من أن يبتدئ أولاً بالأجزاء المفردة فيركبها، ثم يركب المركب، وهكذا إلى آخر العمل. إذا عرفت ذلك في هذا المثال، فإن طالب البرهان كذلك ولا فرق، فإنه له أن ينظر أولاً إلى الأجزاء المفردة من نظم وصورة، ثم ينظر ثانياً إلى المقدمات التي فيها النظم. تنبيه: للبرهان أضرب وأقسام قد تكلمت عنها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " بالتفصيل، فإن شئت ارجع إليه في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 المطلب السادس في أسباب مخالفة نظم البرهان لا بد في كل برهان أن يتكون من مقدمتين لتحصل منهما نتيجة، وإذا ذكر أحد شيئاً يخالف ذلك النظم، فإنه يرجع إلى أسباب هي كما يلي: السبب الأول: قصور في علم المناظر بتمام نظم البرهان. السبب الثانى: إهمال المناظر لإحدى المقدمتين، لكونها واضحة ومعلوماً بها، وأكثر ما يفعل ذلك الفقهاء في المحاورات الفقهية اختصاراً. ومثال ذلك: قولنا: " الوضوء يحتاج إلى النية؛ لأن كل عبادة تحتاج إلى النية "، فهنا حذفت الصغرى وهي قولنا: " الوضوء عبادة "؛ حيث إن تمام النظم أن يقال: " كل عبادة تحتاج إلى النية، والوضوء عبادة يلزم أن الوضوء يحتاج إلى النية "، فحذفت الصغرى، وذلك لاشتهارها ووضوحها. مثال آخر: قولنا: " هذا يجب رجمه؛ لأنه زنا وهو محصن " فهنا حذفت الكبرى لوضوحها والعلم بها، وتمام القياس أن يقال: " كل من زنا وهو محصن فعليه الرجم، وهذا زنا وهو محصن، فيلزم وجوب الرجم عليه ". وحذف إحدى المقدمتين لاشتهارها ووضوحها قد ورد في القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الكريم، من ذلك قوله تعالى: (لو كان فيهما آلهة إلا اللَّه لفسدتا) وينبغي أن يضم إليها: " ومعلوم أنهما لم تفسدا "، وترك ذلك للعلم به - ووضوحه. السبب الثالث: أن يهمل المناظر إحدى المقدمتين للتلبيس على الخصم، وذلك يكون بترك المقدمة التي يعسر إثباتها ويندر أمثالها، أو ينازعه الخصم في تلك المقدمة، وذلك استغفالاً للخصم، فخشي المستدل أن يصرح بتلك المقدمة فيتنبه ذهن خصمه فينازعه فيها. مثال ذلك: قولك: " فلان خائن في حقك "، فيقول خصمك: ولِمَ؟ فتقول: " لأنه كان يناجي عدوك "، وتمامه: أن يقال: "كل من يناجي العدو فهو عدو، وهذا يناجي العدو، فهو إذاً عدو "، لكن لو صرح به لتنبه ذهن الخصم بأن مناجاة العدو لا يلزم منها الخيانة، فقد يحتمل أنه أراد بمناجاته نصيحته، أو غير ذلك. مثال آخر: قولهم: " نكاح الشغار فاسد، لأنه منهي عنه "، وتمامه أن يقال: " كل منهي عنه فهو فاسد، والشغار منهي عنه، فهو إذاً فاسد "، ولكن لو صرح المستدل بهذه المقدمة الكبرى لتنبه الخصم لها؛ لأنها موضع النزاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 المطلب السابع في أقسام البرهان البرهان ينقسم إلى قسمين: " برهان دلالة "، و " برهان علَّة ". أما برهان الدلالة فهو: أن يكون الأمر المتكرر في المقدمتين معلولاً ومسبباً، فإن العِلَّة والمعلول يتلازمان. أما برهان العلَّة فهو: أن يكون المكرر - وهو الحد الأوسط - عِلَّة وسبباً. فإن استدللت بالعِلَّة على المعلول: فالبرهان برهان عِلَّة. وإن استدللت بالمعلول على العلَّة أو استدللت بأحد المعلولين على الآخر، فهو برهان دلالة. مثال برهان العلَّة: أن تستدل بالغيم على المطر، وأن تستدل بالأكل الكثير علىَ الشبع فيقال: " من أكل كثيراً فهو شبعان، وزيد قد أكل كثيراً، فهو إذن شبعان ". ومثال برهان الدلالة: أن تستدل بالشبع على الأكل الكثير، فتقول: إن كل شبعان قد أكل كثيراً وزيد شبعان، إذاً قد أكل كثيراً. ومثال الاستدلال بأحد المعلولين على الآخر أن تقول: كل من صح طلاقه صح ظهاره، والذمي يصح طلاقه فيصح ظهاره. تنبيه: اعلم أن جميع استدلالات الفراسة من قبيل الاستدلال بإحدى النتيجتين على الأخرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 المطلب الثامن في اليقين ومداركه البرهان: ما كانت مواده يقينية، وهي التي يجب قبولها بديهياً كانت أو نظرية تنتهي إلى البديهيات، وسواء كانت تلك المقدمات عقلية أو سمعية، فإن السمع يفيد اليقين كأن يكون خبر من يمتنع عليه الكذب كخبر اللَّه تعالى، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، وكذلك الإجماع. وإليك بيان حقيقة اليقين، والأشياء التي تفيد اليقين، فأقول: أولاً: اليقين لغة هو: العلم الذي لا شك فيه. واليقين اصطلاحاً هو: اعتقاد الشيء بأنه كذا، مع اعتقاد أنه لا يمكن إلا كذا مطابقاً للواقع غير ممكن الزوال. ثانياً: الأشياء التي تفيد اليقين أو مداركه، أو أصول اليقينيات - كما يسميها بعضهم - هي كما يلي: الأول: الأوليات، وهي قضايا يجزم العقل بها بمجرد التصوُّر، ولا يحتاج إلى واسطة مثل: علمك بأن الواحد نصف الاثنين، وأن الكل أعظم من الجزء، وأن النقيضين إذا صدق أحدهما كذب الآخر. الثاني: المحسوسات الظاهرة، وهي القضايا التي يحكم بها بواسطة الحواس الخمس وهي: السمع، والبصر، والشم، واللمس، والذوق، مثل: النار حارة، وهذا الجبل كبير، ورائحة هذا طيبة، وطعم هذا حلو، وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 الثالث: المشاهدات الباطنة، وهي قضايا يحكم بها بواسطة القوى الباطنة، ولا تحتاج إلى العقل، ولا إلى الحس، مثل: علمك جوع نفسك، وشعورك بالألم، والعطش، ونحو ذلك. والفرق بين هذا وبين المدرك الأول - وهو الأوليات -: أن المدرك الأول لا تدركه الصبيان ولا البهائم ولا المجانين؛ لأن الأوليات قضايا حصلت بمجرد العقل، والعقل مفقود بالنسبة لهؤلاء. أما هذا المدرك وهو: المشاهدات الباطنة، فإن البهائم، والصبيان والمجانين تدركه؛ لأن تلك الأحوال وهي الجوع، والعطش، لا تفتقر إلى عقل. الرابع: التجريبيات، أو اطراد العادات، وهي القضايا التي يحكم بها بواسطة تكرار المشاهدة، وهي لا تخلو عن قياس خفي مع تكرار المشاهدة، وهو أن تعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لا يكون اتفاقاً. مثل: حكمنا بأن الإهليلج مسهل، فإنه بعد التجارب وتكرار الاستعمال لهذا الدواء حكمنا بأنه مسهل، وحكمنا بأن الحجر هاو إلى أسفل، وحكمنا بأن النار صاعدة إلى فوق، وهذه الأحكام والمعلومات يقينية عند من جربها من الناس. الخامس: المتواترات، وهي: قضايا حكم بها بواسطة إخبار جماعة يستحيل عقلاً وعادة تواطؤهم وتوافقهم على الكذب، مثل: حكمنا بوجود مكة، والمدينة، والهند، وغيرها من البلدان. فالمستفاد من تلك المدارك الخمسة يصلح لصناعة البرهان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 ثالثأ: بيان أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين، وليست منها: ما سبق هي مدارك اليقين التي تصلح لمقدمات البراهين، وهناك أمور توهم بعضهم أنها من مدارك اليقين وليست منها، وهما: 1 - الوهميات 2 - المشهورات. أما الوهميات فهي: قضايا الوهم بأن كل موجود ينبغي أن يكون مشاراً إلى جهته، وأن موجوداً لا متصلاً، ولا منفصلاً، ولا خارجاً، ولا داخلاً محال، لأن إثبات شيء مع القطع بأن الجهات الست خالية عنه محال، وهذا عمل قوة في التجويف الأوسط من الدماغ، وتسمى وهمية شأنها ملازمة المحسوسات، ومتابعتها والتصرف فيها. وهذه القضايا الوهمية مع أنها كاذبة فهي لا تتميز عن الأوليات القطعية. مثل قولك: لا يكون شخص في مكانين، بل تشهد به أول الفطرة، كما تشهد بالأوليات القطعية، وليس كل ما تشهد به الفطرة قطعاً هو صادق، بل الصادق هو ما تشهد به قوة العقل الصحيح فقط. أما المشهورات فهي آراء محمودة توجب التصديق بها، إما بشهادة الكل، أو بشهادة الأكثر، أو بشهادة جماهير من الأفاضل مثل: "الكذب قبيح "، و " كفران المنعم قبيح "، و " شكر المنعم حسن " و" إنقاذ الذين شارفوا على الهلاك حسن "، و " إيلام البريء قبيح " وهذه الأحكام قد تكون صادقة، وقد تكون كاذبة، فلا يعول عليها - في مقدمات البراهين، لأنها لم تكن من مدارك اليقين. وإنما انغرس قبولها في النفس بأسباب كثيرة تعرض من أول الصبا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وذلك بأن تكرر على الصبي، ويكلف اعتقادها، ويحسن ذلك عنده وربما يحمل على اعتقادها حب التسالم وطيب المعاشرة، وربما تنشأ من الحنان ورقة القلب والطبع، فترى أقواماً يصدِّقون بأن ذبح البهائم قبيح حتى وصل بهم الأمر إلى الامتناع عن أكل لحومها، وربما يحيل على التصديق بها الاستقراء والتتبع الكثير، وربما كانت القضية صادقة، ولكن بشرط دقيق لا يتفطن الذهن لذلك الشرط، ويستمر على تكرير التصديق، فيرسخ في نفسه كمن يقول - مثلاً -: "التواتر لا يفيد العلم "، وعلّل ذلك بقوله: " إن خبر كل واحد من المخبرين لا يفيد العلم، فخبر الجميع لا يفيد العلم؛ لأنه لا يزيد على الآحاد "، وهذا معروف غلطه؛ لأن كل واحد لا يفيد خبره العلم بشرط الانفراد، وعند التواتر فات هذا الشرط، فهذا القائل: ذهل وغفل عن هذا الشرط، وذلك لدقته، فصدَّق به مطلقاً واعتقده. فالمستفاد من الوهميات لا يصلح لصناعة البرهان، والمشهورات تصلح للفقهيات الظنية، والأقيسة الجدلية، ولا تصلح لأن تكون مقدمات للبراهين. رابعاً: أضداد اليقين: لما عرفنا فيما سبق اليقين وهو: العلم القطعي بالأشياء التي لا تحتمل النقيض، أو ما قطعت به النفس، وعرفنا مداركه، وما لا يفيده: كان لا بد لنا أن نعرف أضداد اليقين؛ ليعرف اليقين أكثر والفرق بينه وبين غيره، فأقول: أضداد اليقين هي: " الظن "،. و " الشك "، و " الوهم "، و"السهو"، و " الجهل "، وإليك بيانها: 1 - الظن هو: ترجيح أحد الاحتمالين في النفس على الآخر من غير قطع، وقيل: تجويز أمرين، أحدهما أقوى من الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 والظن طريق للحكم إذا كان عن أمارة قد اقتضت الظن، ولهذا وجب العمل بجميع الأدلة المظنونة، ويجب العمل بشهادة الشهادين وبخبر المقوِّمين للشيء، سواء كانت تلك الأحكام مبنية على أدلة ظنية أو أمارة صحيحة. ويطلق العلم على الظن والعكس. فمثال إطلاق العلم على الظن: قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) ، فهنا عبَّر بالعلم عن الظن؛ لأن العلم القطعي في ذلك لا سبيل إليه. ومثال إطلاق الظن على العلم: قوله تعالى: (الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم) أي: يعلمون. 2 - الشك هو: التردد في أمرين متقابلين، لا ترجيح لوقوع أحدهما على الآخر في النفس، وقيل: هو: تجويز أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر. والشك ليس بطريق للحكم في الشرع، وبناء على ذلك يجب استصحاب الحال السابق مثل: الشك في الحدث بعد الطهارة، والشك بالطلاق بعد النكاح، لأن الظاهر بقاء ذلك، وعدم حدوث المشكوك فيه. 3 - الوهم هو: الطرف المرجوح فهو المقابل للظن. 4 - السهو هو: الذهول عن المعلوم. 5 - الجهل هو: اعتقاد المعلوم على خلاف ما هو عليه، وهو ضد العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وهو قسمان: القسم الأول: جهل بسيط وهو: انتفاء إدراك الشىء بالكلية، أي: عدم العلم مطلقا. القسم الثاني: جهل مركب وهو: تصور الشيء على غير هيئته. وسمي مركباً، لأنه مركب من أمرين، أولهما: عدم العلم بالشيء، ثانيهما: الاعتقاد الذي هو غير مطابق لما في الخارج. فمثلاً: إذا سئل إنسان وقيل له: إذا أكل مسلم ناسياً في رمضان فهل يفسد صومه أو لا؟ فإن قال: نعم يفسد صومه، وعليه القضاء، فهو جاهل مركب. أما إذا قال: لا أعلم، فإنه يكون جاهلاً بسيطاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 المطلب التاسع في الاستقراء أولاً: حقيقة الاستقراء: وهو لغة: التتبع. وفي الاصطلاح هو: عبارة عن تصفح أمور جزئية لنحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات. وقيل: هو: الحكم على كلي لوجوده في أكثر جزئياته. وقيل: " في أكثر جزئياته "؛ لأن الحكم لو كان في جميع جزئياته لم يكن استقراء، بل يكون قياسا مقسماً. وسمي ذلك استقراء؛ لأن مقدماته لا تحصل إلا بتتبع الجزئيات. ثانيا: أقسام الاستقراء: ينقسم الاستقراء إلى قسمين: القسم الأول: استقراء تام، وهو الذي يشمل جميع الجزئيات، فهذا يفيد اليقين وهو صالح لأن يكون مقدمة من مقدمات البرهان مثل: قولنا: "كل حيوان يموت ". القسم الثاني: استقراء ناقص، وهو الذي يشمل أغلب وأكثر الجزئيات، وهو لا يفيد إلا الظن، وهذا لا يصلح أن يكون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 مقدمات البرهان مثل قولنا: كل حيوان يحرك فكه الأسفل عند المضغ؛ لأن الإنسان والبهائم والسباع كذلك. فهذا استقراء ناقص مختل؛ حيث إنه يوجد بعض الجزئيات يكون حكمه مخالفا لما استقرئ وتتبع، فلا يعمه الحكم وهو: التمساح، فإنه يحرك فكه الأعلى عند المضغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 المطلب العاشر في التمثيل أولاً: بيان حقيقة التمثيل: التمثيل لغة: مصدر مثل الشيء بالشيء إذا شبهه به. وهو في الاصطلاح: إثبات حكم في جزئي معين لوجوده في جزئي آخر لأمر مشترك بينهما. مثل: قولنا: النبيذ حرام كالخمر بجامع الإسكار بينهما. ويسمى الأول فرعاً، والثانى أصلاً، ويسمى الأمر المشترك بينهما جامعاً وعلة. ثانياً: طَرق إثبات علية الأمر المشترك: لإثبات علية الأمر المشترك طرق عند المناطقة، والمشهور منها طريقان: الطريق الأول: الدوران، ويسمى الطرد والعكس، وهو: أن يدور الحكم مع العلَّة والمعنى المشترك وجوداً وعدماً، ففي المثال السابق نقول: إذاً وجد الإسكار في النبيذ فإنه يوجد الحكم وهو التحريم، وإن عدم الإسكار عدم التحريم، وهكذا. الطريق الثاني: السبر والتقسيم وهو: أن يعد ويذكر أوصاف الأصل، وتحصر، ثم يثبت - بعد الاختبار والسبر - أن ما عدا المعنى المشترك غير صالح لاقتضاء الحكم لوجود تلك الأوصاف في محل آخر مع تخلف الحكم عنه، ولا بد في ذلك من استعانة بنص أو إجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فإن كان هذا الحصر والإبطال قطعيين أفاد القطع واليقين، وإن كانا ظنيين أفادا الظن. ثالثاً: حكم التمثيل: التمثيل حُجَّة ظنية عند جمهور المناطقة. وذهب ابن سينا إلى أنه حُجَّة ضعيفة. وهذا ليس بصحيح، فالتمثيل حُجَّة ظنية قوية؛ لأن إفادة الدليل اليقين أو الظن راجعة إلى المقدمات التي تألف منها لا إلى صورته، فالمقدمات إن كانت يقينية أفادت اليقين، وإن كانت المقدمات ظنية أفادت الظن. رابعاً: هل التمثيل هو القياس والشمول أم لا؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن القياس هو التمثيل، وهو مذهب كثير من الأصوليين. المذهب الثاني: أن القياس هو الشمول، وهو مذهب المناطقة. المذهب الثالث: أن كلًّا من التمثيل والشمول يسمى قياساً، ذهب إلى هذا أكثر الفقهاء والمتكلمين. وهو الصحيح؛ لأن قياس الشمول مبناه على اشتراك الأفراد في الحكم وشموله لها، وقياس التمثيل مبناه على اشتراك الأصل والفرع في الحكم. ويمكن رد كل من القياسين إلى الآخر مثل: النبيذ حرام كالخمر بجامع الإسكار، وترده إلى الشمول فتقول: النبيذ مسكر، وكل مسكر حرام ينتج: أن النبيذ حرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 المبحث الخامس في الألفاظ اللفظ هو: صوت معتمد على بعض مخارج الحروف. وينقسم إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ المفرد، وهو: الذي لا يدل جزؤه على جزء معناه: إذا جعل علماً للشيء مثل: " زيد "، و " عبد اللَّه " علماً، وهو أنواع كثيرة. القسم الثاني: اللفظ المركب، وهو: الذي يدل جزؤه على جزء معناه مثل: " زيد قائم "، و " قام زيد " و " غلام زيد "، و "الحيوان الناطق "، وهو أنواع أيضا. وسيأتي - إن شاء اللَّه - تفصيل ذلك - في الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام، فلا داعي لأن أفصل بها هنا مع أن التفصيل فيها في مكانها أولى وأكثر فائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 المبحث السادس في المعاني وأقسامها لما بيَّنا اللفظ، شرعنا في ذكر المعاني والنظر فيها، من حيث إنها ثابتة في نفسها، وإن كان يدل عليها بالألفاظ؛ لأنه لا يمكن تعريف المعاني إلا بذكر الألفاظ، فأقول: أولاً: تعريف المعاني: المعاني هي: الصورة الذهنية من حيث إنه وضعت بإزائها الألفاظ والصورة الحاصلة في العقل، فمن حيث إنها تقصد باللفظ سميت معنى. ثانياً: أقسام المعاني باعتبار أسبابها المدركة: المعاني التي ندركها ونحيط بها ثلاثة أقسام، هي كما يلي: القسم الأول: معاني محسوسة، وهي المعاني التي ندركها ونعلمها عن طريق الحواس الخمس، كالألوان، ومعرفة الأشكال، والمقادير، وذلك بحاسة البصر، وكالأصوات بحاسة السمع، وكالطعوم بحاسة الذوق، والروائح بحاسة الشم، والخشونة واللين، والصلابة والبرودة والحرارة والرطوبة واليبوسة بحاسة اللمس. القسم الثاني: معاني متخيَّلة، وهي: القوة تتصرف في الصور المحسوسة والمعاني الجزئية المنتزعة منها. مثاله: أنك لما أبصرت البلح وعرفت أن لونه أحمر بقيت تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 الصورة في دماغك، كأنك تنظر إليها وإن كان البلح غائباً، فلو ذكر ذلك البلح - فيما بعد - فإنك تستحضر تلك الصورة من ذهنك ودماغك، وتقول: إن لونه أحمر وإن كان غائبا عنك، لأن صورته في دماغك، فإنك تتخيله، لذلك سمي معنى متخيلاً. كذلك لما لمست الثلج لأول مرة ووجدته بارداً، فإنك لو سئلت عنه - فيما بعد - لقلت: إن الثلج بارد وإن كان غائبا عنك، وهكذا. وهذه القوة - وهي قوة التخيل - لا ينفرد بها الإنسان، بل يشترك معه فيها الحيوان. أي: كما أنه يوصف الإنسان بأنه يتخيل الأشياء في الدماغ كذلك البهائم تتخيل ولا فرق، فمثلاً: تجد " الفرس " إذا أكل شعيراً مرة، ثم رآه مرة ثانية في يوم آخر فإنك تجده يتحرك نحوه، ويحاول أن يقترب منه، وذلك لأنه تذكر صورته وطعمه الذي حفظه له دماغه وخياله، فلو كانت الصورة لم تثبت في خياله لما بادر إليه وتحرك نحوه، وكذلك جميع الحيوانات إذا رأت طعامها الذي يقدم إليها، بل إن بعض الحيوانات إذا رأت من يعطيها طعامها المحبب لديها رفعت أصواتها، واقتربت منه، وما ذلك إلا لأنها تخيلت اللذة التي توجد في تلك الأطعمة التي يقدمها لها ذلك الشخص. القسم الثالث: المعاني المعقولة، وهي: التي ندركها عن طريق العقل الذي هو: الآلة التي ندرك بها الأشياء ونميز بعضها عن بعض. والعقل غريزة، وليس مكتسباً، خلقه اللَّه تعالى في الإنسان تشريفاً له يباين ويفارق به البهيمة، ويستعد به لقبول العلم، وتدبير الصنائع الفكرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وهذا خاص بالإنسان. والعقل محله القلب وهو: مذهب الإمام مالك، والشافعي، والأطباء، وكثير من العلماء وهو الحق عندي لأمرين: أولهما: قوله تعالى: (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب) فعبَّر - هنا - عن العقل بالقلب؛ لأنه محله. ثانيهما: قوله تعالى: (فتكون لهم قلوب يعقلون بها) ، فلو لم يكن العقل موجوداً في القلب لما وصف بذلك حقيقة؛ لأن الأصل إضافة كل عضو إليه لما يصلح له، فلا يمكن أن توصف الأذن بأنه يشم بها أو يرى بها. وقيل: إن محل العقل هو الدماغ، وهو مذهب أبي حنيفة. وقبل غير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 المبحث السابع في تأليف مفردات المعاني لما فرغنا من الكلام عن مجرد اللفظ، والكلام عن مجرد المعنى، لا بد من الكلام عن تأليف مفردات المعاني على وجه يتطرق إليه التصديق والتكذيب، كقولنا: " العالَم حادث "، و " زيد ليس بكاتب "، فإن هذا راجع إلى تأليف القوة المفكرة المؤلَّفة بين معرفتين لذاتين مفردتين بنسبة إحداهما إلى الأخرى بنفي أو إثبات. فمثال نسبة المفرد إلى مفرد آخر في الإثبات: " العالَم حادث "، و" زيد كاتب "، ومثال نسبة المفرد إلى مفرد آخر في النفي: "العالَم ليس بقديم "، و " زيد ليس بكاتب ". فعندنا جملة من جزأين، واختلف في تسميتهما على مذاهب: المذهب الأول: أن اسم الأول - وهو زيد - مبتدأ، واسم الآخر - وهو كاتب - خبر، وهذا مذهب النحويين. المذهب الثاني: أن اسم الأول - وهو زيد -: محكوم عليه، واسم الثاني - وهو كاتب -: حكم، وهذا مذهب الفقهاء؛ حيث إن زيداً محكوم عليه بحكم، وهو كونه كاتبا. المذهب الثالث: إن اسم الأول - وهو زيد - موصوف، واسم الثاني - وهو كاتب - صفة، وهذا مذهب المتكلمين، حيث إن زيداً موصوفاً بالكتابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المذهب الرابع: أن اسم الأول - وهو زيد - موضوع، واسم الثاني - وهو كاتب - محمول، وهذا اصطلاح المناطقة؛ لأن الأول وضع ليحكم عليه، والثاني سمي محمولاً لحمله على الموضوع. وسمى المجموع من الاسم الأول والثاني: قضية. والقضية قسمان: " قضية شرطية "، و " قضية حملية ". أما القضية الشرطية - وهو القسم الأول - فهي: أن ينحل طرفاها إلى جملتين، لو أزيلت من بينهما أداة الربط في المتصلة، وأداة المناداة في المنفصلة. ويكون الحكم في الشرطية معلقاً نحو: إن كانت الشمس طالعة كان النهار موجوداً. أما القضية الحملية - وهو القسم الثاني - فهي: ما يحكم فيها بثبوت شيء لشيء، أو نفيه عنه نحو: " زيد كاتب "، و " زيد ليس بقائم ". وضابطها: أن ينحل طرفاها إلى مفردين، أو ما في حكم المفردين، ولا يكون الحكم فيها معلقاً على شيء. وأجزاء الحملية ثلاثة: الأول: المحكوم عليه والمسند إليه، ويسمى موضوعا اصطلاحاً؟ لأنه وضع ليحكم عليه. الثاني: المحكوم به، والمسند، وسمّي المحمول اصطلاحاً لحمله على الموضوع. الثالث: النسبة الواقعة بين الموضوع والمحمول، ويسمى اللفظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الدال عليها رابطة، لدلالته على النسبة الرابطة بين الطرفين، وهذه الرابطة تحذف كثيراً عند العرب. فإن قلت: ما الحمل؟ أقول: الحمل هو: اتحاد المتغايرين مفهوماً بحسب الوجود مثل: " زيد كاتب "، فإن مفهوم " زيد " مغاير لمفهوم " كاتب "، ولكنهما شيء واحد في الوجود. والحمل نوعان: 1 - حمل بالمواطأة، وهو ما كان بلا واسطة مثل: "زيد كاتب ". 2 - حمل بالاشتقاق، وهو: ما كان بواسطة حروف وهي: "في "، أو " اللام "، أو " ذو "، فتقول: " محمد في الدار "، و" الكتاب محمد "، و " زيد ذو مال ". أقسام القضية الحملية باعتبار الموضوع: تنقسم القضية الحملية بهذا الاعتبار إلى أربع قضايا: الأولى: قضية في عين وهي: المخصوصة، وهي: ما موضوعها جزئي معين، وتسمى شخصية، لأن موضوعها شخصي معين مثل: " زيد عالِم ". الثانية: قضية مطلقة، وتسمى: " مطلقة خاصة "، وتسمى جزئية محصورة، وهي: ما ليس موضوعها جزئياً معينا وبين جزئيته مثل: " بعض الناس عالم ". الثالثة: قضية عامة، وتسمى " قضية كلية "، وتسمى " مطلقة عامة "، وهي: ما ليس موضوعها جزئياً وبيَّن كليته مثل: " كل سواد لون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الرابعة: قضية مهملة وهي: ما كان الحكم فيها على الأفراد مع إهمال بيان كمية الأفراد، مثل قوله تعالى: (إن الإنسان لفي خسر) . وقد تكلمت عن سبب انحصار القضية الحملية في تلك القضايا الأربع في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فارجع إليه إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 الباب الثاني الحكم الشرعي، والتكليف به ويشتمل على الفصول التالية: الفصل الأول: في حقيقة الحكم الشرعي وما يتعلق بها. الفصل الثاني: في الحكم التكليفي وأقسامه. الفصل الثالث: في التكليف وشروطه. الفصل الرابع: في الحكم الوضعي وأنواعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الفصل الأول في حقيقة الحكم الشرعي وما يتعلق بها وفيه مباحث: المبحث الأول: في تعريف الحكم الشرعي المبحث الثاني: في إطلاق الحكم الشرعي بين الأصوليين والفقهاء. المبحث الثالث: هل ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين: " تكليفي ووضعي " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 المبحث الأول في تعريف الحكم الشرعي أولاً: الحكم لغة هو: القضاء والفصل لمنع العدوان، ومنه قوله تعالى: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) ، وقوله: (فاحكم بين الناس بالحق) . يقال: " حكمت عليه بكذا " إذا منعته من خلافه، فلم يقدر على الخروج من ذلك، ومنه اشتقاق الحكمة؛ لأنها تمنع صاحبها من أخلاق الأراذل. وهذا موافق للحكم الشرعي؛ فإنه إذا قيل: " حكم اللَّه في المسألة الوجوب "، فإن المراد من ذلك: أنه سبحانه قضى فيها بالوجوب، ومنع المكلف من مخالفته. ثانياً: الحكم اصطلاحاً هو: خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف بالاقتضاء، أو التخيير أو الوضع. شرح التعريف: قولنا: " خطاب " الخطاب هو: توجيه اللفظ المفيد إلى الغير، بحيث يسمعه ويفهمه. وقيل: إن الخطاب هو: الكلام المقصود منه إفهام من هو متهيء للفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وهو جنس في التعريف يشمل كل خطاب، سواء كان المخاطِب الله أو غيره. قولنا: " خطاب اللَّه تعالى " إضافة الخطاب إلى اللَّه، أخرج خطاب غيره من الإنس والجن والملائكة، فإن خطاباتهم لا تسمى حكماً؛ حيث لا حكم إلا للشارع. والمراد بخطاب اللَّه تعالى: كلام اللَّه اللفظي، وليس الكلام النفسي؛ لأن الكلام اللفظي هو المبحوث عنه في الأصول إجمالاً، وفي الفقه تفصيلاً. وجميع الأحكام من اللَّه تعالى، سواء كانت ثابتة بالقرآن، أو السُّنَّة، أو الإجماع، أو القياس، أو أي دليل ثبت شرعاً، فإن كل هذه المصادر راجعة - في الحقيقة - إلى اللَّه تعالى. قولنا: " المتعلِّق " أي: المرتبط، والمراد به: الذي من شأنه أن يتعلق، من باب تسمية الشيء بما يؤول إليه. والمقصود: أنه يشترط في خطاب اللَّه تعالى أن يكون مرتبطاً بفعل من أفعال المكلف على وجه يبين صفة الفعل من كونه مطلوباً فعله كالصلاة، والزكاة، ووجوب الغرامات على المتلف، ونحو ذلك، أو كونه مطلوباً تركه كالزنا والسرقة ونحو ذلك. قولنا: " بفعل " الفعل لغة: ما يقابل القول والاعتقاد والنية. ولكنه في العرف يطلق على كل ما صدر عن المكلف، وتتعلق به قدرته من قول، أو فعل، أو نية، وهو المراد بفعل المكلف هنا. فيكون المقصود بالفعل هنا هو جنس الفعل، سواء كان واحداً، أو متعدداً، ويشمل القلوب والجوارح، سواء منها العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق، فإنها جميعاً تتعلق بها الأحكام الشرعية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 فالفعل هنا عام لأفعال الجوارح كوجوب الصلاة والحج والصوم، ولأفعال اللسان كتحريم النميمة والغيبة، ولأفعال القلوب كوجوب النية والقصد. وقولنا: " بفعل المكلف ": أخرج الأحكام العقائدية، لأن المعرف إنما هو الحكم الشرعي العملي، وليس المعرف مطلق الحكم الشرعي. والمراد بالمكلف هو: البالغ العاقل، غير الملجأ، الذي يفهم الخطاب، ولم يحل دون تكليفه أي حائل. وعبَّرنا بالمكلف، ولم نقل: " بأفعال المكلفين " - كما ذكر ذلك بعض الأصوليين - وذلك ليشمل الأحكام المتعلقة بفعل مكلف واحد خاصة به مثل الأحكام الخاصة بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، كتزويجه بأكثر من أربع، ومثل الحكم الخاص بخزيمة بن ثابت الأنصاري، حيث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن شهادته تكفي عن شهادة رجلين، ومثل الحكم الخاص بأبي بردة، حيث بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن العناق - وهي الأنثى من ولد المعز قبل استكمالها الحول - تجزئ في الأضحية عنه ولا تجزئ عن غيره. وقولنا: " بفعل المكلف ": أخرج الخطابات الواردة من اللَّه التي لا تتعلق بفعل المكلف، وهي: 1 - الخطاب المتعلق بذاته سبحانه، كقوله تعالى: (شهد الله أنه لا إله إلا هو) . 2 - الخطاب المتعلق بصفته سبحانه، كقوله: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم) . 3 - الخطاب المتعلق بفعله سبحانه، كقوله: (الله خالق كل شيء) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 4 - الخطاب المتعلق بالجمادات، كقوله: (ويوم نسير الجبال) . 5 - الخطاب المتعلق بالحيوانات، كقوله: (يا جبال أوبي معه والطير) . 6 - الخطاب المتعلق بذات المكلفين، كقوله: (ولقد خلقناكم ثم صورناكم) . فهذه خطابات، ولكنها لا تتعلَّق بفعل المكلَّف. قولنا: " بالاقتضاء ": الجار والمجرور هنا متعلقان بقوله: "المتعلِّق ". والاقتضاء هو: الطلب، والطلب قسمان: طلب فعل، وطلب ترك. وكل واحد منهما ينقسم إلى قسمين: " جازم "، و " غير جازم ". فإن كان طلب الفعل طلباً جازماً فهو: الإيجاب. وإن كان طلب الفعل طلباً غير جازم فهو: الندب. وإن كان طلب الترك طلباً جازماً فهو: التحريم. وإن كان طلب الترك طلباً غير جازم فهو: الكراهية. قولنا: " أو التخيير " معناه: استواء الطرفين، أي: لا يوجد فيه طلب فعل، ولاطلب ترك. فعبارة: " بالاقتضاء أو التخيير " شملت الأحكام التكليفية الخمسة - الواجب، والمند وب، والحرام، والكرا هة، والمباح -. وسيأتي بيانها بالتفصيل إن شاء اللَّه تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 فبان أنه يشترط في خطاب اللَّه المتعلق بالمكلف أن يكون متضمناً لطلب فعل أو ترك، أو فيه تخيير. أما إذا لم يوجد فيه ذلك فليس بحكم شرعي مثل قوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) ، وقوله: (وهم من بعد غلبهم سيغلبون) ، وذلك لأنه لم يفهم منه طلب فعل، ولا طلب ترك من المكلف، ولم يفهم منه - أيضا - تخيير بين فعل وترك، فهو إعلام وإخبار - فقط -. قولنا -: " أو الوضع " الوضع هو: الجعل. وقد وردت لفظة: " أو " للتنويع والتقسيم، والمراد: أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين: " حكم تكليفي "، و " حكم وضعي ". أي: أنه أتى بهذه الكلمة - وهي: " أو الوضع " -، لإدخال أقسام خطاب الوضع من السببية، والشرطية، والمانعية، والصحة والفساد، وذلك لأنها أحكام شرعية لم تثبت إلا عن طريق الشرع، وليس فيها طلب ولا تخيير. وعلى هذا: خطاب الشرع إما أن يكون متعلقا بالاقتضاء أو التخيير، أو لا يكون. فإن كان متعلقاً بأحدهما: فهو الحكم التكليفي. وإن لم يتعلق بواحد منهما فهو الحكم الوضعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 المبحث الثاني في إطلاق الحكم الشرعي بين الأصوليين والفقهاء لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الحكم الشرعي هو: خطاب اللَّه - تعالى - المتعلق بفعل المكلف اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً. وهذا مذهب الأصوليين - كما سبق بيانه -. والأصوليون وإن اختلفوا في تعريفاتهم، فإنهم يجتمعون على شيء واحد وهو: كون الحكم عَلَماً على نفس خطاب الشارع الذي يطلب من المكلف فعل شيء، أو كفه عنه، أو يخيره بينهما، ويجعل الشيء سبباً، أو شرطاً، أو مانعاً، أو صحة، أو فاسداً، ونحو ذلك مما يدخل تحت خطاب الوضع. فالإيجاب هو نفس قوله: " افعل " مثل قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) ، والتحريم هو نفس قوله: " لا تفعل " مثل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم اللَّه إلا بالحق) . فالأصوليون نظروا إلى ذات الحكم، وهو خطاب الشرع بالتحريم، أو الإيجاب، أو الندب، أو الكراهة، أو الإباحة. المذهب الثاني: أن الحكم الشرعي هو: ما ثبت بالخطاب الشرعي، أي: أثره المترتب عليه، لا نفس النص الشرعي، وهو مذهب الفقهاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فالحكم عند هؤلاء هو: أثر خطاب اللَّه المتعلق بفعل المكلف اقتضاء، أو تخييراً، أو وضعاً. فالفقهاء نظروا إليه من ناحية تعلقه بفعل المكلف. فمثلاً: وجوب الصلاة أثر لخطاب الشارع، وهو قوله تعالى: (أقيموا الصلاة) ، وحرمة الزنا أثر ترتب على قوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) . فالوجوب والحرمة ونحوهما هو: الحكم عند الفقهاء، وهو: ما ثبت بالخطاب واقتضاء النص. بيان نوع الخلاف: الخلاف بين الأصوليين والفقهاء خلاف لفظي، حيث إنه راجع إلى تفسير وبيان المراد من الحكم الشرعي والنظر إليه. فمن نظر إلى الحكم الشرعي على أنه له مصدر يصدر عنه، وهو الله تعالى: عرَّفه بأنه خطاب اللَّه تعالى المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، أو الوضع، وهو مذهب الأصوليين. ومن نظر إلى الحكم الشرعي على أن له محلاً يتعلق به، وهي الأفعال التي تصدر من المكلفين، ويكون الحكم وصفاً شرعياً عرَّفه بأنه: ما ثبت بالخطاب الشرعي، أو الصفة التي هي أثر ذلك الخطاب من الشارع، وهو مذهب الفقهاء. فالخطاب وما ترتب عليه متلازمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المبحث الثالث هل ينقسم الحكم الشرعي إلى تكليفي ووضعي؟ لقد اختلف العلماء على مذهبين: المذهب الأول: أن الحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين هما: "حكم تكليفي "، و " حكم وضعي ". ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين. وهو الصحيح عندي، لذلك عرَّفنا الحكم الشرعي بما يعم القسمين فقلنا: " هو خطاب اللَّه تعالى المتعلق بفعل المكلف اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً، وبيَّنا أثناء شرحنا للتعريف أن أنواع الحكم الوضعي كالسببية، والشرطية، والمانعية - وغيرها مما سيأتي ذكره - لم تستفد إلا من الشرع، لذلك كانت أحكاماً شرعية، ولا يوجد فيها طلب ولا تخيير، فلزم ذكر قيد: " أو الوضع "، ليكون التعريف شاملاً لجميع أفراد المحدود. المذهب الثاني: أن الحكم الشرعي قسم واحد هو: الحكم التكليفي. ذهب إلى ذلك بعض العلماء كالبيضاوي وغيره. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء على ذلك بقولهم: إنه لا معنى لموجبية الدلوك - مثلاً - إلا طلب الفعل عنده، ولا معنى لمانعية الحيض إلا حرمة الصلاة معه، ولا معنى لصحة البيع إلا إباحة الانتفاع بالمبيع، فتكون أنواع خطاب الوضع داخلة تحت الاقتضاء والتخيير. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأمرين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 أولهما: أن المفهوم من الحكم الوضعي غير المفهوم من الحكم التكليفي. فالمفهوم من الحكم الوضعي هو: تعلُّق شيء بشيء آخر، وربطه به، مثل: الربط بين الوجوب على الشخص وبين الوقت، فيكون دخول الوقت سبباً لوجوب الصلاة على هذا الشخص. وهذا بخلاف المفهوم من الحكم التكليفي، فهما مفهومان متغايران. ثانيهما: أن لزوم أحدهما للآخر في بعض الصور لا يدل على اتحادهما في جميع الصور بدليل الفروق التي أوجدها بعض العلماء بين الحكم التكليفي والوضعي، وسأذكرها فيما بعد بالتفصيل إن شاء اللَّه. بيان نوع الخلاف: الخلاف بين المذهبين خلاف لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على إقرار الأحكام الوضعية كالسبب والشرط والمانع وغيرها - مما سيأتي - ولم ينكرها أحد من الفريقين؛ حيث إنها أحكام شرعية متعارف عليها؛ لأنها لم تصح إلا بوضع الشارع لها، مثلها مثل الأحكام التكليفية ولا فرق بينها، لكن أصحاب المذهب الثاني أدخلوها ضمن الحكم التكليفي، وأصحاب المذهب الأول أفردوها بالذكر. والخلاصة: أن الحكم الشرعي يتنوع إلى نوعين هما: النوع الأول: الحكم التكليفي، وهو: خطاب اللَّه - تعالى - المتعلِّق بفعل المكلف بالاقتضاء والتخيير. النوع الثاني: الحكم الوضعي، وهو: خطاب اللَّه المتعلِّق بجعل شيء سبباً لشيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه ... إلخ. وسيأتي بيان أقسام كل واحد من النوعين إن شاء اللَّه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 الفصل الثاني في الحكم التكليفي وأنواعه ويشتمل على خمسة مباحث: المبحث الأول: في اختلاف العلماء في التعبير عن أقسام الحكم التكليفي. المبحث الثاني: في بيان السبب في انحصار الحكم التكليفي في أقسام خمسة. المبحث الثالث: في بيان الحكمة من تنوع الأحكام التكليفية. البحث الرابع: في أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية. البحث الخامس: في بيان الأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور بالتفصيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 المبحث الأول في اختلاف العلماء في التعبير عن أقسام الحكم التكليفي أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور خمسة، واختلف العلماء في التعبير عنها على مذهبين: المذهب الأول: أنه يُعبَّر عن أقسام الحكم التكليفي بـ "الوجوب "، و" الندب "، و " الإباحة "، و " التحريم "، و " الكراهة ". المذهب الثاني: أنه يُعبَّر عن تلك الأقسام بـ " الواجب "، و" المندوب "، و " المباح "، و " الحرام "، و " المكروه ". والأوْلى في التعبير هو الأول؛ وذلك لأن " الواجب " - مثلاً - ليس حكماً، وإنما هو فعل مكلف تعلق به الإيجاب، فهو من متعلقات الحكم وليس من أقسامه. كذلك المندوب ليس حكماً، وإنما هو فعل مكلَّف تعلَّق به الندب فهو من متعلقات الحكم، وليس من أقسامه. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي؛ لاتفاق الفريقين على المعنى والمراد، ولكن جاء هذا الاختلاف في الإطلاق بسبب ما لاحظه كل فريق. فمن لاحظ اعتبار المصدر المنبثق عنه: سمَّاه " إيجابا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 ومن لاحظ اعتبار تعلقه بفعل المكلف: سمَّاه " واجباً ". فهما متحدان ذاتاً، مختلفان اعتباراً. فالفعل الذي تعلق به الإيجاب يسمَّى واجباً. والفعل الذي تعلق به الندب يسمَّى مندوباً. والفعل الذي تعلقت به الإباحة يسمَّى مباحاً. والفعل الذي تعلقت به الكراهة يُسمَّى مكروهاً. والفعل الذي تعلق به التحريم يسمَّى حراماً. قال عضد الدين: " الحكم الشرعي هو نفس خطاب اللَّه - تعالى - وهو إذا نُسب إلى الحكم سُمِّي إيجابا، وإذا نُسب إلى ما فيه الحكم سُمَي وجوباً، وهما متحدان بالذات مختلفان بالاعتبار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 المبحث الثاني في بيان سبب انحصار الحكم التكليفي في أقسام خمسة عند الجمهور السبب في ذلك أن خطاب الشرع التكليفي يتنوع إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن يكون خطاب الشرع قد اقتضى الفعل من المكلف وطلبه منه. النوع الثاني: أن يكون خطاب الشرع قد اقتضى الترك من المكلف وطلبه منه. النوع الثالث: أن يكون خطاب الشرع قد خيَّر المكلف بين الفعل والترك. أما النوع الأول: وهو اقتضاء الفعل - فهو ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما أمر الشارع به واقترن بهذا الأمر ما يدل على عدم العقاب إذا ترك المكلف فعل المأمور به، فهذا هو الندب، كقوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) ، فهذا أمر بإعتاق العبيد الذين فيهم خير للإسلام والمسلمين، وهو للندب، لا للوجوب؟ لأنه اقترن به ما يدل على عدم العقاب على ترك الإعتاق، حيث، إن بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - لم يعتقوا ما عندهم من عبيد وإن كان فيهم صلاح، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك فالقرينة الصارفة هي: السُّنَّة التقريرية. القسم الثاني: ما أمر الشارع به، ولم يقترن بهذا الأمر ما يدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 على عدم العقاب إذا ترك المكلف فعل المأمور به، فهذا هو الإيجاب كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) . أما النوع الثاني - وهو اقتضاء الترك - فهو ينقسم إلى قسمين - أيضاً -: القسم الأول: ما نهى عنه الشارع واقترن بهذا النهي ما يدل على عدم العقاب إذا فعل المكلف ما نهي عنه، فهذا هو الكراهة مثل نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن تشبيك الأصابع بعد الوضوء للصلاة. فهذا - النهي للكراهة؛ لأنه اقترن به ما يدل على عدم العقاب إذا فعل المنهي عليه؛ حيث روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد شبَّك بين أصابعه وهو في انتظار الصلاة. القسم الثاني: ما نهى عنه الشارع ولم يقترن بهذا النهي ما يدل على عدم العقاب إذا فعل المكلف ما نهي عنه، فهذا هو " الحرام " كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) . أما النوع الثالث - وهو: ما خُيَر المكلف فيه بين الفعل والترك - فهذا قسم واحد، وهو: " الإباحة "، مثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال - حينما سئل عن الوضوء من لحوم الغنم -: " إن شئت فتوضأ، وإن شئت فلا تتوضأ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 المبحث الثالت في بيان الحكمة من تنوع الأحكام التكليفية إلى واجب ومندوب، ومباح، ومكروه، وحرام لقد تنوعت الأحكام التكليفية لحكم كثيرة، ومنها: الحكمة الأولى: رفع الحرج والشقة عن المكلفين، بيان ذلك: أن الأحكام التكليفية وضعت لمصلحة العباد، فلو قصر تلك لتكاليف على الوجوب والتحريم - فقط - للزم من ذلك الحرج والتضييق عليهم، فبعض العبيد قد لا يستطيع امتثال جميع الأوامر والنواهي، ففتح اللَّه عَزَ وجَلَّ باب المباحات، والمندوبات، والمكروهات، تخفيفاً عليهم، وذلك لعلمه - سبحانه - أن العبد فيه ضعف من فعل الواجبات، وترك المحرمات. الحكمة الثانية: الابتلاء والامتحان من اللَّه تعالى للمكلفين، وبيان ذلك: أن امتثال الواجبات، واجتناب الحرمات أقرب إلى النفس الضعيفة التي تخاف العقاب، دون رغبة في زيادة الثواب. لكن إذا قوي إيمان العبد، وعرف أن هذه الأحكام التكليفية - جميعها - إنما شرعت لمصلحته، وهي السبيل لسعادته في الدنيا والآخرة، فإنه لا يرضى أن يقف عند حدود الواجب، بل يتعداه إلى فعل المندوبات والفضائل، ليتقرب إلى اللَّه تعالى بذلك، كما ورد في الحديث القدسي: " وما يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه.. "، وكذلك لا يرضى هذا العبد أن يقتصر على اجتناب المحرمات، بل يتعدَّى ذلك فيجتنب المكروهات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المبحث الرابع في أقسام الحكم التكليفي عند الحنفية ما سبق هي أقسام الحكم التكليفي عند الجمهور. أما عند الحنفية، فإن أقسام الحكم التكليفي عندهم سبعة، وهي: " الفرض "، و " الإيجاب "، و " الكراهة التحريمية "، و " الحرام " و" الكراهة التنزيهية "، و " الندب "، و " الإباحة ". وسبب تفريقهم بين " الفرض " و " الإيجاب ": أنهم يقسمون طلب الفعل على سبيل الجزم إلى قسمين: الأول: طلب الشارع الفعل على سبيل الجزم بدليل قطعي، وهذا يسمونه " فرضا ". الثاني: طلب الشارع الفعل على سبيل الجزم بدليل ظني، وهذا يسمونه " الواجب ". وسبب تفريقهم بين " الحرام "، و " الكراهة التحريمية ": أنهم يقسمون طلب الترك على سبيل الجزم إلى قسمين: الأول: طلب الشارع ترك الفعل على سبيل الجزم بدليل قطعي، وهذا يسمونه حراما. الثاني: طلب الشارع ترك الفعل على سبيل الجزم بدليل ظني، وهذا يسمونه " كراهة تحريم ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المبحث الخامس في بيان الأحكام التكليفية الخمسة عند الجمهور بالتفصيل ويشتمل على خمسة مطالب: المطلب الأول: في الواجب. المطلب الثاني: في المندوب. المطلب الثالث: في المباح. المطلب الرابع: في المكروه. المطلب الخامس: في الحرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 المطلب الأول في الواجب ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: تعريف الواجب: أولاً: الواجب لغة. ثانياً: الواجب اصطلاحاً. المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين الواجب والفرض؟ المسألة الثالثة: صيغ الواجب. المسألة الرابعة: تقسيمات الواجب. المسألة اتامسة: الواجب المعين والواجب المخير: أولاً: تعريفهما والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما. ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم، أو أنه متعلق بكل فرد من الأفراد المخير بينها؟ ثالثاً: شروط الواجب المخير. رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخير بينها؟ المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت: أولاً: بيانه والأمثلة عليه. ثانية: متى يتضيق الوقت في هذا الواجب؟ ثالثا: هل يعصي بالموت - هنا -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 المسألة السابعة: الواجب المضيق والواجب الموسع: أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع. ثانياً: تعريف الواجب المضيق، والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما. تالثاً: الواجب الموسع هل هو ثابت. رابعاً: في بيان فرق منكري الواجب الموسع ودليل كل فرقة مع الجواب عنه. خامساً: الاختلاف في اشتراط العزم. سادساً: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته. سابعاً: إذا فعل المكلف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه لا يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء. ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟ المسألة الثامنة: الواجب المحدد، والواجب غير المحدد: أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما. ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب. المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي: أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب التسمية بذلك. ثانياً: متى يتحول الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟ تالقاً: شروط فرض الكفاية. رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟ خامساً: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه. سادساً: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟ المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به، هل هو واجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 المسألة الأولى: في حقيقة الواجب: أولاً: الواجب لغة: الواجب لغة هو: الساقط، يقال: " وجب الحائط ": إذا سقط ويقال: " وجب الميت " إذا سقط ومات، ومنه قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها) أي: سقطت على الأرض. ومعنى الوجوب لغة: السقوط، حيث إنا نتخيل الحكم أو الشيء الواجب جزماً سقط، أي: وقع على المكلف من اللَّه تعالى. ويطلق الواجب على اللازم والثابت، يقال: " وجب الشيء " أي: لزم. ثانياً: الواجب اصطلاحا: هو: " ما ذُمَ تاركه شرعاً مطلقاً ". شرح التعريف وبيان محترازته: قولنا: " ما " موصولة بمعنى " الذي "، وهو صفة لموصوف محذوف تقديره " الفعل "، لأن الواجب هو: الفعل الذي تعلق به الإيجاب، والمقصود: " فعل المكلف ". و" ما " التي تعود إلى " فعل المكلف " جنس في التعريف يشمل الواجب، والمندوب، والمحرم، والمكروه، والمباح. قولنا: " ذم " الذام هو الشارع، والمراد بالذم: اللوم والاستنقاص. وهو قيد في التعريف أخرج المندوب، لأن المندوب لا ذم على تركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وأخرج المكروه، لأن المكروه لا ذم على فعله، وأخرج المباح، لأن المباح لا ذم على تركه، ولا على فعله. وعبَّرنا بلفظ: " ذم " - على أنه فعل ماض -، لأن هذه المذام قد وقعت، ووردت فى الكتاب والسُّنَّة. ولو ذكرنا اللفظة " ذم " بلفظ " يُذَم " - فعل مضارع - لأشعر بأن تلك المذام لم تقع. قولنا: " تاركه " اسم فاعل مشتق من الترك، وقد أخرج بهذا اللفظ " المحرم "، لأن المحرم يذم على فعله، لا على تركه. قولنا: " شرعاً " منصوب على التمييز، فيفيد أن الذام هو الشارع فقط، أي: أن الذم يعرف من جهة الشرع، لا من جهة العقل، خلافاً لما زعمه أكثر المعتزلة في قولهم: " التحسين والتقبيح العقليين ". والمراد: ما ورد ذمه في كتاب اللَّه، وسُنَّة رسوله، وإجماع الأُمَّة. قولنا: " مطلقا ": قيد في التعريف يفيد أن الذي يترك الواجب مطلقاً هو الذي يذم. أما من تركه؛ لأنه سيقضيه في آخر الوقت، أو من تركه ليقضي نوعا آخر مثله، أو من تركه، لأن بعض المسلمين فعله، فإن هذا لا يذم. وقلت ذلك؛ لأن من أقسام الواجب: " الواجب الموسع "، و"الواجب المخير "، و " الواجب الكفائي ". فالواجب الموسع هو: ما كان فيه الوقت أزيد من الفعل كالصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 والواجب المخير هو: ما صح للمكلف أن يفعل أي فرد من أفراده التي حصل فيها التخيير كخصال الكفارة في اليمين وهي: الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق. والواجب الكفائي هو: ما سقط بفعل بعض المكلفين كصلاة الجنازة. فترك الواجب الموسع يوجب الذم إذا ترك في جميع الوقت، ولا يوجب الذم إذا ترك في بعض الوقت، وعزم على فعله في آخر وترك الواجب المخير يوجب الذم، إذا ترك جميع الخصال، ولا يوجب الذم إذا ترك خصلة من الخصال المخير بينها، وعزم على فعل الخصلة الأخرى. وترك الواجب الكفائي يوجب الذم إذا تركه جميع المكلفين. ولا يوجب الذم إذا ترك من البعض وفعل من البعض الآخر. وهناك تفصيلات واعتراضات على هذا التعريف ذكرتها مع الأجوبة عنها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، و" الواجب الموسع عند الأصوليين " فراجعهما إن شئت. المسألة الثانية: هل يوجد فرق بين " الواجب " و " الفرض "؟ اتفق العلماء - من حيث اللغة - على: أن مفهوم هذين اللفظين - الفرض والواجب - مختلف، ومعناهما متباين: فالفرض لغة: التقدير والحز والقطع. والواجب لغة: الساقط، والثابت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 أما من جهة الشرع، فقد اختلف العلماء في الفرض والواجب هل هما مترادفان، أو مختلفان على مذهبين: المذهب الأول: أن الفرض والواجب غير مترادفين، بل يدلان على معنيين مختلفين. ذهب إلى ذلك الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار القاضي أبي يعلى، وأبي إسحاق بن شاقلا، والحلواني، وحكاه ابن عقيل عن كثير من الحنابلة. وهذا هو الصحيح عندي فيكون الفرض: اسم لما ثبت وجوبه بطريق مقطوع به، أي: أن الفرض: ما ثبت حكمه بدليل قطعي مثل: الآية التي قطع بدلالتها على الحكم، والحديث المتواتر الذي قطع بدلالته على الحكم، والإجماع الصريح الذي نقل إلينا نقلاً متواتراً. والواجب هو: اسم لما ثبت من طريق غير مقطوع به، أي: أن الواجب: ما ثبت حكمه بدليل ظني كخبر الواحد، والقياس، والإجماع السكوتي،. ودلالات الألفاظ الظنية. وقد صححته؛ لأدلة، من أهمها: الدليل الأول: أن هناك فرقا بين الفرض والواجب عند أهل اللغة. فالفرض في اللغة: الحز في الشيء والتأثير فيه. أما الوجوب فهو في اللغة: السقوط. فإذا ثبت هذا: فالتأثير آكد من السقوط؛ لأن الشيء قد يسقط ولا يؤثر. فكل من الفرض والواجب لازم، إلا أن تأثير الفرضية أكثر من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 تأثير الوجوب، ومنه سمي الحز في الخشبة فرضاً لبقاء أثره على كل حال، وسمي السقوط على الأرض وجوباً؛ لأنه قد لا يبقى أثره في الباقي. وإذا كان الأمر كذلك: وجب اختصاص الفرض بقوة في الحكم كما اختص بقوة في اللغة؛ حملاً للمقتضيات الشرعية على مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير. الدليل الثاني: أن العلماء قد اتفقوا على أن الدليل القطعي ثبوتاً، ودلالة يفيد علماً أقوى مما يفيده الدليل الظني ثبوتاً ودلالة، وبناء على ذلك لا بد من التفريق بين الحكم الثابت بدليل قطعي، لإفادته علماً يقينياً، وبين الثابت بدليل ظني المفيد ظناً قوياً، فيطلق على الثابت بالأول اسم " الفرض "، ويطلق على الثابت بالثاني اسم "الواجب " وذلك من أجل تسهيل التمييز بينهما لتصبح دلالة كل اسم على نوعه أدق وأوضح دون حاجة إلى قرائن. ولو لم يعتبر هذا التفريق لزم رفع الدليل المظنون إلى رتبة المقطوع من جهة، وحط الدليل المقطوع به إلى رتبة المظنون من جهة أخرى. الدليل الثالث: أن وجود التفاوت بينهما في الآثار والأحكام يجعلنا نخص كل نوع باسم، بيان ذلك: أن حكم الفرض يكفر جاحده، ويفسق تاركه بلا عذر. أما حكم الواجب فلا يكفر جاحده، ويفسق تاركه إذا استخف به أما إذا تأول فلا. وإن الحج يشتمل على فروض، وواجبات، وأن الفرض لا يتم النسك إلا به، والواجب يجبر بدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وأن الصلاة مشتملة على فروض وواجبات، والفروض هي: الأركان. وأن الواجب يجبر إذا ترك نسياناً بسجود السهو، والفرض لا يقبل الجبر.. أي: أن المكلف إذا ترك فرضاً كالركوع أو السجود بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا سهو، ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة، أما إذا ترك واجباً فإن صلاته صحيحة، ولكنها ناقصة. الدليل الرابع: أن هناك فرقاً بين الفرض والواجب في عادة أهل الشرع، فتجدهم يفرقون بين الفرض والواجب في التعبير عن الأحكام الشرعية، فيقولون - مثلاً -: في الديون والشفعة: واجبات، ولا يقولون: إنها فروض، وبقول القائل منهم: "أوجبت على نفسي "، ولا يقول: " فرضت على نفسي "، فبان: أن معنى اللفظين مختلف في عادة أهل الشرع. الدليل الخامس: أن هناك فرقاً بينهما عن طريق العقل، حيث إن كل عاقل يجد في عقله أن صلاة الظهر آكد من الصلاة المنذورة، والزكاة آكد من النذر في الصدقة، وإن كانتا لازمتين. وإذا كانت هذه الأمور يجدها كل عاقل في نفسه، فإنه ينبغي أن يفرق ما هو آكد عما هو دونه باسم يعرف به، فيجعل اسم الفرض عبارة عما كان في أعلى المراتب من الوجوب، ويجعل اسم الواجب عبارة عما كان دونه، فرقاً بين الاثنين. المذهب الثاني: أن الفرض والواجب مترادفان، أي: أنهما اسمان لمسمى واحد، ولفظان يطلقان على مدلول واحد، وهو: الفعل الذي ذم تاركه شرعاً مطلقاً، أو هو: طلب الشارع المقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فعل المكلف طلباً جازماً، سواء كان هذا الطلب بدليل ظني، أو قطعي. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قالوا فيه: إن اختلاف أسباب الوجوب، وقوة بعضها على بعض لا يوجب اختلاف الشيئين في أنفسهما، بدليل: أن النفل قد ثبت بأخبار متواترة، وثبت بأخبار الآحاد، والكل متساو، فكذلك الفرض قد ثبت بأخبار متواترة، وأخبار آحاد، والكل متساو. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قوة بعض أسباب الوجوب على بعضها الآخر توجب اختلافهما في أنفسهما؛ لأن ما كان معلوماً أنه مراد اللَّه - تعالى - قطعاً، فإنه مخالف لما كان مظنوناً، وكذلك ما يكفر جاحده مخالف لما لا يستحق هذه الصفة، ومتى ما اختلفت الأشياء في أنفسها وأحكامها اختلفت الأسامي التي تستعمل فيها، لاختلاف ما يستفاد بالعبارة منها. الدليل الثاني: أنهما متساويان في الحد؛ حيث إن حد الواجب - وهو: ما ذم تاركه شرعاً مطلقاً - ينطبق على الفرض تماماً، ولا فرق، فإذا كانا متساويين في هذا لم يكن لأحدهما مزية على الآخر، كما أن الندب والنفل لما كان معناهما واحداً - وهو: ما يحمد فاعله ولا يذم تاركه - لم يكن لأحدهما مزية على الآخر. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الفرض وإن ساوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الواجب في ذم وعقاب تارك الفعل، فقد خالفه من وجه آخر، وهو: أن ثبوته من طريق مقطوع به، فهذه المخالفة منعت من المساواة في التسمية، قياساً على الندب والمباح، فإنهما تساويا في سقوط الذم عن التارك لهما، واختلفا في التسمية، وذلك نظراً لاختلافهما من وجه آخر، وهو: أن الندب يحمد فاعله ويثاب، والمباح لا يحمد فاعله ولا يثاب. فكذلك هنا، فإن الفرض والواجب وإن تساويا في الحد، فإنهما اختلفا من وجه آخر، وهو طريق الثبوت، فالواجب ثبت عن طريق مظنون، والفرض ثبت عن طريق مقطوع به، فلزم أن يختلفا في التسمية. بيان نوع الخلاف: إن الخلاف في هذه المسألة قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: إن الخلاف معنوي له ثمرة، فقد رتب أصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - على الحكم بفرضية الشيء: كفر جاحده، وعدم إمكان جبره، أما الحكم بوجوب الشيء فلا يكفر جاحده، ويمكن جبره، وكذلك قالوا: إن قراءة القرآن في الصلاة فرض، لثبوته بدليل قطعي، وهو قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، أما قراءة الفاتحة في الصلاة فهي واجبة، لثبوت ذلك بالدليل الظني، وهو خبر الواحد الذي رواه عبادة بن الصامت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". القول الثاني: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، لأنه لا نزاع بين أصحاب المذهبين في انقسام ما أوجبه الشرع علينا وألزمنا إياه من التكاليف إلى قطعي وظني، ولا نزاع بينهم - أيضا - على تسمية الظني واجباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 ولكن النزاع حصل في القطعي، فأصحاب المذهب الثاني يسمونه " فرضاً "، و " واجباً " بطريق الترادف. وأصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - يسمونه باسم "الفرض "، وذلك مما لا يضر أصحاب المذهب الثاني، فليسم كل فريق بما شاء، وهو مجرد اصطلاح. والراجح عندي التفصيل: فإن نظر إلى الأمر وأنه حقيقة للوجوب بمعنى الطلب الجازم بقطع النظر عن كون الدليل قطعياً أو ظنياً، فإن الخلاف يكون لفظياً. وإن نظر إلى أحكام كل منهما وما يفيده، فإن الخلاف يكون معنوياً؛ فإن أصحاب المذهب الأول - وعلى رأسهم الحنفية - قد ذكروا أحكاماً شرعية وفرَّقوا بينها وبين الأحكام الأخرى، وكان سبب هذا التفريق هو تفريقهم بين " الفرض " و " الواجب ". وقد بسطت القول في ذلك في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، و " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليهما إن شئت. المسألة الثالثة: في صيغ الواجب: الصيغ التي تدل على الواجب هي ما يلي: الأولى: فعل الأمر، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الز اة) . الثانية: الفعل المضارع المجزوم بلام الأمر، كقوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الثالثة: اسم فعل الأمر، كقوله تعالى: (عليكم أنفسكم) . الرابعة: المصدر النائب عن فعل الأمر، كقوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب) . الخامسة: التصريح من الشارع بلفظ الأمر، كقوله تعالى: (إن اللَّه يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) . السادسة: التصريح بلفظ الإيجاب أو الفرض، أو الكتب، كقوله تعالى: (فريضة من الله) ، وقوله: (كتب عليكم القصاص) . السابعة: كل أسلوب في لغة العرب يفيد الوجوب، كقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) . الثامنة: ترتيب الذم والعقاب على الترك، كقوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . المسألة الر ابعة: تقسيمات الواجب: الواجب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات مختلفة إلى أربعة تقسيمات: التقسيم الأول: الواجب باعتبار ذاته - أي: بحسب الفعل المكلف به - ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: " الواجب المعيَّن ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 القسم الثاني: " الواجب المخيَّر ". فالواجب المعيَّن، مأخوذ من التعيين، وهو: التخصيص، فيكون الواجب المخصَّص. وهو في الاصطلاح: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً بعينه، دون تخيير بينه وبين غيره. أي: أنه الذي تعين المطلوب به بشيء واحد لا خيار للمكلف في نوعه، فلا يمكن أن تبرأ ذمته - وهو المطالب به - إلا إذا فعله بعينه. ومن أمثلته: الصلوات المفروضة، وصيام رمضان، والزكاة، والحج، وأداء الديون، والوفاء بالعهد، أو نذر عتق هذا العبد، ونحو ذلك. وأما الواجب المخيَّر فهو لغة من التخيير وهو: التفويض. يقال: " خيرته بين الشيئين " إذا فوضت إليه الاختيار. والمراد بالواجب المخيَّر هو الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً لا بعينه، بل خيَّر في فعله بين أفراده المحصورة المعينة. أي: أنه الذي لم يتعين المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له أفراد، وخيَّر المكلف فيه بأن يأتي بما شاء منها. مثاله: كفارة اليمين؛ حيث إن الشارع قد طلب من المكلف أن يكفر عن يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي: " الإطعام " أو " الكسوة " أو " الإعتاق ". ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 والمكلف إذا فعل واحداً من الأفراد المعين بينها، فإن ذمته تبرأ، فإن تركها جميعاً أثم بذلك، ويسميه بعضهم بـ " الواجب المبهم ". التقسيم الثاني: الواجب باعتبار وقته وزمن أدائه ينقسم إلى قسمين: القسم الأول؛ الواجب غير المؤقت، وهو " الواجب المطلق ". القسم الثاني: الواجب المؤقت. أما الواجب المطلق فهو: لغة: مأخوذ من الإطلاق وهو: التخلية والإرسال، والترك، يقال: " أطلقت الأسير ": إذا حللت أسره وأخليت سبيله، ويقال: " أطلقت القول ": إذا أرسلته من غير تقييد ولا شرط. والمراد بالواجب المطلق هو: الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من المكلف طلبا جازما، ولم يحدد وقتا معيناً لأدائه وإيقاعه فيه. ومن أمثلته: كفارة اليمين؛ حيث إنها واجبة مطلقة. وأما الواجب المؤقت: فهو الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من المكلف طلبا جازما وحدد له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه فيه. وهو نوعان: النوع الأول: الواجب المضيَّق، من ضاق يضيق ضيقا: خلاف اتسع، يقال: " ضاق الرجل فهو مضيق عليه ": إذا ضاق عليه معاشه ورزقه، بحيث يكفي يومه فقط بدون زيادة - والواجب المضيَّق اصطلاحاً: هو الفعل الذي طلبه الشارع من المكلف طلبا جازما محدِّداً وقت وزمن أدائه، بحيث يسعه وحده، ولا يسع غيره من جنسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 أو تقول: إن المراد منه: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت مساو لوقت أدائه بلا زيادة ولا نقصان، ويطلق عليه الحنفية اسم "المعيار". مثل: صيام يوم من رمضان، فالشارع ألزم المكلف الذي لا عذر له صيام ذلك اليوم، واليوم يبدأ من الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع لفعل شيء آخر معه. ولا يصح فعله قبل دخول وقته، وإذا فعله بعد خروج وقته يكون فعله هذا قضاء، ولا يمكن أن يقع معه في وقته غيره من جنسه. ويمثل له الشافعية بوقت صلاة المغرب على القول الجديد؛ إنه ليس لها إلا وقت واحد، وهو بمقدار ما يتطهر، ويستر العورة، ويؤذن، ويقيم الصلاة، ويدخل فيها، فإن أخَّر الدخول عن هذا الوقت أثم. النوع الثاني - من نوعي الواجب المؤقَّت: " الواجب الموسَّع ". والتوسيع لغة: بخلاف التضييق، يقال: " استوسع الشيء ": وجده واسعا. والمراد بالواجب الموسَّع هو: الفعل الذي يكون وقته واسعاً لأدائه وأداء غيره من جنسه. والمراد بالواجب الموسَّع: هو الفعل الذي طلب الشارع من المكلف إيقاعه وأداءه طلباً جازماً في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه. كالصلوات الخمس، فصلاة الظهر مثلاً واجب موسَّع؛ حيث إنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يجوز أن يصلي المكلف في أول الوقت، أو في وسطه، أو في آخره. التقسيم الثالث: الواجب باعتبار تحديد الشارع للمكلَّف فيه وعدم تحديده ينقسم إلى قسمين. القسم الأول: الواجب المحدَّد. القسم الثاني: الواجب غير المحدَّد. أما الواجب المحدَّد فهو مأخوذ من الحد، وهو الفصل والمنع، يقال: " حدَّ بين الشيئين " أي: فصل بينهما. فالتحديد يكون هو: الفصل بين أشياء بفاصل. فالمراد بالواجب المحدَّد هو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً وقد حدَّده الشارع، وقدَّره بمقدار معيَّن وفصله عن غيره. مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة بركعات محددة. ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر إذا كان محدداً. وغسل الرجلين، واليدين، ونحو ذلك. وأما الواجب غير المحدد فهو: الذي لم يعيِّن له الشارع مقداراً معيناً، بل طلبه بغير تحديد. مثل: الطمأنينة في الركوع والسجود. التقسيم الرابع: الواجب باعتبار فاعله، أي: باعتبار المخاطبين به ينقسم إلى قسمين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 القسبم الأول: " الواجب العيني ". القسم الثاني: " الواجب الكفائي ".. فالواجب العيني هو: ما يتحتم أداؤه على مكلف بعينه. أو هو: ما طلب الشارع حصوله من كل واحد من المكلفين مثل: الصلاة، والصيام، والحج، ونحو ذلك. وسُمِّي بالواجب العيني، لأن الفعل الذي تعلَّق به الإِيجاب منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة. فهذا الواجب يلزم الإتيان به من كل واحد من المكلفين بعينه، بحيث لا تبرأ ذمته إلا بفعله. أما الواجب الكفائى فهو: ما يتحتم أداؤه على جماعة من المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام به بعض المكلفين فقد أُدِّي الواجب وسقط الإثم والحرج عن الباقين. مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على الميت، وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، ونحو ذلك. وسُمِّي بالواجب الكفائي، لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من حيث إن فعله من أي فاعل سقط طلبه عن الآخرين، فالقصد من الوجوب الكفائي هو: وقوع الفعل نفسه؛ لما يترتب عليه من جلب مصلحة، أو رد مفسدة بصرف النظر عمن يقع منه ذلك الفعل. وسيأتي - إن شاء اللَّه - البيان التفصيلي لهذه التقسيمات في المسائل الآتية: المسألة الخامسة: الواجب المعيَّن، والواجب المخيَّر: أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وبيان حكمهما: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الواجب المعيَّن - كما سبق بيانه - هو: ما طلبه الشارع بعينه، دون تخيير بينه وبين غيره كالصلوات الخمس، والصيام، والزكاة، ونحو ذلك. وهذا النوع أكثر الواجبات. وحكمه: عدم براءة ذمة المكلَّف إلا إذا فعله بعينه. أما الواجب المخيَّر - أو المبهم - فهو ما طلبه الشارع لا بعينه، بل خيَّر الشارع في فعله بين أفراده المعينة المحصورة. أو هو: الذي لم يتعيَّن المطلوب به بشيء واحد، وإنما كان له أفراد، وخيَّر المكلَّف فيه بأن يأتي بأي منها. مثل كفارة اليمين، فقد طلب الشارع من المكلَّف أن يكفِّر عن يمينه بخصلة واحدة من خصال الكفارة الثلاث وهي: " الإطعام "، أو " الكسوةً "، أو " العتق "، قال تعالى: (فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) . ومثل: تخيير الإمام في حكم الأسرى بين المن والفداء، قال تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) . ومثل: التخيير في جزاء الصيد الوارد في قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) ومثل التخيير في فدية الأذى الوارد في قوله تعالى: (فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك) . وحكم الواجب المخيَّر: أن المكلف تبرأ ذمته بفعل أي واحد من أفراده فإن تركها جميعاً أثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 ثانياً: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم أو أنه متعلق بكل الأفراد المخير بينها؟ اعلم أن الخطاب الطالب للفعل طلباً جازماً - وهو ما يعرف بالإيجاب - قد يتعلَّق بفعل معين كالخطاب الطالب للصلاة، والطالب للزكاة، وهو المسمى بالواجب المعين. وقد يتعلق بفعل مبهم من أمور معيَّنة كالخطاب المتعلِّق بكفارة اليمين، وهو المسمَّى بالواجب المخيَّر. فأما الواجب المعيَّن: فلا شك في أن الخطاب المتعلِّق به يقتضي إيجاب ذلك المعين بعينه من صلاة، وصيام وزكاة، وقد أجمع العلماء على ذلك. أما الواجب المخيَّر فقد اختلف العلماء فيه. أي: اختلف العلماء في الخطاب الوارد في الواجب المخيَّر أين يتعلق؟ أو تقول: هل الخطاب في الواجب المخير متعلق بواحد مبهم من الأمور المخير بينها، أو أنه متعلق بكل فرد من أفراده؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن الخطاب في الواجب المخيَّر إنما يتعلَّق بواحد مبهم من الأمور المخير بينها. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الفقهاء والأصوليين، ونقل القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع سلف الأُمَّة وأئمة الفقهاء عليه. وهو الصحيح عندي، وعلى هذا فالمكلَّف مخير في تحقيق الخطاب في أي فرد من هذه الأفراد المعينة المخيَّر بينها، فأيُّ فردٍ فعله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 المكلَّف منها يسقط ما وجب عليه، فمثلاً في كفارة اليمين: لو فعل " الإطعام " سقطت عنه " الكسوة " و " العتق "، ولو فعل "الكسوة" سقط عنه الإطعام، والعتق، ولو فعل العتق سقط الإطعام والكسوة، وهكذا، فالواجب منها واحد لا بعينه، أي: متعلق الإيجاب والخطاب هو الواحد لا بعينه، ويتعين ذلك الواحد بالفعل. فلا يوصف كل واحد من الأمور المخير بينها بأنه واجب بخصوصه. بل يصح أن يوصف بأنه واجب من حيث إن الواجب يتحقق فيه. وقد اخترته للأدلة التالية: الدليل الأول: أن العقل لا يمنع منه: فلو أن السيد قال لعبده: "أمرتك أن تخيط هذا القميص في هذا اليوم، أو تبني هذا الحائط في هذا اليوم أيهما فعلت اكتفيت به، وأثبتك عليه، وإن تركت الجميع عاقبتك، وأنا لا أوجب الخياطة والبناء معاً عليك، بل أوجب أحدهما لا بعينه أيهما شئت ": كان هذا القول معقولاً. فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً، وذلك لأن السيد صرح بعقاب العبد لو ترك الكل. ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد فعل الخياطة والبناء معاً في اليوم نفسه، لأن السيد صرح بنقيض ذلك. ولا يمكن أن يقال فيه: إن السيد أوجب على العبد واحداً معينا، لأن السيد صرَّح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير. وإذا بطلت هذه الأمور الثلاثة: لم يبق إلا أن يقال: المأمور به واحد لا بعينه: إما الخياطة، أو البناء، أيهما فعل فإنه سينال الثواب من السيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 الدليل الثاني: العقل لا يمنع من جهة أخرى، حيث لا يمتنع عقلاً أن يتعلق غرض السيد بفعل واحد غير معين، لأن كلًّا من فعل الخياطة، أو فعل البناء يفي بهذا الغرض، وهو: طاعة السيد وعدم مخالفته، فأي واحد منهما فعله العبد، فإنه يكون قد سلم من العقاب، وفاز بالثواب بسبب فعله، فإذا كان الأمر كذلك، فلا مانع من أن يطلب السيد من العبد ما يفي بغرضه، وهو: فعل شيء غير معن - فقط - ويكون التعيين - حينئذ - زيادة وفضلة لا يتعلق بها غرض السيد، فلا يطلبه من العبد. فينتج: أن إيجاب واحد غير معين من أمور محصورة لا مانع منه عقلاً. الدليل الثالث: الوقوع، حيث وقع التخيير بين أمور في الشرع كما ورد في كفارة اليمين؛ حيث قال لعالى: (فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة) . وفي جزاء الصيد على المحرم؛ حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) وفي تخيير الشارع للإمام بين المن والفداء؛ حيث قال تعالى: (فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً) . وفي تخيير الشارع للحاج في فدية حلق الرأس لعذر؛ حيث قال تعالى: (فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ) ، وقال - صلى الله عليه وسلم - في كعب بن عجرة -: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 " احلق رأسك، وانسك نسيكة، أو صم ثلاثة أيام، أو أطعم ستة مساكين ". وفي وجوب تزويج المرأة المستحقة للنكاح من أحد الكفؤين الخاطبين. وفي وجوب عقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين لها. فعندنا ثلاثة احتمالات في هذه الأمثلة هي كما يلي: الأول: إما أن يقال في هذه الأمثلة الستة: إن المراد وجوب جميع المخيَّر بينها. الثاني: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد بعينه. الثالث: إما أن يقال: إن المراد وجوب واحد لا بعينه. أما الأول - وهو: أن المراد وجوب جميع المخيَّر بينها - فهو باطل؛ لأنه لو كان التخيير يوجب تعلُّق الوجوب بالجميع لترتب على ذلك ما - يلي: 1 - لزوم أن جميع خصال كفارة اليمين واجبة، وهذا خلاف الإجماع. 2 - ولزم - أيضاً -: الجمع بين جزاء الصيد، وهذا مخالف للصحيح من أقوال العلماء. 3 - ولزم - أيضا -: الجمع بين المن والفداء بالنسبة للأسرى، وهذا ظاهر البطلان. 4 - ولزم - أيضا -: الجمع بين الصيام، والصدقة، والنسك في فدية الأذى، وهو خلاف الإجماع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 5 - ولزم - أيضاً -: تزويج المرأة من الكفؤين الخاطبين معا، وهذا خلاف الإجماع. 6 - ولزم - أيضا -: عقد الإمامة للرجلين الصالحين لها - معاً - وهذا باطل، لأنه يؤدي إلى الفساد. أما الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - فهذا باطل - أيضاً -، لأن الشارع صرح بلفظة " أو " المفيدة للتخيير. فمثلاً: لو كان التخيير يوجب خصلة معينة من خصال كفارة اليمين، أو يوجب تزويج واحد بخصوصه، أو عقد الإمامة لواحد معين، لامتنع التخيير، وهذا باطل؛ ضرورة تحقق التخيير بكلمة "أو"، فيلزم من ذلك بطلان وجوب واحد بعينه. أي: أن التخيير لو كان موجباً لوجوب واحد بعينه، لكان موجباً لنقيضه، لأن التخيير ينافي التعيين، حيث إن التخيير يجوِّز ترك المعين، والتعيين لا يجوّزه فاختلفا. ولا بطل الاحتمال الأول - وهو: أن المراد وجوب الجميع - وبطل الثاني - وهو: أن المراد وجوب واحد بعينه - صح الثالث - وهو: أن المراد وجوب واحد لا بعينه - أي: أن الخطاب متعلق بواحد لا بعينه، ويتعين بفعل المكلف، فإذا فعل المكلَّف أحد الأفراد المخيَّر بينها كان هو الواجب عليه، ويسقط عنه الباقي. المذهب الثاني: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من أفراده المحصورة، أي: أن جميع الأشياء المأمور بها في الواجب المخير واجبة على طريق التخيير، ولم يتعلق الإيجاب بواحدٍ مبهم. ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وعلى رأسهم الجبائيان: أبو عليّ وابنه أبو هاشم، ونسب إلى ابن خويز منداد من المالكية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يستحيل اجتماع الوجوب مع التخيير؛ لأن التخيير ينافي الوجوب؛ لأن معنى وجوب الجميع: أنه لا تبرأ ذمة المكلَّف إلا بفعل الجميع، ومقتضى التخيير: أن الذمة تبرأ بفعل أيها شاء، وهما لا يجتمعان، فيلزم أن الجميع واجب على التخيير. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن هذا الدليل لكم منقوض بخصال كفارة اليمين، والأمثلة التي ذكرناها سابقا. فالله عَزَّ وجَلَّ يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الواجب الذي ليس بمعيَّن غير معيَّن، وإذا أتى بها المكلَّف كلها سقط الفرض بالأمر الذهني. الدليل الثاني: أنه يستحيل التكليف بواحد مبهم؛ لأنه مجهول، والتكليف بالجهول محال، فيلزم التكليف بكل - واحد من هذه الأمور. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عن ذلك -: إن الواحد المبهم ليس مجهولا؛ لأن الواجب المخيَّر هو: القدر المشترك الذي يتحقق حصوله بحصول جزء من جزئيات المخيَّر فيه، وحينئذ لا تكون هناك جهالة. الدليل الثالث: قياس الواجب المخيَّر على الواجب الكفائي، بيان ذلك: إنه كما أن الوجوب في الواجب الكفائي على الجميع ويسقط بفعل بعضهم، فكذلك في الواجب المخيَّر نقول بوجوب الجميع، فإذا فعل واحداً سقط الباقي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 جوابه: يمكن أن يجاب - عنه - ويقال: إن هذا القياس فاسد؛ لأمرين: الأول: أنه قياس مع النص؛ حيث وردت نصوص شرعية تفيد وجوب واحد من عدة أمور كخصال كفارة اليمين، والتخيير في الأسرى، والتخيير في جزاء الصيد، والتخيير في فدية الأذى، ونحو ذلك مما سبق. الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق، وذلك لأن تأثيم الواحد المبهم في الواجب الكفائي بعيد، أما التأثيم بترك واحد مبهم في الواجب المخيَّر فهو قريب وممكن. المذهب الثالث: أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بواحد معيَّن عند اللَّه، غير معيَّن عند المكلَّف، إلا أن اللَّه تعالى علم أن المكلَّف لا يختار إلا ذلك الذي هو واجب عليه، واختياره معرِّف لنا أنه الواجب في حقه. وهذا المذهب يطلق عليه قول التراجم، لأن الأشاعرة ينسبونه إلى المعتزلة، والمعتزلة ينسبونه إلى الأشاعرة. فكل فريق يرجم به الآخر ويتبرأ منه. والصواب: أنه لا يُعرَف قائلُه. وإنما نشأ من مبالغة المعتزلة في الرَّد على الأشاعرة في أسباب تعلُّق الوجوب بالجميع - كما ذكر تاج الدين ابن السبكي في الإبهاج، وذكر أن رواية الأشاعرة له عن المعتزلة لا وجه له، وذلك لأن هذا المذهب ينافي قواعد المعتزلة، ومنها: إيجاب الأصلح على الله تعالى، وعدم تكليف ما لا يطاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 جوابه: هذا المذهب فاسد، لأمرين: أولهما: أن التخيير معناه: أن الشرع جوَّز للمكلَّف ترك كل واحد من المخيَّر بينها بشرط الإتيان بالآخر، وكونه واجباً على التعيين عند اللَّه يقتضي: أنه تعالى لم يجوِّز لنا تركه ألبتة، والجمع بين الترك وعدم جواز الترك تناقض. أي: أنه لو خير اللَّه - تعالى - بينه وبين غيره مع أنه جعله واجباً على التعيين لكان قد جمع بين جواز الترك وبين المنع منه، وهذا تناقض ظاهر. ثانيهما: أن القول بأن الواجب معيَّن عند اللَّه، وليس معيناً عند المكلَّف يجعل الواجب غير معلوم عند المكلف فلا يمكنه فعله، لجهله فإذا كُلِّف به - مع ذلك -: كان تكليفاً بما لا يطاق، وقد اتفق العلماء على أن التكليف بما لا يطاق غير واقع، وإن اختلفوا في جوازه عقلاً - كما سيأتي إن شاء اللَّه -. وقد ورد الخطاب بأمور معينة قد عطف بعضها على بعض بما يفيد التخيير، وذلك في كفارة اليمين - وغير ذلك من الأمثلة - فالقول بعدم تعيين الواجب للمكلف يلزمه وقوع تكليف ما لا يطاق، فيكون باطلاً. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين: القول الأول: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له، ولا يترتب عليه أيُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 أثر، لأن الفريقين قد اتفقا على أنه لا يجب الإتيان بكل واحد منها، ولا يجوز تركه كذلك. واتفقا - أيضاً - على أنه إذا أتى بواحد منها كفى ذلك في سقوط التكليف، وإذا كان الأمر كذلك فلا فرق في العمل. القول الثاني: إن الخلاف معنوي، وقد أثر في بعض المسائل الفقهية ومنها: 1 - إذا طلَّق إحدى زوجتيه، أو أعتق أحد عبديه. فعلى المذهب الأول: لا يقع الطلاق؛ لأن الواجب مبهم، فالطلاق وقع مبهماً، فلا يقع إلا عند التعيين. وعلى المذهب الثاني: فإن الطلاق وقع على كل واحدة. 2 - إذا ترك جميع خصال الكفارة - وقلنا: للإمام المطالبة بالكفارات - فعلى المذهب الأول: يجبر الإمام هذا المكلف على فعل واحدة منها من غير تعيين. وعلى المذهب الثاني: يجبر على فعل واحدة منها بعينها. القول الثالث: التفصيل. قال أصحاب هذا القول: إن كون الخلاف لفظيا، أو معنويا راجع إلى تفسير مراد جمهور المعتزلة في قولهم: " إن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بكل فرد من أفراده ". فمن قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه لا يجوز تركها - كلها -، وإذا فعل المكلَّف جميعها أثيب ثواب واجب واحد، وإذا تركها كلها عوقب عقاب ترك واجب واحد، وإذا فعل واحداً منها يكون قد فعل ما وجب عليه: فإن الخلاف لفظي عنده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن قولهم يكون موافقاً لقول جمهور العلماء في المعنى والمراد، فبكون الخلاف في اللفظ، وهذا تفسير بعض العلماء كإمام الحرمين، وأبي الحسين البصري، والبيضاوي. أما من قال: إن جمهور المعتزلة أرادوا بتعلُّقه بكل الأفراد: أنه إذا فعل الأمور كلها، فإنه يثاب عليها ثواب واجبات، هاذا تركها كلها عوقب عليها عقاب تارك واجبات، وإذا فعل واحداً منها سقط عنه غيره: فإن الخلاف معنوي عنده. أي: من فسَّر قول جمهور المعتزلة بهذا: فإن الخلاف يكون معنوياً، لأن مقصودهم يكون مختلفا عن مقصود جمهور العلماء. وهذا تفسير بعض العلماء كابن فورك، والغزالي، وأبي الطيب الطبري، وابن التلمساني، والتبريزي. والراجح عندي هو القول الأول - وهو: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ حيث إن مراد جمهور المعتزلة هو نفسه ما يريده جمهور العلماء ولا فرق، لأن المعتزلة لا يخالفون في أمور ثلاثة: 1 - أنه لا يجب الإتيان بجميع الخصال المخيَّر بينها. 2 - أن من أتى بواحدة منها فقد برأت ذمته. 3 - أنه لا يقع التخيير بين الواجب وغيره من مباح ومندوب. وهذا هو قول جمهور العلماء، إذاً: لا خلاف في الحقيقة. وأبو الحسين قد صرَّح بذلك في " المعتمد "، وهو الذي ينبغي أن يعتمد في بيان مراد أصحابه المعتزلة، لأنه أعرف بمقاصدهم. وصرَّح بذلك - أيضاً - المحققون الأصوليون ممن تصدى لتفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 كلام المعتزلة، وممن التقى ببعضهم كأبي يعلى الحنبلي في " العدة "، وإمام الحرمين في " البرهان "، وفخر الدين الرازي في " المحصول " وابن برهان في " الوصول ". وأما ما ذكر من فروع فقهية، فإن هذا ألزمهم إياه بعض العلماء؟ لقولهم: " إن الكل واجب "، ولم يكن هذا هو نفس قول المعتزلة. ولقد أطلت الكلام في بيان نوع الخلاف في هذه المسألة في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فإن شئت فارجع إليه. سؤال: إذا كان الخلاف لفظياً، فإنه يكون مقصد المعتزلة هو نفسه مقصد جمهور العلماء، فلماذا عبَّر جمهور المعتزلة بتعبير يخالف ما عبَّر به جمهور العلماء؟ جوابه: أقول - في الجواب عن ذلك -: إن جمهور المعتزلة وصفوا الجميع بالوجوب - وهو تعبير يخالف ما ذكره جمهور العلماء - فراراً من التسوية بين الواجب وغير الواجب؛ بناء على قاعدتهم في " التحسين والتقبيح العقليين "، و " إيجاب الأصلح على اللَّه "؟ حيث قالوا: إن الحكم على الشيء يتبع حسنه أو قبحه، فإيجاب شيء " ما " تابع لحسنه الخاص به، فلو كان الواجب واحداً لا بعينه، والباقي غير واجب لخلا الباقي عن المقتضي للوجوب، وأصبح التخيير بين ما هو واجب، وما ليس بواجب، وهذا لا يقول به أحد، فلا بد من أن يكون واحد لخصوصه مشتملاً على صفة تقتضي وجوبه، وحينئذٍ يوصف كل منها بالوجوب والتخيير. أما نحن فلا نقول بالتحسين والتقبيح العقليين ولا إيجاب الأصلح على اللَّه، فلا مانع - عندنا - من إطلاق الوجوب على واحد منها لا بعينه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 ثالثاً: شروط الواجب المخير: إذا علمنا - في المسألة السابقة - أن الخطاب في الواجب المخيَّر متعلِّق بواحدٍ غير معيَّن، ويتعين بفعل المكلَّف، فهو مخير بين أمور محصورة، فمتى ما فعل واحداً فإنه هو الواجب في حقه، وهذا هو التخيير. ولكن ليس كل تخيير يصح، بل إن التخيير الصحيح له شروط لا يصح إلا بها، هي كما يلي: الشرط الأول: أن تكون الأشياء المخير بينها معلومة للمخاطب ومحصورة ومعينة حتى يحيط بها المكلََّف ويوازن بينها، ويرى ما هو الأصلح، فيختاره ويقوم به. الشرط الثاني: أن تتساوى تلك الأشياء المخير بينها في الرتبة. أي: تكون متساوية في الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، فلا يجوز التخيير بين واجب ومندوب، ولا بين واجب ومباح، ونحو ذلك؛ فإن التخيير بين الوجوب وتركه يرفع الوجوب. ولهذا لما استدل داود الظاهري على وجوب النكاح بقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) : ردَّه العلماء؛ لأن قوله تعالى: (أو ما ملكت أيمانكم) فيه تخيير بين النكاح وبين ملك اليمين، ومعروف أن ملك اليمين لا يجب إجماعا، فلذلك امتنع التخيير بين النكاح وملك اليمين. الشرط الثالث: أن تكون الأشياء المخير بينها متميزة للمكلَّف، أي: أن يتميز بعض الأشياء عن بعض، فلا يجوز التخيير بين متساويين من جميع الوجوه لا يتميز أحدها عن الآخر بوصف، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 لو خيّر بين أن يصلي أربع ركعات وبين أن يصلي أربع ركعات مع تساويهما في جميع الصفات. الشرط الرابع: أن يتعلَّق التخيير بما يستطيع فعله، فلا يصح التخييربين شيء يستطيعه، وشيء لا يستطيعه. الشرط الخامس: أن يكون وقت المخيَّر بينها واحداً " حيث يتأتى الإتيان بكل واحد منهما في وقت واحد، بدلاً عن التغاير، فإنه لو ذكر للمكلَّف فعلان مؤقتان بوقتين مختلفين: فإن ذلك لا يكون تخييراً؛ فإنه في وقت الإمكان من فعل الأول لا يتمكن من الفعل الثاني، وفي الوقت الثاني لا يتمكن من الأول، فلا يتحقق وصف التخيير أصلاً، وإنما يتحقق ذلك في شيئين يجوز ثبوت أحدهما بدلاً عن الثاني مع تقدير اتحاد الوقت. نُسب هذا الشرط إلى القاضي أبي بكر الباقلاني. قلت: وهذا الشرط باطل من جهة العقل، ومن جهة الشرع. أما بطلانه من جهة العقل فلأن السيد لو قال لعبده: " عليك خياطة هذا الثوب يوم السبت، أو بناء هذا الجدار يوم الأحد، أيهما فعلت: أثبتك، وإن تركت الجميع عاقبتك " كان هذا القول معقولاً. أما بطلانه من جهة الشرع فلأن الشرع ورد فيه التخيير بين شيئين في وقتين مختلفين، وهو أن المسافر سفر طاعة، فإنه يخير بين أن يصوم وأن يفطر ثم يصوم في وقت آخر. رابعا: هل يجوز الجمع بين الأمور المخيَّر بينها؟ الأمور المعينة المحصورة المخيَّر بينها قد يحرم على المكلف الجمع بينها، وقد يباح الجمع بينها، وقد يندب الجمع بينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 فمثال الأول: وهو: ما يحرم فيه الجمع بين الأمور المخير بينها: تزويج المرأة من كفؤين متساويين معاً، وكذا مبايعة إمامين للأمة. ومثال الثاني: وهو: ما يباح فيه الجمع بين الأمور المخير بينها: ستر العورة بثوب بعد سترها بثوب آخر، فستر العورة واجب، والمكلف مخير بسترها بأي ثوب شاء متى تعددت عنده الثياب، ويباح له سترها بأكثر من ثوب واحد، فيكون الجمع بين الأثواب في الستر مباحاً. ومثال الثالث: وهو ما يندب فيه الجمع بين الأمور المخير بينها: خصال كفارة اليمين، فإننا نعلم أن الخطاب قد تعلَّق بها على سبيل التخيير بينها، والواجب يسقط بفعل واحد منها، ولكن يندب له الجمع بين " الإطعام " و " الكسوة " و " العتق " زيادة له في الثواب. لكن هنا سؤال وهو: أن المكلَّف إذا جمع بين تلك الخصال - وهي: الإطعام، والكسوة، والعتق - فثواب الواجب هل يكون على أعلاها أو على أدناها، وما زاد نافلة، وكذلك إذا ترك الجميع هل يأثم بترك أدناها، أو أعلاها؟ جوابه: اختلف العلماء في ذلك على مذاهب، إليك أهمها: المذهب الأول: أنه إذا فعل الجميع أثيب ثواب أعلاها، والباقي ندب، وثواب الواجب أكثر من ثواب الندب، فانصرف الواجب إلى أعلاها، تكثيراً لثوابه. وإذا ترك فعل الجميع عوقب على أدناها " ليقل وباله ووزره. دهب إلى ذلك ابن برهان، وابن السمعاني، وهو قول للباقلاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 المذهب الثاني: أنه إذا فعل الجميع، فإن الذي يقع واجباً هو العتق، فإنه أعظم ثواباً؛ لأنه أنفع وأشق على النفوس، وهو محكي عن القاضي الباقلاني. المذهب الثالث: أنه يثاب ثواب الواجب على أدناها؛ لأنه لو اقتصر عليه أجزأه، ويثاب على ما زاد ثواب التطوع. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، حيث إن العمل لا يختلف باختلاف هذه المذاهب. المسألة السادسة: الواجب غير المؤقت: أولاً: بيانه، والأمثلة عليه: الفعل الواجب على المكلََّف قد يحدد الشارع وقتاً معينا لإيقاعه فيه. وقد لا يحدد الشارع لفعله وقتاً معيناً. فالأولى - وهو الذي حدد الشارع له وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه يُسمَّى " واجباً محدداً " أو " واجباً مؤقتاً ". وسيأتي بيانه بالتفصيل. أما الثاني، وهو: الذي لم يحدد الشارع وقتاً معيناً لفعله، فإنه يُسمَى واجباً مطلقاً، أو " واجباً غير مؤقت ". أي: أنه الفعل الذي طلب الشارع إيقاعه من المكلَّف طلباً جازماً، ولم يحدد وقتاً معيناً لأدائه وإيقاعه فيه. مثل: كفارة اليمين، حيث إنها واجبة مطلقة، أي: أن الشارع لم يحدد وقتاً معيناً يجب على المكلَّف أن يؤديها فيه، بل أطلقها وترك تحديد وقتها للمكلَّف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 كذلك الوفاء بالنذر، فإن الوفاء واجب مطلق، حيث لم يحدد الشارع وقت هذا الوفاء، بل تركه لاختيار المكلََّف. وكذلك الحج عند بعض العلماء، وقضاء العبادات التي فاتت من غير تقصير من المكلََّف، فإن جميع ذلك تجب في جميع العمر، وليست نهايته معلومة للمكلَّف. ثانياً: متى يتضيق الوقت - هنا -؟ يتضيق الوقت إذا غلب على ظن المكلَّف عدم البقاء إلى آخر الوقت، فيجب عليه - حينئذ - أن يفعل ذلك الواجب قبل ذلك الوقت الذي غلب على ظنه عدم البقاء إليه، لأنه لا يمكن أن يؤخر الفعل مطلقاً، لأنه يقتضي أن لا يكون واجباً. فلا بد من تأخير الفعل إلى زمن معين لا يجوز التأخير عنه، ولا يمكن ذلك إلا إذا عين هذا الزمن بعلامة أو أمارة، ولا يوجد معين لذلك سوى أن يغلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت. وبناء على هذا فإن المكلف يعصي في هذا بمجرد التأخير عن وقت يظن عدم بقاءه بعده. ثالثاً: هل يعصي بالموت هنا؟ إذا لم يغلب على ظنه الموت في وقت محدَّد، ثم أخَّر فعله بدون عذر، فمات فهل يعصي؟ اخنلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن المكلَّف إذا أخَّر الواجب غير المؤقت حتى مات مع قدرته على فعله في حياته، فإنه يعصي. ذهب إلى ذلك أكثر العلماء. وهو الصحيح عندي " لأن المكلَّف كان يمكنه المبادرة، وفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الواجب أثناء حياته فلم يفعل، فالتمكن موجود، والوجوب محقق مع التمكن فيعصي. المذهب الثاني: أنه لا يعصي، وهو مذهب بعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لما أخر فعل الواجب غير المحدد فإنه قد فعل ما له فعله. ذكر ابن السمعاني: أن هذا كان ينتظر تضييق الوقت غير المحدد عليه بغلبة الظن، وذلك أمر معهود بيِّن في غالب أحوال الناس، فإن اخترمته المنية من قبل أن يبلغ المعهود: لم يكن عليه عتب ولم يعص، لأنه كان على عزم إذا تضيق لا يؤخر. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا المكلف قد ترك واجباً عليه إلى أن مات مع قدرته على فعله قبل موته، فلا يوجد له عذر، فيكون عاصياً. أما ما اعتاده الناس فلا يلزمنا. الدليل الثاني: القياس على الواجب الموسَّع، بيانه: أنه كما أن مؤخر الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها في الواجب الموسع لا يعصي لو مات قبل الفعل، فكذلك مؤخر الواجب المطلق لا يعصي لو مات قبل الفعل. جوابه: يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق. ووجه الفرق: أن وقت الواجب الموسَّع قصير، أما وقت الواجب المطلق فهو طويل، لأنه العمر كله كما سبق. المذهب الثالث: التفريق بين الشيخ والشاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فالشيخ الكبير يعصي إذا أخَّر ثم مات. أما الشاب فلا يعصي إذا أخَّر ثم مات. وهو اختيار الغزالي. وفسَّر بعض العلماء التأخير المستنكر ببلوغه نحواً من خمسين، أو ستين، لأن العمر في الأغلب من الناس ستون لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين ". جوابه: يجاب عنه بأن هذا لا ضابط له، فقد يكون الشيخ أكثر صحة من الشاب، وكم من شيخ قد ورث بعض أولاده، أو كلهم. فإن قيل: إن هذا المذهب ورد على الأغلب في أحوال الناس. قلت: هذا صحيح، ولكن مذهبنا - وهو المذهب الأول - أقوى منه، لما قلناه من الاستدلال، ولما فيه من الاحتياط. والله أعلم. المسألة السابعة: الواجب المضيًّق، والواجب الموسَّع: أولاً: أقسام الوقت الذي حدده الشارع: الفعل الواجب على المكلَّف قد لا يحدد الشارع وقتا معيناً لإيقاعه فيه، وقد يحدد الشارع لفعله وقتا معينا. فالأول - وهو الذي لم يحدد الشارع له وقتا معينا لأدائه وإيقاعه فيه -: يُسمَّى واجباً مطلقا مثل كفارات الأيمان، وقضاء ما فاته من صيام رمضان عند الحنفية، والواجب بالنذر المطلق - وقد سبق بيانه. والثاني - وهو الذي حدد الشارع له وقتا معينا لأدائه فيه - يسمى واجبا مؤقتاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 والوقت الذي حدًّده الشارع لإيقاع وأداء الواجب فيه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يكون وقت الفعل أنقص من الفعل، بحيث إن الوقت لا يمكن إيقاع الفعل كله فيه، فهذا لا يجوز التكليف به؟ لأنه تكليف بما لا يطاق، إلا إذا كان القصد من التكليف بالفعل في هذا الوقت الناقص هو: ابتداء الفعل فيه، ثم إكماله بعد هذا الوقت، بحيث إذا لم يبتد الفعل في هذا الوقت يكون قضاؤه واجبا عليه، فالتكليف به من هذه الناحية جائز عقلاً، وواقع شرعا، فإن الصبي إذا بلغ وقد بقى من الوقت ما يسع ركعة، والمجنون إذا أفاق من جنونه وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، والحائض إذا انقطع حيضها وقد بقي من الوقت ما يسع ركعة، فإن هؤلاء الثلاثة تجب عليهم الصلاة، فإذا لم يبتدئها كل منهم في الوقت الباقي وجب عليهم القضاء. القسم الثاني: أن يكون وقت الفعل مساويا له، أي: أن يكون الوقت الذي حدَّده الشارع لفعل الواجب فيه على قدر الفعل، بحيث لا يزيد عن الفعل، ولا ينقص عنه كصوم رمضان، ويُسمَّى هذا ب " الواجب المضيَّق ". القسم الثالث: أن يكون وقت الفعل أزيد من الفعل، بحيث إن الوقت يسع الفعل عدة مرات، وهذا الذي يُسمَّى بـ " الواجب الموسَّع ". ونظراً لعدم وقوع التكليف في القسم الأول، فإنه لم يبق إلا القسمان: " الثاني ": وهو الواجب المضيق، والثالث: وهو الواجب الموسَّع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 ثانياً: تعريف الواجب المضيق والواجب الموسع مع الأمثلة عليهما: الواجب المضيق - كما قلنا فيما سبق -: ما كان وقته يسعه ولا يسع غيره من جنسه. أي: هو: ما ألزم الشارع المكلف بفعله في وقت مساو لوقت أدائه وإيقاعه بلا زيادة أو نقصان مثل صيام يوم من رمضان، فالشارع ألزم المكلف الذي لا عذر له بصيامه، واليوم يبدأ من الفجر الصادق إلى غروب الشمس، وهذا الوقت الذي بينهما له لوحده لا يتسع لفعل شيء آخر معه، ويكون الفعل باطلاً لو فعله قبل الوقت، ويكون قضاء لو فعل بعد الوقت لعذر، ولا يقع معه في وقته غيره من جنسه. والواجب المضيَّق اتفق العلماء على ثبوته. أما الواجب الموسع فهو: ما كان وقته واسعا لأدائه وأداء غيره من جنسه. أي: هو: " الفعل الذي طلب الشارع من المكلف إيقاعه وأداءه طلبا جازما في وقت يسعه ويسع غيره من جنسه " مثل: صلاة الظهر، فإن الشارع قد ألزم المكلف بفعلها في وقت محدد يزيد عن وقت أدائها بحيث يمكن فعلها، وفعل غيرها من جنسها في ذلك الوقت. ثالثا: الواجب الموسع هل هو ثابت؟ لقد اختلف العلماء في ذلك الواجب الموسع هل هو ثابت أو لا: على مذهبين: المذهب الأول: أن الواجب الموسع ثابت، ويكون وقت أداء الواجب الموسع هو جميع الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أيِّ جزء من أجزاء وقته على حسب اختيار المكلف. فيكون المكلف مخيراً في أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو في وسطه، أو في آخره. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهذا هو الصحيح، للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) . وجه الدلالة: أن هذا الأمر عام يتناول جميع أجزاء الوقت المذكور من غير إشعار بالتخصيص ببعض أجزائه. فليس المراد من الأمر تطبيق أول فعل الصلاة فى أول الوقت وآخر الفعل في آخر الوقت؛ لأن هذا خلاف الإجماع. وليس المراد من الأمر: إقامة الصلاة في كل وقت من أوقاته، فلا يخلو جزء من الوقت من الصلاة، فهذا - أيضاً - خلاف الإجماع. وليس المراد من الأمر: تعيين جزء من الوقت لاختصاصه بوقوع الواجب فيه؛ لأن اللفظ الوارد في الآية عام، ولا يوجد مخصص. فلم يبق إلا أن يكون المراد من الأمر هو: أن كل جزء من الوقت صالح لوقوع الواجب فيه باختيار المكلف، ضرورة امتناع قسم آخر. الدليل الثاني: أن جبريل - عليه السلام - قد صلى بالنبي - صلى الله عليه وسلم - أول الوقت وآخره، ثم قال له - بعد ذلك -: " يا محمد: هذا وقت الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين "، وفى رواية: "الوقت ما بينهما ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - حينما فرض الصلاة أتى جبريل - علمه السلام - إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ليعلمه أوقاتها وأفعالها، فصلى به مرة في أول وقتها، وصلى به مرة أخرى في آخر وقتها، فقال - حينئذ -: " الوقت ما بين هذين "، وهذا يفيد تخيير المكلَّف في أداء الصلاة في أي جزء من أجزاء الوقت المحدد لها، أي: أن الإيجاب يتناول جميع أجزاء الوقت، وليس تعيين بعض أجزاء الوقت للوجوب بأوْلى من تعيين البعض الآخر. الدليل الثالث: العقل دلَّ على ثبوت الواجب الموسَّع، بيانه: أن السيد لو قال لعبده: " قد أوجبت عليك بناء هذا الجدار في هذا اليوم في أي جزء منه، إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو في آخره، فمهما فعلت: تكون قد امتثلت أمري، وإن لم تفعل: تكون قد خالفت أمري " كان هذا الكلام معقولاً، ولا يمكن أن يقدح في صحته أحد. فلا يمكن أن يقال: إن السيد لم يوجب على العبد شيئاً؛ لأن العبارة واضحة أنه أوجب عليه فعل شيء. ولا يمكن أن يقال: إن السيد قد أوجب على العبد بناء الجدار في وقت واحد فقط فضيق عليه، لأنه صرح بالتوسع، حيث قال له: " إن شئت في أوله، أو في وسطه، أو في آخره ". فلم يبق إلا أنه أوجب عليه بناء الجدار في ذلك اليوم ووسع عليه في هذا الإيجاب بدليل لفظه في المثال، مما يدل على تخييره في الوقت. الدليل الرابع: قياس الواجب الموسع على الواجب المخير، بيانه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 كما أنه جاز التخيير بين أفراد الواجب في الواجب المخير كخصال كفارة اليمين - إما الإطعام، أو الكسوة، أو الإعتاق - كذلك يجوز التخيير بين أجزاء الوقت في الواجب الموسع كالصلاة، فإن الصلاة في أول الوقت كالصلاة في وسطه، والصلاة في آخره، ولا فرق بينها في سقوط الغرض وحصول المصلحة. المذهب الثاني: إنكار الواجب الموسَّع. أي: عدم وجود واجب موسع في الشريعة، بل إن الإيجاب متعلِّق في وقت معين، وهو أول الوقت، أو آخره - كما سيأتي تفصيل الخلاف فيه: دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن التوسع ينافي ويناقض الوجوب. أي: أن الوجوب مع التوسعة يتنافيان؛ لأن الواجب لا يجوز تركه، وهذا يجوز تركه عن الوقت الذي وصفتموه بالوجوب فيه، وهو أول الوقت وآخره، فلا يكون للواجب الموسع حقيقة. قال ابن العربي في " المحصول " - مبينا ذلك -: " إن جواز التأخير مع خيرة المكلَّف بين الفعل والترك يضاد الوجوب ". جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أننا لم نجوِّز ترك الفعل في أول الوقت مطلقا، بل جوَّزنا ترك الفعل في أول الوقت بشرط العزم على الفعل في آخر الوقت. الجواب الثاني: أن جواز التأخير إنما يضاد الواجب المضيَّق، أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 الواجب الموسع فلا، لأنه يجوز ترك فعل الواجب الموسع في أول وقته، وفعله في وسطه، أو في آخره، حيث إنه مخير بين أجزاء الوقت الموسع، قياسا على الواجب المخير، بيان ذلك: أن الواجب الموسع يرجع - في حقيقته - إلى الواجب المخير - كما قلنا سابقاً -، لأن الفعل واجب الأداء في وقت " ما ": إما في أوله، أو وسطه، أو آخره، فجرى ذلك مجرى قولنا في الواجب المخير: " إن الواجب إما هذا أو ذاك ". فكما أنا نصف الخصال بالوجوب على معنى: أنه لا يجوز الإخلال بجميعها، ولا يجب الإتيان بها جميعاً، وإنما تجب خصلة واحدة غير معينة، فكذلك هنا: يجب على المكلف أن يفعل ما وجب عليه في أي وقت شاء من هذا الوقت المحدَّد: إما في أوله، أو في وسطه، أو في آخره، ونحن لم نوجب الفعل في أول الوقت بخصوصه حتى يورد علينا جواز إخراجه عنه، بل خيَّرناه بينه وبين ما بعده. رابعاً: فرق منكري الواجب الموسع، وأدلة كل فرقة مع الجواب عنها: إن المنكرين للواجب الموسع قد اتفقوا على إنكاره، ولكنهم اختلفوا - فيما بينهم - في أي جزء من الوقت يتعلق الإيجاب؟ على فِرَق: الفرقة الأولى قالت: إن الوجوب متعلِّق بأول الوقت. أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأول من أجزاء الوقت، فإذا مضى من الوقت ما يسع الفعل ولم يفعل المكلف الواجب فيه، وفعله في غيره من أجزاء الوقت: كان هذا الفعل قضاء، لا أداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 نسب هذا إلى بعض الشافعية، وإلى بعض المتكلمين: قلت: لقد بيَّنت في كتابي " الواجب الموسع عند الأصوليين " أن كثيراً من الشافعية قد أنكروا أن يكون هذا في مذهبهم، وذكرت أن الشافعية قد اختلفوا في السبب الذي من أجله عزي هذا إلى مذهبهم، وأطلت الكلام عن هذا، وحققت القول فيه، فارجع إليه إن شئت. أدلة هذه الفرقة على أن الوجوب متعلق بأول الوقت: الدليل الأول: قوله تعالى: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) ، وقوله: (فاستبقوا الخيرات) ، وقوله: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض) . وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمرنا في هذه الآيات بالاستباق إلى الخير، والمسارعة إليه، ولا شك أن فعل الواجب في وقته مسارعة واستباق إلى الخير، فمن أخَّره عن أول وقته يكون مخالفاً لذلك الأمر. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بأن تلك الآيات الدالة على الاستباق والمسارعة لا دلالة فيها على المطلوب، وذلك لأن دلالتها على المسارعة والاستباق إلى أسباب المغفرة ثبت عن طريق الاقتضاء، والمقتضى لا عموم له. ولئن سلمنا أن للمقتضى عموما، فإننا لا نسلِّم أن هذا الأمر للوجوب، بل هو للندب؛ لأمرين: أولهما: الإجماع على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ثانيهما: أنه لو كان للوجوب للزم منه تخصيصات لا حصر لها، وهو خلاف الأصل. وإذا ثبت ذلك لم تكن الآيات دالة على اختصاص الوجوب بأول الوقت، بحيث لا يجوز التأخير عنه، بل يجوز التأخير عنه بشرط العزم على فعله في آخر الوقت، ونحن نقول به. الدليل الثاني: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الصلاة في أول الوقت رضوان، وفي آخره عفو اللَّه ". وجه الدلالة: أن هذا النص اقتضى أن فعل الصلاة في آخر الوقت معصية تتطلب العفو، ولو كان المكلَّف مخيراً بأي جزء من هذه الأجزاء وقع الفعل فيه: لما كان تأخيره للواجب عن أول الوقت موجباً للعفو والغفران، لأن العفو إنما يكون عن ذنب أو معصية، وبذلك يكون الحديث دالاً على أن وقت الفعل هو الجزء الأول منه، وما بعده وقت لقضائه. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الحديث فيه يعقوب بن الوليد، وهذا قد كذَّبه الإمام أحمد، وسائر الحُفَّاظ، وقال ابن حبان: " ما رواه إلا يعقوب، وكان يضع الحديث على الثقات "، وأخرجه الدارقطني بسند ضعيف. فإذا ثبت ذلك فلا يصح الاحتجاج بالحديث على إثبات قاعدة أصولية كهذه، وهي: " أن الوجوب متعلق بأول الوقت ". الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث، فإنه يفيد الترغيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 في المبادرة لأداء الصلاة في أول وقتها، فيكون المراد بالعفو هنا: هو العفو عن تقصير المكلَّف عن الأداء الأفضل للواجب. الدليل الثالث: إن أوقات الصلوات أسباب، والأصل ترتب المسببات على أسبابها، فإذا وجد السبب يجب أن يوجد المسبَّب فوراً، فيتعلَّق الوجوب بما تحققت به سببيته، وهو أول الوقت، وحينئذٍ الواقع بعد ذلك قضاء سدَّ مسدَّ الأداء. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: إن هذا الكلام لا ينافي مذهبنا وهو: ثبوت الواجب الموسع، وذلك لأننا رتبنا الوجوب على أول الوقت، أي: يبدأ فعل الواجب من أول الوقت إلى آخر الوقت، وهذا هو مذهبنا. الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الواقع بعد أول الوقت قضاء سد مسد الأداء " مخالف للإجماع، قال الآمدي في الإحكام: "الإجماع منعقد على أن ما يفعل بعد ذلك الوقت ليس بقضاء، ولا يصح بنية القضاء ". الفرقة الثانية قالت: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت. أي: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في الجزء الأخير من أجزاء الوقت، ويكون أوله سبباً للوجوب. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهم بعض مشائخ العراق من الحنفية. أدلة هذه الفرقة: الدليل الأول: أن حقيقة الواجب هو: ما ذم تاركه، أو ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يعاقب على تركه، ومعروف أن الصلاة يعاقب على تركها إذا أضيفت إلى آخر وقتها؛ لأنه لو تركها خرج الوقت وعليه القضاء، ويكون عاصياً بذلك؛ لأنه أخرج الصلاة عن وقتها بالعمد، ونتيجة لذلك تكون الصلاة إذا أضيفت إلى آخر وقتها واجبة؛ لأنه يعاقب على تركها، ولكن إذا أضيفت إلى أول وقتها، أو وسطه، فإن المكلف مخير بين فعلها؛ تركها، وإن فعلها فهو أفضل، وهذا هو حد الندب؛ لأنه يجوز تركه، وكل ما جاز تركه في وقت فليس بواجب فيه، وإذا ثبت أنه غير واجب في أول الوقت، ولا في وسطه فهو واجب في آخره؛ لعدم جواز تركه، وإلا لكان لها وقت آخر غير المضروب لها. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن أقسام الفعل ثلاثة: القسم الأولى: فعل لا يعاقب على تركه مطلقاً، وهو المندوب. القسم الثاني: فعل يعاقب على تركه مطلقاً، وهو الواجب المضيق. القسم الثالث: فعل يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت - أوله، وأوسطه، وآخره - ولا يعاقب على تركه بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم الثالث لا يمكن أن نسميه مندوباً؛ لأن المندوب لا يعاقب تاركه مطلقاً، ولا يمكن أن نسميه واجباً مضيقاً؛ لأن الواجب المضيق يعاقب تاركه مطلقاً. إذن: هذا القسم يحتاج إلى اسم يُسمَّى به غير " الواجب المضيق " وغير " المندوب "، وأحسن عبارة تقال فيه هي: "الواجب الموسَّع "، فإن قلتم: لماذا سميتموه بهذا الاسم؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 قلنا: سميناه واجبا؛ لأن المكلَّف يعاقب على تركه بالجملة. وسميناه " موسَّعاً "؛ لحصول التوسعة في وقته عن قدر فعله، ويجوز للمكلَّف تأخيره إلى آخر وقته. اعتراض على هذا الجواب: لقد اعترض بعضهم على ذلك الجواب بقوله: إن القسم الثالث وهو الذي سميتموه بالواجب الموسَّع هو في حقيقته داخل ضمن الواجب المضيق والمندوب، بيان ذلك: أن المكلف إذا فعل الصلاة في أول وقتها، فهذا الفعل يكون مندوباً، لأنه يجوز للمكلف ترك الفعل، وما يجوز تركه فهو الندب. وإن فعل المكلف الصلاة في آخر الوقت، فإن هذا الفعل يكون واجباً مضيقاً؛ لأنه لا يجوز له ترك الفعل، وما لا يجوز تركه فهو الواجب المضيق. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن قولكم في حدِّ الندب: " إنه ما يجوز تركه " ليس بصحيح، بل إن الصحيح في حد الندب: " أنه ما يجوز تركه مطلقا " أي: من غير شرط. أما القسم الثالث - وهو ما سميناه بـ " الواجب الموسَّع - فهو "الذي لا يجوز تركه مطلقا " أي: هو " الذي يجوز تركه بشرط ". وهذا الشرط: إما الفعل في أول الوقت، أو العزم على الفعل في آخر الوقت. أي: يجوز للمكلف أن يترك الفعل في أول الوقت بشرط أن يفعل بعده مباشرة، أو أن يعزم على الفعل في آخر الوقت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 لكن لا يجوز له ترك الفعل مطلقا، بخلاف المندوب فإنه يجوز تركه مطلقا. اعتراض على هذا الجواب: لقد اعترض بعضهم على هذا الجواب قائلاً: إنكم قلتم: إن العزم هو بدل عن الصلاة في أول وقتها، وهذا غير مسلَّم؛ لأمرين: الأول: أنه معروف أن البدل يكون نائبا عن المبدل، والعزم - فقط - لا يكفي عن الفعل. الثاني: أن الأبدال لا يجوز إثباتها من غير دلالة عليها. جوابه: يجاب عن الأول: بأن العزم ليس بدلا عن أصل الوجوب ونفس الفعل، بل هو بدل عن تقديم الفعل فقط، وما دام الأمر كذلك، فإن العزم يصلح أن يكون بدلا، والفعل لم يتغير سواء وقع في أول الوقت، أو في آخره بدليل: تساوي الثواب والأجر. ويجاب عن الثاني: بأن الدليل على أن العزم هو بدل: القياس على الواجب المخيَّر، فكما أنه لا يجوز ترك أي خصلة من خصال الواجب المخيَّر إلا بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن يترك الفعل في أول الوقت - في الواجب الموسع - إلا بشرط العزم على فعله في الجزء الأوسط، أو الأخير. الدليل الثاني - من أدلة القائلين: إن الوجوب متعلق بآخر الوقت -: أن الإجماع قد انعقد على أنه لا يجوز تأخيرها عن آخر الوقت من غير عذر، وذلك يدل على أنها واجبة فيه، لا في أول الوقت، وحينئذ يحتمل أن يكون فعلها في أول الوقت ندبا يسقط الفرض عنده، أو يكون فعلها كالزكاة المعجلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك يدل على أنه وقتها المضيق، ولا يدل على أنها غير واجبة في غيره بصفة التوسع؛ لأن كون الشيء واجبا بصفة التضييق في وقت لا يدل على أنه غير واجب في غيره على وجه التوسع.. أما قولكم: " يحتمل أن يكون فعله ندبا في أول الوقت يسقط الفرض عنده "، فهذا باطل؛ لأمرين: أولهما: أنه لو أدى الفرض بنية الندب لم يقع الوقع إجماعا. ثانيهما: أن سقوط الفرض عند أداء الندب بعينه لم يعهد مثله في الشرع. أما قولكم: " أو يكون فعلها كالزكاة المعجَّلة " فهو باطل - أيضا -؛ لأن قياس الصلاة في أول وقتها على تعجيل الزكاة قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيان ذلك: أن تعجيل الزكاة لم يحصل بحكم الأمر المقتضي للوجوب، وإنما حصل بحكم الأمر المقتضي للرخصة وهو: ما ورد أن العبَّاس - رضي اللَّه عنه - سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - في تعجيل الزكاة قبل أن تحل فرخص له في ذلك. بخلاف الصلاة؛ فإنها تفعل في أول الوقت بالأمر الذي تفعل في آخره، فالنية واحدة في الصلاة سواء صلاها في أول الوقت، أو صلاها في آخره، ولم يفرق أحد من السلف بين النيتين. أما الزكاة فإنها تجب قبل حولان الحول بنية التعجيل حسب الأمر المقتضي للرخصة - فقط -، أما لو أخرها بعد كمال الحول، فإنها تجب بنية الأمر المقتضي لوجوب الزكاة، وفرق بين النيتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 اختلاف القائلين بهذا المذهب في تقدير وقت الوجوب: لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت في تقدير وقت الوجوب على قولين: القول الأول: إن الوقت هو ما يسع جملة الصلاة، وينقضي بانقضائها، وهو قول الإمام زفر، وجماعة من الحنفية. القول الثاني: إن الوقت هو ما يسع تكبيرة الإحرام. اختلاف القائلين بهذا المذهب فيما إذا أوقع المكلف الفعل في غير الجزء الأخير. لقد اختلف القائلون: إن الوجوب متعلِّق في آخر الوقت في مسألة وهي: إذا أوقع المكلَّف الفعل في أول أو وسط الوقت ما حكمه؛ على قولين: القول الأول: أن الفعل يقع نفلاً يسقط به الفرض. حكى هذا عن بعض مشائخ الحنفية العراقيين. دليل هذا القول: استدل أصحاب هذا القول بأنه لو كان الفعل واجباً في أول الوقت: لما جاز تأخيره عنه إلا إلى بدل، وقد جاز تأخيره عنه بغير بدل، فثبت أنه فيه نفل. جوابه: يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ أنه يجوز تركه بغير بدل، فقد ذهب أكثر المثبتين للواجب الموسع إلى أنه لا يجوز ترك الفعل في أول الوقت إلا إذا كان عازماً على فعله في آخر الوقت، وهذا هو البدل. القول الثاني: أن المكلَّف إذا أدَّى الفعل في أول الوقت فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 موقوف، فإذا جاء آخر الوقت، وهو على صفة التكليف - بأن كان عاقلاً مسلما خاليا من الموانع - كان ما فعله في أول الوقت واجبا، وإن جاء آخر الوقت، وقد زالت عنه صفة التكليف - بأن جن، أو نزل بامرأة حيض، أو نحو ذلك -: كان الفعل الذي فعله في أول الوقت نفلاً. ونسب هذا إلى الكرخي، ويسمى هذاب " المراعاة ". وذكرِ بعض العلماء كالزركشي في " تشنيف المسامع ": أن الكرخي قال ذلك فراراً مما ورد على أصحابه الحنفية من تعلق الوجوب بآخر الوقت من إجزاء النفل عن الفرض، فاختار هذه الطريقة. جوابه: أقول - في الجواب عنه -: إن هذا المذهب ضعيف؛ لأن كون الفعل حالة الإيقاع لا يوصف بكونه فرضا ولا نفلاً خلاف القواعد الشرعية. ثم كيف ينوي هذه الصلاة؛ فهذا القول خلاف الإجماع؛ حيث أجمع السلف على أن من فعل الصلاة في أول الوقت، ومات في أثنائه أنه أدى فرض اللَّه، وأثيب ثواب الواجب كما حكى ذلك الآمدي في الإحكام. الفرقة الثالثة قالت: إن الوجوب يتعلق بالجزء الذي يتصل به الأداء، وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفضل عنه. وبعضهم عبَّر عنه بقوله: " إذا اختار وقتا تعيَّن إلى أن يضيق فيتعين بالتضييق ". حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي وبعض العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 دليل هذه الفرقة: استدل هؤلاء على ذلك: بأن سبب الوجوب كل واحد من أجزاء الوقت بطريق البدلية إن اتصل به الأداء، وإلا فآخره، إذ يستحيل أن يكون جميع الوقت سبباً وإلا لزم الوجوب بعده. وكذا يستحيل أن يكون أوله سبباً، أو آخره، لاستحالة تأخر المسبَّب عن السبب وتقدمه عليه؛ إذ يجوز الأداء في آخر الوقت، ولا يأثم به، ويجوز الأداء - أيضاً - في أوله، فلم يبق السببِ إلا الجزء الذي اتصل الأداء به، أو آخره. جوابه: يقال في الجواب عنه - ماذا يراد بعبارة -: " إن الوجوب يتعلَّق بالجزء الذي يتصل به الأداء "؟ إن كان المراد منها: أن وقته بطريق البدلية، أي: أن الأمر يقتضي إيقاع الفعل في أحد أجزاء الوقت، لا بعينه، فإذا اتصل الفعل بأحد أجزائه تبينا سقوط الفرض به، فهذا صحيح، وهو الذي نقول به " حيث إنا قلنا - فيما سبق -: إن حاصل الواجب الموسع يرجع في الحقيقة إلى الواجب المخيَّر. وإن كان المراد منها: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته، وإن ما سوى ذلك لم يكن وقته: فهذا غير صحيح، وذلك لمخالفته الأدلة الصحيحة على أن الوقت موسع، أوله، ووسطه، وآخره، وقد سبق. وإن كان المرإد منها غير ذلك فلا بدَّ من التصريح بذلك حتى يمكن أن نقبله، أو نرده بالأدلة. وأما قولهم - في الاستدلال -: " أول وقته لا يجوز أن يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 سبباً للوجوب وإلا لزم تأخر المسبَّب عن السبب ": فيمكن أن يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن أول الوقت سبب للوجوب على وجه التوسع، وقد تحقق ذلك معه، فلا يلزم تراخي المسبب، والاستدلال بجواز التأخير على عدم الوجوب باطل. تنبيه: هناك فرق - من فرق منكري الواجب الموسَّع - قد تركت ذكرها، لأحد أمرين: إما لأنها متداخلة مع المذاهب السابقة. وإما لضعفها الشديد. وقد ذكرت ذلك بإسهاب وأدلة كل فرقة مع الجواب عن ذلك في كتابي: " الواجب الموسع عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت. بيان نوع الخلاف: لبيان ذلك لا بد من التفصيل الآتي: الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - وبين الفرقة الأولى - وهم بعض السافعية القائلين: إن الوجوب متعلِّق بأول الوقت - هذا الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن القائلين بأن الوجوب متعلِّق بأول الوقت يجوِّزون فعله في وسط وآخر الوقت، ويقولون: إنه قضاء سدَّ مسدَّ الأداء، وهذا متفق في المعنى مع مذهب جمهور الأصوليين والفقهاء المثبتين للواجب الموسَّع. الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - وبين الفرقة الثانية - وهم بعض الحنفية القائلين: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت - هذا الخلاف اختلف فيه على قولين: القول الأول: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، وذلك لأن القائلين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 إن الوجوب متعلق بآخر الوقت يجوِّزون فعله في أول الوقت، وإنما الخلاف في تسميته واجباً. القول الثاني: إن الخلاف معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية: ْوهذا هو الصحيح عندي، لأنه بعد استقراء وتتبع بعض المسائل الفقهية وجد أنها تأثرت بهذا الخلاف، وإليك بعض المسائل في ذلك: 1 - إذا صلى الصبي في أول الوقت، ثم بلغ قبل انقضاء الوقت الموسع فهل تجزئه تلك الصلاة، ولا إعادة عليه أم ماذا؟ اختُلِف في ذلك: فعلى مذهب الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - فإن صلاته التي صلاها في أول الوقت تجزئه، ولا يلزمه إعادتها، وقالوا - في تعليل ذلك -: إن الوجوب متعلّق في أول الوقت كما هو متعلّق في آخر الوقت، وهذا الصبي قد بلغ قبل انقضاء زمن الوجوب، فلا إعادة عليه، كما لو بلغ بعد انقضاء الوقت. وعلى مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب متعلِّق في آخر الوقت - فإن صلاته لا تجزئه، فيلزمه إعادتها، وقالوا - في تعليل ذلك -: إن الوجوب يثبت بآخر الوقت، وقد صار فيه أهلاً للوجوب، حيث إنه بلغ فيه، فبان: أن ما أداه أولاً لم يكن في وقته. 2 - إذا سافر في أول الوقت، أو حاضت المرأة بعد دخول الوقت، ومضى مقدار الفعل من الزمان فهل يجب الإتمام على المسافر، أو القضاء على الحائض؟ اختُلِف في ذلك: فعلى مذهب الجمهور: يجب الإتمام على المسافر، والقضاء على الحائض؛ لأن كلًّا من المسافر والحائض قد أدرك وقت الوجوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 أما على مذهب بعض الحنفية - وهم القائلون: إن الوجوب متعلِّق بآخر الوقت - فإنه لا يجب الإتمام على المسافر، ولا القضاء على الحائض، لأن الوجوب لم يتحقق في أول الوقت. الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور - وهم المثبتون للواجب الموسع - وبين الفرقة الثالثة - وهم الذين قالوا: إن الوجوب يتعلَّق بالجزء الذي يتصل به الأداء وإلا فآخر الوقت الذي يسع الفعل ولا يفصل عنه - خلاف لفظي إن أرادوا من قولهم: " إن وقته المعيَّن هو ما اتصل به الأداء ": أن ذلك وقته بطريق البدلية. وقد بيَّنت ذلك هناك. لكن إن أرادوا بتلك العبارة: أنا نتبين عند الأداء أن ذلك وقته، وأن ما سوى ذلك لم يكن وقته، فالخلاف بينهم وبين الجمهور معنوي؛ وذلك لمخالفته مقصود الجمهور المثبتين للواجب الموسع. وقد بيَّنت ذلك بصورة أوسع في كتابي: " الواجب الموسع عند الأصوليين "، وكتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليهما إن شئت. خامسا: الاختلاف في اشتراط العزم: لما رجحنا في المسألة السابقة مذهب الجمهور، وهم المثبتون للواجب الموسع بالأدلة، اختلف هؤلاء - فيما بينهم - في مسألة وهي: إذا لم يفعل المكلف الفعل في أول وقته، وأراد فعله في آخر الوقت، فهل يشترط العزم على ذلك أو لا؟ اختُلِف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يشترط العزم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 أي: أن الإيجاب في الواجب الموسع يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، فالمكلف مخير في أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو في وسطه، أو في آخره، ولكن لا يجوز ترك الفعل في أول الوقت إلا بشرط العزم على فعله في وسط أو آخر الوقت، فإن جاء آخر الوقت وهو لم يفعل الواجب فحينئذ تعيَّن فعله. ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسع. وهو الصحيح؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: القياس على الواجب المخيَّر، بيانه: أنه لا يجوز للمكلف ترك أي خصلة من خصال الواجب المخيَّر إلا بشرط النية على فعل غيرها، فكذلك لا يجوز أن يترك الفعل في الجزء الأول من الوقت في الواجب الموسع إلا بشرط العزم على فعله في الجزء الأوسط، أو الأخير من الوقت. الدليل الثاني: أن وجوب العزم تابع لبقاء الفعل في الذمة، ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو لم يدخل؛ لأنه إذا لم يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم على الترك، وهو معصية، وترك المعصية واجب، إذن: العزم واجب. الدليل الثالث: أن العزم لا بد منه إذا ترك فعلاً واجبا عليه مريداً عمله في آخر وقته، فلذلك أوجب العلماء على المسافر إذا أراد أن يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير: أن يعزم على فعل صلاة الظهر مع العصر، وإن لم يعزم فيكون تاركاً للصلاة - ضرورة - وهو حرام. كذلك المديون لا يجب عليه الأداء في وقت معين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 ما لم يشترط - ولكن يجب عليه العزم على أدائه، وإن لم يعزم على ذلك فقد فعل محرَّماً. ومثل ذلك الواجب الموسع إذا ترك فعله في أول وقته، فيجب عليه أن يعزم على فعله في آخر وقته، وإلا كان تاركاً للفعل مطلقاً، وهذا لا يجوز. الدليل الرابع: أن القائل بأنه يجوز تأخير الفعل بدون بدل وهو العزم يقال له: " لما لم يفعل المكلف الواجب في أول الوقت ما هي نيته؛ ". فإن قال: " لا نية له "، فهذا غير صحيح؛ لأنه لا بد لكل عبادة من نية. وإن قال: " إن له نية وهي: أن يعمله فيما بعد ": نقول: هذا هو العزم على الفعل، وهو المطلوب. المذهب الثاني: لا يشترط العزم. أي: يجوز للمكلف تأخير الفعل في الواجب الموسع إلى وسط الوقت، أو إلى آخره مطلقا، أي: بدون بدل، وذلك إلى أن يتضيق الوقت بحيث إنه لو لم يشتغل به لخرج بعضه عن الوقت، فإنه لا يجوز له التأخير إذ ذاك، أو يغلب على ظنه أنه لو لم يشتغل به في هذا الجزء لفاته في الجزء الثاني من الوقت. ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين ومنهم الغزالي في " المنخول "، وإمام الحرمين في " البرهان "، وأبو الحسين البصري في " المعتمد "، وفخر الدين الرازي في " المحصول "، وأبو الخطاب في " التمهيد"، والبيضاوي في " المنهاج "، وابن السبكي في " جمع الجوامع " و" الإبهاج "، وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المكلََّف الذي أخر الفعل الواجب في وقته الموسع إلى آخر الوقت لو غفل عن العزم ومات: لم يكن عاصيا، فلو كان العزم واجبا لعصى بموته وهو تارك له؛ لأن تارك الواجب عاص. جوابه: يجاب عن ذلك: بأنه لم يعض لما ترك الواجب هنا؛ لأنه غافل، والغافل غير مكلَّف؛ لأنه لا يفهم خطاب الشارع حال غفلته، فيكون معذوراً بالغفلة، ولذلك لم يعص. الدليل الثاني: لو كان العزم على الفعل في آخر الوقت بدلا عن الفعل في أول الوقت: لوجب أن يكون بدلا عن أصل الواجب حتى لا يجب عليه الفعل، ولما لم يجز أن يكون العزم على الفعل بدلا عن أصل الوجوب لم يجز أن يكون بدلا عن الفعل في أول الوقت. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن العزم على الفعل ليس بدلا عن الفعل مطلقا، وإنما هو بدل عن الفعل في الجزء الذي لم يفعل فيه إلى أن يبقى من الوقت ما يسع الفعل، وحينئذ يكون الفعل هو المتيقن على المكلف، وذلك مثل التيمم في الطهارة ينتصب بدلا عن الوضوء في استباحة الصلاة، ولا ينتصب بدلا عنه في رفع الحدث. الدليل الثالث: أن العزم على الفعل بدل عن الصلاة في أول الوقت، ومعروف أن البدل هو: ما يفعل لتعذر المبدل منه، وفعل الصلاة في أول الوقت ليس بمتعذر، فلا يكون له بدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 جوابه: يقال في الجواب عنه: إنه وقع في الشريعة حالات يؤتي فيها بالبدل مع أن المبدل ليس بمتعذر على المكلَّف أن يأتي به، تيسيراً وتسهيلاً على المكلفين. من أمثلة ذلك: المسح على الخفين بدل عن غسل الرجلين، وكذلك المسح على العمامة بدل عن مسح الرأس، فهذه يجوز فعلها مع القدرة على المبدل، وهذا كله من باب الرخص والتسهيل على المكلفين، والواجب الموسع وسع اللَّه وقت أدائه من باب التيسير والتسهيل. ثم إن العزم على الفعل ليس بدلاً عن نفس الصلاة، بل هو بدل عن تقديم فعلها - فقط -. الدليل الرابع: أن قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل) ، وقول جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم -: "الوقت ما بين هذين "، وكذلك جميع النصوص الواردة في المواقيت يفهم منها: أن الصلاة واجبة في هذا الوقت المحدد، وليس فيها أي تعرض لوجوب العزم على الفعل في آخر الوقت إذا ترك فعل الصلاة في أول الوقت، فإيجاب العزم - حينئذ - يكون زيادة على النص لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يجوز التكليف به. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الدليل لكم يفهم منه. أنكم تطالبوننا بالاستدلال على اشتراط العزم على الفعل إذا لم يفعل الواجب الموسَّع في أول الوقت، والمطالبة بالدليل ليست بدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وعلى فرض أن المطالبة بالدليل دليل، فإننا قد أثبتنا أدلة قوية على اشتراط العزم. الجواب الثاني: أنا نوافقكم على أن النصوص السابقة لم تتعرض صراحة لاشتراط العزم على فعل الصلاة في آخر الوقت إن لم تفعل في أول الوقت، لكن فهم من تلك النصوص: أن الصلاة الواجبة لا تتم ولا تصح إلا بأحد شيئين: إما فعلها في أول الوقت. أو العزم على فعلها في آخر الوقت. ولا ثالث لهما. وإذا كانت الصلاة لا تتم إلا بذلك - وهو قد ترك الفعل في أول الؤقت - فيكون العزم واجباً؛ بناء على القاعدة الأصولية المعروفة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ". بيان نوع الخلاف: الخلاف بين المشترطين للعزم وغير المشترطين خلاف لفظي، لاتفاق الفريقين على أن المكلَّف لا يترك الفعل في أول الوقت إلا إذا كان عازما على الفعل في آخر الوقت، وإن لم يصرح أصحاب المذهب الثاني - وهم المانعون من اشتراط العزم - بذلك؛ لأن وجوب العزم تابع لبقاء الفعل في الذمة ولازم لكل من عليه التكليف دخل وقته أو لم يدخل، وذلك لأنه إذا لم يعزم على الفعل مع التذكر، فقد عزم على الترك، وهو معصية، وترك المعصية واجب. فأي مكلف عاقل يفهم الخطاب لا يمكن - بأي حال من الأحوال - أن يترك الفعل في أول وقته مطلقاً، بل تركه، وهو ينوي أن يعمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 في وقت آخر، وهو آخر وقت الوجوب، حيث إنه لو أخَّره عن ذلك الوقت المحدَّد شرعاً من غير عذر فإنه يأثم، ويجب عليه القضاء، وهذا متفق عليه بين الفريقين فكان الخلاف في الاصطلاح واللفظ. سادسا: حالات تأخير الواجب الموسع إلى آخر وقته: قلنا - فيما سبق -: إن المكلَّف إذا لم يفعل الواجب الموسع في أول وقته، وأراد تأخيره إلى آخر وقته، فلا يجوز ذلك التأخير إلا إذا كان عازماً على فعله في آخر وقته. لكن هذا التأخير ليس مطلقاً، بل له حالات تختلف باختلاف ظن المكلَّف، وضيق الوقت، ولكل حالة حكم خاص بها، وإليك بيان ذلك: الحالة الأولى: لو أخَّر المكلف الفعل - في الواجب الموسع - عن أول الوقت مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى آخر الوقت: فإنه يكون عاصياً بترك الفعل في أول الوقت، وإن لم يمت، لأنه قد تضيَّق الوقت بناء على ظنه الغالب، وترك الواجب في وقته المضيق بلا عذر عصيان، هذا بالاتفاق. الحالة الثانية: لو أخَّر المكلَّف الفعل حتى ضاق الوقت عن فعله، ثم مات ولم يبق إلا الوقت الذي يتسع لأقل من أربع ركعات: فإنه يموت عاصياً، لأنه لا يجوز تأخير الفعل عن هذا الوقت. الحالة الثالثة: إذا أخر المكلَّف الفعل في الواجب الموسَّع عن أول الوقت مع غلبة ظن السلامة، فمات فجأة أثناء الوقت الموسع، مثل لو مات بعد زوال الشمس، وقد بقي من وقت الظهر ما يتسع لفعلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وأكثر ولم يصلها، فاختلف العلماء المثبتون للواجب الموسع في عصيانه على مذهبين: المذهب الأول: أنه لم يمت عاصيا. ذهب إلى ذلك أكثر المثبتين للواجب الموسَّع. وهو الصحيح؛ وذلك لأن الواجب الموسَّع يجوز تركه في أول الوقت ليعمله في آخر وقته المحدَّد، وقد جاز الترك مع عدم علمه بالعاقبة، وإذا كان تركه في أول الوقت ليفعله في آخر وقته جائزاً، فكيف يعصى؟!. المذهب الثاني: أنه يموت عاصيا. ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وأبو الخطاب، والمجد ابن تيمية. دليل هذا المذهب: احتج أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يجوز له تأخير الفعل من أول الوقت إلى آخره بشرط سلامة العاقبة، وهو: أنه يبقى إلى آخر الوقت فيفعل الواجب. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنه نقل عن السلف أنهم أجمعوا على عدم عصيان من مات في أثناء الوقت، وهو لم يفعل الواجب الموسع؟ إذ يعلم من عادتهم بالضرورة أنهم ما كانوا يؤثمون من مات فجأة في أثناء الوقت إذا كان عازما مصمما على الامتثال. وإذا ثبت الإجماع على هذا، فالقول بأنهم يعصون قول مخالف للإجماع فلا يجوز. الجواب الثاني: أن هذا الشرط لا يسلَّم لكم؛ لأن العاقبة مستورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 عن المكلف، وهي تعتبر من المغيبات التي لا يعلمها إلا اللَّه - تعالى - فاشتراط مثل ذلك الشرط يفضي إلى المحال، وما أفضى إلى المحال فهو محال؛ لأن سلامة العاقبة غيب لا يعلمه إلا اللَّه عَزَّ وجَلَّ، ولم نكلف علمه، ولا بناء الأحكام عليه، لأننا لا نعلم حقيقة هل يبقى المكلَّف حياً إلى آخر الوقت، فيفعل الواجب أو لا؟ واعلم: أنه لا يجوز للمكلف العزم على تأخير الفعل إلا إلى زمن يغلب على ظنه السلامة، والبقاء إليه، والعيش فيه كمن أخَّر فعل الصلاة عن أول وقتها إلى آخر وقتها، ومثل الشاب، أو الشيخ الصحيح الذي لا يشكو من علَّة إذا أخَّر قضاء رمضان إلى شعبان، والشاب الصحيح إذا أخَّر أداءَ الحج إلى سنة، أو سنتين - على رأي من قال بأن الحج من أمثلة الواجب الموسَّع -. فالظن - إذن - يختلف باختلاف الأحوال وقوى الرجال. فإذا غلب على ظنه السلامة والبقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع الفعل فيه: جاز له تأخير الواجب الموسَّع إليه بمقتضى ذلك الظن الغالب للبقاء. وإذا غلب على ظنه عدم البقاء إلى الزمن الذي يريد أن يوقع الفعل فيه: وجب الإتيان بالفعل قبل ذلك الزمن الذي لا يستطيع أداء الفعل فيه، لأن الظن - هنا - مناط التعبد، فإن عزم على تأخير الفعل مع ظنه الغالب في عدم السلامة والبقاء إليه: عصى بمجرد هذا التأخير، لأنه أخَّر الواجب عن وقته مع القدرة على فعله مع الظن الغالب من عدم البقاء. فمثلاً لو عزم المريض المشرف على الهلاك على تأخير قضاء الصوم شهراً، أو عزم الشيخ الهرم الضعيف على التأخير، وغلب على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 ظنهما أنهما لا يعيشان إلى تلك المدة: عصيا بهذا التأخير؛ قياساً على الشخص الذي عنده وديعة وظن ظناً غالباً بأن النار ستأتي عليها فتحرقها، ومع ذلك لم يزلها من هذا المكان الخطر فهنا يضمنها؟ لأنه فرط في هذه الوديعة. فكذا هنا يعصي ويأثم؛ لأنه أخَّر أداء الواجب إلى آخر وقته مع ظنه الغالب بأنه لا يبقى إلى ذلك الوقت؛ حيث فرط في الوقت الذي تضيق بسبب ظنه. سابعاً: إذا فعل المكلَّف الفعل في الوقت الذي غلب على ظنه أنه لا يعيش إليه، فهل هذا الفعل أداء أو قضاء؟ المكلف إذا غلب على ظنه أنه لن يبقى إلى آخر الوقت في الواجب الموسَّع، ومع ذلك أخَّره فإنه يعصي بذلك التأخير، لأنه ترك العمل بالظن الراجح، وعمل بالظن المرجوح، وهذا لا يجوز؛ لما فيه من التفريط. لكن لو حصل من المكلَّف أنه أخَّر الواجب الموسع إلى آخر وقته مع أنه غلب على ظنه عدم البقاء إلى ذلك الوقت، ثم بأن له خطأ ظنه فبقي - أي: لم يمت - وفعل ذلك الواجب في وقته المحدد له شرعاً فهل يكون ذلك الفعل قضاء أو أداء؟ فمثلاً: لو أخَّر فعل الصلاة إلى آخر وقتها، مع غلبة ظنه أنه لا يعيش إلى آخر الوقت، ولكنه عاش وفعل الصلاة في آخر الوقت، فهل يكون هذا الفعل أداء أو قضاء؟ اختلف المثبتون للواجب الموسَّع في ذلكْ على مذهبين: المذهب الأول: أن الفعل أداء، ولا يكون قضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وابن السبكي. وهو الصحيح؛ لدليلين: أولهما: أن الفعل قد وقع في وقته المحدد له شرعا، وهذه حقيقة الأداء. ثانيهما: أنه بأن خطأ ظنه، ولا عبرة بالظن الذي بأن خطؤه. المذهب الثاني: أن الفعل قضاء، ولا يكون أداءً. نسب هذا المذهب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني. دليل هذا المذهب: استدل لهذا بأن المكلف لا غلب على ظنه أنه يموت قبل فعله صار مضيقا في حقه بمقتضى ظنه ذلك، وصار كأن آخر. وقته هو: أول الوقت الذي ظن أنه يموت فيه، فصار فعله له بعد ذلك خارجا عن الوقت المضيق، أشبه ما لو فعله بعد خروج الوقت الأصلي المقدر له شرعا. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن جميع الوقت كان وقتا للأداء قبل ظن المكلف تضييقه بالموت، والأصل بقاء ما كان على ما كان، وهذا المكلَّف قد أوقع الفعل أولاً في وقته المحدد شرعا، وهذا هو الأداء حقيقة، والظن لا يغير شيئاً في ذلك، إنما أثر الظن في تأثيمه بالتأخير بدون عزم، ولا يلزم من تأثيمه بالتأخير مخالفة الأصل المذكور، وهو بقاء الوقت الأصلي وقتا للأداء في وقته. الجواب الثاني: أن قول القاضي: " إن هذا الفعل قضاء " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يلزم منه أن يوقعه بنية القضاء، وهذا بعيد " لأن وقت الأداء لا زال باقياً، ولا قضاء في وقت الأداء " لأن القضاء والأداء متنافيان، كل واحد منهما له وقت يخالف الآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه كما هو واضح قد وقع الخلاف في التسمية، وقيل غير ذلك. ثامناً: متى يتضيق الوقت في الواجب الموسع؟ هذا سبقت الإشارة إليه، ولكن لا بدَّ من ذكره هنا، تذكيراً بذلك وحصراً له، ولبيان متى يعصى؟ فأقول: يضيق الوقت في الواجب الموسَّع بطريقين: الطريق الأول: بالانتهاء إلى آخر الوقت، بحيث لا ينفصل زمانه عنه. وبناء على ذلك فإن المكلَّف يعصي بخروج وقته. الطريق الثاني: بغلبة الظن بعدم البقاء إلى آخر الوقت، فإنه مهما غلب ذلك على ظنه فإنه يجب عليه الفعل، كما لو كانت المرأة تعرف أن الحيض يأتيها في ساعة معينة من الوقت، فيتضيق الوقت عليها، فيجب عليها الفعل قبل ذلك الوقت. وبناء على ذلك: فإن المكلف يعصي إذا أخَّره عن ذلك الوقت الذي ظن أنه لا يبقى إليه. المسألة الثامنة: الواجب المحدَّد، والواجَب غير المحدَّد: أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وحكمهما: الواجب ينقسم بالنظر إلى تقديره وتحديده وعدم ذلك إلى قسمين: القسم الأول: " واجب محدَّد ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 القسم الثاني: " واجب غير محدَّد ". أما القسم الأول - وهو: الواجب المحدَّد - فهو: الفعل الذي طلبه الشارع طلباً جازماً، وقد حدَّده الشارع وقدَّره بمقدار معيَّن، وفصله عن غيره، مثل: الصلوات الخمس، فقد حُدِّدت كل صلاة بركعات محدَّدة، ومثل زكاة الأموال، وصيام رمضان، والنذر لمن حدده، وغسل الوجه، وغسل الرجلين واليدين، ونحو ذلك. فحكم هذا القسم: أن لا يفعل المكلَّف شيئاً زائداً على الفعل المحدَّد والمعيَّن، وإذا توقف وجوده، أو العلم بوجوده على شيء: يكون ما توقف عليه واجباً، لأنه لا تبرأ الذمة إلا بأدائه بمقداره الذي قدَّره الشارع، وهو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. أما القسم الثاني - وهو: الواجب غير المحدَّد - فهو: الذي لم يحدده ولم يقدره الشارع بقدر معين مثل: الطمأنينة في الركوع، والطمأنينة في السجود، ومدة القيام، ومدة القعود، وذلك في الصلاة، حيث وجبت الطمأنينة في الركوع والسجود، ولكن لم يقدر الشارع مدة هذه الطمأنينة، كذلك أوجب الشارع فيها القيام والقعود مدة من الزمن، ولكن لم يحدد ولم يعين الشارع هذه المدة. فحكم هذا القسم: أن المكلف يستطيع أن يزيد على أقل الواجب، بحيث تكون هذه الزيادة لا تنفصل عن حقيقة الواجب مثل: الزيادة في الطمأنينة في الركوع والسجود، والزيادة في مدة القيام، وفي مدة القعود. ثانياً: حكم الزيادة على أقل الواجب: هذه الزيادة التي يزيدها المكلَّف على أقل الواجب هل هي واجبة أو هي مندوبة؟ اختلف العلماء على مذهبين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 المذهب الأول: أن تلك الزيادة مندوبة. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالغزالي، وفخر الدين الرازي، والبيضاوي، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي عبد اللَّه الجرجاني، وأبي يعلى الحنبلي، وأبي الخطاب. وهو الراجح عندي؛ لدليلين: أولهما: أن الواجب هو: الذي لا يجوز تركه إلا بشرط البدل وهو: العزم على الفعل في آخر الوقت في الواجب الموسَّع، أو فعل غيره من الخصال المخير بينها في الواجب المخير، وهذه الزيادة في الطمأنينة - مثلاً - على أقل الواجب يجوز تركها بلا شرط ولا بدل، وهذا هو حد الندب، فتكون تلك الزيادة مندوبة. ثانيهما: أن من فعل من الأمور به ما يقع عليه الاسم، فإنه يحسن أن يخبر عن نفسه، ويقول: " فعلت ما أمرت به "، ولو كان اللفظ يتناول أكثر من ذلك لما حسن الإخبار عن نفسه بذلك. المذهب الثاني: أن الزيادة على أقل الواجب تكون واجبة. أي: أن الزيادة على أقل ما يطلق عليه الاسم واجبة فيكون الفعل جميعه واجب. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، ونسب إلى الكرخي منهم. دليل هذا المذهب: إن نسبة الواجب وما زاد عليه إلى الأمر نسبة واحدة، والأمر في نفسه أمر واحد لا يتجزأ، وهو أمر إيجاب، والواجب وما زاد عليه لا يتميز أحدهما عن الآخر بشيء، فإذا فعل المكلَّف الواجب وما زاد عليه يوصف بأنه ممتثل، والامتثال واجب فيكون الواجب وما زاد عليه واجباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 جوابه: يقال في الجواب عنه: إما أن تتميز الزيادة، أو لا تتميز. فإن تميزت الزيادة عن الواجب الذي تناوله الاسم، أي: تميز أحدها عن الآخر ببعض التميز فلا نسلم أن نسبة الواجب وما زاد عليه إلى الأمر نسبة واحدة، بل الواجب نسبته إلى الأمر بالوجوب، ونسبة الزيادة إلى الأمر بالندبية. ولا نسلم - أيضا - أن الأمر في نفسه واحد لم يتجزأ، بل الأمر واحد من حيث اللفظ، أما من حيث حقيقته فهو أمران: أحدهما: جازم بالنسبة إلى الواجب، والآخر: غير جازم بالنسبة إلى الزيادة. أما إذا لم تتميز الزيادة - أي: لم يتميز الواجب وما زاد عليه -: فيحتمل أن يكون بعضه واجبا وبعضه ندبا؛ قياسا على من دفع ديناراً عن زكاة عشرين ديناراً، فيكون نصف الدينار عن العشرين، والنصف الآخر قد دفعه ندبا وصدقة. بيان نوع هذا الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره؛ حيث ترتب على هذا الخلاف اختلاف في بعض المسائل الفقهية، ومنها: 1 - أنه إذا مسح رأسه كله دفعة واحدة - وقلنا: إن الواجب مسح قدر الناصية - فالواجب هو: قدر الناصية، والزائد ندب على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني: فكله واجب. 2 - أنه لو كان عنده خمس من الإبل فعجل زكاتها، وأخرج بعيراً - وقلنا بالإجزاء - فهل كله واجب، أو بعضه هو الواجب؟ اختلف في ذلك والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة الأصولية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 3 - أنه إذا زاد في مبيت ليلة مزدلفة الواجبة لحظة من النصف الثاني، فإن الزيادة نافلة؛ بناء على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني، فالكل واجب. 4 - أنه إذا وقف بعرفات زيادة على قدر الواجب، فالزيادة نفل بناء على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني فالكل واجب. المسألة التاسعة: الواجب العيني، والواجب الكفائي: أولاً: تعريفهما، والأمثلة عليهما، وسبب تسميتهما بذلك: الواجب ينقسم باعتبار فاعله إلى قسمين: القسم الأول: الواجب العيني. القسم الثاني: الواجب الكفائي. أما القسم الأول - وهو: الواجب العيني - فهو: ما يتحتم أداؤه على مكلَّف بعينه. أو هو: ما طلب حصوله من كل واحد من المكلفين كالصلاة، والصيام والحج، ونحو ذلك. وسمي بالواجب العيني؛ لأن الفعل الذي تعلق به الإيجاب منسوب إلى العين والذات باعتبار أن ذات الفاعل مقصودة. وحكمه: لزوم الإتيان به من كل واحد بعينه، بحيث لا تبرأ ذمته إلا بفعله. أما القسم الثاني - وهو: الواجب الكفائي - فهو: ما يتحتم أداؤه على جماعة من المكلفين، لا من كل فرد منهم، بحيث إذا قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 به بعض المكلَّفين فقد أدِّي الواجب، وسقط الإثم والحرج عن الباقين مثل: الجهاد في سبيل اللَّه إن لم يكن النفير عاماً، والصلاة على الميت وتغسيله، وتكفينه، ورد السلام، وإنقاذ الغريق، ونحو ذلك. وسمي بالواجب الكفائي؛ لأنه منسوب إلى الكفاية والسقوط من حيث إن فعله من أي فاعل أسقط طلبه عن الآخرين. وحكمه: أنه إذا قام به من يكفي من المكلَّفين سقط عن الباقين. وإذا لم يؤده أحد لحق الإثم جميع المكلَّفين. فالقصد من الفعل الكفائي: هو وقوع الفعل نفسه لما يترتب عليه من جلب مصلحة، أو دفع مفسدة بقطع النظر عمن يقع منه. ثانياً: متى يتحوَّل الواجب الكفائي إلى واجب عيني؟ عرفنا - فيما سبق - أن المقصود من الواجب الكفائي هو: وقوع الفعل لما يترتب عليه من جلب المصلحة أو دفع المفسدة، دون النظر إلى فاعله، ولكن قد تطرأ بعض الأحوال التي تجعله واجباً عينياً، وذلك مثل: 1 - أن يأمر الإمام شخصاً بتجهيز ميت تعين عليه، وليس له استنابة غيره. 2 - أنه لو رأى شخص غريقاً، وكان بإمكانه إنقاذه أصبح إنقاذه واجباً عينياً عليه. 3 - لو دخل الكفار ديار المسلمين، ولم يتمكن الجند صدهم تعين على كل مسلم مكلَّف قادر أن يساهم بما يستطيعه حتى يتحقق صد العدو. 4 - إذا غلب على ظن المكلَّف أن غيره لم يقم بالواجب الكفائي، وهو قادر على القيام به أصبح هذا الواجب في حقة عينياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 ثالثاً: شروط فرض الكفاية: الذي يوصف بأنه فرض كفاية له شرطان: الشرط الأول: أن يكون فيه مصلحة شرعية، أو هو وسيلة لمصلحة شرعية. مثال المصالح الشرعية: ضبط أصول الفقه، وفروعه، والكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، وأنواع الأدلة، وأن يوصلها كل قرن إلى من بعده، ومناظرة الملحدين والطاعنين في الدين الإسلامي، وضبط أصول الدين، وتعليم القرآن، والفروع الشرعية للطلاب، والنحو، واللغة، وكل ما يتعلق بالكتاب والسُّنَّة. ومثال الوسائل إلى المصالح الشرعية: الصنائع والحرف التي لا يستغنى عنها الناس، فيجب أن تخرج لكل حرفة طائفة من الناس، فإذا كان لهم في ذلك نية حسنة أثيبوا ثواب الواجب، وإن لم يكن لهم نية فلا ثواب لهم، وليس كل واجب يثاب عليه. الشرط الثاني: أن يكون مما لا تتكرر مصلحته بتكرر وجوده، مثل: إنقاذ الغريق، فإنه إذا رفعه واحد من البحر، ثم نزل آخر بعده لم يحصل بنزوله مصلحة، وكذلك إطعام الجوعان، وإكساء العريان، فهذا ونحوه يجب على الكفاية، ويسقط عن الآخرين نفياً للتعب. رابعاً: هل فرض الكفاية أفضل من فرض العين؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن فرض العين أفضل من فرض الكفاية. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الصحيح؛ لأن فرض العين مفروض حقاً للنفس، فهو أهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 عندها من فرض الكفاية وأكثر مشقة، بخلاف فرض الكفاية، فإنه مفروض حقا للكافة، والأمر إذا عم خف، وإذا خص ثقل. المذهب الثاني: أن فرض الكفاية أفضل من فرض العين. ذهب إلى هذا أبو محمد الجويني، ونسبه إلى الإمام الشافعي. دليل هذا المذهب: أنه في فرض الكفاية يسقط الفرض عن نفسه وعن غيره، فهو أكثر في الأجر، أما في فرض العين فإنه يسقط الفرض عن نفسه - فقط -. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا ليس بصحيح؛ لأن القيام بفرض العين أكثر في الأجر والثواب؛ لأنه أشق من فرض الكفاية، والأجر على قدر المشقة. أما نسبته إلى الإمام الشافعي فليس بصحيح، - فإن الشافعي مع أصحاب المذهب الأول، ودل على ذلك قوله في " الأم ": " قطع الطواف المفروض لصلاة الجنازة، أو الرواتب مكروه؛ إذ لا يحسن ترك فرض العين لفرض الكفاية ". وذكر الغزالي في " إحياء علوم الدين " - مؤيدا المذهب الأول -: أن من عليه فرض عين فاشتغل بفرض كفاية، وزعم أن مقصوده الحق: فهو كذاب، ومثاله: من ترك الصلاة، واشتغل في تحصيل الثياب ونسجها قصداً لستر العورات. خامسا: في بيان أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع: الصحيح: أن فرض الكفاية لا يلزم بالشروع فيه إلا في حالتين: أولهما: في الجهاد في سببيل اللَّه؛ لأنه إذا شرع في الجهاد ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ترك الصف، ففي ذلك كسر لقلوب الجند، وعدم حثهم على القتال. ثانيهما: في الصلاة على الجنازة؛ لأنه إذا شرع في الصلاة على الجنازة، فإنه يلزمه الإتمام، لأن الانسحاب من ذلك فيه هتك لحرمة الميت كمن قام من مجلس مسلم بدون إذنه. سادساَّ: من هو المخاطب بفرض الكفاية؟ اختُلِف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المخاطب بفرض الكفاية هو الكل، أي: موجه إلى جميع المكلَّفين، وفعل بعضهم هذا الواجب مسقط للطلب منهم. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لاتفاق العلماء على ترتيب الإثم على الجميع إذا لم يقم به أحد، فتأثيم الجميع موصما لتكليفهم جميعاً، لأنه لا يمكن أن يؤاخذ الإنسان على شيء لم يكلفه، فدل على أن وجوبه على الجميع. المذهب الثاني: أن المخاطب بفرض الكفاية هو: بعض المكلفين - فقط -. ذهب إلى ذلك بعض العلماء كتاج الدين ابن السبكي في " جمع الجوامع ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس الإبهام في المكلََّف على الإبهام في المكلَّف به. بيانه: كما جاز التكليف بأمر مبهم في الواجب المخيَّر، فكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يجوز تكليف بعض مبهم من الجماعة، وذلك لحصول المصلحة المطلوبة في ذلك. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا القياس غير صحيح، لأنه قياس مع النص، حيث وردت نصوص دلت على تكليف الجميع دون البعض، كما في قوله تعالى: (وقاتلوا في سبيل الله) ، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار) ، فهذه الخطابات وردت في القتال، وهي تعم كل الأفراد بدليل واو الجماعة واسم الموصول اللذين يفيدان العموم، مع الاتفاق على أن القتال فرض كفاية، فإن هذا التعميم في الآيات بتوجيه الخطاب إلى مجموع المسلمين دليل على أن الواجب الكفائي مطلوب من الجميع. الدليل الثاني: أن سقوط الواجب الكفائي بفعل بعض المكلَّفين دليل على توجيه الخطاب فيه إلى بعض المكلَّفين، لا كلهم، لأن الأصل عدم سقوط الشيء إلا بفعل من وجب عليه، وما دام أن الاتفاق قد وقع على سقوطه بفعل بعض المكلَّفين، فيكون الواجب موجها إلى هذا البعض فقط. جوابه: يجاب عنه: بأن الواجب قد سقط عن الجميع بفعل بعضهم لا لأن هؤلاء البعض قد طلب منهم الواجب فقط، وإنما سقط الواجب عن الجميع بفعل البعض، لأن المقصود في الواجب الكفائي هو: فعل الواجب وإيقاعه بقطع النظر عن الفاعل - كما قلنا سابقا -، فإذا كان الفعل قد حصل فقد حصلت المصلحة التي من أجلها صدر الأمر من الشارع، وبعد ذلك يكون بقاء الوجوب على الباقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 تحصيلاً للحاصل، كما لو أوجب أداء دين على كفيلين، فأدى أحدهما الدين كله، فإنه يسقط أداء هذا الواجب عن الكفيل الآخر، فكذا هنا. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لأن الحكم لا يتغير سواء كان المخاطب به هو الكل، أو البعض؛ حيث إنه إذا قام به من يكفي سقط عن الباقين. *** المسألة العاشرة: ما لا يتم الواجب إلا به هل هو واجب؟ هذه المسألة تسمى تارة بهذا الاسم، وتسمى تارة بـ " مقدمة الواجب "، وتارة تسمى بـ " الوسيلة " أو " وسيلة الواجب " أو "ما لا يتم الأمر إلا به يكون مأموراً به ". تحرير محل النزاع في هذه المسألة: أقول في ذلك: إن الذي يتوقف عليه الواجب قسمان: القسم الأول: ما يتوقف عليه في وجوبه. القسم الثاني: ما يتوقف عليه في وقوعه. أما القسم الأول - وهو: ما يتوقف عليه وجوب الواجب - فهذا القسم لا يجب إجماعا سواء كان سببا أو شرطا، أو انتفاء مانع. فبلوغ النصاب - مثلاً - سبب يتوقف عليه وجوب الزكاة، فلا يجب على أحد تحصيله حتى تجب الزكاة عليه. والزوجات والمماليك سبب وجوب النفقات، فلا يجب تحصيلها حتى تجب تلك النفقات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 والإقامة شرط وجوب الصوم، فلا يجب على أحد أن يقيم في بلد ويترك السفر حتى يجب عليه الصوم. والدين مانع من الزكاة، فلا يجب على أحد أن يوفي دينه حتى تجب الزكاة. أما القسم الثاني - وهو: ما يتوقف عليه إيقاع الواجب بعد تقرر الوجوب - فهو يتنوع إلى نوعين: النوع الأول: ما يكون غير مقدور للمكلف، أي: أن يكون ما لا يتم الواجب إلا به غير مقدور للمكلف كالقدرة على الفعل، واليد في الكتابة، والرجل للمشي، وحضور الإمام والعدد الكامل للجمعة، فهذا النوع لا يجب إجماعاً؛ لأنه ليس بقدرة المكلف ولا طاقته تحصيل ذلك، بل عدم تلك الأمور يمنع الوجوب. النوع الثاني: ما يكون مقدوراً للمكلَّف، أي: أن يكون ما لا يتم الواجب إلا به مقدوراً للمكلَّف، ويجب فيستطيع فعله واختياره. وهذا النوع - وهو المقدور عليه - له أربع حالات: الحالة الأولى: أن يكون إيجاب الواجب مقيَّداً بحصول المقدور عليه، وورد صريحاً كقولك لغيرك: " إن ملكت النصاب فزك " أو تقول: " إن توضأت فصل "، فهذا واجب مقيَّد بحصول السبب، أو الشرط، وقد حصل الاتفاق على أن كلًّا من السبب والشرط في - هذه الحالة - لا يجب بوجوب الواجب، بل الواجب نفسه لا يجب إلا بعد حصول السبب والشرط. الحالة الثانية: أن يُصرح بعدم إيجابه، كأن يقول: " صل، ولا أوجب عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به لا يجب بالاتفاق؛ عملاً بموجب التصريح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 الحالة الثالثة: أن يُصرح بوجوبه كأن يقول: " صل، وأوجب عليك الوضوء "، فهنا: ما لا يتم الواجب إلا به واجب اتفاقاً؟ عملاً بموجب التصريح. الحالة الرابعة: ألا يصرح الشارع بإيجابه ولا عدم إيجابه، ولا يقيده بشيء، بل يأتي اللفظ مطلقاً مثل وجوب غسل الوجه، هل يوجب غسل جزء من الرأس ليتحقق غسل الوجه؛ ومثل وجوب صوم اليوم هل يجب تبعاً لذلك صوم جزء من الليل ليتحقق من صوم اليوم؛ فهذا هو المحل الذي تنازع فيه العلماء. أي: هل ما لا يتم الواجب إلا به واجب؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: * المذهب الأول: أن ما لا يتم الواجب المطلق إلا به واجب مطلقا. أي: سواء كان سبباً شرعياً مثل: الصيغة للعتق الواجب. أو سبباً عقلياً مثل: النظر المحصل للعلم الواجب. أو سبباً عادياً مثل: حز الرقبة بالنسبة إلى القتل. أو شرطاً شرعياً مثل: الوضوء للصلاة. أو شرطاً عقلياً مثل: ترك أضداد المأمور به. أو شرطاً عادياً مثل: غسل جزء من الرأس مع الوجه ليتحقق غسل كل الوجه، وهذا هو مذهب جمهور العلماء. وهذا هو الصحيح عندي، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب، وما لا بد منه في الواجب يكون واجباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فعندنا مقدمتان: الأولى: أن ما لا يتم الواجب إلا به لا بد منه في الواجب. الثانية: أن ما لا بد منه في الواجب يكون واجباً. دليل المقدمة الأولى: أن ما لا بد منه في الشيء الواجب لا يكمل ذلك الشيء الواجب إلا به. دليل المقدمة الثانية: أن ما لا بد منه المكمل للواجب لازم، واللازم واجب، فما لا بد منه واجب. فنتج من المقدمتين: أن ما لا يتم الواجب إلا به واجب. الدليل الثاني: أن الواقع المحسوس يشهد لذلك، فإن السيد لو قال لعبده: " ائتني بماء "، ولا يوجد الماء إلا في البئر، فإنه لا يمكن أن يحضر الماء لسيده إلا بسحب الماء من البئر برشاء ودلو، فيلزمه - حينئذٍ - إحضار الرشاء والدلو ليسحب بهما الماء، وذلك ليفعل ما أمره به سيده إذا كان له طريق إليه، فلا يجوز له تركه - مع القدرة - وإلا لاستحق العقوبة من السيد. فلذلك لزمه ووجب عليه إحضار السبب " وهو الرشاء والدلو " الذي بواسطتهما يمكنه تنفيذ أمر سيده، وهو جلب الماء؛ لأنه لا يمكن إحضار الماء إلا بهما، فلذلك وجبا. فنتج أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. تنبيه: اختلف الجمهور - وهم أصحاب المذهب الأول - في وجوب ما لا يتم الواجب إلا به - وهي مقدمة الواجب - هل هو متلقى من نفس الصيغة الموجبة للواجب، أو متلقى من دلالتها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 اختلف هؤلاء في ذلك على قولين: القول الأول: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من نفس الصيغة الموجبة للواجب المطلق. ذهب إلى ذلك بعض العلماء كما ذكره ابن السمعاني في " القواطع ". القول الثاني: أن وجوب ما لا يتم الواجب إلا به أخذ من دلالة الصيغة، أي: أن وجوب مقدمة الواجب دلَّت عليها الصيغة من حيث المعنى. وهذا هو الصواب؛ لأن الدلالة اللفظية: ما كان مسموعا في اللفظ، ولا شك أن لكل من الشرط والسبب لفظا يخصه، ولم يسمع ذلك، فوجب أن تكون دلالته من حيث المعنى. المذهب الثاني: أن ما لا يتم الواجب إلا به ليس بواجب مطلقا. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الخطاب لم يتعرض لإيجاب هذه الأشياء، وأن هذه الشرائط لها صيغ بخصوصها، واختلاف الصيغ يدل على اختلاف المصوغ له. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن هذا الدليل لكم يدل على أنكم تقولون بأن لفظ الصيغة لا يدل على وجوب المقدمة، وإنما وجوب المقدمة دل عليه معنى الصيغة، وهذا ما نقوله. الدليل الثاني: أنه لو وجب ما يتوقف عليه الواجب للزم تعقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الموجب له، لأن الإيجاب بدون التعقل غير معقول، والتالي باطل وذلك لأن كثيراً ما نؤمر بأشياء ونغفل عن مقدماتها. جوابه: يقال في الجواب: إنا نمنع لزوم التعقل هنا، وإنما يلزم فيما إذا كان الأمر بالمقدمة صريحاً، ولكن مقدمة الواجب هنا صارت: واجبة عندنا عن طريق دلالة الصيغة عليها من حيث المعنى. - المذهب الثالث: إن كانت المقدمة شرطا شرعيا فتجب، وإن لا فلا. ذهب إلى ذلك إمام الحرمين، وابن القشيري، وابن برهان، وابن الحاجب. دليل هذا المذهب: أن الشرط الشرعي إنما عرفت شرطيته من الشارع، فعدم إيجابه بالخطاب الموجب للمشروط يوجب غفلة المكلف عنه، وعدم التفاته إليه، وذلك موجب لتركه، وتركه يؤدي إلى بطلان المشروط، فلزم من ذلك: أن يكون الخطاب الموجب للمشروط موجباً له. بخلاف غير الشرعي، فإن شرطيته عرفت من غير الشرع كالعقل والعادة. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن هذا التفريق بين الشرط وغيره لا داعي له؛ لأن كلًّا من الشروط والأسباب الشرعية وغير الشرعية يفهم وجوبها من صيغة الخطاب الموجب للواجب عن طريق المعنى. المذهب الرابع: إن كانت مقدمة الواجب سبباً، فتجب وإلا فلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 اختاره صاحب المصادر. أي: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب سببه فقط، سواء كان هذا السبب شرعيا، أو غير شرعي، وأما الشرط فلا يدل الخطاب على إيجابه مطلقا. دليل هذا المذهب: أن ارتباط الشيء بسببه أقوى من ارتباطه بشرطه؛ لأنه معروف: أن السبب يؤثر بطرفي الوجود والعدم، والشرط إنما يؤثر بطرف العدم خاصة. جوابه: يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي ولا مبرر لهذا التفريق بين السبب والشرط، لأن كلًّا منهما يفهم وجوبه من صيغة الخطاب الموجب للواجب عن طريق المعنى. - المذهب الخامس: الفرق بين الملازم في الذهن، وغير الملازم. فإن كانت مقدمة الواجب قد لازمت الذهن حال استماع المكلف للأمر، وعلم أن الإتيان بالمأمور به ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة، فهي واجبة. أما إذا كانت مقدمة الواجب غير ملازمة للذهن، بل لم نعلم بها إلا عن طريق العقل والشرع، فلا يكون الأمر واجبا من تلك الصيغة، بل واجب من المركب من الأمر والعقل. ذهب إلى هذا بعض المتأخرين، كما قال ذلك الزركشي. جوابه: يقال في الجواب عنه - كما قلنا فيما سبق -: إن هذا التفريق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لا داعي له؛ لأنه متى ما علمنا بالمقدمة، سواء عن طريق الذهن، أو عن طريق الخطاب الآمر بالواجب، فإنها تكون تلك المقدمة واجبة. - المذهب السادس: التوقف. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه يحتمل أن يكون الخطاب الآمر بالواجب الأصلي آمراً بشرط تحصيل المقدمة، ويحتمل غير ذلك والاحتمالان متساويان، فوجب التوقف. جوابه: يقال في الجواب عنه: إنه لا داعي لهذا التوقف مع وضوح أدلتنا على وجوب المقدمة - وهو المذهب الأول - لأن الخطاب الآمر بالواجب الأصلي هو أمر بتحصيل المقدمة عن طريق معنى الصيغة. بيان نوع هذا الخلاف: هذا فيه تفصيل، إليك بيانه: الخلاف الأول: الخلاف بين الجمهور القائلين بوجوب المقدمة مطلقا، وبين أصحاب المذهب الثاني القائلين بعدم الوجوب مطلقا، هذا الخلاف اختُلِف فيه على قولين: القول الأول: أن الخلاف لفظي. وهو الصحيح عندي؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقا على أن المقدمة واجبة، دلَّ على ذلك استقراء وتتبع كلام أصحاب المذهب الثاني؛ حيث إنه يفهم من كلامهم في تقرير مذهبهم أنهم ينكرون وجوب المقدمة من نفس الصيغة الموجبة للواجب المطلق، ولكن لا ينكرون وجوب المقدمة من دلالة اللفظ بالتضمن أو الالتزام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 أي: من أنكر إيجاب المقدمة مطلقا لكون الأمر ساكتاً عنها، إنما أراد أن الأمر لم يتناولها لفظة، ولم ينكر أنها تجب تبعا، وهذا موافق لمذهب الجمهور بأن المقدمة واجبة مطلقا؛ حيث إنهم أرادوا به أن المقدمة تجب تبعا للواجب الأصلي، ولم يقولوا: إنها تجب بالأمر الدال على الواجب صراحة، فكان كل فريق موافقا للآخر في المعنى والمراد، فكان الخلاف لفظيا. القول الثاني: إن الخلاف معنوي له فائدة. واختلف أصحاب هذا القول - فيما بينهم - في هذه الفائدة، هل هي في الآخرة، أو في الدنيا؟ على رأيين: الرأي الأول: أن فائدة الخلاف في الآخرة فقط وهي: تعلق الثواب والعقاب، أي: إذا فعل المكلف الواجب ومقدمته، فهل نقول: يثاب ثوابين: ثواب على الواجب، وثواب على المقدمة؟ وإذا تركهما هل يعاقب عقابين: عقاب على الواجب، وعقاب على المقدمة؟ اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في تلك المسألة الأصولية. الرأي الثاني: أن فائدة الخلاف في الدنيا؛ حيث إنه يترتب على هذا الخلاف في هذه القاعدة، اختلاف في عدد كثير من المسائل الفقهية، فقالوا على لزوم المقدمة وهو رأي الجمهور الأحكام التالية: 1 - أنه إذا اشتبهت المنكوحة بالأجنبية حرمتا معاً، ووجب الكف عنهما، وكذا إذا اشتبهت الميتة بمذكاة. 2 - إذا نسي صلاة من الخمس ولم يعلم بها لزمه أن يصلي جميع الخمس، لتحقق براءة الذمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 3 - إذا خفي عليه موضع النجاسة من الثوب، أو البدن وجب غسله كله. 4 - إذا اختلط موتى المسلمين بموتى الكفار وجب غسل الجميع وتكفينهم، والصلاة عليهم. 5 - إذا اشتبهت عليه الثياب النجسة بالطاهرة لزمه أن يصلي بعدد النجس، ويزيد صلاة أخرى لتحقق الصلاة بثوب طاهر. الجواب عن تلك الأمثلة: يجاب عن ذلك بأن تلك الأمثلة لا تمنع من القول بأن الخلاف لفظي، وذلك لأن أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن المقدمة لا تجب مطلقا - لا يخالفون في ذلك، فقد وافقوا الجمهور عليها، لكنهم وافقوهم عليها عن طريق التبع، أي: أنها وجبت بسبب دلالة الصيغة، لا بنفس الصيغة الدالة على وجوب الواجب المطلق. الخلاف الثاني: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب الثالث والرابع، وهم المفرقون بين السبب والشرط، أو بين الشرط الشرعي وغيره هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لأنه لا يستلزم الفرق الذي ذكروه اختلافا بينهما في الأحكام الفقهية. الخلاف الثالث: الخلاف بين الجمهور وبين أصحاب المذهب الخامس وهم القائلون بالفرق بين الملازم في الذهن فيجب، وبين غير الملازم فلا يجب هو: خلاف لفظي - أيضا -؛ لاتفاق الفريقين على أن المقدمة واجبة، وهو عند الجمهور واضح. أما عند أصحاب المذهب الخامس، فالمقدمة إما واجبة، بالصيغة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 نفسها التي أوجبت الواجب المطلق، حيث قالوا: إن المكلََّف حال استماع صيغة الأمر يعلم أن الإتيان بالمأمور ممتنع بدون الإتيان بتلك المقدمة. وإما إنها واجبة بدلالة صيغة الأمر، لا بالصيغة نفسها، حيث قالوا: فلا تكون المقدمة واجبة من تلك الصيغة، بل من المركب من الأمر والعقل، وهذا هو مقتضى مذهب الجمهور ومقصودهم من مذهبهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المطلب الثاني في المندوب ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: مناسبة ذكر المندوب هنا. المسألة الثانية: في حقيقة المندوب: أولاً: تعريف المندوب لغة. ثانياً: تعريفه اصطلاحاً. المسألة الثالثة: في صيغ المندوب وأساليبه. المسألة الرابعة: في الاختلاف في أسماء المندوب هل هي مترادفة أو لا؟ المسألة الخامسة: هل المندوب مأمور به حقيقة؟ المسألة السادسة: هل يعتبر المندوب من أحكام التكليف؟ المسألة السابعة: هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المندوب هنا: لقد ذكرنا المندوب بعد الواجب مباشرة: لاشتراكهما في طلب الفعل؛ وأن كلًّا منهما يثاب على فعله، وإن كان ثواب الواجب أعظم من ثواب المندوب. وبعض الأصوليين يذكرون الحرام بعد الواجب مباشرة، ويذكرون المندوب قبل المكروه، ولعل علتهم في ذلك: أن كلًّا من الواجب والحرام يشتركان في صيغة واحدة، والمندوب والمكروه يشتركان في صيغة واحدة. فالواجب والحرام يشتركان في الطلب الجازم، سواء كان طلب فعل أو ترك. والمندوب والمكروه يشتركان في الطلب غير الجازم، سواء كان طلب فعل أو طلب ترك. والأوْلى ما ذكرناه؛ لأن أثر الطلب أو الترك أقوى من أثر الجزم وعدمه. المسألة الثانية: حقيقة المندوب: أولاً: المندوب لغة مأخوذ من الندب وهو: الدعاء إلى أمر مهم، يقال: " ندبته " أي: دعيته إلى شيء مهم، ولم يرد عن العرب إلا لذلك كما قال قريط العنبري: لا يسألون أخاهم حين يندبهم للنائبات على ما قال برهانا والنائبة هي: المصيبة العظيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 فهذا الشاعر قد دعا بني مازن من تميم لنجدته وإعانته على استرجاع إبله ممن أخذها، فقاموا بذلك، واسترجاع الإبل من الأعداء ليس بالأمر الهين، فيثبت: أن الندب هو الدعاء إلى فعل أمر مهم، أما الدعاء إلى فعل أمر غير مهم، فلا يسمى ندباً. ثانياً: المندوب اصطلاحا: أقرب التعريفات إلى الصحة عندي هو: المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقاً. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " المطلوب فعله " أخرج الحرام؛ لأنه مطلوب تركه، - وأخرج المكروه؛ لأنه مطلوب تركه - أيضاً -، وأخرج المباح؛ لأنه لم يطلب تركه ولا فعله. قولنا: " شرعاً " أخرج المطلوب فعله من غير طريق الشرع. قولنا: " من غير ذم على تركه " أخرج الواجب؛ لأنه مطلوب فعله، ويذم على تركه مطلقا. قولنا: " مطلقا " لبيان أنه يجوز ترك المندوب مطلقاً، أي: بلا بدل. وأخرج بلفظ " مطلقاً " الواجب الموسَّع، والواجب المخير، والواجب الكفائي؛ لأن هذه الواجبات الثلاثة يجوز تركها، لكن بشرط البدل. فالواجب الموسَّع يجوز تركه في أول الوقت بشرط العزم على فعله في آخر الوقت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 والواجب المخيَّر يجوز فيه ترك أيِّ خصلة بشرط العزم على فعل الخصلة الأخرى من بين المخيَّر بينها. والواجب الكفائي يجوز للمكلَّف ترك الواجب بشرط علمه بأن غيره قد فعله. أما المندوب فيجوز تركه بلا بدل ولا شرط. المسألة الثالثة: في صيغ المندوب وأساليبه: المندوب ليس له صيغة معينة، بل له صيغ مختلفة تدل عليه وهي: الصيغة الأولى: الأمر الصريح إذا وجدت قرينة تصرفه من الوجوب إلى الندب، مثل قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) ، فهذا الأمر للندب وليس للوجوب، والقرينة الصارفة هي: السُّنَّة التقريرية؛ حيث إنه لما نزلت هذه الآية لم يكاتب بعض الصحابة عبيدهم الذين بين أيديهم، ولم ينكر عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم -. الصيغة الثانية: التصريح بأن ذلك سُنَّة، كقوله - صلى الله عليه وسلم - في قيام رمضان - في رواية -: " وسننت لكم قيامه ". الصيغة الثالثة: التصريح بالأفضلية الوارد من الشارع، ومنه قوله - في غسل الجمعة -: " ومن اغتسل فالغسل أفضل ". الصيغة الرابعة: كل عبارة تدل على الترغيب، ومنه قوله - عليه السلام - لبريرة - حيث أعتقت وفارقت زوجها مغيثا وكان رقيقا -: " لو راجعتيه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المسألة الرابعة: الاختلاف في أسماء المندوب هل هي مترادفة أو لا؟ المندوب له أسماء كثيرة، فهل تلك الأسماء مترادفة أو مختلفة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المندوب، والمستحب، والتطوع، والسُّنَّة، والإحسان، والمرغب فيه أسماء مترادفة؛ لأنها أسماء لمعنى واحد، وهو: المطلوب فعله شرعاً من غير ذم على تركه مطلقا، أو هو: الفعل المطلوب طلباً غير جازم. المذهب الثاني: أن تلك الأسماء غير مترادفة. وهو: اختيار بعض الحنفية، وبعض المالكية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة. واختلف أصحاب هذا المذهب في التفريق بينها على أقوال: القول الأول: إنه يوجد فرق بين السُّنَّة، والمستحب، والتطوع، فالسُنَّة: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - وواظب عليه، والمستحب: هو ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يواظب عليه، بل فعله مرة أو مرتين. أما التطوع: فهو الذي لم يفعله النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل أنشأه المكلَّف من نفسه واختاره، ذهب إلى ذلك بعض العلماء كالقاضي حسين، والبغوي. القول الثاني: أن لفظ " السُنَّة " يختص بالعرف بالمندوب بدليل قولهم: " هذا واجب أو سُنَّة ". القول الثالت: أن لفظ " السُّنَّة " غير مرادف للمندوب، بل يتناول كل ما علم أو ظن ندبيته أو وجوبه بقوله أو فعله عليه السلام، ولذلك قال - صلى الله عليه وسلم -: "الختان سُنَّة للرجال ومكرمة للنساء "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 وقال: " النكاح من سنتي، فمن رغب عن سنتي فليس مني ". قال صفي الدين الهندي في " نهاية الوصول ": وليس المراد منه النكاح المندوب فقط، بل المراد منه إما النكاح الواجب، أو المطلق الذي هو قدر مشترك بين الواجب والمندوب، أو العموم ليتناول جميع أفراده. القول الرابع: إن النفل والتطوع لفظان مترادفان، وهما ما سوى الفرائض والسنن، أما المستحب ونحو ذلك فأنواع لهما. القول الخامس: إن السُّنَّة ترتب كالرواتب مع الفرائض، والنفل والندب: ما زاد على ذلك. القول السادس: إن النفل قريب من الندب، إلا أنه دونه في الرتبة. القول السابع: إن السُّنَّة: ما ارتفعت رتبته في الأمر، وبالغ الشرع في التحضيض عليه، أما ما كان في أول هذه المراتب فهو تطوع ونافلة، أما ما كان متوسطا بين هذين فهو فضيلة ومرغب فيه. القول الثامن: إن السُّنَّة: مما صلاهما - صلى الله عليه وسلم - في جماعة وداوم عليها، والفضيلة: ما دخل في الصلاة وليس من أصل نفسها كسجود التلاوة. بيان نوع الخلاف: هذا الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وأصحاب المذهب الثاني على اختلاف أقوالهم خلاف لفظي راجع إلى اللفظ والتسمية؛ لأن حاصله أن كلًّا من تلك الأقسام، كما أنها تسمى بأسمائها المذكورة، هل تسمى بغير تلك الأسماء؟ فعلى المذهب الأول، فإنه يُسمَّى كل منها باسم الآخر، أي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 يصدق على كل من الأقسام أنه مرغب فيه من الشارع، ومطلوب فعله. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يسمى كل واحد من الأسماء باسم الآخر، أي: لا يصدق على كل من الأقسام اسم الآخر، بل لكل اسم واصطلاح خاص به، فالخلاف في إطلاق الاسم فقط. *** المسألة الخامسة: هل المندوب مأمور به حقيقة؟ لا خلاف ولا نزاع في أن المندوب تتعلق به صيغة الأمر " افعل "، وتستعمل فيه. ولكن الخلاف في -: هل المندوب مأمور به حقيقة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المندوب مأمور به حقيقة. ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وأحمد، وأكثر أتباعهما، واختاره المحققون من الحنفية، وهو وجه عند المالكية. وهذا هو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. والاستدعاء هو: الطلب، والمندوب مستدعى ومطلوب، وبناء على ذلك فإن المندوب يدخل في حقيقة الأمر كما دخل الواجب؟ لاشتراكهما في شيء واحد وهو: أن كلًّا منهما مستدعى ومطلوب، فهذا يصدق عليهما. أي: كما أن " الإنسان " و " الفرس " يصدق عليهما اسم واحد، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهو: " الحيوان "؛ إلا أن الأول حيوان ناطق، والثاني حيوان غير ناطق، فكذلك الواجب والمندوب يصدق عليهما اسم واحد، وهو: أن كلًّا منهما مأمور به حقيقة إلا أن الأمر بالواجب أمر جازم، والأمر بالمندوب أمر غير جازم. الدليل الثاني: أنه قد شاع وذاع بين الفقهاء وأهل اللغة أن الأمر ينقسم إلى قسمين: " أمر إيجاب " و " أمر ندب واستحباب "، وحيث إن مورد القسمة مشترك بين القسمين بالضرورة، فإنه يثبت: أن المندوب مأمور به حقيقة كالواجب. الدليل الثالث: أن اللَّه سبحانه وتعالى قد أطلق الأمر على المندوب في الكتاب، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فيكون المندوب مأموراً به حقيقة. من ذلك: قوله تعالى: (إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى) ، فهنا قد أمر اللَّه تعالى بأشياء، منها: ما هو واجب، كالأمر بالعدل، ومنها ما هو مندوب إليه كالأمر بالإحسان، وإعطاء ذي القربى، وهذا يدل دلالة واضحة على أن الأمر يطلق على المندوب، كما يطلق على الواجب سواء بسواء، وهذا يقتضي أن المندوب مأمور به حقيقة كالواجب. ومن ذلك قوله تعالى: (وأمر بالمعروف) ، فهنا قد أمر الله تعالى بالمعروف، والمعروف عام لدخول أل الاستغراقية عليه، فهو يشمل الطاعات الواجبة، والطاعات المندوبة، وهذا يدل على أن الأمر يطلق على المندوب حقيقة كما يطلق على الواجب ولا فرق. ومن ذلك ما قالته أم عطية - رضي اللَّه عنها -: "أمرنا - صلى الله عليه وسلم - أن نخرج في العيدين العواتق "، ومعروف أنه ليس إخراجهن واجباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 ومن ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بعيادة المريض، واتباع الجنائز، وتشميت العاطس، وإبرار القسم، ونصرة المظلوم، وإجابة الداعي، وإفشاء السلام " فإن هذه الأمور فيها ما هو واجب، وفيها ما هو مندوب إليه، ومع ذلك قد وحَّد الشارع الأمر، مما يدل على أن الأمر قد استعمل في المندوب، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فثبت أن المندوب مأمور به حقيقة. الدليل الرابع: أن المندوب طاعة، وكل ما هو طاعة فهو مأمور به حقيقة، فالمندوب مأمور به حقيقة. دليل المقدمة الصغرى - وهي: أن المندوب طاعة -: إجماع العلماء على أن المندوب طاعة. دليل المقدمة الكبرى - وهي: أن كل ما هو طاعة فهو مأمور به حقيقة -: أن الطاعة تقابل المعصية، والمعصية مخالفة الأمر، فالطاعة: امتثال الأمر. فتكون النتيجة: أن المندوب مأمور به حقيقة. اعتراض على هذا: قال معترض على الدليل الرابع: إن كون المندوب طاعة لا يدل على أنه مأمور به؛ لأن الطاعة ليست من خصائص الأمر. جوابه: يقال في الجواب عن ذلك: إن الطاعة والمعصية مقرونتان بالأمر من حيث الامتثال والمخالفة، فيكونان من خصائصه، ويؤيد ما قلناه نصوص قد وردت: منها: قوله تعالى: (أفعصيت أمري) ، وقوله: (ويفعلون ما يؤمرون) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ومن ذلك: قول حصين بن منذر ليزيد بن المهلَّب - شعراً -: أمرتك أمراً جازما فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادمَا فما أنا بالباكي عليك صبابة ... وما أنا بالداعي لترجع سالماَ ومن ذلك قول العرب - نثراً -: " فلان مطاع الأمر "، و " فلان معصي الأمر "، وقولهم: " أمر فأطيع "، وقولهم: "أمر فعصي ". المذهب الثاني: أن المندوب غير مأمور به حقيقة، وإنما اعتبر مأموراً به عن طريق المجاز. ذهب إلى ذلك: أبو الحسن الكرخي، والجصاص، وأبو بكر الشاشي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو حامد الإسفراييني، وفخر الدين الرازي، وعبد الرحمن الحلواني، ونقل عن أكثر الشافعية، وهو وجه للمالكية، واختاره إلكيا الهراسي، وأستحسنه ابن السمعاني، وصحَّحه ابن العربي. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . وجه الدلالة: أن اللَّه حذَّرنا من مخالفة أمره، وتوعَد من يخالف ذلك الأمر بالعقاب - وهو الفتنة والعذاب -، فلو كان المندوب مأموراً به حقيقة لحذَّرنا اللَّه سبحانه من مخالفته، ولكن لم يصدر أيّ تحذير من مخالفة المندوب؛ حيث إنه يثاب على فعله، ولا يعاقب على تركه، فينتج أن المندوب ليس مأموراً به حقيقة. جوابه: يقال في الجواب عنه؛ إنا نسلِّم أن الأمر - هنا - يقتضي الوجوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 حيث إن اللَّه تعالى توعَّد من يخالف أمره بالعقاب، ولكن يجوز صرف هذا الأمر من الوجوب إلى الندب بصارف، فإذا صرف الأمر من كونه يقتضي الوجوب إلى كونه يقتضى الندب، فإن ذلك لا يخرج الأمر عن تسميته أمراً، فثبت: أن الأمر يطلق على المندوب حقيقة كالواجب بدليل: اشتراكهما في التسمية. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". وجه الدلالة: أن " لولا " تفيد انتفاء شىء لوجود غيره، والمراد هنا: انتفاء الأمر لوجود المشقة. فلو كان المندوب مأموراً به حقيقة، لكان السواك مأموراً به، ولكن الصادق المصدوق نفى الأمر عن السواك من أجل المشقة التي ستلحق الأمة لو أمر به، والمشقة لا تلحق إلا فيما يجب فعله، فثبت أن المندوب غير مأمور به حقيقة. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن المنفي هنا هو الأمر الجازم الذي يقتضي الوجوب، ويكون تقدير الكلام: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم أمر إيجاب وإلزام "، بدليل: أنه امتنع منه لأجل المشقة، والمشقة إنما تلحق فيما يلزم فعله. وإذا ثبت أن المنفي هو الأمر الجازم: ثبت أن الأمر غير الجازم لم ينفه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو الدال على المندوب، فنتج من ذلك: أن المندوب مأمور به حقيقة بقطع النظر عن كونه جازماً أو غير جازم. الدليل الثالث: أنه يفهم من صيغة الأمر أنها تقتضي إيقاع الفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 اقتضاء جازما لا تخيير فيه؛ حيث إن تاركه يعاقب، بخلاف المندوب، فإن فيه نوع تخيير، وهو: إن شاء المكلَّف فعل المندوب وله ثواب، وإن شاء ترك ولا عقاب عليه، ولو كان المندوب مأموراً به حقيقة لما وقع التخيير فيه، فثبت أن المندوب ليس مأموراً به حقيقة لثبوت التخيير فيه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الأمر ليس فيه تخيير، بل يقع التخيير فيه بدليل " الواجب الموسَّع "، حيث خيَّر الشارع المكلَّف بين أن يوقع الفعل في أول الوقت، أو وسطه، أو آخره، وبدليل "الواجب المخيَّر "، حيث خيَّر الشارع المكلَّف بين أن يفعل إحدى خصال الكفارة. الجواب الثاني: سلمنا لكم قولكم: " إن الأمر لا تخيير فيه "، ولكن لا نُسَلِّمُ أن المندوب فيه تخيير؛ لأن فعل المندوب أرجح من تركه. أما التخيير فهو عبارة عن كون فعل الشيء وتركه سواء لا يرجح أحدهما على الآخر كالفعل والترك بالنسبة للمباح، فثبت أن المندوب لا تخيير فيه، فشارك الواجب في عدم التخيير، فثبتت مشاركته في كونه مأموراً به حقيقة، فنتج: أن المندوب مأمور به حقيقة. الدليل الرابع: لو كان المندوب مأموراً به لسمى تاركه عاصيا، ولجاز أن يقال لمن ترك قيام الليل، وصيام التطوع، وصلاة النفل، وصدقات التطوع، وإماطة الأذى عن الطريق: " عصيت أمر اللَّه "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كما يقال في الواجب، ولما لم يجز أن يوصف تارك المندوب بالعصيان دلَّ على أن المندوب غير مأمور به حقيقة. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن تارك المندوب لم يسم عاصياً بسبب أن العصيان اسم ذم مختص بمخالفة أمر الإيجاب، فلو سمي تارك المندوب عاصياً لالتبس مع الواجب، لذلك أسقط اللَّه تعالى الذم عن تارك المندوب. بيان نوع هذا الخلاف: لقد اختلف في هذا الخلاف على قولين: القول الأول: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له. وهذا هو الصحيح عندي؛ لأن المندوب مطلوب فعله باتفاق أصحاب المذهبين، فلم يبق إلا في إطلاق اسم الأمر على المندوب حقيقة، أو مجازاً. القول الثاني: إن الخلاف معنوي، قد ترتب عليه بعض الآثار والفوائد، منها: 1 - أنه إذا ورد لفظ الأمر، ودل دليل على أنه لم يرد به الوجوب، فإنه يحمل على الندب، دون الحاجة إلى دليل، وذلك بناء على المذهب الأول؛ حيث إن اللفظ عندهم له حقيقتان. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يحمل الأمر على الندب إلا بدليل وذلك لأن حمل اللفظ على المجاز لا يجوز إلا بدلالة؛ لجواز كون الأمر للإباحة. 2 - أنه إذا قال الراوي: " أمرنا "، أو "أمرنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فعلى المذهب الأول: يكون الأمر متردداً بين إرادة الوجوب والندب، فيكون الأمر مجملاً بينهما ولا بد من دليل يرجح المقصود. أما على المذهب الثاني: فإن الأمر يكون للوجوب، وهو ظاهر فيه حتى يقوم دليل على خلافه. *** المسألة السادسة: هل يعتبر المندوب من أحكام التكليف؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المندوب من الأحكام التكليفية. وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وابن عقيل، وابن قاضي الجبل، وابن قدامة، والطوفي. وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن التكليف طلب ما فيه كلفة ومشقة، وفعل المندوب رغبة في الثواب واحتياطا للدين فيه مشقة، وتركه فيه مشقة على المكلف القوي الإيمان؛ نظراً لفوات الثواب الجزيل بفعله، وربما كان ذلك أشق عليه من الفعل. الدليل الثاني: أن تخصيص الفعل بوعد الثواب يحث العاقل على الفعل، وهذا من الكلفة. فإن قال معترض: إن المندوب غير ملجا لذلك الفعل بالإكراه الشرعي، والمشقة إنما تنشا عن الإلجاء، والمختار لا مشقة فيه. فإنا نقول له: إن هذا الاعتراض يناسب المعنى اللغوي للتكليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 الذي هو: إلزام ما فيه كلفة وهي: المشقة، ولا يناسب المعنى الشرعي للتكليف وهو: " الخطاب بأمر أو نهي "، كما سيأتي. الدليل الثالث: أن التكليف من الشارع هو: طلب ما فيه كلفة ومشقة، إلا أن ذلك قد يكون بإلزام وذاك هو الإيجاب، وقد لا يكون بإلزام وذاك هو المندوب، فهما قد طلبهما الشارع، ولم يخير في فعلهما أو تركهما، وهما في فعلهما مشقة وكلفة، إلا أنهما يختلفان في الترك، فترك الواجب يزيد في المشقة؛ لأن التارك يعاقب، أما ترك المندوب فلا مشقة فيه؛ لأنه لا عقاب عليه، فتبقى المشقة في المندوب في الفعل فقط. المذهب الثاني: أن المندوب ليس من الأحكام التكليفية. ذهب إلى ذلك: إمام الحرمين، وابن برهان، والآمدي، وابن الحاجب، والقرافي، وتاج الدين ابن السبكي، ونسبه بعضهم إلى الأكثرين. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة، والمندوب لا كلفة ولا مشقة فيه، بل هو مساو للمباح في التخيير بين الفعل والترك من غير حرج مع زيادة الثواب على الفعل. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن قياسكم المندوب على المباح قياس فاسد؟ لأنه قياس مع الفارق، حيث إنه يوجد فرق بين المندوب والمباح من وجوه: الوجه الأول: أن المندوب مطلوب فعله، أما المباح فهو مخير بين الفعل والترك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الوجه الثاني: أن المندوب يثاب المكلََّف على فعله، أما المباح فإن المكلَّف إذا فعله فإنه لا يثاب. الوجه الثالث: أن العقل والشرع يمنعان من ترك المندوبات استصلاحاً ونظراً، لا عزماً وجزماً، بخلاف المباحات، فإن العقل والشرع لا يمنعان من تركها. الدليل الثاني: أن المندوب في سعة من تركه، ولا تكليف في السعة. جوابه: يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن كون الشارع قد جوَّز ترك المندوب لا يعني أنه لم يكلف به، بل كلف به إلا أن ذلك التكليف ليس بإلزام على فعله، - وإلا كان واجباً. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ حيث إنه راجع إلى تفسير التكليف ما هو؟ فمن فسر التكليف بأنه " الخطاب بأمر أو نهي "، أو " الأمر بما فيه كلفة، أو النهي عما في الامتناع عنه كلفة ": قال: المندوب من التكليف. ومن فسَّر التكليف بأنه: " إلزام ما فيه كلفة ": قال: المندوب ليس من التكليف؛ لأنه لا إلزام في طلب المندوب. فيكون أصحاب المذهبين متفقين على أن المندوب مطلوب فعله، إلا أن أحدهما نفى عنه اسم التكليف؛ نظراً لعدم الإلزام في طلبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والآخر - وهو الذي اخترناه - أثبت له اسم التكليف؛ لوجود المشقة والكلفة في طلبه كما قلنا. *** المسألة السابعة: هل يلزم المندوب بالشروع فيه؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المندوب لا يلزم بالشروع فيه، أى: لا يصير المندوب واجباً بالشروع فيه مطلقاً. أي: أن المكلف إذا شرع بمندوب، فإنه يجوز له تركه متى ما شاء، فهو مخير بين قطعه وإتمامه، لكن يستحب له الإتمام؛ لما فيه من الثواب، فإن قطعه فلا إثم ولا قضاء عليه. هذا في غير نفل الحج والعمرة، - حيث يجب فيهما الإتمام، أما غيرهما فلا يجب عليه الإتمام - كما قلنا -. ذهب إلى ذلك: الإمام أحمد في رواية عنه، والشافعية، والحنابلة. وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الصائم المتطوع أمير نفسه إن شاء صام وإن شاء أفطر "، فأجاز - هنا - قطع صيام النفل بدون إثم ولا قضاء، فيدل على أن المندوب لا يلزم بالشروع فيه. الدليل الثاني: ما روي: " أن - صلى الله عليه وسلم - كان ينوي صوم التطوع ثم يفطر "، وهو واضح في الدلالة على أن المندوب لا يلزم في الشروع فيه. الدليل الثالث: أن عائشة - رضي الله عنها - قالت: قال لي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم: " يا عائشة، هل عندكم شيء؟ "، فقلت: يا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ما عندنا شيء، قال: " فإني صائم " قالت: فخرج رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فأهديت لنا هدية، ثم عاد فقلت: قد خبأت لك شيئاً، قال: " ما هو؟ " قلت: حيس، قال: "هاتيه "، فجئت به فأكل، ثم قال: " كنت أصبحت صائما ". وجه الدلالة: أنه لو كان الإتمام واجبا لفعله النبي @س) ، ولكنه قطعه ولم يتمه، فدل ذلك على عدم لزوم الإتمام. الدليل الرابع: إجماع الصحابة السكوتي دلَّ على ذلك؛ حيث إن أبا الدرداء، وأبا طلحة، وأبا هريرة، وابن عباس، وحذيفة، كانوا يصومون تطوعا، ثم يقطعون ذلك من غير نكير من بقية الصحابة، فصار بمثابة الإجماع السكوتي على أن النفل لا يلزم بالشروع فيه، فلو أنكر عليهم بعض الصحابة في ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا غيره. الدليل الخامس: قول الصحابي وفعله دلَّ على ذلك، حيث إن البيهقي وعبد الرزاق أخرجا عن ابن عمر وابن عباس أنهما أصبحا صائمين، ثم أفطرا، وقال ابن عمر: لا بأس به ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان. وقال ابن عباس: إذا صام الرجل تطوعا، ثم شاء أن يقطعه قطعه، وإذا دخل في صلاة تطوعا، ثم شاء أن يقطعها قطعها. الدليل السادس: آخر النفل من جنس أوله ولا فرق بينهما. فكما أنه مخير في الابتداء بين أن يسُرع فيه وبين أن لا يشرع فيه؟ لكونه نفلاً، فكذلك يكون مخيراً في الانتهاء، وإذا ترك الإتمام فإنما ترك أداء النفل، وذلك لا يلزمه شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 المذهب الثاني: أن المندوب يلزم بالشروع فيه، فإذا شرع المكلف في أداء المندوب، فإنه يجب عليه المضي فيه وإتمامه. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وأكثر المالكية على تفصيل في ذلك: فالحنفية ذهبوا إلى أن المكلف إذا شرع في أداء النفل، فيجب عليه الإتمام، فإن خرج منه لعذر: لزمه القضاء، ولا إثم عليه، وإن خرج منه لغير عذر: لزمه القضاء وعليه الإثم. هذا في جميع المندوبات. أما المالكية، فقد ذهبوا إلى أنه يجب عليه الإتمام إذا شرع في المندوب، فإن خرج منه بغير عذر فعليه القضاء فقط، وإن خرج بعذر فلا قضاء عليه. هذا في سبعة من المندوبات - عندهم - وهي: "الحج المندوب "، و " العمرة المندوبة " - وهذا بالاتفاق بين العلماء - و " طواف التطوع "، و " الصلاة المندوبة "، و "الصوم المندوب "، و " الائتمام: فمن صلى في جماعة امتنع أن يفارق الإمام "، و " الاعتكاف: فمن نوى اعتكاف عشرة أيام وجب عليه إكمالها إذا شرع فيها ". أما ما عدا ذلك من المندوبات - فيجوز - عند المالكية - أن يقطعه إذا دخل فيه. أدلة أصحاب هذا المذهب: استدل هؤلاء على أن المكلََّف إذا شرع في المندوب أو النفل، فإنه يجب عليه إتمامه، ولا يجوز قطعه بأدلة، هي كما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: (ولا تبطلوا أعمالكم) . وجه الدلالة؛ أن اللَّه نهى عن إبطال الأعمال مطلقا، وهذا يعم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 الأعمال الواجبة والأعمال المندوبة، والنهي المطلق يفيد التحريم، فيكون الإبطال حرام، وترك الحرام واجب، فيكون إتمام ما شرعنا فيه واجبا، سواء كان واجبا أصلاً أم مندوباً. جوابه: يجاب عن ذلك بأجوبة: الجواب الأول: أن النهي هنا يحمل على التنزيه، لا على التحريم، والذي صرفه إلى التنزيه الأحاديث السابقة التي ذكرناها ضمن أدلة المذهب الأول؛ حيث إنها خاصة، والآية عامة، وإذا تعارض العام مع الخاص قدم الخاص؛ جمعاً بين الدليلين، وبناء على هذا يكون النهي الوارد في الآية للتنزيه. وإذا ثبت هذا، فإنه يجوز لمن شرع في النفل أن يقطعه مطلقاً. الجواب الثاني: على فرض أن النهي في الآية للتحريم، وليس للتنزيه، فإن الآية خاصة في إبطال الأعمال بالردة بدليل الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) . الجواب الثالث: على فرض أن النهي في الآية للتحريم، وليس للتنزيه، فإن الآية خاصة في إبطال الأعمال بالرياء، وهو رأي ابن عباس، وابن جريج، ومقاتل، كما نقله بعض المفسِّرين كالزمخشري، والقرطبي، ونقله ابن عبد البر عن أهل السنة. الدليل الثاني: أن أعرابياً جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله - 251 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 الله، ماذا فرض اللَّه عليّ من الصلاة؛ قال: " خمس صلوات في اليوم والليلة "، قال: هل عليّ غيرهن؟ قال: " لا، إلا أن تطوع ". وجه الدلالة: أنك إن دخلت في التطوع فإنه يلزمك إتمامه، وإن كان في الأصل هو تطوع، ولا يلزم المكلَّف فعله، لكن لزم بسبب دخولك فيه. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن الاستثناء في قوله: " إلا أن تطوع " منقطع، أي: أنه لا علاقة له بما تقدم بدليل: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أبطل تطوعه بفطره بعد نية الصوم، وبدليل حديث عائشة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أكل مما أهدي إليه قال: " كنت أصبحت صائماً "، وبدليل: أن كبار الصحابة كانوا يقطعون صيام النفل من غير نكير. الدليل الثالث: أنه روي: أن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدى لنا حيس فأفطرنا، ثم سألنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " اقضيا يوماً مكانه ". وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أوجب أن تقضي عائشة وحفصة يوماً مكان اليوم الذي أفطرتا فيه، فإنه يشير إلى أن المندوب يلزم بالشروع فيه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث مرسل، وضعيف، كما قال كثير من علماء الحديث، وذكر ذلك ابن حجر العسقلاني في " فتح الباري "، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وقال عنه الترمذي: " فيه مقال "، وقال عنه أبو داود: " لا يثبت " وإذا كان كذلك فلا يستطيع أن يقوى على معارضة الأحاديث الصحيحة التي أثبتت أن المندوب لا يلزم بالشروع. الجواب الثاني: على فرض ثبوت هذا الحديث، فإن الأمر في قوله: " اقضيا " يحمل على الندب، لا على الوجوب، والقرينة الصارفة هي الأحاديث التي ذكرناها في المذهب الأول. الدليل الرابع: أن النفل يلزم بالشروع؛ قياساً على النفل المنذور، فكما أن النفل المنذور صار لله - تعالى - تسمية بمنزلة الوعد، فهو أدنى حالاً مما صار لله تعالى فعلاً وهو المؤدى. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنا نتكلم عن النفل المطلق، وهذا بخلاف النفل المنذور، فإنه قد قيد بالنذر، حيث أوجب الناذر على نفسه ذلك. الدليل الخامس: أن نفل الحج ونفل العمرة يجب بالشروع فيهما، فكذلك أيُّ نفل يشرع فيه يجب إتمامه، ولا فرق، والجامع: أن كلاً من الحج والعمرة وغيرهما يطلق عليه اسم " النفل ". جوابه: يقال في الجواب عنه: إن قياسكم النفل المطلق على نفل الحج والعمرة قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن نفل الحج والعمرة يفارق نفل غيرهما من وجهين: الوجه الأول: أن النية في نفل الحج والعمرة لا تختلف عن النية في فرضهما، فهي في كل منهما قصد التلبس بالحج والعمرة، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 ليس متحققاً في غيرهما من النوافل؛ حيث إن نية النفل غير نية الفرض. الوجه الثاني: أنه تجب الكفارة فيهما بالجماع، كما تجب في فرضهما، بخلاف وجوب الكفارة بالإفطار في الصيام، فإنها تجب في الفرض، دون النوافل. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي، حيث أثَّر في بعض المسائل الفقهية، وهي أنه إذا دخل في نافلة من النوافل، سواء كانت في الصوم، أو الصلاة، فإنه عند أصحاب المذهب الأول - وهو المختار -: يجوز له قطع ذلك بعذر أو بدون عذر، ولا شيء عليه. أما عند المالكية من أصحاب المذهب الثاني، فإنه إذا قطع ما دخل فيه من النافلة، فإنه ينظر: إن كان قطعها بعذر فلا قضاء عليه. وإن كان قطعها بلا عذر فعليه القضاء. أما عند الحنفية من أصحاب المذهب الثاني، فإنه إذا قطع ما دخل فيه من النافلة فإنه ينظر: إن كان قد قطع النافلة بعذر فعليه القضاء، ولا إثم عليه. وإن كان قد قطع النافلة بغير عذر فعليه القضاء، وعليه الإثم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 المطلب الثالث في المباح وفيه مسائل: المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المباح هنا. المسألة الثانية: في حقيقة المباح: أولاً: المباح لغة. ثانياً: المباح اصطلاحا. المسألة الئالثة: في صيغ المباح. المسألة الرابعة: هل المباح من الشرع؟ المسألة الخامسة: حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها. المسألة السادسة: المباح هل هو مأمور به؟ المسألة السابعة: هل الإباحة تكليف؟ المسألة الثامنة: هل المباح من جنس الواجب؟ المسألة التاسعة: هل يُسمَّى المباح حسنا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المباح هنا: مناسبة ذكره بعد الواجب والمندوب هي: أن هذه الثلاثة تشترك في فعل المكلف الذي تعلَّق به الحكم الشرعي، لا في تركه. المسألة الثانية: في بيان حقيقة المباح: أولاً: المباح لغة: المباح: اسم مفعول مشتق من الإباحة، وهو يطلق على الإظهار والإعلان، يقال: " باح بسره " أي: أظهره وأعلنه. ويطلق ويراد به: الإطلاق والإذن، يقال: " أباح الأكل من بستانه " أي: أذن بالأكل منه، وهذا هو أقرب المعاني لمراد الأصوليين من المباح. ثانيا: المباح اصطلاحا: المباح هو: ما أذن اللَّه - تعالى - للمكلفين في فعله وتركه مطلقاً من غير مدح ولا ذم في أحد طرفيه لذاته. شرح التعريف، وبيان محترزاته: قولنا: " ما " للجنس، ويقصد بها الفعل، أو الشيء، ويدخل في ذلك الأحكام التكليفية - كلها - الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام. وقولنا: " أذن اللَّه تعالى " أي: صدر هذا من اللَّه وهو الشارع الحكيم. وقد احترزنا بذلك من أفعال اللَّه، حيث قيل: إنها خالية من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 الثواب والعقاب، ومع ذلك فهي ليست مباحة، فذكرنا هذا القيد؟ لإخراج هذا الزعم؛ لأن الإذن صدر من اللَّه للمكلفين. وقولنا: " للمكلفين " جمع مكلف، والمكلف هو: البالغ العاقل الذي يفهم الخطاب الشرعي. وخرج بهذا: الصبي والمجنون، والساهي والنائم، والبهيمة، فأفعال هؤلاء ليست مباحة؛ لعدم التكليف في حقهم. وقولنا: " في فعله وتركه مطلقا " أي: من غير بدل. وخرج بهذا: " الواجب الموسَّع "، و " الواجب المخير"؛ حيث إن المكلف مخير بين أن يفعل هذه الخصلة أو تلك من غير ذم ولا مدح في تركها: فالمكلف مخيَّر بين أن يفعل الصلاة في أول وقتها، أو يفعلها في وسط وقتها، أو يفعلها في آخر وقتها، لكن هذا مشروط بأن لا يترك الصلاة في أول وقتها، إلا إذا كان عازما على فعلها في وسط أو آخر وقتها. وكذلك في الواجب المخيَّر: لا يترك خصلة إلا إذا كان عازما على فعل الخصلة الأخرى، من خصال كفارة اليمين - مثلاً -. فذكرنا في التعريف " مطلقا " لإخراج ذلك، أي: أن الترك في المباح يكون مطلقا غير مشروط. قولنا: " من غير مدح ولا ذم في أحد طرفيه " معناه: أن التارك لا يُذَم، ولا يُمدح، والفاعل لا يُذم ولا يُمدح، فالفعل والترك - وهما الطرفان - متساويان عند الشارع. وهذا القيد أخرج الأحكام التكليفية الأربعة وهي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 1 - " الواجب " لأنه يتعلق بفعله مدح، وبتركه ذم. 2 - " المندوب " لأنه يتعلق بفعله مدح، ولا ذم في تركه. 3 - " الحرام " لأنه يتعلق بتركه مدح، وبفعله ذم. 4 - " المكروه " لأنه يتعلق بتركه مدح، ولا يتعلق بفعله ذم. قولنا: " لذاته " أي: تارك المباح وفاعله لا يذم ولا يمدح لذات المباح من غير اعتبارات أخرى. فخرج بهذا: المباح الذي يترك به واجباً، وأخرج المباح الذي يستعين به على واجب. وهناك تعريفات أخرى للمباح قد تعرضت لبعضها في كتابي "إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر". المسألة الثالثة: في صيغ المباح: هناك صيغ تستعمل في الإباحة هي كما يلي: الأولى: " الإحلال " أو " أحل "، ومنه قوله تعالى: (أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم) ، وقوله: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) . الثانية: " لا جناح "، ومنه قوله تعالى: (لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ) ، وقوله: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ) . الثالثة: " لا حرج "، ومنه قوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ "، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "افعل ولا حرج ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 الرابعة: صيغة الأمر التي صرفت من اقتضائها للوجوب والندب إلى الإباحة بسبب قرينة اقترنت بها، ومن ذلك قوله تعالى: (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ) ، فهذا الأمر بالانتشار هو للإباحة، والقرينة التي صرفت الأمر إلى الإباحة هي: منع الفعل قبل ذلك في قوله تعالى: (فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) ، حيث إنه كان الانتشار لطلب الرزق ممنوعاً إذا نودي للصلاة، ثم أباحه بعد الصلاة. المسألة الرابعة: هل المباح من الشرع؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المباح من الشرع، أي: أنه حكم شرعي، ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الراجح؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الإباحة: تخيير بين الفعل والترك، وهو متوقف في وجوده على الشرع كبقية الأحكام الشرعية، فتكون الإباحة حكماً شرعياً. فهذا الدليل قائم على القياس، وهو قياس الإباحة على بقية الأحكام الشرعية، كالواجب والمندوب بجامع: أن كلًّا منها متوقف في وجوده على الشرع. الدليل الثاني: الأفعال ثلاثة أقسام: قسم صرَّح الشرع فيه بالتخيير بين فعله وتركه، فقال: " إن شئتم فافعلوه وإن شئتم فاتركوه "، فهذا خطاب من الشارع صريح وهو حكم شرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 وقسم لم يرد من الشارع خطاب فيه بالتخيير، ولكن دلَّ دليل السمع على نفي الحرج من فعله وتركه، فهذا عرف بدليل السمع، ولولا وجود هذا الدليل الشرعي لعرف بدليل العقل نفي الحرج عنه، حيث يبقيه على النفي الأصلي، فاجتمع في هذا القسم دليل السمع والعقل. وقسم لم يرد فيه خطاب صريح، ولا دليل من الشرع، أي: أن هذا القسم لم يتعرض الشرع له لا بصريح لفظ الشارع، ولا هو مفهوم من دليل من أدلة السمع، فهذا يجري فيه احتمالان: الأول: أنه يحتمل أن يقال: لا حكم له؛ لأنه لم يرد فيه خطاب صريح من الشرع، ولم يرد فيه دليل شرعي. وهذا الاحتمال بعيد جداً؛ لأنه لا توجد حادثة إلا ولها حكم شرعي. الثاني: أنه يحتمل أن يقال: قد دلَّ السمع - بصورة عامة - على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك، فالمكلف مخير فيه أو بانعقاد الإجماع على ذلك، وهذا الدليل يعم جميع الأفعال التي لا نهاية لها. وعلى هذا لا يبقى فعل إلا وقد دلَّ عليه من جهة الشرع فتكون إباحته من الشرع. المذهب الثاني: أن الإباحة ليست بحكم شرعي. ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة واحتجوا على ذلك بقولهم: إنه لا معنى للمباح إلا انتفاء الحرج من فعله وتركه، وهذا ثابت قبل ورود الشرع، وهو مستمر بعده، وعلى هذا لا يكون حكماً شرعياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 بيان نوع الخلاف: لقد بيَّنت في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، وفي كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ": أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ ودليل ذلك: أنه إن أراد أصحاب المذهب الثاني بالمباح: ما لا حرج في فعله ولا في تركه لا غير، أو أرادوا بالحكم الشرعي الحكم الذي يخالف حكم العقل الذي كان ثابتا قبله: فالمباح ليس حكما شرعيا. وإن أرادوا بالمباح: ما أُعلم فاعله أو دُل بطريق شرعي على أنه لا حرج في فعله أو تركه، أو أرادوا بالحكم الشرعي خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير: فالمباح حكم شرعي؛ وذلك لأن الخطاب المتعلق بأفعال المكلفين بالتخيير أعم من أن يكون ذلك على وجه التقرير، أو على وجه التغير. فلم تتوارد أقوال أصحاب المذهبين على محل واحد، فلا خلاف في المعنى. المسألة الخامسة: حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها: لقد اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب: المذهب الأول: الإباحة أي: أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها:. مباحة: إن شاء المكلف انتفع بها واستعملها، وإن شاء تركها لا ذم ولا مدح لفاعلها ولا لتاركها. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الحنابلة كأبي الحسين التميمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 وأبي الخطاب، وبعض المالكية كأبي الفرج، وبعض الشافعية كالأستاذ أبي إسحاق، وأبي العباس ين سريج، وأبي حامد المروزي، وبعض المعتزلة كأبي علي الجبائي، وابنه أبي هاشم. وهذا هو الراجح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) . وجه الاستدلال: أن هذه الآية دلَّت على إباحة الأشياء وجواز الانتفاع بها، حتى يرد دليل يغيِّر ذلك، ويؤيد ذلك قوله تعالى: (اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) . فهو سبحانه أتى بلفظ " لكم " وكررها ليبين لنا - في موطن الامتنان علينا - أنه خلق لنا ما في الأرض وسخره لنا، واللام في قوله " لكم " في الآيتين للاختصاص أو الملك - وهو تمليك مجازي وليس بحقيقي -؛ لأن المالك الحقيقي هو اللَّه عَزَّ وجَلَّ - فإذا كان الله - تعالى - قد خصَّنا بهذه الأشياء وملكنا إياها فلا بد أن نتحصل على فائدة الملك، وهي: الانتفاع بها. الدليل الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا ... ) . وجه الدلالة: أن اللَّه جعل - في هذه الآية - الإباحة أصلاً في هذه الأشياء إلا ما استثني من ذلك. الدليل الثالث: قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ) ، وقوله: (قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ) . وجه الدلالة: أن هاتين الآيتين جعلتا الإباحة أصلاً في هذه الأشياء إلا ما صرَّح اللَّه عَزَّ وجَلَّ بتحريمه. الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن السمن والجبن والفراء فقال: " الحلال ما أحل اللَّه في كتابه، والحرام ما حِرَّم اللَّه في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفي عنه ". وجه الدلالة: أن الأشياء المسكوت عنها قد عفى اللَّه لمن فعلها ولمن تركها، وهذا هو معنى الإباحة. الدليل الخامس: قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه بين أنه لا يجوز لأي شخص أن يحرم شيئاً قد أخرجه لعباده دون دليل صادر عنه سبحانه. فهذه النصوص الشرعية دلت بعمومها على أن حكم الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها هو: الإباحة. تنبيه: لقد استدل القائلون بالإباحة بأدلة عقلية، ولكن تلك الأدلة ضعيفة، وقد أجبت عنها واعترضت عليها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فإن شئت فارجع إليه. المذهب الثاني: الوقف، أي: أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها: لا حكم لها.. ذهب إلى ذلك: بعض الحنفية، وابن الحاجب، والغزالي، وفخر الدين الرازي، والآمدي، وأبو بكر الصيرفي، وأبو علي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 الطبري، وأبو الحسن الأشعري، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو الحسن الخرزي الحنبلي، وعامة أهل الظاهر، وكثير من أهل العلم. تنبيه: لقد اختلف في تفسير المراد بالوقف هنا: فبيَّن بعض الأصوليين أن المراد بالوقف هنا: أن الحكم متوقف على ورود الشرع بحكم تلك الأفعال، ولا حكم لهذه الأشياء في الحال؛ لأن الحكم موقوف على ورود الشرع، ولم يرد الشرع بذلك، وليس المراد: عدم العلم، فلا يدري أهي محظورة أم مباحة؟ وهذا تفسير الغزالي، والآمدي، وعضد الدين الإيجي. أما ناصر الدين البيضاوي، فقد فسَّر الوقف بأنه عدم العلم. أي: أن هذه الأشياء لها حكم، ولكن لم نعلم ما هو. وأشار فخر الدين الرازي إلى هذين التفسيرين. والصواب عندي: أن التفسيرين صالحان؛ لأن الشخص إذا لم يعلم هذا الشيء، فإما أنه لم يعلمه؛ لعدم ورود الشرع بذلك، فلا حكم عنده في الحال. وإما أنه لم يعلمه؛ لأنه ورد في الشرع، ولكن هذا الشخص لم يعلمه هو في الحال. فهنا يتوقف في هذا حتى يرد عليه الشرع بذلك. أي: أن الشرع لم يرد بالحكم بالنسبة لهذا الشخص الجاهل. دليل أصحاب هذا المذهب: أصحاب المذهب الثاني وهم القائلون بالتوقف استدلوا بقولهم: إن المباح: ما أذن فيه صاحب الشرع، والمحظور: ما حرَّمه صاحب الشرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فإذا لم نجد ورود الشرع في عين بحظر، ولا إباحة، فليس أمامنا إلا التوقف؛ لأن طريق الإباحة الإذن ولم يوجد، وطريق التحريم المنع ولم يوجد، والعقل لا مدخل له في الأحكام الشرعية، فلا يحرم شيئاً ولا يبيحه بمجرد استحسانه أو استقباحه، فنتوقف فيها حتى يرد الشرع ببيان حكمها. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنا نسلم بأن العقل لا يحظر شيئاً ولا يبيحه بعد ورود الشرع، وخلافنا في هذه المسألة قبل ورود الشرع، ولا يمنع أن نقول: إنه قبل ورود الشرع يمكن للعقل أن يحظر ويبيح إلى أن يرد الشرع ويمنع ذلك. الجواب الثاني: أنه يمكن معرفة حكم تلك الأشياء قبل ورود الشرع عن طريق آخر، وهو: الشرائع السابقة؛ إذ لا يخلو زمن من شرع. فإذا ثبت ذلك فليس للعقل مدخل في التحريم والإباحة، بل يكون ذلك للشرائع. وهذا الجواب أقوى من الأول، والله أعلم. المذهب الثالث: الحظر والتحريم، أي: أن الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع بحكمها: محرمة. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وابن أبي هريرة، وأبو بكر الأبهري، والحسن بن حامد، وتلميذه أبو يعلى، والحلواني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 أدلة أصحاب هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بأدلة، من أهمها: الدليل الأول: أن هذه الأعيان ملك لله تعالى، لأنه خلقها وأنشأها، والانتفاع بملك الغير بغير إذنه قبيح فلا يجوز، قياساً على ملك المخلوق، فكما لا يجوز التصرف في ملك الإنسان بغير إذنه، فكذلك لا يجوز التصرف والانتفاع بما خلقه اللَّه تعالى بغير إذنه، وهو لم يأذن، فيبقى على التحريم. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن قياسكم الخالق على المخلوق قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الخالق لا يتضرر إذا انتفعنا بما خلقه وما ملكه، وأما المخلوق فإنه يتضرر إذا انتفعنا بأملاكه، بيان ذلك: أن العادة تقضي: أن التصرف في ملك الغير من المخلوقين بغير إذنه يقبح إذا كان هذا الغير يتضرر ويتأثر كمن أكل من طعام غيره، أو شرب من شرابه، فإنهما يؤثران في الطعام والشراب. أما إذا كان ذلك الغير لا يتضرر ولا يتأثر فلا يقبح التصرف في ملكه بغير إذنه عادة، كمن نظر إلى مرآة غيره، أو من استظل بجدار غيره؛ حيث إن هذه الأمور وما شابهها لا يؤدي إلى استهلاك أو ضرر المرآة، أو الجدار. فإذا ثبت أن الشيء الذي لا يتضرر به المالك من الآدميين يقبح أن يمنع من الانتفاع به، فيجب أن لا يمنع الانتفاع بشيء من الأعيان التي يملكها اللَّه عَزَّ وجَلَّ - وكل شيء ملكه سبحانه وتعالى -؛ لأنه لا ضرر على اللَّه تعالى في الانتفاع بشيء من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 الدليل الثاني: أن أخذنا بالحظر والتحرير أحوط وأبعد عن الخطر. بيان ذلك: أن تلك الأعيان والأفعال يحتمل أن يكون الانتفاع بها مباحاً، فلا يأثم المكلف بذلك، ويحتمل أن يكون الانتفاع بها حراماً، فيأثم المكلَّف على ذلك، ويترتب على ذلك ضرر عليه. وبناء على هذين الاحتمالين، فإننا إذا - أقدمنا على الانتفاع بهذه الأشياء لم نأمن العقوبة من اللَّه تعالى؛ لاحتمال كونه حراماً. وإذا تركنا ذلك: سلمنا من ذلك الاحتمال. فكان القول بالحظر والتحريم أحوط وأبعد عن الخطر؛ لأن فعل الحرام يعاقب عليه مطلقاً، أما ترك المباح فهو جائز. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بأن يقال: إن قولكم هذا لو كان صحيحاً في إثبات الحظر والتحريم لجاز أن يجعل هذا الدليل طريقاَ في إيجاب بعض العبادات كالصوم والصلاة قبل ورود الشرع بإيجابهما خوفاً من أن تكون واجبة، فيقال: لا نأمن من العقاب على تركها، فيجب أن يكون ذلك واجباً قبل ورود الشرع بإيجابهما، ولما لم يصح هذا بالإجماع - حيث إننا لم نعلم إيجاب الصلاة والصوم إلا بعد ورود الشرع بذلك -: لم يصح ما ذكروه؛ لعدم اطراده. بيان نوع هذا الخلاف: لبيان نوع الخلاف في هذه المسألة لا بد من التفصيل الآتي: أولاً: الخلاف بين المذهب الأولى - وهو الإباحة - والثاني - وهو الوقف - خلاف لفظي، بيان ذلك: إن القائل بالوقف هو موافق في الحقيقة للقائل بالإباحة؛ حيث إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 مراد القائلين بالوقف هو: أنه لا يثاب على الامتناع منه، ولا يأثم بفعله، وهذا هو حقيقة الإباحة. أي: أنه لا عقاب على أحد في ما يفعله، ولا ثواب في شيء يفعله، ولا وجوب بشيء من الأشياء حتى يرد الشرع به، وهذا هو حد الإباحة. ومراد القائلين بالإباحة: أنه لا حرج في الفعل والترك، وهذا هو الوقف؛ لأن المتوقف يقول: لا حكم لهذا الشيء فيعمل كيفما شاء. فلا خلاف حقيقي بين القائلين بالإباحة والقائلين بالتوقف، وهو اختيار إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وأبي يعلى الحنبلي. ثانياً: يرى بعض العلماء كابن عقيل، وشمس الدين الأبياري: أن الوقف موافق للحظر، فيكون الخلاف بين القائلين بالوقف، والقائلين بالحظر خلافا لفظيا، وهذا هو الصحيح، بيان ذلك: أن المتوقفين لم يتوقفوا في التصرف في هذه الأشياء، ولم ينتفعوا بها إلا لأنهم حرموها على أنفسهم؛ حيث لا يوجد دليل من الشرع، ولا من العقل يفيد الإذن في الانتفاع بها، وهو معنى قول القائلين بالحظر والتحريم كما يستفاد ذلك من أدلة الفريقين. ثالثاً: أن الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وهم القائلون بالإباحة، وبين أصحاب المذهبين الثاني والثالث خلاف معنوي له ثمرة، بيان ذلك: أن الشيء الذي سكت عن حكمه الشارع، فلم يوجد له في الشرع لا نفي ولا إثبات، أو وُجد دليلان متعارضان متكافئان فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 اختلف العلماء فيه، ويرجع كل واحد من العلماء في ذلك إلى أصله قبل الشرع، ويستصحب ذلك الأصل إلى ما بعد ورود الشرع. فالقائلون بأن الأصل في الأشياء قبل الشرع الإباحة يقولون: إن حكم هذا الشيء الذي سكت عنه الشرع الإباحة؛ استصحابا للإباحة السابقة قبل الشرع، والأصل بقاء ما كان على ما كان حتى يأتي دليل يغير الحالة. والقائلون بأن الأصل في الأشياء قبل الشرع الحظر يقولون: إن حكم هذا الشيء الذي سكت عنه الشرع: الحظر والتحريم؟ استصحابا للحال السابقة قبل الشرع. وبناء على ذلك فقد اختلف العلماء في الحيوان المشكل أمره كالزرافة، والحشرات، والنبات المجهول تسميته، حيث إن هذه الأشياء لم يأت الشارع بحكمها. فالقائلون بالإباحة قالوا: إن تلك الأشياء على الإباحة فيجوز أكلها. والقائلون بالحظر قالوا: إن تلك الأشياء محرمة، فلا يجوز أكلها والله أعلم. *** المسألة السادسة: المباح هل هو مأمور به؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المباح غير مأمور به من حيث هو مباح. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأنه يعلم كل عاقل من نفسه الفرق بين أن يأذن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 الله تعالى لعبده في الفعل وبين أن يأمره به ويقتضيه منه، وأنه إن أذن له فليس بمقتض له. وبهذا تبين لك الفرق بين معمى " الأمر "، ومعنى " الإباحة ". فمعنى الأمر: اقتضاء الفعل من المأمور به، والمطالبة به، والنهي عن تركه، ومعمى الإباحة: الإذن في الفعل والترك، أي: تعليق الفعل المباح بمشيئة المأذون له في الفعل، وإطلاق ذلك له. وإذا ثبت الفرق بين ما يقتضيه الأمر، وما تقتضيه الإباحة: لزم من ذلك أن المباح غير مأمور به. تنبيه: إن ورد واستعمل وأطلق لفظ الأمر على المباح فإن هذا الاستعمال والإطلاق ليس على الحقيقة، وذلك لأن الاسم الحقيقي للمباح هو: المأذون فيه، ويجوز إطلاق عليه اسم الأمر مجازاً من إطلاق اللازم على الملزوم، لأنه يلزم من خطاب اللَّه - تعالى - بالتخيير فيه كونه مأموراً باعتبار أصل الخطاب، كما أن الرجل الشجاع يطلق عليه اسم " أسد " مجازاً لقرينة، مع أنه اسم حقيقي لذلك الحيوان المفترس، كذلك هنا. المذهب الثاني: أن المباح مأمور به. وينسب إلى الكعبي، وأبي الفرج المالكي، وأبي بكر الدقاق. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن فعل المباح لا يتحقق إلا بترك حرام، وترك الحرام مأمور به، وعلى هذا: يكون المباح مأمور به، بيان ذلك: أنه لا يمكن التلبس بفعل مباح إلا ويستلزم ذلك ترك محرم، بل قد يستلزم ترك محرمات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 فمثلاً: السكوت المباح يترك به الكفر والقذف والكذب، والسكون المباح يترك به الزنا والسرقة وترك الكفر، والقذف، والكذب، والزنا، والسرقة مأمور به، ولا يمكن ترك هذه الأمور إلا بالسكوت والسكون، فيكونان مأموراً بهما. وعلى هذا يكون السكون المباح، والسكوت المباح مأموراً بهما. فينتج: أن المباح مأمور به. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عن قولهم في استدلالهم -: إننا لو سلكنا هذا المنهج فإنه يلزم أن المباح يكون واجبا؛ لأن ترك الحرام واجب؛ حيث إن ما لا يتم ترك الحرام إلا به فهو واجب، فيكون السكوت عن الكذب - مثلاً - واجب؛ لأنه لا يتم ترك الكذب إلا بالسكوت عنه فيصبح واجبا. ويلزم - أيضا -: أن يكون المندوب واجبا؛ حيث إنه يترك به الحرام، فمثلاً المشتغل في السواك قد يترك به شرب الخمر، فيكون المندوب واجبا، لأنه ترك به حراما، وهو شرب الخمر. ويلزم - أيضا - أن يكون الحرام واجبا؛ حيث يُترك به حرام آخر، فمثلاً: المشتغل بالسرقة فإنه - وهو في تلك الحالة - يِترك به الزنا فتكون - بناء على ذلك المسلك - السرقة واجبة؛ لأنه ترك بها حراما آخر وهو الزنا، وهكذا. هذه الأمور وغيرها تلزم لو سلكنا ونهجنا ذلك المسلك الذي سار عليه الكعبي في استدلاله على أن المباح مأمور به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وهي باطلة - كلها -؛ لأمرين: أولهما: أنه نتج - كما سبق - من تلك الإلزامات: أن يكون المباح واجبا، والحرام واجبا، والمندوب واجبا، ونحو ذلك، وهذا تناقض ظاهر في الشريعة، وهو لا يجوز عقلاً فضلاً على أنه لا يجوز شرعا. ثانيهما: أن كون المباح واجبا يقتضي كون أفعال المكلفين التي تتعلق بها الأحكام أربعة؛ ضرورة كون المباح واجبا - حينئذٍ - وهو خلاف الإجماع. بيان نوع الخلاف: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن المباح غير مأمور به، وبين أصحاب المذهب الثاني - وهم الكعبي وأتباعه القائلون: إن المباح مأمور به، هو خلاف لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين في المعنى؛ حيث إننا لو تدبرنا ودققنا فيما استدل به الكعبي وأتباعه، لوجدنا أن ظاهر كلام الكعبي يدل دلالة واضحة على أن المباح غير مأمور به من جهة ذاته، فلم يخالف غيره من الجمهور في ذلك، ويدل على أن المباح مأمور به من حيث ما عرض له من تحقق ترك الحرام وغيره، ولا يخالفه الجمهور في ذلك؟ حيث إن صيرورة المباح مأمور به لعارض مما اتفق عليه. والخلاصة: أن الكعبي لا ينكر المباح، ولا يقول: إن المباح مأمور به من حيث ذاته، وهو: المخير بين فعله وتركه، وإنما يقول - كما نقله عنه كثير من الأصوليين -: إن المباح مأمور به من حيث ما لزم عليه من ترك للحرام؛ لأن ترك الحرام واجب، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وإذا لم يتم ترك الحرام إلا بفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 المباح، فالمباح واجمما، وهو إنما يصفه بالوجوب أثناء فعله، أما قبل الفعل فيجوز للمكلَّف - عنده - أن يفعله ويفعل غيره من أقسام الحكم مما يتعلق به ترك الحرام. ويلزمه - على هذا - أن يصف جميع الأحكام بالوجوب من حيث ما يلزم عليها من ترك للحرام، ويلزم - أيضاً - من ذلك أن يصف الحرام نفسه بالوجوب من حيث لزم عليه من ترك لحرام أعظم منه، وكذا يقال في بقية الأقسام. وعلى هذا: فهو يقول في المباح: هو مباح من حيث هو مخير بين فعله وتركه، واجب من حيث ما لزم عليه من ترك للحرام. وهذا ما نقله عنه أكثر الأصوليين، والجميع يسلِّم له ذلك، فظهر أن الخلاف لفظي، وأن من نسب إليه إنكار المباح لم يحرر مذهبه. وقد تكلمت عن ذلك في كتاب " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، وكتاب " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ". المسألة السابعة: هل الإباحة تكليف؟ اختلف العلماء في الإباحة هل تدخل تحت التكليف أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أن الإباحة ليست تكليفاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن التكليف هو: طلب ما فيه كلفة ومشقة بصيغة الأمر أو النهي، والإباحة - كما هو معروف - ليس فيها مشقة جازمة كمشقة الوجوب والتحريم، ولا مشقة غير جازمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 كمشقة الندب والكراهة، وهي: مشقة فوات الفضيلة، بل إن المكلَّف في المباح يخير بين الفعل والترك مطلقاً، وهذا لا تكليف فيه، وبناء على ذلك فلا تكليف في المباح. المذهب الثاني: أن الإباحة تدخل تحت التكليف. ذهب إلى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، واستدل بقوله: إن التكليف هو: وجوب اعتقاد إباحته، وأنه من الشرع، فيكون المباح يكلف به من حيث وجوب اعتقاده. جوابه: يمكن أن يجاب عما قاله الأستاذ في استدلاله بأن يقال: إننا لو قلنا مثل ذلك للزم أن نقول مثله في جميع الأحكام الشرعية؛ لأنه لا فرق بين المباح، والحرام، والمندوب، والمكروه في وجوب اعتقاد الحكم من إباحة، أو حرمة، أو ندبية، أو كراهة، والكلام ليس في هذا الاعتقاد فإنه لا يسمى مباحاً، وإنما الكلام في نفس الفعل الذي تعلقت به الإباحة كالأكل والشرب. سبب وضع المباح ضمن الأحكام التكليفية: قد يقول قائل: إذا كان المباح لا يدخل في التكليف كما رجحت ذلك، وأجبت عن دليل من قال بأنه من التكليف، فلماذا اعتبر من أقسام الأحكام التكليفية الخمسة؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن المباح صار من أقسام الأحكام التكليفية الخمسة؛ لأنه يختص بالمكلفين. أي: أن الإباحة والتخيير لا يكون إلا ممن يصح إلزامه بالفعل أو الترك، أما الناسي، والنائم، والمجنون، والصبي، ومن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 حكمهم فلا إباحة في حقهم، فهذا معنى جعل المباح من أقسام الأحكام التكليفية الخمسة، لا بمعنى أن المباح مكلف به. بيان نوع الخلاف في هذه المسألة: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لعدم وروده على محل واحد، فالنزاع راجع إلى الاختلاف في تفسير لفظ "التكليف ". فمن فسَّر " التكليف " بأنه طلب ما فيه مشقة وكلفة بصيغة الأمر أو النهي قال: إن المباح ليس مكلفاً به، وهو مذهبنا -. ومن فسَّر " التكليف " بأنه: وجوب اعتقاد إباحته، وأنه من الشرع قال: إن المباح مكلف به، وهو رأي الأستاذ أبي إسحاق. أو تقول في الدليل على كون الخلاف لفظياً: إن أبا إسحاق أراد بقوله: المباح مكلف به: أنه يجب اعتقاد إباحته، فلم يثبته بالنسبة إلى أصل الفعل، بل بالنسبة إلى وجوب اعتقاد كونه مباحاً، والوجوب من خطاب التكليف. والجمهور لا يخالفونه في كون المباح من التكليف بهذا الاعتبار، وهو لا يخالفهم في أن المباح ليس من التكليف باعتبار الفعل والترك. فالخلاف لم يرد على محل واحد، فكان الخلاف لفظيا. المسألة الثامنة: هل المباح من جنس الواجب؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المباح ليس بجنس للواجب ولا هو داخل فيه. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وهو الصحيح؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه يوجد فرق بين الواجب والمباح في الحقيقة، فالمباح مطلق الفعل ومطلق الترك، أي: لا فرق بين الترك والفعل. أما الواجب فغير مطلق الترك - كما سبق بيان ذلك من خلال تعريفهما -. الدليل الثاني: أن المباح لو كان جنساً للواجب: لوجب صدقه عليه كصدق الحيوان على الإنسان. المذهب الثاني: أن المباح من جنس الواجب، أي: أن المباح يدخل في مسمى الواجب. ذهب إلى ذلك بعض العلماء واحتجوا بقولهم: إن المباح هو: المأذون في فعله، وهذا المعنى متحقق في الواجب، والزيادة التي اختص بها الواجب غير نافية للاشتراك. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عن ذلك -: إن كلًّا من المباح والواجب يختلف عن الآخر، فالمباح مأذون في فعله، ومأذون في تركه بخلاف الواجب - فإنه وإن كان مأذوناً في فعله - كما أشرتم - فإنه غير مأذون في تركه فافترقا. بيان نوع الخلاف في هذه المسألة: إن الخلاف في هذه المسألة - شلاف لفظي؛ راجع إلى تفسير "المباح " ما هو؟ : الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 فمن فسَّر المباح بأنه المأذون - فقط - فلا شك أن هذا مشترك بين الواجب وغيره، فيكون المباح جنساً للواجب. ومن فسَّر المباح بأنه المأذون فيه مع عدم المنع من الترك، فلا شك أن المباح يكون نوعاً مبايناً للواجب، فلم يكن جنساً له. أو تقول - في بيان الدليل على كون الخلاف لفظياً -: إن من قال بأن المباح جنس للواجب عني بالمباح الذي هو بمعنى: " الجائز " الذي لا يمتنع شرعاً، فلا شك: أن ذلك يشمل الواجب والمندوب والمباح والمكروه. ومن قال: إن المباح ليس بجنس للواجب، فإنه عني بالمباح: المباح الذي هو: ما خيَّر الشارع بين فعله وتركه. المسألة التاسعة هل يسمى المباح حسنا؟ أجمعوا على أن المباح لا يُسمَّى قبيحاً. واختلفوا: هل يُسمَّى حسناً أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أن المباح يُسمَّى حسناً، وهو الصحيح؛ لأن الشارع رفع الحرج عن فعله، وكل ما رفع الحرج عن فعله فإنه يكون حسناً، فالمباح يكون حسناً. المذهب الثاني: أن المباح لا يُسمَّى حسناً، لأنه لا يستحق فاعله المدح والثناء. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، راجع إلى بيان المراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 بـ "الحسن "، فإن كان المراد من " الحسن " كل ما رفع الشارع الحرج عن فعله، سواء كان على فعله ثواب أو لم يكن، فإن المباح يكون حسناً. وإن كان المراد بـ " الحسن ": ما يستحق فاعله الثناء والمدح والثواب، فإن المباح لا يكون حسناً، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 المطلب الرابع في المكروه ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المكروه هنا. المسألة الثانية: في حقيقة المكروه. أولاً: المكروه لغة. ثانياً: المكروه اصطلاحا. المسألة الثالثة: في صيغ المكروه. المسألة الرابعة: فيما يطلق عليه المكروه. المسألة الخامسة: في إطلاق " المكروه " بين الجمهور والحنفية. المسألة السادسة: هل المكروه منهي عنه حقيقة؟ المسألة السابعة: في حكم المكروه. المسألة الثامنة: هل الأمر المطلق يتناول المكروه؟ المسألة التاسعة: هل المكروه من التكليف؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 المسألة الأولى: في مناسبة ذكر المكروه هنا: لقد ذكرنا المكروه هنا؛ لأمرين: الأول: أنه بعد ذكر المأذون في فعله - وهو الواجب والمندوب، والمباح لا بد أن نذكر الممنوع من فعله. الثاني: أنه يشترك مع الحرام - الذي سيأتي ذكره - فيما يلي: 1 - أن كلًّا من المكروه والحرام مطلوب تركه، لكن الحرام طُلب تركه طلباً جازماً، والمكروه طُلِب تركه طلباً غير جازم. 2 - أن كلًّا من المكروه والحرام منهي عنه، لكن المكروه منهي عنه نهياً غير جازم، والحرام منهي عنه نهياً جازماً. المسألة الثانية: في حقيقة المكروه: أولاً: المكروه لغة: المكروه لغة: ضد المحبوب، تقول: " كرهت الشيء " إذا لم تحبه. وقيل: المكروه مأخوذ لغة من الكريهة، وهي الشدة في الحرب، ومنه سمي يوم الحرب: " يوم الكريهة ". والكره - بضم الكاف -: المشقة كما نقله الجوهري في الصحاح عن الفراء. وعلى هذا يكون المكروه هو: ما نفر عنه الشرع والطبع؛ لأن الطبع والشرع لا ينفران إلا عن شدة ومشقة تلحق بالمكلف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 ثانيا: المكروه اصطلاحا: المكروه هو: " ما تركه خير من فعله ولا عقاب في فعله ". شرح التعريف، وبيان محترزاته: قولنا: " ما " جنس في التعريف شمل كل متعلقات الحكم التكليفي الخمسة؛ لأن المراد بها فعل المكلف. قولنا: " تركه خير من فعله " قيد أخرج الأحكام التكليفية الثلاثة وهي: " الواجب، والمندوب، والمباح "، وبيان ذلك: أن الواجب خرج، لأن فعله "خير من تركه، وفي تركه عقاب. وأما المندوب فقد خرج، لأن فعله خير لحصول الثواب، ولا عقاب في تركه. وأما المباح فقد خرج، لأن فعله وتركه سواء، فلا يوصف أحدهما بالخيرية. وقولنا: " ولا عقاب في فعله " أخرج الحرام " لأن الحرام تركه خير من فعله، وفي فعله عقاب. المسألة الثالثة: في صيغ المكروه: الصيغ التي تستعمل وتدل على الكراهة هي كما يلي: الأولى: لفظة " كره " وما يشتق منها، ومنه ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن اللَّه كره لكم قيل وقال وكثرة السؤال ". الثانية: لفظة " بغض " وما يشتق منها، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " أبغض الحلال إلى اللَّه الطلاق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الثالثة: لفظة النهي: " لا تفعل " إذا احتفت بها قرينة تصرفها عن التحريم إلى الكراهة مثل قوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) ، فإن النهي في قوله: " لا تسألوا " للكراهة، وليس للتحريم، وقد صُرِف النهي عن التحريم إلى الكراهة بسبب قرينة صارفة، وهي آخر الآية، وهي قوله تعالى: (وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ) ، فالسؤال عما لا يعرف ليس بحرام. وهناك صيغ غير ما ذكرنا للكراهة تعرف من سياق الكلام. المسألة الرابعة: ما يطلق عليه المكروه: اختلف في إطلاقات المكروه على ما يلي: فبعض العلماء يطلق لفظ " مكروه "، ويريد به الحرام والمحظور، وقد روي هذا الإطلاق عن الإمام مالك، والشافعي، وأحمد - رحمهم اللَّه جميعاً - وهو غالب في عبارة المتقدمين، وذلك تورعاً منهم وحذراً من الوقوع تحت طائلة النهي الوارد في قوله تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ) ، فكرهوا - لذلك - إطلاق لفظ التحريم. وبيَّن ابن القيم في " أعلام الموقعين " بأن هذا كان من أسباب غلط كثير من المتأخرين من أتباع الأئمة على أئمتهم، حيث تورع الأئمة عن إطلاق لفظ التحريم، وأطلقوا لفظ " الكراهة "، فنفى المتأخرون التحريم عما أطلق عليه الأئمة الكراهة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 وبعضهم يطلق لفظ " مكروه " على ما نهي عنه نهياً تنزيهياً، وهو الذي عرفناه هنا. وإذا أطلق لفظ " مكروه " انصرف إلى هذا، وهو المكروه كراهة تنزيه، وهو الذي نحن بصدده - الآن -؛ لأن كلًّا من الأحكام الأربعة خص باسم غلب عليه كالواجب، والمندوب، والمباح، والحرام، فاقتضى ذلك اختصاص " المكروه " باسم غالب عليه كغيره من الأحكام، ويكون هذا الاسم هو " المكروه ". وبعضهم يطلقه ويريد به: ما وقعت الشبهة في تحريمه وإن كان غالب الظن حله، كأكل لحم الضبع. وبعضهم يطلقه ويريد به ترك ما مصلحته راجحة كترك المندوبات. بيان نوع الخلاف: هذا الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي؛ لأن الإطلاقات السابقة اختلفت باختلاف مراد كل مطلق من إطلاقه، فلم يرد الخلاف على موضع واحد فمن أطلق الإطلاق الأول - وهو أنه مراد به الحرام - حدَّه بحد الحرام. ومن أطلق الإطلاق الثاني - وهو ما نهي عنه نهي تنزيه - حدَّه بالنهي عنه الذي لا ذم على فعله - وهو الموضوع الذي نحن بصدده الآن. ومن أطلق الإطلاق الثالث - وهو: ما وقعت الشبهة في تحريمه - حدَّه بأنه الذي فيه شبهة وتردد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 ومن أطلق الإطلاق الرابع - وهو: ما أريد به ترك ما مصلحته راجحة - حده بترك الأولى. المسألة الخامسة: إطلاق " المكروه " بين الجمهور والحنفية: الجمهور إذا أطلقوا لفظ " مكروه " انصرف إلى المكروه كراهة تنزيهية - وهو الذي عرفناه فيما سبق - وذلك لأنهم لا يسمون بهذا الاسم غيره، وإن كانوا لا يخالفون في جواز إطلاقه على الحرام - كما سبق في المسألة الرابعة -. أما الحنفية، فإنهم إذا أطلقوا لفظ " المكروه " انصرف هذا اللفظ غالباً إلى المكروه تحريماً. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا يترتب عليه آثار؛ حيث إنه راجع إلى اصطلاح كل من الفريقين، ولا مشاحة في الاصطلاح. المسألة السادسة: هل المكروه منهي عنه حقيقة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المكروه منهي عنه حقيقة. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الصواب؛ للأدلة الآتية: - الدليل الأول: أن استعمال المنهي في المكروه قد شاع في لسان اللغة والشرع، والأصل في الاستعمال الحقيقة، ولا يوجد شيء يمنع من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الدليل الثاني: أن كلمة " النهي " تطلق على ما كان النهي فيه لحرمته كما تطلق على ما كان النهي فيه لكراهته وعدم استحسانه، ولا فرق بينهما إلا في العقاب على فعل الحرام، دون المكروه. المذهب الثاني: أن المكروه منهي عنه مجازاً، وليس حقيقة. وهو لبعض العلماء مستدلين بقوله تعالى: (وما نهاكم عنه فانتهوا) . وجه الدلالة: أن هذا النص يقتضي أن الانتهاء لازم عن المنهي عنه، وترك المكروه غير لازم، فكان المكروه - منهيا عنه مجازاً لا حقيقة، أي: لو كان المكروه منهياً عنه حقيقة للزم من ذلك الانتهاء عن فعله، وإن لم ننته حلَّ العقاب، ولكن حقيقة المكروه أنه طلب الانتهاء عنه، ولكن لو فعلناه لما كان علينا عقاب، إذن يكون النهي عنه نهيا مجازاً، لا حقيقة. جوابه: يمكن أن يقال في الجواب عنه: إننا نظرنا إلى غير ما نظرتم إليه، فنحن نظرنا إلى إطلاق لفظ النهي على المكروه، وأنتم نظرتم إلى حكمه، ففرق بينهما. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا يترتب عليه أي أثر؟ وذلك لاتفاقنا مع أصحاب المذهب الثاني على أن المكروه مطلوب ترك فعله وإن كان طلبا غير جازم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المسألة السابعة: في حكم المكروه: إن المكلف يثاب في ترك المكروه امتثالاً، وإذا فعله فلا يعاقب على فعله، ولكن يقال عنه بأنه مخالف. قال القاري في " فتح العناية": " إنما يكون - فعله لوثة مخالفة في صحيفة الإنسان ". المسألة الثامنة: هل الأمر المطلق يتناول المكروه: اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأمر المطلق لا يتناول المكروه. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجرجاني، والإمام مالك، وبعض المالكية كابن خويز منداد، وأكثر الشافعية، والحنابلة. وهو الراجح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن المكروه - كما سبق - منهي عنه نهياً غير جازم، والنهي يقتضي ترك الفعل، أما الأمر فإنه يقتضي إيجاد الفعل، فيلزم من ذلك أن الأمر والنهي متضادان، وإذا كانا متضادين فإنه لا يمكن أن يطلب ترك الشيء في حين أنه يطلب فعله. أي: يستحيل أن يكون الشيء مأموراً به منهيا عنه في آن واحد، فينتج: أن المكروه لا يتناوله الأمر المطلق. الدليل الثاني: أنه إذا كان المباح ليس مأموراً به - كما سبق بيانه - مع أنه ليس منهيا عنه، فمن باب أوْلى أن المكروه لا يدخل تحت الأمر المطلق؛ لأنه منهي عنه. الدليل الثالث: أنه يوجد تنافي بين حقيقة الأمر، وحقيقة المكروه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 فالأمر هو: استدعاء وطلب، والمأمور به مستدعى ومطلوب فعله كالواجب والمندوب. أما المكروه فهو مطلوب الترك، إذن: ليس مستدعى ولا مطلوباً فعله، فيكون المكروه منهياً عنه. المذهب الثاني: أن الأمر المطلق يتناول المكروه. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية كالجصاص، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يجوز أداء صلاة عصر يومه بعد تغير الشمس، فهو مأمور به شرعاً، وهو مكروه. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الكراهة ليست في صلاة العصر، بل إن سبب الكراهة هو: التشبه بعباد الشمس. الدليل الثاني: أن الأمر الوارد في قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) ، يتناول طواف المحدث، وهو صحيح عند الحنفية، وهو مكروه. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن الكراهة ليست في الطواف، لأنه تعظيم للبيت، بل الكراهة لوصف في الطائف، وهو المحدث، والحدث ليس من الطواف. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي له ثمرة وفائدة في كثير من المسائل الفقهية، ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 1 - لو طاف مكلف على غير طهارة، أو طاف منكوسا وهو - المقلوب الذي رجلاه إلى أعلى، ورأسه إلى أسفل "، فهل يدخل في الأمر الوارد في قوله تعالى: (وليطوفوا بالبيت العتيق) . اختلف العلماء في ذلك، وكان سبب اختلافهم هو: اختلافهم في المسألة السابقة: فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا يتناول المكروه - ذهبوا إلى عدم دخول تلك الصورة المؤداة في الأمر، ولو فعل لا يكون مجزئاً بسبب: أن المكروه لا يدخل في مطلق الأمر. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق يتناول المكروه - فقد ذهبوا إلى أن ذلك الفعل بتلك الصورة المؤداة يدخل في الأمر، وإن كان حكمه مكروهاً إلا أنه يجزي عن الطواف. 2 - لو توضأ مكلف وضوءاً منكساً دون ترتيب، فهل يدخل في مطلق الأمر بالوضوء ويجزئ عنه؟ اختلف العلماء في ذلك، وسبب اختلافهم هو اختلافهم في المسألة السابقة. فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا يتناول المكروه - ذهبوا إلى أن الوضوء المنكس لا يدخل في مطلق الأمر بالوضوء، وأنه إذا وقع مثل ذلك لا يجزئ. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق يتناول المكروه - فقد ذهبوا إلى أن الوضوء المتكس يدخل في مطلق الأمر بالوضوء، وأنه إذا وقع مثل ذلك فإنه يجزئ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المسألة التاسعة: هل المكروه من التكليف؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المكروه ليس من التكليف. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن التكليف إنما يكون بما فيه كلفة ومشقة، والمكروه لا كلفة ولا مشقة فيه - كما اتضح ذلك من بيان حقيقة المكروه السابق في المسألة الثانية، ومن بيان حكم المكروه السابق في المسألة السابعة -. حيث بيَّنا: أن المكلَّف إذا ترك الفعل المكروه فله أجر وثواب، وإن لم يتركه فلا إثم عليه، وهذا لا مشقة ولا كلفة فيه، بخلاف الواجب والحرام، فالمشقة والكلفة فيهما واضحة؛ حيث إن المكلَّف إن فعل الواجب فله أجر، وإن تركه فعليه إثم، وإن ترك الحرام فله أجر، وإن فعله فعليه إثم، وكل ذلك للابتلاء. المذهب الثاني: أن المكروه من التكليف. ذهب إلى ذلك الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وبعض الشافعية وبعض الحنابلة. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء بقولهم: إن المكروه لا يخلو من مشقة وكلفة، فشمله معنى التكليف. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إننا لو رجعنا إلى حقيقة المكروه لوجدنا أنه لا مشقة حقيقية فيه، ولا إلزام في ترك الفعل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 تنبيه: إنني صححت في كتابي " إتحاف ذوي البصائر " أن المكروه من التكليف، ولكني في كتابي الآخر وهو: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين " صححت: أن المكروه ليس من التكليف، وكذا في هذا الكتاب. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي لا ثمرة له راجع إلى تفسير التكليف ما هو. فمن فسَّر التكليف بأنه: إلزام ما فيه كلفة، قال: المكروه ليس من التكليف، لأنه لا إلزام في المكروه. ومن فسَّر التكليف بأنه الأمر بما فيه كلفة، أو النهي عما في الامتناع عنه كلفة، أو هو الخطاب بأمر أو نهي: قال: المكروه من التكليف. إذن: أصحاب المذهبين قد اتفقوا على المعنى وهو: أن المكروه مطلوب تركه إلا أن أصحاب المذهب الأول وهم الجمهور رفع عنه اسم التكليف، نظراً لعدم الإلزام في طلب الترك، أما أصحاب المذهب الثاني أثبتوا له اسم التكليف لوجود الكلفة والمشقة في طلب الترك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المطلب الخامس الحرام ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: في مناسبة وضع الحرام هنا. المسألة الثانية: في حقيقة الحرام: أولاً: الحرام لغة. ثانياً: الحرام اصطلاحا. المسألة الثالثة: في صيغ الحرام. المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع حراما واجباً؟ المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من جهة واحدة؟ المسألة السادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من جهتين؟ المسألة السابعة: في مقدمة الحرام. المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر. المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 المسألة الأولى: مناسبة وضع الحرام هنا: مناسبة وضع الحرام بعد المكروه هي: أنهما يشتركان في شيء واحد وهو: أن كلًّا منهما مطلوب تركه، لكن المكروه مطلوب تركه طلباً غير جازم، والحرام مطلوب تركه طلباً جازماً. المسألة الثانية: في حقيقة الحرام: أولاً: الحرام لغة: الممنوع، يقال: " حرمه الشيء ": إذا منعه إياه، ومنه قوله تعالى: (وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ) أي: حرمناه رضاعهن ومنعناه منهن. ثانيا: المحرم اصطلاحا: هو: ما ذُمَّ شرعاً فاعله. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " ما " جنس في التعريف، والمراد منه: " الفعل "، والتقدير: " الفعل الذي يذم شرعاً فاعله "، والمقصود: فعل المكلَّف. ودخل في ذلك كل أقسام الحكم التكليفي وهي: الواجب، والمندوب، والمباح، والمكروه، والحرام. قولنا: " ذُمَّ " الذم هو: الاستنقاص من الشارع الذي يصل إلى حدِّ العقاب، وهو قيد في التعريف، أخرج المندوب، والمكروه، والمباح، بيان ذلك: أنه أخرج المندوب؛ لأن المندوب لا ذم على تركه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وأنه أخرج المكروه؛ لأن المكروه لا ذم على فعله. وأنه أخرج المباح؛ لأن المباح لا ذم على فعله ولا على تركه. قولنا: " شرعا " قيد في التعريف لبيان أن الذم المعتبر هو الذم الوارد من الشارع فقط، بخلاف ما تقوله المعتزلة من أن العقل يذم ويقبح، ويمدح ويحسن. قولنا: " فاعله " أخرج الواجب؛ لأنه الواجب يذم على تركه. والمراد بالفعل هو: كل ما يصدر من الشخص، وذلك يشمل فعل الجوارح كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، والقتل، ويشمل الأقوال المحرمة كالكذب، والنميمة، والغيبة، ويشمل الأعمال القلبية المحرمة كالحقد، والحسد، والنفاق. *** المسألة الثالثة: في صيغ الحرام: الحرام له صيغ وأساليب، ومنها: الأولى: لفظة " التحريم " ومشتقاتها، مثل قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وقوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ) . الثانية: صيغة النهي المطلق، مثل قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) . الثالثة: التصريح بعدم الحل، مثل قوله تعالى: (وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الرابعة: أن يذكر الشارع فعلاً ثم يرتب عليه عقوبة، فهذا يدل على أن الفعل حرام، ومنه قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) . الخامسة: صيغة الأمر التي تطلب الترك والمنع من الفعل، كقوله تعالى: (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ) ، وقوله: (وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا) ، فإن هذه الصيغة تعتبر من أساليب النهي؛ ترجيحاً لجانب المعنى على جانب اللفظ؛ حيث إن معنى هذه الأوامر: النهي. وبعضهم اعتبرها من أساليب الأمر؛ حيث إنها تفيد الطلب بصيغة الأمر. بيان نوع الخلاف: الخلاف في الصيغة الخامسة خلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن المعنى - وهو الحكم الشرعي - متفق عليه، وهو - هنا - تحريم قول الزور وتحريم الربا. لكن بعضهم عبَر عنه بالأمر باجتناب قول الزور، والأمر بترك الربا. وبعضهم عبَّر عنه بالنهي عن الزور والربا، فكان الخلاف في التعبير فقط. المسألة الرابعة: هل يجوز أن يكون الواحد بالنوع (1) حراماً واجباً؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين:   (1) إليك بيان الواحد بالجنس، والواحد بالنوع، والواحد بالعين؛ لأن هذه المسألة والمسألتين الآتيتين لها صلة بذلك فأقول: الواحد بالجنس هو لفظ واحد دلَّ على جنس كالحيوان، وهو شامل للواحد بالنوع كالإنسان، والواحد بالعين كزيد. والواحد بالنوع هو لفظ واحد دلَّ على نوع كالإنسان، وهو شامل للواحد بالعين كزيد. أما الواحد بالعين فهو لفظ واحد دلَّ مفهومه على شخص معين كزيد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المذهب الأول: يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا وحراما طاعة ومعصية. وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح، وذلك بالإضافة والاعتبار والنسبة. فيكون الواحد بالنوع واجبا وحراما باعتبار أشخاصه أي: واجب باعتبار بعض الأشخاص، وحرام باعتبار بعض الأشخاص الآخرين. فاختلاف الإضافات والاعتبارات والنسب والصفات جعل الواحد بالنوع يكون واجبا باعتبار -، وحراما باعتبار. مثال ذلك: " السجود " هو واحد بالنوع، فمنه: سجود واجب وهو السجود لله تعالى، ومنه سجود حرام، وهو: السجود لغير الله تعالى. فهذا السجود واحد بالنوع، أي: نوع من الأفعال وأشخاص كثيرة، فيجوز أن ينقسم إلى " واجب " و " حرام "، ولا تناقض في ذلك؛ وذلك نظراً لتغايرهما بالشخصية، فيكون بعض أفراده واجبا كالسجود لله تعالى، وبعضها حراما كالسجود للصنم، قال تعالى - في ذلك -: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) . المذهب الثاني: لا يجوز أن يكون الواحد بالنوع واجبا حراما. ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، منهم: أبو هاشم الجبائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 دليل هذا المذهب: قد استدل هؤلاء بقولهم: إننا لو قلنا بجواز كون الواحد بالنوع واجبا حراما للزم من ذلك التناقض، وذلك لأن السجود نوع واحد مأمور به، فيستحيل أن يكون منهياً عنه. أي: أن السجود واجب يستحيل أن يكون محرما. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن ذلك غير صحيح، لأنه إذا تغاير متعلق الأمر والنهي لا يوجد تناقض، فيكون الواحد بالنوع - وهو هنا السجود - واجبا باعتبار، وحراما باعتبار آخر، فلا تناقض فالسجود للصنم غير السجود لله تعالى، بدليل: أن المأمور به ليس هو النهي عنه في قوله تعالى: (لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ) . وقد انعقد الإجماع على أن الساجد للصنم والشمس عاص بنفس السجود والقصد جميعاً، وأن الساجد لله تعالى مطيع بالسجود والقصد جميعاً. إذاً: لا تضاد في كون الواحد بالنوع واجباً حراما، إنما التضاد يكون في الواحد بالشخص. المسألة الخامسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجبا من جهة واحدة؟ أقول: يستحيل ويمتنع أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا طاعة ومعصية من جهة واحدة، كما لو قال: " صل صلاة الظهر ولا تصل صلاة الظهر "، أو قال: " اعتق هذا العبد لا تعتق هذا العبد" وهو يشير إلى واحد معين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وقلنا: إن ذلك مستحيل؛ لتضادهما وتنافيهما وتناقضهما، وهو من باب تكليف ما لا يطاق، وهو لا يجوز كما سبق؛ لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . *** المسألة المسادسة: هل يجوز أن يكون الواحد بالعين حراماً واجباً من جهتين؟ مثل: الصلاة في الدار المغصوبة، أي: صلاة زيد في دار مغصوبة من عمرو؛ حيث إن حركة زيد في الصلاة فعل واحد بعينه. اختلف العلماء في صحة تلك الصلاة على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا من جهتين، وعليه فتصح الصلاة في الدار المغصوبة. ذهب إلى ذلك: أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، وهو قول الإمام مالك، وبعض الحنابلة كأبي بكر الخلال، وابن عقيك. وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لا مانع من صحة الصلاة، وإن أوقعت في مكان مغصوب؛ لأن فعل الصلاة في مكان مغصوب هو فعل واحد له جهتان متغايرتان: إحدى الجهتين مطلوب الفعل - وهو الصلاة والأمر بها -. والجهة الأخرى مطلوب الترك - وهو الصلاة في الدار المغصوبة. فإذا كان للفعل الواحد جهتان متغايرتان، فيجوز أن يكون مطلوب الفعل من إحدى الجهتين مطلوب الترك، ولا مانع من الصحة - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 والحالة هذه - ولا يقع في ذلك محال، ولكن المحال إذا كان الشيء مطلوب الفعل ومطلوب الترك من جهة واحدة. ولعلي أبين ذلك أكثر فأقول: إن الفعل - وهو الصلاة - مطلوب الفعل، ومن حيث إن المكان المصلى فيه مغصوب: مطلوب الترك. فيكون متعلق الأمر والنهي غير متحد. أي: أن الصلاة من حيث هي صلاة مأمور بها - بقطع النظر عما يلحقها من مكان أو غيره -، والغصب من حيث هو غصب منهي عنه - بقطع النظر عما يلابسه من أفعال الصلاة. وعلى هذا: تكون الصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب معقول بدون الصلاة، فيمكن وجود أحدهما بدون الآخر " قياسا على من صلى ولم يغصب، أو غصب ولم يصل، فكما أن من صلى ولم يغصب له أجر، ومن غصب ولم يصل عليه الإثم، فكذا هاهنا، فإذا جمع المكلَّف بين الصلاة والغصب - أي: صلى في مكان مغصوب - لم يخرجهما عن حكمهما في حال انفرادهما وهو الأمر بالصلاة وكونها طاعة، والنهي عن الغصب وكونه معصية، فيجب أن يثبت للصلاة والغصب ما يثبت لهما منفردين، فالجمع بينهما لا يقلب حقيقتهما في أنفسهما. اعتراض: إن اعترض معترض قائلاً: إن قولكم هذا يلزم منه صحة صوم يوم النحر؛ لأن الصوم من حيث هو صوم مطلوب، وإنما المنهي عنه إيقاعه في هذا الزمن المنهي عن الصوم فيه، وأنتم تقولون: إنه لا يصح صوم يوم النحر، وهذا تناقض. جوابه: أقول - في الجواب عن ذلك -: إن هذا الإلزام صحيح، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 فلو لم يرد نص في النهي عن صوم يوم النحر لصح صيام يوم النحر، ويأثم بإيقاعه في هذا اليوم المنهي عن الصيام فيه، كما قلنا في الصلاة في الدار المغصوبة، ولكن الذي منعنا هو النص كما سبق. الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " خط هذا الثوب ولا تدخل هذه الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن دخلت الدار عاقبتك " فخاط الثوب في تلك الدار المنهي عن دخولها، فإن العبد يعتبر مطيعا لسيده من جهة، وعاصيا من جهة أخرى، فيحسن من السيد عتقه ومعاقبته؛ نظراً للجهتين، حيث كان العبد مطيعا من جهة امتثال أمر سيده - وهو: خياطة الئوب - فيستحق العتق من السيد على ذلك، وكان عاصيا من جهة دخوله للدار المنهي عن دخولها، فيستحق العقوبة. وإذا ثبت ذلك هنا، فكذلك الصلاة في الدار المغصوبة؛ لأن المكلَّف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين خياطة الثوب ودخول الدار المنهي عنها. الدليل الثالث: لو أن مسلما رمى سهما واحداً إلى كافر فمرق السهم من الكافر وأصاب مسلماً فقتله: فيثاب من جهة، ويعاقب من جهة أخرى. بثاب ويملك سلب الكافر من جهة قتله كافرا محاربا لإعلاء كلمة الله، وقد أمره اللَّه تعالى بذلك، ويستحق سلب هذا الكافر الذي قتله. ويعاقب هذا المسلم الرامي للسهم؛ لأنه قتل مسلما، وقد نهى الله سبحانه عن قتله، فيدفع الدية، لأنه قتل خطأ. فهذا فعل واحد عوقب وأثيب عليه، وذلك لتضمنه الأمر والنهي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 من جهتين مختلفتين، فهو مأمور به من جهة قتل الكافر المحارب، وهو منهي عنه من جهة قتل المسلم من غير قصد. فإذا ثبت ذلك فالصلاة في الدار المغصوبة مثله؛ لأن المكلَّف جمع بين الصلاة وكونها في الدار المغصوبة، كما جمع بين قتل الكافر المأمور به وقتل المسلم المنهي عنه. المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يكون الواحد بالعين حراما واجبا من جهتين، وعليه: فالصلاة في الدار المغصوبة لا تصح. ذهب إلى ذلك الإمام مالك في رواية عنه، وهو وجه لأصحاب الشافعي، ورواية عن الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنابلة، وهو مذهب أهل الظاهر والزيدية، وبعض المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء بقولهم: إن الوجوب والتحريم إنما يتعلق بفعل المكلَّف، لا بما ليس من فعله، والأفعال الموجودة من المصلي في الدار المغصوبة أفعال اختيارية محرمة عليه، وهو عاصٍ بها، آثم بفعلها، وليس له من الأفعال غير ما صدر عنه، فلا يتصور أن تكون طاعة ولا يثاب عليها متقربا بها إلى اللَّه - تعالى -؛ لأن الحرام لا يكون واجبا، والمعصية لا تكون طاعة مثابا عليها، ولا تكون متقربا بها مع أن التقرب والنية شرط في صحة الصلاة. جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إن المحكوم بأنه حرام ليس هو ذات الفعل من حيث هو فعل، ولكن حكم عليه بالحرمة من جهة كونه غصبا، وإذا كان الأمر هكذا فلا يلزم منه امتناع الحكم عليه بالوجوب من جهة كونه صلاة؛ ضرورة اختلاف الجهتين. تنبيهان: الأول: لم أستدل على المذهب الذي اخترته - وهو: أن الصلاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 في الدار المغصوبة صحيحة - بما تناقله الأصوليون وهو: أن السلف - رحمهم اللَّه - لم يكونوا يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلوات التي أدوها في الأماكن التي غصبوها، وهذا يدل على أنها صحيحة، ولو لم تكن صحيحة لأمروهم بقضاءها. فلم أذكر ذلك؛ لأمرين: أولهما: أن حقيقة الإجماع الصريح لم توجد؛ حيث إنه لم ينقل عن السلف أنهم اتفقوا على أن الظلمة تسقط عنهم الصلوات التي أدوها في أماكن مغصوبة لا عن طريق التواتر، ولا عن طريق الآحاد، وعدم النقل عن السلف لا يعتبر نقل الاتفاق، فمن زعم الإجماع بعد ذلك فهو جاهل بحقيقته. ثانيهما: إن زعموا: أن ذلك جاء عن طريق الإجماع السكوتي، فهذا - أيضا - لا تقوم الحجة به لهم؛ حيث إنه معروف أن الإجماع السكوتي لا يعتبر إجماعا ولا حجة عند بعض العلماء. وأيضا روي عن الإمام أحمد: أنه يبطل الصلاة في الدار المغصوبة - وهي رواية مشهورة عنه - وهو إمام النقل، وأعلم بأحوال السلف، فمخالفته تنقض الإجماع. التنبيه الثاني: قد ذكر بعض العلماء مذهباً ثالثا في المسألة وهو: أن الصلاة في الدار المغصوبة ليست صحيحة، ولكن يسقط الطلب عندها لا بها، وهو منسوب للقاضي أبي بكر الباقلاني. ولقد ذكرت في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " دليل هذا المذهب، وبيَّنا أنه قريب من المذهب القائل: إن الصلاة في الدار المغضوبة لا تصح، فراجعه من هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 بيان نوع الخلاف: الخلاف بين المذهبين الأول والثاني خلاف معنوي، وهو واضح؟ حيث إن من صحح الصلاة في الدار المغصوبة لم يأمر من فعلها على هذه الصفة بالقضاء، ومن لم يصححها فإنه يأمر من فعلها في دار مغصوبة بالقضاء. *** المسألة السابعة: في مقدمة الحرام: مقدمة الحرام تنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول: ما كان من أجزاء الحرام فهذا محرم بالتأكيد، مثاله: الإيلاج والإخراج في عملية الزنا، فإنه لا فرق - هنا - بين المقدمة والحرام، فإن حكمهما واحد؛ حيث إنه لا فرق بين أن يقول الشارع: " لا تزن " أو أن يقول: " لا تولج ". الثاني: ما كان من أسباب الحرام فهذا حرام مثل: محادثة الأجنبيات بشهوة " لأن ذلك سبب في الوقوع في الزنا. الثالث: ما كان من ضرورات الحرام مثل: اختلاط أخته بعدد من الأجنبيات عنه في بلدة صغيرة، وعسر تمييزها من بينهن، فهنا يحرم نكاح الجميع ضرورة، حتى لا يوصل به هذا إلى نكاح أخته. المسألة الثامنة: في الحرام المخيَّر: الحرام المعيَّن معروف وهو الثابت بالإجماع، وهو الذي تعين المنهي عنه بشيء واحد كتحريم شرب الخمر، والزنا، والربا، ونحو ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 أما الحرام المخيَّر وهو الذي لم يتعين المنهي عنه بشيء واحد، بل تعلق النهي بأشياء متعدِّدة ومحصورة، فهل يجوز ذلك؟ أي: هل يجوز أن يحرم واحداً لا بعينه؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز أن يُحرم واحداً لا بعينه. ذهب إلى ذلك الآمدي، وابن الحاجب، وأكثر الفقهاء. وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن يقول الشارع: " لا تكلم زيداً أو. عمرأ، وقد حرمت عليك كلام أحدهما لا بعينه، ولست أحرم عليك كلام الجميع، ولا واحداً بعينه "، فهذا كلام معقول، ولا يلزم من تصوره محال. الدليل الثاني: الوقوع الشرعي، ومنه: تحركيم إحدى الأختين لا بعينها، وكذلك لو أسلم وتحته أكثر من أربع نساء، فإنه ممنوع مما زاد عن الأربع من غير تعيين. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تحريم واحد لا بعينه. ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن النهي عن الشيء قبيح، فإذا نهي عن أحدهما لا بعينه ثبت القبح لكل منهما، فيمتنعان جميعاً. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن قولكم هذا مبني على قاعدة " التحسين والتقبيح العقليين "، ونحن لا نوافقكم عليها جملة وتفصيلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 الدليل الثاني: أن التحريم ينافي التخيير، فمعنى كونه محرماً: أنه لا يجوز فعله، ومعنى كونه مخيراً: أنه يجوز فعله وتركه. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن اللَّه عَزَّ وجَلَّ يعلم الأشياء على ما هي عليه، فيعلم الحرام الذي ليس بمعين غير معين، وإذا أتى بها المكلَّف كلها سقط العقاب عنه. الدليل الثالث: أن حرف " أو " إذا ورد في النهي اقتضى الجمع دون التخيير، ومثلوا لذلك بقوله تعالى: (وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا) ، فالشارع نهى عن الطاعة لكل منهما. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن الترك في الآية قد تعلق بمفهوم أحدهما، فلذلك أفاد التعميم. المسألة التاسعة: هل الأمر بالشيء المعين نهي عن ضده؟ اختلف العلماء في هذه المسألة على مذاهب: المذهب الأول: أن الأمر بالشيء المعيَّن نهي عن ضدِّ ذلك الشيء المعيَّن من جهة المعنى، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد. ذهب إلى ذلك: الأئمة الثلاثة - أبو حنيفة، ومالك، والشافعي - وأكثر أتباعهم، وهو رواية عن الإمام أحمد وكثير من أتباعه، واختاره فخر الدين الرازي وأكثر أتباعه، والقاضي عبد الجبار بن أحمد، والكعبي، وأبو الحسين البصري. وهو الصحيح عندي، فعلى هذا يكون الأمر بالصلاة: نهي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 المعنى عن الأكل والشرب والنوم، والأمر بالجلوس في البيت يكون نهياً في المعنى عن الجلوس في الطريق وغير ذلك من المواضع التي يضاد الجلوس فيها الجلوس في البيت. ولقد صحَّحته للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لا يمكن أن نتوصل إلى فعل المأمور به إلا بترك ضده، فوجب أن يكون الأمر به نهياً عن ضده، فلو قال - مثلاً -: " قم " لا يمكنه فعل القيام إلا بترك القعود، فوجب أن يكون نهياً عن القعود، والاضطجاع، والركوع، ونحو ذلك، قياسا على الأمر بالصلاة لما لم يمكنه فعل الصلاة إلا بتقديم الطهارة كان الأمر بالصلاة أمراً بالطهارة، وجلب الماء، وتوفير كل الأسباب التي يتوصل بها إلى صحة الصلاة، فكذا هاهنا. الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " قم " فقعد حسن ذمه وتوبيخه على القعود، فيقول له: " لِمَ قعدت؛ "، ولو لم يكن الأمر بالقيام اقتضى النهي عن القعود: لما حسن توبيخه وذمه على القعود. الدليل الثالث: أن من أذن لغيره في دخول الدار ثم قال له: "اخرج " تضمن هذا القول منعه من القيام فيها، واللفظ إنما هو أمر بالخروج، وقد عقل منه المنع من المقام الذي هو ضده. المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء هو بعينه طلب ترك الضد، فهو طلب واحد: بالإضافة إلى جانب الفعل: أمر، وبالإضافة إلى جانب الترك: نهي. فالسكون هو عين ترك الحركة، وطلب السكون هو عين طلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ترك الحركة، فالأمر بالسكون طلب واحد، هو بالإضافة إلى السكون أمر، وبالإضافة إلى الحركة نهي. ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني في أول أقواله، وتبعه على ذلك بعض المتكلمين. وبنى هؤلاء مذهبهم على أساس أن الأمر لا صيغة له، وإنما هو معنى قائم بالنفس، فالأمر - عندهم - هو نفس النهي من هذا الوجه، فاتصافه بكونه أمراً ونهيا كاتصاف الكون الواحد بكونه قريبا من شيء بعيداً من شيء آخر. جوابه: يمكن أن يجاب عنه بأن يقال: إن مذهبكم هذا مبني على أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من طريق اللفظ، وهذا غير صحيح؛ لأن العرب فرقت بين لفظ الأمر، ولفظ النهي، فجعلت لفظ الأمر موضوعا للإيقاع والحث على الفعل، ولفظ النهي لنفي الفعل، وطلب الترك، فلم يجز أن يجعل أحدهما للآخر كما لا يجوز ذلك في الخبر. المذهب الثالث: أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده: لا بمعنى أنه عينه، ولا بمعنى أنه يتضمنه، ولا بمعنى أنه يلازمه. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كالغزالي، وروي عن القاضي أبي بكر الباقلاني، وجمهور المعتزلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن صيغة الأمر تختلف عن صيغة النهي، فصيغة الأمر " افعل " وصيغة النهي " لا تفعل "، فلا يجوز أن تكون صيغة أحدهما مقتضية للآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 جوابه: يمكن أن يقال - في الجواب عنه -: إنما لا يجوز ذلك ويمتنع لو جعلنا الأمر بالشيء نهياً عن ضده من طريق اللفظ، فيكون اختلاف صيغتهما مانعا لكون أحدهما مقتضيا للآخر، لكنا نقول: إن الأمر بالشيء يقتضي النهي عن ضده من طريق المعنى - كما سبق بيانه -. الدليل الثاني: أن النهي عن الشيء لا يقتضي الأمر بضده، فكذلك الأمر بالشيء وجب أن لا يكون مقتضيا للنهي عن ضده. جوابه: يمكن أن يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم ذلك، بل: إن النهي عن الشيء يقتضي الأمر بضده، فإن كان له ضد واحد كالنهي عن صوم يوم النحر: فإنه يقتضي الأمر بضده وهو الإفطار، وإن كان له أضداد كالزنا فإنه يقتضي الأمر بضد من أضداده، لأنه بفعل ضد واحد يترك المنهي عنه، وهو أن يشتغل عنه بأكل أو شرب أو نوم أو نحو ذلك من الأعمال، فإنه يصير بفعله لأحد تلك الأمور تاركا للزنا. الدليل الثالث: أن الأمر بالشيء قد يكون غافلاً وذاهلاً عن ضده، والنهي عن الشيء مشروط بالشعور بالمنهي عنه، فكيف يكون الآمر طالبا ما هو غافل عنه؛ وإذا كان الآمر لم يغفل عن ضد الشيء المأمور به: فإن الأمر بالشيء لا يكون نهيا عن ضده من حيث ذات الأمر، بل يكون الأمر نهيا عن ضده من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. جوابه: يمكن أن نجيب عنه بجوابين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الجواب الأول: لا نسلِّم أنه يصح منه إيجاب الشيء عند الغفلة عن الإخلال به؛ لأن الأمر المقتضي إيجاب شيء مركب من قيدين: " إيجاب الفعل "، و " المنع من الترك "، فالمتصور للإيجاب متصور للمنع من الترك، فيكون - بذلك - متصوراً للترك لا محالة. الجواب الثاني: سلَّمنا أن الضد قد يكون مغفولاً عنه، ولا يمنع ذلك من أن يكون الضد منهياً عنه؛ قياسا على مقدمة الصلاة، فإن الأمر بالصلاة أمر بمقدمتها، وإن كان مقدمتها قد تكون مغفولاً عنها، فكذلك هنا. بيان نوع الخلاف: أولاً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول والثاني خلاف لفظي؟ لاتفاق الفريقين على أن الأمر بالشيء نهي عن ضدِّه، لكن أصحاب المذهب الأول يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة المعنى، وأصحاب المذهب الثاني يقولون: إنه نهي عن ضده من جهة اللفظ. ثانياً: الخلاف بين أصحاب المذهب الأول وأصحاب المذهب الثالث خلاف معنوي، قد أثر في كثير من المسائل الفقهية، ومنها: 1 - إذا قال لزوجته: " إن خالفت نهيي فأنت طالق " ثم قال لها: " قومي " فقعدت، فإن العلماء اختلفوا في ذلك، وكان سبب خلافهم هو خلافهم في هذه القاعدة. فقال بعض العلماء: إنها تطلق؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده. وقال آخرون: إنها لا تطلق بنإء على أن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده. 2 - إذا سجد على مكان نجس فما حكم صلاته؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 اختلف في ذلك: فذهب أكثر العلماء إلى أن صلاته باطلة، فيجب أن يعيدها كلها؟ لأنه مأمور بالسجود على مكان طاهر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، فالسجود على مكان نجس منهي عنه، فوجب أن تبطل صلاته؛ لفعله ما نهي عنه. وذهب بعض العلماء إلى أنه يؤمر بإعادة السجود على مكان طاهر ويجزئه؛ لأن المأمور به السجود على مكان طاهر، وقد أتى به، أما السجود على مكان نجس فليس بمنهي عنه، لأن الأمر بالشيء ليس نهيا عن ضده. وإن أردت الزيادة من هذه الأمثلة فراجع كتابي " إتحاف ذوي البصائر ". تنبيه: الحرام عند الجمهور يشمل ما ثبت النهي عنه بدليل قطعي، وما ثبت النهي عنه بدليل ظني، فلم يُفرق بينهما، وقد تكلمنا عنه فيما سبق. أما الحنفية فإنهم يفرقون بين ما ثبت بدليل قطعي، وما ثبت بدليل ظني. فسموا الثابت بدليل قطعي بالحرام. وسموا الثابت بدليل ظني بالمكروه تحريما. وفرقوا بين " الحرام " و " المكروه تحريما " بفروق، من أهمها: الأول: أن من أنكر الحرام الثابت بدليل قطعي اعتبر كافراً، أما منكر المكروه تحريما، فإنه يعتبر فاسقا. الثاني: أن العقاب في ارتكاب الحرام أشد من العقاب في ارتكاب المكروه تحريما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 الفصل الثالث في التكليف وشروطه ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: حقيقة التكليف: أولاً: التكليف لغة ثانياً: التكليف اصطلاحاً. المبحث الثاني: في شروط التكليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 المبحث الأول في حقيقة التكليف أولاً: التكليف لغة: يرجع إلى أصل الكلمة، حيث تتكون من ثلاثة أحرف وهي: "الكاف، واللام، والفاء "، وهذا الأصل يدل على إيلاع بالشيء، وتعلق به مع شغل القلب. وهو مأخوذ من الكلفة وهي: المشقة. ويطلق التكليف على الأمر بما يشق عليك، فهو إذاً: الأمر بما فيه كلفة. ثانياً: التكليف اصطلاحاً هو: الخطاب بأمر أو نهي. وقيل: إلزام ما فيه كلفة. ولهذا الاختلاف في تعريف التكليف اصطلاحاً أثره الواضح. فمن عرَّفه بالأول - وهو الخطاب بأمر أو نهي - أدخل المندوب والمكروه ضمن الأحكام التكليفية، لأن المندوب مأمور به، والمكروه منهي عنه. ومن عرَّفه بالثاني - وهو: إلزام ما فيه كلفة - لم يدخل المندوب تحت الأحكام التكليفية؛ لأنه لا إلزام في فعل المندوب، ولا إلزام في ترك المكروه، وقد سبق بيان ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 المبحث الثاني في شروط التكليف شروط التكليف تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: شروط ترجع إلى المكلَّف وهو المحكوم عليه. القسم الثاني: شروط ترجع إلى الفعل المكلَّف به، وهو المحكوم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 القسم الأول في شروط المكلَّف ويشتمل على مسائل. المسألة الأولى: بيان شروط المكلف. المسألة الثانية: تكليف الجن. المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟ المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟ المسألة الخامسة: المجنون المميز هل هو مكلَّف؟ المسألة السادسة: المعتوه هل هو مكلَّف؟ المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى عليه مكلفون؟ المسألة الثامنة: هل السكران مكلف؟ المسألة التاسعة: تكليف المكره. المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 المسألة الأولى: بيان شروط المكلَّف: الشرط الأول: أن يكون بالغاً. الشرط الثاني: أن يكون عاقلاً. الشرط الثالث: أن يكون فاهماً للخطاب. فإذا توفرت هذه الشروط الثلاثة في شخص أصبح هذا الشخص مكلَّفاً بأحكام الشرع. والبلوغ: هو الوصول إلى الحدِّ الذي إذا وصله الشخص فإنه تحسب له الحسنات، وتحسب عليه السيئات. والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام - وهو إنزال المني -، أو بإنبات شعر من قبل، هذا بالنسبة للذكر. أما الأنثى فيعرف بلوغها بأحد الأمور التي تخص الذكر، وتزيد أمراً رابعاً وهو: الحيض. والمقصود بالعقل: آلة التمييز والإدراك. والفهم هو: جودة الذهن من جهة تهيئته لاقتناص كل ما يرد عليه من المطالب. والمراد بالخطاب: هو خطاب الشارع، سواء كان أمراً أو نهياً أو تخييراً. وفرَّقنا بين اشتراط البلوغ، واشتراط العقل مع أن بعض العلماء قد جعلوا البلوغ يدخل ضمن اشتراط العقل، وقالوا: إن البلوغ وضعه الشارع حداً للعقل الذي يتفاوت الناس فيه، لكننا فرَّقنا بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وأفردناه عن شرط العقل، لاختلاف حكم الصبي عن المجنون وغيره، وذلك لأن اشتراط البلوغ أخرج الصبي، واشتراط العقل أخرج المجنون. وفرقنا بين اشتراط العقل واشتراط الفهم، مع أن بعض العلماء لم يُفرِّقوا بينهما؛ لأنا أردنا بالعاقل ما يخالف المجنون، وأردنا بالفاهم ما يخالف النائم والغافل والساهي. الحاصل: أنه يشترط في الشخص المراد تكليفه: أن يكون قدى وصل إلى الحدِّ الذي نعرف بواسطته خروجه عن مرحلة الصبا، وأن يتوفر فيه العقل الذي يميز به بين الحق والباطل، والطيب والخبيث، وأن يتوفر فيه الفهم الذي يستطيع به أن يدرك المراد والمطلوب من ذلك الخطاب الموجه إليه، ويفهم كيفية امتثاله، ويفهم المقصود من التكليف حتى تصح النية، حيث لا عمل إلا بنية. *** المسألة الثانية: تكليف الجن: الجني البالغ، العاقل، الذي يفهم الخطاب هل هو مكلَّف أو لا؟ أقول: إن الجن مكلَّفون بفروع الشريعة كأصولها، لما يلي من الأدلة: الأول: قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) . الثاني: قوله تعالى: (يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا) . الثالث: قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) . الرابع: الإجماع، حيث أجمع العلماء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أرسل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 بالقرآن إلى الإنس والجن، وجميع أوامره ونواهيه تتوجه إليهما، وهي تشمل الأوامر والنواهي في الأصول والفروع. لكن تكليفهم يختلف عن تكليف الإنس؛ لأن طبيعة كل واحد تختلف محن طبيعة الآخر، فالجن يخالفون بالحد والحقيقة الإنس، وإذا خالفوهم في ذلك فبالضرورة يخالفونهم في بعض التكاليف. فمثلاً: الجني يقصد البيت الحرام للحج طائراً؛ لأنه قد أعطي قوة الطيران في الهواء، أما الإنسان فلا يخاطب بذلك لعدم وجود تلك القوة عنده. ولقد نقل بعض العلماء كابن نجيم في الأشباه والنظائر أحكاما خاصة تتعلق بالجن ومنها: هل تصح الصلاة خلفه، ونحو ذلك. *** المسألة الثالثة: هل الصبي غير المميز مكلَّف؟ الصبي غير المميز هو: الذي لا يميز ولا يفرق بين الأشياء، فلا يميز بين الحق والباطل، وبين الطيب والخبيث، وبين الجيد والرديء. ومدته سبع سنوات، وهو من ولادته إلى تمامه سبع سنوات من عمره، والسبب في هذا التحديد ما رواه ابن عمر - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " مروا أولادكم لسبع واضربوهم عليها لعشر، وفرَّقوا بينهما في المضاجع "، فقد أمر الشارع - هنا - الولي بأن يأمر الصبي البالغ سبع سنوات بالصلاة للتمرين والتدريب، ويفهم منه أن الصبي غير البالغ هذا السن لا يؤمر ولا ينهى؛ لأنه لا يفرق بين الأمور. وهذا الصبي قد اختلف في تكليفه على مذهبين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 المذهب الأول: أن الصبي غير المميز غير مكلَّف. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق عندي الذي لا يجوز غيره؛ وذلك لأن الذي لا يفهم الخطاب الوارد من الشارع لا يتصور منه قصد مقتضاه، والصبي غير المميز لا يفهم شيئاً من الخطابات، فلذلك سقطت عنه المطالبة بمقتضى ذلك الخطاب، بيان ذلك: أن المقصود والغرض من تكليف الشارع لعباده بالتكاليف الشرعية هو: أن يمتثلوا بفعل المأمور به وترك المنهي عنه؛ لتحقيق امتحان الله للمكلَّف، ولا يصح ذلك الامتثال وتلك الطاعة إلا بوجود النية والقصد، ولا تصح النية إلا بوجود شرطها وهو: أن يعلم المكلَّف بالفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، والمقصود منه، وأن يعلم من هو المكلِّف - بكسر اللام - وغرضه من هذا التكليف وما يتعلق بذلك من رغبة ورهبة، ووعد ووعيد، وهذه الأمور لا يمكن أن يدرك حقائقها الصبي غير المميز، فلذلك رفع التكليف عنه. فعدم معرفته لتلك الأمور وعدم فهمه للخطابات قد منع من تكليفه، فلا يمكن تكليفه مع قيام المانع، وهذا ينزل منزلة تكليف المقعد بالقيام وذلك مستحيل. المذهب الثاني: أن الصبي غير المميز مكلَّف. ذهب إلى ذلك بعض الناس كما نقل ذلك أبو البركات ابن تيمية في " المسودة ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الصبي قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة من ماله إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول، ودفع أروش الجنايات، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وقيم المتلفات، وهذا تكليف من جهة الشرع، فلو كان غير مكلَّف لما لزمه دفع تلك الواجبات من ماله، فلما لزم ذلك دلَّ على تكليفه. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن وجوب تلك الواجبات عليه ليس من باب خطاب التكليف، وإنما هو من باب خطاب الوضع؛ حيث إنه من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، فالشرع وضع أسبابا تقتضي أحكاما تترتب عليها، تحقيقا للعدل في خلقه، ومراعاة لمصالحهم تفضلاً منه سبحانه، فهذه لا تكليف فيها. فبلوغ المال النصاب سبب لوجوب الزكاة في هذا المال، بعد حولان الحول عليه سواء كان مالكه صبيا أو بالغا. فإذا بلغ ذلك المال النصاب وحال عليه الحول، فقد وجب في ذمة الصبي إخراج الزكاة. كذلك الإتلاف سبب لوجوب قيمة المتلَف - بفتح اللام - على المتلف بقطع النظر عن المتلف - بكسر اللام - أي: سواء كان صغيراً أو كبيراً. كذلك إذا جرح الصبي شخصا بجرح صغير: فإن هذا سبب لإخراج أرش هذا الجرح من مال الجارح، سواء كان صغيراً أو كبيراً. الخلاصة: أن بلوغ المال النصاب، ونفس الإتلاف، والجنايات بالجراح أسباب لثبوت حقوق في ذمة الصبي. ولكون اللَّه سبحانه قد حفظ للناس حقوقهم، ونظراً لأن حكمته اقتضت عدم ظلم الفقير، وظلم الآخرين، فإن هذه الأسباب تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 خطابات لولي الصبي، أو الوصي عليه، بحيث يخرج هذه الحقوق من ماله من زكاة، وقيم متلف، وأرش جناية. وإن لم يمكن ذلك فإن بلوغ النصاب والإتلاف والجنايات تكون أسباباً لخطاب الصبي بعد بلوغه؛ لتمكنه في تلك الحال من فهم الخطاب. أي: إما أن يتوجه الخطاب بتلك الأسباب في الحال إلى الولي أو الوصي. أو يتوجه في المآل؛ لأن مآل الصبي هو البلوغ، الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلف، وأرش الجناية تثبت في ذمة الصبي، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو كان غير مكلَّف لما ثبت في ذمته شيء. جوابه: يقال في الجواب عنه: إن ثبوت تلك الأحكام في ذمة الصبي ليس بسبب كونه مكلفاً، بل إن الصبي صار أهلاً لثبوت الأحكام في ذمته بسبب توفر صفة الإنسانية فيه التي بها يكون مستعداً لقبول قوة العقل الذي بواسطته يستطيع فهم التكليف، وذلك بعد البلوغ. فصفة الإنسانية الموجودة في الصبى هى التى جعلته أهلاً للتكليف بالقوة لا بالفعل. بخلاف البهيمة، فلا يمكن أن يكون لها أهلية فهم الخطاب ولا التكليف لا بالقوة ولا بالفعل؛ لعدم صفة الإنسانية فيها، فلذلك لا تثبت في ذمتها الأحكام، ولم تهيا لذلك. ومما يؤيد ذلك: القياس على النطفة في الرحم، فإنه يثبت لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 الملك بالإرث والوصية مع أن الحياة التي هي شرط الإنسانية والتي تثبت بها الملكية مفقودة، وليست موجودة بالفعل، ولكن هذه النطفة تملك بالقوة؛ لأن مصير هذه النطفة - غالبا - إلى الحياة، فلذلك صلح أن تملك تلك النطفة، ولكن هذا الملك بالقوة لا بالفعل. فكذلك الصبي مصيره إلى العقل والبلوغ وفهم الخطاب، فصلح لأن يثبت في ذمته بعض الأحكام من إخراج الزكاة، ودفع قيمة المتلفات ونحو ذلك، والجامع: أن كلاً منهما لا يستطيع التصرف في الحال فيما يملكه. *** المسألة الرابعة: الصبي المميز هل هو مكلَّف؟ الصبي المميز هو: من تجاوز سن السابعة من عمره - وقيل: هو من تجاوز سن السادسة - وهو يدرك حقائق الأمور ويميز بين الأفعال والأقوال، والجيد والرديء، والحق والباطل. فهو في هذه الحالة قد توفر فيه العقل، وفهم خطاب الشارع فهل هو مكلَّف؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه غير مكلف مطلقا. وهو قول جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن كون الصبي المميز عاقلاً يفهم الخطاب ويميز بين حقائق الأمور جعل تكليفه ممكن، لكن الشارع وضع وحط عنه التكليف؛ رفعا للحرج؟ حيث إن العقل والفهم يتزايدان تزايداً غير واضح، فلا يعلم هو بنفسه ولا غيره ذلك التزايد، فلا يمكن الوقوف على أول وقت فهم فيه خطاب الشارع، وأول وقت عرف حقيقة المرسل - بكسر السين - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 والمرسَل - بفتح السين -، والغرض من إرسال الرسل، فنظراً لعدم معرفة ذلك بالتحديد، جعل الشارع وقتاً محدداً للتكليف، ألا وهو: البلوغ، فهو علامة واضحة جلية لظهور العقل وفهم الخطاب على الغالب، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ، وعن الصبي حتى يبلغ ... ". والبلوغ يكون إما باستكمال خمس عشرة سنة، أو بالاحتلام، أو بإنبات شعر من قبل، وتزيد الأنثى بخروج الحيض. فوضع الشارع ضابطاً يضبط الحد الذي تتكامل فيه بنيته وعقله وهو " البلوغ "، ولهذا فإن أكثر الأحكام تتعلق به. قال بعض العلماء: كأن الشارع لم يلزم الصبي قضايا التكليف؟ لأمرين: أولهما: أن الصبي مظنة الغباوة، وضعف العقل، فلا يستقل بأعباء التكليف. ثانيهما: أنه عري عن البلية العظمى، وهي الشهوة. المذهب الثاني: أن الصبي المميز مكلف مطلقاً. وهو رواية عن الإمام أحمد. دليل هذا المذهب: أن الصبي المميز عاقل، يفهم خطاب الشرع، مميز بين الأقوال والأفعال، ويميز بين الخير والشر، والجيد والرديء، والحق والباطل، وما دام الأمر كذلك فما المانع من تكليفه، وقد توفر فيه الشروط التي تشترط في البالغ وهو العقل والفهم؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 جوابه: يجاب عنه بأنا لا نعلم متى فهم وأدرك وعقل حتى يكلف بالتكاليف الشرعية ويطالب بها، وذلك لأن نمو العقل وتزايد الفهم وتطوره خفي عنا، ويصعب علينا - إن لم يستحيل - الوقوف على الحدِّ الذي به يمكن أن نحكم عليه بأنه عاقل وفاهم للخطاب. ثم إن الصبيان يختلفون باختلاف تنشأتهم، وبيماتهم، ومعاملتهم، ونحو ذلك، وقد يكون عقل وفهم هذا الصبي يختلف عن عقل وفهم صبي آخر، مما يلزم منه اختلاف الحكم باختلاف الصبيان. فسداً لذلك ورفعا للحرج: بيَّن الشارع علامة لا نختلف عند وجودها وهي: " البلوغ "، فإذا بلغ الشخص كان مكلَّفا، أما قبل البلوغ فلا يمكن تكليفه. المذهب الثالث: الفرق بين الصبي المميز البالغ عشر سنين وبين الصبي المميز غير البالغ عشر سنين. فالبالغ عشر سنين يكلف بالصلاة، أما من هو أقل من ذلك فلا يكلف، ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وابن سريج من الشافعية. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم عليها لعشر". وجه الاستدلال: أن الصبي المميز مأمور بالصلاة ومعاقب على تركها، وهذا يدل على تكليفه، ولو لم يكن مكلَّفا لما ضُرِب على تركها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 جوابه: يجاب عنه: بأن الأمر بصلاة الصبي المميز والأمر بضربه ليس من جهة الشارع، وإنما هو من جهة الولي، والعبارة تدل على ذلك حيث قال: " مروا ... وأضربوهم " يعني: أيها الأولياء مروا أولادكم، واضربوهم ... ، وقلنا ذلك لأن الصبي يفهم خطاب الولي، ويخاف ضربه، فصار أهلاً لذلك، ولكنه لا يفهم خطاب الشارع أصلاً، ولا يفهم عقابه، فالصبي مأمور ومعاقب من قبل الولي. ثم الأمر والضرب هنا: للتأديب والتهذيب. المسألة الخامسة: المجنون هل هو مكلَّف؟ المجنون مأخوذ لغة من جن يجن: إذا استتر، ويقال: جن يجن، جناً، وجنوناً، ومجنة، أي: زال عقله، ومنه قوله تعالى: (أَمْ بِهِ جِنَّةٌ) ، والجنون معناه: زوال العقل، أو فساد فيه. والجنون اصطلاحاً هو: اختلال القوة المميزة بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا يظهر آثارها وتتعطل أفعالها. وهو نوعان: " جنون أصلي "، و " جنون عارض ". أما الجنون الأصلي فهو: أن يولد الإنسان فاقد العقل، ويستمر على ذلك. أما الجنون العارض فهو: أن يبلغ الإنسان سليم العقل، كامل الفهم، ثم يطرأ له الجنون. والمجنون اختلف في تكليفه على مذهبين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق: لعدم فهمه للخطابات الواردة من الشارع، وعدم إدراكه وعلمه للفعل المكلَّف به، وكيفية امتثاله، وعدم وجود النية والقصد منه، وهو يصدق عليه الدليل الدال على عدم تكليف الصبي غير المميز. المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً. ذهب إلى ذلك بعض الناس كما حكى ذلك ابن تيمية في " المسوَّدة ". أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن الجنون قد وجه إليه الخطاب بدفع الزكاة، ودفع قيمة المتلف، ودفع أروش الجنايات، ولو لم يكن مكلَّفا لما وجه إليه خطاب، ولما أخذت تلك الحقوق من ماله. جوابه: قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الأول من أدلة القائلين: إن الصبي غير المميز مكلَّف. الدليل الثاني: أن الزكاة، وقيمة المتلفات، وأرش الجناية قد ثبتت في ذمة المجنون، وهذا يفيد أنه مكلَّف، إذ لو لم يكن مكلَّفاَ لما ثبت في ذمته شيء. جوابه: قد سبق الجواب عنه، وهو جوابنا عن الدليل الثاني من أدلة القائلين بأن الصبي غير المميز مكلَّف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 المذهب الثالث: الفرق بين المجنون المطبق، والمجنون غير المطبق، فالمجنون المطبق - وهو الذي لا يفيق - غير مكلف مطلقاً. أما المجنون غير المطبق - وهو الذي يفيق أحياناً - فهذا مكلَّف، وقد حُمِل على هذا المذهب ما روي عن الإمام أحمد: أن المجنون يقضي الصلاة والصوم. دليل أصحاب هذا المذهب: أن دليل عدم تكليف المجنون المطبق هو دليل الجمهور في المذهب الأول. أما دليل تكليف المجنون غير المطبق فهو: أنه يعقل ويفهم خطاب الشارع في إفاقته، فينبغي تكليفه بناء على ذلك. جوابه: يجاب عن ذلك بأن إفاقته ليست واضحة جلية حتى نكلفه أثناء تلك الإفاقة، فلا يمكننا الوقوف على أول وقت الإفاقة وأول وقت فهمه للخطاب، ونظراً لعدم معوفتنا لذلك بالتحديد فإنه يستحيل تكليفه. *** المسألة السادسة: هل المعتوه مكلَّف؟ المعتوه لغة مأخوذ من العته، وهو نقص العقل من غير جنون. وهو في الاصطلاح: آفة ناشئة عن الذات توجب خللاً في العقل فيصير صاحبه مختلط الكلام، فيشبه بعض كلامه كلام العقلاء، وبعضه كلام المجانين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وقلنا بأنه: " آفة ناشئة عن الذات " لإخراج الآفة الناشئة بسبب عارض كالمخدرات والخمور وغيرها. الفرق بين المجنون والعتوه: يوجد بين المجنون والمعتوه فروق إليك أهمها: الفرق الأول: أن المعتوه له عقل ولكنه ضعيف عن إدراك وفهم الخطاب، أما المجنون فإنه لا عقل له. الفرق الثاني: أن المعتوه قد يكون مميزا، وقد يكون غير مميز، بخلاف المجنون، فلا يكون مميزا أبداً. الفرق الثالث: المعتوه لا يصاحبه تهيج واضطراب، بخلاف المجنون فقد يصاحبه تهيج واضطراب. فالمعتوه الذي يفهم خطاب الشارع - هل هو مكلف؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقا. وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ قياسا على المجنون، وعلى الصبي غير المميز، والجامع: ضعف العقل عن إدراك حقائق الأمور، وعن فهم خطابات الشارع على ما هي عليه. المذهب الثاني: أنه مكلَّف مطلقاً. ذهب إلى ذلك بعض الناس. دليل هذا المذهب: استدلوا بنفس الأدلة التي استدل بها القائلون: إن الصبي والمجنون مكلَّفان من حيث وجوب دفع الزكاة، وقيمة المتلفات، وأروش الجنايات عليه، ومن وجوب ذلك في ذمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 جوابه: الجواب عن ذلك هو نفس ما أجبنا به عن الدليلين السابقين، فاستحضرهما من هناك. المذهب الثالث: الفرق بين العبادات وغيرها. فالمعتوه تجب عليه العبادات ويكلف بها دون غيرها من الأحكام. ذهب إلى ذلك أبو زيد الدبوسي من الحنفية. دليله: الاحتياط، حيث إن العبادات يحتاط لها أكثر من غيرها. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا غير صحيح، لأن العبادات لازمة في حق من يفهم الخطاب عند سماعه به وتوجيهه إليه، والمعتوه لا يفهم الخطاب، فاختل شرط المكلف وهو: " فهم الخطاب "، وإذا اختل شرط من شروط المكلف فإنه لا تكليف مطلقا. وبناء عليه لا تجب العبادات ولا غيرها من الأحكام الشرعية. المسألة السابعة: هل الناسي والساهي والغافل والنائم والمغمى عليه مكلَّفون؟ الناسي مأخوذ من النسيان - بكسر النون وسكون السين - وهو: ضد الذكر والحفظ، هذا لغة. وهو اصطلاحاً: عاهة تنشأ عن اضطراب أو عطب في المخ، أو عن اضطراب شديد في الحياة العقلية يسببه القلق والصراع النفسي. وقيل: معنى يعتري الإنسان بدون اختياره، فيوجد الغفلة عن الحفظ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 وقيل: هو عدم استحضار الشيء في وقت الحاجة إليه. أما السهو: فهو أخف من النسيان؛ لأن النسيان هو: زوال الصورة عن المدركة والحافظة معاً، فيحتاج - حينئذٍ - إلى سبب جديد بخلاف السهو، فإنه زوال الصورة عن المدركة مع بقائها في الحافظة، فيتنبه بأدنى تنبه. أما الغفلة فهي قريبة من السهو. أما النوم فهو لغة: السكون، والهدوء، والكساد. وهو اصطلاحاً: فترة طبيعية تحدث بالإنسان بلا اختيار منه، وتمنع الحواس الظاهرة والباطنة عن العمل مع سلامتها، وتمنع استعمال العقل مع قيامه. أما المغمى عليه فهو في اللغة: فقد الحس والحركة. وهو في الاصطلاح: فتور يزيل القوى ويعجز ذو العقل عن استعماله فترة مع قيامه حقيقة. إذا عرفت ذلك فهل هؤلاء مكلَّفون؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الغافل والناسي والساهي والنائم والمغمى عليه غير مكلَّفين حال الغفلة، والنسيان، والسهو، والنوم، والإغماء. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن هؤلاء وهم في حالتهم تلك قد فقدوا شرط التكليف وهو: الفهم، فالغافل في حالة غفلته، والناسي في حالة نسيانه، والساهي في حالة سهوه، والنائم في حالة نومه، والمغمى عليه في حالة الإغماء لا يدركون معنى الخطاب، فكيف يخاطبون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 ويقال للواحد منهم " افهم " مع أن الفهم منعدم وهم في حالتهم تلك؛ فلو كلفوا الامتثال وهم لا يفهمون الخطاب لكان تكليفاَ بالمحال. المذهب الثاني: أن الغافل، والناسي، والساهي، والنائم، والمغمى عليه مكلّفون مطلقا. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: إن تكليف هؤلاء بالإتيان بالفعل امتثالاً هو تكليف بما لا يطاق، والتكليف بما لا يطاق جائز، فتكليفهم جائز. جوابه: يقال في الجواب عنه: إنا لا نُسَلِّمُ لكم جواز تكليف ما لا يطاق لقوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، ولأن الأمر استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوباً وينبغي أن يكون مفهوماً. ولو فرضنا - مع الفرض الممتنع -: أن تكليف ما لا يطاق جائز - وهو رأي كثير من العلماء - فإنهم أجازوه إذا أمكن أن يكون له فائدة اختبار اللَّه تعالى للعبد هل يأخذ في مقدمات ما كلف به؟ والغافل، والساهي، والناسي، والنائم، والمغمى عليه، لا يمكنهم الامتثال بما كلَّفوا به - ولا بمقدماته - وهم في حالتهم تلك - فكان - تكليفهم محالاً. الدليل الثاني: إن هؤلاء لو أتلفوا شيئاً - وهم في حالة الغفلة، والسهو، والنسيان، والنوم، والإغماء، لوجب ضمان المتلف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ودفع قيمته، والوجوب من الأحكام التكليفية، وهذا دليل على تكليفهم، إذ لو لم يكونوا مكلَّفين لما وجب عليهم شيء ولما لزمتهم تلك الحقوق. جوابه: يجاب عنه: إن إلزامهم بدفع قيمة ما أتلفوه ليس من باب "الحكم التكليفي "، وإنما هو من باب " الحكم الوضعي "؛ لأنه من قبيل ربط الأحكام بأسبابها. أي: أن السبب وجد وهو الإتلاف، فلا بد من وجود المسبب وهو الحكم، وهو - هنا - دفع قيمة المتلف بقطع النظر عن كونه غافلاً، أو ساهياً، أو ناسياً، أو نائماً، أو مغماً عليه، أو كونه غير ذلك. المسألة الثامنة: هل السكران مكلَّف؟ السكران مأخوذ لغة من السكر، وهو في اللغة: غيبوبة العقل واختلاطه. وهو في الاصطلاح: حالة تعرض للإنسان من امتلاء دماغه من الأبخرة التصاعدة من الخمر، وما يقوم مقامها، فيتعطل معه عقله، فلا يميز بين الحسن والقبيح. فمن هذه حالته هل هو مكلَّف؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه غير مكلَّف مطلقاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 وهو الصحيح؛ لأن السكران في حالة سكره لا يفهم الخطاب، فكيف يوجه إليه خطاب لا يفهمه، ويقال له: " افهم "؛ فهو زائل العقل كالمجنون، والصبي غير المميز. فلو طلب منه امتثال ما يقتضيه الخطاب - وهو في حالته تلك -: لكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق؛ حيث وجه إليه خطاب وهو لا يفهم المقصود منه، وطلب منه امتثاله، وهذا محال. المذهب الثاني: أن السكران مكلَّف مطلقاً. ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والشافعية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن السكران لو أتلف شيئاً، - لوجب عليه دفع قيمة المتلف، ولو طلق السكران لوقع طلاقه، وهذا يدل على أنه مكلَّف، ولو لم يكن مكلَّفا لما لزمه دفع قيمة المتلف، ووقوع الطلاق منه. جوابه: يجاب عنه: بأن إلزامه بدفع قيمة ما أتلفه، ووقوع طلاقه وهو في حالة سكره من باب الحكم الوضعي، وليس من باب الحكم التكليفي، فهو من قبيل ربط الأحكام بأسبابها، وقد سبق. الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه - هنا - قد وجَّه الخطاب إلى السكران، فلو لم يكن السكران مكلَّفا لما صح توجيه الخطاب إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 جوابه: يجاب عنه: بأن استدلالكم بتلك الآية على أن السكران مكلَّف غير صحيح، لوجهين: الوجه الأول: أنا لا نُسَلِّمُ بأن الآية خطاب للسكران، بل هي خطاب للصحابة - رضي اللَّه عنهم - في ابتداء الإسلام قبل أن يحرم الخمر، حيث إن الصحابة خوطبوا في حال الصحو بأن لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى، وليس الخطاب موجَّه إليهم في حال السكر، فقوله: (وأنتم سكارى) جملة حالية من قوله: (لا تقربوا) ، فالسكر متعلق بقربان الصلاة، لا بخطاب اللَّه تعالى للمصلين. والتقدير: أيها المؤمنون، لا تقربوا الصلاة وأنتم في حالة سكر حتى لا يأتي عليكم وقت الصلاة وأنتم لا تعلمون ما تقولون فيها، فتختلط عليكم صلاتكم نتيجة لتأثير الخمر عليكم، فكأنه قال: "استمروا على الصحو حتى تدخلوا الصلاة وتفرغوا منها ". قياساً على قولك - ناصحاً غيرك -: " لا تقرب التهجد وأنت شبعان " أي: استمر على خفة البدن، ولا تشبع حتى إذا أتى وقت التهجد تقوم به بكل خفة ونشاط. فكذا هنا كأنه قال: " لا تقرب الصلاة وأنت سكران " أي: استمر على الصحو، وعدم تناولك للمسكر حتى إذا أتى وقت الصلاة تقوم بها وأنت تعلم ما تقول. الوجه الثاني: سلمنا أن تلك الآية خطاب للسكران، لكن السكران عندنا قسمان: القسم الأول: سكران زال عقله كلياً، فهذا لا يفهم شيئاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 القسم الثاني: سكران لم يزل عقله، بل هو في مبادئ الطرب والنشاط، فهذا يفهم الخطاب. فالآية خطاب للقسم الثاني، أي: خطاب لمن وجد منه مبادئ النشاط والطرب، وما زال عقله موجوداً، قال أبو إسحاق في "شرح اللمع ": " خطاب لمن شرب ولم يبلغ قدر السكر ". بيان نوع الخلاف في تلك المسائل الست السابقة. الخلاف في تكليف المجنون، والصبي، والغافل، والساهي، والناسي، والنائم، والمغمى عليه، والسكران، والمعتوه، هذا الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأنه راجع إلى مقصد ومراد كل من الطرفين المختلفين في كل مسألة. فمن قال: إن هؤلاء غير مكلَّفين: أراد أنهم ليسوا مخاطبين ولا مكلَّفين حال عدم فهمهم خطاب التكليف؛ لاستحالة ذلك وهم في تلك الحالة. ومن قال بأنهم مكلَّفون: أرادوا أنهم مكلَّفون حكماً، أي: تجري عليهم أحكام المكلَّفين، ولكن هذا الجريان جاء من باب الحكم الوضعي، لا من باب الحكم التكليفي، أي: من باب ربط الأسباب بمسبباتها، وهذا متفق عليه، فلم يكن هناك خلاف حقيقي. المسألة التاسعة: تكليف المكره: قد يوجد شخص بالغ، وعاقل، ويفهم الخطاب، ولكنه أكره على فعل محرم، أو ترك واجب، فهل يعاقب على فعل المحرم، وعلى ترك الواجب؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 أي: هل هو مكلَّف؟ أقول: المكره نوعان: النوع الأول: مكره ملجأ، وهو: من حمل على أمر يكرهه ولا يرضاه، ولا تتعلق به قدرته واختياره كمن ألقي من شاهق على مسلم فقتله، أو من ربط بحبل وحمل على مسلم فقتله، أو ألقي على مال فأتلفه، فهذا غير مكلَّف اتفاقاً، لأنه مسلوب القدرة غير مختار كالآلة. أي: لا اختيار له في ذلك، ولا هو بفاعل له، وإنما هو آلة كالسكين في يد القاطع، وكحركة المرتعش. النوع الثاني: مكره غير ملجأ وهو: من حمل على أمر يكرهه، ولا يرضاه، ولكن تتعلق به قدرته، واختياره، وإرادته كمن قيل له: " اقتل أخاك المسلم وإلا قتلناك "، أو قيل لمسلم: " اقطع يد فلان المسلم وإلا قطعنا يدك "، فهذا قد اختلف العلماء في تكليفه على مذهبين: المذهب الأول: أنه مكلَّف. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن شروط التكليف قد توفرت، فيه، وهي: البلوغ، والعقل، وفهم الخطاب، فما المانع من تكليفه؟ أي: أن المكره قد بلغ الحد الذي يمكن أن نكلفه عنده بالتكاليف، وهو عاقل يفرق بين الحق والباطل والمحرم وغيره، وهو فاهم لخطابات الشارع يفرق بين ما يقتضي التحريم، وما يقتضي الوجوب، وأنه يلزم من ترك الواجب وفعل الحرام: العقاب، وهو أيضا قادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 على إيقاع ما أمر به وعدم إيقاعه، فهو مختار في الإقدام، والانكفاف، وينسب إليه الفعل حقيقة. إذن: المكره مكلَّف كغير المكره ولا فرق بجامع: توفر جميع شروط التكليف إضافة إلى توفر القدرة وكمال البدن والذمة، ومجرد الإكراه ليس سبباً لإسقاط الخطاب عن المكره بأي حال من الأحوال. المذهب الثاني: أن المكره غير الملجأ غير مكلَّف. ذهب إلى ذلك جمهور المعتزلة، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المكره قد أتى بالفعل المكره عليه بدافع الإكراه لا غير، وهذا يقدح في قدرته على الامتثال؛ لأن الامتثال لا يكون إلا بأن يأتي المكلَّف بالفعل اختياراً قاصداً الطاعة لأمر الشارع، وهنا لم يفعل المكره الشيء الذي أكره عليه إلا من أجل استجابة أمر المكره لا من أجل استجابة أمر الشارع. جوابه: يجاب عن ذلك بأنا لا نُسَلِّمُ أن الإكراه ينافي القدرة، ويتعارض معها، بل إن المكره قادر على فعل ما أكره عليه، وقادر - أيضا - على ترك فعله، ولهذا أجمع العلماء على أنه إذا أكره المسلم على قتل أخيه المسلم، فإنه يحرم ذلك عليه، فالمكره بالقتل مأمور باجتناب ذلك القتل، وإن فعل ما أكره عليه فإنه يأثم بلا خلاف. وإذا كان المكره مأموراً بذلك ويأثم إذا فعل: فيلزم من ذلك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 أن المكره مكلَّف، إذ لو لم يكن التكليف ثابتاً في حقه: لما أمر بالكف عن القتل، ولما أثم بفعل القتل. الدليل الثاني. أن من شرط الأمر بفعل " ما " أن يثاب المأمور عليه، وإلا امتنع التكليف به، والمكره إن أتى بالفعل لداعي الإكراه - فقط - فإنه لا يثاب عليه فيمتنع تكليفه به. جوابه: يجاب عنه: بأن المكلَّف إذا فعل ما أُكرِه عليه وهو موافق للشرع، وقصد ونوى أنه فعله لطاعة اللَّه، لا لطاعة المكرِه - بكسر الراء - فإنه يثاب، فيكون ظاهر فعله أنه طاعة للمكرِه - بكسر الراء -، وباطنه أنه فعله طاعة لله، وكل فعل قصد به طاعة اللَّه فله ثواب. الدليل الثالث: أنه حال مباشرة المكرَه للفعل المكره عليه يمتنع تكليفه بتركه، لأنه يلزم منه الجمع بين الفعل والترك في آنٍ واحد، وهو جمع بين النقيضين، وهو ممنوع. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يمنع التكليف بنقيض المكرَه عليه قبل الإقدام على فعل المكره عليه ومباشرته، لأنه لا يلزم من هذا الجمع بين النقيضين " لعدم اتحاد الزمن. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في كثير من مسائل الفروع، ومنها: 1 - أن المكرَه إذا قتل من يرث منه، فهل يمنع من ذلك الميراث؟ اختلف على قولين: الأول: أنه يمنع من ذلك الميراث، وهو الصحيح؛ لأنه مكلَّف قادر على الامتناع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 الثاني: لا يمنع من الميراث، بل يرث؛ لأنه غير مكلَّف، فالإكراه سلب منه الاختيار والقدرة. 2 - أنه إذا أكره على الوطء قبل التحلل الأول. فعلى المذهب الأول - وهو تكليف المكرَه -: يفسد حجه. وعلى المذهب الثاني - وهو عدم تكليف المكرَه -: لا يفسد. 3 - إذا أكره المسلم على طلاق زوجته، فهل يقع طلاقه؟ على قولين: القول الأول: إن طلاقه يقع؛ لأنه مكلَّف يتحمل مسؤولية ما تلَّفظ به، والمكره عندما نطق بلفظة الطلاق نطق بها وهو مختار وقاصد، كل ما هنالك أنه غير راض عن هذا التصرف. القول الثاني: عدم وقوع طلاقه؛ لكونه غير قاصد وقوع الطلاق، إنما الذي قصده هو دفع الأذى والضرر عن نفسه. المسألة العاشرة: تكليف الكفار بفروع الإسلام: تحرير محل النزاع: أولاً: لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالإيمان، أي: مكلَّفون بأصول الشريعة، وأن تركهم لهذه الأصول يوجب تخليدهم في النار، كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) . ثانياً: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون. بالمعاملات كالبيع، والشراء، والرهن، والإجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ثالثا: ولا خلاف بين العلماء في أن الكفار مكلَّفون بالعقوبات كالحدود والقصاص. وبعض العلماء يعبر عما سبق بقوله: أجمع العلماء على أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع مثل اعتبار جناياتهم سببا في وجوب عقوباتهم عليهم، ولذلك تقام عليهم الحدود عند تقرر أسبابها، كما يعتبر وقوع عقودهم على الأوضاع الشرعية سببا لترتب آثارها عليهم كالبيع، والنكاح، ونحوهما، كما يعتبر الإتلاف منهم سببا لوجوب الضمان عليهم. والسبب في تكليفهم بالمعاملات: أن المعاملات قصد بها الحياة الدنيا، فالكفار بها أنسب؛ لأنهم آثروا الحياة الدنيا على الآخرة. والسبب في تكليفهم بالعقوبات: أن العقوبات قصد بها الزجر عن ارتكاب أسبابها، والكفار أحق بالزجر وأوْلى به من المؤمنين. رابعا: أن ما عدا ما ذكرنا من فروع الشريعة كالصلاة، والصوم، والحج، والزكاة، وإيقاع طلاقه، وعتقه، وظهاره، وإلزامه بالكفارات، ونحو ذلك، فقد اختلف العلماء هل الكفار مكلَّفون بها أو لا؟ أي: إذا أمر الشارع بفعل شيء أو نهى عن فعل شيء، واستعمل لفظا شاملاً وعاما، فهل يدخل الكفار في هذا الخطاب فيكونون مكلَّفين بما كلِّف به المؤمنون؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنهم مكلَّفون بفروع الشريعة مطلقا، أي: بالأوامر والنواهي. ذهب إلى ذلك: الإمام مالك، وهو ظاهر مذهب الشافعي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره كثير من المالكية، والشافعية، والحنابلة، وعامة أهل الحديث، وبعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، وهو مذهب أكثر المعتزلة. وهو الصحيح عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه لو لم يوجد في الكافر غير فقد شرط العبادة وهما الشهادتان، فإن فقد شرط العبادة مع القدرة عليه لا يمنع من توجه الخطاب بها. يدل على ذلك: المحدَث فإنه فقد فيه شرط الصلاة، ولم يمنع ذلك من وجوب الصلاة عليه وإلزامه بها بسبب قدرته على تحصيل الشرط، كذلك الكافر فإنه قادر على تحصيل شرط العبادة وهو: الإيمان. بيان ذلك: أن المحدث - وهو في حال حدثه ونجاسته - يؤمر بالصلاة بشرط تقديم الوضوء، كذلك الكافر - وهو في حال كفره - يؤمر بالصلاة وغيرها من العبادات بشرط تقديم الشهادتين، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما لا يصح منه العمل وهو في حالته تلك: فإذا أمر المسلم بالصلاة - وهو محدث - فإنه يكون مأموراً بالشيء الذي لا تتحقق صحة الصلاة إلا به وهو الطهارة من باب: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، كذلك الكافر يؤمر بالصلاة والزكاة والصوم، وغيرها، ومعروف أنه لا تتحقق صحة الصلاِة وغيرها من العبادات إلا بتقديم الشهادتين، إذاً هو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب. ما اعترض به على ذلك الدليل: الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ الحكم في المقيس عليه؛ حيث إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 المسلم المحدث - وهو المقيس عليه - لا يؤمر بالصلاة مباشرة، بل إنه يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة، بدليل: أن المحدث - حال حدثه - لا يتصور أن يؤمر بالصلاة؛ لأنه حال حدثه لا يمكن أن يمتثل الصلاة، بل يكون عاجزاً عن إيقاعها؛ لذلك قلنا: إنه يؤمر بالوضوء والتطهر، فإذا تطهر أمر - حينئذٍ - بالصلاة. جوابه: يجاب عنه بأنا لو سلمنا لكم أن المحدث يؤمر بالوضوء، فإذا توضأ أمر بالصلاة: للزم كما ذلك أمران باطلان: أولهما: أن المحدث لو ترك الصلاة طول عمره، فإنه لا يعاقب على تركها، بل يعاقب على ترك الوضوء - فقط -؛ لأنه ليس مأموراً بغيره، ثم إذا فعله أمر بالصلاة، وهذا باطل؛ لأنه خلاف الإجماع؛ حيث أجمع العلماء على أن المحدث لو ترك الصلاة فإنه يعاقب على ترك الصلاة، ولا يعاقب على ترك الوضوء. ثانيهما: أنه يلزم - على كلام المعترض -: أن المحدث إذا توضأ لا يصح أمره بالصلاة بعد ذلك، بل يؤمر بعد الوضوء بتكبيرة الإحرام، فيشترط تقديمها، بل يؤمر بهمزة التكبيرة، ثم الكاف، وهكذا، وكذلك السعي إلى الجمعة ينبغي أن لا يتوجه الأمر به إلا بالخطوة الأولى، ثم بالثانية وهكذا، وهذا لم يقل به أحد. الاعتراض الثاني: أن قياسكم الكفر على الحدث من المسلم قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه: أن المعنى في الحدث لا ينافي فعل الصلاة، ولهذا تصح صلاة المتيمم وهو محدث، والكفر ينافي الصلاة بكل حال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 جوابه: يجاب عنه بأن قياسنا الكفر على الحدث قياس صحيح، وذلك لأن الحدث ينافي فعل الصلاة مع القدرة على الماء، ولا يمنع توجه الخطاب إلى المحدث وهو في تلك الحال، فكذلك الكفر ينافي فعل الصلاة، ولكن لا يمنع من توجه الخطاب إليه، وهو في تلك الحال. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) . وجه الدلالة: أن لفظ " الناس " اسم - جنس معرف بأل الاستغراقية، فيشمل جميع الناس، والكفار من جملة الناس، فيدخلون في هذا الخطاب، ولا مانع من دخولهم تحت الخطاب " لأنه لو وجد مانع لكان إما عقلياً، وإما شرعياً. ولا يوجد مانع عقلي من دخول الكافر؛ لأن المانع العقلي هو: فقد التمكن من الفعل، والكافر يمكنه أن يحج بأن يقدم قبله الإيمان، كما أن المسلم المحدث يوصف بالتمكن من الصلاة بأن يقدم عليها الطهارة. ولا يوجد مانع شرعي " لأنه لو وجد لعرفناه عند الطلب. الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر عنهم أنهم إنما عاقبهم يوم القيامة، وسئلوا عما عاقبهم لأجله، فاعترفوا بأنهم عوقبوا على ترك إقامة الصلاة، وإطعام الطعام، فدل على أن الخطاب متوجه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 إليهم بالعبادات، وأنهم يعاقبون على تركها، فيعذبون على تركها جميعاً، فدل ذلك على تكليفهم. ما اعترض به على ذلك: الاعتراض الأول قيل فيه: إن هذه حكاية قول الكفار، فلا يكون حُجَّة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الأمة أجمعت على أن اللَّه تعالى ذكر ذلك في معرض التصديق لهم، وبه يحصل التحذير للمؤمنين من مواقعة ذلك. الجواب الثاني: أن اللَّه تعالى لما حكى عن الكفار تعليلهم دخول النار بترك الصلاة: وجب أن يكون ذلك صدقاً. ولا يمكن أن يكون ذلك كذباً؛ لأمور: الأمر الأول: أنه لو كان كذبا لا حصل تحذير المؤمنين من مواقعة ذلك. الأمر الثاني: أنه لو كان كذباً لم يكن في رواية ذلك فائدة، وكلام اللَّه متى أمكن حمله على ما هو أكثر فائدة وجب ذلك. الأمر الثالث: أنه لو كان كذباً: لما صح أن يعطف عليه قوله تعالى: (وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ) ، فهنا عطف عليه ما ثبت عليه العذاب - وهو التكذيب بيوم الدين - فثبت: أن اللَّه عذَّبهم لأنهم تركوا فرعاً من فروع الشريعة وهي الصلاة، وإطعام الطعام، والخوض. الاعتراض الثاني: قوله: (لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ ... ) إلخ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 معناه: لم نك ممن يعتقد الصلاة، وإطعام الطعام - وهو الزكاة - لتركهم المِلَّة والدخول في الإسلام، وعندنا يستحقون العقاب على ترك ذلك. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الأول: هذا خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر يقتضي تعلق العقاب بترك نفس الصلاة دون اعتقادها؛ حيث إن اللفظ حقيقة في فعل الصلاة، فمن حمل ذلك على الاعتقاد فقد عدل باللفظ عن الحقيقة إلى المجاز، وهذا لا يجوز إلا بقرينة. الجواب الثاني: أن العقوبة وجبت على ترك الاعتقاد بقوله تعالى: (وكنا نكذب بيوم الدين) ، فلهذا يجب حمل الصلاة والإطعام على مقتضاه الحقيقي، لئلا يكون هناك تكرار وإعادة. الاعتراض الثالث: يحتمل أن معنى قوله تعالى: (لم نك من المصلين) أي: لم نك من المؤمنين، لما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نهيت عن قتل المصلين " أي: المؤمنين. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا محتمل، لكن الظاهر لا يترك إلا بدليل، ولا دليل على أن المراد من المصلين: هم المؤمنون. الاعتراض الرابع: سلمنا لكم أن التعذيب على ترك الصلاة، فيجوز أن يكون قوله تعالى: (لم نك من المصلين) إخباراً عن قوم كانوا أسلموا وارتدوا بعد إسلامهم، ولم يصلوا حال إسلامهم، لأن قوله: (لم نك من المصلين) لا يفيد أنهم لم يصلوا في جميع الزمان الماضي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 جوابه: يجاب عنه: بأن قوله تعالى: (لم نك من المصلين) هو جواب المجرمين المذكورين في قوله تعالى - قبل ذلك -: (يتسائلون عن المجرمين) ، وذلك عام في كل مجرم مرتد وغير مرتد. الدليل الرابع - من أدلتنا على أن الكافر مكلَّف مطلقاً -: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ) . وجه الدلالة: أن هذا عام في حق المسلمين والكفار، فلا يخرج الكافر إلا بدليل، ولا يوجد دليل على ذلك، والكفر ليس برخصة مسقطة للخطاب عن الكافر. الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا) . وجه الدلالة: أن هذا نص في مضاعفة عذاب من جمع بين هذه المحظورات، وهي الكفر، والقتل، والزنا، وهذا يدل على أن الزنا والقتل يدخلان فيه، فثبت كون ذلك محظوراً عليه، مما يقتضي أن الكافر مخاطب ومكلَّف بفروع الشريعة. الدليل السادس: قوله تعالى: (فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى ذم - هنا - الكفار لتركهم الصلاة، وهي من فروع الشريعة، مما يدل على أن الكفار مكلَّفون بالفروع. الاعتراض على ذلك: قال المعترض: إن المراد بذلك ترك الاعتقاد، دون الفروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 جوابه: يجاب عنه بأن هذا لا يصح؛ لأنه قدم على التكذيب الصلاة، وهي فرع من فروع الشريعة، فدل ذلك على أن المراد الفعل دون الاعتقاد. الدليل السابع: قوله تعالى: (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى توعَّد المشركين على شركهم، وعلى ترك إيتاء الزكاة، فدل ذلك على أنهم مخاطبون بالإيمان، ومخاطبون بإيتاء الزكاة؛ لأنه لا يتوعد على ترك ما لا يجب على الإنسان، ولا يخاطب به، فدل ذلك على أن الكفار مكلَّفون بالفروع. الدليل الثامن: إن صلاح الخطاب للكفار في اللغة كصلاحه للمسلمين، فوجب أن يدخلوا تحته كما دخل المسلمون ولا فرق، فإذا قال تعالى: (يا بني آدم) ، و (يا أولي الأبصار) ، و (لله على الناس حج البيت) ، و (أقيموا الصلاة وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، فإنهم يدخلون حيث إنهم من جملة بني آدم، ومن أولي الأبصار، ومن الناس، فينتج أنهم مكلَّفون بالفروع. الدليل التاسع: أن الإجماع منعقد على أن الكافر معاقب على قتل الأنبياء، وتكذيب الرسُل، كما يعاقب على الكفر بالله تعالى. المذهب الثاني: أن الكفار غير مكلَّفين بفروع الشريعة مطلقا، أي: ليسوا بمخاطبين في الأوامر والنواهي. ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وهو قول للإمام الشافعي، وهو مذهب ابن خويز منداد من المالكية، وهو اختيار أبي حامد الإسفراييني من الشافعية، وهو مذهب كثير من الحنفية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يستحيل من الكافر فعل الشرعيات عبادة وقربة في حال كفره، فإذا كلف - مع ذلك - بالشرعيات، فإن هذا تكليف بما لا يطاق، قياساً على المريض العاجز عن القيام لا يكلف أن يصلي قائماً، وقياساً على الحائض لا تكلف أن تصلي مع حيضها. جوابه: يجاب عنه بأن المستحيل هو: تكليف الكافر بفعل الشرعيات عبادة وقربة مع عدم استطاعته على فعلها، وهذا لم يكلف به. ولكن لا يستحيل تكليفه بفعل الفروع ما دام أنه باستطاعته فعلها، وذلك بأن يقدم الإيمان، ثم يفعل ما أمر به، قياسا على المحدث فقد كلف بالصلاة لا مع حدثه، ولكن بأن يقدم عليها الطهارة ثم يفعل الصلاة. أما قياسكم الكافر على العاجز عن القيام، وعلى الحائض فإنه قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، وذلك لأن الحائض والعاجز لا يمكنهما إزالة الحيض والعجز بخلاف الكافر، فإنه يمكنه إزالة كفره بأن يشهد الشهادتين ثم يفعل الفروع. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -: "أدعهم إلى شهادة أنْ لا إله إلا اللَّه، وأني رسول اللَّه.، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم خمس صلوات كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوك لذلك فأعلمهم أن اللَّه افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم ". وجه الاستدلال: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر معاذاً أن يدعوهم أولاً إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 الإيمان، فلو كان الخطاب يتوجه إليهم بغير ذلك الأمر لأمره أن يدعوهم إليه. ويفهم من هذا: أنهم إن لم يمتثلوا لا يدعوهم إلى الصلاة ولا إلى الزكاة، وهذا يؤدي إلى أنهم غير مكلفين بها عند كفرهم؛ إذ لو كانوا مكلَّفين بها حال كفرهم كما هم مكلَّفون بها حال إسلامهم لأمرهم بها، وإن لم يجيبوه إلى الإيمان؛ لأنهم مكلَّفون بكل من الإيمان والفروع استقلالا. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث لو دلَّ على ما تقولون للزم منه أن يكون الحديث دالاً على أنه لا يؤمر الشخص بالزكاة إلا إذا أجابه إلى الصلاة، ويكون هناك ترتيب في الدعوة بين الصلاة والزكاة ولم يقل به أحد. وإنما الغرض من الحديث هو التسهيل في الدعوة، ومراعاة أحسن الطرق فيها، ومعروف أن من شأن من لم يجب الداعي إلى الإيمان أنه لا يجيبه إلى غيره من الفروع، فتكون دعوته إلى الفروع عبثا. الجواب الثاني: أن الحديث دلَّ على أن الكافر غير مكلَّف مطلقا بطريق المفهوم المخالف، والآيات السابقة التي استدللنا بها على أن الكافر مكلَّف مطلقا دلَّت على ذلك بالمنطوق، والمفهوم لا يقوى على معارضة المنطوق. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما دعا قيصر وكسرى وكتب إليهما في ذلك لم يدعهما إلا إلى التوحيد، ولم يدعهما إلى غيره؛ إذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 لم يذكر في ذلك الكتاب الفروع الفقهية، فدلَّ ذلك على أنهم غير مكلَّفين بالفروع. جوابه: يجاب عنه: بأن - صلى الله عليه وسلم - لم يذكر في كتابه شيئاً من التكاليف الفرعية؛ لأنه لا يصح فعل أيِّ عبادةٍ وهما في حالة الكفر، فدعاهما إلى ما يصح فعله وهو التوحيد. الدليل الرابع: لو صح تكليفهم بالفروع لصحت منهم إذا أدوها، لموافقة الأمر، ولكنها لا تصح منهم وهم على حالة الكفر. جوابه: يجاب عنه: بأن المحدث مأمور بالصلاة لكن بشرط الطهارة. فكذلك الكافر مأمور بالفروع لكن بشرط الإيمان، بيانه: أن المحدث مأمور بالشرط - وهو الطهارة - ومأمور بفعل الصلاة بعد حصول الشرط، فهو مأمور بهما في الحال، كذلك في مسألتنا إذا كان مأموراً بالشرط ومأموراً بالفعل بعد حصول الشرط: وجب أن يكون مأموراً بهما، لأنه لا مانع من الأمر بهما في هذه الحال. الدليل الخامس: ْ أن الكفر يمنع صحة العبادة، ويمنع قضائها في الثاني، فصار كالجنون. جوابه: يجاب عنه: بأن قياسكم الكفر على الجنون قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الكافر عاقل يفهم الخطاب، أما المجنون فلا يدرك شيئاً من ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الدليل السادس: أن الصلاة لو وجبت على الكافر لوجبت عليه إما حال الكفر، أو بعده. والأول - وهو وجوبها حال الكفر - باطل؛ لأن الإتيان بالصلاة في حال الكفر ممتنع، حيث يستحيل الجمع بين فعله للصلاة وبين كفره، فكيف يجب على الكافر ما يستحيل أن يمتثله؛ هذا ممتنع، والممتنع لا يؤمر به. وأما الثاني - وهو: وجوب قضاء الصلاة بعد الكفر، أي: بعد إسلامه - فهذا باطل - أيضا -، لإجماع العلماء على عدم أمر الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلاة في زمن كفره. جوابه: يجاب عنه: بأن المستحيل والممتنع هو تكليف الكافر بفعل الصلاة وغيرها من العبادات مع عدم قدرته على - فعلها، ولكن لا يمتنع تكليفه بفعل الصلاة بشرط تقديم الإيمان؛ لاستطاعته فعل ذلك. وأما عدم أمر الكافر عندما يسلم بقضاء ما فاته من الصلوات في زمن كفره، فقد أجمع العلماء عليه، لأمرين: أولهما: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وكذا قوله عليه الصلاة والسلام: " أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله ". فهنا جعل الإسلام مسقطا لما قد سلف، أي: يقطع ما قبله من أحكام الكفر حتى كأن الكافر بعد إسلامه لم يصدر منه معصية لله تعالى أصلاً، وفي هذا ملحظ للشارع قد اهتم به، وهو تيسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 الدخول في الإسلام عليهم، وتحبيبه عندهم وتحسينه في أنظار الكفار، إذ أن الكافر لو أراد الإسلام - وهو شيخ كبير أو هو في منتصف العمر - وهو يعلم بأنه سيقضي ما فاته من العبادات من صلاة وصيام وزكاة لنفر عن الدخول في الإسلام، ولكن إذا علم أنه إذا أسلم فإنه لا يطالب بشيء من ذلك سهل عليه الدخول فيه. أما حقوق الآدميين فلا يسقطها الإسلام؛ تحقيقا للعدل العام. ثانيهما: أنه كان يسلم عند - صلى الله عليه وسلم - الجم الغفير من الكفار، ولم ينقل إلينا أنه أمر أحداً بأن يقضي ما فاته من صلاة ونحوها من العبادات. المذهب الثالث: أن الكفار مكلَّفون ومخاطبون بالنواهي، دون الأوامر، أي: أنهم مكلَّفون بأن ينتهوا عن المنهي عنه مثل: الزنا، والقتل، والسرقة، ونحوها، فإن فعل أحد الكفار واحداً من تلك الأمور فإنه يعاقب كالمسلم، أما الأمور بها كالصلاة والصوم والزكاة والحج ونحوها، فلا يكلفون بها فلا يعاقبون على تركها. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لا يمكن الجمع بين الإتيان بالمأمور به كالصلاة، وبين كفره، وقد سبق بيانه والجواب عنه. أما الانتهاء عن الشيء فإنه يمكن وهو في حالة كفره؛ حيث لا يشترط في الانتهاء عن المنهيات التقرب، بل يكتفى بالكف عنه، فجاز التكليف بالمنهيات، بخلاف المأمور بها فإنه يشترط فيها التقرب فلا تصح من الكافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 جوابه: يجاب: بأن الفرق الذي ذكرتموه بين المأمور به، والمنهي عنه باطل. بيانه: أنه يقال لهم: إن عنيتم بقولكم: " إنه يمكنه الانتهاء عن المنهيات، ولا يمكنه الإتيان بالمأمورات ": أنه يتمكن من تركها من غير اعتبار النية، فهو أيضاً متمكن من فعل المأمورات من غير اعتبار النية. وإن عنيتم به: أنه متمكن من الانتهاء عن المنهيات لغرض امتثال قول الشارع، فهذا متعذر حال عدم الإيمان. فعلمنا من ذلك استواء المأمور والمنهي، من حيث إن الإتيان بهما من جهة الصورة لا يتوقف على الإيمان، وأن الإتيان بهما لغرض امتثال حكم الشارع يتوقف في كليهما على الإيمان. الدليل الثاني: أن العقوبات تقع عليهم في فعل المنهيات، دون ترك المأمورات، دلَّ على ذلك: أنهم يعاقبون على ترك الإيمان بالقتل، والسبي، وأخذ الجزية، ويحد في الزنا والقذف والسرقة، ولا يؤمر بقضاء شيء من العبادات إذا أسلم، وإن فعلها في كفره لم تصح منه. جوابه: يجاب عنه بأن يقال. أولاً: أما وقوع العقوبات عليهم وتمثيلكم على ذلك بأنه إذا ترك الإيمان يعاقب بالسبي، والقتل، وأخذ الجزية، وأنه يحد في الزنا، والقذف، والسرقة، فإن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث إننا بيَّنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 - فيما سبق - أن الكفار مخاطبون بالإيمان والعقوبات والمعاملات باتفاق العلماء. ثانياً: أما عدم وجوب قضاء شيء من العبادات إذا أسلم فقد بيَّنا - فيما سبق - أن سقوط القضاء عنهم كان لسببين: الأول: أن - صلى الله عليه وسلم - لم يأمر من أسلم من الكفار بقضاء ما فاتهم مع كثرتهم. الثاني: قوله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أما علمت أن الإسلام يهدم ما قبله ". ثالثاً: أما عدم صحتها إذا فعلها في حال كفر: فلأن المانع من الصحة موجود، وهو الكفر، لكن يستطيع أن يزيل هذا المانع وذلك بالإيمان، فإذا فعلها بعد تقديم الإيمان تكون تلك الأفعال صحيحة، وسبق بيان ذلك. المذهب الرابع: أنهم مكلَّفون بالأوامر فقط، دون النواهي، حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر المحيط "، ولم ينسبه إلى قائل، ولم أجد دليللً عليه. جوابه: هذا ضعيف؛ لأمرين: الأول: أنه لا دليل على هذا التفريق، وما لا دليل عليه فلا يلتفت إليه. الثاني: أن هذا المذهب يرده ما حكيناه من الإجماع على أن خطاب الزواجر من الزنا والقذف يتوجه على الكافر والمسلم معاً. وترده - أيضاً - النصوص التي سقناها - في المذهب الأول - على أن الكافر مكلَّف مطلقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 المذهب الخامس: أنهم مكلَّفون بالفروع جميعاً إلا الجهاد في سبيل الله، ذكر هذا المذهب إمام الحرمين في " النهاية "، والقرافي في "تنقيح الفصول "، والإسنوي في " التمهيد "، ولم ينسبوه إلى أحد. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بما استدل به أصحاب المذهب الأول عى أن الكافر مخاطب بجميع الفروع، ولكنهم استثنوا الجهاد؟ لأنه يمتنع أن يقاتل الكفار أنفسهم. جوابه: يجاب عنه بأنه لا فائدة من هذا الاستثناء؛ لأنه لا يتصور الجهاد منه، ولو حصل بعد الإيمان لخرج عن محل النزاع. المذهب السادس: الفرق بين الكافر المرتد فيكلف بالفروع، وبين الكافر الأصلي فلا يكلف. حكى هذا المذهب عبد الوهاب المالكي في " الملخص "، والقرافي في " شرح تنقيح الفصول "، وابن السبكي في " جمع الجوامع ". دليل أصحاب هذا المذهب: أن الكافر المرتد ملتزم بأحكام الإسلام، ومنها قضاء ما فاته في الردة من العبادات، بخلاف الكافر الأصلي فإنه غير ملتزم. جوابه: يجاب عنه بأن العبادات وترك المحظورات لازمة للكافر مطلقا: "المرتد "، و " الأصلي " ولا فرق بينهما؛ لأن كلًّا منهما يطلق عليه اسم " كافر " لغة. وكذا الآيات السابقة التي ذكرناها في المذهب الأول لم تفرق بينهما، فهذا التفريق زيادة لا دليل عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 المذهب السابع: التفريق بين الكافر الحربي فلا يكلف، والكافر غير الحربي فيكلف. حكى هذا المذهب الزركشي في " البحر الحيط ". دليل أصحاب هذا المذهب: أن غير الحربي ملتزم بأحكام الإسلام بعقد الذمة فله ما للمسلمين، وعليه ما عليهم. أما الكافر الحربي فنظراً لكونه غير ملتزم، ولم يعقد معه عقد فإنه لم يلتزم بشيء فلا يكلف بالفروع. جوابه: يجاب عنه بأن الأدلة النقلية التي ذكرناها في المذهب الأول قد صرحت بأن الكافر مكلَّف مطلقاً، ولم تفرق بين الكافر الحربي، وغير الحربي، وهذا التفريق بينهما زيادة بدون دليل. المذهب الثامن: التوقف في المسألة. حكى هذا المذهب أبو حامد الإسفراييني عن أبي الحسن الأشعري، وحكاه سليم الرازي في " التقريب "، ولم ينسبه إلى أحد. دليل أصحاب هذا المذهب: أنه لم يصح دليل على تكليفهم، ولم يصح دليل على عدم تكليفهم فتوقفوا. جوابه: يجاب عنه بأنه لا داعي لهذا التوقف مع ما أثبتناه من الأدلة القوية على أن الكفار مكلَّفون بالفروع مطلقاً، وضعف أدلة المذاهب الأخرى. ثم إن التوقف لا يعتبر مذهبا يعمل به لذلك يسقط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 بيان نوع الخلاف: اختلف العلماء في هذا الخلاف في هذه المسألة على قولين: القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة، وافترق أصحاب هذا القول إلى فريقين: الفريق الأول قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الآخرة فقط، دون الدنيا. ذهب إلى ذلك كثير من الأصوليين. دليل هذا الفريق: أن الكافر في حال كفره لا يمكنه فعل المأمورات، ولا يطالب بفعلها، ولا يقضي ما فاته منها، إذن لا خلاف في العمل، وإنما فائدة القول بأنهم مخاطبون بفروع الإسلام كثرة عقابهم في الآخرة. الفريق الثاني قالوا: إن لهذا الخلاف أثراً في الدنيا والآخرة، وإليك بيان ذلك: أما أثر الخلاف في الآخرة فهو كثرة عقابهم في الآخرة، أي: أن الكفار يعذبون على ترك الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، وعلى شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وغيرها من الفروع الفقهية زيادة على عذاب الكفر، فيعذبون عليها وعلى الكفر جميعاً، لا على الكفر وحده. أما أثر الخلاف في الدنيا، فقد. وردت بعض المسائل الفقهية قد اختلف العلماء فيها، وكان سبب هذا الخلاف: هو الخلاف في تكليف الكفار بالفروع، ومنها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 1 - أن الكافر إذا زنى فهل يجب عليه الحد؟ اختلف فيه على رأيين الرأي الأول: وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار مكلَّفون بالفروع. الرأي الثاني: عدم وجوب إقامة الحد عليه؛ لأن الكفار غير مكلَّفين بالفروع. 2 - إذا نذر الكافر عبادة فهو صحيح، وهل يلزمه الوفاء به إذا أسلم؟ اختلف فيه على رأيين: الرأي الأول: أنه يلزمه الوفاء به؛ لأنه مكلَّف بالفروع. الرأي الثاني: أنه لا يلزمه الوفاء به؛ لأنه غير مكلَّف بالفروع. 3 - هل يجوز للكافر لبس الحرير؟ اختلف على رأيين: الرأي الأول: لا يجوز له ذلك؛ لأن الكافر مكلَّف بالفروع. الرأي الثاني: يجوز له ذلك؛ لأن الكافر غير مكلَّف بالفروع. القول الثاني: إن الخلاف لفظي. وهو الصواب، لأنه لا خلاف في مخاطبة الكفار بخطاب الوضع أي: لا خلاف في مخاطبتهم بخطاب المعاملات، والعقوبات. ولا خلاف في أنه لا يطلب منهم إيقاع العبادات كالصلاة، والصيام وهم في حال الكفر، وأنه لا يصح منها شيء. ولا خلاف في أنهم لا يؤمرون بقضائها بعد الإسلام. ولا خلاف في أنه يجب عليهم اعتقاد وجوبها، وأنهم معاقبون على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وإنما الخلاف في مقدار العقاب في الآخرة هل يعاقبون على الكفر فقط، أو يعاقبون عليه وعلى ترك أداء الفروع. فظهر بهذا أن الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في حق التكليف في الدنيا؛ حيث إن الخلاف فيها لا يتعلق بالحكم الناجز في الدنيا الذي هو محل بحث الأصولي والفقيه، فحال الكافر في الدنيا لا تتغير سواء قلنا بالتكليف أو لم نقل. الجواب عما ذكره أصحاب القول الأول: أما ما ذكره أصحاب القول الأول من زيادة العقاب على القول بتكليفهم، فهذا أمره إلى اللَّه تعالى فهو أعلم به. أما ما ذكروه من الآثار المترتبة على الخلاف في تكليف الكفار في الدنيا فلا نسلمها، وذلك لأنه ظهر - بعد تدبرها - أنها ليست في محل النزاع؛ فأكثرها يدور حول الحكم الوضعي، ولا خلاف في أن الكفار مخاطبون بخطاب الوضع، وبعضها ثبتت عليهم بسب أدلة أخرى. وقد أفردت لهذا المسألة مصنَّفا خاصاً بها وسمَّيته: " الإلمام في مسألة تكليف الكفار بفروع الإسلام "، وقد فصَّلت في بيان نوع الخلاف في كتابي الآخر: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليهما إن شئت فهما مطبوعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 القسم الثاني شروط الفعل المكلف به معروف أنه لا تكليف إلا بفعل، والمقصود بالفعل المكلَّف فيه: هو الفعل الذي تعلَّق خطاب الشارع به اقتضاء أو تخييراً. والفعل يطلق على الفعل الذي أمر به الشارع وطلب أداءه كالصلاة والصيام، ويطلق على الفعل المنهي عنه، وهو الذي طلب الشارع الكف عنه. وهناك يفروط لا بدَّ منها في الفعل المكلَّف فيه هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون الفعل المطلوب معلوما للمكلَّف. أي: أن يعلم المكلَّف حقيقة الفعل الذي كلَّفه الشارع بأن يعمله ويؤديه، وذلك من أجل أن يتصور هذا الفعل الأمور به؛ إذ لا يعقل التكليف بشيء مجهول الذات، فالصلاة - مثلاً - يجب أن يعلم حقيقتها وطريقتها وشروطها، وأركانها وواجباتها، ونحو ذلك مما يتعلق بها، كذلك الزكاة يجب أن يعلم حقيقتها وطريقتها، وعلى من تجب، ولمن تجب، وهكذا، فإن المكلَّف لو لم يعلم حقيقة الفعل المكلَّف به من الأفعال لم يصح منه الفعل؛ لعدم وقوعه على ما يريده اللَّه تعالى. الشرط الثاني: أن يعلم المكلَّف أن هذا الفعل مأمور به من قبل الله - تعالى -؛ لأنه إذا علم ذلك تصور منه قصد الطاعة والامتثال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 بفعله، لأن الطاعة: موافقة الأمر، والامتثال: جعل الأمر مثالاَ يتبع مقتضاه. لكن إذا لم يتصور من المكلَّف قصد الطاعة لله تعالى بهذا الفعل، فلا يكفي مجرد حصول الفعل منه من غير قصد ولا نية لامتثال أمر الله تعالى بفعله لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمالى بالنيات "، فالعمل الخالي عن النية قد يوجد، ولكن لا يصح إلا بالنية وقصد التقرب إلى اللَّه به. وهذا الشرط يخص الفعل الذي يجب قصد الطاعة والتقرب فيه إلى اللَّه تعالى مثل الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، وغير ذلك. أما ما لا يجب قصد الطاعة فيه مثل: رد المغصوب، وتأدية الديون، فإنه يكفي فيه مجرد حصول الفعل منه، وهو نفس الرد، ونفس التأدية. الشرط الثالث: أن يكون حاصلاً بكسب المكلََّف. فلا يصح تكليف المسلم بما لا يحصل بكسبه، فلا يصح تكليفه بكسب غيره؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) ، وقوله: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى) . هذا هو المذهب الأولى في المسألة. المذهب الثاني: أنه يجوز تكليف المسلم بكسب غيره، ومن ذلك: التزام العاقلة خطأ غيرها. جوابه: يجاب عنه بأن التزام العاقلة ليس من باب التكليف بفعل الغير، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 وإنما هو من باب خطاب الوضع، أي هو: من باب ربط الحكم بسببه، فجناية الشخص سبب في دية العاقلة؛ لأن المصلحة اقتضت " ذلك.. الشرط الرابع: أن يكون الفعل معدوماً. أي: أن يكون الفعل الذي طلب من المكلََّف فعله معدوماً، أي: لم يوجد، فمثلاً: يؤمر المسلم بصلاة الظهر قبل الزوال، فصلاة الظهر فعل أمر الشارع بفعلها قبل وجودها، وكذا يؤمر الإنسان بخياطة ثوب معدوم، فإن هذا الأمر صحيح؛ لأن كلًّا من صلاة الظهر والثوب لم يوجد قبل الأمر. أما ما هو موجود فيستحيل وقوعه من المكلَّف، فلا يحسن عقلاً الأمر بفعل شيء موجود، وهذا عند جمهور العلماء وهو الصحيح، لوجهين: الوجه الأول: أن يجاد الشيء الموجود تحصيل حاصل، لا يرد به الشرع، فهو مستحيل كاستحالة الجمع بين الضدين، وجعل الجسم في مكانين في وقت واحد. الوجه الثاني: أنه لا يحسن أن يؤمر من هو قائم بالقيام، ومن هو يكتب بالكتابة؛ لوجود القيام، والكتابة قبل الأمر، فكذلك هنا. هذا هو المذهب الأول في المسألة. المذهب الثاني: أنه يجوز الأمر بفعل شيء موجود. ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين. دليل هذا المذهب: أنه لو لم يصح الأمر بفعل الموجود للزم من ذلك أمران: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 أولهما: أنه لا يصح ذم الكافر على كفره - الذي هو فيه في الحال -، لأنه لا يصح أمره بتركه لكون الأمر موجوداً. ثانيهما: يوجب أن لا يكون المؤمن مأموراً بالإيمان؛ لأن ما وجد منه لا يصح الأمر به وهو على هذه الصفة. جوابه: يجاب عنه ت بأن الكافر إنما يستحق الذم على فعله من اعتقاد الكفر والبقاء عليه، فهذا ليس فيه دلالة على كونه مأموراً بما قد وجد منه. وأما أمر المؤمن بالإيمان فليس المقصود منه الأمر الحقيقي، وإنما المراد بالأمر هنا هو: طلب الاستمرار على الإيمان، والله أعلم. الشرط الخامس: أن يكون الفعل مقدوراً للمكلَّف. فلا يجوز تكليف ما لا يطاق، بل لا بد أن يكون الفعل يستطيع المكلَّف فعله والقدرة عليه، فإن كان محالاً كالجمع بين الضدين، وقلب الأجناس، وإعدام القديم، وإيجاد الموجود، ونحو ذلك، فلا يجوز التكليف به. ذهب إلى ذلك الغزالي، وأبو حامد الإسفراييني، وإمام الحرمين وأبو بكر الصيرفي، وابن قدامة، وكثير من العلماء، وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) ، وقوله: (لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه صرح في هاتين الآيتين على اشتراط القدرة من المكلَّف فيما يكلف به من الأفعال، وهذا يدل دلالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 واضحة على أن تكليف ما لا يطاق غير جائز، فلا يكلف اللَّه العباد عملاً من أعمال القلب أو الجوارح إلا وهي في وسع المكلََّف، وفي مقتضى إدراكه. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) . وجه الدلالة: أن التكليف بما لا يطاق فيه حرج واضح للمكلَّفين، والله عَزَّ وجَلَّ - هنا - نفى أن يكلف أي إنسان بشيء فيه حرج عليه، قال بعض العلماء: " وأي حرج فوق التكليف بما لا يطاق "، وقال الآمدي في " الإحكام ": " ولا حرج أشد من التكليف بما لا يطاق ". الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "دعوني ما تركتكم إنما أهلك من كان قبلكم بسؤالهم واختلافهم على أنبيائهم، فإذا نهيتكم عن شيء فاجتنبوه، وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ". وجه الاستدلال: أن الناس إنما كلَّفوا فيما يستطيعون من الفعل، فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز. الدليل الرابع: أن المحال - وهو: ما لا يطيقه المكلَّف لا تتصور فيه الطاعة فلا يتصور استدعاء وطلب المحال من المكلَّف؛ قياساً على أنه يستحيل من العاقل أن يطلب من الشجرة أن تخيط له ثوباً. أي: كما أنه يستحيل أن يطلب العاقل من الشجرة الخياطة؟ لعدم تصور الطاعة منها، فكذلك يستحيل طلب المحال من المكلف - وهو الذي لا يستطيع أن يفعله -؛ لعدم تصور الطاعة في ذلك: الدليل الخامس: أن اشتراط كون الفعل ممكنا ومستطاعا أوْلى من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 اشتراط كون المكلَّف عاقلاً فاهما للخطاب، ومن اشتراط كون الفعل معدوماً؛ وذلك لأن الفعل المكلََّف به ممكن إيقاعه من غير العاقل، وممكن إيقاعه من غير الفاهم، وممكن إيجاده مرة أخرى، أو يوقع ما يماثله، ولكن يستحيل أن يوقع المكلََّف المحال، فكيف يطلب - من المكلَّف إيقاعه، فثبت أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز. تنبيه: المعتزلة يوافقوننا على أن تكليف ما لا يطاق لا يجوز. وقد استدلوا ببعض الأدلة السابقة، وأضافوا إليها دليلاً قويا عندهم وهو قولهم: إن تكليف ما لا يطاق قبيح عقلاً، والله سبحانه لا يكلف بالقبيح استناداً إلى قاعدتهم وهي: " التحسين والتقبيح العقليين ". هذا هو المذهب الأول في المسألة. المذهب الثاني - في المسألة -: أنه يجوز تكليف ما لا يطاق. ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، ونسب إلى أبي الحسن الأشعري، واختاره فخر الدين الرازي، وذهب إليه كثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ) . وجه الاستدلال: أن هذا تكليف بالسجود مع عدم الاستطاعة، وهو يدل على جواز تكليف ما لا يطاق. جوابه: يجاب عنه بأن هذا لا يصح أن يحتج به على ما نحن فيه، وإنما يصح الاحتجاج به أن لو أمكن أن يكون الدعاء في الآخرة بمعنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 التكليف، وليس كذلك للإجماع على أن الدار الآخرة إنما هي دار مجازاة، لا دار تكليف. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ) . وجه الاستدلال: أن هؤلاء سألوا اللَّه دفع ما لا يطيقون، ولو لم يَكن تكليف ما لا يطاق جائزاً لما سألوا دفعه، ولا أقرهم عليه، فلما سألوا دفعه، وحصل الإقرار على ذلك: دلَّ على جوازه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: أولهما: أن المراد بما لا يطاق في الآية هو: الشاق الذي يثقل على الإنسان، وعلى هذا فهم سألوا اللَّه دفع ما فيه مشقة على النفس بحيث يؤدي إلى هلاكها، وهذا متعارف عليه في اللغة، فيقول الشخص لما يشق عليه: " لا أطيقه ". ثانيهما: سلمنا إرادة دفع ما لا يطاق، لكن هذه الآية معارضة بما استدللنا به على عدم جواز تكليف ما لا يطاق، وهو قوله تعالى: (لا يكلف اللَّه نفساً إلا وسعها) ، وقوله: (وما جعل عليكم في الدين من حرج) ، وقوله: (لا نكلف نفسا إلا وسعها) ، فإن هذه الآيات قد صرحت في عدم جواز تكليف ما لا يطاق، أما ما ذكرتموه من قوله تعالى: (ولا تحملنا ما لاطاقة لنا به) ، فهي ليست صريحة في جواز تكليف ما لا يطاق، لأنه يتطرق إليها عدة احتمالات: ومنها: ما قلناه في الجواب الأول. ومنها: أن سؤال دفع ما لا يطاق حكاية حال الداعين، ولا حُجَّة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 ومعلوم أن الصريح مقدم على غير الصريح. الدليل الثالث: أن اللَّه عَزَّ وجَلَّ كلَّف أبا جهل بالإيمان، وأمره به، ومن الإيمان تصديق اللَّه تعالى في كل ما أخبر عنه، ومما أخبر الله عن أبي جهل أنه لا يؤمن، فقد صار مكلَّفا بأنه لا يؤمن، ومكلَّفا بأنه يؤمن، وهذا هو التكليف بالجمع بين الضدين وهو محال، فجاز تكليف ما لا يطاق. جوابه: يجاب عنه: بأن تكليف أبي جهل غير مستحيل؛ لأمور ثلاثة: الأول: أن الأدلة النقلية والعقلية على صدق ما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - منصوبة، وموجودة وظاهرة لا لبس فيها. الثاني أن أبا جهل له عقل حاضر، وفهم للخطاب. الثالث: أن أبا جهل يستطيع أن يفعل ما كلف به من غير أن يمنعه أحد فهو من - رؤساء الكفار. وهذه الأمور جعلت تكليف أبي جهل غير مستحيل، وممكن أن يؤمن، لكن علم اللَّه تعالى في علمه الأزلي أن يترك أبو جهل ما يقدر عليه، وهو: " ما كلف به من الإيمان "، وذلك حسداً للرسول - صلى الله عليه وسلم - وعناداً، وإذا علم اللَّه سبحانه أنه لا يؤمن صار عدم إيمانه معلوما، فلن يؤمن أبداً؛ لأن العلم يتبع المعلوم المقرر، ولا يمكن أن يغيره بأي حال. مما يؤيد ذلك: أن اللَّه تعالى قادر على أن يقيم القيامة في وقتنا هذا، وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن - حيث جعل لها علامات - ويترك إقامتها مع القدرة على ذلك، وخلاف خبره سبحانه مستحيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 ولكن هذه الاستحالة لا ترجع إلى نفس الشيء، بل مستحيل لغيره، فلا يؤثر فيه. الدليل الرابع: إن تكليف ما لا يطاق لا يستحيل من حيث صيغته، حيث وردت صيغته في قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) ، وقوله: (قل كونوا حجارة أو حديداً) ، وقوله: (كن فيكون) ، فإن هذه أوامر ظاهرها أنها مخاطبة للمكلَّفين بأن يكونوا قردة، أو حجارة، أو أى شيء آخر، وهذا لا يستطيع المكلَّف فعله، فهذا تكليف ما لا يطاق. جوابه: يجاب عنه بأنه ليس في تلك النصوص أوامر؛ حيث إن تلك الأوامر ليست حقيقية، إذ ليس فيها مطالب. فالمراد من قوله تعالى: (كونوا قردة خاسئين) : التكوين من أجل إظهار القدرة لله تعالى، وقيل: إن هذا للسخرية منهم. والمراد من قوله تعالى: (قل كونوا حجارة أو حديداً) التعجيز؟ حيث أراد اللَّه تعالى أن يظهر قدرته عليهم وأن يعجزهم. والمراد من قوله تعالى: (كن فيكون) ، إظهار القدرة عليهم، لا بمعنى أنه طلب من المعدوم بأن يكون نفسه. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي لا أثر له في الفروع، حيث لا وقوع لها في الفروع، وإن كان لها أثر في أصول الدين في مسألة "الاستطاعة "، وفي مسألة " القدر "، فإن شئت فارجع إلى ذلك في كتب العقيدة فهو مبسوط هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 الشرط السادس: أن يكون - التكليف بفعل. اعلم أن متعلق التكليف هو الأمر والنهي، وكلاهما لا يكون إلا فعلاً، فلا يكلف إلا بفعل، ولا يطلب من المكلف إلا فعل. والتكليف في الأمر تكليف بفعل بالاتفاق؛ لأن مقتضاه: إيجاد الفعل المأمور به كالصلاة والزكاة والحج. أما التكليف في النهي فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أن التكليف في النهي تكليف بفعل. هذا مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن المكلف به في النهي هو كف النفس عن الفعل، لا نفي الفعل؛ حيث إن كف النفس عن المنهي عنه فعل، فمثلاً: الأمر بالصوم أمر بكف النفمس عن الفطر، والكف فعل الإنسان وهو داخل تحت كسبه يؤجر عليه، وكذلك لما نهى عن شرب الخمر، والسرقة، والزنا، فإنه اقتضى التلبس بضد من أضداده، وهو: الترك، فيكون الترك داخلاً تحت كسب المكلف فيثاب عليه، فالترك. - في الحقيقة - فعل، لكونه ضد الحال التي هو عليها. المذهب الثاني: أن التكليف في النهي ليس تكليفا بفعل. ذهب إلى ذلك كثير من المعتزلة، وعلى رأسهم أبو هاشم. دليل هذا المذهب: احتجوا - على ذلك بقولهم -: إن النهي عن الشيء معناه: طلب تركه. والترك نفي محض لا يدخل تحت التكليف، ولا يدخل تحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 كسب العبد، فلا يثاب عليه، فلا يسمى الكف عن الفعل فعلاً إلا أن يتناول التلبس بضد من أضداده، فإذا كان الأمر كذلك، فإنه يثاب على ذلك الضد المتلبِّس به، لا على مجرد الترك والكفِّ فقط. جوابه: يجاب عنه: بأن الترك ليس نفيا للفعل، وإنما هو فعل، فترك الشيء هو: الأعراض البدني أو القلبي عنه، والأعراض فعل، فمن ترك الزنا فقد أعرض عنه، وذلك الأعراض فعل، وهو من كسب العبد، ويثاب عليه. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على المعنى والحكم وهو: وجوب الانتهاء عما نهى اللَّه عنه سواء كان ذلك الانتهاء عن طريق فعل الضد وكف النفس، أو عن طريق الإبقاء على العدم الأصلي من غير تغيير، فالخلاف كان في العبارة والاصطلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 الفصل الرابع في الحكم الوضعي وأنواعه لقد سبق بيان أن الحكم الشرعي يتنوع إلى نوعين: الأول: الحكم التكليفي. الثاني: الحكم الوضعي. أما الحكم التكليفي فقد سبق الكلام عنه بالتفصيل. أما الحكم الوضعي فهو موضوع هذا الفصل، ويشتمل الكلام عنه على أربعة مباثحط: المبحث الأول: تعريف الحكم الوضعي. المبحث الثاني: الفرق بين الحكم الوضعي، والحكم التكليفي. المبحث الثالث: بيان أنه قد يجتمع خطاب التكليف مع خطاب الوضع، وقد ينفرد خطاب الوضع. المبحث الرابع: أنواع الحكم الوضعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 المبحث الأول في تعريف الحكم الوضعي الحكم قد سبق بيانه. والوضع لغة يطلق على الولادة يقال: " وضعت المرأة حملها " إذا ولدته، ويطلق على الإسقاط يقال: " وضعت عنك الدين " إذا أسقطته، ويطلق على الترك يقال: " وضعت الشيء بين يديه " إذا تركته. أما الحكم الوضعي في الاصطلاح فهو: خطاب اللَّه - تعالى - المتعلِّق بجعل الشيء سبباً لشيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، أو كون الفعل رخصة، أو عزيمة. ومعناه: أن الشارع وضع وشرع أموراً سميت أسباباً وشروطاً وموانع، ونحو ذلك تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات أو نفي، وذلك لأن الأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي بوجود الموانع، أو انتفاء الأسباب والشروط. فالحكم الوضعي هو الوصف المتعلِّق بالحكم التكليفي، وهذا الوصف إما أن يكون سببا كأوقات الصلاة؛ حيث إنها سبب لوجوبها على المكلف، وبلوغ النصاب للمال، حيث إنه سبب في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وجوب الزكاة، أو يكون شرطا كالطهارة في الصلاة، أو يكون مانعاً كالنجاسة تمنع من صحتها، أو يكون الفعل الواقع من المكلف صحيحاً يترتب عليه حكمه، أو ذلك الفعل فاسداً لا يترتب عليه شيء، أو يكون ذلك الفعل رخصة كأكل الميتة عند الاضطرار، أو يكون الفعل عزيمة كالعبادات الخمس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 المبحث الثاني في الفروق بين الحكم التكليفي والحكم الوضعي قد يلتبس على بعض الناس الحكم التكليفي مع الحكم الوضعي لذلك سأبين الفروق المهمة بينهما فأقول: الفرق الأول: من حيث الحد والحقيقة، فحقيقة الحكم الوضعي تختلف عن حقيقة الحكم التكليفي، فالخطاب في الحكم الوضعي: خطاب إخبار وإعلام جعله الشارع علامة على حكمه، وربط فيه بين أمرين، بحيث يكون أحدهما سبباً للآخر، أو شرطا له. بخلاف الخطاب في الحكم التكليفي، فإنه خطاب طلب الفعل، أو طلب الترك، أو التخيير بينهما، فخطاب التكليف هو: طلب أداء ما تقرر بالأسباب والشروط. الفرق الثاني: يختلفان من حيث اشتراط قدرة المكلف وعدمها، فالحكم التكليفي يشترط فيه أن يستطيع المكلف فعله، فلا يجوز التكليف بما لا يطاق مطلقا. بخلاف الحكم الوضعي فلا يشترط فيه ذلك: فقد يكون مقدوراً للمكلف، وقد يكون غير مقدور للمكلف. فمن أمثلة ما يقدر المكلف على فعله وتركه: السرقة التي هي سبب في قطع اليد، كذلك صيغ العقود والتصرفات الشرعية، فإنها أسباب داخلة تحت تصرف المكلَّف وقدرته، فهو يستطيع أن يسرق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 فيكون سببا في قطع يده، ويستطيع ترك السرقة، ويستطيع أن يعقد العقد فيكون سببا في الملك، ويستطيع ترك ذلك العقد. ومن أمثلة ما لا يقدر المكلف عليه: دلوك الشمس الذي هو سبب لوجوب الصلاة، وحولان الحول الذي هو شرط لوجوب الزكاة، والأبوة التي هي مانعة من وجوب القصاص من الوالد لولده. فهذه أسباب وشروط وموانع ليست في مقدور المكلف، بل هي خارجة عن قدرته. الفرق الثالث: أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بفعل المكلف الذي توفرت فيه شروط التكليف وهي: البلوغ، والعقل، والفهم، بخلاف الحكم الوضعي، فإنه يتعلق بفعل المكلف وغير المكلف كالصبي والمجنون والنائم والناسي والساهي والغافل والسكران والمعتوه ونحوهم، فإن هؤلاء يضمنون - مثلاً - ما يتلفونه؛ لكون الحكم الوضعي قد وجد وهو: السبب، وهو الإتلاف. الفرق الرابع: أن الحكم التكليفي يتعلق بالكسب والمباشرة للفعل من الشخص نفسه، فالمكلف إذا عمل عملاً موافقا لأمر الشارع فإنه يؤجر عليه، أما إذا عمل عملاً مخالفا لذلك الأمر، فإنه يعاقب عليه. بخلاف الحكم الوضعي، فقد يعاقب أشخاصا بفعل غيرهم، ولهذا وجبت الدية على العاقلة، فوجوب الدية عليهم ليس من باب التكليف؛ لاستحالة التكليف بفعل الغير، بل إنها وجبت لأن فعل الغير سبب لثبوت هذا الحق عليهم.. الفرق الخامس: أن الفعل في الحكم الوضعي قد يكون مقدوراَ للمكلف، ولكنه لا يؤمر به كالنصاب للزكاة، فإنه لا يؤمر الإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 بتحصيل النصاب لتجب عليه الزكاة، ولا يؤمر بالإقامة في رمضان ليجب عليه الصوم إذا عرض له ما يقتضي السفر. بخلاف الحكم التكليفي فلا بد من كون الفعل مقدوراً للمكلَّف وداخلاً تحت إمكانه، وإذا أمر بحكم تكليفي فهو أمر بكل ما يجعل فعله المأمور به صحيحا كالطهارة للصلاة، وإذا نهي عن فعل فإنه نهي عن كل ما يؤدي إليه. الفرق السادس: أن الحكم التكليفي يشترط فيه أن يكون معلومة للمكلَّف وأن يعلم أن التكليف به صادر من اللَّه تعالى حتى يصح منه القصد والنية. بخلاف الحكم الوضعي فلا يشترط فيه علم المكلَّف، ولذلك يرث الإنسان بدون علمه، وتحل المرأة بعقد أبيها عليها، وتحرم بطلاق زوجها لها وإن كانت لا تعلم، كذلك لو أتلف النائم أو الناسي، أو - الساهي، أو الغافل شيئاً، أو رمى إنسان في ملكه فأصاب إنسانا، فإن هؤلاء يضمنون وإن كانوا لا يعلمون. واستثنى العلماء من ذلك أمرين: أولهما: أسباب العقوبات التي هي الجنايات كالقتل الموجب للقصاص، فإنه يشترط فيه العلم والقصد، ولذلك لا يجب القصاص على المخطى لعدم العلم، وكذا حد الزاني لا يجب في الشبهة لعدم العلم. ْئانيهما: أسباب انتقال الأملاك في المنافع والأعيان، كالبيع، والهبة، والإجارة، ونحو ذلك من العقود، فإنه يشترط في ذلك العلم، فلو تلفظ بلفظ ناقل للملك وهو لا يعلم مقتضاه: لم يلزمه شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 المبحث الثالث في بيان أنه قد يجتمع خطاب التكليف مع خطاب الوضع وقد ينفرد خطاب الوضع عن خطاب التكليف فمن أمثلة اجتماعهما: الزنا، له حكمان: حكم تكليفي باعتبار أنه حرام. وحكم وضعي باعتبار أنه سبب للحد. وكذا السرقة من جهة أنها محرمة هي خطاب تكليف، ومن جهة أنها سبب للقطع هي خطاب وضع. فكل ما وجد فيه أحد أحكام التكليف الخمسة، وكان من جهة أخرى ناشئاً عن سبب، أو متوقفاً على شرط، أو غير ذلك من متعلقات خطاب الوضع، فهو مما يجتمع فيه الأمران، فالإيمان واجب وهو سبب لعصمة الدم والمال، والإحرام واجب عند بعض العلماء وهو مانع من فعل المحظورات فيه. ومن أمثلة انفراد خطاب الوضع: زوال الشمس، وحلول شهر رمضان، وحولان الحول في الزكاة، فهذه الأمور هي أوقات محدَّدة لا قدرة للمكلف على تحصيلها، فإنها من خطاب الوضع، وليست من خطاب التكليف؛ إذ - ليس فيها أمر، ولا نهي، ولا إذن، أما ما يترتب على هذه الأشياء من أداء الصلاة والصوم والزكاة، فإنه شيء آخر غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 ولا يتصور انفراد الحكم التكليفي؛ لأنه لا تكليفِ إلا وله سبب أو شرط، أو مانع. وبذلك يكون خطاب الوضع أعم من خطاب التكليف، إذ لا يوجد تكليف إلا ومعه وضع، دون العكس، بينما قد يوجد خطاب الوضع حيث لا تكليف، وذلك مثل الأمثلة السابقة، ولزوم قيمة المتلفات، وأروش الجنايات، والزكاة على الصبي والمجنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 المبحث الرابع في أنواع الحكم الوضعي لقد اختلف في أنواع الحكم الوضعي، والسبب في هذا الاختلاف: أن بعض العلماء أفرد كل وصف يصلح أن يكون حكما وضعيا وجعله نوعا خاصا فقال: إن أنواعه هي: السبب، والشرط، - والمانع، والعِلَّة، والصحة، والفساد، والعزيمة، والرخصة، والأداء، والإعادة، والقضاء، والتقديرات الشرعية، والحجاج. وبعضهم أدخل بعضها في بعض وهكذا. والحق عندي: أن أنواع الحكم الوضعي خمسة فقط وهي: " السبب "، و " الشرط "، و " المانع "، و " العزيمة "، و " الرخصة ". أما العلَّة، والصحة، والفساد، والتقديرات الشرعية، والحجاج، والأداء، والإعادة، والقضاء، فهي تدخل ضمن السبب، ولا تخرج عنه، وسأبين ذلك - إن شاء اللَّه - في موضعه: وللكلام عن هذه الأنواع لا بد من عقد المطالب التالية: المطلب الأول: في السبب. المطلب الثاني: في الشرط. المطلب الثالث: في المانع. المطلب الرابع: في العزيمة والرخصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 المطلب الأول في السبب ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: في حقيقة السبب: أولاً: السبب لغة. ثانيا: السبب اصطلاحا. المسألة الثانية: في تقسيمات السبب. المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء. المسألة الرابعة: في العلَّة: أولاً: العِلَّة لغة. ثانيا: العِلَّة اصطلاحاً. ثالثا: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟ المسألة الخامسة: الصحة والفساد: أولاً: الصحة والفساد لغة. ثانياً: الصحة والفساد اصطلاحاً. ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية، أو هما من الأحكام العقلية؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام التكليفية؛؟ خامساً: المقصود بالصحة في العبادات. سادساً: المقصود بالصحة في المعاملات. سابعاً: هل الفاسد والباطل مترادفان؟ المسألة السادسة: التقديرات الشرعية والحجاج. المسألة السابعة: الأداء والإعادة والقضاء: أولاً: تعريف الأداء. ثانيا: تعريف الإعادة. ثالثاً: تعريف القضاء. رابعاً: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف، أو مرض آخر في رمضان فافطروا، فلما انقضى رمضان صاموا تلك الأيام التي أفطروها، فهل يسمى فعلهم هذا قضاء أو أداء؟ خامسا: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟ سادساً: الدليل الموجب للقضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 المسألة الأولى: حقيقة السبب: أولاً: السبب في اللغة هو: كل ما يتوصل به إلى مقصود " ما " لذلك تسمى الطريق، والحبل، والباب أسبابا؛ لأن الطريق موصل إلى المكان المقصود، والحبل موصل إلى الماء ونحوه، والباب موصل إلى داخل البيت. ثانيا: السبب في الاصطلاح: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف السبب، وأقرب تعريفات السبب إلى الصحة وأبعدها عن الخطأ هو: " ما يلزم من وجوده الوجود، ويلزم من عدمه العدم لذاته ". شرح التعريف وبيان محترزاته: السبب هو وصف ظاهر منضبط جعله الشارع علامة على الحكم، وربط وجود الحكم بوجوده، وعدم الحكم بعدمه، فيلزم من وجود السبب وجود الحكم، ويلزم من عدم السبب عدم الحكم، كدخول الوقت، وبلوغ النصاب، فيلزم من وجود دخول الوقت وجوب الصلاة، ويلزم من عدم دخول الوقت عدم وجوب الصلاة، ويلزم من وجود بلوغ النصاب وجوب الزكاة، ويلزم من عدم البلوغ عدم وجوب الزكاة، وهكذا. وقولنا: " ما يلزم من وجوده الوجود " أخرج الشرط؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم كالطهارة فإنها شرط لصحة الصلاة، ولكن قد توجد الطهارة ومع ذلك لا يلزم صحة الصلاة؛ لاحتمال عدم دخول الوقت، أما السبب فيلزم من وجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 دخول الوقت وجوب الصلاة طى هذا المكلف الذي دخل عليه الوقت، ويلزم من وجود السرقة: وجود الحكم وهو قطع اليد. وخرج بهذه العبارة أيضا المانع؛ لأن المانع يلزم من وجوده العدم. وخرج المانع - أيضاً - من قولنا: " ولا يلزم من عدمه العدم "، لأن المانع لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم مثل " الذين " يلزم من وجوده عدم الزكاة، ولكن لا يلزم من عدمه وجود ولا عدم، فلو لم يكن على المسلم دين فلا يلزم من ذلك وجوب الزكاة عليه؟ لاحتمال فقره مع عدم الدين، ولا يلزم عدم وجوب الزكاة؟ لاحتمال أن يكون عنده نصاب قد حال عليه الحول فتلزمه الزكاة. وقولنا: " لذاته " أي: لذات السبب، وأخرجنا به ما لو قارن السبب فقدان شرط، أو وجود مانع مثل: أن يملك النصاب، لكن لم يدر عليه الحول، فهنا لا تجب عليه الزكاة لا لأن ذات السبب لم يتوفر، بل توفر ووجد، ولكن انتفى الشرط وهو حولان الحول، كذلك لو ملك النصاب وحال عليه الحول، لكن عليه دين، فهذا لا تجب عليه الزكاة مع توفر السبب. فهنا لا يلزم من وجود السبب وجود الحكم، ولكن لا لذاته، بل لأمر خارج عنه وهو انتفاء الشرط، أو وجود مانع. *** المسألة الثانية: في تقسيمات السبب: السبب ينقسم بالنظر إلى اعتبارات وجهات مختلفة إلى خمسة تقسيمات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 التقسيم الأول: باعتبار قدرة المكلف: ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مقدور عليه "، و" سبب غير مقدور عليه ". أما القسم الأول - وهو: السبب المقدور عليه - فهو: ما كان داخلاً تحت كسب المكلف وطاقته.، بحيث يستطيع فعله أو تركه كالقتل، والسرقة، وشرب الخمر بالنسبة لما يترتب عليها - من العقوبات، وكذا عقد البيع؛ لانتقال الملك وحل الانتفاع، وكذا: عقد النكاح لحل الاستمتاع. فهذه يجتمع فيها خطاب التكليف والوضع، كما قلنا سابقا. أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المقدور عليه - فهو: ما لم يكن من كسبه ولا دخل له في تحصيله، أو عدم تحصيله مثل: زوال الشمس، أو غروبها، سبب لوجوب الصلوات، والموت سبب لانتقال الملك، فهذه الأمور لا يتعلق بها خطاب تكليف؛ لأن التكليف لا يكون إلا بمقدور، كما قلنا سابقا. التقسيم الثاني: باعتبار المشروعية: ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب مشروع "، و"سبب غير مشروع ". أما القسم الأول - وهو: السبب المشروع - فهو: ما كان سببا للمصلحة أصالة، وإن كان مؤديا إلى بعض المفاسد تبعا مثل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكالجهاد في سبيل اللَّه، فإنهما سببان لإقامة الدين، وإعلاء كلمة اللَّه، وإظهار شعائر الإسلام، وإن أدى في الطريق إلى نوع من المفاسد كإتلاف نفس، وإضاعة أموال، كذا إقامة الحدود والقصاص سبب للمصلحة أصالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المشروع - فهو: ما كان سببا للمفسدة أصالة، وإن ترتب عليه نوع من المصلحة تبعا مثل: القتل، فإنه سبب غير مشروع، وإن ترتب عليه بعض المصالح كميراث ورثة المقتول. الئقسيم الثالث: باعتبار المناسبة: ينقسم السبب باعتبار المناسبة للحكم وعدم ذلك إلى قسمين: " سبب مناسب للحكم "، و " سبب غير مناسب للحكم ". أما القسم الأول - وهو: السبب المناسب للحكم - فهو: الذي يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة يدركها العقل مثل: السرقة بالنسبة لعقوبة القطع، حيث إنها تحقق مصلحة حفظ الأموال وتدفع مفسدة ضياعها، وكذا عقوبة الزنا، فإنها تحقق مصلحة حفظ الأنساب والأعراض، وكذا الإسكار لتحريم الخمر، فإن الإسكار - يتضمن ضياع العقول فنهى عن شرب الخمر لمصلحة، وهي حفظ العقول. أما القسم الثاني - وهو: السبب غير المناسب - فهو: الذي لا يترتب على شرع الحكم عنده تحقيق مصلحة، أو دفع مفسدة، مثل دلوك الشمس، فهو سبب لوجوب الظهر، وشهود الشهر بالنسبة لوجوب صومه. التقسيم الرابع: باعتبار مصدره: السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى ثلاثة أقسام: " سبب شرعي "، و" سبب عقلي "، و " سبب عادي ". أما القسم الأول - وهو: السبب الشرعي - فهو: ما كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 مستمداً من الشرع فقط كالوقت بالنسبة لوجوب الصلاة، وبلوغ النصاب بالنسبة لوجوب الزكاة. أما القسم الثاني - وهو: السبب العقلي - فهو: ما كان مستمداً من العقل، ولم يكن ثابتاً عن طريق الشرع كوجود النقيض، فإنه سبب في انعدام نقيضه عقلاً، لعدم اجتماع النقيضين كالموت سبب لعدم الحياة، وهكذا. أما القسم الثالث - وهو: السبب العادي - فهو: ما كان مستمداً من العادة الألوفة المتكرر وقوعها كالذبح، فإنه عادة يتسبب في إزهاق الروح في العادة. والمراد بالسبب في الحكم الوضعي هو السبب الشرعي فقط. التقسيم الخامس: باعتبار ذاته: ينقسم السبب بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب قولي "، و"سبب فعلي ". أما القسم الأول - وهو: السبب القولي - فهو: ما كان عماده القول كصيغ العقود مثلاً من بيع، وشراء، وهبة، وصدقة، وصيغ التصرفات كالطلاق، والعتاق، والظهار، والرجعة، والنكاح. وأما القسم الثاني - وهو: السبب الفعلي - فهو: ما كان ناشئاَ عن الفعل كالقتل، وشرب الخمر، والسرقة، وإحياء الموات، ونحو ذلك. فإن قلت: هل يوجد فرق بين السبب القولي والفعلي؟ أقول: نعم بينهما فرق في الحكم؛ حيث إن الأسباب القولية لا تصح من السفيه، والمحجور عليه، أما الأسباب الفعلية فإنها تصح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 منه، فمثلاً: لو وطأ المحجور عليه أمته فإنها تصير أم ولد، كذلك لو احتطب، أو اصطاد، أو قتل، أو سرق، أو نحو ذلك فإنه يترتب على تلك الأسباب آثارها. بخلاف ما لو أعتق عبده، وكذا لو اشترى، أو وهب، أو باع، أو تصدق، ونحو ذلك من الأسباب القولية، فإنه لا يترتب عليها أثر. وتعليل ذلك: أن أقواله يمكن إلغاؤها - كما قال ابن القيم في "بدائع الفوائد " -: فإنها مجرد كلام لا يترتب عليه شيء، وأما الأفعال فإنها إذا وقعت فلا يمكن إلغاؤها؛ فلا يمكن أن يقال لمن سرق، أو قتل، أو وطأ أمَته وولدت، أو أتلف: إنه لم يسرق، ولم يقتل، ولم يستولد له ولد، ولم يتلف شيئاً، وقد وجدت منه هذه الأفعال فأجرى ذلك مجرى المأذون له في صحة أفعاله. التقسيم السادس: باعتبار اقتران السبب بالحكم وعدم ذلك: السبب ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين: " سبب متقدم على الحكم "، و " سبب مقترن به ". أما القسم الأول - وهو: السبب المتقدم على الحكم - فهو: الأصل، وهو أكثر الأحكام مثل الأسباب الموجبة للصلوات، والزكاة، والحج، والبيع، والنكاح. أما القسم الثاني - وهو: السبب المقارن للحكم - فهو: يقع كثيراً في الشريعة مثل: شرب الخمر، والزنا، والسرقة، وقطع الطريق، ومثل: قتل الكافر في الحرب، فإنه سبب لاستحقاق سلبه فوراً، ومثل إحياء الموات، فانه سبب فوري للملك وهكذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المسألة الثالثة: في إطلاقات السبب عند الفقهاء: الأصول لم يختص بإضافته إلى الفقه إلا لكونه مفيداً له ومحققاَ للاجتهاد فيه، وإذا كان كذلك، فالتوقع أن يكون الفقهاء تابعين للأصوليين في اعتبار حقيقة السبب. لكن الواقع من الفقهاء غير ذلك فهم في كتب الفروع يطلقون لفظ " السبب " على عدة أمور قد تبدو مخالفة لما اصطلح عليه الأصوليون في مفهوم السبب، لذلك أتيت بهذه المسألة تنبيهاً على ذلك فأقول: إن الفقهاء يطلقون لفظ " السبب " على أربعة إطلاقات هي كما يلي: الإطلاق الأول: أنهم يطلقونه في مقابل المباشرة فقالوا: لو حفر زيد بئراً، ثم جاء عمرو ودفع محمداً في البئر، فتردى فيها، فهلك محمد، فإن الحافر - وهو زيد - صاحب سبب، والمردي - وهو عمرو - صاحب علَّة، لأن الهلاك بالتردية، لا بالحفر، ولكن وقع ذلك عند وجود البَئر فسموا الحافر سبباً، والدافع مباشراً، وكذلك لو ألقى شخص شخصاً آخر من شاهق فتلقاه آخر بسيف، فإن الضمان على المتلقي بالسيف لأنه مباشر، وهناك أمثلة كثيرة على هذا تجدها مبسوطة في قواعد ابن رجب، والأشباه والنظائر للسيوطي وغيرهما. الإطلاق الثاني: أنهم يطلقونه على عِلَّة العلَّة، حيث سمّوا الرمي سبباً للقتل من جهة: أنه سبب للعلَّة، فَكان على التحقيق عِلَّة العلَّة، لأنه علَّة للإصابة، والإصابةَ عِلَّة لزهوق النفس، ولكن لما حصل الموت بالإصابة التوسطة بين الرمي والزهوق لا بالرمي كان الرمي شبيهاً بالسبب في وضع اللسان وهو: ما كان مفضياً إلى الشيء وطريقاً إليه فسمَّوه سبباً لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وحكم هذا السبب حكم العلَّة من كل وجه، فيضاف أثر الفعل إليه؛ لأنه لما أضيفت العلَّة إليه كان بمنزلتها، ولهذا سمي " علَّة العِلَّة "، ويسميه الحنفية السبب في معنى العِلَّة ". الإطلاق الثالث: أنهم يطلقونه على العِلَّة الشرعية بدون شرطها كملك النصاب دون حولان الحول، فإنَّ ملك النصاب سبب في وجوب الزكاة، لكنه لا بد من حولان الحول في وجوبها، فيطلق السبب على ملك النصاب دون حولان الحول مع أنه لا بد منهما في الوجوب. وكذا اليمين دون الحنث فإنها سبب في وجوب الكفارة، لكنه لابد من الحنث في وجوب الكفارة، فيطلق السبب على اليمين دون الحنث مع أنه لا بد منهما في الوجوب. ويراد بهذا السبب ما تحسن إضافة الحكم إليه كما يقال: " نصاب الزكاة "، و " كفارة اليمين ". ويسميه الحنفية بالسبب المجازي. الإطلاق الرابع: أطلقوه على العلَّة الشرعية الكاملة التي توجب الحكم وهي: المجموع المركب من مقتضي الحكم - وهو المعنى الطالب له - وشرطه وانتفاء المانع، ووجود الأهل - وهو المخاطب به - ووجود المحل - وهو: ما يتعلَّق به الحكم - فالسبب - على هذا - بمعنى العلة يقال: " سبب الحكم كذا "، والمراد بذلك علته. ووجه إطلاق السبب على العِلَّة الشرعية الكاملة: أن العلَّة في معنى العلامة المظهرة للحكم؛ إذ أنها لا توجب الحكم لذاتهاً، بل بإيجاب اللَّه تعالى لها فأشبهت السبب من هذه الناحية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 والخلاصة: أن الإطلاق الأول المراد به إيجاد الشرط؛ لأن حفر البئر شرط لوقوع الهلاك؛ لكونه إزالة للمانع؛ إذ لولا الحفر لاستمسكت الأرض ولم يقع الهلاك، فيكون المراد بالمباشرة هنا: إيجاد العِلَّة، وبالتسبب إيجاد الشرط، وهكذا. أما الإطلاقات الثلاثة الباقية فهي تنتظم في سلك العِلَّة؛ فالرمي عِلَّة العلَّة؛ لكونه علَّة للإصابة، والإصابة علَّة للزهوقَ، والنصاب بدون الحول عِلَّة، وَلكن تخلَّف شرطها، والإطلاق الرابع أطلقوه على العِلَّة الكاملة. *** المسألة الرابعة: العِلَّة: نظراً إلى أن العلَّة تعتبر قسما من أقسام السبب، فقد جعلناها من مسائل السبب، وإليك بيانها فأقول: أولاً: العِلَّة لغة: تطلق على إطلاقات، ولكن أقربها إلى الصحة هو: أنها بمعنى الأمر المغير للشيء، ومنه سمي المرض عِلَّة؛ لأن حالة المريض تتغير به من الصحة والقوة والنشاط إلى المرض والضعف والسقم. وهذا أنسب التعاريف اللغوية للعلَّة؛ لتناسبه مع المعنى الاصطلاحي وهو: التغيير، فكما يتغير الَجسم حالة حصول العلَّة، وهي المرض من القوة إلى الضعف، فكذلك إذا وجدت العِلًّة في المحل، فإنها تغير حكمه مما كان عليه في الأول. ثانيا: العلة اصطلاحا: لقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف العِلَّة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فقيل: إن العِلَّة هي: المعرِّف للحكم. وهو تعريف فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء. وقيل: إن العِلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه تعالى. ذهب إلى ذلك الغزالي، وأكثر الحنفية. وقيل: إن العِلَّة: الباعث على الحكم. ذهب إلى ذلك ابن الحاجب والآمدي. بيان نوع الخلاف: الحق: أن الخلاف بين تلك الأقوال الثلاثة خلاف لفظي - كما ذكرت ذلك في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فهو راجع إلى تفسير كل أصحاب مذهب لما قالوه. فكل أصحاب مذهب نظروا إلى جهة معينة غير ما نظر إليها الآخر، ففسَّر العِلَّة باعتبار تلك الجهة. فمن قال بأن العِلَّة: المعرِّف للحكم: نظر إلى أن الحكم يضاف إليها، فيقال: وجب القصاص للقتل، ووجب القطع للسرقة، وهكذا. ومن قال بأن العلَّة: المؤثر أو الموجب للأحكام بجعل اللَّه لها: يرى أن العِلَّة تستلزمَ الحكم استلزاما عاديا بجعل اللَّه تعالى، أي: أن كلًّا منَ الوصف والحكم من اللَّه، وقد جرت العادة بأنه متى ما وجد السبب وجد المسبب. ومن قال بأن العلَّة: الباعث على الحكم: يرى أنها لا بدَّ وأن تكون مشتملة على حكمة صالحة أن تكون مقصودة للشارع. وأصحاب هذه الأقوال متفقون على أن الموجب للحكم - حقيقة هو اللَّه ت تعالى - وهو: المؤثر الحقيقي وحده، دون العلل والأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 واتفقوا على أن اللَّه حكم بوجوب ذلك الأثر بذلك الأمر وناطه به، ورتبه عليه. واتفقوا - أيضاً - على أن الأحكام معللة بمصالح العباد، وإن اختلفت العبارات في مؤدى ذلك حسب ما يؤدي إليه التصور، ويدل على ذلك: أن الكل يقول بالقياس. فالخلاف - إذاً - في العبارة - فقط - دون المعنى. ثالثاً: هل يوجد فرق بين السبب والعِلَّة؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن العِلَّة تعتبر من أقسام السبب. وهو من التقسيم الثالث من تقسيمات السبب السابقة، وعلى هذا فإن السبب يكون أعم من العِلَّة. وهذا مذهب أكثر العلماء. وهذا هو الصحيح عندي، ولهذا جعلتها من مسائل السبب، وإليك بيان ذلك: أن السبب ينقسم إلى قسمين: " سبب معقول المعنى "، و " سبب غير معقول المعنى ". فإن كان الأول - أي: كان السبب مما يدرك العقل ارتباط الحكم به -: كان سبباً وعلَّة كقطع يد السارق، فإن السرقة تسمى سببا وعلَّة للقطع، وكذاً: السفر المبيح للفطر، فإن السفر يُسمَّى سببا وعِلَّة لإباحة الفطر. وإن كان الثاني - أي: إن كان السبب مما لا يدرك العقل ارتباط الحكم به -: فإنه يسمى سببا لا عِلَّة، مثل: دخول الوقت، وشهود الشهر. فدخول الوقت يسمى سبباً لوجوب الصلاة، ولا يسمى عِلَّة " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 لعدم إدراكنا للمناسبة بين دخول الوقت ووجوب هذه الصلاة بعينها، كذلك شهود شهر رمضان يسمى سببا لوجوب الصوم، ولا يسمى عِلَّة؛ لعدم إدراكنا للمناسبة بين شهود الشهر ووجوب رمضان. فالسبب - على ذلك - يشمل الوصف المناسب وغير المناسب، فيكون أعم من العِلَّة. المذهب الثاني: أن السبب والعِلَّة متفقان، وهما اسمان لمسمى واحد. هذا مذهب بعض العلماء. واحتجوا بقولهم: إننا لما دققنا النظر فيهما وجدنا أوجه التشابه بينهما واضحة، وهي كما يلي: الوجه الأول: أن كلًّا منهما ينبني عليه الحكم ويرتبط به وجوداً وعدماً. الوجه الثاني: أن كلًّا منهما أمارة وعلامة على وجود الحكم. الوجه الثالث: أن للشارع حكمة في ربط الحكم بكل واحد منهما وإضافته إليه، وبنائه عليه. فإذا كان الأمر كذلك، فإن معناهما واحد، فالسفر يطلق عليه سبب، ويطلق عليه عِلَّة لإباحة الفطر، ودخول الوقت سبب وعلَّة على وجوب الصلاة. فأصحاب هذا المذهب: جعلوا السبب مرادفا للعلَّة، واسما من أسمائه التي تطلق عليه دون فرق بينهما. المذهب الثالث: أن السبب والعِلَّة متغايران تمام التغاير، فهما وصفان متباينان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 ذهب إلى ذلك الحنفية؛ حيث عرفوا السبب بأنه: " ما يكون طريقا إلى الحكم من غير أن يضاف إليه وجوب ولا وجود، ولا يعقل فيه معاني العلل ". فهنا قد صرَّحوا بأن السبب لا يضاف إليه وجود الحكم، ولا يعقل فيه معنى التعليل، بخلاف العِلَّة، فإنه يضاف إليها الحكم أصالة عندهم، ويكون بين هذا الوصف الذي ورد مع الحكم وبين الحكم مناسبة ظاهرة. إذن: لا يطلق أحدهما على الآخر - عند الحنفية - إلا مجازاً -. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي في هذه المسألة، لا يترتب عليه أي أثر، وذلك لأنا عرفنا أن كثيراً من العلماء يقسمون السبب إلى قسمين: " سبب مناسب للحكم " و " سبب غير مناسب للحكم "، وبهذا التقسيم تلتقي المفاهيم، ويتحد المدلول لدى الجميع. المسألة الخامسة: الصحة والفساد: نظراً لكون الصحة والفساد يدخلان في السبب من جهة: أن الفعل إذا استوفى أركانه وشروطه، فإن هذا سبب لصحته عند الله وترتب آثاره عليه، وأن الفعل إذا لم يستوف أركانه أو شروطه، فإن هذا سبب لفساده وعدم ترتب آثاره عليه، أقول: نظراً لذلك فإنا جعلناهما من مسائل السبب، وإليك بيانهما فأقول: أولاً: الصحة والفساد لغة: الصحة لغة: خلاف السقم، وهي: عبارة عن السلامة وعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الاختلال، فيقال: " صح فلان من عِلَّته "، أي: أصبح لا سقم فيه. والفساد لغة: عبارة عن تغير الشيء عن الحالة السليمة إلى حالة سقيمة، والمفسدة نقيض المصلحة. ثانيا: الصحة والفساد اصطلاحا: الصحة في الاصطلاح هي: موافقة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع. والمقصود بالوجهين: " موافقة الشرع "، و " مخالفته ". ومعناه واضح وهو: أن الصحة هي: صفة للفعل الذي يقع موافقا للشرع؛ نظراً لاستجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط والأركان، وانتفاء الموانع. وأما الفساد فهو عكس الصحة، فيكون هو: مخالفة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع. فيكون الفساد: صفة للفعل الذي يقع مخالفا للشرع؛ نظراً لعدم استجماعه ما يعتبر فيه شرعا من الشروط والأركان، أو وجود مانع. فالصلاة فعل يوصف بأنه صحيح إذا وافق أمر الشارع بأن يكون مستجمعا للشروط والأركان التي وضعها الشارع، مع عدم المانع، وفعل الصلاة يوصف بأنه فاسد إذا لم يوافق أمر الشارع بأن تخلف ركن أو شرط، أو وجد مانع. ثالثا: هل الصحة والفساد من الأحكام الشرعية أو هما من الأحكام العقلية؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 المذهب الأول: أنهما من الأحكام الشرعية. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن معرفة اشتجماع الفعل لشروطه وأركانه، وارتفاع موانعه موقوفة على معرفة الركن، والشرط، والمانع، ومعرفة هذه الأمور الثلاثة موقوفة على خطاب الشارع اتفاقا، فتكون الصحة والفساد لا يعرفان إلا من طريق الشرع. المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام العقلية: ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، والعضد، وبعض العلماء. دليل أصحاب هذا المذهب: استدل هؤلاء بقولهم: إن كون الفعل موافقا لأمر الشارع، أو مخالفا له، وكون ما فعل تمام الواجب حتى يكون مسقطا للقضاء، أو عدم كونه كذلك لا يحتاج إلى توقيف من الشارع، بل يعرف ذلك بمجرد العقل، فهو ككونه مؤديا للصلاة أو تاركا لها سواء بسواء، فلا يكون حصوله في نفسه ولا حكمنا به شرعيا، بل عقلي مجرد. جوابه: يجاب عن ذلك بأن الصحة والفساد والحكم بهما أمور شرعية، وكون الفعل مسقطا للقضاء، أو موافقا للشرع هو من فعل الله تعالى، وتصييره إياه سببا لذلك، فما الموافقة، ولا الإسقاط بعقليين، لأن للشرع مدخلا فيهما، ولو لم تكن الصحة شرعية لم يصح أن يقضي القاضي بها عند اجتماع شرائطها، لكنه يقضي بها بالإجماع، فدل على أنها شرعية؛ لأنه لا مدخل للأقضية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 العقليات، وليس للقاضي أن يحكم إلا بما يصح أن يكون حكما من الشارع. بيان فوع الخلاف: الخلاف بين أصحاب المذهبين لفظي، لأن كلًّا من الفريقين أقر الصحة والفساد، لكن أصحاب المذهب الأول أقروهما على أنهما حكمان شرعيان، والآخرون أقروهما على أنهما حكمان عقليان. رابعاً: هل الصحة والفساد من الأحكام الوضعية، أو من التكليفية؟ اختلف القائلون بأن الصحة والفساد من الأحكام الشرعية - فيما بينهم -: هل هما من الأحكام الوضعية، أو هما من الأحكام التكليفية على مذهبين: المذهب الأول: أنهما من الأحكام الوضعية. وهو ما ذهب إليه كثير من العلماء كالغزالي، والآمدي، والإسنوي، والشاطبي، وابن السبكي، والزركشي، والفتوحي الحنبلي. وهو الصحيح؛ لأمرين: أولهما: أن الصحة والفساد قد ثبت أنهما من الأحكام الشرعية - كما سبق -. والحكم الشرعي ينقسم إلى قسمين فقط: " حكم تكليفي "، و"حكم وضعي ". ولا يمكن أن يكونا من الحكم التكليفي؛ لأنه بعد النظر في الصحة والفساد تبين عدم وجود اقتضاء ولا تخيير فيهما، حيث إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 الحكم بصحة العبادة وبطلانها، والحكم بصحة المعاملة وبطلانها لا يفهم منه اقتضاء ولاتخيير. فلم يبق إلا أن الصحة والفساد من الحكم الوضعي. ثانيهما: أن الفعل إذا توفرت فيه جميع أركانه وشروطه، فإنه يوصف عند الشارع بالصحة، وما يتبع ذلك من الآثار المترتبة عليه، والفعل إذا لم يستوف أركانه وشروطه، فإنه يوصف بالفساد وعدم ترتب آثاره عليه، وهذه المعاني تدخل في خطاب الوضع حقيقة؟ لأنها تكون بذلك من معاني السبب، والسبب حكم وضعي، ووصف بعض الأصوليين كالغزالي في " المستصفى " السبب بالصحة والفساد، فثبت بذلك: أن الصحة والفساد من أحكام الشرع الوضعية، وهذا هو الذي جعلنا نبحث الصحة والفساد ضمن مسائل السبب. المذهب الثاني: أن الصحة والفساد من الأحكام التكليفية: ذهب إلى ذلك فخر الدين الرازي وكثير من أتباعه، والبيضاوي. دليل أصحاب هذا المذهب: أن الصحة والفساد يرجعان - في الحقيقة - إلى خطاب التكليف، ولا يخرجان عن مضمونه ومدلوله؛ حيث إن معنى صحة الشيء: إباحة الانتفاع به، ومعنى الفساد: حرمة الانتفاع به والإباحة والحرمة من الأحكام التكليفية. جوابه: يجاب عنه بأن إرجاع الصحة والفساد إلى الحكم التكليفي أمر فيه عسر وتكلف لا يخفى، فهو لا يساعد عليه اللفظ، ولا ينتظمه المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 أما قولهم: إن الصحة هي إباحة الانتفاع فمنقوض - كما قال الإسنوي في " نهاية السول " - بالمبيع إذا كان الخيار فيه للبائع، فإنه صحيح، ولا يباح للمشتري الانتفاع به. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن كلًّا من أصحاب المذهبين أقر بالصحة والفساد وبحثهما على أنهما من الأحكام الشرعية، لكن أصحاب المذهب الأول جعلوهما داخلين ضمن الأحكام الوضعية، وأصحاب المذهب الثاني جعلوهما داخلين ضمن الأحكام التكليفية، وتابعين لتلك الأحكام، وهذا مجرد اختلاف في التعبير والمنهج فقط ولا أثر له في الفروع. خامسا: المقصود بالصحة في العبادات: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الصحة في العبادات هي: إسقاط القضاء. أي: أن الصحة في العبادات: ما وافق الأمر، وأجزأ، وأسقط القضاء. فمعنى سقوط القضاء: عدم المطالبة بالفعل مرة ثانية؛ بناء على المطلب الأول كالصلاة إذا وقعت بجميع واجباتها مع انتفاء موانعها، فعدم وجوب قضائها هو: صحتها. هذا ما ذهب إليه الفقهاء. وهو الصحيح؛ لأنه موافق للغة؛ فإن الآنية إذا كانت صحيحة من جميع الجهات، فإن العرب تسميها صحيحة، وإذا كانت صحيحة من جميع الجهات إلا من جهة واحدة، فإن العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 لا تسميها صحيحة، وهذه الصلاة - مثلاً - قد تطرق إليها الخلل من جهة ذكر الحدث، فلا تكون صحيحة كالآنية المكسورة من جهة. المذهب الثاني: أن الصحة في العبادات هي موافقة الأمر الشرعي في ظن المكلف، لا في الواقع، سواء وجب القضاء، أو لم يجب، وعليه فكل من أمر بعبادة فوافق الأمر بفعلها بأن أتى بها على الوجه الذي أمر به، فإنه يكون قد أتى بها صحيحة، وإن اختل شرط من شروطها، أو وجد مانع. ذهب إلى ذلك المتكلمون، وقالوا: إن صلاة من ظن أنه متطهر صحيحة عند المتكلمين، وذلك لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعاً هو حصول الظن - فقط -؛ لأنه هو الذي في وسع المكلَّف. أما على مذهب الفقهاء، فإن تلك الصلاة غيو صحيحة؛ لكونها لم تسقط القضاء؛ لاحتمال ظهور بطلان الظن فيجب القضاء. وكذلك فاقد الطهورين إذا صلى على حسب حاله على الوجه الذي أمر به في ذلك الوقت، فإن صلاته صحيحة عند المتكلمين؟ لأنه موافق للأمر الشرعي، وهي فاسدة عند الفقهاء؛ لأن شرط الصلاة عند الفقهاء الطهارة ولم توجد في نفس الأمر. جواب الفقهاء عما قاله المتكلمون: قال الفقهاء: إن مذهب المتكلمين باطل؛ لأنه لو كانت الصحة هي موافقة الأمر - فقط - لكان الحج الفاسد صحيحا؛ لأنه مأمور بإتمامه، والمضي - فيه، فالمتمم له موافق للأمر بإتمامه، فيجب أن يكون صحيحاً على زعمكم، لكنه فاسد بالاتفاق. اعتراض المتكلمين على ذلك الجواب: قال المتكلمون: لا نُسَلِّمُ أن الحج الفاسد قد وقع على موافقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الأمر، بل إنه وقع على مخالفته، حيث فعل فيه ما أفسده، وحينئذ فانتفاء صحته، إنما هو لانتفاء موافقته للأمر، وأما كون المفسد له مأموراً بإتمامه، فلا يلزم منه أن يكون امتثاله الأمر يوجب الصحة؛ الأمر بإتمامه طرأ على الأمر الأول؛ حفظاً لحرمة الوقت من الهتك بعد انعقاد الإحرام، أو أنه عقوبة للمفسد له على إفساده بمنعه من التخفيف عليه، ومعارضته له بنقيض قصده؛ قياساً على من وطأ امرأته في نهار رمضان، فإنه مأمور بالإمساك بقية يومه مع وجوب القضاء والكفارة. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة قد اختلف فيه على قولين: القول الأول: إن الخلاف لفظي. وهذا هو الصحيح عندي؛ حيث إنه بعد التحقيق والتدقيق قد ثبت أنه لا يترتب على هذا الخلاف أي أثر، لأن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على الأحكام: فالمصلي الذي ظن نفسه أنه متطهر، ثم تبين بعد فراغه أنه لم يكن متطهراً اتفقوا على أنه موافق لأمر الله - تعالى - واتفقوا - أيضا - على أنه مثاب على فعله؛ لقصده امتثال أمر اللَّه تعالى. واتفقوا - أيضاً - على أنه لا يجب على المصلي القضاء إذا لم يطلع على الحدث، واتفقوا على أنه يجب عليه القضاء إذا اطلع على الحدث. فالفقهاء والمتكلمون يقولون بوجوب إعادة الصلاة على من صلى ظاناً أنه متطهر، فبان خلافه، ولكنهما، يختلفان في وصف هذه الصلاة قبل إعادتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 فالفقهاء يقولون: إنها لا توصف بالصحة؛ لأنها لم تسقط القضاء؛ لأن المكلف لا يزال مطالبا بفعلها مرة ثانية. والمتكلمون يقولون: إنها توصف بالصحة؛ نظراً لموافقتها لأمر الشارع، وذلك لأن الشرع قد أمر المصلي أن يصلي بطهارة متيقنة، أو مظنونة، وقد جعل ذلك على حسب حاله، لذا قالوا: إنها توصف بالصحة نظراً لهذه الموافقة، وقالوا: أما إعادتها فقد جاء من أمر آخر وهو: تبين الخطأ في الظن. القول الثاني: أن الخلاف معنوي؛ حيث قال أصحاب هذا القول: إن الخلاف قد ترتب عليه آثار في بعض المسائل الفقهية، ومنها: 1 - صلاة من ظن نفسه أنه متطهر ثم تبين بعد فراغه أنه لم يكن متطهراً. فعلى المذهب الأول وهو مذهب الفقهاء: الصلاة غير صحيحة؟ لكونها لم تسقط القضاء. وعلى المذهب الثاني - وهو مذهب المتكلمين: فإن الصلاة صحيحة؛ لأن المعتبر في الموافقة للأمر شرعا هو حصول الظن؟ حيث إنه هو الذي في وسع المكلَّف. 2 - صلاة فاقد الطهورين - الماء والتراب - إذا صلى على حسب حاله غير صحيحة عند الفقهاء، وعليه إعادتها مرة ثانية إذا وجد ماء أو ترابة على الأرجح، أما عند المتكلمين فصلاته صحيحة. جوابه: قلت: ما رتبه أصحاب القول الثاني من المسائل الفقهية للدلالة على أن الخلاف معنوي غير مسلم؛ حيث إن الفقهاء والمتكلمين اتفقوا على أن المصلي وهو قد ظن نفسه أنه متطهر، فبان أنه غير متطهر يجب عليه القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والقائلون: إن المتكلمين لا يوجبون القضاء بنو ذلك على فهمهم من تصريح المتكلمين بالصحة في صلاة من ظن الطهارة، وهو محدث. وهذا البناء غير صحيح؛ لأنه لا يلزم من وصف المتكلمين للصلاة بالصحة أنهم لا يوجبون قضاءها، فإنه لا تلازم بين الوصف بالصحة وسقوط القضاء، فليس كل صحيح يسقط، فالمتكلمون - أنفسهم - صرحوا بوجوب القضاء، ولكن بأمر جديد، وهو تبين خطأ الظن، ويؤيد ذلك: أن صلاة المتيمم لبرد، أو في الحضر موصوفة بالصحة، ومع ذلك يجب قضاؤها. وهذا الكلام يجاب به عن كل مثال ذكره أصحاب القول الثاني لبيان أن الخلاف معنوي. أما المثال الثاني - وهو مثال فاقد الطهورين، فالكل قد اتفقوا على أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة بالوضوء، أو التيمم. ولكن من قال: إنها صحيحة - وهم المتكلمون - أرادوا أنه مأمور بها تشبيهاً بالمصلين احتراماً للوقت. ومن قال: إنها باطلة أراد أنها غير موافقة لأمر الشارع بالصلاة مع الوضوء عند القدرة على الماء أو التيمم عند العجز، فهي باتفاق غير مسقطة للقضاء. سادسا: المقصود من الصحة في المعاملات: الصحة في المعاملات: ترتب أحكامها المقصودة عليها، وذلك لأن العقد لم يوضع إلا من أجل إفادة مقصوده، كملك المبيع، وملك البضع في النكاح، فإذا أفاد مقصوده فهو صحيح، وحصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 مقصوده هو: ترتب آثار حكمه عليه؛ لأن العقد مؤثر لحكمه وموجب له، وإن لم يكن الأمر كذلك فهو فاسد. إذن يكون الفاسد من العقود: كون الشيء لا يترتب عليه أثره المطلوب منه؛ لوجود خلل في ركنه أو شرطه كبيع المجنون، أو بيع المعدوم، أو بيع الميتة، فكل عقد أو تصرف يفقد ركناً أو شرطاً، فهو فاسد باطل لا يترتب عليه أثره الشرعي من حل، أو ملك، أو انتفاع. فالخلاصة: أن الصحيح هو الذي له ثمرة من حل أو ملك أو انتفاع. والفاسد أو الباطل هو الذي لم يثمر شيئاً ولا يترتب عليه أثر شرعي من حل، أو ملك، أو انتفاع. سابعا: هل الفاسد والباطل مترادفان؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنهما مترادفان. ذهب إلى ذلك الجمهور. وهو الصحيح؛ لأن الباطل لغة بمعنى الفاسد والساقط، يقال: " بطل الشيء ": إذا فسد وسقط حكمه، فإذا لم يفرق بينهما لغة، فوجب عدم التفريق بينهما في الشرع؛ حملاً للمقتضيات الشرعية على مقتضياتها اللغوية؛ لأن الأصل عدم التغيير. وعلى هذا: فتعريف الباطل هو نفس تعريف الفاسد السابق الذكر، فالباطل والفاسد اسمان لمسمى واحد، ولفظان مترادفان، فكل فاسد باطل، وكل باطل فاسد، ومعناهما اصطلاحاً: " مخالفة الفعل ذي الوجهين لأمر الشارع ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فيكون الفساد والبطلان في العبادات: مخالفة أمر الشارع، أو عدم سقوط القضاء بالفعل كالصلاة التي تخلف فيها شرط أو ركن، أو وجد مانع فإنها باطلة وفاسدة. والفساد والبطلان في عقود المعاملات هو: تخلف الأحكام عنها وخروجها عن كونها أسبابا مفيدة للأحكام كالعقد الذي لم يستجمع شروطه وأركانه، فإنه باطل وفاسد، لكونه غير مثمر، ولا يمكن أن تترتب عليه آثاره، أي: أنه غير محصل شرعا للأملاك واستباحة الأبضاع، وجواز الانتفاعات، ونحو ذلك. فلا فرق بين الباطل والفاسد مطلقا عندنا. المذهب الثاني: التفصيل: أما في باب العبادات وباب النكاح من العقود، فإن الفاسد والباطل مترادفان. أما في باب المعاملات، فإنه يوجد فرق بين الباطل والفاسد. هذا ما ذهب إليه الحنفية. أي: أن الحنفية قدْ أثبتوا فرقاً بين الباطل والفاسد في المعاملات، حيث رتبوا على العقود الفاسدة بعض الآثار الشرعية، وجعلوا الفاسد مرتبة متوسطة بين الصحيح والباطل، فهو قسم ثالث مغاير - عندهم - للصحيح والباطل، فقالوا: الصحيح هو؛ ما كان مشروعا بأصله ووصفه جميعاً، أي: ما استجمع أركانه وشروطه، بحيمسا يكون معتبراً شرعاً كالبيع الصحيح. والباطل هو: ما لم يكن مشروعاً بأصله، ولا بوصفه. أي: ما كان فائت المعنى من كل وجه مع وجود الصورة، وذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 إما لانعدام معنى التصرف كبيع الدم والميتة، وإما لانعدام أهلية التصرف كما في بيع الصبي والمجنون. والفاسد: ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه كبيع الدرهم بالدرهمين، فإنه مشروع بأصله من حيث إنه بيع ولا خلل في ركنه، ولا في محله، ولكنه غير مشروع بوصفه، وهو: الفضل؛ لأنه زيادة في غير مقابل، فكان فاسداً، لا باطلاً، لملازمته للزيادة وهي غير مشروعة، ولكن لو حذفت تلك الزيادة لصح البيع ولم يحتج إلى عقد جديد. دليل هذا المذهب: العلَّة التي جعلت الحنفية يفرقون بين الفاسد والباطل في باب المعاملاَت خاصة هي: أنه لما كان المقصود من العبادات هو التعبد - فقط -، وهو لا يكون إلا بالامتثال والطاعة، فإن المخالفة فيها تكون مفوتة للمقصود، فلا يظهر وجه للتفرقة بين باطل وفاسد فيها، فذمة المكلف لا تبرأ بصلاة فاسدة، كما لا تبرأ بصلاة باطلة. أما المعاملات فإنه لما كان المقصود منها أولاً وبالذات هو مصالح العباد الدنيوية، فإن المجال مفتوح فيها، وتحققها في نفسها ممكن حتى مع وجود خلل في وصفها، فلا تنعدم بالكلية إلا إذا كان الخلل فيها راجعاً إلى الحقيقة والماهية. فجعلوا الباطل فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أركان العقد، أو إلى العاقدين، أو إلى محل العقد، كما في بيع الملاقيح - وهي ما في بطون الحوامل من الأجنة - وكما في بيع المضامين - وهي ما في أصلاب الفحول من الماء، فإن بيع الحمل وحده، أو الماء وهو في صلب الفحل غير مشروع ألبتة، وليس امتناعه لأمر عارض، فكان باطلاً لذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وجعلوا الفاسد فيما إذا كان الخلل فيه راجعاً إلى أوصاف العقد الخارجية، لا إلى أركانه، وذلك كما في بيع الدرهم بالدرهمين؟ حيث إن الدراهم في ذاتها قابلة للبيع، وإنما امتنع هذا البيع، نظراً لاشتمال أحد الجانبين فيه بالزيادة، فهو مشروع من حيث إنه بيع، وممنوع من حيث انعقاد الربا، ولذلك قالوا: لو حذفنا تلك الزيادة - وهي الدرهم - لصح البيع. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: إنا لا نُسَلِّمُ تفسير الحنفية للفاسد - وهو: ما كان مشروعاً بأصله غير مشروع بوصفه -؛ لأن كل ممنوع بوصفه، فهو بلا شك ممنوع بأصله، حيث إنه لا يثمر ولا يترتب عليه آثار. فإذا كان الفاسد لا يثمر، والباطل لا يثمر - أيضاً - فهما متساويان ولا فرق بينهما. الجواب الثاني: أن هذا التفريق بين الفاسد والباطل غير مسلم من جهة النقل، بيان ذلك: أن مقتضى هذا التفريق هو: أن يكون الفاسد هو: الموجود على نوع من الخلل، والباطل هو الذي لا تثبت حقيقته بوجه، وقد سمى اللَّه تعالى الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً، حيث قال تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فسمى السموات والأرض فاسدة على تقدير الشريك ووجوده، ودليل التمانع يقتضي أن العالم على تقدير الشريك ووجوده يستحيل وجوده لحصول التمانع لا أنه يكون موجوداً على نوع من الخلل، فقد سمى اللَّه تعالى - هذا - الشيء الذي لا تثبت حقيقته بوجه فاسداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 فالذي لا تثبت حقيقته بوجه يطلق على الفاسد والباطل فلم يكن - على هذا - بينهما فرق. بيان نوع الخلاف: الحنفية لما فرَّقوا بين الباطل والفاسد بنوا على هذا التفريق فروعا فقهية، ومنها: 1 - أن الشخص لو باع داراً بشرط عدم سكناها، أو بيعها، فإن هذا البيع فاسد؛ لأجل الشرط المخالف لمقتضى العقد، وهو غير باطل؛ لأن البيع مشروع في أصله، ولا خلل في أركانه، وإنما لحقه الفساد من جهة الوصف، وهو اشتماله على الشرط الفاسد. 2 - بيع الدرهم بالدرهمين فاسد؛ لأنه مشروع من حيث كونه بيعا، ولكنه ممنوع من اتصافه بالربا المنهي عنه. وقالوا: إن النهي هذا قد ورد لمعنى في غير البيع، وهو الفضل الخالي عن العوض، فلا ينعدم بذلك أصل المشروعية، فكان فاسداً، لا باطلاً. جوابه: قلت: بعد التحقيق والتدقيق ثبت أنه مع تفريع الحنفية على هذا التفريق بين الباطل والفاسد، فإن خلافهم مع الجمهور - وهو مذهبنا - خلاف لفظي لا يترتب عليه آثار؛ فتفريق الحنفية بين الباطل والفاسد في بعض الأحكام لا يعني أن الخلاف بينهم وبين الجمهور معنوي؛ بل هو لفظي؛ لأن منشأ التفرقة في الأحكام ليس هو التفرقة في التسمية، وإنما منشأه عندهم: كون النهي وارداً عن الفعل لأصله، أو لوصفه، فما ورد النهي عنه لأصله لم يصح بحال. وما ورد النهي عنه لوصفه يمكن أن يصح إذا زال هذا الوصف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 فلما اختلفت الأحكام - عندهم - رأوا أن يميزوا بينهما، فاصطلحوا على تسمية أحدهما بالباطل، وتسمية الآخر بالفاسد، إذن اختلاف التسمية نشأ عن اختلاف الأحكام. المسألة السادسة: التقديرات الشرعية، والحجاج: هذان النوعان من أنواع الحكم الوضعي داخلان ضمن السبب، بيان ذلك: أن التقديرات الشرعية هي: إعطاء الموجود حكم المعدوم، أو إعطاء المعدوم حكم الموجود. مثال الأول - وهو: إعطاء الموجود حكم المعدوم -: الماء في حق المريض والخائف. ومثال الثاني - وهو: إعطاء المعدوم حكم الموجود -: المقتول خطأ تورث عنه ديته، حيث إنها لا تملك إلا بعد موته، وهي ليست في ملكه قبل موته، فيُقدر دخوله في ملكه قبل موته حتى تنتقل إلى ورثته، فقدرنا المعدوم - هنا - موجوداً للضرورة. وأما الحجاج فهي التي يستند إليها القضاة في الأحكام كالشهود، والإقرار، واليمين مع النكول، أو مع الشاهد الواحد، فإذا نهضت تلك الحُجَّة عند القاضي وجب عليه الحكم. وهذا لو دققت النظر فيه لوجدته يرجع إلى السبب؛ لأن هذه التقديرات وهذه الحجاج إنما نشأت عن أسبابها، فكانت من قبيل الأسباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 المسألة السابعة: الأداء، والإعادة، والقضاء: بعض العلماء جعل تلك الأمور تقسيماً للحكم باعتبار متعلِّقة، وهو: الفعل؛ لأن هذه الأمور أقسام للفعل الذي تعلق به الحكم. وجعلها فريق آخر من أنواع الحكم الوضعي. والحق: أنها داخلة ضمن السبب؛ لأن دخول الوقت سبب للأداء، وخروجه سبب للقضاء، وبطلان الفعل سبب للإعادة. إذا علمت ذلك فاعلم أن العبادة إما أن يكون لها وقت معين أو لا. أما العبادة التي لم يُعيَن الشارع لها وقتاً، فإما أن يكون لها سبب أو لا. فالعبادة التي لم يعين الشارع لها وقتاً، والتي لها سبب كسجود السهو سببها قراءة آية السجدة، والتي لا سبب لها، كفعل بعض الأذكار المطلقة، فهذه العبادة لا توصف بأداء ولا بقضاء. وأما العبادة التي عين الشارع لها وقتا محدداً، فهي إما أن تقع قبل وقتها القدر شرعاً، أو في وقتها، أو بعد وقتها. فإن وقعت قبل وقتها المقدر شرعا، حيث جوَّزه الشارع: فهو تعجيل مثل إخراج الزكاة قبل تمام الحول، وإخراج زكاة الفطر في أول شهر رمضان، فهذا الإخراج للزكاة يُسمَّى تعجيلاً؛ لأن وقت إخراج الزكاة لا يكون إلا بعد مرور الحول، وإخراج زكاة الفطر يكون في آخر ليلة منه. أما العبادة التي تقع في وقتها القدر شرعا دون أن تسبق بأداء مختل فهو أداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 أما العبادة التي تقع في وقتها المقدر شرعاً، ولكن سبقت بأداء مختل فهو إعادة. وإن فعلت العبادة بعد وقتها المقدر شرعا فهو القضاء. وإليك بيان حقيقة كل واحد من تلك الأقسام: أولاً: تعريف الأداء: الأداء هو: ما فعل أولاً في وقته المقدَّر له شرعاً. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " ما فعل " جنس يشمل الثلاثة كلها: الأداء، والإعادة، والقضاء. قولنا: " أولاً " أخرج الإعادة؛ لأنها تفعل ثانياً لخلل في الأول. قولنا: " في وقته المقدر له " أخرج أمرين: أولهما: القضاء؛ حيث إنه يفعل بعد الوقت المقدر. ثانيهما: ما لم يقدر له وقت كالنوافل المطلقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلا يوصف ذلك بأداء ولا قضاء، ولا إعادة. قولنا: " شرعاً " أي: يجب أن يكون التعيين والتحديد صادراً من الشارع، وخرج بهذا القيد: ما فعل في وقته المقدر له عقلاً كما لو قضى الدين عند المطالبة به، فإنه فعل في وقته المقدر له، وهو: ما يتسع له، ولكن هذا التقدير ليس بالشرع، بل بالعقل، وكذلك الزكاة لو قدَّر الإمام شهراً معيَّناً مثلاً لإخراجها فيه، - فهو توقيت عقلي، لا شرعي. سؤال: هل يشترط وقوع جميع الفعل في وقته المحدد حتى يكون أداء؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 جوابه: لا يشترط هذا، بل لو وقع بعضه في وقته القدر شرعاَ كركعة من الصلاة مثلاً، فالصحيح أن الجميع أداء؛ لأن الركعة من الصلاة مشتملة على معظم وغالب ما بعدها، فهو تكرار لها، فيكون تابعا لها. أما إذا أدرك أقل من الركعة، فالكل يكون قضاء عند الجمهور، كما ذكره النووي في ""روضة الطالبين ". وبعض العلماء يقول: إنه إذا أدرك تكبيرة الإحرام قبل أن يخرج الوقت، فإن الصلاة تكون أداء، وهذا رأي الحنفية، وكثير من الحنابلة. ثانيا: تعريف الإعادة: الإعادة هي: ما فعل ثانيا في وقت الأداء لخلل في الأول. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " مما فعل ": جنس يشمل الأداء، والإعادة، والقضاء. قولنا: " ثانياً ": أخرج الأداء؛ لأنه يفعل أولاً. قولنا: " في وقت الأداء ": أخرج القضاء؛ لأنه يفعل بعد خروج وقت الأداء. قولنا: " لخلل في الأول ": أخرج ما يفعل ثانياً، لكن بدون خلل في الأول كالمنفرد إذا صلى مرة ثانية مع الجماعة، فإن صلاته الأولى ليس فيها خلل، فلا توصف الثانية بالإعادة شرعا، بل هي أداء كالأولى. وعلى هذا فالإعادة قسم من الأداء، وليست قسيما له؛ لأن الأداء في الحقيقة اسم لما يقع في الوقت المحدد شرعاً مطلقا، سواء كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 سابقاً أو مسبوقاً، أو منفرداً، فإن سبق بأداء مختل سمي إعادة، وعلى ذلك فكل إعادة أداء، دون العكس. فيكون فعل العبادة إما أن يكون في وقته المحدد شرعا أو لا. فإن كان في وقته المجدد شرعاً فهو أداء، أو إعادة. وإن لم يقع في وقته، بل بعد خروج الوقت فهو قضاء. ثالثا: تعريف القضاء: القضاء: ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعا مطلقاً. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " ما فعل بعد خروج وقته المحدد شرعاً ": أخرج الأداء والإعادة، لأنهما يفعلان في وقتهما المحدد شرعا كما سبق. قولنا: " مطلقا " فيه بيان: أن اسم القضاء مخصوص بفعل العبادة بعد فوات وقته المحدد له شرعاً مطلقاً، أي: سواء كان فوات الوقت لعذر، أو لغير عذر، فإنه لا فرق في تأخير الواجب عن وقت الأداء بين أن يكون التأخير بعذر أو لغير عذر، وسواء كان التأخير مع التمكن من الفعل كالمسافر والمريض يستطيع الصوم مع السفر والمرض. أو كان مع عدم التمكن من فعله، إما لمانع شرعي كما في الحيض والنفاس، لعدم صحة الفعل شرعاً، أو لمانع عقلي كنوم، أو سهو، أو إغماء، فإنه لا يمكن عقلاً أداء الصلاة من النائم والساهي، والمغمى عليه " لأنها تفتقر إلى النية والقصد، وذلك محال مع وجود النوم والإغماء والسهو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 رابعا: إذا حاضت المرأة، أو سافر مكلف أو مرض آخر في رمضان فأفطروا، فلما انقضى رمضان صاموا الأيام التي أفطروها، فهل يسمى فعلهم هذا قضاء أوأداء؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يُسمى قضاء. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لأمرين: أولهما: إجماع العلماء على أنه إذا صام المسافر والمريض والحائض بعد زوال عذرهم، فإنه تجب عليهم نية القضاء، لا نية الأداء، وأي شيء وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء؛ لأنه لو كان أداء لما جاز أن ينووا القضاء؛ لأنهم - حينئذ - ينوون غير الواجب عليهم. ثانيهما: أنه روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: "كنا نحيض على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فنؤمر بقضاء الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة ". وجه الدلالة: أن عائشة - هنا - سمَّت فعل الصوم - بعد انتهاء الشهر، وبعد زوال الحيض - قضاء، فلو كان أداءً لما سمته باسم القضاء، والآمر هو النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإذا اشتهر بهذه التسمية فلا يمكن أن يطلق عليه بأنه أداء. المذهب الثاني: أن الحائض إذا فاتها أيام من رمضان، فإنه يجب عليها أن تصومها بعد رمضان، وصيامها هذا لا يُسمَّى قضاء، وإنما يُسمَّى أداءً. دليل هذا المذهب: أنه لا يجب على الحائض صيام رمضان حال حيضها، بل إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 صومها وهي في تلك الحال حرام، ومعلوم: أن فعل الحرام معصية، ولا يمكن أن تؤمر أن تفعل ما تعصى في فعله، ولو ماتت قبل أن تتمكن من صيام تلك الأيام التي تركتها لا تكون عاصية بالإجماع. فلما لم تتمكن الحائض من أن توقع الصيام في وقته المقدَّر شرعا للعذر - وهو الحيض - فإن فعْلها فيما بعد هو نفس الأداء الذي لم تتمكن من فعله، وعلى هذا فلا يمكن أن يُسمَّى قضاء. جوابه: يجاب عنه بما ورد عن عائشة - رضي اللَّه عنها - من أنها سمَّت فعل الصوم - بعد انتهاء رمضان - قضاء، كما سبق. والقضاء لا يمكن أن يطلق عليه أداء ولا العكس. أما عدم وجوب الأداء أثناء الحيض فلأن التكليف تشريف، وعبادة لله سبحانه وتعالى، ويمتنع ذلك مع حالتها المستقذرة تلك، والشيء الذي لم يجب هو الأداء، أما جعل ذلك في الذمة، فهو واجب لا شك فيه. أما عدم العصيان إذا تركت الصيام حال الحيض وماتت: فهذا مرجعه إلى كونها غير مكلفة بفعل الصيام أداء؛ للعذر وهو: "الحيض "، فإذا زال رجع إليها التكليف، لكن تبقى ذمتها مشغولة حتى تفعل ما وجب عليها قضاء. المذهب الثالث: أن المسافر والمريض لا يلزمهما الصوم في شهر رمضان، وإذا كان الصيام في الشهر لا يلزمهما، ولا يجب عليهما حال السفر وحال المرض، ثم فعلا الصيام بعد رمضان سمي ذلك الفعل أداء، وليس بقضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ومستند عدم وجوب الصيام على المسافر قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس من البر الصيام في السفر "، ومستند عدم وجوب الصيام على المريض: وجود المشقة التي تحصل له عند صومه، والمشقة تجلب التيسير. وكذا أجمع العلماء على أن من أخر رمضان لسفر أو لمرض من غير تفريط، ثم مات - بعد ذلك - وقبل القضاء، فإنه لا يكون عاصياً لتأخيره. جوابه: يجاب عنه بأن العلماء قد أجمعوا على أنه إذا صام المسافر والمريض بعد زوال عذرهما، فإنه تجب عليهما نية القضاء؛ لا نية الأداء، وما وجبت فيه نية القضاء فهو قضاء، ولو كان أداء كما زعم أصحاب هذا المذهب لما نووا القضاء؛ لأن حقيقة الأداء غير حقيقة القضاء، ولأنه يلزم من ذلك أنهم ينوون غير الواجب عليهم. أما عدم لزوم الصوم أثناء العذر وهو السفر والمرض، فقد ثبت نظراً لحالتهما فلا يطلب أداء الصوم وهما في حالتهما تلك، لكن تبقى ذمتهما مشغولة بالواجب فلا تبرأ إلا بالقضاء؛ لخروج وقت الأداء. أما عدم العصيان لما تركا الصيام حال السفر والمرض، فهذا مرجعه إلى أنهما غير مكلَّفين بفعل الصيام أداءً؛ لعذر السفر والمرض، وهو من باب الرخص والتيسير ورفع الحرج عن الأمة، لكن تبقى ذمتهما مشغولة حتى يفعلا ما وجب عليهما قضاء. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي - في هذه المسألة - كما هو واضح؛ حيث إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 أصحاب المذاهب اتفقوا على أن الحائض والمريض والمسافر إذا أفطروا في نهار رمضان لعذر الحيض والمرض والسفر، فإنه يجب عليهم صيام تلك الأيام التي تركوها بعد انتهاء شهر رمضان، ولكن اختلفوا في تسمية هذا الفعل، فالجمهور يسمونه قضاء؛ لانطباق حقيقة القضاء عليه، وأصحاب المذهبين الأخيرين يسمونه أداء، فصار الخلاف في التسمية والتعبير فقط. خامساً: هل يتعلق القضاء بالمندوب كالواجب؟ اتفق العلماء على أن الأداء والإعادة يتعلقان بالمندوب، واختلفوا في القضاء هل يتعلق بالمندوب؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن القضاء يتعلق بالمندوب إذا كان له وقت معين؟ بخلاف المندوب المطلق، فلا يتعلق به الأداء، ولا الإعادة، ولا القضاء. هذا مذهب جمهور العلماء وهو الصحيح، وبناء عليه: فإنه إذا فات المندوب المؤقت: فإنه يقضى مطلقا، كما قال العلماء: إن قضاء السنة سُنَّة كما أن قضاء الواجب واجب، والقضاء في رتبة المقضي. دليل ذلك: القياس على الواجب؛ إذ لا فرق بينهما من هذه الناحية، ويشملهما حد القضاء. المذهب الثاني: أن القضاء لا يتعلَّق بالمندوب. ذهب إلى ذلك الحنفية، وقالوا: يقصر القضاء على الواجب فقط؛ تنزيلاً عن درجة الواجب بسبب: أن طلبه غير جازم. واستثنى بعض علماء الحنفية من هذه القاعدة: قضاء السُّنة إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 كانت شديدة التأكد بشروط، فقالوا في فروعهم: إذا فات المصلي سُنَّة الصبح مع فرضها، فإنه يسن له قضاؤها، بخلاف ما إذا فاتته السُّنَّة دون الفرض فلا قضاء لها. بيان نوع الخلاف: الخلاف - هنا - لفظي؛ للاتفاق على أن المندوب إذا لم يقضه المكلف فإنه لا تنشغل الذمة فيه، ولا يطالب به؛ لأن حقيقة المندوب - كما سبق -: عدم العقاب على تركه. سادساً: الدليل الموجب للقضاء: اختلف العلماء في الدليل الموجب للقضاء هل هو أمر جديد، ودليل مبتدأ، أو هو الأمر الأول الموجب للأداء ينسحب مع الواجب ويلازمه في الوقت وبعده؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن وجوب القضاء ثابت بالأمر الأول، فالدليل الذي أوجب الأداء هو ما أوجب القضاء، ولا يحتاج إلى نص جديد. ذهب إلى ذلك عامة الحنفية والمالكية، وكثير من الشافعية، وجمهور أهل الحديث. وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الأداء قد كان واجبا مستحقا على المكلَّف في الوقت المحدد شرعاً، وقد علمنا من قواعد الشرع بالاستقراء أن الواجب لا يسقط عن المكلف إلا بالأداء، أو بإسقاط من له الحق، أو بالعجز، ولم يوجد شيء من ذلك، وخروج الوقت ليس مما يسقط الواحب، فتبقى الذمة مشغولة بهذا الواجب، لا يزول هذا الشغل إلا بمزيل له، وهو أحد الأمور الثلاثة السابقة - فقط -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 الدليل الثاني: القياس على الدين، بيان ذلك: أن الوقت للمأمور به كالأجل للدين، فكما أن الدين لا يسقط بترك تأديته في أجله المعين، فكذلك المأمور به إذا لم يفعل في وقته المعين، فإنه لا يسقط، بل يجب قضاؤه، ويكون ذلك مستفاداً من الأمر الأول بدلالة التضمن، لا بدلالة المطابقة. المذهب الثاني: أن وجوب القضاء ثابت بأمر جديد، ودليل مبتدأ. ذهب إلى ذلك أكثر المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لو وجب بالأمر الأول لاقتضاه ذلك الأمر، ولكان أداءً لا قضاء. جوابه: يجاب عنه بأن ذلك ممنوع؛ لأنه إذا فات الوقت بقي الواجب مع نقص الواجب فيه، وهو الوقت المحدد، فكان إيقاعه بعد الوقت قضاء، لا أداءً. الدليل الثاني: قياس الزمان على المكان، بيانه: أن الأمر لو علق بمكان معين كالأمر بالحج علق بمكان معين، وهي المناسك المعروفة، فإذا تعذر فعله بهذا المكان وتلك المناسك، فلا يجوز فعله بمكان آخر. كذلك الأمر إذا علق بوقت معيَّن، وتعذَّر فعله بهذا الوقت فإنه يسقط الأمر الأول، ويحتاج إلى أمر آخر. جوابه: يجاب عنه: بأن قياسكم الزمان على المكان قياس فاسد؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين تعلق الأمر بزمان، وبين تعلقه بمكان من وجهين: أولهما: أنْ الزمان يتعلق بعضه ببعض، حيث إن الزمان الثاني تابع للأول، فالواجب الذي لم يفعل في الزمان الأول؛ فإنه ينسحب هذا الوجوب إلى الزمان الثاني، ثم الثالث، وهكذا، ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه ولو في آخر العمر. بخلاف المكان، فإنه لا ينسحب إلى مكان آخر، وما يجوز فعله في مكان قد لا يجوز فعله في مكان آخر. ثانيهما: أن المكان لا يفوت، فيمكن الفعل فيه، ولا يعدل إلى غيره، بخلاف الزمان، فإنه يفوت فوجب القضاء في غيره. الدليل الثالث: قياس ما بعد الوقت على ما قبل الوقت، بيانه: إنه كما أنه لا يجب الفعل قبل الوقت؛ لعدم تناول الأمر إياه، كذلك أن ما بعد الوقت لم يتناوله الأمر، فلا يجب فيه الفعل، ويحتاج إلى أمر جديد. جوابه: يجاب عنه بأن هذا القياس قياس فاسد؛ لأن الكلام في الواجب، ولا وجوب قبل الوقت. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي له ثمرة وفائدة، وهي: جواز الاستدلال بالأوامر في أداء العبادة على قضائها بناء على المذهب الأول. وعدم جواز ذلك بناء على المذهب الثاني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 ومن وجب عليه صوم يوم بعينه لأجل نذره فلم يصمه، أو أفسده هل يجب عليه القضاء أو لا؟ فبناء على المذهب الأول - وهو: أن القضاء بالأمر الأول - فإنه يجب القضاء بذلك الأمر، وهو الصحيح. وبناء على المذهب الثاني - وهو: أن القضاء يحتاج إلى أمر جديد - فإنه لا يجب عليه القضاء؛ لأنه لا يوجد أمر جديد. وأيضا من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها، فإنه يلزمه قضاؤها بالأمر الأول، وهو الصحيح. واختلف أصحاب المذهب الثاني على قولين: القول الأول: أنه لا قضاء عليه؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، ولا يوجد أمر. القول الثاني: أنه يلزمه قضاء تلك الصلاة بعد خروج وقتها، لورود الأمر الجديد، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدين اللَّه أحق أن يقضى". وبعضهم قال: يجب عليه القضاء بأمر جديد وهو: القياس على النائم والناسي، لورود الأمر بوجوب القضاء عليهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 المطلب الثاني في الشرط ويشتمل على ما يلي: المسألة الأولى: في حقيقة الشرط. المسألة الثانية: تقسيمات الشرط. المسألة الثالثة: الفروق بين الشرط والسبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 المسألة الأولى: في حقيقة الشرط: أولاً: الشرط لغة هو: إلزام شيء والتزامه في البيع، وجمعه شروط وشرائط. والشرط - بتحريك الراء -: العلامة، ومنه قوله تعالى: (فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا) . والأصوليون يقولون: إن الشرط في اللغة بمعنى العلامة - مطلقاً - وهذا فيه تساهل؛ حيث إن الذي هو بمعنى العلامة هو: الشرَط - بفتح الراء - وليس الشرط الذي هو بتسكين الراء، والذي يعنينا هو الشرط - بتسكين - الراء - وهو الذي بمعنى الإلزام. ثانيا: الشرط في الاصطلاح هو: هو: " ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته ". فمثلاً: الطهارة، فإنه يلزم من عدم الشرط وهو الطهارة عدم الحكم، وهو صحة الصلاة، ولا يلزم من وجود الشرط وهو الطهارة وجود الحكم، وهي صحة الصلاة، فقد توجد الطهارة ويصلي، ولكن قبل دخول الوقت، فهنا لا تصح الصلاة، وقد توجد الطهارة ويصلي بعد دخول الوقت بدون مانع فتصح الصلاة. بيان محترزات التعريف: قولنا: " ما يلزم من عدمه العدم ": أخرج المانع؛ لأن المانع لا يلزم من عدمه شيء، كالدين في الزكاة، فقد تجب الزكاة مع انتفاء المانع لوجود الغنى، وقد لا تجب مع انتفاء المانع لعدم بلوغ المال النصاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 قولنا: " ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ": أخرج السبب؛ السبب يلزم من وجوده الوجود، وأخرج المانع، لأن المانع يلزم من وجوده العدم. قولنا: " لذاته ": احترزنا به عن مقارنة الشرط وجود السبب، فيلزم الوجود، أو مقارنة قيام المانع، فيلزم عدم الوجود، لكن لا لذاته، بل لأمر آخر خارجي، وهو مقارنة السبب، أو قيام المانع. فمثلاً: تمام الحول في الزكاة يلزم من عدمه عدم وجوب الزكاة، ولا يلزم من وجوفى هـ وجوب الزكاة " لاحتمال عدم بلوغ النصاب، ولا يلزم عدم وجوبها " لاحتمال بلوغ المال النصاب. أما إذا قارن الشرط وجود السبب، فإنه يلزم وجوب الزكاة، ولكن لا لذات الشرط، بل لوجود السبب. وإذا كان عليه دين مع تمام الحول، فإنه يلزم منه عدم وجوب الزكاة، ولكن العدم ثبت نظراً لقيام المانع، لا لذات الشرط. المسألة الثانية: تقسيمات الشرط: الشرط ينقسم إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة، وإليك بيان ذلك: التقسيم الأول: ينقسم الشرط باعتبار وصفه إلى أربعة أقسام: " شرط عقلي "، و " شرط عادي "، و " شرط لغوي "، و"شرط شرعي ". أما القسم الأول - وهو: الشرط العقلي - فهو: ما لا يوجد المشروط ولا يمكن عقلاً بدونه مثل اشتراط الحياة للعلم، فإن العقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 يحكم بأن العلم لا يوجد بدون حياة، فإذا انتفت الحياة انتفى العلم، ولا يلزم من وجود الحياة وجود العلم. ومثل: اشتراط الفهم في التكليف، فإن العقل يحكم بأن التكليف لا يوجد بدون فهم الخطاب، فإذا انتفى الفهم انتفى التكليف. أما القسم الثاني - وهو: الشرط العادي - فهو: ما يكون شرطاَ عادة مثل: نصب السلم لصعود السطح، فإن العادة تقضي بأنه لا يمكن صعود السطح إلا بوجود السلم، أو نحوه مما يقوم مقامه. أما القسم الثالث - وهو الشرط اللغوي - فهو: ما يذكر بصيغة التعليق مثل: " إن "، أو إحدى أخواتها مثل: قول الزوج لزوجته: " إن دخلت الدار فأنت طالق "، فأهل اللغة وضعوا هذا التركيب ليدل على أن ما دخلت عليه أداة الشرط هو: الشرط، والآخر المعلَّق عليه هو: الجزاء. وهذا ما ذهب إليه كثير من الأصوليين. وذهب بعض العلماء كابن القيم، والقرافي، وابن السبكي، والزركشي، وابن القشيري، وابن الحاجب إلى أن الشروط اللغوية من قبيل الأسباب، لا من قبيل الشروط، وذلك لأنه يتحقق فيها تعريف السبب؛ حيث يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها العدم، ففي المثال السابق يلزم من دخول الزوجة الطلاق، ويلزم من عدم الدخول عدم الطلاق. أما القسم الرابع - وهو: الشرط الشرعي -: فهو: ما جعله الشارع شرطا لبعض الأحكام كاشتراط الطهارة لصحة الصلاة، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 هذا الشرط لم نعرفه من العقل، أو اللغة، أو العادة، وإنما الشارع هو الذي حكم بأن الصلاة لا تصح إلا بالطهارة. وهذا الشرط هو المقصود في الأصل - كما ذكر الشاطبي - فإن حدث التعرض لشرط من الشروط السابقة - كالشرط العقلي واللغوي والعادي - فمن حيث تعلق به حكم شرعي في خطاب الوضع، أو خطاب التكليف، ويصير إذ ذاك شرعيا بهذا الاعتبار فيدخل تحت قسم الشرط الشرعي. أنواع الشرط الشرعي: الشرط الشرعي أنواع: " شرط وجوب "، و " شرط صحة "،. و" شرط أداء " - فشرط الوجوب هو: ما يصير الإنسان به مكلَّفاً كالنقاء من الحيض والنفاس، فإنه شرط في وجوب الصلاة، وبلوغ الدعوة إلى شخص؛ حيث إنه شرط في وجوب الإيمان عليه. وشرط الصحة هو: ما جعل وجوده سبباً في حصول الاعتداد بالفعل وصحته مثل: الطهارة، وستر العورة، واستقبال القِبْلة. وشرط الأداء هو: حصول شرط الوجوب مع التمكن من إيقاع الفعل، فيخرج بذلك الغافل، والنائم، والساهي، ونحوهم، فإنهم غير مكلَّفين بأداء الصلاة مع وجوبها عليهم. التقسيم الثاني: ينقسم الشرط باعتبار قصد الشارع له وعدم ذلك إلى قسمين: القسم الأول: ما قصده الشارع قصداً واضحا. القسم الثاني: ما ليس للشارع قصد في تحصيله. أما القسم الأول - وهو: ما قصده الشارع قصداً واضحا - فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 الذي يرجع إلى خطاب التكليف، وهو إما أن يكون مأموراً بتحصيله كالطهارة للصلاة، واستقبال القِبْلة. وإما أن يكون منهياً عن تحصيله كنكاح المحلل في مراجعة الزوجة لزوجها الأول. أما القسم الثاني - وهو: ما ليس للشارع قصد في تحصيله - فهو الذي يرجع إلى خطاب الوضع كالحول في الزكاة، فإن إبقاء النصاب حتى يكمل الحول حتى تجب الزكاة ليس بمطلوب الفعل، ولا هو مطلوب الترك. التقسيم الثالث: ينقسم الشرط باعتبار مصدره إلى قسمين: "شرط شرعي "، و " شرط جعلي ". أما الشرط الفسرعي فهو: ما كان مصدر اشتراطه الشارع، وهو الراد من الشرط عند الإطلاق؛ حيث إنه هو المقابل للسبب والمانع، ومنها: الطهارة لصحة الصلاة، وحولان الحول للزكاة، والإحصان في الرجم. أما الشرط الجعلي فهو: ما كان مصدر اشتراطه المكلف؛ حيث يعتبره ويعلق عليه تصرفاته ومعاملاته، كالاشتراط في البيوع، والنكاح، والطلاق، والعتق. والشروط الجعلية مقيدة بحدود شرعية معينة، فليس للشخص أن يشترط ما شاء لما شاء. فالشروط المعتبرة والتي سمح للمكلَّف أن يشترطها هي: كل ما جاء مكملاً لحكمة المشروط، بحيث لا ينافيها بحال من الأحوال، وهي الشروط الموافقة لمقتضى مشروطاتها في العقود والتصرفات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الشرعية، بحيث لا تخالفها ولا تنفي مضمونها مثل: اشتراط الرهن، أو الكفيل بالدين، واشتراط الصيام في الاعتكاف، واشتراط الكفاءة في النكاح، واشتراط الحرز في السرقة، ونحو ذلك، فإن هذه الشروط صحيحة؛ لما فيها من الموافقة الشرعية. وأما الشروط التي لا تلائم مقصود المشروط ولا مكملاً لحكمته، بل جاء على الضد من ذلك فهي لا تعتبر شرعاً، أي: أن الشروط التي تخالف مقتضى المشروطات في العقود والتصرفات الشرعية وتناقض مدلولاتها تعتبر شروطاً فاسدة، كما إذا اشترط الزوج أن لا ينفق على زوجته، أو اشترط في عقد البيع عدم الانتفاع بالمبيع. المسألة الثالثة: الفروق بين الشرط والسبب: يوجد بين الشرط والسبب فروق، من أهمها: الفرق الأول: أن الشرط مقارن للحكم غير مفارق له، بخلاف السبب، فلا تلزم فيه المقارنة فقد يقع تأخير حكم الشيء عن سببه. الفرق الثاني: أن الشرط يؤثر في الحكم من جهة العدم فقط، بخلاف السبب، فإنه يؤثر في الحكم من جهة الوجود والعدم، كما سبق في تعريف كل واحد منهما. الفرق الثالث: أن الشرط ليس فيه مناسبة في نفسه، بخلاف السبب، فإنه مناسب في ذاته، فمثلاً النصاب فإنه سبب في وجوب الزكاة، وهو مشتمل على الغنى في ذاته، بخلاف مرور الحول فإنه ليس فيه مناسبة في نفسه، وإنما هو مكمل لحكمة الغنى في النصاب، وذلك بالتمكين من تنمية المال في جميع الحول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 المطلب الثالث في المانع ويشتمل على مسألتين هما: المسألة الأولى: في حقيقة المانع. المسألة الثانية: في تقسيمات المانع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 المسألة الأولى: حقيقة المانع أولاً: المانع لغة هو: الحائل بين الشيئين، يقال: " منعه الأمر "، و " منعته منه "، فهو ممنوع أي: محروم، والمانع: اسم فاعل من المنع ضد الإعطاء. ثانيا: المانع في الاصطلاح هو: " ما يلزم من وجوده العدم، ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته ". شرح التعريف وبيان محترزاته: الدَّين - مثلاً -: يلزم من وجوده عدم وجود الحكم - وهو: وجوب الزكاة -، ولا يلزم من عدم الدين وجود الحكم - وهو: وجوب الزكاة - ولا عدم وجوده: فقد يكون الشخص غير المدين غنيا يملك النصاب مع حولان الحول، فهنا يوجد الحكم - وهو: وجوب الزكاة -، وقد يكون الشخص غير المدين فقيراً لم يبلغ المال الذي عنده النصاب، فهنا لا يوجد الحكم - وهو وجوب الزكاة -. فقولنا: " ما يلزم من وجوده العدم ": أخرج السبب؛ لأن السبب يلزم من وجوده وجود الحكم، وأخرج الشرط؛ لأن الشرط لا يلزم من وجوده وجود ولا عدم - كما سبق بيانه -. وقولنا: " ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم ": أخرج الشرط - أيضاً - لأن الشرط يلزم من عدمه عدم الحكم. وقولنا: " لذاته " للاحتراز عن مقارنة عدم المانع لوجود سبب آخر، فإنه يلزم الوجود، ولكن لا لعدم المانع، وإنما لوجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 السبب الآخر، مثل: المرتد القاتل لولده، فإن هذا يقتل بالردة وإن لم يقتل قصاصاً، لأن المانع إنما منع أحد السببين - فقط - وهو: القصاص، وقد حصل القتل بسبب آخر، وهو: الردة. المسألة الثانية: تقسيمات المانع: ينقسم المانع إلى عدة أقسام باعتبارات مختلفة، إليك بيان ذلك: التقسيم الأول: المانع ينقسم من حيث ارتباطه بالحكم إلى قسمين: القسم الأول: ما يمكن اجتماعه مع الطلب. القسم الثاني: ما لا يمكن اجتماعه مع الطلب أصلاً. أما القسم الأول - وهو ما يمكن اجتماعه مع الطلب - فهو نوعان: النوع الأول: ما يرفع أصل الطلب شرعاً، وإن أمكن حصوله معه عقلاً مثل الحيض بالنسبة للصلاة، حيث إنه يمكن اجتماع الحيض مع الطلب - وهو طلب الصلاة - عن طريق العقل، ولكن الشارع اعتبره مانعاً من أصل الطلب بهذه العبادة، ولو صلت الحائض لا تصح الصلاة منها، بل تأثم بفعل الصلاة. النوع الثاني: ما لا يرفع أصل الطلب، ولكنه يمنع اللزوم فيه، ويحوله من طلب جازم إلى مخير، وهذا النوع شيئان: أولهما: ما يكون منع اللزوم فيه بمعنى التخيير، وذلك كالرق والأنوثة بالنسبة لصلاة الجماعة، والعيدين، حيث إن الرق والأنوثة لا يرفعان أصل الطلب بهذه العبادة " حيث لو وقعت تلك الصلاة منهما لصحت، ولكنهما يرفعان اللزوم والانحتام في هذا الطلب. ثانيهما: ما كان منع اللزوم له بمعنى رفع الإثم والمؤاخذة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 المخالف للأمر كالسفر بالنسبة لقصر الصلاة، وترك الجمعة، والصيام، فإن السفر لا يرفع أصل الطلب في هذه العبادات، وإنما يرفع اللزوم فيها فقط، ولذلك فلو فعلها المسافر لصحت منه وأجزأته ولكنه لا حرج عليه في تركها. ويقال هذا في كل سبب من أسباب الرخص، فكل واحد من أسباب الرخص يعتبر مانعاً من اللزوم والحتم، فلا حرج على من ترك العزيمة للأخذ بالرخصة، هذا القسم الأول. أما القسم الثاني - وهو: ما لا يمكن اجتماعه مع الطلب أصلاً - فهو ما يمنع من أصل الطلب جملة عقلاً وشرعاً مثل زوال العقل بنوم، أو إغماء، أو غفلة، أو جنون، أو نحو ذلك، فإن زوال العقل يمنع مطالبة النائم، أو المغمى عليه.، أو المجنون بالفعل؟ لأمرين: أولهما: أنهم لا يفهمون الخطاب، والفهم شرط مهم من شروط التكليف. ثانيهما: أن خطاب الشارع إلزام والتزام، ومن زال عقله لا يمكن إلزامه، فلا يتأتى بالنسبة إليه التزام كما لا يمكن ذلك في البهائم والجمادات. التقسيم الثاني: المانع ينقسم باعتبار ما يمنعه من حكم أو سبب إِلى قسمين: " مانع الحكم "، و " مانع السبب ". أما القسم الأول - وهو: مانع الحكم - فهو: كل وصف وجودي ظاهر منضبط لحكمة تقتضي نقيض حكم السبب مع تحقق السبب مثل: الحيض فإنه مانع من وجوب الصلاة مع تحقق السبب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 وهو: دخول الوقت، فهنا: ترتب على وجود المانع عدم ترتب المسبب على سببه. ومثل: الأبوة في منع القصاص من والد لولده، فالحكم الذي هو القصاص قد وجد سببه وهو: القتل العمد العدوان، وكون القاتل أباً للمقتول منع من القصاص؛ لأن الزجر المقصود بشرعية القصاص يعارض حال الأبوة المقتضي للعطف والحنان، بحيث يمنع ذلك من التفكير في القتل إلا في النادر اليسير، فليس بحاجة إلى العقوبة الزاجرة في مثل تلك الحالة النادرة. أنواع مانع الحكم: يتنوع مانع الحكم إلى أنواع ثلاثة هي: النوع الأول: مانع يمنع ابتداء الحكم - فقط - دون استمراره مثل: الإسلام، فإنه يمنع ابتداء السبي، لا يمنع استمراره، فلو أسلم بعد أن صار مملوكاً فلا ينقطع عنه الرق، وكذا: الحج، فإنه يمنع ابتداء النكاح حال الإحرام، ولكنه لا يمنع من الدوام على نكاح قبله. النوع الثاني: مانع يمنع دوام الحكم واستمراره - فقط - دون ابتداء الحكم مثل الطلاق، فإنه يمنع من الدوام على النكاح الأول، ولكنه لا يمنع من ابتداء نكاح ثاني. النوع الثالث: مانع يمنع ابتداء الحكم، ويمنع - أيضاً - استمراره مثل: الرضاع، فإنه يمنع ابتداء النكاح على امرأة هي أخته من الرضاع، كما يمنع استمراره إذا طرأ عليه، وكذلك: " الحدث " فإنه يمنع انعقاد العبادة ابتداء، كما يمنع استمرار صحتها إذا طرأ عليها. وأما القسم الثاني - وهو: مانع السبب - فهو: كل وصف يقتضي وجوده حكمة تخل بحكمة السبب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 مثل الدين في باب الزكاة، حيث إنه مانع - عندنا - من وجوب الزكاة، لأن السبب في وجوب الزكاة هو بلوغ النصاب، حيث إنه يفيد غنى من يملك هذا النصاب، فطلب منه مواساة الفقراء من فضل ذلك المال، وهذه هي الحكمة، ولكن الدين في المال لم يدع فضلاً يواسي به الفقير، لأن النصاب هذا قد صار مشغولا بحقوق الغرماء، فهنا قد أخل الدين بحكمة السبب؛ لأنه ليس مع الدين استغناء، والإخلال بالحكمة يسقط العلية وهي: الزكاة. أي: أن حكمة الدين هي براءة الذمة، وهي لا شك مخلة بحكمة النصاب التي هي مواساة الفقراء، فكانت رعاية براءة الذمة أوْلى من رعاية مواساة الفقراء، لأمرين: أولهما: أن فيها البداية بالنفس، وهي ألزم ما يكون. ئانيهما: أنه إذا ازدحم حقان على مال واحد قدم أقواهما، ولا شك أن حق الغرماء أقوى من حق الفقراء، حيث إن المستحق إذا تعين ترجح على مستحق لم يتعين. وذهب بعض الشافعية إلى أن الدين لا يمنع من الزكاة لاستغنائه بما في يده، وتعلق الدين بذمته. التقسيم الثالث: المانع ينقسم من حيث ارتباطه بخطاب الشارع إلى قسمين: " ما يكون داخلاً تحت خطاب التكليف "، و " ما يكون داخلاً تحت خطاب الوضع ". أما القسم الأول - وهو: ما يكون داخلاً تحت خطاب التكليف - فهو: يشمل المأمور به، والمنهي عنه، والمخير فيه والمأذون فيه، مثال المأمور به: الإسلام، حيث إنه مأمور به، وهو المانع من انتهاك حرمة الدم والعرض إلا بحقهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 ومثال المنهي عنه: الكفر، فإنه مانع من صحة العبادات. ومثال المخير فيه: الاستدانة التي هي مانعة من انتهاض سبب وجوب الزكاة، وإن كان النصاب موجوداً. أما القسم الثاني - وهو: ما يكون داخلاً تحت خطاب الوضع - فهو: الذي ليس للشارع قصد في تحصيله من حيث هو مانع، ولا في عدم تحصيله، فإن الشخص المدين ليس مخاطبا برفع الدين عن نفسه إذا كان عنده نصاب لتجب الزكاة عليه، كما أن مالك النصاب غير مخاطب بتحصيل الاستدانة لتسقط عنه زكاة النصاب؛ لأن المانع من خطاب الوضع، فلا يكون مأموراً به ولا منهيا عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 المطلب الرابع في العزيمة والرخصة ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: في تعريف العزيمة. المسألة الثانية: في تعريف الرخصة. المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي، أو من أقسام الحكم الوضعي؟ المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة. المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟ المسألة السادسة: حكم الرخصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 المسألة الأولى: في تعريف العزيمة: أولاً: العزيمة لغة: مشتقة من العزم، وهو القصد المؤكد، ومنه قوله تعالى (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) ، أي: قصداً بليغا متأكداً في العصيان. وعزائم اللَّه: فرائضه التي أوجبها اللَّه وأمرنا بها. وأولوا العزم من الرسل: هم الذين عزموا على إمضاء أمر الله فيما عهد إليهم، وسموا بذلك لتأكد قصدهم في طلب الحق. ثانيا: تعريف العزيمة اصطلاحا هو: " الحكم الثابت بدليل شرعي خال عن معارض راجح "، وهو أقرب تعريفات العلماء للعزيمة إلى الصواب. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " الحكم الثابت ": أخرج الحكم غير الثابت كالمنسوخ، فلا يسمى عزيمة؛ حيث إنه لم يبق مشروعا أصلاً. وهذه العبارة وهي: " الحكم الثابت " عام وشامل لجميع الأحكام التكليفية؛ لأن كلًّا منها حكم ثابت. قولنا: " بدليل شرعي ": أخرج ما ثبت بدليل عقلي، فإن ذلك لا يستعمل فيه العزيمة. قولنا: " خال عن معارض ": أخرج ما ثبت بدليل شرعي، ولكنه معارض بدليل مساو، أو دليل راجح؛ لأنه إن كان المعارض مساويا لزم الوقف، وحينئذِ يجب طلب المرجح الخارجي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 وإن كان المعارض راجحاً، فإنه يجب العمل بمقتضاه، وتنتفي العزيمة. قولنا: " راجح ": أخرج الرخصة؛ لأن الرخصة حكم ثابت على خلاف الدليل لمعارض راجح وهو العذر - فمثلاً: " تحريم الميتة " حكم ثابت من غير مخالفة دليل شرعي، فإذا وجدت المخمصة حصل المخالف لدليل التحريم، وهو قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ، وهو راجح على دليل التحريم، وهو قوله: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وذلك لحفظ النفس، فجاز الأكل من الميتة وحصلت الرخصة؛ لأن مصلحة إحياء النفس، والمحافظة عليها مقدمة على مفسدة الميتة وما فيها من الخبث. *** المسألة الثانية: في تعريف الرخصة: أولاً: الرخصة لغة: مشتقة من الرخص، وهو: اليسر والسهولة، يقال: " رخص لنا الشرع في كذا ": إذا يسَّره وسهَّله علينا، وهو - أيضا - مشتق من اللين والمسامحة. ثانيا: الرخصة اصطلاحا هي: الحكم الثابت على خلاف الدليل لعذر. وهذا التعريف هو ما اخترته في كتابي: " الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس " من أكثر من عشرة تعريفات له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنما: " الحكم ": جنس يشمل العزيمة والرخصة. قولنا: " الثابت ": يوضح أنه لا بد من دليل على الرخصة، فإن لم تثبت الرخصة بدليل لم يجز الإقدام والعمل بها، وإلا لزم ترك العمل بالدليل السالم عن المعارض، وهذا باطل. قولنا: " على خلاف الدليل ": يشمل الدليل الخاص، وهو ما يقتضي الحرمة والوجوب والندب، كما يشمل الدليل العام كدليل الأصل في نحو قولهم: " الأصل كذا "، والأصل من الأدلة الشرعية. وهذه العبارة - أعني: " على خلاف الدليل - أخرجت أمورا هي: الأول: العزيمة؛ لأنها على وفق الدليل، لا على خلافه. الثاني: الأحكام الثابتة على وفقِ الدليل مثل إباحة الأكل والشرب والنوم، حيث إنه لم يوجد دليل على منع هذه الأشياء حتى تكون إباحتها ثابتة على خلافه، فلا تكون رخصة وإن وجد فيها نوع من اليسر والسهولة. الثالث: الحكم الثابت بدليل ناسخ لحكم ثبت بمنسوخ، لأن المنسوخ لا يسمى دليلاً مثل: إيجاب ثبات الواحد من المسلمين أمام اثنين من الكفار في الحرب، فإنه ثبت بقوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، وهذا الدليل ناسخ لوجوب ثبات الواحد أمام العشرة، فإيجاب ثبات الواحد أمام الاثنين لا يعتبر رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 الرابع: الحكم الثابت بدليل راجح في مقابلة حكم ثبت بمرجوح، فإن المرجوح لا يسمى دليلاً، وحينئذ فالحكم الثابت بالدليل الراجح لا يسمى رخصة؛ لأنه لم يثبت على خلاف الدليل. الخامس: الأحكام التي كانت على الأمم السابقة ثم وضعت عنا كالإصر - وهو: الحمل الثقيل الذي يأصر صاحبه فيلاقي في تحمله أشد المشقة - وكالأغلال - وهي: الأعمال الشاقة المغلظة - فإن هذا الوضع لا يسمى رخصة حقيقية؛ لأنها لم تخالف دليلاً من الأدلة، وإن كان بعضهم يسميها رخصة مجازية؛ لما في ذلك من التخفيف واليسر عند مقارنة حالنا بحالهم، كما قال الخبازي، والنسفي، وقد تكلمت عن هذا بتوسع في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، و " الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس " فارجع إليهما إن شئت. قولنا: " لعذر ": المراد بالعذر: المشقة الشاملة للضرورة والحاجة. أي: أن العذر يشمل الاضطرار من أكل الميتة ونحوها، ويشمل أحكام السفر والمرض ونحوه، وكذلك بعض أنواع العقود من السلم، والمساقاة، والإجارة، والقراض، والعرايا، ونحو ذلك مما يخالف القياس والقواعد المقررة. واشترط الشاطبي للعذر أن يكون شاقاً، حيث قال في تعريفه: " الرخصة: ما شرع بعذر شاق استثناء من أصل كلي يقتضي المنع مع الاقتصار على مواضع الحاجة فيه ". والحق أن هذا الشرط غير صحيح؛ لأننا لو اشترطناه في العذر للزم من ذلك خروج أكثر الرخص التي كانت كالسلم، والمساقاة، والقراض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 والمانع الشرعي لا يدخل في العذر كالحيض والنفاس؛ لأن المشروعية لا تتحقق معه، ومن هنا لا يسمى إسقاط الصلاة عن الحائض والنفساء رخصة؛ لأنهما مانعان من المشروعية كما قلنا في مبحث المانع. *** المسألة الثالثة: هل الرخصة والعزيمة من أقسام الحكم التكليفي أو من أقسام الحكم الوضعي؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنهما من أقسام الحكم الوضعي. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء كالآمدي، والغزالي، والشاطبي، وابن قدامة، والأنصاري. وهو الصحيح عندي؛ لأمرين: أولهما: أن الرخصة في حقيقة أمرها هي وضع الشارع وصفا معيناً سببا في التخفيف، والعزيمة هي: اعتبار مجاري العادات سبباَ للأخذ بالأحكام الأصلية العامة، والسبب حكم وضعي. ثانيهما: أن اعتبار كل من السفر والمرض والضرورة أو غيرها أسبابا للترخص، أو مانعة من التكليف بحكم العزيمة، كل ذلك - لو فكرنا فيه - لوجدنا أنه لا طلب فيه ولا تخيير، بل فيه وضع وجعل واعتبار، وهذه كلها أحكام وضعية، وكانت من أحكام الحكم الوضعي. المذهب الثاني: أن العزيمة والرخصة من أقسام الحكم التكليفي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 ذهب إلى ذلك ابن الحاجب، وتاج الدين ابن السبكي، والعضد والزركشي. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العزيمة والرخصة يرجعان في الحقيقة إلى الاقتضاء والتخيير، فالعزيمة تحمل معنى الاقتضاء، والرخصة تحمل معنى التخيير، فهما من صفات الأحكام التكليفية. أي: أن كلًّا من تلك الأحكام إما أن يكون عزيمة ومطلوبا، وإما أن يكون رخصة ومخيراً، ولا يخرجان عن ذلك فكانا من الأحكام التكليفية؛ لكونهما اسمين لما طلبه الشارع، أو أباحه على وجه العموم، والطلب والإباحة حكم تكليفي. جوابه: يجاب عنه: بأن التصاق الرخصة والعزيمة بالحكم الوضعي أقوى من التصاقهما بالحكم التكليفي، وهذا لا يخفى على المدقق في حقيقتهما، بيان ذلك: أن الرخصة ترجع في الحقيقة إلى جعل الأحوال الطارئة غير الاعتيادية أسباباً للتخفيف عن المكلَّفين؛ لأن الحكم المشروع فيها هو جعل الضرورة أو الإكراه سببا في إباحة المحظور، وطروء العذر سببا في التخفيف بترك الواجب، وهكذا فإن ذلك وأمثاله - في الحقيقة - هي وضع أسباب لمسببات، والسبب من أنواع الحكم الوضعي. وإذا دققت في العزيمة وجدتها ترجع إلى جعل الشارع الأحوال العادية للمكلفين سبباً لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي يرجع إلى النظر إلى كل من الرخصة والعزيمة، فاختلف الفريقان بحسب هذا النظر. فمن نظر إلى أن كلًّا من الرخصة والعزيمة متصفة بالوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وأنه يوجد في العزيمة معنى الاقتضاء، ويوجد في الرخصة معنى التخيير، فإنه عدهما من الأحكام التكليفية. ومن نظر إلى أن الرخصة - في الحقيقة - هي وضع الشارع وصفاَ معيناً سبباً في التخفيف، وأن العزيمة - في الحقيقة - هي: جعل الشارع الأحوال العادية للمكلفين سببا لبقاء الأحكام الأصلية واستمرارها في حقهم، فإنه عدَّهما من الأحكام التكليفية؛ لأنه اعتبر السبب، والسبب من الأحكام الوضعية. فاختلفت أنظار كل من الفريقين لاختلاف المنظور إليه، فكان هذا الخلاف خلافا لفظيا. في المسألة الرابعة: في أقسام الرخصة: الرخصة تنقسم إلى عدة أقسام هي كما يلي: القسم الأول: رخصة واجبة، أي: يجب الأخذ بالرخصة، فإن امتنع عن ذلك، ثم مات، أو لحقه ضرر، فإنه يأثم بذلك، ومن أمثلة ذلك: 1 - أكل الميتة للمضطر، وقلنا ذلك؛ لأنه حكم ثابت على خلاف الدليل وهو قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) لعذر، وهو الاضطرار. - 455 - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 2 - شرب الخمر لمن غص بلقمة، وخشي علي نفسه الهلاك، ولم يجد ما يسيغها إلا به، وقلنا ذلك لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) . وجه الدلالة: أنه لو لم يدفع هذه الغصة بجرعة من الخمر، ثم مات، لكان قاتلاً لنفسه، لذلك يجب عليه شرب الخمر لإساغة هذه اللقمة؛ إبقاء لحياته. 3 - التيمم للمريض، أو الذي به جراحة مع القدرة على استعمال الماء، وقلنا ذلك لقوله تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ) ، وقوله: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) ، حيث إن المريض، أو من به جراحة لو استعمل الماء لكان مؤديا بنفسه إلى التهلكة؛ لأنه يحتمل احتمالاً راجحاً أن المرض يتزايد، والجراحة تتسع باستعماله لهذا الماء، فلذلك أوجبنا عليه التيمم إبقاء على نفسه. القسم الثاني: رخصة مندوبة، أي: إن أخذ بتلك الرخصة فله أجر. ومن أمثلة ذلك: 1 - قصر الصلاة الرباعية للمسافر، وقلنا ذلك لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ". 2 - الإبراد في صلاة الظهر في شدة الحر، فإنه رخصة مندوبة، وقلنا ذلك لورود الأمر به مع ذكر العلَّة، وهي: أن شدة الحر من فيح جهنم، حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "ابردواً فإن شدة الحر من فيح جهنم ". القسم الثالث: رخصة مباحة، ومن أمثلة ذلك: 1 - العرايا، وهي: بيع الرطب على رؤوس النخل بقدر كيله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 من التمر خرصاً فيما دون خمسة أوسق، فالقياس: عدم جواز مثل هذا البيع؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص الشارع في العرايا للحاجة إليها. 2 - السلم وهو: اسم لعقد يوجب الملك في الثمن عاجلاً، وفي المثمن آجلاً، فالقياس: عدم جواز ذلك؛ لأنه بيع معدومِ، وبيع المعدوم منهي عنه؛ لما فيه من الجهالة والغرر، ولكن رخص الشارع في السلم لحاجة الناس إليه. 3 - الإجارة، وهي: تمليك المنافع بعوض، والأصل: عدم جواز الإجارة؛ لما فيها من الغرر والجهالة، ولكن رخص الشارع في الإجارة لحاجة الناس. 4 - التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره على ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان، فإن هذا يعتبر من الرخص المباحة؛ حيث إن الدليل على وجوب الإيمان قائم، وحرمة التلفظ بالكفر قائمة، وإنما أبيح التلفظ بكلمة الكفر حالة الإكراه - فقط - مراعاة لحق نفسه؛ حيث يفوت ذلك الحق عند الامتناع صورة ومعنى بتخريب بدنه، وإزهاق روحه، ثم إن إجراء كلمة الكفر على اللسان لا يوجب خللاً في الإسلام؛ لأن بقاء الإسلام ببقاء العقيدة، وأنها لا تفوت بهذا. لكن لو صبر وامتنع عن التلفظ بكلمة الكفر فإنه يكون آخذاً بالعزيمة وهو أفضل؛ حيث إنه إذا صبر وبذل نفسه في دين اللَّه وقتل وهو صابر محتسب، فإن فعله هذا أفضل وأوْلى، يدل على ذلك ما ورد من أن مسيلمة الكذاب قال لرجل مسلم: أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؛ قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: لا أدري ما تقول فقتله، وقال لآخر: أتشهد أن محمداً رسول اللَّه؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قال: نعم، فقال: أتشهد أني رسول اللَّه؛ قال: نعم، فخلى سبيله، فبلغ ذلك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: " أما الأول فقد أتاه اللَّه أجره مرتين، وأما الآخر فقد أخذ برخصة اللَّه فلا إثم عليه ". 5 - رؤية الطبيب لعورة الرجل أو المرأة عند الحاجة. فالدليل قائم على تحريم النظر إلى عورة المرأة والرجل، ولكن إذا احتاج أي واحد منهما إلى طبيب لمعالجة، أو ولادة، فقد أبيح ذلك رخصة، رفعاً للضرر الذي يلحقهما إذا لم يتم معالجتهما. 6 - الجمع بين الصلاتين في السفر، فهذا من الرخص المباحة، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - جمع في سفره إلى تبوك بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء جميعاً. 7 - تعجيل الزكاة قبل تمام الحول؛ حيث رخص الرسول - صلى الله عليه وسلم - للعباس - رضي اللَّه عنه - في تعجيل الزكاة قبل أن تحل. 8 - النظر إلى المخطوبة؛ حيث ثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للمغيرة ابن شعبة - لما علم أنه خطب امرأة -: " انظر إليها، فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ". القسم الرابع: رخصة خلاف أَوْلى، أي: أن ترك الأخذ بالرخصة أوْلى وأفضل من فجلها، ومن أمثلة ذلك: 1 - الإفطار في رمضان للمسافر الذي لا يشق عليه الصيام ولا يتضرر به، وقلنا: إنه رخصة خلاف الأولى؛ لقوله تعالى: (وأن تصوموا خير لكم) ، ولما روي عن أنس، وعثمان بن أبي العاص الثقفي - رضي اللَّه عنهما - أنهما قالا: " الصوم في السفر أفضل لمن قدر عليه ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 2 - التلفظ بكلمة الكفر لمن أكره عليه قد سبق أن ذلك خلاف الأولى، لأن الأولى والأفضل عدم التلفظ بكلمة الكفر. 3 - المسح على الخفين، رخصة خلاف الأوْلى؛ لأن الأَوْلى والأفضل غسل الرجلين. القسم الخامس: الرخصة المكروهة، ومن أمثلته: 1 - السفر للترخص فقط، أي: يسافر لأجل أن يفطر أو يقصر، وليس له غرض إلا ذلك، فهذا له أن يفطر ويقصر رخصة، ولكن هذه الرخصة مكروهة، لأنه ضيع وقته بلا فائدة. 2 - غسل الخف بدلاً من مسحه، فهذا يعتبر من الرخص المكروهة؛ لأنه قد يفسد ماله، ومع ذلك فهو مجزئ؛ لأنه مسح وهذه الأقسام، والأمثلة التي أوردتها عليها خالف فيها بعض العلماء، وذكروا أدلة على مخالفتهم، وأجبت عنها، فراجع ذلك - إن شئت - مع تفصيلات أخرى في كتابي: " الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس ". كوفي بئرث المسألة الخامسة: أيهما أفضل الرخصة أو العزيمة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأفضل الأخذ بالعزيمة وترجيحها. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن العزيمة هي الأصل المقطوع به، الذي لا يختلف فيه، أما الرخصة فسببها ظني وهو: المشقة؟ حيث إن مقدار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 المشقة الذي ثبت الترخص من أجلها غير منضبط؛ لأنها تتفاوت بحسب الأشخاص والأحوال. الدليل الثاني: أن العزيمة عامة وشاملة لجميع المكلَّفين، أما الرخصة فهي خاصة لبعض المكلَّفين؛ حيث إنها ترجع إلى حالة جزئية بحسب بعض المكلَّفين، ممن له عذر، أو بحسب بعض الأحوال والأوقات. الدليل الثالث: أن الأخذ بالرخص قد يصبح ذريعة ووسيلة إلى انحلاك العزائم في التعبد، بخلاف الأخذ بالعزائم فإنه يعوِّد على الثبات في التعبد والأخذ بالحزم في الأمور. المذهب الثاني: أن الأفضل الأخذ بالرخصة. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن الرخصة مقطوع بها، أما وجود الظن في سببها فلا يؤثر؛ لأن الشارع أوجب العمل بالظن كما أوجب العمل بالقطع. الدليل الثاني: أن النصوص الدالة على رفع الحرج عن هذه الأمة قد بلغت درجة القطع مثل قوله تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) ، وقوله: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، وثبت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يُخَيَّر بين أمرين إلا اختار أيسرهما، فالشارع الحكيم قد قصد السهولة واليسر على المكلَّفين مما يدل على أن الأخذ بالرخصة مقدم على الأخذ بالعزيمة. الدليل الثالث: أن ترك الترخص مع وجود السبب قد يؤدي إلى الانقطاع عن العمل والسآمة والملل، والتنفير عن الدخول في العبادة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وترك الدوام عليها؛ وقد حذر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من ترك الترخص في نصوص كثيرة منها: قوله: " خذوا من العمل ما تطيقون، فإن اللَّه لن يمل حتى تملوا "، ونهى رسول اللَّه عن صوم الوصال، وعن الصيام في السفر. هذه أهم أدلة الفريقين. بيان القول الحق: والحق عندي - والله أعلم -: أنه لا تفضل الرخصة على العزيمة، ولا العزيمة على الرخصة؛ وذلك لأن سبب الرخصة وهو العذر - من مشقة، وحاجة، وضرورة - لا ضابط له معين واضح جلي يتساوى فيه جميع المكلَّفين، فالعذر من مشقة وحاجة وضرورة أمر إضافي نسبي، لا أصلي، فكل مكلف فقيه نفسه في الأخذ بها ما لم يجد مانعا شرعيا يمنعه عن الأخذ بها، وهو داخل تحت قاعدة " المشقة تجلب التيسير "، فالمشقة والكلفة التي يجدها المكلف عن الإتيان بالحكم الشرعي الأصلي تكون سبباً شرعيا للتخفيف والتسهيل. وهو أيضاً داخل في معنى قاعدة: " إذا ضاق الأمر اتسع " قال ابن أبي هريرة: " وضعت الأشياء في الأصول على أنها إذا ضاقت اتسعت، وإذا اتسعت ضاقت "، فالحركة القليلة في الصلاة لما اضطر إليها المكلف ويجد مشقة في تركها قد سومح فيها، والحركة الكثيرة فيها لما لم تكن به حاجة لم يسامح بها، وكذا قليل دم البراغيث يسامح به، دون كثيره. وقلنا: إن كل مكلَّف يعتبر فقيه نفسه، هذا من حيث الجملة؛ العذر من مشقة، أو ضرورة، أو حاجة تختلف بحسب الأزمان والأعمال، وقوة العزائم وضعفها، وليس كل الناس في تحمل المشاق على حد سواء، فمثلاً: لو أصاب " زيداً " من المكلَّفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 مرض قد يتحمله دون حاجته إلى الأخذ بالترخيص، بينما لو أصاب نفس المرض " عمراً "، فقد لا يتحمله فتكون الرخصة مشروعة بالنسبة لعمرو، دون " زيد ". وكذلك من كان من المضطرين معتاد على الصبر على الجوع، ولا تختل حالته بسببه، فإنه لا يرخص له في أكل الميتة، بخلاف الشخص الذي لا يستطيع الصبر على الجوع، فهذا يرخص له في أكل الميتة؛ لأنه يخشى عليه من الهلاك، أو إلحاق ضرر به. فعرفنا أن سبب الرخصة وهو العذر من مشقة، وضرر، وحاجة ليس له ضابط معين، بل هو أمر إضافي بالنسبة إلى كل مخاطب، فهو راجع إلى تقدير المشقة والحرج الذي يحصل للمكلف وإلى اجتهاده في ذلك بحسب طاقته الخاصة. ثم إنه ينبغي للمكلَّف أن يحتاط في اجتناب الرخص على حسب الإمكان، بحيث لا يفعل شيئاً مرخصا فيه إلا بعد التأكد التام أنه مضطر إليه. أما تتبع الرخص لغرض التخفيف والتهرب عن كامل التكاليف فهذا غير جائز. *** المسألة السادسة: حكم الرخصة: الرخصة قد تكون مباحة، وقد تكون واجبة، وقد تكون مندوبة، وقد سبق بيان ذلك في أقسام الرخصة، وهذا مذهب الجمهور. ولكن الشاطبي - رحمه اللَّه - ذكر أن حكمها: الإباحة مطلقا، مستدلا على ذلك بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ) ، وقوله تعالى: (وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 حيث إن هاتين الآيتين وغيرهما مما في معناهما قد دلَّت على رفع الإثم والحرج، ولم يرد فيها أمر يقتضي الإقدام على الرخصة، بل الذي ورد نفي الإثم والمؤاخذة على من ترك العزيمة. الدليل الثاني: أن الرخص لو كانت مأموراً بها لكانت عزائم لا رخصا، وإذا ثبت ذلك ظهر أن الجمع بين الأمر والرخصة جمع بين متنافيين. الدليل الثالث: أن الرخصة لغة التيسير والسهولة، ولا يستقيم ذلك إلا إذا كان حكم الرخصة الإباحة لا غير. بيان نوع الخلاف: قلت: وفهم بعض الباحثين مما ذكره الشاطبي أن رأيه يخالف رأي الجمهور غير صحيح؛ لأن رأيه يطابق ما ذكره الجمهور تمام المطابقة؟ حيث إن الجمهور أيضا يقولون بأن حكم الرخصة هو: الإباحة مطلقا؛ لأن معناها التيسير والسهولة، وذلك بحصول الجواز للفعل أو الترك، يرخص في الحرام بالإذن في فعله، وبالواجب بالإذن في تركه، أما وصف الرخصة بالوجوب أو الندب أو غيرهما، فإنه أمر زائد على معنى الرخصة، حيث يؤخذ من أدلة أخرى، ولهذا اقتصر الكتاب العزيز على مجرد نفي الإثم والجناح، فعلمنا من ذلك الجواز فقط، وقد صرَّح بذلك كثير من العلماء كالغزالي، وتاج الدين ابن السبكي، والزركشي، والآمدي، وقد درست هذه المسألة في كتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين "، فارجع إليه إن شئت. ------------- هذا آخر المجلد الأول من كتاب " المهذب في علم أصول الفقه المقارن " لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة حفظه الله ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثاني إن شاء الله وأوله: " أدلة الأحكام الشرعية "، وهو الباب الثالث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 المجلد الثاني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ الباب الثالث في أدلة الأحكام الشرعية إن الأحكام الشرعية السابقة - من وجوب، وندب، وإباحة، وكراهة، وتحريم، وسبب، وشرط، ومانع،، وصحة وفساد، وعزيمة، ورخصة، وأداء، وإعادة، وقضاء - لا يمكن أن تثبت ويعمل بها إلا بدليل شرعي متفق عليه إجمالاً، أو مختلف فيه، لذلك عقدنا هذا الباب بعد ذكرنا للأحكام الشرعية: التكليفية والوضعية من باب ذكر الأثر، ثم ذكر المؤثر. وللكلام عن الأدلة الشرعية بالتفصيل لا بد من عقد تمهيد، وفصلين: أما التمهيد فهو في تعريف الدليل، وشموله للقطعي والظني. أما الفصلان فهما: الفصل الأول: في الأدلة المتفق عليها إجمالاً. الفصل الثاني: في الأدلة المختلف فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 التمهيد في تعريف الدليل، وشموله للقطعي والظني ويشتمل على المطلبين التاليين: المطلب الأول: تعريف الدليل. المطلب الثاني: هل الدليل شامل للقطعي والظني؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 المطلب الأول في تعريف الدليل أولاً: الدليل لغة هو: المرشد إلى المطلوب، ومنه: دليل القافلة، حيث إنه مرشدهم إلى الطريق، وهو عام للناصب، والذاكر، وما به الإرشاد. ثانيا: الدليل اصطلاحا هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري. شرح التعريف وبيان محترزاته: المراد بقولنا: " ما " اسم موصول، وهو راجع إلى شيء، والتقدير: " الشيء الذي يمكن التوصل بصحيح النظر فيه.. ". وأتى بلفظ: " ما يمكن التوصل " للاحتراز عن التوصل بالفعل. أى: أن ذكر الإمكَان في التعريف للتنبيه على أن الدليل من حيث هو دليل لا يعتبر فيه التوصل بالفعل، بل يكفي إمكان التوصل. فالدليل هو الذي يصح أن يستدل به، ويسترشد به، ويتوصل به إلى المطلوب، وإن لم يتوصل به أحد، ولو كان اللَّه عَزَّ وجَل خلق جماداً، ولم يستدل به أحد على أن له محدثا: لكان دليلاً وإن لم يستدل به أحد، فالآية والحديث تسمى أدلة وإن لم يستدل بهما أحد، فالدليل دليل لنفسه وإن لم يستدل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 ولو قلنا: " ما توصلنا بصحيح النظر فيه إلى مطلوب " للزم من ذلك خروج كل دليل لم ينظر فيه أحد. والمراد بقولنا: " بصحيح النظر ": بيان وجه دلالة هذا الدليل على المدلول. والنظر هو: الفكر في حال المنظور فيه. وخرج بهذه العبارة: النظر الفاسد؛ لأن النظر الفاسد لا يمكن أن يتوصل به إلى مطلوب خبري؛ لأنه لا يصلح أن يكون آلة للتوصل إلى شيء. وقولنا: " مطلوب خبري " أي: ما يخبر به، وهو التصديق، فيكون المطلوب التصوري خارجا عن هذا التعريف مثل: الأحوال الشارحة، والحدود، والرسوم. والمراد بالوصول إلى ذلك المطلوب الخبري: علمه، أو ظنه. فعلى هذا: يكون الدليل عاماً وشاملاً لما يفيد القطع، والظن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 المطلب الثاني في هل الدليل شامل للقطعي والظني؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الدليل عام وشامل لما يفيد القطع، ولما يفيد الظن. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الصحيح عندي؛ لذلك عرفنا الدليل بما يعم القطعي والظني كما سبق. ودل على ذلك أمور ثلاثة: الأول: أن حقيقة الدليل هي: ما أرشد إلى الشيء المطلوب، وإذا كان الأمر كذلك فقد يرشدك مرة إلى العلم، ومرة إلى الظن، وعلى هذا فيستحق اسم الدليل في الحالين. الثاني: أن اللَّه عَزَّ وجَلَّ قد أوجب العمل بما يفيد الظن كما أوجب العمل بما يفيد القطع، ولم يفرق بينهما في ذلك، فلزم أن يكون ما يفيد الظن دليلاً، كالذي يفيد القطع. الثالث: أن العرب لم تفرق - في كلامها - بين ما يوجب العلم وبين ما يوجب الظن في إطلاق اسم الدليل، فلزم من ذلك التسوية بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 المذهب الثاني: أن الدليل اسم خاص لما يفيد القطع، أما ما يفيد الظن فيسمى أمارة. وذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم: الغزالي، والآمدي، وفخر الدين الرازي، والقرافي، وابن عقيل، والطوفي. وقالوا: إن هذا اصطلاح لنا لإعطاء كل لفظ ما يفيده، ولا مشاحة ولا حجر في الاصطلاح، ولا يلزم من كون العرب لا تعرفه: منعه عرفاً. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الاصطلاح لكم في التفريق بينهما منع منه أمور: أولها: أننا لما نظرنا إلى حقيقة الدليل وجدنا أنها لم تفرق بينهما. ثانيهما: أن الشارع لم يفرق بينهما في العمل. ثالثها: أن العرب لم تفرق بينهما في كلامها. الجواب الثاني: أن هذا الاصطلاح في التفريق بينهما يمكن أن يقبل لو كان معمولاً به، ولكن - بعد تتبع واستقراء - كتب أصحاب المذهب الثاني وجدناهم لا يلتزمون بهذا الاصطلاح، حيث إنهم يسمون ما يفيد الظن دليلاً، ولا يفرقون بينه وبين ما يفيد القطع في الإطلاق. ولهذا قلت في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين ": إن الخلاف لفظي لا ثمرة له. تنبيه: الدليل يطلق على البرهان، والأمارة، والآية، والحُجَّة، والبيِّنة؛ لأنها - كلها - ترشدنا إلى مطلوب خبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 الفصل الأول في الأدلة المتفق عليها إجمالا ًَ ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في الدليل الأول وهو: القرآن. المبحث الثاني: في الدليل الثاني وهو: السُّنَّة. المبحث الثالث.: في الدليل الثالث وهو: الإجماع. المبحث الرابع: في الدليل الرابع وهو: القياس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 المبحث الأول في الدليل الأول من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الكتاب ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف القرآن. المطلب الثاني: في القراءة غير المتواترة " الشاذة ". المطلب الثالث: وجود المجاز في القرآن. المطلب الرابع: هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية؟ المطلب الخامس: في المحكم والمتشابه. المطلب السادس: هل يوجد في القرآن مشترك لفظي؟ المطلب السابع: في النسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 المطلب الأول في تعريف القرآن أولاً: القرآن لغة: مصدر قرأ يقرأ قراءة وقرآنا، قال الشاعر: ضحوا بأشمط عنوان السجود به ... يُقطع الليل تسبيحا وقرآنا أي: يقطع الليل قراءة للقرآن. وقال تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) أي: قراءة الفجر. ويُسمَّى المقروء قراءة عند العرب من باب تسمية المفعول باسم المصدر كتسميتهم المشروب شربا، والمكتوب كتابا، وهكذا. ثم اشتهر الاستعمال في هذا واقترن به العرف الشرعي، فصار القرآن اسما لكلام اللَّه عَزَّ وجَلَّ. ثانيا: القرآن اصطلاحاً هو: " الكلام المنزل للإعجاز بسورة منه، أو أقل منها المتعبد بتلاوتها،. شرح التعريف وبيان محترزاته: قولنا: " الكلام " جنس يشمل كل كلام سواء كان من اللَّه، أو من البشر، وسواء كان عربيا كالقرآن، أو أعجميا كالتوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 قولنا: " المنزل " أي: الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيه بألفاظه ومعانيه، قال تعالى: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) . وخرج بلفظ: " المنزل " كلام البشر؛ حيث إنه لم ينزل. قولنا: " للإعجاز " قيد أخرج الأحاديث كلها، سواء كانت أحاديث قدسية، أو أحاديث نبوية، وخرج به - أيضا - التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم، فإن هذه لم يقصد منها الإعجاز. والإعجاز هو: قصد إظهار صدق دعوى النبي - صلى الله عليه وسلم - الرسالة عن اللَّه تعالى. قولنا: " بسورة منه، أو أقل منها " لبيان أن أي سورة من سور القرآن ولو كانت قصيرة، كسورة الإخلاص، أو أقل منها يحصل بها الإعجاز، فلا يستطيع أحد مهما كان من الذكاء والفطنة والفصاحة والبلاغة أن يأتي بمثلها. قولنا: " المتعبَّد بتلاوته " قيد لإخراج الآيات المنسوخة اللفظ سواء بقي حكمها أم لا، فهذه لا تعطى حكم القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 المطلب الثاني في القراءة الشاذة " غير المتواترة " ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: في بيان القراءة المتواترة وغير المتواترة "الشاذة" المسألة الثانية: أمثلة للقراءة غير المتواترة. المسألة الثالثة: هل القراءة غير المتواترة حُجَّة؟ المسألة الرابعة: هل تصح الصلاة بالقراءة الشاذة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 المسألة الأولى: في بيان القراءة المتواترة وغير المتواترة "الشاذة ": القراءة المتواترة هي: كل قراءة ساعدها خط المصحف، مع صحة النقل فيها، ومجيئها على الفصيح من لغة العرب. فلا بد أن تجتمع في القراءة تلك الشروط الثلاثة الواردة في التعريف، فإذا اختل أحد هذه الشروط الثلاثة، فإن القراءة تكون غير متواترة، وهي: الشاذة. والقراءة المتواترة هي: قراءة السبعة وهم: " نافع بن عبد الرحمن الليثي المدني "، و " عبد اللَّه بن كثير المكي "، و " زيان بن العلاء، أبو عمرو البصري "، و " عبد اللَّه بن عامر الشامي اليحصبي "، و"عاصم بن أبي النجود الكوفي "، و " حمزة بن حبيب بن عمارة الزيات الكوفي "، و " علي بن حمزة الكسائي النحوي ". وكذلك قراءة الثلاثة على الصحيح وهم: " يعقوب بن إسحاق الحضرمي "، و " خلف بن هشام بن ثعلب الأسدي "، و (أبو جعفر يزيد بن القعقاع ". *** المسألة الثانية: أمثلة للقراءة غير المتواترة، وهي: الشاذة: 1 - قراءة عائشة وحفصة - رضي اللَّه عنهما - : " حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى صلاة العصر ". 2 - قراءة ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - : " لا جناح عليكم أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج ". 3 - قراءة ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - : " وأيقن أنه الفراق ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 4 - قراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - فاقطعوا أيمانهما ". 5 - قراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - متتابعات ". 6 - قراءة أُبي بن كعب - رضي اللَّه عنه - نسائهم تربص أربعة أشهر فإن فاءوا فيهن ". 7 - قراءة أُبي بن كعب - رضي اللَّه عنه - متتابعات ". : " والسارق والسارقة : " فصيام ثلاثة أيام : " اللذين يؤلون من : " فعدة من أيام أخر *** المسألة الثالثة: هل القراءة غير المتواترة حُجَّة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن القراءة غير المتواترة - الشاذة - حُجَّة، أي: أنها تؤثر في الأحكام الفقهية نفياً وإثباتا. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم الإمام أبو حنيفة، والإمام الشافعي في قول له، والإمام أحمد في رواية مشهورة عنه. وهذا هو الصحيح عندي؛ لأن الناقل للقراءة الشاذة - وهو الصحابي - أخبر أنه سمع ذلك من النبي - صلى الله عليه وسلم - فالمنقول لا يخرج عن أمرين: أولهما: إما أن يكون قرآنا. ثانيهما: إما أن يكون خبراً عن - صلى الله عليه وسلم -. فإن كان الأول - وهو كونه قرآنا - فيجب العمل به؛ لوجوب العمل بكل ما جاء في القرآن الكريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 وإن كان الثاني - وهو كونه خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيجب العمل به - أيضا - لأن خبر الواحد العدل الثقة قد اتفق العلماء على العمل فالمنقول - على التقديرين - يجب العمل به، وكل ما وجب العمل به فهو حُجَّة. المذهب الثاني: أن القراءة غير المتواترة ليست بحُجَّة، أي: لا تؤثر في الأحكام الفقهية. ذهب إلى ذلك: الإمام مالك في رواية مشهورة عنه، وهو ظاهر مذهب الشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الذي صححه الآمدي، وابن الحاجب، وابن السمعاني، والنووي. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء بقولهم: إن الناقل للقراءة الشاذة لا يخلو من أمرين: أولهما: إما أن ينقلها على أنها من القرآن. ثانيهما: أو أنه ينقلها على أنها ليست من القرآن. فإن كان الأول - وهو أنه نقلها على أنها من القرآن - فهذا باطل؛ اللَّه - تعالى - قد كلَّف رسوله أن يبلِّغ القرآن مجموعة من الأُمَّة تقوم الحُجَّة بقولهم، ويحصل بخبرهم العلم القطعي، فليس للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يناجي بأي آية من القرآن واحداً من الأُمة. فإذا ثبت ذلك: فإن ما نقله هذا الواحد يكون خطأ وباطلاً؛ نظراً لوروده عن واحد، وعلى هذا فلا يحتج به. وإن كان الثاني - وهو أنه نقلها على أنها ليست من القرآن - فيحتمل في ذلك احتمالين هما: الاحتمال الأول: أنه قد أورد هذا المنقول في معرض البيان لما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 اعتقده مذهبا، فقد يكون اعتقد التتابع - مثلاً - حملاً لهذا المطلق في كفارة اليمين على المقيد بالتتابع في الظهار. الاحتمال الثاني: أن يكون قد أورد هذا المنقول استناداً إلى خبر قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. جوابه: نجيب عن ذلك: بأن الاحتمال الأول - وهو كونه نقل ذلك بيانا لمذهبه الخاص - بعيد جداً؛ لأن الصحابة الذين بذلوا النفس والنفيس لإعلاء كلمة اللَّه تعالى، والذين اختارهم اللَّه لصحبة نبيه، ولحمل هذه الشريعة إلى من بعدهم لا يظن بواحد منهم أن يجعل رأيه ومذهبه الخاص به قرآنا، أو أنه يلبس فى ذلك، فهذا الاحتمال باطل لا شك في ذلك. فإذا بطل هذا الاحتمال: تعين الاحتمال الثانى وهو: أن هذا الناقل قد أورد هذا المنقول استناداً إلى خبر سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والخبر يجب العمل به. بيان نوع هذا الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي؛ لأنه أثر في بعض المسائل الفقهية، ومنها: 1 - هل يجب التتابع في صيام كفارة اليمين؟ أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن القراءة الشاذة حُجَّة - قالوا: إنه يجب التتابع مستدلين بقراءة ابن مسعود - رضي الله عنه -: " فصيام ثلاثة أيام متتابعات ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن القراءة الشاذة ليست بحُجَّة - فقالوا: لا يجب التتابع. 2 - هل النفقة تجب على كل ذي رحم محرم؟ أصحاب المذهب الأول قالوا: إن النفقة تجب على كل ذي رحم محرم محتجين بقراءة ابن مسعود - رضي اللَّه عنه -: " وعلى الوارث ذي الرحم المحرم مثل ذلك ". أما أصحاب المذهب الثاني فقالوا: إن النفقة لا تجب إلا على الوالدين والمولودين. *** المسألة الرابعة: هل تصح الصلاة بالقراءة الشاذة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنها لا تصح الصلاة بالقراءة الشاذة. وهو مذهب كثير من العلماء. وهو الصحيح؛ لأن الصلاة لا تصح إلا بقرآن، والقرآن لا يكون إلا متواتراً، وهذه القراءة لم يثبت أنها قرآن، وهي خارجة عن الوجه الذي ثبت به القرآن، فلا تصح القراءة بها. المذهب الثاني: أنه تصح الصلاة بالقراءة الشاذة. ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، وهو إحدى الروايتين للإمام مالك وأحمد. واستدل هؤلاء بقولهم: إن الصحابة كانوا يقرأون بهذه الحروف في الصلاة، وكان بعضهم يصلي خلف أصحاب هذه القراءات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 جوابه: نجيب عن ذلك بأن هذه دعوى تحتاج إلى دليل جزئي، وعلى فرض ثبوت ذلك فقد يكون ذلك قد ثبت ذلك قبل العرضة الأخيرة، وقبل إجماع الصحابة على المصحف العثماني، فيكون ذلك منسوخاَ إما بالعرضة الأخيرة، أو بإجماع الصحابة على المصحف العثماني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 المطلب الثالث في وجود المجاز في القرآن ويشتمل على مسألتين هما: المسألة الأولى: في بيان الحقيقة والمجاز. المسألة الثانية: خلاف العلماء في القرآن هل يوجد فيه مجاز؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 المسألة الأولى: بيان الحقيقة والمجاز: الحقيقة هي: اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً كقولك: "رأيت أسداً "، فإن الذهن ينصرف إلى أن لفظ " الأسد " المقصود به: الحيوان المفترس. والمجاز هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له أصلاً لقرينة كقولك: " رأيت أسداً يخطب "، فإن الذهن ينصرف إلى أن لفظ " الأسد " المقصود به: الرجل الشجاع، وذلك بسبب القرينة، وهي كونه يخطب. وسيأتي الكلام عن الحقيقة والمجاز بالتفصيل في الفصل السابع من الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام. *** المسألة الثانية: خلاف العلماء في القرآن هل يوجد فيه مجاز أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن في القرآن مجازاً كما فيه حقيقة. ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية صحيحة عنه، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن القرآن عربي نزل بلغة العرب، قال تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقال: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) ، ولغة العرب يدخلها المجاز، فيكون القرآن قد اشتمل على المجاز؛ لأنه نزل بلغتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 والدليل على أن لغة العرب يدخلها المجاز هو: وقوعه فيها، فاستعمل العرب لفظ " الأسد " للرجل الشجاع، و " الحمار " للرجل البليد، و " البحر " للرجل العالم، وقولهم: " قامت الحرب على ساق "، وقال الشاعر: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي فهنا نسب الشاعر فعل الشيب، والإفناء إلى تعاقب الأيام والليالي، وهذا لا شك في أنه مجاز. والأمثلة على ورود المجاز في لغة العرب كثيرة لا تكاد تحصى. ما اعترض به على هذا الدليل: لقد اعترض على هذا الدليل باعتراضين: الاعتراض الأول: أن العرب عبروا عن الرجل الشجاع بالأسد، وعن البليد بالحمار، ولكن هذا التعبير حقيقي. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا لا يصح؛ لأنه لو كان حقيقة فيه: لكان إذا قال: " رأيت حماراً " أنه لا يسبق إلى فهمه الحمار المعهود، بل الذي يسبق إلى الفهم: الرجل البليد والحمار المعهود معا.، فلما سبق فهمه إلى الحيوان البهيم دلَّ على أنه مجاز في الرجل البليد، وأيضا: أنه لما احتاج إلى قرينة دلَّ على أنه مجاز؛ لأن الحقيقة تفهم بدون قرينة. الاعتراض الثاني: الحقيقة قد عمَّت جميع الأشياء، فلا نحتاج إلى المجاز، فلم يعبر به القرآن؛ لأنه لا يفيد، وبالتالي يكون عبثاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 جوابه: نجيب عنه بأنا لا نُسَلِّمُ بأن المجاز لا فائدة فيه، بل فيه فوائد كثير:، ومنها: 1 - أن الكلام بالمجاز أبلغ وأفصح من الكلام بالحقيقة أحياناً، فمثلاً لو قال: " هذا بحر " يريد مدح آخر، أبلغ وأفصح من قوله: " هذا رجل عالم بجميع العلوم ". 2 - أن الكلام في المجاز يفيد الاختصار في الكلام، فمثلاً لو قال: " هذا الرجل أسد " أخصر من قوله: " هذا الرجل يشبه الأسد في الشجاعة ". وكذلك إذا أراد أن يصف نفسه يقول: " سل عني سيفي "، ولا يقول: "سل عني علياً كيف فعلت وقتلت "، ولهذا قال تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، ولم يقل: " واسأل أهل القرية " مع أنه هو المقصود، وذلك لاختصار الكلام. 3 - أن الكلام في المجاز فيه تجنب ذكر ما يقبح ذكره كلفظ "الخراءة "، فإنه حقيقة في الخارج المعتاد من الإنسان، فعدل عنه الشارع إلى ذكر الغائط، أو قضاء الحاجة وهي مجاز. ونحو ذلك مما سيأتي ذكره في أسباب العدول إلى المجاز، وذلك في المطلب الخامس من المبحث الثاني من الفصل السابع من الباب الرابع. الدليل الثاني: أن المجاز وقع وورد في القرآن، بحيث يذكر الشيء بخلاف ما وضع له، وهو إما زيادة، أو نقصان، أو استعارة، أو تقديم، أو تأخير، من ذلك: 1 - قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، فإن المراد: واسأل أهل القرية؛ لامتناع توجيه السؤال إلى نفس القرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 اعتراض على هذا: اعترض أحدهم فقال: يجوز أن يأذن اللَّه تعالى للقرية أن تجيبهم. جوابه: نجيب عن ذلك: بأن اللَّه لم يخرج ذلك مخرج المعجزة، وإنما أخرجه مخرج الخبر، وكل موضع في القرآن ذكر قرية فالمراد به أهل القرية، مما يدل على ذلك قوله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) ، ومعروف أن نفس القرية ما عتت عن أمر ربها، وأنها لا تحاسب حساباً شديداً، ولا تعذب، وإنما المراد أهل القرية. 2 - من ذلك قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ) ، ومعلوم أن الذل ليس له جناح حقيقة، فاستعاره له. 3 - ومن ذلك قوله تعالى: (جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ) ، ومعروف أن الجدار لا إرادة له؛ لأن الإرادة يوصف بها من كان له شعور، فاستعار الإرادة للجدار، وأريد به الميل القائم بالجدار. 4 - ومن ذلك قوله: (أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ) والغائط - حقيقة - يطلق على المنخفض من الأرض، وسمي ما يخرج من الإنسان من الأذى بالمكان استعارة. 5 - ومن ذلك قوله: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) والرأس لا يشتعل. 6 - ومن ذلك قوله: (وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ) والمقصود: حب العجل. 7 - ومن ذلك قوله: (رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) ومعروف أن الأصنام نفسها لا تضل أحداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 اعتراض على ذلك: اعترض بعضهم على ذلك بقوله: إنا نسلم أن الله قد استعمل في تلك الآيات اللفظ في غير ما وضع له، ولكن لا نسميه مجازاً، وإنما زيادة، ونقصان، واستعارة، وتقديم، وتأخير. جوابه: نجيب عنه بأنا نسميه مجازاً؛ لصدق تعريف المجاز عليه، وأنتم لا تسمونه بذلك، وتسمونه باسم آخر، فيكون الخلاف في التسمية واللفظ - فقط - فلا خلاف بيننا وبينكم إذن. المذهب الثاني: أنه لا يوجد في القرآن مجاز، بل كله حقيقه. وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة كأبي الحسن التميمي، وابن حامد، وبعض أهل الظاهر، والروافض. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن القرآن حق، والحق لا يكون إلا حقيقة، فلا يدخله المجاز. جوابه: نقول - في الجواب عنه -: لا نُسَلِّمُ لكم ذلك فقد يكون باطلاً، ويكون حقيقة مثل: أن فرعون أخبر اللَّه تعالى عنه في القرآن قائلاً: (وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب) ، ومعلوم أن هذا باطل وإن كان حقيقة. وقد يكون حقاً ولا يكون حقيقة مثل ما قال - صلى الله عليه وسلم -: "يا أنجشة رفقاً بالقوارير " يقصد النساء، ومعروف أن كلام - صلى الله عليه وسلم - حق، لكن ليس هو حقيقة؛ لأن القوارير هي غير النساء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 الدليل الثاني: أنه لو كان في القرآن مجاز: لجاز أن يسمى الله تعالى متجوزاً أو مستعيراً، فلما لم يجز أن يُسمَّى به: دلَّ على أن القرآن لا يوجد فيه مجاز. جوابه: نجيب عنه: بأن أسماء اللَّه تعالى تثبت توقيفا، ولم تثبت اشتقاقا. الدليل الثالث: أن المجاز فيه إيهام، فهو لا يفصح عن المراد فيقع فيه الإشكال والإلباس، والقرآن لا يجوز أن يكون فيه تلبيس؛ لأن الله وصفه بأنه بيان، حيث قال: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . جوابه: نجيب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن التعبير بالمجاز يكون إلباسا لو لم توجد فرينة تدل على المراد، لكن توجد قرينة في المجاز تدل على المراد، فدل على أنه ليس فيه تلبيس. الجواب الثاني: أن القرآن ليس كله بيانا، بل بعضه، والبعض الآخر يحتاج إلى بيان كالمتشابه، والمجمل، ونحو ذلك، ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، فلو كان جميعه بياناً لما احتاج إلى مبين. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي يرجع إلى تفسير الحقيقة ما هي. فإن كان المراد بها الحق، فقد أجمع العلماء على أنه لا مجاز في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 القرآن؛ لأن المجاز مقابل الحقيقة، والحقيقة هي: الحق، فيكون المقابل هو الباطل، وهذا نقطع بأنه لا يوجد في القرآن. وإن كان المراد بالحقيقة: اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً، فإنه يوجد في القرآن مجاز؛ لأن المجاز مقابل الحقيقة، والحقيقة هي اللفظ المستعمل فيما وضع له أصلاً، فيكون مقابله - وهو المجاز - هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له، وهذا يجيز القول بأن القرآن مشتمل عليه؛ لأنه وقع فيه كما سبق في الآيات، ومنهم من سماه بغير هذا الاسم، وهو المجاز، فيكون نزاع في عبارة، أما المعنى فهو متفق عليه فيكون الخلاف لفظيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 المطلب الرابع في هل يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية؟ اتفق العلماء على وجود أسماء غير عربية في القرآن مثل: "إسرائيل "، و " جبريل "، و " عمران "، و " إبراهيم "، و " لوط "، و"نوح ". واتفق العلماء على أن الكلام المركب على أساليب غير العرب لا يوجد في القرآن. ولكنهم اختلفوا في الألفاظ بغير العربية هل توجد في القرآن؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يوجد في القرآن لفظ بغير العربية. ذهب إلى ذلك: أبو بكر الباقلاني، وابن جرير الطبري، وأبو عبيدة - معمر بن المثنى -، والباجي، وأبو يعلى، وأبو الخطاب، ونسب إلى عامة الفقهاء والمتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن اللَّه تعالى وصف القرآن بأنه عربي محض في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا) ، وقوله: (وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا) ، وقوله: (بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 وقوله: (قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ) ، فلو كان فيه بعض ألفاظ بغير العربية لما وصفه بأنه عربي. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ) . وجه الدلالة: أن اللَّه صرح بأنه لا يوجد في القرآن لفظ بغير العربية، فمعنى الآية: إنا جعلنا القرآن كله عربيا، لأنا لو جعلناه أعجميا لقامت حُجَّة الكفار علينا، وقالوا: كيف يأتي قرآن أعجمي، ونبي عربي؟! ولذلك أنزلناه عربيا محضا، لنقطع عليهم قولهم هذا، فثبت أنه عربي محض لتقوم الحُجَّة به، ولئلا يتجه لهم إنكاره. الدليل الثالث: أن اللَّه تعالى أنزل هذا القرآن لبيان الأحكام الشرعية. ولبيان إعجازه لهم في أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة واحدة، قال تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِ) ، وقال: (قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ) ، وقال: (قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ) ، فقد تحداهم بذلك وبأقل من ذلك، ويمتنع أن يتحداهم بما ليس من لسانهم ولا يتقنونه؛ لأن هذا تكليف ما لا يطاق، كما لا يمكن أن يقال لعجمي: " هات مثل المعلقات السبع "، أو مثل واحدة منها، أو نحو ذلك. كذلك هنا: لا يمكن أن يتحداهم إذا كان بألفاظ ليست عربية، حيث إنه يمكن لأي واحد منهم أن يقول: " ليس هذا بلغة لنا، وعجزنا عن الإتيان بمثله لا يدل على إعجازك وصدق نبوتك ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 فثبت بهذا: أن القرآن عربي محض لا يوجد فيه ألفاظ بغير العربية، لأنه لو لم يكن كذلك لما صح هذا التحدي. المذهب الثاني: أن القرآن فيه ألفاظ بغير العربية. ذهب إلى ذلك ابن عباس وعكرمة - رضي اللَّه عنهم -، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعطاء، وهو اختيار ابن الحاجب، وابن عبد الشكور. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء بالوقوع، حيث قالوا: إنه ثبت بعد التتبع للقرآن وجود بعض الألفاظ فيه بغير العربية مثل: (ناشئة الليل) ، حبشية، و (مشكاة) هندية، و (إستبرق) فارسية، روي ذلك عن بعض الصحابة كابن عباس وعكرمة. جوابه: نجيب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن كل ما ذكرتموه قد جاء بلغة أعجمية بل بلغة عربية. فلا نسلم أن (ناشئة الليل) حبشية، بل هي عربية، حيث إن المراد: ساعات. الليل الناشئة، فاكتفى بالوصف عن الاسم، فالتأنيث للفظ ساعة؛ لأن كل ساعة تحدث، وقيل: إن ناشئة الليل هي: قيام الليل، قال ابن مسعود: الحبشة يقولون: نشأ أي: قام، فلعله أراد أن الكلمة عربية، ولكنها شائعة في كلام الحبشة غالبة عليهم. ولا نسلم - أيضاً - أن (المشكاة) هندية، بل هي عربية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 حيث إن معناها: الكوة، وهي من كلام العرب، يدل على ذلك أن الأنصاري وهو هندي أنكر كون المشكاة هندية، فقال في " فواتح الرحموت ": " ثم كون المشكاة هندية غير ظاهر، فإن البراهمة العارفين بأنحاء الهند لا يعرفونه ". الجواب الثاني: أن تلك الألفاظ جاءت بلغة العرب، ووافق وجود مثلها في كلام العجم، كما توافق اللسانان في كثير من الألفاظ، فمثلاً تقول العرب: " سراج " وهو بالفارسية: " جراع " وتقول العرب: " سماء "، وهو في العبرانية: " شما "، وتقول: " سروال " وهو بالفارسية: " شروال "، وهكذا. بيان القول الحق: القول الحق عندي هو ما قاله أبو عبيد - القاسم بن سلام البغدادي - كما ورد في " الصاحبي "، و " معترك الأقران "، و"الإتقان في علوم القرآن "، و " المزهر " - وهو: إن هذه الألفاظ التي ذكرها أصحاب المذهب الثاني أصولها أعجمية، لكن العرب استعملتها، فعربت بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فهي عربية بهذا الوجه. والسبب في ذلك: أن العرب العاربة التي نزل القرآن بلسانها يقومون بتجارات إلى البلدان العجمية التي حولهم كرحلتي الصيف والشتاء الخاصة بقريش ونحوها، فأخذ العرب من العجم بعض ألفاظهم، وغيرت بعضها بالنقص من حروفها، وجرت إلى تخفيف ثقل العجمة، واستعملتها في أشعارها ومحاوراتها حتى جرت مجرى اللغة العربية، ووقع بها البيان، وعلى هذا الحد نزل بها القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن كل فريق نظر إلى اعتبار. فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: لا يوجد في القرآن لفظ بغير العربية - نظروا إلى ما يستعمله العرب من الألفاظ المشتهر بينهم، سواء كانت ألفاظاً عربية محضة، أو كانت ألفاظاً معربة بالاستعمال. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: يوجد في القرآن ألفاظ بغير العربية - فإنهم نظروا إلى أصول الألفاظ المعربة بالاستعمال. وأيضاً لاتفاق أصحاب المذهبين على استواء أخذ الأحكام من ألفاظ القرآن الكريم، سواء كانت ألفاظاً عربية ابتداء، أو كانت ألفاظا معربة بالاستعمال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 المطلب الخامس في المحكم والمتشابه ويشتمل على ما يلي: المسألة الأولى: هل القرآن يشتمل على المحكم والمتشابه؟ المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة. المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحاً. المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 المسألة الأولى: هل القرآن مشتمل على المحكم والمتشابه؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن القرآن مشتمل لما هو محكم، وما هو متشابه. وهذا مذهب الجمهور من العلماء. وهو الصحيح عندي؛ لدليلين: أولهما: قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . ثانيهما: الوقوع؛ حيث وقع في القرآن ما هو محكم وعرفنا معناه، وما هو متشابه لم نعلم معناه. المذهب الثاني: أن القرآن كله محكم، ولا يوجد فيه متشابه. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ) ، حيث صرح بأن جميع آيات القرآن محكم، ولا توجد أيُّ آية متشابهة. جوابه: نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب قد أحكمت آياته في نظمها، ووضعها، وفصاحتها، وبلاغتها، وجزالة ألفاظها حتى بلغ حد الإعجاز، بحيث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يأتي بمثل آية منه، ونحن لا نبحث في ذلك. المذهب الثالث: أن القرآن كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا) ، حيث إن هذه الآية دلت على أن الكتاب كله متشابه، ولا يوجد فيه محكم. جوابه: نجيب عنه بأن المقصود بالآية: أن الكتاب متشابه أي: أن بعضه يصدق بعضه الآخر، وذلك لتشابه معانيه، فهو غير متناقض. وهذا لا نبحث فيه. بيان نوع الخلاف: الخلاف بين المذاهب لفظي، لأنه اتضح خلال عرض أدلة المذهب الثاني والثالث أنهم تكلموا وبحثوا في أمور ليس لها صلة فيما نحن فيه، فهم في الحقيقة لم يخالفوا فيما نحن فيه. *** المسألة الثانية: تعريف المحكم والمتشابه لغة: أولاً: المحكم لغة: المتقن، يقال: " أحكمت الشيء أحكمه إحكاماً ": إذا أتقنته، فكان في غاية ما يبتغي من الحكمة، ومنه: " بناء محكم " أي: متقن وثابت يبعد انهدامه. وهذا هو أقرب المعاني اللغوية لمقصود الأصوليين للمحكم هنا. وقيل: المحكم هو: الرد والمنع، يقال: " أحكمت " أي: رددت ومنعت، وسمي الحاكم حاكماً: لمنعه الظالم من الظلم، وسمي لجام الفرس حكمة؛ لأنه يمنع الفرس من الاضطراب. ثانيا: المتشابه لغة: الملتبس بغيره، مأخوذ من الشَّبه - بفتح الشين والباء - والشبيه هو: ما بينه وبين غيره أمر مشترك فيشتبه ويلتبس به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 المسألة الثالثة: المراد من المحكم والمتشابه اصطلاحا: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن المتشابه هو: ما ورد من صفات اللَّه تعالى في القرآن مما يجب الإيمان به، ويحرم التعرض لتأويله وتفسيره، والتصديق بأنه لا يعلم تأويله إلا اللَّه تعالى كوصفه سبحانه بالاستواء الوارد في قوله تعالى: (الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى) ، واليد الوارد في قوله: (لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ) ، واليدين الوارد في قوله: (بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ) ، والعين الوارد في قوله: (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) ، والوجه الوارد في قوله: (وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ) ، وغير ذلك من الصفات التي اتفق السلف على إقرارها، وإمرارها على ما هي عليه، وترك تأويلها كما قال الإمام مالك - رحمه اللَّه - لما سئل عن الاستواء الوارد في الآية السابقة -: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فلا يتعرض لهذه الصفات بتأويل، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تحريف. أما المحكم فهو ما أمكن معرفة المراد بظاهره، أو بدلالة تكشف عنه، أو بأي طريق من طرق المعرفة. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الصحيح عندي، لقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وجه الدلالة: أن اللَّه ذم المبتغين لتأويل المتشابه ووصفهم بأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 يبتغون الفتنة، وسماهم أهل زيغ، ولا يذم إلا على تأويل الصفات كما أجمع على ذلك السلف - رحمهم اللَّه -. فلو كان المقصود بالمتشابه غير ذلك لما ذم اللَّه المبتغين لتأويله. المذهب الثاني: أن المحكم هو: الذي اتضح معناه للعلماء وغيرهم من طلاب العلم. والمتشابه هو: ما علمه العلماء المحققون المدققون، وغمض على غير العلماء كالآيات التي ظاهرها التعارض. ذهب إلى ذلك بعض العلماء كابن عقيل. ومثَّل أصحاب هذا المذهب ببعض الآيات التي ظاهرها التعارض، إليك إياها مع الجواب عنها: 1 - قالوا: إن قوله تعالى: (اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) يعارض قوله: (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) . جوابه: يجاب عنه: بأن الآية الأولى تحمل على التوحيد بدليل قوله تعالى بعدها: (ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) ، أما الآية الثانية فإنها تحمل على أعمال وأفعال الجوارح. 2 - قالوا: إن قوله تعالى: (وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا) يعارض قوله: (لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ) . جوابه: يجاب عليه بأن المراد بالآية الأولى: لا تكسب شراً ولا إثما، فاقتصر في هذه الآية على الشر، بخلاف الآية الثانية؛ حيث ذكر فيها الشر والخير معا، وذكر ما يميز بينهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 3 - قالوا: إن قوله تعالى: (ولا يكلمهم الله يوم القيامة) يعارض قوله: (فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون) . جوابه: يجاب عنه بأنه لا تنافي بين الآيتين؛ حيث إن اللَّه تعالى نفى أن يكلمهم في الآية الأولى كلام التلطف والإكرام، وأثبت سؤالهم في الآية الثانية سؤال التوبيخ والإهانة. 4 - قالوا: إن قوله تعالى: (فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة) يعارض قوله: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ) . جوابه: يجاب عنه بأن المراد بالعدل في الآية الأولى: العدل بين الزوجات في توفية حقوقهن المادية والزمانية، وهذا ممكن الوقوع وعدمه، والمراد بالآية الثانية: الميل القلبي، فالزوج الذي له زوجتان فأكثر لا يملك ميل قلبه إلى بعض زوجاته دون بعض. 5 - قالوا: إن قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون) يعارض قوله: (قالوا يا ويلنا من بعثنا من مرقدنا) ، وقوله: (وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون) . جوابه: يجاب عنه: بأنهم لا ينطقون بحجة نافعة ومفيدة، ومن نطق بما لا ينفع ولا يفيد فكأنه ما نطق، قال الحسن - رحمهم اللَّه -: لا ينطقون بحجة وإن كانوا ينطقون. فهنا قد علم العلماء ما غمض على غيرهم، وفسَّروا ذلك التعارض لغير العالمين، وذلك بواسطة الأدلة والبراهين، فهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 يُمدحون، ولا يُذمون؛ لأن فعلهم هذا هو الطريق لمعرفة الأحكام، وبيان أن القرآن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والرد على أعداء الإسلام القائلين: إن القرآن فيه تناقض. المذهب الثالث: أن المحكم هو: الواضح الجلي الذي لا يحتاج إلى غيره لبيانه وتفسيره كالنصوص، والظواهر؛ حيث إن ذلك في غاية الإحكام والإتقان. أما المتشابه فهو المجمل الذي لا يفهم منه عند الإطلاق معنى معين فهو يحتاج - لمعرفة معناه - إلى تأمل، وتفكر، وتدبر، وقرائن تبينه وتزيل إشكاله. ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، والقاضي أبو يعلى، وتلميذه أبو الخطاب، وصحَّحه أبو إسحاق الشيرازي. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء بقوله تعالى: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ) . وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - سمى المحكمات أم الكتاب، وأم الشيء أصله الذي لم يتقدمه غيره كما قال الجوهري، فاقتضى ذلك أن المحكم ما كان أصلاً بنفسه المستغني عن غيره، فلا يحتاج إلى بيان. أما المتشابه فهو ما خالف ذلك وهو: المفتقر إلى بيان، وهو المجمل ونحوه مما لم يتضح معناه. جوابه: يجاب عنه: بأن المجتهد إذا شرع في تأوبل المجمل وغيره مما لم يتضح معناه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ورجح - بالأدلة - أن يكون المقصود بذلك اللفظ هو ذلك المعنى، وذلك الحكم فإنه يمدح، ولا يذم؛ لأن تأويله وفعله هذا طريق إلى معرفة الأحكام وتوضيحها للناس، وتمييز الحلال من الحرام لهم، والعلماء قديماً وحديثاً اهتموا ببيان المراد من اللفظ المجمل، فلو كان من المتشابه لما تعرضوا لذلك؛ لأنهم أعلم الخلق بالنواهي الشرعية. المذهب الرابع: أن المحكم: ما عرف معناه وتفسيره، والمتشابه هو: الذي لم نعلم معناه كالحروف المقطعة في أوائل السور مثل: "ألم "، و " ص "، و " المص "، و " ن "، و " حم "، ونحو ذلك مما لم يكن لأحد إلى علمه إلى سبيل مما استأثر اللَّه بعلمه دون خلقه. روي ذلك عن جابر بن عبد اللَّه، وبعض التابعين كالشعبي، وسفيان الثوري، ووصفه القرطبي بأنه أحسن - ما قيل في المتشابه. جوابه: يجاب عنه بأن اللَّه تعالى ذم من يتعرض لتأويل المتشابه - وذلك في آية آل عمران السابقة - ولا يمكن أن يُذم من تعرض لبيان الحروف المقطعة في أوائل السور، ويتلَمَّس الفوائد التي تحتها، والمعاني التي تتخرج عليها، والعلماء قد تعرضوا لذلك، واجتهدوا لبيأن معانيها، واختلفوا في ذلك على أقوال: فقيل: إن كل حرف منها مأخوذ من اسم من أسماء اللَّه، فالكاف من " كاف "، والهاء من " هاد "، والعين من " عليم "، والصاد من " صادق " من قوله تعالى: (كهيعص) . وقيل: إنها ذكرت كناية عن سائر حروف المعجم التي لا يخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 عنها جميع كلام العرب، تنبيهاً على أنه ليس يخاطبهم إلا بلغتهم وحروفهم. وقيل: إن اللَّه تعالى أنزل هذه الأحرف مثل: " الم "، و"كهعص "، و " ص "، وغيرها إبطالا لحساب اليهود، فإنهم كانوا يحسبون هذه الأحرف حالة نزولها، ويردونها إلى حساب الجمل، ويقولون: إن منتهى دولة الإسلام كذا، فأنزل اللَّه هذه الأحرف تخبيطاً للحساب عليهم. وقيل: إن تلك الحروف اسم اللَّه الأعظم إلا أنا لا نعرف تأليفه منها. وقيل: هي حروف دالة على أسماء أخذت منها، وحذفت بقيتها، فالألف من " اللَّه "، واللام من " جبريل "، والميم من " محمد - صلى الله عليه وسلم - "، وقيل غير ذلك فلو كانت تلك الحروف المقطعة هي المتشابه، لما حرص العلماء على بيان المراد منها، وتفسيرها؛ لأن العلماء يخشون اللَّه تعالى ويخافونه أكثر من غيرهم، فلما تعرضوا لبيان المراد من تلك الحروف اتضح أنها ليست من المتشابه الذي توعد اللَّه من يتعرض لتأويلها. المذهب الخامس: المحكم هو: الوعد والوعيد، والحلال والحرام، والأمر والنهي، والمتشابه هو: القصص والأمثال. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، كما أورده السيوطي في "الإتقان". دليل هذا المذهب: أن المحكم: ما استفيد الحكم منه، والوعد والوعيد ونحوه - مما ذكر - نستفيد الحكم منه، والمتشابه: ما لا يفيد حكما، وهذا حال القصص والأمثال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 جوابه: نجيب عنه: بأن مَنْ بيَّن أحكاما شرعية مأخوذة من تلك القصص والأمثال، فإنه يُمدح، ولا يُذم كمن استدل بقصة يوسف عليه السلام على مشروعية الجعالة، وذلك من قوله تعالى: (وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) ، وكمن استدل بقصة موسى مع شعيب عليهما السلام على جواز جعل المنفعة مهراً، وذلك من قوله تعالى: (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ) . وهناك مذاهب أخرى في ذلك قد ذكرتها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأن كل أصحاب مذهب امتنع عن التعرض للمتشابه بحسب اصطلاحهم؛ لئلا يكون داخلاً تحت الذم الذي توعد اللَّه به من تعرض للمتشابه بالتأويل. *** المسألة الرابعة: هل يمكن إدراك علم المتشابه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المتشابه لا يمكن إدراكه، ولا يعلم تأويله إلا الله تعالى. ذهب إلى ذلك كثير من الصحابة والتابعين، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) . وجه الدلالة: أن الوقف الصحيح على قوله تعالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، والواو في قوله: (والراسخون) للابتداء والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك فإنه لا يعلم تأويل المتشابه إلا اللَّه تعالى، ولا يعلم غيره ذلك وإن كان من الراسخين في العلم. الأدلة على ذلك: لقد دلَّ على أن الوقف الصحيح على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) ما يلي من الأدلة: الدليل الأول: لفظ الآية ومعناها دلا على أن الوقف الصحيح على قوله: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، وإليك بيان ذلك: أما الدليل من لفظ الآية على أن الوقف الصحيح على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) فهو: أن اللَّه تعالى لو أراد عطف الراسخين على لفظ الجلالة وهو " اللَّه " سبحانه وتعالى لقال: " ويقولون آمنا به " بزيادة " واو "، حيث إن جملة (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم) تكون جملة واحدة، ولفظ " يقولون " مستأنفة، فكان لابد من الواو، ولكنه لم يقل: " ويقولون " -، بل قال: " يقولون " بدون " واو " مما يدل على أن عبارة (يقولون آمنا به) مرتبطة بما قبلها، وليس لها إلا أن تكون خبر عن مبتدأ.، وهو (الراسخون) فينتج من ذلك أن " الواو " في قوله (والراسخون) للابتداء والاستئناف، وإذا كان الأمر كذلك، فإن الوقف يكون على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 أما. الدليل ممت معنى الآية على أن الوقف الصحيح على قوله تحالى: (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، فمن وجوه هي كما يلي: الوجه الأول: أن اللَّه - في الآية - قد ذم مبتغي تأويل المتشابه والمتبعين لذلك؛ حيث إنهم وصفوا بزيغ القلوب، وابتغاء الفتنة، ولو كان تأويل المتشابه معلوماً للراسخين في العلم: لكان مبتغي تأويله ممدوحاً غير مذموم، فلما ذم اللَّه تعالى مبتغي التأويل: عرفنا أن سبب ذلك الذم هو: كونه يزاحم اللَّه فيما استأثر بعلمه، فينتج من ذلك: أن اللَّه هو المتفرد بعلم المتشابه، لا يشاركه فيه أحد، وهذا يثبت المطلوب، وهو: أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) . الوجه الثاني: أن لفظة " أما " تأتي في اللغة لتفصيل الجمل، فلابد أن يكون في سياقها قسمان، وهذان القسمان إما أن يصرح بهما، أو يصرح بأحدهما، ويفهم الآخر تقديراً. مثال الأول: قوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا) . ومثال الثاني - وهو ما صرح بأحد القسمين دون الآخر - قوله تعالى: (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) ، ولم يذكر القسم الثاني لدلالة المذكور عليه، فكأنه قال: وأما من لم يؤمن ولم يعمل صالحاً فلا يكون من المفلحين. والآية التي نحن بصددها من هذا القسم؛ حيث قال تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ) ، فهذا تمام القسم الأول، وذكْر هذا القسم يدل دلالة واضحة على أن هناك قسماً آخر يخالفون من ذكروا في هذا القسم - وهو القسم الثاني للفظة: " أما " تقديرة: وأما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 غيرهم فيؤمنون بالتشابه ويقومون بتفويض معناه إلى اللَّه تعالى، دل على ذلك قوله: (وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا) ، فكأنه قال: " وأما الراسخون في العلم فيقولون "، ولو كان الراسخون في العلم يعلمون ويفهمون تأويل المتشابه لما خالفوا القسم الأول في ابتغاء التأويل ولكانوا قسماً واحداً. الخلاصة: أن اللَّه تعالى قسمهم إلى قسمين: قسم اتبع ما تشابه من الكتاب يبتغون تأويله، فذمهم اللَّه تعالى، وقسم آمنوا بالمتشابه وفوضوا معرفته إلى اللَّه، وأن ما يعلم تأويل المتشابه إلا هو سبحانه وتعالى، فهؤلاء مدحهم، وهذا يدل على أن الوقف على قوله: (إِلَّا اللَّهُ) . الوجه الثالث: قول الراسخين في العلم: (آمنا به) يدل دلالة واضحة على أنهم فوضوا علم المتشابه إلى اللَّه تعالى، وسلموا ذلك إليه سبحانه، وبينوا أن ذلك من علم الغيب الذي استأثر اللَّه بعلمه، فيدل ذلك على أن الراسخين في العلم لم يدركوا معنى المتشابه، فمعنى قوله: (آمنا به) أي: صدقنا به؛ لأن الإيمان هو التصديق، ولم يقل: والراسخون في العلم يقولون: علمنا به. الوجه الرابع: قول الراسخين في العلم: (كل من عند ربنا) بعد قولهم: (آمنا به) ؛ حيث إن ذلك يقوي ذلك التفويض، والتسليم لأمره وإن لم يعلموا معناه. والمراد من ذلك: أن الراسخين في العلم قالوا: إن المحكم الذي أدركنا معناه، وفهمنا المراد منه، والمتشابه الذي لم نفهم معناه، ولم ندرك المراد منه كلاهما من عند اللَّه، فنحن نؤمن بهما معاً، دون أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 نفرق بين ما علمنا وبين ما لم نعلم، إلا أن المحكم نؤمن به عن فهم وإدراك المراد، أما التشابه فإنا نؤمن به عن تفويض وتسليم. الدليل الثاني - من الأدلة على أن الوقف الصحيح على قوله: (إلا الله) - ما روي عن بعض الصحابة من القراءات التي تدل على أن الوقف الصحيح على قوله: (إلا الله) ؛ حيث روي عن ابن عباس أنه قرأ: " وما يعلم تأويله إلا اللَّه ويقول الراسخون في العلم آمنا به "، وروي عن أبي أنه قرأ: " ويقول الراسخون في العلم آمنا به "، وروي عن ابن مسعود أنه قرأ: " إن تأويله إلا عند الله والراسخون يقولون ". وهذه الروايات عن هؤلاء الصحابة إن ثبتت أنها قراءة فهي حُجَّة - كما قلنا فيما سبق - وإن لم تثبت قراءة فهي خبر، وإن لم يثبت ذلك فهي تفسير من صحابي فيقبل؛ حيث إن كلامه يقدم - في الشرع - على من هو دونه؛ لأن الصحابة شاهدوا التنزيل، وحضروا النبي - صلى الله عليه وسلم - فهم أعلم من غيرهم في ذلك. المذهب الثاني: أن الراسخين في العلم يعلمون تأويل المتشابه، ويدركون معناه. روي ذلك عن مجاهد والضحاك، وذهب إليه أبو إسحاق الشيرازي، والمعتزلة، وأبو الحسن الأشعري، والآمدي، والنووي، وابن الحاجب. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون) ، حيث قالوا: إن " الواو " في قوله: (والراسخون) عاطفة، فعلى هذا يكون الراسخون في العلم يعلمون تأويله؛ إذ لو كان الراسخون في العلم لا يعلمون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 المتشابه لما كان لهم على العامة فضيلة ومزية؛ لأن كلًّا من الراسخين في العلم والعامة يقولون: (آمنا به) . جوابه: نجيب عن ذلك بأن اللَّه تعالى قد جعل للراسخين في العلم فضيلة ومزية عن طريق علمهم بالآيات المحكمة، وفهمهم لها وبيانها للناس، وتوضيح ما التبس منها لهم، ولهم أجر على ذلك كما هو معلوم، ثم إن الراسخين في العلم قد علموا ما ورد عن اللَّه سبحانه وتعالى، دون الوقوف على كنه ذاته وصفاته، ولم يخرجهم ذلك عن كونهم من الراسخين في العلم. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ وذلك لأن هذا الخلاف راجع إلى مقصد، ومراد كل من الطرفين، فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الراسخين في العلم لا يعلمون المتشابه - أرادوا بذلك: أنهم لا يعلمون حقيقة المتشابه، وإنما ذلك إلى اللَّه تعالى. وأصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إنهم يعلمون تأويل المتشابه - أرادوا بذلك أنهم يعلمون ظاهره، ولا يعلمون حقيقته. فالاتفاق حاصل على أن الراسخين في العلم لا يعلمون حقيقة المتشابه؛ لأن علم ذلك قد استأثر اللَّه به. قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: " وكلا القولين حق، فمن قال: لا يعلم تأويله إلا اللَّه فمراده: ما يؤول إليه الكلام من الحقائق التي لا يعلمها إلا اللَّه، ومن قال: إن الراسخين في العلم يعلمون التأويل فالمراد به: تفسير القرآن الذي بيَّنه الرسول والصحابة ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 المطلب السادس هل يوجد في القرآن مشترك لفظي؟ اللفظ المشترك هو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنيين فأكثر وضعاً أولاً، وسيأتي إن شاء اللَّه بيان ذلك مع ذكر مسائله في الفصل الرابع من الباب الرابع الذي هو في " الألفاظ ودلالتها على الأحكام " وبما أني - الآن - أتكلم عن القرآن وما يخصه من مباحث، فإنه لزاماً عليّ أن أبين هذا الموضوع، وهو: هل يوجد في القرآن مشترك لفظي؛ فأقول: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يوجد في القرآن مشترك لفظي. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن القرآن نزل بلغة العرب، قال تعالى: (بلسان عربي مبين) ، ولغة العرب يرد فيها المشترك، فيكون القرآن قد اشتمل على المشترك؛ لأنه نزل بلغتهم. والدليل على أن لغة العرب يرد فيها المشترك: التردد في المراد من لفظ " القرء "، و " العين "، و " الشفق "، و " الجون "، و"الجلل "، وإذا تردد الذهن بين معنيين فهو علامة الاشتراك، فمثلاً: أطلق أهل اللغة: " القرء " على الطهر والحيض وهما ضدان، فدل على وقوع الاشتراك في اللغة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 الدليل الثاني: أن المشترك اللفظي قد وقع في القرآن، بحيث يرد اللفظ فيه فيتردد الذهن بين معنيين له أو أكثر. ومن ذلك قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، والقرء يصلح للطهر والحيض. فجاء لفظ " القرء " بمعنى الطهر فى قول الأعشى: أفي كل عام أنت جاشم غزوة ... تشد لأقصاها عزيم عزائكا مورثة عزاً وفي الحي رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا أي: ضيع أطهارهن في غزواته، فالقرء هنا: الطهر. وجاء لفظ " القرء " بمعنى: الحيض في قول الشاعر: يا رب ذي طعن علي فارض ... له قروء كقروء الحائض أي: أنه لما طعن كان له دم كدم الحائض. وبسبب هذا اللفظ المشترك اختلف العلماء في عدة المطلقة الحائض على رأيين: الرأي الأول: أن عدتها ثلاث حيضات؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء الوارد في الآية هو: الحيض. الرأي الثاني: أن عدتها ثلاثة أطهار؛ استناداً إلى أن المراد بالقرء الوارد في الآية هو: الطهر. واستدل كل فريق من العلماء بأدلة قد ذكرت أكثرها في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فراجعه من هناك. ومن ذلك - أي: من الألفاظ المشتركة الواردة في القرآن - قوله تعالى: (والليل إذا عسعس) ، فإن لفظ " عسعس " يأتي بمعنى "أقبل "، و " أدبر " على سبيل الاشتراك ذكره الجوهري في الصحاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 اعتراض على ذلك: اعترض معترض قائلاً: إن القرء ليس مشتركاً بين " الطهر "، و"الحيض "، بل هو موضوع للقدر المشترك بينهما، واختلف في تعيين ذلك المشترك على أقوال. أولها: أنه " الجمع " من قول القائل: " قريت الماء في الحوض ": إذا جمعته فيه، والدم يجتمع في زمن الطهر في الجسد، وفي زمن الحيض في الرحم. ثانيها: أنه الانتقال، فالانتقال يُسمَّى قرءاً لغة، فالحائض تنتقل من الطهر للحيض، وتنتقل من الحيض للطهر. ثالثها: أنه الزمان تقول العرب: " جاءت الريح لقرئها " أي: لزمانها، والحيض له زمان، والطهر له زمان، فسميا قرءاً لذلك. وكذلك قالوا: إن لفط " عسعس " ليس مشتركا، بل هو متواطئ، نظراً للقدر المشترك بينهما، وهو: اختلاط الظلام بالضياء. وفعلوا ذلك في كل مشترك فردوا ذلك إلى التواطؤ، أو الحقيقة والمجاز. جوابه: نجيب عن ذلك الاعتراض: بأن هذه التأويلات يمكن أن تسوغ وتقبل لو امتنع ثبوت المشترك في اللغة، ولكن الحقيقة: أن لفظ "القرء " ولفظ " عسعس " من الألفاظ المشتركة، وهذا ثابت في اللغة كما سبق بيان ذلك، وهذه التأويلات التي ذكرها المانعون من ثبوت المشترك متكلَّفة، وليس لأحد أن يتعسف التأويل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 المذهب الثاني: أنه لا يوجد في القرآن مشترك. نسب هذا المذهب إلى داود الظاهري. دليل هذا المذهب: استدل من ذهب إلى هذا المذهب بقوله: إن المشترك لو وقع في القرآن لوقع إما مبيَّناً بأن يذكر معه قرينة تفيد المعنى المراد من المعاني كما يقال - مثلاً -: " ثلاثة قروء وهي الأطهار ": فيلزم التطويل بغير فائدة " لأنه يمكن أن يعبر عن ذلك المعنى بلفظ مفرد وضع له فقط. وإما أن يقع المشترك غير مبيَّن فيكون غير مفيد - حيث إنه لم يحصل المقصود وهو: الفهم التفصيلي - وغير المفيد لا يقع به الخطاب، ولو وقع لكان عبثاً، والله عَزَّ وجَلَّ منزه عن العبث. جوابه: نجيب عنه: بأنا لا نسلِّم أنه إذا وقع غير مبيَّن لم يكن مفيداً، وإنما يلزم ذلك أن لو كانت الفائدة منحصرة في الفهم التفصيلي وهو: ممنوع، وذلك لأن غير المبيَّن في القرآن مفيد، وهو إما أن يقع في الأحكام، أو يقع في غير الأحكام. فإن وقع في الأحكام ففائدته الاستعداد للامتثال إذا بين. وإن وقع في غير الأحكام ففائدته مثل الفائدة في أسماء الأجناس وهو الفهم الإجمالي. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي " لأنه راجع إلى اصطلاح كل من الفريقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 المطلب السابع في النسخ النسخ يلحق الكتاب والسُّنَّة معاً، ولكن جعلناه من مباحث القرآن؟ لأنه أخص به بسبب إشكاله وغموضه بالنسبة إليه. وقد شمل الكلام عن النسخ المسائل التالية: المسألة الأولى: تعريفه لغة. المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل، أو العكس؟ المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحاً، واختلاف العلماء هل هو رفع أو بيان؟ المسألة الرابعة: شروط النسخ. المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص. المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص. المسألة السابعة: هل النسخ جائز عقلاً؟ المسألة التامنة: هل النسخ جائز شرعا؟ المسألة التاسعة: حكمة النسخ. المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام التي لا يتناولها. المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها وبالعكس ونسخهما معا؟ المسألة الثالثة عشرة: النسخ قبل التمكن من الفعل. المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ أو لا؟ المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء من أجزاء العبادة، أو شرط من شروطها. المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل. المسألة السابعة عشرة: النسخ با لأخف، والمساوي، والأثقل. المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ بعض الأمة فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟ المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن. المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة. المسألة الحادية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد. المسألة الثانية والعشرون: نسخ يسُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة. المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُنَّة بالقرآن. المسألة الرابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّئة المتواترة. المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 المسألة السادسة والعشرون: هل يكون الإجماع منسوخا؟ المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟ المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟ المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسحْ حكم الفرع تبعا لذلك؟ المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخا ومنسوخا؟ المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يفع منسوخا؟ المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع ناسخا؟ المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 المسألة الأولى: تعريف النسخ لغة: النسخ لغة يطلق على إطلاقين هما: الإطلاق الأول: يطلق ويراد به الإزالة والرفع، ومنه قولهم: "نسخت الشمس الظل "، أي: أزالته ورفعته، وهذا مثال النسخ إلى بدل. ومنه أيضاً قولهم: " نسخت الريح الأثر " أي: رفع الريح آثار القوم وأزالتها، وهذا مثال النسخ إلى غير بدل. الإطلاق الثاني: النسخ يطلق ويراد به لغة النقل مع بقاء الأول، ومنه قولهم: " نسخت الكتاب " أي: نقلت ما فيه، مع بقاء الأصل. *** المسألة الثانية: هل النسخ حقيقة في الإزالة مجاز في النقل أو العكس؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة بالاشتراك المعنوي. ذهب إلى ذلك ابن المنير في " شرح البرهان ". بيان الاشتراك المعنوي هنا: أن بين نسخ الشمس الظل ونسخ الكتاب قدراً مشتركاً، وهو: الرفع؛ حيث إن الرفع في نسخ الظل واضح؛ لأنه زال بضده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 أما الرفع في نسخ الكتاب فهو مقدر؛ حيث إن الكلام المنقول بالكتابة لم يكن مستفاداً إلا من الأصل، فكان للأصل بالإفادة خصوصية، فإذا نسخت الأصل ارتفعت تلك الخصوصية، وارتفاع الأصل والخصوصية سواء في مسمى الرفع. وهذا المذهب هو الحق عندي، لسلامته من المجاز، ومن الاشتراك اللفظي اللذين هما على خلاف الأصل، بيان ذلك: أن المجاز خلاف الأصل، لأنه يحتاج إلى قرينة عند استعمال المعنى المجازي تمنع من استعماله في المعنى الحقيقي، بينما الحقيقة لا تحتاج إليها، لأن الأصل في الكلام الحقيقة. كذلك الاشتراك اللفظي خلاف الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع، ولأن الاشتراك اللفظي يحتاج إلى قرينة ترجح أحد معنييه. فيكون النسخ يطلق على الإزالة والنقل حقيقة بالاشتراك المعنوي، لأنه لا يحتاج إلى قرينة، فإذا دار اللفظ بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي قدم الاشتراك المعنوي، لأنه هو الأصل، لأن الأصل عدم تعدد الوضع ولعدم احتياجه إلى قرينة، وإذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة، لأنها هي الأصل، والمجاز خلاف الاءصل. المذهب الثاني: أن النسخ يطلق حقيقة على الإزالة، ويطلق على النقل مجازاً. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، ومنهم: فخر الدين الرازي، والبرماوي وغيرهما. دليل هذا المذهب: أن النسخ مستعمل في إطلاقين هما: "الإزالة" و " النقل "، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 ولا ثالث لهما، فإذا كان إطلاق اسم النسخ على النقل في قولهم: "نسخت الكتاب " مجازاً؛ لأن ما في الكتاب لم ينقل حقيقة، بل نقل مجازاً: لزم أن يكون حقيقة في الإزالة؛ لأنه إذا بطل كونه حقيقة في أحدهما تعين أن يكون حقيقة في الآخر. المذهب الثالث: أن النسخ يطلق عليهما حقيقة بالاشتراك اللفظي. ذهب إلى ذلك القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، والقاضي عبد الوهاب المالكي. دليل هذا المذهب: أن النسخ استعمل في الإزالة والنقل، وأطلق عليهما معا في لسان العرب، والأصل في الإطلاق الحقيقة، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر. الجواب عن المذهبين السابقين: نجيب عنهما: بأن المجاز والاشتراك اللفظى خلاف الأصل - كما بينا فيما سبق - فلا يقاوم ذلك الاشتراك المعنوي؛ لأنه موافق للأصل، وقد سبق بيان ذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ لعدم تأثيره في الفروع الفقهية. *** المسألة الثالثة: تعريف النسخ اصطلاحا، واختلاف العلماء هل هو رفع أو بيان؟ لقد ذكر العلماء تعريفات للنسخ، ومن أهمها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 التعريف الأول: أنه: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متأخر عنه. اختار ذلك: القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وأبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والتبريزي. وهو الحق عندي؛ لكونه جامعاً مانعاً، وإليك بيان وشرح ذلك: إن هناك حكماً قد ثبت بخطاب شرعي متقدم، فجاء خطاب آخر من الشارع - فجأة - وهو متأخر عن الأول فرفع ذلك الحكم مثل: أن اللَّه تعالى حكم بأن عدة المتوفى عنها زوجها حول كامل، وذلك بخطاب شرعي وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بعد ذلك بزمن رفع هذا الحكم بخطاب متأخر عنه، وهو قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . فالرفع هو إزالة ذلك الحكم على وجه لولا هذا الرفع لبقي الحكم ثاشاً مستمراً يعمل به. فالنسخ - إذن - قطع لدوام الحكم فجأة، لا بيان انتهاء مدته. وهناك فرق بين قطع دوام الحكم، وبين انتهاء المدة، يتبين ذلك الفرق إذا فرقنا بين فسخ الإجارة، وانقضاء مدتها، بيان ذلك: الإجارة هي: عقد على منفعة لسنة كاملة - مثلاً - فإذا رفعت الإجارة بالفسخ، فإن ذلك يغاير زوالها بانقضاء مدتها؛ لأن فسخ الإجارة: قطع لدوامها لسبب خفي عن المتعاقدين عند ابتداء العقد. أما إنقضاء مدة الإجارة فهو ارتفاع حكمها لسبب قد علمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 المتعاقدان عند ابتداء العقد وهو: " انقضاء الأجل "، وهو انتهاء السنة. فلو استأجر منزلاً لسنة كاملة، فإن المستأجر والمؤجر يعلمان - عند ابتداء العقد - أنه عند انتهاء السنة سيرتفع حكم الإجارة، ولو انهدم المنزل في أثناء السنة فإن للمستأجر الفسخ مع عدم علمه عند ابتداء العقد بانهدام المنزل. فكذلك يقاس على ذلك نسخ الحكم، وهو قطع دوام الحكم، لا بيان انتهائه. فنسخ الحكم فجأة مثل فسخ الإجارة. أما انتهاء مدة الحكم فإنه لا يسمى نسخا، كما أن انقضاء مدة الإجارة لا يسمى فسخا. ولقد عبرنا بلفظ " الثابت " لبيان أنه يشترط في الحكم الأول أن يكون ثابتا، لأن ما لا ثبات له لا حاجة إلى رفعه؛ لأنه أصلا لم تنشغل الذمة به. ولقد عبرنا بلفظ " الخطاب " ولم نعبر بلفظ " النص "؛ لأن لفظ " الخطاب " شامل للفظ، والفحوى، والمفهوم؛ لأن النسخ يجوز بجميع ذلك. وعبرنا بلفظ " رفع الحكم " ولم نعبر بعبارة: " رفع الأمر والنهي " وذلك ليتناول الأمر والنهي والخبر، وجميع أنواع الحكم من واجب ومندوب ومكروه ومباح وحرام، فإن جميع ذلك قد ينسخ. وقد قيدنا التعريف بالخطاب المتقدم؛ لبيان أنه إذا زال حكم العقل بإيجاب العبادات ابتداء كالصلاة والزكاة والحج ونحو ذلك، فإن هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 لا يسمى نسخاً؛ لأن الحكم المرفوع - وهو حكم العقل، أو حكم النفي الأصلي - لم يكن ثابتا بخطاب من الشارع متقدم، بل هو ثابت بالأصل؛ لأن الأصل براءة الذمة. وقيدنا التعريف بالخطاب المتأخر للاحتراز من زوال الحكم بدون خطاب كالموت والجنون؛ لأنه من المعلوم: أن من مات أو جن فإن التكاليف ترتفع عنه، ولا يسمى ذلك نسخاً؛ لأن رفع الحكم عنهما لم يكن بخطاب، بل بسبب الموت والجنون. وقلنا: " بخطاب متأخر عنه " لبيان أنه يشترط: تأخر الخطاب الثاني - وهو الناسخ - عن الخطاب الأول المثبت للحكم الأول المنسوخ. واشتراط التأخر - هنا - لإخراج المخصِّصات المتصلة، كالشرط، والغاية، والاستثناء. مثال الشرط قولك: " أنت طالق إن دخلت الدار "، فإن قولك: " إن دخلت الدار " شرط قد رفع حكم عموم وقوع الطلاق الذي دلَّ عليه قوله: " أنت طالق "، وهذا لا يسمى نسخا وإن كان رفعا لحكم بخطاب؛ لأن الخطاب غير متأخر. ومثال الغاية قوله تعالى: (ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) ، فإن مجيء الليل لا يكون نسخاً للصوم؛ لأنه وإن كان رفعاً لحكم بخطاب إلا أن هذا الخطاب غير متأخر، بل هو متصل، فهو قد انتهى بانتهاء غاية الحكم وانقضاء وقته. ومثال الاستثناء قولك: " أنت طالق ثلاثا إلا واحدة "، فإن هذا الاستثناء قد رفع عموم الطلاق الثلاث حتى ردَّه إلى اثنتين، فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 رفع لحكم بخطاب، ولكن لا يسمى نسخاً؛ لأن الخطاب غير متأخر عنه، بل هو متصل. الحاصل: أنه يكون الخطاب الرافع ناسخا إذا ورد هذا الرافع بعد أن ثبت الحكم المراد نسخه واستقر، بحيث يدوم لولا هذا الرافع. أما إذا اتصل الرافع بالمنسوخ، فإنه يكون بيانا وإتماماً لمعنى الكلام. اعتراض على هذا التعريف: قال كثير من المعتزلة: إن تحديد النسخ بـ " الرفع " لا يصح؟ لأدلة هي كما يلي: الدليل الأول: قالوا: إن النسخ بمعنى الرفع يدل على البَداء - وهو: الظهور بعد أن لم يكن - والبَداء محال في حق اللَّه تعالى؟ حيث إننا لو قلنا به في حق اللَّه تعالى فإنه يلزم منه: أن اللَّه لما حكم بشيء بدا له وظهر له - فيما بعد - أن هذا الحكم خطأ ثم ندم عليه وهذا محال في حق اللَّه تعالى. جوابه: نجيب عنه بثلاثة أجوبة هي كما يلي: الجواب الأول: أنا نقطع بعدم لزوم البَداء من رفع الحكم، وذلك لأنا نقطع بكمال علم اللَّه تعالى، والبَداء ينافي كمال العلم؟ لأنه يستلزم الجهل المحض، لأن البَداء - كما قلنا - هو: ظهور الشيء بعد أن كان خافياً. الجواب الثاني: نحن لا نقول: إن اللَّه تعالى كان قد خفي عليه شيء في الأول وظهر في الثاني، وإنما نقول: إنه خاطب بهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 الخطاب وهو يعلم بأنه سيسقطه عن العباد بعد مدة من الزمان، فهو سبحانه علم أن مصلحة العباد تقتضي هذا الحكم في هذا الزمان بعينه وهو مفسدة لهم في زمن ثاني، فلما انتهى الزمن الأول رفع ذلك الحكم عنهم، وهذا ليس ببداء. الجواب الثالث: أن اللَّه سبحانه خلق الخلق على صفات مختلفة، فخلق الإنسان على صفة ثم نقله إلى صفة أخرى؛ حيث إنه خلقه طفلاً ثم رجلاً ثم شيبة، فإذا كان يفعل ذلك وهو لا يسمى بَداءً، فإن ما نحن فيه مثله، حيث إنه أنزل علينا حكما فعملنا به مدة، ثم نقلنا إلى حكم آخر فلا يسمى ذلك بَداء. الدليل الثاني: قالوا: إن خطاب اللَّه تعالى قديم، والقديم لا يصح رفعه، لأن الرفع نقل وإزالة وتغيير، وكل ذلك محال على القديم. جوابه: نجيب عنه: بأنه ليس معنى النسخ رفع الخطاب نفسه، بل المراد بالنسخ: رفع وقطع تعفُق الخطاب بالمكلَّف؛ قياسا على المكلف إذا طرأ عليه طارئ مثل: أن يصاب بجنون، فإن تعلق الخطاب بهذا المكلف يزول بسبب هذا الطارئ، ثم إذا زال الجنون وأصبح قادراً على القيام بما كلف به عاد إليه تعلق الخطاب به، فالخطاب نفسه لم يتغير، حيث إنه باق على ما هو عليه من حيث ذاته، فالجنون - مثلاً - سبب من جهة المخاطب بقطع تعلق الخطاب عنه. فكذلك النسخ سبب من جهة المخاطب بقطع تعلُّق الخطاب بهؤلاء المكلَّفين. الدليل الثالث: قالوا: إن تحديد النسخ بالرفع يؤدي إلى تناقض الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 الله في أحكامه، حيث إنه من جهة إثبات الحكم فإنه قد أمر به وأراد وجوده وشرعه، ومن جهة رفع الحكم فإنه قد نهى عنه، ولم يرد وجوده ولا شرعه. فلزم من ذلك: أن يكون الحكم الواحد مراداً وغير مراد ولا معنى للتناقض إلا هذا. جوابه: نجيب عنه: بأن هذا مبني على أن الأمر مشروط بالإرادة وهذا باطل؛ لأن الأمر - عندنا - يفارق الإرادة بدليل: أن اللَّه - تعالى - قد أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ولده ولم يرده منه، وأمر إبليس بالسجود ولم يرده منه؛ لأنه لو أراد ذلك لوقع؛ فإن الله تعالى فعال لما يريد. فالله تعالى قد يأمر بالشيء ولا يريد وقوع ووجود المأمور به، فلا تناقض بين الأمر بالشيء وكونه غير مراد الوقوع والوجود. الدليل الرابع: قالوا: إن الحكم المنسوخ إنما أثبته اللَّه تعالى لحسنه وصلاحيته للمكلَّفين فيمتنع رفعه، لأن رفعه - بالنهي عنه - يلزم منه أن ينقلب الحسن قبيحا، لأنه لولا قبحه وعدم صلاحيته لما رفع. جوابه: نجيب عنه بجوابين: أولهما: أن هذا مبني على قاعدة وهي: " التحسين والتقبيح العقليين " وهي باطلة عندنا، لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات، فالشارع هو اللَّه تعالى، فما أمر به يكون حسنا، وما نهى عنه يكون قبيحاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 ثانيهما: أن الشيء قد يكون حسنا في وقت، وقبيحاً في وقت آخر، فإذا أمر اللَّه تعالى في هذا الوقت بحكم فإنه يكون حسنا وفيه مصلحة للعباد، وإذا نهى عنه في وقت آخر يكون قبيحاً وفيه مفسدة على العباد، وهذا ليس فيه انقلاب الحسن إلى القبيح لمن دقق فيه. التعريف الثاني: أن النسخ: النص الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي مع التأخير عن مورده. اختاره: الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام الحرمين، وفخر الدين الرازي، والقرافي، وجماعة من المعتزلة، ونسب إلى الفقهاء. شرح التعريف: إن الحكم المنسوخ مغيا بغاية معينة ينتهي إليها، وله مدة معلومة محدودة، فإذا جاءت تلك الغاية ينتهي العمل به بذاته، والنسخ كشف هذا الانتهاء. فأصحاب هذا التعريف يجعلون النسخ بيانا، أي: أن الخطاب الثاني بين وكشف أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مراداً من الخطاب الأول، كما أن التخصيص في الأعيان كذلك. سبب اختيار هؤلاء لهذا التعريف: إن هؤلاء اختاروا هذا التعريف وعدلوا عن التعريف الأول لسبب وهو: أن الحكم راجع إلى كلام اللَّه - تعالى - وهو قديم، والقديم لا يرفع ولا يزال. جوابه: نجيب عنه بأن المرفوع ليس نفس الخطاب، بل إن المرفوع هو تعلق الخطاب بالمكلف فقط، وقد بيَّنا ذلك فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 * ما يمكن الاعتراض به على هذا التعريف: يعترض على هذا التعريف بما يلي: الاعتراض الأول: أن هذا التعريف قد جعل النسخ تخصيصا زمانياً. أي: أن الخطاب الثاني قد كشف وبيَّن أن الأزمنة بعده لم يكن ثبوت الحكم فيها مراداً من الخطاب الأول، كما أن التخصيص في الأعيان كذلك، ومعلوم أن النسخ يختلف عن التخصيص كما سيأتي بيان ذلك إن شاء اللَّه. الاعتراض الثاني: أن التعريف غير جامع لأفراد المعرف؛ لأنه لا يشمل " النسخ قبل التمكن من الفعل والامتثال "؛ لعدم دخول وقته؟ حيث إن عبارة: " ... الدال على انتهاء أمد الحكم الشرعي " تشعر بأن الحكم الذي بين أمده قد دخل وقت العمل به، فيكون الفعل الذي لم يدخل وقت العمل به غير داخل في التعريف. ومقتضى هذا: أن النسخ قبل التمكن من الفعل غير جائز، وهذا مخالف للقول الحق، وهو جواز النسخ قبل التمكن من الفعل ووقوعه كنسخ أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه، ونسخ الخمسين صلاة، كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى. بيان نوع الخلاف في هذا: أصحاب التعريف الأول قالوا: إن النسخ رفع، وأصحاب التعريف الثاني قالوا: إن النسخ بيان فما نوع هذا الخلاف؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن الخلاف لفظي؛ لاتفاق الفريقين على أن الحكم الأول له انعدام، وتحقق انعدامه لانعدام متعلقه، لا لانعدام ذات الحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أن الحكم المتأخر اللاحق لا بد أن يكون منافياً للأول؛ وأن وجوده يتحقق عدم الأول. ولاتفاق الفريقين - أيضاً - على أنه ليس كل الأحكام مؤقتة في علم اللَّه، وأنه ليس كل الأحكام مؤبدة، فلا يمكن لأحد الفريقين: أن يجزم بأنها مؤبدة، أو مؤقتة مطلقاً؛ فلا يستطيع أحد أن يقول: إن الخطاب المطلق في علمه تعالى كان مقيداً بالدوام، أو يقول: كان ذلك الخطاب مخصصا ببعض الأزمنة. ثم إن أصحاب التعريف الثاني - وهم القائلون: إن النسخ بيان - قد جوَّزوا نسخ الحكم المؤقت قبل مجيء وقته - كما سيأتي بيانه - وهذا لا يمكن إلا إذا كان رفعاً. فالحكم الشرعي له عمر عند اللَّه تعالى مقدّر، وأجل معين، والله تعالى يعلم هذا الأجل، فإذا جاء ذلك الأجل أنزل حكما اَخر، وارتفع الحكم الأول، فالحكم المنسوخ قد مات بأجله، وذلك بإماتة اللَّه تعالى له، وبيان وظهور الإماتة ليس إلا بهذا الرفع. فيكون في حق صاحب الشرع بيان محض لمدة الحكم المطلق الذي كان معلوماً عند اللَّه تعالى، إلا أنه أطلقه، فصار ظاهر البقاء في حق البشر، فكان تبديلاً - في حقنا، بيانا في حق الشارع. أو تقول - في تعليل كون الخلاف لفظيا -: إن القائلين بأن النسخ رفع يثبتون معه بيانا، وأن القائلين بأن النسخ بيان يثبتون معه رفعاً؛ وذلك لأن القائلين بأنه بيان لا ينازعون في أن الحكم المنسوخ كان قبل النسخ ثابتا، وهو بعد النسخ غير ثابت، وإنما أنكروا رفعا يناقض الإثبات ويجامعه. والقائلون بأن النسخ رفع لا ينازعون في أن المكلَّفين كانوا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 538 ظن بأن الحكم لا ينسخ بناء على أن الغالب في الأحكام القرار وعدم النسخ، ثم تبيَّن لهم بالنسخ أن اللَّه - تعالى - أراد من الأول نسخه في الزمان المخصوص؛ لأن الإرادة قديمة ولا بد منها اتفاقا، فالتقى المذهبان. *** المسألة الرابعة: شروط النسخ: لعله قد اتضح لك من شرحنا للتعريف الأول وهو الذي اخترناه الشروط التي ينبغي أن تتوفر في النسخ، وإليك أهمها: الشرط الأول: أن يكون الحكم المنسوخ قد ثبت بخطاب متقدم. أما الحكم الثابت بدليل العقل أو البراءة كان يتعارف الناس على شيء فيفعلونه كاستباحتهم الخمر في أول الإسلام على عادة كانت لهم فرفع ذلك، فإن ذلك ليس بنسخ؛ لأنه لم يثبت بخطاب متقدم. الشرط الثاني: أن يكون الحكم المنسوخ مطلقا لم يُحدد بمدة معلومة، فيأتي الناسخ فجأةً دون انتظار من المكلَّفين. الشرط الثالث: أن يكون الناسخ خطابا شرعيا، فإن ارتفع الحكم بموت المكلَّف، أو جنونه، أو غير ذلك من عوارض الأهلية فليس هذا بنسخ، وإنما سقط التكليف بسبب ذلك العارض. الشرط الرابع: أن يكون الناسخ منفصلاً عن المنسوخ متأخر عنه، فإن كان النص قد اقترن بعضه ببعض كالشرط، والغاية، والاستثناء، فليس بنسخ؛ حيث يكون تخصيصا. وهناك شروط مختلف فيها سنذكرها أثناء بحث المسائل التفصيلية للنسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 المسألة الخامسة: وجه الاتفاق بين النسخ والتخصيص: النسخ قد سبق تعريفه وهو: رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم، بخطاب متأخر عنه. أما التخصيص فهو: " قصر اللفظ مطلقا على بعض مسماه "، أو تقول: " هو قصر العام على بعض مسمياته "، أو هو: إخراج ما تناوله الخطاب عنه ". فإذا دققنا النظر في تعريف النسخ وتعريف التخصيص، فإنا نجد أنهما يشتركان ويتفقان في أن كل واحد منهما يوجب إخراج بعض ما تناوله اللفظ لغة، أي: أن كلًّا منهما فيه قصر للحكم على بعض مشتملاته إلا أن النسخ: قصر للحكم على بعض الأزمان، والتخصيص: قصر للحكم على بعض أفراده. *** المسألة السادسة: الفروق بين النسخ والتخصيص: مع اتفاقهما - فيما سبق - إلا أن بينهما فروقا هي كما يلي: الفرق الأول: أن التخصيص يبين أن ما خرج عن العموم - وهو المخصوص - لم يكن المتكلم قد أراد بلفظه الدلالة عليه. بخلاف النسخ، فإنه يدل على أن ما خرج - وهو المنسوخ - لم يرد التكليف به، وإن كان قد أراد بلفظه الدلالة عليه. الفرق الثاني: أن النسخ يشترط فيه أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ بخلاف التخصيص، فلا يشترط ذلك فيه: فيجوز أن يكون المخصِّص مقترنا مع العام كالتخصيص بالصفة، والشرط، والغاية، والاستثناء، ويجوز أن يكون المخصِّص متأخراً عن العام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 الفرق الثالث: أن التخصيص لا يدخل ولا يرد على الأمر بمأمور واحد مثل: " أكرم زيداً "؛ لأنه لا يكون إلا من متعدد. بخلاف النسخ، فإنه يجوز وروده على الأمر بمأمور واحد كما نسخ التوجه إلى بيت المقدس بالتوجه إلى البيت الحرام. الفرق الرابع: أن التخصيص تبقى معه دلالة اللفظ العام على ما تحته حقيقة على رأي الجمهور، أو مجازاً على رأي أبي ثور وعيسى ابن أبان فيما عدا الصورة المخصَّصة، بخلاف النسخ فلا يبقى معه دلالة اللفظ على ما تحته. أي: أن العام يبقى حُجَّة فيما بقي بعد التخصيص، فلا يخرج العام عن الاحتجاج به مطلقا في مستقل الزمان، فإنه يبقى معمولاً به فيما عدا الصورة المخصوصة. أما النسخ فإنه يبطل الدليل المنسوخ حكمه عن العمل به في مستقبل الزمان بالكلية، وذلك عندما يرد النسخ على الأمر بمأمور واحد. الفرق الخامس: أنه لا يجوز تخصيص شريعة بشريعة أخرى، ويجوز نسخ شريعة بشريعة أخرى. الفرق السادس: أن التخصيص لا يكون إلا لبعض أفراد العام. أما النسخ فقد يرفع جميع أفراد العام، وقد يرفع بعض أفراده. الفرق السابع: أن التخصيص لا يرد إلا على العام. بخلاف النسخ، فإنه يرد على العام والخاص. الفرق الثامن: أن التخصيص يجوز بالأدلة النقلية كالكتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 والسُّنَّة، ويجوز بالأدلة العقلية كالقياس، ويجوز بالقرائن الحالية، والقرائن المقالية. بخلاف النسخ، فإنه لا يجوز إلا بالأدلة النقلية كالكتاب والسُّنَّة. الفرق التاسع: أن العام المقطوع بدليله يجوز أن يُخصص بمقطوع مثله، ويجوز أن يخصص بمظنون كالقياس، وخبر الواحد ونحوهما من الأدلة المخصصة. بخلاف النسخ، فإن الحكم المقطوع بدليله لا ينسخ إلا بقاطع مثله. *** المسألة السابعة هل النسخ جائز عقلاً؟ النسخ جائز عقلاً للأدلة التالية: الدليل الأول: أنا نعلم بصحة تحريك الجسم بعد تسكينه، وتفريقه بعد جمعه، وإماتته بعد إحيائه.، وليس في الأمر بالشيء بعد النهي عنه إلا ما في تحريك الجسم بعد تسكينه، وتبييضه بعد تسويده وإذا كان ذلك كله من جملة الجائز، وجب أن يكون الأمر بالشيء بعد النهي عنه من جملة الجائز، وهذا هو النسخ. الدليل الثاني: أنا نعلم اختلاف المصلحة باختلاف الأزمان، فلا يمتنع أن يأمر اللَّه - تعالى - بالفعل في زمان لعلمه - سبحانه - أن العباد لهم مصلحة فيه في هذا الزمن، ثم ينهاهم عنه ويحرمه عليهم في زمن آخر لعلمه - سبحانه - أن العباد لو عملوا بذلك الفعل في هذا الزمن الثاني لترتب عليه مفسدة، كما يفعل الطبيب بالمريض؟ حيث يأمره باستعمال دواء خاص في بعض الأزمنة، وينهاه عنه في زمن آخر بسبب اختلاف المصلحة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 الدليل الثالث: أنه لا يمتنع عقلاً أن يأمر اللَّه تعالى بالشيء ثم ينسخه، سواء نسخ قبل الفعل، أو بعده للامتحان والابتلاء، فمن فعل الشيء قبل نسخه، أو عزم على فعله، أو استعد للامتثال، أو ظهرت عليه أي علامة تدل على استعداده لامتثال ذلك الأمر قبل أن ينسخ: فإنه يثاب. ومن لم يمتثل، ولم تظهر عليه أيُّ علامة للامتثال فإنه يأثم. الدليل الرابع: أنه إذا جاز أن يطلق الأمر ثم يسقطه بالعجز والمرض جاز أن يطلق الأمر ويسقطه بخطاب آخر. الدليل الخامس: أنه إذا جاز أن يخلق اللَّه - تعالى - خلقا على صفة، ثم بنقله إلى صفة أخرى: مثل أن يخلقه طفلاً، ثم ينقله إلى الشباب، ثم إلى الكهولة، ثم إلى الشيخوخة، ثم إلى الوت من غير اختيار للعبد، ولم يكن ذلك قبيحا في شرع ولا عقل، فوجب أن يجوز - هنا - أن يكلف اللَّه خلقه بعبادة ثم ينقلهم عنها. المسألة الثامنة: هل النسخ جائز شرعاً؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النسخ جائز شرعا. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: إجماع الصحابة، فقد أجمعوا على أن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - ناسخة لجميع الشرائع السابقة إما بالكلية، وإما فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 يخالفها فيه، فالأحكام التي كانت عليهم لا تلزمنا، ولسنا مطالبين بها إذا لم يرد بها شرعنا. الدليل الثاني: وقوع النسخ في الشريعة، والوقوع دليل الجواز: فقد وقع في شريعتنا نسخ بعض الأحكام بعد ثبوتها، ومنها: 1 - أنه نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها بالتربص أربعة أشهر وعشراً، قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، ثم قال: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . 2 - أنه نسخ وجوب التوجه إلى بيت المقدس باستقبال الكعبة، قال اللَّه تعالى: (سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا) ، وقال: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) . 3 - أنه نسخ صوم يوم عاشوراء بصوم رمضان. 4 - أنه نسخ وجوب ثبات الواحد للعشرة، فقال تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) نسخ ذلك بقوله: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) . وهناك أمثلة كثيرة ستأتي أثناء كلامنا عن بقية مسائل النسخ. الدليل الثالث: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى بيَّن أنه إذا نسخ آية أورد مكانها آية أخرى، وكلام اللَّه صدق، فالنسخ جائز. وسبب نزول الآية يؤيد ذلك: حيث إن سببها هو: أن اليهود عابوا على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - تحوله عن بيت المقدس إلى البيت الحرام، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 وقالوا: إن محمداً يأمر بالشيء ثم ينهى عنه، فأنزل اللَّه تعالى تلك الآية رداً عليهم، فهذا يدل دلالة واضحة على جواز النسخ؛ لأنها ردت عليهم في شيء عابوه قد وقع فعلاً. ما اعترض به على الاستدلال بهذه الآية: الاعتراض الأول: أن المراد من النسخ - في هذه الآية -: الإزالة، ونسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ. جوابه: يجاب عنه بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، لأنه معلوم أن القرآن كله خير من غير تفاوت فيه، فلو كان المراد من نسخ الآية إزالتها عن اللوح المحفوظ، وكتابة آية أخرى بدلها: لما تحقق هذا الوصف - وهي الخيرية بالنسبة لنا - وإنما تتحقق الخيرية بالنسبة إلينا فيما يرجع إلى أحكام الآيات المرفوعة عنا والموضوعة علينا من حيث إن بعض الأحكام قد يكون أخف من بعض فيما يرجع إلى تحمل المشقة، أو أن ثواب البعض أجزل من ثواب البعض الآخر من الأحكام - على خلاف بين العلماء - فوجب حمل النسخ على أحكام الآيات الموجودة في المصحف لا على ما ذكره المعترض. الاعتراض الثاني: أنه ليس المراد من الآية النسخ، وإنما المراد التخصيص. جوابه: يجاب عنه بأن هذا غير صحيح لأمرين: أولهما: أن لفظ الآية هو: " ما ننسخ "، والنسخ غير التخصيص، فكل واحد منهما له مفهوم يخالف الآخر كما سبق بيان ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 ثانيهما: أن التخصيص لا يستدعي بدلاً مثله، أو خيراً منه، وإنما التخصيص بيان للكلام. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ) . وجه الدلالة: أن التبديل عام وشامل للرفع والإثبات، والمرفوع إما تلاوة، وإما حكم، وكيفما كان فهو نسخ. المذهب الثاني: أن النسخ ممتنع شرعاً. نسب هذا المذهب إلى أبي مسلم الأصفهاني - محمد بن بحر المتوفى عام 422 هـ. دليل هذا المذهب: استدل على ذلك بقوله تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) . وجه الاستدلال: أن النسخ باطل؛ لأن فيه إلغاء للحكم المنسوخ، فلو وقع في القرآن لأتاه الباطل، وفى ذلك تكذيب لخبر الله تعالى، والكذب محال في خبره. جوابه: يجاب عنه بأن الآية لا تدل على أن النسخ ممتنع؛ لأمرين: أولهما: أن معنى الآية: أنه لم يتقدم على القرآن من كتب اللَّه ما يبطله، ولا يأتي من بعده من كتب اللَّه ما يبطله، وهذا ليس فيه معارضة في أنه ينسخ بعضه بعضاً. ثانيهما: أن النسخ إبطال، وليس بباطل؛ لأن الباطل ضد الحق، والنسخ حق، فهو إبطال العمل بالحكم المنسوخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 بيان نوع الخلاف: ابن دقيق العيد، وابن السمعاني، وابن الحاجب، وتاج الدين ابن السبكي، وغيرهم ممن تعرضوا لذلك يذكرون أن الخلاف بين الجمهور وأبي مسلم الأصفهاني لفظي. والقول الحق عندي التفصيل، وبيانه: أن العلماء الذين بلغهم مذهب أبي مسلم اختلفوا في مراده على أقوال: فقيل: إنه لا ينكر حقيقة النسخ، لكن لا يسميه بهذا الاسم، بل يسميه تخصيصا زمنيا. وقيل: إنه ينكره، وهو باطل عنده، وقيل: ينكره في شريعة واحدة - فقط -، وقيل: ينكره في القرآن خاصة. والراجح عندي هو الأول - وهو: أنه يسميه تخصيصا زمنيا - لأمرين: أولهما: أنه لا يتصور من مسلم إنكار النسخ؛ لأن النسخ من ضروريات هذه الشريعة؛ إذ هو ثابت وواقع. ثانيهما: أن أبا مسلم مؤمن بنبوة محمد - صلى الله عليه وسلم -، ومقر بأن التعبد بشرع من قبله من الأنبياء السابقين إنما هو مغيًّا إلى حين ظهور نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -، وعند ظهوره - صلى الله عليه وسلم - زال التعبد بشرع من قبله لانتهاء الغاية، ولو لم يقر بذلك لانتفت عنه صفة الإسلام. وإذا كان يسميه تخصيصا فالخلاف لفظي؛ لأن النسخ تخصيص في أزمان الخكم، ومعروف أن تخصيص الأزمان كتخصيص الأشخاص، فمعنى النسخ وحقيقته قد اتقق عليه بين الجمهور وأبي مسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 لكن الجمهور يسمونه نسخا، وأبا مسلم يسميه تخصيصا، فكل منسوخ عنده فيها مغيًّا عنده في علم اللَّه تعالى إلى ورود ناسخه كالمغيا في اللفظ، فنشأ من هذا تسمية النسخ تخصيصا، والغاية من المخصصات المعروفة، إذن الخلاف في العبارة والاصطلاح، فيكون الخلاف لفظياً. أما على قول من قال: " إن النسخ باطل عنده، وهو ينكره حقيقة "، أو من قال: " إنه ينكره في شريعة واحدة "، أو من قال: " ينكره في القرآن خاصة "، فالخلاف يكون معنوياً، إذ يترتب عليه آثار كثيرة، حيث يلزم منه إنكار كثير من الآيات الناسخة. تنبيه: بعض الأصوليين ذكروا أن من المنكرين للنسخ بعض فرق من اليهود، وهي ثلاث فرق هي كما يلي: الشمعونية - نسبة إلى شمعون بن يعقوب - ينكرون النسخ عقلاً وشرعاً. العنانية - نسبة إلى عنان بن داود - ينكرون النسخ سمعا، وجوازه عقلاً. العيسوية - نسبة إلى أبي عيسى: إسحاق بن يعقوب الأصفهاني - يجوزونه عقلاً، وسمعاً، ولكن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - عندهم ليست ناسخة لشريعة موسى عليه السلام. هذه الفرق الثلاثة لهم أدلة على ما ذهبوا إليه، ولقد ذكرت ذلك بالتفصيل، والأجوبة عن كل دليل من أدلتهم في كتابي: " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت. ولم أذكر ذلك هنا لأني توصلت أخيراً إلى أن حكاية خلاف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 اليهود في كتب أصول الفقه لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه فيما هو مقرر في الإسلام، وفي اختلاف فرق الإسلام مما يؤثر خلافهم في عمل المكلف، أما أقوال الكفار فلا يعتد بها في الإسلام، وموضع حكاية خلاف الكفار، وشبههم والرد عليها هو أصول الدين. *** المسألة التاسعة: حكمة النسخ: عندنا نوعان من النسخ هما: أولهما: نسخ الإسلام لما سبقه من الأديان. ثانيهما: نسخ بعض الأحكام ببعض في الإسلام. أما الأول - وهو: نسخ الإسلام لجميع الشرائع السابقة - فله حِكَمٌ ومنها: الحكمة الأولى: أن الأعمال البدنية إذا واظب عليها الخلف عن السلف صارت كالعادة عند الخلق، وظنوا أن أعيانها مطلوبة لذاتها، ومنعهم ذلك الظن من الوصول إلى المقصود، وهو معرفة الله وتمجيده، فإذا غيرت تلك الأعمال إلى أعمال أخرى، وتبين أن المقصود من تلك الأعمال رعاية أحوال القلب، والأرواح في المعرفة والمحبة: انقطعت تلك الظنون والأوهام عن الاشتغال بالصور والظواهر إلى علام السرائر. الحكمة الثانية: أن الخلق طبعوا على الملالة من الاستمرار على نوع من أنواع العبادة، فوضع في كل عصر شريعة جديدة لينشطوا في أدائها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 الحكمة الثالثة: أن النوع الإنساني يتقلب كما يتقلب الطفل في مراحل مختلفة، ولكل مرحلة حال تناسبها، فالبشر أول عهدهم في الوجود كانوا كالوليد في السذاجة والجهالة والبساطة، ثم بدأ التطور شيئاً فشيئاً، وفي أثناء هذا التطور مرَّتْ عليهم أعراض متباينة ومتفاوتة، فاقتضى ذلك وجود شرائع مختلفة لهم، فلما نضج هذا العالم واستوى جاء هذا الدين الحنيف خاتما للأديان كلها، ومتممًا للشرائع، وجامعاً لمصالح العباد والبلاد، فهو بحق دين عام وخالد إلى قيام الساعة. أما النوع الثاني - وهو: نسخ بعض الأحكام ببعض في شريعتنا - فله حِكَم، ومنها: الحكمة الأولى: تهيئة نفوس الناس إلى تقبل الحكم الأخير، بيان ذلك: أن الناس قبل مجيء الإسلام في جاهلية تعمها الفوضى، وعدم الانضباط بأنظمة وأحكام وقيود، فاقتضت حكمة الشارع ألا ينقلهم دفعة واحدة إلى ما يستقر عليه التشريع آخر الأمر، بل إن اللَّه تعالى سلك بهم طريق التدريج في التشريع من الأخف إلى الأشد، من أجل أن تتهيأ نفوسهم إلى تقبل حكمه النهائي، فيأتي ذلك الحكم وهم على أتم الاستعداد لتقبله والعمل به؛ إذ لو ألزمهم بالأحكام النهائية من أول وهلة لأدى ذلك إلى تنفيرهم عن الإسلام، والقضاء على الإسلام في مهده. ومن أمثلة ذلك: تشريع الصلاة، فقد شرعت الصلاة أولاً ركعتين في الغداة، وركعتين في العشي، ثم شرعت خمسا ركعتين ركعتين عدا المغرب فقد كانت ثلاثا، ثم أقرت تلك الصلاة في السفر، وزيد في الحضر، فجعلت أربعاً في الظهر والعصر والعشاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 مثال آخر: تحريم الخمر، فإنه سبحانه بيَّن أولاً ما في الخمر من الإثم والنفع، وإن إثمه أكبر من نفعه، ثم منع - ثانيا - الصلاة في حالة السكر، ثم حرَّم الخمر في جميع الأوقات. مثال ثالث: تحريم الربا: فقد بيَّن - أولاً - ما في الصدقة من الخير بخلاف الربا، فإنه لا يربو عند اللَّه، ثم بيَّن ثانيا: أن الربا كان سبباً في تحريم بعض الطيبات على اليهود، ثم نهى - ثالثا - عن أكل الربا أضعافاً مضاعفة وهو ما كان شائعاً بين أهل الجاهلية، ثم جاء - رابعاً - التحريم العام الذي لم يختلف فيه. مثال رابع: عقوبة الزنا جعله الشارع - أولاً - الإيذاء بالقول للرجال، والحبس في البيوت للنساء، ثم نسخ ذلك إلى الجلد لغير المحصن، والتغريب والرجم للمحصن. الحكمة الثانية: استمالة القلوب إلى اعتناق الإسلام كما في مسألة القبلة. بيان ذلك: أن الشارع الحكيم لم يشأ أن يفاجئ أهل الكتاب من اليهود الذين كانوا في المدينة بخلاف ما عهدوه من أنبيائهم من الصلاة إلى بيت المقدس، فجاء الأمر بالصلاة نحو بيت المقدس؛ لبيان أن وجهة الرُّسُل واحدة، وأنه لا يخالف الأنبياء السابقين، وما ذلك إلا لاستمالة قلوبهم إلى هذا الدين، فلما نسخ ذلك وأمر بالتوجه إلى الكعبة لم يستغرب ذلك أكثرهم. الحكمة التالثة: الابتداء والامتحان، وهذا في النسخ من الأشد إلى الأخف، ليظهر المؤمن الحق فيفوز، وليظهر المنافق فيهلك، وليميز اللَّه الخبيث من الطيب. ومن أمثلة ذلك: أن اللَّه أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبخ ابنه ثم نسخ ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 مثال آخر: نسخ وجوب التربص حولاً كاملاً عن المتوفى عنها زوجها بالتربص أربعة أشهر وعشراً. مثال ثالث: نسخ وجوب تقديم الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. مثال رابع: أنه نسخ ثبات الواحد للعشرة. *** المسألة العاشرة: بيان أن النسخ قليل في الشريعة: النسخ في الكتاب والسُّنَّة قليل؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الشريعة الإسلامية مبنية على إرساء القواعد الكلية والمبادئ العامة في الدين، وحفظ الضروريات، والحاجيات، والتحسينيات، وكل ذلك لم ينسخ منه شيء، بل أتى بتقوية تلك القواعد، وتحصينها، فلم يتناول النسخ القواعد الكلية والقواعد العامة. الدليل الثاني: أن تحريم ما هو مباح بحكم الأصل ليس بنسخ كالخمر والربا، فإن تحريمهما بعد ما كانا على حكم الأصل لا يعد نسخاً لحكم الإباحة الأصلية، وكذلك رفع براءة الذمة بدليل يثبت حكماً لا يعتبر نسخاً. الدليل الثالث: أن غالب ما ادعي فيه النسخ وجدته قد تنازع العلماء فيه؛ لأنه يقبل الاحتمال والتأويل والجمع بين الدليلين على وجه من كون الثاني بياناً لمجمل، أو تخصيصا لعموم، أو تقييداً لمطلق.، ونحو ذلك. الدليل الرابع: أن ثبوت الأحكام على المكلَّف مؤكد، فادعاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 النسخ فيها لا يكون إلا بأمر مؤكد ومحقق؛ لأن ثبوتها أولاً محقق، فرفعها بعد العلم بثبوتها لا يكون إلا بمعلوم محقق. *** المسألة الحادية عشرة: الأحكام التي يتناولها النسخ، والأحكام التي لا يتناولها: بعد تتبع واستقراء الأحكام المنسوخة وجد أن النسخ يتناول الأحكام الشرعية الجزئية التكليفية الفرعية العملية التي تحتمل كونها مشروعة، أو غير مشروعة في نفسها في زمن النبوة، أي: أن مصلحتها تتغير فتكون في وقت نافعة، وفي وقت ضارة ومفسدة على ما يعلمه الله سبحانه. وعلى هذا، فإن النسخ لم يتناول - واقعا - الأحكام التالية: 1 - الأحكام الأصلية المتعلقة بأصول الدين والعقائد كالإيمان بالله وملائكته، وكتبه، ورسله، والقَدَر خيره وشره، فهذه لا تقبل التغيير والتبديل بأي حال من الأحوال. 2 - الأحكام العامة والقواعد الكلية كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا ضرر ولا ضرار، وكل عمل ليس عليه أمرنا فهو باطل، والبينة على المدعي واليمين على من أنكر، فهذه لا يمكن رفعها؛ مصالحها ظاهرة. 3 - الأحكام التي لا تحتمل عدم المشروعية كأمهات الأخلاق، والفضائل كالعدل، والصدق، والأمانة، وبر الوالدين، والوفاء بالعهد، ونحو ذلك، فإن هذه لا تنسخ؛ لأن مصلحة التخلق بها أمر ظاهر، وحسنها لا يتغير بتغير الأزمان، ولا يختلف الأشخاص والاءكل م فيها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 4 - الأحكام التي لا تحتمل المشروعية كأمهات الرذائل: كالكفر، والكذب، والظلم، والخيانة، والغدر، وعقوق الوالدين، وعدم الإخلاص، ونحو ذلك، فهذه لا تنسخ؛ لأن قبحها لا يتغير بمرور الزمن، ولأن المفسدة التي تنال العباد في الأخذ بها ظاهرة. 5 - الأحكام المؤقتة، فهذه لا يدخلها النسخ؛ لأن التوقيت بيان انتهاء مدة الحكم كالصيام إلى غروب الشمس. 6 - الأحكام التي لم يثبت نسخها في عصر الرسالة صراحة، أو ضمناً، فإن تلك الأحكام مؤبدة لا تحتمل النسخ؛ لأنه لا نسخ إلا بوحي، ولا وحي إلا بنبي، ولا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم -. 7 - الأحكام التي ارتبط بها ما ينافي النسخ كالتأبيد مثل: الجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، وتحريم زوجاته - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأن تأبيد الحكم يقتضي حسنه على الدوام، والنسخ ينافي ذلك، هذا على حسب الواقع. المسألة الثانية عشرة: هل يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها، وبالعكس، ونسخهما معا؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز نسخ لفظ الآية دون حكمها، ويجوز نسخ حكمها دون لفظها، ويجوز نسخهما معاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن العقل لا يمنع من جواز نسخ لفظ الآية دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 حكمها ونسخ حكمها دون لفظها، ونسخهما معاً، وذلك لأن الآية يتعلق بها أحكام هي كما يلي: " أن تلاوة لفظ الآية يثاب عليها بالإجماع ". و" أن كتابة الآية في القرآن حكم من أحكامها ". و" أن انعقاد الصلاة بتلك الآية يعتبر حكماً من أحكامها ". وأن ما دلت عليه الآية من وجوب أو تحريم، أو ندب، أو كراهة، أو إباحة مما يتعلق بالمكلَّف يعتبر - أيضاً - حكماً من أحكامها. فإذا ثبت أنه يتعلَّق بالآية أحكام جاز أن يكون إثبات التلاوة والحكم معاً فيه مصلحة في وقت، ومفسدة في وقت آخر، وجاز أن لا يكون إثبات أحدهما مصلحة مطلقاً، وجاز أن يكون إثبات أحدهما مصلحة في وقت دون وقت. وبناء على ذلك جاز عقلاً رفع الحكم والتلاوة معاً، أو رفع الحكم دون التلاوة، أو رفع التلاوة دون الحكم، فلا تلازم بينها؟ لأنها كلها أحكام شرعية، وكل حكم قابل للنسخ. الدليل الثاني: الوقوع فقد وقع نسخ الحكم والتلاوة معاً، ونسخ الحكم وبقاء التلاوة، ونسخ التلاوة وبقاء الحكم، والوقوع دليل الجواز، وإليك أمثلة على ذلك: مثال نسخ التلاوة والحكم: ما روي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: " كان فيما أنزل من القرآن عشر رضعات معلومات يحرمن، ثم نسخن بخمس معلومات، فتوفي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وهن فيما يقرأ من القرآن "، فكانت العشر منسوخة الحكم والتلاوة معاً بخمس رضعات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 والمراد من الحديث: أن النسخ بخمس رضعات تأخر إنزاله حتى إنه - صلى الله عليه وسلم - توفي وبعض الناس يقرأ خمس رضعات ويجعلها قرآنأ متلواً؛ لكونه لم يبلغه النسخ؛ لقرب عهده، فلما بلغهم النسخ بعد ذلك رجعوا عن ذلك، وأجمعوا على أن هذا لا يتلى. مثال نسخ الحبهم وبقاء التلاوة: نسخ حكم آية الاعتداد بالحول الثابت بقوله تعالى: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) بالاعتداد أربعة أشهر وعشراً الثابت بقوله: (يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) . مثال آخر - لما سبق -: أن الحكم الذي يعمل به في أول الإسلام هو أن المكلف الذي يطيق الصيام يجوز له ترك الصيام، وتكون الفدية واجبة عليه، قال تعالى في ذلك: (وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ) ، فقد نسخ ذلك الحكم - مع بقاء تلاوة الآية - بقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه) . مثال نسخ التلاوة وبقاء الحكم: ما رواه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه فيما أنزل: "الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالا من الله والله عزيز حكيم". فهذا يثبت الرجم، فنسخت هذه الآية وبقي حكمها وهو: الرجم للمحصن. المذهب الثاني: لا يجوز نسخ لفظ الآية، ويبقى حكمها. ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة. أدلة هذا المذهب: لقد استدل أصحاب هذا المذهب بدليلين هما: الدليل الأول: قالوا فيه: إن نسخ لفظ الآية وبقاء ما أفادته من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 الأحكام يضيع فائدة إنزال القرآن؛ لأنَّ فائدة إنزاله هي: إفادة الأحكام، وما دامت الأحكام تستفاد بدونه، فلا فائدة من إنزاله، فامتنع بقاء الحكم ونسخ لفظ الآية. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك،، لأن فائدة إنزال القرآن ليست محصورة في إفادة الأحكام، فالفائدة كما تكون في إفادة الأحكام تكون - أيضاً - للإعجاز، وزيادة الثواب بتلاوته، والإعجاز والثواب قد حصلا من الآية قبل نسخ تلاوتها. الدليل الثاني: قالوا فيه: إن فائدة بقاء لفظ الآية هي: تلاوتها والثواب على ذلك، فرفعها حرمان للعباد من هذا الثواب، والله سبحانه لا يحرم عباده من شيء فيه مصلحة لهم، فكيف يقال: يجوز رفعها؟! جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يمتنع عقلاً أن يكون مقصود الشارع من إنزال الآية هو تعريف العباد بالحكم دون تلاوة الآية، فلما نزلت تلك الآية بلفظ معين وعرف العباد عن طريق ذلك اللفظ الحكم الشرعي المراد - وهو مثلاً: رجم الزاني المحصن - رفع لفظ الآية وانتهت. مهمته، وبقي الحكم المستفاد من تلك الآية ليعمل به. المذهب الثالث: لا يجوز نسخ الحكم، وبقاء التلاوة. نسب هذا إلى طائفة شاذة من المعتزلة. دليل هذا المذهب: لقد استدلوا على ذلك بقولهم: إن بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 يوهم أن الحكم باق؛ نظراً لبقاء دليله وهي الآية - وفي ذلك إيقاع المكلَّف في الجهل والحيرة، وهو قبيح من الشارع، والشارع منزه عن ذلك: فامتنع لذلك بقاء لفظ الآية، ونسخ الحكم الذي أفاده. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الكلام مبني على قاعدة " التحسين والتقبيح العقليين "، ونحن لا نقول بها. وعلى فرض أن ذلك الكلام غير مبني على تلك القاعدة فإنا نقول - في الجواب عنه -: إن الآية إنما تكون دليلاً إذا لم يرفع حكمها، فيقال: إن تلك الآية دئَت على ذلك الحكم المعمول به، أما إذا رفع وأزيل حكم تلك الآية فإنها لا تبقى دليلاً على شيء. أي: أن الآية إنما تدل على الحكم بشرط: عدم نسخ حكمها، وإذا انتفى هذا الشرط، ونسخ حكمها فلا تسمى دليلاً؛ لأن الدليل هو: ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، والآية المنسوخ حكمها لا يتوصل بها إلى شيء، إذن لا تسمى دليلاً فيبطل ما ذكرتم. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي لا ثمرة له في الفروع الفقهية؛ لأن عمل المكلَّف لم يختلف باختلاف تلك المذاهب. المسألة الثالثة عشرة: هل يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من فعله وامتثاله؟ إذا ورد الناسخ بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه العبادة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 أو بعد أن مضى من الوقت قدر ما تقع فيه بعصها، فإن هذا قد اتفق العلماء على جواز النسخ؛ لأن شرط الأمر حاصل وهو: التمكن من الفعل. أما إن ورد الأمر بفعل الشيء قبل وقته، ثم نسخ قبل دخول الوقت، أو بعده، ولكن قبل التمكن من فعل ذلك الأمر، فإن هذا هو المختلف فيه؛ حيث اختلف العلماء في نسخ الأمر بفعل شيء قبل التمكن من امتثاله على مذهبين: المذهب الأول: يجوز نسخ الأمر قبل التمكن من فعله، فيجوز أن يقول الشارع - مثلاً - في رمضان: " حجوا في هذه السنة "، ثم يقول قبل ابتداء الحج: " لا تحجوا ". ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن النسخ قبل التمكن من الفعل رفع لتكليف قد ثبت على المكلََّف، فكان نسخا، ولا يترتب على ذلك محال ولا بَداء، فيجوز أن يأمر اللَّه - تعالى - زيداً بفعل في يوم الأحد - مثلاً -، ويمنعه منه بمانع عائق له قبل يوم الأحد، فيكون زيد مأموراً بالفعل في الغد بشرط انتفاء المانع، وإذا جاز الأمر بشرط انتفاء المانع: جاز الأمر بالفعل بشرط انتفاء الناسخ ولا فرق. الدليل الثاني: أنه لو قال تعالى: " واصلوا الفعل سنة "، ثم نسخه بعد مضي شهر: جاز ذلك، وإن كان ذلك نسخا قبل وقت الفعل في بقية السنة. اعتراض على ذلك: قال معترض على هذا الدليل: إن نسخه يدل على أنه لم يرد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 السنة كلها، وإنما أراد الشهر، فصار ذلك بيانا للمراد بخلاف نسخ الكل قبل وقت فعله؛ لأنه يكون قد نسخ ما تناوله الأمر وذلك بَداء. جوابه: يجاب عنه بأن العبارة: " واصلوا الفعل سنة "، والسنة لا يعبر بها عن الشهر لا حقيقة ولا مجازاً، بل هي عبارة عن اثني عشر شهراً، فنسخه قبل ذلك هو النسخ قبل الوقت. الدليل الثالث: الوقوع، بيان ذلك: أن اللَّه أمر إبراهيم - عليه السلام - بذبح ابنه فقال سبحانه: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) .، ثم نسخ ذلك قبل التمكن من الذبح فقال: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فقد وقع - هنا - النسخ قبل التمكن من الفعل، والوقوع دليل الجواز. وهناك وجوه قد دلَّت على أن إبراهيم قد أمر بالذبح هي كما يلي: الوجه الأول: قوله تعالى حكاية عن إبراهيم: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى) ، فقال تعالى - حكاية عن ابن إبراهيم -: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) . فإن قول الابن - يدل على أن هناك أمراً بالذبح صدر من اللَّه إلى إبراهيم؛ لأن معنى قوله: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به، ويجب الحمل عليه ضرورة حمل الولد، وإخراجه إلى الصحراء، وأخذ آلات الذبح، وترويع الولد، فإن ذلك كله محرم من غير أمر من اللَّه تعالى، ولا إذن منه سبحانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 الوجه الثاني: قوله تعالى: (إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ) ، فلو لم يكن الدبح مأموراً به حقيقة لما كان هناك بلاء وامتحان عظيم. أي: لو كان المأمور به مقدمات الذبح من أخذ الولد إلى الصحراء، واستصحاب المدية والحبل، ونحو ذلك مما يلزم في الذبح لما كان هناك بلاء مبين؛ لأنه يسهل على النفس فعل المقدمات ما دامت النتيجة مأمونة وبعيدة عن الخطر. الوجه الثالث: قوله تعالى: (وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) ، فإن الفداء هو البدل، والذي يصلح أن يكون الفداء بدلاً عنه هو الذبح، فكان الذبح مأموراً به حقيقة. وهناك وجهان دلا على أن أمر إبراهيم بالذبح قد نسخ قبل التمكن من الذبح هما: الوجه الأول: أنه لو لم ينسخ لذبح إبراهيم ابنه، ولكنه لم يذبحه، فدل على أنه نسخ الأمر قبل التمكن من فعله. الوجه الثاني: أنه لو نسخ بعد التمكن من الفعل ولم يفعل: لكان ذلك تقصيراً من إبراهيم - عليه السلام - في امتثال ما طلب منه، والتقصير ليس من شأن الأنبياء - عليهم السلام -؛ حيث إنه معروف عنهم المبادرة في امتثال ما أمروا به، ولو كان وجوبه موسعا عليهم. * ما اعترض به على الدليل الثالث - وهو الاستدلال بتلك الآية -: لقد اعترض أصحاب المذهب الثاني - الذي سيأتي - على الاستدلال بتلك الآية بعدة اعتراضات، إليك إياها مع أجوبتها. الاعتراض الأول: أن ذلك الأمر ورد في المنام، وما ورد في المنام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 لا أصل له، ولا يصلح أن يكون مستنداً، فلا يعتمد عليه، ولا يثبت به الأمر. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه منام؛ لأمرين: الأمر الأول: أنه لو كان مناما وخيالا، لا وحيا، لما جاز لإبراهيم عليه السلام قصد الذبح المحرم، والتل للجبين، ولما سماه الله - تعالى - بلاء مبينا، ولما احتاج إلى الفداء. الأمر الثاني: قوله تعالى: (افعل ما تؤمر) فلو لم يؤمر إبراهيم - عليه السلام - حقيقة كان ذلك كذباً. الجواب الثاني: سلمنا أنه منام، لكن ما يراه الأنبياء - عليهم السلام - في مناماتهم فيما يتعلق بالأوامر والنواهي وحي يجب العمل به، وأكثر وحي الأنبياء كان بطريق المنام، وقد ثبت أن وحي نبينا - صلى الله عليه وسلم - كان ستة أشهر بالمنام، فقد قالت عائشة - رضي اللَّه عنها -: " أول ما ابتدئ به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من النبوة الرؤيا الصادقة كان لا يرى رؤيا إلا جاءت كفلق الصبح ". وعلى هذا: يكون ما ورد في منام إبراهيم - عليه السلام - من الأمر بذبح ابنه له أصل ومستند، فيجب العمل به. الاعتراض الثاني: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم - عليه السلام - قد أمر بالذبح حقيقة، بل قد كلف بالعزم على الفعل فقط، لابتلاء صبره، فيكون القصد من الأمر هو العزم على الفعل، وذلك بلاء عظيم، والفداء إنما كان عما يتوقعه إبراهيم من الأمر بالذبح، لا عن نفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 وقوع الأمر بالذبح، أو بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء، وأخذ المدية، والحبل، والتل للجبين، ونظرا لاستشعار إبراهيم أنه مأمور بالذبح قال تعالى: (قد صدقت الرؤيا) . جوابه: يجاب عنه بأن هذا فاسد لوجوه: الوجه الأول: أن إبراهيم لو كان مأموراً بالعزم على الذبح فقط، دون فعل الذبح نفسه: لما سماه بلاء مبيناً، ولما احتاج إلى الفداء، ولما قال الذبيح: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، يؤيد ذلك قوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) ، أي: إنك عملت في المقدمات عمل مصدق لرؤيا فعلية. الوجه الثاني: أن حمل الأمر على العزم على خلاف قوله تعالى: (إني أرى في المنام أني أذبحك) فصرح - هنا - بالذبح، ومعروف أن العزم لا يسمى ذبحا، فهذا فيه حمل شيء على غير محمله. الوجه الثالث: أن العزم على الفعل لا يجب إذا لم يُعتقد وجوب المعزوم عليه، فلو لم يكن المعزوم عليه - وهو الذبح - واجباً: لكان إبراهيم - عليه السلام - أَوْلى بمعرفة عدم الوجوب من ذلك المعترض، أي: أنه لو لم يجب على إبراهيم الفعل - وهو الذبح حقيقة - لم يصح منه العزم على فعله على سبيل الوجوب. قال تعالى مؤيداً لذلك: (إني أرى في المنام أني أذبحك) ، فقال تعالى - حكاية عن ابنه -: (افعل ما تؤمر) يعني الذبح الحقيقي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 ويؤيد ذلك أيضاً قوله تعالى: (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) استسلاما لفعل الذبح، لا للعزم. الاعتراض الثالث: أن إبراهيم لم يؤمر بنفس الذبح وحقيقته، وإنما أمر بمقدمات الذبح من إخراجه إلى الصحراء، وأخذ المدية، والحبل، والاضطجاع، والتل للجبين، ونحو ذلك من لوازم الذبح، دون الذبح نفسه. وسمينا مقدمات الذبح ذبحاً؛ لأن مقدمة الشيء قد تسمى باسم ذلك الشيء، فتسمى " النائحة " باكية؛ لأنها تفعل مقدمات البكاء، وكذلك يُسمى المريض الذي يخاف عليه الهلاك: ميتا، وذلك لحصول مقدمات الموت. جوابه: يجاب عنه بأن هذا فاسد؛ لوجوه: الوجه الأول: أن الله تعالى قال - حكاية عن ولد إبراهيم -: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) ، ومعلوم أن مقدمات الذبح لا تفتقر إلى الصبر؛ لأنه أمر سهل يتلاعب به الصبيان. الوجه الثاني: أن اللَّه تعالى قال: (إن هذا لهو البلاء المبين) ، فلو كان المأمور به مقدمات الذبح فقط: لما كان فيه بلاء واختبار مبين، فلا يعطى هذا التفخيم، والمأمور به سهل، وهو مقدمات الذبح. الوجه الثالث: أن اللَّه سبحانه أمر بالذبح نفسه، فقال تعالى: (يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك) ، ولم يرد ذكر المقدمات، والمقدمات لا تسمى ذبحاً في لغة العرب؛ لأن الذبح لغة هو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 الشق والفتح، وفي الاصطلاح هو: عبارة عن قطع مكان مخصوص تبطل معه الحياة. وعلى هذا يكون: حمل الأمر بالذبح على المقدمات حمل بلا دليل، فثبت: أن المأمور به هو الذبح الحقيقي. الوجه الرابع: أن اللَّه تعالى قال: (وفديناه بذبح عظيم) ، ولو كان إبراهيم - عليه السلام - قد فعل المأمور به من مقدمات الذبح - كما زعمتم - لما احتاج إلى الفداء، وذلك لأن الفداء لا يكون مع الامتثال للأمر؛ حيث إنه لا يجمع بين البدل والمبدل. الوجه الخامس؛ أن زعمكم إن إبراهيم قد أمر بمقدمات الذبح، دون الذبح نفسه خلاف إجماع السلف - كما قال الباجي في إحكام الفصول - حيث إن السلف - رحمهم اللَّه - فسَّروا ما ورد في الآية بأن إبراهيم قد أمر بنفس الذبح. وبهذه الوجوه بطل ما زعمتم، وهو: أن المأمور به مقدمات الذبح. الاعتراض الرابع: أنا نسلم أن إبراهيم - عليه السلام - قد أمر بالذبح الحقيقي، ولكن الشارع قد منعه من إنفاذه وإيقاعه بأن جعل على عنق ابنه صفيحة من نحاس مانعة من الذبح والقطع، فلم ينسخ الأمر، ولكن الشارع منع من تنفيذه، وهذا قد جعل التكليف بالذبح يرتفع وينقطع، لكون إبراهيم أصبح معذوراً؛ لعدم استطاعته القطع والذبح، والمعذور لا تكليف عليه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 الجواب الأول: أن قلب عنق ولد إبراهيم - عليه السلام - حديداً لو حصل ووقع لنقل إلينا نقلاً متواتراً، ولاشتهر؛ لكونه من المعجزات العظيمة، لكنه لم ينقل نقلاً متواتراً، ولا آحاداً، فما زعمتموه يحتاج إلى دليل. الجواب الثاني: أنه إن كان هذا الاعتراض صادراً من بعض المعتزلة فإنه متناقض مع قولهم: " لا يجوز تكليف ما لا يطاق "؛ حيث إن الله إذا علم أنه سيقلب عنقه حديداً يكون الشارع قد أمر بما يعلم امتناع وقوعه، وهذا تكليف ما لا يطاق، وتكليف ما لا يطاق لا يجوز. كذلك ثبت عند المعتزلة أن الشارع لا يأمر إلا بما فيه مصلحة للمكلَّف، ولا يجوز عندهم أن يمنع الشارع المكلَّف ما فيه مصلحة، والكلام الوارد في هذا الاعتراض مناقض لهذه القاعدة عندهم. الاعتراض الخامس: لا نُسَلِّمُ أن إبراهيم - عليه السلانم - قد أمر بالذبح، وإنما أخبر أنه سيؤمر في المستقبل يدل على ذلك قوله تعالى - حكاية عن الابن -: (يا أبت افعل ما تؤمر) ، فلفظ " تؤمر " هو للاستقبال، فلو كان قد أمر بالماضي لقال: " افعل ما أمرت به " ولكنه لم يقل ذلك؛ بل عبر بلفظ يدل على الاستقبال. جوابه: يجاب عنه: بأن الله سبحانه قد أمر إبراهيم - عليه السلام - في الماضي، وحصل الأمر ثم نسخ قبل التمكن من فعله، فالمراد من قوله تعالى: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) : افعل ما أمرت به في السابق، والتعبير باللفظ الدال على الاستقبال والمراد به الماضي اقد وقع في الكتاب، وكلام العرب، فمن أمثلة وقوعه في الكتاب قوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 (إني أرى سبع بقرات سمان) ، والمراد: إني رأيت، وقوله تعالى: (إني أراني أعصر خمراً) ، والمراد: إني رأيت. ومن أمثلة وقوعه في لسان العرب قول ضمرة بن جابر: وإذا تكون كريهة أدعى لها ... وإذا يحاس الحيس يُدعى جندب فهنا عبر بالمستقبل وهو لفظ " أدعى "، ولفظ " يدعى "، والمراد: " إني دعيت "، و " دعي جندب " في الماضي. وما نحن فيه من ذلك، والمراد: افعل ما أمرت به في السابق، وحملناه على ذلك؛ لأنه لا يمكن حمله على الاستقبال؛ لأنه لو كان الشارع قد أراد أنه سيأمر إبراهيم - عليه السلام - في المستقبل؟ لوجد ذلك الأمر قطعا؛ لئلا يكون خلفا وكذبا في الكلام، والله منزه عن ذلك؛ حيث إنه صادق لا خلف في خبره سبحانه وتعالى، فلما لم يوجد الأمر في المستقبل عرفنا أن المراد بقوله: (ما تؤمر) : ما أمر به في الماضي. الاعتراض السادس: نُسلِّم أن إبراهيم كان قد أمر بذبح ابنه حقيقة ونسلم أنه وقع منه الذبح وحصل، ولكن كلما قطع جزءاً من رقبة ابنه عاد ملتحما، وكلما قطع موضعا التحم الموضع الأول، وهكذا حتى التأم الجرح كأن لم يكن، ويدل على ذلك قوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) ، والمراد: إنك يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا فامتثلت ما أمرت به، ولو لم يذبح لما كان مصدقا للرؤيا، وإذا كان ما أمر به من الذبح قد وقع، ولكنه التحم، فلا نسخ قبل التمكن من الفعل. جوابه: يجاب عن ذلك بأن هذا الاعتراض باطل، لوجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 الوجه الأول: أنه لو كان إبراهيم كلما قطع جزءاً التحم - كما زعمتم - لنقل إلينا نقلاً متواتراً؛ لأنه لا يمكن ترك نقله؛ لكونه من المعجزات والآيات الباهرة التي لا يمكن تركها، لكن ذلك لم ينقل متواتراً ولا آحاداً، ولم يسمع به قبل أن يأتي هذا المعترض، فثبت أنه لا سند له. واستدلال المعترض بقوله تعالى: (قد صدقت الرؤيا) على ما زعم غير صحيح؛ وذلك لأن المراد بالتصديق هنا: هو التصديق بالقلب؛ لأن حقيقة التصديق يكون في القلب، دون تحقيق الفعل، فكأن اللَّه تعالى قال: إنك يا إبراهيم لما صدقت وآمنت واعتقدت وجوبه وعزمت على فعله وعملت في مقدماته عمل مصدق جزيناك كما نجزي المحسنين الصادقين، فنسخنا عنك فعل الذبح وتحقيقه بذبح كبش، فالتصديق يختلف عن التحقيق والامتثال والعمل وإيقاع ما أمر الوجه الثاني: أن قول المعترض هذا يخالف قوله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ) ، فهنا نودي إبراهيم، فلو كان قد ذبح والتحم محل الذبح كما زعم المعترض: لقال: "فلما أنفد الأمر "، أو لقال: " فلما ذبح "، ونحو ذلك من العبارات التي تدل على أنه امتثل للأمر، ولكن اللَّه سبحانه لم يأت بشيء من ذلك، بل أتى بتلك الآية مما يدل على أنه نسخ قبل الفعل. الوجه الثالث: أن قول المعترض يخالف ظاهر قوله تعالى: (وفديناه بذبح عظيم) ، فلو كان إبراهيم - عليه السلام - قد ذبح حقيقة والتجم محل الذبح لما احتاج إلى الفداء، لأنه لا معنى للفداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 مع تنفيذ الذبح، أي: أن الفداء بدل عن الذبح، فلا يمكن أن يؤتى بالبدل مع فعل المبدل. الدليل الرابع - من الأدلة على جواز نسخ الشيء قبل التمكن من الامتثال - قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه إذا شاء نسخ من كتابه ما أحب، وظاهر هذا: جواز النسخ في عموم الأحوال، سواء بعد التمكن من الفعل أو قبل التمكن. الدليل الخامس: ما رواه أبو هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعثه في بعث وقال: " إن وجدتم فلانا وفلانا فأحرقوهما بالنار "، ثم قال حين أردنا الخروج: " إن النار لا يعذب بها إلا اللَّه وإن وجدتموهما فاقتلوهما ". الدليل السادس: ما أخرجه البخاري ومسلم: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بكسر قدور من لحم حمر إنسية فقال رجل: أو نغسلها؛ فقال: " اغسلوها ". ما سبق هو المذهب الأول، وهو جواز نسخ الشيء قبل التمكن من الفعل وأدلته. المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من فعله وامتثاله. ذهب إلى ذلك المعتزلة، واختاره أبو بكر الصيرفي، وهو مذهب بعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، والماتريدي، والدبوسي، وهو اختيار أبي الحسن التميمي من الحنابلة، ونسبه الفخر الرازي إلى الفقهاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قالوا فيه: إن الأمر بالشيء يدل على حسنه وكونه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 مصلحة، والنهي عنه يدل على قبحه وكونه مفسدة، فإذا أمر بالحج في رمضان - مثلاً - دلَّ ذلك على حسن الحج وكونه مصلحة للعباد، فإذا نهى عن إيقاع الحج وقال في أول شهر ذي الحجة: "لا تحجوا" دلَّ ذلك على قبح الحج وكونه مفسدة، والفعل الواحد في حالة واحدة لا يكون مصلحة مفسدة بالإضافة إلى شخص واحد. فنتج أن نسخ الشيء قبل التمكن من فعله يفضي إلى أن يكون الشيء الواحد على وجه واحد مأموراً به ومنهيا عنه، حسنا قبيحا، مصلحة مفسدة، وهذا هو التناقض. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يمتنع أن يكون الأمر بالفعل يدل على حسنه بشرط: أن لا ينهى عنه، والنهي عنه يدل على قبحه بشرط: أن لا يؤمر به، فيجوز أن يجعل بقاء حكمه واستمراره شرطا في الأمر فيقول الشارع: "افعل ما أمرناك به إن لم يأت نهي يزيل أمرنا عنك ". اعتراض على ذلك: اعترض بعضهم على هذا الجواب بقوله: إن اللَّه تعالى إذا علم أنه سينهى عنه، فما معنى أمره بالشرط الذي يعلم انتفاءه قطعة فيما بعد، أي: ما الفائدة من أمره به وهو عالم بأنه سينسخه؟ جوابه: يجاب عنه: بأن فائدة ذلك: امتحان وابتلاء المأمور، فإن عزم على الفعل، واشتغل بالاستعداد لامتثال الأمر فإنه يثاب، أما إن لم يعزم على الفعل، ولم يشتغل بالاستعداد للامتثال فإنه يعاقب، وهذا من حكم النسخ التي ذكرناها فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ثم كيف ينكر المعترض ذلك مع أنه يجوز الوعد والوعيد من العالم بعواقب الأمور بالشرط؟! ، فإن اللَّه تعالى وعد على الطاعة بالثواب بشرط عدم ما يحبط تلك الطاعة كالردة مثلاً، وتوعَّد سبحانه على فعل المعصية بالعقاب بشرط خلو تلك المعصية عما يكفرها من توبة، والله سبحانه عالم بعاقبة أمر من يموت على الردة، أو التوبة، ثم شرط ذلك في وعده ووعيده. إذا ثبت ذلك فلا يستحيل أن يشرط الشارع في أمره ونهيه، وتكون شرطيته بالنسبة إلى العبد الجاهل بعاقبة الأمر، فكأنه قال: "أثبتك على طاعتك ما لم تحبطها بالردة "، وهو سبحانه عالم بأنه سيحبط أو لا يحبط، فإذا جاز ذلك بلا خلاف: جاز أن يقول: "أمرتك بشرط البقاء والقدرة، وبشرط أن لا أنسخ عنك ذلك الأمر". الدليل الثاني: قالوا فيه: إنه لو جاز أن يرد الأمر بشيء في وقت ثم يرد النهي عن فعله في ذلك الوقت: للزم من ذلك أن يكون الشخص الواحد بالفعل الواحد في الوقت الواحد مأمورا منهيا، وذلك محال على اللَّه تعالى؛ لأنه أمر بالشيء ونهي عنه في وقت واحد. جوابه: يجاب عنه: بأن ذلك يكون محالا إذا كان الغرض من الأمر هو: حصول الفعل، أما إذا كان الغرض والمقصود هو: ابتلاء المأمور وامتحانه، فيجوز ولا مانع من ذلك؛ فإن السيد قد يقول لعبده: "اذهب غداً إلى موضع كذا راجلاً حافيا "، وهو لا يريد الفعل، بل يريد امتحانه ورياضته مع ما علمه بأنه سيرفع عنه غداً ذلك قبل فعله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي لا ثمرة له في الفروع؛ لأن الخلاف راجع إلى المراد من حكمة التكليف. فمن قال: إن حكمة التكليف هي: امتثال وإيقاع ما كلف به من المكلف، وكذلك من حكم التكليف ابتلاء وامتحان المكلف - وهو قول أصحاب المذهب الأول وهو الصحيح - قال: يجوز نسخ الشيء قبل التمكن قبل فعله. وعلى هذا: فالمنسوخ بعد التمكن من الفعل حكمته الامتثال، وقد حصل. والمنسوخ قبل التمكن من فعله حكمته الامتحان والابتلاء، وقد حصل قبل النسخ. أما من قال: إن حكمة التكليف هي الامتثال والإيقاع فقط - وهو قول أصحاب المذهب الثاني -: قال: لا يجوز نسخ الشيء قبل التمكن من فعله؛ حيث لم تحصل الحكمة من التكليف وهي الامتثال. *** المسألة الرابعة عشرة: الزيادة على النص هل هي نسخ؟ تنقسم الزيادة على النص باعتبار تعلُّقها بالمزيد عليه وعدم ذلك إلى أربعة أقسام: القسم الأول: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وليست من جنسه. القسم الثاني: زيادة مستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلق به، وهي من جنس المزيد عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 القسم الثالث: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الجزء بالكل. القسم الرابع: زيادة غير مستقلة وتتعلق بالمزيد عليه تعلق الشرط بالمشروط. والسبب في هذا التقسيم: أن الزيادة على النص إما أن تكون مستقلة أو غير مستقلة. والمستقلة إما أن تكون من جنس المزيد عليه أو لا. وغير المستقلة إما أن تكون جزءاً من المزيد عليه، أو شرطا للمزيد عليه. وإليك بيان كل قسم من تلك الأقسام والأمثلة عليه وحكمه. القسم الأول: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه، ولا تتعلَّق به، وليست من جنس المزيد عليه. مثالها: أن يوجب اللَّه تعالى الصلاة ثم يوجب - بعد ذلك - الصوم، والمزيد عليه وهو الصلاة مستقل تماما عن الزيادة وهي: الصوم، وهما جنسان مختلفان - كما هو ظاهر -. حكم هذه الزيادة: هذه الزيادة ليست نسخا باتفاق العلماء؛ لأن حقيقة النسخ لم تتحقق هنا؛ حيث قلنا: إن النسخ: رفع الحكم، وهنا لم يرتفع الحكم وهو - وجوب الصلاة مثلاً - ولم يتبدل ويتغير بالزيادة - وهو الصوم -. أي: بقي حكم المزيد عليه - وهو الصلاة - بعد الزيادة كما كان ثابتاً قبلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 فهذه الزيادة ليست بنسخ لما تقدمها من العبادات بالإجماع؛ لعدم التنافي. القسم الثاني: الزيادة المستقلة عن المزيد عليه ولا تتعلَّق به، وهي من جنس المزيد عليه. مثل: زيادة صلاة على الصلوات الخمس. حكم ذلك: لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن تلك الزيادة لم ترفع حكما شرعياً، فلم توجد حقيقة النسخ، حيث إن المزيد عليه باقِ بعد الزيادة، كما كان قبل الزيادة مثل: الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا فرق، فكما أن وجوب الصلاة لم يتغير بزيادة الصوم، فكذلك الحال بالنسبة لزيادة صلاة على صلاة أخرى ولا فرق. المذهب الثاني: أن تلك الزيادة تكون نسخا لحكم المزيد عليه. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية العراقيين. دليل هذا المذهب: أن حقيقة النسخ وهو: " رفع الحكم " قد وجدت، فكان نسخا. بيان ذلك: أن زيادة صلاة على الصلوات الخمس يغيِّر الصلاة الوسطى فيرتفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 وجوبها الستفاد من قوله: (حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى) . فوسطية الصلاة متوقفة على العدد المفرد - وهو الخمس هنا - لكي يكون عدد ما قبلها كعدد ما بعدها، فإذا زيدت صلاة سادسة فإنها ترفع كون الوسطى وسطى وتغيره، فتتبدل الوسطية بالنسبة لها إلى غيرها فتزيل وترفع الحكم وهو: وجوب المحافظة على الصلاة الوسطى المستفاد من الأمر بها في الآية السابقة. إذن: هذه الزيادة رفعت حكما شرعياً، وهذا هو معنى النسخ. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الزيادة المستقلة التي هي من جنس المزيد عليه مثل الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه ولا فرق. فلو كانت زيادة صلاة سادسة نسخا للزم أن تكون زيادة العبادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه نسخا؛ لأنها تجعل العبادة الأخيرة غير أخيرة فتغير صفتها، وتتساوى مع السادسة في هذا التعبير، فلما لم تجعل هذه نسخا بالإجماع، يلزم أن لا تجعل الزيادة المستقلة التي من جنس المزيد عليه نسخا. الجواب الثاني: أن زيادة صلاة سادسة على الخمس - لا تزيل المحافظة على الوسطى؛ لأن وجوب المحافظة قد تعلق بمسمَّى الوسطى عند نزول الآية، وهذا المسمى لما صدق: لا تؤثر عليه هذه الزيادة. القسم الثالث: الزيادة غير المستقلة التي تتعلق بالمزيد عليه تعلَّق الجزء بالكل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 أي: أن هذه الزيادة غير مستقلة عن المزيد عليه، فتتعلق به بأن تكون جزءاً من المزيد عليه. مثال ذلك: زيادة تغريب عام على جلد مائة في حد الزاني البكر، حيث أصبح جزءاً من الحد، فأصبح حد الزاني البكر بعد الزيادة مكونا من جزأين: أولهما: جلد مائة جلدة، وهو الوارد في نص القرآن الكريم. ثانيهما: تغريب عام، وهو الوارد في نص السُّنَّة. مثال آخر: زيادة عشرين جلدة على ثمانين جلدة، وذلك في حد القذف. بيانه: أن حد القذف هو: ثمانون جلدة - كما هو معلوم، فإذا زيد - على سبيل الافتراض - عشرون جلدة، فإنه يصبح جزءاً من الحد، فأصبح حد القذف بعد الزيادة مكونا من جزأين: أولهما: ثمانون جلدة، وهو الوارد في نص القرآن. ثانيهما: عشرون جلدة، وهي زيادة مفترضة. حكم ذلك: لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم وتبديله لم توجد عند تلك الزيادة، بل إن هذه الزيادة تقرير للحكم المزيد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 عليه، وتثبيت له، لأن ضم شيء إلى شيء آخر يثبت المضموم إليه ويُقوره؛ نظراً إلى أن الانضمام صفة لا بد لها من محل تقوم به، ولهذا نرى حكم المزيد عليه ثابتا لم يتغير ولم يتبدل ولم يرتفع بعد إلحاق الزيادة به، فكان ثابتا بعد الزيادة، كما كان ثابتا قبل الزيادة؟ قياسا على الزيادة المستقلة التي ليست من جنس المزيد عليه بجامع عدم التغير في كل. فمثلاً: بعد زيادة " التغريب " وإلحاقه بـ " الجلد مائة " لم تخرج تلك الزيادة الجلد عن كونه واجبا، بل استمر على هذا الحكم بعد إلحاق الزيادة - وهي التغريب - به كما كان واجبا قبله، وذلك مثل: إيجاب الصوم بعد إيجابه للصلاة لم يخرج الصلاة عن كونها فرضاً، بل ظلت فرضاً بعد الصيام كما كانت قبله، كل ما في الأمر أنه أضاف إليه زيادة. كما لو أن إنسانا معه كيس فيه ريالات فأضاف إليها ريالا لا يقال: إنه رفع وأزال ما في الكيس، بل يقال: أضاف إليه زيادة، كذا لو كتب كتابا، ثم كتب في حاشيته زيادة معلومات أو تعليقات لا يقال: نسخ ما في الكتاب ورفعه، بل يقال: إنه أضاف إليه زيادة وهكذا. فكذلك هنا لم يكن في زيادة التغريب على الجلد مائة رفع ولا إزالة، فاستعمال لفظ النسخ فيه محال. المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ. ذهب إلى ذلك الحنفية كما صرح بذلك أبو عبد اللَّه الصيمري، وأبو بكر الرازي، والسرخسي، وعبد العزيز البخاري، والأنصاري. دليل هذا المذهب: لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن جلد مائة في حد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 الزاني البكر كان هو الحد الكامل، ويجوز الاختصار عليه؛ لقوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فلما جاءت السُّنَّة بزيادة التغريب، وذلك بحديث عبادة بن الصامت: " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ": رفعت هذه الزيادة ذلك الحكم، وهو: " صفة الكمال والاقتصار على جلد مائة "، وأصبح الحد بعد الزيادة: " الجلد والتغريب "، فتكون صفة الكمال قد رفعت، والاقتصار على الجلد قد رفع، والرفع هو النسخ. جوابه: إن رفع صفة الكمال بالزيادة، ورفع الاقتصار على المائة لم يتحقق به النسخ، بيان ذلك: أن صفة الكمال إذا ارتفعت بالزيادة لا يتحقق النسخ؛ لأن صفة الكمال لا يندرج ضمن أقسام الأحكام الشرعي، فليس مقصوداً، بل المقصود هو وجوب الحد - الذي هو مائة جلدة - والوجوب لم يرتفع، بل هو باق على حاله، وهو كل الواجب، فلما زيد "التغريب " لم يتغير، بل هناك واجب قد أضيف إليه. يؤيد ذلك: أن الشارع لما أوجب الصلاة فقط كانت هي كل الواجب على المكلف، فلما أوجب الصوم بعد ذلك: خرجت الصلاة عن كونها هي كل الواجب، بل صار الواجب الصلاة والصوم، وليس ذلك بنسخ باتفاق العلماء. فكذلك هنا يقال: إن جلد مائة هو الواجب الكامل على الزاني البكر، فلما زيد " التغريب ": خرج " جلد مائة " عن كونه هو كل الواجب، بل صار الواجب: الجلد والتغريب، فلا يسمى ذلك نسخاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 وأيضاً: رفع الاقتصار على مائة جلدة لا يحقق النسخ؛ لان منطوق النص هو قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) لا يدل على هذا الاقتصار، أي: لا يستفاد الاقتصار من هذا المنطوق؛ وذلك لأن وجوب الشيء لا ينفي وجوب غيره، فإيجاب الحد - وهو جلد مائة - لا ينفي أن يوجب الشارع غيره زيادة عليه. وإنما الاقتصار على الحد المذكور في الآية يستفاد من مفهوم المخالفة للنص القرآني، والحنفية لا يحتجون بمفهوم المخالفة. ثم اعلم: أن الاقتصار على الحد المذكور قد فُهِم من النص القرآني والمفهوم يجوز أن يرفع بخبر الواحد وهو: حديث عبادة بن الصامت، ورفع المفهوم لا يُسمى نسخا. القسم الرابع: الزيادة غير المستقلة التي تتعلَّق بالمزيد عليه تعلُّق الشرط بالشروط. أي: تكون الزيادة شرطا للمزيد عليه، فإذا فقد المزيد عليه هذه الزيادة - وهو الشرط - يكون وجوده وعدمه واحداً. من أمثلة ذلك: زيادة النية في الطهارة؛ حيث إن الشارع أمر بالطهارة مطلقاً، ثم زيد شرط النية لها. وأيضاً: زيادة الطهارة في الطواف؛ حيث إن الشارع أمر بالطواف مطلقا، ثم زيد شرط الطهارة له، وكذا زيادة اشتراط الطهارة على وجوب الصلاة. حكم ذلك: لقد اختلف العلماء في هذه الزيادة هل هي نسخ أو لا؛ على مذهبين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 المذهب الأول: أن تلك الزيادة ليست بنسخ. وهو مذهب الجمهور. وهو الصحيح، لأن حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم لم توجد هنا، بيان ذلك: أن قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) - مثلاً - اقتضى أمرين: أحدهما: " وجوب الصلاة،. والثاني: " الإجزاء "، حيث يجوز على هذا اللفظ الصلاة بدون طهارة. فلما جاءت الزيادة - وهي اشتراط الطهارة للصلاة - فالوجوب لم يرتفع بها، بل هو باق على حاله بعد الزيادة وقبلها؛ حيث بقي الأمر به. وأما الإجزاء فهو الذي ارتفع بهذه الزيادة؛ حيث أصبحت الصلاة لا تجزئ إلا بطهارة، فهنا ارتفع الإجزاء فقط، وارتفاع الإجزاء فقط جعل المرتفع بعض ما تناوله واقتضاه اللفظ الذي هو قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وهذا يسمى تخصيصا، لا نسخا. المذهب الثاني: أن تلك الزيادة نسخ. ذهب إلى ذلك: الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي. دليل هذا المذهب: استدلوا على ذلك بقولهم: إنه كان حكم المزيد عليه الإجزاء والصحة بدون تلك الزيادة، فلما جاءت الزيادة ارتفع ذلك الحكم، فاصبح المزيد عليه لا يجزئ، ولا يصح إلا بتلك الزيادة، والرفع نسخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 فمثلاً: كانت الصلاة تجزئ وتصح بدون طهارة، فلما زيد اشتراط الطهارة: أصبحت الصلاة لا تجزي، ولا تصح لوحدها، بل لا بد من الطهارة، فرفع إجزاء الصلاة لوحدها، والرفع نسخ. كذلك: الطهارة كانت تجزئ بدون النية، فلما زيد عليها اشتراط النية أصبحت الطهارة لا تصح إلا بنية، فأمر الشارع بالطهارة مع النية، وهذا هو الرفع؛ حيث رفع إجزاء الطهارة لوحدها، وأصبحت لا تجزئ إلا بنية، والرفع نسخ. جوابه: يجاب عنه بأن ما ذكرتموه صحيح لو أن الإجزاء استقر وثبت أولاً، ثم وردت الزيادة بعده؛ لأن من شرط النسخ: تأخر الناسخ عن المنسوخ، وهنا لم يتحقق ذلك الشرط؛ لأنه يحتمل أن تكون الزيادة قد ثبتت وهي مقارنة للفظ المزيد عليه. وعلى هذا: يكون إدعاؤكم استقرار الإجزاء، ثم ورود الزيادة بعد ذلك هو دعوى يحتاج إلى دليل، ولا دليل عندكم، فثبت أن تلك الزيادة ليست بنسخ. الخلاصة: يتلخص مما سبق من أقسام الزيادة على النص: أن الجمهور يقولون: إن الزيادة ليست بنسخ في جميعها. وأن الحنفية يقولون: إن الزيادة نسخ. بيان نوع الخلاف في تلك الأقسام: الخلاف في تلك الأقسام معنوي، قد أثر في إثبات تلك الزيادة بما لا يجوز النسخ به كخبر الواحد، أو القياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 فبناء على المذهب الثاني - وهو مذهب الحنفية - وهو الذي يرى أن الزيادة نسخ، فإنه لا تثبت تلك الزيادة بخبر الواحد أو القياس؛ كلًّا منهما لا ينسخ المتواتر كزيادة " تغريب عام "، فهذا خبر واحد لذلك رده أبو حنيفة؛ لأنه زيادة عما في القرآن؛ لأن القرآن لا يوجد فيه إلا الجلد، وذلك في قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، والقرآن متواتر لا ينسخه خبر آحاد. أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور وهو الذي يرى: أن الزيادة ليست بنسخ - فإن تلك الزيادة ثابتة عندهم وإن كان ثبوتها بخبر الواحد، فقبلوها، لذلك زادوا على حد الجلد التغريب. كذلك لم يئبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية - وجوب قراءة الفاتحة الئابت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب ". لأنه خبر واحد، فقالوا: إن قوله تعالى: (فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ) ، يفيد افتراض مطلق القراءة لما تيسر من أي سورة كانت، فجعل الفاتحة ركنا نسخ لهذا القاطع بخبر الواحد فلا يجوز. أما على المذهب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن الزيادة ليست بنسخ - فإنهم قبلوا تلك الزيادة وهي ثابتة عندهم، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب. كذلك لم يثبت عند أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية القائلون: إن الزيادة نسخ - اشتراط الإيمان في عتق الرقبة في كفارة الظهار؛ لأن المثبت لذلك هو القياس على كفارة القتل؛ حيث اشترط في كفارة القتل في عتق الرقبة الإيمان بقوله تعالى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 (فتحرير رقبة مؤمنة) ، والقياس لا يقوى على نسخ ما في القرآن؛ حيث إن الثابت في كفارة الظهار في القرآن هو قوله تعالى: (فتحرير رقبة) بدون اشتراط الإيمان. أما على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور - فإنهم قبلوا تلك الزيادة وهي ثابتة عندهم، وزادوا ذلك الشرط، فاشترطوا: أن تكون الرقبة مؤمنة؛ لأن الزيادة على النص ليست بنسخ عندهم. تنبيه: لا بد أن تعلم أن الحنفية قد ردوا أخباراً كثيرة بسبب تمسكهم بهذا الأصل وهو: " أن الزيادة على النص نسخ "؛ لأنه اقتضى زيادة على القرآن، والزيادة نسخ، ولا يجوز نسخ القرآن بخبر الواحد. المسألة الخامسة عشرة: نسخ جزء العبادة أو شرطها: أي: نسخ جزء العبادة أو شرط من شروطها هل هو نسخ لجملة العبادة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن نسخ جزء من أجزاء العبادة أو شرط من شروطها ليس بنسخ للعبادة كلها. ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هو: الرفع والإزالة، وهذه الحقيقة قد تناولت " الجزء "، و " الشرط " المنسوخ فقط، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 أما ما عدا. ذلك فلم تتناوله تلك الحقيقة؛ حيث إنه باق على حاله لم يتبدل ولم يتغير. الدليل الثاني: الوقوع: فقد وقع أن نسخ الشارع شرط عبادة من العبادات، ولم تكن تلك العبادة قد نسخت بانكلية مثل: استقبال بيت المقدس الذي هو شرط لصحة الصلاة، فقد نسخ هذا الشرط، ولم يكن نسخه نسخاً لحكم الصلاة، بل هي باقية بحالها لم تتغير، وإنما التغير قد تناول شرطها فقط. وأيضاً: فقد نسخ عشر رضعات بخمس، ونسخ هذا الجزء - وهو الخمس - لم يكن نسخاً لكل العشر. الدليل الثالث: قياس النسخ على التخصيص، فكما أن التخصيص لا يكون تخصيصاً للجميع، فكذلك نسخ بعض العبادة لا يكون نسخاً لجميعها. الدليل الرابع: أن نقص الجزء أو الشرط لم يرفع حكم تلك العبادة من الوجوب أو الندب أو غيرهما، فلا يكون نسخا؛ وذلك لأن النسخ هو رفع الحكم الشرعي. المذهب الثاني: أن نسخ جزء العبادة أو شرطها نسخ للعبادة جملتها. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، وبعض المتكلمين. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن نقص جزء من أجزاء العبادة، أو إلغاء شرط من شروطها يرفع حرمة فعلها بدون ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 الجزء أو الشرط، ويبيح الفعل بدونهما، والحرمة حكم شرعي، فيكون رفعه نسخ؛ لأن حقيقة النسخ قد وجدت. جوابه: يجاب عنه: بأن وجوب العبادة بعد نقص الجزء، أو إلغاء الشرط لم يتغير ولم يرفع، بل إنه عين وجوبها قبل النقص وإلغاء الشرط، فالحكم الثابت للعبادة حال النسخ هو الوجوب، ولم يرفع، إذن لم توجد حقيقة النسخ وهي: رفع الحكم، وإذا لم توجد فلا نسخ. كمن أخذ ريالاً من كيس فيه عشرة ريالات، فإن الباقي بعد نقص الريال باق على حاله لم يرفع، ولم يتأثر بشيء. المسألة السادسة عشرة: نسخ الحكم إلى غير بدل: لقد اختلف العلماء في نسخ الحكم، هل يجوز إلى غير بدل أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من غير أن يأتي ببدل عنه. وهذا مذهب الجمهور. وهو الصحيح لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن حقيقة النسخ هي: الرفع والإزالة، ورفع الشيء يتحقق في نفسه، وإن لم يثبت له خلف وبدل، فليس في حقيقة النسخ تعرض للخلف والبدل. الدليل الثاني: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم دون وضع بدل عنه، أي: أن اللَّه تعالى علم أن نسخ هذا الحكم مصلحة، ولا مصلحة في إثبات بدل له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 الدليل الثالث: أن نسخ الحكم بلا بدل قد وقع، والوقوع دليل الجواز. فمن أمثلة ذلك: أن تقديم الصدقة بين يدي المناجاة لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان واجباً؛ لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً) ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ... ) . وكان هذا النسخ بلا بدل. ومن ذلك أيضاً: أن الشارع نهى عن ادخار لحوم الأضاحي، ثم نسخ ذلك بلا بدل؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة، أما الآن فكلوا، وتصدقوا، وادخروا". ومن ذلك أيضاً: أن اللَّه تعالى أوجب على الصائم في أول الإسلام أن يمسك بعد الفطر في أول الليل، فلو نام قبل الفطر، ثم استيقظ ليلاً حرم عليه الطعام والشراب، ثم نسخ تحريم الأكل والشرب في الليالي إلى غير بدل. المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ الحكم إلى غير بدل. ذهب إلى ذلك أكثر المعتزلة، وبعض أهل الظاهر. أدلة هذا المذهب: استدلوا على ذلك بأدلة ومنها: الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه لا ينسخ شيئاً من الأحكام إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 إذا وضع مكانه بدلاً عنه خيراً منه أو مثله، وخبر اللَّه تعالى صدق، فالخلف في خبره محال. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أنه ليس في الآية ما يدل على أنه لا بد من البدل، بل إن الآية تدل على أن البدل الثابت خير من المبدل إن ثبت البدل، فهو كقول السيد لعبده: " لا آخذ منك ثوبا وأعطيك بدله إلا إذا كان البدل خيراً من الأول "، فهذا اللفظ لا يدل على وجوب البدل، ولكنه يدل على أن البدل إذا وقع فلا بد أن يكون خيراً. الجواب الثاني: أن الآية وردت في التلاوة، وليس للحكم فيها ذكر. أي: أنه يدل على نسخ لفظ الآية؛ لأن الآية حقيقة فيها، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فيكون على ذلك معنى الآية: لا يوجد هنا نسخ لآية من الآيات القرآنية إلا أتينا بآية أخرى بدلها، وليس هذا هو المطلوب، وإنما المطلوب هو نسخ الأحكام، والآية لا تفيد ذلك. الجواب الثالث: أن الآية تصلح أن تكون حُجَّة لنا، بيان ذلك: أن رفع الحكم إلى غير بدل قد يكون خيراً من المبدل؛ لما في ذلك من رفع المشقة عن المكلف، ولكونه لو وجد في الوقت الثاني - الذي نسخ فيه - لكان فيه مفسدة على العباد والبلاد. الدليل الثاني قالوا فيه: إنما قلنا: إن النسخ لا يكون إلا إلى بدل؛ لأنه أمر يلزم في كل حكم رفع، وذلك لأن الحكم إذا رفع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 عاد الأمر إلى ما كان عليه من حكم العقل، فمثلاً: إذا رفع تحريم الخمر عاد إلى ما كان عليه قبل التحريم، وهو محرم بحكم العقل. جوابه: يجاب عنه بأن هذا غير صحيح، لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات، فليس له أن يحرم أو يبيح، وهذا من كلام المعتزلة بناء على قاعدتهم: " التحسين والتقبيح العقليين "، ونحن لا نقول بها. *** المسألة السابعة عشرة: النسخ بالأخف، والمساوي، والأثقل: نسخ الحكم ببدل هو أخف من المنسوخ قد اتفق على جوازه كنسخ عدة المتوفى عنها من الحول إلى أربعة أشهر وعشر أيام. نسخ الحكم ببدل مثله في التخفيف والتثقيل والتشديد كنسخ استقبال بيت المقدس بالكعبة، قدْ اتفق على جوازه. نسخ الحكم ببدل أثقل منه قد اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن تكون المصلحة في نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل، وهذه المصلحة هي التدرج والترقي من الأحكام الخفيفة إلى الأحكام الثقيلة والشديدة: فالناس حديثو عهد بكفر، فلو نزلت الأحكام الثقيلة في أول الأمر لنفر أكثر من دخل في الإسلام عنه، ولكن اللَّه عَزَّ وجَكَّ رأى أن المصلحة تقتضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 التدرج بهم في الأحكام؛ لتلافي ذلك: فينزل اللَّه الأحكام الخفيفة في أول الأمر حتى تتمرن النفوس عليها وتتهيأ لقبول غيرها مما هو مثلها وأثقل منها كما حصل في ابتداء التكاليف الشرعية كتحريم الخمر، وتحريم الربا. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث وقع نسخ الحكم. من الأخف إلى الأثقل، والوقوع دليل الجواز. فمن أمثلة ذلك: أنه كان في أول الإسلام يجوز تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى وقت آخر أكثر أمنا، ونسخ ذلك إلى وجوب الإتيان بها في حالة الخوف قال تعالى: (وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ..) ، ولا شك أن الصلاة حالة الخوف أشد. مثال آخر: أن اللَّه تعالى أوجب صيام رمضان في ابتداء الإسلام مخيراً بينه وبين الفداء بالمال الثابت بقوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، ثم نسخ ذلك بتعيين الصيام فقط بقوله تعالى: (فمن شهد الشهر فليصمه) ، ومعلوم أن تعيين الصيام أشد. مثال ثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أمروا في أول الإسلام بترك القتال والإعراض عن ذلك، قال تعالى: (فأعرض عنهم) ، (وأعرض عن المشركين) ، ثم نسخ ذلك بإيجاب الجهاد في سبيل اللَّه، ومعلوم أن وجوب الجهاد أثقل من عدمه. الدليل الثالث: أنه إذا جاز أن لا يكلف اللَّه عباده ابتداء، ثم يكلفهم العبادات الشاقة جاز أن ينتقل من الأخف إلى الأثقل، ولا فرق بينهما لمن تدبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 المذهب الثاني: لا يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل. ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية كأبي بكر بن داود، ونسب إلى كل الظاهرية، ونسب إلى بعض الشافعية. أدلة هذا المذهب: لقد استدل هؤلاء بأدلة، ومنها: الدليل الأول: قوله تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى نفى إرادة العسر، والعسر هو الأشق والأثقل، إذن اللَّه لا ينقل العباد من حكم أخف إلى حكم أثقل؛ فيه عسراً عليهم ومشقة، فلو قلنا: إنه ينسخ من الأخف إلى الأثقل لكان ذلك تكذيباً لخبر الصادق. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن الآية وردت في صورة خاصة؛ حيث وردت في سياق تخفيف الصوم عن المريض والمسافر، والخاص لا يستدل به لإثبات قاعدة أصولية تعم كثيراً من الأحكام. الجواب الثاني: على فرض أنها عامة، فإنا نحملها على ما فيه اليسر والعسر بالنظر إلى المال، ولا يخفى أن التكليف بما هو أشق في الدنيا إذا كان ثوابه المآلي أكثر وأدفع للعقاب: أنه يسر، لا عسر. الجواب الثالث: أنه لو صح أن اللَّه لا يريد العسر لما كلف الخلق بعبادة فيها مشقة، وهذا لا يقوله أحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 الدليل الثاني: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . وجه الدلالة: أنه ليس المراد منه أن يأتي بخير من الآية في نفسها؛ القرآن كله خير، وإنما المراد به ما هو خير بالنسبة إلينا، ومعروف أن الأصعب والأشق والأثقل ليس خيراً من الأخف والأسهل، وليس مثلاً له، وعليه: فلا يجوز نسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن ظاهر هذه الآية أنه نسخ التلاوة، وقد يجوز أن يكون ثوابه أكثر، وقد ورد التفضيل في ثواب القرآن. الجواب الثاني: أن الخير المذكور في الآية هو ما كان خيراً في الدين، ولعل الأصعب في العبادات هو الخير في الدين من الأخف؛ ثوابه أكثر، أخرج البخاري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لعائشة - رضي اللَّه عنها -.ْ: " ثوابك على قدر نصبك ". الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه يضع عنهم الثقل الذي حمله للأمم قبلهم، فلو نسخ ذلك بما هو أثقل منه: كان تكذيبا لخبره تعالى وهو محال. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يلزم من وضع الإصر والثقل الذي كان على من قبلنا امتناع ورود نسخ الأخف بالأثقل في شرعنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 الدليل الرابع: أن اللَّه سبحانه أخبر عن نفسه بأنه رؤوف رحيم بعباده بقوله تعالى: (وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ) ، وغيرها من الآيات، وخبر اللَّه تعالى صدق لا شك في ذلك، ونسخ الحكم من الأخف إلى الأثقل ينافي تلك الرحمة والرأفة مما يؤدي إلى أن يكون خبر اللَّه كذباً، وهذا محال. جوابه: يجاب عنه: بأن كون اللَّه تعالى يتصف بالرحمة والرأفة لا يمنع من نسخ الشيء من الأخف إلى الأثقل؛ قياساً على التكاليف ابتداء، وقياساً على تسليط الأمراض أو الفقر، وغير ذلك من أنواع المؤذيات، بيان ذلك: أن اللَّه تعالى قد كلَّف عباده ابتداء بإقامة العبادات الشاقة الشديدة - بعد أن لم يكونوا مكفَفين بشيء -، وهو مع ذلك متصف بالرحمة والرأفة، فإذا جاز ذلك: جاز أن ينقل الحكم من الأخف - إلى الأثقل، ولا فرق بينهما في المعنى. وكذلك: اللَّه تعالى قد سلَّط بعض الأمراض والفقر، والهموم والغموم، وغير ذلك من أثواع العذاب والمؤذيات على بعض المؤمنين، ومع ذلك فهو رحيم رؤوف بهم، وإنما يصيبهم بما ذكر ابتلاء وامتحانا لهم، وتكفيراً لذنوب قد اقترفوها في دنياهم، فهو سبحانه لا يصيب أيَّ عبد من عبيده بأيِّ مصيبة إلا وفيها مصلحة له، فأمر المؤمن كله خير إن أصابته سراء شكر وفيه أجر، وإن أصابته ضراء صبر وفيه أجر. كذلك هنا ينسخ الحكم من الأخف "إلى الأثقل ابتلاء وامتحانا للمكلَّفين، ولمصالح يعلمها اللَّه تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 الدليل الخامس قالوا فيه: إن النسخ والتخفيف والحط بمعنى واحد، فلو قال قائل: " خففت عليك ولكن إلى شيء هو أثقل ": كان تناقضا، فكذلك إذا قال: " نسخت إلى ما هو أثقل ". جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك، فإن النسخ ليس بمعنى التخفيف والحط في اللغة، بل النسخ لغة: هو الرفع والإزالة. *** المسألة الثامنة عشرة: إذا بلغ الناسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - ولم يبلغ بعض الأمَّة، فهل يثبت في حق من لم يبلغهم ذلك الناسخ؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يكون نسخا في حق من لم يبلغه، أي: أن الحكم الأول لم يرتفع في حق من لم يبلغه الناسخ، ولا يلزمه العمل بالناسخ، فلا يأثم إذا لم يعمل به. هذا هو ظاهر كلام الإمام أحمد، واختاره أكثر الحنفية، والمعتزلة، ورجحه إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وابن الحاجب، والقاضي أبو يعلى الحنبلي، وغيرهم. وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: ما رواه ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - أنه قال: "بينما الناس في صلاة الصبح بقباء إذ جاءهم آتٍ، فقال: إن رسول الله قد أنزل عليه الليلة، وقدْ أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة ". وجه الاستدلال: أن أهل قباء قد اعتدوا بما مضى من صلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 الصبح فلم يقضوها، ولو كان النسخ ثبت في حقهم لأمروا بالقضاء، فلما لم يؤمروا بالقضاء: دلَّ على أن النسخ لم يكن ثبت في حقهم. الدليل الثاني: أن الخطاب الناسخ غير لازم للمكلَّف قبل تبليغه به لا نصاً ولا حكماً. أما النص فقوله تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا) . وأما الحكم فهو: أن المكلَّف لو فعل العبادة التي ورد بها الناسخ على وجهها قبل بلوغه بالناسخ: لكان آثما عاصيا غير خارج به عن العهدة، كما لو صلى إلى الكعبة قبل بلوغ النسخ إليه، ولو كان مخاطباً بذلك لخرج به عن العهدة، ولما كان عاصيا بفعل ما خوطب المذهب الثاني: أنه يكون نسخا في حق من لم يبلغه. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية. أدلة هذا المذهب: لقد استدل هؤلاء بأدلة هي كما يلي: المدليل الأول: القياس على الوكيل إذا عزله الموكل، بيان ذلك: لو وكل شخص وكيلاً في بيع سلعة، ثم عزل الموكل ذلك الوكيل فإنه ينعزل، وإن لم يعلم الوكيل بذلك العزل، فإن باع سلعة بطل ذلك البيع، ويبطل أي تصرف من الوكيل بعد عزل الموكل له، وإن لم يعلم الوكيل بذلك، فكذا الناسخ يُبطل العمل بالمنسوخ وإن لم يعلم المكلف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 جوابه: يجاب عنه بأن هذا قياس فاسد؛ لأمرين: الأمر الأول: أنه قياس على أصل قد اختلف فيه؛ حيث إنه لم يتفق على أن الوكيل ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، بل قد اختلف فيه على رأيين: الرأي الأول: أنه ينعزل بعزل الموكل وإن لم يعلم الوكيل، فلا تصح جميع تصرفات الوكيل بعد العزل وإن لم يعلم به. الرأي الثاني: أن الوكيل لا ينعزل إلا بعد علمه فيصح بيعه وجميع تصرفاته، وكذلك إن مات الموكل ولم يعلم الوكيل. وإذا كان الأمر كذلك فلا يصح القياس. الأمر الثاني: أنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين عزل الوكيل مع عدم علمه، وثبوت حكم الناسخ على المكلف مع عدم علم المكلف، وهو: أن أوامر اللَّه - تعالى - ونواهيه مقرونة بالثواب والعقاب فاعتبر فيها علم المأمور به والمنهي عنه، بخلاف الإذن في التصرف والرجوع فيه، فإنه لا يتعلق به ثواب ولا عقاب. الدليل الثاني: أن الحكم المنسوخ يرفع اتفاقا بعد علم المكلف بالنسخ، فرفعه إما أن يكون بعلم المكلف، أو يكون بالنسخ. لا يمكن أن يرفع بعلم المكلف؛ لأن العلم لا دخل له في ثبوت النسخ. فلم يبق إلا أن يرفع بالنسخ وهو الصحيح، فثبت - بهذا - أن النسخ متحقق قبل علم المكلف، فيكون نسخا في حق من لم يبلغه وهو المطلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 جوابه: يجاب عنه بأن الرفع بالنسخ مشروط بعلم المكلََّف به، وللشروط لا يتحقق بدون شرطه. بيان نوع الخلاف: إنَّ الخلاف لفظي في هذه المسألة، حيث إنه راجع إلى المراد من ثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الناسخ: فإن أريد بثبوت النسخ في حق من لم يبلغه الخبر: أنه يجب عليه الأخذ بحكم الناسخ قبل العمل به فهو إلزام بالمحال وتكليف بما لا يطاق عند الفريقين. وإن أريد أنه إذا بلغه الناسخ يلزمه تدارك ما مضى فهذا مما لا امتناع فيه. *** المسألة التاسعة عشرة: نسخ القرآن بالقرآن: نسني القرآن بالقرآن جائز بالإجماع، للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها) ، وهو صريح في ذلك. الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز: فقد وقع نسخ القرآن بالقرآن كثيراً، من ذلك نسخ عدة المتوفى عنها من سنة كاملة إلى أربعة أشهر وعشرة أيام، قال تعالى: (مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) ، ثم - نسخ ذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، ونسخ الفداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 بالمال عن الصيام، قال تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين) ، فنسخ ذلك بقوله: (فمن شهد الشهر فليصمه) . الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة من حيث السند؛ حيث إن كلاً منهما قطعي الثبوت. - *** المسألة العشرون: نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة: هذا جائز بالاتفاق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لا يمتنع عقلاً أن ينسخ الحكم الثابت بالتواتر بمتواتر مثله. الدليل الثاني: القياس على القرآن، فكما أنه يجوز نسخ القرآن بالقرآن كذلك يجوز نسخ السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة بجامع: أن كلاً منهما قطعي الثبوت. الدليل الثالث: الاتحاد في الرتبة؛ حيث إن الناسخ والمنسوخ يتفقان في أن كلًّا منهما قطعي اكشبوت. المسألة الحادية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بسُنَّة الآحاد: هذا جائز بالاتفاق؛ لدليلين: الدليل الأول: وقوعه، والوقوع دليل الجواز، من ذلك: ما رواه بريدة - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "، ومن ذلك ما رواه أبو هريرة - رضي اللَّه عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال - في شارب الخمر -: " إن سكر فاجلدوه ثم إن سكر فاجلدوه، ثم إن سكر فاجلدوه، فإن عاد في الرابعة فاضربوا عنقه " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 ، فأتي رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بسكران في الرابعة فخلَّى سبيله. الدليل الثاني: الاتحاد في الرتبة، حيث إن الناسخ والمنسوخ يتحدان في أن كلًّا منهما ظني الثبوت. *** المسألة الثانية والعشرون: نسخ سُنَّة الآحاد بالسُّنَّة المتواترة: هذا جائز بالاتفاق؛ لأن التواتر يفيد العلم، ويقطع العذر، والآحاد يفيد الظن، ونسخ الشيء بما هو أقوى وأعلى منه جائز، ولكنه لم يقع. المسألة الثالثة والعشرون: نسخ السُّنَّة بالقرآن: هذا قد اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن مطلقا. ذهب إلى ذلك الجمهور. وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن القرآن والسُّنَّة وحي من اللَّه تعالى، - قال تعالى في ذلك: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، غير أن الكتاب متعبد بتلاوته، بخلاف السُّنَّة، ونسخ حكم أحد الوحيين بالآخر غير ممتنع عقلاً، ولهذا لو فرضنا خطاب الشارع بجعل القرآن ناسخا للسُّنَّة لما لزم عنه محال عقلاً، فدلَّ على الجواز العقلي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 الدليل الثاني: وقوعه، والوقوع يدل على الجواز، فلو لم يكن جائزاً لما وقع، فقد وقع في الشرع أن القرآن نسخ السُّنَّة، من ذلك: 1 - أنه نسخ تأخير الصلاة حالة الخوف الثابت بالسُّنَّة؛ حيث روى أبو سعيد الخدري أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخَّر الصلاة يوم الخندق: الظهر والعصر والمغرب حتى بعد المغرب بهوي من الليل فصلاها، ثم نسخ ذلك بالقرآن وهو قوله تعالى: (وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة) . 2 - أنه نسخ الصلاة على المنافقين، فقد روى عمر بن الخطاب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صلى على عبد اللَّه بن أبي بن سلول المنافق، فعارضه عمر - رضي اللَّه عنه - فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أخَّر عني يا عمر إني خيرت فاخترت قد قيل لي: " استغفر لهم " لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت " - قال الراوي: فصلى عليه، ومشى معه، وقام على قبره حتى فرغ منه، قال: فعجبت من جرأتي على رسول اللَّه، والله ورسوله أعلم، قال: فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزل قوله تعالى: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ) ، فما صلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - على منافق، ولا قام على قبره حتى قبضه اللَّه تعالى، فهذا نسخ السُّنَّة بالقرآن. 3 - أنه نسخ القبْلة إلى بيت المقدس الثابتة بالسُّنَّة بالقرآن؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدمَ المدينة صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: (فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ) . ولا يمكن أن يقال: إن التوجه إلى بيت المقدس كان معلوما بالقرآن، وهو قوله تعالى: (فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) ؛ لأن هذه الآية فيها تخيير بين بيت المقدس وغيره من الجهات، والمنسوخ إنما هو وجوب التوجه إليه عيناً، وذلك غير معلوم من القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 اعتراض على هذا الدليل: قال المعترض: لعل هذه الأحكام كانت ثابتة بقرآن نسخ تلاوته، وبقى حكمه، فيكون نسخ القرآن بالقرآن، أو لعل تلك الأحكام قد ثبتت بالسُّنَّة، ونسخت بالسُّنَّة، فيكون من قبيل نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة وهذا متفق عليه. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك؛ لأمرين: أولهما: أنه لا دليل عند المعترض على أن تلك الصور من باب نسخ القرآن بالقرآن، أو من باب نسخ السُّنَّة بالسُّنَّة، ونحن قد تمسكنا بالأصل، وهو عدم الدليل على ذلك - بعد البحث التام -. ثانيهما: أنه لو قبل مثل هذه الاحتمالات لاقتضى أن لا يتعين ناسخ ولا منسوخ؛ حيث إنه سيقال في كل ناسخ: إنه ليس بناسخ بل غيره، ويقال في كل منسوخ: إنه ليس بمنسوخ بل غيره، وهذا خلاف الإجماع، بل لما ثبت ناسخ علم تأخره عن منسوخ إلا إذا قيل: " هذا ناسخ وذلك منسوخ "، وهو خلاف ما قاله العلماء. المذهب الثاني: أنه لا يجوز نسخ السُّنَّة بالقرآن. نسب هذا إلى الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -. أدلة هذا المذهب: استدل أصحاب. هذا المذهب بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . وجه الاستدلال: أن الآية دلَّت على أن السُّنَّة بيان للقرآن، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 والناسخ بيان للمنسوخ، فلو كان القرآن ناسخا للسُّنَّة لكان القرآن بياناً للسُّنَّة، وسيأتي أن السُّنَّة بيان للقرآن، فيلزم من ذلك أن كل واحد منهما بيان للآخر، وهذا دور، والدوبى باطل، فامتنع أن يكون القرآن ناسخاً للسُّنَّة. جوابه: يجاب عنه: بأن الشارع لما جعل السُّنَّة بياناً للقرآن نبَّه بذلك على أن القرآن أَوْلى أن يكون بيانا للسُّنَّة؛ لأنه أعلى منها، أي: إذا جاز أن يبين الأعلى بالأدنى، فجواز تبيين الأدنى بالأعلى أوْلى. الدليل الثاني: قالوا: إنه لو نسخت السُّنَّة بالقرآن للزم تنفير الناس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وعن طاعته؛ لإيهامهم أن اللَّه - تعالى - لم يرض السُّنَّة التي أتى بها النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك مناقض لمقصود البعثة، ولقوله تعالى: (وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله) . جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لو امتنع نسخ السُّنَّة بالقرآن للإيهام أن اللَّه لم يرض عن تلك السُّنَّة، وهذا يؤدي إلى تنفير الناس عن طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - كما زعمتم: لامتنع نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنَّة، وهو خلاف " الإجماع، حيث إنه قد اتفق على جواز نسخ القرآن بالقرآن، والسُّنَّة بالسُّنّة - كما سبق ذكره -. الجواب الثاني: أن ما قلتموه في دليلكم إنما يصح أن لو كانت السئُنَّة من عند رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من تلقاء نفسه، وليس كذلك، بل إنما السُّنَّة وحي قال تعالى في ذلك: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 الدليل الثالث لهم قالوا فيه: إن القرآن والسُّنَّة جنسان مختلفان من الأدلة، فلم يجز نسخ أحدهما بالآخر. جوابه: يجاب عنه بأن النسخ في الأصل لم يمتنع لكونهما جنسين، وإنما امتنع؛ لأن أحدهما فرع للآخر، وأن أحدهما أدنى، فلم يجز نسخ الأصل بفرعه، ولا نسخ الأعلى بالأدنى، وهذا لم يكن في مسألتنا؟ لأننا لم ننسخ الأعلى بما هو دونه، وإنما ننسخ الأدنى بما هو أعلى منه، ولا مانع من ذلك. تئبيه: لقد قلت: إن المذهب الثاني قد نسب إلى الإمام الشافعي، وقد كثر كلام العلماء حول هذه النسبة، وقد حققت ذلك في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه إن شئت. *** المسألة الر ابعة والعشرون: نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة: لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها: مذهبان: المذهب الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً وشرعا. وهو مذهب الحنفية، والمالكية، وعامة المتكلمين، وأهل الظاهر، وهو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه وبعض الحنابلة، وهو - اختيار أكثر الفقهاء من الشافعية وغيرهم. وهو الصحيح؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة لا يستحيل عقلاً، فالناسخ - في الحقيقة - هو الله عَزَّ وجَل، كل ما في الأمر أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 سبحانه أنزل الناسخ على النبي - صلى الله عليه وسلم - بوحي غير نظم القرآن، وإذا كان المنسوخ - وهو القرآن - والناسخ - وهي السُّنَّة - من اللَّه تعالى فما المانع من نسخ أحدهما للآخر؟ اعتراض على ذلك: قال معترض على هذا الدليل: قد ينسخ النبي - صلى الله عليه وسلم - الآية اجتهاداً منه، فإن هذا ليس من اللَّه تعالى. جوابه: يجاب عنه بأن يقال: إن جوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - النسخ بالاجتهاد فهو من عند اللَّه - أيضا -، فالله هو الذي أذن له بالاجتهاد في هذا الأمر، فثبت المطلوب، وهو: أن الكل من اللَّه تعالى. الدليل الثاني: أن القرآن والسُّنَّة لا فرق بينهما من حيث السند، فكل واحد منهما متواتر، ولا فرق بينهما من حيث المصدر - كما قلنا سابقا -. وإذا كان كل واحد منهما قطعي الثبوت، ومصدره من اللَّه تعالى، فإن كل واحد منهما يقوى على نسخ الآخر. الدليل الثالث: أن النسخ تعريف بانقضاء مدة العبادة، وإعلام سقوط مثل ما كان واجبا بالمنسوخ وارتفاعه فيما يستقبل من الزمان، والمعرفة بذلك تقع بالسُّنَّة كما تقع بالقرآن. الدليل الرابع: الوقوع، فقد وقع في الشريعة نسخ القرآن بالممئُنَّة المتواترة، والوقوع دليل الجواز، من ذلك: أن الوصية كانت واجبة للوالدين والأقربين بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ) ، فنسخ ذلك بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فلا وصية لوارث". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 اعتراض على ذلك: لقد اعترض على ذلك الدليل باعتراضين: الاعتراض الأول: أن الوصية للوالدين والأقربين لم تنسخ بقوله - عليه السلام -: " لا وصية لوارث "، بل إنها نسخت بآية المواريث، وبيان سهام الوالدلين والأقربين، وأشار النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك بقوله: " إن اللَّه قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث ". جوابه: يجاب عن هذا الاعتراض بأنه يمكن الجمع بين هذا الحديث وآية المواريث التي هي قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ) ، حيث إن الميراث لا يمنع من الوصية للأجانب. الاعتراض الثاني: إن الوصية للوالدين الثابتة بالآية لا يمكن أن تنسخ بالحديث وهو: " لا وصية لوارث "؛ لأن الحديث خبر آحاد، وليس بمتواتر، وخبر الواحد لا يقوى على نسخ ما ثبت بالقرآن. جوابه: يجاب عنه: بأن الحديث في قوة المتواتر؛ لأن المتواتر نوعان: متواتر من حيث السند، ومتواتر من حيث ظهور العمل به من غير نكير، فإن ظهوره يغني الناس عن روايته، والحديث الذي معنا من النوع الثاني، حيث إن ظهور العمل به من العدول من أئمة الفتوى بلا منازع، فإنه يجوز النسخ به. المذهب الثاني: أن نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة جائز عقلاً، ولا يجوز شرعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، وأحمد في رواية عنه، وبعض الحنابلة، واختاره أبو إسحاق الإسفراييني، وأبو منصور البغدادي، والقلانسي، والحارث المحاسبي. أدلة هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب على جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة عقلاً بالأدلة الثلاثة الأولى التي استدل بها أصحاب المذهب الأول. واستدل أصحاب هذا المذهب على عدم جواز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواتر شرعا بما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا) . وجه الدلالة: أن اللَّه جعل البدل خيراً من المنسوخ أؤ مثلاً له، والسُّنَّة ليست خيراً من القرآن ولا مساوية له في الخيرية، فلا تكون بدلاً عن الكتاب ولا ناسخة له. وكذلك: أخبر اللَّه تعالى أن ما ينسخه من الآيات يأت بخير منه، وذلك يفيد أنه يأت بما هو من جنسه، فكان الناسخ للقرآن هو القرآن لا السُّنَّة. جوابه: يجاب عنه: بأن المراد بالخيرية والمثلية الواردة في الآية: الخيرية والمثلية في الحكم لا في اللفظ، ولا شك أن الخكم الثابت بالسُّنَّة قد يكون أنفع للمكلف من الحكم المنسوخ. ثم اعلم بأن السُّنَّة كالقرآن ولا فرق بينهما، حيث إن كلًّا منهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 من عند اللَّه سبحانه وتعالى، كل ما في الأمر أن القرآن معجز ومتعبد بتلاوته، والسُنَّة ليست كذلك. فإذا علمت أن الكل من عند اللَّه، وأن المصدر واحد، وكل منهما قطعي الثبوت، فإنه ثبت أن الآية ليس فيها ما يدل على أن السُّنَة لا تنسخ القرآن. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . وجه الدلالة: أن المراد بما نزل هو القرآن، والمراد من الذكر هو السُّنَة، وقد جعل اللَّه السُّنَّة مبينة لكل القرآن؛ لأن " ما " للعموم، فلو كانت السُّنَّة ناسخة للقرآن للزم أن تكون رافعة للقرآن، لا مبينة له؛ لأن النسخ رفع لا بيان، وذلك يخالف ما دلت عليه الآية. جوابه: يجاب عنه بأن النسخ نوع من البيان؛ لأنه بيان انتهاء الحكم الشرعي بطريق شرعي متراخ عنه، وما دام النسخ بيانا، وقد جعلت السثُنَة مبينة للقرآن، فإنه يجوز نسخ القرآن بالسُّنَّة المتواترة، ولا مانع من ذلك. *** المسألة الخامسة والعشرون: هل يجوز نسخ القرآن والسّنَّة المتواترة بخبر الواحد؟ في ذلك تفصيل: . أما نسخ القرآن والسُنَّة المتواترة بخبر الواحد عقلاً فهو جائز باتفاق العلماء المعتدّ بأقوالهم، وذلك لأنه لا يمتنع عقلاً أن يأتي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 الشارع بخبر الواحد، ويقول: إنه ناسخ للحكم الفلاني الذي ثبت بالتواتر، فإن اللَّه ينزل ما يشاء ويفعل ما يريد، فلا يلزم من جوازه محال. أما نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد شرعا، فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: لا يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد شرعاً، وهو مذهب الجمهور من العلماء. وهو الصحيح؛ لأنه بعد تتبع الأدلة واستقرائها لم نجد فيها أن متواتراً قد نسخه خبر واحد، وهذا يدل على عدم الوقوع، وماذا كان الأمر كذلك فإنه يدل على عدم الجواز. المذهب الثاني: يجوز نسخ القرآن والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد شرعا. ذهب إلى ذلك بعض أهل الظاهر كداود، وابن حزم، وبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع، حيث إنه قد وقع أن القرآن والسُنَّة المتواترة قد نُسخا بخبر الواحد، بيان ذلك: أولاً: أنه ثبت: أن رجلاً جاء إلى أهل قباء وهم يصلون العصر نحو بيت المقدس، فقال: أشهد أني صليت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نحو الكعبة فانحرف القوم حتى توجهوا نحو الكعبة. فالتوجه إلى بيت المقدس كان ثابتا بالسُّنَّة المتواترة لأهل قباء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 وغيرهم، فنسخ ذلك بخبر الواحد؛ إذ قبلوا كلامه، وتحولوا نحو المسجد الحرام، وعلى هذا يكون خبر الواحد قد نسخ المتواتر. جوابه: يجاب عنه بأن محل النزاع هو وقوع نسخ المتواتر بخبر الواحد المجرد عن القرائن المفيدة للعلم، أما في هذه القصة فإنه يحتمل أن يكون قد انضم إليه ما يفيد العلم كقربهم من مسجد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وسماعهم لضجة الخلق في ذلك. ثانيا: قوله تعالى: (وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ) ، حيث نسخ ذلك بخبر الواحد وهو: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن تنكح المرأة على عمتها أو على خالتها ". جوابه: يجاب عنه: بأن الحديث مخصص للآية، وليس بناسخ لها؛ النص يقتضي أن يكون كل ما عدا المذكورات حلالا، فأخرج عنه هذا الحديث بعضه فيكون تخصيصا لا نسخا. ويمكن أن يكون نسخاً لو أثبت المستدلون: أن الخبر ورد بعد العمل بمقتضى الآية، فحينئذ يكون نسخا؛ إذ لا يجوز تأخير بيان المخصص عن وقت العمل. ثالثا: أنه ثبت بالتواتر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل الآحاد من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - إلى البلدان والنواحي لتبليغ الأحكام، وتبليغ الناسخ والمنسوخ، ولولا قبول خبر الواحد في ذلك: لما كان قبوله واجباً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 جوابه: يجاب عنه: بأن هذا يجوز فيما يجوز فيه خبر الواحد، كان ينسخ ما ثبت بخبر الواحد، أما ما لا يجوز فيه فلا، مثل مسألتنا وهي: نسخ المتواتر بالآحاد، ومن ادعى أن خبر الواحد قد نسخ متواتراً فعليه الإثبات. الدليل الثاني: أن خبر الواحد ينسخ المتواتر من القرآن والسُّنَّة؟ قياساً على التخصيص به، بيان ذلك: أنه كما يجوز تخصيص المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد، كذلك يجوز نسخ المتواتر من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد؛ إذ لا فرق بينهما، والجامع: رفع الضرر المظنون. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن التخصيص: بيان وجمع بين الدليلين، أما النسخ فهو: إبطال ورفع وإزالة كما تقدم. الدليل الثالث: أن خبر الواحد دليل من أدلة الشرع، فإذا صار معارضاً لحكم المتواتر وجب تقديم المتأخر؛ قياساً على سائر الأدلة. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؟ لوجود الفرق بين المتواتر والاَحاد، فالمتواتر مقطوع في سنده، والآحاد مظنون في سنده، فهذا الفرق مانع من ترجيح خبر الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 المسألة السادسة والعشرون: هل الإجماع يكون منسوخا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الإجماع لا يكون منسوخا. وهو مذهب الجمهور. وهو الصواب؛ لأن ما وجد من الإجماع بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وانتهاء زمن الوحي لو نسخ حكمه فإما أن ينسخ بنص، أو إجماع، أو قياس. أما الأول - وهو كون الإجماع منسوخا بنص - فهو باطل؛ لأن الناسخ لا بد أن يكون متأخراً عن المنسوخ، ومعلوم أن النص متقدم على الإجماع. وقلنا: إن النص متقدم على الإجماع؛ لأن النصوص تتلقى من النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإجماع لا ينعقد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه إن لم يوافقهم لم ينعقد، وإن وافقهم كان قوله هو الحُجَّة؛ لاستقلاله بإفادة الحكم، فإذا ثبت أن النص متقدم على الإجماع، فلا يمكن أن يكون النص ناسخاً للإجماع؛ لأن المتقدم لا ينسخ المتأخر. أما الثاني - وهو كون الإجماع منسوخا بإجماع آخر - فلا يصح - أيضا -؛ لأنه يستحيل انعقاده على خلاف إجماع آخر؛ إذ لو انعقد لكان أحد الإجماعين خطأ؛ لأن الأول إن لم يكن عن دليل فهو خطأ، وإن كان عن دليل كان الثاني خطأ؛ لوقوعه على خلاف الدليل. أما الثالث - وهو كون الإجماع منسوخا بقياس - فهو باطل - أيضا -؛ لأن القياس لا يكون على خلاف الإجماع؛ لأنه يشترط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 في القياس: أن لا يكون مخالفا لنص أو إجماع، فعند مخالفة الإجماع للقياس: يكون القياس باطلاً فلا يكون حُجَّة، وعليه فلا يصح أن يكون ناسخا للإجماع. اعتراض على ذلك: اعترض معترض قائلاً: إنه يُتصور أن يكون الإجماع منسوخاً، بيان ذلك: أنه يمكن أن يكون الإجماع قد انعقد في زمن، ثم بعد ذلك ظهر للمجمعين خبر كان قد خفي عليهم، ولم يعلموا به أثناء إجماعهم، هذا الخبر الذي ظفروا به هو أقوى من مستندهم في ذلك الإجماع، فيكون - على هذا - هذا الخبر ناسخا للإجماع. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا باطل؛ لأن المنسوخ يكون هو النص الذي كان مستند الإجماع، ولا يمكن أن يكون المنسوخ هو الإجماع؛ لأن الإجماع بطل من أصله بظهور ذلك النص، لا أن الإجماع يكون مرفوعا بعد استقراره. المذهب الثاني: أن الإجماع يكون منسوخا. ذهب إلى ذلك طائفة من العلماء. دليل هذا المذهب: أن العلماء المعتد بأقوالهم إذا اختلفوا في مسألة على قولين: فإن المكلَّف مخير في العمل بكل واحد من القولين، إذا أجمع علماء الأُمَّة على هذين القولين؛ إذ لا ثالث لهما، فإذا أجمع العلماء - بعد ذلك - على أحد القولين: لم يجز العمل بالقول الآخر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 وحينئذ يكون الإجماع الثاني ناسخا لما دلَّ عليه الإجماع الأول من جواز العمل بكل واحد من القولين، وبذلك يكون الإجماع الثاني ناسخاً للإجماع الأول، فصح بذلك أن يكون الإجماع منسوخا. جوابه: يجاب عنه: بأن علماء الأُمَّة إنما جوَّزوا للمكلف الأخذ بأي واحد من القولين بشرط: أن لا يحصل الإجماع على أحد القولين، فكان الإجماع الأول مشروطا بهذا الشرط، فإذا وجد الإجماع الثاني فقد زال شرط الإجماع الأول، فانتفى الإجماع الأول بسبب انتفاء شرطه، لا لكون الثاني قد نسخه. *** المسألة السابعة والعشرون: هل يكون الإجماع ناسخا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأولي: أن الإجماع لا يكون ناسخا، أي: أن الإجماع لاينسخ به. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الصحيح؛ لدليلين: الدليل الأول: أن المنسوخ بالإجماع إما أن يكون نصا، أو إجماعاً، أو قياسا. أما الأول - وهو كون المنسوخ بالإجماع نصا - فهذا باطل؟ لاستحالة انعقاد الإجماع على خلاف ذلك النص؛ لأن الإجماع لابد له من مستند فلا يخلو: إما أن يطلع المجمعون على هذا النص أو لا. فإن لم يطلعوا عليه: كان إجماعهم باطلاً؛ لوجود ما يخالفه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وإن اطلعوا عليه وأجمعوا على خلافه:. دلَّ على أن هذا النص مرجوح، وما استندوا إليه في إجماعهم راجح، فيكون - بذلك - الناسخ للنص هو النص الذي استندوا إليه، فثبت: أن ذلك من باب نسخ النص بالنص، لا من باب نسخ النص بالإجماع. وأما الثاني - وهو كون المنسوخ بالإجماع إجماعا آخر - فهو باطل؛ لأن الإجماع لا ينعقد على خلاف إجماع آخر - كما سبق ذكره -. وأما الثالث - وهو كون المنسوخ بالإجماع قياسا - فهو باطل - أيضاً - لأن من شرط حجية القياس والعمل به: عدم مخالفته للإجماع، فإذا انعقد الإجماع على خلاف القياس: زال القياس لزوال شرطه، وزوال المشروط لزوال الشرط لا يسمى نسخاً. الدليل الثاني: أن الإجماع إنما يكون حُجَّة بعد عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والنسخ إنما يكون في زمن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وعلى هذا يستحيل اجتماعهما. المذهب الثاني: أن الإجماع يكون ناسخ@. ذهب إلى ذلك بعض المعتزلة، وعيسى بن أبان من الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن سهم المؤلفة قلوبهم من الزكاة قد سقط بإجماع الصحابة، فهذا يدل على أن الإجماع يكون ناسخا. جوابه: يجاب عنه بأن سقوط سهم المؤلفة قلوبهم ليس من باب النسخ، بل هو من باب انتهاء الحكم لانتهاء عِلَّته المقررة، وهي: تحبيب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 الإسلام في نفوس حديثي العهد بالإسلام لإعزاز الإسلام، فلما حصلت العزة للإسلام في عهد الصحابة سقط سهم المؤلفة قلوبهم، وليس انتهاء الحكم لانتهاء علته نسخا. الدليل الثاني: كما أن الإجماع مخصص للعام كذلك يصح أن يكون ناسخا ولا فرق. جوابه: يجاب عنه بأنه ليس كل ما يُخصص به ينسخ به، فدليل العقل يجوز التخصيص به ولا يجوز النسخ به، ثم إن قياسكم النسخ على التخصيص قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن، النسخ رفع للحكم بالكلية بخلاف التخصيص؛ فإنه قصر للحكم على بعض أفراده، وبذلك لا يمنع أن يكون الإجماع مخصصا، بخلاف النسخ، فقد وجد فيه ما يمنع من كون الإجماع ناسخا وهي أدلتنا السابقة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين متفقون على أنه لا إجماع في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا نص بعد وفاته، فيحمل كلام أصحاب المذهب الثاني على أن مرادهم: النسخ بالدليل الذي هو مستند الإجماع، وهذا لا خلاف فيه. *** المسألة الثامنة والعشرون: هل يكون القياس منسوخا وناسخا؟ لقد كثر كلام العلماء حول هذه المسألة وكثرت المذاهب فيها، ولكن الأصح عندي ما ذهب إليه ناصر الدين البيضاوي، والإسنوي وكثير من العلماء وهو: أن القياس يُنسخ بقياسٍ أجلى وأظهر وأقوى منه، فمثلاً نص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 الشارع على تحريم بيع البر بالبر متفاضلاً، فقسنا عليه السفرجل لعلَّة جمعت بينهما، وقلنا: لا يجوز بيع السفرجل بالسفرجل متفاضَلاً قياسا على بيع البر بالبر، ثم نص - أيضاً - على إباحة التفاضل في الموز، وكان مشتملاً على علَّة أقوى من العِلَّة التي في الأول، فإن هذا يقتضي إلحالق السفرجلَ بالموز، ويكونَ بيع السفرجل بالسفرجل جائزاً كالموز، فإن القياس هنا يكون ناسخا للقياس الأول. وإنما حصرنا ناسخ القياس في قياس أقوى وأجلى منه؛ لأنه لا ينسخ بنص ولا إجماع، ولا بقياس مساوي، ولا بقياس أخفى وأدنى منه. أما كونه لا ينسخ بالنص ولا بالإجماع؛ لأن شرط العمل بالقياس: ألا يوجد ما يخالفه من نص أو إجماع، فإذا وجد ما يخالفه من نص أو إجماع، فقد بطل العمل به، أي: زال القياس بزوال شرطه. أما كونه لا ينسخ بالقياس المساوي فلأن ذلك يؤدي إلى ترجيح أحد المتساويين على الآخر بدون مرجح وهو باطل. أما كونه لا ينسخ بالقياس الأخفى والأدنى منه، فلأن ذلك يؤدي إلى العمل بالمرجوح وترك العمل بالراجح وهو باطل. فثبت أن القياس ينسخ بالقياس الأقوى فقط. وعلى ذلك فالقياس الأقوى والأجلى ناسخ للقياس الأضعف والأخفى. فيكون القياس ناسخاً ومنسوخا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 المسألة التاسعة والعشرون: إذا نسخ حكم الأصل فهل ينسخ تبعا لذلك حكم الفرع؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه إذا نسخ حكم الأصل في القياس، فإن حكم الفرع ينسخ تبعاً له مطلقاً، أي: سواء كان القياس قطعياً أو ظنياً، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن حكم الفرع قد ثبت بالعلَّة التي اعتبرت لحكم الأصل، فإذا نسخ حكم الأصل فقد زال اعتبار أي عِلَّة لهذا الحكم، ومتى زال اعتبار العلَّة فقد زال اعتبار الحكم الذي ثبت بها، وبذلك يكون رفع حكم الأصل مستلزما لرفع حكم الفرع. فمثلاً: قال - صلى الله عليه وسلم - للأعرابي الذي واقع أهله في نهار رمضان: "اعتق رقبة"، فإن هذا يفيد أن المجامع في نهار رمضان عليه الكفارة، وعلَّة ذلك: إفساد اليصوم المحترم - عند بعضهم - فألحق به الأكل عمَداً في نهار رمضان، نظراً لوجود العِلَّة فيه، فالكفارة في الأكل في نهار رمضان ثابتة بالقياس؛ بناء على تلك العلَّة، فإذا فرضنا أن الشارع نسخ هذا الحديث وبنسخه ينسخ الحكمَ الذي اشتمل عليه وهو: وجوب الكفارة في الجماع في نهار رمضان: فإن حكم الفرع - وهو وجوب. الكفارة في الأكل - يرتفع تبعاً لذلك؛ لأن العلَّة وهي: انتهاك حرمة رمضان قد زال اعتبارها بسبب رفع حكم الأصل الذي استنبطت منه. المذهب الثاني: أنه إذا نسخ حكم الأصل، فإن حكم الفرع الثابت بعلته لا يرتفع، أي: لا يرتفع حكم الفرع بارتفاع حكم الأصل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 ذهب إلى ذلك بعض الأصوليين. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الفرع تابع لدلالة حكم الأصل، ولم يتبع حكم الأصل، وعلى هذا: فلا يلزم من انتفاء حكم الأصل بالنسخ انتفاء دلالته، فلم يحدث شيء إلا انتفاء حكم الأصل، أما دلالته فباقية كما هي فيبقى معها حكم الفرع. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نسلِّم بأنه لم يحدث شيء إلا انتفاء حكم الأصل، بل ثبت انتفاء العلَّة التي استنبطت من حكم الأصل، وهو ملزوم لانتفاء حكم الأصلَ؛ حيث إن السبب في وجود العِلَّة التي أوجدت الحكم في الفرع هو وجود حكم الأصل، فلما انتفى حكم الأصل، انتفت تلك العِلَّة المستنبطة منه، وبانتفائها انتفى ما تعلق بها وهو: حكم الفرع. تنبيه: نسب أبو يعلى، وأبو الخطاب، وأبو إسحاق الشيرازي، وصفي الدين الهندي المذهب الثاني إلى كل الحنفية، ونسبه الآمدي، وابن قدامة إلى بعض الحنفية، وهذه النسبة فيها تساهل؛ حيث أنكرها ابن عبد الشكور، والأنصاري، والكمال بن الهمام من الحنفية. المسألة الثلاثون: مفهوم الموافقة هل يقع ناسخاً ومنسوخا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم الوافقة يقع ناسخاً ومنسوخاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأن مفهوم الموافقة كالنص المنطوق به، فكما يجوز نسخ النص، والنسخ به، فكذلك يجوز نسخ المفهوم الموافق والنسخ به ولا فرق، بل قد يكون المفهوم الموافق أقوى من المنطوق به، فمثلاً قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمنطوقه على تحريم التأفيف، ودل بمفهومه الموافق على تحريم الضرب والشتم والقتل والسب، أي: إذا حرم مجرد التأفيف فمن باب أوْلى أن يحرم الضرب والشتم؛ لأنه أشد في الإيذاء. المذهب الثاني: أن مفهوم الموافقة لا يقع ناسخا ولا منسوخا. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المواققة قياس جلي، وانقياس لا ينسخ ولا يُنسخ به، بيانه: أن قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) دلَّ بمفهومه على تحريم الضرب والشتم، والقتل للوالدين، فلم ينطق بذلك، ولم يكن في ذلك صيغة الضرب والشتم والقتل، وإنما المنطوق به التأفيف فألحق به الضرب والشتم بجامع الأذى في كل، وهذا هو القياس، والقياس لا يكون ناسخاً ولا منسوخاً. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: - الجواب الأول: أن تحريم الضرب وغيره من أنواع الأذى ثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 نطقا، لا قياساً، فصح نسخه، ويدل على أنه ثبت نطقا قولهم: هذا مفهوم الخطاب وفحواه وتنبيهه. الجواب الثاني: أن من سمى هذا قياسا من الشافعية صرَّحوا بأنه قياس جلي يجري مجرى النطق في الدلالة، ونحن سميناه بمفهوم الموافقة، أو التنبيه، أو دلالة النص عند الحنفية، وهذا اختلاف في التسمية لا يضر ما دام أن المعنى متفق عليه. الجواب الثالث: على فرض أنه قياس، فإن هذا لا يمنع أن يكون ناسخاً ومنسوخاً؛ لأننا بينا فيما سبق أن القياس يكون ناسخاَ ومنسوخاً، وذلك في المسألة الثامنة والعشرون. المسألة الواحدة والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يقع منسوخاً؟ الحق: أن مفهوم المخالفة يأتي منسوخاً، أي: يجوز نسخ حكم المسكوت الذي هو مخالف للمذكور مع نسخ الأصل ودونه. أما نسخ المفهوم المخالف مع أصله فهو واضح، حيث إنه إذا نسخ الأصل وهو النص ينسخ معه جميع ما يفهم منه. أما نسخ المفهوم المخالف مع بقاء أصله فمثاله: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الماء من الماء "، فقد نسخ مفهومه بما روته عائشة - رضي اللَّه عنها - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل "، وبقي أصله وهو: وجوب الغسل بالإنزال. *** المسألة الثانية والثلاثون: مفهوم المخالفة هل يأتي ناسخا؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 المذهب الأول: أن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الصحيح؛ لأن النص أقوى منه، فمفهوم المخالفة يضعف عن مقاومة النص. المذهب الثاني: يكون مفهوم المخالفة ناسخا. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كأبي إسحاق الشيرازي. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن مفهوم المخالفة في معنى النص، فكما أن النص يأتي ناسخاً، فكذلك مفهوم المخالفة ولا فرق. جوابه: يجاب عنه: بأن قياس مفهوم المخالفة على النص قياس فاسد؟ لأنه قياس مع الفارق، فالنص دلالته قطعية على المدلول: أما دلالة مفهوم المخالفة فليست كذلك، لذلك منع الحنفية من الاحتجاج بمفهوم المخالفة على تفصيل سيأتي، أما الاحتجاج بالنص فلم يمنع منه أحد. المذهب الثالث: التفريق بين المفاهيم: فإن كان مفهوم المخالفة من المفاهيم القوية كمفهوم الصفة، ومفهوم الشرط ونحوهما، فيجوز أن يكون ناسخاً؛ لأنه قريب من المنطوق، وإن كان من المفاهيم الضعيفة كمفهوم العدد واللقب ونحوهما، فلا يجوز أن يكون ناسخا؛ نظراً لضعفه وعجزه عن مقاومة النص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 جوابه: يجاب عنه: بأن مفهوم المخالفة لا يكون ناسخا - كما قلنا في مذهبنا - ولا يمكن أن يكون مفهوم المخالفة قريبا من النص في الدلالة، وهذا التفريق بين المفاهيم لا دليل عليه. المسألة الثالثة والثلاثون: كيفية معرفة الناسخ والمنسوخ: أولاً: لا يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق العقل، ولا عن طريق القياس، لأمور: الأول: أن النسخ إما رفع الحكم الشرعي، أو بيان مدة انتهاء العمل به، وكل واحد منهما لا سبيل للعقل إلى معرفته، ولا مدخل له فيه. الثاني: أنه لو كان للعقل طريق إلى معرفة النسخ بدون النقل للزم أن يكون له طريق إلى معرفة ثبوت الأحكام بدون النقل، وليس كذلك. الثالث: أن النسخ لا يكون إلا بتأخر الناسخ عن زمن المنسوخ، ولا مدخل للعقل ولا القياس في معرفة المتقدم والمتأخر. ثانياً: يعرف الناسخ من المنسوخ عن طريق النقل المجرد، ويعتبر لصحة النسخ أن يتأخر ناسخ عن منسوخ وإن لم يتأخر لا يصدق عليه اسم ناسخ. ثالثاً: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المتفق عليها. الطريق الأول: أن يعلم من اللفظ - النطق - تقدم أحد الحكمين على الآخر، فيكون المتقدم منسوخا، والمتأخر ناسخا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 والمراد بالتقدم: التقدم في التنزيل، لا التقدم في التلاوة، كما قال الماوردي. من أمثلة ذلك: 1 - قوله تعالى: (الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا) هذا اللفظ يفيد أنه نسخ عنهم أن يصابر كل واحد لعشرة إلى أن يصابر الواحد منهم للاثنين فقط. 2 - قوله تعالى: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ) يفيد نسخ الإمساك بعد الفطر. 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة ". 4 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فكلوا وادخروا". 5 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني كنت رخصت لكم في جلود الميتة فلا تنتفعوا من الميتة بجلد ولا عصب ". الطريق الثاني: أن يذكر الراوي - صراحة - وقت وتاريخ سماعه ذلك النص مِنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقول: " سمعت عام الفتح كذا "، ونحو ذلك، فيكون المنسوخ هو الذي تقدم على ذلك التأريخ. ويمثلون لهذا الطريق بما رواه شداد بن أوس أن النبى - صلى الله عليه وسلم - قال: "أفطر الحاجم والمحجوم "، حيث إنه منسوخ بما رواه ابن عباس: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - احتجم وهو محرم صائم "، فإن ابن عباس إنما صحبه محرماً في حجة الوداع عام عشر، وفي بعض طرق حديث شداد أن ذلك كان في زمن الفتح، وذلك في سنة ثمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 الطريق الثالث: أن تجمع الأمة أو الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على أن هذا الحكم منسوخ، وأن ناسخه متأخر، لا أن الإجماع هو الناسخ. مثل: نسخ رمضان لصيام يوم عاشوراء، ونسخ الزكاة لسائر الحقوق المالية، فإن الصحابة اتفقت على ترك استعمالهم هذا، فدل عدولهم عنه على نسخه. الطريق الرابع: أن يخبر الراوي عن الناسخ والنسوخ، ويفهم من كلامه صراحة مثل: قول بعض الرواة: " رخص لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المتعة ثلاثا، ثم نهانا عنها ". 2 - ما رواه عليٌّ رضي اللَّه عنه أنه قال: " أمرنا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالقيام للجنازة ثم قعد ". الطريق الخامس: أن يكون راوي أحد الخبرين لم يصحب النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا في أول الإسلام ثم انقطع، وأن راوي الخبر الآخر أسلم في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون نقل الثاني هو الناسخ، وما نقله الأول هو المنسوخ. مثاله: ما رواه طلق بن عليّ: أن - صلى الله عليه وسلم - سئل عن الوضوء من مس الذكر فقال: " هل هو إلا بضعة منك ". فهذا الخبر يفيد عدم وجوب الوضوء من مس الذكر، فهذا مخالف لما رواه أبو هريرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مس ذكره فليتوضأ" حيث إنه يفيد وجوب الوضوء من مس الذكر. وعلم أن حديث أبي هريرة متأخر عن حديث طلق؛ لأن أبا هريرة أسلم في آخر حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبعد وفاة طلق بن علي، وبناء على ذلك: يكون حديث أبي هريرة ناسخا لحديث طلق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 رابعا: طرق معرفة الناسخ من المنسوخ المختلف فيها: الطريق الأول: قول الصحابي: " هذا الخبر منسوخ "، أو قوله: " كان الحكم كذا ثم نسخ "، أو نحو ذلك هل يثبت به النسخ؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يثبت النسخ بهذا الطريق. ذهب إلى ذلك الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن قول الصحابي هذا يحتمل أن يكون قد صدر عن اجتهاد، فيظن غير الناسخ ناسخا وأن غير الرافع رافعاً، فلا يمكن أن نترك ما تيقنا من ثبوته وهو خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - من أجل كلام يدخله الاحتمال قد يصدق، وقد لا يصدق. ثم إن قول الصحابي اختلف في حجيته، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حجة إجماعاً، فلا نترك الحُجة إجماعاً وقطعا بالمختلف في حجيته؟ حيث إن قول الصحابي لا يسلم على سل حال، بل لا بد من النظر فيه والتأكد منه، ولهذا لما نقل عن طائفة من الصحابة قولهم: "نسخ السح بآية الوضوء التي نزلت في المائدة "، لم نسلم ذلك، بل أجمعنا على أن هذه الآية غير ناسخة لها؛ لأنه ليس في الآية ما يدل على النسخ. المذهب الثاني: أنه يثبت النسخ بهذا الطريق. ذهب إلى ذلك الحنفية. دليل هذا المذهب: أن الصحابي العدل الثقة إذا قال: إن هذا الخبر منسوخ، فإنه لم يقله إلا عن علم بالتأريخ والتعارض؛ فإن المراد عنده معلوم بمشاهدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 القرائن، فحكمه بالنسخ عن بصيرة، والصحابي غير متهم، فوجب الرجوع إلى ما قاله وقبوله كما يقبل منه الخبر الذي رواه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: يجاب عنه: بأن هناك فرقاً بين روايته لخبر عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وبين دعواه للنسخ، وهو: أننا قبلنا روايته للخبر وعملنا به نظراً لثبوت عدالته والوثوق به، وكونه قد شاهد التنزيل؛ ولأن الشريعة تؤخذ عن طريقه، فلو أننا لم نقبل الأخبار التي ينقلها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما ثبت في الشريعة شيء. أما دعوى النسخ فهو متعلق بالاجتهاد والنظر، وهو في ذلك غير معصوم، فلو وجب قبول قوله في ذلك لوجب قبول قوله في مسائل الاجتهاد - كلها - وهذا ليس بصحيح. الطريق الثاني: كون أحد النصين المتعارضين مثبتا في المصحف بعد النص الآخر، هل يثبت به النسخ؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المتأخر في الترتيب لا ينسخ المتقدم في الإثبات في المصحف، وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن ترتيب الآيات في المصحف ليس على ترتيب النزول، بل قد يكون المتقدم في الترتيب متأخراً في النزول كما في آيتي عدة المتوفى عنها زوجها فقد قال تعالى في سورة البقرة، الآية الرابعة والثلاثين بعد المائتين: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا) ، وقال في الآية الأربعين بعد المائتين من نفس السورة: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 فإن الآية الناسخة هي الأولى مع تقدمها في المصحف عن الآية المنسوخة. المذهب الثاني: أن المتأخر في الترتيب والإثبات في المصحف ناسخ للمتقدم في ذلك، ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن تأخر النص في ترتيب المصحف دليل على تأخره في النزول، والمتأخر في النزول ينسخ المتقدم. جوابه: يجاب عنه بأن هذا ليس على إطلاقه، بل قد يكون المتقدم في ترتيب المصحف متقدماً في النزول، والمتأخر في الترتيب متأخراً في النزول، وقد يكون المتقدم في الترتيب متأخراً في النزول كما مثلنا. الطريق الثالث: كون أحد النصين المتعارضين موافقا للبراءة الأصلية والآخر مخالفاً لها، هل يثبت به النسخ؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن هذا الطريق لا يثبت به النسخ. وهو مذهب الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن جعل أحد النصين بعينه متقدماً والآخر بعينه متأخراً ليس بأولى من العكس؛ لعدم وجود المرجح الصحيح، والموافقة والمخالفة للبراءة لا تصلح أن تكون مرجحاً. المذهب الثاني: أن هذا الطريق يثبت به النسخ. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن النص الموافق للبراءة متأخر عن النص المخالف لها لكونه مفيداً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 فائدة جديدة، وهي رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية بعد نسخ الحكم الذي شرع بعدها ولو جعل متقدما على النص الآخر لم يكن مفيداً فائدة جديدة، لأن البراءة الأصلية مستفادة قبله، ومتى جعل الموافق متأخراً كان ناسخا للنص المتقدم. جوابه: يجاب عنه: بأن الموافق للبراءة الأصلية، كما أنه قد يأتي بفائدة جديدة عند تأخره - وهي: رجوع الفعل إلى البراءة الأصلية - كذلك قد يأتي عند تقدمه بفائدة جليلة وهي: أن الشرع جاء موافقاَ للعقل وغير مخالف له. الطريق الرابع: كون الراوي لأحد الخبرين المتعارضين أصغر سناَ من الراوي الآخر، أو متأخراً في الإسلام، هل يثبت بذلك النسخ؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يثبت به النسخ. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لجواز أن يكون الراوي الأصغر سنا قد روى عمن هو أكبر منه، ولجواز أن يكون الراوي المتأخر إسلاماً قد روى عمن تقدمه في الإسلام؛ فنظراً إلى هذا الاحتمال القوي، فإن هذا الطريق لا يثبت به النسخ. المذهب الثاني: أنه يثبت به النسخ. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الخبر الذي رواه الأصغر، أو المتأخر في الإسلام يكون ناسخاَ للخبر الآخر، لأن الظاهر أنه متأخر في الزمن عن الخبر الآخر، والظاهر يرجح على غيره. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الظاهر الذي استندتم إليه ليس بأولى من الاحتمال الذي ذكرنا في دليلنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 المبحث الثاني في الدليل الثاني من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: السُّنَّة وهو يشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف السُّنَّة. المطلب الثاني: في حجية السُّنَّة. المطلب الثالث: في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينه وبين الإنشاء وأقسامه. المطلب الرابع: في خبر المتواتر. المطلب الخامس: في خبر الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 المطلب الأول في تعريف السُّنَّة ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة. المسألة الثانية: تعريف السُّنَّة عند الأصوليين. المسألة الثالثة: تعريف السُّنَّة عند غير الأصوليين. المسألة الرابعة: بيان السبب في الاختلاف في تعريف السُّنَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 المسألة الأولى: تعريف السُّنَّة لغة: السئُنَّة لغة: الطريقة مطلقا سواء كانت حسنة أو قبيحة وسيئة، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من سن سُنَّة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنَّ سُنَّة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة ". هذا هو الراجح من أقوال أهل اللغة؛ لورودها كثيراً في ذلك. وأما ما ذكره الأزهري من أن السُّنَّة تطلق على الطريقة المحمودة المستقيمة بدليل قولهم: " فلان من أهل السُّنَّة " أي: من أهل الطريقة المستقيمة المحمودة: فإن هذا لا يسلم له؛ لأن هذا تخصيص وتقييد بدون مخصص أو مقيد، وأما قولهم: " فلان من أهل - السُّنَّة"، فهو استعمال في عرف أهل الشريعة، وليس إطلاقا لغويا، والمراد بالسُّنَّة في هذا القول هو: ما يقابل البدعة. وتطلق السُّنَّة لغة على الشريعة، ومنه قوله تعالى: (سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ) أي: شريعة اللَّه قد اقتضت في الكفار أنه لا ينفعهم الإيمان إذا رأوا العذاب كما ذكر القرطبي، وابن منظور. وتطلق السُّنَّة لغة على الدوام، فتأتي بمعنى الدوام، ومنه قولهم: " سننت الماء " إذا واليت في صبه، ويراد بذلك الأمر الذي يداوم عليه، نقل ذلك عن الكسائي، وإلكيا الهراسي. وتطلق السُّنَّة لغة على المثال المتبع، ومنه قول النابغة الذبياني: أبوه قبله وأبو أبيه ... بنو مجد الحياة على إمام أي: على مثال، ذكر ذلك أبو جعفر الطبري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 وتطلق السُّنَّة لغة على الطبيعة، ومنه قول الأعشى: كريم شمائله من بني ... معاوية الأكرمين السُّنَن أي: الأكرمين الطبائع. *** المسألة الثانية: تعريف السُّنَّة عند الأصوليين: السُّنَّة في الاصطلاح هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير القرآن من قول، أو فعل، أو تقرير مما يخص الأحكام التشريعية. شرح التعربف، وليان محترزاته: قولنا: " ما " جنس شامل لما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وما صدر عن غيره، وهو اسم موصول، تقدير الكلام: " الذي يصدر ". قولنا: " صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " جنس يدخل فيه: كل ما ألقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه، وأظهره لهم سواء كان قرآنا أو سُنَّة، أو كان مما يخص الأحكام الشرعية أو لا. وذكرنا هذه العبارة؛ لإخراج ما يلي: أولاً: ما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم - قبل البعثة، فإن كل شيء صدر عنه قبلها لا يسمى سُنَّة؛ وذلك لأنه - صلى الله عليه وسلم - حينها - ليس بنبي ولا رسول. ثانيا: ما صدر عن الرسل والأنبياء الذين أتوا قبله. ثالثا: ما صدر عن الصحابة رضي اللَّه عنهم وغيرهم. قولنا: " غير القرآن " خرج به القرآن؛ لأنه كلام اللَّه - تعالى - تلاه النبي - صلى الله عليه وسلم - على جماعة تقوم الحُجَّة بقولهم. ويدخل بهذه العبارة: الحديث القدسي فإنه - مع كونه قد أنزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 لفظِه - ليس بمعجز، ولا متعبد بتلاوته فليس بقرآن، وإنما هو سُنَّة. وبعض الأصوليين عئر بقوله: " غير الوحى " بدلاً عن عبارة: "غير القرآن "، وهذا فيه تساهل؛ حيث إن السُّنَّة وحي باطني لكنها لا تتلى ولا يتعبد بتلاوتها. قولنا: " من قول ": بيان لقولنا: " ما صدر "، والمراد: ما تلفظ به - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بتشريع الأحكام، وأكثر السُّنَّة هي أقوال كقوله: " لا وصية لوارث "، وقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ... ". والقول يشمل الكتابة مثل أمره - صلى الله عليه وسلم - عليًّا - رضي اللَّه عنه - بالكتابة يوم الحديبية. قولنا: " أو فعل " الفعل هو: ما يفعل بالجوارح، والمراد: ما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم - مما يتعلق بتشريع الأحكام كحجه - عليه السلام -، وصلاته، ورفع يديه عند افتتاح الصلاة، ونحو ذلك. والفعل تدخل فيه الإشارة كإشارته بأن الشهر يكون هكذا وهكذا. ويدخل فيه - أيضاً - الهئمُ؛ حيث إن الهم من أفعال القلوب، فلا يهمُّ - صلى الله عليه وسلم - على فعل شيء إلا وهو مشروع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات، كهمِّه عليه السلام في جعل أسفل الرداء أعلاه في الاستسقاء، فثقل عليه فتركه. ويدخل في الفعل - أيضاً - جميع أفعاله القلبية كالاعتقادات والإرادات، فهذه وإن كانت ليست أفعالاً حقيقية، لكنها قد تعد أفعالاً، لاتصالها بالأفعال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 قولنا: " أو تقرير " المراد منه: أن يفعل أو يقال شيء بحضرته - صلى الله عليه وسلم - أو بغيبته، وعلم به - من غير كافر - وأقره عليه وسكت عن إنكاره، كقول أنس - رضي اللَّه عنه -: " كنا نصلي على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ركعتين بعد غروب الشمس قبل صلاة المغرب، فقيل له: أكان رسول اللَّه يراكم؛ قال: نعم رآنا، فلم يأمرنا ولم ينهنا. بعض الأصوليين لم يذكر قيد " أو تقرير "؛ لأنه يدخل في الفعل؛ حيث إن التقرير كف عن الإنكار، والكف فعل. وهذا فيه نظر؛ لأن التقرير يشمل الفعل والقول كما سبق في تعريفه. *** المسألة الثالثة: المراد بالسُّنَّة عند غير الأصوليين: تطلق السُّنَّة في الاصطلاح الشرعي على معان أخرى غير إطلاق الأصوليين. فتطلق السنَّة عند المحدثين على: ما أثر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول، أو فعل، أو تقرير، أو صفة خُلقية، أو صفة خَلقية، أو سيرة. فلم يقصر المحدثون السنَّة على إفادة الحكم الشرعي، بل توسعوا في الإطلاق، بخلاف الأصوليين، فإنهم قصروها على ما يفيد حكما شرعيا - فقط -. وتطلق السُنَّة عند الفقهاء على ما يقابل الواجب، فالسُنَّة عندهم هي: كل ما يتقرب به إلى اللَّه - تعالى - من العبادات مما يثاب على فعله ولا يعاقب على تركه، فيشمل ذلك: النافلة، والمندوب، والتطوع، والمستحب، والطاعة، والقربة، والإحسان، والمرغب فيه، والفضيلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وتطلق السُّنَّة عند أهل الكلام على ما يقابل البدعة يقال: " فلان من أهل السُّنَّة " إذا كان عمله على وفق ما كان عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، ويقال: " فلان على بدعة " إذا عمل على خلاف ذلك. وتطلق السُّنَّة على ما عمل عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم - سواء وجد ذلك في الكتاب، أو السُّنَّة، أو كان اجتهاداً منهم بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسنتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ". ومنه قول علي - رضي اللَّه عنه -: " جلد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين وكل سنة ". *** المسألة الرابعة: بيان السبب في الاختلاف في تعريف السُّنَّة: إن سبب هذا الاختلاف فيما تطلق عليه السُّنَّة يرجع إلى الغرض الذي يعتني به كل فريق. فغرض الأصوليين هو: إثبات وبيان أدلة الأحكام إجمالاً، فنظروا إلى السُّنَّة من هذا المنطلق، فاعتنوا بالأقوال، والأفعال، والتقريرات التي تكون أدلة إجمالية للأحكام الفقهية. وغرض المحدثين هو: نقل كل ما جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، سواء كان مما يخص الأحكام أو لا، وبيان أنه - صلى الله عليه وسلم - هو الهادي والأسوة للأُمَّة؛ لذلك تجدهم نقلوا كل ما يتصل به - صلى الله عليه وسلم - من سيرة، وخلق، وأخبار، وأقوال، وأفعال، ونحو ذلك. وغرض الفقهاء هو: إثبات أدلة الأحكام تفصيلاً، لذلك تجدهم اهتموا بدلالة أقواله وأفعاله، وتقريراته على الأحكام الجزئية الخاصة بالمكلَّف من ندب، ووجوب، وتحريم، وإباحة، ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 المطلب الثاني في حجية السُّنَّة السُّنَّة حُجَّة يجب قبولها والعمل بها، كما يجب قبول القرآن والعمل به. ودلَّ على ذلك أدلة كثيرة منها: الدليل الأول: الآيات الدالة على وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) ، وقوله: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) ، ونحو ذلك، فإن اللَّه تعالى في تلك الآيات قد أمر بطاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - والأمر إذا تجرد عن القرائن يقتضي الوجوب، فيلزم من ذلك قبول كل ما يأتي به، فتكون السُّنَّة حُجَّة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) ، فقد أخبرنا اللَّه تعالى - هنا - أن كل ما ينطق به هذا الرسول ليس من عند نفسه، بل هو وحي يوحى إليه، فالسُّنَة وحي كالقرآن، ولا فرق سوى أن القرآن يتعبد بتلاوته، ومعجز في ألفاظه. الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ، فحذرَ اللَّه تعالى من مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلزم من ذلك: وجوب موافقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 ومتابعته في كل ما يصدر عنه؛ لأن المخالفة حرام، وترك الحرام واجب، فترك المخالفة واجب، فيكون اتباع الرسول واجبا. الدليل الرابع: الآيات الدالة على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مبين للقرآن وشارح له شرحاً وبيانا معتبراً عند اللَّه، كقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، وقوله: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) . الدليل الخامس: الآيات الدالة على وجوب الإيمان به - صلى الله عليه وسلم -، كقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ) ، وقوله: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) ، والإيمان هو: التصديق برسالته وبجميع ما جاء به، وأن عدم اتباعه والعمل بما صدر عنه والرضا بحكمه يتنافى مع حقيقة الإيمان. الدليل السادس: الآيات الدالة على وجوب اتباعه في جميع ما صدر عنه، والدالة على أن اتباعه لازم لمحبة اللَّه تعالى، كقوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) ، وعلامة حبهم له: اتباعهم لسُنّته - صلى الله عليه وسلم. الدليل السابع: أن ورود القرآن على وفق ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - منزل منزلة قول اللَّه تعالى له: " لقد صدقت فيما أخبرت به عني ". الدليل الثامن: الإجماع؛ حيث أجمع المسلمون منذ بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذأ على أن كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أقوال وأفعال وتقريرات حُجَّة يجب العمل به. الدليل التاسع: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - معصوم من تعمُّد ما يخل بالتبليغ إجماعاً، ومعصوم من المعاصي التي تخل بالتبليغ، ثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 ذلك بالقرآن؛ إذ لو لم يكن معصوما لما أمر اللَّه تعالى بطاعته في كل ما يأتي به، وحذَّر من مخالفته. وذلك يستلزم أن كل خبر يأتي به صادق مطابق لما عند اللَّه تعالى إجماعاً، فيجب التمسك به والعمل به. فإن قلت: ما معنى: " معصوم "؟ قلت: المعصوم مأخوذ من العصمة، والعصمة لغة: المنع والحفظ والوقاية، يقال: " هذا طعام يعصم " أي: يمنع من الجوع. والعصمة في الاصطلاح: سلب قدرة المعصوم على المعصية، فلا يمكنه فعلها؛ لأن اللَّه سلب قدرته عليها. الدليل العاشر: الضرورة اقتضت أن تكون السُّنَّة حُجَّة، وذلك لأنه لا يمكن - بأي حال - العمل بالقرآن وحده؛ حيث إن القرآن يشتمل على المبهم والمشكل والمجمل، فلا يمكن أن نعرف المراد من ذلك إلا عن طريق السُنَّة - فمثلاً قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، أو قوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وقوله: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ) ، وغيرها من الآيات، فلا يمكن أن تعرف كيفية الحج، وكيفية الصلاة، وكيفية الزكاة، إلا عن طريق السُّنَّة ا، فلو لم تكن السُّنَّة حُجَّة لتعطلت أكثر الأحكام الشرعية، وهذا لا يمكن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 المطلب الثالث في تعريف الخبر، وإطلاقاته، والفرق بينه وبين الإنشاء، وأقسامه ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: تعريف الخبر لغة واصطلاحا. المسألة الثانية: بيان السبب في عدم تعريف بعض العلماء للخبر. المسألة الثالثة: في إطلاقات الخبر. المسألة الرابعة: الفرق بين الخبر والإنشاء. المسألة الخامسة: أقسام الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 المسألة الأولى: تعريف الخبر لغة واصطلاحاً: أولاً: الخبر لغة مشتق من الخبار - بفتح الخاء والباء - وهي: الأرض الرخوة، والعلاقة بين ذلك، وبين الخبر: أن الخبر يثير الفائدة، كما أن الأرض الخبار تثير الغبار إذا قرعها الغبار. ثانياً: الخبر اصطلاحا هو: القول الذي يتطرق إليه التصديق، أو التكذيب. شرح التعريف: قلنا: " القول " مع أنه قد يستعمل في غير القول؛ لأن القول هو الأكثر في الاستعمال، ويتطرق إلى غير القول التصديق أو التكذيب، لكنه مجازاً كالإيماء والإشارة، كأن تسأل بعض الطلاب وتقول: هل نجحت؛ فيشير بيده، أو يومى برأسه، ويفهمنا أن "لا" أو "نعم". قولنا: " يتطرق إليه " أي: يحتمل، فهو: يحتمل دخول التصديق والتكذيب. قولنا: " التصديق أو التكذيب " أخرج الإنشاء؛ لأنه لا يحتمل صدقا ولا كذبا كالأوامر والنواهي. والتصديق مأخوذ من الصدق وهو: الإخبار بالشيء على ما هو والتكذيب مأخوذ من الكذب وهو: الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به. وعبرنا بقولنا: " التصديق أو التكذيب " بخلاف ما عبر به بعضهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 وهو: " التصديق والتكذيب "؛ لأن الخبر الواحد لا يدخله التصديق والتكذيب معاً، بل إما أن يكون الخبر صدقا، أو كذباً. ومعروف أن كلام الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - لا يدخله الكذب أصلاً، والخبر عن المحالات لا يدخله الصدق أصلاً، كأن يقول القائل: "الاثنين أكثر من الأربعة "، فهذا كذب ظاهر. *** المسألة الثانية: بيان السبب في عدم تعريف بعض العلماء للخبر: مذهب الجمهور أن الخبر يُحَدُّ ويعرف كغيره، وهو الذي نذهب إليه، وقد سبق - تعريفنا له. أما بعض العلماء فقد ذهبوا إلى أن الخبر لا يُحَدُّ ولا يُعَرَّف، كالوجود والعدم، واختلف أصحاب هذا المذهب في السبب الذي جعلهم يقولون بعدم تحديده: فمنهم من زعم بأنه لا يُحد ولا يُعرَّف الخبر بسبب عسره، وأنه لا يسلم من توجيه الاعتراضات والإشكالات عليه، كما قيل في العلم. ومنهم من زعم أن الخبر لا يُحدُّ بسبب أنه غني عن التحديد، فكل أحد يعلم بالضرورة الموضع الذي يحسن فيه الخبر، ويُميزه عن الموضع الذي يحسن فيه الأمر والنهي، فهذا متصوَّر بديهيا، وهو ما ذهب إليه فخر الدين الرازي وبعض أتباعه. والحق أن الخبر يحد كغيره من المصطلحات، وما قاله المخالفون فلا يسلم؛ لعدم الدليل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 644 المسألة الثالثة: في إطلاقات الخبر: يطلق الخبر في اصطلاح العلماء على إطلاقات: الإطلاق الأول: يطلق على المحتمل للتصديق والتكذيب المقابل للإنشاء، وهو اصطلاح الأصوليين وأهل اللغة كما سبق. الإطلاق الثاني: يطلق على ما هو أعم من الإنشاء والطلب، وهذا إطلاق المحدثين كقولهم: " أخبار الرسول - صلى الله عليه وسلم - " مع أن هذه الأخبار مشتملة على الأوامر والنواهي. وسبب هذا الإطلاق: أن حاصل الأوامر والنواهي آيل إلى الخبر، فالمأمور به والمنهي عنه في حكم المخبر عنهما؛ وذلك لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس آمراً ولا ناهياً على سبيل الاستقلال، وإنما الآمر والناهي حقاً هو اللَّه عَزَّ وجلَّ، وصيغ الأمر منه - صلى الله عليه وسلم - في حكم الإخبار عن اللَّه. الإطلاق الثالث: يطلق الخبر على ما يقابل المبتدأ، وهذا إطلاق النحاة. الإطلاق الرابع: يطلق الخبر على القضية، وهو إطلاق أهل المنطق، وسميت بذلك لما فيها من القضاء بشيء على شيء. *** المسألة الرابعة: الفرق بين الخبر والإنشاء: لقد سبق بيان حقيقة الخبر. أما الإنشاء فهو: القول الذي يوجد به مدلوله في نفس الأمر، وهو متعلق بمعدوم مستقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وسمي بذلك؛ لأنك أنشأته وابتكرته من غير أن يكون موجوداَ قبل ذلك في الخارج. وهو يكون بالأمر والنهي، والدعاء، والترجي، والتمني، والشرط والجزاء، والوعد والوعيد، والإباحة، والتحضيض. فإذا عرفت الخبر والإنشاء، فقد بانت لك الفروق بينهما والتي من أهمها: الفرق الأول: أن الخبر يحتمل للتصديق والتكذيب، أما الإنشاء، فهو لا يحتمل ذلك. الفرق الثاني: أن الإنشاء سبب لمدلوله، أما الخبر فليس سببا لمدلوله. الفرق الثالث: أن الإنشاء يتبعه مدلوله، أما الخبر فهو تابع للمخبر عنه في أي زمان كان. *** المسألة الخامسة: أقسام الخبر من حيث سنده: الخبر من حيث سنده ينقسم إلى قسمين: الفسم الأول: الخبر المتواتر. القسم الثاني: الخبر الآحاد. فالمتواتر مأخوذ من التواتر وهو لغة: تعاقب أشياء واحداً بعد واحد بينهما مهلة، ومنه قوله تعالى: (ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا) أى: رسولا بعد رسول بمهلة، والمهلة: الفترة التي توجد بينهما. والمتواتر في اصطلاح الاصوليين هو: خبر عدد يمتنع معه لكثرته التواطؤ على الكذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 شرح التعريف: قولنا: " خبر " جنس يشمل المتواتر والآحاد. قولنا: " عدد يمتنع معه لكثرته التواطؤ على الكذب " معناه: أن المتواتر: خبر عدد من المخبرين يمتنع تواطؤهم وتوافقهم على الكذب؛ نظراً لكثرة هؤلاء المخبرين. وهذه العبارة أخرجت خبر الآحاد؛ لأنه لا يمتنع التواطؤ على الكذب؛ لأن احتماله قوي. أما الآحاد فهو جمع أحد، قياسا على " أبطال " جمع بطل، وهمزة أحد أصلها واو، حيث كانت: " واحد "، فأبدلت بهمزة فصارت " أحد " أي: واحد، ويطلق عليه خبر الواحد. وهو في الاصطلاح: ما كان من الأخبار غير منتهٍ إلى حدِّ التواتر. أو تقول: هو خبر واحد، أو عدد لا يمتنع معه التواطؤ على الكذب. أما قول بعض العلماء في تعريفه: إن خبر الواحد هو: ما أفاد الظن فهو غير صحيح؛ لأنه غير مانع من دخول غيره، فالقياس يدخل فيه، حيث إنه يفيد الظن، وليس هو خبر الواحد، وغير منعكس؛ حيث إن الواحد إذا أخبر بخبر، ولم يفد الظن، فإنه يُسمَّى خبر واحد وإن لم يفد الظن. ونظراً لأهمية هذين القسمين وهما: المتواتر والآحاد، حيث إن دراسة السُّنَّة تدور حولهما، فقد اهتم بهما العلماء من أصوليين، وفقهاء ومحدثين اهتماماً بليغاً، مما ستجده في المطالب التالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 المطلب الرابع في خبر المتواتر ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: هل المتواتر يفيد العلم؟ المسألة الثانية: هل العلم الحاصل بالمتواتر ضروري أو نظري؟ المسألة الثالثة: في شروط المتواتر المتفق عليها. المسألة الرابعة: هل يشترط في المتواتر عدد محصور؟ المسألة الخامسة: هل يشترط في المتواتر أن يكون المخبرون مسلمين وعدولا؟ المسألة السادسة: هل يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم عدد، ولا يحويهم بلد؟ المسألة السابعة: هل يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم وأوطانهم وأديانهم؟ المسألة الثامنة: هل يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين؟ المسألة التاسعة: العدد المفيد للعلم في التواتر هل هو واحد في كل الوقائع والأشخاص، أو يختلف باختلاف الوقائع والأشخاص، والقرائن؟ المسألة العاشرة: حكم كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 المسألة الأولى: هل المتواتر يفيد العلم؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الخبر المتواتر يفيد العلم اليقيني بالمخبر عنه. ذهب إلى ذلك العلماء المعتد بأقوالهم. وهذا هو الحق؛ لأن الواقع يشهد لذلك؛ حيث إنه حصل لنا العلم اليقيني بما أخبرنا عنه عن طريق متواتر، فقد حصل لنا العلم بوجود بعض البلدان البعيدة كالصين، والهند، ونحوهما، وكذلك حصل لنا العلم بالأنبياء السابقين، والعلماء، والسلاطين، والوقائع والغزوات، ونحو ذلك، وسبب حصول العلم بذلك هو أننا أخبرنا عن ذلك بأخبار متواترة؛ حيث إننا لم نشاهد ذلك. أي: إنا وجدنا أنفسنا عالمة بذلك كله كما نجدها عالمة بما نشاهده وما نحس به، ومن أنكر ذلك فقد أنكر ما قطع به، فيكون معانداً ومكابراً، والمعاند والمكابر لا يعتد بقوله. فثبت أن المتواتر يفيد العلم، وإذا كان كذلك فيجب تصديق خبر المتواتر بدون قرائن. وهذا كله يفارق خبر الآحاد، فإنه لا يعلم صدقه إلا بقرائن، كما سيأتي. المذهب الثاني: أن المتواتر لا يفيد العلم، بل يفيد الظن. ذهب إلى ذلك السُّمَنية - بضم السين مع تشديدها وفتح الميم - نسبة إلى بلد في الهند اسمه " سومانا "، وكانوا من عبدة صنم اسمه " سومانات "، وذهب إلى ذلك - أيضاً - البراهمة - وهم من منكري الرسالة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 دليل هذا المذهب: لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لا سبيل لإدراك علم من العلوم إلا طريق الحواس الخمس - وهي: السمع، والبصر، واللمس، والشم، والذوق - والمتواتر ليس منها، فلا يفيد العلم إلا إذا انضم إليه بعض القرائن، أما الخبر المتواتر بمجرده فلا يفيد العلم. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا باطل من وجهين هما: الوجه الأول: أن حصركم مدركات العلوم بالحواس الخمس فقط منتقض بالأمور التي تدرك بالعقل المحض، كعلمنا بأن الاثنين نصف الأربعة، وعلمنا بأن الضدين - كالسواد والبياض - يستحيل اجتماعهما. ومنتقض أيضا بالمشاهدات الباطنة مثل علم الإنسان بجوع نفسه. ومنتقض أيضاً بالتجريبيات وهي: اطراد العادات مثل كون النار محرقة. وإذا ثبت أن هناك طرقاً تفيد العلم - غير الحواس الخمس - فإنه يبطل حصركم مدركات العلوم بالحواس الخمس فقط. الوجه الثاني: أنكم قلتم: إن العلوم لا تدرك إلا عن طريق الحواس الخمس - فقط - فمن أين علمتم ذلك؟ ولا علم لكم بذلك إلا عن طريق العقل. أي: أنكم حصرتم إدراك العلوم بهذه الخمس عن طريق العقل، وهنا قد أقررتم بطريق - وهو العقل - تدرك به العلوم غير الحواس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 الخمس، فثبت أن هناك طرقا أخرى تدرك بها العلوم غير الحواس الخمس. بيان نؤع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن السُّمَنية ومن وافقهم لا ينكرون وقوع العلم من المتواتر في الجملة، لكنهم لم يضيفوا وقوعه إلى مجرد الخبر، بل إلى قرينة، ووقوع العلم عن القرائن لا ينكره عاقل. *** المسألة الثانية: هل العلم الحاصل بالمتواتر ضروري أو نظري؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الأول - من المسألة السابقة، وهم القائلون: إن المتواتر يفيد العلم فيما بينهم - في هذا العلم الذي أفاده المتواتر هل هو علم ضروري أوَّلي قد حصل للسامع بلا نظر واستدلال، أو هو نظري لم يحصل إلا بعد اكتساب واستدلال؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن العلم الحاصل بالمتواتر ضروري. ذهب إلى ذلك الجمهور. وهو المختار عندي؛ فالعلم الحاصل بالمتواتر قد علمناه. بالضرورة من غير نظر ولا استدلال، فيضطر العقل إلى تصديقه، والعمل بمقتضاه بدون حاجة إلى دليل أو قرينة. والمراد بالعلم الضروري هو: ما يعلمه المكلف ويلزمه - من غير نظر واستدلال - لزوماً لا يمكنه دفعه عن نفسه بشك ولا شبهة، كالعلم الحاصل بما تواترت به الأخبار من ذكر الأمم السالفة والبلاد النائية، والعلم الحاصل بالحواس الخمس، والعلم الحاصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 بالمشاهدات الباطنة، كالعلم بجوع نفسه وعطشه، ونحو ذلك ولا فرق بينها. ثبت ذلك بأدلة هي كما يلي: الدليل الأول: أنه لو كان العلم الحاصل عن التواتر نظريا لم يقع إلا لمن هو من أهل النظر والاستدلال والاكتساب كالعلماء، وللزم اختلاف الناس فيه " فعلمه بعضهم وجهله آخرون بسبب اختلافهم في النظر والأدلة. لكن لما وقع العلم الحاصل من المتواقي لغير أهل النظر والاستدلال كالعوام، والصبيان، والنساء، كما وقع لأهل النظر، واشترك الجميع في ذلك، ثبت أن العلم الحاصل عن المتواتر ليس نظريا، فثبت أنه ضروري. الدليل الثاني: أن كل عاقل يجد من نفسه العلم بوجود مكة والبلاد النائية - التي لم يدخلها - عند سماعه لخبر المتواتر بها، مع أنه لا يجد من نفسه سابقة فكر ولا نظر. فعلمنا بذلك أن العقل مضطر إلى التصديق بما ينقل إلينا بخبر المتواتر، ولو كان العلم من المتواتر قد حصل عن طريق النظر: لما اضطررنا إلى العلم به إلا بعد النظر والاستدلال والقرائن. المذهب الثاني: أن العببم الحاصل بالمتواتر نظري. ذهب إلى ذلك بعض العلماء كأبي بكر الدقاق، وابن القطان، وأبي الحسين البصري، وأبي القاسم الكعبي، وأبي الخطاب الحنبلي إلا أن الأخير لم ينص عليه في " التمهيد "، لكنه نصره بالأدلة وأجاب عن أدلة أصحاب المذهب الأول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 دليل هذا المذهب: استدل على هذا المذهب بأنه لو كان العلم الحاصل من المتواتر ضرورياً لما احتاج إلى النظر، ولكنه احتاج إلى النظر، فيكون نظريا. ويدل على ذلك: أن خبر المتواتر لم يفد العلم بنفسه، بل حصل هذا العلم بواسطة مقدمتين هما: المقدمة الأولى: أن هؤلاء المخبرين مع اختلاف أحوالهم، وتباين أغراضهم، وكثرتهم لا يجمعهم على الكذب جامع، ويستحيل عادة تواطؤهم على الكذب. المقدمة الثانية: أن هؤلاء قد اتفقوا عن الإخبار عن واقعة واحدة كوجود الهند مثلاً. فالعلم بصدق الخبر المتواتر قد توصلنا إليه عن طريق مجموع هاتين المقدمتين. فيقال مثلاً: وجود الهند قد أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة، وكل ما أخبر به جمع يمتنع تواطؤهم على الكذب، فهو معلوم، فوجود الهند معلوم، وهذا هو العلم النظري؛ حيث نظرنا في هاتين المقدمتين واستدللنا بهما على ثبوت العلم بوجود الهند. وهاتان المقدمتان تشعر النفس بهما وإن لم يكونا بلفظ منظوم. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا ضعيف، لأن المقدمات التي يتوقف حصول هذا العلم على النظر فعها حاصلة في أوائل الفطرة، وهذا لا يحتاج إلى كبير تأمل وفكر، ومثل ذلك لا يسمى نظرياً؛ لأن النظري هو الذي يتوقف على أهلية النظر، وليس هذا من هذا الباب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 المذهب الثالث: أن العلم الحاصل بالمتواتر بين النظري وبين الضروري، فهو أقوى من النظري المكتسب، وليس في قوة الضروري. قاله أبو الفضل الخوارزمي. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا المذهب لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعتمد عليه، وليس بشيء. المذهب الرابع: التوقف في المسألة. وهو رأي الشريف المرتضى، والآمدي. وسبب توقفهما: ضعف أدلة أصحاب المذهبين، فكل دليل من أدلة الفريقين قد اعترض عليه باعتراض قوي عندهما. جوابه: يجاب عنه: بأن التوقف ليس مذهباً معتبراً. وعلى فرض أنه يعتبر مذهبا: فإنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلة أصحاب المذهب الأولى - وهو المختار - والاعتراضات التي ذكرها الآمدي في " الإحكام " لا تقوى على إبطال تلك الأدلة. بيان نوع هذا الخلاف: إن المذهبين الثالث والرابع لا يعتبران؛ لما سبق، فينحصر الخلاف في المذهبين الأولى والثاني، والخلاف بينهما لفظي لا ثمرة له؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقا على النتيجة، ولكنهما اختلفا في الطريق إليها، فأصحاب المذهب الأول وهم القائلون: إن العلم الحاصل بالمتواتر ضروري لا ينازعون في توقفه على النظر في المقدمات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 المذكورة، وأصحاب المذهب الثاني وهم القائلون: إن العلم الحاصل بالتواتر نظري لا ينازعون في أن العقل يضطر إلى التصديق إليه، وإذا وافق كل فريق ما يقوله الفريق الآخر في حكم هذا العلم وَصفيه لم يبق النزاع بينهما إلا في اللفظ. *** المسألة الثالثة: في شروط المتواتر المتفق عليها: إن هناك شروطاً قد اشترطت لخبر التواتر حتى يكون مفيداً للعلم، وإليك الشروط المتفق عليها: الشرط الأول: أن يكون المخبرون عالمين بما أخبروا به، أي: قد علموه ضرورة عن طريق إحدى الحواس الخمس كان يقولون: "رأينا الهند "، أو " سمعنا قيصر يقول "، أو " لمسنا الثلج فوجدناه باردا" أو نحو ذلك. دليل هذا الشرط: أن ما لا يكون كذلك، فإنه يحتمل أن يدخله عدة احتمالات من غلط، أو سهو، أو غفلة، فلا يحصل به العلم، كذلك لو تواترت أخبارهم عن شيء قد علموه عن طريق النظر والاستدلال، فإنه لا يحصل العلم لنا بتلك الأخبار؛ - لأن العلم قد حصل لنا بالطريق الذي حصل لهم من النظر والاستدلال. فمثلاً لو أخبرنا العدد الكثير بأن الأنبياء صادقون، فإنه لا يحصل لنا العلم بهذا عن طريق خبرهم، بل إنه حصل لنا العلم بذلك عن طريق النظر والاستدلال، فننظر ونستنبط مثل المخبرين، بخلاف ما لو أخبرونا عن شيء محسوس، فإنه لا يمكننا أن نشاهد الهند، أو نلمس الثلج إذا كنا لا نعرف ذلك وليس ببلادنا. الشرط الثاني: أن يكون حال وعدد من نقل عن الأولين كحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 وعدد الأوَّلين الذين شاهدوا المخبر عنه، أو سمعوه، وكذلك مثل هؤلاء الطبقة التي تليها، وهكذا حتى ينتهي الخبر إلينا، فكل طبقة يشترط فيها شروط التواتر. دليل هذا الشرط: أن خبر أهل كل عصر خبر مستقل بنفسه، فلابد من توفر شروط التواتر فيه، فإن نقل الخلف عن السلف ذلك الخبر وتوالت الأعصار، ولم تكن الشروط قائمة في كل عصر: لم يحصل العلم بصدقهم؛ لعدم استواء طرفا الخبر ووشطه في كمال العدد والصفة. الشرط الثالث: أن لا يكون السامع عالماً بما أخبر به اضطراراً. دليله: أن تحصيل الحاصل محال، وتحصيل مثل الحاصل - أيضاً - محال؛ حيث إن العلم الضروري يستحيل أن يصير أقوى مما كان. الشرط الرابع: أن يكون السامع للخبر من أهل العلم غير المتشددين أو المتساهلين. دليله: أنه يستحيل حصول العلم من غير متأهل له. تنبيه: هذه شروط الخبر المتواتر المتفق عليها، وهناك شروط له مختلف فيها ستعرفها فيما يلي من المسائل. المسألة الرابعة: هل يشترط في المتواتر عدد محصور؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في التواتر عدد محصور. فحصول العلم بالخبر المتواتر ليس له عدد محصور، بل متى ما حصل العلم بخبر المخبرين المجرد عن القرائن: علمنا أن الخبر بلغ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 التواتر، وإذا لم يحصل لنا العلم بى خبر المخبرين: علمنا أن الخبر لم يبلغ حدَّ التواتر. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأنه لا يمكن معرفة العدد بالتحديد الذي حصل علمنا عنده بوجود بلد لم نشاهده، أو بوجود الأنبياء، أو الأئمة الأربعة، فلا سبيل واضح جلي نسلكه ونعرف به العدد - بالتحديد - فهذا عسير جداً؛ وإنما السبيل إلى معرفة كون هذا الخبر متواتراً هو حصول العلم بالخبر، فالعلم يتزايد تزايداً خفي التدريج فهو يشبه تزايد عقل الصبي، فإذا لا نعرف متى بدأ الصبي يعقل ويميز بين الخير والشر؛ لذلك لا يكلف الصبي العاقل حتى يبلغ، ويشبه أيضاً تزايد ضوء الصبح إلى أن ينتهي إلى حد الكمال. فكذلك الخبر، فإن الأول يحرك. الخبر، والثاني يؤكده، والثالث كذلك، وهكذا، فإنه لا زال يتزايد تأكيد الخبر حتى يصبح التصديق به ضروريا لا يمكن الشك فيه، ولكن لا يمكننا أن نعرف بالتحديد العدد الذي لما بلغه المخبرون أصبح الخبر متواتراً. والسبب في ذلك هو: قصور القوة البشرية عن إدراك ذلك، فلا يمكن لأي عاقل - مهما كان - أن يدرك متى بالتحديد حصل العلم بخبر مخبرين كثيرين عن شيء معين، بل يحصل لنا العلم بخبر المتواتر، وإن كنا لا نقف على أول عدد أفاده، كما نعلم حصول الشبع عن طريق الأكل وإن كنا لا نقف على آخر لقمة تسببت في هذا الشبع، وكما نعلم حصول الري عن طريق شرب الماء، وإن كنا لا نقف على آخر جرعة تسببت في هذا الري، وهكذا. المذهب الثاني: أنه يشترط في التواتر عدد محصور ومعروف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 ذهب إلى ذلك بعض العلماء. والقائلون بهذا الشرط اختلفوا في تحديد العدد على أقوال: فقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر اثنين؛ قياساً على الشهادة. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر أربعة؛ قياساً على أعلى الشهادات كالزنى. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر خمسة؛ قياسا على أولي العزم من الرُّسُل وهم: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ومحمد - عليهم أفضل الصلاة والتسليم -. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر عشرة؛ لأن العشرة مما فوق جمع كثرة. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر اثني عشر؛ قياساً على نقباء بني إسرائيل، لقوله تعالى: (وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا) . وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر عشرين؛ لقوله تعالى: (إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ) ، فأوجب الجهاد على العشرين، وإنما خصهم بذلك؛ لأنهم إذا أخبروا حصل العلم بصدقهم. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر أربعين؛ قياساً على من تنعقد بهم الجمعة. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر سبعين؛ لقوله تعالى: (واختار موسى قومه سبعين رجلاً) ، وإنما خصَّهم بذلك لحصول العلم بما يخبرون به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر ثلاثمائة وثلاثة عشر؛ قياساً على عدد أهل بدر. وقيل: لا يحصل العلم إلا بخبر ألف وخمسمائة، وهم عدد بيعة الرضوان. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا المذهب ظاهر الفساد؛ لأمرين: أولهما: أن تعارض أقوالهم في تحديد العدد واختلافهم دليل ظاهر على فساده. ثانيهما: أنه لا دليل صحيح على هذا المذهب، وما ذكروه من الأدلة على تلك الأقوال لم تبن على شيء سوى قياسات واعتبارات بعيدة كل البعد عما نحن فيه، فلا تُسلَّم لهم. المسألة الخامسة: هل يشترط في المتواتر أن يكون المخبرون مسلمين وعدولاً؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يشترط في التواتر أن يكون المخبرون مسلمين ولا عدولاً، فيقع العلم بالتواتر، سواء كان المخبرون مسلمين، أو كفاراً، أو عدولاً، أو فساقاً، لا فرق بينهم. وهذا مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن الخبر المتواتر يفضي إلى العلم بالمخبر عنه، وسبب إفضائه إلى العلم هو: كثرة المخبرين الذين لا يتصور أن يجتمعوا على الكذب في الخبر، أو يتواطؤا عليه، وإذا كان الأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 كذلك فإنه يمكننا أن نستفيد العلم بأخبار الكفار - كما لو أخبروا عن موقعة وقعت في السوق - كما يمكن أن نستفيد العلم بأخبار المسلمين، ولا فرق بجامع: الكثرة المانعة من التواطؤ على الكذب، فكثرة المخبرين جعلته في مرتبة قوية في إفادته للعلم، فلا يحتاج إلى شيء يقويه كالإسلام والعدالة. المذهب الثاني: أنه يشترط في التواتر أن يكون المخبرون مسلمين وعدولاً، فلا يقبل من الكفار، ولا من الفساق. ذهب إلى ذلك بعض الشافعية كعبد اللَّه بن عبدان ذكره في كتابه " الشرائط ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الكفر عرضة للكذب والتحريف، والإسلام والعدالة ضابطان للصدق والتأكد من الأخبار. جوابه: يجاب عنه بأن الكثرة هي المانعة من التواطؤ على الكذب، فلذلك نستفيد العلم بأخبار العدد الكثير، ولا فرق فى ذلك بين المسلمين والكفار. ولذلك لما لم يكن في خبر الواحد كثرة اشترطنا الإسلام والعدالة؛ لأن العدد القليل الذي لم يبلغ حدَّ التواتر لو أخبر عن شيء فإنه لا يفيد العلم؛ لأنه يمبهن تواطؤهم على الكذب. الدليل الثاني لهم قالوا فيه: إن المسلمين اختصوا بدلالة الإجماع على القطع، فوجب أن يختصوا بالمتواتر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 جوابه: يجاب عنه: بأن قياسكم المتواتر على الإجماع قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق. بيانه: أنه اختص علماء المسلمين بالاحتجاج بالإجماع للأدلة الشرعية السمعية، دون الأدلة العقلية، أما الخبر المتواتر فيقع به العلم؛ لما سبق ذكره من أنه لا يمكن فيه الكذب، ولا يصح التواطؤ عليه، وهذا موجود في الكفار كما هو موجود في المسلمين. المذهب الثالث: الفرق بين أن يطول الزمان فيمكن حصول التواطؤ على الكذب فيعتبر الإسلام، وبين ألا يطول الزمان فلا يعتبر الإسلام، إذ لا يمكن حصول التواطؤ على الكذب. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا التفريق لا دليل عليه؛ حيث إن الكثرة هي المانعة من حصول التواطؤ على الكذب، سواء طال الزمان أم لا. المذهب الرابع: الفرق بين ما طريقه الديانات فلا مدخل للكفار فيه، لأنه لا يؤمن جانبهم في ذلك، وبين ما طريقه الأقاليم وما أشبه ذلك، فيدخل فيه الكفار، كما يدخل المسلمون. جوابه: يجاب عنه: بأن العلم قد حصل من المتواتر بسبب الكثرة المانعة من الكذب بالشرط الذي قلناه وهو: استحالة تواطؤهم على الكذب، فإذا وجد هذا الشرط، فإن الخبر يفيد العلم، سواء كانت هذه الكثرة كفاراً أو مسلمين، لا فرق بينهم في ذلك، وسواء كان الخبر عن ديانات أو عن أقاليم أو بلدان أو حوادث لا فرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 أما إذا لم يوجد ذلك الشرط - وهو: أن يستحيل تواطؤهم على الكذب - فإن الخبر لا يفيد العلم مطلقا، سواء كانوا مسلمين أو كفاراً، وسواء كانوا قد أخبروا عن ديانات، أو عن غير ذلك. المسألة السادسة: هل يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق؛ لأن الواقع يدل على ذلك، فلو أخبرنا المصلون في جامع واحد من جوامع الرياض - مثلاً - عن وقوع حادثة في المسجد كسقوط الإمام من المنبر، فإنه يحصل العلم بخبرهم مع أنهم محصورون بدليل أن المسجد قد حواهم، فإذا حصل العلم بخبر هؤلاء مع حصرهم وكون المسجد قد حواهم، فمن باب أَوْلى أن يحصل العلم بخبر أهل بلد لو أخبروا عن وقوع شيء. المذهب الثاني: أنه يشترط في المتواتر كون المخبرين لا يحصرهم عدد ولا يحويهم بلد، ذهب إلى ذلك بعض الفقهاء، واختاره فخر الإسلام البزدوي. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بأنه اشترط ذلك للتأكد من صحة الخبر؛ لأنه كلما كثر العدد كلما كان الخبر أقوى. وأصح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 جوابه: يجاب عنه بأنه إذا حصل العلم بالمخبر عنه: كان الخبر متواتراً مطلقا، سواء كانوا معروفين العدد، أم لا، أو يحويهم بلد أم لا، فنستدل بحصول العلم على كمال العدد. المسألة السابعة: هل يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم، وأوطانهم، وأديانهم؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك في المخبرين. ذهب إلى ذلك الجمهور، وهو الحق؛ لأن الواقع يدل عليه، فمثلاً لو أن قبيلة من القبائل المتفقة في الدين والنسب، والوطن، أخبروا عن واقعة وقعت في ناحيتهم، فإنه يحصل العلم بخبرهم ضرورة. المذهب الثاني: أنه يشترط في المخبرين اختلاف أنسابهم، وأوطانهم، وأديانهم. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه يشترط ذلك لتندفع التهمة بصورة آكد. جوابه: يجاب عنه بأن الكثرة المانعة من التواطؤ على الكذب يكفي عن هذا الشرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 المسألة الثامنة: هل يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن الواقع يدل على عدم اشتراط ذلك، فمثلاً لو أخبر أهل بلد من بلدان الكفار على الإخبار عن حصول فتنة: لحصل العلم بخبرهم مع كونهم كفاراً فضلاً عن كون الإمام المعصوم ليس فيهم. المذهب الثاني: أنه يشترط وجود المعصوم ضمن المخبرين. دليل هذا المذهب: أنه اشترط ذلك حتى لا يتفقوا على الكذب، فالمعصوم هو المانع من اتفاقهم على الكذب. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا لو كان شرطا صحيحا، فإن العلم قد حصل بخبر الإمام المعصوم بالنسبة لمن سمعه، لا بخبر التواتر. *** المسألة التاسعة: العدد المفيد للعلم في التواتر هل هو واحد في كل الوقائع والأشخاص، أو يختلف باختلاف الوقائع والأشخاص والقرائن؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: الفرق بين ما احتفت به قرائن، وبين الخبر المجرد، بيانه: إن كان العلم الحاصل بالتواتر قد اقترنت به قرائن تدل على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 صدقه: فيجوز أن تختلف الوقائع فيه والأشخاص؛ لاختلاف الهيئات المقارنة للخبر الموجبة لتعريف متعلقه، ولاختلاف أحوال المخبرين في اطلاعهم على قرائن التعريف، ولاختلاف إدراك المستمعين؛ لتفاوت الأذهان والقرائح، ولاختلاف الوقائع على عظمها وحقارتها. وإن كان العلم الحاصل بالتواتر لم تقترن به قرائن، بل حصل من نفس خبر ذلك العدد المجرد: فإنه لا يتصور أن يختلف في الوقائع والأشخاص. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن مجرد الإخبار يجوز أن يورث العلم عند كثرة المخبرين، وإن لم توجد قرائن، وكذلك مجرد القرائن قد تورث العلم، وإن لم يوجد إخبار، فلا يبعد أن تنضم القرائن إلى الإخبار، فتقوم بعض القرائن مقام بعض العدد من المخبرين. ومثال الخبر بدون قرائن: أنه لو أن عشرة أشخاص قد أخبروا زيداً ومحمداً بأن بكراً قد نجح، فإنه يحصل العلم بهذا العدد عند الاثنين معا على السواء؛ لعدم وجود قرينة عند أحدهما دون الآخر. ومثال الخبر المقترن بقرينة: لو أخبر واحد محمدأ وزيداً بأن بكرأ قد مات، وكان محمد يعلم - قبل الإخبار - بأن بكراً مريض دون زيد، فإنا نعلم بأن محمداً قد حصل له العلم الموجب للتصديق، وسبب ذلك: هذه القرينة، وهي: علمه بمرض بكر، ولم يحصل ذلك لزيد. وأيضا: فإنا نرى الصبي - الذي لم يتجاوز السنتين - يرضع من ثدي المرأة الشابة، فيحصل لنا العلم بأن اللبن قد وصل إلى معدة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 هذا الصبي وإن لم نشاهد اللبن في الثدي، ولم نشاهده عند خروجه، ولم نشاهده في المعدة؛ لأنه مستور، لكن قطعنا بوصول اللبن إلى معدة ذلك الصبي بسبب قرائن هي كما يلي: " حركة حلق الصبي أثناء امتصاصه للبن "، و " أن المرأة الشابة لا يخلو ثديها من لبن "، و" أن هذا الثدي فيه ثقب يخرج منه اللبن "، و " أن الصبي فيه القوة على الامتصاص "، و " أن الصبي قد سكت عن البكاء بعد ذلك الامتصاص مع أنه لم يتناول طعاما آخر ". هذه قرائن قد حصل لنا العلم القطعي عن طريقها مجتمعة على أن ذلك اللبن قد وصل إلى معدة ذلك الصبي، وإن لم نشاهده، لكن لو انفردت قرينة واحدة كحركة حلق الصبي، فإنا لا نحكم بوصول اللبن إلى معدته؛ لأنه قد يوجد سبب آخر لهذه الحركة غير الامتصاص. المذهب الثاني: أن الخبر المفيد للعلم في واقعة يفيده في كل واقعة، وإذا حصل العلم لشخص فلا بد أن يحصل لكل شخص يشاركه في السماع، ولا يتصور أن تختلف فيه الوقائع والأشخاص بسبب وجود قرائن ودلائل، فلا يلتفت إلى تلك القرائن، ولا يجعل لها أثراً في تصديق الخبر. ذهب إلى ذلك أبو بكر الباقلاني، وأبو الحسين البصري. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن حكم المتماثلين واحد، فلو أن مائة شخص أخبروا محمداً بأن زيداً قد قتل وحصل العلم بخبرهم وجب أن يفيد عليا خبر مائة شخص بأن صالحا قد قتل؟ وذلك لاستواء الوقائع والأشخاص في ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 جوابه: يجاب عنه: بأن هذا صحيح إذا كان الخبر مجرداً عن القرائن، فإنا نوافقكم بأن ما حضَل العلم في واقعة فإنه يفيده في كل واقعة، وما حصَّله لشخص فإنه يحصتَله لكل شخصٍ يشاركه في السماع، ولا يمكن أن يختلف، وبينا ذلك. لكن إذا كان الخبر قد احتف به قرائن وعلم بها بعض السامعين للخبر دون بعض، فإنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك كما بينا فيما سبق. المسألة العاشرة: حكم كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز على أهل التواتر، والجماعة العظيمة أن يكتموا ما يحتاج الخلق إلى نقله ومعرفته. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن كتمان ما يحتاج إلى نقله ومعرفته قبيح، وهو في القبح بمثابة الكذب - وهو: الإخبار عن الشيء بخلاف الواقع - والكذب محال على أهل التواتر والجماعة العظيمة؛ لاستحالة تواطؤ أهل التواتر على الكذب. فلما لم يجز على أهل التواتر الكذب: كذلك لم يجز أن يجتمعوا على كتمان نقل ما يحتاج الناس إلى نقله ومعرفته، ولا يجوز أن يتواطؤ عليه. يؤيد ذلك: أنه لو حدث في الجامع وقت الصلاة حادثة عظيمة تظهر لجميع من حضر لم يجز أن يترك نقلها جميع من حضر، كما لا يجوز أن يخبر عنها جميعهم بالكذب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 المذهب الثاني: أنه يجوز كتمان أهل التواتر لما يحتاج إلى نقله ومعرفته. ذهب إلى ذلك الإمامية - من الشيعة - وعلى هذا المذهب بنوا كلامهم في ترك الصحابة، نقل النص على خلافة عليّ - رضي الله عنه - وإمامته بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويقولون: إن الصحابة قد تواطئوا على ترك نقل ذلك النص وهم من أهل التواتر. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يجوز أن تترك الجماعة نقل الشيء تقية، أو خوف فتنة، فلذا جاز لهؤلاء كتمان ما يحتاج إلى نقله. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا كله لا يجوز، إذ لو جاز ذلك لجاز أن يكذبوا ولا فرق؛ لأنهما سواء في القبح. الدليل الثاني: الواقع دلَّ على ذلك، وهو من وجهين: أولهما: أن النصارى لم تنقل كلام عيسى - عليه السلام - وهو في المهد، في حين أنهم نقلوا إحياءه للموتى وإبراءه الأكمه والأبرص. ثانيهما: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد تركت نقل القِران والإفراد في الحج حتى اختلفوا بعد ذلك، فنقلوا. جوابه: يجاب عنه بأن يقال: أما الوجه الأول فيجاب عنه: بأن كلام المسيح في المهد لم ينقل؟ لأنه كان ووقع منه قبل ظهوره، وقبل نبوته، وقبل أن يتبعوه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 والذي ينقل كلامه ويعتبر ويعتد به في الأحكام الشرعية هو الذي ثبتت نبوته. فإن اعترض معترض على ذلك - كالطوفي وغيره - قائلاً: إن كلامه في المهد كان من خوارق العادات قبل نبوته والدواعي تتوفر على نقل مثله عادة. فإنا نقول - في الجواب عنه -: إن كلام الشخص قبل نبوته قد ينقله بعض الخبرين، لكن لا يُهتم بنقله كالاهتمام بنقل كلامه بعد النبوة؛ لأن كلامه بعد النبوة يعتبر من التشريع، أما كلامه قبل ذلك فلا يعتبر من التشريع. أما الوجه الثاني فيجاب عنه: بأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - لم يتركوا نقل القِران والإفراد في الحج، بل نقلوه وذكروه، لكن اختلفوا في النقل، نظراً لاختلافهم في السماع، فبعضهم سمعه يلبي بالحج والعمرة، وبعضهم سمعه يلبي بالحج فقط، - فنقل كل واحد ما سمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 المطلب الخامس في خبر الواحد ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟ المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان ضمن خبر الواحد؟ المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً. المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به سمعا. المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟ المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟ المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت عدالته. أولاً: حقيقة الصحابي. ثانيا: طرق معرفته. ثالثاً: ثبوت عدالته. المسألة الثامنة: شروط الراوي غير الصحابي. المسألة التاسعة: شروط ظن بعضهم أنها تشترط في الراوي، وهي ليست كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المأوِّل. المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المأولّ. المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأداه بعد البلوغ فهل يقبل؟ ْالمسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة. المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه: أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح. ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي. ثالثا: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟ رابعا: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟ خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟ سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟ سابعا: حكم تعديل العبد للراوي. ثامنا: حكم تعديل المرأة للراوي. تاسعا: الجارح والمعدل هل يقبل قولهما بدون ذكر سبب التعله يل والجرح؟ عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدل. حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم؟ ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين. المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية الحدود بالقذف. المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر: القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر. أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي يقول، أو حدَّثني، أو أخبرني، أو شافهني ". ثانيا: إذا قال الصحابي: " قال رسول الله، أو أخبر، أو حدث " فما الحكم؟ ثالثا: إذا قال الصحابي: " أمر رسول الله، أو نهى، أو حرم، أو أباح، أو فرض "، فما الحكم؟ رابعا: قول الصحابى: " أمرنا بكذا، أو نهينا عن كذا " ما حكمه؟ خامسا: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا " أو " السُّنَّة جارية بكذا " ما حكمه؟ سادسا: قول - الصحابي: " عن - صلى الله عليه وسلم - " ما حكمه؟ سابعا: قول الصحابي: " كلنا نفعل، أو كانوا يفعلون " ما حكمه؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون " هل يفيد حكاية الإجماع؟ القسم الثاني: كيفية ألفاظ الراوي غير الصحابي في نقل الخبر: أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع. ثانياً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي إذا أراد أن يحدث بما سمعه من شيخه فيما سبق. ثالثا: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي أم العكس أم ماذا؟ رابعا: قراءة الراوي على الشيخ وهو يسمع، ثم قال الشيخ: نعم، هل تجوز الرواية عنه؟ خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو يسمع، ثم قال الراوي للشيغ: هل سمعت أيها الشيخ؛ فسكت الشيخ فهل تجوز الرواية عنه؟ سادساً: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما يريد أن يحدث بما قرأه على شيخه. سابعا: إذا قرأ الراوي على الشيخ فهل يجوز أن يقول: " أخبرنا "، و " حدثنا " مطلقا بدون عبارة. " قراءة عليه "؟ ثامنا: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز للراوي أن يبدل ذلك بلفظ " أخبرنا " أو بالعكس؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 تاسعا: إذا قال الشيخ: "حدَّثنا " أو " أخبرنا " فهل يجوز أن يبدل الراوي ذلك إلى لفط "سمعت "؟ عاشراً: حقيقة الإجازة أو صورة المناولة، وصيغة الراوي فيهما. حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة. ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة. ثالث عشر: أنواع الإجازة. رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدثني فلان " أو " أخبرني فلان " وأطلق ولم يقيد ذلك بلفظ: " إجازة "، فهل هذا يجوز؟ خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر، والفاسق؟ سادس عشر: إذا قال الشيخ: " خذ هذا الكتاب وهو مسموعي "، ولم يقل: "إروه عني"، فهل تجوز الرواية بذلك؟ سابع عشر: حقيقة الوجادة، وهل تجوز الرواية بها؛ وما هي صيغتها؟ ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " فهل يقبل قوله، وهل يروى عنه؟ تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 ووجده ولم يذكر سماعه، ولا قراءته، لكن غلب على ظنه سماعه كلما يراه من خطه الذي توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟ عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟ واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث، والتبس عليه مع غيره فما الحكم؟ تاني وعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من شيخه؟ ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً صريحاً؟ رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير صريح وهو التوقف؟ المسألة السابعة عشر: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟ المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه. المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد. المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس. المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى. المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات. المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى. المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي. المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي. المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند. المسألة الثامنة والعشرون: أفعال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأحكامها. أولاً: أفعاله الجبلِّية. ثانياً: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات. ثالثاً: أفعاله التي لم يتبين أمرها ولا يعلم هل هي قربة أو عادة. رابعاً: أفعاله لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق. خامساً: الفعل الخاص به - صلى الله عليه وسلم -. سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟ المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -: أولاً: بيان تعريفه. ثانيا: حجيته. ثالثاً: أنواع الإقرار. المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة: أولاً: أقسام السُّنَّة من حيث حقيقتها: 1 - قولية 2 - فعلية 3 - تقريرية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 ثانيا: أقسام السُنَّة من حيث السند: 1 - متواتر 2 - آحاد. ثالثاً: أقسام السُنَّة من حيث الصحة وعدمها: 1 - الحديث الصحيح، تعريفه، أنواعه، حجيته. 2 - الحديث الحسن، تعريفه، أنواعه، حجيته. 3 - الحديث الضعيف، تعريفه، حجيته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 المسألة الأولى: خبر الواحد هل يفيد العلم؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن خبر الواحد لا يفيد العلم، بل يفيد الظن. ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لكان العلم حاصلاً بخبر الأنبياء إذا أخبروا ببعثهم من غير حاجة إلى إظهار المعجزات والأدلة على صدقهم، فلما أخبروا عن نبوتهم وأظهروا المعجزات الدالة على ذلك: ثبت أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم. الدليل الثاني: أنه لو كان خبر الواحد مفيداً للعلم لوجب على القاضي أن يصدق المدعي على غيره من غير بينة؛ لأن العلم يحصل بقوله، فلما ثبت أنه لا يصدق إلا ببينة ثبت أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم. الدليل الثالث: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لما احتيج إلى عدد من الشهود - اثنين فأكثر -، بل كان الشاهد الواحد يكفي، ولما كان الأمر بخلاف ذلك وأنه احتيج إلى عدد من الشهود دلَّ على أن خبر الواحد بمجرده لا يفيد العلم. الدليل الرابع: أنه لو كان خبر الواحد يفيد العلم لجاز لخبر الواحد أن ينسخ القرآن والسُنَّة المتواترة؛ لأنه يكون حينئذٍ - في قوتهما فيقوى على نسخهما، ولكن لما لم يجز نسخ خبر الواحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 للقرآن والممئُنَّة المتواترة - كما سبق بيانه - دلَّ على أن مرتبته أضعف من مرتبتهما، فدلَّ على أنه لا يفيد العلم مثلهما، بل يفيد الظن. المذهب الثاني: أن خبر الواحد يفيد العلم. ذهب إلى ذلك كثير من أهل الظاهر كداود الظاهري، والحسين الكرابيسي، والحارث المحاسبي، وابن حزم، واختاره بن خويز منداد من المالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد. دليل أصحاب هذا المذهب: لقد استدل لهذا المذهب بقوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وقوله: (وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) ، ثم أمرثا بالعمل بخبر الواحد، وهذا الأمر يدل على أن خبر الواحد يفيد العلم. جوابه: يجاب عنه: بأن وجوب العمل بخبر الواحد لا يدل على أنه يفيد العلم؛ إذ لو كان لا يفيد العلم لم نعمل به هذا غير مراد، وإنما العمل بخبر الواحد لا يقف على كونه مفيداً للعلم، وإنما وجب العمل بغلبة الظن كما وجب العمل بالقياس، وكما وجب العمل بقول الشاهدين، وكما وجب العمل بقول المفتي. المذهب الثالث: أن خبر الواحد مفيد للعلم إذا كان في رؤية الله تعالى وما ماثلها ممن توفرت فيه أمور ثلاثة: كثرة رواته، وتلقي الأُمَّة له بالقبول، ودلالة القرائن على صدق راويه. وهذا رواية عن الإمام أحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 المذهب الرابع: أن خبر الواحد يفيد العلم إذا احتفت به قرائن تؤيده، وتدل على صدقه، وهي كما يلي: 1 - أن يروي خبر الواحد راوي متصف بالعدالة، والثقة، والإتقان. 2 - أن ينقل الخبر من طرق متساوية بحيث لا تختلف. 3 - أن تتلقاه الأُمَّة بالقبول. 4 - أن لا ينكره أحد ممن يعتد بقوله. فإذا توفرت هذه الأمور في خبر الواحد فإنه - حينئد - يفيد العلم. الجواب عن هذين المذهبين: يجاب عنهما بأن هذين المذهبين - الثالث والرابع - لا يدخلان في محل النزاع؛ لأن النزاع في خبر الواحد المجرَّد عن القرائن التي تدل على صدقه، أما خبر الواحد الذي احتفت به قرائن دلت على صدقه، فإنه يفيد العلم بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على أنه يجب العمل بخبر الواحد، سواء أفاد العلم أو الظن، وهذا هو الذي يهم الأصولي؛ حيث إنه يبحث في الأحكام الناجزة وهي أحكام الدنيا، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 المسألة الثانية: تعريف المستفيض والمشهور وهل هما داخلان ضمن خبر الواحد؟ المستفيض هو: ما نقله جماعة تزيد على الثلاثة، فلا بد أن يكون الرواة أربعة فصاعداً، وهو مذهب جمهور الأصوليين. وقيل: إن المستفيض هو الشائع بين الناس، وقد صدر عن أصل. ولا فرق بين المستفيض والمشهور. وقيل: بل بينهما فرق وهو: أن المستفيض: ما سبق بيانه، والمشهور هو: ما اشتهر ولو في القرن الثاني أو الثالث. والمستفيض والمشهور داخلان ضمن الآحاد؛ لأن خبر الواحد ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: ما لا يفيد الظن أصلاً وهو: ما تقابلت فيه الاحتمالات على السواء. والقسم الثاني: ما يفيد الظن وهو: ترجيح أحد الاحتمالين الممكنين على الآخر في النفس من غير قطع سواء أخبر نقله واحد فقط، أو نقله الثلاثة والأربعة، وهذا مذهب جمهور الأصوليين وهو الحق. وقيل: إن المستفيض والمشهور في مرتبة متوسطة بين المتواتر والآحاد. نقل هذا عن الأستاذين: أبي إسحاق الإسفراييني، وأبي منصور، لذلك قال بعض العلماء: إن ضابطه: أن ينقله عدد كثير يربو على الآحاد، وينحط عن عدد المتواتر. وقيل: إن المستفيض بمعنى المتواتر. وقيل: إن المستفيض في رتبة أعلى من المتواتر. والصحيح ما قلناه وهو: أن المستفيض والمشهور بمعنى واحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 وأنهما داخلان ضمن الآحاد، ولا يخرجان عنه؛ لأنه لا يفيد إلا الظن. المسألة الثالثة: حكم التعبد بخبر الواحد والعمل به عقلاً: لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز التعبُّد بخبر الواحد وقبوله عقلاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، أي: أن العقل أجاز قبول خبر الواحد والعمل به. وهو الحق؛ لأن جواز التعبد بخبر الواحد لا يفضي إلى اجتماع الضدين، ولا يفضي إلى أن يكون الواحد أكثر من الاثنين، ولا يناقض مصلحة عقلية، فجاز القضاء بتجويزه. المذهب الثاني: أنه يجب التعبُّد بخبر الواحد عقلاً، أي: أن العقل أوجب علينا قبول خبر الواحد والعمل به. ذهب إلى ذلك بعض المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الحوادث والوقائع الجديدة كثيرة، فلو لم نتعبد بخبر الواحد ونعمل به: للزم من ذلك تعطيل وخلو تلك الحوادث والوقائع عن الأحكام الشرعية، لأمرين: أولهما: ندرة الأدلة القواطع، وثانيهما: قلة مدارك اليقين كالأوليات، وهي العقليات المحضة كعلم الإنسان باستحالة اجتماع الضدين، والمشاهدات كعلم الإنسان بجوع نفسه، والمحسوسات الظاهرة وهي الحواس الخمس، والمتواترات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 ولكن بتعبدنا بخبر الواحد وعملنا به يلزم منه إيجاد أحكام شرعية لكثير من الحوادث المتجددة. جوابه: يجاب عنه بأن هذا لا يسلَّم، أي: لا يلزم من عدم التعبد بخبر الواحد والعمل به تعطيل الحوادث بلا أحكام؛ وذلك لأن المجتهد إذا لم يجد حكماً للحوادث المتجددة من القواطع، فإنه لا يتركها بلا حكم، بل يستصحب حال البراءة الأصلية فيها حتى يأتي دليل قاطع يغير الحالة. الدليل الثاني قالوا فيه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث إلى جميع الناس، ولا يمكنه مشافهة جميعهم، ولا إبلاغهم بالتواتر، فلم يبق إلا الآحاد لإبلاغهم بالرسالة، فإذا كان الأمر كذلك فإنه يجب التعبد به عقلاً؛ إذ لا طريق غيره. جوابه: يجاب عنه: بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - غير مكلَّف بإبلاغ الجميع عن طريق الإيجاب، بل إنه أرسل إلى الناس كافة وكلف بأن يبلغ من يقدر عليه، ويستطيع تبليغه، فليقتصر على ذلك، فليس تبليغ الجميع واجباً. الدليل الثالث: أن الواحد إذا أخبرنا بأن اللَّه أمر بكذا، أو رسوله أمر بكذا، فإنا نحتمل صدقه، وإذا احتملنا صدقه، فإنه يجب العمل به احتياطاً لأنفسنا، إذ لو لم نعمل بذلك للزم مخالفة أمر ظننا وجوده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 جوابه: يجاب عنه بأنا لا نسلِّم ذلك؛ لوجوه: الوجه الأول: أن خبره يحتمل الكذب - أيضاً - فربما يكون عملنا بخلاف الواجب. الوجه الثاني: إذا كان مستند العمل هو احتمال صدقه - فقط - فإنه يلزم من ذلك وجوب العمل بخبر الكافر والفاسق؛ لأن صدقه محتمل. الوجه الثالث: أن براءة الذمة معلومة بالعقل والنفي الأصلي، فلا ترفع بمجرد ظن لا دليل عليه. المذهب الثالث: لا يجوز التعبد بخبر الواحد عقلاً. ذهب إلى ذلك الجبَّائي، وابن علية، وأبو بكر بن الأصم، وطائفة من المتكلمين. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد يحتمل أن يكون صدقاً، ويحتمل أن يكون كذباً، والاحتمالان متساويان، وهذا هو الشك - الذي هو تساوي الطرفين - فإذا عملنا بخبر الواحد المحتمل لهذين الاحتمالين على التساوي نكون قد عملنا بالشك، والشك يؤدي إلى الجهل؛ حيث إننا إذا شككنا في شيء نكون قد جهلنا المراد به، فنكون قد أقدمنا على العمل بالجهل، ويقبح أن نحيل الخلق أن يعملوا بالمجهولات، فيكون العمل بالجهل قبيح، والعقل لا يجيز القبيح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 جوابه: يجاب عنه بوجهين: الوجه الأول: أن هذا الدليل مبني على قاعدة وهي: " التحسين والتقبيح العقليين "، وهي صحيحة عند المعتزلة؛ حيث زعموا أن إحالة الأحكام على ما يجوز كذبه قبيح، وأن اللَّه لا بد أن يفعل كذا؛ لأنه حسن، وهذه القاعدة باطلة عندنا. الوجه الثاني: لا نسلِّم أن العمل بخبر الواحد هو عمل بالشك المؤدي إلى الجهل، بل إن العمل بخبر الواحد عمل بالظن؛ حيث إن خبر الواحد يحتمل الصدق، ويحتمل الكذب، ولكن احتماله للصدق أرجح، والظن غير الشك؛ لأن الظن هو ترجيح أحد الطرفين، والشك هو تساويهما، وأيضاً: الظن يجب العمل به، أما الشك فلا يعمل به. ثم إننا لا نعمل بظن كل أحد، بل إننا لا نعمل إلا بظن المجتهد الذي بلغ درجة الاجتهاد، أما من لم يبلغ ذلك فلا يعمل بظنه مهما كان. اعتراض على ذلك: اعترض معترض قائلاً: إن الظن - أيضاً - لا يعمل به؛ لوجود احتمال كذبه. جوابه: فإنا نجيب عن ذلك: بأن هناك أموراً كثيرة قد أفادت الظن، ومع ذلك قد تعبدنا اللَّه بأحكامها وعمل بها منها: أنه يجب العمل بالشهادة مع أنها تفيد الظن ط ومنها: أنه يجب العمل بالفتوى مع أن المفتي واحد، ولم يفد إلا الظن، ومنها: أنه إذا اشتبهت عليه القِبْلة في سفر وحضرت الصلاة: فإنه يجتهد في اتجاه القِبْلة ويصلي، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 وهذا كله ظني، فإذا كان الأمر كذلك في هذه الصور، فما المانع من التعبد بخبر الواحد وإن كان لا يفيد إلا الظن. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ إذ لا يترتب عليه عمل. *** المسألة الرابعة: حكم التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز التعبد بخبر الواحد سمعا والعمل به. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: إجماع الصحابي السكوتي، بيان ذلك: أنه ثبت في وقائع وحوادث - لا يمكن حصرها - قد اشتهرت ونقلت عن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - أنهم عملوا بخبر الواحد بدون نكير، مما يدل على إجماعهم على ذلك. وكل واقعة لم تتواتر، ولكن بمجموع تلك الوقائع والحوادث قد حصل لنا العلم بأنهم اتفقوا على العمل به، وإليك بعضا منها: 1 - أن المغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة قد شهدا عند أبي بكر - رضي اللَّه عنهم - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أعطى الجدة السدس فقبل منهما وعمل به، مع أن ذلك لم يبلغ حد التواتر. 2 - أن حمل بن مالك قال: " كنت بين امرأتين فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فقتلتها وجنينها، فقضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 جنينها بغرة عبد أو أَمَة، وأن تقتل "، فلما سمع ذلك عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وكان يسأل عن إملاص المرأة - قبل منه وقال: " اللَّه أكبر لو لم أسمع بهذا لقضينا بغيره "، فقبل منه هذا الخبر وعمل به مع أنه خبر واحد. 3 - أن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - كان يقول: الدية للعاقلة، ولا ترث المرأة من دية زوجها شيئاً، فقال له الضحاك بن سفيان الكلابي: كتب إليّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أورث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها أشيم فقبل منه ذلك وعمل به مع أنه خبر واحد. 4 - أن عمر كان لا يأخذ الجزية من المجوس حتى حدَّثه عبد الرحمن بن عوف أن رسول اللّ - صلى الله عليه وسلم - قال: " سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب "، فقبل عمر ذلك وعمل به وبدأ يأخذ من المجوس الجزية مع أنه خبر واحد. 5 - أنه لما اختلف بعض المهاجرين والأنصار - رضي اللَّه عنهم - في الذي يوجب الغسل سألوا عائشة - رضي اللَّه عنها - فقالت: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إذا مس الختان الختان فقد وجب الغسل "، فقبل الصحابة وعملوا به مع أنه خبر واحد. 6 - أنه لما كان أهل قباء يصلون إذ جاءهم آت فقال: " إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه الليلة وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها وكانت وجوههم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة ". فقبل هؤلاء خبر الواحد وعملوا به من غير نكير. 7 - أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - كان يذهب إلى أن الربا المحرم هو ربا النسيئة فقط، ثم حكي عنه أنه رجع، وذهب إلى تحريم؛ كلٍّ من ربا النسيئة وربا الفضل، ولا يفرق بينهما أخذاً بخبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 أبي سعيد الخدري في الصرف وهو: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلاً بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض " أي: لا تفضلوا، فأخذ بخبر الواحد وعمل به. 8 - قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة "، فهنا قد أخذ بخبر الواحد وعمل به. وغير ذلك من الأخبار مما لا يحصى، حيث رجعوا إلى عائشة، وأم سلمة، وحفصة، وميمونة، وزيد، وأسامة، وأبي الدرداء، وغيرهم من الرجال والنساء، والعبيد والموالي، مما يدل دلالة واضحة على أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد ويعملون به. وهذه الأخبار وإن لم تتواتر آحادها، إلا أنها بمجموعها أفادتنا علماً يقينياً لا يقبل الشك: أن الصحابة كانوا يقبلون خبر الواحد ويعملون به، ويتركون ما خالفه، دون نكير من أحد، إذ لو وجد إنكار لبلغنا كما بلغتنا تلك الأخبار، مما يدل على إجماع الصحابة على العمل بخبر الواحد. الاعتراض على هذا الدليل: أنه يحتمل أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - لم يعملوا بتلك الأخبار الآحادية بمجردها، وإنما عملوا بها بسبب قرائن اقترنت بها، ونظراً إلى هذا الاحتمال الذي تطرق إلى هذا الدليل، فإنه يبطل به الاستدلال. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد عملوا بمجرد خبر الواحد دون قرائن، دلَّ على ذلك أمران: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 أولهما: أن بعض الصحابة قد صرح بأنه لم يعمل إلا بمجرد الخبر فقط من ذلك: (أ) أن عمر - رضي اللَّه عنه - قال في خبر حمل بن مالك في إسقاط الجنين: " لو لم نسمع هذا لقضينا بغيره ". (ب) أنه لما اختلف الصحابة في الغسل من الجنابة رجعوا إلى قول عائشة بمفرده وهو: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". (ب) قول ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر أربعين سنة حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عنها ". هذه النقول تدل على أنهم قد عملوا بمجرد خبر الواحد دون قرائن. ثانيهما: أنه لو كان هناك قرائن اقترنت بالخبر بسببها عملوا بذلك الخبر: لنقلت إلينا كما نقل الخبر، وبلغتنا كما بلغنا الخبر، فلما أنه بلغنا الخبر، ولم يبلغنا شيء من القرائن دلَّ على أن الصحابة قد عملوا بالخبر فقط، فأصبح كلامكم مجرد احتمال لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يلتفت إليه. الجواب الثاني: أن قولكم: " إن الصحابة لم يعملوا بخبر الواحد بمجرده، بل عملوا به بسبب قرينة أوجبت العمل به "، يلزم منه أن الصحابة لم يعملوا بأي آية من الكتاب، أو أي حديث متواتر إلا بسبب قرينة أوجبت العمل بهما، وأنه لو لم توجد هذه القرينة لم يعملوا بالكتاب، ولا بالسُّنَّة المتواترة، وهذا باطل قطعاً، لأمرين: أولهما: أن الصحابة قد ثبت عنهم أنهم عملوا بظواهر الآيات والأحاديث المتواترة بدون قرائن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 ثانيهما: أن تقدير قرينة في الآية والمتواتر يؤدي إلى إبطال أدلة الشريعة عن العمل، وبالتالي يؤدي إلى تعطيل الشريعة كلها؟ حيث يلزم منه: أنه لا يعمل بأي دليل إلا بقرينة، إذن لا حاجة إلى الأدلة؛ لأن العمل كان بسبب القرينة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد شرط في التبين والتثبت: كون المخبر فاسقاً، فبان من هذا أن خبر العدل يقبل بدون تثبت؛ لأنه لو كانت حالة الفاسق والعدل سواء لم يكن لذكر الفسق معنى. اعتراض على هذا الدليل: أن هذه الآية نزلت في حالة خاصة، فلا تصلح للاستدلال بها على إثبات قاعدة عامة وهي: " حجية خبر الواحد "، حيث إنها نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حينما بعثه النبي - صلى الله عليه وسلم - جابياً للزكاة، فعاد وأخبر أن الذين بعثه إليهم أرادوا قتله، فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يغزوهم، فنزلت تلك الآية لتخبره أنه غير عدل. جوابه: يجاب عنه: بأن هذه الآية تصلح للاستدلال بها من وجهين: الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبل خبره لذلك هم بغزوهم لولا أن الوحي قد نبهه، فدل على أن خبر الواحد مقبول ويعمل به. الوجه الثاني: أن الآية وإن كانت قد نزلت بسبب خاص فإنها تصلح للاستدلال بها على إثبات ما نحن فيه؛ لأن اللفظ أعم من سببه فلا يقتصر عليه؛ حيث إن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، كما سيأتي تفصيله في باب العموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث آحاد الصحابة إلى البلاد النائية ليعلمهم الأحكام الشرعية: مثل ما بعث مصعب بن عمير إلى المدينة، وعتاب بن أسيد إلى مكة، وعلياً ومعاذا إلى اليمن، وابن حزم إلى نجران، وبعث سعاته لجباية الصدقات، وتعليم أرباب الأموال ما يجب عليهم من الزكاة، فكان السامعين يقبلون ذلك بلا تردد، فثبت أن خبرهم - وإن كانوا آحاداً - مقبول؛ إذ لو كان قول الواحد غير مقبول لما بعثهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولما قبل السامعون لهم الأحكام التي جاءوا بها من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا بعد التأكد والتثبت. الدليل الرابع: قياس الرواية على الفتوى، بيان ذلك: أن المفتي إذا أفتى شخصاً بحكم شرعي، فإنه يجب على المستفتي أن يصدق ذلك المفتي ويعمل بفتواه، مع أن ذلك المفتي ربما يخبر عن ظنه، فإذا كان الأمر كذلك في الفتوى فإنه إذا أخبر هذا المفتي بخبر سمعه، فكذلك يجب قبول خبزه وتصديقه، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما يجوز عليه الغلط، أي: يجوز الغلط على المفتي كما يجوز على الراوي، بل الغلط على المفتي أقرب منه على الراوي " لأن الفتوى لا تجوز إلا إذا سمع المفتي دليل ذلك الحكم، وعرف كيفية الاستدلال به، وذلك دقيق، أما الرواية فلا تحتاج إلا إلى السماع، فثبت أنه إذا كانت الفتوى مقبولة من الواحد، فمن باب أوْلى أن تكون الرواية مقبولة. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن هذا الدليل مبني على القياس، والقياس لا يفيد إلا الظن، والظن لا يثبت به أصل حجية خبر الواحد والعمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 جوابه: يجاب عنه بأن: قياس الرواية على الفتوى قياس يفيد القطع؛ لأن الفرع - وهي الرواية - أَوْلى بالحكم من الأصل - وهي الفتوى - أي: أنه إذا كانت الفتوى مقبولة وهي من واحد، فمن باب أوْلى أن يقبل الخبر إذا رواه واحد؛ لأن الغلط في الفتوى أقرب من الغلط في الرواية كما قلنا سابقاً. وإذا لم يسلم أنه قياس أولى، فإنه قياس مساوي، أي: أن الفرع مساوي للأصل ولا فرق بينهما؛ حيث إنه لا فرق بين المفتي الذي يخبر عن ظن نفسه، والراوي الذي يروي عن قول غيره. فإذا كان القياس أولى، أو مساوياً، فإنه يكون قطعيا، وإذا كان قطعياً فإنه تثبت به قاعدة أصولية كحجية خبر الواحد. الاعتراض الثاني: أن قياسكم الرواية على الفتوى قياس فاسد؟ لأنه قياس مع الفارق؛ ووجه الفرق بين الرواية والفتوى هو: أن العمل بالفتوى ضروري؛ لأن تكليف العامي الاجتهاد في كل حادثة لا يمكن، فاضطر إلى تقليد المفتي، أما العمل بخبر الواحد فغير ضروري؛ لأنا إن وجدنا في المسألة دليلاً قاطعاً عملنا به، وإن لم نجد عملنا بالبراءة الأصلية. جوابه: يجاب عنه: بأن قياسنا الرواية على الفتوى قياس صحيح؛ لأن العمل بالفتوى غير ضروري مثل العمل بخبر الواحد ولا فرق؟ فالعامي - أيضاً - يرجع إلى البراءة الأصلية، ويستصحب حال الحكم السابق الذي يعرفه إذا لم يجد مفتياً، أو وجد ولكن لم يثق به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 الدليل الخامس: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: إذا وجب العمل بشهادة الشاهدين العدلين، فيجب العمل بخبر العدلين عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن. المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعثد بخبر الواحد سمعا، أي: لا يجوز العمل بخبر الواحد. نسب ذلك إلى محمد بن داود الظاهري، ومحمد بن إسحاق القاساني الظاهري، وبعض الرافضة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) . وجه الدلالة: أن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وقد نهانا الله تعالى عن اتباع الظن؛ لأنه لا يغني عن الحق شيئاً. جوابه: يجاب عنه: بأن اللَّه قد ذم من اتبع مجرد ظنه من غير دليل، ونحن لا نتبع خبر الواحد بالظن، بل بالدليل الموجب للعلم. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ) ، وقوله: (وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون) . وجه الدلالة: أن العمل بخبر الواحد اقتضاء لما لا نعلم، وقول بما لا نعلم؛ لأنه موقوف على الظن. جوابه: يجاب عنه: بأنا لم نتبع خبر الواحد ونعمل به إلا بعد أن ثبتت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 الأدلة الدالة على وجوب العمل به، وهي الأدلة الخمسة السابقة، وكذلك لم نقل إلا ما علمناه. الدليل الثالث: أن المخبر الواحد يجوز أن يكذب، أو يغلط، فإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز العمل بخبره. جوابه: يجاب عنه بأنه إذا كان ما ذكرتموه هو عِلَّة عدم العمل بخبر الواحد، فإنه يلزم منه عدم قبول خبر الشاهدين في الحقوق، وعدم قبول فتوى المفتي، وعدم قبول رسول المفتي، وعدم قبول قول الطبيب في المرض، وعدم قبول الخبر عن الطريق؛ لأنه يجوز عليهم الكذب والغلط، وهذا غير صحيح؛ لأنا عملنا بتلك الأخبار ويجب العمل بها، فإذا عملنا بها مع جواز الكذب والغلط، فإنه يجوز العمل بخبر الواحد ولا فرق. الدليل الرابع: أن من ادَّعى أنه نبي، وخوَّفنا من مخالفته، لا يلزمنا قبول قوله من غير حُجَّة، فكذلك من أخبرنا بأحكام الشرع بخبر الواحد لا نقبله ولا فرق. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق من وجهين: الوجه الأول: أنه لم يدل دليل واحد على قبول مدعي النبوة، بخلاف خبر الواحد فقد دلَّت أدلة كثيرة على قبول قوله والعمل به. الوجه الثاني: أن النبوة من الرياسات العظيمة التي تحبها النفوس، ويحمل عليها حب التعظيم، فلا يقبل قول المدعي لها بغير دليل، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 يؤيد ذلك أنا لا نقبل قول من ادَّعى مالاً لنفسه من غير دليل، وتقبل شهادته لغيره، أما المخبر بخبر واحد فهو لا يضيف إلى نفسه شيئاً، وإنما ينقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - فيقبل. الدليل الخامس: أنه لا طريق لقبول شيء والعمل به إلا طريق الشرع، ونحن لما استقرأنا الشرع وتتبعناه لم نجد أي دليل منه يدل على قبول خبر الواحد، ولو كان قبول خبر الواحد جائزاً لوجدنا ذلك في الشرع كما وجدنا الدليل على قبول الشاهدين في الحقوق، وهو قوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ، ووجدنا الدليل على قبول قول المفتي، وهو قوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) . جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ لكم ذلك، بل لما تتبعنا الشرع وجدنا أدلة كثيرة دلَّت دلالة واضحة على قبول خبر الواحد، وهي الأدلة الخمسة السابقة التي ذكرناها. المسألة الخامسة: هل يشترط لقبول الخبر أن يرويه اثنان؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين هما: المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك، بل يقبل الخبر وإن كان راويه واحداً. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق: لما سبق من الأدلة على قبول خبر الواحد فقط؟ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث آحاد الصحابة إلى القبائل والبلدان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 النائية للإخبار عن الأحكام الشرعية والناسخ والمنسوخ، وكان الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وغيرهم يقبلون خبر الواحد منهم ويعملون به، كما قبلوا خبر عبد الرحمن بن عوف في المجوس، وخبر عائشة في الغسل، وخبر رافع بن خديج في المخابرة. المذهب الثاني. أنه يشترط لقبول الخبر أن يرويه عدلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يرويه عن كل واحد منهما اثنان عدلان، أما إذا رواه واحد لم يجز العمل به إلا بأحد شروط، منها: أن يعضده ظاهر، أو عمل بعض الصحابة، أو اجتهاد، أو يكون منتشراً. ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس الرواية على الشهادة، بيانه: أن الشهادة لا يقبل فيها إلا قول اثنين، فكذلك الرواية ينبغي أن لا يقبل فيها إلا رواية اثنين ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما إخبار عن الغير، فالشهادة هي شهادة على الغير، والرواية هي رواية عن الغير، وهناك جامع آخر وهو: أن كلًّا منهما يعمل به، فإذا اتفقت الرواية مع الشهادة في هذين الأمرين وهما: " الإخبار عن الغير " و" جواز العمل بهما "، فلماذا يفرق بينهما في العدد، بحيث يشترط العدد في الشهادة دون الرواية؟! فثبت أن الرواية مثل الشهادة في اشتراط العدد ولا فرق. جوابه. يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن الرواية تفارق الشهادة من وجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 أولها: أن الشهادة إخبار بلفظ خاص عن خاص علمه مختص بمعين يمكن الترافع فيه عند الحكام، أما الرواية فهو إخبار عن أمر عام لا يختص بشخص معين من الأُمَّة، فلا ترافع فيه عند الحكام. ثانيها: أن الشهادة لا تقبل من النساء إلا إذا كان معهن رجل إلا ما خصصه الشارع، أما الرواية فإنها تقبل من النساء فقبلت من عائشة، وحفصة، وأم سلمة، وغيرهن. ثالثها: أنه لا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على شهادة الأصل، أما الرواية فبخلاف ذلك: فقد كان الصحابة يروي بعضهم عن بعض مع القدرة على مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولهذا كان يلزمهم قبول أقوال وروايات آحاد رسله وسعاته من غير مراجعة. الدليل الثاني: أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل قول ذي اليدين في الصلاة حتى قال لأبي بكر وعمر: " أحق ما يقول ذو اليدين؛ " فقالا: نعم، وهذا واضح. جوابه: يجاب عنه: أنه لم يقبل قول واحد في السهو؛ لأن هذا القول مساو لظنه، فليس أحدهما بأوْلى من الآخر، فأراد أن توجد قرينة ترجِّح قول ذلك الواحد، فلما شهد معه أبو بكر وعمر قبل قول الواحد؛ لأنه صار أقوى من ظنه. الدليل الثالث: أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - لم يقبل قول المغيرة ابن شعبة في ميراث الجدة حتى شهد معه محمد بن مسلمة، وأن عمر - رضي اللَّه عنه - لم يقبل خبر أبي موسى في الاستئذان حتى شهد معه أبو سعيد الخدري، فهذا يدل على أنه لا يقبل خبر الواحد فقط وإن كان ثقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 جوابه: يجاب عنه: بأننا نقبل خبر الواحد إذا غلب على ظننا أن الراوي قد توفرتْ فيه شروط الرواية، أما إذا لم يغلب على ظننا ذلك فلا يقبل، بل لا بد من التأكد والاستظهار، وهنا ربما أن أبا بكر وعمر لم يغلب على ظنهما أن أبا موسى والمغيرة قد توفرت فيهما شروط الراوي، فطلبا من يشهد معهما للتأكد وللاستظهار، ولهذا إذا لم يتقوى في قلب الحاكم قول الشاهدين فإنه يجب عليه أن يلتمس شاهداً ثالثاً. *** المسألة السادسة: هل يشترط في الرواية في الزنا أربعة رواة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الرواية في الزنا لا يشترط فيها أن يكون الرواة أربعة، بل يكفي واحد كغير الرواية في الزنا ولا فرق. ذهب إلى ذلك الجمهور. وهو الحق؛ لعموم أدلة قبول خبر الواحد السابقة الذكر وهي: إجماع الصحابة، وبعث - صلى الله عليه وسلم - آحاد الصحابة إلى البلدان النائية، وقياس الرواية على الفتوى وغيرها، حيث دلَّت على أن خبر الواحد الثقة يقبل مطلقاً سواء في الزنا أو في غيره. المذهب الثاني: أن الرواية في الزنا يشترط فيها كون الرواة أربعة، أى: أنه لا يقبل في الزنا إلا خبر أربعة. ذهب إلى ذلك أبو علي الجبائي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 دليل هذا المذهب: استدل على ذلك بقياس الرواية في الزنا على الشهادة فيه، بيانه: أنه كما يشترط في الشهادة في الزنا أربعة شهود، فكذلك يشترط في الرواية فيه أربعة رواة ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما ينبغي الاحتراز والحذر منه، وأن الخطأ والغلط فيهما أعظم من غيرهما. جوابه: يجاب عنه بأن قياس الرواية على الشهادة قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية من وجوه ذكرنا ثلاثة منها في المسألة السابقة، ونزيد هنا أمراً رابعاً وهو: أن الشهادة ينبغي أن يحتاط فيها، لذلك اشترط العلماء فيها العدد بخلاف الرواية. المسألة السابعة: في حقيقة الصحابي، وطرق معرفته، وثبوت عدالته: ويتبين ذلك فيما يلي: أولاً: حقيقة الصحابي: أقرب تعريفات الصحابي إلى الصحة هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به، واختص به اختصاص المصحوب، متبعاً إياه مدة يثبت معها إطلاق صاحب عليه عرفا بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة، سواء روى عنه أو لم يرو عنه. وهذا هو تعريف جمهور الأصوليين وأكثر العلماء، وقد صوَّبته، لأنَّ شهود التنزيل، والاطلاع على أسباب ورود الأحكام، ومعرفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 التأويل، ومقاصد الشريعة لا يمكن إلا باختصاص مصاحبة، وكثرة مجالسة. وهناك تعريفات أخرى للصحابي لعلي أشير إليها هنا فأقول: قيل: إن الصحابي هو: من أدرك زمن - صلى الله عليه وسلم - مؤمنا به وإن لم يره. وقيل: هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ولو ساعة من نهار وهو مسلم عاقل بالغ. وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - سنة أو سنتين، أو غزا معه غزوة أو غزوتين. وقيل: هو: من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مؤمناً به، وصاحبه ولو ساعة سواء روى عنه، أو لم يرو عنه، وسواء اختص به اختصاص المصحوب أو لم يختص به. وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وطالت صحبته، ولازمه، وأخذ عنه العلم، وروى عنه. وقيل: هو: من صحب النبي - صلى الله عليه وسلم - مدة قدرها ستة أشهر فصاعداً. وهذه التعريفات للصحابي قد ذكرتها، ناسباً كل تعريف إلى قائله ذاكراً دليل كل قول، وقد اعترضت على تلك التعريفات وبيَّنت أسباب اختياري للتعريف الأول الذي صحَّحته وذلك في كتابي "مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف دراسة نظرية تطبيقية " فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع متداول، ولا داعي لأن أكرر ما ذكرناه هناك في هذا المقام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 بيان ثمرة الخلاف في تعريف الصحابي: إن الخلاف في تعريف الصحابي له ثمرة، حيث إنه من دخل ضمن الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة - فإنه تثبت له أمور وصفات هي كما يلي: 1 - ثبوت عدالته، فلا يحتاج إلى تزكية. 2 - تفسيق من سبه. 3 - قبول مراسيله. 4 - حجية قوله وفتواه وفعله عند كثير من العلماء. 5 - أنه إذا خالف الحديث النبوي الشريف، فإن مخالفته معتبرة، ويسقط الاحتجاج بالحديث عند بعض العلماء. وهذا الأمر الخامس هو الذي دعاني لتأليف كتابي السابق الذكر وهو: " مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف، دراسة نظرية تطبيقية". أما من خرج من الصحابة - باعتبار كل قول من الأقوال السابقة - فلا تكون تلك الصفات والميزات ثابتة له. ثانيا: طرق معرفة الصحابي: الطريق الأول: أن يخبر الشخص عن نفسه بأنه صحابي بأن يقول: " أنا صحبت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فإذا قال ذلك العدل الثقة المعاصر للنبي - صلى الله عليه وسلم - فإنه يكون صحابيا؛ لأنه ثقة عدل مقبول في ذلك كروايته، ولم يرد عن واحد من الصحابة رد قوله. الاعتراض على هذا: قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 " أنا صحابي " يعتبر شهادة لنفسه، وشهادة الشخص لنفسه لا تقبل، إذن لا يقبل قوله؛ لأنه متهم بتحصيل منصب الصحبة لنفسه. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن هذا الشخص الذي قال: " أنا صحابي " موصوف بالعدالة والثقة، في حين أنه معاصر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلذلك نرجح صدقه، وإذا ترجح صدق شخص، فيجب قبول قوله بأنه صحابي كما وجب قبول روايته عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما، وعلى هذا: تكون التهمة بعيدة. الطريق الثاني: النقل المتواتر؛ حيث إن كثيراً من الصحابة قد علمنا أنهم صحابة عن طريق التواتر كالخلفاء الأربعة، وزوجاته - صلى الله عليه وسلم - والمهاجرين والأنصار، ويشمل المشهورين كرواة الأحاديث، والقادة، والقضاة الذين لم يحصل الاختلاف فيهم. الطريق الثالث: أن يخبر الواحد ممن ثبتت صحبته: أن فلاناً من الصحابة، فإذا أخبر بذلك يكون ذلك الشخص المخبر عنه صحابيا؛ الصحابي عدل، فيقبل ما يأتي به كروايته. اعتراض على هذا: قال قائل: إن هذا الطريق لا يصلح لإثبات الصحبة؛ لأن الشخص لا تثبت له الصحبة بقول الواحد؛ حيث يترتب على قوله ثبوت كل ما يأتي به من أحاديث، وإنما يثبت بما يوجب العلم ضرورة أو اكتساباً. جوابه: يجاب عنه: بأن الصحابي قد ثبتت عدالته، ومن ثبتت عدالته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 فإن كل ما يأتي به فهو مقبول من أقوال، وأخبار، فكما يقبل كل خبر يأتي به، فكذلك يقبل خبره عن غيره بأنه صحابي ولا فرق: بجامع: عدم جواز الكذب في كليهما. الطريق الرابع: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " كنت أنا وفلان من الصحابة عند النبي - صلى الله عليه وسلم - ". الطريق الخامس: أن يقول المسلم الذي ثبتت عدالته: " دخلنا على النبي - صلى الله عليه وسلم - ". ثالثاً: ثبوت عدالة الصحابي: الصحابة كلهم عدول، دلَّ على ذلك ما يلي: الدليل الأول: قوله تعالى: (لقد رضى اللَّه عن المؤمنين) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد صرَّح - هنا - بأنه قد رضي عن الصحابة، ومن رضي اللَّه عنه فقد اتصف بالعدالة، حيث إنه لا يرضى عن الفاسق. الدليل الثاني: قوله تعالى: (والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي اللَّه عنهم) . وجه الدلالة كسابقه. الدليل الثالث: ما رواه عمران بن الحصين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ". وجه الدلالة: أنه وصف الصحابة بأنهم خير القرون، ولو لم يكونوا عدولاً لما وصفهم بهذا الوصف - وهو الخيرية -؛ لأن الفساق لا خير فيهم. الدليل الرابع: ما رواه أبو سعيد الخدري: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 "لا تسبوا أصحابي فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ". وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن سب الصحابة وبين فضلهم، ولا يكون ذلك إلا لمن اتصف بالتقوى والمروءة، وهذه هي العدالة، فلو كانوا فساقاً أو واحداً منهم لما نهى عن سبهم جميعاً " لأن الفساق لا خير فيهم. اعتراض على ما سبق من الأدلة: لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن تلك النصوص من الكتاب والسُّنَّة لم تصرح بعدالة الصحابة، وكل ما فيها بيان فضلهم - فقط -، وبيان الفضل لا يدل على تعديلهم. جوابه: يجاب عنه: بأنه إذا كان التعديل يحصل بقول واحد أو اثنين من الناس مع عدم عصمتهما، وعدم علمهما إلا ببعض الظواهر، فكيف بتعديل علام الغيوب، وتعديل رسوله الكريم الذي لا ينطق عن الهوى؟! لا شك أن تعديل علام الغيوب الذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء مع استحالة الكذب عليه، وتعديل رسوله المعصوم عن الخطأ والكذب: هو التعديل الحق الذي يجب الأخذ به. الدليل الخامس: أن عدالتهم ثبتت من العقل السليم، بيان ذلك: أن تواتر واشتهار طاعتهم المطلقة لله ولرسوله، وبذل النفس والنفيس، وقتالهم للآباء، والأبناء، والأقرباء، والأهل في سبيل إعلاء كلمة اللَّه، واشتدادهم في أمور الدين بحيث لا تأخذهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 الله لومة لائم، كل ذلك يقطع بالحكم بصلاحهم وأنهم آمنوا وصدقوا باطناً وظاهراً، وكل ذلك قد نفى فسقهم، ومن انتفى فسقه، وظفر صلاحه فهو العدل. والمراد بعدالة الصحابة هو: ليس ثبوت العصمة لهم، واستحالة المعصية، وإنما المراد بعدالتهم هو: قبول رواياتهم من غير تكلف في أن يبحث عن أسباب العدالة وطلب التزكية، إلا من يثبت عليه ارتكاب قادح، ولم يثبت والحمد لله، فنحن نستصحب ما كانوا عليه في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - من التقوى والمروءة حتى يثبت خلافه. ثمرة ذكر عدالة الصحابة: إنه يتخرج عليه أنه إذا قال العدل في الإسناد: " عن رجل من أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ": كان حُجَّة، ولا تضر الجهالة به؛ نظراً لثبوت عدالتهم. هذا هو الحق؛ لأن من توفرت فيه شروط الرواية التي ستأتي وهي: - الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - إذا روى خبراً فإنه يغلب عندنا ظن صدقه، فيكون خبره حُجَّة. وذهب بعض العلماء - كأبي زيد الدبوسي - إلى أن العدل إذا قال: " عن رجل من الصحابة " لا يكون حُجَّة إلا بأحد الشروط التالية: إما أن يعمل السلف بهذا الخبر الذي يرويه. أو ينتشر الخبر بين السلف، ويسكتوا عن ردة. فإن لم ينتشر فإن وافق القياس: عمل به، وإلا: فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 جوابه: يجاب عن ذلك بأنا لو قلنا بأنه لا يقبل خبره إلا بأحد تلك الشروط، فلا داعي لاشتراط العدالة في الراوي؛ ولكن إذا توفر في الراوي هذا الشرط - وهو العدالة - قد كفانا عن البحث عما يقوي الحديث. *** المسألة الثامنة: في شروط الراوي غير الصحابي: الراوي الصحابي يقبل خبره؛ لثبوت عدالته كما سبق بيان ذلك، أما الراوي غير الصحابي فلا يقبل خبره إلا إذا توفر فيه شروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما. فلا تقبل رواية الكافر في أمور الإسلام؛ لأن الكافر متهم بالدين غير مؤتمن على أي خبر يخص الشريعة الإسلامية، فخصومته للمسلمين وعداوته لهم في الدين يحمله على الكيد لهم والحرص على التدليس والتلبيس عليهم في دينهم؛ لأنه إنما أبغضهم من أجله، فهو لا يتحرج من الكذب على الرسول وتحريف دينه؛ ليبين للغير أن هذا الدين الإسلامي أضعف وأقل شأنا مما هو عليه، لذلك ليس من اللائق لمن عنده ولو ذرة من الحكمة والسياسة أن يقبل أيَّ شيء من الكافر مما يخص الأحكام الشرعية. الشرط الثاني: أن يكون الراوي بالغا. وهو من احتلم، أو أنبت من قبل، أو بلغ خمسة عشر سنة، أو جاء المرأة الحيض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 أما الصبي - مطلقاً - المميز أو غير المميز - فلا تقبل روايته؟ لأدلة ثلاثة هي كما يلي: الأول: أن الصبي لا يعرف اللَّه تعالى، وإذا كان كذلك فلا يخاف عقاب من لا يعرفه، ولا يرجو ثواب من يجهله، فيكون الصبي لا رغبة له في الصدق، ولا يوجد شيء يجعله يتجنب الكذب، فينتج عدم الثقة بخبره، فلا يقبل. الثاني: أن الصبي إذا أقر بشيء على نفسه فإنه لا يقبل، فإذا كان لا يقبل منه هذا مع أنه خاص بنفسه، فإنه من باب أوْلى أن لا يقبل خبره عن غيره. اعتراض على هذا: لقد اعترض بعضهم قائلاً: إن هذا الدليل مبني على القياس، وهو غير صحيح، وذلك لأن الأصل المقاس عليه لا نسلِّمه؛ حيث إن الصبي يقبل إذا أخبر عن نفسه، فإنه إذا أخبر أنه متطهر: قبل خبره، ويصح الاقتداء به في الصلاة. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يلزم من قبول قوله في التطهر: قبول روايته، وذلك لأن الاحتياط والتحفظ في الرواية أشد منه في الاقتداء به في الصلاة، ولهذا صح الاقتداء بالفاسق عند ظن طهارته، ولا تقبل روايته وإن ظن صدقه. الثالث: قياس الصبي على الفاسق، بيانه: إذا كان الفاسق لأ تقبل روايته مع أنه يخاف اللَّه أحياناً، فمن باب أَوْلى أن لا تقبل رواية الصبي؛ لأنه لا يخاف اللَّه تعالى في جميع الأوقات؛ حيث لا يعرف اللَّه حتى يخافه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 الشرط التالث: أن يكون الراوي عاقلاً. فلا تقبل رواية المجنون مطلقاً - أي سواء كان جنونه مطبقاً أو لا -. واشترط كونه عاقلاً؛ لأمور ثلاثة هي: الأول: ليعلم بهذا العقل ما ينقل كيف هو. الثاني: ليميز بهذا العقل بين خبر الرسول - صلى الله عليه وسلم - وخبر غيره. الثالث: ليعلم بهذا العقل قبح الكذب، وحسن الصدق. الشرط الرابع: أن يكون الراوي عدلاً. والعدالة هي: هيئة راسخة في النفس تحمل صاحبها على ملازمة التقوى والمروءة، حتى تحصل ثقة النفس بصدقه، ويتحقق ذلك باجتناب جميع الكبائر وهي: الإشراك بالله، وقتل النفس بغير حق، وقذف المحصن، والزنا، والفرار من الزحف، والسحر، وأكل مال اليتيم، وعقوق الوالدين، والإلحاد بالبيت الحرام، والغيبة والنميمة على الراجح، وشهادة الزور. وباجتناب بعض الصغائر مما يدل فعله على نقص الدين وعدم الترفع عن الكذب مثل: التطفيف بحبة، وسرقة لقمة، ونحو ذلك. وباجتناب بعض المباحات التي يدل فعلها على نقص المروءة، ودناءة الهمة مثل: الأكل في السوق، والإفراط في المزاح، والبول في الشارع، وصحبة الأراذل، ونحو ذلك. والضابط في ذلك: ظهور أمارة الصدق، وعدم ظهور أمارة الكذب، وهذا يختلف باختلاف المجتهدين. وعلى هذا لا تقبل رواية الفاسق، وقد أجمع العلماء على ذلك؟ لدليلين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد نهانا عن قبول ص الفاسق والعمل به إلا بعد التثنت والتأكد من صحته، فلو كان خبر الفاسق مقبولاً لما أمرنا بالتثبت عن خبره. الدليل الثاني: أن الشخص إذا ثبت أنه فاسق، فإنه لا يتقي الله ولا يخافه ولا يخشى عقابه، ولا يرجو ثوابه، - فهو - بهذا - لا نستبعد عنه الكذب، فلا نثق بقوله وخبره، والخبر الذي لا نثق به لا يقبل. ولا بد من الكشف عن سبب التفسيق ليظهر إن كان يصلح سببا لذلك أو لا، كما سيأتي بيان ذلك في الجرح والتعديل إن شاء اللَّه. الشرط الخامس: أن يكون الراوي ضابطاً. أي: أن يكون الراوي يحفظ الخبر بإتقان دون تغيير أو تبديل. واشترط كونه ضابطاً لأنه إذا لم يضبط فإنه ينتج ما يلي: الأول: أنه يغير لفظ الخبر ومعناه، فيتغير بسبب ذلك الحكم الشرعي. الثاني: أنه يسقط من الخبر ما يحتاج إليه للاستدلال به على حكم من الأحكام. الثالث: أنه يضيف إلى الخبر ما يفسد الاستدلال به. فإذا كان كذلك فلا تحصل الثقة بقوله ولا بخبره، وإن توفرت فيه الشروط السابقة وهي: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والعدالة. ولا يشترط - هنا - القطع بضبطه وإتقانه لما حفظه، بل المشترط: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 أن يكون ضبطه لما سمعه أرجح من عدم ضبطه، وذكره له أرجح من سهوه وغفلته مما يحصل غلبة الظن بصدقه فيما يرويه. أما إذا تساوى ضبطه مع عدمه، أو كان محدم ضبطه أرجح فلا تكون روايته مقبولة، لعدم حصول الظن بصدقه. أما إن جهل حاله في ذلك: فلا بد من اختباره وامتحانه. المسألة التاسعة: شروط ظَنَّ بعضهم أنها تشترط في الراوي وهي ليست كذلك: لما ذكرنا الشروط المعتبرة في الراوي وهي: الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط: كان لا بد أن أذكر أن بعض العلماء ذكروا أشياء ظنوا أنها تشترط وهي ليست كذلك، وفيما يلي بيانها: أولاً: اشترط بعض أهل الحديث كون الراوي معروف ومشهور النسب. وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط الأربعة السابقة، سواء عرفنا نسبه أو لم نعرف ذلك. دليل ذلك: أن العدالة هي السبب لعدم الكذب، وهي السبب لغلبة الظن بالصدق، فإذا توفرت العدالة في الراوي مع الإسلام والضبط والتكليف: غلب على ظننا أنه صادق، وبناء عليه تقبل روايته، سواء علمنا نسبه أو لا، فليست معرفة النسب تفيد شيئاً، فلذلك لا ينظر إلى وجودها ولا إلى عدمها. ثانياً: اشترط بعض العلماء: كون الراوي فقيهاً مطلقاً. وقال آخرون: يشترط فقه الراوي إذا خالف خبره القياس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 وهذا الشرط ليس بصحيح فيقبل خبر المسلم المكلف الضابط العدل، سواء كان فقيهاً أو لا؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أوجب أن نتبين في حالة الفسق، وبناء عليه: لا يجب التبين في غير الفاسق سواء كان فقيهاً أو غير فقيه. الدليل الثاني: ما رواه زيد بن ثابت أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها ثم أداها كما سمعها، فرب حامل فقه غير فقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه ". وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دعا لمن سمع الحديث، وأداه كما سمعه دون تعديل ولا تبديل، سواء كان فقيهاً أو غير فقيه. الدليل الثالث: أن الاعتماد على خبر النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخبرنا العدل بذلك، فإن الظاهر منه أنه لا يروي إلا ما ثبت عنده على الوجه الذي سمعه، وخبر العدل يفيد الصدقَ، فوجب العمل به؛ العمل بالظن ؤاجب، وهذا مطلقاً سواء كان هذا الراوي العدل فقيهاً أو لا. ثالثاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة مجالسته للعلماء. وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قد قبلوا رواية بعض الأعراب، والأعرابي - بحكم كثرة تنقله وترحاله - لا يجالس العلماء، فلم يفرقوا بين الراوي المكثر لمجالسة العلماء وبين غيره إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة الذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 رابعاً: اشترط بعضهم في الراوي: كثرة روايته للأحاديث. وهذا الشرط ليس بصحيح؛ لأن بعض الصحابة - رضي الله عنهم - قد قبلوا خبر الأعرابي الذي لا يروي إلا حديثاً واحداً - فقط - فلم يفرقوا بين من يروي حديثاً واحداً، وبين من يروي الأحاديث الكثيرة إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة الذكر. خامساً: اشترط بعضهم في الراوي: أن يكون الراوي مشاهداً حال السماع منه. وهذا الشرط ليس بصحيح؛ فتقبل الرواية بشرط أن تتوفر شروط الراوي السابقة - وهي: الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط - وله آلة الأداء، وهذا مطلقاً أي: سواء رأى المخبر أو لم يره بشرط معرفته لصوته. دليل ذلك: إجماع الصحابة على قبول رواية عائشة - رضي الله عنها - فقد كانوا يسمعون حديثها وخبرها من ستر؛ اعتماداً على صوتها، بدون رؤية شخصها، فهم في تلك الحالة كالعميان بالنسبة لعائشة. سادساً: اشترط بعضهم: كون الراوي عالماً باللغة العربية. وهذا الشرط ليس بصحيح، فيقبل خبر من توفرت فيه الشروط السابقة مطلقاً، سواء كان عارفاً باللغة العربية أو لا. دليل ذلك أن جهله بمعنى الكلام لا يمنع من ضبطه للحديث، ولهذا يمكنه حفظ القرآن الكريم وإن لم يعرف معناه. سابعاً: اشترط بعضهم: أن يكون الراوي ذكراً. وهذا الشرط ليس بصحيح، فتقبل رواية كل من توفرت فيه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 الشروط السابقة - الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط - سواء كان ذكراً، أو أنثى، أو خنثى بدون فرق. دل على ذلك الأدلة التالية: الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد قبلوا أخبار وأقوال عائشة، وحفصة، وأم سلمة - رضي الله عنهن أجمعين - ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو وقع الإنكار لبلغنا، ولم يبلغنا شيء من ذلك، فصار إجماعاً منهم على قبول روياتهن. الدليل الثاني: أن النساء في الشهادة فوق الأعمى، وقد قبلت رواية الأعمى، فالمرأة أَوْلى. الدليل الثالث: أنه لو كان نقص الأنوثة مانعاً للمرأة من قبول روايتها لم يقبل قولها في الفتوى، ولكن قولها يقبل في الفتوى، فيقبل خبرها في الرواية قياساً عليه. ثامناً: اشتراط بعض العلماء عدم القرابة، وعدم العداوة، قياساً على الشهادة. وهذا الشرط ليس بصحيح، بل تجوز رواية الولد بما يعود منفعته إلى والده، ويجوز العكس، ويجوز أن يروي خبراً يضر بعدوه، وينفعه مطلقاً. أي: لا يشترط في الرواية عدم القرابة بين الراوي وبين من ينفعه مضمون الحديث الذي رواه، ولا تشترط في الرواية عدم العداوة بين الراوي وبين من يضره مضمون الحديث الذي رواه، بل تقبل رواية كل واحد إذا توفرت فيه شروط الراوي السابقة. دليل ذلك: أن الرواية تختلف عن الشهادة، ووجه الاختلاف: أن حكم الرواية عام، وأن الشهادة خاصة، بيان ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 أن الحديث عام في حق الكل يلزم الراوي، والمروي له، وغيرهما، فلا يختص بواحد معين، فالتهمة معدومة حتى تكون العداوة، أو القرابة، أو الصداقة مؤثرة فيه بنفي أو إثبات، بخلاف الشهادة، فإنها مختصة بالمشهود له أو عليه نفعا أو ضراً. *** المسألة العاشرة: حكم رواية الكافر المتأوِّل: الكافر الخارج عن الإسلام كاليهودي، والنصراني، لا تقبل روايته، وقد سبق بيان ذلك: أما الكافر المتأوِّل، وهو المسلم الذي فعل بدعة كفَّره بها أهل السُّنَّة والجماعة، وهو يعلم بهذا التكفير أو لا يعلم، فهل هذا تقبل روايته إذا توفرت فيه شروط الراوي؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو لبدعته، فلا يقبل خبره، وبين من لم يدع إلى بدعته فيقبل. ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وكثير من العلماء. وهو الحق عندي، فلا يقبل خبر من يدعو إلى بدعته؛ لأنه لا يؤمن أن يضع حديثا يوافق تلك البدعة ويقويها، فأثر ذلك في صدقه. ويقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي كفر بسببها -؛ لأن الراوي الذي توفرت فيه شروط الرواية الذي أخطأ بتأويل: قد أمن جانبه، وهذا يقوي الظن لصدقه، وإذا ثبت ذلك، فإن خبره مقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الكافر المتأوِّل مطلقاً أي: سواء كان داعية أو لا. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن علماء الأُمَّة قد أجمعت على ردِّ خبر الكافر، ولا فرق بين كافر وكافر، فإن الكافر الذي لم يؤمن بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كاليهودي والنصراني أيضاً متأوِّل، فهو لا يعلم أنه كافر، بل يزعم أنه هو الذي على حق وغيره على باطل، وأما الذي ليس بمتأول وهو: المعاند بلسانه بعد معرفته للحق بقلبه، فذلك مما يندر وجوده. وتورع الكافر المتأول عن الكذب كتورع النصراني واليهودي بلا فرق، فلا يقبل أي خبر يأتي به أي واحد منهما. جوابه: يجاب عنه: بأن العلماء قد أجمعوا على ردِّ خبر من كفر لا بتأويل، بل ابتغى غير الإسلام ديناً، أما المتمسك بالإسلام، ولكن فعل بدعة كُفِّر من أجلها - فقط - وثبت أنه لا يدعو إلى بدعته ولا ينشرها، وتوفرت فيه شروط الراوي السابقة، فإن هذا معظم للدين الإسلامي، ممتنع عن المعصية، فهذا يؤمن جانبه، وإذا أمن جانبه ترجح صدقه، وإذا ترجح صدقه قبل خبره فيما لا. يخص بدعته. فبان أن هذا يفارق الكافر بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كاليهودي والنصراني؛ حيث إن هذا يحتقر الدين الإسلامي ويعتقد بطلانه، فالحكمة والسياسة تمنع قبول أي شيء منه، كما بيَّنا فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 المسألة الحادية عشرة: حكم رواية الفاسق المتأوِّل: لقد سبق بيان أن الفاسق بعمل الجوارح لا تقبل روايته، أما الفاسق المتأول، وهو الذي فعل بدعة فسِّق بسببها، وقد يعلم بذلك التفسيق، وقد لا يعلم، فهل هذا تقبل روايته إذا توفرت فيه شروط الراوي؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: التفصيل بين من يدعو إلى بدعته فلا يقبل، وبين من لا يدعو إلى بدعته فيقبل. ذهب إلى ذلك أكثر العلماء. وهو الحق، فلا يُقبل خبر من يدعو إلى بدعته، لأنه لا يؤمن أن يضع خبراً يوافق تلك البدعة، فأثرت تلك الريبة في صدقه، فترجح عدم صدقه، فلا يقبل ما يأتي به من الأخبار. ويُقبل خبر من لا يدعو إلى بدعته - التي فسِّق بسببها -؛ لأمرين: أولهما: أن الراوي الذي توفرت فيه شروط الراوي الذي أخطأ بتأويل، إذا كان لا يجوِّز الكذب، وهو يعتقد أنه على حق قد أمن جانبه، وهذا يقوي الظن بصدقه فيقبل خبره. ثانيهما: أن السلف من الصحابة والتابعين وقع بينهم اختلاف في كثير من المسائل، وكل واحد يعتقد أنه على حق وغيره على خطأ، ومع ذلك قبل بعضهم أخبار بعض. المذهب الثاني: أن الفاسق المتأول لا يقبل خبره مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 ذهب إلى ذلك الإمام مالك، والباقلاني، والآمدي، وكثير من المعتزلة. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الفاسق المتأول على الفاسق غير المتأول، وهو الفاسق بأفعال الجوارح، بيانه: أنه لا فرق بين فسق وفسق، فإن خبر من فسَق بأفعال الجوارح قد رُدَّ لأجل الفسق، وقد وجد سبب الرد هذا في الفسق في الاعتقاد. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أنا لم نقبل خبر من فسق بأفعال الجوارح " لأن هذا الفاسق يفعل المعصية، وهو يعلم أنه فسق بسببها، ومن يفعل ذلك، فإنه يوصف بالاستهتار وعدم المبالاة في الدين، وهذا لا يؤمن أن يقدم على الكذب، فأثر ذلك في قوة الظن بصدقه. أما الفاسق المتأول، فإنه أوَّل ما هو عليه من بدعة وهو يظن أنه على حق، في حين أنه لا يجوِّز الكذب، فلهذا قوي الظن بصدقه، فقبل خبره. المسألة الثانية عشرة: إذا سمع الصبي الخبر، وأدَّاه بعد البلوغ فهل يقبل؟ لقد سبق بيان أن الصبي إذا سمع الخبر قبل البلوغ، وأدى ما سمعه قبل البلوغ - أيضاً - فإنه لا يقبل خبره مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 أما إذا سمع الخبر وهو صبي وتحمَّله قبل البلوغ، وكان مميزاً ضابطاً لذلك الخبر، لكنه لم يؤده ولم يخبر به إلا بعد البلوغ وظهور رشده في دينه، فإن خبره مقبول؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: إجماع الصحابة والسلف على قبول أخبار وروايات أصاغر الصحابة - وهم الذين توفي النبي - صلى الله عليه وسلم - وهم لم يبلغوا - كابن عباس، والحسن، والحسين، وعبد اللَّه بن الزبير، وعبد اللَّه بن جعفر، والنعمان بن بشير، وأنس بن مالك، وعائشة أم المؤمنين، وغيرهم من أحداث الصحابة - رضي اللَّه عنهم أجمعين - فقُبل منهم كل خبر يروونه من غير تفريق بين ما تحملوه في حالة الصبا، وما تحملوه بعد البلوغ. الدليل الثاني: أن السلف والخلف قد درجوا على إحضار الصبيان مجالس سماع الأحاديمث والأخبار، ولو كان خبر الصبي غير مقبول إذا أداه وهو بالغ لما كان لإحضاره في هذه المجالس وهو صبي فائدة، فثبت أن فائدة إحضارهم لصبيانهم - تلك المجالس هي: قبول تلك الأخبار اِذا أدوها بعد البلوغ. الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: أنه مع أن العلماء يحترزون في الشهادة أكثر من الرواية، فقد أجمعوا على أن ما تحمله الصبي من الشهادة قبل البلوغ إذا شهد به بعد البلوغ، فإنه مقبول، فالرواية أَوْلى بالقبول، أي: إذا جاز أن يتحمل الشهادة صبياً، ويشهد بها بعد البلوغ، فمن باب أَوْلى جواز تحمل الرواية في حالة الصبا وأداءها بعد البلوغ؛ لأن الشهادة يحترز منها أكثر من غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 المسألة الثالثة عشرة: حكم رواية مجهول الحال في العدالة: إذا روى لنا شخص حديثاً وهو مجهول الحال عندنا في الشروط الثلاثة وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، أي: لا نعرف أنه مسلم أو كافر، ولا نعلم عنه أنه مكلف أو غير مكلف، ولا نعلم عنه أنه يضبط أو لا، فإن هذا لا نقبل حديثه ولا نعمل به. أما إذا كنا نعلم أنه مسلم، ومكلَّف، وضابط، ولكننا لا نعلم هل هو عدل أو فاسق؛ فقد اختلف العلماء في قبول خبره على مذهبين: المذهب الأول: أن خبر مجهول الحال في العدالة غير مقبول. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قياس مجهول الحال في العدالة على مجهول الحال في الإسلام والتكليف والضبط، بيان ذلك: أننا إذا شككنا في الشخص هل هو مسلم أو لا، أو هل هو مكلف أو لا، أو هل هو ضابط أو لا، فإن خبره لا يقبل بالاتفاق، فكذلك إذا شككنا في الشخص هل هو عدل أو فاسق لا تقبل روايته وخبره، ولا فرق، والجامع: أنه لم يثبت شرط قبول الرواية، وإذا تخلف الشرط، فلا بد أن يتخلف المشروط، وهو القبول كالطهارة في الصلاة إذا لم توجد الطهارة فإن الصلاة لا تصح، كذلك هنا. الدليل الثاني: أن هناك ثلاثة أشخاص: " عدل "، و " فاسق " و" مجهول الحال "، أما العدل فقد ثبت أنه مقبول الرواية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 أما الفاسق فقد ثبت أنه غير مقبول الرواية، أما مجهول الحال - وهو الذي لم نعرف عنه عدالة ولا فسقاً - فلم يثبت أنه عدل، ولم يثبت أنه في معنى العدل حتى يقاس على العدل، فإذا كان مجهول الحال ليس بعدل، ولا هو في معنى العدل، فقد انتفى فيه شرط من أهم شروط الراوي، وهو: " العدالة "، وإذا انتفى الشرط فقد انتفى المشروط - وهو قبول روايته - فثبت أنه غير مقبول الرواية. الدليل الثالث: قياس مجهول العدالة في الرواية على مجهول العدالة في الفتوى، بيان ذلك: أن المفتي إذا بلغ درجة الاجتهاد وشُك في عدالته، أي: لا يعلم هل هو عدل أم فاسق؛ فإن هذا الشك منع من قبول فتواه. فكذلك الراوي الذي شك السامع في حاله، فلم تثبت عنده عدالته ولا فسقه، يجب أن يكون هذا الشك مانعاً من قبول روايته وخبره، والجامع: أن كلا منهما يحكي حكماً شرعياً يعمل به، إلا أن المفتي يحكيه عن اجتهاد نفسه واستنتاجه من الأدلة المعتبرة، والراوي يحكي ذلك الحكم عن غيره بصورة خبر. الدليل الرابع: قياس مجهول العدالة في الرواية على مسألة الشهادة على الشهادة، بيان ذلك: أنه لا تقبل شهادة الفرع - وهو زيد مثلاً - إلا إذا عيَّن زيد شاهد الأصل - وهو عمرو مثلاً - وعرَّفه إن كان الحاكم يجهل عمرو. فهنا: يجب تعيين والتعريف بشاهد الأصل. فلو كان قول مجهول الحال مقبولاً فلأي غرض وجب تعيين شاهد الأصل والتعريف به؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 ولا جواب عن ذلك إلا أن يقال: لم يجب تعيين شاهد الأضل إلا للتأكد من عدالته، فإن كان عدلاً قبلت شهادته، وإن كان فاسقاَ أو مجهولاَ رُدَّت شهادته، وبناء عليه لا تقبل شهادة الفرع. فكذلك مجهول العدالة في الرواية لا يقبل خبره حتى نتأكد من عدالته قياساً على مجهول الحال في مسألة الشهادة على الشهادة. المذهب الثاني: أن خبر مجهول الحال في العدالة يقبل. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض الشافعية كابن فورك، وسليم الرازي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى أن أعرابياَ جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: رأيت الهلال قال: " أتشهد أن لا إله إلا اللَّه وأنَّ محمداً عبده ورسوله "؛ فقال: نعم، قال: " يا بلال، أذن في الناس فليصوموا غداً ". وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قبل شهادة هذا الأعرابي في رؤية هلال شهر رمضان، وهو لا يعرف عنه إلا كونه مسلماً، ولم يعلم منه عدالة ولا فسقاً، فإذا قبل شهادته فمن باب أَوْلى أن يقبل خبره؟ نظراً لأنه يحترز بالشهادة أكثر من الرواية. جوابه: يجاب عنه بأنكم لم تثبتوا دليلاً على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قبل شهادة ذلك الأعرابي، وهو لا يعلم عن عدالته شيئاً، فقولكم هذا مجرد دعوى لا دليل عليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 بل إن الظاهر أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل شهادته إلا لكونه عدلاً؟ لوجهين: الوجه الأول: أن الصحابة كلهم عدول بتعديل اللَّه لهم، حيث قال تعالى: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وبتعديل رسوله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قال: " إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "، ونحو ذلك من النصوص، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل. فلذلك لا يشك بعدالة أي صحابي. الوجه الثاني: أن زمن - صلى الله عليه وسلم - كانت الخيانات قليلة، والخبث والكذب نادراً، والقلوب صافية، فكان الظاهر من المسلمين العدالة، فلذلك قبل شهادته، فأما في زماننا فقد كثرت فيه الخيانات من المسلمين، فليس الظاهر من السلم كونه عدلاً. وبذلك ثبت أن - صلى الله عليه وسلم - لم يقبل خبر مجهول الحال في العدالة، وإنما قبله؛ لأن ظاهره العدالة. الدليل الثاني: اتفق الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على قبول روايات وأخبار العبيد، والنساء، والأعراب؛ مع أنه لا يعرف عنهم إلا الإسلام فقط، ولم ينقل أن أحداً من الصحابة أنكر قول أو خبر أيّ واحد من هؤلاء، فصار إجماعا سكوتيا. جوابه: يجاب عنهم بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ هذا على إطلاقه، فإن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يقبلون رواية العبيد، والنساء، والأعراب الذين كانوا يعرفونهم بالعدالة والضبط والثقة كزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، وزوجات أصحابه، وإمائهم، وعبيدهم، وبعض الأعراب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 أما الذين لا يعرفون عنهم شيئاً، فقد ثبت أنهم لا يقبلون منهم شيئاً من الأخبار، كما رد عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - خبر فاطمة بنت قيس في السكنى والنفقة، وكما رد عليّ - رضي الله عنه - خبر معقل بن سنان الأشجعي في المفوضة، وكان - أي: عليّ بن أبي طالب - إذا روى له أحد خبراً يستحلفه إلا أبا بكر، فإنه إذا حدَّثه لا يستحلفه لكونه عدلاً عنده. الجواب الثاني: سلمنا أن الصحابة كانوا يقبلون روايات العبيد، والنساء، والأعراب مطلقاً؛ وذلك لأن كل من عاش في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - ورآه، وهو مؤمن به فهو صحابي، والصحابة كلهم عدول، فثبت أنه قبلت أخبارهم لكونهم عدولاً، لا لكونهم مجهولين. الدليل الثالث: أن المسلم مجهول العدالة إذا أخبر بخبر يخص أحكاماً شرعية معينة: فإنه يقبل خبره كأن يخبر بأن هذا الماء طاهر، أو يخبر بأنه نجس، أو أخبر بأنه متطهر، أو أخبر بأن هذه الجارية التي عرضها للبيع ملكه، وأنها خالية عن زوج، فإنه يقبل خبره في تلك الحالات فيترتب على ذلك أحكام شرعية: فيجوز - بناء على القبول - في الحالة الأولى: صحة الوضوء من الماء الذي أخبر بأنه طاهر، ويجوز - في الحالة الثانية - اللجوء إلى التيمم وترك الماء الذي أخبر بأنه نجس، ويجوز - في الحالة الثالثة - كونه إماماً لغيره ويحل وطء الجارية التي أخبر أنها ملكه وأنها خالية عن زوج في الحالة الرابعة. فإذا قبلت منه هذه الأخبار السابقة في الأحكام الشرعية، فما المانع من قبول قوله فيما يرويه عن غيره؛ إذ لا فرق بينهما، والجامع: أن الكل يعمل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 جوابه: يجاب عنه: بأن قياس الرواية على ما ذكرتموه من الصور قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الرواية عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلى رتبة، وأشرف منصباً، وأعم خطراً من الأخبار فيما ذكرتموه من الصور، فلا يلزم من القبول مع الجهل بحال الراوي والمخبر فيما هو أدنى الرتبتين قبوله في أعلاهما. المسألة الرابعة عشرة: في تعديل الراوي وتجريحه: لقد بيَّنا فيما سبق أن العدالة من أهم شروط الراوي، وبيَّنا حقيقة العدالة، وفي هذه المسألة سنبين حقيقة التعديل والتجريح، والأمور التي يحصل بها التعديل، وهل يشترط العدد فيه، وحكم تعديل العبد والمرأة، وذكر سبب التعديل والجرح، ونحو ذلك مما يتعلق بالتعديل والتجريح فأقول: أولاً: بيان حقيقة التعديل والتجريح: التعديل هو: أن يوصف المسلم المكلَّف الضابط بملازمة التقوى والمروءة، فينسب إليه فعل الخير والعفة، والتدين بفعل الواجبات، وترك المحرمات، والشبهات، وكل شيء يجعلنا نحكم بأن هذا الشخص يتحرى الصدق، ويتجنب الكذب مما يؤدي بنا إلى قبول قوله شرعاً. أما التجريح فهو ضد التعديل، أي: أن ينسب إلى ذلك الشخص ما يرد لأجله قول من فعل معصية، أو ارتكاب ذنب، ونحو ذلك مما يخل بالعدالة مما يجعلنا نظن ظناً غالبا بأن هذا الشخص لا يتحرى الصدق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 ثانيا: الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي هي كما يلي: الأمر الأول: التعديل بالحكم بشهادته إذا علمنا أنه حكم بتلك الشهادة. فإذا حكم الحاكم العدل بشهادة الراوي فإنه يدل على أن هذا الراوي عدل عنده. وهذا الأمر هو أقوى الأمور التي يحصل بها تعديل الراوي، لذا قدمناه على التزكية والتعديل بالقول؛ لأن الحكم بشهادته استلزم القول وتضمنه، أما التعديل بالقول - وهو قوله: هو عدل رضي كما سيأتي - فهو قول مجرد لم يتضمن الحكم بشهادته، فيكون الحكم بشهادته قولاً وزيادة. الأمر الثاني: التعديل بالقول، وهو على مراتب: المرتبة الأولى: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع ذكر السبب. المرتبة الثانية: أن يقول المعدِّل: " عدل رضي " مع عدم ذكر السبب. وهذه المرتبة - أعني الثانية - تتفاوت في القوة، فأعلاها قوة: أن يكرر اللفظ فيقول: " هو عدل عدل "، أو " ثقة ثقة "، أو " ثقة عدل "، أو " ثقة ثبت "، أو " ثقة حُجَّة "، أو " ثقة حافظ "، أو " ثقة ضابط ". وأدناها: أن يذكر اللفظ بدون تكرار فيقول: " هو عدل "، أو "ثقة". المرتبة الثالثة: أن يقول المعدِّل: " هو صدوق "، أو " مأمون "، أو " خيار ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 المرتبة الرابعة: أن يقول المعدِّل: " محله الصدق "، أو " رووا عنه "، أو " صالح الحديث "، أو " حسن الحديث "، أو " أرجو أن ليس به بأس "، ونحو ذلك. الأمر الثالث: أن يعمل العدل الثقة بخبر ذلك الشخص، فهذا يعتبر تعديلاً لذلك الشخص بشرط: أن نعلم يقيناً أن العدل لم يعمل إلا بخبر ذلك الشخص. أي: أن نعلم أنه لا مستند للعمل إلا ذلك الخبر الذي رواه ذلك الشخص، فهذا يعتبر تعديلاً لذلك الشخص، لأن عمله بخبر ذلك الشخص يدل على ثبوت عدالة ذلك الشخص، فلو لم يدل على ثبوت عدالته عند العامل - وهو الثقة العدل - للزم من ذلك أن يكون ذلك العامل قد عمل بذلك الخبر بدون ثبوت عدالة المروي عنه عنده، ولو ثبت ذلك - وهو: أنه عمل بذلك الخبر بدون ثبوت عدالة المروي عنه عنده - لثبت فسق ذلك العامل؛ لأنه عمل بخبر من لم تثبت عدالته عنده، وفي ذلك تلبيس وتدليس على الأُمَّة " حيث إن عمله بذلك الخبر يوهم بعدالة المروي عنه، والحقيقة ليست كذلك. أما إذا انتفى الشرط بأن لم نعلم يقيناً - أن ذلك العدل الثقة لا مستند له في العمل إلا ذلك الخبر، فإن العمل بذلك الخبر لا يكون تعديلاً للمروي عنه؛ لاحتمال أن يكون قد عمل به احتياطاً، أو أنه عمل بدليل آخر وافق روايته، وإذا تطرق الاحتمال يبطل الجزم. هذا هو الحق. وبعض العلماء لا يرى ذلك الشرط، فقال: إن عمل العدل الثقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 بخبر شخص يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لأنه لم يعمل بذلك الخبر عند رواية الراوي له إلا لكون الراوي عنده عدلاً. وبعض العلماء ذهبوا إلى أن عمل العدل الثقة بخبر شخص لا يعتبر تعديلاً لذلك الشخص مطلقاً؛ لوجود الاحتمال. والحق هو ما قلناه؛ لما ذكرنا من التعليل، وفيه الجواب عما ذكره الآخرون. ثالثاً: رواية العدل عن غيره هل تعتبر تعديلاً له؟ لقد اختلف العلماء على مذاهب: المذهب الأول: أن رواية العدل عن غيره لا تعتبر تعديلاً لذلك الغير مطلقاً. ذهب إلى ذلك الماوردي، والروياني، وأبو الحسين القطان، وصحَّحه ابن الصلاح، والقاضي أبو بكر، وابن حزم، والخطيب البغدادي، وهو مذهب أكثر أهل الحديث وأكثر الشافعية والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو الصحيح عندي؛ لأمرين: أولهما: أن بعض الأئمة قد رووا عن العدل وغير العدل، وإذا كان الأمر كذلك فقد وجد الاحتمال - وهو احتمال أن يكون عدلاً أو غير عدل - وليس أحدهما أَوْلى من الآخر، فيجب التوقف فيه حتى يأتي دليل وقرينة تبين عدالة المروي عنه. ثانيهما: أنه قد يكون هذا الشخص عدلاً عند الراوي، وليس عدلاً عند غيره، فيجب التأكد. المذهب الثاني: أن رواية العدل عن غيره تعديل لذلك الغير مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، واختاره أبو يعلى في " العدة "، وتلميذه أبو الخطاب في " التمهيد "، وهو مذهب بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العدل يتحرج أن يُحدِّث عمن يعلم كذبه أو فسقه؛ لأن ذلك يفضي إلى الكذب على رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلما حدَّث عنه وروى عنه ظهر لنا أنه قد عرف عدالته. جوابه. يجاب عنه: بأن هذا المحدث عنه يجوز أن يكون عدلاً وعند غيره ليس بعدل، أو مجهول الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول الحال. المذهب الثالث: التفصيل: بيانه: إن عرفناً أدن من عادة هذا الراوي العدل الثقة أنه لا يروي إلا عن عدل: إما بصريح قوله بأنه لا يروي إلا عن عدل، وإما لمعرفتنا من مذهبه أنه لا يجوز الرواية إلا عن العدل: فإن روايته عن ذلك الشخص تعتبر تعديلاً لذلك الشخص. أما إذا عرفنا أن من عادة هذا العدل الثقة أنه يروي عن العدل، وعن غير العدل، فلا تعتبر روايته تعديلاً للشخص المروي عنه. ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية كالغزالي، والرازي، والآمدي، والهندي، وبعض المالكية كابن الحاجب، والمازري، وبعض الحنفية كابن الهمام، وابن عبد الشكور، وبعض الحنابلة كابن قدامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 جوابه: يجاب عن هذا بأن يقال: يجوز أن يكون هذا الشخص المروي عنه عدلاً عند هذا الراوي، وليس عدلاً عند غيره، أو هو مجهول الحال، وهو لا يجيز الرواية عن مجهول الحال. رابعاً: الاستفاضة هل تعتبر في التعديل؟ إذا اشتهر شخص بين طائفة من الناس بالعدالة والثقة، وشاع الثناء عليه بينهم فهل يعتبر ذلك تعديلاً له؟ الحق عندي: أن الاستفاضة لا تكون من الأمور التي يحصل بها التعديل؛ لأن الشخص قد شاع عنه أنه عدل وثقة، وما أشاع ذلك إلا أنصاره وأتباعه، ومن لهم فيه مصلحة، فإذا تحققنا من الأمر ودققنا فيه بأن خلاف ذلك، لذلك يقتصر في التعديل على الأمور الثلاثة التي يحصل التعديل بها وقد سبقت؛ لما فيها من الاحتياط. وذهب بعض العلماء: إلى أن الاستفاضة تعتبر في التعديل. نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وقال ابن الصلاح: هذا هو الصحيح من مذهب الشافعي. دليل هذا: أن العلم بذلك من الاستفاضة أقوى من تعديل واحد واثنين يجوز عليهما الكذب. جوابه: يجاب عنه: بأن تعديل الشخص الواحد الموصوف بالعدالة والثقة أقوى من تعديل طائفة كثيرة لم يوصفوا بالعدالة، أو قد يكونوا مجهولين الحال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 خامسا: ترك الحكم بشهادة الراوي هل يعتبر جرحا للراوي؟ لقد قلنا: إن الحاكم العدل إذا حكم بشهادة الراوي، فإنه يدل على أن الراوي عدل عنده، لكن إذا لم يحكم الحاكم بشهادة الراوي - ولم يعمل بها، فهل هذا يعتبر جرحاً للراوي فلا تقبل روايته؟ الحق: أن هذا لا يعتبر جرحاً في الراوي، فلا يلزم من عدم قبول شهادته عدم قبول روايته؛ لأن الحاكم قد يتوقف في الحكم بشهادة الراوي لأسباب غير الجرح، وذلك لأن الشهادة والرواية تشتركان في شروط الراوي الأربعة السابقة الذكر - وهي: الإسلام، والتكليف، والعدالة، والضبط -. وانفردت الشهادة في أمور - غير معتبرة في الرواية - منها: عدم القرابة، والحرية، والذكورية، والبصر، والعدد، والعداوة، والصداقة، فهذه تؤثر في الشهادة، ولا تؤثر في الرواية، لذلك تقبل رواية القريب بما ينفع قريبه، وتقبل رواية العبد والمرأة إلى غير ذلك - كما سبق بيانه -. فهنا يحتمل أن الحاكم العدل ترك الحكم بشهادته لسبب غير الفسق كعداوة، أو تهمة قرابة، أو صداقة، فيكون ترك شهادة الراوي لواحدٍ من تلك الاحتمالات، لا لانتفاء العدالة، إذن: لا يحكم عليه بالجرح والتفسيق مع وجود تلك الاحتمالات. سادساً: هل يشترط العدد في التعديل والتجريح؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يشترط العدد في التعديل والتجريح، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 يكفي في مسائل الجرح والتعديل واحد ليس من عادته أن يتساهل في التعديل أو يبالغ في الجرح، فلو عدَّل شخص عارف بأمور التعديل راوياً من الرواة فإنا نسمع منه ذلك، ونقبل رواية الراوي المعدَّل، وكذا لو جرح شخص عارف بأمور الجرح راوياً من الرواة، فإنا نسمع منه ذلك ونرد رواية ذلك الراوي المجرح. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الصحيح عندي؛ لأن العدالة شرط من شروط قبول الرواية، والشرط لا يزيد في إثباته على مشروطه، أي: أن شرط الشيء لا يزيد على أصله، ومعروف أن الأصل - وهو الرواية - يكفي فيه واحد، فتعديل الراوي وتجريحه تبع للرواية وفرع لها؛ لأنه إنما يراد لأجلها، فإذا كانت الرواية يكفي فيها راو واحد، فكذا ما هو تبع وفرع لها. فلو قلنا: تقبل رواية الواحد، ولا يكفي في تعديله وتجريحه إلا اثنان لزاد الفرع على أصله، وزيادة الفرع على الأصل مخالف لقواعد الشريعة. ففي هذا: قياس التعديل والجرح على الرواية، وهو واضح. المذهب الثاني: أن العدد مشترط في التعديل والتجريح. ذهب إلى ذلك ابن حمدان من الحنابلة، وأكثر فقهاء المدينة كما حكاه عنهم القاضي أبو بكر الباقلاني. دليل هذا المذهب: لقد استدل أصحاب هذا المذهب بقياس التعديل والتجريح على الشهادة؛ وذلك لأنه يشترط في تعديل الشاهد أو جرحه اثنان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 فكذلك الرواية يشترط في تعديل الراوي أو جرحه اثنان، فكان العدد معتبراً فيهما معاً. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لافتراق أصل الشهادة عن أصل الجرح والتعديل، بيان ذلك: أنه لا يقبل في تعديل الشاهد، أو جرحه إلا اثنان، ولا يكتفى بواحد، وذلك لأن الأصل - وهي الشهادة - يشترط فيه اثنان، فالفرع مثل ذلك يشترط فيه اثنان. أما الرواية فتختلف عن ذلك فيقبل في تعديل الراوي أو جرحه واحد، وذلك لأن الأصل - وهي الرواية - لا يشترط العدد فيه فيكفي فيه واحد، فالفرع - وهو جرح الراوي أو تعديله - مثل ذلك لا يشترط. أي: كما أن العدد لا يشترط في قبول الخبر، فلا يشترط في جرح وتعديل راوي الخبر. المذهب الثالث: الفرق بين تعديل الراوي فيقبل من واحد، وبين تجريحه فلا يقبل إلا من اثنين. نسب هذا إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، واختاره بعض الحنفية، ومنهم الكمال بن الهمام. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا التفريق بينهما لا دليل عليه صحيح، وما لا دليل عليه فلا يعوَّل عليه، ثم إنه لا فرق بينهما فيما يؤول إليه الأمر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 سابعاً: حكم تعديل العبد للراوي: الحق: أن تعديل العبد للراوي مقبول، وبناء على ذلك تقبل رواية من عدَّله ذلك العبد؛ قياساً على روايته للخبر، بيانه: أنه كما أن رواية العبد للخبر مقبولة، فكذلك تعديله لراوي الخبر مقبول، ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق. ثامناً: حكم تعديل المرأة للراوي: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن تعديل المرأة للراوي مقبول. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سأل بريرة - رضي اللَّه عنها - عن حال عائشة أم المؤمنين - في قصة الإفك - حيث قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لبريرة: " هل علمت على عائشة شيئاً يريبك؛ أو رأيت شيئاً تكرهينه؟ " قالت: أحمي سمعي وبصري، عائشة أطيب من طيب الذهب. وجه الدلالة: أنه لو لم يكن تعديل المرأة مقبولاً لما سأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - بريرة عن عائشة، وهذه هي فائدة سؤاله، ولو لم نقل ذلك لكان سؤاله لا فائدة فيه ويكون لغواً، وهذا لا يمكن. الدليل الثاني: القياس على روايتها للخبر، بيانه: أنه كما أن رواية المرأة للخبر مقبولة، فكذلك تعديلها لراوي الخبر مقبول، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق. المذهب الثاني: أن تعديل المرأة للراوي لا يقبل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 حكي هذا المذهب عن كثير من فقهاء المدينة. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك: أنه كما أن تعديل المرأة وتزكيتها للشاهد لا يقبل، فكذلك تعديلها للراوي لا يقبل ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما خبر يجب فيه الصدق. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، بيانه: أنه لا يقبل تعديل المرأة للشاهد، وذلك لأن الأصل - وهي الشهادة - لا تقبل فيها المرأة، فالفرع - وهو تعديل الشاهد - مثله. أما الرواية فبخلاف ذلك: فيقبل تعديل المرأة للراوي، وذلك لأن الأصل - وهي الرواية - يقبل فيه رواية المرأة، والفرع - وهو تعديل الراوي - مثله. تاسعاً: الجارح والمعدِّل هل يلزمهما ذكر سبب التعديل والجرح؟ لقد اختلف العلماء في هذا على مذاهب: المذهب الأول: يلزم الجارح والعدل ذكر سبب التعديل والجرح. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. وهذا هو الحق: فيجب بيان سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل لا يكون محصلاً للثقة بالعدالة؛ لأن العادة قد جرت بتسارع الناس إلى ذلك بناء على الظاهر، وكم من شخص قد خدعنا بمظهره، حيث يظهر الصلاح والتقى، فإذا دققنا في شأنه وحالته وجدناه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 خلاف ظاهره، فمثلاً: بعض الناس تجده يحافظ على الصلوات وعلى مظهره الإسلامي، ولكنه يتساهل في كسب ماله، فلا يأخذه من طرقه التي أحلها اللَّه تعالى، وبعضهم يظهر الصلاح لطائفة من العلماء " نظراً لطمعه في منصب أو جاه، بينما يحتقر آخرين، كذلك تجد أناساً يتساهلون في تعديل شخص، بينما يتشدَّدون في تعديل شخص آخر، وهكذا والأمثلة على ذلك كثيرة، فيجب أن يبين المعدِّل سبب تعديله للشحخص، فإن كانت صحيحة ويعدل بها: وافقناه، وإن كانت غير صحيحة: بيَّنا وجه الخطأ فيها " قياساً على الاستدلال على المذاهب، فإن المجتهد تجده يأخذ بمذهب معين، ثم يقيم أدلة على ذلك، وتجد المجتهد الآخر يخالفه ويبين أدلته على ذلك، فلو ذكر كل واحد منهما مذهبه بدون ذكر أدلة لما قبل. وقلنا: جب بيان سبب الجرح " لاختلاف الناس فيما يجرح به، فلعل الجارح اعتقد شيئاً جارحاً، وغيره لا يراه جارحاً: فتجد شحخصاً يرد الخبر بسبب تدليس الراوي، وتجد آخر يرد الخبر بسبب فسق اعتقاد الراوي، وتجد ثالثاً يرد الخبر بسبب تعبير الراوي بالعنعنة وتجد رابعاً يرد الخبر بسبب إسباله لثوبه وإزاره، وتجد خامساً يرد الخبر بسبب كذب الراوي مرة واحدة في العمر، وكل ما سبق فيه نظر هل يجرح به ويفسق أم لا؟ وقد ثبت عن بعض العلماء أنه ردَّ تجريح بعض العلماء الآخرين، وإليك بعض الأمثلة. 1 - ذهب الخطيب في الكفاية: أن الإمام الشافعي إنما أوجب الكشف عن ذلك " لأنه بلغه أن إنساناً جرح رجلاً فسئل عما جرحه به، فقال: رأيته يبول قائماً، فقيل له: ما في ذلك ما يوجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 جرحه؛ فقال: لأنه يقع الرشش عليه، وعلى ثوبه، ثم يصلي، فقيل له: رأيته يصلي كذلك؛، فقال: لا، فهذا جرح بالتأويل، والعالم لا يجرح أحداً بهذا. 2 - أنه قيل لشعبة: لِمَ تركت حديث فلان؟ قال: رأيته يركض على برذونه فتركته، ومن العلوم: أن هذا ليس بجرح موجب لتركه. 3 - أن شعبة أتى النهال بن عمرو فسمع صوت الطنبور من بيته فتركه، فقال له تلميذه وهب بن جرير: فهلا سألت؛ عسى أن لا يعلم هو. قال السخاوي - في شرح الألفية -: قال شيخنا - يقصد ابن حجر -: " وهذا اعتراض صحيح، فإن هذا لا يوجب قدحاً في النهال ". 4 - أن الحكم بن عتبة سئل مرة: لِمَ لم ترو عن راذان؛ فقال: كان كثير الكلام. وهناك أمثلة كثيرة لكون بعض العلماء يجرحون بعض الأشخاص، فإذا سئلوا عن السبب اتضح أن السبب الذي جرح به لا يصلح لتجريح الراوي. فبان: أن الحق أنه لا بد من ذكر سبب التعديل والجرح حتى يسبر ويختبر، فإن كان صالحاً قبلناه، وإن كان غير ذلك رددناه. المذهب الثاني: أنه لا يلزم الجارح والمعدل ذكر سبب الجرح والتعديل، فيقبل قولهما بدون ذكر السبب. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم القاضي أبو بكر. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنا نكتفي ببصيرة المعدل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 والجارح، فهما عارفان بالأمور التي يُعدَّل بها، وبالأمور التي يجرح جوابه: يجاب عنه: بما قلناه فيما سبق من أن بعض المعدلين قد ينخدعون في المظاهر، وقد يكون مظهر الشخص يختلف عن باطنه، وهذا قد كثر في الأزمنة المتأخرة. ولا يكتفي ببصيرة الجارح؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به، فقد يعتقد الجارح شيئاً جارحاً، وهو في الحقيقة ليس كذلك، وقد بيَّناه فيما سبق. المذهب الثالث: أنه لا يلزم الجارح ذكر سبب الجرح، فيقبل قوله بدون ذكر السبب؛ لأن مطلق الجرح مبطل للثقة. أما المعدل فيلزمه ذكر سبب التعديل؛ لأن مطلق التعديل لا تحصل به الثقة، نظراً لتسارع الناس إلى الظاهر - كما سبق بيانه -. جوابه: يجاب عنه بأنه لا فرق بين التعديل والجرح، بل إن ذكر سبب الجرح أَولى؛ لاختلاف الناس فيما يجرح به أكثر من اختلافهم فيما يعدل به. المذهب الرابع: - عكس الثالث - وهو: أنه لا يلزم المعدل ذكر سبب التعديل، فيقبل قوله بدون ذكر السبب؛ لكثرة أسباب التعديل فيشق ذكرها. أما الجارح فيلزمه ذكر سبب الجرح لنرى فيه، وذلك لاختلاف الناس في سبب الجرح - كما سبق -. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 جوابه: يجاب عنه: بأنكم فرقتم بين متماثلين، ثم إنا لا نجد تلك الشقة التي تكون في ذكر أسباب التعديل. المذهب الخامس: أن ذكر السبب وعدم ذكره يختلف باختلاف العدلين والمزكين والمجروحين، فإن كان عالما بأسباب الجرح والتعديل اكتفينا بإطلاقه فيهما، وإن لم يكن عارفاً فلا بد من ذكر سبب التعديل والجرح لنرى فيهما. ذهب إلى ذلك كثير من الشافعية. جوابه: يجاب عنه: بأن علمنا بأن هذا الشخص عالم بأسباب الجرح والتعديل، أو غير عالم لا يمكن؛ لأن بعض الناس قد يذَعي معرفته بذلك، فإذا دققنا فيه وجدناه غير عارف، أو أنه يجعل أسبابا تعدل وتجرح ويدعي بأنها هي الأسباب الحقيقية، بينما الأمر غير ذلك فلا ضابط لذلك. لذلك اضطررنا إلى الأخذ بالمذهب الأول وهو: أن يبين العدل والمجرح سبب الجرح والتعديل مطلقاً، سواء كان عارفا لأسباب التعديل والجرح أو ليس كذلك؛ لأمرين: أولهما: أن أسباب التعديل والجرح لا ضابط لها. ثانيهما: الاحتياط للشريعة، والابتعاد عن ظلم الآخرين. عاشراً: الحكم إذا ذكر اسم شخص متردد بين مجروح ومعدَّل: إذا ذكر اسم راوي الحديث، وهذا الاسم معدَّل، ولكنه اشتبه باسم رجل آخر مجروح، فإن خبره لا يقبل؛ نظراً للاشتباه بالاسم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 الثاني؛ وذلك لاحتمال أن يكون الراوي ذلك المجروح، فلا تقبل روايته، بل يتوقف حتى يعلم هل هو المجروح أو غيره، ويفعل المدلسون ذلك أحياناً: يذكرودن الراوي الضعيف باسم يشاركه فيه راو تقة. حادي عشر: الحكم إذا كان للراوي اسمان، أو اختلف في اسمه: إذا كان للراوي اسمان، وهو بأحدهما أشهر: فإنه تجوز الرواية عنه بواسطة الاسم المشهور؛ لأنه عُرِف به. وإذا اختلف في اسم الراوي، وله كنية أو لقب يعرف به، فلا يرد بذلك خبره ولا روايته، لأنه عرف بتلك الكنية واللقب، وخرج عن الجهالة. ثاني عشر: إذا تعارض الجرح والتعديل فأيهما المقدم: هذا له ثلاث حالات: الحالة الأولى: إذا جرح عمرو الراوي، وعدَّله زيد، ولم يذكر كل واحد منهما سبب ذلك: فإنه يقدم قول الجارح، ويرد خبر ذلك الراوي؛ لأن الجرح تضمن زيادة لم يعرفها المعدل، ولم ينف المعدل هذا الجرح، لامتناع الشهادة على النفي، ولأن الجارح مصدق للمعدل فيما يخبر به عن ظاهر حاله، إلا أنه - أي الجارح - يخبر عن أمر باطن خفي عن المعدل. وهذا على رأي من يجوز قبول قول الجارح والمعدل بدون ذكر السبب. وقد أجبنا عنه فيما سبق. الحالة الثانية: إذا جرح عمرو الراوي، وعدله زيد، وذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 الجارح سبب الجرح بأن يقول: " رأيته وقد قتل فلاناً " فلا يخلو من أمرين: الأول: إما أن لا يتعرض المعدل لنفي ذلك. الثاني: أن يتعرض المعدل لنفيه. فإن كان الأول - وهو: عدم تعرض المعدل لنفي ذلك - فإنه يقدم قول الجارح؛ لأن قوله تضمن زيادة لم يعرفها المعدل ولم ينفها - كما سبق -. وإن كان الثاني - وهو: تعرض المعدل لنفي ذلك - بأن قال المعدل: " رأيت فلاناً المدعى قتله حياً بعد ذلك "، فهاهنا يتعارضان ويصح ترجيح أحدهما على الآخر بشدة التورع، والتحفظ، وزيادة البصيرة، ونحو ذلك. الحالة الثالثة: إذا ورد التجريح والتعديل من واحد، أي: أن زيداً جرح عمراً وعدَّله، ففيه تفصيل: فإن علمنا التأخر من المتقدم من الجرح والتعديل، فإنا نعمل بالمتأخر، لكونه نسخ المتقدم. وإن لم نعلم المتأخر من المتقدم، فإنا نتوقف حتى يثبت جرحه أو تعديله. ثالث عشر: الحكم إذا زاد عدد المعدلين على الجارحين: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يقدم الجرح على التعديل وإن كثر عدد المعدلين. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 وهو الحق، لأن سبب تقدم الجرح هو اطلاع الجارح على زيادة في العلم عن الراوي قد خفيت على المعدل؛ لأن المعدلين وإن كثروا ليسوا يخبرون عن عدم ما أخبر به الجارحون، ولو أخبروا بذلك لكانت شهادة باطلة على نفي، فلا ينتفي ذلك العلم الذي أخبر به الجارحون بسبب كثرة عدد المعدلين، فلا يلتفت إلى الكثرة مع وجود زيادة في الجرح. المذهب الثاني: أنه يقدم التعديل. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن كثرة المعدلين تقوي حالهم، وقلة الجارحين تضعف قولهم، فالكثرة تقدم على القلة؛ حيث إن الكثرة تقوي الظن، والظن إذا قوي وجب العمل به. جوابه: يجاب عنه: بأن المعدلين مهما كثروا، فإنه قد خفيت عليهم الزيادة في العلم التي أتى بها المجرح، وهم - أي: العدلون - لم ينفوا تلك الزيادة التي ذكرها المجرح، فلا يلتفت إلى الكثرة مع وجود زيادة في الجرح كما قلنا. *** المسألة الخامسة عشرة: حكم رواية المحدود بالقذف: إذا قذف مكلف آخر بالزنا وحدَّه الإمام حدَّ القذف فهل روايته مقبولة؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 المذهب الأول: أن روايته مقبولة، أي: نقبل خبره بشرط: أن يكون قد أخرج القول بالقذف مخرج الشهادة، أما إن أخرج القول مخرج القذف فلا تقبل إلا إذا ثبتت توبته. وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: الوقوع، فقد ورد أن أبا بكرة - نفيع بن الحارث ابن كلدة الثقفي - قد شهد - هو واثنان معه - على المغيرة بن شعبة بالزنا، ولم تتم الشهادة فجلده عمر ثمانين جلدة حد القذف، ومع ذلك فقد قبل أهل الحديث ما رواه من الأحاديث، وقد ورد في كتاب " الخلاصة " أن لأبي بكرة مائة واثنين وثلاثين حديثاً، اتفق البخاري ومسلم على ثمانية، وانفرد البخاري بخمسة، ومسلم بأخرى، روى عنه أولاده عبد الرحمن، وعبد العزيز، وعبيد اللَّه، ومسلم، وجماعة. الدليل الثاني. أن الشاهد العدل يغلب على الظن صدقه، ولكن لم يكمل العدد في الشهادة على الزنا؛ ونقصان عدد الشهادة لم يكن من جهته ولا من فعله، وبناء على نقص الشهادة أقام الإمام الحد على هؤلاء الذين لم تكتمل شهادتهم، وذلك لا يقدح بعدالة المحدود بالقذف؛ لأنه - كما قلنا - لا دخل له فيما حصل من نقصان العدد في الشهادة، فلا مانع من قبوله روايته. المذهب الثاني: أن المحدود في القذف تقبل روايته مطلقاً، سواء كان قوله بلفظ الشهادة أو لا. ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية. دليل هذا المذهب: استدل هؤلاء على ذلك: بأن هذا المحدود قد توفرت فيه شروط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 الراوي، وهي: الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فما المانع من قبول روايته؟ يجاب عنه: بأنا قبلنا خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ الشهادة لما ذكرناه من الدليلين السابقين، ولما ذكرتم من اجتماع شروط الراوي فيه. ولم نقبل خبر المحدود بالقذف إذا كان بلفظ القذف؛ لأنه قد فسق بهذا، فإن تاب توبة نصوحاً قبلنا خبره؛ لأنه يلحق بالأول ولا فرق. المذهب الثالث: أن المحدود في القذف لا تقبل روايته مطلقاً، أي: سواء كان قوله بلفظ الشهادة أو لا. نسب هذا إلى أبي حنيفة، ونفى هذه النسبة بعض الحنفية كابن الهمام في " التحرير ". دليل هذا المذهب: استدل لهذا المذهب بأن القاذف بالزنا الذي لم تتم شهادته قد اتهم بالكذب، ولذلك حدَّه الإمام حدَّ القذف، ويبقى هذا الاتهام بعد الحد، ومع بقاء ذلك لايقبل منه شيء. جوابه: يجاب عنه بأن ترجيح صدقه ممكن، نظراً لتوفر شروط الراوي الأربعة فيه، أما عدم إكمال العدد في الشهادة على الزنا فلم يكن من فعله، ولذلك أقام الإمام عليه حد القذف، وهذا لا يقدح في عدالته فلا مانع من قبول روايته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 746 المسألة السادسة عشرة: في كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر: الراوي للخبر إما أن يكون صحابياً، أو غير صحابي. فالصحابي إذا نقل خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه ينقله بألفاظ وطرق وكيفيات، وكذلك غير الصحابي، لذلك قسمت الكلام عن هذه المسألة إلى قسمين: القسم الأول: في كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر. القسم الثاني: في كيفية ألفاظ غير الصحابي في نقل الخبر. وإليك بيان ذلك فأقول: القسم الأول: كيفية ألفاظ الصحابي في نقل الخبر وتتبين فيما يلي: أولاً: الحكم إذا قال الصحابي: " سمعت النبي يقول، أو أخبرني، أو حدَّثني، أو شافهني ": إذا قال الصحابي: " سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا "، أو قال: " أخبرني رسول اللَّه بكذا "، أو قال: " حدَّثني بكذا "، أو قال: " شافهني بكذا "، فإن هذا خبر عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يجب قبوله والعمل به بإجماع العلماء؛ لصراحته في أنه لا يوجد واسطة بين الصحابي وبين رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتطرق إلى هذه الرواية أيُّ احتمال. ثانياً: إذا قال الصحابي: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو: " أخبر رسول اللَّه "، أو: " حدَّث رسول اللَّه "، فما الحكم؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنا نحكم بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون حُجَّة كقوله: " سمعت - صلى الله عليه وسلم - يقول كذا ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي: الدليل الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه إذا قال: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإنه لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ إذ لا يمكن أن يجزم بذلك إذاً إلا عن سماع؛ حيث إن الظاهر من حال الصحابي العدل العارف بأوضاع اللغة العربية وطرق استعمالاتها المتأكد من أن هذه الشريعة سيعمل بها إلى قيام الساعة: أنه لا يأتي بلفظ يوهم معنى ويريد غيره. بخلاف غير الصحابي إذا قال ذلك، فإن قرينة حاله تدل على أنه لم يسمع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: اتفاق السلف على أن الخبر إذا نقل على هذه الصفة - وهي قول الصحابي: " قال رسول اللَّه كذا " - فإنهم لم يفهموا من ذلك إلا السماع من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، فلذلك اتفقوا على قبوله. المذهب الثاني: أنه لا يحكم بأنه إذا قال: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كذا " أنه قد سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة بل هو متردد بين أن يكون سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين أن يكون قد سمعه من غيره. ذهبِ إلى ذلك أبو الخطاب الحنبلي، ونسبه الآمدي، وأبو يعلى إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وهذه النسبة إلى الباقلاني قد أنكرها الزركشي في البحر المحيط، وأكد أن القاضي الباقلاني مع الجمهور. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن صيغة: " قال رسول اللَّه " أعم من صيغة: " سمعت رسول الله "، وذلك لأن قوله: " قال رسول اللَّه " يعم ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 مباشرة، ويعم ما حكاه له صحابي آخر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أما قوله: " سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - "، فهو خاص بالأصل وهو: ما سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة. ويدل على عموم الصيغة الأولى: أنه وقع من بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أنهم يعبرون بها - أي: بقولهم: " قال رسول الله " - عما سمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة وهذا كثير، ويعبرون بهذه الصيغة عما سمعوه من صحابة آخرين، فلما استكشفوا وروجعوا بيَّنوا وقالوا: لم نسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل حدَّثنا به فلان عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من ذلك ما نقل عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه كان يقول: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لا ربا إلا في النسيئة "، فلما سئل عنه قال: حدثني أسامة بن زيد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " الربا في النسيئة "، وكذلك أبو هريرة كان يقول: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما بينت عائشة - رضي الله عنها - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من غير حلم ثم يصوم، قال أبو هريرة: لم أسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما سمعته من الفضل بن العباس. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: أولها: أن نقل الصحابي الحديث عن غيره من الصحابة ثبت في وقائع قليلة، والوقائع القليلة لا يثبت بها قاعدة أصولية، بخلاف نقل الصحابي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. ثانيها: أنه لو فرض أن الصحابي قال: " قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - " وهو لم يسمعه مباشرة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل سمعه من بعض الصحابة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 فإن هذا يصبح مرسل صحابي، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، فيكون لا فرق بينه وبين قوله: " سمعت رسول اللَّه يقول ". ثالثها: أنه على فرض أن الصحابي قد سمعه من غير النبي - صلى الله عليه وسلم -، فحكمه حكم ما لو سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الصحابة كلهم عدول كما سبق بيانه. ثالثاً: إذا قال الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بكذا "، أو "نهى عن كذا "، أو " حرم كذا "، أو " أباح كذا "، أو " فرض كذا "، أو " يأمر بكذا "، أو " ينهي عن كذا "، فما الحكم؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه حُجَّة، وأن الحكم يثبت بذلك، ويحكم به بالأمر والنهي. هذا ما ذهب إليه الجمهور. وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: أن بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كان ينقل الحديث بمثل تلك الألفاظ - نهى رسول اللَّه أو أمر ... إلخ - وكان الصحابة الآخرون يقبلون هذا، ويعولون عليه، ويحتجون به من غير نكير، ولا يمكن لمن اختارهم اللَّه لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن يعولوا ويعتمدوا على شيء لا تقوم به الحُجَّة، فكان ذلك إجماعا سكوتيا على ذلك. من ذلك ما قاله بعض الصحابة: إن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أمر بالمضمضة والاستنشاق، وأمر ألا توصل صلاة بأخرى، وفرض زكاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 الفطر صاعاً من تمر..، وأمر أن تؤدى قبل خروج الناس إلى الصلاة، وأمر برجم ماعز، والغامدية، ونهى عن المخابرة، ونهى عن الوصال، ونهى عن صوم يومين: يوم الفطر، ويوم الأضحى، ونهى عن الضرر والضرار، ونهى عن قراءة القرآن في الركوع والسجود، والأمثلة على ذلك كثير. الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابي وهو المشهود له بالعدالة، ومعرفته بأوضاع اللغة وطرق استعمالاتها: أن لا يطلق ذلك اللفظ - وهو أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى، أو فرض ... إلخ - إلا إذا كان متيقناً وعالماً تمام العلم أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر بذلك أو نهى حقيقة، بحيث سمعه يقول: " أمرتكم بكذا "، أو يقول: "افعلوا كذا "، أو يقول: " نهيتكم عن كذا "، أو يقول: " لا تفعلوا كذا "، وينظم إلى ذلك من القرائن ما يدل كونه أمراً، أو يدرك ضرورة قصده الأمر أو النهي، أو نحو ذلك مما ذكر. وذلك نفياً للتدليس والتلبيس عن الصحابي بنقل ما يوجب على سامعه اعتقاد الأمر والنهي فيما لا يعتقده أمراً أو نهياً. المذهب الثاني: أن الصحابي إذا قال: " أمر رسول اللَّه أو نهى ... إلخ "، فإن هذا لا يثبت به الحكم، ولا يحكم به بالأمر والنهي، وأنه لا حُجَّة فيه ما لم ينقل لفظ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وحكاه الجزري من الظاهرية عن داود الظاهري دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الحُجَّة بلفظ الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه، أو نهى ... إلخ " الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 لا يدل على وجود الأمر والنهي حقيقة، وذلك لأنه يتطرق إليه احتمالان: الاحتمال الأول: أن هذا التعبير ليس نصا صريحاً في سماعه من الرسول - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل يحتمل أن يقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو نهى " اعتماداً على ما بلغه تواتراً، أو بلغه بلسان يثق بقوله. الاحتمال الثاني: أن العلماء اختلفوا في صيغ ومعاني الأوامر، فمنهم من قال: الأمر المطلق للوجوب، ومنهم من قال: هو للندب، ومنهم من قال: للإباحة. وكذلك اختلفوا في صيغ ومعاني النواهي، فمنهم من قال: النهي المطلق يقتضي التحريم، ومنهم من قال: هو للكراهة. فإذا كان كذلك فربما ظن الصحابي الراوي واعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي نهياً، أي: سمع الصحابي الراوي صيغة اعتقد أنها أمر أو نهي، وليست كذلك حقيقة مما يسبب اللبس في أوامر الشريعة ونواهيها. ونظراً لهذين الاحتمالين قلنا: إنه لا يحكم به بالأمر والنهي. جوابه: يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول مسلَّم وقد يقع، ولكنه لا يمنع من قبول قول الصحابي: " أمر رسول اللَّه أو نهى " فهو حُجَّة، وكأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ لأنه مرسل صحابي، ومرسل الصحابي مقبول بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، فلا فرق بينه وبين قوله: " قال رسول اللَّه "، أو " سمعت رسول اللَّه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 أما الاحتمال الثاني - وهو أنه قد يعتقد ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي نهياً - فإنه يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الغلط والوهم من الصحابة بعيد جداً، نظراً لمعرفتهم الدقيقة باللغة العربية وطرق استعمالاتها وأساليبها، ومعرفتهم يعموم وشمول هذه الشريعة لهم ولغيرهم ممن سيأتي بعدهم إلى قيام الساعة - فلا يمكن - والأمر كذلك - أن يتساهلوا بهذا لعلمهم بأن فيه تدليساً وتلبيساً على الأُمة، وهذا مستحيل على الصحابة المشهود لهم بالعدالة من قِبَل اللَّه ورسوله. لذلك يجب علينا حمل ظاهر أقوالهم وأفعالهم على أنها سليمة وصحيحة وموافقة لما أمر به رسول اللَّه ونهى عنه - مهما أمكن -. الجواب الثاني: وقولكم - في الاحتمال الثاني - يمكن أن يصح لو كان الاختلاف في صيغ الأوامر والنواهي مبنيا على اختلاف الصحابة فيها. ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فلم يرد عن الصحابة - رضوان الله عليهم - أنهم اختلفوا في تلك الصيغ واقتضائها، إذ لو كان هناك اختلاف في ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا اختلافهم في بعض الأحكام الفقهية كاختلاف ابن عباس مع زيد بن ثابت في مسألة الجد والأخوة، واختلاف عائشة مع ابن عمر في نقض شعر المرأة في الاغتسال من الجنابة، واختلاف عليّ وعثمان في الجمع بين الأختين الأمتين، واختلاف عليّ مع عمر في بيع أمهات الأولاد، واختلاف علي مع ابن مسعود في المفوضة، واختلافهم في العول، وغير ذلك من المسائل الفقهية التي نقلت إلينا. ثم اعلم أنه ليس من ضرورة اختلاف العلماء في زمن من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 الأزمان - بعد الصحابة - في مسألة معينة أن يكون هذا الاختلاف مبنيا على اختلاف الصحابة بدليل: أن علماء السلف والخلف اختلفوا في كثير من المسانل الأصولية والفقهية في حين أنه لم يرد عن الصحابة أنهم اختلفوا في أي منها. المذهب الثالث: التفصيل، وبيانه: إن كان الصحابي القائل لذلك من أهل المعرفة باللغة وطرق استعمالاتها وأساليبها، فإن هذا يجعل قوله: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أو نهى رسول اللَّه " مثل نقله لفظة الأمر حقيقة، وذلك نظراً لتلك المعرفة. أما إن كان الصحابي غير ذلك، فإنه يجوز عليه احتمال أنه يجعل ما ليس بأمر أمراً وما ليس بنهي نهياً، وذلك لجهله باللغة العربية وطرق استعمالاتها. حكى هذا المذهب كل من القاضي أبي بكر الباقلاني، وإمام الحرمين. جوابه: يجاب عنه: بأن العدل الثقة إذا نقل شيئاً مطلقاً، فإنا نحمله على أرجح محامله، إلا إن وجد ما يعارض ذلك، فلا يتعرض لتقرير وجوه البطلان فيه، يؤيد ذلك: أن الشخص إذا شهد على بيع أو إجارة، أو غيرهما من العقود فإنا لا نكلفه أن ينعت لنا وجه الصحة فيما يشهد عليه، بل يكتفي بإطلاقه القول، وكذا هنا. والصحابي الذي ليس من أهل المعرفة باللغة - إن وجد - لا يمكن أن يعبر بمثل هذا ويقول: " أمر رسول اللَّه أو نهى " إلا إذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 متأكداً من أن ذلك أمر حقيقة، وإن شك في ذلك فإنه يسكت نظراً لعدالته. المذهب الرابع: التوقف، وهو الذي يفهم من كلام الإمام الرازي في " المحصول "، وهو الذي حكاه إمام الحرمين عن بعض الظاهرية في " التلخيص "، وذلك لتعارض الأدلة. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلتنا على أنه يحكم به. رابعاً: قول الصحابي: " أُمِرْنا بكذا "، أو " نُهينا عن كذا "، أو " أوجب علينا كذا "، أو " حُرِّم علينا كذا "، أو " أُبيح لنا كذا" ونحو ذلك من الفعل المبني للمجهول، ما حكمه؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن الصحابي إذا قال ذلك، فإنه يفيد أن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحمل على غير ذلك. وهذا هو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح، لدليلين: الدليل الأول: أن مراد الصحابي وغرضه من نقله لهذا الخبر بهذه الصيغة - وهي أمرنا أو نهينا - هو الاحتجاج به لإثبات الأحكام الشرعية، فيجب حمل الأمر على أنه صدر ممن يحتج بقوله وهو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحمل على أنه صدر ممن لا يحتج بقوله من الأئمة والولاة والعلماء. الدليل الثاني: أن الواقع يشهد لذلك، حيث إنه من المعروف أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 من يتبع رئيساً أو أميراً إذا قال: " أمرنا بكذا "، أو " نهينا عن كذا"، وأطلق ذلك فإنه يفهم منه أن الآمر هو ذلك الرئيس أو الأمير، فكذلك الصحابة بالنسبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - مثل ذلك ولا فرق، فإنه إذا قال الصحابي: " أمرنا "، أو " نهينا "، فإنه لا يفهم من ذلك إلا أن الآمر والناهي هو النبي - صلى الله عليه وسلم -. المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " أمرنا. "، أو " نهينا " - وما ذكر هنا - لا يفيد هذا أن الآمر هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا يضاف إليه، وبالتالي لا يكون حُجَّة. ذهب إلى ذلك أبو الحسين الكرخي، والسرخسي، والجصاص، وأبو بكر الصيرفي، والإسماعيلي، وإمام الحرمين، وأكثر مالكية بغداد. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن قول الصحابي ذلك ليس بنص صريح في النقل بل يتطرق إليه ثلاثة احتمالات هي كما يلي: الاحتمال الأول: أن قوله: " أمرنا أو نهينا " لا يفيد أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة - فقط -، بل قد يحتمل أنه قال ذلك اعتماداً على ما بلغه بالتواتر، أو بلغه على لسان شخص يثق به. الاحتمال الثاني: أن الصحابي ربما توهم ما ليس بأمر أمراً، وما ليس بنهي نهياً. الاحتمال الثالث: أنه يحتمل أن يكون الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من الأئمة والعلماء بدليل قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 ، فهنا أمر اللَّه عَزَّ وجَلَّ باتباع أمره، وأمر رسوله، وأمر العلماء، والخلفاء، والسلاطين المحكمين لشرع اللَّه. وعلى هذا يكون ذلك متردداً بين كونه مضافاً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبين كونه مضافاً إلى الأئمة والعلماء، وإذا احتمل هذا وذاك فلا يكون مضافا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل ولا يكون حُجَّة. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن الاحتمال الأول، والاحتمال الثاني باطلان؛ لما سبق من الدليل والتعليل. أما الاحتمال الثالث - وهو قولهم: يحتمل أن الآمر غير النبي - صلى الله عليه وسلم - من العلماء والولاة - فيجاب عنه بأن الصحابي إذا قال: " أمرنا أو نهينا "، وأطلق، فإنا لا نعقل من هذا الإطلاق سوى أن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون غيره؛ لأن الآمر والناهي حقيقة هو اللَّه تعالى، ويبلغنا بذلك رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا قال الصحابي: " أمرنا أو نهينا " انصرف إلى الحقيقة، ولا يقال: إن الآمر والناهي غيره إلا بقرينة، كما لو قال مثلاً: " هذا الفعل طاعة "، فإنه لا يعقل أحد إلا طاعة اللَّه تعالى وطاعة رسوله. أما الآية، وهي قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) ، فإنه يحتمل أن يكون المراد بها: أطيعوا أولي الأمر فيما نقلوه من أمري، وما أخبروا به عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما قال أبو يعلى الحنبلي. المذهب الثالث: التفصيل، بيانه: إن كان الصحابي القائل: " أمرنا ونهينا " من أكابر الصحابة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 وعلمائهم كالخلفاء الأربعة، وابن عباس، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، ومعاذ بن جبل، وابن عمر، وأبي هريرة، وأنس، وغيرهم ممن يكثر مجالسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يغلب على الظن أن الآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن كثرة ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - تجعلنا نكاد نجزم بأنه لا آمر ولا ناهي إلا هو - صلى الله عليه وسلم -، واحتمال أن الآمر والناهي غيره احتمال بعيد جداً. أما إذا كان الصحابي لم يكثر ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم - كمن يفد إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ثم يعود، أو من تأخر إسلامه والتحق به في آخر سنة عاشها النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن احتمال كون الآمر والناهي غير النبي - صلى الله عليه وسلم - احتمال قوي. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا التفريق بين الصحابة لا دليل عليه، فالصحابي الذي شهد له اللَّه عَزَّ وجَلَّ، وشهد له الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالعدالة إذا نقل شيئاً وأطلق قائلاً: " أمرنا ونهينا "، فإنا لا نحمله إلا على أمر من له الأمر الحقيقي، وهو اللَّه تعالى الذي بلغنا به رسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نحمله على أمر غيره إلا بقرينة، وهذا الكلام ينطبق على جميع الصحابة. تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي: " أمرنا ونهينا "، فالآمر والناهي هو الرسول - صلى الله عليه وسلم -. خامساً: قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا "، أو " السُّنَّة جارية بكذا "، أو " مضت السُّنَّة بكذا "، ما حكمه؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 المذهب الأول: أنه لا يفهم من ذلك إلا سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيحمل عليه دون غيره. هذا ما ذهب إليه كثير من العلماء. وهو الحق عندي، لدليلين هما: الدليل الأول: أن غرض الصحابي ومراده من روايته لذلك أن يعلمنا الشرع، فيجب حمل قوله: " من السُّنَّة كذا " - وغيرها من الصيغ الأخرى مما في معناها - على أنه صادر منِ الشرع، وهو سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن كلمة "؛ السنَّة" إذا أطقت في أحكام الشرع، فإن المقصود بها ما سَنَّه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أطلق وجب رجوع ذلك إليه، لأنه إذا أريد بها سُنَّة غيره فإن لا تطلق، بل تضاف إلى صاحبها، يؤيد ذلك: ما انتشر على ألسنة جميع العلماء، وهو قولهم: " عليكم بالقرآن والسُّنَّة "، فلا يعقل من ذلك إلا اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، دون غيره. المذهب الثاني: أن قول الصحابي: " من السُّنَّة كذا ".. إلخ لا يحمل على سُنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب بعض العلماء، ونسبه الآمدي إلى الكرخي، ونسبه الزركشي إلى الصيرفي. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن اسم " السُّنَّة " متردد بين سُنَّة النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين سُنَّة الخلفاء الراشدين؛ حيث قال - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "، وقال عليّ بن أبي طالب: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 " جلد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في الخمر أربعين، وجلد أبو بكر أربعين، وجلد عمر ثمانين، وكل سُنَّة ". فإذا كان اللفظ متردد بين احتمالين فلا يكون صرفه إلى أحدهما دون الآخر أَوْلى من العكس. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا لا يعارض ما ذهبنا إليه، بيان ذلك: أننا قلنا: إن لفظ " السُّنَّة " إذا أطلق فلا يتبادر إلى الذهن من هذا الإطلاق شرعاً إلا سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - دون غيره، أما إذا وجدت قرينة، فإنا نحمل لفظ " السُّنَّة " على ما دلَّت عليه تلك القرينة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم -: " عليكم بسُنَتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فكأنه قال: عليكم بما سمعتموه مني، وبما حدَّثكم به خلفائي عني. وكذلك قول عليّ يحمل على سُنَّته - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الزيادة حد، وقد ثبت الحد بالسُّنَّة. تنبيه: ولا فرق عندنا بين قول الصحابي وقول التابعي: " من السُّنَّة كذا "، فإنه يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لا يمكن لأي عالم من التابعين أو غيرهم، ممن ثبتت عدالته أن يقول ذلك، ويطلق إلا وهو يريد سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، حيث هو الذي تجب طاعته. وقيل: لا يحمل على سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ لتطرق احتمال أن يقصد التابعي سُنَّة الصحابة، والجواب عن ذلك كما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 وقيل: الفرق بين قول سعيد بن المسيب فيحمل على سُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، نظراً لثبوت ذلك عنه، وبين قول غيره فيتطرق إليه الاحتمال، والجواب عنه: أن العدل الثقة لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان قاصداً سُنَّة من تقوم الحُجَّة بقوله وهو النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا فرق بين عالِم وعالِم في ذلك. سادساً: قول الصحابي: " عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " ما حكمه؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه ظاهر في أن الصحابي قد سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن الصحابي لا يمكن أن يطلق ذلك إلا لأنه سمعه حقيقة من النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن عدالته تمنعه من إطلاق ذلك إذا لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، أو شك في ذلك، وقد سبق بيان ذلك. المذهب الثاني: أنه لا يحمل على أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، بل قد يكون سمعه من غيره بالتواتر أو ممن يثق بقوله، ونظراً لهذا الاحتمال، فإنه لا يحكم بأنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يكون حُجَّة حتى يثبت بالقرائن على أنه سمعه عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال وارد، ولكنه لا يمنع من قبول قول الصحابي: " عن النبي "، فهو حُجَّة فكانه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك لأنه مرسل صحابيْ، ومرسل الصحابي حُجَّة بإجماع العلماء المعتد بأقوالهم، إذن لا فرق بينه وبين قوله: " قال رسول اللَّه ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يأتي دليل يرجح أحد الأمرين، وهو اختيار فخر الدين الرازي فى " المحصول "، وذلك نظراً لتعارض أدلة أصحاب المذهبين السابقين، وضعف كل منهما. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة الدليل على أنه ظاهر في أنه سمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وضعف دليل أصحاب المذهب الثاني. سابعاً: قول الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون " ما حكمه؟ فيه تفصيل وهو كما يلي: إذا قال الصحابي: " كنا نفعل أو كانوا يفعلون "، وأطلق فإنه لا يكون كالمستند فلا يكون حُجَّة اتفاقاً؛ لأن الحُجَّة في إقراره - صلى الله عليه وسلم -، والإقرار هنا منتف في غير عهده، فيحتمل أنه رأي جماعة. أما إذا قال الصحابي: " كنا نفعل فى عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو كانوا يفعلون في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه كالمسند، فهو حُجَّة. وهذا هو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن الصحابي ذكر ذلك في معرض الاحتجاج لإثبات حكم من الأحكام يدل على أنه أراد ما علمه النبي - صلى الله عليه وسلم - وسكت عنه، ولم يتبين أنه دليل، فأراد الصحابي أن يبين لنا ذلك ليكون دليلاً شرعيا يستدل به في الأحكام الشرعية، ولا يكون كذلك إلا وقد علمه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلم ينكره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 الدليل الثاني: أن الظاهر من حال الصحابة أنهم لا يقدمون على أمر من أمور الدين، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين أظهرهم إلا إذا كان عالِماً به فيكون من السُّنَّة التقريرية. المذهب الثاني: أن هذا التعبير لا يكون كالمسند، فلا يكون حُجَّة. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون الصحابة يفعلون ما لا يعلمه الرسول - صلى الله عليه وسلم -. يؤيد ذلك الاحتمال: ما روي أن زيد بن ثابت كان يحدث الناس بأن الرجل إذا جامع ولم ينزل فلا غسل عليه، فسأله عمر عن ذلك قال: حدَّثني أعمامي: " أبي بن كعب "، و " أبو أيوب "، و"رفاعة"، وكان رفاعة عند عمر فقال رفاعة لعمر: " قد كنا نفعله على عهد رسول اللَّه "، فقال عمر: ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يعلم؛ قال: لا علم له، فجمع عمر المهاجرين والأنصار فأشاروا إليه: أن لا غسل في ذلك، إلا علياً ومعاذاً قالا: إذا جاوز الختان، فقد وجب الغسل، قال عمر: لا أسمع برجل يفعل ذلك إلا أوجعته، فهذه القصة تدل على أن الصحابة كانوا يفعلون أشياء لا يعلمها النبي - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال - وهو كون الصحابة يفعلون ما لا يعلمه - صلى الله عليه وسلم - في عهده - لا دليل عليه، والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يلتفت إليه. أما القصة التي ذكروها فيمكن أن يجاب عنها بأن نقول: إنه في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 أول الإسلام كان التقاء الختانين لا يوجب الغسل، ثم نسخ ذلك، فعلم ذلك قوم، ولم يعلمه آخرون، فكان من لم يعلم النسخ مستمراً على ذلك الحكم الذي كان في صدر الإسلام حتى تبين لهم خبر عائشة - رضي اللَّه عنها - والعمل على حكم سابق جائز إذا لم يعلم الناسخ، أما الإقدام على ابتداء فعل يتعلق بالدين من غير استئذان الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلا يظن بالصحابة فعله. ثامناً: قول الصحابي: " كانوا يفعلون كذا " هل يفيد حكاية الإجماع؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يفيد حكاية الإجماع، أي: أن الصحابي يكون بتلك الصيغة قد نقل لنا الإجماع على هذا الفعل. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الحق عندي؛ لأن اللفظ - في قوله: كانوا يفعلون كذا - يدل دلالة واضحة على أن الصحابي يحكي هذا الفعل عن الجميع؛ لأنه قال ذلك في معرض الاحتجاج به على حكم معين، فيجب أن يحمل على من قولهم حُجَّة، وهو الإجماع. فلو كان الصحابي الراوي يحكي ذلك عن واحد منهم، أو عن طائفة: لما قاله في معرض إقامة الحجة على حكم معين؛ لأن قول البعض لا حُجَّة فيه. المذهب الثاني: أنه لا يفيد حكاية الإجماع، أي: أنه لا يفيد إضافة الفعل المحكي عن الصحابة إلى جميعهم ما لم يصرح الصحابي الراوي بنقل الإجماع عن أهله. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لو كان ذلك مستندا إلى فعل الجميع، لكان إجماعا، ونظراً لأنه يسوغ مخالفته عن طريق الاجتهاد دلَّ على عوده على البعض دون الجميع. جوابه: يجاب عنه: بأن سبب تسويغ الاجتهاد فيه هو: أن إضافة ذلك إلى الجميع وقع ظنا، لا قطعا، كما يسوغ الاجتهاد فيما يرويه الواحد من الألفاظ القاطعة في الدلالة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما كان طريق اتباعه ظنيا، وإن كان لا يسوغ فيه الاجتهاد إذا ثبت بطريق القطع. القسم الثاني - من قسمي كيفية ألفاظ الراوي في نقل الخبر - هو: كيفية ألفاظ الراوي غير الصحابي في نقل الخبر، وتتبين فيما يلي: أولاً: قراءة الشيخ على الراوي عنه وهو يسمع، سواء كانت قراءته إملاء من مكتوب، أو من حفظه، فتجوز الرواية عنه مع العمل بذلك بالاتفاق. ثانياً: الصيغ التي يتلفظ الراوي إذا أراد أن يُحدِّث بما سمعه من شيخه فيما سبق، فيهاتفصيل: 1 - إن قصد الشيخ إسماع الراوي خاصة فإن الراوي يقول: "حدَّثني فلان "، أو " أخبرني فلان ". 2 - إن قصد الشيخ إسماع الراوي مع. غيره فإنه يقول: " حدثنا فلان "، و " أخبرنا فلان ". 3 - إن لم يقصد الشيخ إسماع الراوي منفرداً ولا مع جماعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 فلا يقول الصيغ السابقة، بل يقول: " سمعته يقول كذا "، أو "يخبر بكذا "، أو " قال فلان كذا "، أو " سمعته يحدث بكذا ". ثالثاً: أيهما أقوى: قراءة الشيخ على الراوي أم العكس، أم ماذا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن قراءة الشيخ على الراوي أقوى من قراءة الراوي على الشيخ، وهو مذهب الجمهور. وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: أنه طريق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فإنه الذي كان يحدث أصحابه كما نقلوه عنه. الدليل الثاني: أن قراءة الشيخ على الراوي أبعد عن الخطأ والسهو والغلط؛ لكونه يقرأ ما تحقق منه، فيكون أحق فيما هو المقصود، وهو تحمل الأمانة بصفة تامة. المذهب الثاني: العكس، وهو: أن قراءة الراوي على الشيخ أقوى. ذهب إلى ذلك أبو حنيفة كما نقله عنه السرخسي، وحكاه ابن الصلاح عن ابن أبي ذؤيب. دليل هذا المذهب: أن عناية الطلب أشد عادة؛ لأنه إذا قرأ الراوي على الشيخ كانت المحافظة من الطرفين، وإذا قرأ الشيخ لا تكون المحافظة إلا منه. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا لا يسلَّم؛ فإن قراءة الشيخ على إلراوي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 أقوى من العكس؛ لما قلناه، والراوي المستمع لقراءة الشيخ أحرص على استماع كل ما يقوله شيخه، وكل منهما قد توفرت فيه شروط الراوي - الإسلام والتكليف والضبط والعدالة -. المذهب الثاني: هما سواء. ذهب إلى ذلك الإمام مالك فيما نقله عنه ابن الصلاح، واختاره ابن الساعاتي. دليل هذا المذهب: أن الذي يقرأ كتاباً ويسهو لا فرق فيه بين القارئ والسامع؛ نظراً لمساواة من يتكلم أو يستمع فيستفهم فيقول: نعم. جوابه: يجاب عنه: بأنه لا يسلم تساوي القارئ والمستمع، فإن الشيخ إذا قرأ مع تثبت ودقة في حين أن الراوي قد اتصف بشدة الطلب يكون هذا أقوى وأصح. رابعاً: قراءة الراوي " التلميذ " على الشيخ وهو يسمع، فيقول الراوي للشيخ - بعد الفراغ من القراءة -: هل سمعت أيها الشيخ؛ فيقول الشيخ: نعم، أو يقول الشيخ: " الأمر كما قرئ عليّ "، فتجوز الرواية عنه، مع العمل بذلك بالاتفاق. خامساً: إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو يسمع، ثم قال الراوي للشيخ: هل سمعت أيها الشيخ؛ فسكت الشيخ، فهل تجوز الرواية عنه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه تجوز الرواية عنه، ويجب العمل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 وهذا هو مذهب جمهور العلماء بشرط: أن لا يوجد لدى الشيخ أي مانع من الإنكار إذا أخطأ الراوي في القراءة. وهو الحق؛ لأنه لو لم يكن ما قرأه الراوي صحيحا كله لما سكت الشيخ، بل لاعترض على الخطأ منه، ولكن سكوت الشيخ وعدم اعتراضه دليل واضح على أن كل ما قرأه وما ذكره الراوي صحيح، وما دام أنه صحيح فيجب العمل به. أي: لو لم تكن قراءة الراوي على الشيخ صحيحة لكان سكوت الشيخ عَن الإنكار مع القدرة عليه فسقا؛ لما فيه من إيهام صحة ما ليس بصحيح، وذلك بعيد جداً عن العدل الثقة. أما إذا غلب على ظننا بأنه يوجد لدى الشيخ مانع من الإنكار كغفلة فيه، أو قلة مبالاة، أو نوم، أو إكراه على السكوت، ففي هذه الحالة لا يكتفى بسكوته، بل لا بد من - نطقه بقوله: " نعم " أو نحو ذلك مما يدل على موافقته على صحة ما قرئ عليه. المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية عنه، ولا العمل به. ذهب إلى ذلك بعض الظاهرية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن سكوت الشيخ لا يكفي في الدلالة على صحة ما قرأه، فقد يكون غافلاً، أو مكرها، أو نحو ذلك، فلا بد من نطقه بأن يقول: " نعم ". جوابه: يجاب عنه: باننا لما قلنا: إن سكوت الشيخ إذا قرأ عليه الراوي وقال له: هل سمعت أيها الشيخ يدل على صحة ما قرأه عليه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 فتجوز الرواية عنه، ويجب العمل به، فإننا لم نقل ذلك مطلقا، بل اشترطنا: أن لا يكون عند الشيخ أيُّ مانع من الإنكار - إذا أخطأ الراوي في القراءة - كما بينا فيما سبق، فلذلك لا يصح ذلك الاحتمال الذين ذكرتموه. سادسا: الصيغ التي يتلفظ بها الراوي عندما يريد التحدث بما قرأه على شيخه هي: أن يقول: " أنبأنا فلان قراءة عليه "، أو يقول: "حدَّثنا فلان قراءة عليه "، أو يقول: " أخبرنا فلان قراءة عليه "، وهذا متفق عليه؛ لتصريحه بهذه الرتبة. سابعاً: إذا قرأ الراوي على الشيخ، فهل يجوز أن يقول: "أخبرنا"، أو " حدَّثنا " مطلقاً، أي: بدون عبارة: " قراءة عليه "؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول: " أخبرنا أو حدَّثنا قراءة عليه ". ذهب إلى ذلك الإمام أحمد في رواية عنه، وعبد اللَّه بن المبارك، والإمام مسلم، والنسائي، وإلغزالي، - وأبو إسحاق الشيرازي، والآمدي، وأبو الحسين البصري، وهو مذهب كثير من العلماء. وهو الحق عندي؛ قياسا على أنه لا يجوز لمن قرأ على الشيخ أن يقول: " سمعت من فلان كذا "، والجامع: أن ظاهر هذه العبارة، وقول التلميذ في هذه المسألة: " حدَّثنا أو أخبرنا " مطلقا: يقتضي: أن الشيخ هو الذي تولى القراءة بنفسه، وهذا ليس بصحيح؛ حيث إن حقيقة الأمر أن الراوي هو الذي تولى القراءة على الشيخ، فترك عبارة: " قراءة عليه " يوهم السماع من لفظ الشيخ، وهذا كذب في الرواية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك، فيقول: " أخبرنا وحدَّثنا " في هذه المسألة بدون ذكر عبارة: " قراءة عليه ". ذهب إلى ذلك الإمام أبو حنيفة، ومالك، ومحمد بن الحسن، وأبو يوسف، والإمام أحمد في رواية أخرى عنه، والبخاري، وسفيان بن عيينة، وأبو يعلى، وأبو بكر عبد العزيز، ومعظم الحجازيين والكوفيين. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بالقياس على الشهادة، بيان ذلك: أن الراوي إذا قرأ على الشيخ، فلما فرغ قال له: هل سمعت أيها الشيخ؛ فقال: " نعم "، أو سكت - مع عدم المانع من النطق -: كان هذا يعتبر إقراراً من الشيخ أن قراءة الراوي عليه صحيحة، فكأنه بذلك قال له: " نعم قراءتك صحيحة "، والجواب بلفظ: " نعم " خبر؛ قياسا على الشهادة، فلو قال شخص لعمرو: " هل لزيد عليك خمسة ريالات؛ "، فقال عمرو: نعم: كان للشاهد عليه أن يقول: " أشهدني على نفسه بخمسة ريالات " قال ذلك مع أنه لا يوجد إلا لفظ " نعم "، فكذلك في الرواية فإذا قال الشيخ: " نعم "، فإنه يكون. تقدير الكلام: " نعم أخبرني بأني رويت له كذا ". جوابه: يجاب عنه بجوابين: ْالجواب الأول: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين الشهادة والرواية، كما سبق بيانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 الجواب الثاني: أن هذا الدليل لا يمنع من إيهام السماع من لفظ الشيخ، فيكون احتمال السماع من الشيخ قوياً؛ لذلك لا بد من ذكر عبارة " قراءة عليه " منعا من ذلك الإيهام. المذهب الثالث: التفصيل؛ بيانه: أنه يجوز أن يقول الراوي - وهو القارئ على الشيخ -: "أخبرنا فلان بكذا " مطلقا، أي: بدون ذكر لفظ " قراءة عليه "، ولا يجوز أن يقول: " حدثنا فلان كذا " مطلقاً، بل لا بد أن يقيد ذلك بقوله: " قراءة عليه " ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب: بوجود الفرق بين " أخبرنا "، و"حدَّثنا "، وهو: أن الإخبار يستعمل في كل ما يتضمن الإعلام، أما التحديث فإنه لا يستعمل إلا فيما سمع من فيه. جوابه: يجاب عنه: بأن بعض أهل الحديث قد اصطلح على التفريق بينهما بما ذكرزم، وهذا لا يلزمنا؛ لأن معنى " حدَّثنا "، و " أخبرنا" متحد في اللغة؛ ذلك لأنه مشتق من الخبر والحديث وهي واحدة. ثامناً: إذا قال الشيخ: " حدَّثنا " فهل يجوز للراوي أن يبدل ذلك بلفظ: " أخبرنا "، أو العكس؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، فيجوز أن يقول الشيخ: "حدَّثنا "، ثم يقول الراوي القارئ عليه: " أخبرنا "، ويجوز - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 العكس، وهو أن يقول الشيخ: " أخبرنا "، فيقول الراوي القارئ عليه: " حدَّثنا". ذهب إلى ذلك كثير من العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد. وهو الحق: لما سبق من أن معنى " حدَّثنا " و " أخبرنا " متحد في اللغة؛ لاشتقاقه من الخبر والحديث، وهي واحدة. المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن يكون الشيخ من الذين لا يرون التسوية بين " أخبرنا "، و " حدَّثنا "، فيكون كذباَعليه. جوابه: يجاب عنه بما سبق، وهو أن تفريقه بينهما لا يلزمنا ما دامت اللغة لم تفرق بينهما، فالمرجع في ذلك إلى لسان العرب. تاسعاً: إذا قال الشيخ " حدَّثنا "، أو " أخبرنا "، فهل يجوز للراوي أن يبدل ذلك بلفظ: " سمعت فلانا "؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق؛ لأن لفظ " سمعت " مشعر بأن شيخه هو الذي تولى القراءة بنفسه، أي: هو الذي نطق، وهذا خلاف الحقيقة؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 الحقيقة أن الراوي هو الذي قرأ على الشيخ، فقال الشيخ: نعم، أو سكت، وإذا كان مخالفاً لحقيقة الأمر الواقع فهو كذب. المذهب الثاني: أنه يجوز ذلك إذا علمنا بصريح قوله، أو بقرينة حاله أنه يريد بقوله: " وهو سمعت فلاناً " - القراءة على الشيخ دون سماع حديثه. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا متفق عليه، وإنما الخلاف فيما إذا قال: "سمعت فلاناً "، وهو في الحقيقة قد قرأ على الشيخ، ولم يسمع منه. عاشراً: حقيقة الإجازة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " أجزت لك أن تروي عني ما صح عندك من مسموعاتي "، وعند ذلك يجب الاحتياط في تعيين المسموع. وحقيقة المناولة أن يقول الشيخ للراوي عنه: " خذ هذا الكتاب فأروه عني "، أو يقول: " خذ هذا وحدث به عني فقد سمعته من فلان "، وهو اصطلاح قد اتفق عليه أهل الحديث؛ حيث إن أحدهم يناول الآخر كتابا فيقول: " اروه عني ". وصيغة الراوي أن يقول: حدَّثني فلان إجازة "، أو " أخبرني فلان إجازة ". حادي عشر: بيان أن المناولة قسم من أقسام الإجازة. الحق أن المناولة تعتبر قسما من أقسام الإجازة، فالمناولة لا تخرج عن الإجازة؛ لأن الشيخ لو اقتصر على مجرد المناولة، وهو: اعطاؤه الكتاب دون اللفظ - أي: لم يقل له: " اروه عني " - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 لم تجز الرواية مطلقاً، أما لو اقتصر الشيخ على مجرد اللفظ - وهو قوله له: " اروه عني " - دون أن يناوله كتابا بيده فإنه يكفي ويغني، وتجوز الرواية بذلك؛ لأن الإذن إنما يستفاد من اللفظ، لا من إعطائه الكتاب، فبان أنه لا معنى للمناولة بدون إجازة، وحينئذ تعتبر المناولة نوعاً من أنواع الإجازة. ثاني عشر: حكم الرواية بالإجازة والمناولة. لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان: المذهب الأول: أنه تجوز الرواية بهما. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، ومنهم: مالك، والشافعي، وأحمد. وهذا هو الحق؛ لدليلين هما: الدليل الأول: أن الطريق - وهو قول الراوي: حدثنا فلان عن فلان - إنما هو وسيلة إلى معرفة صحة الحديث، ومعرفة صحة الحديث حاصلة بالإجازة والمناولة؛ لأن المجيز عدل ثقة، والظاهر أنه لم يجز إلا ما علم صحته، وإلا كان بإجازته رواية ما لم يروه فاسقاً، وهو لا يمكن في العدل، وإذا علمت الرواية، أو ظننت بإجازته جازت الرواية عنه. الدليل الثاني: قياس الإجازة والمناولة على الراوي إذا قرأ على الشيخ، بيانه: أن الشيخ - وهو المجيز - إذا قال للراوي: " هذا كتاب مسموعي فاروه عني "، يكون ذلك بمنزلة ما إذا قرأ الراوي على الشيخ وهو ساكت، ولا فرق بينهما بجامع: أن الشيخ فيهما لم يتكلم بما في داخل الكتاب ومسموعاته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 المذهب الثاني: أنه لا تجوز الرواية بالإجازة والمناولة. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالقاضي حسين، والماوردي، والروياني، وبعض الظاهرية كابن حزم، وبعض أهل الحديث كشعبة بن الحجاج، وأبي زرعة، وإبراهيم الحربي من أصحاب الإمام أحمد. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشهادة على الشهادة لا تجوز بالإجازة والمناولة، فيقاس عليها الأخبار، فلا تجوز بالمناولة والإجازة، ولا فرق بينهما. جوابه: يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس غير صحيح؛ لأنه قياس مع الفارق، حيث إن الشهادة تفارق الرواية في أمور كثيرة، ومنها: أن شاهد الفرع لا يقبل مع وجود شاهد الأصل بخلاف الرواية، فإن رواية الراوي تقبل مع وجود شيخه الذي أخبر بهذا الخبر. ثالث عشر: أنواع الإجازة: تتنوع الإجازة إلى أنواع: النوع الأول: الإجازة بمعين لمعين مثل أن يقول الشيخ: " قد أجزت لك الكتاب الفلاني "، وهذا النوع أعلى أنواع الإجازة. النوع الثاني: الإجازة لمعين في غير معين مثل أن يقول الشيخ: "قد أجزت لك جميع مسموعاتي "، وهذا يجوز عند الجمهور. النوع الثالث: إجازة معين لمعين بوصف العموم مثل أن يقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 "أجزت للمسلمين، أو لمن أدرك حياتي الكتاب الفلاني "، وهذا جائز لمن كان موجوداً من المسلمين عند الإجازة. النوع الرابع: إجازة المجاز مثل أن يقول الشيخ: " أجزت لك ما أجيز لي روايته ". النوع الخامس: الإذن في الإجازة مثل أن يقول الشيخ: " أذنت لك أن تجيز عني من شئت ". رابع عشر: إذا قال الراوي المجاز: " حدَّثني فلان "، أو قال: " أخبرني فلان " وأطلق، ولم يقيد ذلك بلفظ " إجازة "، فهل هذا يجوز؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، بل لا بد أن يقول: " حدَّثني فلان إجازة "، أو يقول: " أخبرني فلان إجازة ". ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي، لأنه لو قال الراوي المجاز: " حدَّثني فلان "، أو أخبرني فلان " بدون لفظ " إجازة " لأوهم ذلك أن الرواية بالتحديث على الحقيقة والسماع " لأنها الأصل المتبادر إلى الذهن، ومنعاً لهذا الوهم، قلنا: لا بد من ذكر لفظ " إجازة ". المذهب الثاني: أنه يجوز للراوي المجاز أن يقول: " حدَّثنى "، أو " أخبرني " بدوق ذكر لفظ " إجازة ". ذهب إلى ذلك الإمام مالك وأهل المدينة، وبعض الحنفية كالجصاص، والبزدوي، والدبوسي، وابن عبد الشكور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الإجازة والمناولة على السماع حيث قالوا: إن الإجازة والمناولة بمعنى إسماع الشيخ وقراءة الراوي عليه، فكأن الشيخ لا قال للراوي عنه: " أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب " أن الراوي قرأه عليه ولا فرق. جوابه: يجاب عن هذا بأن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الراوي المجاز لم يسمع من الشيخ شيئاً، ولم يقرأ على الشيخ شيئاً في الحقيقة، بل أعطاه كتاباً وقال: " أجزت لك أن تروي عني هذا الكتاب "، وليس في ذلك ما يفيد أنه سمع منه، أو قرأ عليه، فكيف يجعل في مرتبة السماع؟! خامس عشر: هل تجوز الإجازة للصبي والمجنون، والكافر والفا سق؟ الحق: أنه تجوز الإجازة لهؤلاء، وذلك ليروي الصبي ما أجيز به إذا بلغ، ويروي المجنون ما أجيز به إذا عقل، ويروي الكافر ما أجيز به إذا أسلم، ويروي الفاسق ما أجيز به إذا صلح وثبتت عدالته. سادس عشر: إذا قال الشيخ: " - خذ هذا الكتاب وهو مسموعي " ولم يقل: " اروه عني " فهل تجوز الرواية عنه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا تجوز الرواية عنه مطلقاً. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لدليلين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 الدليل الأول: أن جواز الرواية يستفاد من عبارة: " اروه عني " فهذه العبارة علامة على الإذن، وما دام أن هذه العبارة لم ترد من الشيخ - وهو المجيز - فهو لم يأذن بالرواية عنه؛ لأنه ليس في الكتابة والمناولة ما يدل على تسويغ الرواية عنه، ولا على صحة الحديث نفسه، فيحتمل - احتمالاً قوياً - أن الشيخ لم يقل: " اروه عني " نظراً لكونه يعرف أن في هذا الكتاب أو بعضه خللاً قد منع من إذنه لروايته عنه، فلم يجوز ذلك، فامتنع من قوله: " اروه عني ". الدليل الثاني: قياس المناولة على الشهادة، بيان ذلك: إن الشاهد لو قال: " عندي شهادة بكذا "، ولم يقل: " أذنت لك أن تشهد على شهادتي " لا يجوز - حينئذٍ أن يشهد بها، فكذلك الرواية إذا قال الشيخ: " هذا مسموعي "، ولم يقل: "اروه عني "، فإنه لا يجوز أن يروي هذا الكتاب، ولا فرق بينهما في ذلك. المذهب الثاني: أنه إذا قال الشيخ: " خذ هذا الكتاب "، أو قال: " هذا سماعي "، ولم يقل: " اروه عني "، فإنه يجوز للراوي أن يرويه عنه. ذهب إلى ذلك ابن الصباغ الشافعي وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الشيخ لو علم أن في بعض مروياته الموجودة، في الكتاب الذي ناوله الراوي خللاً لما قال للراوي: " خذ هذا الكتاب أو هذا مسموعي "؛ لأنه يكون بهذا القول قد غش المسلمين ودلس عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 جوابه: يجاب عنه: بأن الإنسان قد يوجد منه تساهل في إلقاء الكلام، ولكن عندما يكون هذا الكلام يترتب عليه عمل في الشريعة يتوقف عن ذلك. فلا يمتنع أن يقول الشيخ للراوي: " خذ سماعي "، أو أن يقول: " هذا سماعي "، ليروي عنه، ولكن بشرط أن يتحقق حال روايته له فيما بعد، فإذا تحقق من ذلك وقال له: " اروه عني " فإنه حينئذٍ يجوز للراوي أن يروي عنه، أما قبل أن يتلفظ بذلك فلا يجوز. سابع عشر: حقيقة الوجادة هي: ما أخذ من العلم من صحيفة من غير سماع، ولا إجازة، ولا مناولة، وهي عند الحدثين: أن يجد الراوي شيئاً من الأحاديث مكتوباً بخط الشيخ الذي يعرفه ويثق بأنه خطه حياً كان الكاتب أو ميتاً. ولا تجوز الرواية هنا، فلا يجوز أن يقول: " حدَّثني، أو حدَّثنا، أو أخبرني، أو أخبرنا فلان إجازة ولا غيرها "؛ لأن روايته بذلك شهادة عليه بأنه قاله، وهذا ليس بصحيح، فيكون كذباً. ولكن الشخص إذا وجد صحيفة مكتوبة بخط شيخه له أن يقول: " رأيت مكتوباً في كتاب بخطٍ ظننت أنه خط فلان " يقول ذلك؛ لأن الخط قد يشبه الخط. ثامن عشر: إذا قال الشيخ: " هذا خطي " يقبل قوله، ولكن لا يروى عنه ما لم يأذن بروايته عنه بصريح قوله بأن يقول: " اروه عني " - كما سبق - أو يكون الإذن بقريتة حاله في الجلوس لرواية الحديث. تاسع عشر: إذا رأى الراوي سماعه في كتاب ووجده، ولم يذكر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 سماعه، ولا قراءته، لكن غلب على ظنه سماعه كما يراه من خطه الذي توثق منه، فهل يجوز له روايته والعمل به؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز له روايته، والعمل به. ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، كما نسبه إليه الآمدي في "الإحكام "، والإمام أحمد كما ذكر ذلك أبو يعلى في " العدة "، وأبو الخطاب في " التمهيد "، واختاره أبو يوسف، ومحمد بن الحسن، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله ". وهذا هو الصحيح عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: رجوع الصحابة إلى كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - والعمل عليها، فقد كان الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - يعتمدون على كتب النبي - صلى الله عليه وسلم - التي ينقلها آحاد الصحابة، وكانوا يعملون بها مثل عملهم على كتب الصدقات، وعملهم على كتاب عمرو بن حزم، وهو الكتاب الذي كتبه النبي - صلى الله عليه وسلم - في - الديات، وبعث به إلى أهل نجران، ثم رواه الناس عن آل عمرو بن حزم من بعده، كما ذكر ذلك النسائي، والدارقطني، فهذا من أدل الدليل على الرجوع إلى الخط والكتاب. الدليل الثاني: أن الرواية قد بني أمرها على حسن الظن، وغلبته، والمسامحة، ومراعاة الظاهر من الحال، ألا ترى أن الرواية تقبل من العبيد والنساء، ولا تعتبر فيها العدالة الباطنة، كل ذلك دل على خفتها، فإذا وجد الراوي سماعه، وغلب على ظنه أنه سمعه كما يراه من خطه الذي توثق منه، فإنه تجوز الرواية بذلك، والعمل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، ولا يعمل به إلا أن يذكر سماعه. ذهب إلى ذلك أبو حنيفة، كما ذكر ذلك السرخسي في " أصوله " وتبعه على ذلك بعض الحنفية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: كما أنه لم يجز أن تؤدى الشهادة معتمداً على خطه - ولم يذكر شهادته - فكذلك الخبر لا يجوز أن يرويه معتمداً على خطه إذا لم يذكر سماعه؛ والجامع: أن كل واحد منهما يحتاج فيه إلى معرفة المخبر عنه. جوابه: يجاب عنه: بأن دليلكم مبني على قياس الرواية على الشهادة؛ ولا نسلم هذا القياس ولا يصح؛ لأمرين هما: الأمر الأول: أنكم قستم على شيء لم يتفق عليه الخصمان؛ حيث إن المقاس عليه وهي - الشهادة - يجوز - فيها - أن يشهد إذا عرف خطه، ولم يخرج عن يده، وإن لم يذكر شهادته هذا عند بعض العلماء، ومنهم الإمام أحمد. فإذا كان هذا يجوز في الشهادة فمن باب أوْلى جوازه في الرواية؛ حيث إن الشهادة آكد من الرواية، فحينئذ إذا وجد سماعه في كتاب بخطه الذي يثق به، فإنه يجوز أن يرويه وإن لم يذكر سماعه. الأمر الثاني: على فرض أن المقاس عليه متفق عليه وهو: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 أنه لا يشهد إذا عرف خطه، فإن قياسكم فاسد أيضاً؛ لأنه قياس مع الفارق " حيث إنه اعتبر. في الشهادة من الاحتياط والتأكد ما لم يعتبر مثله في الرواية كما سبق. عشرون: إذا شك في سماع حديث من شيخه، فهل يجوز روايته عنه؟ إن الراوي إذا شك في سماع حديث واحد من شيخه وتردد فيه: هل سمعه منه أو لا؛ فإنه لا يجوز له أن يرويه عنه، فلو وجد في مسموعاته عن الزهري - محمد بن مسلم المدني - حديثاً معينا شك أنه سمعه من الزهري أم لا؛ لم يجز أن يرويه عنه ويقول: "سمعت الزهري "، ولا يقول: " قال الزهري "، ولا يقول: " أخبرنا أو حدَّثنا الزهري "، أو نحو ذلك. دليل ذلك: أن روايته عنه، وقوله: " قال فلان "، أو "سمعت فلاناً "، أو نحو ذلك يعتبر شهادة عليه، والشهادة لا بد فيها من الجزم والعزم والعلم " حيث لا شهادة مع التردد والشك، ولا يوجد علم مؤكد، - بل شك في سماعه، فلا يجوز أن ينسبه إليه مع هذا الشك، فلعله سمعه من غيره، فهو كمن سمع إقراراً ولم يعلم أن المقر زيد، أو عمرو، فلا يجوز أن يجزم أنه زيد كما لا يجوز أن يجزم أنه عمرو. واحد وعشرون: إذا شك في سماع حديث والتبس عليه مع غيره فما الحكم؟ إن الراوي إذا روى كتاباً عنْ بعض المحدثين فيه مائة حديث - مثلاً - وشك في سماع حديث واحد منها، ولم يستطع أن يعين هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 الحديث ولا تميزه من مسموعاته والتبس عليه، فالحكم والحالة هذه أنه لا يجوز أن يروي شيئاً من جميع تلك الأحاديث المائة. دليل ذلك: أن الرواية عنه تعتبر شهادة عليه، والشهادة لا تجوز مع الشك والتردد، فهنا ما من حَديث إلا ويمكن أن يكون هو الذي لم يسمعه من شيخه، فلذلك يتركها جميعها احتياطا. ثاني والعشرون: ما الحكم إذا غلب على ظنه في حديث أنه مسموع من شيخه؛ إذا غلب على ظن الراوي أن حديثاً قد سمعه من شيخه - ولكنه لم يقطع بذلك، فهل يجوز أن يرويه أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يجوز أن يرويه. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لأن الراوي العدل الثقة إذا غلب على ظنه وجود شيء فهو صدق يجب العمل على مقتضاه في حين أنه لا معارض لذلك، وغالب الأحكام مبناها على غلبة الظن، وهذا منها: فإن الراوي العدل الثقة قد غلب على ظنه أنه سمع الحديث من شيخه، فعليه أن يعمل بذلك فيرويه؛ عملاً بغلبة الظن. المذهب الثاني: أنه لا يجوز أن يرويه، أي: لا يجوز للراوي أن يروي حديثاً قد غلب على ظنه أنه سمعه من شيخه، بل لا بد من الجزم في ذلك وإلا يتوقف. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الغزالي في " المستصفى". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيانه: أن الشهادة لا بد فيها من العلم والجزم، فالشاهد يجب عليه أن يتأكد ويتحقق؛ لأن تكليفه أن لا يشهد إلا على المعلوم، وكذلك الراوي لا سبيل إلى معرفة صدق الشيخ، ولكن له طريق إلى معرفة قوله بالسماع، فإذا لم يتحقق ويتأكد من السماع، فلا يروي. جوابه: يجاب عنه بجوابين: أولهما: أن هذا قياس للرواية على الشهادة، وهو قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الشهادة يحتاط فيها، ويحترز منها ويتأكد منها، ويعتبر فيها أشياء لا تعتبر في الرواية كما سبق. ثانيهما: أننا قلنا إذا غلب على ظن الراوي: أن هذا الحديث قد سمعه من شيخه بأمارات وقرائن، فإنه يجوز أن يرويه ويعمل به؛ لأنه إذا غلب على ظنه فإنه يكون راجحاً، والعمل بالراجح متعين، وجل الأحكام الشرعية مبنية على الظنون، ولو قصرنا ذلك على القطع، لانتفت أكثر الأدلة مما يؤدي إلى تعطيل أكثر الحوادث بلا أحكام. ثالث وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً صريحاً؟ إذا أنكر الشيخ العدلى الحديث الذي رواه عنه الفرع - وهو الراوي الفرع - إنكار جحود وتكذيب للفرع بصورة صريحة كقوله - مثلاً -: " كذب عليَّ "، أو " ما رويت له قط ": فالحكم هنا: أن الحديث لا يقبل، فيمتنع العمل بهذا الحديث اتفاقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 دليل ذلك: أن كل واحد منهما - أعني: الشيخ والفرع الراوي عنه - موصوف بالعدالة والثقة، وكل منهما مكذب للآخر فيما يدعيه، فلا بد أن يكون أحدهما - غير معين - كاذب، وهذا موجب للقدح في الحديث. لكن ذلك لا يوجب جرح واحد منهما على التعيين؛ لأنه وقع الشك في كذبه، والأصل العدالة، وهي متيقنة، فلا يترك اليقين بالشك. وفائدة ذلك: تظهر في قبول رواية كل واحد منهما في غير ذلك الحديث الذي أنكره الشيخ، هذا إذا كان الإنكار صريحاً. رابع وعشرون: ما الحكم إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير صريح وهو التوقف؟ إذا أنكر الشيخ الحديث إنكاراً غير صريح بأن يقول - مثلاً -: "لست أذكر ذلك الحديث "، أو نحو ذلك: فقد اختلف العلماء هل يقدح ذلك الإنكار في الحديث فلا يقبل، أو لا يقدح فيقبل؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يقدح في الحديث، بل يقبل ويُعمل به. ذهب إلى دلك الإمام مالك، والشافعي، وأحمد في رواية عنه، وجمهور العلماء، وبعض الحنفية كمحمد بن الحسن. وهو الصحيح عندي، لدليلين: الدليل الأول: أن الراوي - وهو الفرع - موصوف بالعدالة والثقة، وقد روى هذا الحديث، وقد جزم بهذه الرواية عن الشيخ في حين أن الشيخ لم يكذبه، ولم ينكر حديثه على وجه العزم، بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 كل ما قاله: " لست أذكره "، وهذا لا يفيد إنكاره بصراحة، فهذا كله يقتضي ترجيح صدق الراوي - وهو الفرع -، وإذا كان صادقا فيجب قبول الحديث الذي رواه والعمل به. أما قول الشيخ، فإنه يحمل على أنه قد نسي هذا الحديث، لأن النسيان غالب على الإنسان، ولا يمكن لأي شخص أن يتذكر كل ما حفظ في عمره في لحظة واحدة. الدليل الثاني. ما ثبت في سن أبي داود عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن - ربيعة الرأي - عن سهيل بن أبي صالح، عن أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى باليمن مع الشاهد، فذكر ذلك لسهيل فقال: "أخبرني ربيعة - وهو عندي ثقة - أني حدثته إياه، ولا أحفظه، فلم ينكره أحد من التابعين، فكان ذلك إجماعاً على قبول الحديث والعمل به، إذا رواه الراوي وإن لم يذكره الشيخ. ما وجه إلى هذا الدليل من الاعترضات: الاعتراض الأول: قال المعترض فيه: إن هذه القصة لا حُجَّة فيها، لاحتمال أن سهيلاً قد ذكر الرواية لما روى ربيعة عنه، ومع الذكر فالرواية تكون مقبولة. جوابه: يجاب عنه بأن النص الذي ذكره أبو داود في سننه يُضعِّف هذا الاعتراض، حيث قال سهيل: " أخبرني ربيعة أني حدَّثته إياه " فلو صح ما قاله ذلك المعترض - وهو أن سهيلاً قد تذكر - لما ذكر ربيعة، إذ لا حاجة إلى ذلك، ولروى سهيل عن شيخه مباشرة كما لو نسي ثم تذكر بنفسه، ولكنه ذكر ربيعة، فهذا يقوي ما قلناه. الاعتراض الثاني: قال المعترض: إنكم قلتم بأن التابعين قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 أجمعوا على جواز مثل ذلك، ولا نسلم ذلك الإجماع؛ إذ لا دليل عليه، وعلى فرض صحة الإجماع، فإنه لا يلزم منه وجوب العمل بالحديث إذا أنكره الشيخ إنكار توقف؛ حيث إن سهيلاً لم ينقل ذلك عن طريق تصحيح روايته، وإنما كان يقوله على طريق حكاية الواقعة بزعمه، وهذا لا يدل على وجوب العمل، وإنما يدل على جواز قول الأصل بعد النسيان: " حدثني الفرع عني "، وهذا لا يلزم منه وجوب العمل ولا جوازه. جوابه: يجاب عنه: بأن إجماع التابعين صحيح؛ لأنه لم ينكر أحد على سهيل فيما قاله؛ إذ لو وجد إنكار لنقل، ولكن لم ينقل شيء من ذلك فيعتبر ذلك إجماعاً سكوتياً، وبناء على هذا الإجماع فإنه يلزم العمل بمقتضى الخبر. المذهب الثاني: أن إنكار الشيخ للحديث إنكاراً غير صريح يقدح في الحديث فلا يقبل. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، ومنهم أبو الحسن الكرخي، والجصاص، وأبو زيد الدبوسي، وأبو عبد اللَّه الصيمري، والبزدوي، والنسفي، وهو ظاهر كلام السرخسي في أصوله، ونسبه إلى أبي حنيفة، وهو رواية عن الإمام أحمد. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذ. االمذهب بقياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: أنه لو شهد شاهدان على شهادة شاهدين، فإذا نسي شاهدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 الأصل الشهادة وقالا: لا نذكر ولا نحفظ شيئاً: ففي هذه الحالة لا يجوز للحاكم العمل بشهادة شاهدي الفرع، فكذلك هنا في الرواية، فإن الأصل - وهو الشيخ المروي عنه - لم يصدِّق الفرع - وهو الراوي عنه، وإنما توقف في ذلك ونسي ما رواه الفرع عنه، فلا يجوز العمل بروايته عنه بجامع: الفرعية والنسيان في كل منهما. جوابه: يجاب عنه: بأنكم قستم الرواية على الشهادة في ذلك، وهذا القياس فاسد؛ لأن قياس مع الفارق؛ حيث إنا بينا - فيما سبق - أن الشهادة تفارق الرواية وتختلف عنها في أمور كثيرة؛ فباب الشهادة أضيق من باب الرواية وأغلظ حكماً، وقد اعتبر في الشهادة من الاحتياط والشروط والقيود ما لم يعتبر في الرواية، فكيف يقاس أحدهما على الآخر مع الاعتراف بتلك الفروق. ومن هذه الفروق بينهما - مما يخص الموضوع الذي نحن بصدده -: أن شهادة الفرع - وهو الذي شهد على شهادة الأصل - لا تسمع مع وجود شاهد الأصل والقدرة على سماع الشهادة منه مباشرة على مذهب جمهور العلماء. بخلاف الرواية: فإن رواية الفرع تسمع وتقبل ويعمل بها مع القدرة على السماع من الأصل وهو الشيخ. دل على ذلك ما يلي: 1 - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرسل رسله وسعاته أفراداً وجماعات إلى القبائل، وأطراف البلدان، فيخبرون المسلمين في هذه البلدان بما جد من الأحكام الشرعية، فكان هؤلاء يسمعون ذلك ويلزمون أنفسهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 بالعمل بتلك الأعمال أخذاً من هؤلاء الرواة، ولا يرجعون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع استطاعتهم على الرجوع إليه. 2 - أن أهل قباء تحولوا من التوجه إلى بيت المقدس إلى الكعبة بقول واحد، ولم يرجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مع استطاعتهم على ذلك. 3 - أنه كان أبو طلحة، وأبو عبيدة، وأبي بن كعب يشربون الخمر - قبل أن تحرم - فجاء آتٍ، وقال لهم: إن الخمرة قد حرمت، فقبلوا ذلك منه، فأمروا أنساً بإراقة ما في الجرار من الخمر فهؤلاء عملوا بهذا الخمر، دون مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم - مع القدرة على ذلك. فهذه أدلة على أن رواية الفرع تسمع ويعمل بها مع القدرة على سماع رواية الأصل. أما الشهادة على الشهادة فلا تسمع شهادة الفرع مع القدرة على سماع شهادة الأصل. فإذا افترقا في ذلك، فإنهما كذلك يفترقان في هذه المسألة، وهي: أن شاهد الأصل إذا نسي الشهادة، فإنه لا يجوز العمل بشهادة شاهد الفرع. بخلاف الرواية، فإن راوي الأصل - وهو الشيخ - إذا نسي الرواية فإنه يجوز للراوي - وهو الفرع - أن يروي وتقبل روايته، وذلك لأن الرواية يتوسع فيها أكثر من الشهادة كما سبق بيانه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 789 المسألة السابعة عشرة: زيادة الثقة في الحديث هل تقبل؟ المسألة تحتاج إلى تفصيل: أولاً: إن كانت الزيادة مخالفة للمزيد عليه، بحيث لا يمكن الجمع بينهما: كانا متعارضين، ولا يمكن أن نرجح أحدهما إلا بمرجح خارجي. ثانياً: وإن كانت الزيادة غير مخالفة للمزيد عليه، بل موافقة مثل: " ما روي أن - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة فصلى بين العمودين اليمانيين " وما روي: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل الكعبة وكبر، ولم يصل فيها "، فهنا لا تنافي بين الروايتين، وفي ذلك تفصيل كما يلي: 1 - إن علم تعدد المجلس: قبلت الزيادة اتفاقاً؛ لأنه لا يمتنع أن يذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الزيادة في مجلس، ويتركها في مجلس آخر، فيكون راوي الزيادة قد حضر المجلس الذي ذكرت فيه تلك الزيادة، أما الآخر فلم يحضر ذلك المجلس. 2 - إن لم نعلم ذلك، أي: جهلنا أن المجلس متعدد، أو متحد، فإنا نقبل تلك الزيادة؛ لأن ذاكر تلك الزيادة قد توفرت فيه شروط الراوي، ومنها: العدالة والثقة، فيترجح صدقه، وإذا ترجح صدقه وجب قبول قوله، والمعارض له لم ينف احتمال تعدد المجلس. 3 - إن علمنا أن المجلس واحد ففيه تفصيل: (أ) فإن كان الذي نقل الزيادة واحداً، والذي نقل الخبر بدون زيادة جماعة، لا يجوز في العادة ذهولهم عما ضبطه الراوي الواحد وانفرد به: فإن الزيادة - حينئذٍ - لا تقبل؛ وذلك لأن تطرق الخطأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 والسهو والغفلة إلى الواحد فيما نقله من الزيادة أقرب من تطرق ذلك إلى هؤلاء الجماعة. (ب) أما إن كان الذي نقل تلك الزيادة واحد، والذي نقل الخبر بدون زيادة واحد أيضاً، ففيه تفصيل: إن كان ناقل الزيادة أشهر ممن لم ينقل الزيادة بالحفظ والضبط والعدالة والثقة، فإن الزيادة تقبل لتلك الشهرة بالأوصاف السابقة. وإن كان العكس فالعكس، أي: إن كان الذي لم ينقل الزيادة أشهر ممن نقل الزيادة بالحفظ والضبط والثقة والعدالة: لم تقبل تلك الزيادة. أما إن تساويا في جميع تلك الأوصاف، أي: أن ناقل الزيادة قد تساوى مع من لم ينقل الزيادة في الحفظ والضبط والعدالة وجميع شروط الراوي، فهذا هو الذي اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: أن تلك الزيادة تقبل مطلقا، سواء كانت تلك الزيادة معنوية كما سبق، أو لفظية، كما روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال في رواية: " إذا قال الإمام: سمع اللَّه لمن حمده فقولوا: ربنا ولك الحمد "، وروي عنه أنه قال: " ربنا لك الحمد " بحذف الواو. وهذا هو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن العدل الثقة لو انفرد بنقل حديث لقبل، فكذلك لو انفرد بزيادة ولا فرق بجامع: رواية العدل الثقة الجازم لكل منهما. الدليل الثاني: أن من أتى بالزيادة قد وصف بالعدالة والثقة، وقد جزم بتلك الزيادة، ولم يوجد له مخالف، فهذا يغلب صدقه على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 كذبه، وإذا غلب صدقه فلا يجوز تكذيبه، وإذا لم يجز تكذيبه فيجب قبول ما أتى به من الزيادة. الدليل الثالث: أن انفراد الثقة العدل بحفظ زيادة في الحديث غير ممتنع عقلاً ولا شرعا؛ لأنه ممكن وواقع - كما سبق - وما دام أنه يمكن رواية الزيادة، فإنه يجب قبولها؛ نظراً لورودها من شخص قد اتفق على قبول كل ما رواه. المذهب الثاني: أن تلك الزيادة لا تقبل. ذهَب إلى ذلك بعض الظاهرية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ تلك الزيادة مع إصغاء الآخر للحديث واستماعه له مع اتحادهما بالثقة والعدالة والضبط والحفظ، فتكون هذه الزيادة قد توهمها من أتى بها فلا تقبل. جوابه: يجاب عن ذلك: بأن الراوي قد قطع بسماع تلك الزيادة، والآخر ما قطع بنفيها، وكون ذلك الراوي لم ينقل تلك الزيادة التي تفرد بها ذلك الراوي، فلاحتمالات كثيرة. منها: كون راوي الزيادة قد. حضر جميع المجلس، بينما الذي لم يرو الزيادة قد دخل في أثناء المجلس، ففاته ما قيل في أوله. ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما قيل فيه، أما الذي لم يورد الزيادة، فإنه حضر أول المجلس، ثم خرج في آخره لشيء أوجب خروجه وقيامه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 ومنها: أن راوي الزيادة قد حضر جميع المجلس، وسمع كل ما قيل فيه، أما الآخر وهو الذي لم ترد الزيادة في حديثه، فإنه عرض له في أثناء المجلس ما يزعجه ويدهشه عن الإصغاء لكلام الشيخ. ومنها: أن الذي لم يرو الزيادة قد نسيها، بينما حفظها الآخر. وغير ذلك من الاحتمالات، وإذا تطرقت هذه الاحتمالات فلا يبعد انفراد هذا الراوي بحفظ زيادة. الدليل الثاني: أنه قد جرت عادة الراوي بتفسير الحديث، فيزيد لفظاً من أجل ذلك، فربما ظنها من سمع منهم أنها من قول النبي - صلى الله عليه وسلم - فيرويها، وليست من قوله. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا بعيد جداً، لأن العدل الثقة الضابط المثبت يظهر من حاله أنه لا يدرج في كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - ما ليس فيه لما فيه من التدليس والتلبيس. ولو قبلنا مثل هذا الاحتمال فما من حديث إلا ويمكن أن يتطرق إليه مثل ذلك الاحتمال، مما يؤدي إلى الشك في جميع الأحاديث أن فيها زيادات، وهذا يبطلها كلها - وهذا لا يمكن -. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي له أثره في الأحكام الفقهية، وهو واضح، فعلى مذهبنا وهو المذهب الأول، فإنه يؤخذ، ويعمل بما دلَّ عليه الخبر، وما دلت عليه الزيادة، وعلى المذهب الثاني فإنه يعمل بما دل عليه الخبر فقط، ولا يعمل بما دلت عليه الزيادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 المسألة الثامنة عشرة: مخالفة الراوي للحديث الذي رواه: إذا روى الراوي العدل حديثا، وروي عنه: أنه قد عمل بخلافه، فهل نعمل بالحديث، ونترك عمله المخالف له أو نترك الحديث ونعمل بما رآه وعمل به؟ الحق أن في ذلك تفصيلاً هو كما يلي: أولاً: إن علمنا مأخذه ودليله على مخالفته للحديث الذي رواه، وكان هذا المأخذ وهذا الدليل مما يوجب حمل الحديث على ما ذهب إليه وجب اتباع ذلك الدليل، وترك الحديث لأجل ذلك الدليل الذي أوجب مخالفته، لا لأن الراوي عمل به؛ لأنه ليس عمل أحد المجتهدين حُجَّة على المجتهد الآخر. ثانياً: إن جهلنا مأخذه ودليل الراوي على مخالفة الحديث الذي رواه، فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنة يجب العمل بالحديث، وترك عمل الراوي مطلقا. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الراوي قد توفرت فيه شروط الرواية، وقد جزم بروايته للحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهذا هو الأصل في وجوب العمل بالحديث. أما عمل الصحابي بخلاف ما روى فيتطرق إليه عدة احتمالات: ومنها: احتمال أنه قد نسى الحديث، ومنها: احتمال أنه قد حمل الحديث على أحد محامله وقد أخطأ فيه، ومنها: أنه قد اطلع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 على وجود ناسخ للحديث، وقد يكون ناسخا في ظنه، ولا يكون ناسخاً عند غيره من المجتهدين، ومنها: احتمال أنه خالفه لدليل أقوى من الحديث وقد أخطأ فيه، أو هو مما يقول به دون غيره مق المجتهدين كما فعل الإمام مالك، حيث ترك حديث خيار المجلس؟ لأنه خالف إجماع أهل المدينة، وإذا تردد عمل الراوي بين تلك الاحتمالات، فلا يترك ما جزم به، وهو ثبوت الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من أجل شيء دخله الشك والاحتمال. الدليل الثاني: أن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - حُجَّة، وقول الراوي أو عمله ليس بحُجَّة، وبناءعلى ذلك لا يقدم ما ليس بحُجَّة على ما هو حُجة. المذهب الثاني: أنه يقدم عمل الراوي، ويترك الحديث الذي رواه. ذهب إلى ذلك كثير من الحنفية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الراوي قد ترك العمل بالحديث إما لأمر أوجب الترك، أو فعل ذلك تحكماً. فإن فعل ذلك تحكماً فهذا باطل؛ لأن عدالته تمنع من ذلك. فلم يبق إلا الأول وهو: أنه قد ترك العمل بالحديث لأمر أوجب الترك، فيجب متابعته في ذلك؛ لأن حسن الظن بالراوي يقتضي تقديم ما فعله على ما رواه. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الأمر الذي اقتضى ترك العمل بالحديث قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 يكون ثابتاً عنده بالاجتهاد كما قلنا في الاحتمالات السابقة، وما ثبت عنده قد يكون غير ثابت عند غيره من المجتهدين، فما ظهر في نظره لا يكون حُجَّة على غيره، وإذا احتمل هذا وهذا فلا يترك النص الذي لا احتمال فيه لأمر محتمل. ويدل على حسن الظن بالراوي المخالف لروايته: أننا قد عملنا بالحديث الذي خالفه؛ إذ لو كنا نسيء الظن به لما علمنا بروايته أصلاً، أما عمله الذي خالف به ما رواه فلا نعمل به؛ نظراً لما يعتريه من الاحتمالات التي ذكرنا بعضها. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي له أثره في بعض المسائل الفقهية ومنها: 1 - هل يجب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعاً أو ثلاثا؛ على قولين: القول الأول: أنه يجب غسل الإناء من ذلك سبع مرات لحديث أبي هريرة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ... "، وهذا هو قول أصحاب المذهب الأول السابق وهم الجمهور. القول الثاني: أن الواجب غسل الإناء من ذلك ثلاث مرات؛ لأن أبا هريرة قد خالف ما رواه وغسل ثلاثا، وهو قول أكثر الحنفية. 2 - هل يشترط الولي في النكاح؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أنه يشترط الولي في النكاح. وهو مذهب أصحاب المذهب الأول السابق في المسألة مستدلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 بحديث عائشة وهو: أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل.. ". القول الثاني: أنه لا يشترط الولي في النكاح. وهو قول أصحاب المذهب الثاني، وهم أكثر الحنفية مستدلين بأن عائشة قد زوجت ابنة أخيها عبد الرحمن بدون إذنه على المنذر بن الزبير، وبهذا خالفت ما روته، وبهذا يسقط الاستدلال بذلك الحديث. وقد بحثت هذه المسألة بالتفصيل في كتاب سميته " مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف " قد طبع في مجلد فارجع إليه إن شئت. *** المسألة التاسعة عشرة: مخالفة أكثر الأمة لخبر الواحد: الحق: أنه إذا عمل أكثر الأمة بما يخالف حديثا من الأحاديث، فإنه يعمل بالحديث، ويترك عمل الأكثر؛ لأن عمل أكثر الأمة حجة ظنية، وخبر الواحد وإن كان يفيد الظن في سنده إلا أننا نرجح العمل به؛ لأن الراوي العدل قد جزم بسنده إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيكون قولا للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وقوله حُجَّة فيعمل به لذلك. *** المسألة العشرون: خبر الواحد إذا خالف القياس: لقد اختلف في ذلك على ثلاثة مذاهب: المذهب الأول: أنه إذا تعارض خبر الواحد مع القياس، فإنه يقدم خبر الواحد مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق " للأدلة التالية: الدليل الأول: حديث معاذ، وهو أنه لما بعثه إلى اليمن قال له: " بِمَ تقضي؛ " قال: بكتاب الله، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسُنة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلوا، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أقر معاذاً على تقديم السُّنَّة على العمل بالاجتهاد الذي يعتبر القياس نوعا من أنواعه من غير تفريق بين السُّنَّة المتواترة والسنَّة الآحادية، وهذا يفيد تقديم الخبر على القياس إذا تعارضا. الدليل الثاني: إجماع الصحابة السكوتي على تقدرم خبر الواحد على القياس. بيان ذلك: أن بعض الصحابة كانوا إذا حدثت حادثة فإنهم يبحثون عن حكمها في كتاب اللَّه، فإن لم يجدوا فيه، بحثوا عنه في السُّنَّة، فإن لم يجدوا حكمها اجتهدوا بأنواع الاجتهادات، ومنها: القياس، فكانوا لا يستدلون بقياس ولا بغيره من أنواع الاجتهادات إلا إذا لم يجدوا نصا، كان هذا فعل بعضهم، ولم ينكر عليهم أحد؛ إذ لو أنكر لبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فكان إجماعا سكوتيا، والأمثلة على ذلك كثيرة. ومنها: أن سعيد بن المسيب قال: كان عمر بن الخطاب قضى بالإبهام بخمس عشرة، وفي التي تليها بعشر، وفي الوسطى بعشر، وفي التي تفي الخنصر بتسع، وفي الخنصر بست، فحكم بذلك لما عرف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قضى في اليد بخمسين، وكانت اليد خمسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 أطراف مختلفة الجمال والمنافع، فحكم لكل واحد من الأطراف بقدره من دية الكف، وهذا يعتبر قياسا على الخبر، ووافقه من سمع من الصحابة على ذلك، فلما علم بكتاب عمرو بن حزم في الديات، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال فيه: " وفي كل إصبع مما هنا لك عشر من الإبل " رجع إليه هو ومن وافقه من الصحابة. ومنها: أنه كان عمر بن الخطاب لا يورث المرأة من دية زوجها اجتهاداً؛ لأن الميراث يثبت بملكه قبل الموت، وهو لا يملك الدية قبله، فلما علم بخبر الضحاك بن سفيان وهو: أنه كتب إليه النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أن أرث امرأة أشيم الضبابي من دية زوجها " رجع إليه، وعمل به دون إنكار من الصحابة، فهذا يدل على أن خبر الواحد مقدم على الاجتهاد مطلقاً، سواء كان قياسا أم لا. الدليل الثالث: أن خبر الواحد قول للمعصوم، وهو - صلى الله عليه وسلم - وكلامه، أما القياس فإنه اجتهاد المجتهد واستنباطه، وإذا تعارض كلام المعصوم، وكلام غيره، فإنه يقدم كلام المعصوم؛ لأنه يثير غلبة الظن بصورة أبلغ وأقوى من كلام غيره، فخبر الواحد أغلب على الظن من القياس، فيجب تقديمه عليه. المذهب الثاني: أن القياس يقدم على خبر الواحد مطلقا. ذهب إلى ذلك بعض العلماء من الحنفية والمالكية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن القياس أقوى من خبر الواحد؛ لأن الاحتمالات تتطرق إلى الخبر أكثر من تطرقها إلى القياس، بيان ذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 أن خبر الواحد يحتمل فسق أحد الرواة، ويحتمل ذهول أحد الرواة وغفلته وسهوه، ويحتمل الخبر النسخ والتجوز والإضمار، أما القياس فلا يحتمل شيئاً من ذلك، وغير المحتمل يقدم على المحتمل، فيقدم القياس على الخبر. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أننا بينا أن الراوي المقبول خبره يشترط فيه أربعة شروط هي: (لإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة، فهذه الاحتمالات بعيدة جداً إذا توفرت هذه الشروط حقيقة في ذلك الراوي. الجواب الثاني: أن هذه الاحتمالات كما تتطرق إلى الخبر تتطرق - أيضاً - إلى القياس إذا كان أصله خبراً. المذهب الثالث: التفصيل بين الرواة. فإن كان الراوي فقيها كالخلفاء الأربعة، والعبادلة، وزيد بن ثابت، ومعاذ، وعائشة، وأبي بن كعب، وأبي موسى الأشعري، فإن خبره يقدم على القياس إذا عارضه. وإن كان الراوي غير فقيه كأبي هريرة، وأنس، وسلمان، وبلال، فإن القياس يقدم على خبره إذا تعارضا، وهذا عند الضرورة. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه يحتمل أن الراوي نقل الحديث بالمعنى على حسب فهمه وأخطأ في ذلك، ولم يدرك مراد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلهذا كان مخالفا للقياس من كل وجه، فلهذه الضرورة يترك الحديث ويعمل بالقياس. جوابه: يجاب عنه: بأنه هذا التفريق بين الرواة لا دليل صحيح عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به. وما ذكرتموه من احتمال أن الراوي نقل الحديث بالمعنى وأخطأ فيه، وأنه لم يدرك مقصود النبي - صلى الله عليه وسلم -، فهذا بعيد جدا مع ظهور عدالة الراوي، لا سيما الصحابة الذين قد عدلهم اللَّه ورسوله - كما سبق بيانه -. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي، وقد أثر في كثير من مسائل الفقه ومنها: 1 - إذا مات زوج عن امرأته بعد العقد وقبل الدخول، فهل لها المهر أو لا؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أن لها مهر مثلها. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء مستدلين بما روي عن ابن مسعود أنه سئل عن هذه المسألة فقال: أرى أن لها مهر مثيلاتها وعليها العدة ولها الميراث، فقال معقل بن سنان الأشجعي: أشهد أنك قضيت فيها بقضاء رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق من جماعتنا. القول الثاني: أنه لا مهر لها. ذهب إلى ذلك بعض العلماء، ومنهم الإمام مالك ورد الحديث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 بأنه مخالف للقياس، وذلك لأن المهر عوض عن الاستمتاع بالبضع، فلما لم يقبض المعوض - وهو البضع - لم يجب العوض؛ قياسا على البيع. 2 - هل يجب القضاء على من أكل أو شرب ناسياً؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أنه لا قضاء عليه. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نسى وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه، فإنما أطعمه اللَّه وسقاه ". القول الثاني: أنه يجب القضاء عليه. ذهب إلى ذلك بعض المالكية، ولم يعملوا بالحديث؛ لأنه على خلاف القياس، فإن الصوم قد فات ركنه، وهو من باب المأمورات، والقاعدة تقتضي أن النسيان لا يؤثر في طلب المأمورات. *** المسألة الواحدة والعشرون: خبر الواحد فيما تعم به البلوى: المراد بذلك: أن يرد خبر واحد ويدل على حكم شرعي يحتاج كل أحد من المكلَّفين إلى معرفته مع كثرة تكرره ووقوعه، كان يتعلق بأحكام الوضوء، أو الصلاة، ونحو ذلك مما تشتد حاجة المكلَّفين إلى معرفة حكمه مثل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مس ذكره فليتوضأ "، ونحوه. فإذا روى واحد خبراً تعم به البلوى هل يقبل؟ اختلف في ذلك عاى مذهبين: المذهب الأول: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى مقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 ذهب إلى ذلك الجمهور من العلماء. وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي على ذلك: فقد قبل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - خبر الواحد فيما تعم به البلوى وعملوا به دون أن ينكر ذلك أحد منهم؛ إذ لو وقع إنكار لبلغنا ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك، فيكون إجماعاً سكوتيا، ومن أمثلة ذلك ما يلي: 1 - أنهم قبلوا خبر عائشة وهو: " إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ". 2 - أنهم قبلوا خبر رافع بن خديج: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة ". 3 - أنهم قبلوا خبر الغيرة بن شعبة ومحمد بن مسلمة في إعطاء الجدة السدس. فهنا كل واحد من هذه الأحاديث مما تعم به البلوى، وانفرد بروايته واحد، ومع ذلك فقد قبلها الصحابة وعملوا بها دون نكير. الدليل الثاني: أن هذا الراوي لهذا الخبر فيما تعم به البلوى عدل ثقة قد جزم بتلك الرواية، فهذا يغلب على الظن صدقه، وإذا كان كذلك فيجب تصديقه؛ لأن العمل بالغالب واجب، فيقبل خبره؛ قياساً على خبر الواحد فيما لا تعم به البلوى. المذهب الثاني: أن خبر الواحد فيما تعم به البلوى لا يقبل، ولا يعمل به. ذهب إلى ذلك جمهور الحنفية وعلى رأسهم: أبو الحسن الكرخي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 وعيسى بن أبان، والجصاص، وبعض المالكية كمحمد بن خويز منداد، نقله عنه الباجي في " إحكام الفصول "، واختاره أبو العباس بن سريج من الشافعية، كما نقله عنه صاحب الكبريت الأحمر. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول قالوا فيه: إن الدواعي متوفرة على نقل خبر الواحد فيما تعم به البلوى على سبيل الشهرة والاستفاضة، نظراً لحاجة عموم المكلَّفين إليه، وكثرة سؤالهم واستفسارهم عنه، وإذا كثر السؤال كثر الجواب، وإذا كثر الجواب كثر ناقليه من الرواة، فيبعد كل البعد أن يخفى حكم ما يقع للمكلفين بكثرة، فإذا لم يروه - مع ذلك - إلا واحد وانفرد به دلَّ على كذبه، وأنه لا أصل له كانفراد الواحد بنقل قتل أمير البلد في السوق بمشهد من الخلق. جوابه: يجاب عنه: بأنه إنما يلزم توفر الدواعي على نقله أن لو كان لا طريق إلى إثباته سوى النقل المتواتر، وأما إذا كان طريق معرفة ذلك إنما هو الظن، فخبر الواحد يكفي فيه، ولهذا يجوز إثبات ما تعم به البلوى بالقياس اتفاقاً. ولا نسلم ما قلتموه من أنه يلزم من كثرة الاستفسارات والأسئلة والأجوبة عنها أن يكثر النقل، بل إنه يجوز أن تكثر الأجوبة، ولا يكثر الناقلون، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها: شروط البيع، وشروط النكاح، والأذان والإقامة، فإنها نقلت وثبتت بخبر الواحد وهي مما يفعل في كل يوم، ولم ينقل نقلاً عاما، والسبب في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 ذلك: انشغال الصحابة بأمورهم الخاصة والعامة وانشغالهم بالجهاد، وإذا كان هذا جائزاً فإنه يجوز كثرة الأجوبة دون كثرة الناقلين. الدليل الثاني قالوا فيه: إن ما تعم البلوى به كخروج النجاسة من السبيلين يوجد كثيراً، ويتكرر في كل وقت، فيجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - إشاعته، وأن لا يقتصر على مخاطبة الآحاد به، بل يلقيه على عدد التواتر مبالغة في إشاعته؛ لأن عدم إشاعته يؤدي إلى إخفاء بعض الأحكام الشرعية، وإبطال صلاة أكثر الخلق وهم لا يشعرون، ولما كان هذا الخبر مما تعم به البلوى لم ينقله إلا الواحد، فإن هذا مما يثير الشك في ثبوته، والحديث المشكوك في ثبوته لا يقبل. جوابه: يجاب عنه: بأن ما ذكرتموه إنما يصح أن لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد كلَّفه الّه تحالى بإشاعة الأحكام على لسان أهل التواتر، وهذا غير مسلم، فليس من شرط الخبر الذي تعم به البلوى أو غيره أن يشيعه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بل الحق في ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - مكلَّف بإشاعة بعض الأحكام، ورد الخلق في بعضها الآخر إلى خبر الواحد؛ لأن مصلحة الخلق اقتضت ذلك؛ قياساً على حديث الأشياء الستة، فقد بين فيه: أنه لا يجوز الربا في البر - فقط - فقاس العلماء عليه كل المطعومات بجامع: الطعم في كل، وكان يسهل على النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أوتي جوامع الكلم أن يقول: " حرمت الربا في المكيل أو في المطعوم " حتى يستغنى عن الاستنباط والقياس على الأشياء الستة، وما فعل ذلك إلا لمصلحة أرادها الشارع، كذلك يقال هنا: من الجائز أن تقتضي مصلحة الخلق ردهم فيما تعم به البلوى إلى خبر الواحد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 - أما ما ذكروه من أنه يلزم من عدم إشاعته إبطال صلاة أكثر الخلق، فإن هذا غير صحيح؛ لأنه لا يلزم العمل بأي خبر إلا بشرط بلوغ ذلك الخبر إليهم، فمثلاً: من لم يبلغه حديث الوضوء من مس الذكر، فإنه غير ثابت في حقه. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية ومنها: - 1 - هل ترفع اليدان عند الركوع والرفع منه؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إن المصلي يرفع يديه عند الركوع وعند الرفع منه كما يفعل ذلك عند تكبيرة الإحرام، وهو مذهب الجمهور مستدلين بحديث ابن عمر أنه قال: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا قام إلى الصلاة رفع يديه حتى يكونا بحذو منكبيه، ثم يكبر، فإذا أراد أن يركع رفعهما مثل ذلك، وإذا رفع رأسه من الركوع رفعهما كذلك، وقال: سمع الله لمن حمده.. ". القول الثاني: إن المصلي لا يرفع يديه عند الركوع ولا عند الرفع منه. ذهب إلى ذلك الحنفية وبعض العلماء من غيرهم مستدلين بحديث ابن مسعود أنه قال: " لأصلين لكم صلاة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فصلى فلم يرفع يديه إلا مرد واحدة "، ولم يعمل هؤلاء بحديث ابن عمر مع أنه في الصحيحين؛ لأنه من باب ما تعم به البلوى، فكان من حقه أن يشتهر ولم يشتهر. 2 - هل مس الذكر باليد ينقض الوضوء؟ اختلف في ذلك على قولين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 القول الأول: أن مس الذكر ينقض الوضوء، وهو مذهب الجمهور وقد استدلوا بحديث بسرة بنت صفوان: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " من مس ذكره فلا يصلي حتى يتوضأ ". القول الثاني: أن مس الذكر غير ناقض للوضوء، وهو مذهب أكثر الحنفية، وقد استدلوا بحديث قيس بن طلق عن أبيه طلق بن عليّ أنه سأل - صلى الله عليه وسلم - عن الوضوء من مس الذكر، فقال " لا، هل هو إلا بضعة منك "، ولم يأخذوا بحديث بسرة، لأنه خبر واحد فيما تعم به البلوى. المسألة الثانية والعشرون: خبر الواحد في الحدود وما يسقط بالشبهات: خبر الواحد إذا ورد بإيجاب حد أو نحوه مما تسقطه الشبهة، فهل يقبل ذلك الخبر، ويثبت به أصل الحد والعقوبة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن خبر الواحد الوارد بإثبات حد، أو ما يجري مجراه مما تسقطه الشبهة يقبل مطلقاً. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قياس خبر الواحد في الحدود على خبر الواحد في غير ذلك، بيانه: أنه كما وجب قبول خبر الواحد فى غير الحد من سائر الأحكام الشرعية، فإنه يجب قبول خبر الواحد في الحدود وما يجري مجراها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 مما تسقطه الشبهة، ولا فرق بينها، والجامع: أن الراوي في ذلك كله عدل ثقة جازم في الرواية، ولم يعارضه مثله. الدليل الثاني: أن أدلة حجية خبر الواحد عامة لجميع أخبار الآحاد، فلم تفرق بين ما ورد بإثبات حد، أو بغير ذلك، ولا يوجد دليل صحيح على التفريق بينهما. الدليل الثالث: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: أن شهادة الشهود توجب غلبة الظن، والاحتمال فيها متطرق، ومع ذلك تثبت بها - أي بالشهادة - الحدود وما يجري مجراها مما تسقطه الشبهة، فإذا كان الأمر كذلك في الشهادة وهي آكد، فمن باب أَوْلى قبول خبر الواحد الوارد في إثبات الحدود، قياساً عليها، ولا فرق بينهما، والجامع: إفادة الظن، وتطرق الاحتمال لكل منهما. المذهب الثاني: أنه لا يقبل خبر الواحد الوارد بإثبات الحدود، وما يجري مجراها مما تسقطه الشبهة. حكي هذا عن أبي الحسن الكرخي، واختاره أبو عبد اللَّه البصري، والسمرقندي في " ميزان الأصول "، وهو ظاهر كلام أبي عبد الله الصيمري في " مسائل الخلاف "، والبزدوي في " أصوله "، والسرخسي في " أصوله ". دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، فهو غير مقطوع في صحته، فصار فيه شبهة الغلط، وشبهة الكذب، فلم يثبت كونه خبراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بطريق القطع، بل إن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 الشبهة والحدود وضعت أصلاً على أنها تسقط بالشبهات؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ادرأوا الحدود بالشبهات "، فعلى هذا: لا يجوز إثبات الحدود وما يجري مجراها بخبر الواحد؛ نظراً لتطرق الشبهة إلى ذلك. جوابه: يجاب عن ذلك بما يلي: 1 - قولكم: " إن خبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وما دام كذلك ففيه شبهة الغلط والكذب " ظاهر البطلان؛ لأن الحدود تثبت بما لا يفيد إلا الظن مثل " الشهادة " - كما سبق -، ومثل " القياس " فهو لا يفيد إلا الظن ومع ذلك فإن الحد يثبت به. 2 - استدلالكم بحديث: " ادرأوا الحدود بالشبهات " لا نسلمه؛ لوجهين: الوجه الأول: أن لفظ " الشبهة "، أو " الشبهات " لم يرد في الحديث، والحديث الذي روته عائشة - رضي اللَّه عنها - ورد بلفظ: " ادرأوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم " - أخرجه الحاكم في " المستدرك " وقال " صحيح الإسناد ولم يخرجاه، وتعقبه الذهبي في " مختصره "، فقال: فيه يزيد بن زياد - وهو من رواة الحديث - قال فيه النسائي: متروك، وأخرجه الدارقطني والبيهقي في "سننهما" مرفوعاً، وقال البيهقي: الموقوف أقرب إلى الصواب، وللحديث طريق آخر عن عليّ - رضي اللَّه عنه - مرفوعاً بنفس اللفظ السابق. قال الزيلعي في " نصب الراية " - لما ذكر ما سبق -: " ولكن في إسناده رجل ضعيف ". الوجه الثاني: على فرض صحته، وعلى فرض ورود لفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 "الشبهة أو الشبهات " في الحديث، فإن المراد بالشبهة هنا هي: الشبهة في الفاعل كأن يكون جاهلاً للتحريم، أو زائل العقل، أو الشبهة في الفعل، كأن يطأ امرأة يظنها زوجته، أو أمَته، أو الشبهة في المفعول به، كأن تكون الموطوءة أَمَة ابنه، أو أمَة مشتركة. فتكون الشبهة - على هذا - في نفس السبب، لا في المثبت. إذن لا يصح الاستدلال بهذا الحديث على ما ذهبوا إليه. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية، فأصحاب المذهب الثاني لا يعملون بخبر الواحد الوارد بإثبات حد بمجرده، بل يشترطون أن يؤيد بدليل آخر. أما أصحاب المذهب الأول: فإنهم يعملون بخبر الواحد الوارد بإثبات حدود وما أشبه ذلك بمجرده. المسألة الثالثة والعشرون: حكم رواية الحديث بالمعنى: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه تجوز رواية الحديث بالمعنى. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء. وهو الحق، ولكن هذا ليس على إطلاقه، بل بشروط هي كما يلي:. الشرط الأول: أن يكون الراوي مسلما مكلفا، ضابطا عدلا - وهو شروط الراوي السابقة الذكر - مع معرفته بدلالات الألفاظ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 وصيغ الخطابات وأساليبها واستعمالاتها، بأن يكون مفرقا بين أقسام المنطوق، والمفهوم، ومفرقاً بين عبارة النص، وإشارته، ودلالته، واقتضائه، ومفرقاً بين المحتمل وغير المحتمل، والظاهر والأظهر والعام والأعم، واشترطنا ذلك حتى تكون روايته لمعنى الحديث مساوية للأصل في الجلاء والخفاء، فإن كان جاهلاً بذلك فلا تجوز له رواية الحديث بالمعنى. الشرط الثاني: أن يبدل لفظة بما يرادفها، ولم يختلف الناس في هذا الترادف كأن يبدل لفظ " الجلوس " بلفظ " القعود "، ويبدل لفظ " الصب " بلفظ " الإراقة "، ولفظ " الاستطاعة " بلفظ "القدرة"، ونحو ذلك مما لا يتطرق إليه تفاوت الاستنباط والفهم بين الناس، أما إذا تفاوتت أنظار المجتهدين في هذا اللفظ، فلا يجوز قطعاً إبداله بلفظ آخر. الشرط الثالث: أن لا يكون اللفظ في الحديث من باب المتشابه كأحاديث الصفات، فإن كان من هذا الباب فلا يجوز نقلها بالمعنى، لأن الذي يحتمله ما أطلقه النبي - صلى الله عليه وسلم - من وجوه التأويل لا ندري أن غيره من الألفاظ يساويه أم لا. الشرط الرابع: أن لا يكون اللفظ الوارد في الحديث مما تعبدنا بلفظه، فإن كان مما تعبدنا بلفظه كألفاظ " التشهد " والأذان، والتكبير، فهذا لا يجوز نقله بالمعنى. الشرط الخامس: أن لا يكون الحديث من جوامع الكلم، فإن كان منها كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "العجماء جبار "، وقوله: " البينة على المدعي "، وقوله: " لا ضرر ولا ضرار "، وقوله: " الخراج بالضمان "، فلا تجوز رواية ذلك بالمعنى، أي: لا بد من نقلها بلفظها؛ لأنه لا يمكن درك جميع معاني جوامع الكلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 فإذا توفرت هذه الشروط فإنه تجوز رواية الحديث بالمعنى عندنا ولا مانع؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: القياس على ترجمة السُّنَّة بلغة العجم، بيانه: أنه يجوز شرح ونقل الشرع للعجم بلسانهم، فإذا جاز إبدال لفظة عربية بلفظة أعجمية تساويها وترادفها، فإنه يجوز إبدال لفظة عربية بلفظة عربية أخرى ترادفها بجامع: استبدال لفظة بما يرادفها دون زيادة ولا نقصان. بل إن إبدال لفظة عربية بأخرى عربية ترادفها أَوْلى من إبدال لفظة عربية بلفظة أعجمية؛ لأن اللسان متحد في إبدال لفظة عربية بلفظة عربية، بخلاف إبدال لفظة عربية بعجمية، فإن اللسان مختلف. الدليل الثاني: أنا نعلم بالضرورة أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - الذين رووا عن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - هذه الأخبار ما كانوا يكتبونها في ذلك المجلس، وما كانوا يكررون عليها في ذلك المجلس، بل كما سمعوها تركوها، وما ذكروها إلا بعد الأعصار والسنين، وذلك يغلِّب على الظن أنه يتعذر روايتها على تلك الألفاظ التي سمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - الدليل الثالث: الوقوع من الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - بيان ذلك: أن - صلى الله عليه وسلم - كان يقيم الخطب في الجمع، وفي بعض الوقائع يتكلم بكلام طويل فيه الأوامر والنواهي، والمواعظ والإرشادات التي تهم المسلمين، وقد رواها بعض الصحابة بألفاظ تختلف عن ألفاظ البعض الآخر، مع أن المقصود واحد، ولم ينكر ذلك أحد، إذ لو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 كان هناك إنكار لنقل وبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك مما يدل على أن نقل الحديث بالمعنى جائز. الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يبعث سفراءه ورسله إلى الروم، والفرس، وأطراف البلاد، والقبائل، وكان هؤلاء يبلغون أوامر النبي - صلى الله عليه وسلم - ونواهيه، وكل ما يقولونه بلغة المبعوثين إليهم بدون إنكار من النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه يعلم أن لغته تختلف عن لغة هؤلاء، فكان هذا إقرار منه على جواز نقل الحديث بالمعنى. المذهب الثاني: أنه لا تجوز رواية الحديث بالمعنى مطلقا، بل الواجب نقل الحديث بلفظه وصورته. ذهب إلى ذلك أكثر الظاهرية، وبعض متأخري أهل الحديث، وبعض الفقهاء كمحمد بن سيرين. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: ما رواه زيد بن ثابت: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نضر اللَّه امرءاً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب مبلغ أوعى من سامع، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه "، فإن هذا نص في عدم جواز رواية الحديث بالمعنى، حيث إن قوله: " فوعاها فأداها كما سمعها " يدل على ذلك دلالة صريحة. جوابه: يجاب عن الاستدلال بهذا الحديث بأن الحديث حُجَّة مؤيدة لمذهبنا - وهو جواز رواية الحديث بالمعنى - وذلك من ثلاثة أوجه: الوجه الأول: أن الظاهر أن الحديث المروي حديث واحد، ولم يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأن الأصل عدم التكرار، ومع ذلك فقد روي نفس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 الحديث بألفاظ مختلفة، فإنه قد روي بلفظ: " نضر اللَّه امرءاً "، وروي بلفظ: " رحم اللَّه امرءاً "، وروي بلفظ: " فرب حامل فقه غير فقيه "، وروي بلفظ: " ورب حامل فقه لا فقه له "، وكلها بمعنى واحد، فهذا يدل على جواز رواية الحديث بالمعنى. الوجه الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد ذكر علَّة المنع من رواية الحديث بالمعنى وهي: اختلاف الناس في الفقه والفهم، لأنه هو المؤثر في اختلاف المعنى، فيكون المراد بذلك على طريق الاحتياط في حق من لا يفهم المعنى خوفاً من أن يبدله بما ليس في معناه، ونحن قد اشترطنا لرواية الحديث بالمعنى شروطاً، منها: أن يكون الراوي عالما مفرقاً بين صيغ الخطابات ودقائق الألفاظ ودلالتها، فإن لم يكن كذلك فلا تجوز رواية الحديث بالمعنى. الوجه الثالث: أن من نقل معنى لفظ الحديث، دون زيادة: ولا نقصان، فقد أدى الحديث كما سمعه، ولا يمكن أن يقال عنه: إنه كذب في الحديث، يؤيد ذلك: أن المترجم والشاهد يقال له: أدى ما سمع، وكذلك من بلغ إنساناً رسالة فحفظ معناها يقال له: أدى ما سمع. وهكذا بأن لك أن الحديث يدل على ما ذهبنا إليه، وهو جواز رواية الحديث بالمعنى. الدليل الثاني: قياس الحديث على القرآن وكلمات الأذان، والتشهد، والتكبير. بيان ذلك: أن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - قول: " قد تعبدنا باتباعه " فلا يجوز تبديله بغيره كالقرآن، وكلمات الأذان، كالتشهد، والتكبير. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا قياس مع الفارق فلا يصح، وذلك لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 المقصود من ألفاظ القرآن الكريم الإعجاز، فتغييره مما يخرجه عن ذلك الإعجاز لا يجوز، بخلاف الحديث؛ حيث إن المقصود منه المعنى دون اللفظ. أما كلمات الأذان والتشهد والتكبير، فالمقصود منها إنما هو التعبد بها، وذلك لا يحصل إلا بألفاظها، دون معانيها، وقد بينا ذلك في الشرط الرابع، بخلاف الحديث، فالمقصود المعنى دون اللفظ. المسألة الرابعة والعشرون: حذف بعض الحديث: إذا سمع الراوي خبراً وأراد نقل بعضه وحذف بعضه، فالحكم في ذلك فيه تفصيل: أولاً: إن كان الحديث قد تضمن أحكاماً يتعلق بعضها ببعض كأن يكون مشتملاً على ذكر شرط، أو استثناء، أو غاية، فلا يجوز للراوي أن يحذف شيئاً منه؛ لأن فيه تغييراً للحكم وتبديلاً للشرع. مثال الشرط: قوله عليه الصلاة والسلام: " من قاء أو رعف أو أمذى فليتوضأ وضوءه للصلاة ". ومثال الاستثناء: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبيعوا البر بالبر ... إلا سواء بسواء مثلاً بمثل ". ومثال الغاية: " نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمار حتى تزهى "، فهذه الأحاديث لا يجوز حذف بعضها. ثانيا: إن كان الحديث قد تضمَّن أحكاما لا يتعلق بعضها ببعض، فإن الأفضل نقل الحديث بتمامه. ولكن يجوز حذف بعضه عند الحاجة؛ قياسا على الأخبار المتعددة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 بيان ذلك: أن من حفظ أخباراً متعددة، فله رواية بعضها وترك بعضها الآخر عند الحاجة، فإذاً هذا جائزاً، فهذا مثله ولا فرق بجامع: أنه نقل ما يتم المعنى به. مثال ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، ويرد عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم "، فهنا يجوز حذف بعض هذا الحديث للاستدلال به على حكم معين. *** المسألة الخامسة والعشرون: حكم مرسل الصحابي: المقصود بذلك: أن يروى الصحابي حديثا عن - صلى الله عليه وسلم - وهو لم يسمعه منه شفاها، بل سمعه من صحابي آخر. وسمي مرسلاً نظراً لعدم تقييده بذكر الواسطة بين الراوي والرسول - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء في قبول مرسل الصحابي على مذهبين: المذهب الأول: أن مرسل الصحابي مقبول مطلقا، أي: سواء عرفنا أنه لا يروي إلا عن عدل أو لم نعرف بذلك، وسواء صرَّح بذلك، أو لم يصرح. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: الإجماع؛ حيث وقع أن الصحابة - رضي الله عنهم - كانوا يرسلون الأحاديث، بدون نكير من أحد، إذ لو كان هناك إنكار لبلغنا، وما دام أنه لم يبلغنا شيء من ذلك، فإنه يدل دلالة واضحة على إجماعهم على قبول مرسل الصحابي مطلقا، فأكثر روايات الصحابة - سواء كانوا صغاراً أم كبارا - عن - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 لم يسمعوها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل بواسطة صحابي آخر، فتكون مراسيل، أيَّد ذلك أمران: الأمر الأول: ما ذكره الخطيب البغدادي في " الكفاية ": أن البراء بن عازب بن الحارث الأنصاري قال: " ليس كلنا سمع حديث رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، كانت لنا صنيعة وأشغال، وكان الناس لم يكونوا يكذبون - يومئذٍ - فيحدث الشاهد الغائب "، وهذا نص فيما نحن فيه. الأمر الثاني: أنه وقع من بعض الصحابة أنه كان يروي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنه سمعه منه مباشرة، فإذا استكشف وسئل عنه بين أنه لم يسمعه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل سمعه من صحابي آخر، ومن أمثلة ذلك: المثال الأول: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا ربا إلا في النسيئة "، ولما أخبره أبو سعيد الخدري بحديثه في الربا، قال ابن عباس: " ما سمعته من النبي - صلى الله عليه وسلم -، وإنما حدثني به أسامة بن زيد المثال الثاني: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - روى أنْ النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة، فلما سئل عنه أسنده إلى الفضل بن عباس. المثال الثالث: أن أبا هريرة - رضي اللَّه عنه - روى - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من أصبح جنباً فلا صوم له "، فلما أخبر أن عائشة أنكرت ذلك وقالت: كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنبا ويتم صومه، ذكر أن الفضل بن عباس هو الذي حدَّثه بهذا الحديث. المثال الرابع: أن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - روى: أن النبي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صلى على جنازة فله قيراط "، وأسنده بعد ذلك إلى أبي هريرة. الدليل الثاني: أن الأُمَّة قد أجمعت على قبول كل ما رواه عبد الله ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - مع إكثاره في الرواية، وهو لم يسمع أكثر الأحاديث التي يرويها من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - توفي وابن عباس لم يبلغ الثالثة عشرة من عمره، بل سمعها وأخذها من كبار الصحابة. وكذلك غير ابن عباس من صغار الصحابة كعبد الله بن جعفر بن أبي طالب، وعبد الله بن الزبير، والنعمان بن بشير، والحسن والحسين ابني عليّ بن أبي طالب، وغيرهم، فقد كان الصحابة وغيرهم من التابعين يقبلون ما يروون مع علمهم بأن أكثر ما رووه لم يسمعوه من النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، بل من كبار الصحابة، حيث كان هؤلاء يحرصون كل الحرص على إحضار صغارهم أماكن اجتماعاتهِم ليرووا عنهم، ولما روى هؤلاء - أعني صغار الصحابة - قبلت الأُمَّة كل رواياتهم، ولم ينكر أحد شيئاً من ذلك، ولو وقع إنكار لنقل إلينا، ولكن لم يثبت شيء من ذلك، فثبت أنه يجب قبول مرسل الصحابي مطلقا. المذهب الثاني: أن مرسل الصحابي لا يقبل إلا بشرط معرفتنا: أن من عادة هذا الصحابي أنه لا يروي إلا عن صحابي آخر. ذهمب إلى ذلك قوم وصفهم بعض العلماء بانهم شواذ. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن عدالة الصحابي معلومة وثابتة، ولا نتهمه في ذلك، فلم يكن السبب في عدم قبولنا لمرسله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 هو الشك في ذلك، ولكن لم نقبل مرسله لسبب آخر وهو: احتمال أن يروي عن شخص لم تثبت صحبته، أو عن تابعي لم تثبت عدالته. وهذا الاحتمال هو الذي سبب هذا التوقف حتى يأتي ما ينفي ذلك. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن الظاهر من حال الصحابي أنه لا يروي الحديث إلا عن شخص قد ثبتت صحبته، وقد سمع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فاحتمال الرواية من غير الصحابي احتمال بعيد، وتصور مجرد عن الدليل، والاحتمال المجرد عن الدليل لا يعتمد عليه. الجواب الثاني: على فرض أن الصحابة قد روى عن بعض التابعين فإنا نجزم بأنه لا يروي إلا عن من ثبتت عدالته لديه، واحتمال أن الصحابي قد يروي عمن لم تثبت عدالته هذا احتمال بعيد جداً، وتصور غير واقع، ولا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعول عليه؛ ذلك لأن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد اختارهم الله عَزَّ وجَلَّ لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وقد عدلهم اللَّه في كتابه وسُنَّة رسوله، فمن كانت هذه صفته يستحيل أن يرووا عن غير العدل الثقة؛ لأن هذا فيه تلبيس وتدليس على الأُمَّة، وهذا يستحيل في حقهم. تنبيه: قال أبو الخطاب في " التمهيد "، وعبد العزيز البخاري في " كشف الأسرار ": إن مراسيل الصحابة مقبولة بالإجماع. قلت: هذا ليس بصحيح، بل الصحيح: أن قبول مراسيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 الصحابة هو مذهب الجمهور، كما قلنا - هنا -؛ لأن هناك فرقة من الناس قد خالفت في ذلك، ومع ذلك فلا إجماع. اعتراض على ذلك: قال معترض على ذلك: إن الفرقة المخالفة فرقة شاذة لا يُعتد بقولها، فلا يؤثر بإجماع العلماء. جوابه: يجاب عنه: بأن العلماء قد اعتدوا بخلاف تلك الفرقة، وسردوا أدلتهم، وأجابوا عنها، ولو لم يعتد بخلاف تلك الفرقة لما ردوا عليهم ولما أبطلوا مذهبهم بالأدلة. المسألة السادسة والعشرون: حكم مرسل غير الصحابي: والمراد به: أن يقول الراوي العدل الثقة المتحرز لدينه الذي لم يدرك النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كذا ". أو يقول الراوي الذي لم يدرك أبا هريرة: " قال أبو هريرة كذا". هذا تعريف المرسل عند الفقهاء وأكثر الأصوليين، وهو الحق؛ لأنه أعم من غيره. أما عند المحدثين وبعض العلماء من غيرهم، فالمرسل هو: قول التابعي: قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. واختلف العلماء في قبول مرسل غير الصحابي على مذاهب: المذهب الأول: أنه يقبل مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 الدليل الأول: أن الظاهر من حال الراوي العدل الثقة أنه لا يجوز لنفسه أن يروي حديثا عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إلا إذا علم، أو غلب على ظنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد قاله فعلاً، وهذا لا يكون إلا إذا كانت عدالة الشيخ الذي روى له الحديث قد ثبتت واستقرت عند ذلك الراوي الذي أرسل هذا الحديث؛ لأنه يبعد أن يظن ذلك الراوي عدم صدوره عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومع ذلك يرويه؛ لأن ذلك كذب مسقط لعدالته، وإذا كان الأمر كذلك فيجب قبول ما ينسبه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن من عادة الراوي العدل أن لا يرسل الحديث إلا إذا تيقن من ثبوت هذا الحديث، فإذا شك فيه فإنه لا يرسله، بل يذكر الشيخ الذي حدثه به؛ لتكون العهدة على ذلك الشيخ، وهذه عادة مستمرة لهم، يؤيد ذلك ما ذكره ابن عبد البر في " التمهيد " عن إبراهيم النخعي أنه قال: " إذا رويت عن عبد اللَّه - يقصد ابن مسعود - فقد حدَّثني واحد، وإذا أرسلت فقد حدَّثني جماعة عنه "، فإذا كانت هذه عادتهم - وهي: أنهم لا يرسلون إلا ما ثبت عندهم - فيكون الحديث المرسل ثابتاً، والثابت يقبل ويعمل به. الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) . وجه الدلالة: أن هذه الآية أوجبت على الطائفة إذا رجعت إلى قومها أن تنذرهم، ولم تفرق الآية في الإنذار بين ما أرسلوه وما أسندوه، فهذا يدل على قبول الحديث المرسل كما يقبل الحديث المسند ولا فرق. الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 وجه الدلالة: أن الآية أوجبت التبين والتثبت إذا جاء فاسق بنبأ وخبر، فإن كان غير فاسق - وهو العدل - وجب قبول خبره مطلقاً، أي: سواء كان مسنداً أو مرسلاً. المذهب الثاني: أن الحديث المرسل يقبل إذا كان مرسله في العصور الثلاثة: عصر الصحابة،، وعصر التابعين، وعصر تابعي التابعين، ولا يقبل في غيرها إلا من أئمة النقل، وهو مذهب بعض الحنفية كعيسى بن أبان. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ". وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قد شهد لأصحاب تلك القرون بالعدالة، وذلك يوجب صدقهم، فيجب قبول قولهم وخبرهم مطلقاً، سواء كان مرسلاً أو مسنداً. وقالوا: إنا نقبل الحديث المرسل من غير تلك العصور بشرط كون المرسل - بكسر السين - واحداً من أئمة النقل؛ لأن أئمة النقل قد عرفوا بالبحث والاطلاع على أحوال الرواة، فإذا أرسلوا فذلك لمعرفة من أرسلوا عنه معرفة توجب حد اطمئنان النفس إلى صدقه، بخلاف غيرهم، فلا يقبل منهم شيئاً إلا إذا تعين اسمه، فنبحث عنه. جوابه: يجاب عنه بأنكم فرقتم بين أئمة النقل وغيرهم، وهذه التفرقة لا تفيد إذا تحققت في الراوي العدالة والثقة وبقية شروط الراوي السابقة، أي: أن الراوي إذا توفرت فيه شروط الرواية - وهي الإسلام، والتكليف، والضبط، والعدالة - فإنا نقبل خبره سواء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 كان مرسلاً أو مسند، وسواء كان من أئمة النقل أو من غيرهم، وسواء كان من العصور الثلاثة أو لا. المذهب الثالث: أن الحديث المرسل يقبل من أئمة النقل فقط، دون غيرهم، وهو اختيار ابن الحاجب. دليل هذا المذهب: أن إرسال أئمة النقل من النابعين كان مشهوراً مقبولاً، ولم ينكره أحد كإرسال سعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، وغيرهم، فكان إجماعاً على قبول مرسل أئمة النقل. جوابه: يجاب غنه: بأنه لا وجه للتفرقة بين أئمة النقل وغيرهم؛ لأن الراوي إذا كان عدلاً، فإنه يرجح جانب الصدق على جانب الكذب، وإن لم يكن من أئمة النقل كما قلنا في جواب دليل أصحاب المذهب الثاني. المذهب الرابع: أن المرسل يقبل إذا توفر فيه أحد الأمور التالية: 1 - أن يكون قد أسنده غير مرسله. 2 - أن يكون قد أرسله آخر يروي عن غير شيوخ الأول. 3 - أن يعضده قول صحابي. 4 - أن يعضده قول أكثر العلماء. 5 - أن يعرف من حمال الذي أرسله أنه لا يرسل عمن فيه جهالة أو غيرها، وأنه لا يرسل إلا عمن يقبل قوله كمراسيل سعيد بن المسيب. فإن انضم إلى الحديث المرسل أحد هذه الأمور قبل، وإلا: فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -، واختاره بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، وناصر الدين البيضاوي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الراوي لا يقبل خبره إلا إذا كان عدلاً، ومن أرسل عنه الراوي لم نعرف عدالته، فلا موجب لقبول خبره. وقلنا: إن المرسل عنه غير معروف العدالة، لعدم معرفة اسم المرسل عنه. وقلنا: إن المرسل يقبل عند انضمام واحد من تلك الأمور السابقة إليه، لأن الواحد من تلك الأمور يغلِّب جانب الصدق على جانب الكذب، وبذلك يقبل. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه إذا لم يذكره أنا نجهل عدالته، وذلك لأنا بينا - فيما سبق - أن الراوي لو لم تصح وتثبت عنده عدالة شيخه الذي حذَثه لا يمكن أن يروي عنه فيلزم الناس تحكما بقول فاسق أو مجهول، وهذا ينافي عدالته، فثبت بهذا أنه لا يروي إلا عن عدل. الجواب الثاني: أن رواية الراوي عمن أرسل عنه تعتببر تعديلاً له؛ لأن المرسل لو روى عن غير عدل ولم يبين لنا حاله كان غاشا ومدلساً على الأمة، وتسقط عدالته بذلك، وما دامت الرواية عنه تعديلاً له وجب قبول خبره؛ نظراً لتوفر العدالة المقتضية للقبول. الدليل الثاني: أن شاهدي الفرع إذا كانا عدلين لم يجز أن يشهدا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 على شاهدي الأصل من غير ذكرهما، كذلك هنا في الخبر لا يمكن أن نقبل حديثا رواه عدل إلا إذا عين الشيخ المروي عنه، ولا فرق بينهما، والجامع: أن العدالة معتبرة في كل واحد منهما. جوابه: يجاب عنه: بأن قياس الرواية على الشهادة قياس مع الفارق فلا يصح؛ حيث توجد فروق بينهما، ومنها: 1 - أن الشهادة آكد من الرواية - كما سبق بيانه -. 2 - أن الشهادة تجب باللفظ ولا تقبل بالمعنى، بخلاف الرواية فتجوز بالمعنى - كما سبق -. 3 - أن الشهادة يشترط فيها العدد، بخلاف الرواية فلا يشترط فيها ذلك. 4 - أنه يشترط في الشهادة الذكورية، أما الرواية فلا. 5 - أنه يشترط في الشهادة الحرية، بخلاف الرواية. 6 - أنه في الشهادة لا تسمع شهادة الفرع إلا بعد العجز عن سماع شهادة الأصل، أما في الرواية فيجوز ذلك. 7 - أن شهود الفرع لا يشهدون إلا بعد أن يحمِّلهم شهود الأصل تلك الشهادة، فيقولوا: " اشهدوا على شهادتنا "، بخلاف الرواية، فإن الراوي يروي الخبر من غير أن يقول له: " ارو عني ذلك ". وإذا اعترفتم بتلك الفروق بين الشهادة والرواية، فلا يصح قياسكم الرواية على الشهادة. المذهب الخامس: أن مرسل غير الصحابي لا يقبل مطلقا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 وهو ما ذهب إليه الظاهرية، ونسبه ابن عبد البر إلى أصحاب الحديث، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بالدليلين السابقين اللذين استدل بهما أصحاب المذهب الرابع، وقد سبق الجواب عنهما. وزادوا دليلاً ثالثاً وهو: أنه لو جاز العمل بالحديث المرسل لم يكن لذكر أسماء الرواة والبحث عن عدالتهم فائدة ولا معنى؛ حيث إن الناس قد تكلفوا حفظ الأسانيد في باب الأخبار، وضبطها، فلو لم يكن لذلك فائدة - وهي الاطلاع على عدالة جميع رواة الحديث -: لما اشتغلوا به، نظراً لتساوي الإسناد والإرسال. جوابه: يجاب عنه: بأن ذكر أسماء الرواة له فائدتان، هما: الأولى: أن المخبر قد يشتبه عليه حال من يخبره، فلا يقدم على تعديله ولا على تجريحه، فيذكره ليتفحص فيه غيره. الفائدة الثانية. الاحتياط لنفسه، أي: أن الراوي يذكر من يخبر عنه؛ لا لأنه شك في عدالته، بل يذكره مع أنه يعدله ليتمكن السامع من الاطلاع على ذلك الراوي، فقد يكون عدلاً عند من ذكره، بينما يكون مجروحاً عند غيره، فيذكره الراوي احتياطا. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف لفظي، لأن أصحاب المذاهب قد اتفقوا على أن مرسل العدل الثقة مقبول، وعلى أن مرسل غير العدل غير مقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 فلو دققت النظر في أدلة أصحاب المذاهب لوجدت أنهم يعنون بالمرسل المقبول هو مرسل العدل الثقة، ويكنون بالرسل غير المقبول هو مرسل من لم تثبت عدالته. دلطَّ على ذلك كلام المحققين الأصوليين كأبي الوليد الباجي في "الإحكام "، والجصاص في " أصوله "، وأبي يعلى الحنبلي في "العدة"، وابن عقيل في " الواضح "، وشيخ الإسلام ابن تيمية في " المسودة "، والأنصاري في " فواتح الرحموت ". وهو الحق عندي: فمن قال بقبول الحديث المرسل يحمل على ما إذا كان المرسل - بكسر السين - من أولئك العلماء العدول الثقات الماهرين بمعرفة شرائط قبول الرواية، الذين يعرف من حالهم أنهم لا يرسلون إلا عمن يقبل حديثه. أما من قال بعدم قبول الحديث المرسل، فيحمل على موضع غلبة الريبة والشك في المرسِل - بكسر السين -. يؤيد ذلك: أن من قال بقبول المرسل - بشروط أو بعدم شروط - تراهم قد امتنعوا من قبول المراسيل إذا لم يكن المرسل من الأئمة العدول الثقات، وذلك لغلبة الريبة والشك في المرسل. وأن من قال بعدم قبول المرسل تراهم قد قبلوا مراسيل التابعين كسعيد بن المسيب، وذلك لانتفاء غلبة الريبة في المرسل. فيكون الخلاف - بذلك - لم يتوارد على محل واحد، فيكون لفظيا. أما ما ذكره بعضهم من أن الخلاف له ثمرة وأثر في بعض الفروع الفقهية، وذكر عدداً من المسائل الفقهية التي تأثرت بهذا الخلاف، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 فهذا غير صحيح؛ لأنك لو دققت النظر لوجدت أن الذي قبل الحديث المرسل في تلك المسائل لم يقبله لكونه مرسلاً وإنما قبله؛ لأنه غلب على ظنه صدق المرسل، أو لأن عمل الصحابة يوافقه، أو وافقه حديث آخر مسند، أو أنه لم ينكره أحد ممن يعتد بقوله، أو غير ذلك من الأدلة. وأن الذي لم يقبل الحديث المرسل لم يتركه، لكونه مرسلاً، وإنما تركه؛ لأنه شك في الراوي أو غير ذلك من الأدلة. *** المسألة السابعة والعشرون: الحكم إذا تعارض المرسل مع المسند: اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يقدم المسند على المرسل. ذهب إلى ذلك الإمام أحمد، وأكثر المالكية، وكثير من الحنفية. وهو الحق؛ لأن المسند قد اتفق على قبوله والاحتجاج به، أما المرسل فقد اختلف فيه، فالمسند له مزية فضل لموضع الاتفاق، وسكون النفس إليه أكثر من المرسل، ولذلك يقدم المسند. المذهب الثاني: أنه يقدم المرسل على المسند. ذهب إلى ذلك بعض الحنفية، وبعض المالكية. دليل هذا المذهب: أن من أسند فقد أحالك على البحث عن أحوال الرواة الذين سماهم لك، ومن أرسل من الأئمة حديثا مع توفر شروط الراوي فيه، فقد قطع لك بصحة هذا الحديث وكفاك النظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ حيث إن المسند تطمئن النفس إليه، نظراً لاطلاعنا على رواة الحديث وتأكدنا من عدالة كل راوٍ بأنفسنا، أما المرسل فلم نعلم عدالة الراوي الذي لم يذكر إلا من خلال الذي روى الحديث لنا، فيكون المسند أقوى. المذهب الثالث: أنهما سواء في وجوب الاحتجاج. ذهب إلى ذلك ابن جرير الطبري، والأبهري، وأبو الفرج المالكي. دليل هذا المذهب: أن السلف - رحمهم اللَّه - قد أرسلوا، ووصلوا وأسندوا، ولم يعب واحد منهم على صاحبه شيئاً من ذلك، وعملوا بالجميع ولم يفرقوا بين مرسل ومسند. جوابه: يجاب عنه: بأنا معكم بأنه يجب العمل بالمرسل والمسند؛ إذ لا فرق بينهما في العمل، ولكن الخلاف فيما إذا تعارضا أيهما المقدم، فدليلكم ليس في محل النزاع. يؤيد ذلك: أن الدليل الظني والدليل القطعي كل واحد يجب العمل به، ولكن إذا تعارضا، فإنه يقدم القطعي على الظني. المذهب الرابع: التوقف، أي: إذا تعارض المسند مع المرسل، فإنا نتوقف ولا نرجح أحدهما على الآخر حتى يأتي دليل آخر يرجح أحدهما، وهو مذهب بعض العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 دليل هذا المذهب: أنه لا فرق بينهما في القوة، والعمل، والاحتجاج، فليس أحدهما بأولى من الآخر. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنهما متساويان في القوة، حيث إنا بينا أن المسند أقوى من المرسل لذلك تسكن النفس إليه، واتفق العلماء على قبوله، أما المرسل فنظراً لضعف سكون النفس إليه فقد اختلف العلماء فيه كما سبق. المسألة الثامنة والعشرون: أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأحكامها: للكلام عنها لا بد من التفصيل الآتي: أولاً: أفعاله الجبلية: وهي ما جبل الإنسان عليها وما تشترك فيها نفوس الخلق، وما فطر اللَّه عليها البشر مما لا يملك الإنسان فيه حرية التصرف كالقيام، والقعود، وهواجس النفس، وحركة اليد أثناء المشي، ونحو ذلك، فهذا لا أسوة فيه، ولا يتبع النبي في شيء منه. ثانيا: أفعاله التي صدرت منه على وفق العادات: مثل أحواله في مأكله ومشربه، وملبسه، وتوسده يده إذا أراد النوم، ولبس الأبيض. من الثياب، وطريقة مشيته، وطريقة كلامه، فهذا يباح منا ومنه - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لم يقصد به التشريع، ولم نتعبَّد به، ولم تقع تلك الأفعال على سبيل الطاعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 ثالثا: الأفعال التي لم يتبين أمرها، ولم يوجد دليل على وقوعها قربة، أو عادة: كجلوسه - صلى الله عليه وسلم - للقيام إلى ثالثة من الصلاة الرباعية، والاضطجاع بعد الفجر، ومبيته بذي طوى، ونزوله بالأبطح، فقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يستحب للأُمَّة اتباع النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الأفعال، ويندب إلى ذلك، ولا يجب. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لعدم وجود الدليل الذي يدل على الوجوب، فيحمل على أن فعله أرجح من تركه، وهو الندب. المذهب الثاني: أنه يجب اتباع الأُمَّة لذلك، إلا ما دلَّ الدليل على أنه خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب الإمام مالك فيما حكي عنه، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره بعض الشافعية كأبي العباس ابن سريج، والأصطخري. دليل هذا المذهب: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فعل تلك الأفعال على أنها واجبة عليه، فيجب علينا الاقتداء به فيها. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ ذلك لأمرين: أولهما: أنه لا يوجد دليل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد فعلها وهي واجبة عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 ثانيهما: لو سلمنا أنها واجبة عليه فلا يلزم أنها واجبة علينا؛ لعدم الدليل على دخولنا فيه. المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يقوم دليل يطلب منا الفعل على الوجه المطلوب. وهو مذهب ابن فورك، وصحَّحه كثير من العلماء. دليل هذا المذهب: أنه لما كان هذا الفعل يحتمل أن يكون للندب، ويحتمل أن يكون للوجوب، ويحتمل الإباحة، ويحتمل أن يكون من خصائصه: كان التوقف متعيناً؛ لأن كل واحد منها ليس أَوْلى من الآخر. جوابه: يجاب عنه: بأن الاحتمال الأول وهو كونه للندب هو الراجح؛ لأن الدليل قد قواه وهو: أن فعله أرجح من تركه كما قلنا فيما سبق، أما الاحتمالات الثلاثة الأخرى فهي احتمالات بعيدة؛ لعدم وجود أدلة عليها، فيعمل على ما ترجح بالدليل. رابعاً: أفعاله التي فعلها لبيان مجمل، أو لتقييد مطلق: فإن هذا حكمه حكم المبين: فإن كان المبين واجباً فهو واجب، وإن كان المبيَّن مندوباً: فهو مندوب، وإنما كان كذلك؛ لأن البيان لا يتعدى رتبة المبين، ومتى تعداه لا يكون بياناً له، ولأن البيان ما انطبق على المبين كالتفسير ينطبق على المفسر. خامساً: الفعل الخاص به - صلى الله عليه وسلم -: كالزواج بأكثر من أربع، وجواز زواجه بدون مهر، ونحو ذلك، فهذا خاص به، لا يفعله غيره، ولا يجوز أن نتأسى به في تلك الأفعال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 سادسا: إذا فعل فعلاً لا يوصف بما سبق فما حكم التأسي به؟ إذا فعل - صلى الله عليه وسلم - فعلاً، وثبت أنه على وجه القربة، ولم يكن بيانا بالمجمل أو غيره، ولا قام الدليل على أنه من خواصه، وعلمنا صفته من الوجوب أو الندب، أو الإباحة، وذلك بنصه - صلى الله عليه وسلم -، أو بغير ذلك من الأدلة، فهل نحن متعبدون بهذا الفعل والتأسي به في فعله، سواء كان واجبا، أو مندوبا، أو مباحاً؟ اختلف في ذلك على مذاهب؛ ومن أهمها مذهبان: المذهب الأول: أنا متعبدون بالتأسي به. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - فقد كانوا مجمعين على الرجوع إلى أفعاله - صلى الله عليه وسلم - والتأسي بذلك - وهو أن يفعلوا مثل ما فعل - كرِجوعهم إلى تزويجه ليمونة وهو حرام، وفي تقبيله للحجر الأسود، وجواز تقبيله وهو صائم، ونحو ذلك. الدليل الثاني: قوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) . وجه الدلالة: أنه جعل التأسي بالنبي - صلى الله عليه وسلم - من لوازم رجاء اللَّه تعالى واليوم الآخر، ويلزم من عدم التأسي: عدم الملزوم، وهو: الرجاء لله واليوم الآخر، وذلك كفر كما هو واضح. الدليل الثالث: قوله تعالى: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي) . وجه الدلالة: أنه جعل المتابعة له لازمة من محبة اللَّه الواجبة، فلو لم تكن المتابعة لازمة: للزم من عدمها عدم المحبة، وذلك حرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 المذهب الثاني: أنا لسنا متعبدين بالتأسي به مطلقا. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لما كان احتمال الخصوصية قائماً في كل فعل مجرد، فلا يجوز التأسي به ومتابعته وأخذ الحكم منه؛ لاحتمال أن يكون مما يجوز له - صلى الله عليه وسلم -، ويحرم على غيره، فيكون من اقتدى به قد فعل حراماً. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد؛ لأن خصائصه التي ثبتت بأدلة صحيحة قليلة جداً، وقد قدرت بخمس عشرة خاصة، بينما أكثر الأحكام ثبت الاشتراك فيها كأنواع العبادات، وأركانها، وشروطها، وأسبابها، وما يستحب فيها من الأفعال والهيئات، وكذلك الآداب والمعاملات التي ثبت الاشتراك فيها، فهذه تزيد أضعافاً مضاعفة عما ثبت الاختصاص به، فلا يجوز أن تمنع دلالة الفعل المجرد في حقنا من أجل الاحتمال الذي لم يرد إلا قليلاً، وهو كونه من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -. المسألة التاسعة والعشرون: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -: ويتبين ذلك فيما يلي: أولاً: تعريفه: تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - هو: كف النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الإنكار على ما علم به من قول أو فعل، وستأتي الأمثلة على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 ثانياً: حجيته: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن التقرير حُجَّة، وهو قسم من أقسام السُّنَّة النبوية، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن النهي عن المنكر واجب، وتركه معصية، ويتنزه عنها أهل التقى من الأُمَّة، فمن باب أوْلى أن يتنزه عنها الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة والتسليم؛ وهو أول المسلمين وأتقاهم لله، ولو جاز له ترك إنكار المنكر لجاز ذلك لأُمَّته. الدليل الثاني: أن اللَّه تعالى أرسل نبيه بشيراً ونذيراً يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فلو سكت عما يفعل أمامه مما يخالف الشرع لم يكن ناهياً عن المنكر. الدليل الثالث: إجماع الصحابة - رضوان اللَّه عنهم - فقد كانوا يحتجون بتقريره - صلى الله عليه وسلم - على الجواز، بدون نكير من أحد منهم، ومن أمثلة ذلك: 1 - قول أبي بن كعب: " الصلاة في ثوب واحد سُنَّة كنا نفعله على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا يعاب علينا ". 2 - أن أنس بن مالك سئل وهو غاد إلى عرفة: كيف كنتم تصنعون في هذا اليوم مع رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فقال: " كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ ". المذهب الثاني: أن التقرير من - صلى الله عليه وسلم - ليس بحُجَّة في الشرع. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه من الجائز أنه سكت؛ لأنه أنكر عليه مرة فلم ينفع فيه الإنكار، وعلم أن إنكاره عليه ثانيا لا يفيد، فلم يعاود، وأقره عليه كما أقر اليهود على معتقداتهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يصلح التقرير دليلاً على الجواز. جوابه: - يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الدليل خارج عن محل النزاع، فهو خارج عن الإقرار الذي يحتج به؛ لأن شرطه: أن يكون المقر مسلماً ملتزماً، واليهود والنصارى ليسوا كذلك، فكيف يترك المسلم الملتزم المطيع المتتبع يفعل المنكر فلا ينهاه عنه. الجواب الثاني: على فرض أن الإقرار على مثل هذا جائز في بعض الأحوال، فإن هذا نادر جداً، والنادر لا حكم له، والحكم للأعم الأغلب. ثالثا: أنواع الإقرار: التقرير على أنواع: النوع الأول: الإقرار على الأقوال، ومثاله: أن ماعزاً اعترف بالزنا أمام النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاثا، كل ذلك يرده، فقال له أبو بكر: إنك إن اعترفت الرابعة رجمك رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. وهو على قسمين: الأول: ما يتعلق بالدين وأصوله وفروعه، وما ينبني عليه تشريع، فتقريره يدل على صحته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 الثاني: ما كان قولاً يتعلق بالدنيا، والأمور المغيبة عنه، فالتقرير عليه لا يدل على صدق الخبر، وثبوت مدلوله كما في قصة المنافقين. النوع الثاني: الإقرار على الأفعال، مثاله: إقراره - صلى الله عليه وسلم - خالد بن الوليد على أكل لحم الضب، فهذا النوع يدل على أنه لا حرج في ذلك. النوج الثالث: الإقرار على الترك، ومثاله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع أمر أهل مكة بالإتمام، فقال: " يا أهل مكة، أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر "، وأما ما بمِنَى وعرفة ومزدلفة، فلم ينقل أحد أنه أمرهم بذلك، فقال ابن تيمية: لو كان المكيون قد قاموا فأتموا الظهر والعصر والعشاء أربعا أربعا لما أهمل الصحابة نقل ذلك وهذا يدل على أنهم قصروا، ولم ينكر - صلى الله عليه وسلم - عليهم، ورجح بهذا: أن للمكيين القصر بالمناسك بعذر النسك. *** المسألة الثلاثون: تقسيمات السُّنَّة: السُّنَّة تنقسم إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة هي كما يلي: أولاً: تنقسم السُّنَّة من حيث حقيقتها إلى ثلاثة أقسام: 1 - السُّنَّة القولية. 2 - السُّنَّة الفعلية. 3 - السُّنَّة التقريرية، وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل. ثانيا: تنقسم السُّنَّة من حيث السند إلى قسمين: 1 - المتواتر. 2 - الآحاد. والحنفية يجعلون قسما ثالثا بينهما هو: المشهور، وقد سبق الكلام عنها بالتفصيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 ثالثاً: تنقسم السُّنَّة من حيث الصحة وعدم ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الحديث الصحيح وهو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط ضبطاً تاماً عن مثله إلى نهاية السند من غير شذوذ ولا علَّة قادحة. وهو نوعان: 1 - الصحيح لذاته، وهو الذي عرفناه فيما سبق. 2 - الصحيح لغيره، وهو ما صحح لأمر أجنبي عنه؛ إذ لم يشتمل على صفات القبول على أعلاها كالحسن إذا روي من غير وجه. حجيته: اتفق العلماء على الاحتجاج به في الأحكام الشرعية. القسم الثاني: الحديث الحسن، وهو: ما اتصل سنده بنقل العدل الضابط ضبطاً غير تام عن مثله إلى منتهى السند من غير شذوذ ولا عِلَّة قادحة. وهو نوعان: 1 - حسن لذاته، وهو ما تقدم. 2 - حسن لغيره، ْ وهو: ما رواه ضعيف يكون ضعفه بغير كثرة الخطأ، وبغير اتصافه بالفسق، وأن يروي هذا الحديث راو آخر عن شيخ هذا الراوي الضعيف. حجيته: لقد اتفق العلماء على أن الحسن لذاته يحتج به، ولكنه دون الصحيح في الرتبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 وكذلك الحسن لغيره يحتج به بشرط: كثرة طرقه وتعددها. القسم الثالث: الحديث الضعيف، وهو ما لم توجد فيه شروط الصحة، ولا شروط الحسن. حجيته: لقد اختلف العلماء في الاحتجاج بالحديث الضعيف. والحق: أن الحديث الضعيف يحتج به في فضائل الأعمال والترغيب والترهيب - ما لم يكن موضوعاً - ولا يحتج به إلا بشروط هي كما يلي: الشرط الأول: ألا يكون الضعف شديداً، فيخرج عن هذا: من انفرد من الكذابين، والمتهمين بالكذب، ومن فحش غلطه. الشرط الثاني: أن يندرج تحت أصل معمول به. الشرط الثالث: ألا يعتقد - عند العمل به - ثبوته؛ لئلا ينسب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ما لم يقله، بل يعتقد الاحتياط. وأما الأحكام كالحلال، والحرام، والبيع، والنكاح، والطلاق، ونحو ذلك، فلا يعمل فيها إلا بالحديث الصحيح، أو الحسن فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المتفق عليها إجمالاً وهو: الإجماع ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف الإجماع. المطلب الثاني: في إمكان الإجماع. المطلب الثالث: في العلم بالإجماع والاطلاع عليه. المطلب الرابع: في حجية الإجماع. المطلب الخامس: في شروط الإجماع. المطلب السادس: أقسام الإجماع. المطلب السابع: الإجماعات الخاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 المطلب الأول في تعريف الإجماع ويشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: تعريفه لغة. المسألة الثانية: تعريفه اصطلاحا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 المسألة الأولى: في تعريفه لغة: الإجماع: لغة يطلق على إطلاقين: الأول: العزم المؤكد، ومنه قوله تعالى: (فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ) أي: اعزموا على أمركم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل " أي: يعزم عليه، ومنه قولهم: " جمع أمره " أي: عزم عليه. الثاني: الاتفاق، ومنه قولهم: " أجمع المسلمون على كذا " أي: اتفقوا، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجتمع أمتي على ضلالة " أي: لا تتفق. وهذا المعنى هو الذي يناسب المعنى الاصطلاحي للإجماع الذي سيأتي إن شاء اللَّه. *** المسألة الثانية: الإجماع اصطلاحا: الإجماع في اصطلاح أهل الشريعة هو: اتفاق مجتهدي العصر من أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - بعد وفاته على أي أمر كان من أمور الدين. شرح التعريف، وبيان محترزاته: قولنا: " اتفاق " المراد به: الاتحاد والاشتراك في الأقوال والأفعال، والسكوت، والتقرير. قولنا: " مجتهدي العصر " المجتهد هو: كل من توفرت فيه شروط المجتهد، وهي كثيرة سيأتي التفصيل فيها إن شاء اللَّه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 وخرج بذلك العوام، وطلاب العلم الذين لم يبلغوا درجة الاجتهاد. وعبَّرنا بذلك ليشمل جميع المجتهدين في عصر واحد، فلو تخلف واحد من المجتهدين فلا يسمى ذلك إجماعاً. أي: أن يتفق علماء العصر الذي حدثت فيه الحادثة التي تحتاج إلى النظر فيها، أما من بلغ درجة الاجتهاد بعد حدوث الحادثة، والحكم عليها، فلا يعتبر من أهل ذلك العصر. قولنا: " من أُمَة محمد - صلى الله عليه وسلم - أخرج اتفاق المجتهدين من أتباع الشرائع السابقة كاليهود والنصارى وغيرهم، فلا يعتد بإجماعهم ولا خلافهم. قولنا: " بعد وفاته " أخرج اتفاق المجتهدين في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإن هذا لا يسمى إجماعاً؛ لأنه لا إجماع إلا بعد اجتهاد، ولا اجتهاد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم -. قولنا. " على أي أمر كان من أمور الدين " لبيان أن الإجماع الشرعي يشترط أن يكون متعلقاً بحكم شرعي يهم المكلَّف. وخرج بذلك اتفاق المجتهدين على أمر ليس من أمور الدين كالاتفاق على بعض مسائل اللغة، أو الحساب، أو الأمور الدنيوية، ونحو ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 المطلب الثاني في إمكان الإجماع لا خلاف بين العلماء في إمكان الإجماع عقلاً؛ لأن اتفاق المجتهدين في عصر على حكم لا يمتنع عقلاً، ولا خلاف في تصوره وإمكانه في ضروريات الأحكام. أما في غير ذلك وهو: الإجماع على الأحكام التي لا تكون معلومة بالضرورة بأن كان الإجماع عن مستند ظني، فقد اختلف العلماء في إمكانه على مذهبين: المذهب الأول: أن الإجماع ممكن، أي: إجماع المجتهدين من أُمَّة محمد - صلى الله عليه وسلم - في عصر من العصور ممكن عادة. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: الوقوع، حيث إن الإجماع وقع فعلاً، ولا أدل على الإمكان من الوقوع، وأمثلة وقوع الإجماع كثيرة، ومنها: 1 - الاجماع على حرمة شحم الخنزير كلحمه. 2 - الإجماع على حجب ابن الابن بالابن. 3 - الإجماع على تقديم الدَّين على الوصية. 4 - الإجماع على أنه لا زكاة في أعيان الشجر. 5 - الإجماع على أن الواجب في الغسل والمسح في الوضوء هو الفعل مرة واحدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 847 6 - الإجماع على أن الماء إذا تغير أحد أوصافه الثلاثة: لونه، أو طعمه، أو ريحه بنجاسة لا يجوز الوضوء منه. وغير ذلك من الأمثلة. فهذا دليل واضح على انعقاد الإجماع بالفعل فضلاً عن إمكانه. الدليل الثاني: أنه كما لا يمتنع اتفاقهم على الأكل والشرب، فكذلك لا يمتنع اتفاقهم على حكم معين لحادثة حدثت في عصرهم، ولا فرق، والجامع: توافق الدواعي لكل منهما. الدليل الثالث: أن الأصل الإمكان، فيستمر هذا الأصل ويتمسك به لعدم وجود ما يمنعنا من استصحابه. المذهب الثاني: أن الإجماع مستحيل عادة، فهو غير ممكن. ذهب إلى ذلك بعض النظامية، وبعض الشيعة، وبعض الخوارج. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن أهل الإجماع قد انتشروا في مشارق الأرض ومغاربها، وهذا الانتشار يمنع نقل الحكم إليهم عادة، وإذا امتنع نقل الحكم امتنع الاتفاق الذي هو وقوع تساويهم في نقل الحكم إليهم. جوابه: يجاب عنه: بأن أهل الإجماع عدد قليل معروفون بأعيانهم، وهم المجتهدون، وعليه فيمكن أن ينقل الحكم إلى جميعهم، ولا يخفى على واحد من المجتهدين، ثم إن أهل الإجماع يكونون عادة أهل جد وبحث، وليسوا خاملين، فالمطلوب لا يخفى على الطالب الجاد، وإنما يمتنع ذلك لمن قعد في عقر داره لا يبحث ولا يطلب، وهذا قد ينزله عن درجة الاجتهاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 المطلب الثالث في العلم بالإجماع والاطلاع عليه الاطلاع على الإجماع والعلم به يكون بأحد طريقين: أولهما: الأخبار والنقل إن كان الإجماع متقدما؛ لتعذر المشاهدة. ثانيهما: المشافهة والمشاهدة إن كان الإجماع قد حصل في عصر المجتهدين. ووجه الحصر في هذين الطريقين.: أنه لا يمكن أن يعلم الإجماع بالعقل، ولا يمكن أن يعلم بخبر اللَّه تعالى ولا بخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، لتعذر ذلك، فتعين ما ذكرنا من الطريقين. واختلف العلماء القائلون بإمكان الإجماع ووقوعه، وهم الجمهور في إمكان العلم به والاطلاع عليه على مذاهب: المذهب الأول: أنه يمكن العلم به والاطلاع عليه مطلقا في جميع العصور. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن أرباب العلوم غير الدينية قد تحقق الإجماع بينهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 في كثير من الأحكام التي تخصهم فمثلهم الفقهاء، بل الفقهاء أوْلى لوجود الدافع الديني. الدليل الثاني: أن ضروريات المذاهب مقطوع بالإجماع عليها من العوام وغيرهم، والعوام أكثر عدداً من غيرهم، وأقل نظراً، وقد تحقق العلم منهم، فأوْلى أن يتحقق العلم بالإجماع من الفقهاء، وهم أقل عدداً، وأكثر نظراً. المذهب الثاني: أنه يمكن العلم به والاطلاع عليه في زمن الصحابة فقط. وهو مذهب بعض الشافعية كالأصفهاني، وبعض الإمامية، وأهل الظاهر. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه لا يتعذر العلم بالإجماع في زمن الصحابة والاطلاع عليه، نظراً لقلتهم، وحصرهم، واجتماعهم في الحجاز، ومن خرج منهم فيعرف مكانه، فيمكن الرجوع إليهم جميعاً، وعليه فيمكن معرفة ما اتفقوا عليه جميعاً، وما اختلفوا فيه. أما في غير الصحابة، فإن العلم بالإجماع متوقف على معرفة أعيان المجمعين، وما غلب على ظنهم، واتفاقهم عليه في وقت واحد، وهذه الأمور غير ممكنة إلا في زمن الصحابة فقط، أما في زمن غيرهم: فلا يمكن نظراً لكثرتهم وتفرقهم. جوابه: يجاب عنه: بأن المجتهدين وإن كانوا كئيرين فإنه يمكن معرفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 الإجماع بمشافهة بعضهم والنقل المتواتر عن الباقين بأن ينقل من أهل كل قطر من يحصل التواتر بقولهم عمن فيه من المجتهدين مذاهبهم، فيتضح إمكان الاطلاع على إجماع من عدا الصحابة. هذا على فرض أن المجتهدين في كل عصر كثيرون، ولكن الحق: أن الذين بلغوا درجة الاجتهاد في كل عصر هم فئة قليلة جداً يمكن العلم بهم، فهم من الشهرة بحيث لا يخفون على باحث فيمكن العلم بأقوالهم ونقلها. المذهبِ الثالث: أنه يمكن معرفة الإجماع والاطلاع عليه في القرون الثلاثة الأولى، وهو اختيار بعض الحنفية، ومنهم الأنصاري. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن المجتهدين في هذه العصور وهي القرون الثلاثة يمكن معرفتهم، فيسهل معرفة الإجماع في هذه الأزمنة والاطلاع عليها. جوابه: يجاب عنه بالجواب السابق على دليل أصحاب المذهب الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 المطلب الرابع في حجية الإجماع لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن الإجماع حُجَّة. وهو مذهب جمهور العلماء المعتد بأقوالهم. وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) . وجه الدلالة: أن معنى مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم -: منازعته، ومخالفة ما جاء به عن ربه، ومعنى سبيل المؤمنين: ما اختاروه لأنفسهم من قول أو فعل أو اعتقاد، وقد توعد اللَّه بالعقاب على متابعة غير سبيل المؤمنين، وهذا يدل على وجوب متابعة سبيل المؤمنين، وتحريم مخالفتهم، ولو لم تكن مخالفتهم حراماً لما توعد عليه ولما حسن الجمع بينه وبين المحرم وهو: مشاقة الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الوعيد كما لا يحسن التوعد على الجمع بين الكفر وأكل الخبز المباح. وبذلك يكون سبيل المؤمنين حُجَّة يجب اتباعه والعمل بمقتضاه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 ما وجه إلى هذا الاستدلال من الاعتراضات: الاعتراض الأول: أن اللَّه تعالى إنما توعد على أمرين لا بد منهما معاً، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر وهما: 1 - مشاقة الرسول 2 - ترك اتباع سبيل المؤمنين، فيلحق الوعيد بالأمرين معاً، فثبت أنه لا يتعلق الوعيد بأحدهما على الانفراد، وبناء على ذلك: فلا يلحق الوعيد التارك لاتباع سبيل المؤمنين منفرداً؛ إذن: لا يجب اتباع الإجماع، لأنه لا وعيد عليه، فيكون الإجماع ليس بحُجَّة. جوابه: يجاب عنهْ بأن هناك قاعدة وهي: أن اللَّه تعالى إذا توعد على شيئين، فإن الوعيد يلحق بكل واحد منهما على انفراد واجتماع، لكن لا يجوز أن يلحق الوعيد بأحد الشيئين معيناً، والآخر لا يلحق به الوعيد. يؤيد ذلك قوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا) ، فإن اللَّه لما جمع بين هذه الأفعال في الوعيد كان منصرفاً إلى كل واحد منها، فكذلك في هذه الآية وهي: " ومن يشاقق الرسول.. " قد جمع اللَّه بين هذين الفعلين، وهما: " المشاقة، ومتابعة غير سبيل المؤمنين " فينصرف الوعيد إلى كل واحد منهما بانفراد، فلو لم يكن اتباع سبيل المؤمنين محرماً بانفراده، فإنه لا يمكن أن يقرن بما هو محرم وهو: " المشاقة " كسائر المباحات، ألا ترى أنه لا يجوز الجمع بين المحرم والمباح في باب الوعيد، فلا يجوز أن يقال: " من زنا وشرب الماء عاقبته "، وذلك لأن الزنا محرم، وشرب الماء مباح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 الاعتراض الثاني: أن اللَّه تعالى قد توعد على ترك سبيل المؤمنين فيما صاروا به مؤمنين وهو التوحيد، والتصديق، وفعل الإيمان. يؤيد ذلك: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ) التي أتت بعد تلك الآية المستدل بها، ومعروف أن الشرك مقابل التوحيد، ويؤيد ذلك: سبب نزول هذه الآية، حيث إنه قيل: إن الآية نزلت في بشير بن أبيردتى المنافق لما سرق ثم رمى بذلك لبيد بن سهيل، ولما كشف أمره هرب إلى مكة، ولحق بالمشركين، فأنزل اللَّه تلك الآيات. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا حمل الآية على صورة واحدة، وهذا تأويل لا دليل عليه، والتأويل الذي لا دليل عليه باطل. الاعتراض الثالث: أن التوعد قد لحق جميع - المؤمنين إلى قيام الساعة، وأهل العصر ليسوا كل المؤمنين، ودليل ذلك: أن لفظ "المؤمنين " جمعٌ معرف بـ " أل "، فتكون عامة لجميع المؤمنين، وجميع المؤمنين كل من آمن بالله إلى يوم القيامة، وذلك لا يدل على أن ما وجد من الإجماع في بعض الأعصار حُجَّة؛ لأمرين: أولهما: أن المجمعين - في عصر واحد هم بعض المؤمنين. ثانيهما: أن المخالف في حجية الإجماع من جملة المؤمنين. جوابه: يجاب عنه: بأن المقصود بلفظ " المؤمنين " الوارد في الآية هم أهل العصر الذي حدثت فيه الحادثة - كما قلنا في تعريف الإجماع السابق - فتحمل لفظة " المؤمنين " على ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 الاعتراض الرابع: أن حجية الإجماع مسألة علمية لا تفيد فيها إلا الأدلة القطعية، ودلالة الآية ظنية للاحقمالات التي ذكرت، فهي من قبيل الظاهر، فلا تثبت حجية الإجماع. جوابه: يجاب عنه: بأن الآية وإن كانت ظنية الدلالة إلا أنها تثبت حجية الإجماع، ويكون حُجَّة ظنية كخبر الواحد هذا على قول. أما على القول بأن الإجماع حُجَّة قطعية فإنا نقول: إن هذه الآية وإن كانت ظنية فقد احتفت بقرائن صيرتها قطعية، والقرائن هي ما سيأتي من السُّنَّة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد وصف الأُمَّة بأنهم أُمَّة وسطا، والوسط: الخيار العدل، دلَّ على ذلك قوله تعالى: (قال أوسطهم ألم أقل لكم) أي: أعدلهم، فالله عَزَّ وجَل عدلهم بقبول شهادتهم، ولما كان قول الشاهد حُجَّة، إذ لا معنى لقبول شهادته إلا كون قوله حُجَّة يجب العمل بمقتضاه، فيدل هذا على أن إجماع الأُمَّة يجب العمل بمقتضاه. وكون الوسط: العدل هو الذي ذكره الجوهري في الصحاح، وذكره القرطبي في تفسيره. الاعتراضات التي وجهت إلى الاستدلال بهذا الآية: الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ أن العدالة تنافي الخطأ في الاجتهاد، بل إنما تنافي الكبائر، فاحتمال الخطأ في الكبائر باق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 جوابه: يجاب عنه بأن ما قلتم مسلم بالنسبة لتعديل الأُمَّة بعضها لبعض، وأما بالنسبة لتعديل اللَّه للأُمَّة فينافي الخطأ مطلقا؛ لأنه لم يعدلهم إلا لكونهم يصيبون الحق في الواقع مطلقاً لقبول شهادتهم، والشهادة إنما تقبل لموافقتها الصواب، فلزم أنهم معصومون عن الخطأ. الاعتراض الثاني: أن الآية قد قيدت عدالة الأُمَّة في يوم القيامة فقط؛ لأن التعديل من اللَّه للأُمَّة معلل بقبول شهادتها يوم القيامة على الأكل م السابقة، والعدالة تعتبر وقت أداء الشهادة وهو يوم القيامة. جوابه: يجاب عنه: بأن من دقق النظر في الآية فإنه يتبين له أن اللَّه قد ميَّز الأُمَّة الإسلامية على غيرها من الأمم السابقة بهذه الميزة المذكورة فيها، فلو جعلت عدالتها خاصة بيوم القيامة لما كانت لها ميزة على الأمم السابقة؛ لأن الأمم جميعها يوم القيامة عدول فلا داعي لذكر هذا الأمر، يؤيد ذلك قوله: " وجعلناكم " بلفظ الماضي، ولم يقل سنجعلكم، فتكون العدالة محققة في الدنيا. الاعتراض الثالث: سلمنا أن العدالة لهم في الدنيا، ولكن العدالة التي وردت في الآية إنما هي لجميع الأُمَّة، وعلى هذا فلا خصوصية للمجتهدين منهم، إذن: لا تثبت حجية الإجماع إلا بانتهاء الأُمَّة، وبانتهائها لا تحتاج إليه، فلا تصلح الآية للاستدلال بها على حجية الإجماع. جوابه: يجاب عنه: بانا بيَّنَّا أن المجتهدين هم الذين يعتبر قولهم فقط، وبيَّنا أن المقصود اجتهادهم في عصر من العصور، هذا كله سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 ونزيد هنا: أن المقصود من حجية قولهم: العمل بمقتضاه، وليست الآخرة دار عمل، وإلا لقال تعالى: " سنجعلكم " فتعبيره بالماضي يدل على أن قولهم حُجَّة. الدليل الثالث: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وجه الاستدلال: أن اللَّه تعالى قد أخبر عن خيرية هذه الأُمَّة بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وهذا يقتضي كون قولهم حقاً وصوابا في جميع الأحوال، والخيرية توجب حقيقة ما اجتمعوا عليه؛ لأنه لو لم يكن حقاً لكان ضلالاً، فإذا اجتمعوا على مشروعية شيء يكون ذلك الشيء معروفاً، وإذا اجتمعوا على عديِم مشروعية شيء يكون ذلك الشيء منكراً، فيكون إجماعهم حُجة. الدليل الرابع: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، ومن أمر اللَّه بطاعته على سبيل الجزم لا بد أن يكون معصوما عن الخطأ؛ لأنه لو لم يكن معصوما عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر اللَّه بطاعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، فثبت أن أولي الأمر المذكورين في هذه الآية لا بد وأن يكونوا معصومين. وهؤلاء المعصومون اما مجموع الأفة، أو بعضها، ولا ثالث لهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 لا يجوز أن يكونوا كل الأُمَّة، لأنا قد بيَّنا أن اللَّه قد أوجب طاعة أولي الأمر في هذه الآية، وهم أهل الحل والعقد من الأُمَّة وهم المجتهدون؛ لأن إيجاب طاعتهم مشروط بكوننا عارفين بهم، قادرين على الوصول إليهم والاستفادة منهم؛ لأنه: " لا يكلف اللَّه نفسا إلا وسعها "، وهذا هو الراجح في المراد من " أولي الأمر ". الدليل الخامس: من السُّنَّة: 1 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ... فمن سره بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة، فإن الشيطان مع الفذ، وهو من الاثنين أبعد ". 2 - قوله: " لا تزال طائفة من أمتي على الحق حتى يأتيهم أمر الله وهم ظاهرون ". 3 - قوله: " فإن يد اللَّه على الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يركض ". 4 - قوله: " لا تجتمع أمتي على ضلالة، ويد اللَّه على الجماعة، ومن شذ شذ في النار "، وفي رواية: " إن اللَّه لا يجمع هذه الأُمَّة على ضلالة أبداً، وأن اللَّه مع الجماعة، فاتبعوا السواد الأعظم، فإن من شذ شذ في النار "، وفي رواية: " إن أُمَّتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم الاختلاف فعليكم بالسواد الأعظم "، وفي رواية: " سألت ربي أن لا تجتمع أُمَّتي على ضلالة فأعطانيها ". 5 - قوله: " ومن فارق الجماعة شبراً فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه ". 6 - قوله: " إن الله أجاركم من ثلاث خلال: أن لا يدعو عليكم نبيكم فتهلكوا جميعاً، وأن لا تجتمعوا على ضلالة ... ، إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 إلى غير ذلك من الأخبار التي لا تحصى كثرة، البالغة مبلغ التواتر المعنوي، لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين لم يدفعها أحد من أئمة النقل من سلف الأُمَّة وخلفها، بل هي مقبولة من الجميع -، ومعمول بها، ولم ينكوها أحد، ولم تزل الأُمَّة تحتج بها في أصول الدين وفروعه. وجه الاستدلال من تلك الأحاديث على حجية الإجماع من طريقين: الطريق الأول: حصول العلم الضروري، فكل واحد من تلك الأحاديث وإن كان خبر واحد يجوز تطرق الاحتمال إليه، إلا أنه حصل لنا بمجموعها علما ضرورياً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد عظم شأن هذه الأُمَّة وأخبر أنها معصومة عن الخطأ، كما علمنا بالضرورة شجاعة عليّ، وكرم حاتم، وإذا عصمت الأُمَّة عن الخطأ فيكون إجماعهم حُجَة؛ لأنه حق. الطريق الثاني: حصول العلم الاستدلالي، وذلك من وجهين: الوجه الأول: أن تلك الأحاديث الآحادية لم تزل ظاهرة مشهورة بين الصحابة والتابعين، ومن جاء بعدهم، وقد تمسكوا بها فيما بينهم في إثبات الإجماع من غير خلاف فيها، ولم يزالوا على ذلك حتى وقت النظام وغيره من المخالفين، ويستحيل عادة توافق الأمم في عصور مختلفة على التسليم لما لم تقم الحُجَّة بصحته مع اختلاف الطباع وتفاوت الأفهام والهمم والمذاهب والآراء. فهذا يدل على عدم اختلاف هؤلاء في استدلالهم بتلك الأحاديث على ثبوت الإجماع، وأنه حُجَّة. الوجه الثاني: أن الذين احتجوا بتلك الأخبار الآحادية أثبتوا بها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 أصلاً مقطوعا به، وهو الإجماع الذي يقدم على النص من الكتاب والسنَّة، والعادة تحيل أن يسلم لخبر يرفع به النص إلا إذا كان مستنداً إلى مستند مقطوع به، وهو مجموع تلك الأخبار الآحادية؛ حيث أفادتنا العلم الضروري بأن الأُمَّة لا تجتمع على خطأ. الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الاستدلال: الاعتراض الأول: أنه ربما خالف واحد وردها، ولكنه لم ينقل إلينا. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا خلاف العادة؛ لأن الإجماع من أعظم الأدلة، فلو خالف فيه أحد لاشتهر كما اشتهرت مخالفة الصحابة في كثير من المسائل الفقهية. الاعتراض الثاني: يحتمل أنهم أثبتوا الإجماع بغير تلك الأخبار. جوابه: يجاب عنه: بأن الظاهر أن الصحابة والتابعين قد تمسكوا بتلك الأخبار على إثبات الإجماع، ولا يعدل عن هذا الظاهر إلا بدليل. الاعتراض الثالث: أن هذا إثبات الإجماع بالإجماع؛ لأنكم استدللتم بالإجماع على صحة الخبر، والخبر على صحة الإجماع، وهذا باطل. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل استدللنا على الإجماع بمجموع تلك الأخبار؛ بناء على أنها تفيد التواتر المعنوي، فيكون استدلالنا بالمتواتر وهو مقطوع به على إثبات الإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 المذهب الثاني: أن إجماع الصحابة حُجَّة فقط، أما إجماع غيرهم فليس بحجة. وهو مذهب كثير من الظاهرية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) . وجه الدلالة: أن الله قد أثنى على الصحابة في القرآن الكريم، والثناء يدل على أن أقوالهم معتبرة، لصدقها يقينا، فدل على أن اجتماعهم حُجَّة. جوابه: يجاب عنه من وجهين: أحدهما: أن الآية ليست خاصة بالصحابة، بل هي شاملة لهم ولغيرهم بدليل قوله: (والذين اتبعوهم) ، فهذا شامل لجميع المتبعين بإحسان من بعد الصحابة إلى آخر المسلمين، فيلزمهم أن تكون دالة أيضاً على حجية إجماع غيرهم لاشتراكهم جمبعا في المدح. ثانيهما: إذا كان الثناء والمدح يدل على أن أقوال الممدوحين معتبرة، فالله تعالى كما أثنى على الصحابة فقد أثنى على الأُمَّة الإسلامية بقوله: (وجاهدوا في الله حق جهاده هو اجتباكم) أي: اختاركم لدينه ونصرته، وقال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا) أي: عدولاً، وقال: (كنتم خير أُمَّةٍ) ، وغير ذلك من الآيات، فيدل على أن اللَّه قد أثنى على الأُمَّة - أيضاً - فيلزم أن الإجماع ليس خاصا بالصحابة، بل هو عام لكل عصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . وجه الدلالة: أن اللَّه حفظ القرآن بحفظ الصحابة له، ونقلهم إياه، وإجماعهم عليه، والآية تدل على صدق إجماعهم، فيكون حجة. جوابه: يجاب عنه: أن الآية عامة، فإنها كما دلَّت على صدق إجماع الصحابة دلَّت أيضاً على صدق إجماع من جاء بعد الصحابة، حيث إن من جاء بعد الصحابة من التابعين، وتابعيهم إلى يومنا هذا قد حفظوا ذلك القرآن وكتبوه وعملوا به. الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " يأتي على الناس زمان فيغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون: نعم، فيفتح لهم، ثم يغدو فئام من الناس فيقال لهم: فيكم من رأى من صحب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -؛ فيقولون: نعم، فيفتح لهم.. " كذلك ما روي عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " إن اللَّه اختار أصحابي على العالمين سوي النبيين "، ونحو ذلك من الأحاديث. وجه الدلالة: أن الشارع قد أثنى على الصحابة بالعدالة، وأنهم اختارهم على العالمين، فدل على أنهم قد فضلوا على غيرهم، فدل على أن إجماعهم حُجَّة. جوابه: يجاب عنه: بأن غير الصحابة ممن جاء بعدهم قد وردت الأحاديث بعصمتهم عند الاتفاق وهي الأحاديث التي ذكرناها في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 استدلالنا على حجية الإجماع، فلا اختصاص للصحابة - رضي الله عنهم - بالإجماع. المذهب الثالث: أن الإجماع ليس بحُجَّة مطلقا. وهو مذهب بعض الخوارج، وبعض النظامية، وبعض الشيعة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول لهم قالوا فيه: إنه لا دليل على كون الإجماع حُجَّة، لا من جهة العقل، ولا من جهة النقل، فإذا لم يدل عليه شيء وجب القطع بنفي كونه حُجَّة؛ لعدم ما يدل عليه. جوابه: يجاب عنه: بأنا لا نُسَلِّمُ أنه لا دليل عليه، بل دلَّت الأدلة النقلية على أن الإجماع حُجَّة، وهي التي ذكرناها فيما سبق من الآيات والأحاديث. فإن أنكر أحد بعضها، فلا يمكنه أن ينكرها جميعها، ومن أنكرها جميعا فهو معاند ومكابر، والمعاند لا يعتد بقوله. ثم إن منكر ذلك جاء بعد تحقق الإجماع والاحتجاج به، فإنكاره مكابرة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) . وجه الدلالة: أن الآية بيَّنت أنه إذا حدث تنازع في حكم حادثة فإنه يجب أن يؤخد حكمها من الكتاب والسُّنَّة فقط، والإجماع ليس بكتاب ولا سُنَّة، فلا يصح حُجَّة.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحكم بالإجماع هو حكم بالكتاب والسُنَّة؛ لأن المجمعين لا بد أن يستندوا في اجتهادهم إلى نص الكتاب والسُنَّة أو ما فهم منهما. الجواب الثاني: أنه يجب أن نعمل بما جاء في الكتاب والسُنَّة، وقد جاءت آيات في الكتاب، وأحاديث في السُنَّة تدل على أن الإجماع حُجَّة فيجب أن نعمل بها. الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، وقوله: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) . وجه الدلالة: أن الآيتين تفيدان أن الكتاب قد ورد فيه حكم كل شيء، فلا حاجة إلى الإجماع، فالمرجع هو الكتاب والسُّنَّة، أما الإجماع فنظراً لعدم الحاجة إليه فلا يصلح أن يكون مرجعا. جوابه: يجاب عنه: بأن الكتاب قد بين كل شيء ومما بيَّنه أن الإجماع حُجة، وذلك بالآيات التي ذكرناها ودلَّت على حجية الإجماع، وكذلك بيَّن أن السُّنَّة حُجَّة بقوله: (وما أتاكم الرسول فخذوه..) وغيرها، والسُّنَّة بيَّنت أن الإجماع حُجَّة بالأحاديث التي ذكرناها. الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ - لما بعثه إلى اليمن -: " إذا عرض عليك قضاء فبِمَ تقضي؟ قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ قال: بسُنَة رسول اللَّه، قال: فإن لم تجد؟ قال: أجتهد رأيى ولا آلو، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم - ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 وجه الدلالة: أن معاذاً ذكر الأدلة المعمول بها، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم يذكر الإجماع معها، فهذا يدل على أنه ليس بدليل، إذ لو كان دليلاً لما تركه مع الحاجة إليه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الإجماع لا يكون دليلاً في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم -، وبناء على ذلك فليس فيه تأخير عن وقت الحاجة. الجواب الثاني: أن الإجماع هو حكم بالكتاب والسُّنَّة ولا يخرج عنهما؛ لأن مستنده: إما الكتاب، أو السُّنَّة، أو شيء يقاس على ما ثبت بهما. الدليل الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا كما بدأ ". وجه الدلالة: أن هذا الحديث يدل على جواز خلو العصر عمن تقوم الحُجَّة بقوله. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الحديث لا يدل على ما ذكرتم، بل إن ما دلَّ عليه الحديث هو: أن أهل الإسلام سيكونون هم الأقلين، لا أنه لا يبقى من تقوم به الحُجَّة. الدليل السادس: أن الإجماع لا يمكن في ذاته، ولا يمكن العلم به، ولا يمكن نقله - وقد سبق ذلك -. جوابه: يجاب عنه: بانا قد أثبتنا فيما سبق أن الإجماع يمكن في ذاته، ويمكن العلم به، ويمكن نقله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 الدليل السابع: القياس على الأمم السابقة، فكما أنه لم يعتبر إجماع الأمم السابقة ولم يكن حُجَّة، فكذلك إجماع هذه الأُمَّة لا يكون حُجَّة ولا فرق. جوابه: يجاب عنه: بأن إجماعنا قد وردت الأدلة من الكتاب والسُّنَّة على اعتباره، بخلاف إجماعهم فإنه لم ترد الأدلة على أنه حُجَّة، وهذا هو الفرق، إذن قياسكم لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 المطلب الخامس في شروط الإجماع وفيه مسائل: المسألة الأولى: هل يشترط في أهل الإجماع بلوغ حد التواتر؟ المسألة الثانية: إذا لم يوجد في العمر إلا اثنان من المجتهدين فهل يعتبر اتفاقهما إجماعا؟ المسألة الثالثة: إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فهل يعتبر قوله إجماعا؟ المسألة الرابعة: هل يشترط في أهل الإجماع عدالة المجمعين؟ المسألة الخامسة: هل يعتد بقول الكافر المجتهد في الإجماع؟ المسألة السادسة: هل يعتبر قول العوام في الإجماع؟ المسألة السابعة: العالم بالفقه دون أصوله، والعالم باصول الفقه دون فزوعه هل يعتبر قولهما في الإجماع؟ المسألة الثامنة: هل يشترط انقراض العصر في صحة الإجماع؟ المسألة التاسعة: إذا بلغ التابعي درجة الاجتهاد في عصر الصحابة قبل اتفاقهم فهل يعتد بقوله وفاقا وخلافا؟ المسألة العاشرة: هل يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين أو هل ينعقد الإجماع بقول الأكثر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 المسألة الحادية عشرة: اتفاق الأكثر هل يكون حُجَّة يجب الأخد به؟ المسألة الثانية عشرة: هل يشترط في انعقاد الإجماع وحجيته أن يكون له مستند ودليل؟ المسألة الثالثة عشرة: الدليل القطعي هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟ المسألة الرابعة عشرة: الدليل الظني هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟ المسألة الخامسة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن خبر الواحد. المسألة السادسة عشرة: لو ظهر خبر واحد موافق لمقتضى الإجماع فهل يجب تعيينه مستنداً للإجماع؟ المسألة السابعة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن القياس. المسألة الثامنة عشرهْ: هل يشترط نقل الإجماع بالتواتر؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 المسألة الأولى: هل يشترط في أهل الإجماع بلوغ حد التواتر؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في حجية الإجماع أن يبلغ عدد المجمعين حد التواتر. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأن أدلة حجية الإجماع من الكتاب والسُّنَّة السابقة الذكر وردت مطلقة، وبناء على ذلك فإنه مهما كان عدد الإجماع أنقص من عدد التواتر صدق عليهم لفظ " المؤمنين " ولفظ "الأُمة"، فإذا قالوا قولاً كانت الحُجَّة فى قولهم؛ لأن الأدلة السمعية - كما سبق - موجبة لعصمتهم عن الخطأ، فإذا لم يكن على وجه الأرض سوى هؤلاء البالغين درجة الاجتهاد فهم على الحق قطعا - مهما كانوا قلة أو كثرة - فيجب اتباعهم، صيانة لهم عن الاتفاق على الخطأ. المذهب الثاني: أنه يشترط أن يبلغ عدد المجمعين حد التواتر. وهو مذهب بعض العلماء. دليلِ هدا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن الجمع الكثير لا يتصور تواطؤهم على الخطأ، لأن العادة تحيل تواطؤهم على الكذب، ولا تحكم العادة بالقطع في غيره. جوابه: يجاب عنه: بأن العدد الكثير إذا لم يكونوا كل المجتهدين فإنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 لا يصدق عليهم أنهم كل الأُمَّة، ولم تثبت العصمة إلا للكل، ولا تلازم بين إحالة العادة تواطؤهم على الكذب، وبين إحالة تواطؤهم على الخطأ المستفاد من الإجماع، حيث لم يكونوا كل الأُمَّة، وإنما ثبتت عصمتهم بشهادة النصوص، لا بالعادة، ولذلك وجب بهذه النصوص أن تثبت العصمة للمجمعين، سواء بلغوا حد التواتر أو لا، نظراً لثبوت الصفة فيهم متى كانوا كل المجتهدين. *** المسألة الثانية: إذا لم يوجد في العصر إلا اثنان من المجتهدين فهل يعتبر اتفاقهما إجماعا؟ لقد اختلف في ذلك. والحق: أن اتفاقهما يعتبر إجماعا؛ لدليلين: الأول: أن حقيقة الإجماع وحده يصدق عليهما، لأن الاتفاق أقل ما يصدق باثنين. الثاني: أنه يصدق عليهما أنهما كل الأُمَّة، وكل المؤمنين الذين معه يعتبرون في الإجماع. وعلى هذا، فإن اتفاقهما على حكم يصبح إجماعا لا يجوز لهما مخالفته، ولا لغيرهما ممن يأتي بعدهما. *** المسألة الثالثة: إذا لم يكن في العصر إلا مجتهد واحد فهل يعتبر قوله إجماعا؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن قول هذا الواحد لا يعتبر إجماعا، ولكنه يعتبر حُجة. - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 وهو مذهب ابن سريج، وهو قول كثير من العلماء. وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الأول: أن الأدلة النقلية الدالة على عدم خروج الحق عن الأُمَّة تتناوله ويدخل ضمنها. الثاني: أن الأدلة على كون قوله حُجَّة عليه وعلى غيره من العوام، كقوله تعالى: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) تتناوله. الثالث: حفظ دين اللَّه حتى لا يخلو الزمن الذي وقعت فيه الحادثة من حكم فيها؛ لذلك يكون قوله حُجَّة على غيره ممن لم يبلغ الاجتهاد وليس إجماعاً؛ لأنه لا يصدق عليه تعريف الإجماع. المذهب الثاني: أن قوله حُجَّة وإجماع. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أستدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إنه عند الانفراد يصدق عليه لفظ الأُمَّة؛ لقوله تعالى: (إن إبراهيم كان أُمَّة) ، فأطلق لفظ "الأُمَّة " عليه وهو واحد، والأصل في الإطلاق الحقيقة، فكذلك أصبح المجتهد وحده أُمَّة، فتناولته الأدلة الدالة على عصمة الأُمَّة. جوابه: يجاب عنه: بأن إطلاق الأُمَّة على إبراهيم - عليه السلام - مجاز؛ للقطع بأن إطلاقها على الجماعة حقيقة، والأصل عدم الاشتراك، ولا يلزم من إطلاقها على إبراهيم - نظراً لتعظيمه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 إطلاقها في حق غيره، لذلك فإن لفظ " الأُمَّة " لا تطلق على الواحد أبداً. المذهب الثالث: أنه لا يعتبر حُجَّة ولا إجماعا. وهو مذهب بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: استدل أصحاب هذا المذهب بقولهم: إن العصمة عن الخطأ ثبتت لجماعة المجتهدين في العصر الواحد، وأقل ما يكون ذلك يتكون من اثنين فصاعداً، وهذا منتف في الواحد؛ لأنه ليس له اجتماع، وليس هو بكل المؤمنين. جوابه: يجاب عنه: بأن هذا الدليل دلَّ على أن قول المجتهد الواحد لا يعتبر إجماعاً، ولكن هذا الدليل لم ينف كون قوله حُجَّة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأنه يترتب على المذهب الأول - وهو كون قوله حُجَّة وليس بإجماع -: أنه لا يمنع من رجوعه عن فتواه متى ظهرت له الحُجَّة في غيره، ولا يمنع من مخالفة غيره له من المجتهدين، سواء كان في عصره، أو بعد ذلك. ولكن يجب على العوام أن يعملوا على ما أفتى به. ويترتب على المذهب الثاني - وهو كون قوله حُجَّة وإجماعا - أنه لا يجوز له الرجوع عن قوله، لكونه إجماعا، ولا يجوز لمن جاء بعده أن يخالفه؛ لأن مخالفة الإجماع لا تجوز، سواء كان في عصره ممن بلغ درجة الاجتهاد، أو بعد عصره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 أما على المذهب الثالث فلا يترتب عليه شيء إلا أنه يجب عليه أن يعمل باجتهاده، ويجب على مقلده أن يعمل على ذلك الاجتهاد. المسألة الرابعة: هل يشترط في أهل الإجماع عدالة المجمعين؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان: المذهب الأول: أنه تشترط عدالة المجتهدين في الإجماع، فلا يقبل قول المجتهد الفاسق في الإجماع مطلقاً، سواء كان فسقه من جهة الاعتقاد، أو من جهة الفعل. وهو مذهب كثير من العلماء، ونسبه بعضهم إلى الجمهور. وهو الصحيح؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (وكذلك جعلناكم أُمَّة وسطا) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى جعل هذه الأمة شهداء على الناس، وحُجة عليهم فيما يشهدون به؛ لكونهم عدولاً، والوسط هو العدل - كما تقدم -، فلما لم يكن الفاسق متصفا بهذه الصفة - وهي العدالة - لم يجز أن يكون من الشهداء على الناس، فلا يعتد بقوله في الإجماع، ولا في الشهادة، ولا في الرواية؛ وذلك لاتهامه في الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أوجب التوقف في أخبار غير العدل، واجتهاده إخبار بأن رأيه كذا، فوجب التوقف في قبوله، وإذا وجب التوقف في قبول إخباره لم يحكم بقبول خبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 الدليل الثالث: أن الفاسق لا يقبل قوله ولا يقلد في فتوى وهو منفرد، نظراً لفسقه، واتهامه في الدين جعله غير مؤتمن فيقاس على ذلك أنه لا يقبل قوله مع الجماعة ولا فرق " حيث إن الاتهام في الدين لا زال موجوداً. الدليل الرابع: قوله تعالى: (ويتبع غير سبيل المؤمنين) . وجه الدلالة: أن سبيل أهل الفسق والضلال لم يكن سبيلاً للمؤمنين. المذهب الثاني: أنه لا يشترط عدالة المجتهدين في الإجماع، أي: أنه يعتبر قول العدل والفاسق في الإجماع بشرط بلوغهم درجة الاجتهاد. وهو مذهب إمام الحرمين، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والشيخ أبي إسحاق الشيرازي، والغزالي، والآمدي، وأبي الخطاب الحنبلي. دليل هذا المذهب: أن أدلة حجية الإجماع عامة، لم تشترط عدالة المجتهد، فالفاسق يدخل في عموم " المؤمنين "، وعموم "الأُمَّة "، فاشتراط العدالة في ذلك تخصيص بلا دليل، والتخصيص الذي لا دليل عليه لا يقبل. جوابه: بأن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع السابقة ليست عامة، يدخل فيها كل أحد، بل هي مخصصة بأن المراد بالأُمَّة وبالمؤمنين هم العدول منهم، وقد خصص ذلك أدلتنا الأربعة السابقة الذكر، ويضاف إلى ذلك: أن هذا الفاسق يجوز أن يعصي فيما يعتد به فيه في الإجماع كما يعصي في غيره، وما دام أنه يجوز ذلك فلا يمكن الاعتداد به، والاعتماد عليه في أمرٍ يهمُّ الإسلام والمسلمين حالاً ومستقبلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، ويتضح فيما إذا اتفق مجتهدو العصر إلا واحداً قد خالف، فإنا ننظر في هذا الواحد: إن كان عدلاً فإنه لا ينعقد الإجماع، لمخالفة واحد معتبر في الإجماع. وإن كان المخالف فاسقاً فإنه ينعقد الإجماع - بناء على المذهب الأول - لأن المخالفة ليس من أهل الإجماع، فينعقد الإجماع بدونه. أما على المذهب الثاني فإنه لا ينعقد الإجماع، لأن المخالف من أهل الإجماع، فلا ينعقد الإجماع لمخالفة واحد معتبر في الإجماع عندهم. *** المسألة الخامسة: هل يعتد بقول الكافر المجتهد في الإجماع؟ لقد اختلف في ذلك. والحق في ذلك: أن الكافر لا يعتد بقوله في الإجماع مطلقاً، أي: سواء كان كافراً أصلياً - وهم اليهود والنصارى ونحوهم - أو كان كافراً متأولاً - وهو الذي كفر بسبب بدعة، أو شبهة مثل الخوارج والجهمية ونحوهم -. والدليل على ذلك: أنا لم نقبل قول الكافر الأصلي في الإجماع، لعدم دخوله في لفظ " الأُمَّة "، ولفظ: " المؤمنين ". أما الكافر المتأول فلم نعتد بقوله في الإجماع؛ لأمرين: أولهما: القياس على الفاسق: فإذا لم نعتد بقول الفاسق في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 الإجماع، فمن باب أوْلى لا نعتد بقول الكافر المتأول؛ لأن الكفر فسق وزيادة. ثانيهما: القياس على الكافر الأصلي بجامع: الكفر في كل منهما، وإن لم يعلم هو كفر نفسه. *** المسألة السادسة: هل يعتبر قول العوام في الإجماع؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يعتبر قول العامي في الإجماع. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ألا سألوا إذا لم يعلموا فإن شفاء العي السؤال ". وجه الدلالة: أن هذين النصين بينا أن العامي يلزمه المصير إلى أقوال العلماء، فلا تكون مخالفته معتبرة فيما يجب عليه التقليد فيه. الدليل الثاني: أن المجتهدين من الأمَّة إنما كان قولهم حُجَّة؛ لأن قولهم مستند إلى دليل؛ لأنه لا يجوز إثبات الأحكام بلا دليل، والعامي ليس أهلاً للاستدلال والنظر في الأدلة، فلا يكون قوله معتبراً لذلك. الدليل الثالث: القياس على الصبي " المجنون: فكما أن الصبي والمجنون لا يعتبر خلافهما ولا وفاقهما في الإجماع، فكذلك العامي ولا فرق، والجامع: نقصان الأهلية في كل، فكيف يساوى مع كاملي الأهلية وهم المجتهدون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 الدليل الرابع: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما بين أن الأُمَّة معصومة عن الخطأ بالأحاديث السابقة الذكر، فإنه لم يفهم من ذلك إلا عصمة العلماء المجتهدين الذين تتصور منهم إصابة الحكم الشرعي الصحيح؛ نظراً لأهليتهم ومعرفتهم بالاستدلال، أما العامي، فلا نتصور ثبوت العصمة في حقه؛ لأنه يقول الحكم بلا دليل. المذهب الثاني: أن قول العامي معتبر في الإجماع، أي: أن موافقة العوام معتبرة في انعقاد الإجماع، وكذلك مخالفتهم. وهو ما اختاره بعض المتكلمين كما حكاه ابن الصباغ وابن برهان، ونقله إمام الحرمين وابن السمعاني والصفي الهندي عن القاضي أبي بكر الباقلاني. دليل هذا المذهب: عموم لفظ " المؤمنين "، ولفظ " الأُمَّة " للعالم، والعامي، إذن اسم " المؤمنين "، و " الأُمَّة " يتناول الجميع، فلا يخرج العوام إلا بدليل، ولا دليل، وعلى ذلك يعتبر قول العامي كغيره من الأُمَّة في انعقاد الإجماع. جوابه: يجاب عنه بجوابين. الجواب الأول: أن العوام وإن كانوا من الأُمَّة ومن المكلَّفين إلا أنهم ليسوا من أهل النظر، فأشبهوا غير المميزين في عدم الفهم، فهم مقلدون للمجتهدين الذين هم من أهل النظر، ولا يتصور عصمة الأُمَّة عن الخطأ إلا عصمة من يتصور منه الإصابة هو وحده أو مع غيره؛ لكونه أهلاً لها، فوجب أن يراد من الأدلة الدالة على عصمة الأُمَّة: عصمة مجتهديهم فقط، وهذا هو دليل إخراجهم من عموم تلك الألفاظ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 الجواب الثاني: أن هذا المذهب - وهو أن قول العوام معتبر في الإجماع - يؤدي إلى تعطيل دليل يعتبر من أقوى الأدلة الشرعية وهو: الإجماع، وذلك من وجهين: أولهما: أنه لا يركن أن يتصور عاقل أن جميع الأُمَّة العلماء والعوام يتفقون كلهم على قول واحد في حادثة واحدة. ثانيهما: أنا لو فرضنا - مع الفرض الممتنع - تصور اجتماع جميع الأُمَّة على قول واحد في حادثة واحدة، فمن الذي يقوم بنقل هذا القول وجمعه من كل فرد من أفراد الأمَّة مع كثرة هؤلاء وتفرقهم في مدن، وقرى، وبوادي، وهجر، ووديان العالم الإسلامي؛ هذا مستحيل. بيان نوع هذا الخلاف: إن الخلاف في هذه المسألة لفظي من وجه، ومعنوي من وجه آخر. أما وجه كون الخلاف لفظياً فهو أنه لم يؤثر في الفروع الفقهية، فمن قال: أجمعت الأُمَّة على كذا يريد: أجمع علماء الأُمَّة ومجتهدوهم، ومن قال: أجمع العلماء على ذلك فقد صرح به. أما وجه كون الخلاف معنوياً فهو: أن هذا الخلاف قد أثر في مسألتين من مسائل أصول الفقه هما: 1 - مسألة: " هل فقدان أهلية الاجتهاد تخل بأهلية الإجماع؛ " فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون - إن العوام لا يعتبر قولهم في الإجماع - قالوا: إن فقدان أهلية الاجتهاد تخل بالإجماع. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن العوام يعتبر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 قولهم فيه - فقد قالوا: إن فقدان أهلية الاجتهاد لا تخل بأهلية الإجماع. 2 - مسألة: " قول الواحد إذا لم يكن في العصر سواه هل يكون إجماعاً "؟ فمن قال: إن العوام يعتبر قولهم في الإجماع - وهم أصحاب المذهب الثاني - قال: إذا لم يوجد في العصر إلا مجتهد واحد فهم داخلون معه، فيكون إجماعا، وإلا: فلا؛ لأن الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعداً، وقد سبق أن بيَّنا هذه المسألة، وذكرت أن الحق هو: أن قول الواحد لا يكون إجماعاً إذا لم يوجد غيره في العصر، ولكنه يكون حُجَّة يجب على العوام اتباعه؛ لئلا يخلو العصر من حكم في الحادثة النازلة. *** المسألة السابعة: العالم بالفقه دون أصوله، والعالم بأصول الفقه دون فروعه هل يعتبر قولهما في الإجماع؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يعتبر قول العالم بأصول الفقه، دون الفقيه، ولا يمكن أن ينعقد الإجماع بدون العالم بأصول الفقه. وهو ما ذهب إليه القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وإمام الحرمين، وابن السبكي، والمحلي. وهو الحق عندي؛ لأن العالم بأصول الفقه قد توفر فيه آلة الاستنباط لمعرفة الحكم الشرعي لأي حادثة جديدة، وهو أقرب من غيره إلى الاجتهاد فيها؛ وذلك نظراً لعلمه بمدارك الأحكام على اختلاف أقسامها، وكيفية دلالتها، وكيفية تلقي الأحكام من منطوقها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 ومفهومها ومعقولها، ونظراً لعلمه الشامل الدقيق بالأصول التي يستدل بها المتفق عليها والمختلف فيها، وعلمه بمقاصد الشريعة، فمن هذه صفته، فهو ممن يستضاء برأيه، ويستشهد بهديه، وإذا كان كذلك فخلافه يشير إلى وجه من الرأي معتبر، وإذا ظهرت عِلَّة اعتباره في الخلاف انبنى عليه اعتبار الوفاق، فلا يشترط فيمن ينعَقد به الإجماع حفظ الفروع يؤيد ذلك أمران: أولهما: أن بعض الصحابة كالعباس، وطلحة، والزبير، وسعد ابن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف، وأبي عبيدة بن الجراح، ونحوهم ممن لم يشتهروا بالفتوى كان يعتد بخلافهم ووفاقهم في انعقاد الإجماع، فلا ينعقد الإجماع بدونهم، وهم يتساوون مع أهل الفتوى من الصحابة المشهورين - كابن عباس، وابن عمر، ومعاذ، وزيد، والخلفاء الأربعة - فلم يفرق بين هؤلاء وأولئك في انعقاد الإجماع، مع أن الأوَّلين لم يكونوا من الحافظين للفروع، وما كان ذلك إلا لأن الأولين أهل لفهم نصوص الكتاب والسُّنَّة، ويعرفون طرق استنباط الأحكام منهما، ومن هذه صفته فلا يمكن أن ينعقد الإجماع بدونه. ثانيهما: أن العالم بأصول الفقه يعتبر قوله في الإجماع، دون الفقيه، لأن الفقيه الحافظ للفروع يحتمل أن يفوته حفظ الجزئيات الدقيقة لمسائل الحيض، أو دقائق مسائل الوصايا، أو النفقات، أو الطلاق، أو الحدود، أو دقائق أي باب من أبواب الفقه، أما الأصولي فلا يحتمل، ذلك فيه؛ لأنه قد فهم القواعد الأصولية التي تندرج تلك الفروع تحتها. المذهب الثاني: أنه يعتبر قول الفقيه في الإجماع، دون الأصولي. وهو مذهب بعض العلماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 دليل هذا المذهب: أن الفقيه عالم بجزئيات الفروع، وأنه يحفظها فهو أعلم بحكم النازلة بقياسها على نازلة أخرى، فرأيه محتاج إليه في الإجماع، دون الأصولي الذي لا يحفظ تفاصيل الفروع. جوابه: إن احتمال فوات بعض الفروع والجزئيات على هذا الفقيه هو الذي منعنا من قبول قوله في الإجماع، ثم إن القياس ودقائقه وشروطه مختص به الأصولي، والمسألة مفروضة في " الفقيه الذي لا يعرف الأصول، والأصولي الذي لا يعرف الفقه ". المذهب الثالث: أنهما يعتبران معا، فلا ينعقد الإجماع بدونهما، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن كل واحد منهما قد توفرت فيه أهلية النظر، ولدخولهما في عموم لفظ " الأُمَّة "، و " المؤمنين ". جوابه: إنا نسلم أنهما يدخلان في عموم " الأُمَّة "، و " المؤمنين " أيضا، ولكن خصصنا ذلك بأن المقبول قوله من الأُمَّة والمؤمنين هم المجتهدون. والأصولي وهو العالم بدقائق أصول الفقه قد بلغ درجة الاجتهاد بمعرفته بالقواعد الأصولية التي يندرج تحتها عدد لا يحصى من الجزئيات - كما فصلناه فيما سبق - فهو عنده أهلية النظر. أما الفقيه الذي لا يعلم أصول الفقه، فلا نسلم أن عنده أهلية النظر؛ حيث إنه لا يمكنه الاستدلال على ما يقول لعدم معرفته لطرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 الاستدلال التي هي وظيفة الأصولي، ومن لا يعرف الاستدلال فلا يمكن أن يقبل قوله. المذهب الرابع: أنهما لا يعتبران معا، فيمكن انعقاد الإجماع بدونهما. وهو مذهب أكثر العلماء. دليل هذا المذهب: أنهما ليسا من أهل النظر، ولم تتحقق الأهلية المعتبرة في أئمة أهل الحل والعقد من المجتهدين من الأئمة الأربعة، ومن سار على نهجهم ممن عرفوا الأصول والفروع معا. جوابه: إنا نسلم أن الفقيه لم تتحقق فيه الأهلية للنظر؛ لعدم علمه بطرق الاستدلال كما قلنا فيما سبق. أما العالم في أصول الفقه فلا نسلم لكم أنه لم تتحقق فيه أهلية النظر، بل توفرت تلك الأهلية؛ نظراً لمعرفته بطرق الاستدلال وهي القواعد التي يندرج تحتها ما لا يحصى من الجزئيات - كما بيَّنا ذلك فيما سبق -. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي، حيث إنه قد أثر فى بعض المسائل، ومنها: 1 - قول الواحد إذا لم يكن في العصر سواه هل يكون إجماعا؟ فمن قال يعتبر قول الفقيه والأصولي أو أحدهما في الإجماع - وهم أصحاب المذهب الأول والثاني والثالث -: قال: إذا لم يوجد في العصر إلا مجتهد واحد فهما داخلان معه فيكون إجماعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 ومن قال لا يعتبر قولهما في الإجماع - وهم أصحاب المذهب الرابع - قال: إذا لم يوجد إلا مجتهد واحد في العصر، فلا يدخلان معه، فلا يكون إجماعاً؛ لأن الإجماع لا يصدق إلا من اثنين فصاعداً. 2 - لو وجد في هذا العصر خمسة مجتهدين قد علموا الفروع والأصول، ووجد معهم في هذا العصر عالم بأصول الفقه دون فروعه، وعالم بالفقه دون أصوله، واتفق الخمسة على حكم شرعي وخالف الفقيه، والأصولي. فعلى المذهب الرابع: يكون اتفاق الخمسة إجماعاً؛ لأن مخالفة الفقيه والأصولي لا تعتبر. وعلى المذهب الأول والثاني والثالث: لا يكون اتفاق الخمسة إجماغا؛ لأن مخالفة الفقيه والأصولي معتبرة أو أحدهما. 3 - لو اتفق هؤلاء الخمسة، وخالف الأصولي فقط. فعلى المذهب الأول والثالث لا يكون اتفاقهم إجماعاً؛ لأن مخالفة الأصولي معتبرة. وعلى المذهب الثاني والرابع: يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن مخالفة الأصولي عند أصحابه غير معتبرة. 4 - لو اتفق هؤلاء الخمسة وخالف الفقيه فقط. فعلى المذهب الأول والرابع: يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن مخالفة الفقيه غير معتبرة. وعلى المذهب الثاني والثالث: لا يكون اتفاقهم إجماعا؛ لأن مخالفة الفقيه معتبرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 المسألة الثامنة: هل يشترط انقراض العصر في صحة الإجماع؟ المراد من انقراض عصر المجمعين: موتهم جميعاً بعد اتفاقهم على الحكم في الحادثة التي نشأت في عصرهم. وقد اختلف العلماء في اعتبار هذا الشرط في انعقاد الإجماع على مذاهب: المذهب الأول: أن انقراض أهل العصر - وهو موت جميع المتفقين على الحكم - لا يشترط لصحة الإجماع مطلقا، أي: سواء كان صريحاً أو سكوتياً، إجماع صحابة أو غيرهم. وهو مذهب جمهور انعلماء منهم الأئمة الثلاثة: " أبو حنيفة، ومالك، والشافعي " وأكثر أتباعهم، وهو ورواية عن الإمام أحمد وبعض الحنابلة كأبي الخطاب وغيره، وهو اختيار بعض المعتزلة. وبناء على ذلك فإنه لو اتفق جميع مجتهدي الأُمَّة على حكم شرعي لمسألة معينة: ولو في لحظة واحدة مهما قصرت - انعقد الإجماع وأصبح حُجَّة تحرم مخالفته على المجمعين وعلى غيرهم. وهذا هو الصحيح عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الأدلة من الكتاب والسُّنَّة التي ذكرناها في حجية الإجماع - توجب أن الإجماع حُجَّة بمجرد اتفاق مجتهدي العصر الواحد ولو في لحظة؛ حيث إن الحجية تترتب على نفس الاتفاف؛ لأن الاتفاق مناط العصمة، فاشتراط انقراض العصر لا دليل عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به. الدليل الثاني: أن التابعين كانوا يحتجون بإجماع الصحابة في أواخر عصر الصحابة، فقد حكي عن الحسن البصري - رحمه اللَّه - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 أنه قد احتج بإجماع الصحابة وأنس بن مالك - رضي اللَّه عنه - كان حيًّا، وغيره فعل ذلك فقد زاحمهم كثير من التابعين، واحتجوا بإجماعهم وهم - أي: الصحابة بين أظهرهم - والاحتجاج بإجماعهم مع وجودهم قد وقع، ولم ينكره أحد، فعلم أن شرط الانقراض غير معتبر، فلو كان الانقراض شرطا لما احتج التابعون بإجماع الصحابة؛ لأنه لم يكن قد زم لفقد شرطه. الدليل الثالث: قياس الحكم الثابت بالإجماع على الحكم الثابت بالنص، فكما أن الحكم الثابت بالنص لا يختص بوقت دون وقت، فكذلك الثابت بالإجماع ولا فرق. الدليل الرابع: أن اشتراط انقراض العصر يؤدي إلى تعذر الإجماع وعدم تحققه، وامتناع انعقاده مطلقا مع كونه حُجَّة متبعة، وكل شرط أدى إلى إبطال المشروط المتفق على تحققه كان باطلاً، بيان ذلك: أن من اشترط انقراض العصر في صحة الإجماع جوز من جاء من التابعين - وهو من أهل الاجتهاد - مخالفة من أدركهم من الصحابة، وشرط في صحة إجماع الصحابة موافقة ذلك التابعي، وإذا صار التابعي من أهل الإجماع، فقد لا ينقرض عصرهم حتى يأتي تابع التابعي - وهو من أهل الاجتهاد - ويخالفهم، وهكذا إلى يوم القيامة، مما يؤدي إلى عدم تحقق الإجماع في عصر من العصور، ولا يكون ثابتا. المذهب الثاني: أن انقراض أهل العصر - وهو: موت جميع المعتبرين في الإجماع - شرط لصحة انعقاد الإجماع مطلقا، أى: سواء كان صريحا أو سكوتيا، في عصر الصحابة أو غيرهم، أي: لا يسمى الاتفاق إجماعا إلا بعد موت المجمعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 885 وهو رواية ظاهرة للإمام أحمد، وهو اختيار بعض الشافعية كابن فورك، وسليم الرازي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وتلميذه ابن عقيل، والحلواني، وبعض المعتزلة، ورواية عن الخوارج. وبناء على هذا المذهب فلا تحرم مخالفتهم للإجماع في عصرهم، فيصح أن يرجع بعضهم، أو يرجعوا جميعاً عن الحكم، ولا يكون اتفاقهم إجماعا ولا حُجَّة إلا إذا ماتوا، وإذا أدركهم من جاء بعدهم - وبلغوا درجة الاجتهاد - وخالفوهم في ذلك الحكم فإنه يعتد بخلافهم. أدلة هذا المذهب؛ الدليل الأول: أنه لو كان اتفاق المجتهدين حُجَّة قبل انقراض العصر لامتنع رجوع المجتهد عن اجتهاده؛ إذا ظهر له أنه أخطأ فيه، وهذا مخالف لإجماع العلماء؛ حيث أجمعوا على وجوب رجوع المجتهد عند ظهور الدليل الموجب لذلك، فبطل كون الاتفاق قبل الانقراض حُجَّة، وبناء على ذلك: وجب اشتراط الانقراض في الحجية. جوابه: إن العلماء قد أجمعوا على وجوب رجوع المجتهد عند ظهور موجبه إذا كان الاجتهاد انفرادياً، أما إذا كان الاجتهاد جماعياً، فلا يجوز لأي مجتهد أن يرجع عن اجتهاده، ولو ظهر له موجب، فيكون هذا الموجب مؤول، أو منسوخ، فلم يكن موجبا للرجوع؛ لأن الإجماع قاطع، فيدل على بطلان مقابله، أو تأويله. الدليل - الثاني: قياس الإجماع على السُّنَّة، بيان ذلك: إن وفاة - صلى الله عليه وسلم - شرط في استقرار الحُجَّة فيما يقوله، فكذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 886 وفاة المجمعين - وهو: المراد بانقراض العصر - شرط في استقرار قول الجماعة وصحته. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن الأصل المقاس عليه لا نسلمه؛ فلا نسلم أن وفاة - صلى الله عليه وسلم - شرط في حجية سُنَته، ولا في استقرارها، بل هي حُجَّة بمجرد ورودها، ولو لم تكن حُجَّة بمجرد ورودها لما وجبت طاعته فيها، والإجماع حاصل في طاعته - صلى الله عليه وسلم -، وكذا يجب اعتقاد استقرار حجية السُّنَّة بمجرد ورودها حتى يظهر المغير، ولو لم يكن كذلك لارتفعت الثقة بالقرآن والسُّنَّة، وهذا باطل. الجواب الثاني: لو سلمنا أن الأصل المقاس عليه صحيح - وهو اشتراط وفاته في استقرار حجية السُّنَّة - فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنه يوجد فرق بين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - وبين إجماع الأُمَّة، وهو: أن قول - صلى الله عليه وسلم - إنما لم يستقر قبل موته؛ لاحتمال نسخه وهو متوقع، وذلك إنما هو بالوحي القاطع، ورفع القاطع بالقاطع بطريق الوحي جائز في عهده - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف رفع حكم الإجماع القاطع بطريق الاجتهاد، فإنه لا ينسخ. المذهب الثالث: أن انقراض المجمعين شرط في إجماع الصحابة فقط. وهو اختيار ابن جرير الطبري وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: الوقوع؛ حيث وقع رجوع بعض الصحابة عن إجماع الصحابة في مسألة معينة، فلو لم يشترط انقراض عصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 887 الصحابة لم يصح رجوع بعضهم؛ نظراً لاستلزام الرجوع مخالفة الإجماع، وإليك بعض أمثلة رجوع بعض الصحابة. فمنها: أنه أجمع عمر وعليّ - رضي اللَّه عنهما - على أن أم الولد لاتباع، ثم خالف علي هذا بعد وفاة عمر، ورأى أن يبعن، قال عليّ - رضي اللَّه عنه -: " اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن "، فقال له عبيدة السلماني: " رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك "، فهنا عليّ - رضي اللَّه عنه - أظهر الخلاف بعد الإجماع، وأقر عليه، فلو كان لا يشترط انقراض عصر الصحابة ما جاز له الخلاف، ولما أقر عليه. جوابه: يجاب عنه: بانا لا نُسَلِّمُ بأن مخالفة عليّ - رضي اللَّه عنه - كان لإجماع سابق، حيث لم يتم إجماع في زمن عمر - على عدم بيع أم الولد - يدل على ذلك قول جابر: " بعناهن على زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأبي بكر، وشطر من زمن عمر "، وهو قول ابن عباس، فهنا جابر وغيره قد خالفوا في ذلك. أما قول عبيدة السلماني: " رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك وحدك "، فلم يُرد به أن موافقة الجماعة إجماعا، وإنما أراد به: أن رأيك في زمان الألفة، والجماعة والاتفاق، والطاعة للإمام أحب إلينا من رأيك في الفتنة والفرقة. بيان نوع الخلاف في هذه المسألة: الخلاف هنا معنوي، يظهر أثره في أمرين هما: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 888 أولهما: هل يجوز رجوع المجمعين أو بعضهم عما أجمعوا عليه أو لا؟ اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة. فعلى المذهب الأول - وهو: أن انقراض العصر لا يشترط لصحة الإجماع مطلقاً -: لا تجوز مخالفة المجمعين لما أجمعوا عليه، ولا تجوز مخالفة بعضهم له أيضاً. أما على المذهب الثاني - وهو: أن الانقراض شرط لصحة الإجماع مطلقاً -: فإنه يجوز أن يرجع جميع المجتهدين المجمعين عن إجماعهم، ويجوز رجوع بعضهم، فيبطل إجماعهم. أما على المذهب الثالث - وهو: أن الانقراض شرط لصحة إجماع الصحابة - فإنه يجوز رجوع المجمعين الصحابة أو بعضهم، ولا مانع من ذلك دون إثم، أما غير الصحابة فلا يجوز للمجمعين كلهم ولا لبعضهم الرجوع عن الإجماع. ثانيهما: هل يُعتد بخلاف الناشئ إذا بلغ درجة الاجتهاد بعد أن أجمع العلماء على تلك المسألة وبعض المجمعين على قيد الحياة؛ اختلف في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة. فعلى المذهب الأول - وهو عدم اشتراط انقراض العصر لصحة الإجماع - مطلقاً، لا يعتد بخلاف ذلك الناشئ مطلقا، سواء كان من الصحابة أو غيرهم. أما على المذهب الثاني - وهو: اشتراط انقراض العصر مطلقا - فإنه يُعتد بخلاف ذلك الناشئ مطلقا. أما على المذهب الثالث - وهو اشتراط الانقراض لصحة إجماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 889 الصحابة - فإنه يُعتد بخلاف الناشئ التابعي البالغ درجة الاجتهاد في عصر الصحابة فقط، أما غير التابعي فلا يعتد بخلافه إذا بلغ درجة الاجتهاد بعد اتفاق علماء عصره. *** المسألة التاسعة: إذا بلغ التابعي درجة الاجتهاد في عصر الصحابة قبل اتفاقهم، فهل يُعتد بقوله وفاقاً وخلافاً؟ لقد قلنا في المسألة السابقة: إنه لا يشترط انقراض عصر المجمعين مطلقاً، أي: سواء كانوا صحابة أو غير صحابة، وترتب على هذا القول: إنه لا يُعتد بخلاف من خالفهم بعد انعقاد الإجماع منهم مطلقا، سواء كان تابعياً بلغ درجة الاجتهاد في عصر الصحابة بعد إجماعهم أو لا. لكن هذه المسألة تختلف عن تلك فهي مفروضة فيمن بلغ درجة الاجتهاد من التابعين في عصر الصحابة، وقبل انعقاد إجماع الصحابة على مسألة معينة، فهل يُعتد بقوله وفاقا وخلافا أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أنه يُعتد بقوله. أي: إذا حضر المجتهد من التابعين مع الصحابة في وقت حدوث الحادثة فخالفهم، لم ينعقد إجماع الصحابة مع مخالفتة، وتكون المسألة مختلف فيها. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدلبل الأول: عموم الأدلة المثبتة لحجية الإجماع، وهي التي ذكرناها من الآيات والأحاديث، فإنها دلَّت على أن المتبع هم كل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 890 المجتهدين من " المؤمنين " ومن " الأمة " الموجودين حين حدوث الحادثة في عصر واحد، وهذا الاسم - وهم المؤمنون والأمة - لا يصدق مع خروج التابعي المجتهد عن الصحابة، لأن التابعي المجتهد من الأمة ومن المؤمنين، فلو نظر الصحابة دون التابعي المجتهد في تلك المسألة وأجمعوا على حكمها، فإنه لا يقال: " أجمع جميع مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - "، فالحجة إجماع الكل، وما دام الأمر كذلك فإنه يعتد بقول التابعي مع الصحابة. الدليل الثاني: الوقوع، حيث إن بعض التابعين قد اجتهدوا وأفتوا في مسائل مع وجود بعض الصحابة، ولم ينكر الصحابة عليهم ذلك، ولو كان قول التابعي المجتهد مع وجود الصحابي باطلاً لما ساغ للصحابة تجويزه والأخذ به، والرجوع إليه، وإليك أمثلة على ذلك: 1 - أن كبار أصحاب ابن مسعود - رضي الله عنه - كعلقمة النخعي، والأسود النخعي، وغيرهما كانوا يفتون الناس مع وجود ابن مسعود وغيره من الصحابة بدون نكير. 2 - أن سعيد بن المسيب كان يفتي بالمدينة المنورة، وفيها خلق كثير من الصحابة، وكذلك فقهاء التابعين المعاصرين لبعض الصحابة يفعلون ذلك كسعيد بن جبير، والشعبي، والحسن البصري. 3 - أن أنساً سُئل عن مسألة فقال: " سلوا مولانا الحسن - يعني الحسن البصري - فإنه سمع وسمعنا فحفظ ونسينا. 4 - أن عمر بن الخطاب وعليّ بن أبي طالب قد وليا شريحا بن الحارث التابعي القضاء وأمراه بالاجتهاد إن لم يجد حكم الحادثة في النص ولم يعترضا - أي: عمر وعليّ - على ما قضي به شريح فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 891 خالفهما فيه، وحكم على عليّ في خصومة عرضت له عنده على خلاف رأي عليّ، ولم ينكر عليه. 5 - أن رجلاً سأل ابن عمر عن فريضة، فقال: سل سعيد بن جبير، فإنه يعلم منها ما أعلم، ولكنه أحسب مني. وغير ذلك من الأمور التي دلَّت على أن الصحابة قد أجازوا وسوغوا للتابعين الاجتهاد معهم، وأخذ رأيهم، وكيف لا يعتبر قولهم، وقد أقر الصحابة لهم بالفضل والعلم والفهم للشريعة، ولم ينكروا عليهم؟! ولو وجد إنكار لبلغنا، ولكن لم يصح شيء من ذلك. المذهب الثاني: أنه لا يُعتد بقول التابعي المجتهد مع الصحابة. أي:. أن الصحابي إذا بلغ درجة الاجتهاد وأدرك عصر الصحابة، فحدثت حادثة في ذلك العصر، فإنه لا يُعتدُّ بقوله: فإذا أجمع الصحابة على رأي في تلك الحادثة وخالفهم ذلك التابعي، فإنه ينعقد الإجماع بدون النظر في مخالفة التابعي. وهو مذهب بعض المالكية كابن خويز منداد، وبعض الشافعية كابن برهان، وبعض الحنابلة كأبي يعلى. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد تميزوا عن غيرهم بالصحبة، وهذا الوصف يقتضي أن الموصوف به قد شاهد التنزيل، وعلم التأويل، وعلم الشرع من فيِّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مباشرة، وعرف مقاصد الشريعة، فإذا كان الصحابة يتميزون بذلك في حين أن هذه المميزات معدومة في التابعين، فإنه يتبين لك ان الحق معهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 892 ولا يكون مع مخالفهم، وأن مرتبة الصحابة بالنسبة للتابعين كمرتبة العلماء مع العوام، فكما أن العامي لا يعتد بقوله في إجماع العلماء، نظراً لعدم العلم، فكذلك التابعي لا يعتد بخلافه في إجماع الصحابة، نظراً لتلك المميزات التي تميز بها الصحابة. جوابه: إننا نسلم بأن الصحابة يفضلون على التابعين بفضيلة الصحبة، ولكن فضيلة الصحبة لا تجعل الإجماع مختص بهم، وأنه لا يُعتد بقول غيرهم ممن عاصرهم من مجتهدي التابعين؛ وذلك لأن شرط الإجماع الأساسي هو: كون المجمعون قد بلغوا درجة الاجتهاد مطلقا، فكون الصحابة أعلم بالتأويل وأعرف بالمقاصد لا ينفي وجود من يعلم ذلك من مجتهدي التابعين، إذن مجتهدو العصر الواحد قد تساووا في الاجتهاد، فيقبل قول كل واحد من المجتهدين سواء كان صحابيا أو غير صحابي. أما قولكم: إن الصحابة مع التابعين كالعلماء مع العامة، فهذا لا نسلمه لكم مطلقاً؛ لأن هذا القول مخالف للحقيقة، فقياس التابعين على العوام قياس فاسد؛ لأن مجتهدي التابعين قد وصلوا إلى درجة من العلم والفقه والفهم قد تساوي ما علمه الصحابي إن لم تزد عليه. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث وقع إنكار بعض الصحابة على بعض التابعين ولو كان التابعي المجتهد يُعتد بخلافه مع الصحابة لما وقع هذا الإنكار، والإنكار ورد في قصة عائشة - رضي اللَّه عنها - مع أبي سلمة؛ حيث روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف أنه قال: كنا نتذاكر أنا، وابن عباس، وأبو هريرة في عدة المتوفى عنها زوجها، فقال ابن عباس: تعتد بأقصى الأجلين، فقلت: بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 893 عدتها: أن تضع حملها، فأنكرت عائشة - رضي اللَّه عنها - على أبي سلمة ذلك، وقالت: مثلك مثل الفروج سمع الديكة تصيح فصاح لصياحها. وروى الإمام مالك في " الموطأ ": أن عائشة قالت ذلك لأبي سلمة في الغسل من التقاء الختانين، قال أبو سلمة: سألت عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم -: ما يوجب الغسل؛ فقالت: هل تدري ما مثلك يا أبا سلمة؟ : مثل الفروج يسمع الديكة تصرخ فيصرخ معها، إذا جاوز الختان فقد وجب الغسل. فلو كان قول التابعي - وهو هنا أبو سلمة - معتبرا مع الصحابة: لما أنكرت عائشة على أبي سلمة مجاراته للصحابة، وكلامه واجتهاده معهم، ولما زجرته عن ذلك، وهذا يدل على أنهم لم يسوغوا خلاف التابعين معهم. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن إنكار عائشة على أبي سلمة قد وقع، ولكن هذا الإنكار اجتهاد منها - رضي اللَّه عنها - خالفها فيه ابن عباس وأبو هريرة - رضي اللَّه عنهم - حيث إن أبا سلمة لما قال - في القصة السابقة -: " وقلت: أنا عدتها أن تضع حملها ": قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي، فأرسل ابن عباس غلامه كريبا إلى أم سلمة يسألها، قالت: قتل زوج سبيعة الأسلمية، وهي حبلى فوضعت بعد موته بأربعين ليلة، فخطبت فأنكحها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. فهنا لم ينكر ابن عباس وأبو هريرة مخالفة أبي سلمة في هذه المسألة، مما يدل على تسويغ بعض الصحابة لذلك، وعدم فعله ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 894 ينكر عليه، لأنه مجتهد ناظر مجتهدين، إذن: إنكار عائشة على أبي سلمة يقابل بموافقة هذين الصحابيين، والوافقة مقدمة على الإنكار، فيثجت أن التابعي المجتهد يُعتد بقوله مع الصحابة. الجواب الثاني: أن إنكار عائشة لا يدل على مذهبكم وهو: أن التابعي المجتهد لا يعتد بقوله في إجماع الصحابة؛ حيث إن إنكارها ورد على شخص معين في قضية معينة، وهذا يحتمل احتمالين: الاحتمال الأول: أن عائشة قد أنكرت على أبي سلمة؛ لأنه يبلغ درجة الاجتهاد - من وجهة نظرها - ومن لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يؤخذ برأيه في المسائل الفقهية. الاحتمال الثاني: أن أبا سلمة قد يكون من البالغين درجة الاجتهاد، ولكن عائشة أنكرت عليه لعدم تأدبه مع ابن عباس حبر هذه الأُمَّة حال المناظرة من رفع صوت ونحوه، وقولها: " يصيح " يشعر بذلك، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، له أثره وهو واضح، فلو اتفق الصحابة على حكم معين وخالفهم تابعي مجتهد، فهل يكون الإجماع صحيحا؟ اختلف في ذلك: والخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة. فعلى المذهب الأول: لا يكون اتفاق الصحابة إجماعاً، بل تكون المسألة مختلف فيها، لأنه يُعتد بخلاف التابعي المجتهد مع الصحابة. وبناء على المذهب الثاني: يكون اتفاق الصحابة إجماعاً، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 895 ولا عبرة بخلاف التابعي، وتكون المسألة مجمعا عليها، لا تجوز مخالفته. *** المسألة العاشرة: هل يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين؟ أو هل ينعقد الإجماع بقول الأكثر؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين، فلا ينعقد الإجماع بقول أكثر العلماء، فلو اتفق علماء العصر على حكم حادثة إلا الواحد أو الاثنين منهم: لم ينعقد الإجماع. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن النصوص السابقة - وهي التي ذكرناها في حجية الإجماع - دلَّت على عصمة الأُمَّة عن الخطأ، ولفظ الأُمَّة إنما يُطلق حقيقة على جميع الأُمَّة، ولا يُطلق على أكثر الأُمَّة، وإن أطلق على أكثر الأُمَّة فإطلاق مجازي لا يصح إلا بقرينة، وحيث لا توجد قرينة، فإنا نحمل لفظ " الأُمَّة " على كل الأُمَّة وجميعها، فينتج: أن العصمة عن الخطأ يكون بجميع الأُمَّة، أما أكثر الأُمَّة فلا عصمة لهم، ونظراً إلى أنه لا عصمة لأكثر الأُمَّة، فلا ينعقد الإجماع باتفاقهم. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إنه قد وقع في زمن الصحابة اتفاق الأكثر منهم على حكم من الأحكام، ومخالفة الأقل، بل تفرد الواحد منهم برأيه في مسألة معينة مع اتفاق الأكثر على رأي آخر، فلو كان اتفاق الأكثر يعتبر إجماعاً للزم الأقل أو الواحد منهم أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 896 يعمل بذلك الإجماع، ولأنكروا على ذلك المخالف مخالفة ذلك الإجماع، وعلى ذلك أمثلة: 1 - مخالفة ابن عباس لاكثر الصحابة في مسألة الجد والإخوة، ومسألة العول. 2 - مخالفة ابن مسعود لأكثر الصحابة في بعض مسائل الفرائض. 3 - مخالفة زيد بن أرقم لأكثر الصحابة في مسألة العينة. وغير ذلك من الأمثلةْ، ولم ينكر ذلك أحد منهم، ولو وجد إنكار لنقل وبلغنا، ولكن لم يبلغنا شيء من ذلك. وما نقل من الإنكار على بعض الصحابة لم يكن إنكار تخطئة، وإنما هو إنكار في الدليل والمأخذ فقط، كما يجري ذلك مع مجتهد حينما يناظر مجتهداً آخر. ومما يؤيد أن اتفاق الأكثر لا يُسمَّى إجماعا: أن الرأي الذي ذكره الأقلون من الصحابة أو الواحد منهم بقي إلى زماننا هذا، وسمِّيت المسألة خلافية، وربما كان الرأي الذي ذهب إليه الأقل منهم كان هو المعمول به عند بعضهم، فلو كان ذلك مخالفاً للإجماع لما كان ذلك جائزاً. المذهب الثاني: أنه لا يشترط في الإجماع اتفاق كل المجتهدين، فينعقد الإجماع بقول الأكثر، فلو اتفق علماء العصر على حكم معين وخالفهم الواحد أو الاثنين منهم، فإنه ينعقد الإجماع. وهو ما ذهب إليه ابن جرير الطبري، وأبو بكر الجصاص، وأبو الحسن الخياط من المعتزلة، وابن حمدان من الحنابلة، وأبو محمد الجويني من الشافعية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 897 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع: فإنه لما اتفق أكثر الأُمَّة على مبايعة "أبي بكر - رضي اللَّه عنه - بالخلافة، انعقد الإجماع على ذلك، وخالف في ذلك بعض الصحابة كعليّ وغيره، فلو لم يكن اتفاق الأكثر إجماعاً لما كانت خلافة أبي بكر ثابتة بالإجماع. جوابه: لا نسلم ما ذكرتم، بل إن خلافة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - قد اتفق عليها جميع الصحابة: فبعضهم نطق بالمبايعة، وبعضهم لم ينكر ذلك، ولو أنكر لنقل، ولكن لم ينقل شيء من ذلك، وما قيل من مخالفة علي - رضي اللَّه عنه - في ذلك غير صحيح، ولكنه تأخر في البيعة لعذر خاص به، فلما علم بتلك البيعة وافق وقال: " رضيه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لديننا أفلا نرضاه لدنيانا! ". الدليل الثاني: أنه لو اعتبرت مخالفة الواحد أو الاثنين لما انعقد الإجماع أصلاً؛ لأنه ما من إجماع إلا ويمكن مخالفة الواحد والاثنين جوابه: إنه إذا اتفق جميع المجتهدين في العصر على حكم معين، فإن ذلك يكون إجماعاً، ويحتج به، وتحرم مخالفته، واتفاق هؤلاء يعلم إما بصريح القول، أو بقرائن تدل على موافقته، وذلك ممكن كما سبق. أما إذا خالف واحد أو اثنان - ممن بلغوا درجة الاجتهاد - هؤلاء الأكثر، فإنه لا إجماع، بل تكون المسألة مختلف فيها - كما قلنا ذلك فيما سبق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 898 الدليل الثالث: أن الإجماع حُجَّة في العصر الذي هِم فيه، وذلك يقتضي أن يكون منهم مخالف ليكون ذلك الإجماع حُجَّة عليه. جوابه: أن الإجماعِ حُجَّة على من خالف منهم بعد انعقاد الوفاق في زمنهم، وحُجة على من يوجد بعدهم. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي، وهو واضح، فلو اتفق أكثر علماء العصر على حكم معين، وخالف واحد ممن بلغ درجة الاجتهاد، فهل يسمى هذا الاتفاق إجماعا أو لا؟ فعلى المذهب الأول: لا يُسمَّى هذا الاتفاق إجماعا، فتجوز مخالفة الرأي الذي اتفق عليه الأكثر، ويتخير المكلََّف بين رأي الأكثر والاءقل. أما على المذهب الثاني، فإنه يسمى هذا الاتفاق إجماعا، فلا تجوز مخالفة الرأي الذي اتفق عليه الأكثر، ويلزم المكلََّف المقلد بما اتفق عليه الأكثر. *** المسألة الحادية عشرة: اتفاق الأكثر هل يكون حُجَّة يجب الأخذ به؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الأول في المسألة السابقة - وهم القائلون: إن اتفاق الأكثر لا يعتبو إجماعا - فيما بينهم هل يكون اتفاق الأكثر حُجَّة. والحق: أن اتفاق أكثر العلماء ليس بحُجَّة، فيجوز مخالفة ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 899 اتفق عليه الأكثر إذا ظهر الحق في غيره؛ لأن الحق قد يكون مع الأكثر، وقد يكون مع الأقل، والاحتمالان متساويان، فنتوقف في ذلك حتى يظهر لنا دليل يرجح أحد هذين الاحتمالين. والكثرة لا تتميز بشيء؛ لما تقدم من أن العصمة قد ثبتت للكل، لا للكثرة، وكثيراً ما ظهر أن الحق في جانب قول الأقل. *** المسألة الثانية عشرة: هل يشترط في انعقاد الإجماع وحجيته أن يكون له مستند ودليل؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يشترط في الإجماع وحجيته أن يكون له مستند ودليل ومأخذ يوجب ذلك الإجماع. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قياس علماء الأمَّة على النبي - صلى الله عليه وسلم -، بيانه: أنه كما أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يقول شيئاً ولا يحكم بحكم إلا عن وحي، كما قال تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إلا وحي يوحى) ، فكذلك علماء الأُمَّة يجب أن لا يجمعوا على حكم إلا عن مستند ودليل قد اعتمدوا عليه. الدليل الثاني: أن عدم المستند من دليل أو أمارة يحتمل عدم الوصول إلى الحق، مما يؤدي ويفضي إلى جواز الخطأ، فلذلك قلنا: لا ينعقد الإجماع إلا عن مستند؛ سدا لهذا الاحتمال. الدليل الثالث: لو جاز انعقاد الإجماع من غير دليل لم يكن لاشتراط الاجتهاد فيمن يُعتدُّ به في الإجماع معنى؛ لأننا لم نشترط الجزء: 2 ¦ الصفحة: 900 بلوغ درجة الاجتهاد لكل واحد من المجمعين إلا من أجل أن ينظر في المسألة عن استدلال، وأن يعتمد فيما يقول على دليل وأمارة، ولو كان الإجماع ينعقد بلا مستند لدخل المجتهد وغير المجتهد. المذهب الثاني: أنه لا يشترط في الإجماع أن يكون له مستند، فيجوز انعقاد الإجماع عن غير مستند، وذلك بأن يوفقهم اللَّه تعالى لاختيار الصواب من غير أن يكون لهم مستند أو دليل يستندون إليه، وهو مذهب طائفة شاذة، وقيل: إنه مذهب بعض أهل الأهواء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع، فقد وقع الإجماع عن غير دليل وغير مستند، والوقوع دليل الجواز، وذلك كإجماع العلماء على جواز عقد الاستصناع، وأجرة الحمام، وبيع المعاطاة أو المراضاة. جوابه: لا نسلم أن هناك أحكاماً شرعية قد أجمع العلماء عليها بدون مستند. أما ما ذكرتموه من الأمثلة والصور، فلم يقع الإجماع عليها إلا عن دليل ومستند، وإليك بيان ذلك: أما عقد الاستصناع، فقد كان في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولم ينكره - مع علمه به - فكان ثبوته عن طريق السُّنَّة التقريرية. أما أجرة الحمام فهي مقدرة بالعادة والعرف، وهو دليل شرعي؛ لقوله تعالى: (من أوسط ما تطعمون أهليكم) . أما بيع المراضاة - وهو ما حصل بتراضي الجانبين - بلا لفظ - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 901 فلا نسلم أنه صحيح - بإجماع العلماء، بل خالف في ذلك الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -. الدليل الثاني: لو لم ينعقد الإجماع إلا عن مستند ودليل، لكان ذلك الدليل هو الحُجَّة في المسألة، فلا يكون للإجماع فائدة. جوابه: لا نسلم ذلك، بل إن فائدة الإجماع هي: أنه يكفينا مؤنة الرجوع إلى أدلة المجمعين، وكيفية دلالة كل دليل على مدلوله ونحو ذلك. فإذا قيل: إن العلماء أجمعوا على حكم تلك المسألة نكتفي بذلك، ولا نسأل عن أدلة المجمعين. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأنه لا يعمل بالإجماع الذي لا مستند له، وقيل: إن الخلاف لفظي؛ لعدم اختلاف عمل المكلف على المذهبين. *** المسألة الثالثة عشرة: الدليل القطعي هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟ أصحاب المذهب الأول من المسألة السابقة - وهم القائلون: لا بد للإجماع من مستند - اختلفوا فيما بينهم في جواز كون الدليل القطعي مستنداً للإجماع على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع دليلاً قاطعاً من كتاب أو سُنَّة، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق لدليلين: الدليل الأول: أنه لا مانع من ذلك، فهو يكون من تضافر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 902 الأدلة؛ قياساً على ثبوت الحكم الواحد بآيات متعددة، أو بالكتاب والسُّنَّة المتواترة، كما هو واقع في الصلاة والزكاة وجميع أركان الإسلام، وما دام أنه لا يمتنع: إذن هو جائز. الدليل الثاني: الوقوع، فقد وقع من العلماء - أنهم يستدلون على بعض الأحكام الثابتة بالكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع مع أن مستند الإجماع آيات من الكتاب، وبعض الأحاديث المتواترة، فيقولون - مثلاً -: ثبت تحريم الأمهات والجدات والبنات بالكتاب والسُّنَّة والإجماع، وهكذا، والوقوع دليل الجواز. المذهب الثانى: أن الإجماع لا ينعقد عن الدليل القطعي من الكتاب، أو السُّنَّة المتواترة، أي: لا يكون مستند الإجماع دليلاً قطعياً. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه إذا وجد الدليل القطعي من الكتاب، أو السُّنَّة المتواترة، فإنه لا يُحتاج إلى الإجماع، نظراً لثبوت الحكم بهما، فلا فائدة - إذن - من الإجماع. جوابه: لا نسلم أنه إذا دلَّ على الحكم دليل قطعي من الكتاب أو السُّنَّة المتواترة، فإنه يصبح الإجماع لا فائدة فيه، بل فيه فائدة وهي: أن المستدل بالإجماع لا يطالب بمستند سواه؛ وهذه الفائدة تكفي المجتهدين مؤنة البحث عن مستند الإجماع من الأدلة القطعية، وكيفية دلالته، ثم إن الإجماع يكون من الأدلة القطعية مؤكدا لما أفادته من القطع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 903 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأن الحكم واحد، ولكن أصحاب المذهب الأول قالوا: إنه ثبت بالإجماع المستند إلى أدلة قطعية، وأصحاب المذهب الثاني قالوا: إنه ثبت بذلك المستند القطعي نفسه، لا بالإجماع. المسألة الرابعة عشرة: الدليل الظني هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الدليل الظني يصلح أن يكون مستنداً للإجماع، فيجوز انعقاد الإجماع عن أي دليل ظني. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه لا مانع من انعقاد الإجماع عن دليل ظني؛ قياساً على انعقاد الإجماع عن دليل قطعي ولا فرق، والجامع: أن كلاً من الدليل القطعي والظنى يوجب العمل، ولذلك يستند إليهما الإجماع. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إن أكثر الإجماعات الموجودة لدينا قد ثبتث وانعقدت وهي مستندة إلى أدلة ظنية، كالعموم والظاهر والمفاهيم، والقياس، وخبر الواحد، والوقوع دليل الجواز. الدليل الثالث: أن النصوص - السابقة الذكر - المثبتة لحجية الإجماع جاءت عامة، لم تفصل بين الإجماع المستند لدليل قطعي أو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 904 ظني، فلا يجوز اشتراط كون الدليل قطعيا؛ لأنه تقييد بلا دليل صحيح وهو باطل. الدليل الرابع: أنا وجدنا الخلق الكثير الزائد على عدد التواتر قد أجمعوا على أحكام باطلة لا تستند إلى دليل قطعي ولا ظني، فجواز انعقاد الإجماع عن الدليل الظني الظاهر أوْلى. المذهب الثاني: أن الدليل الظني لا يصلح أن يكونا مستنداً للإجماع، فلا ينعقد الإجماع إلا عن دليل قطعي من كتاب أو سُنَّة متواترة، وهو مذهب أكثر الظاهرية، وكثير من الشيعة، وابن جرير الطبري. دليل هذا المذهب: قالوا: إن الدليل الظني لا يوجب العلم القطعي، فلا يجوز أن يصدر عنه الإجماع؛ لأن الإجماع يوجب العلم القطعي، فالقطعي لا يثبته إلا القطعي، والظني لا يقوى على إثبات القطعي. جوابه: يجاب عنه بأجوبة.: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن الإجماع يكون قطعيا دائماً، بل إن أكثر الإجماعات ظنية. الجواب الثاني: أن ما قلتموه في المستند الظني ينطبق تماما على المستند القطعي؛ حيث إن المستند القطعي يحتمل النسخ، أو غيره، فالإجماع عليه قد رفع عنه هذا الاحتمال، ولم تقولوا: إن الإجماع حينئذ أقوى من مستنده فيمتنع، بل جوزتم الإجماع عنه. الجواب الثالث: الوقوع؛ حيث وقع أن أكثر الإجماعات قد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 905 استندت إلى دليل ظني - كما سبق ذكر ذلك - والوقوع هذا يخالف ما ذكرتموه. بيان نوع الخلاف: يفهم من الخلاف السابق أنه معنوي إذا عرفنا مستند الإجماع، فإن كان مستند الإجماع قطعياً، فاتفق أصحاب المذهبين على أنه يسمى إجماعاً تحرم مخالفته. أما إن كان مستند الإجماع ظنياً، فعلى المذهب الأول: أنه يُسمَّى إجماعاً كالمستند على الدليل القطعي ولا فرق. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يُسمى إجماعاً، نظراً لاستناده إلى دليل لا يصلح مستنداً للإجماع، وعليه فإنه لا تحرم مخالفته. المسألة الخامسة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن خبر الواحد: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: جواز انعقاد الإجماع عن خبر واحد. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق " لما يلي: الدليل الأول: أن النصوص المثبتة لحجية الإجماع قد وردت عامة وشاملة للإجماع المستند إلى قطعي، والمستند إلى دليل ظني، فلم تفرق بينهما، وما دام أن خبر الواحد يفيد الظن، فيكون صالحاً لأن يستند عليه الإجماع. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث ثبت أن أكثر الإجماعات مستندة إلى خبر واحد مثل: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 906 1 - الإجماع على وجوب الغسل من التقاء الختانين مع أن مستنده خبر عائشة - رضي اللَّه عنها -. 2 - إجماع العلماء على حرمة بيع الطعام قبل القبض مع أن مستنده خبر واحد، وهو حديث ابن عمر وهو أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفية "، ونحو ذلك، والوقوع دليل الجواز. المذهب الثاني: عدم جواز انعقاد الإجماع عن خبر الواحد. وهو مذهب أكثر الظاهرية، والشيعة، وابن جرير الطبري. دليل هذا المذهب: هو دليل أصحاب المذهب الثاني في المسألة السابقة، وقد سبق قريباً. جوابه: قد سبق جوابه فراجعه من هناك. بيان نوع الخلاف: هو نفسه نوع الخلاف في المسألة السابقة. المسألة السادسة عشرة: لو ظهر خبر واحد موافق لمقتضى الإجماع، فهل يجب تعيينه مستندا للإجماع أو لا؟ اختلف أصحاب المذهب الأول من المسألة السابقة في هذه المسألة على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجب تعيينه، فالحديث الذي وافقه حكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 907 الإجماع يجوز أن يكون مسنداً للإجماع، ويجوز أن لا يكون هو مستند الإجماع، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق، لأن هذا الخبر يحتمل أن يكون هو المستند للإجماع، ويحتمل أن يكون مستند الإجماع دليلاً آخر، ومع الاحتمال، فلا جزم. وإذا صح هذا الخبر كان دليلاً آخر للحكم المجمع عليه، ويجوز توارد دليلين وأكثر على حكم واحد. المذهب الثاني: أن الحديث الذي وقع الإجماع على مقتضاه يجب أن يتعين سنداً للإجماع، وهو اختيار أبي حنيفة، وحكي عن الشافعي، وهو مذهب بعض الأشاعرة. دليل هذا المذهب: قالوا: إن الإجماع لا بد له من مستند، وقد تيقنا صلاحية هذا الحديث لأن يكون مستنداً لذلك الإجماع؛ لأنه لم ينقل إلينا مستند لهذا الإجماع، فنتج من ذلك: تعين أن يكون الحديث المذكور مستنداً للإجماع، ولو لم نجعل ذلك مستنداً له لخلا الإجماع عن مستند، وهذا لا يجوز. جوابه: إن تيقن استناد الإجماع لذلك الخبر؛ نظراً لموافقته له، وصلاحيته له هذا لا يسلَّم؛ لجواز أن يكون هناك خبر آخر، أو دليل آخر استندوا إليه في إجماعهم ولم ينقل؛ استغناء بالإجماع عنه، ونظراً لهذا الاحتمال فلا يمكن القطع والتيقن، بل ولا يغلب على الظن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 908 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي هنا؛ لأنه يترتب على المذهب الأول: أن الإجماع لا يصلح أن يكون دليلاً على صحة الخبر الذي وافقه؛ لأنا لم نجزم بأن العلماء أجمعوا على ذلك الحكم، وكان مستند ذلك الإجماع هو الخبر، فيطلب تصحيحه من جهة أخرى. ويترتب على المذهب الثاني: أن ذلك الإجماع يصلح أن يكون دليلاً على صحة الخبر الذي وافقه. *** المسألة السابعة عشرة: حكم انعقاد الإجماع عن القياس: لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: جواز انعقاد الإجماع عن القياس. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: الوقوع، حيث وقع أن الصحابة والسلف قد أجمعوا على أحكام، وكان مستند ذلك الإجماع هو القياس مثل: 1 - إجماع الصحابة على خلافة أبي بكر، وكان مستند ذلك القياس فقاسوا: الإمامة الكبرى - وهي الخلافة - على الإمامة الصغرى - وهي الإمامة في الصلاة. 2 - إجماعهم على تحريم شحم الخنزير؛ قياساً على تحريم لحمه. 3 - إجماعهم على كتابة المصحف؛ قياساً على حفظه في الصدور. 4 - إجماعهم على قتال مانعي الزكاة؛ قياسا على تارك الصلاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 909 وغير ذلك، والوقوع دليل الجواز. الدليل الثاني: القياس على خبر الواحد، بيانه: أنه يجوز أن يكون مستند الإجماع خبر واحد، فكذلك يجوز أن يكون مستند الإجماع القياس ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن. الدليل الثالث: أنه لا يستحيل عقلاً، فلا يبعد اتفاق مجتهدي الأُمَّة على أن النبيذ في معنى الخمر، فيكون حكمهما واحداً، وهو: التحريم؛ لاتفاقهما في العِلَّة وهي الإسكار. الدليل الرابع: أن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع عامة وشاملة للإجماع المستند إلى دليل القطعي، والمستند إلى الظني، فلم تفرق بينهما، والقياس يفيد الظن، فهو يصلح أن يكون مستنداً للإجماع. المذهب الثاني: الفرق بين أن يكون القياس جليا، فيصح أن يكون مستنداً، وبين أن يكون القياس خفياً، فلا يصلح. وهو ما اختاره بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: قالوا: إن القياس الجلي يفيد القطع، فيصلح أن يكون مستنداً للإجماع " لأن الإجماع لا يستند إلا إلى قطعي، أما القياس الخفي فإنه يفيد الظن، والظن وأي دليل ظني لا يصلح أن يكون مستنداً للإجماع. جوابه: إن هذا التفريق لا دليل صحيح عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتمد عليه، ثم إنه مخالف لعموم الأدلة المثبتة لحجية الإجماع، حيث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 910 إنها شاملة للإجماع المستند لدليل قطعي، والدليل ظني ولم تفرق بينهما. المذهب الثالث: أنه لا يجوز عقلاً انعقاد الإجماع، وهو مستند للقياس، وهو اختيار بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قالوا: إن القياس تجوز مخالفته اتفاقاً، والإجماع لا تجوز مخالفته اتفاقا، فلو استند الإجماع إلى القياس، مع قولنا بأن القياس تجوز مخالفته: للزم من ذلك جواز مخالفة الإجماع؛ لأن مخالفة الأصل - وهو القياس - تجوِّز مخالفة الفرع - وهو الإجماع -، وعلى هذا فتجوز مخالفة الإجماع باعتبار سنده وهذا باطل. جوابه: إن القياس تجوز مخالفته قبل الإجماع عليه، وأما بعد الإجماع عليه، فلا تجوز مخالفته؛ لظهور صحته من الإجماع عليه، فلا يصح قولكم: " إن مخالفة الأصل تجوّز مخالفة الفرع "؛ لأن الأصل أصبح غير جائز المخالفة بالإجماع عليه. المذهب الرابع: أن انعقاد الإجماع عن القياس يجوز عقلاً، ولكنه لم يقع، ونسب إلى بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قالوا: إنه لا يمتنع عقلاً استناد الإجماع إلى القياس؛ لأنه لا يترتب على فرض وقوعه محال، وكل ما كان كذلك فهو جائز عقلاً، ولكن بعد تتبع واستقراء النصوص لم نجد إجماعا استند إلى قياس، فدل على عدم وقوعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 911 جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ما زعمتم من أنه لم يقع إجماع مستند إلى قياس، بل وقع، وهو كثير جداً، وقد مثلنا لذلك فيما سبق، فيكون كلامكم إما مكابرة ومعاندة، أو أنه استقراء ناقص، وكلاهما لا يعتد به. بيان نوع الخلاف: هو نفس نوع الخلاف في مسألة: " الدليل الظني هل يصلح أن يكون مستنداً للإجماع؟ "، وهي المسألة الرابعة عشرة. المسألة الثامنة عشرة: هل يُشترط نقل الإجماع بالتواتر؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط، فالإجماع يثبت بخبر الواحد، ويكون الإجماع المنقول إلينا عن طريق الآحاد ظنيا، ويجب العمل وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض المالكية كابن الحاجب، وجماعة من الشافعية. وهو الحق؛ لأن الآحاد إذا نقل الدليل الظني كخبر الواحد، فإنه يوجب العمل به اتفاقا، فنقل الدليل القطعي الدلالة بخبر الواحد أَوْلى بأن يوجب العمل؛ لأن الضرر في مخالفة المقطوع أكثر، واحتمال الغلط والخطأ في نقله أقل. المذهب الثاني: أن الإجماع لا يثبت بخبر الواحد، بل يشترط فيه أن يكون منقولاً عن طريق التواتر، فالإجماع المنقول عن طريق الآحاد لا يوجب العمل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 912 وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، وبعض الخوارج. دليل هذا المذهب: قالوا: إن الإجماع دليل قاطع يحكم به على الكتاب والسُّنَّة، وخبر الواحد دليل ظني، فكيف يثبت الدليل القطعي بالدليل الظني. جوابه: إن الإجماع مسألة شرعية طريقها طريق بقية المسائل المعمول بها التي يكفي في ثبوتها الظن، فإذا غلب على الظن شيء: يجب العمل به ما لم يمنع منه مانع، والإجماع هنا نقل إلينا بطريق يغلب على الظن ثبوته وهو خبر الواحد، فيكون ذلك الإجماع إجماعا ظنيا؛ نظراً لطريق ثبوته، وعلى ذلك يجب العمل به كنقل القراءة الشاذة، ونقل قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - بخبر الواحد. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، كما ظهر من المذهبين، حيث لو أجمع العلماء على حكم معين، ونقل هذا الإجماع بخبر الواحد، فإنه يُعمل به عند أصحاب المذهب الأول، أما عند أصحاب المذهب الثاني فلا يعمل به، ولكني أستبعد ذلك عن أصحاب المذهب الثاني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 913 المطلب السادس في أقسام الإجماع ينقسم الإجماع إلى قسمين: القسم الأول: الإجماع القطعي. القسم الثاني: الإجماع الظني. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 915 القسم الأول الإجماع القطعي وهو: أن يتوفر فيه ما يلي: أولاً: أن تتوفر جميع شروط الإجماع السابقة - على التفصيل المذكور -. ثانيا: أن يصرح كل واحد من المجتهدين بحكم المسألة، أو أن يصرح بعضهم، ويعمل البعض الآخر على وفق هذا القول المصرح ثالثا: أن ينقل هذا القول وهذا التصريح إلينا نقلاً متواتراً. إذا توفرت هذه الأمور، فإن الإجماع يكون حُجَّة قاطعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 917 القسم الثاني الإجماع الظني وهو: ما اختل فيه أحد الأمور الثلاثة السابقة في القسم الأول، ويشتمل الكلام عن هذا القسم على مسائل كثيرة، منها المسألة الثامنة عشرة - من مسائل شروط الإجماع - وهي: " هل يشترط نقل الإجماع بالتواِتر؟ " فإذا نقل الإجماع الصريح بالآحاد صار إجماعاً ظنياً، وقد بينت ذلك في موضعه، ومما يدخل في ذلك ما يلي من المسائل: المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون، على قولين، فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما، فهل يكون ذلك إجماعاً؟ المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟ المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا تأويلاً، ولم يصرحوا بشيء فهل لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟ المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين فهل لمن بعدهم التفريق بينهما؟ المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق علماء الأمَّة على عدم العلم به؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 919 المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً، وسكت الباقون سكوتا لا يفهم منه الرضا ولا السخط فهل يعتبر هذا إجماعا وحجة؟ " الإجماع السكوتي ". المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 920 المسألة الأولى: إذا اختلف الصحابة أو الأولون على قولين، فأجمع التابعون أو المتأخرون، على أحدهما، فهل يكون ذلك إجماعا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يكون إجماعاً، وبناء على ذلك فإنه تحرم مخالفته، مثل مسألة " بيع أم الولد "، فإن الصحابة اختلفوا فيها على قولين - الجواز وعدم الجواز - ثم اتفقوا على قول واحد وهو: عدم الجواز، فإن هذا يكون إجماعا تحرم مخالفته ويجب العمل به. وهو مذهب أكثر الحنفية، والمعتزلة، وأكثر المالكية، وبعض الشافعية كأبي بكر القفال، وأبي إسحاق الشيرازي، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب. وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن النصوص الدالة على حجية الإجماع - السابقة الذكر - تدل على حجية أيِّ إجماع من مجتهدي العصر سواء سبقه اختلاف في العصر الذي سبقه، أو لم يسبقه شيء، فاتفاق علماء العصر المتأخر على أحد قولي علماء العصر المتقدم يعتبر سبيل المؤمنين فيجب اتباعه. الدليل الثاني: أن إجماع التابعين أو علماء العصر المتأخر، هو: اتفاق من أهل العصر على حكم فقهي معين، فلم يجز خلافه، كما لو اختلفوا - أنفسهم - في حكم معين في عصرهم، ثم اتفقوا عليه في عصرهم، فهو اتفاق عقيب اختلاف، فيقطع الاتفاق الاختلاف، فيكون إجماعا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 921 المذهب الثاني: أنه لا يكون إجماعاً، أي: أن اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة لا يعتبر إجماعاً، ولا تحرم مخالفته، بل يجوز الأخذ بما اتفق عليه التابعون، ويجوز الأخذ بالقول الآخر للصحابة. وهو مذهب بعض الشافعية كإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، والصيرفي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه أوجب الرد إلى اللَّه تعالى عند التنازع. فلو جوزنا انعقاد الإجماع الثاني: للزم الرد إلى الإجماع، وهو خلاف مقتضى الآية. جوابه: إن وجوب الرد إلى اللَّه تعالى مشروط بوجود التنازع، فإذا حصل الإجماع زال وجوب الرد إلى اللَّه لزوال شرطه وهو: التنازع، ثم إن الرد إلى الإجماع هو رد إلى اللَّه تعالى؛ لأن المجمعين اتفقوا على هذا الحكم أو ذاك استناداً إلى كتاب اللَّه أو سُنَّة رسوله، أو المفهوم منهما. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". وجه الدلالة: هذا الحديث دلَّ على أن كل واحد من الفريقين حجة، فلو أخذنا بأحد القولين دون الآخر لزم الترجيح من غير مرجح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 922 جوابه: إن الخطاب الوارد في الحديث موجه إلى العوام الذين في عصرهم، ولا خلاف في جواز تقليدهم إياهم، وإنما النزاع في أن قول بعضهم هل يكون مانعاً من انعقاد الإجماع بعدهم، بخلاف ما قالوه؛ وما ذكرتموه في دليلكم لا يدل على ذلك. الدليل الثالث: أن اختلاف الصحابة على القولين هو إجماع على جواز الأخذ بأي قول كان، فلو انعقد الإجماع على أحد القولين فإنه يلزم من ذلك رفع الإجماع الأول. جوابه: لا نسلم أن اختلافهم على قولين هو إجماع على جواز الأخذ بأي قول كان؛ لأن كلًّا من الفريقين لا يجوز الأخذ إلا بقولهم فقط، دون قول الفريق الآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي له أثره وهو واضح، فلو اتفق التابعون أو المتأخرون على أحد قولي الصحابة أو المتقدمين، فإنه على المذهب الأول يكون إجماعا يأثم من خالفه، أما على المذهب الثاني فلا يكون إجماعا، فلا يأثم من خالفه؛ حيث يعتبر ترجيح لأحد القولين فقط. *** المسألة الثانية: هل يجوز الاتفاق بعد الاختلاف؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز اتفاق علماء العصر على حكم معين بعد اختلافهم في ذلك الحكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 923 وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأنه واقع، والوقوع دليل الجواز: فقد أجمعت الأُمَّة على خلافة أبي بكر - رضي اللَّه عنه - بعد الخلاف فيها. المذهب الثاني: أنه لا يجوز اتفاق علماء العصر على حكم بعد اختلافهم فيه. وهو مذهب أبي بكر الصيرفي وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن اختلاف الأُمَّة في الحكم إجماع منهم على جواز الأخذ بأي قول كان إذا أدَّى إليه اجتهاد مجتهد، فلو جاز الإجماع بعده امتنع الأخذ بغير ما أجمعوا عليه فيلزم منه: رفع ما أجمعوا عليه أولاً، وهو باطل. جوابه: إن الإجماع الأول كان مشروطا بعدم الاتفاق على واحد، فلما اتفقوا زال شرط الإجماع الأول، فزال الإجماع الأول بزوال شرطه. بيان نوع الخلاف: الخلاف كما هو واضح معنوي؛ حيث إنه لو اتفق العلماء بعد اختلافهم، فإنه يكون إجماعا تحرم مخالفته هذا بناء على المذهب الأول، أما على المذهب الثاني فإنه لا يكون إجماعاً، ولا ينطبق عليه شروط الإجماع، فتجوز مخالفته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 924 المسألة الثالثة: إذا اختلف الصحابة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث قول ثالث؟ أو تقول: إذا اختلف مجتهدو أهل عصر في حكم مسألة على قولين، فهل يجوز لمن بعدهم أحداث قول ثالث؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن القول الثالث إن لزم منه رفع ما اتفقا عليه، فلا يجوز. وإن لم يلزم منه ذلك، فإنه يجوز إحداثه ويُعمل به. مثال الأول: " الجد مع الأخ في الإرث " اختلف في ذلك على قولين: " قيل المال للجد "، و " قيل المال للجد والأخ يتقاسمانه " فالقول بحرمان الجد قول ثالث خارق للإجماع فلا يجوز القول به. مثال الثاني: فسخ النكاح بالعيوب الخمسة - وهي: الجذام، والجنون، والبرص، والرتق، والعنَّة - اختلف في ذلك على قولين: " قيل: يفسخ بجميعها "، و "قيل: لا يفسخ بشيء منها "، فالقول الثالث وهو: إنه يفسخ بالبعض دون البعض لا يرفع ما اتفق الفريقان عليه؛ لأنه يوافق في كل صورة قولاً، فيجوز ذلك. وهذا مذهب الإمام فخر الدين الرازي، والآمدي، وابن الحاجب، والبيضاوي، وروي عن الإمام الشافعي، وهو اختيار القرافي، وتاج الدين ابن السبكي. وهو الحق عندي؛ لأن القول الثالث المحدث إذا كان رافعا لما اتفق عليه الأولون يكون إحداثه مخالفا للإجماع؛ لأن اختلاف الأولين يتضمن الإجماع على أن ما سواهما باطل، فمخالفة ذلك لا تجوز، ولذلك منعنا من إحداثه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 925 أما إذا لم يكن ذلك القول الثالث المحدث رافعا لما اتفق عليه الأولون، فلا يكون إحداثه مخالفا للإجماع، فلا مانع منه، ويجوز؛ لأن المسألة تكون اجتهادية؛ فالمحذور وهو مخالفة الإجماع لم يقع. المذهب الثاني: أن إحداث قول ثالث لا يجوز مطلقا. وهو مذهب كثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن اختلافهم على القولين اتفاق منهم على عدم القول الثالث، فلم يجز إحداثه، وإلا لزم مخالفة الإجماع. جوابه: إن القول الثالث المحدث إن لم يرفع القولين، فلا يلزم منه مخالفة الإجماع، وإذا لم يخالف ما اتفق عليه، فلا مانع منه، كما قلنا فيما سبق. الدليل الثاني: لو جاز إحداث القول الثالث: للزم تخطئة الفريقين القائلين للقولين، وهم كل الأُمَّة، فيلزم من ذلك تخطئة كل الأُمَّة، وهو غير جائز. جوابه: إن الممتنع تخطئة كل الأُمَّة فيما اتفقوا عليه على قول واحد، أما ما اختلفوا فيه فغير ممتنع، ونحن لما فصَّلنا في مذهبنا لم نخرج عن القولين السابقين، لذلك لا يعتبر القول الثالث المحدث تخطئة مطلقا. المذهب الثالث: أن إحداث قول ثالث يجوز مطلقا. وهو مذهب بعض الظاهريهّ، وبعض الشيعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 926 دليل هذا المذهب: أن اختلاف الأولين في الحكم دليل على أن المسألة اجتهادية، والمسألة الاجتهادية لا يمنع النظر فيها، حيث لم يوجد فيها إجماع من السابقين، والقول الثالث حدث عن اجتهاد فيجوز. جوابه: إن الذي منعنا من ذلك هو: قول يلزم منه إبطال ما اتفقوا عليه من القولين كما في مسألة: " الجد والأخ "، وما اتفقوا عليه ليس من صور الخلاف، فلا يجوز فيه الاجتهاد، فتسويغ المختلفين للاجتهاد في المسألة مقيد بأن لا يخرج الاجتهاد عن دائرة القولين المتفق عليهما؛ لأن ما خرج عنهما باطل. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو ظاهر من الأمثلة السابقة: فمن أحدث قولاً ثالثاً، فإنه على المذهب الأول يجوز الأخذ به بشرط: أن لا يلزم منه رفع القولين، فإن لزم منه رفع القولين، فلا يجوز الأخذ به والعمل به. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يجوز أخذ القول الثالث والعمل به مطلقاً، سواء رفع القولين أم لا. أما على المذهب الثالث: فإنه يجوز أخذ القول الثالث والعمل به مطلقا، سواء كان رافعا للقولين أم لا. * * * الجزء: 2 ¦ الصفحة: 927 المسألة الرابعة: إذا استدل علماء العصر بدليل أو تأولوا تأويلاً ولم يصرحوا بشيء، فهل يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر بشرط: أن لا يلزم من هذا الدليل أو التأويل القدح فيما أجمعوا عليه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: القياس على الاستدلال على مسألة لم يسبق أن استدل عليها، بيانه: أنه كما أنه يجوز الاستدلال على مسألة لم يسبق أن استدل عليها أو أُولت، كذلك هنا يجوز إحداث دليل أو تأويل آخر، والجامع: أنه لا يلزم من هذا الاستدلال قدح في إجماع قد سبق. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إنه ما زال علماء كل عصر يستخرجون الأدلة والتأويلات المغايرة لأدلة من تقدم وتأويلاته، ولم ينكر عليهم أحد، فكان ذلك إجماعاً. المذهب الثاني: أنه لا يجوز لمن بعدهم إحداث دليل أو تأويل آخر مطلقاً. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 928 وجه الدلالة: أن لفظ " المعروف " عرف بـ " أل " المستغرفة للجنس، أي: يأمرون بكل معروف، ولو كان الدليل أو التأويل الثاني معروفا لأمروا به، وحيث لم يأمروا به لم يكن معروفا، فكان منكراً. جوابه: إن الآية مشتركة؛ حيث إن قوله: (وتنهون عن المنكر) يقتضي كونهم ناهين عن كل منكر لما ذكروه من لام الاستغراق، ولو كان الدليل أو التأويل الثاني منكراً لنهوا عنه، ولم ينهوا عنه، فلا يكون منكراً. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تجتمع أمتي على الخطأ ". وجه الدلالة: أن علماء الأُمَّة إذا ذهبوا عن الدليل والتأويل الثاني، فلا يكون ذهابهم عنه خطأ، ولو كان دليلاً أو تأويلاً صحيحا لكان الذهاب خطأ، وهو محال. جوابه: إن ذهاب علماء الأُمَّة عن الدليل أو التأويل الثاني مع صحته، إنما يكون خطأ أن لو لم يستغنوا عنه بدليلهم وتأويلهم الأول. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن اتفاق علماء الأُمَّة على الحكم يُسمى إجماعا عند أصحاب المذهبين، لكن أصحاب المذهب الأول استندوا على دليل واحد، أما أصحاب المذهب الثاني فقد جعلوا الإجماع هذا مستنداً إلى دليلين، أو تأويلين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 929 المسألة الخامسة: إذا لم يفرق علماء العصر بين مسألتين، فهل لمن بعدهم التفريق بينهما؟ اختلفت في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: التفصيل. إن كان علماء العصر قد نصوا على عدم الفرق بين المسألتين فهنا لا تجوز مخالفتهم، لأنهم أجمعوا على عدم الفرق، فالقائل بالفرق مخالف لذلك الإجماع، وهو حرام. أما إن كان علماء العصر لم ينصوا على عدم الفرق، فلا يخلو من حالتين: الأولى: إن علمنا اتحاد المسألتين في الجامع كتوريث العمة والخالة؛ حيث إن العلماء اتفقوا على أنه لا فرق بينهما في التوريث وعدمه بجامع كونهما من ذوي الأرحام: ففي هذه الحالة لا يجوز الفصل والتفريق بينهما؛ لأنه يلزم من التفريق بينهما رفع مجمع عليه. الثانية: إن لم نعلم اتحاد المسألتين في الجامع، فإنه يجوز الفصل بينهما؛ لأنه لايلزم من ذلك رفع شيء مجمع عليه. ولو لم يجز - لمن بعدهم الفصل بين المسألتين في هذه الحالة - لوجب على من وافق مجتهدأ في حكم الدليل: أن يوافقه في جميع الأحكام، وهو باطل بالاتفاق؛ حيث إن من وافق الإمام أحمد، أو الشافعي - مثلاً - في مسألة لا تجب عليه موافقته في جميع المسائل. وهذا المذهب هو اختيار كثير من العلماء منهم: أبو الوليد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 930 الباجي، والباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، والإمام فخر الدين الرازي، وأبو الحسين البصري، وأبو الخطاب، وكثير من الحنابلة. وهذا هو الحق عندي؛ لما سبق من الدليل والتعليل. المذهب الثاني: لا يجوز التفريق بينهما مطلقاً. وهو مذهب القاضي عبد الجبار، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الأوَّلين اتفقوا على اتحادهما في الحكم، فلو قلنا بجواز التفريق بينهما: لزم مخالفة الإجماع، وهذا باطل. جوابه: إن عنيتم بقولكم: " اتحادهما ": أن العلماء نصُّوا على ذلك الاتحاد، فنحن معكم في أنه لا تجوز المخالفة في تلك الحالة. وإن عنيتم: أن فتواهم وافق في المسألتين من غير تعرض لشيء آخر: فلا نسلم أن لا تجوز مخالفتهم، وهو محل النزاع. المذهب الثالث: أنه يجوز التفريق بينهما مطلقا. وهو مذهب أبي الطيب الطبري وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الإمام الثوري وهو سفيان بن سعيد بن مسروق، قال: الجماع ناسيا يفطر، والأكل ناسياً لا يفطر، مع أن علماء الأُمَّة الذين قبله لم يفصلوا بينهما؛ لأنه قد جمعتهما طريقة واحدة. جوابه: إن هذا موافق لما قلناه - فيما سبق - في مذهبنا الأول، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 931 التفصيل، لأن الأُمَّة - هنا - لم ينصوا على عدم الفرق بين المسألتين ولم تتحد المسألتان بجامع معين، فجاز للثوري الفصل بينهما. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأنه بناء على المذهب الثاني يعتبر عدم التفريق بين المسألتين إجماعاً لا تجوز مخالفته، فلا يجوز التفريق بينهما. أما على المذهب الثالث: فإن عدم التفريق بين المسألتين لا يعتبر إجماعاً وعليه فيجوز التفريق، ويقبل الاجتهاد كغيره من المسائل الاجتهادية. أما على المذهب الأول: ففيه التفصيل الذي قلناه. المسألة السادسة: هل يجوز وجود خبر أو دليل راجح، واتفق علماء الأمة على عدم العلم به؟ فيه تفصيل: أولاً: إن كان عمل علماء الأمَّة موافق لمقتضى ذلك الخبر أو الدليل، ففيه مذهبان: المذهب الأول: أنه يجوز ذلك، وهو مذهب بعض العلماء. وهو الصحيح " لأن علماء الأُمَّة غير مكلفين بالعمل بما لم يظهر لهم، ولم يبلغهم، فاتفاقهم واشتراكهم في عدم العلم لا يكون خطأ، لأن عدم العلم ليس من فعلهم، وذلك كعدم حكمهم في واقعة لم يحكموا فيها بشيء، فجاز لغيرهم أن يسعى في طلب ذلك الدليل أو الخبر ليعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 932 المذهب الثاني: أنه لا يجوز ذلك، وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن علماء الأُمَّة لو اشتركوا في عدم العلم به: لكان ذلك سبيلاً لهم، ولوجب على غيرهم اتباعه وعدم تحصيل العلم به؛ لقوله تعالى: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ) . جوابه: إن عدم العلم لا يكون سبيلاً للمؤمنين؛ لأن السبيل: الذي يختاره الإنسان من قول أو فعل، وعدم علمهم لم يختاروه، فلا يكون سبيلاً لهم. بيان نوع الخلاف: يفهم من الخلاف هنا أنه لفظي؛ لأن العمل لا يختلف سواء علم بالدليل أو الخبر، أو لم يعلم بهما. ثانياً: أما إن كان عمل علماء الأُمَّة على خلاف الخبر أو الدليل، فهذا محال بالاتفاق؛ لأنه يلزم منه إجماع الأُمَّة على الخطأ، - وهذا مخالف للأدلة النقلية السابقة الذكر. المسألة السابعة: إذا قال بعض علماء العصر قولاً وسكت الباقون، أو أعلن بعض المجتهدين قولاً وسكت بقية أهل العصر من المجتهدين سكوتا لا يستدل منه على رضا ولا على سخط، فهل هذا يعتبر إجماعاً أو لا؟ " الإجماع السكوتي ": لقد اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها ثلاثة: المذهب الأول: أنه يعتبر إجماعا وحُجَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 933 ذهب إلى ذلك جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لو اشترط لانعقاد الإجماع أن ينص كل واحد منهم على رأيه بصراحة لأدى ذلك إلى عدم انعقاد الإجماع أبداً؛ لأنه يتعذر اجتماع أهل كل عصر على قول يسمع منهم، والمتعذر معفو عنه؛ ل قوله تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) ، والمعتاد في كل عصر أن يتولى كبار العلماء إبداء الرأي، ويُسلِّم الباقون لهم، فثبت بذلك: أن سكوت الباقين دليل على أنهم موافقون على قول من أعلن رأيه في المسألة، فكان إجماعاً وحُجَّة. الدليل الثاني: الوقوع؛ حيث إن المجتهدين من التابعين إذا حدثت حادثة بينهم، ولم يجدوا حكماً لها في نص، ووجدوا قولا فيها لصحابي، وعلموا أن هذا القول قد انتشر، وسكت بقية الصحابة عن الإنكار، فإن التابعين لا يجوزون العدول عن ذلك القول، بل يعملون به؛ بناء على أنه قول قد أجمع عليه. الدليل الثالث: قياس المسائل الاجتهادية على المسائل الاعتقادية، بيان ذلك: أنه قد ثبت أن العلماء قد أجمعوا على أن السكوت معتبر في المسائل الاعتقادية، أي: سكوت الساكت في العقيدة يدل على رضاه؛ لأنه لا يحل السكوت فيها على باطل، فيقاس عليها المسائل الاجتهادية، والجامع: أن الحق واحد، فلا يحل له السكوت في الأمور الاجتهادية إذا كان عنده بخلاف ما أعلن؛ لأن الساكت - عن الحق شيطان أخرس؛ لأن الحكم لو كان عنده بخلافه: لكان سكوته تركاً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا بخلاف ما شهد اللَّه به لهذه الأمَّة من أنهم يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 934 فلو تصور منهم ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لأدَّى ذلك إلى الخلف في كلامه سبحانه وتعالى، وهو محال، فوجب أن نحمل سكوت الساكت على أنه موافق لما أعلنه ذلك المجتهد، وهو الذي تدل عليه عدالته. المذهب الثاني: أن ذلك ليس بإجماع ولا حُجَّة. وهو مذهب داود الظاهري، وابنه محمد، وابن حزم، والمرتضى، وينسب إلى القاضي الباقلاني وعزاه للشافعي، وممن نسبه إلى الإمام الشافعي أيضاً كثير من الشافعية كالآمدي، وفخر الدين الرازي، وقال إمام الحرمين: إنه ظاهر مذهب الشافعي، واختاره الغزالي في " المستصفى "، والرازي في " المحصول "، والبيضاوي في " المنهاج "، وغيرهم. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن مذهب المجتهد يعلم بقوله الصريح الذي لا يتطرق إليه أي احتمال، أما سكوت الساكت فإنه يحتمل أنه سكت لكونه راضيا بالحكم الذي أعلنه ذلك المجتهد. ويحتمل أنه سكت، لأنه لم يجتهد في المسألة الحادثة، بل تركها. ويحتمل أنه اجتهد فيها، ولكنه سكت؛ لأنه لم يتوصل إلى حكم معين فيها. ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم معين مخالف لرأي المجتهد المعلن، ولكنه لم يظهره، تقية ومخافة. ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد المعلن، ولكنه سكت لعارض طرأ عليه لم يظهره لنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 935 ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد المعلن، ولكنه سكت، لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب. ويحتمل أنه اجتهد فيها، وتوصل إلى حكم مخالف لرأي المجتهد المعلن، ولكنه سكت، لأنه يرى أن قول ذلك المجتهد جائزاً، وإن لم يكن هو موافقاً عليه، بل كان يعتقد خطأه. وإذا كان السكوت يحتمل هذه الاحتمالات، فلا يدل السكوت على الرضا لا قطعاً، ولا ظاهراً، وهو معنى قول الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -: " لا ينسب لساكت قول "، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكون سوتهم مع انتشار قول المجتهد المعلن له إجماعاً ولا حُجَّة. جوابه: إنه إذا سكت المجتهد بعد أن يعلن المجتهد الآخر رأيه مدة يستطيع من خلالها التفكر في المسألة، فإن سكوته يدل على رضاه بذلك الرأي المعلن، فيكون إجماعاً وحُجَّة. أما الاحتمالات التي ذكرتموها فلا نسلمها، وإليك بيان ذلك: أما الاحتمال الأول - وهو أنه سكت لعدم اجتهاده في المسألة - فلا يقبل ولا يجوز؛ لأمرين: أولهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة خلاف عادة العلماء عند نزول الحوادث. ثانيهما: أن عدم اجتهاد العالم في الحادثة يؤدي إلى خلو العصر من حُجَّة اللَّه - تعالى -، لأنا إذا جوزنا أن يكون المجتهد المعلن لرأيه قد أخطأ، والمجتهد الساكت لم يجتهد فقد خلا العصر من حُجَّة، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم حتى يرد عليّ ". الجزء: 2 ¦ الصفحة: 936 أما الاحتمال الثاني - وهو: أنه اجتهد، ولكن لم يتوصل فيها إلى حكم -. فهذا بعيد؛ لأمرين هما: الأمر الأول: أنه يبعد عدم وصول المجتهد إلى حكم معين في تلك الحادثة مع توفر الدواعي للاجتهاد، وظهور الدلائل. الأمر الثاني: أن احتمال عدم وصول المجتهد إلى حكم معين يؤدي إلى خلو العصر عن القائم بحُجَة اللَّه تعالى؛ لأنا إذا فرضنا أن يكون المجتهد المعلن لمذهبه قد أخطأ فيه، والجتهد الساكت لم يصلِ إلى حكم معين فيها، فإنه يخلو العصر عن قائم لله تعالى بحجته. أما الاحتمال الثالث - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم يظهره تقية - فهو بعيد؛ لأمرين: الأمر الأول: أنه عرف من عادة المجتهدين الذين يفعلون مثل ذلك أن يظهر قوله ورأيه عند ثقاته وخاصته، ثم بعد مدة قصيرة ينتشر القول ويعرف. الأمر الثاني: أنه إذا سكت حتى ينقرض العصر، فإما أن يموت من يتقيه، أو يموت هو قبل من يتقيه. فإن مات من يتقيه قبل الساكت، فيجب - حينئذ - على الساكت أن يظهر قوله ورأيه، كما قال ابن عباس - حين توفي عمر -: إن المال لا يعول "، فقيل له: لِمَ لم تقل ذلك في زمن عمر؛ فقال: "هبته ". وإن مات الساكت قبل من يتقيه فينعقد الإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 937 أما الاحتمال الرابع - وهو: أنه لما توصل إلى حكم فيها لم يظهره لعارض - فهو بعيد - أيضاً -؛ لأمرين: الأمر الأول: أن هذا خلاف الظاهر من عادة العلماء وأهل الحق. الأمر الثاني: أن سكوت المجتهد من أجل عارض غير معروف: يؤدي إلى خلو العصر عن قائم لله تعالى بحجته؛ لأن هذا المجتهد إذا سكت، وذاك المجتهد المعلن لرأيه قد أخطأ في رأيه، فإنه يخلو العصر من حُجَّة. أما الاحتمال الخامس - وهو: أنه سكت؛ لاعتقاده أن كل مجتهد مصيب -. والاحتمال السادس - وهو: أنه سكت؛ لأنه لا يرى الإنكار في المجتهدات - فهما بعيدان - أيضا -؛ لأمرين: الأمر الأول: أن من عادة من يعتقد أن كل مجتهد مصيب يأخذ بمذهب، ويخالف غيره فيه، ويناظر غيره، ويبين أن مذهبه هو الصحيح بخلاف مذهب غيره. الأمر الثاني: أن هذا لم يقع ولم يوجد في عصر الصحابة، ولم ينقل إلينا أن واحداً من الصحابة سكت عن الإنكار لهذين الفرضين، حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - ومن سار على نهجهم من العلماء الذين سلكوا طريق النصح، وتركوا الغش كانوا ينكر بعضهم على بعض، ويتناظرون، ويتجادلون لتحقيق الحق، وإبطال الباطل كمناظرتهم في مسألة " الجد والإخوة " حتى أن ابن عباس - رضي اللَّه عنه - قال: " ألا يتقي اللَّه زيد يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا "، وقال معاذ لعمر - حين عزم على جلد الحامل -: " إن جعل اللَّه لك على ظهرها سبيلاً، فما جعل الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 938 لك على ما في بطنها سبيلاً "، ومناقشاتهم في مسألة: " العول "، و" التحريم "، و " دية الجنين "، وغيرها لا تخفى على أحد، فكل هذا يدل دلالة واضحة على أن المجتهد لا يسكت عن شيء هو يعلم خلافه، بل. يبين رأيه فيها دون إلزام. فإذا كانت تلك الاحتمالات للسكوت بعيدة: فإن احتمال: أنه سكت لموافقته ورضاه للقول المعلن هو الأقرب للصواب، فيكون ذلك إجماعا، وإذا كان إجماعاً فهو حُجَّة. الدليل الثاني: أنه لما قال ذو اليدين للنبي - صلى الله عليه وسلم -: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه؟ فنظر رسول اللَّه إلى أبي بكر وعمر - رضي اللَّه عن الجميع - وقال: " أحقٌّ ما يقوله ذو اليدين؟ ". وجه الدلالة: أن السكوت لو كان دليلاً على الموافقة لاكتفى به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولما طلب من أبي بكر وعمر بيان ذلك بالنطق من غير حاجة، فدل ذلك على أن السكوت لا يدل على رضا الساكت، فلا يكون إجماعاً ولا حُجَّة. جوابه: إن أبا بكر وعمر وغيرهما من الصحابة إنما سكتوا اكتفاء منهم بكلام ذي اليدين؛ نظراً لكونهم مثله في عدم علمهم أيهما الذي وقع أهو قصر الصلاة، أو النسيان؛، فلما نفى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذلك بقوله: " كل ذلك لم يكن "، وطلب منهما الجواب: كان لهم الكلام. المذهب الثالث: أنه حُجَّة، وليس بإجماع. وهو مذهب أبي هاشم الجبائي، وصححه الصيرفي، واختاره الآمدي، وهو أحد القولين عن الإمام الشافعي. - الجزء: 2 ¦ الصفحة: 939 دليل هذا المذهب: أن سكوت الباقين يدل دلالة ظاهرة على الموافقة فيكون قول ذلك المجتهد المعلن مع سكوت الباقي من المجتهدين عن الإنكار - مع قدرتهم على ذلك - حُجَّة يجب العمل به كخبر الواحد والقياس. وإنما لم نقل إنه إجماع، لأن سكوت الباقي من المجتهدين يحتمل تلك الاحتمالات الستة السابقة الذكر فأثرت على وصوله إلى درجة الإجماع. جوابه: إن هناك قاعدة وهي: " أن كل احتمال لا يُعضد بدليل صحيح فلا يُعتبر "، والاحتمالات الستة السابقة الذكر قد بينا بُعْدَها، وعدم صحتها، فثبت من إبطالها: أن سكوتهم يدل على رضاهم بالقول الذي أعلنه ذلك المجتهد - لا سيَّما وأنه لا مانع من إعلان مخالفتهم - وإذا كان الأمر كذلك فيكون ذلك إجماعاً وحُجَّة. تنبيه: هناك مذهب رابع وهو: التفصيل بين الفتوى والحكم: فإن كان السكوت إثر فتوى مجتهد - فقط -: فهو إجماع؛ لعدم سلطته، وإن كان السكوت إثر حكم حاكم فليس بإجماع. وهناك مذهب خامس وهو: عكس الرابع. وهناك مذهب سادس، وهو: التفصيل بين ما يفوت استدراكه، وبين ما لا يفوت: فإن وقع في شيء يفوت استدراكه من إراقة دم أو استباحة فرج: كان سكوت الساكتين إجماعا، وإن وقع في غير ذلك: كان سكوتهم حُجَّة فقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 940 الجواب عن ذلك: إن هذا التفريق لا دليل عليه، وما لا دليل عليه فلا يعتد به " وذلك لما قلناه فيما سبق. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في كثير من الفروع الفقهية، حيث إنه لو أعلن مجتهد رأيه في مسألة معينة، ثم سكت بقية المجتهدين - بدون عذر - ومضى وقت يمكنهم فيه النظر في المسألة، فإن هذا يدل على أنهم موافقون على ذلك الرأي المعلن، فيكون إجماعاً تحرم مخالفته، ولا يجوز الاجتهاد في تلك المسألة بعد ذلك، حيث إن ذلك الرأي يكون ملزماً للجميع، هذا بناء على المذهب الأول. أما على المذهب الثاني، فتجوز مخالفة ذلك الرأي المعلن؛ لأنه اجتهاد فرد أو جماعة لم يجمع عليه، ويجوز الاجتهاد في تلك المسألة، لأنه رأي غير ملزم لأحد من المجتهدين. أما على المذهب الثالث فهو حُجَّة يُقدَّم على غيره من الأدلة إذا عارضه، ولكنه غير ملزم، فإن وجد دليل أقوى منه: قدم عليه؛ قياساً على الاحتجاج بخبر الواحد والقياس. المسألة الثامنة: إذا اختلف العلماء في ثبوت الأقل والأكثر في مسألة، فهل يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل؛ وهي " الأخذ بأقل ما قيل ": لقد اختلف في ذلك على مذهبين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 941 المذهب الأول: أنه لا يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل، أي: الأخذ بأقل ما قيل ليس متمسكا بالإجماع. مثل اختلاف العلماء في دية الكتابي على ثلاثة أقوال هي: 1 - " أن ديته مثل دية المسلم ". 2 - أن ديته نصف دية المسلم. 3 - أن ديته ثلث دية المسلم، وهو مذهب الإمام الشافعي. فظن بعض الفقهاء أن الإمام الشافعي قال ذلك متمسكا في ذلك بإجماع الأقوال الثلاثة عليه. وهذا ليس بصحيح، أي: لا يصح أن يتمسك في إثبات أقل ما قيل بالإجماع. هذا ما ذهب إليه الجمهور، وهو الصحيح؛ لأن أقل ما قيل - وهو: أن دية الكتابي ثلث دية المسلم - قد اشتمل على أمرين: أولهما: إثبات الثلث، وثانيهما: نفي الزيادة. أما الأول - وهو إثبات الثلث - فهو مجمع عليه. وأما الثاني - وهو نفي الزيادة - فهو مختلف فيه؛ حيث إن أصحاب القولين: الأول والثاني قد زادوا دية الكتابي على الثلث، وأصحاب القول الثالث لم يزيدوا عن الثلث، فهنا وقع الخلاف، وبناء على هذا لا يكون الآخذ بأقل ما قيل قد تمسك بالإجماع، وإنما متمسك بدليل آخر غير الإجماع، قال بعض العلماء: إنه الاستصحاب والبراءة الأصلية. المذهب الثاني: أنه يصح أن يتمسك بالإجماع في إثبات مذهب القائل بالأقل، أي: أن الآخذ بأقل ما قيل متمسك بالإجماع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 942 وهو اختيار بعض الفقهاء. دليل ذلك: إن دية الكتابي إما مثل دية المسلم، أو نصفه، أو ثلثه بالإجماع، والكامل والنصف مشتمل على الئلث، فالقول بالثلث ثابت بالإجماع. جوابه: أنا معكم أن الثلث مجمع عليه، ولكن نفي الزيادة على الثلث لم يكن مجمعا عليه، فالمجموع - من إثبات الثلث، ونفي الزيادة - لم يكن مجمعا عليه فلا تصح دعوى الإجماع. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إن التمسك بأقل ما قيل قد انبنى عليه خلاف في بعض الفروع الفقهية ومنها دية الكتابي، جيث إن الإمام الشافعي لما قال: إن دية الكتابي: ثلث دية المسلم قد تمسك بالأخذ بأقل ما قيل، وهو المجمع عليه بين الأقوال الثلاثة السابقة الذكر في دية الكتابي. وكذلك فعل في دية المجوسي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 943 المطلب السابع في الإجماعات الخاصة ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: اتفاق الخلفاء الأربعة هل هو حُجَّة؟ المسألة الثانية: إجماع أبي بكر وعمر هل هو حُجَّة؟ المسألة الثالثة: إجماع أهل المدينة هل هو حُجَّة؟ المسألة الرابعة: إجماع أهل البيت والعترة هل هو حُجَّة؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 945 المسألة الأولى: اتفاق الخلفاء الأربعة هل هو إجماع وحُجَّة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن اتفاق الخلفاء الأربعة - وهم: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - لا يعتبر إجماعا ولا حُجَّة. وهو مذهب كثير من العلماء، ونسب إلى الجمهور، وهو الحق؛ لأن الخلفاء الأربعة بعض الأُمَّة، والأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسُّنَّة قد دلَّت على أن العصمة عن الخطأ قد ثبتت للأُمَّة كلها، لا بعضها، فلا تتناول تلك الأدلة الخلفاء الأربعة؛ لأنهم بعض الأُمَّة وبعض المؤمنين، وبناء على ذلك يكون اتفاق الخلفاء الأربعة ليس بإجماع يُحتج به على من خالفهم. المذهب الثاني: أن اتفاق الخلفاء الأربعة يعتبر إجماعا يحتج به على من خالفهم. وهو مذهب أبي خازم من الحنفية، وهو رواية عن الإمام أحمد. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ ". وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوجب اتباع سُنَّتهم، كما أوجب اتباع سُنَّته، ومعروف أن المخالف لسُنَّته عليه السلام لا يعتد بقوله، فكذلك المخالف لسُنَّتهم لا يعتد بقوله، وبناء على ذلك: يكون قولهم إجماعاً لا تجوز مخالفته. ولذلك ردَّ القاضي أبو خازم مذهب زيد بن ثابت وهو: عدم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 947 توريث ذوي الأرحام، وقال: إن ذوي الأرحام أَوْلى من بيت المال - وذلك في عهد الخليفة المعتضد بالله المتوفى عام 289 هـ - فلما قيل: إن هذه المسألة اختلف فيها الصحابة قال: لا أعد خلاف زيد خلافا على الخلفاء الأربعة. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن الحديث عام في كل الخلفاء الراشدين، ولا دلالة فيه على الحصر في الخلفاء الأربعة. الجواب الثاني: على فرض أنه يدل على الحصر في الخلفاء الأربعة، فإنه معارض بحديث آخر وهو: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وليس العمل بأحد الخبرين أوْلى من الآخر. الجواب الثالث: أن هذا الحديث المستدل به لا يدل بصراحة على أن اتفاق الخلفاء الأربعة إجماع وحُجَّة؛ لأنه يحتمل أن يكون المراد: أن إجماع الخلفاء حُجَّة إذا لم يظهر خلاف ما قالوه في بقية الصحابة، وهذا لا يخالف فيه أحد؛ لأنه إجماع كل الصحابة. ويحتمل أن يكون المراد به: الفتيا، وخصهم بالذكر لكونهم أعلم من غيرهم في وقتهم، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. ثم إن الإمامة والخلافة لا تأثير لها في الإجماع، وإنما التأثير للاجتهاد والعلم، وغير الخلفاء في الاجتهاد مثلهم ولا فرق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 948 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إنه إذا وجد حكم قد اتفق عليه الخلفاء الأربعة فقط، فإنه لا يكون إجماعا بناء على المذهب الأول، وبالتالي تجوز مخالفته، وتكون المسألة قابلة لاجتهاد المجتهدين. أما على المذهب الثاني فإنه يكون إجماعا، فتحرم مخالفته من قِبَل الصحابة ومن جاء بعدهم، لذلك لم يأخذ القاضي أبو خازم برأي زيد في عدم توريث ذوي الأرحام؛ لأنه خالف رأي الخلفاء الأربعة. *** المسألة الثانية: إجماع أبي بكر وعمر هل هو حُجَّة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن إجماعهما لا يعتبر حُجَّة. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لما قلناه سابقا وهو: أن النصوص من الكتاب والسُّنَّة تدل على حجية قول جميع الأُمَّة، وهؤلاء بعض الأُمَّة وبعض المؤمنين، فلا ينعقد الإجماع بهم. المذهب الثاني: أن إجماعهما يعتبر حُجَّة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر، وعمر ". جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 949 الجواب الأول: أن الحديث لا يدل إلا على أن أبا بكر وعمر قد توفر فيهما أهلية الاجتهاد مما يوجب اتباع المقلدين لهم، ولا يدل على أن إجماعهما حُجَّة. الجواب الثاني: أنه معارض بحديث آخر وهو: " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم "، وليس العمل بأحدهما أوْلى من العمل بالآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو مماثل لما قلناه في المسألة السابقة، حيث إنه لو وجد أن أبا بكر وعمر قد اتفقا على حكم معين، لنإنه تجوز مخالفته عند أصحات المذهب الأول؛ وتكون المسألة عندهم اجتهادية. أما عند أصحاب المذهب الثاني، فإن اتفاقهما يكون إجماعا وحُجة لا تجوز مخالفته من قِبَل الصحابة ومن جاء بعدهم. *** المسألة الثالثة: إجماع أهل المدينة هل هو حُجَّة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن إجماعهم وحدهم لا يكون حُجَّة على من خالفهم. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما ذكرنا في المسألتين السابقتين وهو: أن أهل المدينة بعض الأُمَّة والأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسُّنَّة قد دلَّت على أن العصمة عن الخطأ قد ثبتت لجميع الأُمَّة، لا لبعضها، فلا تتناول تلك الإدلة أهل المدينة؛ لأنهم بعض الأُمَّة وبعض المؤمنين، وعليه: فلا يكون اتفاق أهل المدينة حُجَّة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 950 المذهب الثاني: أن إجماع أهل المدينة حُجَّة. وهو مذهب الإمام مالك وجل أصحابه. دليل هذا المذهب: أن المدينة المنورة هي معدن العلم، ودار الهجرة، ومهبط الوحي، ومستقر الإسلام، ومجمع الصحابة وأولادهم، ويوصف أهلها بأنهم شاهدوا التنزيل وسمعوا التأويل، وكانوا أعرف بأحوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - من غيرهم، فيستحيل - والأمر كذلك - اتفاق أهلها على خلاف الحق، أي: يجب أن لا يخرج الحق عن قول أهلها. جوابه: يجاب عن ذلك بأجوبة: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن أهل المدينة أعلم من غيرهم "؛ لأن كثيراً ممن خرج من المدينة وسكن غيرها كان أعلم ممن بقي فيها، أو مثلهم كعليّ بن أبي طالب، وابن مسعود، وابن عباس -، ومعاذ بن جبل، وأبي عبيدة، وأبي موسى الأشعري، وعمرو بن العاص، وغيرهم مما بلغ ثلاثمائة ونيف انتقلوا إلى الكوفة، والبصرة، والشام، والطائف، فكيف يعتبر إجماعا من أهل المدينة إذا خالف هؤلاء الذين خرجوا وهم أكثر علماء الصحابة، فكان لا ينعقد الإجماع بدون هؤلاء لما كانوا من سكان المدينة، فكيف ينعقد الإجماع بدونهم لما خرجوا منها، فالحُجة لا تختلف بالمكان والزمان كقول اللَّه تعالى، وكقول رسوله. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن الحق يستحيل أن يخرج عنهم؛ لأن هذا القول تحكم لا دليل عليه؛ حيث إنه لا يستحيل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 951 أن يسمع رجل حديثاً من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثم يسافر ويترك المدينة، قبل أن يعلم أحد من أهل المدينة بهذا الحديث، فهنا أمكن خروج الحق عنهم. الجواب الثالث: أن اشتمال المدينة على صفات موجبة لفضلها لا يدل على أن إجماع أهلها حُجَّة على غيرهم؛ لأن مكة أفضل منها ومع فضلها لم يقل أحد بأن إجماع أهلها حُجَّة على مخالفيهم. وسبب ذلك: أن البقاع لا أثر لها في انعقاد الإجماع، وإنما الاعتبار في بلوغ هذا الشخص أو ذاك درجة الاجتهاد في أي زمان وأي مكان. تنبيه: اختلفت عبارات العلماء في ترجمة هذه المسألة، فمنهم من ترجمها بما ذكرنا، ومنهم من ترجمها بقوله: " عمل أهل المدينة"، ومنهم من عبَّر عنها بقوله: " قول أهل المدينة "، واختلف في مراد الإمام مالك، وبعضهم دافع عن الإمام مالك، وبعضهم أقر هذا القول له، وقد تكلمت عن بعض هذه الأمور في كتابي "إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، وبعضها موسع في كتب كثيرة، وتحقيق ذلك ليس هذا مكانه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني إذا وجدوا أهل المدينة قد اتفقوا على شيء، فإنهم يجعلون ذلك حُجَّة، ويعملون به ويتركون ما عداه ممن خالفه، فبنى الإمام مالك على ذلك فروعا منها: قوله في الحامل إذا رأت الدم فإنها تترك الصلاة، وذلك لأن الحامل تحيض، وحجته في ذلك إجماع أهل المدينة. وهذا مخالف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 952 لرأي الحنفية والحنابلة، وذلك لأن الحامل عندهم لا تحيض، فإذا رأت الحامل دماً، فإنه دم استحاضة، لا يجوز ترك الصلاة لأجله. ومنها: أن رأي الإمام مالك أن البكر يزوجها أبوها من غير استئمار، واحتج بما كان عليه العمل في المدينة، وعلى ذلك الإمام الشافعي وأحمد، ولكن دليلهما ليس عمل أهل المدينة كما هو عند الإمام مالك، أما أبو حنيفة وأكثر الحنفية، فإنهم يذهبون إلى وجوب الاستئمار، وأنه شرط في صحة النكاح وهو الذي تميل إليه النفس. *** المسألة الرابعة: إجماع أهل البيت والعترة هل هو حُجَّة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن إجماعهم ليس بحُجَّة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما ذكرناه في المسائل الثلاث السابقة من أن الأدلة المثبتة لحجية الإجماع من الكتاب والسُّنَّة لا تدل إلا على حجية قول جميع الأُمَّة، وهؤلاء بعض الأُمَّة وبعض المؤمنين فلا ينعقد الإجماع بهم. المذهب الثاني: أن إجماعهم حُجَّة. وهو ما ذهب إليه الشيعة الإمامية والزيدية، ويقصدون بأهل البيت والعترة: عليّ بن أبي طالب وولديه: الحسن والحسين، وزوجته فاطمة - رضي اللَّه عن الجميع -. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 953 وجه الدلالة: أن الخطأ رجس، والرجس منفي عنهم، فيجب أن يكون أهل البيت مطهرين عنه، وإذا كان أهل البيت مطهرين عن الخطأ فيكون إجماعهم حُجَّة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن المراد: الخطأ الاجتهادي؛ لأن الرجس لغة: القذر والعقاب والغضب، والخطأ الاجتهادي ليس منها. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن الآية خاصة بهؤلاء الأربعة - وهم: عليّ، وفاطمة، والحسن، والحسين - حيث إنه يحتمل احتمالاً قوياً أن المراد بأهل البيت هم زوجات الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كما يدل على ذلك سياق الآية، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ". وجه الدلالة: أن القرآن معصوم، وكذلك العترة: أهل البيت. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يعمل به عند الشيعة. الجواب الثاني: وعلى فرض جواز العمل به، فإن المراد منه: ما إن تمسكتم بإفاء حقوقهما، وحق القرآن الإيمان به والعمل بمقتضاه، وحق العترة تعظيمهم وصلتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 954 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وهو واضح كما سبق أن قلنا في المسائل الثلاث السابقة؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني قد بنوا على إجماع أهل البيت فروعاً كثيرة، فإذا وجدوا اتفاق أهل البيت على حكم شرعي، فإنه يكون حُجَّة، ولا تجوز مخالفته بأي حال. أما عندنا - وأصحاب المذهب الأول - فإنه لا يعتبر إجماعا ولا حُجَّة لذلك تجوز مخالفته، وتكون المسألة اجتهادية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 955 المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المتفق علها إجمالاًَ - وهو: القياس وهو: إثبات مثل حكم الأصل للفرع لاشتراكهما في علَّة الحكم عند المثبت كقياس النبيذ على الخمر، وقياس الأرز والذرة على البر في تحريم الربا، وسيأتي ذكره بالتفصيل في الباب الخامس؛ لأن مرتبته بعد الكتاب والسُّنَّة ودلالة ألفاظهما على الأحكام، لذلك قدمت عليه الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام الشرعية. ولكني أشرت إليه هنا؛ لأنه من الأدلة المتفق عليها إجمالاً. هذا آخر المجلد الثاني من كتاب: " المهذب في علم أصول الفقه المقارن " لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة حفظه الله، ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الثالث إن شاء الله وأوله " الأدلة المختلف فيها " وهو الفصل الثاني من الباب الثالث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 956 الجزء الثالث الفصل الثاني في الأدلة المختلف فيها ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في الدليل الأول وهو: الاستصحاب. المبحث الثاني: في الدليل الثاني وهو: شرع من قبلنا. المبحث الثالث: في الدليل الثالث وهو: قول الصحابي. المبحث الر ابع: في الدليل الرابع وهو: الاستحسان. المبحث الخامس: في الدليل الخامس وهو: المصلحة المرسلة. المبحث السادس: في الدليل السادس وهو: سد الذرائع. المبحث السابع: في الدليل السابع وهو: العرف. المبحث الثامن: في الدليل الثامن وهو: الاستقراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 957 المبحث الأول في الدليل الأول - من الأدلة - المختلف فيها - الاستصحاب - تعريفه: الاستصحاب لغة: استفعال من الصحبة، وهي الملازمة، وكل شيء لازم شيئاً فقد استصحبه. والاستصحاب اصطلاحاً هو: عبارة عن الحكم بثبوت أمر في الزمان الثاني بناء على ثبوته في الزمان الأول؛ لفقدان ما يصلح للتغيير. أو تقول - بعبارة أخرى -: إنه استدامة إثبات ما كان ثابتا، أو نفي ما كان منفياً حتى يقوم دليل على تغيير الحالة، أي: بقاء ما كان على ما كان نفياً وإثباتاً حتى يثبت دليل يغير الحالة. *** أنواعه: الاستصحاب يتنوع إلى خمسة أنواع هي كما يلي: النوع الأول: استصحاب البراءة الأصلية. وهو: استصحاب العدم الأصلي المعلوم، وذلك كبراءة الذمة من التكاليف حتى يقوم الدليل على التكليف بأمر من الأمور، فإذا لم يقم دليل: بقى ما كان على ما كان، وهو أن كل شيء مباح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 959 للإنسان؛ لأن الأصل في الأشياء الإباحة كما سبق أن ذكرناه في "المباح "، ويسميه بعضهم: " عدم الدليل دليل على البراءة ". ومن أمثلته من الشرع: أن لا ينتقض الوضوء بشيء يخرج من غير السبيلين؛ لأن الأصل عدم النقض، فيستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل خلافه، ولم يثبت، فيبقى على الأصل من عدم - النقض. مثال آخر: أن الوتر ليس بواجب، لأن طريق وجوبه الشرع، وقد طلب الدليل فلم يوجد، فعدم وجود الدليل على الوجوب دليل على عدم الوجوب، وأن الذمة بريئة منه، فهو إذن مندوب. النوع الثاني: استصحاب الوصف المثبت للحكم الشرعي حتى يثبت خلافه كالحل إن ثبت مرتبطاً بأمر ثابت، فإن ذلك يستمر حتى يقوم دليل يُغيِّر ذلك كاستصحاب الطهارة إذا شك في الحدث، فإن وصف الطهارة إذا ثبت وتأكدنا منها أبيحت الصلاة، فيستصحب هذا الحكم حتى يثبت خلافه وهو الحدث. ومثل: الكفالة، فإنه وصف شرعي يستمر ثابتا حتى يؤدي الدين، أو يؤديه الأصيل، أو يبرئه المدين. ومثل الحياة بالنسبة للمفقود، فإنها تستمر ثابتة حتى يقوم الدليل على خلاف ذلك. النوع الثالث: استصحاب ما دلَّ الشرع على ثبوته واستمراره. مثل: انشغال الذمة بدفع قيمة الشيء المتلف وضمانه عند وجود سببه - وهو الإتلاف - فإن هذه الذمة تكون مشغولة ويستمر ذلك حتى يوجد ما يزيله، وهو: دفع قيمة المتلف، أو إسقاطه من قِبَل المالك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 960 مثال آخر: إن ملك الإنسان لأرض - بسبب عقد الشراء - يستمر حتى يوجد ما يزيله. النوع الرابع: استصحاب حكم العموم والعمل به حتى يرد ما يخصص ذلك العموم، واستصحاب العمل بالنص حتى يرد ما ينسخه. النوع الخامس: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع. وهو: أن يجمع العلماء على حكم في حالة ثم تتغير صفة المجمع عليه، ويختلف المجمعون فيه، فيستدل من لم يغير الحكم باستصحاب الحال. مثاله: أنه انعقد الإجماع على صحة صلاة المتيمم الفاقد للماء، فإذا وجد الماء قبل الدخول في الصلاة بطل تيممه، وبذلك لا تصح صلاته. لكن إذا لم يجد الماء قبل الدخول في الصلاة، ثم تيمم، ودخل في الصلاة، فهل تصح صلاته استصحابا للأصل وهو: فقد الماء قبل الدخول في الصلاة، أم لا تصح الصلاة لتغير الحال الذي كان من فقد الماء قبل الدخول في الصلاة إلى وجوده أثناء صلاته؟ لقد اختلف في هذا النوع على قولين: القول الأول: أن هذا النوع من الاستصحاب ليس بحُجَّة. وهو مذهب كثير من العلماء، منهم: الغزالي، والقاضي الباقلاني، وأبو إسحاق الشيرازي، وابن الصباغ، وابن عقيل، وأبو الخطاب وشيخهما أبو يعلى، وأبو الطيب الطبري، وغيرهم. وهو الحق، لأن الإجماع كان قائما حالة فقد الماء على صحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 961 الصلاة بالتيمم، لكن بشرط ألا تتغير حالة فقدان الماء بحالة وجود هذا الماء؛ لأن الحالة التي أجمعوا عليها تخالف الحالة الأخرى وليست مثلها، فالحالة التي انعقد عليها الإجماع كانت حالة عدم وجود، وهذه حالة وجود فاختلفا. القول الثاني: أن هذا النوع من الاستصحاب حُجَّة. وهو مذهب ابن حامد، وابن شاقلا، والمزني، والصيرفي، وأبي ثور، وداود الظاهري، وابن سريج، وابن خيران، وأبي الحسين القطان. دليل هذا القول: أن المتيمم إذا رأى الماء أثناء الصلاة، فإنه يمضي في الصلاة؛ لأن الإجماع قد انعقد على صحة صلاته ودوامها بذلك التيمم، فطريان وجود الماء كطريان هبوب ريح، فنحن نستصحب دوام الصلاة المجمع عليه إلى أن يثبت دليل يزيلنا عن هذا المستصحب. جوابه: إن هذا مخالف لحقيقة الاستصحاب وهي: بقاء ما كان على ما كان حتى يأتي دليل يغير الحالة. فالمجمع عليه هو: صحة الصلاة بالتيمم إذا استمر عدم وجود الماء من أول الصلاة إلى آخرها ولم يوجد مغير. ولكن هنا قد وجد شيء مزيل لهذا وهو وجود الماء، وعلى هذا: فلا يبقى ما كان على ما كان، بل تغير من العدم إلى الوجود. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، فعلى المذهب الأول يجب قطع الصلاة، وإعادتها بعد الوضوء بالماء الذي رآه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 962 أما على المذهب الثاني: فلا يجب قطع الصلاة، بل تجزئه وإن وجد الماء. *** حجية الاستصحاب: لقد ثبت بعد الاستقراء والتتبع لكلام العلماء في كتب الأصول والفقه أن النوع الرابع - وهو: استصحاب حكم العموم حتى يرد ما يخصِّصه، واستصحاب النص حتى يرد ما ينسخه - متفق عليه. أما النوع الخامس - وهو: استصحاب حكم الإجماع في محل النزاع - فقد اختلف فيه وقد سبق. أما ما عدا ذلك من أنواع الاستصحاب فقد اختلف فيه على مذاهب: المذهب الأول: أن الاستصحاب حُجَّة في ثبوت الأحكام وعدمها. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن استصحاب الحال يفيد ظن بقاء الحكم إلى الزمن الثاني، وكل ما أفاد ظن الحكم وجب العمل به؛ لأن العمل بالظن الغالب متعين، فالاستصحاب يجب العمل به. الدليل الثاني: أن الإجماع منعقد على أنه لو شك في حصول الزوجية ابتداء حرم عليه الاستمتاع، ولو شك في خصول الطلاق مع سبق العقد جاز له الاستمتاع، وليس هناك من فرق بينهما، إلا أنْ الأول قد استصحب فيه الحالةْ الموجودة قبل الشك - وهي عدم الزوجية وحصول العقد -. أما الثاني، فقد استصحب فيه الحالة الموجودة قبل الشك - أيضا - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 963 وهي العقد عليها، فلو لم يعتبر الاستصحاب، وكان غير مفيد لظن البقاء للزم استواء الحالين: التحريم والجواز، ولوجب أن يكون الحكم فيهما واحداً، وهو: حرمة الوطء أو إباحته وهو باطل بالإجماع. الدليل الثالث: أن الحكم حين ثبت شرعا، فالظاهر دوامه لما تعلق به من المصالح الدينية والدنيوية، ولا تتغير المصلحة في زمان قريب، وإنما تحتمل التغيير عند تقادم العهد، فمتى طلب المجتهد الدليل المزيل ولم يظفر به، فالظاهر عدمه، وهذا نوع اجتهاد، وإذا كان البقاء ثابتاً بالاجتهاد، فلا يترك باجتهاد مثله بلا ترجيح. المذهب الثاني: أنه ليس بحُجَّة مطلقاً، لا في ثبوت الأحكام ولا عدمها. وهو مذهب كثير من الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض المعتزلة كأبي الحسين البصري، وجماعة من المتكلمين، والمشهور من الحنفية: أنه ليس بحُجَّة في الإثبات، وهو حُجَّة في النفي والعدم. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الأحكام الشرعية كالطهارة والحل لا تثبت إلا بدليل منصوب من قبل الشارع، وأدلة الشرع هي: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس إجماعا، فما لا يكون منها لا يكون دليلاً شرعياً، والاستصحاب ليس بواحد منها، فلا يكون دليلاً شرعياً يحتج به. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 964 الجواب الأول: أن الحكم الثابت بالاستصحاب: البقاء، والبقاء لا يكون حكماً شرعيا، فلا يحتاج إلى دليل شرعي. الجواب الثاني: لو سلمنا أن البقاء حكم شرعي، فالاستصحاب دليل شرعي؛ لما بيناه من أنه يفيد الظن، وما يفيد الظن: يكون دليلاً شرعيا. الدليل الثاني: لا يوجد ظن في بقاء الشيء على ما كان مع جواز القياس، فإنه يجوز أن يقع قياس بنفي حكم ما كان. جوابه: إنا نقول بأن الاستصحاب لا يستدل به ولا يفيد ظن الحكم عندنا إلا بعد استقراء الأدلة المتفق عليها وهي: الكتاب، والسّنَّة، والإجماع، والقياس، وعدم وجدان ما يعارض الأصل. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي؛ حيث أثر في كثير من الفروع الفقهية، ومنها: 1 - ما خرج من غير السبيلين هل ينقض الوضوء؟ اختلف على قولين: القول الأول: إنه لا ينقض الوضوء، واستدل أكثر أصحاب هذا القول بالاستصحاب، حيث قالوا: إن الأصل عدم النقض، فيستصحب هذا الأصل حتى يثبت الدليل بخلافه. القول الثاني: إنه ينقض الوضوء، ولم يستدل أصحاب هذا القول بالاستصحاب، بل استدلوا بنصوص ثبتت عندهم، ومنها: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الوضوء من كل دم سائل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 965 والمسألة فيها تفصيلات أخرى ليس هذا مكانه. 2 - المفقود هل يرث ويورث؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إن المفقود يرث غيره ولا يورث؛ لأن المفقود قبل فقده كان حياً، فيجب استصحاب حياته حتى يظهر خلافها، والحي يرث غيره، ولا يرثه غيره. القول الثاني: إنه لا يرث ولا يورث؛ لأن كونه حيا قبل فقده لا يلزم حياته بعد فقده، فلا يثبت الإرث بذلك، وكذلك لا يورث؛ لأن الأصل عدم الإرث، والعدم الأصلي لا يحتاج إلى الإرث. 3 - هل تجب الدية في الشعور؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إنه لا تجب الدية في الشعر؛ لأن الأصل عدم وجوب الدية إلا بتفويت النفس، فيستصحب هذا الأصل حتى يأتي دليل بخلاف ذلك. القول الثاني: إنه تجب الدية في الشعر؛ واستدل أصحاب هذا القول بقياس الشعر على الأعضاء التي تجب في ذهابها الدية كالإذن بجامع: أن كل منها. فيه تفويه ت منفعة. *** مسألة: النافي للحكم هل يلزمه الدليل؟ إن هذا الموضوع له علاقة بدليل الاستصحاب؛ لأن بعض المذاهب فيه قد استدل ببعض أنواع الاستصحاب، لذلك جعله الأصوليون هنا. ولكي نبين ذلك نقول: لقد اتفق العلماء على أن المثبت للحكم يلزمه الدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 966 ولكن اختلفوا فيما إذا نفى بعض المجتهدين حكما من الأحكام، فقال: هذا الحكم لا يثبت عندي فهل يطالب بدليل على هذا؛ على مذاهب: المذهب الأول: أنه يطالب بالدليل، ويلزم الدليل مطلقاً. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو: الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) وجه الدلالة: أن اليهود والنصارى لما نفوا وقالوا: لن يدخل الجنة إلا نحن: أمر اللَّه - تعالى - بأن يطالبهم بالدليل على هذا النفي، وهذا يفيد أن النافي يلزمه الدليل. الدليل الثاني: أن نفي الحكم دعوى، والدعوى لا تثبت إلا بدليل. الدليل الثالث: أنه لو لم يلزم النافي الدليل للزم من ذلك: أن لا يطالب أحد بأي دليل على دعواه، مما يؤدي إلى دعوى أحكام بلا أدلة، بيان ذلك: أن المثبت للحكم يمكنه أن يعبر عن المقصود الذي يريد إثباته بعبارة نافية، فإذا أراد - مثلاً - إثبات أن فلانا قادر يقول - بدل ذلك -: " فلان ليس بعاجز "، فيستطيع كل مدع للعلم، وأهل الأهواء أن يدخلوا مع هذا الباب، فلا يذكروا أدلة على ما يقولون فتختل الشريعة، وإذا كان هذا يؤدي إلى عدم الاستدلال للأحكام فهو باطل " لأن ما أدى إلى الباطل فهو باطل، فثبت: أنه لا بد للنافي للحكم من دليل سداً لذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 967 المذهب الثاني: أن النافي للحكم لا يلزمه الدليل مطلقا. وهو مذهب داود الظاهري، وبعض العلقاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "البينة على من ادَّعى، واليمين على من أنكر ". وجه الدلالة: أن الشارع جعل على المدعي البينة والدليل، ولم يجعل على المدعى عليه بينة، والسبب في ذلك: أن المدعي مثبت للحكم، والمدعي عليه ناف لذلك الحكم. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن المدعي عليه لا يطالب بالدليل، بل قد طالبه الشارع بالدليل، وقد ورد ذلك بنص الحديث، فألزم الشارع المنكر باليمين، واليمين دليل على نفيه، وإنما خص المدعي عليه - وهو النافي - باليمين؛ لأن معه ظاهراً يدل على صدقه من براءة الذمة إن كان المدعى عليه ديناً حتى يظهر ما يشغلها، ومن ثبوت يده وتصرفه إن كان المدعى عليه عيناً. واحتمال الكذب في هذه اليمين لا يمنع ولا يبطل كونها دليلاً يستدل بها على نفي وإنكار هذه الدعوى؛ لأن الكذب يحتمل في قول الشاهدين أيضا. الجواب الثاني: سلمنا أن الشارع أسقط عن المنكر - وهو النافي - الدليل، ولكن لم يسقطه عنه؛ لأن النافي لا يلزمه الدليل، وإنما أسقطه عنه إن ادعى عليه عينا في يده بسبب وجود اليد على هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 968 العين وتصرفه المطلق فيها، فاليد دليل الملك، قال كثير من الفقهاء: " وإذا لم يكن للمدير بيِّنة، فالعين للمدعى عليه مع اليمين؛ لأن الظاهر أن ما في يد الإنسان ملكه ". الدليل الثاني: أن الأصل هو النفي الأصلي، فالعدم والانتفاء ثابت؛ لأنه الأصل، فكيف يكلف النافي للحكم بالإتيان بالدليل على هذا النفي وهو متعذر، فلا يمكن إقامة الدليل على براءة الذمة من التكاليف؛ لأنها هي الأصل. جوابه: لا نسلم تعذر إقامة الدليل على النفي، بل يمكن إقامة الدليل على النفي في الشرعيات والعقليات، بيان ذلك: أولاً: إن كان النزاع في الشرعيات فيمكن إقامة الدليل على نفي الحكم الشرعي من إجماع العلماء مثل: نفي وجوب صوم شوال، أو نفي وجوب صلاة الضحى، فهذا النفي دليله الإجماع. أو نفي الحكم لدليل من النص كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا زكاة في الحلي " فهذا النفي دليله السُّنَّة. أو نفي الحكم لدليل من مفهوم النص كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم الزكاة "، فإن مفهومه هو: نفي الزكاة عن الغنم المعلوفة. أو نفي الحكم لدليل من القياس مثل: نفي وجوب الزكاة في الخضروات؛ قياساً على الرمان والبطيخ. وإن عدمت الأدلة على نفي الحكم، فإنا نبحث عن مدارك الإثبات، فإذا لم نجد رجعنا إلى الاستصحاب للنفي الأصلي، وهو دليل عند عدم ورود السمع كما سبق أن ذكرناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 969 ثانياً: أما إن كان النزاع في العقليات فيمكن إقامة الدليل على الحكم فيه فنقول في الاستدلال في ذلك: إن إثباتها يفضي إلى المحال، وكل ما أفضى إلى المحال فهو محال. ويمكن الدليل عليه بالقياس الشرطي، وهو طريق التلازم الذي سبق ذكره في المقدمة المنطقية، حيث إن كل إثبات له لوازم، فانتفاء اللازم يدل على انتفاء الملزوم مثل قوله تعالى: (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا) ، فانتفاء الفساد دليل على انتفاء إله ثان. المذهب الثالث: التفصيل. وهو إن كان الحكم عقلياً فيلزم النافي له الدليل. وإن كان الحكم شرعياً فلا يلزمه الدليل. حكى هذا المذهب القاضي أبو بكر، وابن فورك. جوابه: إن هذا التفصيل لا دليل عليه. ثم إنا بينا فيما سبق أنه يمكن إقامة الدليل على النفي في الشرعيات، وفي العقليات بالأمثلة. المذهب الرابع: التفصيل من وجه آخر، وهو: أن النافي إن ادعى أن نفي الحكم ثابت عنده بالضرورة، فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن عدالته توجب صدقه، والضروري شأنه أن لا يكون محل شبهة، وإن ادعى أنه ثابت عنده بالعلم النظري، أو بطريق الظن فإنه يطالب بالدليل، لأن النظري أو الظني قد يشتبه فيه، فالدليل يبين هل هو مثبت للعدم أو غير مثبمسا له لنزول الشبهة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 970 جوابه: أن نفي الحكم إن كان ضروريا فإنه لا يطالب بالدليل؛ لأن الضرورة دليل، وهذا متفق عليه، وإنما الخلاف فيما إذا نفى حكما لم يستدلْ على نفيه بالضرورة، فأنتم متفقون معنا على أنه يلزمه الدليل، فالخلاف لفظي. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ حيث إن الفروع الفقهية لم تتأثر بهذا الخلاف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 971 المبحث الثاني الدليل الثاني - من الأدلة المختلف فيها - شرع من قبلنا تعريفه: المراد به: ما نقل إلينا من أحكام تلك الشرائع التي كانوا مكلفين بها على أنها شرع لله تعالى. حجيته: ما أورده اللَّه عَزَّ وجَلَّ في كتابه، أو أورده رسوله - صلى الله عليه وسلم - في سُنَّته من القصص والأخبار والأحكام التي وردت في الشرائع السابقة من غير إنكار، ولم يدل دليل على أنها مشروعة في حقنا، ولم يدل دليل على أنها منسوخة عنا مثل قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ) ، فهل هذه الأحكام شرع لنا ملزمون بها أم لا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن شرع من قبلنا شرع لنا، فيكون حُجَّة. ذهب إلى ذلك الحنفية، والمالكية، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاروه أكثر الحنابلة، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة. الدليل الأول: قوله تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 972 وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - باتباع جميع الأنبياء السابقين، فيكون هو متعبداً بشرع من قبله، فيجب ذلك في كل ما ثبت عنهم إلا ما قام الدليل على أنه منسوخ. الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا) . وجه الدلالة: أنه عئر بلفظ "- يحكم بها النبيون " بصيغة الجمع، فيعم جميع الأنبياء - عليهم السلام - ومحمد - صلى الله عليه وسلم - من جملة الأنبياء فوجب عليه الحكم بالتوراة، فيكون متعبداً بشرع من قبله. الدليل الثالث: قوله تعالى: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا) . وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن شرع نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل شرع غيره من الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى، ولا فرق بينهم في أخذ الأحكام من جميع الشرائع السابقة. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى بين أن من لم يحكم بما أنزل اللَّه فقد خرج عن الملَّة، والأحكام التي عمل بها النبيون السابقون هو مما أنزل اللَّه، فَيجب العمل بها. الدليل الخامس: قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أمر نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - باتباع مِلَّة إبراهيم - عليه السلام -، وهو أمر مطلق، فيقتضي الوجوب، فيكون متعبداً بشرع من قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 973 اعتراض على تلك الأدلة الخمسة: قال المعترض: إن تلك الآيات الخمس لا تصلح للاستدلال بها على أن شرع من قبلنا شرع لنا، لأن المراد من تلك الآيات إنما هو التوحيد، والأصول الكلية المعلومة في أصول الدين، ودلالة الأدلة على وحدانيته وصفاته، ونحو ذلك، وهذه الأمور مشتركة بين جميع الشرائع، وأما الأحكام الفرعية فإن الشرائع فيها مختلفة، فلا يمكن اتباع الجميع فيها، خاصة أن فيها الناسخ والمنسوخ. جوابه: إن ألفاظ تلك الآيات عامة وشاملة لأصول الدين وفروعه، فيجب حملها على هذا العموم، ولا يجوز تخصيص لفظ إلا بدليل ولا دليل صحيح هنا، فينتج: أن شرع من قبلنا شرع لنا في الفروع والأصول. ونعمل بالحكم الناسخ منها، ونترك العمل بالحكم المنسوخ كما نفعل بشريعتنا. الدليل السادس: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن اللَّه تعالى قال: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي) وجه الدلالة: أن الآية خطاب مع موسى - عليه السلام - فلو لم يكن نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - متعبداً بما كان عليه موسى - عليه السلام - لما صح استدلاله بتلك الآية. الدليل السابع: أن اللَّه تعالى إذا شرع حكما شرعيا فى حق أُمَّة من الأمم السابقة فإن هذا يدل على أمرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 974 أولهما: أن اللَّه سبحانه لم يشرعه إلا لأن مصلحة هذه الأُمَّة قد اقتضت هذا الحكم. ثانيهما: أنه لم يشرعه إلا لأنه قد اعتبره لكل زمان، ولكل مكان، ولكل مكلَّف؛ حيث إنه شرع مطلق فيدخل فيه كل مكلَّف. ونظراً إلى هذين الأمرين فإن الحكم الذي أنزله اللَّه تعالى في أي شريعة يجب أن يستمر من حين نزوله إلى أن ينسخ، وبناء على ذلك فيجب العمل بما جاء في الشرائع السابقة حتى يرد دليل على نسخه وإبطاله، وليس في نفس بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يوجب نسخ الأحكام التي قبله؛ لأن النسخ إنما يكون عند التنافي، ولم يوجد تنافي فلا نسخ إذن، فيكون شرع من قبلنا شرع لنا. المذهب الثاني: أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا، وليس بحُجَّة. وهو اختيار الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) . وجه الدلالة: أن معنى الشرعة: الشريعة، والمنهاج: الطريق الواضح، وهذا يقتضي أن يكون كل نبي داعيا إلى شريعته - فقط -؛ لاختصاصه بها لا يشاركه في هذه الشريعة غيره من الأنبياء، فتكون كل أمَّة مختصة بالشريعة التي جاء بها نبيهم - فقط -. جوابه: إن الشريعتين قد تتشاركان في بعض الوجوه إلا أن هذه المشاركة لا تمنع من اختصاص كل نبي بشريعته، ونسبة هذه الشريعة إلى النبي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 975 المبعوث بها؛ لأن أكثر الشريعة قد أتى بها ذلك النبي، وقد تتفق في بعض الأحكام القليلة مع شريعة نبي آخر، فلا ينظر إلى هذا الأقل، وإنما الحكم للأكثر. مثل قولهم: " لحية زيد سوداء "، فهذا صحيح مع أن بها عدداً من الشعيرات البيضاء، فأطلق عليها بأنها سوداء نظراً إلى الأكثر. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لو كان متعبداً بشرائع من قبله للزمه البحث عنها، والعمل بها، ولوجب ألا ينتظر الوحي ولا يتوقف في حكم الظهار، واللعان، والمواريث؛ لأن هذه الحوادث أحكامها في التوراة ظاهرة، ولكنه - مع ذلك - لم يرجع إليها مما يدل على أن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا. جوابه: إن تلك الشرائع السابقة لو كانت ثابتة بطريق يوثق به لرجع إليها النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكن الحق: أن تلك الشرائع السابقة لم تصلنا بطريق موثوق به، بل قد بُدِّلت، وغيِّرت، وقد أخبر اللَّه تعالى بذلك، ويستحيل خلاف خبر اللَّه تعالى. الدليل الثالث: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا دليلاً من أدلة الأحكام التي يجب أن يرجع إليها لكان تعلمه، والاطلاع عليه، وحفظه، ونقله، والحرص على سنده، والاهتمام به فرضاً من فروض الكفاية كغيره من الأدلة الشرعية مثل القرآن والسُّنَّة. جوابه؛ هو نفس الجواب عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه لو كانت تلك الشرائع السابقة قد وصلتنا بطريق موثوق به بدون تغيير ولا تبديل لجاز أن نتعلمها ونهتم بها كما نهتم بأي دليل آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 976 الدليل الرابع: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا دليلاً من أدلة الأحكام لوجب على الصحابة - رضي اللَّه غنهم - أن يرجعوا إلى تلك الشرائع، ويبحثوا عنها، ويسألوا ناقليها عند حدوث الحوادث المختلف فيها فيما بينهم مثل: مسألة الجد والإخوة، والعول، والمشركة، وغيرها، ولكن الواقع يخالف ذلك، فلم يرجع أي واحد من الصحابة إلى شرع من قبلنا لمعرفة حكم شرعي مع إسلام كثير ممن يوثق به من اليهود والنصارى. جوابه: هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه لو كانت تلك الشرائع السابقة قد وصلتنا بطريق يوثق به بدون تغيير لرجع إليها الصحابة. الدليل الخامس: أن - صلى الله عليه وسلم - قد غضب لما رأى بيد عمر بن الخطاب قطعة من التوراة وقال: " ما هذا؟ ألم آت بها بيضاء نقية؛ لو أدركني موسى حيا ما وسعه إلا اتباعي ". وجه الدلالة: أنه لو كان شرع من قبلنا شرع لنا لما أنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك. جوابه: هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث يقال: إنه لو كانت تلك الشرائع السابقة وصلتنا سليمة بدون تحريف ولا تبديل لأقرَّه النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولكنه يعلم أن اليهود قد حرَّفوا ما جاء في التوراة، ولهذا أنكر عليه. الدليل السادس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صوَّب معاذاً لما ذكر أن الأدلة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 977 التي يجب أن يرجع إليها هي: الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد، فلو كان شرع من قبلنا شرع لنا لذكر مع تلك الأدلة. جوابه: هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثاني لهم؛ حيث إنه لو كانت تلك الشرائع السابقة غير محرفة لذكرت مع تلك الأدلة، ثم إن شرع من قبلنا نوع من أنواع الاجتهاد كالقياس، وقول الصحابي، والمصلحة. الدليل السابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي، كان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود ". وجه الدلالة: أن هذا صريح في أن كل نبي يُبعث إلى قومه فقط، وشريعته اختصت بهم، ولو قلنا: إن شرعهم هو شرع لنا: للزم من ذلك أنا نشاركهم في شرعهم، وهذا يناقض الاختصاص؛ حيث إن مشاركتنا لهم تمنع ذلك الاختصاص. جوابه: إن هذا لا يفيد أن كل نبي يختص شرعه قومه فقط - كما زعمتم - بل قد يبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بشرع قد يشوبه شيء من شرع من قبله، أو بعض شرع من قبله، وهذا لا يمنع من ذلك الاختصاص، كما قلنا في جوابنا عن دليلكم الأول. الدليل الثامن: أن الأُمَّة قد أجمعت على أن هذه الشريعة هي شريعة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - التي أوحى بها إليه اللَّه تعالى، فلو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - متعبداً باتباع شرع من قبله في الجملة لما نسب إليه شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 978 من شرعنا، ولكان مخبراً عنها، وناقلاً لشرائع من قبله فقط، لا شارعاً لها ابتداء. جوابه: إن اللَّه تعالى إذا تعبد نبينا بشرع من قبلنا لم يكن في ذلك نقص، ولا إقلال من منصبه، ولا جعله تابعاً لغيره؛ لأنه في ذلك قد أطاع الله، واتبعه، ولم يتبع غيره من الأنبياء السابقين. بيان نوع الخلاف: لقد اختلف في الخلاف في هذه المسألة هل هو لفظي أو معنوي؟ على قولين: القول الأول: أن الخلاف معنوي له ثمرة وهو الصواب؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قد استدلوا بشرع من قبلنا وجعلوه من أدلتهم في إثبات أحكام شرعية، منها: أنهم استدلوا به على قتل الرجل بالمرأة، حيث إن قوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ..) يدل على ذلك مع أنه خطاب من قبلنا. كذلك استدلوا به على جواز الجعالة - وهي: الإجارة على منفعة مظنون حصولها مثل مشارطة المعلم - على حذق المتعلم - وقالوا: إن قوله تعالى: (ولمن جاء به حمل بعير..) يدل على ذلك مع أنه وارد في شرع من قبلنا. وكذلك استدلوا به على ضمان ما تفسده الدواب المرسلة في الليل؛ حيث إن قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ) والنفش عند أهل اللغة لا يكون إلا في الليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 979 أما أصحاب المذهب الثاني - وهو القائلون: إنه ليس بحجة - وإن كانت بعض تلك الأحكام جائزة عندهم إلا أنهم لم يستدلوا بشرع من قبلنا، بل استدلوا بأدلة أخرى. القول الثاني: إن الخلاف لفظي، لا ثمرة له؛ حيث إنا نجد أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إنه حُجَّة - لا يحتجون به لوحده على إثبات حكم شرعي، بل يذكرونه مع عدد من الأدلة الشرعية الثابتة بشرعنا، فهو ليس العمدة عندهم في إثبات الحكم، فهم بذلك موافقون أصحاب المذهب الثاني في أنه ليس بحجة يعتمد عليه لوحده. جوابه: إنا نسلم أن أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن شرع مَن قبلنا حُجَّة - لا يستدلون به على إثبات الحكم لوحده، بل يعضدونه بأدلة أخرى ثابتة بشرعنا، ولكنهم اعتمدوه دليلاً معاضداً ومقويا للأدلة الأخرى، ولو لم يوجد في المسألة إلا هو لاستدلوا به لوحده، ولكنهم يذكرونه مع غيره من باب تعاضد الأدلة كما يفعل كثير من المجتهدين حينما يريدون الاستدلال على حكم معين. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن شرع من قبلنا ليس بشرع لنا - فإنهم لا يذكرونه مع الأدلة الثابتة بشرعنا، ولو لم يوجد إلا هو لما استدلوا به على إثبات حكم شرعي، فهذا هو الخلاف بين المذهبين، وما دام أنه وجد خلاف، إذن الخلاف معنوي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 980 المبحث الثالث في الدليل الثالث من الأدلة المختلف فيها قول الصحابي تعريفه: هو: ما نقل إلينا عن أحد أصحاب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من فتوى، أو قضاء أو رأي أو مذهب في حادثة لم يرد حكمها في نص، ولم يحصل عليها إجماع. حجيته: أولاً: إذا قال الصحابي رأيا في مسألة مخالفا لرأي صحابي آخر، فليس بحُجَّة إجماعا. ثانيا: إذا قال الصحابي قولا، ثم ثبت أنه رجع عنه فليس بحُجَّة إجماعاً. ثالثا: إذا قال الصحابي قولاً ثم انتشر بين بقية الصحابة، ولم ينكره أحد، فهذه حُجَّة لمن قال بأن الإجماع السكوتي حُجَّة، وقد سبق. رابعا: إذا قال الصحابي قولاً في مسألة اجتهادية ولم يتحقق فيه ما سبق فقد اختلف العلماء هل هو حُجَّة أو لا؛ على مذاهب: من أهمها ما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 981 المذهب الأول: أن قول الصحابي حُجَّة مطلقا، أي: سواء وافق القياس، أو لم يوافقه، وسواء كان الصحابي من الخلفاء الراشدين، أو من غيرهم. وهو مذهب أكثر الحنفية، والمالكية، والحنابلة، وكثير من الشافعية، وهو مذهب الإمام الشافعي في الجديد والقديم كما ثبت عنه في كثير من فروعه. وهو الحق عندي بشرط: أن يكون الصحابي المحتج بقوله وبفعله هو: الصحابي الذي عرفته فيما سبق، وذكرته في كتابي " مخالفة الصحابي للحديث "، وهو الذي لقي النبي - صلى الله عليه وسلم -، واختص به اختصاص المصحوب متبعا إياه مدة يثبت معها إطلاق: " صاحب فلان " عليه عرفاً، بلا تحديد لمقدار تلك الصحبة مثل: الخلفاء الأربعة، والعبادلة، وزوجات النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومعاذ، وزيد، وأنس، وأبي هريرة، ونحوهم ممن جمع إلى الإيمان والتصديق ملازمة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فوعوا أقواله، وشهدوا أفعاله، وعملوا على التأسي والاقتداء به، أما غير ذلك الصحابي - وهو من رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة أو مرتين، فلا يمكن أن يحتج بقوله؛ لعدم ملازمته للنبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يمكن أن يكون مثل هذا عالما يرجع إليه. وقد اخترت هذا؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) وجه الدلالة: أن هذا خطاب مع الصحابة بأن كل ما يأمرون به معروف، والمعروف يجب القول به. الدليل الثاني: أن قول الصحابي إن كان صادراً عن رأي واجتهاد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 982 فإنه يرجح على اجتهاد التابعي ومن بعده، فرأيه أقرب إلى إصابة الحق وأبعد عن الخطأ، وذلك لأنه شاهد التنزيل، وحضر مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وسمع كلامه مباشرة، وعرف طريقته في بيان الأحكام، ووقف من أحوال النبي - صلى الله عليه وسلم - ومراده في كلامه على ما لم يقف عليه غيره مع اجتهاد وحرص على طلب الحِق، والقيام بما هو تثبيت لقوام الدين، مع فضل درجة ليست لغيرهم كما وردت الأخبار في ذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ". كل ما سبق له أثره في جعل الصحابة أعلم بتأويل النصوص، وأعرف بمقاصد الشريعة، وبهذا ترجح رأي الصحابي على رأي غيره، فقوله أوْلى بالاتباع من قول غيره. الدليل الثالث: أن قول الصحابي إذا انتشر ولم ينكر عليه أحد كان حُجَّة، فكذلك يكون قوله حُجَّة مع عدم الانتشار كقول النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا فرق. المذهب الثاني: أن قول الصحابي ليس بحُجَّة مطلقا. وهو مذهب كثير من الأشاعرة والمعتزلة، وبعض الحنفية كأبي الحسن الكرخي، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو القول الجديد - عن الإمام الشافعي، كما قال بعض الشافعية، ولكن الحق: أن مذهب الإمام الشافعي هو المذهب الأول، وقد حققت ذلك في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الصحابي لم تثبت عصمته عن الخطأ والسهو والغلط، فقد يجتهد في مسألة ويخطئ فيها، فإذا كان غير معصوم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 983 عن الخطأ فيكون قوله متردداً بين الخطأ والصواب، ومحتملاً لهما، فكيف نأخذ به وهو كذلك؟! جوابه: إن عدم عصمة الصحابي عن الخطأ والسهو والغلط لا يمنع من اتباعه وتقليده، والاحتجاج بقوله، بدليل: أن المجتهد غير معصوم عن الخطأ والسهو، ويلزم العوام تقليده. الدليل الثاني: أن الصحابة - رضي الله عنهم - قد اختلفوا - فيما بينهم - في مسائل كثيرة، ومنها: مسألة " الجد والإخوة"، و" العول "، و " التحريم "، و " بيع أمهات الأولاد " وغيرها، وقد أجمعوا على جواز مخالفة كل واحد من آحاد الصحابة انجتهدين للآخر، فلم ينكر بعضهم على بعض تلك المخالفة، وهذا يدل على أن قول الصحابي ليس بحُجَّة؛ إذ لو كان حُجَّة للزم كل واحد منهم اتباع الآخر. جوابه: إن هذا الدليل ليس في محل النزاع؛ حيث قلنا - هناك -: إن قول الصحابي اذا كان مخالفا لراي صحابي آخر فليس بحُجَّة إجماعاً. المذهب الثالث: أن الحُجَّة في قول أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - رضي اللَّه عن الجميع -. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي ". وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أمر باتباع سُنَته وسُنَّة الخلفاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 984 الراشدين - أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي - وهو أمر مطلق، والأمر المطلق يقتضي الوجوب، فاتباع أقوال الرسول - صلى الله عليه وسلم - وأقوال الخلفاء الأربعة واجب، فيكون حُجَّة. جوابه: إن الأمر بسُنَّة الخلفاء الأربعة لا يدل على أن قول هؤلاء حُجَّة، بل إن تخصيص هؤلاء بالذكر يحتمل احتمالين هما: الاحتمال الأول: أنه أراد اتباع سيرتهم، وعدلهم، وسياستهم للرعية، والصبر على الدعوة، وتحمل الأذى، وإذا كان الأمر كذلك فإن جميع الصحابة يتميزون بذلك، فهم كغيرهم من الصحابة في ذلك. الاحتمال الثاني: يحتمل أنه أراد أن قولهم حُجَّة. وإذا تطرق إلى الدليل الاحتمال بطل به الاستدلال. المذهب الرابع: أن قول أبي بكر حُجَّة، وقول عمر حُجَّة فقط دون غيرهما. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر ". وجه الدلالة: كما سبق في الحديث السابق. جوابه: هو نفس الجواب عن دليل أصحاب المذهب الثالث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 985 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي له ثمرة؛ حيث إن من قال: إن قول الصحابي حُجَّة - وهو المذهب الأول - أضافوا هذا الدليل إلى أدلتهم؛ فاستدلوا به على إثبات أحكام شرعية لبعض الحوادث فقالوا - مثلاً -: تجب الزكاة في مال الصبي والمجنون مستدلين بقول عمر - رضي اللَّه عنه -: " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الصدقة "، وبفعل عائشة - رضي اللَّه عنها - حيث كانت تلي يتيماً اسمه عبد الرحمن بن القاسم فتخرج عنه وعن أخيه زكاة مالهما. وكذلك استدلوا بهذا الدليل - أعني قول الصحابي - على عدم وجوب الزكاة في الحلي؛ حيث إن ابن عمر كان لا يخرج على حلي بناته وجواريه الزكاة. كذلك استدلوا به على أن سجود التلاوة سُنَّة؛ حيث إن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - قرأ سجدة وهو على المنبر يوم الجمعة فنزل وسجد وسجد الناس معه، ثم قرأها في الجمعة الأخرى فاستعد الناس للسجود فقال: على رسلكم، إن اللَّه لم يكتبها علينا إلا أن نشاء فلم يسجد. كذلك استدلوا به على إثبات أحكام شرعية كثيرة. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن قول الصحابي ليس بحُجَّة - فلم يجعلوا قول الصحابي أو مذهبه أو فعله من الأدلة المعتبرة. فلم يوجبوا الزكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأنهم لم يأخذوا بما ورد عن عمر، ولا بما ورد عن عائشة، وقالوا: إن الزكاة عبادة يشترط فيها التكليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 986 وأوجبوا الزكاة في الحلي، ولم يعملوا بما ورد عن ابن عمر، واستدلوا بعموم قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وبغير ذلك من الأدلة. وكذلك أوجبوا سجود التلاوة، ولم يعملوا بما ورد عن عمر، واستدلوا بما روي عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " السجدة على من سمعها وعلى من تلاها ". وعلى ذلك فقس قول أصحاب المذهب الثالث والرابع. *** مسألة: إذا اختلف صحابيان في مسألة على قولين، فهل يجوز للمجتهد الأخذ بقول أحدهما بدون دليل؟ سبق أن علمنا أن الصحابي إذا قال قولاً في مسألة اجتهادية ولم يخالف فيه قول صحابي آخر، ولم ينتشر في بقية الصحابة، فإن هذا القول يكون حُجَّة، وهو المذهب الأول الذي رجحناه. وعلى هذا يجوز العمل به بدون دليل يعضده. لكن إذا قال صحابي قولاً في مسألة، وخالفه صحابي آخر في نفس المسألة بقول آخر، فهل يجوز للمجتهد الأخذ بقول أحدهما بدون دليل؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز الأخذ بقول أحدهما بدون دليل، بل لا بد من دليل، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن القولين لا يمكن أن يكونا خطأ، ولا يمكن أن يكونا صوابا، بل إن أحدهما صواب والآخر خطأ، ولا يمكن معرفة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 987 القول الصواب، والقول الخطأ إلا بدليل خارجي، إذن لا يمكن الأخذ بأحد القولين بلا دليل، بل لا بد من الدليل. الدليل الثاني: القياس على قول اللَّه تعالى، وقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -، بيان ذلك: أنه إذا تعارضت آيتان في نظر المجتهد، إحداهما تفيد الجواز، والأخرى تفيد المنع، فإنه لا يمكن أن يرجح أحد الحكمين إلا بدليل ومرجح خارجي، كذلك لو تعارض حديثان في نظر المجتهد، فلا يمكن أن يرجح أحدهما ويعمل به إلا بمرجح آخر ودليل خارجي. فإذا كان الأمر كذلك في الكتاب والسُّنَّة، فكذلك قول الصحابي إذا تعارض مع قول صحابي آخر: فإذا تعارض قول صحابي مع قول صحابي آخر في نظر المجتهد، فإنه لا يرجح أحدهما ويعمل به إلا بدليل خارجي عنهما. المذهب الثاني: أنه يجوز الأخذ بقول أحدهما بدون دليل بشرط: أن يظهر هذا القول المأخوذ به، ولم ينكر منكر القائل به. وهو اختيار بعض الحنفية. أما بعض المتكلمين كأبي علي الجبائي وابنه أبي هاشم، فقد قالوا: إن كان هذان القولان قد حدثا للصحابة قبل وقوع الفرْقة بينهم، واختلاف الديار بهم: جاز الأخذ بقول أحدهما من غير اجتهاد في صحته، وإن كان قد حدث بعد وقوع الفرْقة بينهم لم يجز الأخذ إلا أن يدل دليل على صحته غير قول الصحابي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث وقع أن امرأة غاب عنها زوجها، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 988 ثم جاء وهي حامل، فرفعها إلى عمر، فأمر برجمها، فقال معاذ: إن يكن لك عليها سبيل، فلا سبيل لك على ما في بطنها، فقال عمر: احبسوها حتى تضع، فوضعت غلاما له ثنيتان، فلما رآه أبوه قال: ابني، فبلغ ذلك عمر، فقال عمر: " عجزت النساء أن يلدن مثل معاذ، لولا معاذ لهلك عمر ". وجه الدلالة: أن عمر رجع إلى قول معاذ - رضي اللَّه عنهما - في هذه القضية بدون أن يستعلم رأي غيره، مع وجود بعض الصحابة الذين هم من أهل الاجتهاد، فهذا يدل على جواز الأخذ بأحد قولي الصحابة بدون دليل. جوابه: إن عمر - رضي اللَّه عنه - قد أخذ بقول معاذ؛ لأنه ظهر له رجحان قول معاذ واجتهاده - لما ذكر أن ما في البطن لا ذنب له حتى تعاقبه، حيث إن العقوبة تخص المذنب فقط - فصار قول معاذ هو الحق - وذلك بالدليل، لا أنه رجع إلى قول معاذ تقليداً بلا دليل، فعمر قد اتبع الدليل المرجح، ولم يتبع قول معاذ المجرد. الدليل الثاني: أن اختلاف الصحابة على قولين في مسألة معينة هو إجماع ضمني بينهم على صحة القولين، وهذا يجوز الأخذ بكل واحد منهما بلا دليل بالاتفاق. جوابه: إن اختلاف الصحابة على قولين لا يدل على ما ذكرتم، بل يدل على أنهم سوَّغوا وأجازوأ الأخذ بالأرجح منهما، ولا يمكن أن يتبين الراجح منهما إلا بالاجتهاد في القولين معا، ولا يمكن الاجتهاد إلا بالأدلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 989 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه إذا اختلف صحابيان في مسألة معينة: أحدهما قال: يجوز فيها كذا، والآخر قال: لا يجوز، ولم يوجد دليل يرجح أحدهما على الآخر، فبناء على المذهب الأول فإنه لا يجوز الأخذ بالقولين معا ويتساقطا، ويجتهد في المسالة وكأنها حادثة جديدة. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يجتهد في المسألة، بل يؤخذ بأحد القولين ويستدل به على المسألة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 990 المبحث الرابع في الدليل الرابع - من الأدلة المختلف فيها - الاستحسان تعريفه لغة: الاستحسان لغة: استفعال من الحسن، وهو: عدُّ الشيء واعتقاده حسنا، سواء كان حسيا كالثوب، أو معنويا كالرأي. ولفظ " الاستحسان " يجوز استعماله بالاتفاق؛ لوروده في الكتاب كقوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) ، وقوله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) ، ولوروده في السُّنَّة كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللَّه حسن "، ولأن هذا اللفظ يستعمله الفقهاء كثيراً كقول الإمام الشافعي: " أستحسن ترك شيء من نجوم الكتابة للمكاتب ". وكقول كثير منهم: " استحسن شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير في الماء وعوضه ". تعريفه اصطلاحا وحجيته: لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف الاستحسان، إليك ذكر أهم تلك التعريفات، وبيان المراد منه، وموقف العلماء في ذلك فأقول: التعريف الأول: أن الاستحسان هو: العدول بحكم المسألة عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 991 نظائرها لدليل خاص أقوى من الأول، وهذا هو تعريف جمهور العلماء، وهو الحق، ومعناه: أن القياس يقتضي حكما عاماً في جميع المسائل، لكن خُصّصت مسألة وعُدل بها عن نظائرها وصار لها حكم خاص بها نظراً لثبوت دليل قد خصصها وأخرجها عما يماثلها، وهذا الدليل هو أقوى من المقتضي العموم في نظر المجتهد. وهذا القياس قد يكون هو القياس الأصولي، وقد يكون بمعنى القاعدة، أو الأصل العام، أو بمعنى الدليل العام. *** أنواع الاستحسان بناء على هذا التعريف: الاستحسان يتنوع - بناء على التعريف السابق - إلى أنواع خمسة: النوع الأول: الاستحسان بالنص، وهو العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالكتاب والسُّنَّة. من أمثل ذلك: 1 - أن القياس لا يجوِّز السلم؛ لأنه عقد على معدوم وقت العقد، ولكن عدلنا عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: الجواز، لدليل ثبت بالسُّنَة، وهو قول الراوي: " ورخص بالسلم " فتركنا القياس لهذا الخبر استحساناً. 2 - إذا ضرب وجل جمطن امرأة فالقت جنينا ميتا، فحكم القياس: أنه لا يجب شيء على الضارب؛ لأنه لم يتيقن بحياته، ولكن عدلنا عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: أنه يجب على الضارب غرة، وهي: " نصف عشر الدية "؛ لدليل قوي ثبت في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 992 هذا، وهو قوله عليه السلام: " في الجنين غرة عبد أو أمَة قيمته خمسمائة "، فتركنا القياس لهذا الخبر استحسانا. النوع الثاني: الاستحسان بالإجماع، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم مخالف له ثبت بالإجماع مثل: عقد الاستصناع - وهو: أن يتعاقد شخص مع صانع على أن يصنع شيئا له نظير - مبلغ معين بشروط معينة - فالقياس يقتضي عدم جواز مثل ذلك العقد؛ لأنه بيع معدوم من كل وجه، لكن عدلنا عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: جواز هذا العقد؛ نظراً لتعامل الأُمَّة به من غير نكير، فصار إجماعاً. النوع الثالث: الاستحسان بالعرف والعادة، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر يخالفه؛ نظراً لجريان العرف بذلك، وعملاً بما اعتاده الناس، مثل لو قال شخص: " والله لا أدخل بيتا "، فالقياس يقتضي: أنه يحنث إذا دخل المسجد؛ لأنه يسمى بيتا لغة، ولكن عدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: عدم حنثه إذا دخل المسجد، لتعارف الناس على عدم إطلاق هذا اللفظ على المسجد. النوع الرابع: الاستحسان بالضرورة، وهو: العدول عن حكم القياس في مسألة إلى حكم آخر مخالف له ضرورة مثل: جواز الشهادة في النكاح والدخول، فالقياس يقتضي عدم جواز الشهادة في النكاح والدخول؛ لأن الشهادة مشتقة من المشاهدة، وذلك بالعلم ولم يحصل في هذه الأمور، لكن عدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: جواز الشهادة في النكاح والدخول ضرورة؛ لأنه لو لم تقبل فيها الشهادة بالتسامح؛ لأدى إلى الحرج وتعطيل الأحكام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 993 النوع الخامس: الاستحسان بالقياس الخفي، وهو: العدول عن حكم القياس الظاهر المتبادر فيها إلى حكم آخر بقياس آخر هو: أدق وأخفى من الأول، لكنه أقوى حُجَّة، وأسد نظراً، وأصح استنتاجا منه، مثل: عدم قطع يد من سرق من مدينه، بيان ذلك: أن من له على آخر دين حال من دراهم فسرق منه مثلها قبل أن يستوفيها فلا تقطع يده، أما إذا كان الدين مؤجلاً، فالقياس يقتضي قطع يده إذا سرق مثلها قبل حلول الأجل؛ لأنه لا يباح له أخذه قبل الأجل، لكن عدل عن هذا الحكم إلى حكم آخر، وهو: أن يده لا تقطع؛ لأن ثبوت الحق - وإن تأخرت المطالبة - يصير شبهة دارئة وإن كان لا يلزمه الإعطاء الآن، فعدم قطع اليد هنا ثبت استحساناً. بيان حجية الاستحسان بناء على هذا التعريف: الاستحسان بهذا المعنى حُجَّة باتفاق العلماء؛ حيث لم ينكره أحد، وإنما الخلاف في تسميته استحسانا، فبعضهم سماه بهذا الاسم وبعض آخر لم يسمه بذلك. وهو راجع إلى العمل بالدليل القوي الذي ترجح بذلك على ما هو أضعف منه، وهذا لا نزاع فيه. التعريف الثاني: أن الاستحسان هو: ما يستحسنه المجتهد بعقله. وهو محكي عن أبي حنيفة - رحمه الله -. والمراد منه: ما سبق إلى الفهم العقلي، دون أن يكون له دليل شرعي يستند إليه من كتاب أو سُنة أو إجماع أو قياس، أو أي دليل آخر معتمد شرعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 994 بيان حجية الاستحسان بناء على هذا التعريف: هل الاستحسان حُجَّة بناء على هذا التعريف " التعريف الثاني "؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الاستحسان بهذا التعريف ليس بحُجَّة. وهو المذهب الحق عندي؛ لأدلة ثلاثة: الدليل الأول: حديث معاذ، وهو: أنه لما بعثه إلى اليمن قال له: " إن عرض عليك قضاء فبمَ تقضي؟ " قال: بكتاب الله، قال: فإن لم تجد؟ " قال: بسُنَةَ رسول اللَّه، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: اجتهد رأيي ولا آلو، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجه الدلالة: أن معاذاً ذكر الكتاب، والسُّنَّة، والاجتهاد، ولم يذكر الاستحسان، فأقره النبى - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فالاستحسان ليس بدليل، فلا يعتبر. فإن قال قائل: إن الاجتهاد عام وشامل يضم القياس، والمصلحة والاستحسان، فيدخل الاستحسان ضمن الأدلة. فإنا نقول - في الجواب عن ذلك -: إن المقصود بالاجتهاد هو الاجتهاد بالأدلة الشرعية، والاستحسان على تعريفكم إياه - وهو: ما يستحسنه المجتهد بعقله - لا يدخل ضمن الأدلة المجتهد فيها؛ لعدم استناده إلى الأدلة الشرعية. الدليل الثاني: أن الاستحسان بالتعريف الثاني - وهو: ما يستحسنه المجتهد بعقله - لا ضابط له، كما أنه ليس له مقاييس يقاس بها الحق من الباطل، فلو جاز لكل شخص أن يستحسن بعقله كيفما شاء؛ لأدى ذلك إلى وجود أحكام مختلفة في النارلة الواحدة لا ضابط لها، ولا معيار يبين الحق فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 995 الدليل الثالث: أن الاستحسان بالتعريف الثاني - وهو: ما يستحسنه المجتهد بعقله - لو كان يصلح طريقا لإثبات الأحكام الشرعية لما احتيج إلى الأدلة الشرعية، وحفظها، والاهتمام بها، والحرص عنى دراستها دراسة دقيقة متانية من الكتاب والسُّنَّة، ولما كان هناك فرق بين المجتهد العارف بتلك الأدلة، والعامي العاقل الذي لا يعرف شيئاً عن تلك الأدلة، ويلزم منه أيضا: عدم اشتراط أهلية النظر. المذهب الثاني: أن الاستحسان بالتعريف الثاني حُجَّة. وهو مذهب أبي حنيفة، وتبعه أكثر الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) . وجه الدلالة: أن الآية وردت في معرض الثناء والمدح لمتبع أحسن القول، والقرآن كله حسن، ثم أمر باتباع الأحسن، ولولا أن الاستحسان حُجَّة لما أورد ذلك. وكذلك قوله تعالى: (واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم) . وجه الدلالة: أن اللَّه أمر باتباع أحسن مأ أنزل، فدل على ترك بعض، واتباع بعض بمجرد كونه أحسن، وهو: معنى الاستحسان، فدل على أن الاستحسان حُجَّة. جوابه: يجاب عنه باجوبة: الجواب الأول: أن اللفظ عام فيدخل "فيه استحسان - العوام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 996 والصبيان، فيلزم من ذلك اتباع استحسانهم، وهذا باطل، ولا يقوله أحد، إذن الآيتان لا تصلحان للاستدلال بهما على حجية الاستحسان. الجواب الثاني: أن اتباع أحسن ما أنزل إلينا هو اتباع الأدلة، وهذا واجب، فبينوا أولاً أن هذا مما أنزل إلينا فضلاً عن أن يكون من أحسنه. الجواب الثالث: أنا نستحسن إبطال الاستحسان، وأن لا يكون لنا شرع سوى المصدق بالمعجزة، فليكن هذا حُجَّة عليهم. الدليل الثاني: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما رآه المسلمون حسنا فهو عند اللَّه حسن ". وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن ما رآه الناس في عاداتهم ونظر عقولهم مستحسنا فهو حق؛ لأن الذي ليس بحق فليس بحسن عند الله تعالى، وما هو حق وحسن عند اللَّه فهو حُجَّة، ولولا أنه حُجَّة لما كان عند اللَّه حسنا. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن هذا الخبر مرفوع، بل هو موقوف على ابن مسعود كما قال الزيلعي في " نصب الراية "، والسخاوي في " المقاصد الحسنة "، وغيرهما. الجواب الثاني: على فرض أن الحديث مرفوع، فإنه خبر واحد، وخبر الواحد لا تثبت به قاعدة أصولية مثل " حجية الاستحسان ". الجواب الثالث: أن المراد به ما رآه جميع المسلمين؛ لأنه لا يخلو: إما أن يريد به جميع المسلمين، أو يريد به آحادهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 997 فإن كان الأول - وهو: أن المراد به جميع المسلمين - فهو صحيح؛ لأن الأُمَّة لا تجتمع على حسن شيء إلا عن دليل، والإجماع حُجَّة، وهذا لا يخالف فيه أحد. وإن أراد به الآحاد من المسلمين لزم منه استحسان العوام والصبيان، وهذا لا يمكن. فإن قال قائل - معترضا -: إنا نقصد استحسان من هو أهل للنظر في الأدلة الشرعية، أما من ليس أهلاً للنظر كالصبيان والعوام فلا يقبل استحسانهم. فإنا نقول - في الجواب عنه -: إن المجتهد إذا استحسن الشيء وحكم به بعقله دون النظر إلى الأدلة الشرعية، فلا فائدة في اشتراط أهلية النظر في الأدلة؛ لأن الذي عنده الأهلية للنظر في الأدلة، ولكنه لا ينظر هو مثل العامي والصبي الذي لا أهلية له أصلا في النظر فيها سواء بسواء، فلا فرق بينهما، والجامع: الاستحسان بالعقل المجرد دون النظر في الأدلة الشرعية. الدليل الثالث: أن الأُمَّة قد استحسنت دخول الحمام من غير تقدير أجرة، ولا تقدير للماء المصبوب، ولا تقدير لمدة اللبث في الحمام، واستحسنت - أيضا - شرب الماء من أيدي السقائين من غير تقدير العوض، ولا سبب لعدم تقدير ذلك إلا أن التقدير في مثل هذه الأمور قبيح في العادة، فاستحسن الناس تركه، ووقع هذا دليل على جوازه. جوابه: يجاب عنه: بأن عدم تقدير أجرة دخول الحمام، وعدم تقدير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 998 الماء واللبث، وعدم تقدير العوض لمن شرب من أيدي السقائين يحتمل احتمالين: الاحتمال الأول: أنه يحتمل أن يكون سند ذلك السنة التقريرية؛ حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يرى الصحابة يفعلون ذلك ولا ينكر عليهم، وهذا من رخص الإسلام، وسبب هذه الرخصة هو: المشقة في تقدير الماء، والعوض؛ حيث إن الناس يختلفون في كمية الماء المستعمل، وفي الوقت الذي يمكثون فيه بالحمام، ويختلفون في كمية الماء المشروب. الاحتمال الثاني: أنه يحتمل أن يكون سند ذلك: القياس؛ حيث إن داخل الحمام مستبيح، فإذا أتلف ماء حمامي فعليه ثمن المثل، وذلك لأن قرينة حاله تدل على طلب العوض فيما يبذله في الغالب، وما يبذله يكون ثمن المثل فيقبله الحمامي إن رضي به، وإن لم يرض به: طالبه بالمزيد إن شاء، فليس هذا أمرا جديدا، ولكنه مقاس، والقياس حُجَّة. وكذلك يقال في شارب الماء من السقاء، فإن عليه ثمن المثل، فإن رضي السقاء، وإلا طالبه بالمزيد إن شاء. فثبت إن عدم تقدير الماء والأجرة يثبت عن طريق السنة، أو القياس، فقولكم: إنه ثبت عن طريق الاستحسان تحكم لا دليل عليه. التعريف الثالث للاستحسان: أنه دليل ينقدح في نفس المجتهد يعسر عليه التعبير عنه. وهو لبعض الحنفية المتقدمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 999 ومرادهم من هذا: أن الاستحسان دليل يستدل به المجتهد، وهذا الدليل ينقدح في ذهن المجتهد لا يستطيع أن يظهره بعبارة أو لفظ. بيان فساد هذا الثعريف: أن هذا التعريف فاسد؛ لأن الدليل الذي لا يستطيع المجتهد أن يفصح عنه - ويظهره، ويعبر عنه بلفظ لا يعلم هل هو وهم توهم المجتهد أنه دليل، أو ليس كذلك، فلا بد للمجتهد من إظهاره، والتعبير عنه بلفظ مفهم حتى نسبره ونختبره بواسطة الأدلة الشرعية الأخرى، فإما أن نصححه، ويكون دليلاً معتبراً، أو نبطله فلا يعتبر، أما الحكم بما لا يدرى ما هو فمن أين يعلم جوازه أبضرورة العقل، أو نظره، أو بسمع متواتر أو آحاد، ولا وجه لدعوى شيء من ذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف في الاستحسان خلاف لفظي، بيان ذلك: أن متأخري الحنفية لما رأوا هذا الإنكار الشديد على التعريف الثاني، والتعريف الثالث للاستحسان اللذين نقلا عن بعض الحنفية المتقدمين حاولوا أن يصححوا هذين التعريفين بسبب استقرائهم وتتبعهم للفتاوى الصادرة عن أئمة الحنفية المتقدمين، فأتوا بتعريفات تناسب الاستحسان الذي كان يطبقه المتقدمون منهم. فقال أبو الحسن الكرخي: إن لفظ الاستحسان عندهم ينبئ عن ترك حكم إلى حكم هو أوْلى منه، لولاه لكان الحكم الأول ثابتا. ويقرب من ذلك قول بعض الحنفية: " الاستحسان: ترك طريقة للحكم إلى أخرى أوْلى منها لولاها لوجب الثبات على الأولى ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1000 ويقرب منه - أيضاً - تعريف الجصاص له بقوله: " بأنه ترك القياس إلى ما هو أوْلى منه "، وكذلك فعل الدبوسي، والسرخسي وغيرهما من أئمة الحنفية. ثم جاءت الطبقة التي بعد هؤلاء من علماء الحنفية مثل الكمال بن الهمام وابن عبد الشكور فلاحظوا تعريفات المتقدمين للاستحسان، وتعريفات المتأخرين منهم له كالكرخي ومن معه، فجمعوا بينهما بقولهم: إن الاستحسان قسمان: " عام " و " خاص ". أما العام فهو كل دليل في مقابلة القياس الظاهر يقتضي العدول عن القياس من نص، أو إجماع، أو ضرورة، أو غيرها. أما الخاص فهو القياس الخفي في مقابلة القياس الجلي. وإذا دققت في تعريفما الجمهور للاستحسان - وهو التعريف الأول له - وما ذكرناه من أنواع له، ودققت في كلام الحنفية المتقدمين، وما ذكره الحنفية المتأخرون من تعريفات وشروح وتفسيرات: لوجدت أن التعريف الأول - وهو: " العدول بحكم المسألة عن نظائرها لدليل خاص أقوى من الأول "، قد اتفق عليه الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، إلا أن الحنفية قد عبروا عنه بلفظ يخالف تعبير الجمهور. ومن تتبع واستقرأ ما ورد عن الحنفية من تعريفات، وشروح وتفسيرات وتطبيقات، لثبت أنهم لا يقولون بأن الاستحسان هو: "ما يستحسنه المجتهد بعقله "، ولا يقولون بأنه: " دليل ينقدح في نفس المجتهد يعجز عن التعبير عنه "، ولثبت أنهم يقولون: إن الاستحسان: العدول في الحكم عن دليل إلى دليل هو أقوى منه، وهذا مما لا ينكره الجمهور. فكان الخلاف لفظياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1001 وهذا ما أشار إليه ابن السمعاني - رحمه الله -؛ فإنه حينما ذكر أن الخلاف في هذه المسألة لفظي: علل ذلك بأن تفسير الاستحسان بما يشنع عليهم - أي: على الحنفية - لا يقولون به، والذي يقولون به أنه العدول في الحكم عن دليل إلى دليل هو أقوى منه، فهذا مما لا ننكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1002 المبحث الخامس في الدليل الخامس - من الأدلة المختلف فيها - وهو: المصلحة المرسلة تعريفها: المصلحة لغة بمعنى: الصلاح، كالمنفعة بمعنى: النفع. المصلحة اصطلاحا: هي المنفعة التي قصدها الشارع الحكيم لعباده من حفظ دينهم، ونفوسهم، وعقولهم، وأموالهم، ونسلهم، فكل ما يضمن هذه الأصول الخمسة فهو مصلحة، وكل ما يفوت هذه الأصول أو أحدها فهو مفسدة، ودفعها مصلحة. والمنفعة تحصيلا أو إبقاء: فالمراد بالتحصيل: جلب اللذة مباشرة، والمراد بالإبقاء: الحفاظ عليها بدفع المضرة، وأسبابها. والمراد بالمرسلة: هي المطلقة، وهي التي لم يقيدها الشارع باعتبار ولا بإلغاء، أي: لم يرد دليل من أدلة الشرع يشهد بإبطالها، ولم يرد دليل من أدلة الشرع يعتبرها. فيكون تعريف المصلحة المرسلة هو: كل منفعة داخلة في مقاصد الشارع الخمسة السابقة الذكر، دون أن يكون لها شاهد بالاعتبار أو الإلغاء. وبيانه: أن المصالح المرسلة هي التي لم يقم دليل من الشارع على اعتبارها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1003 ولا على إلغائها، فإذا حدثت حادثة لم نجد حكمها في نص، ولا في إجماع، ولا في قياس، ووجدنا فيها أمرا مناسبا لتشريع الحكم، أي: أن تشريع الحكم فيها من شأنه أن يدفع ضررا، أو يحقق نفعا، فهذا الأمر المناسب في هذه الحادثة يسمى المصلحة المرسلة. *** تقسيمات المصالح: التقسيم الأول: تنقسم المصالح باعتبار أهميتها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: الضروريات، وهي المصالح التي لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا، وصيانة مقاصد الشريعة، بحيث إذا فقدت أو فقد بعضها، فإن الحياة تختل أو تفسد، وللمحافظة على المصالح الضرورية شرع اللَّه حفظ الدين، والنفس، والعقل، والنسب، والمال. فشرع لحفظ الدين: قتل الكافر المضل عن هذا الدين، وقتل المرتد الداع إلى ردته، وعقوبة المبتدع الداعي إلى بدعته، وشرع الجهاد. وشرع لحفظ النفس: عقوبة القصاص، وعقوبة الدية، ووجوب الأكل والشرب عند الضرورة ولو كان صائما، كذلك: شرع اللبس والمسكن، مما يتوقف عليه بقاء الحياة وصون الأبدان من التلف، أو أي ضرر. وشرع لحفظ العقل: عقوبة شرب الخمر، ووجوب الأكل والشرب الذين يتوقف عليهما بقاء العقل وسلامة فهمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1004 وشرع لحفظ النسل والأنساب: عقوبة الزنا، وأحكام الحضانة، والنفقات.. وشرع لحفظ المال: عقوبة السرقة، والقواعد المنظمة للمعاملات المختلفة بين الناس لصيانة الحقوق. ولا يمكن - بأي حال - تفويت هذه الأصول الخمسة، فلا بد إذن من مراعاتها؛ لكون كل واحد منها يعتبر ركنا من الأركان التي لا تقوم الحياة البشرية إلا بها. القسم الثاني: الحاجيات، وهي: المصالح والأعمال والتصرفات التي لا تتوقف عليها الحياة واستمرارها، بل إذا تركناها لا تختل ولا تفسد الحياة الإنسانية، فالحياة تتحقق بدون تلك الحاجيات، ولكن مع الضيق. فهي أعمال وتصرفات شرعت لحاجة الناس إلى التوسعة، ورفع الضيق المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة. مثل: التوسع في بعض المعاملات كالسلم، والمساقاة، والقصر في السفر، والرخص المناطة في المرض، هذه الأمثلة في الأمور العامة. ومثال ذلك في الأمور الخاصة: تسليط الشارع الأب في تزويج البنت الصغيرة من الكفء، فإن هذا لا ضرورة إليه؛ حيث إنه يمكن - استمرار الحياة بدون ذلك، ولكنه محتاج إليه في اقتناء المصالح لتحصيل هذا الكفء خوفا من فواته؛ لأنه يحصل بحصوله نفع في المستقبل والماَل، ويحصل بفواته بعض الضرر. القسم الثالث: التحسينيات، وهي: المصالح والأعمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1005 والتصرفات التي لا تتوقف الحياة عليها، ولا تفسد ولا تختل، فالحياة تتحقق بدون تلك التحسينيات، وبدون أي ضيق فيها، فهي من قبيل التزيين والتجمل والتيسير، ورعاية أحسن المناهج وأحسن الطرق للحياة، فتكون من قبيل استكمال ما يليق، والتنزه عما لا يليق من المدنسات التي تألفها العقول الراجحة. ومن أمثلة ذلك: المنع من بيع الماء والكلأ، والمنع من بيع النجاسات، والابتعاد عن الإسراف والتقتير، ومجانبة ما استخبث من الطعام، وآداب الأكل والشرب، هذه أمثلته العامة. ومن أمثلة ذلك في الأمور الخاصة: اشتراط الشارع للولي في النكاح؛ صيانة للمرأة عن مباشرة عقد النكاح بنفسها؛ لأن المرأة لو باشرت عقد نكاحها: لكان ذلك مشعراً بتوقانها إلى الرجال، وحبها لهم، ومشعراً - أيضا - بقلة حيائها، وأنه لا مروءة لها، وهذا يقلل من قيمتها عند الخاطب، ونظراً لذلك فقد مُنعت المرأة من عقد نكاحها بنفسها، وفوض ذلك إلى الولي؛ تزيينا للمرأة وتحسينا في نظر الخاطب، وحملاً للخلق على أحسن المناهج، وأجمل السير. ويمكن أن يكون ذلك مثالا للحاجيات - أيضا - إذا قلنا: إن اشتراط الولي في النكاح كان لعلة أخرى وهي: أن رأي المرأة قاصر في اختيار وانتقاء الأزواج، وأنها تغتر بالمظاهر، ونظراً لذلك مُنعت من مباشرة ذلك بنفسها، وفوض ذلك إلى الولي؛ لأن الولي أعلم بمعادن الرجال منها - ويستطيع - في الغالب - معرفة الصالح من غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1006 بيان أنه لا يجوز للمجتهد التمسك بالمصالح الحاجية والتحسينية إلا بدليل شرعي: هذا بالإجماع؛ لأنه لو جاز التمسك بالمصلحة الحاجية أو التحسينية بدون دليل أو أصل شرعي: للزم من ذلك أمور باطلة، وهي كما يلي: الأمر الأول: أنه يلزم وضع الشرع بالرأي المجرد، وهذا باطل. الأمر الثاني: أنه لا يحتاج إلى بعثة الرُّسُل والأنبياء ليعلموا الناس شرع ربهم، ولكان الخلق يشرعون ما يريدون بعقولهم، فما يحسنه العقل أثبتوه، وما قبحه العقل اجتنبوه، وهذا ظاهر البطلان؛ لأن العقل لا مدخل له في الشرعيات. الأمر الثالث: أنه يلزم من ذلك: عدم الفرق بين المجتهد والعامي، وأن كل واحد منهما يساوي الآخر؛ لأن كل واحد منهما يعرف مصلحة نفسه فيما يقع موقع الحاجة والتحسين، وهذا باطل. التقسيم الثاني: تنقسم المصالح من حيث اعتبار الشارع لها وعدم ذلك إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: المصالح المعتبرة، وهي المصالح التي اعتبرها الشارع وأثبتها وشهد بذلك، وأقام دليلاً على رعايتها، فهذه المصالح حُجَّة لا إشكال في صحتها، ويرجع حاصلها إلي القياس، فإن الشارع إذا نص على حكم في واقعة معينة، واستنبط المجتهد العلَّة التي شرع الحكم لأجلها؛ لأن الأحكام الشرعية مصلحية، أي: أن اللَّه لا يشرع حكما إلا وفيه جلب مصلحة للعباد، أو دفع مضرة عنهم، فإنا إذا وجدنا واقعة أخرى وجدت فيها تلك العلَّة، فإنا نلحقها بالحكم الوارد في الواقعة الأولى؛ لأن المصلحة واحدة. فمثلاً قال - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1007 فهنا: منع القاضي من القضاء في حالة الغضب، والعلَّة هي: اشتغال قلبه عن الفكر، والنظر في أدلة الخصمين، وتغيرَ طبعه عن السكون والتلبث والاجتهاد، فيقاس على ذلك: كل ما يشغله عن النظر في الدليل والحكم، وكل ما يغير طبعه مثل: كونه جائعا، أو حاقنا، أو خائفا. وهذا كله فيه مصلحة واضحة للخصمين. والمصلحة المقصودة بهذا القياس تسمى: المصلحة المعتبرة من الشارع. القسم الثاني: المصالح الملغاة، وهي المصالح التي شهد الشارع بردها وإلغائها، وعدم اعتبارها. فلو نص الشارع على حكم في واقعة لمصلحة استأثر بعلمها، وبدا لبعض الناس حكم فيها مغاير لحكم الشارع لمصلحة توهمها هذا البعض، فتخيل أن ربط الحكم بذلك يحقق نفعا، أو يدفع ضرراً، فإن هذا الحكم مردود على من توهمه؛ لأن هذه المصلحة التي توهمها قد ألغاها الشارع، ولم يلتفت إليها. مثال ذلك: أن الملك عبد الرحمن بن الحكم قد جامع جارية في نهار رمضان، وكرر ذلك في عدد من الأيام، وكان يكرر الإعتاق - تمشيا مع نص حديث الأعرابي - ولكن جاء الفقيه: يحيى بن يحى الليثي المالكي، فأفتى بأن عليه صوم ستين يوما كفارة، وعلل ذلك بأن الكفارة قد وضعت للزجر والردع، فلو أوجبنا على هذا الملك العتق لسهل عليه الجماع في نهار رمضان مرة بعد أخرى - كما حصل منه - لذلك نوجب عليه الصيام زجراً له، وظن أن في ذلك مصلحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1008 لكن هذه المصلحة ملغاة؛ لأنها معارضة للنص الشرعي، وهو حديث الأعرابي؛ حيث إن الكفارة مرتبة على حسب الاستطاعة: فيجب عليه أولاً العتق، فإن لم يستطع فعليه صيام ستين يوماً، فإن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا. القسم الثالث: المصالح المرسلة، وهي المطلقة التي لم يقيدها الشارع باعتبار، ولا بإلغاء، وهذا القسم هو المراد بالمصلحة المرسلة اصطلاحا، وقد عرفنا ذلك. حجية المصلحة المرسلة: لقد بيَّنا أن المصلحة التي شهد لها الشرع بالاعتبار حُجَّة بالاتفاق؛ وأن المصلحة التي شهد لها الشرع بالإلغاء ليست بحُجَّة بالاتفاق، وأن المصلحة الحاجية والتحسينية لا يمكن أن يتمسك بها في إثبات حكم إلا إذا كانت مستندة إلى دليل وأصل شرعي من الأصول المعتبرة وهذا بالإجماع أيضا. أما ما عدا ذلك وهي: المصلحة التي يراها المجتهد، ولم يرد دليل من أدلة الشرع يشهد لها، ولا دليل منه يلغيها، فهذه التي اختلف العلماء هل هي حُجَّة أو لا: على مذاهب: المذهب الأول: أن المصلحة المرسلة حُجَّة بشروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن تكون المصلحة المرسلة ضرورية، وهو: ما يكون من الضروريات الخمس التي يجزم بحصول المنفعة منها. الشرط الثاني: أن تكون المصلحة كلية عامة حتى تعم الفائدة جميع المسلمين. الشرط الثالث: أن تلاءم تلك المصلحة مقاصد الشرع في الجملة، فلا تكون غريبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1009 الشرط الرابع: أن تكون المصلحة المرسلة قطعية، أي: يقطع بوجودها، ولم يختلف في ذلك. وهو مذهب كثير من الأصوليين، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: الاستقراء والتتبع، بيان ذلك: أنا لما تتبعنا واستقرأنا النصوص من الكتاب والسُّنَّة، وقرائن الأحوال، والقواعد الشرعية المجمع عليها وجدنا الأدلة العديدة المتضافرة على أن الشريعة الإسلامية قد راعت مصالح العباد؛ حيث إنها قائمة على أساس توفير السعادة لهم. فالأخذ بالمصالح المرسلة - بالشروط السابقة - هو الذي يتفق مع روح الشريعة الإسلامية التي جاءت برعاية مصالح العباد، فطلبت منهم - أو أباحت لهم - كل ما يجلب لهم النفع، وحرمت عليهم - أو كرهت لهم - كل ما يجلب لهم مفسدة، أو ضرراً. الدليل الثاني: أنه لو لم نجعل المصلحة المرسلة دليلاً من الأدلة للزم من ذلك خلو كثير من الحوادث بلا أحكام، وذلك لقلة الأصول المعتمدة وندرتها، وكثرة الحوادث، فقد يطرأ للأمة اللاحقة طوارئ لم تطرأ للأُمَّة السابقة، وكذلك قد يؤدي تغير أخلاق الناس وأحوالهم إلى أن يصير مفسدة ما كان مصلحة، وقد يكون مصلحة في مجتمع ما هو مفسدة في مجتمع آخر، فلو لم نجعل المصلحة حُجَّة لضاقت الشريعة عن مصالح الناس، وقصرت عن حاجاتهم، ولم تصلح لمسايرة مختلف المجتمعات والأزمان والأحوال، وهذا خلاف القاعدة الشرعية المعروفة، وهي: أن الإسلام صالح لكل زمان ومكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1010 الدليل الثالث: أن من تتبع الفتاوى الصادرة عن الصحابة واجتهاداتهم علم أنهم كانوا يراعون المصالح، وينظرون إلى المعاني التي علموا أن القصد من الشريعة رعايتها، دون نكير من أحد فكان إجماعا. هذه الأدلة دلَّت على أن المصلحة حُجَّة، فإذا أضفنا إليها تلك الشروط فإنه يترجح اعتبارها على إلغائها، فيكون الاعتبار مظنونا، فيجب العمل به؛ لأن العمل بالظن واجب. المذهب الثاني: أن المصلحة المرسلة حُجَّة مطلقا، وهو مذهب الإمام مالك. أدلة هذا المذهب: هي نفس أدلتتا في المذهب الأول، ولكن بدون إضافة تلك الشروط. جوابه: إنه لا يمكن الأخذ بالمصلحة المرسلة إلا بتلك الشروط التي ذكرناها في المذهب الأول؛ لأنه بعد الاستقراء والتتبع لفتاوى الصحابة، ومن جاء بعدهم من علماء الأمَّة وجدناهم يستدلون بالمصلحة، وهم قد راعوا تلك الشروط والقيود. وكذلك فإن تلك الأدلة دلَّت على حجية المصلحة المرسلة التي أخذ بها هؤلاء، حيث إنها منضبطة، ولم تدل على حجية المصلحة المرسلة مطلقا؛ لأن هذا يؤدي إلى عدم انضباط من أخذ بها، مما يفتح مجال الأهواء والشهوات، فيقع في الزلل. المذهب الثالث: أن المصلحة المرسلة ليست بحُجَّة مطلقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1011 وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وبعض المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المصالح إما أن تكون معتبرة، وإما أن تكون ملغاة، والمصلحة المرسلة مترددة بينهما، وليس جعلها مع المعتبر بأوْلى من جعلها مع الملغى، فيمتنع الاحتجاج بها حتى يشهد لها شاهد يدل على أنها من قبيل المعتبر. جوابه: أنا لم نجعل المصلحة المرسلة مع المصالح المعتبرة مطلقا، وبدون أدلة، بل جعلناها مع المصالح المعتبرة وأنه يحتج بها بأدلة وبشروط قد رجحت اعتبارها على إلغائها، فيكون الاعتبار مظنونا، والعمل بالظن واجب. الدليل الثاني: أنا لم نعلم أن الشارع قد حافظ على تحصيل المصلحة بأبلغ الطرق، فلم تشرع المثلة في القاتل عمداً وعدوانا مع أن المصلحة تقتضيها؛ لأنها أبلغ في الزجر عن القتل ولم يشرع القتل في السرقة، وشرب الخمر والقذف مع أن المصلحة تقتضيه؛ لأنه أبلغ في الزجر عن العود لمثله. فلو كانت المصلحة حجَّة لحافظ الشرع على تحصيلها بأبلغ الطرق، ولكن لم يفعل شيئاً من ذلك، فلا تكون حجَّة. جوابه: إن المصلحة حُجَّة بالشروط والقيود السابقة الذكر في مذهبنا الأول، وما ذكرتم من الأمثلة وما بينتم فيها أن الشارع لم يحافظ عليها مع أنها أبلغ هذا لا يدخل في المصلحة المرسلة، بل إن كل ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1012 قلتم هو من المصالح الملغاة؛ حيث إنه قد نص على تلك الحدود، ولا اجتهاد مع النص، أما لو لم ينص على شيء: فإن المصلحة تدخله ألا ترى أنه إذا رأى الحاكم أن يعزِّر بالقتل، فإنه يجوز له إذا رأى المصلحة في ذلك. الدليل الثالث: أن الحكم الشرعي هو: المستند إلى دليل، أو أي أصل شرعي كالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، والقياس، ونحو ذلك، فلو أثبت المجتهد حكما مستنداً إلى مصلحة بدون دليل شرعي: كان حكما بالعقل المجرد، ووضعا للشرع بالرأي والتشهي، وهذا ظاهر البطلان. جوابه: أنا قلنا بأن المصلحة المرسلة حُجَّة بسبب: أن هناك أدلة قد دلَّت على ذلك بصراحة، وقد ذكرناها، وتلك الأدلة وهي: استقراء النصوص الشرعية، واستقراء فتاوى الصحابة وعلماء الأُمَّة، وكون أننا لو لم نحتج بالمصلحة لخلت كثير من الحوادث بلا أحكام. وهذه الأدلة شرعية قد أثبتنا عن طريقها كثيراً من القواعد الأصولية كحجية القياس، ونجبر الواحد، وصيغ العموم، ونحو ذلك، فلو كانت تلك الأدلة لا تصلح لإثبات المصلحة والاحتجاج بها للزم أنها لا تصلح لإثبات أي قاعدة أصولية، وهذا باطل. ثم إننا قد اشترطنا للعمل بالمصلحة شروطا تبين أن حكمنا بالمصلحة ليس حكمل بالعقل المجرد، ولا وضعا للشرع بالتشهي والرأي، بل هو حكم بالشرع، ولا يخرج عن الشرع بأي حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1013 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة خلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول والثاني جعلوا المصلحة المرسلة من أدلتهم المعتبرة إلا أن أصحاب المذهب الثاني قد توسعوا في الاستدلال بها بخلاف أصحاب المذهب الأول، فقد ضيقوا فيها على حسب تلك الشروط والقيود - وهو ما رجحناه. أما أصحاب المذهب الثالث فلم يجعلوا المصلحة المرسلة من أدلتهم. وقد تأثر بذلك بعض الفروع الفقهية. فمثلاً: استدل المحتجون بها على قتل الجماعة بالواحد؛ حيث قالوا: إنه لو سقط القصاص بالاشتراك لأدى إلى اتساع القتل به، فيؤدي إلى إسقاط حكمة الردع والزجر، فاقتضت المصلحة قتلهم به. أما من لم يأخذ بالمصلحة فلم يرى ذلك، بل قال: لا تقتل الجمامحة بالواحد مستدلأ بقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) حيث إنها دلَّت على أنه لا يؤخذ بالنفس أكثر من نفس واحدة. كذلك استدل بالمصلحة الإمام مالك على أن المرأة البكر لا تغرب إذا زنت؛ لأن المرأة تحتاج إلى حفظ وصيانة، فإذا غربت بغير محرم: كان ذلك إغراء لها بالفجور، وتضييع لها، وذلك ينافي قصد الشارع من وجوب الحد؛ لأنه ما شرع إلا زجراً عن الزنا -. وإن غربت المرأة بمحرم أدى ذلك إلى عقاب من لم يجرم ومن لا ذنب له، وإن كلفت أجرته، ففي ذلك زيادة على عقوبتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1014 أما بعض العلماء، فلم يأخذ بالمصلحة هنا، وأوجب التغريب على المرأة كغيرها مستدلاً بعموم حديث عبادة: " البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ". تنبيه: الحق: أنه بعد تتبع واستقراء وتفقد كتب الفقه على المذاهب الأربعة، فإنه ثبت أن جميع العلماء يستدلون بالمصالح المرسلة، ولكن تختلف هذه المذاهب في التوسع والتضييق في الأخذ بها، فبعضهم اشترط للأخذ بها شروطا كما هو في المذهب الأول الذي قلناه، وبعضهم استدل بها مطلقا كما هو في المذهب الثاني، قال القرافي - رحمه اللَّه -: " أما المصلحة المرسلة فالمنقول أنها خاصة بنا، وإذا تفقدت وجدتهم إذا قاسوا وجمعوا، وفرقوا بين المسألتين لا يطلبون شاهداً بالاعتبار لذلك المعنى الذي به جمعوا وفرقوا، بل يكتفون بمطلق المناسبة، وهذا هو المصلحة المرسلة، فهي إذن في جميع المذاهب ". وقال ابن دقيق العيد: " إنه لا يخلو أي مذهب من اعتباره في الجملة، ولكن الإمام مالك قد توسع في الأخذ بها، ويليه الإمام أحمد". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1015 المبحث السادس في الدليل السادس - من الأدلة المختلف فيها - سد الذرائع تعريفه: الذرائع: جمع ذريعة، وهي لغة: كل ما يتخذ وسيلة وطريقاً إلى شيء غيره، وسدها: منعها، وحسم مادتها. وهي في الاصطلاح: كل وسيلة مباحة قصد التوصل بها إلى المفسدة أو لم يقصد التوصل إلى المفسدة، لكنها مفضية إليها غالباً، ومفسدتها أرجح من مصلحتها. فسد الذرائع هو: حسم مادة وسائل الفساد بمنع هذه الوسائل ودفعها. أو تقول هي: التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة. حجية سد الذرائع: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن سد الذرائع حُجَّة يعمل به، ويستدل به على إثبات بعض الأحكام الشرعية. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد حرم سب الأصنام التي يعبدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1016 المشركون - مع كون السب حمية لله، وإهانة لأصنامهم - لكون ذلك السب ذريعة إلى أن يسبوا اللَّه - تعالى -، وكانت مصلحة ترك مسبته تعالى أرجح من مصلحة سبنا لأصنامهم، فلذلك أمرنا بترك يسب أصنامهم؛ لأنه يؤدي إلى سب اللَّه تعالى: وهذا هو سد الذرائع. الدليل الثاني: أنه أشير على - صلى الله عليه وسلم - بقتل من ظهر نفاقه فقال: " أخاف أن يقول الناس: إن محمداً يقتل أصحابه "، فلم يرغب النبي - صلى الله عليه وسلم - في قتل المنافقين مع قيام الداعي لذلك، وذلك سداً للذرائع؛ حيث إنه سيقال: إن محمداً بدأ يقتل أصحابه، فيوجب ذلك النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، وممن لم يدخل فيه، ومفسدة التنفير أعظم من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل. الدليل الثالث: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم -؛ حيث إنه ثبت في وقائع أنهم استدلوا بسد الذرائع، من ذلك: أن عمر بن الخطاب نهى عن الصلاة تحت شجرة بيعة الرضوان، ثم قطعها سداً للذرائع؛ حتى لا يعود الناس إلى أعمال الجاهلية. وأن بعض الصحابة كعمر، وعليّ، وابن عباس أفتوا بقتل الجماعة بالواحد، وإنما فعلوا ذلك لئلا يكون عدم القصاص منهم ذريعة إلى التعاون على سفك الدماء، كل ذلك فعلوه من غير نكير، فكان إجماعا. المذهب الثاني: أن سد الذرائع ليس بحُجَّة. وهو لبعض الشافعية وبعض المتكلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1017 دليل هذا المذهب: أن الأدلة قد حُصرت في حديث معاذ وهي: الكتاب، والسُنَّة، والإجماع المبني عليهما، والاجتهاد، ولا يصح من الاجتهاد إلا القياس الذي يتضمن المصلحة، وهو مقاس على ما ثبت بالأصول الثلاثة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، أما سد الذرائع فلم يكن مع تلك الأدلة، إذن لا يحتج به. جوابه: إن الأخذ بسد الذرائع راجع إلى الأخذ بالمصلحة المرسلة - يؤيد ذلك تعريفنا لسد الذرائع - والمصلحة المرسلة التي أخذنا بها هي المصلحة الملائمة في الجملة لمقاصد الشارع - ولا تخرج عنها كما قلنا في شروطها - هناك -، وإذا كان سد الذرائع لا تخرج عن مراعاة المصلحة، والمصلحة حُجَّة، فإنه يجوز الأخذ بسد الذرائع. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه انبنى على الخلاف في اعتبار الذرائع والقول بسدها، وعدم اعتبارها، وعلى التوسع بالأخذ بها، والتضييق في اعتبارها خلاف بين الفقهاء في كثير من الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أن الإمام مالك قد استدل بسد الذرائع على أن الشخص لو مات وعليه زكاة لم يؤدها ولم يوص بإخراجها من الثلث، فإنه لا يلزم الورثة إخراجها عنه من تركته، لأنه لو ألزمنا الورثة بذلك لأدى ذلك بأن يترك الإنسان أداء زكاة ماله طول عمره اعتماداً على أن الورثة سيخرجونها بعد موته، وربما يتخذ ذلك ذريعة للإضرار بهم. وخالف في ذلك الإمام أحمد والشافعي، حيث ذهبا إلى أنه يلزم الورثة إخراجها وإن لم يوص المورث بذلك؛ قياسا على دَين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1018 الآدميين؛ حيث إن الزكاة حق مالي واجب، فلا تسقط بموت من هو عليه كالدَّين ولا فرق، ولم يأخذ بسد الذرائع؛ لأن القياس أقوى منه. 2 - أنه لو اشترك جماعة في الصيد، فإن الإمام مالك قال: إنه يجب على كل واحد منهم جزاء كامل، واستدل بسد الذرائع، حيث إنه إذا سقط جزاء جملة، ووجب جزاء واحد: كانت العقوبة سهلة، واتخذ ذلك ذريعة إلى قتل المحرم من الصيد؛ إذ يلجأ كل من أراد ذلك وهو محرم إلى الاشتراك مع غيره؛ لتخفيف الجزاء عن نفسه. أما الإمام الشافعي وأحمد فقد ذهبا إلى أنه يجب جزاء واحد على الجميع مستدلين بقوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، فأوجب اللَّه المثل، والجماعة قتلت صيداً واحداً، فيلزمهم مثله، والزائد خارج عنه، فلا يجب، وهو - أيضا - مروي عن بعض الصحابة، فهذا الاستدلال هو مفهوم الآية، وعمل بعض الصحابة أقوى من الأخذ بسد الذرائع. 3 - أنه لو تزوج المريض مرض الموت، فإن النكاح غير صحيح عند الإمام مالك، واستدل بسد الذرائع، لأنه يتهم بقصد الإضرار بالورثة بإدخال وارث جديد فيمنع منه، حتى لا يتخذ ذريعة للتشفي من الورثة، وإدخال الضرر عليهم. أما الإمام أبو حنيفة، والشافعي، وأحمد، فإنهم ذهبوا إلى أن النكاح صحيح، إلا أنه يكون بمهر المثل فيما إذا أصدقها أكثر من مهر المثل، واحتج هؤلاء بالقياس، حيث قاسوا النكاح على البيع والشراء، فكما أن بيعه وشراءه صحيح، فكذلك نكاحه، وقوى بعضهم ذلك بفعل بعض الصحابة، فهذا أقوى من سد الذرائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1019 المبحث السابع في الدليل السابع - من الأدلة المختلف فيها - وهو: العرف تعريفه: العرف في اللغة: بمعنى المعرفة، وهو ضد النكرة، وهو: كل ما تعرفه النفس من الخير وتطمئن إليه. والعرف في الاصطلاح: ما يتعارفه أكثر الناس، ويجري بينهم من وسائل التعبير، وأساليب الخطاب والكلام، وما يتواضعون عليه من الأعمال، ويعتادونه من شؤون المعاملات مما لم يوجد في نفيه، ولا إثباته دليل شرعي. *** تقسيمات العرف: ينقسم العرف إلى عدة تقسيمات باعتبارات مختلفة من أهمها ما يلي: التقسيم الأول: ينقسم العرف باعتبار من يصدر منه إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: العرف العام، وهو: ما تعارف عليه أكثر الناس في جميع البلدان مثل عقد الاستصناع في أحذية وألبسة، ونحو ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1020 القسم الثاني: العرف الخاص، وهو: ما تعارف عليه أكثر الناس في بعض البلدان مثل: إطلاق لفظ الدابة على الفرس عند أهل العراق، بينما ذلك يختلف في مصر. القسم الثالث: العرف الشرعي، وهو: اللفظ الذي استعمله الشارع مريداً منه معنى خاصا، مثل " الصلاة "، فإنها في الأصل: الدعاء، ولكن الشارع أراد بها شيئاً مخصوصا. التقسيم الثاني: ينقسم العرف باعتبار سببه ومتعلقه إلى قسمين: القسم الأول: العرف القولي وهو اللفظي، وهو: أن يتعارف أكثر الناس على إطلاق لفظ على معنى ليس موضوعا له بحيث يتبادر إلى الذهن عند سماعه من غير قرينة، ولا علاقة عقلية، مثل لفظ "الدابة "، فإنه في اللغة يطلق على كل ما يدب على الأرض، وقد خصصه بعضهم بالفرس، وبعضهم بالحمار. القسم الثاني: العرف الفعلي، وهو: ما كان موضوعه بعض الأعمال التي اعتادها الناس في أفعالهم العادية، أو معاملاتهم، مثل: بيع المعاطاة - وهو: أن يقول: أعطني بهذا الدينار خبزاً فيعطيه ما يرضيه، فهذا بيع صحيح ثبت عن طريق العرف. حجية العرف: لقد اختلف في العرف على مذهبين: المذهب الأول: أن العرف حُجَّة، ودليل شرعي تثبت عن طريقه الأحكام الشرعية. ذهب إلى ذلك كثير من العلماء. وهو الحق، ولكن ليس على إطلاقه، بل هو حُجَّة بشروط هي كما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1021 الشرط الأول: أن يكون العرف عاما أو غالبا. الشرط الثاني: أن يكون العرف مطرداً أو أكثريا. الشرط الثالث: أن يكون العرف موجوداً عند إنشاء التصرف. الشرط الرابع: أن يكون العرف ملزما، أي: يتحتم العمل بمقتضاه في نظر الناس. الشرط الخامس: أن لا يعارضه تصريح بخلافه. الشرط السادس: أن لا يخالف العرف دليلاً شرعيا معتمداً. فإن توفرت هذه الشروط في العرف كان حُجَّة، أما إن تخلفت أو تخلف واحد منها فلا يكون حُجَّة. وقلنا: إنه حُجَّة للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه بعد الاستقراء والتتبع لأحكام اللَّه عَزَّ وجَلَّ وجدنا أنه سبحانه قد اعتبر العادات - التي هي وقوع المسببات عن أسبابها العادية - ورتب عليها أحكاما شرعية، فشرع القصاص والنكاح والتجارة؛ لأنها أسباب للانكفاف عن القتل، وبقاء النسل، ونماء المال عادة وعرفا. الدليل الثاني: أن ورود التكاليف بميزان واحد في الخلق يدل على أن الشارع اعتبر العادات والأعراف المطردة فيهم، ولو لم يعتبرها لما كان هناك مانع من اختلاف التشريع، واختلاف الخطاب. المذهب الثاني: أن العرف ليس بحُجَّة، ولا يصلح أن يكون دليلاً تُبنى عليه الأحكام، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: هو نفس دليل القائلين: إن سد الذرائع ليس بحُجَّة، وهو أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1022 العرف ليس من الأدلة المعتمدة في حديث معاذ، فلا يكون دليلاً شرعا. جوابه: إن العرف راجع إلى الاستحسان الذي سبق حيث قلنا: إن جميع الأئمة قد أخذوا به على التعريف الأول الذي ذكرناه هناك، وهو: العدول بحكم المسألة عن نظائرها" لدليل خاص، وقلنا: إن من أنواعه: الاستحسان بالعرف والعادة، فإذا قلنا: إن الاستحسان حُجة فينبغي أن نقول: إن العرف حُجَّة ولا فرق بين الموضعين. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إن اعتبار العرف دليلاً شرعيا كان له أثره في بعض المسائل الفقهية، ومنها: 1 - أن بيع المعاطاة - وهو: دفع ثمن المبيع للبائع وأخذ المبيع عن تراض بينهما، دون أن يتلفظ أحدهما بشيء - جائز عند أكثر العلماء، ودليلهم: العرف؛ لأن البيع قد ورد الشرع بحله مطلقا، ولم يشترط فيه شيء من الألفاظ، ولم يبين كيفيته، فيرجع ذلك إلى العرف. وخالف في ذلك الكثير من الشافعية، وقالوا: لا يجوز بيع المعاطاة؛ لأن الشارع شرط الرضى لصحة البيع، وهو أمر خفي لا يعرف إلا بالإيجاب والقبول. 2 - أن الأجير الصانع لعمل ما يستحق أجرة المثل وإن لم تذكر الأجرة عند العقد إذا كان منتصبا للعمل، هذا عند الإمام أحمد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1023 وأبي حنيفة مستدلين بالعرف؛ لأن العرف الجاري في هذا يقوم مقام القول عملاً بالقاعدة: " المعروف عرفا كالمشروط شرطا ". بينما خالف بعض العلماء في ذلك وقالوا: لا يستحق الأجير شيئا إذا لم تذكر الأجرة عند العقد، ويعتبر متبرعا؛ لأن صاحب الثوب مثلاً لم يلتزم للصانع عوضا باللفظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1024 المبحث الثامن في الدليل الثامن - من الأدلة المختلف فيها - - الاستقراء - تعريفه: الاستقراء في اللغة: مأخوذ من قولهم: " قرأت الشيء قرآنا " أي: جمعته وضممت بعضه إلى بعض، وهو يرجع إلى التتبع، يقال: " استقرأت الأشياء " إذا تتبعت أفرادها. تعريفه في الاصطلاح: وهو في الاصطلاح: تصفح وتتبع الجزئيات ليحكم بحكمها على كلي يشملها. أو تقول هو: الاستدلال بثبوت الحكم في الجزئيات على ثبوته في الأمر الكلي الجامع لتلك الجزلْيات. هذا عند المناطقة. أما الأصوليون فيعرفونه بأنه: تتبع الحكم في جزئياته على حالة يغلب على الظن أنه في صورة النزاع على تلك الحالة. * * * أنواعه: الاستقراء نوعان: النوع الأول: استقراء تام، وهو: ثبوت الحكم في كلية بواسطة إثباته بالتتبع والتصفح بجميع الجزئيات ما عدا صورة النزاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1025 النوع الثاني: استقراء ناقص، وهو: ثبوت الحكم في كلية بواسطة إثباته بالتتبع والتصفح لأكثر الجزئيات ما عدا صورة النزاع. حجيته: النوع الأول من نوعي الاستقراء، وهو الاستقراء التام اتفق العلماء على حجيته؛ لكونه يفيد القطع؛ حيث إنه ثبت عن طريق استقراء جميع الجزئيات. وأما النوع الثاني - وهو: الاستقراء الناقص - فقد اختلف العلماء في حجيته على مذهبين: المذهب الأول: أنه حُجَّة، أي: أن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن تصفح وتتبع أكثر الجزئيايت مع تماثلها في الأحكام يوجد ظنا غالبا بأن حكم ما بقي من الجزئيات - وهو قليل - كذلك؛ حيث إنه معلوم: أن القليل يلحق بالكثير الغالب والعمل بالظن الغالب واجب، لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " نحن نحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر "، وهذا وإن كان واردأ في صيغة الخبر، لكن المراد به الأمر، فالحديث أثبت أن العبرة بالظاهر، والظاهر هو: أن حكم الباقي الذي لم يتتبع ولم يستقرأ كحكم غيره مما تتبع واستقرئ، وعلى هذا يجب اعتبار الاستقراء حُجَّة عملاً بهذا الظاهر، فكان حجة يجب العمل به. وانما قلنا: إن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا، ولا يفيده قطعا؛ لجواز أن يكون حكم ما لم يستقرأ بخلاف حكم ما استقرئ، فنظراً إلى هذا الاحتمال الضعيف قلنا: إنه يفيد الحكم ظنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1026 المذهب الثاني: أن الاستقراء ليس بحُجَّة، فلا يفيد الحكم قطعا ولا ظنا، وهو مذهب فخر الدين الرازي وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه يجوز اختلاف الجزئيات في الأحكام، واستقراء بعض الجزئيات - وإن كثرت - وترك بعض الجزئيات الآخر يعتبر استقراء جزئي، لا يثبت ذلك الحكم في الباقي المتروك؛ نظرا لجواز أن يكون حكم الأجزاء التي لم تستقرأ مخالفا لما استقرئ، فينتج: أن الحكم على الباقي بواسطة هذا الاستقراء باطل. جوابه: إن هذا الاحتمال الذي ذكرتموه هو الذي جعلنا نقول: إن الاستقراء الناقص يفيد الحكم ظنا؛ إذ لولا هذا لقلنا: إنه يفيده قطعا، فالباقي الذي لم يستقرأ قليل، والذي تم استقراؤه كثير، والقليل النادر ملحق بالغالب الكثير - كما قلنا - فهذا يوجد ظنا عند المجتهد بأن حكم الباقي يماثل حكم ما استقرئ، فنحن نظرنا إليه من هذه الحيثية. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث إنه انبنى على اعتماد الاستقراء وكونه حُجَّة خلاف في بعض الفروع، منها: 1 - أن أكثر مدة النفاس ستون يوما، وهو مذهب الإمام الشافعي وكثير من أصحابه، ودليلهم: الاستقراء؛ حيث إنه قد وجد - بعد الاستقراء والتتبع - أن بعض النساء يرين النفاس هذه المدة، والاعتماد في هذا الباب على الوجود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1027 وخالف في ذلك أبو حنيفة، وأحمد في المشهور عنه، وكثير من أتباعهم، فذهبوا إلى أن أكثر النفاس أربعون يوما، ولم يحتج هؤلاء بالاستقراء، بل احتجوا بما صح عن أم سلمة أنها قالت: "كانت النفساء تجلس على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أربعين يوما وليلة ". 2 - أن أكثر مدة الحمل أربع سنوات، وهو مذهب جمهور العلماء، ودليلهم الاستقراء؛ حيث إنا نرجع فيما لم ينص على حكمه إلى الوجود، وقد وجد الحمل لأربع سنوات كنساء بني عجلان. وخالف في ذلك أبو حنيفة وكثير من أصحابه، حيث ذهبوا إلى أن أكثر مدة الحمل سنتان، وحجتهم قول الصحابي؛ حيث روي عن عائشة قولها: الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين، ولو فلكة مغزل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1028 الباب الرابع في الألفاظ ودلالتها على الأحكام ويشتمل على الفصول التالية: الفصل الأول: في اللغات. الفصل الثاني: في الدلالة، وتقسيم اللفظ. الفصل الثالث: في الاشتقاق. الفصل الرابع: في الاشتراك. الفصل الخامس: في الترادف. الفصل السادس: في التأكيد والتابع. الفصل السابع: في الحقيقة والمجاز. الفصل الثامن: في تعارض ما يخل بالفهم. الفصل التاسع: في النص، والظاهر، والمجمل، وما يتعلق بها. الفصل العاشر: في حروف المعاني. الفصل الحادي عشر: في الأمر والنهي. الفصل الثاني عشر: في العموم والخصوص. الفصل الثالث عشر: في المطلق والمقيد. الفصل الرابع عشر: في المنطوق والمفهوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1029 الفصل الأول في اللغات ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في تعريف اللغة، واللفظ، والكلام، والنطق، والقول، وسبب وضع اللغات. المبحث الثاني: دلالة اللفظ على معناه هل هي بالوضع، أو لمناسبة طبيعية بين اللفظ والمعنى؟ المبحث الثالث: في مبدأ اللغات، أي: اللغات هل هي توقيفية أو اصطلاحية؟ المبحث الرابع: هل يجري القياس في اللغة؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1031 المبحث الأول في تعريف اللغات، واللفظ، والكلام، والنطق والقول، وسبب وضع اللغات أولاً: تعريف اللغات: اللغات جمع لغة، واللغة أصلها لغوة على وزن فعله، من لغوت إذا تكلمت. وهي: اسم لضرب مخصوص من ترتيب الحروف الدالة على المعاني بحكم الوضع. وإنما شرطنا كونها حروفا ودلالتها بحكم الوضع؛ لأن هناك أمورا تدل على شيء ولا يسمى ذلك لغة؛ نظراً لعدم وجود الحروف فيها كالضحك، فإنه يدل على الفرح، والبكاء يدل على الحزن، وصياح الديك يدل الدجاجة على استدعائها لالتقاط الحب، وكل ذلك لا يُسمَّى لغة. واللغة العربية تختلف عن بقية اللغات من الإنجليزية، والهندية، والتركية باختلاف ترتيب تلك الحروف؛ حيث إن أهل كل لغة رتبوا عين هذه الحروف، لكن ترتيبا مخالفا للآخر، وتركيبا مباينا لتركيب الآخر. ثانيا: تعريف الكلام: الكلام مأخوذ من الكلم، وهو: الجرح الذي يؤثر في نفس المجروح، ومن كلم غيره فقد أثر في قلبه بتفهيم غرضه ومقصده، فيسمى ذلك كلاما. ثالثاً: تعريف اللفظ: اللفظ، أصله: الرمي لغة، يقال: " لفظت الناقة " إذا رمت ما في فمها، فالواحد منا إذا تكلم فكأنه يرمي، فسمي قوله لفظا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1033 وهو في الاصطلاح: صوت معتمد على بعض مخارج الحروف؛ لأن الصوت كالشيء المرمي به؛ نظراً لخروجه من الفهم، فهو ملفوظ. رابعا: تعريف النطق: النطق: إحكام العبارة، سُمِّيت " المنطَقَة "، و "المنطَق "، و"النِّطاق " بذلك؛ لأنه حزام يشد به الرجل وسطه ويحكمه. خامسا: تعريف القول: القول لغة: مجرد النطق، وهو في الاصطلاح: لفظ وضع لمعنى ذهني. وهو أخص من اللفظ؛ لأن اللفظ يشمل اللفظ المهمل، واللفظ المستعمل فالقول لما عرفناه بأنه وضع لمعنى أخرج المهمل؛ لأنه لا معنى له. سادسا: سبب وضع اللغات: لما خلق اللَّه عَزَّ وجَل الإنسان الواحد، فإنه غير مستقل بمصالح معاشه، فيحتاج إلى مشاركة شخص آخر من نوعه يجري بينهما تعارف وتعاون على جلب غذاء، ولباس، ومسكن، وصناعة، ولا يمكن هذا من غير تفاهم بينهما، فاحتاجا إلى لغة يتفاهمان عليها، ويعرف كل واحد منهما غرض الآخر بواسطة هذه اللغة، فكان لا بد من لغة ولفظ. وقلنا ذلك؛ لأن اللفظ أفيد شيء من الأمور التي قد يتفاهم بها بعضهم كالمثال والإشارة، ذلك لعموم اللفظ؛ حيث يمكن أن يعبر باللفظ عن الشاهد، والغائب، والموجود، والمعدوم، والمحسوس، والمعقول. أما الإشارة والمثال، فإنه لا يكون فيهما ذلك؛ حيث لا يمكن الإشارة إلى الغائب والمعقول، والمعدوم، وليس لكل شيء مثال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1034 المبحث الثاني في دلالة اللفظ على معناه هل هي بالوضع أو لمناسبة طبيعية بين اللفظ والمعنى؟ لقد اتفق العلماء في أن الالفاظ المتداولة المستعملة في اللغة دالة على معانيها. ولكن اختلفوا في هذه الدلالة - أي: دلالة اللفظ على المعنى - هل هي بالوضع أو لمناسبة بين اللفظ والمعنى؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن دلالة الألفاظ على معانيها بالوضع. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأنا نعلم أنه ليس بين اللفظ ومعناه علاقة طبيعية تقتضي اختصاص ذلك اللفظ بذلك المعنى في الدلالة، ومما يؤيد ذلك: أن اللفظ الواحد قد يطلق على معنيين كل واحد منهما ضد للآخر وقد وقع، فلفظ " الجون " يطلق على الأسود والأبيض، ولفظ (القرء) يطلق على الحيض، والطهر، ولفظ " الجلل " يطلق على الكبير والصغير. ولو كان بين اللفظ ومعناه علاقة طبيعية لما جاز إطلاق اللفظ الواحد على إطلاق كل واحد منهما ضد الآخر؛ لأن اللفظ الواحد لا يكون مناسبا بطبعه لشيء ولضده. المذهب الثاني: أن دلالة اللفظ على معناه؛ لمناسبة طبيعية بين اللفظ ومعناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1035 وهو مذهب عبَّاد بن سليمان الصيمري المعتزلي (ت 250 هـ) . دليل هذا المذهب: أنه لو لم يكن بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية لكان اختصاص اللفظ بالمعنى المخصوص من بين سائر الألفاظ، واختصاص المعنى المخصوص بذلك اللفظ من بين سائر المعاني تخصيصا بلا مخصص. وهذا لا يجوز، لذلك لا بد أن تكون بين اللفظ والمعنى مناسبة طبيعية. جوابه: إن الواضع قد خصص بعض الألفاظ ببعض المعاني والمدلولات؛ نظراً إلى الإرادة المخصصة، فعلى هذا: يكون تخصيص اللفظ بمعناه، أو المعنى بذلك اللفظ بمخصص وهو: الإرادة فلم يصح ما قاله. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إنه لم تتأثر الأحكام الفقهية بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1036 المبحث الثالث في مبدأ اللغات أي: هل اللغات توقيفية أو اصطلاحية؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز أن تكون اللغات كلها توقيفية، ويجوز أن تكون كلها اصطلاحية، ويجوز أن يكون بعض هذه اللغات توقيفي، وبعضها اصطلاحي، فإن جميع ذلك محتمل وممكن. ذهب إلى ذلك القاضيان: أبو بكر الباقلاني، وأبو يعلى، وكثير من أهل التحقيق. وهو الحق عندي؛ لأن الاستدلال على كونها توقيفية، أو اصطلاحية، أو احتمال الأمرين يكون إما عن طريق العقل، أو عن طريق الواقع. أما العقل، فإنه يجوز الأمور الثلاثة؛ حيث إن العقل متصور لجميع هذه الأمور، فهي ممكنة وليست ممتنعة، " بحيث لو فرض وقوعه فإنه لا يلزم عنه محال لذاته، بيان ذلك: أن العقل يجوز كونها توقيفية؛ لأن اللَّه قادر على أن يخلق للناس العلم بهذه الأسماء والألفاظ، ويسمعها بعضهم أو جميعهم، ويخبرهم بأن هذه الأسماء قصدت للدلالة على مسمياتها ومعانيها. والعقل - أيضا - يجوز كونها اصطلاحية، بأن واحداً قد انبعثت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1037 داعيته، أو جماعة انبعثت دواعيهم إلى وضع هذه الألفاظ بإزاء معانيها، ثم حصل تعريف الباقين بالإشارة والتكرار كما يفعل الوالدان بالولد الرضيع. والعقل - أيضا - يجوز كون بعضها توقيفي، وبعضها الآخر اصطلاحي؛ لأنه إذا أمكن كل واحد من القسمين أمكن التركيب منهما جميعاً. أما الواقع عن هذه الأقسام فلا يمكن إلا ببرهان عقلي، أو نقل وسمع قاطع، وهذا باطل؛ لأن العقل لا مجال له في اللغات ليستدل عليها به، ولعدم وجبرد النقل والسمع القاطع. فلم يبق إلا الظن، والظن داخل في جميع الأمور الثلاثة بالمساواة - وهي كونها توقيفية، وكونها اصطلاحية، وبعضها توقيفي وبعضها اصطلاحي - فلا يمكن ترجيح أحدها على الباقي؛ لانه ليس كل واحد منها بأوْلى من الآخر، فلم يحصل الجزم بواحد منها. المذهب الثاني: أن اللغات توقيفية، أي: أن الواضع هو الله عَز وجَل، ووضعه متلقى من جهته إما بالوحي، أو بأن يخلق الله تعالى لواحد، أو لجماعة من الخلق العلم بأن هذه الألفاظ واللغات قصدت للدلالة على المعاني. وهو مذهب أبي الحسن الأشعري، والظاهرية، وأبي بكر بن فورك، وبعض المتكلمين، وبعض الفقهاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) . وجه الدلالة: أن اللغات لو لم تكن توفيفية لكانت مصطلحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1038 ولا ثالث لهما، وإذا كانت اصطلاحية تكون بوضع آدم - عليه السلام - وإذا كان كلذلك لم يحتج إلى تعليم من عند الله، ولكن هذه الآية دلَّت على أن آدم والملائكة لا يعلمون إلا بتعليم اللَّه تعالى، وأن الله قد علمهم جميع الأسماء، ثم تناقلت ذرية آدم تلك الأسماء، فلم يكونوا بحاجة إلى اصطلاح فقد أوقفوا عليها. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الدليل ليس صريحا بأن اللغات توقيفية؛ حيث إنه يتطرق إليه عدة احتمالات: الاحتمال الأول: أن المراد بالتعليم هو الإلهام، فيكون اللَّه قد ألهم آدم الحاجة إلى الوضع، فوضع آدم اللغات بتدبيره وفكره، ونسب ذلك إلى تعليم اللَّه تعالى؛ لأنه الهادي والمرشد والملهم ومحرك الداعية. الاحتمال الثاني: أن المراد أنه علمه الأسماء الموجودة في زمان آدم - عليه السلام - مثل: السماء، والأرض، والجنة، والنار دون الأسامي التي حدثت مسمياتها بعد آدم من الحرف والصناعات والآلات. الجواب الثاني: أن المراد من الأسماء في الآية: سمات الأشياء وخصائصها مثل: أن يقال: إنه تعالى علم آدم أن الخيل تصلح للكر والفر، وأن الجمل للحمل، فإن الاسم مأخوذ من السمة على رأي الكوفيين، أو مأخوذ من السمو على رأي البصريين وعلى التقديرين فكل ما يعرف ماهيته، ويكشف عن حقيقته كان اسما، وأما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1039 تخصيص لفظ الاسم بهذه الألفاظ فهو عرف حادث، وهو عرف النحاة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ) . وجه الدلالة: أن اللَّه قد ذمهم على تسميتهم بعض الأشياء ببعض الأسماء من غير توقيف، فلو لم يكن ما جعل دالا على غيرها من الأسماء توقيفا لما صح الذم. جوابه: أن الذم للاعتقاد، أي: الذم لإطلاقهم لفظ " الإله " على الصنم مع اعتقاد تحقق مسمى الإلهية فيها، ولم يكن الذم لتسميتهم بأسمائها. الدليل الثالث: أنه لو كانت اللغات اصطلاحية لاحتاج في تعليمها إلى اصطلاح آخر ويتسلسل، أي: أن الاصطلاح لا يتم ولا يمكن إلا بواسطة خطابات يخاطب بعضهم بعضا بها، وهذا لا يمكن إلا عن طريق لفظ يعلمه كل واحد من هؤلاء المجتمعين قبل الاجتماع لوضع تلك الاصطلاحات، فلزم من ذلك التسلسل وهو ممتنع. جوابه: لا نسلم أن التعليم منحصر في الاصطلاح والتوقيف، بل التعليم يكون بالترديد والقرائن كتعليم الأبوين الأطفال لغتهما بالترديد والقرائن. المذهب الثالث: أن اللغات اصطلاحية. وهو مذهب أبي هاشم المعتزلي، وبعض المتكلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1040 دليل هذا المذهب: إنه لا يمكن للمخاطب، أو أي أحد من الناس أن يفهم التوقيف الوارد من اللَّه تعالى إلا إذا كان عارفا - من قبل - بلفظ صاحب التوقيف باصطلاح سابق، فيكون الأصل الاصطلاح. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: هو نفس الجواب السابق عن الدليل الثالث من أدلة أصحاب المذهب الثاني. الجواب الثاني: أنه قد يخلق علم ضروري في عاقل بأنه تعالى ألهم العاقل بأن واضعا وضع هذه الألفاظ بإزاء تلك المعاني. بيان نوع الخلاف: لقد اختلف في هذا الخلاف هل هو لفظي أو معنوي؛ على قولين: القول الأول: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له. وهو ما ذهب إليه الغزالي، والأبياري، وابن السبكي تاج الدين، وابن أبي شريف، وغيرهم. وهو الصحيح عندي؛ إذ لا يترتب، على هذا الخلاف معرفة عمل من أعمال الشريعة، وذكرت هذه المسألة في كتب الأصول لأحد أمرين: أولهما: تكميل العلم بهذه الصناعة؛ لأن معظم النظر فيها يتعلق بدلالة الصيغ، أو جواز قلب ما لا تعلق له بالشرع فيها كتسمية الفرس ثوراً، والثور فرسا، ونحو ذلك. - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1041 ثانيهما: أنها تجري مجرى الرياضيات التي يرتاض العلماء بالنظر فيها كمسائل الجبَر، فتكون من رياضيات أصول الفقه، بخلاف مسألة: الأمر للوجوب، أو النهي يقتضي الفساد فهي من ضروراته. القول الثاني: أن الخلاف فيها معنوي له ثمرة وفائدة. ذهب إلى ذلك الماوردي وبعض العلماء. ولكن اختلف أصحاب هذا القول في نوع هذه الفائدة على آراء، إليك ذكرها مع الجواب عنها: الرأي الأول: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أن من قال بالتوقيف جعل التكليف مقارنا لكمال العقل، ومن قال بالاصطلاح أخر التكليف عن العقل مدة الاصطلاح على وضع الألفاظ لمعانيها. جوابه: إن هذا وإن تصوِّر عقلاً إلا أنه لا وقوع له في الفروع، إذ أن الفريقين متفقان في النهاية. الرأي الثاني: أن فائدة البحث في هذه المسألة: النظر في جواز قلب اللغة، فالقائلون بالتوقيف يمنعونه مطلقا، والقائلون بالاصطلاح يجوزونه إلا أن يمنع الشرع منه، ومتى لم يمنع كان للشيء اسمان، أحدهما متوقف عليه، والآخر متواضع عليه. جوابه: إن هذا لا تعلُّق له بالشرع. الرأي الثالث: أن فائدة الخلاف في هذه السألة: أنه يجوز التعلق باللغة لإثبات حكم الشرع من غير رجوع إلى الشرع، وهو ما ذهب إليه أكثر الحنفية وبنو عليه: أن حكم الرهن: الحبس؛ لأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1042 اللفظ ينبئ عنه، أما عند أكثر العلماء، فإنه لا يجوز التعلق باللغة لإثبات الحكم الشرعي، وهو الصحيح عندي؛ لأن الواضعين في الأصل كانوا جهالاً وضعوا عبارات لمعبرات، لا لمناسبات، ثم استعملت وصارت لغة. جوابه: إن هذا لا يمكن تصوره؛ لأن الأحكام الشرعية لا تؤخذ إلا من الشرع فقط، أما اللغة فلا تفيد شيئاً قبل مجيء الشرع. الرأي الرابع: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة أنه يتخرج عليها الخلاف في جريان القياس في اللغات المشتقة الصادرة عن معان معقولة، فمن قال: إن اللغات توقيفية منع جريان القياس في اللغات؛ لأنه إذا كان الأصل لا يعلم إلا بتوقيف، فكذا ما في معناه. جوابه: لا نسلم أن البحث في مسألة " هل يجري القياس في اللغة " متوقف، على مسألتنا هذه؛ لأنه يمكن أن يقال: إن الخمر إنما سميت خمراً لمخامرتها العقول بأي طريق، سواء كان توقيفيا أم اصطلاحيا، فوجدنا الاسم دار مع المخامرة وجوداً وعدما، ثم وجدنا النبيذ كذلك هل يسمى خمراً أو لا؟ الرأي الخامس: أن فائدة الخلاف في هذه المسألة: أنه يتخرج عليه مسائل في الفقه، ومنها: 1 - المسألة المعروفة بمهر السر والعلانية، وهي: ما إذا تزوج الرجل امرأة بألف، وكانا قد اصطلحا على تسمية الألف بالألفين، فهل الواجب ألف وهو ما يقتضيه الاصطلاح اللغوي، أو ألفان؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1043 نظراً إلى ما يقتضيه الوضع الحادث؛ فيه خلاف، هذا الخلاف مبني على الخلاف في مسألتنا هذه. 2 - إذا تبايعا بالدنانير، وسميا ذلك بالدراهم هل يجوز؛ فيه خلاف، وهو مبني على الخلاف في هذه المسألة. جوابه: الحق: أنه لا يتخرج شيء من ذلك على هذه القاعدة كما قال ابن السبكي، والسبب: أن مسألتنا التي نحن بصددها في أن اللغات هذه الواقعة بين أظهرنا هل هي بالاصطلاح أو التوقيف بصورة عامة، لا في شخص خاص اصطلح مع صاحبه على تغيير الشيء عن موضعه كتغيير الألف بالألفين، والدنانير بالدراهم. وهذه الفروع التي ذكرها أصحاب هذا الرأي - وهو الرأي الخامس - تتخرج على قاعدة أخرى وهي: " الاصطلاح الخاص هل يرفع الاصطلاح العام أو لا؟ " فيه خلاف، فالتبس على هؤلاء الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1044 المبحث الرابع في هل يجري القياس في اللغة؟ تحرير محل النزاع: أولاً: أسماء الأعلام كمحمد وزيد قد أجمع العلماء على أنه لا يجري القياس فيها؛ لأنها غير موضوعة لمعان موجبة لها، وليست معقولة المعاني. ثانياً: أسماء الصفات كالعالم والقادر، فقد أجمع العلماء على أنه لا يجري القياس فيها؛ لأنها واجبة الاطراد؛ نظراً إلى تحقق معنى الاسم؛ لأن مسمى العالم - مثلاً - من قام به العلم، وهو متحقق في حق كل من قام به العلم، فكان إطلاق اسم العالم عليه ثابتا بالوضع، لا بالقياس؛ لأنه ليس قياس أحد الجزئين المتماثلين في المسمى على الآخر أوْلى من العكس. ثالثا: أسماء الأجناس والأنواع الموضوعة على مسمياتها مستلزمة لمعان في محالها وجوداً وعدماً قد اختلف العلماء فيها هل يجري فيها القياس؟ مثل إطلاق اسم " السارق " على النباش بواسطة مشاركته للسارقين من الأحياء في أخذ المال على سبيل الحقيقة. ومثل: إطلاق اسم " الخمر " على النبيذ بواسطة مشاركته للمعتصر من العنب في الشدة المطربة المخمرة على العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1045 فهل يجوز إطلاق اسم " السارق " على " النباش " قياسا بعلة أخذ مال الغير بخفية، وهل يجوز إطلاق اسم " الخمر " على النبيذ قياساً بعلة الإسكار والتخمير؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يجوز إثبات اللغة بالقياس، فيجوز أن يُسمَّى النباش سارقا، والنبيذ خمراً. ذهب إلى ذلك بعض المالكية كابن التمار، وأكثر الشافعية كابي إسحاق الشيرازي، وابن سريج، وابن أبي هريرة، وحكي أنه نص الإمام الشافعي، وهو قول أكثر علماء العربية كالمازني، وأبي علي الفارسي، وابن درستويه؛ وهو اختيار أكثر الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، والقاضي يعقوب، وابن قدامة، وهو مذهب أكثر الفقهاء. وهو الراجح عندي لما يلي من الأدلة: الدليل الأول -: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة: أن الاعتبار رد الشيء إلى نظيره بضرب من الشبه، وهذا عام في إثبات الأحكام، وإثبات الأسماء. الدليل الثاني: أن الاسم يدور مع الوصف وجوداً وعدماً - وهذا هو الدوران - والدوران يفيد ظن العلية، فيحصل بذلك ظن أدق العلَّة لتلك التسمية هو ذلك الوصف، فأينما حصل ذلك الوصف حصَل ظن كونه مسمى بذلك الاسم، وحينئذ يلزم أن يثبت لتلك المحال الأحكام المرتبة على ذلك الاسم، فالخمر دار مع الوصف وهو السكر وجوداً وعدما، أما وجوداً ففي صورة الخمر، وأما عدما ففي صورة الماء، فوجب أن يُسمى النبيذ أيضا خمراً بالقياس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1046 المذهب الثاني: أنه لا يجوز إثبات اللغة بالقياس، فلا يجوز أن يُسمَّى النبيذ خمراً. ذهب إلى ذلك أكثر الحنفية، وبعض المالكية كالباقلاني، وابن خويز منداد، وابن الحاجب، وكثير من الشافعية كالغزالي، والآمدي، وإمام الحرمين، وإلكيا الطبري، وابن القشيري، واختاره بعض المتكلمين، وجماعة من أهل الأدب واللغة، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (وعلم آدم الأسماء كلها) . وجه الدلالة: أنها دلَّت على أنه تعالى علمه جميع الأسماء، وهذا يدل على أنها توقيفية، فيدل على عدم وجود اسم يفتقر فيه إلى القياس. جوابه: أنا قلنا في المسألة السابقة: إن هذه الآية ليست صريحة في دلالتها على ذلك، فيجوز أن يكون علمه البعض بالتوقيف، والبعض بالتنبيه والقياس، والجميع من علم اللَّه تعالى، كما أن الأحكام الشرعية معلومه من جهة اللَّه تعالى، وإن كنا نعرف بعضها بالنص، وبعضها بالاجتهاد، ويجوز أن يكون هذا خاصا في حق آدم - عليه السلام -، ويجوز أن يكون قد علم الجميع بالتوقيف، ومن عداه يعرف ذلك مرة بالتوقيف ومرة بالقياس، كما أن جهات القبْلة قد تدرك حساً، وقد تدرك اجتهاداً. الدليل الثاني: أن وضع اللغة على خلاف مقتضى القياس، بيان ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1047 أنا رأينا العرب يفرقون بين الشيئين المتفقين في الصفة الموضوعة لذلك، فيقولون للفرس الأبيض: " أشهب "، ولا يقولون ذلك للحمار الأبيض، ويقولون للفرس الأحمر الذي يميل إلى السمرة "الكميت "، والذي يميل للسواد: أدهم، ولا يطلقون ذلك على غيره. كذلك " القارورة " سميت بهذا الاسم؛ لأنه يستقر فيها الماء، وهذا المعنى وهو: استقرار الماء حاصل في الحياض والأنهار، ولا تسمى قارورة، كذلك " الخمر " سميت بهذا الاسم لمخامرتها العقل، ثم المخامرة حاصلة في الأفيون والحشيش وغيرهما، ولا يسمى خمراً. فيعلم من ذلك كله أن المرجع في اللغة إلى الوضع دون القياس. جوابه: إن غاية ما في هذا الدليل أنكم ذكرتم صوراً لا يجري فيها القياس وذلك لا يقدح في صحة العمل بالقياس في اللغة، كما أنه حصل في أحكام الشرع أحكام لا يجري القياس فيها؛ لكونها تعبدية، ولم يدل ذلك على المنع من القياس في الشرع. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي له أثره في بعض الأحكام الفقهية، ومنها: 1 - أنه بناء على المذهب الأول - وهو جواز إثبات اللغة قياسا - قالوا: إذ النباش سارق، فيكون قطع يد النباش قد ثبت بالنص؛ حيث يدخل في عموم قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1048 أما على المذهب الثاني - وهو عدم جواز إثبات اللغة قياسا - فإن قطع يد النباش لم يثبت بالنص وهو دخوله في عموم قوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ) . وإنما ثبت قطع يده عن طريق القياس على السارق بجامع أخذ مال الغير خفية من حرز مثله. 2 - أنه بناء على المذهب الأول، فإن اللائط زان، فيكون وجوب الحد عليه ثبت بالنص، وهو قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) . أما على المذهب الثاني، فإن اللائط لا يُسمى زان، لذلك اختلف أصحاب هذا المذهب في عقوبة اللائط، فقال بعضهم: إن عقوبته القتل على كل حال مستندين إلى قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به "، وقال آخرون: إن عقوبته التعزير على الفاعل والمفعول به؛ لامتناع قياس اللائط على الزاني. وقال فريق ثالث: إن عقوبته مثل عقوبة الزانى قياسا عليه، فإذا كان اللائط غير محصن يجلد ويغرب، وإذا كان محصنا يجلد ويرجم قياساً على الزاني. 3 - أنه بناء على المذهب الأول فإن النبيذ خمر، فيكون وجوب الحد على شارب النبيذ قد ثبت بالنص، وهو قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شرب الخمر فاجلدوه ". أما على المذهب الثاني، فإن النبيذ لا يسمى خمراً، فيكون وجوب الحد على شارب النبيذ قد ثبت بالقياس على الخمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1049 الفصل الثاني في الدلالة وتقسيم اللفظ ويشتمل على المبحثين التاليين: المبحث الأول: في تعريف الدلالة وأقسامها. المبحث الثاني: في تقسيم اللفظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1051 المبحث الأول في تعريف الدلالة وأقسامها ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف الدلالة. المطلب الثاني: أقسام الدلالة. المطلب الثالث: في تعريف الدلالة اللفظية الوضعية، وبيان أهميتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1053 المطلب الأول تعريف الدلالة الدلالة لغة: مصدر دلَّ يدل دلالة بفتح الدال وهو أفصح، وروي بكسر الدال، وروي بضمها. والجمع: أدلة، وأدلاء، والاسم: الدّلالة بالكسر، والفتح، والدلولة، والدليلي، قال سيبويه - رحمه اللَّه -؛ والدليلي: علمه بالدلالة ورسوخه فيها. والدلالة في الاصطلاح هي: كون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر. وهذا هو أصح التعريفات التي قيلت؛ لأنه يدل على أن هناك تلازما بين الدال والمدلول، بحيث إذا فهم الدال فهم المدلول. فالشيء الأول هو: الدال، والشيء الثاني هو المدلول، سواء كان هذا اللزوم عقليا أو عرفيا دائما أو غيره، وسواء كان كليا أو جزئيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1055 المطلب الثاني أقسام الدلالة الدال إما أن يكون لفظا أو غير لفظ، فتنقسم الدلالة - بهذا الاعتبار - إلى قسمين هما: القسم الأول: دلالة لفظية.. القسم الثاني: دلالة غير لفظية. وكل من هذين القسمين ينقسم باعتبار إضافته إلى العقل والطبع والوضع إلى ثلاثة أقسام هي كما يلي: القسم الأول: دلالة عقلية، نسبة إلى العقل - والعقل هو: آلة التمييز والإدراك التي بها تدرك الأشياء. وسميت بها؛ لأنه ليس للوضع والطبع مدخل فيها. القسم الثاني: دلالة طبيعية، نسبة إلى الطبيعة، وهي لغة: السجية، واصطلاحا: مبدأ الآثار المختصة بالشيء، سواء صدرت بشعور أم لا، وسميت بذلك؛ لدخول الطبع فيه دون العقل والوضع. القسم الثالث: دلالة وضعية، نسبة إلى الوضع، وهو: جعل الشيء بإزاء آخر متى علم الأول علم الثاني، وسميت بذلك؛ لأن للوضع دخلاً تاما في الدلالة بجعل الجاعل. ووجه انحصار الدلالة في هذه الأقسام الثلاثة هو: أن الدلالة إما أن تكون مقصودة للدال - وهي التي يسميها العلماء الدلالة الاختيارية - أو ليست مقصودة له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1056 فإن كانت مقصودة فهي الوضعية. وإن لم تكن مقصودة، فإما أن يمكن تخلفها، أو لا يمكن تخلفها. فإن أمكن تخلفها: فهي الطبيعية. وإن لم يكن تخلفها: فهي العقلية. فإذا ضممنا هذه الأقسام الثلاثة - السابقة الذكر - إلى كون الدلالة لفظية وغير لفظية: صارت الأقسام ستة هي كما يلي: القسم الأول: دلالة عقلية غير لفظية كدلالة الدخان على النار، ودلالة طول الثوب على طول صاحبه. القسم الثاني: دلالة عقلية لفظية كدلالة الصوت على حياة صاحبه ووجوده. القسم الثالث: دلالة طبيعية غير لفظية كدلالة حمرة الوجه على الخجل، وصفرته على الخوف. القسم الرابع: دلالة طبيعية لفظية كدلالة لفظ " أخ " على وجع الصدر ودلالة الأنين على التألم. القسم الخامس: دلالة وضعية غير لفظية كدلالة الخطوط والعقود والنصب والإشارات على أصحابها، ومنه: دلالة الخرائط الجغرافية على البلاد. القسم السادس: دلالة لفظية وضعية، أي: مستندة إلى وجود اللفظ والوضع، وفيما يلي بيانها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1057 المطلب الثالث تعريف الدلالة اللفظية الوضعية وبيان أهميتها ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: تعريف الوضع. المسألة الثانية: تعريف الدلالة اللفظية الوضعية. المسألة الثالثة: بيان أهمية الدلالة اللفظية الوضعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1059 المسألة الأولى: في تعريف الوضع: أولاً: الوضع لغة: جعل اللفظ بإزاء المعنى، مثل: جعل لفظ " زيد " بإزاء جسمه، فالذي وضع لزيد اسمه يسمى واضعا، وجسمه يسمى موضوعا له، ولفظ " زيد " يسمى موضوعا، وجعل الاسم بإزاء الجسم يسمى وضعا. ثانيا: الوضع اصطلاحا هو: تخصيص شيء بشيء آخر متى أطلق الشيء الأول: فهم منه الشىء الثاني، والمراد بالإطلاق: الاستعمال وإرادة المعنى. *** المسألة الثانية: تعريف الدلالة اللفظية الوضعية: لقد اختلفت عبارات العلماء في تعريف الدلالة اللفظية الوضعية، والأَوْلى في تعريفها أن يقال: هي: كون اللفظ بحيث إذا أرسل فهم المعنى للعلم بوضعه. وقيل: هي: كون اللفظ إذا أطلق فهم منه المعنى من كان عالما بالوضع. وقيل: هي: كون اللفظ بحيث إذا أطلق دلَّ. وقيل: هي: فهم السامع من الكلام تمام المسمى أو جزئه أو لازمه. وهي متقاربة، إلا أن الأول أعمها وأوضحها؛ حيث إن التعبير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1061 بالإرسال أوْلى من التعبير بالإطلاق؛ لأن المتبادر من الإطلاق ما قرن بالإرادة، أما الإرسال فهو أعم منه؛ حيث إن اللفظ يدل على معناه إذا تلفظ به وإن لم يرد به المعنى. *** المسألة الثالثة: بيان أهمية الدلالة اللفظية الوضعية: إن الدلالة اللفظية الوضعية هي أهم أقسام الدلالات الستة - التي ذكرناها سابقاً - ودلَّ على تلك الأهمية أمران: الأمر الأول: انضباطها، حيث إن الإنسان لما كانت طبيعته تقتضي التمدن وهو الاجتماع مع بني نوعه لأجل مشاركتهم في العيش وإعلام أحدهم على ما في قلبه وضميره لصاحبه، والتفاهم مما يخص المآكل والمشارب، والمعاملات، والتعلم والتعليم؛ لذلك مست الحاجة إلى الدلالة اللفظية الوضعية للانضباط التي تتميز به، بخلاف الدلالة الطبيعية والعقلية، فإنهما غير منضبطتين؛ نظراً لاختلافهما باختلاف الطبائع والعقول والأفهام. الأمر الثاني: أن تلك الدلالة - وهي الدلالة اللفظية الوضعية - عامة وشاملة لما يقصد إليه من المعاني؛ حيث إن النفع بها في التعبير يعم الموجودات والمعدومات في مجال التعلم والتعليم ونحوهما من مجالات الحياة المختلفة. والخلاصة: أن الدلالة اللفظية الوضعية هي الوسيلة الأساسية في تعامل الناس مع بعضهم، وهي تؤدي من الأغراض والمقاصد ما لا تؤديه أي دلالة من الدلالات، وبذلك تكون تلك الدلالة أهم أنواع الدلالات، وأعمها نفعا في كسب العلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1062 المبحث الثاني في تقسيم اللفظ ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تقسيم اللفظ باعتبار الإفراد والتركيب. المطلب الثاني: تقسيم اللفظ المفرد. المطلب الثالث: تقسيم اللفظ المركب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1063 المطلب الأول في تقسيم اللفظ باعتبار الإفراد والتركيب اللفظ الموضوع ينقسم باعتبار الإفراد والتركيب إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ المركب وهو: أن يدل جزء اللفظ الموضوع على جزء معناه مثل: " زيد قائم "، و " قام زيد "، و " غلام زيد " و" الحيوان الناطق ". القسم الثاني: اللفظ المفرد وهو: أن لا يدل جزؤه على جزء معناه إذا جعل عَلَما للشيء مثل: " زيد "، و " عبد اللَّه " عَلَما، و" تأبط شراً "، فإن كلًّا منها مفرد؛ لأنه لم يدل جزؤه على جزء معناه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1065 المطلب الثاني في تقسيم اللفظ المفرد ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: تقسيم اللفظ المفرد الموضوع لمعنى باعتبار دلالته بالمطابقة والتضمن والالتزام. المسألة الثانية: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار خصوص المعنى وضمومه. المسألة الثالثة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار استقلاله بمعناه أو لا. المسألة الرابعة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار وحدته وتعدده، ووحدة المعنى وتعدده. المسألة الخامسة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار حال مدلوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1067 المسألة الأولى: في تقسيم اللفظ المفرد الموضوع لمعنى باعتبار دلالته بالمطابقة والتضمن والالتزام: اللفظ إما أن يدل على تمام ما وضع له، أو على جزئه، أو على الخارج عن مسماه اللازم له في الذهن، وإليك بيان ما يخمتلك الأقسام فيما يلي: أولاً: بيان تلك الأقسام مع الأمثلة: القسم الأول: اللفظ المفرد الدال على تمام المعنى الذي وضع له، وسمى بـ " دلالة مطابقة " مثل: دلالة لفظ " الإنسان " على الحيوان الناطق. وسميت بدلالة المطابقة لتطابق اللفظ والمعنى تمام التطابق كقولهم: " طابق النعل النعل " إذا توافقتا، فلا زيادة في اللفظ على المعنى فيكون مستدركا، ولا زيادة للمعنى على اللفظ فيكون قاصراً، فالمفهوم من اللفظ هو نفس الموضوع له. القسم الثاني: اللفظ المفرد الدال على جزء معناه الذي وضع له، وسمى بـ " دلالة تضمن " مثل: دلالة لفظ " الإنسان " على الحيوان - فقط -؛ حيث إن الحيوان جزء معنى الإنسان، أو دلالة لفظ "الإنسان " على الناطق - فقط - وهو جزء معناه. وسميت بدلالة التضمن؛ لأن اللفظ دلَّ على ما في ضمن المسمى. وهذه الدلالة لا تتحقق إلا في مثال له أجزاء كالأمثلة السابقة. القسم الثالث: اللفظ المفرد الدال على أمر خارج عن معناه لازم له، وهذا يسمى " دلالة التزام " مثل دلالة لفظ " الإنسان " على الضحك، ولفظ " الأسد " على الشجاعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1069 وسميت بدلالة الالتزام؛ لأن اللفظ دلَّ على معنى لازم للمعنى الذي وضع له اللفظ. ويشترط في دلالة الالتزام: أن يكون اللازم ذهنيا، وهو اللازم البين بالمعنى الأخص، وسمَّاها الغزالي في " معيار العلم " بدلالة الالتزام والاستتباع. وبعض العلماء يجعلون تلك الأقسام: أقساما للدلالة اللفظية الوضعية، وهو صحيح، ويصح أن تكون أقساما للفظ الدال بالوضع كما قلنا، والخلاف في هذا لا أثر له؛ لأن النتيجة واحدة. ثانياً: خلاف العلماء في هذه الدلالات هل هي لفظية أو عقلية؛ على مذاهب: المذهب الأول: أن دلالة المطابقة والتضمن والالتزام كلها لفظية عقلية، وهو مذهب بعض العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن دلالة المطابقة مفهومة من الكلام، فاللفظ يدل على تمام المعنى، ودلالة التضمن تفهم - أيضا - من اللفظ، فاللفظ يدل على جزء معناه، ودلالة الالتزام مفهومة من اللفظ. فكل من الجزء واللازم متلقى من اللفظ وبواسطته. المذهب الثاني: أن دلالة المطابقة والتضمن لفظيتان، ودلالة الالتزام عقلية، وهو مذهب الآمدي، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن دلالة المطابقة والتضمن لفظيتان؛ لما سبق من المذهب الأول، وأن دلالة الالتزام عقلية؛ لأنها تفهم من اللفظ فهما عقليا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1070 جوابه: إن اللفظ هو الذي دلَّ على ذلك المعنى وإن كان بعيداً، فهو من لوازمه الذي لا ينفك عنه، إذ لولا اللفظ لما فهمنا ذلك. المذهب الثالث: أن دلالة المطابقة لفظية وضعية، وأما دلالة التضمن والالتزام فهما عقليتان، وهو مذهب كثير من الشافعية كفخر الدين الرازي، وصفي الدين الهندي. دليل هذا المذهب: أن اللفظ إذا وضع للمسمى انتقل الذهن من المسمى إلى لازمه، ولازمه إن كان داخلاً فهو التضمن وإن كان خارجاً فهو الالتزام. جوابه: نفس الجواب عن دليل المذهب الثاني. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأننا إذا نظرنا إلى أن الدلالات الثلاث إنما هي بتوسط وضع اللفظ للمسمى كانت كلها لفظية وضعية وهذا هو الذي نظرت إليه لما قلت: إنها كلها لفظية. وإذا نظرنا إلى أن فهم اللازم الداخل، أو الخارج إنما هو بواسطة الانتقال من المسمى إلى اللازم بقسميه، وهو أمر عقلي كانت المطابقة لفظية وضعية، والتضمن والالتزام عقليتان، وهو الذي نظر إليه فخر الدين الرازي والهندي. فالحاصل: أن فهم كل من الجزء واللازم متلقى من اللفظ وبواسطته اتفاقاً، وأن من جعل الدلالة عليهما عقلية أراد أن تلك الدلالة إنما كانت بطريق الانتقال من المسمى الأصلي إلى جزئه، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1071 لازمه وهو عقلي، لا وضعي، وهو لا ينكر أنهما وضعيتان، أي: أنهما إنما يفهمان بواسطة اللفظ، ووضعه للمسمى الذي هو الكل أو الملزوم، فاتضج لك أن الخلاف لفظي. *** المسألة الثانية: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار خصوص المعنى وعمومه: ينقسم اللفظ بالنسبة إلى خصوص المعنى وعمومه إلى قسمين: القسم الأول: لفظ يدل على عين واحدة، ويسمى معينا، وخاصا. ويعرف بأنه اللفظ الذي لا يمكن أن يكون مفهومه إلا ذلك الواحد المعين كزيد، فإننا إذا سمعنا هذا اللفظ لا نفهم منه إلا ذلك الواحد المعين الذي سمي به، كذلك قولنا: " هذا الرجل " يشير إلى رجل معين. القسم الثاني: لفظ يدل على أشياء كثيرة تتفق في معنى واحد، ويسمى مطلقاً، ويعرف بأنه اللفظ الذي يتناول واحداً لا بعينه. أو هو: اللفظ الذي لا يمنع نفس مفهومه من وقوع الاشتراك في معناه كقولنا: " رجل "، فإن هذا اللفظ يصدق على كل من تتوفر فيه صفة الرجولة، فلو قال السيد لعبده: " أَكرمْ رجلاً،، فإن العبد يختار أي واحد من الرجال فيكرمه. لكن لو أدخلت على لفظ " رجل " " ال " فقلت: " الرجل " فإن اللفظ يكون عاما يتناول جميع ما يقع عليه ذلك اللفظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1072 المسألة الثالثة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار استقلاله بمعناه أو عدم ذلك: ينقسم اللفظ بهذا الاعتبار إلى قسمين: القسم الأول: اللفظ المفرد غير المستقل بمعناه والمفهوم، وهو: الحرف مثل: " إن "، و " لا "، و " في "، و " على "، ونحو ذلك، فإن كلًّا من تلك الحروف لا يستقل بمعناه، أي: لا يفهم معناه إلا باعتبار لفظ آخر دال على معنى هو متعلق معنى الحرف. القسم الثاني: اللفظ المفرد المستقل بمعناه، أي: يفهم معناه الذي وضع اللفظ له بدون اعتبار لفظ آخر دال على معنى، وهذا القسم نوعان: النوع الأول: أن يدل بهيئته العارضة له بحسب التصريف على أحد الأزمنة الثلاثة: " الماضي "، و " المستقبل "، و " الحال "، وهو: الفعل مثل: " ضرب "، و " اضرب "، و " يضرب ". النوع الثاني: أن لا يدل بهيئته على أحد الأزمنة وهو: الاسم وهو: 1 - إما ألا يدل على زمان أصلاً مثل: " السماء، و " الأرض "، و" الرجل ". 2 - أو دلَّ ولكن لا بهيئته وهو: (أ) أن يكون مدلوله نفس الزمان مثل: " اليوم "، و "الأمس ". (ب) أن يكون الزمان جزء مدلوله مثل: الصبوح، والغبوق. تقسيمات الاسم: النوع الثاني وهو: الاسم ينقسم إلى " كلي "، و " جزئي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1073 فالكلي هو الذي لا يمنع نفس تصوره من اشتراك كثيرين فيه مثل الإنسان. والجزئي هو الذي يمنع نفس تصوره من اشتراك كثيرين فيه مثل "زيد". أقسام الكلي: ينقسم الكلي إلى " متواطئ "، و " مشكك ". - فالمتواطئ هو الذي يحصل معناه في أفراده الذهنية أو الخارجية على السوية مثل: " الإنسان "، أو تقول: هو المستوي في الأفراد. - والمشكك هو: تفاوت الأفراد مثل " البياض " فإنه في الثلج أشد منه في العاج. وينقسم الكلي - أيضاً - إلى: " اسم جنس "، و " مشتق ": - فاسم الجنس هو: أن يدل الاسم على ذات معينة مثل: " الفرس "، و " الإنسان ". والمشتق هو: دلالة إلاسم على ذي صفة معينة، دون خصوصية الماهية مثل: " الفارس "، و " العالم "، فإن هذا يدل على ذات متصفة بالفروسية والعلم. أقسام الجزئي: الاسم الجزئي ينقسم إلى " المستقل "، و " غير المستقل ". فالاسم الجزئي المستقل هو: العَلَم مثل: " زيد "، وهو الذي لا يحتاج إلى إضمار. والاسم الجزئي غير المستقل هو: المضمر مثل: " أنا "، و "أنت " و"هو". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1074 خلاف العلماء في المضمر هل هو جزئي أو كلي؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن المضمر جزئي. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق عندي - كما جعلته هنا -، لأمرين: أولهما: أن الكلي نكرة، والمضمر أعرف المعارف فلا يكون كليا. ثانيهما: أنه لو كان كليا لما دلَّ على الشخص، لأن الدال على الأعم غير دال على الأخص. المذهب الثاني: أن المضمر كلي، وهو مذهب القرافي، والأصفهاني وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن لفظ " أنا "، و " أنت "، و " هو " صادق على ما لا يتناهى، فكيف يكون جزئيا؟! جوابه: لا نسلم لكم ذلك، بل هو صادق على ما يتناهى، وهو من يتكلم، أو من يُخاطب، أو المقصود بضمير الغائب. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على أن تلك الضمائر إنما تستعمل في الجزئيات، ومتى كان كذلك، فالأقرب أن تكون موضوعة لما تستعمل فيه، غاية الأمر: أن أحد الفريقين يجعل الاستعمال في الجزئي شرطا في الوضع، والفريق الآخر يجعل الجزئي الذي يستعمل فيه هو نفس الموضوع له، فلا خلاف في المعنى، فيكون الخلاف لفظياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1075 المسألة الرابعة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار وحدته وتعدُّده، ووحدة المعنى وتعدّدِه: اللفظ والمعنى إما أن يتحدا، أو يتكثرا، أو يتكثر اللفظ ويتحد المعنى، أو يتحد اللفظ ويتكثر المعنى، فهذه أربعة أقسام، ولكل قسم اسم معين، وإليك بيانها: القسم الأول: أن يتحد اللفظ والمعنى، وهو: المنفرد، وسمي بذلك لانفراد لفظه بمعناه، وهو: إما كلي، أو جزئي، وقد سبق بيانه. القسم الثاني: أن يتعدَّد اللفظ، ويتعدَّد المعنى، وهي: الألفاظ المتباينة، وسميت بذلك؛ لأن كل واحد منها مباين للآخر، أي: مخالف له في معناه، وهو نوعان: " المعاني المنفصلة "، و " المعاني المتصلة". فالمعاني المنفصلة مثل: الإنسان، والفرس، والسواد، والبياض. والمعانى المتصلة باعتبارات هي كما يلي: الاعتبار الأول: اعتبار أن أحدهما جزء للآخر مثل: الحيوان والفرس. الاعتبار الثاني: اعتبار أن أحدهما ذات والآخر صفة مثل: "الإنسان "، و " الكاتب ". الاعتبار الثالث: اعتبار أن أحدهما صفة، والآخر صفة الصفة مثل: " الناطق "، و " الفصيح ". القسم الثالث: أن يتكثر اللفظ، ويتحد المعنى، ويُسمى "المترادفة" مثل: " الإنسان والبشر "، و " الليث والأسد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1076 القسم الرابع: أن يتحد اللفظ، ويتكثر المعنى - عكس الثالث -. وهذا نوعان: النوع الأول: أن يوضع اللفظ لتلك المعاني وضعا أولاً، وهذا هو المشترك مثل: لفظ " العين " وضع للجارية، والباصرة، والذهب بالوضع الأول. النوع الثاني: أن يوضع اللفظ لأحد المعاني، ثم نقل إلى الثاني، وهذا فيه تفصيل: فإن وضع لأحد المعاني ثم نقل لغيره بدون علاقة، فإنه يُسمَّى "المرتجل "، وقد يطلق عليه - أيضا - " المشترك " مثل: " جعفر " الذي جعل عَلَماً لشخص إنساني. وإن وضع لأحد المعاني ثم نقل إلى غيره لعلاقة واشتهر اللفظ في الثاني سمي اللفظ بالنسبة إلى المعنى الأول منقولاً عنه، ويسمى اللفظ بالنسبة إلى المعنى الثاني منقولاً إليه. ثم المنقول هذا له أسماء هي كما يلي: المنقول الشرعي: إن كان الناقل هو الشرع كالصلاة، فإنها في اللغة: الدعاء، ثم نقل الشرع ذلك إلى ذات الأركان لعلاقة. المنقول العرفي: إن كان الناقل هو العرف العام مثل: " الدابة " فإنها اسم لما يدب على الأرض، ثم نقل ذلك العرف العام إلى ذات الحافر. المنقول الاصطلاحي: إن كان الناقل هو العرف الخاص كاصطلاح أهل الأصول مثل: القياس، والقلب، والركن، واصطلاح أهل النحو مثل: الرفع، والنصب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1077 هذا إن اشتهر في الثاني وأصبح مهجوراً في الأول. أما إن لم يشتهر في الثاني، ولم يكن مهجوراً في الأول، فإن اللفظ يسمى حقيقة بالنسبة إلى الأول، مجازاً بالنسبة إلى الثاني مثل: " الأسد " بالنسبة إلى الحيوان المفترس، والرجل الشجاع. بيان ما هو نص، وظاهر، ومجمل، ومؤول من الأقسام الأربعة السابقة. اعلم أن الأقسام الثلاثة الأولى - متحد اللفظ والمعنى، ومتكثر اللفظ والمعنى، ومتكثر اللفظ متحد اللفظ - نصوص؛ وذلك لأن لكل واحد منها معنى معيناً متحداً، وهو معنى النص، أو تقول: لاتحاد المعنى بدون احتمال الغير. وأما القسم الرابع - وهو: متحد اللفظ متكثر المعنى - فلا يخلو: إما أن تكون دلالته على كل واحد من معانيه الكثيرة على السوية، فهذا هو: المجمل مثل " القرء " بالنسبة إلى الطهر والحيض. وإن ترجح أحد المعاني دون الأخرى فهذا هو: الظاهر. وهو بالنسبة إلى المعنى الذي هو مرجوح الدلالة: مؤول. وهذا مثل " المنقول "، فإنه بالنسبة إلى المنقول إليه ظاهر، وبالنسبة إلى المنقول عنه مؤول. بيان وجه الاتفاق بين النص والظاهر ووجه الافتراق والقدر المشترك: النص والظاهر يتفقان في رجحان الإفادة، ويفترقان في أن النص ْراجح مانع من الغير -، أما الظاهر فهو راجح لا يمنع من الغير. والقدر المشترك بينهما يُسمَّى بالمحكم، فالمحكم هو: " ما يتضح معناه". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1078 بيان وجه الاتفاق بين المجمل والمؤول ووجه الافتراق والقدر المشترك: المجمل والمؤول يتفقان في عدم الرجحان، ويفترقان في أن المجمل وإن لم يكن راجحا فهو غير مرجوح، أما المؤول فإنه مع أنه غير راجح فهو مرجوح. والقدر المشترك بينهما يُسمَّى بالمتشابه، فالمتشابه هو: " ما لم يتضح معناه ". إذن: المحكم نوعان: " النص "، و " الظاهر ". والمتشابه نوعان: " المجمل "، و " المؤول ". *** المسألة الخامسة: تقسيم اللفظ المفرد باعتبار حال مدلوله: مدلول اللفظ إما معنى، أو لفظ، والثاني - وهو: اللفظ - ينقسم إلى المفرد، والمركب، وهذا القسمان - وهو المفرد والمركب - ينقسم كل واحد منهما إلى مستعمل ومهمل، فهذه خمسة أقسام، إليك بيانها: القسم الأول: لفظ مدلوله معنى مثل: " الفرس "، فإن مدلوله معنى لا لفظ. القسم الثاني: لفظ مدلوله لفظ مفرد مستعمل مثل: " الكلمة "، فإن مدلولها لفظ مستعمل وهو: الاسم، أو الفعل، أو الحرف مثل: "زيد". القسم الثالث: لفظ مدلوله لفظ مفرد غير مستعمل مثل: أسماء الحروف، أي: حروف التهجي مثل: " ألف "، و " باء "، فإن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1079 مدلولهما وهو: " أ " و " ب "، وهو لفظ مفرد مهمل، أي: ليس له معنى. القسم الرابع: لفظ مدلوله لفظ مركب مستعمل مثل: " الخبر "، فإنه لفظ مدلوله لفظ مركب مستعمل مثل: " زيد قائم ". القسم الخامس: لفظ مدلوله لفظ مركب مهمل مثل: " الهذيان " فإنه لفظ مدلوله لفظ مركب مهمل، والمقصود: ما يتلفظ به الهاذي من ألفاظ غير مفيدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1080 المطلب الثالث في تقسيم المركب المراد من وضع اللفظ المركب: إفادته لمعناه. فاللفظ المركب ينقسم إلى "قسمين: القسم الأول: أن يكون اللفظ المركب مفيداً بالذات طلباً، وهو نوعان: النوع الأول: أن يكون لطلب الماهية في الذهن وهذا هو: الاستفهام. النوع الثاني: أن يكون لتحصيل الشيء في الخارج، وهذا فيه تفصيل: - فإن كان لتحصيل الفعل مع الاستعلاء فهو: أمر كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) - وإن كان لكف النفس مع الاستعلاء فهو: نهي كقوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) . والطلب مع التساوي: التماس كقول بعض الأصحاب لبعض: "خذ الكتاب ". والطلب مع التسفل: دعاء وسؤال كقولك: " اللهم اغفر لي ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1081 القسم الثاني: أن يكون اللفظ المركب لا يفيد بالذات طلبا، وهذا نوعان: النوع الأول: أن يحتمل التصديق والتكذيب وهذا هو: الخبر كقولك: " قام زيد ". النوع الثاني: أن لا يحتمل التصديق والتكذيب، وهذا هو التنبيه. ويندرج في التنبيه: التمني كقوله تعالى: (يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي) ، والترجي كقوله تعالى: (لعل اللَّه يحدث بعد ذلك أمراً) ، والقسم كقوله: (تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ) ، والنداء كقوله: (يا نوح قد جادلتنا) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1082 الفصل الثالث في الاشتقاق ويشتمل على المباحث الثالية: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثالث: أركان الاشتقاق. المبحث الثالث: هل يشترط كون المشتق حقيقة: دوام أصله وهو: بقاء المشتق منه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1083 المبحث الأول في تعريف الاشتقاق الاشتقاق هو: رد لفظ إلى لفظ آخر لموافقته له في حروفه الأصلية ومناسبته له في المعنى. بيان التعريف: قوله: " رد لفظ إلى لفظ آخر " إشارة إلى اشتراط التغاير في اللفظ، فخرجت الأسماء المشتركة. قوله: " لموافقته له في حروفه " للاحتراز عن الكلمات التي توافق كلمة أخرى في معناه لا في حروفه مثل: " الحبس "، و"المنع "، و " إنسان "، و " بشر "، فإنه لا يقال: إن أحدهما مشتق من الآخر. قوله: " الأصلية " إشارة إلى أن اشتراط الموافقة إنما هو في حروفه الأصلية - فقط - دون الحروف الزائدة، فمثلاً: " دخل " مشتق من " الدخول "، وإن لم يوافقه في الحرف الزائد، وهو: "الواو "، وكذا " يدخل " وإن لم يوافقه في الياء. قوله: " ومناسبته له في المعنى " للاحتراز عن الذي يوافقه في حروفه الأصلية، ولكن غير مناسب له في المعنى مثل " الذهاب " لا يقال: إنه مشتق من الذهب، فإنه يوافقه في حروفه الأصلية، ولكن غير مناسب له في المعنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1085 المبحث الثاني أركان الاشتقاق لا يتم الاشتقاق إلا بأركان أربعة هي كما يلي: الركن الأول: لفظ موضوع لمعنى، وهو المشتق منه. الركن الثاني: لفظ آخر له نسبة إلى اللفظ الأول، وهو المشتق. الركن الثالث: المشاركة بين الحروف الأصلية والمعنى. الركن الرابع: تغيير يلحق المشتق بزيادة أو نقصان، وهو خمسة عشر قسما هي كما يلي: القسم الأول: زيادة حرف نحو: " كاذب " من " الكذب " زيدت الألف بعد الكاف. الثاني: زيادة الحركة مثل: " نَصَر " مشتق من " النصر " زيدت حركة الصاد. الثالث: زيادة الحركة والحرف جميعاً مثل " ضارب " مشتق من "الضرب " زيدت الألف بعد الضاد، وزيدت حركة الراء. الرابع: نقصان حرف مثل: " خَفْ " مشتق من " الخوف " نقصت الواو. الخامس: نقصان الحركة مثل: " ضرْب " من " ضَرَب " نقصت حركة الراء. السادس: نقصان الحرف والحركة معا مثل " غَلَى " مشتق من "الغَلَيان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1086 السابع: زيادة الحرف ونقصانه مثل: " مسلمات " زيدت ألف وتاء الجمع، ونقصت تاء كانت في المفرد. الثامن: زيادة الحركة ونقصانها مثل: " حذر " مشتق من "الحذَر" زيدت كسرة الذال، ونقصت فتحتها. التاممع: زيادة الحرف ونقصان الحركة مثل: " عادّ " بالتشديد مشتق من "العدد" زيدت الألف بعد العين، ونقصت حركة الدال الأولى. العاشر: عكس التاسع وهو: زيادة الحركة ونقصان الحرف مثل: " خُذْ " مشتق من " الأخذ " زيدت حركة "الخاء" ونقصت "الألف ". الحادي عشر: زيادة الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه مثل: "خاف " مشتق من " الخوف "، فهنا زيدت حركة " الفاء "، وزيد حرف الألف ونقص حرف الواو. الثاني عشر: زيادة الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها مثل "اضرب " مشتق من " الضرب " زيد حرف " الألف " للوصل، وزيدت حركة " الراء "، ونقصت حركة الضاد. الثالث عشر: نقصان الحركة مع زيادة الحرف ونقصانه مثل: "كال " مشتق من " الكلال " فهنا نقصت حركة اللام الأولى للإدغام، وزيد حرف الألف قبل " اللام " الأولى، ونقص حرف " اللام " الثانية. الرابع عشر: نقصان الحرف مع زيادة الحركة ونقصانها مثل: "صِل " مشتق من " الوصول "، فهنا نقص حرف وهو " الواو "، وزيدت حركة وهي: كسر الصاد، ونقص حركة وهي: ضمة الصاد. الخامس عشر: زيادة الحرف والحركة ونقصان الحرف والحركة مثل: " إرْم " مشتق من " الرمي "، فهنا زيد حرف " الألف "، ونقص حرف " الياء "، وزيد حركة " الميم "، ونقصت حركة الراء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1087 المبحث الثالث هل يُشترط كون المشتق حقيقة: دوام أصله وهو: بقاء المشتق منه؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب ثلاثة: أصحها: أنه مشترط مطلقاً، أي: يشترط كون المشتق حقيقة دوام أصله، وهو: بقاء المشتق منه، وهو مذهب فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء. دليل ذلك: أن المشتق يصدق نفيه عند زوال المشتق منه؛ لأنه بعد انقضاء الضرب يصدق عليه أنه ليس بضارب - في الحال، فيصدق أنه ليس بضارب؛ حيث: إن قولنا: " ليس بضارب " جزء لقولنا -: " ليس بضارب في الحال "، ومتى صدق الكل صدق الجزء، فيصدق أنه ليس بضارب. وإذا صدق نفيه فلا يصدق إيجابه - وهو: أنه ضارب -؛ لأنهما متناقضان، فإذا صدق أحد النقيضين لا يصدق الآخر. ويُبنى على ذلك مسألة فقهية وهي: أنه إذا مات مفلس وعليه ديون، ووجد بعض الغرماء ما باعه عليه بعينه في تركة هذا المفلس، فهل له الرجوع إليه؟ فذهب أبو حنيفة، والحسن البصري، والنخعي إلى أنه ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1088 للغريم الرجوع إليه، فلما اعترض عليهم بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "فصاحب المتاع أحق بمتاعه " قالوا: إن المراد بذلك هو: المعير، وعللوا ذلك بقولهم: إن من باع متاعه لا يسمى صاحب متاع بعد ما باع بناء على اشتراط بقاء المعنى في إطلاق اسم المشتق حقيقة. وذهب جمهور العلماء إلى أن له ذلك مستدلين بالحديث السابق، فهذا الشخص صاحب المتاع بناء على أن بقاء المعنى غير مشترط فى إطلاق المشتق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1089 الفصل الرابع في الاشتراك ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: هل المشترك ممكن وثابت وواقع في اللغة؟ المبحث الثالث: في أقسام اللفظ المشترك بالنسبة لمسمياته. المبحث الرابع: هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها؟ المبحث الخامس: بيان أن الاشتراك خلاف الأصل. المبحث السادس: حالات اللفظ المشترك عند وجود القرينة أو عدمها. المبحث السابع: الفرق بين المشترك والمتوافى. المبحث الثامن: الفرق بين المشترك والمتوافى والمشكك. خاتمه: في بيان الكلي، والكلية، والكل، والجزئي، والجزئية، والجزء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1091 المبحث الأول تعريفه الاشتراك في اللغة مأخوذ من الشركة، شبهت اللفظة في اشتراك المعاني فيها بالدار المشتركة بين الشركاء. واللفظ المشترك اصطلاحا هو: اللفظ الواحد الموضوع لمعنيين فأكثر وضعا. بيان التعريف: فعبارة: " اللفظ " جنس يشمل المشترك وغيره. وعبارة: " الواحد الموضوع لمعنيين " أخرجت اللفظ الواحد الموضوع لمعنى واحد مثل الألفاظ المتباينة، والمتواطئة، والمشككة؛ لأنها لم - توضع لمعنيين، بل وضعت لمعنى واحد، وإن كان ذلك مشتركا بين الأفراد. وعبارة " فأكثر " أتى بها ليدخل الذي وضع لثلاث معان فأكثر كالعين. وعبارة: " وضعا أولا " أخرجت الألفاظ المنقولة والمجازية، فإنها وإن كانت موضوعة لعدة معان، ولكن لا وضعا أولا. فاللفظ المشترك هو لفظ يطلق على مسميين ومعنيين فكثر لا تشترك في الحد والحقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1093 المبحث الثاني هل المشترك ممكن وثابت وواقع في اللغة؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن المشترك ممكن وثابت في اللغة وواقع. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لقيام الدليل على إمكانه وجوازه، وقيام الدليل على وقوعه. أما الدليل على إمكانه وجوازه: أن المشترك يمكن أن يقع من واضعين بأن وضع أحدهما لفظا لمعنى، ثم وضع آخر ذلك اللفظ لمعنى آخر، كالعين مثلاً، فيمكن أن يكون أحدهما وضعه للجارية، والآخر وضعه للناظرة والباصرة، ثم اشتهر ذلك اللفظ بين الطائفتين في إفادة ذينك المعنيين. ويمكن أن يقع من واضع واحد لغرض الإبهام؛ وذلك لأن المقصود من الوضع قد يكون التصريح، وقد يكون الإبهام، حيث يستلزم التصريح مفسدة، وهي اطلاع الغير على أشياء لم يرد اطلاعه عليها، فوضعوا للأول - وهو المراد التصريح به - الألفاظ المفردة، ووضعوا للثاني - وهو المراد إبهامه - الألفاظ المشتركة. وأما الدليل على وقوعه فهو: أن القرء " يطلق علي " الطهر " و" الحيض "، فهو إما أن يكون متواطئا، أو يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، أو مشتركا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1094 أما الأول - وهو كونه متواطئا - فهو باطل؛ لأن شرط التواطؤ: اتحاد المعنى، وهاهنا ليس كذلك. أما الثاني - وهو كونه حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر - فهو باطل أيضا؛ لأنه لو كان كذلك لتبادر المعنى الحقيقي إلى الذهن، ولكن الحق: أن الذهن - عند سماع هذا اللفظ مجرداً عن القرينة - يتردد بين " الطهر "، و " الحيض ". فلم يبق إلا الثالث وهو: أنه مشترك؛ وذلك لتردد الذهن بين ذينك المعنيين والتردد علامة الاشتراك. المذهب الثاني: أن المشترك واجب، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن المعاني غير متناهية؛ لأن الأعداد أحد أنواع الموجودات وهي غير متناهية، والألفاظ متناهية؛ حيث إنها مركبة من الحروف المتناهية والمركب من المتناهي متناه، فإذا وزعت المتناهية على المعاني غير المتناهية لزم الاشتراك؛ حيث سيكون للفظ الواحد عدة معان بالضرورة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن المعاني غير متناهية؛ لأن المراد بالمعاني الأجناس، وهي متناهية. سلمنا ذلك، لكن لا نُسَلِّمُ أن الألفاظ متناهية. الجواب الثاني: لو سلمنا المقدمتين فإنا نقول: إن المقصود بالوضع: ما حصل في العقل، وهو متناه، وهو لا يلزم الاشتراك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1095 المذهب الثالث: أن المشترك ممتنع وليس بواقع، وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن المشترك لا يفهم الغرض والمعنى المقصود من الواضع، وإذا كان كذلك فإنه يؤدي إلى المفسدة، وما كان مؤديا إلى المفسدة وجب أن لا يكون، فيكون المشترك - حينئذ - مفسدة فيمتنع وقوعه. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن اللفظ إذا كان مشتركا لم يفهم الخاطب الغرض والمقصود والمعنى المراد من الواضع؛ لجواز أن يعرف مراد المتكلم بالقرائن. وإن سلمنا: أن اللفظ المشترك لا يفهم الغرض المراد، فلا نسلم أن المقصود من الوضع في جميع المواضع هو الفهم التفصيلي؛ لجواز أن يكون التعريف الإجمالي مقصوداً في بعض الصور، كما في أسماء الأجناس كالحيوان، والإنسان، فإنها تدل على ما وضعت له إجمالاً، ولا تدل على تفاصيل ما تحتها. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي في هذه المسألة؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على أن " القرء " متردد بين " الطهر "، و " الحيض "، وهما ضدان. أما أصحاب المذهب الأول والثاني فواضح. أما أصحاب المذهب الثالث فقد يسمونه باسم آخر كالمشكل مثلاً. تنبيه: المشترك وافع في القرآن الكريم مثل: " القرء " و "عسعس " و" الصريم "، وواقع في السُّنَّة مثل ما روي: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقام العشاء حين غاب الشفق "، والقرء، وعسعس، والصريم، والشفق ألفاظ مشتركة، وقد سبق بيان ذلك في الباب الثاني وهو في: أدلة الأحكام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1096 المبحث الثالث أقسام اللفظ المشترك بالنسبة لمسمياته القسم الأول: اللفظ المشترك بين مسميات متضادة لا يمكن الجمع بينها، ولا الحمل عليها. مثل: " القرء " لفظ مشترك بين " الطهر"، و " الحيض "، وهما متضادان. مثال آخر: " الجلل " لفظ مشترك بين " الكبير " و " الصغير والهين " وهما متضادان. مثال ثالث: " الجون " لفظ مشترك بين " الأسود " و " الأبيض " وهما متضادان. مثال رابع: " الشفق " لفظ مشترك بين " البياض " و " الحمرة " وهما متضادان. القسم الثاني: اللفظ المشترك بين مسميات مختلفة - لا صلة لأحدها بالآخر. مثل: " العين " فإنها تطلق على معان كثيرة ومختلفة حقيقة، فتطلق على " العين الباصرة "، و " عين الإرواء "، و " الشمس "، و" الذهب "، وغيرها، فهذه المعاني اختلف بعضها عن بعض، ولا يوجد أي صلة بين بعضها وبعضها الآخر. القسم الثالث: اللفظ المشترك بين مسميات متناقضة مثل: إلى " على رأي القائل: إنها مشركة بين إدخال الغاية وعدمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1097 القسم الرابع: اللفظ المشترك بين الشيء ووصفه مثل لفظ (تأبط شرا) ، وبين "الفاعل " و " المفعول" مثل: " المختار " يقال للذي اختار الثوب مختار، ويقال للثوب نفسه مختار أيضا. القسم الخامس: اللفظ المشترك بين مسميين بينهما تعلق، وهذا نوعان: النوع الأول: أن يكون أحد المعنيين جزءاً للآخر مثل: " الممكن " يطلق على العام والخاص، فإن الممكن العام - وهو سلب الضرورة عن أحد الطرفين - جزء للممكن الخاص - وهو: سلب الضرورة عن طرفي الحكم -. النوع الثاني: أن يكون أحد المعنيين لازما للاخر مثل: " الشمس " فإنه يطلق على الكوكب، ويطلق على ضوء ذلك الكوكب، والضوء - كما هو معلوم - لازم للكوكب. القسم السادس: الاشتراك في التركيب مثل قوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ، فإن الذي بيده عقدة النكاح مشترك بين الزوج، والولي. القسم السابع: الاشتراك في الحرف مثل: (الواو) تكون للعطف، وللقسم، والابتداء، وحرف " من " تكون للتبعيض، وبيان الجنس، وحرف (الباء) تكون للاستعانة، والسببية. - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1098 المبحث الرابع هل يصح استعمال المشترك في كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها؟ اللفظ الواحد من متكلم واحد في وقت واحد إذا كان مشتركا بين معنيين كالعين للذهب، والجارية، والنكاح المطلق على العقد والوطء، ولم تكن الفائدة فيهما واحدة هل يجوز أن يراد به كلا المعنيين معا أو لا؟ أي: هل يصح أن يستعمل المتكلم اللفظ الواحد في جميع معانيه دفعة واحدة على أن يكون كل معنى مقصوداً بالحكم في وقت واحد أو لا يصح ذلك؟ اختلف في ذلك على مذاهب، أهمها: المذهب الأول: أنه يصح ويجوز أن يراد باللفظ جميع معانيه إذا تجرد عن القرائن، وإطلاقه على جميع معانيه حقيقة مطلقا. ذهب إلى ذلك الإمام الشافعي، والباقلاني، والبيضاوي، وكثير من العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: الوقوع، والوقوع دليل الجواز، وقد وقع في القرآن في موضعين: الموضع الأول: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1099 فالصلاة من اللَّه تعالى: الرحمة والمغفرة، ومن الملائكة: الاستغفار، وهما معنيان متغايران، واستعمل لفظ " الصلاة " فيهما دفعة واحدة؛ حيث وقع الإخبار به، فدل ذلك على صحة استعمال المشترك في كل معانيه في وقت واحد. ما اعترض به على الاستدلال بهذه الآية: الاعتراض الأول: أن قوله تعالى: (يصلون) فيه ضميران: أحدهما عائد إلى اللَّه، والآخر عائد إلى الملائكة، وتعدد الضمائر بمنزلة تعدد الأفعال، فكأنه قال: " إن اللَّه يصلي وملائكته تصلي " فهو - إذن - بمثابة ذكر فعلين، ومسألتنا في استعمال اللفظة الواحدة في معنيين، وليس في استعمال لفظين في معنيين، ذكر ذلك تاج الدين الأرموي. جوابه: إن الآية لم ينطق بها إلا بلفظ واحد هو: (يصلون) ، فيكون اللفظ واحداً، - ولكن معناه قد تعدد، وقد أريد به كل معانيه. الاعتراض الثاني: أن لفظ " الصلاة " مشترك بالاشتراك المعنوي، دون اللفظي، بيان ذلك: أن لفظ " الصلاة " مستعمل في القدر المشترك بين المغفرة والاستغفار وهو: الاعتناء وإظهار شرف الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مشتركا معنويا، ولا يكون مشتركا لفظيا، ذكر ذلك الغزالي. جوابه: أن استعمال الصلاة في الاعتناء مجاز؛ لعدم تبادره إلى الذهن، والأصل في الكلام الحقيقة، فالصلاة مشتركة بين المغفرة والاستغفار، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1100 فيحمل عليهما مراعاة للمعنى الحقيقي، ولا يُعدل عنهما إلى المجاز إلا بقرينة، ولا قرينة. الاعتراض الثالث: أنه يجوز أن يكون قد حذف الخبر لوجود قرينة تدل عليه، كما في قول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف والتقدير: أن اللَّه يصلي، وملائكته يصلون. جوابه: إن هذا فيه إضمار، والإضمار خلاف الأصل. الموضع الثاني: قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أسند السجود إلى المذكورين في الآية، وحقيقة " سجود الناس ": وضع الجبهة على الأرض، وحقيقة سجود الدواب والشمس والقمر والنجوم هو: الخضوع والخشوع؛ لأن السجود على الجبهة غير متصور منها، فاستعمل "السجود" في الآية في معنييه، إذن لفظ " السجود " مشترك لفظي بين الخشوع ووضع الجبهة. اعتراض على ذلك: قال بعض المعترضين - كتاج الدين الأرموي -: لا نُسَلِّمُ أنه استعمل اللفظ الواحد في معنييه، بل المستعمل ألفاظ متعددة؛ لأن حرف العطف بمثابة تكرار العامل فيكون تقدير الآية: إن الله يسجد له من في السموات، ويسجد له من في الارض، وتسجد له الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1101 الشمس، ويسجد له القمر ... إلخ، فليس فيه إعمال للمشترك في معنييه، بل يكون اللفظ متعدداً أريد بكل واحد معنى من المعاني، وهذا خارج عن محل النزاع. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن العاطف بمثابة العامل؛ لأن الثابت عند جمهور النحاة أن العامل في المعطوف هو العامل في المعطوف عليه، وبذلك يُساوَى الثاني بالأول إعرابا وحكما، والعامل في الثاني هو الأول بواسطة العاطف، فيكون مجموع الخضوع ووضع الجبهة مراداً. الجواب الثاني: أنه لو سلمنا أن العاطف بمثابة العامل للزم من ذلك أن يكون المراد من سجود الشمس والقمر والجبال والشجر هو: وضع الجبهة على الأرض؛ لأنه مدلول الأول، وهو ظاهر البطلان؛ لأنه لا يتحقق في الشمس ولا في القمر ونحوهما، فثبت ما قلناه. الدليل الثاني: أن كل عاقل يصح أن يقصد بقوله: " لا تنكح ما نكح أبوك " نهيه عن العقد وعن الوطء جميعاً من غير تكرار اللفظ، ولا ينكر هذا إلا مكابر معاند، فثبت ما قلناه وهو: أنه يصح أن يراد باللفظ المشترك جميع معانيه. المذهب الثاني: أنه لا يجوز استعمال المشترك في جميع معانيه مطلقا. وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض أصحابه، كأبي الحسن الكرخي وبعض الشافعية كابن الصباغ، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1102 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الإنسان يجد من نفسه تعذر استعمال اللفظ المشترك في معنييه، ويجد تعذر استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه معا، قياساً على تعذر تعظيم زيد والاستخفاف به في آن واحد. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل، فإنه لا يمتنع تعظيم زيد والاستخفاف به في حال واحد، فإذا جاز ذلك: جاز استعمال اللفظ في معنييه في حال واحد. الجواب الثاني: على فرض أن الحكم في الأصل - وهو المقاس عليه - صحيح، فإن قياسكم ما نحن فيه عليه قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن تعظيم زيد والاستخفاف به في آن واحد يختلف عن حمل اللفظ المشترك في معنييه، أو حمل اللفظ على حقيقته ومجازه، فالمتكلم يجوز أن يريد باللفظ المشترك معنييه معا، ويجوز أن يريد المبنى الحقيقي والمجازي في خطابين في آن واحد، ولكن لا يجوز أن يعظم زيدا ويستخف به بقولين في آن واحد؛ حيث إن التعظيم ينبئ عن ارتفاع حال المعظم، أما الاستخفاف به، فإنه ينبئ عن انحطاط حاله، وليس كذلك ما نحن فيه، ثم لا نقول بحمل اللفظ المشترك إلا فيما أمكن الجمع فيه بين المعنيين مثل لفظ " النكاح "، فإنه يصح حمله على معنييه وهما: العقد والوطء، وذلك في قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) . الدليل الثاني: أنه لو جار حمل اللفظ على معنييه لجاز أن يراد بلفظ " افعل " الاباحة، والإيجاب، والندب، وكذلك لو جاز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1103 حمل اللفظ المشترك على معنييه لجاز أن يريد بقوله: (اقتلوا المشركين) : المشركين والمؤمنين، وبقوله: (يا أيها الناس) : الناس والبهائم. جوابه: أنا نقول: يحمل اللفظ على معنييه بشرط: إمكان الجمع بين المعنيين وفي جميع الأمثلة السابقة التي ذكرتموها في دليلكم يمتنع الجمع؛ لوجود التضاد، كما أن لفظ " الناس " لا يجري على البهائم، ولفظ " المشركين " لا يجري على المؤمنين؛ لعدم تصوره، لا حقيقة ولا مجازاً. المذهب الثالث: التفصيل بين النفي والإثبات، بيانه: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه في النفي، سواء كان هذا اللفظ مفرداً أو غير مفرد، ولا يصح استعماله في الكل في الإثبات مطلقا، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن المشترك إذا وقع في النفي يكون عاما؛ لأنه يكون نكرة في سياق النفي وهي تعم، فإذا حلف لا يكلم مواليه: تناول الأعلى والأسفل، وإذا قال: " ليس عندي عين "، وأراد نفي كل ما يصدق عليه عين صح ذلك، ولو قال: " لا تعتدي بقرء "، فإنه يحمل على معنييه الطهر والحيض، ولكن لو وقع ذلك في الإثبات فلا يجم؛ لأن النكرة في سياق الإثبات لا تعم، فلا يوجد ما يقتضي العموم، فلا تصح إرادته. جوابه: لا نسلم الفرق الذي ذكرتموه بين النفي والإثبات؛ حيث إن اللفظ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1104 إذا وقع في النفي يكون مراداً منه ما أريد به في الإثبات، فإن أريد به في النفي جميع معانيه كان المراد به في الإثبات جميع معانيه ولا فرق بينهما. وأيضا: فإن النكرة في سياق النفي تعم في أفراد مدلول واحد، لا في أفراد المدلولات المختلفة. المذهب الرابع: أنه يصح استعمال اللفظ المشترك في كل معانيه بشرط: أن يكون مثنى أو جمعا سواء وقع ذلك في سياق الإثبات أو النفي، ولا يصح استعماله في جميع معانيه إذا كان مفرداً، سواء كان واقعا في الإثبات أو النفي. دليل هذا المذهب: أن اللفظ المشترك إذا كان جمعا، فإنه يكون بمثابة تكرار المفرد وتعدده، ويكون كل لفظ من الألفاظ المفردة مراداً به معنى من المعاني، فالمثنى والجمع في حكم تعدد الأفراد، فقولك: " ثلاث عيون " في قوة قولك: عين، وعين، وعين، فكما يجوز أن تريد بالأولى العين الباصرة مثلاً، وبالثانية العين الجارية، وبالثالثة الذهب، فكذا في الجمع. جوابه: نسلم لكم أن الجمع بمثابة تكرار المفرد وتعدده، ولكن ذلك مشروط بأن تكون تلك المفردات متساوية في المعنى، فمثلاً إذا قيل: " عندي عيون " لزم أن تكون المفردات المجموعة من نوع واحد وهو العيون الجارية، ولا يصح أن يكون مراداً بعين: الذهب، وبأخرى الجارية، وبالثالثة الباصرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1105 تنبيه: لقد قلت: إنه يصح أن يراد باللفظ جميع معانيه حقيقة، وهو المذهب الأول، وأقصد بذلك: أن اللفظ المشترك وضع في أصل اللغة ليدل على معانيه على البدل، فإذا وجدت قرينة تدل على المعنى المراد باللفظ المشترك حمل عليه، وإن لم توجد قرينة تدل على المعنى المراد: فلا يمتنع أن يراد باللفظ جميع معانيه الصالح لها مطلقا أي: سواء كان مفرداً أو مثنى، أو جمعاً، أو مثبتا، أو منفيا بشرط : إمكان الجمع بين معانيه. أما إذا لم يكن الجمع بين معانيه ممكناً؛ نظراً لتضادها، أو تناقضها، فلا يجوز حمله على معانيه المختلفة. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة معنوي قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - هل يقع طلاق المكره؟ من قال: يحمل اللفظ المشترك على معنييه معا ذهب إلى أنه لا يقع طلاق المكره مستدلين بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا طلاق ولا عتاق في إغلاق " حملاً للفظ " إغلاق " على معنييه وهما: " الجنون والإكراه "، وهو مذهب كثير من الفقهاء وهو الحق. أما من منع حمل اللفظ المشترك على معنييه فعندهم أن حكمه: التوقف؛ لأنه مجمل، فلا يحمل اللفظ على معنييه ولا على أحدهما إلا بقرينة، ولذلك قالوا بوقوع طلاق المكره، وهم كثير من الحنفية. 2 - هل أولياء الدم يخيرون بين القصاص والدية في القتل العمد العدوان؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1106 من حمل اللفظ المشترك على معنييه معا ذهب إلى أنهم يخيرون بينهما حملاً لكلمة " سلطانا " في قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) على معنييها وهما: القصاص والدية. أما من منع حمل اللفظ المشترك على معنييه، فإنهم ذهبوا إلى عدم التخيير، وحملوا لفظ " سلطانا " على القصاص فقط؛ لعدم جوار حمل اللفظ على معنييه معا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1107 المبحث الخامس بيان أن الاشتراك خلاف الأصل الاشتراك مرجوح عند السامع، أي: إذا دار اللفظ بين كونه مفرداً، وكونه مشتركا حمل على الانفراد دون الاشتراك، فالأصل في كل لفظ أن يكون له معنى واحد فقط، أما أن يكون للفظ الواحد أكثر من معنى - وهو: المشترك - فهو خلاف الأصل. ودلَّ على أن اللفظ الذي له معنى واحد راجح، وأن اللفظ الذي له أكثر من معنى مرجوح أدلة، من أهمها: الدليل الأول: الاستقراء والتتبع للألفاظ العربية أثبت أن أكثرها ألفاظ منفردة ليس لها إلا معنى واحد، والكثرة تفيد الظن والرجحان فيكون اللفظ المنفرد بمعنى واحد أكثر وجوداً من اللفظ الدال على معنيين فأكثر - وهو المشترك - فيكون مرجوحا؛ نظراً لقلته. الدليل الثاني: لو كان الاشتراك راجحاً على انفراد اللفظ بمعنى واحد أو مساويا له للزم من ذلك أمران باطلان: أولهما: التسلسل وهو باطل. بيانه: أنه لا يمكن فهم المعنى من اللفظ إلا بعد الاستفسار من المتكلم عما أراده من ذلك اللفظ المشترك؛ لاحتمال أن يكون قد أراد بذلك اللفظ معنى غير ذلك المعنى الذي فهمه السامع، وهذا الاستفسار لا يكفي؛ لأن المستفسر منه سيأتي بلفظ يحتاج - أيضا - إلى استفسار، وهكذا إلى ما لا نهاية له، وهذا تسلسل، والتسلسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1108 باطل، فهذا يدل على أن الاشتراك باطل، ونظراً لذلك فإنه لا ينظر إلى هذا الاحتمال، ويفهم من اللفظ معناه بدون أي استفسار؛ لكونه هو الراجح. ثانيهما: عدم الاستدلال بنصوص الكتاب والسُّنَّة على ظن الحكم، وهو ظاهر - البطلان. بيانه: أنه لا يصح الاستدلال بالنصوص من الكتاب أو السُنَّة على الظن بالحكم المطلوب؛ وذلك لاحتمال أن يكون الشارع قد أراد من النص معنى يخالف المعنى الذي فهمه السامع. وعدم الاستدلال بالنصوص على ظن الحكم باطل؛ لأنه يترتب على ذلك ذهاب الشريعة كلها؛ حيث إن هذين الأصلين - وهما الكتاب والسُّنَّة - يعتبران الدليلان الأصليان لإثبات الأحكام الشريعة، وغيرهما من الأدلة راجعة إليهما، وبذلك يكون الاشتراك مرجوحاً. الدليل الثالث: أن الاشتراك يؤدي إلى مفسدة ترجع إلى السامع، وهي: أن السامع قد لا يفهم المعنى المراد؛ لعدم القرينة الدالة عليه، ولا يستفسر من المتكلم؛ لأمور هي: 1 - هيبة المتكلم لعظمته، 2 - أن السامع يرى أن الاستفسار مشعر بجهله، 3 - أنه مصاب بمرض قد منعه من الاستفسار، 4 - أن وقته ضيق. فيفهم السامع ذلك اللفظ فهماً غير صحيح، ثم يحكيه لغيره، ثم غيره يحكيه لغيره وهكذا، وفي ذلك إفشاء للجهل وفساد كبير. الدليل الرابع: أن الكلام بالمشترك يؤدي إلى ضياع شيء كان ينبغي المحافظة عليه: فقد يتكلم المتكلم بالمشترك ويعتمد على فهم السامع، فيفهم السامع خلاف ما أراده، فيترتب. على هذا الخطأ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1109 الفهم ضياع أموال للمتكلم، فمثلاً لو قال السيد لعبده: " أعط الفقير عيناً " وهو يريد من العين: الماء، واعتقد في ذلك على فهم العبد، فأعطى العبد الفقير ذهبا، فإن السيد يخسر ذلك المال، وهذا نتج عن الكلام باللفظ المشترك، فبان أن المشترك مرجوحا، فيكون خلاف الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1110 المبحث السادس حالات اللفظ المشترك عند وجود القرينة أو عدمه هذا المبحث يعتبر تفريعاً على المبحث الرابع، وأبين ذلك فأقول: الحالة الأولى: إذا تجرد اللفظ المشترك عن القرائن العاملة، أو الملغية لكل المعاني، أو لبعضها، فإن هذا يكون مجملاً عند من منع استعماله في كل معانيه، فلا يحمل على شيء من المعاني حتى تقوم القرينة، أما عند من جوز استعماله في كل معانيه، فإنه لا يكون مجملاً، بل السامع يحمله على كل معانيه إذا أمكن الجمع بينها. الحالة الثانية: إذا وجدت قرينة رجحت أكثر من معنى، فإنه يكون مجملاً عند من منع استعماله في كل معانيه، وأما من جوز حمله على أكثر من معنى، فإنه يحمله على ما دلَّت عليه القرينة مثل: "عندي عين صافية "، فإنه يحمل على كل عين ما عدا عين الجاسوس؛ لأن الصفاء يشترك فيه ما عدا ذلك من المعاني: كالشمس، والذهب، والباصرة، والجارية. الحالة الثالثة: إذا وجدت قرينة تلغي بعض معانيه وتجعل ذلك البعض غير مراد: فإن كان الباقي معنى واحداً تعين حمله عليه، وإن كان أكثر فهو مجمل عند من منع استعماله في الكل، ويحمل على المعاني الباقية بعد إلغاء البعض عند من جوز حمله على الجميع مثل: " هذه عين ليست ذهبا ولا باصرة ". الحالة الرابعة: إذا وجدت قرينة تلغي كل معانيه، ففي هذه الحالة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1111 لا يحمل على شيء من معانيه الحقيقية اتفاقا؛ لوجود القرينة المانعة، ولكن يحمل اللفظ على مجازه، وحينئذٍ لا يخلو: إما أن يكون المجاز واحداً، فإنه يُحمل عليه. وإما أن تكون المجازات متعددة، فلا يخلو. إما أن تتساوى تلك المجازات، ففي هذه الحالة يكون اللفظ مجملاً عند من منع حمل اللفظ على جميع معانيه، ويحمل على تلك المجازات جميعها عند من جوز استعماله في الكل. وإما أن لا تتساوى تلك المجازات، بل ترجح بعضها على البعض الآخر، فإن كان الراجح واحداً فإنه يحمل عليه، وإن كان متعدداً فإنه يكون مجملاً عند من منع حمل اللفظ على جميع معانيه، ويحمل على الكل عند من جوز حمل اللفظ على جميع معانيه. الحالة الخامسة: إذا وجدت قرينة تعين بعض معانيه، ففي هذه الحالة يجب حمله على ما دلت عليه القرينة مثل قوله تعالى: (فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ) ، فإنه يحمل على الماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1112 المبحث السابع الفرق بين المشترك والمتواطئ المشترك قريب الشبه من المتواطئ إلى درجة أنه يعسر على الذهن التفريق بينهما، قال الآمدي: " قد يظن في أشياء أنها مشتركة وهي متواطئة، وفي أشياء أنها متواطئة، وهي مشتركة "، لذلك عقدت هذا المبحث لبيان الفرق بينهما فأقول: إن المشترك هو: اللفظ الواحد الذي يطلق على معنيين فكثر، لا تشترك في الحد والحقيقة مثل: " العين "، و " القرء "، كما سبق بيانه، ويشترط فيه حصر معانيه، وتغاير أفراده. أما المتواطئ فهو: الذي يحصل معناه في أفراده الذهنية أو الخارجية على السوية مثل " الإنسان "، أو هو: المستوي في الأفراد دون حصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1113 المبحث الثامن الفرق بين المشترك والمتواطئ والمشكك يقرب من المشترك والمتواطئ: المشكك. فالمشكك مشتق من الشك؛ لأنه يشك الناظر فيه هل هو مشترك أو متواطئ، فإن نظر إلى إطلاقه على المختلفات قال هو: مشترك كالعين والقرء. وإن نظر إلى أن مسماه واحد: قال: هو متواطئ، فجاء هذا الشك؛ لاستواء الأفراد في حصول معناه لها، وتفاوتها في مفهومه بالأولوية وغيرها، ولعلي أشرح ذلك قائلاً: إن الكلي إن تفاوتت أفراده بقلة وكثرة كنور الشمس والسراج، أو تفاوتت أفراده بشدة وضعف كبياض الثلج، وبياض العاج: فإن هذا مشكك؛ لأن الناظر يشك فيه هل هو من المتواطئ؛ لوجود الكلي في أفراده والتساوي، أو مشترك لتغاير أفراده. وبناء على هذا يمكن أن نعرف المشكك بأنه: اللفظ الموضوع لمعنى كلي مختلف في محاله. وأتينا بعبارة: " مختلف في محاله " لإخراج المتواطئ؛ لأنه مستو في محاله. أما قول بعضهم - كابن التلمساني - من أنه لا حقيقة للمشكك؛ حيث إن ما به التفاوت إن دخل في التسمية فمشترك، وإلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1114 فمتواطئ، فإنا نجيب عنه بأن كلًّا من المتواطئ والمشكك موضوع للقدر المشترك، لكن: إن كان التفاوت بأمور من جنس المسمى: فمشكك مثل: نور الشمس والسراج. وإن كان بأمور خارجة عنه كالعلم، والجهل، والذكورة، والأنوثة، فمتواطئ مثل: هذا إنسان عالِم، وهذا إنسان جاهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1115 خاتمة في بيان الكلي، والكلية، والكل، والجزئي والجزئية، والجزء لما عرفنا أن المتواطئ والمشكك قسمان للكلي باعتبار استواء أفراده في معناه، وتفاوتها فيه: كان لا بد من بيان المراد من الكلي والفرق بينه وبين الجزئي، والكل، والكلية، والجزء، والجزئية، فأقول: الكلي هو: ما لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه. أي: لا يكون معناه شخصا معينا، بل هو معنى عام يصدق على كثيرين كالإنسان، فإنه يصدق على زيد، وعمرو، وعلي، وبكر، وغيرهم مما لا يحصى، وهؤلاء الكثيرون هم أفراده وجزئياته. أما الجزئي فهو الذي يمنع تصوره من الشركة فيه. أي: ما كان معناه شخصا لا يصدق على كثيرين نحو: " زيد "، و" عمرو "، و " هذا الرجل ". أما الكل فهو: الحكم على المجموع من حيث هو مجموع مثل قولنا: " كل رجل يحمل الصخرة العظيمة ". والفرق بين الكلي والكل هو: أن الكلي يجوز حمله على أفراده وجزئياته حمل مواطأة، كما يجوز تقسيمه إليها بأداة التقسيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1116 مثاله: " الحيوان "، فيصح أن يقال: " الإنسان حيوان "، ويقال: " الفرس حيوان "، ويقال: " الحيوان إما إنسان أو فرس ". بخلاف " الكل "، فإنه لا يجوز حمله على أفراده حمل مواطأة، كما لا يجوز تقسيمه إليها بأداة التقسيم مثل: " الشجرة "، فلا يصح أن يقال: " الأغصان شجرة "، ولا يقال: " الشجرة إما أغصان أو جذع ". وإنما يقال: " ذات جذع وذات أغصان ". أما " الكلية " فهي: الحكم على كل فرد بحيث لا يبقى فرد مثل قولنا: " كل رجل يشبعه رغيفان ". والفرق بين " الكل "، و " الكلية " هو: أن " الكل " لا يتبع الحكم فيه كل فرد من أفراده، بل يكون الحكم على الكل بالحمل على مجموعه مثل المثال السابق، وهو: " كل رجل يحمل الصخرة العظيمة "، فليس كل فرد محكوم عليه بأن يحمل تلك الصخرة، بل أن يجتمع كل الأفراد على تلك الصخرة يحملونها. بخلاف " الكلية "، فتبع الحكم فيها كل فرد من أفرادها مثل المثال السابق وهو قولنا: " كل رجل يشبعه رغيفان " معناه: كل فرد من الأفراد محكوم عليه بأنه يشبعه رغيفان. أما الجزء فهو: ما تركب منه ومن غيره " كل " مثاله: " الخمسة مع العشرة "، و " الجذع بالنسبة للشجرة ". أما الجزئية فهي الحكم على بعض أفراد الحقيقة من غير تعيين مثل: " بعض الحيوان إنسان ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1117 الفصل الخامس في الترادف ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: حكم الترادف. المبحث الثالث: أسباب الترادف. المبحث الرابع: شرط الترادف. المبحث الخامس: بيان أن الترادف خلاف الأصل. المبحث السادس: هل يجوز استعمال أحد المترادفين مكان الآخر؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1119 المبحث الأول تعريف الترادف الترادف لغة: مأخوذ من الرديف، وهو: ركوب اثنين على دابة واحدة. والترادف اصطلاحا هو: توالي الألفاظ المفردة الدالة على مسمى واحد باعتبار واحد مثل: " البر والقمح "، و " جلس وقعد ". بيان التعريف والمحترزات: قوله: " توالي الألفاظ " معناه: تتابع الألفاظ، والمراد بالألفاظ: اثنان فأكثر، وهذا جنس في التعريف يتناول الترادف وغيره من توالي الألفاظ المركبة، والمتباينة. قوله: " المفردة " أخرج توالي الألفاظ المركبة، أو المركبة مع المفردة مثل: الحد مع المحدود كالإنسان، وحيوان ناطق، أو الحد مع الرسم كجسم ضاحك بالنسبة للإنسان، فذلك لا يكون مترادفا؛ لاختصاص الترادف بالمفردات. قوله: " الدالة " أخرج الألفاظ المفردة المهملة كديز. قوله: " على مسمى واحد " أخرج الألفاظ المتباينة؛ لأنها ألفاظ مفردة يدل كل واحد منها على معنى يخالف ما دلَّ عليه اللفظ الآخر مثل: الإنسان، والفرس. قوله: " باعتبار واحد " أخرج أمرين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1121 أولهما: توالي الألفاظ المفردة المترادفة الدالة على مسمى واحد، لكن باعتبارين مثل: " السيفْ "، و " الصارم "، و، المهند "، و"الناطق "، و " الفصيح "، فإن هذه ليست مترادفة، لاختلاف المعنى. ثانيهما: توالي لفظين مفردين دالين على مسمى واحد، لكن أحدهما بطريق الحقيقة، والآخر بطريق المجاز مثل؛ " الأسد "، و" الشجاع " بالنسبة للإنسان القوي، فإن الشجاع يدل عليه باعتبار الحقيقة، وأسد يدل عليه باعتبار المجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1122 المبحث الثاني حكم الترادف لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الترادف جائز عقلاً وواقع في اللغة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال. الدليل الثاني: أنه واقع في اللغة، ووقوعه دليل جوازه؛ فإنه بعد الاستقراء والتتبع لألفاظ اللغة ثبت وجود الترادف فيها: إما بجسب اللغة مثل: " الإنسان والبشر ". أو بحسب الشرع مثل: " الفرض والواجب " على رأي كثير من العلماء. أو بحسب العرف مثل: " الأسد والسبع ". أو بحسب لغتين مختلفتين مثل: " الله، وخداي بالفارسية ". المذهب الثاني: أن الترادف غير جائز: نسب هذا إلى ابن فارس وشيخه: ثعلب. دليل هذا المذهب: أنه يلزم من وقوع الترادف نقض الغرض من وضع الألفاظ، حيث إن الغرض هو تحصيل الفائدة بالمراد عند السامع، وهو قد حصل بأحد اللفظين، فاللفظ الآخر غير مفيد فائدة جديدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1123 جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن الألفاظ المترادفة محصورة فائدتها فيما ذكر، بل فيها فوائد منها: تكثير وسائل الإخبار عما في النفس، والتوسع في مجال النظم والقافية، وسيأتي بيان ذلك في أسباب الترادف. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لوجود الألفاظ المترادفة في اللغة، لكن الفريق الثاني لا يسميها بذلك، وقام بتأويلها بتأويلات فيها تعسف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1124 المبحث الثالث أسباب الترادف السبب الأول: أن يصدر اللفظان المترادفان من واضعين، فيضع أحدهما لفظا لمعنى ويشتهر في قبيلة ذلك الواضع، ثم يضع الشخص الآخر لفظا آخر لذلك المعنى، ويشتهر ذلك في قبيلته، ثم اشتهر اللفظان ولم يتميزا، ولم يعين أي واضع، وهذا هو السبب الأكثري، كما ذكر فخر الدين الرازي. السبب الثاني: أن يكون اللفظان المترادفان قد صدرا من واضع واحد، ويكون الهدف والقصد والغرض من وضعه للفظين لمعنى واحد فائدتين هما: الفائدة الأولى: تكثير وسائل الإخبار عما فى النفس، وتكثير الطرق إلى المطالب، فإن للمتكلم - حينئذٍ - استعمال أي لفظ شاء، وإذا عسر عليه النطق بأحد اللفظين فإنه يعبر عن المعنى المراد بلفظ آخر، فمثلاً يعبر من لا يستطيع النطق بالراء بالقمح بدلا عن البر، كذلك إذا كان المعنى معروفا لديه، ولكن نسي اللفظة المعبرة عنه، فإنه يأتي بلفظة مرادفة لها. الفائدة الثانية: التوسع في مجال النظم - وهو: الكلام الموزون على أوزان العروض -، والنثر - وهو: الكلام غير الموزون - والقافية - وهي: آخر كلمة في بيت الشعر - والتجنيس - وهو: اتفاق اللفظين من وجه من الوجوه، ويختلف معناهما -: مثل: لو قلت: " اشتريت البر وأنفقته في البر "، فإنه أحسن من قولك: " اشتريت القمح وأنفقته في البر " لفوات المجانسة، والحرص على القلب مثل قوله تعالى: " وربك فكبر "، - فلو قيل: " الله فكبر " لذهب القلب، وهكذا سائر أصناف البديع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1125 المبحث الرابع شرط الترادف يشترط في اللفظين المترادفين: أن يدلان على المعنى دون زيادة أحدهما على الآخر مثل: " الليث والأسد والغضنفر "، ومثل: "القمح والبر "، و " العقار والخمر "، فإنه يطلق على كل واحد من تلك أنها مترادفة؛ حيث إن المفهوم من الاسمين واحد دون مزية أحدهما على الآخر بأي شيء. أما إذا كان أحد اللفظين يدل على المعنى مع زيادة لم يأت بها اللفظ الآخر، فإنه لا يكون هذان اللفظان مترادفين، وذلك لاختلافهما في المدلول والمفهوم، فمثلاً لفظ " السيف "، و " المهند " و" الصارم " قد تبدو للناظر أنها مترادفة، وهي في الحقيقة ليست كذلك، وذلك لأن مدلول ومفهوم " المهند " يخالف مفهوم " السيف " لوجود زيادة فيه دون السيف؛ حيث إنه يفهم منه نسبته إلى الهند، وكذلك " الصارم " يدل على السيف مع زيادة صفة الحدة وسرعة القطع، فعرفت بذلك أن تلك الألفاظ ليست مترادفة؛ لانعدام شرط الترادف؛ حيث اختلفت في المدلول والمفهوم، فيكون كل لفظ من تلك الألفاظ له مدلوله ومفهومه الخاص، ولا تكون من المترادفة، لذلك قلنا في التعريف: " باعتبار واحد ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1126 المبحث الخامس بيان أن الترادف خلاف الأصل الأصل: أن لكل معنى لفظا واحداً خاصا به، فيكون الترادف وهو - أن يكون للمعنى الواحد أكثر من لفظ - خلاف هذا الأصل. ودلَّ على ذلك دليلان: الدليل الأول: أن الترادف يلزم منه تعريف المعرَّف. بيانه: أنا لما عرفنا المعنى بأحد اللفظين وحصل المقصود، فالأصل عدم الثاني؛ لعدم الحاجة إليه، ولأنه يلزم منه تعريف المعرف، فيكون تحصل حاصل وهو باطل. الدليل الثاني: أن الترادف موجب للمشقة؛ لأن الشخص إذا حفظ لفظا ظن أنه الطريق إلى المطلوب فقط، ولما كان لكل معنى لفظان فأكثر: فإنه يحتاج إلى حفظ كل لفظ يدل على ذلك المعنى، ولا شك أن في ذلك مشقة، والأصل عدمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1127 المبحث السادس هل يجوز استعمال أحد المترادفين مكان الآخر؟ انفراد المترادفات يصح إقامة بعضها مكان بعض إجماعا، فيقام لفظ " بر " مكان لفظ " قمح "، و " قعود " مكان " جلوس "، وهكذا. ولكن الاختلاف إنما هو في حالة تركيب المترادفات، ففي ذلك مذاهب: ْالمذهب الأول: أن ذلك يجوز في لغة واحدة، ولا يجوز من لغتين مختلفتين، وهو مذهب كثير من العلماء، ومنهم البيضاوي، وصفي الدين الهندي، وهو الحق؛ لأن وضع أحد المترادفين موضع الآخر من لغة واحدة لا يلزم منه الإخلال والإفساد للمعنى، أي: أن صحة التركيب وفساده متعلق بالمعنى دون اللفظ، فإذا صح المعنى لم يبق محذور؛ لأن كلا اللفظين معروف لأهل هذه اللغة، فكان ذلك جائزاً. أما وضع أحد المترادفين موضع الآخر من لغتين فلا يجوز، فلا يصح " خداي أكبر " في موضع: " اللَّه أكبر "، وقلنا ذلك لأمرين: أولهما: أنه يلزم منه اختلاط اللغتين. ثانيهما: أنه يلزم منه ضم مهمل إلى مستعمل؛ لأن اللفظ المرادف من اللغة الأخرى يعتبر مهملاً بالنظر إلى أهل اللغة الأخرى الذين لا يفهمونه، فعلى هذا: يكون التخاطب به ممتنعا لذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1128 المذهب الثاني: أنه يجوز وضع أحد المترادفين مكان الآخر مطلقا. وهو مذهب ابن الحاجب، وهو مذهب كثير من الحنفية. دليل هذا المذهب: أن المقصود من التركيب: معناه، دون لفظه، وما دام أن المعنى لم يتغير في اللفظين، فلا مانع من وضع أحدهما مكان الآخر، سواء كان ذلك من لغة واحدة أو من لغتين، فلما انتفى المانع: وجب العمل بالمقتضى لسلامته عن المعارض. جوابه: أنا نوافقكم في أنه يجوز وضع أحد اللفظين مكان الآخر في لغة واحدة - كما ذكرنا - ولكن نمنع ذلك في لغتين، ويمنع ذلك أمران هما: اختلاط اللغتين، وضم مهمل إلى مستعمل، وقد سبق بيانهما. المذهب الثالث: أنه لا يجوز وضع أحد المترادفين مكان الآخر مطلقاً. وهو مذهب فخر الدين الرازي وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه لا فرق في كون اللفظ موضوعاً للمعنى باصطلاح لغة واحدة أو لغتين، فلو جاز إقامة كل واحد من المترادفين مقام الآخر لجاز وضع قوله: " خداي أكبر " موضع " اللَّه اكبر "، ولكنه لا يجوز باتفاق، وهذا يتحقق في اللغة الواحدة، كما يتحقق في اللغتين. جوابه: أنه يوجد فرق بين أن يكون من لغة واحدة وبين أن يكون من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1129 لغتين، فإذا كان وضع أحد المترادفين في لغة واحدة، فهذا جائز؛ لعدم اختلاط اللغتين، ولعدم ضم مهمل إلى مستعمل، أما وضع أحد المترادفين من لغتين، فهذا لا يجوز لوجود الأمرين السابقين. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث أثر في مسألة أصولية وهي: هل يجوز نقل الحديث بالمعنى. فعلى المذهب الأول: يجوز نقل الحديث بالمعنى في لغة واحدة، دون اللغتين، وعلى المذهب الثاني: يجوز نقل الحديث في لغة واحدة ومن لغتين، ويلزم على المذهب الثالث: أنه لا يجوز نقل الحديث بالمعنى مطلقاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1130 الفصل السادس في التأكيد والتابع قد يظن بعضهم أن التأكيد مع المؤكد، والتابع مع المتبوع مثل: "جاء محمد عينه "، و " عطشان بطشان " من الألفاظ المترادفة؛ لأن كلاً منهما لفظان مفردان يدلان على معنى واحد، ولكن الحقيقة أنه لا يوجد ترادف في مثل هذه الأمثلة، وسأبين ذلك بالتفصيل في المبحثين التاليين: المبحث الأول: في التأكيد. المبحث الثاني: في التابع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1131 المبحث الأول في التأكيد ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف التأكيد. المطلب الثاني: الفرق بينه وبين المترادف. المطلب الثالث: حكم التأكيد. المطلب الرابع: أقسام التأكيد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1133 المطلب الأول تعريف التأكيد التأكيد لغة من باب التفعيل، وهو: التقوية. واصطلاحا هو: تقوية مدلول لفظ بلفظ آخر مستقل بالإفادة. بيان التعريف: قوله: " تقوية مدلول لفظ بلفظ آخر " يشمل التوكيد والتابع، وهو مخرج للمترادف؛ لأنه لا تقوية فيه. وقوله: " مستقل بالإفادة " أخرج التابع؛ لأن التابع لا يستقل بالإفادة، بل لا بد من المتبوع لكي يفيد. *** المطلب الثاني الفرق بينه وبين المترادف لقد اتضح من التعريف السابق: " أن اللفظ المؤكِّد - بكسر الكاف - يقوي اللفظ المؤكَّد - بفتح الكاف -، أما اللفظان المترادفان فلا يقوى أحدهما الآخر؛ لأن اللفظ المترادف يدل على الذات، لا على التقوية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1135 المطلب الثالث حكم التأكيد لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن التوكيد جائز عقلاً وواقع في اللغة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: أنه لا يترتب على فرض وقوعه محال. الدليل الثاني: أنه واقع في اللغة، والوقوع دليل الجواز، فإنه بعد الاستقراء والتتبع ثبت وجود الألفاظ المؤكدة لألفاظ أخرى، كقولنا: " جاء زيد عينه "، و " جاء العلماء كلهم "، ونحو ذلك. المذهب الثاني: أن التأكيد غير جائز. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الأصل في الكلام التأسيس، والإفادة فائدة جديدة، والتأكيد لا يفيد فائدة جديدة، فاللفظ الأول قد أفاد الغرض، فالثاني لا داعي له، فلا يرد ذلك في كلام العرب. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ لكم أن اللفظ - المؤكد - لا يفيد، بل يفيد الاهتمام بالمتكلم عنه، ودفع توهم المجاز من اللفظ المؤكَّد، وتضييق توسع الفهم. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا - لفظي؛ لوجود التوكيد في الكتاب والسُّنَّة واللغة، لكن الفريق الثاني يسمى ذلك باسم آخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1136 المطلب الرابع أقسام التأكيد ينقسم التأكيد إلى قسمين: القسم الأول: أن يؤكد اللفظ بنفسه، وهو نوعان: النوع الأول: تأكيد اللفظ بنفسه إذا كان مفرداً مثل: " جاء محمد محمد". النوع الثاني: تأكيد اللفط بنفسه إذا كان جملة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشاً، والله لأغزون قريشا ". القسم الثاني: أن يؤكد اللفظ بغيره، وهو أنواع: النوع الأول: أن يكون المؤكد مفرداً، فيؤكد بألفاظ معروفة مثل: " النفس "، و " العين "، فنقول: " جاء زيد نفسه أو عينه ". النوع الثاني: أن يكون المؤكد مثنى، فيؤكد بلفظ " كلا "، و"كلتا"، فتقول: " جاء الرجلان كلاهما "، و " جاءت المرأتان كلتاهما". النوع الثالث: أن يكون المؤكد جمعا، فيؤكد بلفظ " كل "، و"أجمعون "، قال تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ، ويؤكد - أيضا - بلفظ " أكتع "، و " أبتع "، و " أبصع ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1137 المبحث الثاني في التابع ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف التابع. المطلب الثاني: الفرق بينه وبين المترادف. المطلب الثالث: بيان وجه الاتفاق بين التابع والتأكيد ووجه الفرق بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1139 المطلب الأول تعريف التابع التابع في اللغة مشتق من " تبع " على وزن " علم "، وتابع القوم هو الذي يمشي خلفهم، أو الذي يمضي معهم إذا مروا به. واصطلاحا هو: أن تتبع الكلمة الكلمة على وزنها أو رويها إشباعا أو تأكيداً مثل: " عطشان نطشان "، و " جائع نائع "، و"شذر مذر "، و " شيطان ليطان "، و " حياك الله وبياك "، و"حقير نقير "، و " خراب يباب ". *** المطلب الثاني الفرق بين التابع وبين المترادف التابع - وهو اللفظ الذي بعد اللفظ الأول - لا يفيد شيئاً غير تقوية اللفظ الأول، فلا يفيد بدون المتبوع. أما اللفظان المترادفان، فإن كل واحد من المترادفين يفيد المعنى لو انفرد؛ لأنه مثل مرادفه في الرتبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1141 المطلب الثالث بيان وجه الاتفاق بين التابع والتأكيد ووجه الفرق بينهما وجه الاتفاق بينهما: أن كلًّا من التأكيد والمؤكد، والتابع مع المتبوع لم يفد عين ما أفاده الآخر، وإنما أفاد تقوية المعنى - فقط -. ووجه الفرق بينهما: أن التابع يشترط فيه: أن يكون على وزن متبوعه مثل: " عطشان نطشان "، و " جائع نائع "، و " حسن بسن "، وغيرها من الأمثلة السابقة. أما التأكيد مع المؤكد فلا يشترط ذلك فيه مثل: " جاء زيد نفسه أو عينه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1142 الفصل السابع في الحقيقة والمجاز ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: الحقيقة. المبحث الثاني: المجاز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1143 المبحث الأول في الحقيقة ويشتمل على المطلبين التاليين: المطلب الأول: تعريف الحقيقة. المطلب الثاني: أقسام الحقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1145 المطلب الأول تعريف الحقيقة أولاً: الحقيقة لغة على وزن فعيلة، مأخوذة من الحق، واشتقاقه من الشيء المحقق، وهو المحكم، تقول: " ثوب محقق النسج " أي: محكم. ثانيا: الحقيقة اصطلاحاً هي: اللفظ المستعمل في موضوعه الأصلي. وإليك بيان هذا التعريف: قولنا: " اللفظ " جنس يشمل كل ما يتلفظ به مما يتكوَّن من حروف هجائية، سواء كان مستعملاً كزيد، أو مهملاً كديز، أو حقيقة، أو مجازاً. قولنا: " المستعمل " أخرج أمرين: أولهما: اللفظ المهمل كديز. ثانيهما: اللفظ قبل الاستعمال؛ حيث إنه لا حقيقة ولا مجازاً. قولنا: " في موضوعه الأصلي " أخرج المجاز؛ لأنه لفظ يستعمل في غير موضوعه الأصلي كلفظ " الأسد " يستعمل للرجل الشجاع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1147 المطلب الثاني أقسام الحقيقة تنقسم الحقيقة إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: حقيقة لغوية وضعية، وهي: الثابتة بالوضع. أي: أن يضع الواضع لفظا لمعنى إذا أطلق ذلك اللفظ فهم ذلك المعنى الموضوع له مثل لفظ " الأسد " يفهم منه الحيوان المفترس، فلا ينقدح في الذهن - عند إطلاقه - إلا هذا المعنى، فيكون حقيقة، وهذا هو المقصود بالحقيقة، وهي الأسبق إلى الذهن من الحقيقة العرفية والشرعية. *** القسم الثاني: حقيقة عرفية، والكلام عنها يكون فيما يلي: أولاً: المقصود بالحقيقة العرفية هو: قول خص في العرف ببعض مسمياته وإن كان وضعها للجميع حقيقة، مثل: لفظ " الدابة "، فإن وضعها بأصل اللغة لكل ما يدب على الأرض من ذي حافر وغيره، ثم هجر هذا المعنى، وصار في العرف حقيقة للفرس، ولكل ذات حافر. ثانيا: بيان كيف يصير الاسم عرفيا؟ يصير الاسم عرفيا باعتبارين هما: الاعتبار الأول: أن يكون للاسم معنيان فيستعمله أهل اللغة لمعنى واحد فقط دون الآخر، ويخصصونه به، ويعرف بينهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1148 من أمثلة ذلك: المثال السابق وهو تخصيص " الدابة " في العرف للفرس ولكل ذات حافر، مع أنه في اللغة يطلق على كل ما يدب على الأرض. مثال آخر: اسم " الفقيه " قد خصص عرفا بالعالم ببعض الأحكام الفقهية الشرعية، مع أن كل من يفقه قول الآخر يسمى فقيها بالوضع اللغوي، قال تعالى في ذلك: (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا) الاعتبار الثاني: أن يشيع استعمال الاسم في غير ما وضع له أصلاً. أي: في غير موضوعه اللغوي، ويكون بين الاستعمال اللغوي والاستعمال العرفي مناسبة، فيشيع هذا الاستعمال بين الناس، بحيث لا ينكره أحد. من أمثلة ذلك: اسم " الغائط "، فإنه يطلق لغة على المطمئن والمنخفض من الأرض، ثم استعمل عرفا في الخارج المستقذر من الإنسان، وهذا الاستعمال وإن كان مجازاً، إلا أنه اشتهر وشاع حتى صار هو المتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، ونسي الأول. مثال آخر: اسم " الراوية " هو في أصل الوضع اللغوي يطلق على الجمل الذي يسقى عليه الماء، ثم استعمل في وعاء الماء، وتعارف الناس على هذا الاستعمال، وهذا الاستعمال وإن كان مجازاً إلا أنه اشتهر وشاع حتى صار هو المتبادر إلى الفهم عند إطلاق لفظ " الراوية "، ونسي المعنى الأول وهو الجمل الذي يسقى عليه الماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1149 ثالثا: أنواع الحقيقة العرفية: الحقيقة العرفية نوعان: النوع الأول: عرفية عامة، وهي التي لم تخصصها طائفة دون أخرى. وهي التي ذكرناها في الاعتبارين السابقين مع الأمثلة. النوع الثاني: حقيقة عرفية خاصة وهي: ما خصته كل طائفة من الأسماء بشيء من مصطلحاتهم مثل: اسم " النقض "، و " الكسر" ونحو ذلك من قوادح القياس في اصطلاح الأصوليين، ونحو ذلك مما اصطلح عليه أرباب كل فن. *** القسم الثالث: حقيقة شرعية: وهي: اللفظ المستعمل في الشريعة على غير ما كان عليه في وضع اللغة كالصلاة مثلاً، فإنها في اللغة: الدعاء، فاستعمل هذا اللفظ في الشريعة على الأقوال والأفعال المخصوصة، فصارت حقيقة فيها. واختلف العلماء فيما استعمله الشارع من ألفاظ أهل اللغة مثل: لفظ " الصلاة "، و " الصوم "، و " الزكاة) ، و " الحج "، هل خرج به عن وضعهم أو لا؟ على مذاهب، من أهمها مذهبان: المذهب الأول: أن الشارع نقل لفظ " الصلاة "، و " الصوم "، و" الزكاة "، و " الحج " عن مسمياتها ومعانيها اللغوية إلى معانٍ أخر بينها وبين تلك المسميات - بحسب اللغة - مناسبة معتبرة واشتهرت بعد أن كانت لغوية، فصارت حقائق شرعية. هذا مذهب جمهور العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1150 فالصلاة في اللغة: الدعاء، والزكاة: النماء، والصوم: الإمساك، والحج: القصد، فنقل الشارع هذه الألفاظ من معانيها اللغوية السابقة واستعملها في معان أخر، وأعرض فيها عن الموضوع اللغوي، فوضع لفظ " الصلاة " على الأفعال والأقوال المخصوصة، ووضع لفظ " الزكاة " على إخراج مقدار من المال وإعطائه إلى قوم آخرين بشروط خاصة، وكذا يقال في الصوم والحج. فالشارع نقل اللفظ من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي، وليس نقلاً مطلقا، بل مع وجود علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فمثل ما تصرف أهل العرف في بعض الألفاظ بنقلها عن معناها الموضوعة له أصلاً، فكذلك الألفاظ الشرعية خصصت لفظة "الصلاة"، واستعملت في دعاء مخصوص. وهذا هو الصحيح عندي، لدليلين: الدليل الأول: الاستقراء والتتبع للألفاظ الشرعية التي استعملها الشارع: فإن الشارع قد استعمل لفظ " الحج "، و " الصوم "، و"الإيمان "، و " الزكاة "، و " الصلاة " في معان لها علاقة بمعناها اللغوي - كما سبق بيانه - فهو ليس نقلاً كليا للفظ، بل يوجد ارتباط بين المعنى اللغوي، والمعنى الشرعي. الدليل الثاني: القياس على فعل أهل اللغة في الألفاظ العرفية كلفظ الدابة، حيث خصصوه في ذوات الأربع مع أنه يطلق لغة على كل ما يدب على الأرض، ولم ينكر أحد هذا التصرف، فكذلك فعل المشرع في لفظ " الصوم "، و " الإيمان " ونحوهما، والجامع: أن كلًّا من فعل أهل اللغة وفعل المشرع ليس فيه نقلاً كليا للفظ، بل يوجد علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي والعرفي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1151 المذهب الثاني: أن الشارع نقل لفظ " الصلاة "، و " الصوم "، و" الزكاة " عن معناها اللغوية إلى معان شرعية نقلاً كليا، أي: بدون أي علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي، فهي معان مبتكرة ابتكرها المشرع، يجوز أن لا يلاحظ فيها المعنى اللغوي، وإذا حدث أن وجدت علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الشرعي: فهو اتفاقي، أي: بطريق الصدفة، وليس مقصوداً. ذهب إلى ذلك المعتزلة والخوارج، وبعض الحنفية كالسرخسي، والدبوسي، والبزدوي، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب. دليل هذا المذهب: أن الشارع قد نقل تلك الأسماء الشرعية، وتصرف بنقلها إلى معان غير معانيها اللغوية: فالصلاة لغة هي الدعاء، واستعمل الشارع هذا اللفظ لمجموع الأفعال الشرعية كالركوع، والسجود، والتسبيح، والتكبير، والنية، وغيرها، فاهل اللغة. لم يكونوا يعرفون هذه الصلاة ولا شروطها ولا أركانها، ثم صار اسم الصلاة اسما لمجموع هذه الأفعال. وكذلك لفظ " الصوم " هو لغة: الإمساك بصورة عامة، أي: سواء كان عن الأكل والشرب ليلاً أو نهاراً، أو عن الكلام، كما في قوله تعالى: (إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) ، واستعمل الشارع هذا اللفظ لإمساك مخصوص. وكذلك لفظ " الزكاة " هو لغة: النماء، ثم جعله الشارع اسما لإخراج جزء من المال طهرة له. وكذلك " الحج " هو لغة: القصد مطلقا، ثم جعله الشارع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1152 واستعمله في قصد مخصوص في أماكن مخصوصة في أزمنة مخصوصة. فالشرع تصرف في جميع تلك الألفاظ ونقلها إلى معان غير معانيها اللغوية، حتى إنه لا يعقل من إطلاق اسم " الصلاة "، أو "الصوم "، أو " الزكاة "، أو " الحج " إلا الصلاة المخصوصة شرعاً، والزكاة المخصوصة شرعا، والصوم المخصوص شرعا، والحج المخصوص شرعا، فيكون المشرع - بذلك - قد نقلها إلى استعمال جديد. جوابه: نسلم أن الشارع قد تصرف في تلك الألفاظ، ونقلها إلى استعمال جديد، وهذا من باب التجوز، فتكون تلك الألفاظ مجازات لغوية، والتجوز لا يكون إلا بعلاقة بين المعنى الأصلي والمعنى الجديد، فالمشرع لما اختار لفظ " الصلاة " ليجعله دليلاً على العبادة المعروفة إنما فعل ذلك لوجود علاقة بين معنى الصلاة لغة، ومعناها شرعاً، لأن كلًّا منهما دعاء، فالصلاة في الشرع يوجد فيها حقيقة الدعاء، بل إن كل الصلاة دعاء؛ حيث إن الدعاء مخ العبادة. وكذلك لفظ " الصوم " إنما اختاره الشارع لوجود علاقة بين المعنى اللغوي له والمعنى الشرعي؛ لأن كلًّا منهما إمساك، وكذلك الزكاة، وكذلك الحج. وهكذا كل لفظ قد نقله الشارع من معناه اللغوي إلى معناه الشرعي نجد بين المعنيين نوعاً من الارتباط والعلاقة بينهما. المذهب الثالث: أن الشارع لم ينقل تلك الألفاظ من اللغة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1153 الشرع، ولا يجوز ذلك، بل الاسم باق على ما كان عليه في اللغة، لكن الشرع ضم إليه أفعالاً، واشترط له شروطا، فمثلاً: الصلاة لغة: الدعاء، ولم ينقل الشارع ذلك اللفظ من معناه اللغوي إلى الشرعي، ولكن ضم إليه أفعالاً وأقوالاً لا بد منها، واشترط له شروطا لا تصح الصلاة إلا بها مثل: الركوع، والسجود، والقيام، والجلوس، والذكر، وكذلك الصوم فهو لغة: الإمساك، ثم زاده الشارع اشتراط النية، وهكذا. وهذا مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني، وكثير من الأشاعرة، وبعض الفقهاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن اللَّه تعالى قد وصف القرآن بأنه عربي بقوله تعالى: (إنا جعلناه قرآنا عربيا) ، وقوله: (بلسان عربي مبين) وظواهر هذه الآيات يوجب كون القرآن كله عربيا، مستعملاً فيما استعملته العرب، وإلا كان خطابا لهم بغير لغتهم، وبذلك يبطل دعوى تصرف المشرع بنقل أسماء على غير إطلاق اللغة. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن اشتمال القرآن على ألفاظ شرعية قليلة لا يخرجه عن كونه عربيا، فالعبرة بالأعم الأغلب، ولذا لا يمتنع أن يقال: إن هذه اللحية سوداء وإن كان فيها بعض الشعيرات البيضاء. الجواب الثاني: أن استعمال الشرع لبعض هذه الألفاظ في غير ما وضعته له العرب لا يخرج القرآن عن كونه خطابا بلسان العرب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1154 فالعرب قد استعملت بعض الألفاظ في غير ما وضعت له، مثل استعمالهم لفظ " البحر " للعالم، ولم يقل أحد: إن هذا إخراج للخطاب عن لغة العرب. الدليل الثاني: أنه لو كانت بعض الأسماء اللغوية قد نقلت إلى أحكام شرعية لوجب عليه - صلى الله عليه وسلم - أن يوقف الأمَّة على نقل هذه الأسماء توقيفا تقوم به الحُجَّة على المكلَّفين ليقطع عذرهم، فيكون بطريق يفيد العلم الضروري أو النظري، وما دام أنه لم يثبت شيء من ذلك، ولا أجمعت الأُمَّة عليه، ولا دلَّ العقل الجازم على ذلك، فيبقى على النفي الأصلي، فلم ينقل شيء من الاستعمال اللغوي إلى الاستعمال الشرعي. جوابه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين بياناً تاما المعاني التي نقلت الألفاظ إليها، فبيق المقصود بالصلاة: بصلاته - صلى الله عليه وسلم - بأصحابه وقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي "، وبين المقصود بالحج وقال: " خذوا عني مناسككم "، وبين تفاصيل ومقادير الزكاة وشروطها، وبين المراد بالإحسان، والإسلام، والإيمان بحديث جبريل - عليه السلام - ونقل هذه الألفاظ وما تدل عليه الصحابة - رضي اللَّه عنهم -. بيان نوع هذا الخلاف: الخلاف هنا معنوي له أثره في الفروع الفقهية؛ حيث إن الصلاة والصوم والزكاة والحج إذا وجدت في كلام الشارع مجردة عن القرينة، محتملة للمعنى اللغوي وللمعنى الشرعي، فعلى أيهما يحمل؛ فبناء على المذهب الأول والثاني - وهو: أن تلك الأسماء منقولة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1155 من اللغة إلى الشرع - فإن تلك الأسماء تحمل على الحقيقة الشرعية، دون اللغوية، ويكون المعنى واضحا لا إجمال فيه، لأن العادة: أن كل متكلم يُحمل لفظه على عرفه، فتلك الألفاظ - أعني: الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج - تحمل على المقصود والمراد الشرعي، فنحمل لفظ " الصلاة " على الصلاة الشرعية، ولفظ " الزكاة " على الزكاة الشرعية وهكذا، ولا يجوز العدول عن ذلك إلا بدليل وقرينة وذلك لأن عرف الشارع جار على بيان الأحكام الشرعية، دون الحقائق اللغوية. أما على المذهب الثالث - وهو: أن تلك الأسماء باقية على دلالتها اللغوية، ولكن زاد عليها الشارع بعض الشروط والقيود - فإن تلك الأسماء تحمل على المعنى اللغوي، ولا يجوز العدول عنها إلى الشرعية إلا بقرينة، وهذا قياس هذا المذهب، وهو مذهب القاضي أبي بكر. ولكن بعض العلماء نقل عنه أن هذه الألفاظ - أعني الصلاة والزكاة ونحوها - مجملة، وهو مذهب بعض العلماء كالقاضي أبي يعلى، وبعض الشافعية، وبناء على القول بالإجمال تأثرت بعض المسائل، ومن ذلك: 1 - قوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) اختلف في المراد به هل هو المعنى الشرعي، أو المعنى اللغوي؟ فذهب كثير من العلماء إلى أن المراد بالنكاح هنا هو: المعنى الشرعي، وهو: العقد؛ لأن النكاح حقيقة شرعية، ولفظ المشرع يجب أن يحمل على معناه الشرعي، ولذا فإنه لو زنى الأب بامرأة، فإن ذلك لا يوجب حرمة المصاهرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1156 وذهب آخرون إلى أن المراد بالنكاح هنا هو المعنى اللغوي، وهو: الوطء، فيكون المعنى لا تطؤا ما وطأها الأب بزنى أو غيره، ولذا فإن من زنى بها الأب فهي موطوءة له. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "توضئوا مما مست النار " اختلف في المراد به، هل هو الوضوء الشرعي، أو الوضوء اللغوي؟ فمنهم من قال: إنه يحمل على المعنى الشرعي؛ لأن حمل لفظ المشرع على عرفه أقوى، ومنهم من قال: يحمل على المعنى اللغوي، ومنهم من قال: إنه مجمل لوجود الاحتمالين، فلا يحمل إلا بقرينة. 3 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطواف بالبيت صلاة " اختلف في ذلك هل المراد به: أن الطواف كالصلاة حكما في الافتقار للطهارة، فيكون المراد بالصلاة: الصلاة الشرعية، أو أن الطواف يشتمل على الدعاء الذي هو صلاة لغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1157 المبحث الثاني في المجاز ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف المجاز. المطلب الثاني: هل المجاز واقع في اللغة؟ المطلب الثالث: أنواع العلاقة في المجاز. المطلب الرابع: هل النقصان يعتبر من المجاز؟ المطلب الخامس: أسباب العدول إلى المجاز. المطلب السادس: بيان أن الحقيقة لا تستلزم المجاز. المطلب السابع: هل المجاز يستلزم الحقيقة؟ المطلب الثامن: اللفظ الذي يكون حقيقة ومجازاً، والذي لا يكون. المطلب التاسع: بيان أن المجاز خلاف الأصل. المطلب العاشر: طرق معرفة الحقيقة من المجاز. المطلب الحادي عشر: بيان أنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز، فإنه يُحمل على الحقيقة. المطلب الثاني عشر: بيان أنه إذا غلب المجاز في الاستعمال، فإن اللفظ يُحمل عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1159 المطلب الأول في تعريف المجاز أولاً: المجاز لغة مأخوذ من الجواز، وهو: العبور والانتقال من موضع إلى موضع آخر، يقال: " جزت المكان " أي: عبرته وانتقلت منه إلى مكان آخر، فالمجاز هو اللفظ الجائز من شيء إلى شيء آخر تشبيها بالجسم المنتقل من موضع إلى آخر. ثانيا: المجاز اصطلاحا هو: اللفظ المستعمل في غير موضوعه الأصلي لعلاقة. بيان هذا التعريف: قولنا: " اللفظ ": جنس يشمل المستعمل وغير المستعمل، وهو المهمل. قولنا: " المستعمل " أخرج اللفظ المهمل. قولنا: " في غير موضوعه الأصلي " أخرج الحقيقة، فإن استعمال اللفظ فيها فيما وضع له أصلاً كما سبق. قولنا: " لعلاقة " هذا بيان لشرط المجاز؛ حيث إن شرط المجاز الأساسي هو: وجود العلاقة وهي: المشابهة الحاصلة بين المعنى الأول والمعنى الثاني، بحيث ينتقل الذهن بواسطتها عن محل المجاز إلى الحقيقة، فيفهم المعنى المجازي باعتبار ثبوت الصفة له كإطلاق "الأسد " على الرجل الشجاع للاشتراك في صفة الشجاعة؛ إذ لها فيه ظهور ومزيد اختصاص، فينتقل - الذهن منه إلى هذه الصفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1161 ولو لم توجد علاقة بين المعنيين لكان الوضع بالنسبة إلى المعنى الثاني أولى، فيكون حقيقة فيهما، ويكون اللفظ مشتركا، لا مجازاً. وسمي مجازاً؛ لأن أهل اللغة يجاوزون به عن أصل الوضع توسعا منهم كتسمية الرجل الشجاع أسداً، وتسمية البليد حماراً، وهكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1162 المطلب الثاني هل المجاز واقع في اللغة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المجاز واقع في اللغة العربية، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لأن اللغة العربية لغة فصيحة، والمجاز لا ينافي الفصاحة، بل ربما كان المجاز أبلغ من الحقيقة - كما سيأتي ذكره في أسباب العدول إلى المجاز - وقد ورد ووقع المجاز في لغة العرب كثيراً -: فقد استعمل العرب لفظ " الأسد " للرجل الشجاع، والحمار للرجل البليد، والبحر للعالم، وقولهم: " قامت الحرب على ساق "، وقال الصلتان العبدي: أشاب الصغير وأفنى الكبير ... كر الغداة ومر العشي فإن هذا البيت قد جمع بين المجاز اللغوي، والمجاز العقلي؛ حيث إن لفظ " الصغير " قد استعمل في غير ما وضع له؛ لأن المراد به: الذي كان صغيراً فهو مجاز مرسل باعتبار ما كان، وقد أسند الشاعر فيه الإشابة والإفناء إلى الزمن مع أن الذي يشيب ويفني هو الله تعالى، وبذلك يكون الفعل قد أسند إلى غير ما هو له لعلاقة السببية باعتبار أن الزمن هو السبب في المشيب، والفناء، فكان مجازاً عقلياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1163 المذهب الثاني: أنه لا مجاز فى اللغة العربية، وهو مذهب الأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني. دليل هذا المذهب: أن المجاز فيه إلباس المقصود بغير المقصود، فلا يفهم السامع من اللفظ ما أراده المتكلم منه، وهذا ينافي المقصود من اللغة؛ لأن المقصود منها: إفادة الألفاظ لما تستعمل فيه من المعاني، فيكون المجاز ممنوعاً. وعليه: فلا يقع في اللغة. جوابه: أنا نقول: لا مجاز بلا قرينة صرفت اللفظ من الحقيقة إلى المجاز، أما مع وجود القرينة فلا إلباس ولا إيهام؛ لأن السامع يفهم المقصود من اللفظ بواسطة تلك القرينة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن أبا إسحاق لا ينكر استعمال الأسد للشجاع، وأمثال ذلك، ولكنه يشترط في ذلك القرينة ويُسميه حقيقة. إذن الخلاف في التسمية والعبارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1164 المطلب الثالث أنواع العلاقة في المجاز لقد قلنا: إن شرط المجاز هو وجود العلاقة، وان لم توجد العلاقة لجاز التجوز عن كل معنى لكل لفظ، ولكان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر، ويكون اللفظ مشتركا لا مجازاً. وأنواع العلاقة كثيرة، وإليك أهمها: النوع الأول: السببية، وهو إطلاق السبب على المسبب، وهو أقسام: 1 - السبب القابلي: نحو قولهم: " سال الوادي "، والمراد: سال الماء في الوادي،، لكن لما كان الوادي سببا قابلاً لسيلان الماء فيه صار الماء من حيث القابلية كالمسبب له، فوضع لفظ الوادي موضعه. 2 - السبب الفاعلي كقولهم: " نزل السحاب " أي: المطر، فإن السحاب في العرف سبب فاعلي، لكن فاعليته باعتبار العادة، حيث إن الفاعل حقيقة هو اللَّه تعالى. 3 - السبب الصوري كتسمية اليد قدرة؛ حيث إن القدرة سبب صوري لليد، فإن اليد الخالية عن القدرة بمثابة ما لا وجود له بالفعل. 4 - السبب الغائي كتسمية العنب خمراً، قال تعالى: (إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا) . النوع الثاني: المسببية، وهو؛ إطلاق المسبب على السبب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1165 كتسمية المرض الشديد بالموت، وذلك لأن المرض الشديد عادة يؤدي إلى الهلاك والموت. الئوع الثالث: المشابهة: بأن يسمى الشيء باسم مشابهه في صفة ظاهرة مثل: تسمية الرجل الشجاع بالأسد، وسمّي المجاز الذي باعتبار المشابهة بالاستعارة؛ لأن الشجاع - مثلاً - لما أشبه الأسد في المعنى أو الصورة استعرنا له اسمه، فكسوناه إياه. النوع الرابع: المجاورة، بأن يسمى الشيء باسم مجاوره مثل: إطلاق " الراوية " على القربة، والراوية في الأصل اسم للجمل الذي يحمل تلك القربة، ولكنه أطلق على القربة لمجاورتها له. الئوع الخامس: المضادة بأن يسمى الشيء باسم ضده، كقوله تعالى: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا) ، فقد أطلق على الجزاء سيئة مع أنه عدل؛ لكونها ضدها. النوع السادس: إطلاق اسم الشيء كله على ما أعد له مثل قولهم: " الزوجة محللة "، ومعروف أن المحلل هو وطئها فقط، أما قتلها أو تعذيبها فهو حرام. الئوع السابع: النقصان بأن يذكر المضاف إليه، ويراد به مجموع المضاف مع المضاف إليه، كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، فإنه مجاز بالنقصان؛ لأن القرية موضوعة للمكان المخصوص، فأطلقت وأريد بها أهل القرية، فحذف المضاف - وهو أهل - وأقيم المضاف إليه - وهو القرية - مقامه. النوع الثامن: الكلية بأن يطلق الجزء والمراد الكل مثل قولهم: " أنا أملك رأسين من الغنم "، فأطلق الجزء وهو: الرأس، وأراد جميع الجسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1166 النوع التاسع: الجزئية بأن يطلق الكل والمراد الجزء، كقوله تعالى: (يجعلون أصابعهم في آذانهم) ، فقد أطلق الكل، وهي الأصابع على الجزء، وهو الأنامل منها فقط؛ لأن العادة أن الإنسان لا يدخل أصبعه في أذنه. النوع العاشر: تسمية الشيء باعتبار ما كان عليه مثل تسمية المعتق عبداً باعتبار أنه كان كذلك، أو تسمية الآدمي مضغة. النوع الحادي عشر: تسمية الشيء باعتبار ما سيكون عليه وما يؤول إليه مثل: تسمية الخمر في المدن بالمسكر، فإن الخمر في الذهن ليس بمسكر، بل سيكون مسكراً إذا شرب. النوع الثاني عشر: التعلق، وهو التعلق الحاصل بين المصدر واسم المفعول واسم الفاعل، وإن كلًّا منها يطلق على الآخر مجازاً، وإليك بيانها. 1 - إطلاق المصدر على اسم المفعول، كقوله تعالى: (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ) أي: مخلو قة. 2 - إطلاق اسم المفعول على المصدر، كقوله تعالى: (بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ) أي: الفتنة. 3 - إطلاق اسم الفاعل على اسم المفعول، كقوله تعالى: (من ماء دافق) أي: مدفوق. 4 - إطلاق اسم المفعول على اسم الفاعل، كقوله تعالى: (حجابا مستوراً) أي: ساتراً. 5 - إطلاق اسم الفاعل على المصدر، كقولنا: " قم قائما " أي: قياما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1167 6 - إطلاق المصدر على اسم الفاعل، كقولناء: " رجل عدل " أي: عادل. النوع الثالث عشر: إطلاق الأثر على المؤثر كتسمية ملك الموت: موتا. النوع الرابع عشر: إطلاق المؤثر على الأثر، كقولك: " ما أرى في الوجود إلا اللَّه تعالى " يريد آثاره والدلالة عليه في العالم. النوع الخامس عشر: الملازمة، وهو قسمان: 1 - إطلاق اسم اللازم على الملزوم، كإطلاق " المس " على الجماع. 2 - إطلاق اسم الملزوم على اللازم، كقوله تعالى: (أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) أي: يدل، والدلالة من لوازم الكلام. النوع السادس عشر: البدل والمبدل منه، وهو قسمان: 1 - إطلاق اسم البدل على المبدل كتسمية الدية بالدم، فكانوا يقولون: " أكل فلان دم فلان " أي: ديته. 2 - إطلاق اسم المبدل على البدل كتسمية الاداء بالقضاء في قوله تعالى: (فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ) أي: أديتم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1168 المطلب الرابع هل النقصان يعتبر من المجاز؟ لقد سبق أن قلنا - في النوع السابع من أنواع العلاقة في المجاز: أن النقصان والحذف من اللفظ يعتبر من المجاز، كقوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، والمراد: أهل القرية، وذلك لظهوره؛ حيث إن القرية لا يمكن أن تسأل، وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الحق لما قلناه. ولكن بعض العلماء لم يسم ذلك مجازاً، وقال: لا نقول: "أقيمت القرية مقام أهلها"، بل حذف من الخطاب ذكر " أهل " لدلالة بقية الخطاب عليه، والإضمار والحذف ليس من المجاز؛ لأن المجاز هو اللفظ المستعمل في غير ما وضع له. جوابه: إن تعريف المجاز - وهو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له - منطبق على الحذف والنقصان، فلفظ " القرية " استعمل في غير ما وضع له. بيان نوع الخلاف: الخلاف - هنا - لفظي، للاتفاق على المعنى؛ حيث إن حاصل الخلاف: أن المضمر هل هو سبب التجوز، أو محل التجوز؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1169 المطلب الخامس أسباب العدول إلى المجاز إن عدول المتكلم في التعبير عن الحقيقة إلى المجاز له أسباب إليك أهمها: السبب الأول: الحرص على بلاغة الكلام، فقد نقل بعض العلماء عن أرباب البلاغة قولهم: إن المجاز في الاستعمال أبلغ من الحقيقة، وأنه يلطف الكلام، ويكسبه حلاوة، ويكسوه رشاقة، فمثلاً قوله تعالى: (فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ) ، وقوله: (وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) لو استعملت الحقائق في هذه المواضع لم تعط ما أُعطي المجاز من البلاغة. السبب الثاني: تكثير الفصاحة؛ لأن فهم المعنى منه يتوقف على قرينة، وفي ذلك غموض يحوج إلى حركة الذهن، فيحصل من الفهم شبيه بلذة الكسب. السبب الثالث: التعظيم والتبجيل مثل قولهم: " سلام اللَّه على الحضرة العالية والمجلس الكريم "، فيعدل عن اللقب الصريح إلى المجاز تعظيما لحال المخاطب. السبب الرابع: التنزه عن ذكر الحقيقة كما يعبرون عن قضاء الوطر من النساء بالوطء، وكما يعبرون عن ذكر ما يخرج من الإنسان من العذرة بالغائط، ونحو ذلك. السبب الخامس: أن تكون لفظة الحقيقه ثقيلة على اللسان، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1170 فيعدل عنها إلى ما هو أخف منها كما عدلوا عن لفظ " الخنفقيق " اسم للداهية. السبب السادس: الحرص على الاختصار والإيجاز في الكلام كقوله تعالى: (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا) ، وقولهم: " رأيت أسداً يخطب ". السبب السابع: تفهيم المعقول في صورة المحسوس لتلطيف الكلام وزيادة الإيضاح، ويسمى استعارة تخيلية مثل قوله تعالى: (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ) . السبب الثامن: أن يكون لفظ المجاز أصلح للتعبير به عن الحقيقة مثل أن يكون المجاز أصلح للسجع ورعاية الوزن والقافية دون لفظ الحقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1171 المطلب السادس بيان أن الحقيقة لا تستلزم المجاز لقد اتفق العلماء على أن الحقيقة لا تستلزم المجاز، أي: لا يلزم أن يكون لكل حقيقة مجاز؛ لأن كون اللفظ قد استعمل في ما وضع له لا يلزم منه أن يستعمل فيما عداه من المعاني، بل قد يكون له معنى واحد فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1172 المطلب السابع هل المجاز يستلزم الحقيقة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن كل مجاز يستلزم وجود حقيقة في شيء آخر. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لأن المجاز فرع، والحقيقة أصل، ومتى وجد الفرع لا بد أن يوجد الأصل. المذهب الثاني: أن المجاز لا يستلزم الحقيقة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن غاية المجاز أن يكون مستعملاً في غير ما وضع له أولاً، وما وضع له اللفظ أولاً ليس حقيقة ولا مجازاً، فلا مانع من أن يتجوز في اللفظ قبل استعماله فيما وضع له أولاً. جوابه: إن هذا مخالف لحقيقة المجاز - كما سبق -: وهو اللفظ المستعمل في ما وضع له ثانياً، فهذا الحدُّ يدل على أن لهذا اللفظ استعمالاً فيما وضع له أولاً، والمراد به الحقيقة، ويؤيد ذلك: اشتراط العلاقة في المجاز، ولولا تلك العلاقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي لجاز التجوز عن كل معنى لكل لفظ، ولكان ذلك الاستعمال ابتداء وضع آخر، ويكون اللفظ مشتركا لا مجازاً، فكيف يكون هناك مجاز ولا حقيقة له. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ حيث لم يتأثر في ذلك أي حكم شرعي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1173 المطلب الثامن اللفظ الذي يكون حقيقة ومجازاً والذي لا يكون بيان ذلك: أولاً: اللفظ قد يكون حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنيين، فهذا ظاهر كفظ " الأسد "، فإنه حقيقة بالنسبة إلى الحيوان المفترس، ومجاز إلى الرجل الشجاع. ثانيا: قد يكون اللفظ حقيقة ومجازاً بالنسبة إلى المعنى الواحد، ولكن. باصطلاحين كلفظة " الدابة "، فإن استعمالها في الخيل والحمار حقيقة عرفية ومجاز لغوي، واستعمالها في كل ما يدب على الأرض حقيقة لغوية، مجاز عرفي. ثالثا: اللفظ قد لا يكون حقيقة ولا مجازاً قبل الاستعمال؛ لأن الاستعمال جزء مفهوم كل من الحقيقة والمجاز، فاللفظ في الوضع الأول قبل الاستعمال لا يكون حقيقة ولا مجازاً. رابعا: الأعلام لا توصف بأنها حقيقة أو مجاز؛ لأنها منقولة عن المعاني الأصلية، فلا تكون حقائق في المنقول إليها، ولأنها لم تنقل لعلاقة فلا تكون مجازاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1174 المطلب التاسع بيان أن المجاز خلاف الأصل الأصل في الكلام الحقيقة. أما المجاز فهو خلاف الأصل؛ لأن المجاز فيه ما يلي: الأول: أن المجاز يحتاج إلى الوضع الأول. الثاني: أن المجاز يحتاج إلى المناسبة بين الموضوع الأصلي والمدلول المجازي، والنقل إلى المعنى الثاني. الثالث: أن المجاز مخل بالفهم، حيث لا قرينة، أو لم يتنبه للقرينة، أو تعدد مجازاته. أما الحقيقة فليست محتاجة إلا إلى الأمر الأول - وهو الوضع الأول -. ومعلوم أن المفتقر إلى أمر واحد أغلب وجوداً وأرجح مما هو مفتقر إلى أمور كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1175 المطلب العاشر طرق معرفة الحقيقة من المجاز الطريق الأول: سبق الفهم، بيانه: أن اللفظ له معنيان فيسبق أحد المعنيين إلى فهم السامع من غير قرينة، أما المعنى الآخر فإنه لا يفهم ولا ينقدح في الذهن إلا بقرينة، فيكون اللفظ حقيقة في المعنى الذي تبادر إلى فهم السامع مطلقا، أي: بدون قرينة. الطريق الثاني: العراء عن القرينة، بيانه: أن أهل اللغة إذا أرادوا إفهام غيرهم معنى من المعاني اقتصروا على عبارة مخصوصة، وإذا عبروا عنه بعبارة أخرى لم يقتصروا عليها، بل يذكرون معها قرينة، فيعلم أن العاري عن القرينة حقيقة؛ حيث إنه لو لم يتفرد في ذهنهم استحقاق تلك اللفظة لذلك المعنى لم يقتصروا عليه. الطريق الثالث: صحة الاشتقاق، بيانه: أن يكون أحد اللفظين يصح فيه الاشتقاق، والتصريف إلى الماضي، والمستقبل، واسم الفاعل، واسم المفعول، واللفظ الآخر لا يصح فيه ذلك، فيكون الأول هو الحقيقة، والآخر هو المجاز، وذلك لأن تصريف اللفظ يدل على قوته وأصالته، وعدم تصريفه يدل على ضعفه وفرعيته، فمثلاً لفظ " الأمر " يطلق على الطلب نحو: " ادخل "، ويطلق على الشأن والفعل كقوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1176 (وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ) ، والمقصود شأن فرعون وفعله، فوجدنا العرب يصرفون اللفظ ويشتقون منه فيقولون: أمر، يأمر، أمراً، فهو مأمور، وهو آمر، في حين أنهم لا يقولون ذلك في الأمر بمعنى الفعل، فلا يقولون فيه: أمر يأمر، أي: أن إطلاق الأمر على الفعل لا يشتق لمن قام به منه اسم الآمر، فدل ذلك على أن الأول حقيقة، والثاني مجاز. الطريق الرابع: صحة النفي في المجاز، بيانه: أنه يصح النفي في المجاز، فيصح أن يقال لمن سُمِّي من الناس حماراً لبلادته: إنه ليس بحمار، ولكن لا يصح أن يقال: إنه ليس بإنسان في نفس الأمر؛ لأنه حقيقة فيه. الطريق الخامس: عدم الاطراد، بيانه: أن لا يكون اللفظ مطرداً في مدلوله مع عدم ورود المنع من أهل اللغة والشارع من الاطراد، وذلك كتسمية الرجل الطويل نخلة، فهذا مجاز؛ لأنه لا يطرد، ولهذا لا يُسمَّى كل طويل من شجرة أو رمح وغير ذلك نخلة. الطريق السادس: إطلاق اللفظ على المستحيل، بيانه: أنه إذا أطلق على اللفظ بما يسحيل تعليقه به علم أنها في أصل اللغة غير موضوعة له أصلاً، فيعلم أنه مجاز فيه مثل قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) فإن السؤال بالنسبة إلى القرية مستحيل عادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1177 المطلب الحادي عشر بيان أنه إذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز فإنه يحمل على الحقيقة إذا دار اللفظ المتجرد عن القرائن بين الحقيقة والمجاز، فإنه يحمل على الحقيقة، ولا يمكن حمله على المجاز إلا إذا دلَّ دليل أو قرينة على أنه أريد به المجاز، ولا يمكن أن نجعل اللفظ مجملاً ومشتركا بين المعنيين، وهما الحقيقة والمجاز. أدلة ذلك وهو: حمل اللفظ على الحقيقة، ولا يكون مجملاً: الدليل الأول: أن واضع اللفظ للمعنى إنما وضعه ليكتفي به في الدلالة عليه، وليستعمل فيه دون غيره من المعاني، فكان الواضع قال: " إذا سمعتموني أتلفظ بهذا اللفظ فاعلموا أني أعني به هذا المعنى دون ما هو مجاز فيه "، فيجب على السامع أن يحمل اللفظ على ما وضع له، وهو المعنى الحقيقي. الدليل الثاني: أننا لو رأينا كل لفظ احتمل أن يكون حقيقة وأن يكون مجازاً وجعلناه مجملاً للزم من ذلك أمران باطلان هما: الأمر الأول: بقاء كثير من ألفاظ الكتاب والسُّنَّة بدون أن يعمل بها، فأفضى إلى عدم الاستفادة منها، وذلك لأن حكم المجمل هو التوقف حتى يأتي دليل يرجح أحد المعاني، وهذا يؤدي إلى تعطيل أكثر النصوص بلا عمل، وهذا ظاهر البطلان، بل لا يقوله مسلم عاقل. الأمر الثاني: اختلال واضطراب مقصود الوضع اللغوي، أي: لا نفهم من أي لفظة أيَّ معنى مقصود، مما يؤدي إلى عدم تفاهم الناس في مخاطباتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1178 المطلب الثاني عشر بيان أنه إذا غلب المجاز في الاستعمال فإن اللفظ يحمل عليه لقد بيَّنا في المطلب السابق: أن اللفظ المجرد عن القرائن يحمل على المعنى الحقيقي، ولا يحمل على المجاز، ولا يكون مجملاً، لكن إذا غلب المجاز في الاستعمال، أي: تعارف الناس واعتادوا على التخاطب بالمجاز دون الحقيقة، وانتشر ذلك بينهم، فإن اللفظ يحمل على المجاز، وتكون الحقيقة - على ذلك - كالمتروكة المنسية التي لا تنقدح في أذهان المتخاطبين. فلو قال شخص: " رأيت راوية "، فإنه ينقدح في أذهان الناس أن المقصود بذلك هو: وعاء الماء، ولا تنقدح في أذهانهم الحقيقة، وهو: الجمل الذي يستقى عليه. كذلك لو قال: " رأيت غائطا "، فإنه ينقدح في أذهان الناس ذلك الشيء المستقذر الخارج من الإنسان، ولا تنقدح في أذهانهم الحقيقة وهو: المكان المطمئن المنخفض من الأرض. ففي هذين المثالين صار الوضع الأول - وهو الحقيقة - منسيا متروكا، والمجاز معروفا سابقا إلى الفهم، ولا يمكن صرفه إلى الحقيقة إلا بدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1179 الفصل الثامن في تعارض ما يخل بالفهم الذي يخل بفهم السامع لما أراده المتكلم من اللفظ: أمور خمسة هي: الا شتراك، والنقل، والمجاز، والإضمار، والتخصيص. فإن تعارضت هذه الأمور الخمسة مع بعضها، فإنه لا بد من معرفة الراجح من المرجوح، ولمعرفة ذلك فإن كل واحد يكون ما بعده أرجح منه، فيقدم عليه فتقول: النقل يقدم على الاشتراك، والمجاز يقدم على النقل، والتخصيص يقدم على المجاز والإضمار، أما المجاز والإضمار إذا تعارضا فلا يقدم أحدهما على الآخر؛ لتساويهما، ويكون اللفظ مجملاً. وإليك بيان ذلك على عشرة أوجه هي كما يلي: الوجه الأول: إذا وقع التعارض بين الاشتراك والنقل - بأن كان اللفظ محتملاً لهما وادَّعى أحد الخصمين حمله على النقل، والآخر حمِله على الاشتراك: فالنقل أَوْلى بالتقديم؛ لأن المعنى في النقل متعيِّن. بيان ذلك: أن لفظ " الزكاة " يحتمل أن يكون مشتركا بين "النماء" - وهو معناه اللغوي - و " القدر المخرج من المال " - وهو معناه الشرعي -، ويحتمل أن يكون حقيقة في " النماء "، ثم نقل إلى القدر المخرج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1181 فالنقل هنا أوْلى؛ لأنه على تقدير النقل يكون اللفظ لحقيقة مفردة؛ لأنه إن اشتهر النقل فالمراد المنقول إليه، وإن لم يشتهر فالمراد المنقول عنه فلا يوجد له إلا معنى واحد في الحالتين، أما على تقدير الاشتراك فليس كذلك؛ لأن اللفظ في حالة الاشتراك له معنيان فأكثر في وقت واحد، وما له معنى واحد - وهو النقل - أولى مما له معنيان - وهو الاشتراك. الوجه الثاني: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك " و " المجاز ": فالمجاز أَوْلى بالتقديم؛ لأمرين: أولهما: أن المجاز أكثر استعمالاً من الاشتراك، والكثرة أمارة الظن والرجحان. ثانيهما: أنه على تقدير المجاز إن كان اللفظ مع القرينة: وجب حمله على المجاز، وإن كان مجرداً عنها: وجب حمله على الحقيقة، فهو مفيد على التقديرين، بخلاف الاشتراك فإنه إن تجرد اللفظ عن القرينة وجب التوقف؛ لاحتمال تنافي معاني المشترك، أو امتناع حمله على معنييه إذا لم يمكن الجمع بينها. مثاله: لفظ " النكاح " فنقول: " موطوءة الأب بالزنا تحل للابن فيجوز أن يتزوجها "؛ لقوله تعالى: (فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ) ، وهي قد طابت للابن. فإن قال قائل: هذا معارض بقوله تعالى: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ) ، والنكاح حقيقة في الوطء. قلنا: لا نُسَلِّمُ، بل النكاح حقيقة في العقد في الشرع؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "النكاح من سنتي "، وإذا كان حقيقة في العقد لا يكون حقيقة في الوطء، ولو كان حقيقة في العقد والوطء للزم الاشتراك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1182 بينهما دون ترجيح، فكونه حقيقة في العقد مجازاً في الوطء، أو العكس أوْلى، ويعمل على أحدهما، أوْلى من حمله على الاشتراك بينهما والتوقف عن العمل بهما. الوجه الثالث -: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك "، و " الإضمار" فالإضمار أوْلى بالتقديم؛ لأن الإضمار يحتاج إلى القرينة في صورة واحدة، وهي صورة إرادة المعنى الإضماري، أما المشترك فإنه يحتاج إلى القرينة في صورتي كل واحد من معنييه، فيكون الاشتراك مرجوحاً؛ لأن الاحتياج فيه أكثر. مثاله: قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) فإنه يحتمل أن يكون مشتركاً بين " الموضع " و " الأهل "، ويحتمل أن يكون للموضع والأهل مضمر، فالإضمار أوْلى بالتقديم. الوجه الرابع: إذا وقع التعارض بين " الاشتراك " و " التخصيص " فإنه يقدم التخصيص؛ لأن التخصيص أوْلى من المجاز إذا تعارضا، لأن الباقي بعد التخصيص متعين، بخلاف المجاز فإنه ربما يتعدد المجاز، فلم يتعين المجاز المقصود - كما سيأتي في الوجه التاسع -. والمجاز أَوْلى من الاشتراك إذا تعارضا؛ لما سبق ذكره في الوجه الثاني. ينتج: أن التخصيص أوْلى من الاشتراك. مثاله: قوله تعالى: (ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم) فالنكاح هنا يحتمل أن يكون مشتركاً بين " الوطء " و " العقد "، فعلى هذا: تكون موطوءة الأب مطلقاً محرمة على الأب. ويحتمل أن يكون لفظ " النكاح " - هنا - موضوعاً للعقد - فقط - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1183 وخص العقد الفاسد، فإن النكاح الفاسد لا يحرم، فالتخصيص أولى، وعلى هذا: لو نكح الأب نكاحا فاسداً فللابن أن ينكح منكوحته ولا تكون محرمة عليه. تنبيه: النسخ شبيه بالتخصيص؛ لأن " النسخ " تخصيص في الأزمان، فهل - على هذا - يقدم النسخ على الاشتراك؛ نظراً لكون التخصيص مقدما على الاشتراك؟ نقول - في الجواب عن ذلك -: إن النسخ لا يقدم على الاشتراك، بل إن الاشتراك هو المقدم عليه؛ لأن النسخ يلزم منه الإبطال بالكلية، أما الاشتراك فإنه يستلزم التأخير إلي وقت ظهور القرينة، والتأخير أهون من الإبطال، فعلى هذا لو وقع التعارض بينهما لكان الاشتراك أوْلى. الوجه الخامس: إذا وقع التعارض بين " النقل " و " المجاز "، فإنه يقدم " المجاز "؛ لأنه يلزم من " النقل ": أن يكون الوضع الأول - المنقول عنه - مهجوراً، وهو خلاف الأصل؛ لأن الأصل: الإعمال، لا الإهمال، والمجاز لا يستلزم ذلك، فيكون المجاز راجحا عليه. مثاله: " الصلاة "، فإنها مجاز في ذات الأركان - على قول - وهي منقولة من الدعاء إلى هذا المعنى - على قول آخر لبعض العلماء. الوجه السادس: إذا وقع التعارض بين دؤ النقل " و " الإضمار "، فإن الذي يقدم هو " الإضمار "؛ لأن " الإضمار " و " المجاز " متساويان؛ نظراً لاحتياج كل واحد إلى قرينة تصرف السامع عن فهم ما يدل عليه اللفظ ظاهراً - كما سيأتي في الوجه الثامن -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1184 والمجاز مقدم على النقل؛ لأن " النقل " يستلزم أن يكون الوضع الأول مهجوراً، وهو خلاف الأصل، والمجاز ليس كذلك - كما قلنا في الوجه الخامس -. فينتج: أن يكون الإضمار أوْلى من النقل؛ لأن المساوي للأولى أوْلى. مثل: قوله تعالى: (وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، فإنه سيقول قائل: إن الربا موضوع للزيادة والمفاضلة، ثم نقل إلى العقد المشتمل على المفاضلة، وحينئذٍ لا يجوز بيع درهم بدرهمين. وسيقول قائل آخر: إن الربا موضوع للمفاضلة والزيادة، والأخذ مضمر، والتقدير: وحرم أخذ الربا، وحينئذ: يجوز بيع درهم بدرهمين، ويفيد - الملكية؛ لأن المحرم الأخذ لا البيع. الوجه السابع: إذا وقع التعارض بين " النقل " و " التخصيص " فإن التخصيص يقدم على النقل؛ لأن التخصيص أوْلى من المجاز؛ لأن الباقي بعد التخصيص متعين، بخلاف المجاز؛ فانه قد يتعدد - كما سبق ذكره وكما سيأتي في الوجه التاسع -. والمجاز أوْلى من الثقل - كما سبق بيانه في الوجه الخامس -. فينتج: أن التخصيص يقدم على النقل؛ لأن الراجح على الراجح راجح. مثاله: قوله تعالى: (وأحل الله البيع) ، فانه يحتمل أن يكون " البيع " هو: البيع اللغوي - وهو مبادلة الشيء بالشيء مطلقا - ثم خص عنه الفاسد؛ إذ البيع الفاسد غير حلال، ويحتمل أن يكون " البيع " قد نقل من المبادلة مطلقا إلى العقد المستجمع لشرائط الصحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1185 الوجه الثامن: إذا وقع التعارض بين " المجاز " و " الإضمار "،: فإنهما مستويان؛ لأن كل واحد منهما يحتاج إلى قرينة تصرف السامع عن فهم ما يدل عليه ظاهر اللفظ، واستوائهما في احتمال وقوع الخفاء في تعيين المراد؛ فإنه كما يتوقع وقوع الخفاء في تعيين " المجاز " كذلك يتوقع وقوع الخفاء في تعيين المضمر. مثاله: أن يقول السيد لعبده - الذي هو أصغر منه سنا -: " هذا ابني "، فإنه يحتمل أن يكون قد عبر عن العتق بالبنوة مجازاً، فيعتق ذلك العبد بذلك اللفظ، ويحتمل أن يكون في الكلام إضمار ويكون تقدير الكلام: " هذا مثل ابني " في العطف أو المحبة، فلا يعتق العبد بهذا. الوجه التاسع: إذا وقع التعارض بين " المجاز " و " التخصيص "، فإنه يقدم التخصيص؛ لأن الباقي بعد التخصيص متعين بخلاف المجاز، فإنه قد لا يتعين المجاز المقصود، بيان ذلك: أنه عند التخصيص انعقد اللفظ دليلاً على جميع الأفراد، فإذا خرج بعض الأفراد بدليل: بقي اللفظ معتبراً في الباقي من غير تأمل أو تفكر. أما في المجاز فإن اللفظ انعقد دليلاً على المدلول الحقيقي، فإذا انتفت الحقيقة بقرينة، افتقر صرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز إلى نوع تأمل وتفكر واستدلال؛ لأنه ربما تعدد المجاز، ولم يتعين المقصود، فيكون التخصيص أبعد عن الاشتباه والشك، فيقدم على المجاز. مثاله: قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ) فإنِه يحتمل أن يكون المراد التلفظ " الذي هو المدلول الحقيقي - وهو: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1186 التلفظ بذكر اسم الله تعالى - وعلى هذا خص منه الناسي، أي: الذي ترك فيه التلفظ بالنسيان، وعلى هذا يكون متروك التسمية عمداً لا يؤكل، أما متروك التسمية نسيانا يؤكل، وهذا هو الصحيح. ويحتمل أن يكون المراد به: لا تكلوا مما لم يذبح بأن مات حتف أنفه بطريق المجاز، وعلى هذا: فمتروك التسمية مطلقا يؤكل، وليس في الآية ما يدل على عدم جواز أكله، وهذا المجاز من باب إطلاق اسم المسبب - وهو ذكر اسم اللَّه تعالى - على السبب - وهو الذبح؛ حيث إن الذبح سبب ذكر اسم اللَّه تعالى. الوجه العاشر: إذا وقع التعارض بين " الإضمار " و " التخصيص "، فإن التخصيص هو المقدم؛ لأن " التخصيص " مقدم على " المجاز " - كما مضى في الوجه التاسع -، والمجاز والإضمار متساويان - كما مضى في الوجه الثامن - فينتج: أن " التخصيص " مقدم على الإضمار ". مثاله: قوله تعالى: (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ) ، فإنه يحتمل أن يكون خطابا عاما اختص بالورثة؛ إذ القاتل صار عدوأ للورثة، فإذا قتل ذلك القاتل بقيت الورثة سالمة وحية، ويحتمل أن يكون خطابا عاما والشرعية مضمرة، وتقدير الكلام: " ولكم في شرعية القصاص حياة "، وذلك لأن الناس إذا علموا شرعية القصاص اندفع القتل من بينهم، فمثلاً إذا هم شخص بالقتل فتذكر القصاص منه، فإنه يمتنع عن القتل، فتسبب ذلك في حياة نفسين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1187 الفصل التاسع في النص، والظاهر، والمجمل وما يتعلق بها ويشتمل على تمهيد وثلانة مباحث: أما التمهيد: فهو في بيان السبب في جمع هذه الأمور الثلانة، والسبب في تقديم النص على الظاهر، والظاهر على المجمل. أما المبحث الأول: فهو في النص. أما المبحث الثاني: فهو في الظاهر. أما المبحث الثالث: فهو في المجمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1189 التمهيد في بيان السبب في جمع هذه الأمور الثلاثة والسبب في تقديم النص على الظاهر والظاهر على المجمل السبب في ذلك هو: أن اللفظ إما أن يكون له معنى واحد فقط لا ينقدح في الذهن غيره، أو يكون له معنيان فأكثر. فإن كان اللفظ لا يحتمل إلا معنى واحداً - فقط - فهذا هو النص. وإن كان اللفظ يحتمل أكثر من معنى نظرنا: إن ترجح أحد معنييه على الآخر فهو: الظاهر. وإن لم يترجح أحد معنييه - أي كانت متساوية - فهو: المجمل. والسبب في تقديم النص على الظاهر: أن النص أقوى من الظاهر؛ لأن النص لا يحتمل إلا معنى واحداً، أما الظاهر فهو يحتمل معنيين هو في أحدهما أظهر. والسبب في تقديم الظاهر على المجمل: أن الظاهر قريب من النص من وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1191 الأول: أن الظاهر يفهم منه معنى واحد، وإن احتمل معنى آخر لكنه مرجوح. الثاني: أن الظاهر يشارك النص في وجوب العمل بهما. أما المجمل فلا يفهم. منه معنى معين، ولا يجوز العمل به، فلذلك أُخِّر. وإليك بيان كل قسم فأقول: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1192 المبحث الأول في النص ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: حكم إطلاق النص على الظاهر. المطلب الثالث: حكم النص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1193 المطلب الأول تعريف النص أولاً: النص لغة هو: رفع الشيء إلى أقصى غاية له، ومنه: ما ورد في الحديث: " كان رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يسير العنق فإذا وجد فجوة نص " أي: رفع السير إلى غايته، ومنه ما قاله عمرو بن دينار: "ما رأيت أنص للحديث من الزهري " أي: أرفع وأسند. ثانيا: النص اصطلاحا هو: اللفظ الذي يفيد معناه بنفسه من غير احتمال. بيان التعريف: قولنا: " اللفظ " جنس يشمل النص والظاهر والمجمل. قولنا: " الذي يفيد معناه بنفسه ": أخرج اللفظ المجمل؛ لأنه لا يفيد معنى من معانيه إلا إذا وجدت قرينة ترجح هذا المعنى. وخرج اللفظ الصالح للحقيقة والمجاز؛ لأنه لا يحمل على مجاره إلا بقرينة. فالمجمل والمجاز لا يحمل اللفظ عليهما إلا بانضمام غيره معه. أما هذا اللفظ فقد نص على معناه دون مساعدة. قولنا: " من غير احتمال " معناه: أن هذا اللفظ أفاد حكما ومعنى واحداً فقط من غير أن يتطرق اليه أيُّ احتمال آخر أصلاً. فخرج بذلك اللفظ الظاهر، فإنه قد أفاد معنى بنفسه، لكن مع احتمال معنى آخر لأن كان ضعيفا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1195 مثل قوله تعالى: (تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ) ، فإن هذا اللفظ نص في الحكم، حيث إن مجموع ابثلاثة في الحج والسبعة إذا رجع هي عشرة فقط بدون زيادة أو نقصان، ومثل قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) نص في نفي التماثل بين البيع والربا، فكل ما كانت دلالته على معناه في هذه الدرجة سمي بالإضافة إلى معناه نصا في طرفي الإثبات والنفي، أى: إثبات المسمى، ونفي ما لا ينطلق عليه الاسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1196 المطلب الثاني حكم إطلاق النص على الظاهر لقد أطلق بعض العلماء - كالإمام الشافعي كما حكي عنه - اسم النص على الظاهر، وهو: اللفظ الذي يحتمل معنيين هو في أحدهما أظهر. وهذا لا مانع منه من جهة اللغة؛ وذلك لأن النص عند بعض أهل اللغة هو: الظهور، ومنه قول العرب: " نصت الظبية رأسها " إذا رفعته وأظهرته، ومنه تسمية الكرسي الذي تجلس عليه العروس: منصة؛ لأنها تظهر عليه. ولكن الأقرب إلى الصواب والأوجه هو: عدم إطلاق النص على الظاهر، فالنص له حدُّه الخاص به وهو: " اللفظ الذي يفيد معناه بنفسه من غير احتمال "، والظاهر - أيضا - له حده الذي سيأتي ذكره. دليل ذلك: أننا لو أطلقنا اسم النص على الظاهر للزم من ذلك أمران هما على خلاف الأصل: الأمر الأول: الترادف بيانه: أنا لو أطلقنا اسم النص على الظاهر لثبت أن لهذين اللفظين وهما: " النص " و " الظاهر " معنى واحد، وهو معنى الظاهر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1197 وهو: ما احتمل معنيين هو في أحدهما أظهر، وهذا هو الترادف الذي هو على خلاف الأصل. الأمر الثاني: الاشتراك، بيانه: أنا لو أطلقنا اسم النص على الظاهر لثبت أن الذي يحتمل معنيين هو في أحدهما أظهرْ هما: النص والظاهر، وهذا هو الاشتراك، والاشتراك خلاف الأصل. وذلك لأن الأصل هو: أن يكون للفظ معنى واحد، وأن يكون للمعنى لفظ واحد. *** المطلب الثالث حكم النص أن يصير المكلَّف إلى معناه، وأن يعمل بالحكم الذي دلَّ عليه ولا يتركه إلا إذا ثبت ناسخ له، فهنا يترك المنسوخ ويعمل بالناسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1198 المبحث الثاني في الظاهر ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: حكم الظاهر. المطلب الثالث: في التأويل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1199 المطلب الأول تعريف الظاهر أولاً: الظاهر لغة: هو الشاخص المرتفع، والواضح المنكشف، ويطلق لغة على خلاف الباطن، قال تعالى: (هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) ثانياً: الظاهر اصطلاحا: هو اللفظ الذي يحتمل معنيين هو في أحدهما أظهر. معناه إجمالاً: أن الظاهر هو: اللفظ الذي فهم منه السامع معنيين، ولكن رجح أحد هذين المعنيين، دون الآخر. محترزات التعريف: قولنا: " الذي يحتمل معنيين " أخرج النص؛ حيث إن النص هو اللفظ الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا فقط - كما سبق -. وقولنا: " هو في أحدهما أظهر " أخرج المجمل؛ لأن المجمل هو: اللفظ الذي. احتمل معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر، أي: اللفظ المتردد بين معنيين على السواء كالقرء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1201 المطلب الثاني حكم الظاهر أن يصيرِ السامع إلى معناه الظاهر له، والراجح عنده، فيجب العمل بما دلّ عليه من الأحكام، ولا يجوز ترك ذلك المعنى الراجح والظاهر إلا إذا قام دليل صحيح على تأويله، أو تخصيصه، أو نسخه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1202 المطلب الثالث في التأويل ويشمل على مسائل: المسألة الأولى: في مناسبة ذكره هنا. المسألة الثانية: في تعريفه. المسألة الثالثة: في أنواعه. المسألة الرابعة: في شروط التأويل. المسألة الخامسة: في أقسام دليل التأويل. المسألة السادسة: حكم التأويل. المسألة السابعة: في تطبيقات على التأويلات الصحيحة والمقبولة. المسألة الثامنة: في تطبيقات على التأويلات الضعيفة والبعيدة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1203 المسألة الأولى: في مناسبة ذكر التأويل هنا: إننا قلنا في حكم الظاهر: إنه يجب العمل بالمعنى الظاهر والراجح، ولا يجوز العمل بالمعنى المرجوح إلا بتأويل صحيح يسوغِّ ترك المعنى الراجح والعمل بالمعنى المرجوح، وليس كل تأويل يقبل، بل إن التأويل له تعريف خاص، وشروط وتقييدات قد ذكرها العلماء لا بد من معرفتها لذلك عقدنا لبيان ذلك هذا المطلب. *** المسألة الثانية: في تعريف التأويل: أولاً: التأويل لغة مأخوذ من آل، يؤول، أي: رجع، والتأويل آخر الأمر، وعاقبته، يقال: إلى أي شيء مآل هذا الأمر، أي: مصيره وعقباه، ويقال: تأول فلان الآية الفلانية، أي: نظر ما يؤول إليه معناها. ئانيا: التأويل اصطلاحا هو: حمل اللفظ على غير مدلوله الظاهر منه مع احتماله له بدليل يعضده. معناه إجمالاً: أن يكون اللفظ يحتمل معنيين: معنى راجح، ومعنى مرجوح، فثبت لدى المجتهد دليل يعضد ويقوي المعنى المرجوح، فيحمل المجتهد اللفظ على المعنى المرجوح ويعمل بذلك، ولا يعمل بالمعنى الذي دلَّ عليه الظاهر؛ لأنه صار مرجوحا، وهذا هو التأويل الصحيح. محترزات التعريف: عبارة: " حمل اللفظ على غير مدلوله، أخرجت اللفظ الذى يحمل على نفس مدلوله، فإن هذا لا يسمى تأويلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1205 وعبارة: " الظاهر منه " أخرجت اللفظ المشترك؛ حيث إنه يحمل على أحد معنييه، فإن هذا لا يسمى تاويلاً. وعبارة: " مع احتماله له " أخرجت اللفظ إذا صرف عن معناه الظاهر إلى معنى لا يحتمله أصلاً، فإن هذا لا يكون تأويلاً صحيحاً. وعبارة: " بدليل يعضده " أخرجت اللفظ الذي صرفناه عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح من غير دليل، فإن هذا لا يكون تأويلاً صحيحاً. *** المسألة الثالثة: في أنواعه: يتنوع التأويل إلى ثلاثة أنواع، ويختلف الدليل باختلاف النوع. النوع الأول: التأويل القريب، وهو: ما إذا كان المعنى المأول إليه اللفظ قريباً جدا، فهذا يكفيه أدنى دليل. مثاله: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) ، فإن القيام إلى الصلاة - في هذه الآية - مصروف عن معناه الظاهر إلى معنى آخر قريب محتمل، وهو: العزم على أداء الصلاة، أي: إذا عزمتم على أداء الصلاة، والذي رجح هذا الاحتمال: أن الشارع لا يطلب الوضوء من المكلَّفين بعد الشروع في الصلاة؛ لأن الوضوء شرط لصحتها، والشرط يوجد قبل المشروط، وهو معنى قريب يتبادر فهمه إلى أي سامع. النوع الثاني: التأويل البعيد، وهو ما إذا كان المعنى المأول إليه اللفظ بعيداً جداً، فهذا يحتاج إلى دليل في غاية القوة. مثاله: قوله تعالى: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1206 فقد أول بعضهم ذلك بأن المراد مسح الرجلين بدلا من غسلهما، وقد استدل هو على هذا التأويل بقراءة الجر في قوله: (وأرجلكم) ، وأن ذلك كان عطفا على قوله: (برءوسكم) فقالوا ذلك نظراً إلى تلك القراءة، ولكن ما ثبت من الأحاديث الصحيحة التي أمرت بغسل الرجلين وما ثبت في اللغة جعل هذا التأويل بعيد جداً، وستأتي أمثلة كثيرة على التأويلات البعيدة في المسألة الثامنة إن شاء اللَّه. النوع الثالث: وهو ما إذا كان المعنى المأول إليه متوسطا، فهذا يحتاج إلى دليل متوسط في القوة. فإن قلت: ما حدود هذه الأنواع، وكيف تُعلَم؟ أقول: إن الفقيه المجتهد هو الذي يعين ذلك، فإن له دوراً وأثراً كبيراً في اعتبار هذه المراتب، وتوضيح حدودها. المسألة الرابعة: في شروط التأويل: لا يقبل التأويل ويعمل به إلا إذا توفر فيه الشروط التالية: الشرط الأول: أن يكون المتأول من أهل الاجتهاد، واشترطنا ذلك؛ لئلا يأتي من لا علم عنده - أو عنده ولكنه لم يبلغ درجة الاجتهاد - فيقوم بتأويل النصوص الشرعية على حسب علمه القاصر، أو على الهوى والتشهي فيضل ويُضل. الشرط الثاني: أن يكون المعنى الذي أول إليه اللفظ من المعاني التي يحتملها اللفظ بأن يكون اللفظ ظاهراً فيما صرف عنه محتملاٌ لما صرف إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1207 الشرط الثالث: أن يقوم التأويل على دليل صحيح يدل دلالة واضحة وصريحة على صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره. الشرط الرابع: أن يظهر المتأول ما اشترط في الثاني والثالث، أي: أن يذكر المتأول المعنى المرجوح الذي أول إليه اللفظ، وأن يذكر ْالدليل الذي عضد ذلك المعنى المرجوح وقواه حتى قدم على الظاهر والراجح، وإن لم يبين ذلك كان كل ما ادعاه مجرد دعوى لا يقبل. *** المسألة الخامسة: أقسام دليل التأويل: لقد قلنا في الشرط الثالث: أن يقوم التأويل على دليل صحيح يدل دلالة واضحة على صرف اللفظ عن ظاهره إلى غيره، والدليل هذا على أقسام: القسم الأول: نص ظاهر آخر. أي: أن الدليل الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون نصا آخر. مثاله: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ) ، فإن لفظ "الدم " عام وشامل للدم المسفوح وغير المسفوح، وهو المعنى الظاهر من اللفظ. ولكن صرف هذا اللفظ من ظاهره وهو العموم بنص ظاهر آخر، وهو قوله تعالى: (قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا) ، فخصصت هذه الآية الثانية الآية الأولى، وذلك لأنها قد بيَّنت أن الدم المحرم هو الدم المسفوح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1208 القسم الثاني: القرينة، أي: أن الدليل الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون قرينة. والقرينة نوعان: النوع الأول: قرينة منفصلة مثل: المسلم من أهل الجهاد لو جاء بمشرك، فادَّعى المشرك أنه أمنه، وأنكر المسلم ذلك وادعى بأنه أسره، فهل يقبل قول المسلم أو الكافر؟ اختلف في ذلك: فقيل: إنه يقبل قول المسلم على كل حال. وقيل: إنه لا يقبل إلا ببينة. والصحيح: أن القول هو قول من ظاهر الحال صدقه، فإن كان الكافر أظهر قوة وبطشا وفروسية وإقداما من المسلم، فإنه يقبل قوله؛ لأن هذه الصفات قرينة جعلتنا نقدم قوله، مع أن قول المسلم أرجح لعدالته وإسلامه، وقول الكافر مرجوح، لكن هذه القرينة المنفصلة - وهي الصفات التي اتصف بها الكافر - عضدت قول الكافر حتى صار أقوى من قول المسلم الراجح. النوع الثاني: القرينة المتصلة بالظاهر المراد تأويله مثل: قول الإمام الشافعي: إن الواهب لا يحرم عليه الرجوع فيما وهب مستدلاً بظاهر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "العائد في هبته كالكلب يقيء، ثم يعود في قيئه "، حيث إن الكلب لم يحرم عليه الرجوع في قيئه، فالظاهر أن الواهب إذا رجع مثله في عدم التحريم؛ لأن الظاهر من التشبيه استواء المشبه والمشبه به من كل وجه مع احتمال أن يفترقا من بعض الوجوه احتمالاً قوياً. فحينئذ ضعف جانب من قال بعدم جواز رجوع الواهب فيما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1209 وهب - كالإمام أحمد - لأنه لم يبق معه إلا احتمال ضعيف قواه بالقرينة المتصلة بالنص الظاهر، وهي قوله - في أول الحديث -: "ليس لنا مثل السوء.. العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه "، وهو دليل قوي، وجعل ذلك مقدما على المثل المذكور، وهو دليل الاهتمام به، فأفاد ذلك لغة وعرفا: أن الرجوع في الهبة مثل السوء، وقد نفأه صاحب الشرع، وما نفاه صاحب الشرع يحرم إثباته، فلزم من ذلك عدم جواز الرجوع في الهبة. القسم الثالث: القياس الصحيح الراجح، أي: أن الدليل الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون قياسا راجحا مثل: أن الشارع ذكر في كفارة الظهار والصيام " الإطعام "، ولكنه لم يذكر تلك الكفارة في " القتل الخطأ "، وترك ذلك ظاهر في عدم وجوبه؛ لأنه لو كان واجبا لذكره، كما ذكر تحرير الرقبة، والصيام، ويمكن إثبات الإطعام في كفارة القتل الخطأ؛ قياسا على إثباته في كفارة الظهار والصيام، والجامع: أن الكفارات حقوق لله تعالى، وحكم الامتثال واحد، فثبوت الإطعام في تلك الكفارات تنبيه على إثباته في كفارة القتل، هذا على مذهب من يرى جواز القياس في الكفارات، وذكرت ذلك مفصلاً في كتابي " إثبات العقوبات بالقياس ". القسم الرابع: حكمة التشريع، أي: أن الدليل الصارف عن المعنى الظاهر إلى المعنى المرجوح قد يكون حكمة التشريع والمقاصد الشرعية مثل: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم في كل أربعين شاة شاة"، فإن ظاهر هذا: أنه لا يجزئ عن الأربعين شاة إلا إخراج شاة بعينها، ولكن جمهور الحنفية قد أولو ذلك، وقالوا: يجوز إخراج قيمة الشاة ويجزئ ذلك، وعللوا ذلك بقولهم: إن حكمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1210 التشريع نفع الفقير، ونفع الفقير يتحقق بالقيمة، بل قد تكون القيمة أنفع للفقير من إعطائه عين الشاة. *** المسألة السادسة: حكم التأويل: التأويل مقبول معمول به إذا تحقق مع شروطه، ولم يزل العلماء في كل عصر من عهد الصحابة - رضي اللَّه عنهم - إلى زماننا هذا عاملين به من غير أن ينكر عليهم أحد. *** المسألة السابعة: تطبيقات على التأويلات الصحيحة والمقبولة: أمثلة ذلك كثيرة تكاد لا تحصى، ومنها: المثال الأول: قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) ، فقد أوله العلماء إلى أن المراد: العزم على أداء الصلاة، وقد سبق بيانه. المثال الثاني: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ والدم) ، فقد أوله العلماء إلى أن المراد: الدم المسفوح فقط هو المحرم، وقد سبق بيانه. المثال الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع صلاته الحمار والمرأة والكلب الأسود "، فقد أوله جمهور العلماء إلى أن مرور هذه المذكورات لا تبطل الصلاة، وقالوا: إن المراد بالقطع - هنا - نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء، وليس المراد إبطالها، أي: أن المراد بالقطع عن الخشوع والذكر للشغل بها والالتفات إليها، لا أنها تفسد الصلاة، ومن الأدلة على هذا التأويل: أن ابن عباس - وهو أحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1211 رواة أحاديث قطع الصلاة بذلك - روي عنه أنه حمل ذلك على الكراهة. المثال الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا كفَّر الرجل أخاه فقد باء بها أحدهما "، فقد أوَّله كثير من العلماء على أن معناه: أنه رجعت عليه نقيصته لأخيه، ومعصية تكفيره، فليس المراد ظاهره وهو: أنه يكفر؛ ودليل ذلك: أنه لا يكفر المسلم بالمعاصي كالقتل والزنا، وكذا قوله لأخيه: يا كافر من غير اعتقاد بطلان دين الإسلام. المثال الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يدخل الجنة نمام "، فقد تأوله كثير من العلماء إلى أن المراد: لا يدخل الجنة دخول الفائزين. المسألة الثامنة: تطبيقات على التأويلات البعيدة والفاسد والضعيفة: إن التأويل يختلف باختلاف المجتهدين، فقد يقوم مجتهد بتأويل بعض النصوص ويصرفه عن معناه الظاهر إلى معنى له مرجوح، ولكن تأويل هذا المجتهد، وإن كان ممكناً ومحتملاً فقد تجتمع قرائن تدل على فساده، وإليك أمثلة على ذلك: المثال الأول: قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) . فإن بعض الحنفية قد أولوا هذا إلى أن الخمس يعطى القريب المحتاج، وعلى ذلك فإنه يحرم من ليس بمحتاج من ذوي القربى. وهذا التأويل بعيد جداً؛ لأن الآية ظاهرة في إضافة الخمس إلى كل ذوي القربى بلام التمليك، فهم يستحقون الخمس بالقرابة فقط، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1212 فتكون علَّة الاستحقاق هى: القرابة فقط؛ حيث إنها مناسبة للاستحقاق إظهاراً لشرفها، فتخصيص المأوِّل أن المستحق هو: القريب المحتاج هذا تخصيص للعموم بلا دليل، وفيه ترك لما ظهر من كون القرابة هي العِلَّة في الاستحقاق، ووضع الحاجة المسكوت عنها علَّة، وهذا بعيد جَداً. المثال الثاني: قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) ، فقد أول بعضهم ذلك بأن المراد مسح الرجلين بدلاً من غسلهما، محتجاً بقراءة الجر في قوله: (وأرجلِكم) نظراً لكونه معطوفاً على قوله: (برءوسكم) ، وهذا تأويل بعيد كما بيناه فيما سبق - في النوع الثاني من أنواع التأويل -. المثال الثالث: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - لغيلان بن سلمة الثقفي - حيث أسلم على عشرة نسوة -: " امسك أربعا وفارق من سواهن ". فقد أوَّل الحنفية ذلك بأن المراد: ابتدئ زواج أربع منهن إن كان الزواج بعقد واحد، وفارق سائرهن بأن لا تبتدئ العقد عليهن، وأمسك الأوائل منهن إن كان الزواج مرتبا بعقد لكل منهن، وفارق سائرهن، أي: الأواخر، فيكون الحكم عند الحنفية على هذا التأويل: أنه إن نكحهن معاً فليس له إمساك واحدة منهن، وإن نكحهن متفرقات: فإنه يمسك أربعا من الأوائل، ودليلهم على هذا التأويل: القياس؛ حيث قاسوا العقد على النسوة قبل الإسلام على العقد عليهن بعد الإسلام، وأنه ليس بعض النسوة أوْلى بالإمساك من بعض. وهذا التأويل بعيد جداً؛ لأن الحديث ظاهر في استدامه النكاح للأربع بدون عقد مطلقاً، ويتمسك بهذا الظاهر؛ حيث وجدت وجوه تدل على هذا الظاهر، وهي كما يلي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1213 الوجه الأول: أن المتبادر إلى الفهم من لفظ " الإمساك " إنما هو استدامة عقد النكاح والاستمرار عليه، دون التجديد. الوجه الثاني: أن الشارع قد فوَّض الإمساك والفراق إلى خيرة الزوج، مما يدل على أن المراد الاستمرار في النكاح على ما هو عليه، فلو كان المراد هو: ابتداء النكاح - كما قالوا - لما جعل الاختيار كله لغيلان، لوقوع الفراق بنفس الإسلام، وتوقف النكاح على رضا الزوجة. الوجه الثالث: أن الظاهر من الزوج المأمور إنما هو امتثال أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - بالإمساك، ولم ينقل أحد من الرواة تجديد النكاح في الصورة المذكورة. الوجه الرابع: أنه لو كان المراد هو: ابتداء النكاح - كما قالوا - لذكر شروط النكاح؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يؤخر البيان - عن وقت الحاجة؛ حيث إن غيلان جديد عهد بالإسلام في هذه القصة، فهو بحاجة إلى بيان شروط النكاح، وما يجوز وما لا يجوز فيه لا سيما في أمر فيه استحلال فروج، وضبط للأنساب، ولكنه لم يذكر شيئاً من ذلك، مما يدل على أن المراد هو ما دلَّ عليه ظاهر الحديث وهو: استدامة النكاح. فصار التمسك بظاهر الحديث - بعد توفر تلك الأوجه - أقوى من التمسك بالتأويل المستدل عليه بالقياس الذي ذكره الحنفية. المثال الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم - " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل "، فالظاهر من هذا: اشتراط النية لجميع أنواع الصوم: وهي صيام الفرض، وصيام القضاء، وصيام النذر، وصيام الكفارة، وصيام التطوع إلا أن صيام التطوع خرج بحديث عائشة - رضي الله عنها - حيث قالت: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1214 دخل عليّ رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم فقال: " هل عندكم من شيء؟ " فقلنا: لا، فقال: " فإني إذن صائم "، ثم أتانا يوما آخر فقلنا: يا رسول اللَّه، أهدي إلينا حيس، فقال: " أرنيه فقد أصبحت صائماً " فأكل، فلا تشترط النية - لذلك - لصيام التطوع، هذا ما ذهب إليه جمهور العلماء. ولكن الحنفية أولوا ذلك وقالوا: إن المراد هو: اشتراط النية لصوم قضاء رمضان، وصوم النذر المطلق، وصوم الكفارة؛ نظراً لكونها غير متعينة، فتحتاج إلى نية تعين ذلك، أما الصوم المعين - كصوم رمضان والنذر المعين، فلا تشترط فيه النية؛ لوجود التعيين. وهذا التأويل بعيد جداً؛ لوجوه: الأول: أنه ورد في الحديث صيغة عموم وهي: النكرة في سياق النفي، حيث قال: " لا صيام "، فهي عامة لكل صيام، وعلى هذا لا يخرج من ذلك إلا ما قام الدليل على إخراجه كصيام التطوع. الثاني: أن المتبادر من لفظ " صيام "، إنما هو الصيام الأصلي المتخاطب به في اللغات وهو الفرض، دون ما كان وجوبه بعارض ووقوعه نادر، وهو القضاء والنذر المطلق. الثالث: أن حمل ذلك على صيام القضاء، والنذر المطلق وهو نادر، وإخراج الأصل الغالب يعتبر إلغازاً في القول، ولهذا فإن السيد لو قال لعبده: " من دخل داري من أقاربي فأكرمه "، ثم أكرم العبد جميع أقاربه، فلامه السيد، وقال: إنما أردت أقاربي من النسب، دون أقاربي من السبب، فإن هذا اللوم لا يقبل، ويكون تصرف العبد موافقاً للغة، فيكون كلام السيد منكراً مستبعداً. المثال الخامس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1215 فالظاهر من هذا النص هو: اشتراط الولي في النكاح مطلقا، وهو مذهب جمهور العلماء. ولكن الحنفية - وهم القائلون: إنه لا يشترط ذلك، فالمرأة تزوج نفسها - قد أوَّلوا هذا الحديث بأن المراد بالمرأة هنا: هي الأمة؛ حيث إنه لا يجوز لها أن تزوج نفسها، بل أمرها بيد سيدها. فقيل لهم: إنه ورد في آخر الحديث عبارة: " فلها المهر بما استحل من فرجها "، فهذه العبارة تبطل هذا التأويل؛ لأنه معلوم أن الأَمَة لا تملك شيئاً؛ لأنها وما تملك لسيدها. فقالوا: إذن يُحمل الحديث على المرأة المكاتبة - وهي التي اشترت نفسها من سيدها - وقالوا ذلك لأن المكاتبة فيها شوبا من الحرية، فيكون مهرها لها كالحرة، وشوبا من الرق فلا تستقل بتزويج نفسها. وهذا التأويل بعيد وضعيف جداً للأوجه التالية: الوجه الأول: أن الحديث ورد فيه صيغة من صيغ العموم المتفق عليها، وهي: " أي " المؤكدة بـ " ما " مما يجعل العموم قويا، فيكون الولي مشترطا في النكاح في جميع نساء العالم - وهو الظاهر -، فكيف يحمل هذا العموم على النادر والشاذ من النساء، وهي المكاتبة؟! الوجه الثاني: أنه لم ينقل ألينا أن الصحابة أو واحداً منهم، فهم من هذا الحديث أن المقصود: المكاتبة فقط، ولو نقل لبلغنا، ولكن لم يصلنا شيء من ذلك مما يجعلنا نقطع بأن هذا الفهم شاذ. الوجه الثالث: أن فهم اشتراط الولي لجميع النساء من هذا الحديث هو الموافق للغة العربية، أما فهم أن المراد من هذا الحديث الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1216 هي: المكاتبة فقط، فهو فهم شاذ، ويوصف هذا بالجهل باللغة العربية. فلو قال رجل لغيره: " أيما امرأة رأيتها اليوم فأعطها درهما "، فإن كل أحد يفهم أن المراد جميع النساء بدون استثناء، ولا يفهم أن المراد هي: المكاتبة فقط. ولو قال المتكلم: " أردت بذلك الكلام المكاتبة " لنسب إلى الجهل باللغة العربية، وأنه اصطلح على ذلك بنفسه دون غيره. ولو أخرج المكاتبة عن ذلك، فلما سئل عن ذلك قال: " ما خطرت ببالي " لا يمكن أن ينكر عليه أحد، نظراً لشذوذها؛ لأن العادة اقتضت ألا تخطر الشواذ ببال الإنسان. فهذه الأوجه دلَّت على أن الحديث يحمل على ظاهره وهو: اشتراط الولي في النكاح في جميع نساء العالم دون تخصيص، وأن من أوَّل الحديث إلى غير ذلك فتأويله فاسد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1217 المبحث الثالث في المجمل وبشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: أسباب الإجمال. المطلب الثالث: دخول الإجمال في الأفعال. المطلب الرابم: حكم المجمل. المطلب الخامس: نصوص اختلف في كونها مجملة. المطلب السادس: هل يجوز بقاء الجمل بدون بيان بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ المطلب السابم: في المبيِّن، والمبيَّن، والبيان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1219 المطلب الأول تعريف المجمل أولاً: المجمل لغة: المجموع، ومنه يقال: " أجملت الشيء إجمالاً ": جمعته من غير تفصيل. ويطلق لغة - أيضاً - على الخلط، ويطلق على المبهم، ويطلق على المحصل، ومنه قولهم: " جملت الشيء " إذا حصلته. ثانيا: المجمل اصطلاحا هو: ما له دلالة على معنيين لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه. بيان التعريف: قولنا: " ما له دلالة " ليعم الأدلة القولية، والفعلية. وعبارة: " على معنيين " أخرجت النص؛ لأنه لا يدل إلا على معنى واحد كما سبق. وعبارة: " لا مزية لأحدهما على الآخر بالنسبة إليه " أخرجت الظاهر وهو: دلالة اللفظ على معنيين هو في أحدهما أظهر كما سبق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1221 المطلب الثاني أسباب الإجمال يرد الإجمال لأسباب كثيرة، من أهمها: السبب الأول: الاشتراك في اللفظ المفرد - عند القائلين بامتناع تعميمه -. واللفظ المشترك قد يكون بين معنيين مختلفين مثل لفظ " العين "، فإنه متردد بين معان كثيرة، فهي تطلق على الشمس، وعين الإرواء، والذهب، وغيرها. وقد يكون اللفظ مشتركا بين معنيين متضادين مثل لفظ: " القرء " فإنه متردد بين " الحيض " و " الطهر "، ولفظ " الشفق " فإنه متردد بين " البياض " و " الحمر: ". السبب الثاني: الاشتراك في اللفظ المركب مثل قوله تعالى: (أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ) ، فإن الذي بيده عقدة النكاح مشترك بين أن يكون " الزوج "، وهو رأي أبي حنيفة والشافعي وأحمد في أصح الروايتين عنه. أو يكون الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، وهو رأي الإمام مالك. السبب الثالث: الاشتراك في الحرف، أي: لم يتضح المراد من الحرف مثل حرف " مِنْ " فهي مترددة بين أن تكون للتبعيض، أو تكون لابتداء الغاية في قوله تعالى: (فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1222 ، فلفظ " من " مترددة بين أن تكون لابتداء الغاية، فيكون معناها: ابتدئوا المسح من الصعيد، وبين أن تكون للتبعيض فيكون المعنى: امسحوا وجوهكم ببعض الصعيد. وكذلك " الواو " في قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون) مترددة بين أن تكون عاطفة، فيكون الراسخون في العلم يعلمون تأويل الآيات على حسب علمهم، وبين أن تكون للابتداء، فيكون اللَّه عزَّ وجَلَّ هو المتفرد بعلم التأويل، وقد فصلت ذلك في موضوع " المحكم والمتشابه من القرآن الكريم " فارجع إليه. السبب الرابع: التصريف في اللفظ، والتصريف هو العلم الذي تُعرف به أحوال أبنية الكلام مثل لفظ " المختار "، فإن هذا اللفظ متردد بين من وقع عليه الاختيار وبين من وقع منه الاختيار، أي: أنك إذا سمعت عبارة " زيد المختار "، فلا تدري هل زيد هو الذي اختار فيكون فاعلاً، أو زيد هو الذي أختير فيكون مفعولاً به. السبب الخامس: التردد في مرجع وعود الضمير مثل ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يمنعن جار جاره أن يغرز خشبة في جداره " فإن الضمير في عبارة: " جداره " يحتمل أن يعود إلى الغارز فيكون المعنى: لا يمنعه جاره أن يفعل ذلك في جدار نفسه، ويحتمل أن يعود الضمير إلى الجار الآخر فيكون المعنى: لا يمنعه جاره أن يغرز خشبة في جدار ذلك الجار، وهو ما رجحه أكثر العلماء لقول أبي هريرة: " ما لي أراكم عنها معرضين والله لأرمين بها بين أظهركم " ولو كان الضمير عائداً إلى الغارز نفسه لما ذكر ذلك. السبب السادس: التخصيص بالمجهول، مثل إذا قيل: " اقتلوا المشركين إلا بعضهم "، وذلك لأن العام إذا خص بمجهول يصير الباقي محتملاً، فكان مجملاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1223 المطلب الثالث دخول الإجمال في الأفعال الإجمال كما يكون في اللفظ، فإنه يكون في الفعل - وقد أشرت إلى ذلك في تعريف الإجمال - مثال ذلك: أن يفعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً يحتمل وجهين متساويين، كما روي عنه - صلى الله عليه وسلم -: " أنه جمع بين الصلاتين في السفر "، فإن هذا مجمل؛ لأنه يجوز أن يكون في سفر طويل أو سفر قصير، فلا يجوز حمله على أحدهما دون الآخر إلا بدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1224 المطلب الرابع حكم المجمل اللفظ المجمل: يجب أن نتوقف فيه، فلا يجوز العمل به حتى يأتي دليل خارجي يدل على أن المراد هو أحد المعنيين، وذلك لأن اللفظ المتردد بين معنيين لا يخلو: إما أن يراد كل واحد منهما معا، وهذا باطل؛ لأنه يستحيل أن نعمل بمعنيين كل واحد منهما ضد الآخر. وإما أن لا يراد كل واحد منهما، وهذا باطل؛ لأنه يؤدي إلى خلو اللفظ عن المعنى، وهذا لا يتكلم به العقلاء. وإما أن يراد أحد المعنيين دون الآخر وهو الصحيح، لكننا لا نعرف المعنى المراد - من هذين المعنيين - إلا بدليل خارجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1225 المطلب الخامس نصوص اختلف في كونها مجملة النص الأول: قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم) اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: أن هذا النص لا إجمال فيه، وهو مذهب جمهور العلماء. واختلف أصحاب هذا المذهب هل هو ظاهر في مسح جميع الرأس أو مسح بعضه؛ على قولين: فقيل: إن هذا النص ظاهر في مسح بعض الرأس، وهو مذهب كثير من العلماء. وهو الحق؛ لأن الباء في اللغة أصل في الإلصاق، وعرف الاستعمال قد اقتضى إلصاق المسح باللمس فقط مع قطع النظر عن الكل والبعض، ولهذا لو قال قائل لغيره: " امسح يدك بالمنديل " لا يفهم أحد من أهل اللغة أنه أوجب عليه إلصاق يده بجميع المنديل، بل إن شاء بكله، وإن شاء ببعضه، فيخرج عن العهدة إذا فعل أحدهما. وقيل: إن هذا النص ظاهر في مسح جميع الرأس، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا القول: أن الباء في اللغة أصل في الإلصاق، وقد دخلت على المسح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1226 وقرنته بالرأس، واسم الرأس حقيقة في كله، لا بعضه، ولهذا لا يقال لبعض الرأس رأس فاقتضى ذلك مسح جميعه لغة. جوابه: إن هذا وإن كان هو الحق بالنظر إلى أصل وضع اللغة غير أن عرف الاستعمال الذي ذكرناه في دليلنا قد طرأ على الوضع اللغوي وخصصه. المذهب الثاني: أن هذا النص مجمل، وهو مذهب جمهور الحنفية. دليل هذا المذهب: أنه يتطرق إليه احتمالان وهما: " احتمال مسح جميع الرأس ". وثانيهما: " احتمال مسح بعضه "، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر، فكان مجملاً. جوابه: إن القول بالإجمال لا وجه له؛ لأننا إن نظرنا إلى عرف الاستعمال فهو ظاهر في مسح بعض الرأس وهو الحق - كما قلنا - وإن نظرنا إلى الوضع اللغوي الأصلي فهو ظاهر في مسح جميع الرأس. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث إنه على المذهب الأول - وهو أنه لا إجمال فيه - يجوز العمل بما يقتضيه النص حال سماعنا له، أما على المذهب الثاني فلا يجوز العمل به، إلا إذا دلَّت قرينة على أن أحد المعنيين هو الصحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1227 النص الثاني: قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ، و (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وقوله: (أحل لكم الطيبات) ، وما شابه تلك الآيات قد اختلف العلماء فيها، هل فيها إجمال؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا إجمال فيها، بل هي مبينة، وهذا يقال في كل تحريم أو تحليل يضاف إلى الأعيان مثل تلك الآيات السابقة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي، لما ثبت من عرف أهل اللغة من أن تحريم أو تحليل كل عين فإنه ينظر فيها إلى ما هي معدة له، بيان ذلك: أنه لو قال قائل: " حرمت عليك هذا الطعام " أو " حرمت عليك هذه الجارية "، فإنه لا يتبادر إلى فهم أي عارف باللغة إلا تحريم الأكل، وتحريم الوطء - فقط - والأصل في كل ما يتبادر إلى الفهم أن يكون حقيقة إما بالوضع الأصلي، أو بعرف الاستعمال، والإجمال ينتفي بكل واحد منهما، ولهذا فإن الإجمال منتف عند قول القائل: " رأيت دابة "؛ لأن المتبادر إلى الفهم منه ذوات الأربع بعرف الاستعمال، وإن كان على خلاف الوضع الأصلي. المذهب الثاني: أن فيها إجمال. وهو مذهب بعض الحنفية كأبي الحسن الكرخي، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي يعلى. دليل هذا المذهب: أن الأعيان لا تتصف بالتحريم - مثلاً -، وإنما يحرم فعل ما يتعلق بالعين، أي: أن تحريم الأعيان لا يصح، وإنما الذي يحرم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1228 أفعالنا في العين، وليس لأفعالنا ذكر في اللفظ، فلا نعلم ما هو المحرم على الحقيقة في الآيتين السابقتين؛ أهو وطء الأم، أو اللمس، أو النظر إليها؛ ولا نعلم ما هو المحرم من الميتة أهو الأكل، أو اللمس، أو النظر، أو البيع؛ فلا نعلم - حقيقة - المراد من التحريم والاحتمالات متعددة ومتساوية عند السامع، ولا بد من تقدير فعل، وليس بعضها أوْلى من بعض، ولا مرجح لأحدها فكان اللفظ مجملاً. جوابه: إن القول بالإجمال لا وجه له؛ لأن عرف الاستعمال دلَّنا على أن المراد من تحريم الميتة هو الأكل، والمراد من تحريم الأم هو وطئها، فيكون هو المتبادر إلى الذهن؛ لما قلناه في الاستدلال من أن أهل اللغة قد تعارفوا على أن تحريم أو تحليل كل عين ينظر فيها إلى ما هي معدة له. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وتعليل ذلك قد سبق في النص الأول. النص الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " قد اختلف العلماء هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا إجمال فيه، بل هو مبين، حيث إن المراد به: رفع حكم الخطأ، ورفع حكم النسيان. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الصواب؛ لأنه إما أن يحمل على رفع صورة الخطأ وصورة النسيان وحقيقتهما، أو يحمل على رفع حكم الخطأ وحكم النسيان، ولا يمكن حمله على غيرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1229 أما الأول - وهو حمل اللفظ على رفع صورة الخطأ والنسيان وحقيقتهما - فهو ظاهر البطلان؛ حيث إن صورتهما وحقيقتهما واقعتان كثيراً من الناس، فلو قلنا بأن صورتهما مرتفعتان للزم من ذلك مخالفة الواقع، ويكون - حينئذ - كذبا، والرسول - صلى الله عليه وسلم - ينزه ويجل من أن يتكلم بكلام يخالف الواقع. فإذا ثبت بطلان الأول ثبت الثاني وهو: أنه يُحمل الحديث على نفي ورفع حكم الخطأ وحكم النسيان، لا نفي ورفع صورتهما. المذهب الثاني: أن في هذا النص إجمالاً. وهو مذهب أبي الحسين البصري، وأبي عبد اللَّه البصري. دليل هذا المذهب: أن المراد نفي حكم الخطأ والنسبان، وعند ذلك فإما أن يضمر نفي جميع أحكام النسيان، والخطأ، أو بعضها. والأول - وهو نفي جميع الأحكام - لا يمكن؛ لأن الإضمار على خلاف الأصل، وإنما يصار إليه لدفع الضرورة اللازمة من تعطيل العمل باللفظ، فيجب الاقتصار فيه على أقل ما تندفع به الضرورة، وهو بعض الأحكام، ثم إن ذلك الحكم المضمر لا يمكن القوِل بتعيينه؛ لعدم دلالة اللفظ عليه، فلم يبق إلا أن يكون غير معين، وإذا كان كذلك فهو مجمل. جوابه: لا نسلم إضمار نفي جميع الأحكام في الحديث، بل نفي بعض الأحكام، بيانه: أن الحديث ليس بعام في جميع أحكامه من ضمان المتلفات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1230 ولزوم قضاء العبادة وغير ذلك، بل هو خاص فى نفي ورفع المؤاخذة والعقاب، وهذا أخذناه من عرف الاستعمال عند أهل اللغة؛ فإنه لو قال. السيد لعبده: " رفعت عنك الخطأ والنسيان "، فإن العارف باللغة عند سماعه بذلك لا يتردد في أن مراده من ذلك: رفع المؤاخذة والعقاب. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وتعليل ذلك هو ما ذكرناه في بيان نوع الخلاف في النص الأول. مسألة: خلاف الجمهور هل الحكم - في الحديث السابق - عام وشامل أو هو خاص؛ على قولين: القول الأول: أن الحكم المرفوع والمنفي في الحديث هو حكم خاص، وهو: الإثم والمؤاخذة - فقط -، وليس المراد هو نفي جميع أحكام الخطأ والنسيان، فلا يدخل ضمان المتلفات، ولا يدخل قضاء العبادات. قال بذلك كثير من المحققين منهم الغزالي، والآمدي. وهو الحق عندي؛ لأن الحكم المرفوع ليس على إطلاقه، بل الحكم الذي عرف بعرف الاستعمال قبل ورود الشرع إرادته بهذا اللفظ؛ حيث إن العارف بعرف أهل اللغة قبل ورود الشرع لا يتشكك ولا يتردد عند سماعه قول "لسيد لعبده: (رفعت عنك الخطأ والنسيان " في أن مراده من ذلك: رفع المؤاخذة والعقاب، فكذلك هذا الحديث - وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "، فإن العارف بعرف أهل اللغة عند سماعه لذلك، فإنه لا يتردد في أن مراده: رفع المؤاخذة والعقاب؛ قياسا على قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1231 (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، وقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ، فإنا لم نجعل ذلك عاما، بل إن المحرم في الآية الأولى: الأكل فقط، والمحرم في الآية الثانية: الوطء فقط، وهذا أخذناه من عرف الاستعمال - كما سبق - مع أنه لا بد من إضمار فعل في الآيتين، فكذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " لا بد من إضمار حكم يضاف الرفع إليه كالفعل، ثم ينزل على ما يقتضيه عرف الاستعمال قبل الشرع وهو: المؤاخذة والعقاب. اعتراض على ذلك: قال معترض: إن المرفوع - كما أقررتم - هو حكم خاص وهو: الإثم والعقاب، فيلزم على هذا رفع دخول ضمان المتلفات فليرتفع؛ لأنه يُعتبر من جملة المؤاخذات والعقوبات. جوابه: يمكن أن يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: إنا لا نُسَلِّمُ أن الضمان من حيث هو ضمان عقوبة، ولهذا يجب في مال الصبي والمجنون، وهما ليسا أهلاً للعقوبة، وكذلك يجب الضمان على المضطر في المخمصة إذا ممل مال غيره، مع أن الأكل واجب عليه حفظا لنفسه، والواجب لا عقوبة على فعله، وكذلك يجب الضمان على من رمى إلى صف الكفار فأصاب مسلما مع أنه مأمور بالرمي، وهو مثاب عليه. الجواب الثاني: نسلم لكم أن الضمان عقاب، لكن عموم اللفظ قد خصص بعرف الاستعمال على نفي عقاب خاص وهو: نفي الإثم وعقاب الآخرة، وذلك أقرب الى الصواب من القول بالعموم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1232 القول الثاني: أن الحكم المرفوع والمنفي في الحديث هو: جميع أحكام الخطأ والنسيان، وهذا شامل للإثم، والعقاب، والضمان، والقضاء، وهو قول بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب، وابن قدامة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لا بد من تقدير لفظ " حكم " في الحديث، فتكون العبارة - بعد التقدير -: " رفع عن أمتي حكم الخطأ والنسيان "، فيكون اسم منكر أضيف إلى معرفة وهو: " حكم الخطأ "، وهذه صيغة من صيغ العموم، وهذا يقتضي رفع جميع أحكام الخطأ والنسيان، فيترتب على ذلك: أن من ترك عبادة خطأ أو نسيانا، أو إكراها لا يأثم بتركها ولا يعاقب، ولا يلزم قضاؤها، ومن أتلف خطأ، أو نسيانا لا يأثم بذلك ولا يضمنه. جوابه: أنا نوافقكم على أن عبارة: " حكم الخطأ والنسيان " تفيد العموم لوجود صيغة من صيغ العموم، ولكن هذا العموم قد خُصص بعرف استعمال أهل اللغة، حيث إن العارف بعرف أهل اللغة يخصصه برفع الإثم والعقاب، والعرف من المخصصات المعروفة، وقد سبق بيان ذلك. الدليل الثاني: أن الشارع لو أراد نفي ورفع المؤاخذة والعقاب والإثم فقط، لترتب على ذلك إبطال فائدة تخصيص الأُمَّة بالرفع والنفي الوارد في الحديث؛ حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " رفع عن أمتي الخطأ والنسيان "، فقوله: " عن أمتي " يقتضي اختصاصها بهذه الرخصة، أي: أنا لو قلنا: إن النفي والرفع حكم مختص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1233 بالإثم - فقط - فإنه لا يكون لهذه الأُمَّة مزية تميزت لها من غيرهما في ذلك؛ لأن الناسي غير مكلف في الشرائع السابقة، فثبت: أن المرفوع: الإثم، والضمان، ونحوهما. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ هذا، حيث إن الأُمَّة الإسلامية قد تميزت واختصت بعفو الخطأ والنسيان، وما استكرهوا عليه، وإسقاط الإثم والعقوبة عن ذلك كله، وهذه الميزة لا توجد في الأمم السابقة، ويدل على ذلك ما يلي: الأول: هذا الحديث، حيث إن ورود قوله: " عن أمتي " يفيد أن غيرها ليست كذلك. الثاني: أن قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) ، وقوله تعالى: " قد فعلت " في الحديث القدسي، يدل دلالة واضحة على أن المؤاخذة بالخطأ والنسيان كانت معهودة على من قبلنا، لأنه لو كانت المؤاخذة مرفوعة عن كل أحد لما دعت ضرورة إلى ذلك الدعاء، وإظهار الكرامة بالإجابة بقوله سبحانه: " قد فعلت " فظاهر الامتنان أنه خاص بنا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي قد أثر في بعض الفروع؛ حيث إنه يترتب على القول الأول - وهو: أن الحكم المرفوع خاص وهو: المؤاخذة والعقاب فقط - أن الناسي والمخطئ يضمن ما أتلفه من أملاك الآخرين، ويقضي ما فاته من العبادات. أما على القول الثاني - وهو: أن الحكم المرفوع عام لجميع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1234 أحكام الخطأ والنسيان - فإن الناسي، والمخطئ لا يضمن ما أتلفه من أملاك الآخرين، ولا يلزمه قضاء الفوائت من العبادات. النص الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صلاة إلا بطهور "، و " لا صلاة إلا بفاتحة الكتاب "، و" لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل "، و" لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل "، و " لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللَّه عليه "، ونحو ذلك، قد اختلف في ذلك هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا إجمال في هذه النصوص وما شابهها. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأنه إما أن يكون للشارع في هذه الأسماء عرف، أو لا. فإن كان الأول - وهو: أن الشارع له في هذه الأسماء عرف - فإنه يجب تنزيل كلام الشارع على عرفه، فيكون لفظه منزلا على نفي الحقيقة الشرعية، وهذا لا إجمال فيه؛ لأن نفي الحقيقة الشرعية ممكن، وإن كان مسمى هذه الأمور بالوضع اللغوي غير منفي، فإذا جاءنا مثل هذه الأسماء - كالصوم، والصلاة، والوضوء، والنكاح - فإنه يجب حملها على حقيقتها الشرعية، فإذا اختل ركن أو شرط فإله يصح نفيه حقيقة؛ لأن الشرعي هو التام الأركان والشروط، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم - للمسيء في صلاته: " ارجع فصل فإنك لم تصل "، وإذا كانت الحقيقة هي المراد نفيها فلا يحتاج نفيها لإضمار حكم، فلا إجمال. وإن كان الثاني - وهو: أنه لا عرف للشارع في هذه الأسماء - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1235 فإنها تنزل على الوضع اللغوي، وحينئذٍ لا إجمال فيها أيضا؛ لأن اللفظ ظاهر بعرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع في مثل هذه الأسماء والألفاظ بأن المتبادر إلى الفهم من نفي كل فعل كان متحقق الوجود، إنما هو نفي فائدته وجدواه ومنفعته، ومن ذلك قولهم: "لا علم إلا ما نفع "، و " لا كلام إلا ما أفاد "، و " لا حكم إلا لله "، و " لا بلد إلا بسلطان "، فيقال ذلك وإن كان العلم غير النافع يُسمى علماً، والكلام غير المفيد يُسمى كلاماً، والحكم لغير الله يسمى حكماً، والبلد بغير سلطان يسمى بلداً، لكن نفي ذلك - في الأمثلة السابقة - لعدم فائدة العلم غير النافع، ولعدم فائدة الكلام، ولعدم صحة الحكم لغير اللَّه، ولعدم فائدة البلد بدون سلطان؛ حيث إنه لا فائدة من الحياة فيه. فكذلك هنا يحمل النفي في قوله: " لا صلاة إلا بطهور " على نفي الصحة؛ لانتفاء فائدة الصلاة بغير طهور. فالصلاة بلا طهور، والنكاح بلا ولي، والصلاة بدون فاتحة الكتاب، ونحو ذلك لا تفيد شيئاً، فانتفت صحتها، نظراً لانتفاء فائدتها. يؤيد ذلك: أن هذا هو الظاهر؛ لأنه أقرب إلى موافقة دلالة اللفظ على النفي، لأنه إذا قال: " لا صلاة إلا بكذا " مثلاً، فقد دلَّ بدلالة المطابقة على نفي أصل الفعل، ودلَّ على صفته - وهي الصحة - بدلالة الالتزام، فإذا تعذر العمل بدلالة المطابقة تعين العمل بدلالة الالتزام، تقليلاً لمخالفة الدليل. المذهب الثاني: أن هذه النصوص مجملة. وهو مذهب كثير من الحنفية، واختاره القاضي أبو بكر، وأبو عبد اللَّه البصري، وأكثر المعتزلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1236 دليل هذا المذهب: أنه لا يمكن حمل هذا اللفظ على نفي صورة الفعل، وهو الصلاة، والصوم، والنكاح، وغير ذلك - مما ورد في الأحاديث السابقة - وذلك لأن صورة الصلاة مثلاً يمكن إيجادها بغير طهور كصلاة المحدث، كذلك صورة النكاح والصوم والوضوء يمكن إيجادها بدون توفر شرطها، فلو نفي ذلك لكان خلفا. فتعين أن المراد بالنفي هنا: نفي الحكم، أي: نفي حكم الصلاة، ونفي حكم الصوم، ونفي حكم النكاح، وهكذا. والحكم متعدد ومتنوع إلى أنواع هي: " الصحة "، و " الإجزاء"، و" الكمال "، فلا نعلم هل المراد: لا صلاة صحيحة، أو لا صلاة مجزئة، أو لا صلاة كاملة، وهي متساوية عندنا، فلا حكم بأوْلى من حكم، ولا مرجح لأحدها، فيكون اللفظ متردداً بينهما بالتساوي، فيكون مجملاً. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ وجود إجمال في تلك النصوص؛ لأنا إن نظرنا إلى عرف الشارع في هذه الأسماء، فهو ظاهر في نفي الحقيقة الشرعية، وهو ممكن - كما قلنا سابقا -. وإن نظرنا إلى الوضع اللغوي فهو ظاهر في نفي الفائدة والجدوى والمنفعة، وذلك بسبب عرف استعمال أهل اللغة قبل ورود الشرع، فيكون المراد هو: نفي الصحة. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وتعليل دلك هو ما ذكرناه في بيان نوع الخلاف في النص الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1237 النص الخامس: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) . اختلف فيه هل فيه إجمال أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا إجمال فيه لا من جهة " اليد "، ولا من جهة "القطع ". وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الصحيح؛ لأن لفظ " اليد " تطلق على الكل حقيقة، ويذكر لفظ " اليد " للبعض عن طريق المجاز، وعلى هذا: لا تكون دلالة " اليد " على الكل مساوية لدلالتها على البعض. وكذلك لفظ " القطع " يطلق حقيقة على إبانة الشيء عما كان متصلاً به، فإذا أضيف القطع إلى " اليد "، وكان مسمى اليد حقيقة في جملتها إلى الكوع، فإنه يجب حمله على إبانة مسمى " اليد " وهو جملتها، وحيث أطلق قطع اليد عند إبانة بعض أجزائها عن بعض لا يكون حقيقة، بل تجوزاً. المذهب الثاني: أن هذا النص فيه إجمال، حيث إن لفظ " اليد " ولفظ " القطع " قد دخلهما الإجمال، وهو مذهب بعض الحنفية. دليل هذا المذهب: قالوا في بيان الإجمال في هذين اللفظين: إن لفظ " اليد " يطلق على كل اليد إلى المنكب، ويطلق على اليد إلى المرفق، ويطلق على اليد إلى الكوع، وليس أحد هذه الاحتمالات أظهر من الآخر، فكان لفظ " اليد " مجملاً. وكذلك لفظ " القطع " يطلق على إبانة العضو من العضو، وعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1238 شق الجلد من العضو بالجرح من غير إبانة للعضو، فكان لفظ "القطع "مجملاً. جوابه: أنا قد بيَّنَّا أن إطلاق لفظ " اليد " على كل اليد إلى المنكب هو الإطلاق الحقيقي وهو الأصل، أما إطلاق اليد على بعض اليد فهو إطلاق مجازي، وهو "خلاف الأصل. أما القطع فإنه يطلق على " الإبانة " حقيقة، وإطلاق القطع على الشق إطلاق مجازي؛ لأن مجرد شق الجلد لا يحقق القطع المعروف وهو فصل عضو عن عضو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1239 المطلب السادس هل يجوز بقاء المجمل بدون بيان بعد وفاة - صلى الله عليه وسلم -؟ قلنا - فيما سبق -: إن حكم المجمل: التوقف حتى يرد البيان، فهل يجوز بقاؤه بدون بيان؛ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: التفصيل بين ما يتعلق به حكم تكليفي فلا يجوز، وغيره فيجوز، وهو الصواب. فإن كان المجمل يتعلق به حكم تكليفي لم يجز بقاؤه مجملاً؛ لأن تأخير بيانه تأخيراً للبيان عن وقت الحاجة، وهذا لا يجوز. أما إذا لم يتعلق به حكم تكليفي: فإنه يجوز بقاؤه مجملاً؛ لعدم وجود ضرورة تدعو إلى بيانه. المذهب الثاني: يجوز بقاء المجمل بدون بيان مطلقا. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه لا يترتب على فرض بقاء المجمل محال عقلاً، فكان جائزاً. جوابه: لا نسلم ذلك، فإن بقاء المجمل بدون بيان يترتب عليه تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا غير جائز اتفاقا - كما سيأتي بيانه -. المذهب الثالث: لا يجوز بقاء المجمل بدون بيان مطلقا. وهو مذهب كثير من العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1240 دليل هذا المذهب: أن وظيفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - بيان المجمل كما بينها اللَّه تعالى بقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) ، فبقاء المجمل بدون بيان تقصير بهذه الوظيفة، وإخلال بها وهو غير جائز. جوابه: المقصود من هذه الآية: بيان الأحكام الشرعية التكليفية وما يتعلق بها، حتى يعبد الناس اللَّه سبحانه وتعالى على بصيرة وهي: ما تدعو الحاجة إليها، أما ما لا تدعو الحاجة إليه، فلا يلحق الناس حرج فيما لو لم يعلموا بيانه. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ لعدمِ تأثر الفروع به، والظاهر أن ذلك لم يقع؛ حيث إن كل مجمل قد بين قبل الوفاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1241 المطلب السابع في المبيَّن - بفتح الياء - والمبيِّن - بكسرها - والبيان ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: بيان المراد بالمبيَّن، والمبيِّن، والبيان. المسألة الثانية: حكم من خص البيان بالمجمل فقط. المسألة الثالثة: أقسام المبيَّن - بفتح الياء -. المسألة الرابعة: أقسام المبيِّن - بكسر الياء -. المسألة الخامسة: إذا ورد القول والفعل بعد المجمل وكل واحد منهما صالح للبيان، فأيهما الذي يقع به البيان؟ المسألة السادسة: هل يجب أن يكون البيان مساويا للمبيَّن، أو يجوز أن يكون أدنى منه؛ أو لا بد أن يكون أقوى منه؟ المسألة السابعة: بيان عدم جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة. المسألة الثامنة: هل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة؟ المسألة التاسعة: هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى وقت الحاجة إليها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1243 المسألة الأولى: بيان المر اد بالمبيَّن، والمبيِّن، والبيان: أولاً: بيان المراد بالمبيَّن - بفتح الياء -: المبين - بفتح الياء -: اسم مفعول من التبيين، وهو الموضَّح والمفسَّر. والمبيَّن في الاصطلاح يطلق على إطلاقين: الإطلاق الأول: يطلق ويراد به: الخطاب المبتدأ المستغني عن البيان وهو الواضح بنفسه. الإطلاق الثاني يطلق ويراد به ما وقع عليه البيان مما احتاج إليه، وهو الواضح بغيره، ويسفَى ذلك الغير مبيِّنا - بكسر الياء -. ثانياً: بيان المراد بالمبيِّن - بكسر الياء -: المبيِّن - بكسر الياء - اسم فاعل من بيَّن، يبيِّن، فهو مبيِّن، أي: موضِّح لغيره، وهو الدليل المبيِّن - وسيأتي التفصيل فيه. ثالثاً: بيان المراد بالبيان: البيان: اسم مصدر " بيَّن "، والمصدر منه هو: التبيين، يقال: بيَّن، تبييناً، وبيانا، نحو: كلم، تكليما، وكلاما. هذا من حيث اللغة. والبيان في الاصطلاح هو: الدليل، والدليل هو: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، وقد سبق شرح هذا التعريف في أول الباب الثالث - الذي هو في أدلة الأحكام الشرعية ولا داعي لتكراره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1245 وكون المراد من البيان هو: الدليل هو الحق؛ لكونه شاملاً لبيان الإجمال، وما يدل على الحكم ابتداء - وهو واضح -؛ حيث إن ما يدل على الحكم ابتداء من غير سابقة إجمال يُسمَّى بيانا: فمن ذكر دليلاً لغيره ووضحه غاية الإيضاح يصح لغة وعرفا أن يقال: "تم بيانه "، أو يقال: " هذا بيان حسن " إشارة إلى الدليل المذكور، والأصل في الإطلاق الحقيقة. *** المسألة الثانية: حكم من خَصَّ البيان بالمجمل فقط: إن بعض العلماء قد عرَّف البيان بتعريف يخص المجمل فقط. منهم أبو بكر الصيرفي الذي عرَّف البيان بأنه: " إخراج الشيء من حيز الإشكال إلى حيز التجلي ". ومنهم جمهور الفقهاء الذين عرفوا البيان بأنه: " إظهار المراد بالكلام الذي لا يفهم منه المراد إلا به " - كما نسبه إليهم أبو الحسن الماوردي - وكما وصفه ابن السمعاني بأنه أحسن الحدود. ومعناه: أن البيان هو: الشيء الذي دلَّ على أن المراد من ذلك اللفظ المجمل هو ذلك المعنى المعين، فمثلاً: يرد لفظ " القرء " ونحوه مما لا يستقل بنفسه في الدلالة على المعنى المراد، فما دلَّ على المراد من ذلك اللفظ هو: البيان. وهذان التعريفان يختصان باللفظ المجمل - فقط - حيث إنهما يفيدان: أن اللفظ كان مشكلاً متردداً بين معانٍ - وهو المجمل - فجاء بيانه. وهذا فيه تقييد للبيان، وحصره في صورة واحدة من صوره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1246 وهذا ضعيف؛ حيث إن البيان عام لما سبقه إجمال ولما جاء ابتداء، وقلت ذلك؛ لأمور: الأمر الأول: أن الواقع يشهد أن الشخص إذا دلَّ غيره على شيء فإنه يقال له: " بيَّنه له"، ويوصف بأنه " بيان حسن "، فهذا يصح إطلاقه، وإن لم يكن قد سبقه لفظ مجمل، والأصل في الإطلاق الحقيقة. الأمر الثاني: أن النصوص الشرعية التي أوردت الأحكام ابتداء تسمى بياناً، قال تعالى: (هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ) ، وأراد به القرآن، فلا يشترط فيه أن يكون بيانا لمشكل. الأمر الثالث: أنه ليس من شرط البيان: أن يحصل التبيين والعلم بهذا البيان للمخاطب، فيصح أن يقال: " بين له ذلك غير أنه لم يتبين ولم يعلم به "، بل أن يكون بحيث إذا سمع وتؤمل وعرفت المواضعة صح أن يعلم به، ويجوز أن يختلف الناس في تبيين ذلك وتعرفه. المسألة الثالثة: أقسام المبيَّن - بفتح الياء -: المبيَّن ينقسم إلى قسمين هما: القسم الأول: المبيَّن بنفسه، وهو: الذي استقل بإفادة معناه من غير أن ينضم إليه قول أو فعل، ويُسمَّى بـ " الواضح بنفسه "، وهو نوعان: النوع الأول: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى اللغة، مثل قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، فإن إفادته شمول علمه تعالى جميع الأشياء ثبت عن طريق اللغة من غير توقف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1247 النوع الثاني: أن تكون إفادته للمراد بسبب راجع إلى العقل مثل قوله تعالى: (وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ) ، حيث إن اللغة قد اقتضت طلب السؤال من القرية، وهو غير ممكن عقلاً، بل المقصود هو طلب السؤال من أهل القرية؛ لأن الأبنية لا يوجه إليها أسئلة. وسمي ذلك بالمبين بنفسه - وإن كان متوقفاً على العقل - لتعين المضمر من غير توقف. ففي هذين النوعين كأن المتكلم أورد اللفظ مبينا واضحه مفهوما غير محتاج إلى غيره مشتق من " متبين ". القسم الثاني. المبين بغيره، وهو: الذي لا يستقل بإفادة معناه، بل يفتقر إلى دليل يبينه من قول أو فعل، وذلك الدليل يسمى مبيِّنا - بكسر الياء - وسيأتي الكلام عن هذا بالتفصيل إن شاء اللَّه في المسألة التالية. *** المسألة الرابعة: أقسام المبيِّن - بكسر الياء -: المبيِّن - بكسر الياء - قد يكون قولاً، وقد يكون فعلاً من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وقد يكون كتابة، وقد يكون تركا للفعل، وقد يكون سكوتاً، وقد يكون إشارة، وإليك بيان ذلك: القسم الأول: البيان بالقول، ويُسمَّى: البيان بالكلام، وهو: التلفظ صراحة بالمراد. والدليل على أنه يحصل بالقول والكلام البيان: الوقوع؛ حيث وقع ذلك في الشريعة، والأمثلة على ذلك كثيرة. ومنها قوله تعالى: (إن اللَّه يأمركم أن تذبحوا بقرة) حيث إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1248 الله تعالى قد بيَّن المراد من ذلك بالقول والكلام، حيث قال: (إنها بقرة صفراء فاقع لونها) ، وهذا بيان بقوله تعالى. ومنها قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) ، وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن ذلك بالقول والكلام، حيث قال: " فيما سقت السماء العشر، وفيما سقي بالسانية نصف العشر "، وهو كثير في الشريعة - كما قلت - فالأحكام الواردة في الكتاب وجاء تفصيلها في السُّنَّة هي من هذا القسم، وهو بيان بقوله - صلى الله عليه وسلم -. القسم الثاني: البيان بالفعل. اختلف العلماء في هذا القسم على مذاهب: المذهب الأول: أن الفعل يكون مبينا كالقول. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث إنه لما نزل قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - بفعله كيفية الصلاة، وكيفية الحج، والوقوع دليل على صلاحية الفعل ليكون بيانا. الدليل الثاني: القياس؛ حيث إن الإجماع قد انعقد على كون القول بيانا، فالفعل في إفادة المقصود أوْلى؛ لأن مشاهدة أفعال الصلاة - وأفعال الحج أدل على معرفة تفاصيلها من الأخبار عنها بالقول؛ حيث إن البيان بالكشف أظهر من البيان بالوصف، ولهذا كانت مشاهدة " زيد " في الدار أدل على معرفة كونه فيها من الأخبار عنه بذلك، ولهذا قيل: " ليس الخبر كالمعاينة "، وإذا جاز القول بيانا مع قصوره في الدلالة عن الفعل المشاهد، فكون الفعل بياناً أوْلى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1249 المذهب الثاني: أن الفعل لا يصلح أن يكون بياناً. وقد نسب هذا إلى أبي إسحاق الإسفراييني، وبعض العلماء. أدلتهم على ذلك: الدليل الأول: أن البيان بالفعل لم يقع في الشريعة، وهذا يدل على عدم صلاحيته ليكون بيانا لشيء، وما ذكرتموه من أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن بفعله كيفية الصلاة والحج فليس بصحيح؛ حيث إن بيان الصلاة قد حصل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وبيان الحج قد حصل بقوله لمجم: "خذوا عني مناسككم "، وهما قولان، وليسا بفعلين. جوابه: لا نسلم أن بيان الصلاة والحج قد حصل بالقول " لأن قوله: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، وقوله: " خذوا عني مناسككم " لم يتضمن تعريف شيء من أفعال الصلاة والمناسك، بل غايته: تعريف أن الفعل هو: البيان، أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كأنه قال لهم: انظروا إلى فعلي في الصلاة والحج وافعلوا مثله، فكان فعله للصلاة من ركوع وسجود، وقيام، وتسليم هو المبين لقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وفعله في الحج - من وقوف بعرفات - وطواف إفاضة، وسعي، ومبيت بمزدلفة ومنَى هو المبين لقوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) . الدليل الثاني لهم.: أن الفعل - وإن كان مشاهداً - غير أن زمان البيان به قد يطول، مما يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة، مع إمكان تعجيله بالقول، وتأخير البيان عن وقت الحاجة مع إمكانه لا يجوز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1250 جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن البيان بالفعل فيه طول، بل قد يكون البيان بالقول أطول من البيان بالفعل، فلو بينا الصلاة بالقول للزم ذكر اشتمال كل ركعة من الأقوال والأفعال، وهذا أطول مما لو فعلناها أمام ذلك السائل عنها. الجواب الثاني: أنا لو سلمنا أن البيان بالفعل يأخذ وقتا أطول من البيان بالقول، فليس في ذلك ما يدل على كونه غير صالح للبيان، كل ما في الأمر: أنه أطول من البيان بالقول. المذهب الثالث: أن الفعل يحصل به البيان بشرط: الإشعار به من مقال أو قرينة حال، وإن لم يوجد ذلك لا يحصل للمكلف البيان، وهو مذهب المازري. دليل هذا المذهب: أن تلك القرينة قد ساعدت الفعل لبيان ذلك المجمل. جوابه: أن الخلاف في الفعل المجرد عن القرينة هل يصلح أن يكون بياناً أو لا؟ أما ما وجدت فيه قرينة فلا خلاف فيه. بيان نوع الخلاف: الخلاف بين المذهب الأول والمذهبين الثاني والثالث خلاف معنوي؛ حيث إنه يعمل بما دلَّ عليه الفعل بناء على المذهب الأول، أما على المذهبين الثاني والثالث فلا يعمل به. والخلاف بين المذهب الثاني والثالث خلاف لفظي؛ لأن النفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1251 والإثبات لم يتواردا على محل واحد؛ لأن أصحاب المذهب الثاني نفوا كون الفعل يحصل به البيان لعدم القرينة، أما أصحاب المذهب الثالث فقد أثبتوا ذلك لوجود القرينة. القسم الثالث: البيان بالكتابة. دل على أنه يحصل البيان بالكتابة دليلان: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث وقع ذلك؛ فإنه روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كتب إلى عماله في الصدقات، وكتابه الذي بعثه مع عمرو بن حزم إلى أهل اليمن، وبين فيه الفرائض والسق والديات، وكتابة الخلفاء من بعده إلى عمالهم في الصدقات من غير نكير. الدليل الثاني: القياس على البيان بالقول، بيان ذلك: أن الكتابة تقوم مقام القول اللساني، والجامع: أن في كل منهما تأدية الذي في النفس. القسم الرابع: البيان بترك الفعل. فالنبي - صلى الله عليه وسلم - إذا ترك فعل شيء، فإنه يتبين من ذلك نفي وجوب ذلك الفعل؛ لأن - صلى الله عليه وسلم - لا يقع في فعله محرم، ولا ترك واجب، فمتى ترك شيئاً دلَّ على عدم وجوبه، فمثلاً: ترك القعود للتشهد، والقيام من الركعة الثانية إلى الثالثة، والمضي في صلاته يدل على أن هذا القعود ليس بواجب. القسم الخامس: البيان بالسكوت. السكوت بعد السؤال عن حكم واقعة من الوقائع يعتبر من البيان، فإذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم حادثة وواقعة، وسكت: دلَّ سكوته على أنه لا حكم للشرع في هذه الواقعة، وهذا يُعتبر بيانا لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1252 يدل على ذلك: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا يُقرُّ على الخطأ، أي: لو كان سكوته عن بيان حكمها خطأ لبيَّن له اللَّه تعالى ذلك، فيكون سكوته بياناً في أن هذه الواقعة لا حكم لها. القسم السادس: البيان بالإشارة. الإشارة يحصل بها البيان دلَّ على ذلك دليلان: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث روي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - آلى من نسائه شهراً، فلما بلغ تسعة وعشرين يوما دخل عليهن، فقيل له: إنك آليت شهراً فقال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا، وأشار بأصابعه العشر، وقبض إبهامه في الثالثة، يعني تسعاً وعشرين، فبيَّن - هنا - الشهر بالإشارة بأنه يكون - أحياناً - ثلاثين يوما، وأحيانا تسعة وعشرين يوماً. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضاً -: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن الشهر بالقول الصريح، لا بالإشارة؛ حيث روي عنه - صلى الله عليه وسلم - قوله: " الشهر تسع وعشرين، فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فاقدروا له ". جوابه: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بيَّن ذلك مرة بالقول الصريح، وبيَّن مرة أخرى بالإشارة، مما يدل على جواز البيان بالإشارة. الدليل الثاني: القياس على البيان بالقول؛ حيث إن الإشارة تقوم مقام اللسان في التعبير عما يجول في النفس، فكانت بياناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1253 المسألة الخامسة: إذا ورد بعد لفظ مجمل قول وفعل، وكل واحد منهما صالح لأن يكون بيانا فأيهما الذي يقع به البيان؟ للكلام عن هذه المسألة لا بد من تقسيمها إلى قسمين: القسم الأول: يكون في اتفاق القول والفعل في الحكم. القسم الثاني: يكون في اختلاف القول والفعل في الحكم. القسم الأول: إذا اتفق القول والفعل في الحكم فلا يخلو: إما أن يُعلم تقدم أحَدهما أو يُجهل المتقدم. فإن علم تقدم أحدهما: فالمتقدم هو المبين - سواء كان قولاً أو فعلاً، وذلك لحصول المقصود به، والثاني مؤكد له. وإن جهل المتقدم منهما - أي: لا يعلم هل المتقدم القول أو الفعل؛ - فلا يخلو: إما أن يكونا متساويين في الدلالة، أو أحدهما أقوى في الدلالة من الآخر. فإن كانا متساويين في الدلالة، فأحدهما يكون هو المبين، والآخر يكون مؤكداً له من غير تعيين - أي: يختار المجتهد منهما دون تعيين -. وإن كانا مختلفين في قوة الدلالة - بأن كان القول أقوى وأرجح من الفعل أو العكس - فقد اختلف العلماء أيهما الذي يُقدم؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن أحدهما يكون هو المبيّن، والآخر يكون مؤكداً له من - غير تعيين - كما لو كانا متساوين - ولا فرق بين الراجح والمرجوح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1254 وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ وذلك لحصول المقصود به. المذهب الثاني: أن المرجوح والأضعف في الدلالة هو: المبيِّن، والراجح والأقوى مؤكد له. وهو مذهب الآمدي وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنا لو جعلنا المبيِّن هو: الراجح والأقوى في الدلالة للزم من ذلك تأخر المرجوح مما يجعله مؤكداً للراجح، وهذا ممتنع؛ لأن الشيء لا يؤكد بما هو دونه في الدلالة، والبيان حاصل دونه، فكان الإتيان به غير مفيد، والشارع لا يأتي بما لا يفيد، أما إذا جعلنا المرجوح والأضعف هو المقدم، فإن الإتيان بالراجح بعده يكون مفيداً نظراً لتأكيده لما تقدمه، ولا يكون معطلاً. جوابه: لا نسلم ذلك؛ لأن امتناع تأكيد المرجوح للراجح يكون في المؤكد غير المستقل مثل: " المفردات "، أما المؤكد المستقل فإنه لا يمتنع فيه ذلك، وذلك لأن الجمل تقوي بعضها بعضاً. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لأن ما نظر إليه الجمهور يختلف عما نظر إليه الآمدي، فهم نظروا إليه على أنه من تاكيد الجمل، وهو جائز بالأضعف والأقوى، والآمدي نظر إليه على أنه من تكيد المفردات، فلذلك يمتنع. القسم الثاني: فيما إذا لم يتفق القول والفعل في الحكم. إذا كان ما يفيده القول يخالف ما يفيده الفعل مثل ما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1255 أنه قال: " من أحرم بالحج والعمرة أجزأه طواف واحد وسعي واحد عنهما حتى يحل منهما جميعاً "، وهذا بيان لكيفية أداء القِران بالقول، وروى عليّ - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - طاف لهما طوافين وسعى لهما سعيين، وقال: هكذا رأيت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - صنع. فهنا قد اجتمع القول والفعل في بيان آية الحج، وهي قوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) ، وقوله: (وأتموا الحج والعمرة لله) فبيَّن بالقول والفعل: قِران الحج والعمرة فأيهما المبيِّن؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن القول هو المبيِّن مطلقاً، أي: سواء تقدم القول أو الفعل، أو لم يعلم شيء من ذلك. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لأن القول يدل بنفسه على البيان، بخلاف الفعل، فإنه لا يدل على كونه بيانا إلا بواسطة دلالة القول عليه: - أي: أن الفعل لا يدل إلا بواسطة انضمام القول إليه - والدال بنفسه أقوى من الدال بغيره. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن هذا مناقض لما قلتموه - هناك - من أن الفعل أقوى في البيان؛ لأن الشاهدة أدل. جوابه: أنا نقول: إن القول أقوى في الدلالة على الحكم، والفعل أدل على الكيفية: ففعل الصلاة أدل من وصفها بالقول؛ لأن فيه مشاهدة وأما استفادة وجوبها، أو ندبها أو غيرهما: فإن القول أقوى؛ نظراً لصراحته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1256 المذهب الثاني: أن الفعل هو المبيِّن مطلقا، أي: سواء تقدم القول أو الفعل. وهو مذهب بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: أن الفعل أدل؛ لأن المشاهدة أقوى لما روي عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ليس الخبر كالمعاينة ". جوابه: أنه لو كان البيان هو الفعل للزم من ذلك أن يكون القول معطلاً إن ورد متأخراً عن الفعل، ويلزم منه - أيضا -: أن يكون الفعل نالصخا إن كان القول متقدما، ولا يلزم ذلك من مذهبنا؛ حيث إنا لما جعلنا القول هو المبيّن: حصل الجمع بين مقتضى القول والفعل، فيكون أوْلى. المذهب الثالث: التفصيل، وهو: أنا إذا علمنا المتقدم من القول والفعل: فإن المتقدم هو المبيّن، سواء كان قولاً أو فعلاً. أما إذا لم نعلم المتقدم منهما: فإنه يجعل القول هو: المبيّن؟ نظراً لرجحانه؛ لأنه يدل بنفسه على البيان، بخلاف الفعل فإنه لا يدل إلا بانضمام شيء إليه، والدال بنفسه أقوى من الدال بغيره. وهذا مذهب أبي الحسين البصري. جوابه: أنه يلزم من هذا: أن يكون الفعل منسوخا بالقول إذا كان الفعل متقدما، والأصل عدم النسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1257 المذهب الرابع: التفصيل من وجه آخر، وهو: إن لم يعلم تقدم القول أو الفعل، فإنه يجعل القول هو: المبيِّن؛ نظراً لدلالته بنفسه على البيان، بخلاف الفعل فإنه يحتاج إلى غيره - كما سبق بيانه -. أما إذا علم تقدم أحدهما فلا يخلو من أمرين: أحدهما: أن يعلم أن المتقدم هو القول، ففي هذه الحالة يكون القول هو: المبيِّن؛ نظراً لتقدمه، وقوته في الدلالة. ثانيهما: أن يعلم أن المتقدم هو الفعل، ففي هذه الحالة يكون الفعل هو: المبين في حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - دون الأمَة، ويكون القول هو المبين في حق الأُمَّة - فقط -؛ عملاً بالدليلين - وهما القول والفعل -؛ إذ لو جعلنا الفعل - عند تقدمه - هو: المبيِّن في حق الرسول والأُمَّة معاً: للزم من ذلك: أن يكون القول مهملاً أو يكون ناسخاً لوجوب الطواف الثاني والسعي الثاني، والإهمال والنسخ خلاف الأصل، وللتخلص من ذلك لا بد أن يكون الفعل مبينا للمجمل في حق الرسول، ويكون القول هو المبين في حق الأُمَّة؛ عملاً بالدليلين، والجمع بينهما عند الإمكان أرجح من العمل بواحد منهما وإهمال الآخر. جوابه: إن هذا التفريق بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - والأُمَّة في ذلك لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعتد به، ولذلك يكون القول هو: المبيِّن مطلقاً - أي: سواء علمنا المتقدم، أو لم نعلمه؛ لفضل القول على الفعل بما ذكرناه سابقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1258 بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذه المسألة - وهي المذكورة في القسم الثاني - خلاف معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها ما ذكرناه من ورود بيان قِران الحج والعمرة بالقول والفعل. فبناء على المذهب الأول: يكون الواجب على القارن طوافاً واحداً وسعيا واحداً، ويحمل فعله - صلى الله عليه وسلم - على الاستحباب، أو أنه واجب مختص به. وبناء على المذهب الثاني: يكون الواجب على القارن طوافين وسعيين. وبناء على المذهب الثالث: يكون الواجب على القارن طوافين وسعيين إن علمنا أن المتقدم هو: الفعل، أما إذا علمنا أن المتقدم هو القول أو جهلنا المتقدم منهما فيكون الواجب على القارن طوافاً وسعياً واحداً. وبناء على المذهب الرابع: يكون الواجب على القارن من الأُمَّة طوافا واحداً وسعيا واحداً، ويجب على الرسول - صلى الله عليه وسلم - طوافين وسعيين. *** المسألة السادسة: هل يجب أن يكون البيان مساويا للمبيَّن، أو يجوز أن يكون أدنى منه في القوة، أو لا بد أن يكون أقوى منه؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز البيان بالأدنى والمساوي، كما يجوز البيان بالأقوى مطلقاً، أي: سواء كان بيانا لمجمل أو لغيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1259 وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن المبيِّن أوضح من المبيَّن في الدلالة على المراد، فوجب العمل بالواضح وإن كان أدنى من المبيّن أو مساويا له، أي: أن الإتيان بما يوضح المجمل وإن كان أضعف منه من حيث الثبوت؛ لرجحانه بوضوح دلالته، وكذلك العمل بمخصص العام ومقيد المطلق جمعا بين الدليلين. المذهب الثاني: يجب أن يكون المبيّن أقوى من المبين أو مساويا له، ولا يجوز أن يكون المبيّن أدنى من المبين، وذلك في بيان التغيير - وهو التخصيص للعام -. أما بيان التفسير - وهو بيان المجمل - فإنه يجوز فيه أن يكون المبيِّن أدنى من المبيَّن. وهو مذهب جمهور الحنفية وعلى رأسهم أبو الحسن الكرخي. دليل هذا المذهب: أما دليلهم في بيان التغيير، ففيه التفصيل التالي: أما دليل قولهم: " يجب أن يكون البيان أقوى من المبين" فهو: واضح؛ حيث إن البيان يكون راجحا على المبيّن، والعمل بالراجح واجب. أما دليل قولهم: " يجب أن يكون البيان مساويا للمبين "، فهو: أن البيان بالأدنى فيه عمل بالمرجوح وترك الراجح، وذلك خلاف ما يقتضيه العقل. أما دليلهم في بيان التفسير فهو دليل الجمهور في المذهب الأول. جوابه: أن قولكم في بيان التغيير: " إن العمل بالأدنى فيه عمل بالمرجوح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1260 وترك الراجح " لا نسلمه؛ لأن العمل بالأدنى لا يلزم منه العمل بالمرجوح، وترك الراجح، بل يلزم منه: العمل بالمبيِّن - وهو الخاص - والعمل بما بقي بعد التخصيص - وهو المبيَّن: العام - وهذا فيه جمع بين دليلين قد ثبتا، وهو أوْلى من العمل بدليل - وهو المبئن وهو العام - وترك دليل آخر - وهو المبيّن وهو الخاص - وإن كان أدنى فهو يسمى دليلاً. تنبيه: بعض العلماء قد نسب هذا المذهب إلى أبي الحسن الكرخي لوحده، وبعضهم حكاه بدون تفصيل بين بيان التفسير، وبيان التغيير، وهذا سهو منهم، والحق ما ذكرته، وقد بينت ذلك في " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ". المذهب الثالث: يجب أن يكون المبيِّن أقوى من المبين، فلا يجوز بالأدنى، ولا بالمساوي مطلقا، أي: سواء كان بيانا لمجمل أو لغيره ، وهو مذهب بعض المالكية كابن الحاجب. دليل هذا المذهب: أن البيان بالمساوي فيه ترجيح لأحد المتساويين على الآخر بدون مرجح، وهو باطل، والبيان بالأدنى فيه عمل بالمرجوح وترك للراجح، وهو باطل - أيضا - فتعئن البيان بالأقوى. جوابه: إن هذا يؤدي إلى العمل بأحد الدليلين دون الآخر؛ لأن المبين المساوي أو الأدنى يُعتبر دليلاً من أدلة الشرع، فلا يجوز تركه بدون عمل، لذلك يكون الأخذ بالدليل الذي هو أوضح في الدلالة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1261 المراد، وتخصيص العام وتقييد المطلق حال المساواة في قوة الدلالة أوْلى لما في ذلك من إعمال الدليلين؛ بخلاف مذهبكم. المذهب الرابع: فيه تفصيل، بيانه: إن كان بيانا لمجمل، فيجوز أن يكون أقوى أو مساوياً أو أدنى من المبيَّن. وإن كان بياناً لعام - بأن خصَّصه - أو بياناً لمطلق - بأن قيَّده - فيجب أن يكون المبيّن أقوى من المبيَّن - وهو العام والمطلق -. وهو مذهب الآمدي. دليل هذا المذهب: أما دليل بيان المجمل، وأنه يجوز كونه أقوى أو مساويا أو أدنى فهو دليلنا في المذهب الأول - وهو دليل الجمهور -. أما دليل بيان العام، وبيان المطلق، وأنه يجب أن يكون أقوى من العام، والمطلق فهو: أن ترك العام والمطلق لا يكون بالمساوي؛ لأنه يلزم منه ترجيح بلا مرجح، ولا يكون بالأدنى؛ لأنه يلزم منه العمل بالمرجوح وترك الراجح، وكل منهما خلاف ما يقتضيه العقل، فتعين البيان بالأقوئ. جوابه: إن تخصيص العام وتقييد المطلق حال المساواة في قوة الدلالة، أو الأدنى أوْلى لما في ذلك من إعمال دليلين قد ثبتا، بخلاف التوقف بين المتساويين؛ لأنه يلزم منه ترك العمل بدليلين قد ثبتا، وبخلاف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1262 القول بإلغاء البيان، فإن فيه العمل بأحد الدليلين دون الآخر مع أنه ثابت شرعا. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي في هذه المسألة، حيث إنه قد ترتب على المذهب الأول: جواز تخصيص وتقييد القطعي بالظني فيجوز تخصيص عموم القرآن والسُّنَّة المتواترة ومطلقهما بالدليل الظني كخبر الواحد، والقياس. كما يجوز - بناء عليه - بيان المجمل القطعي بالظني كخبر الواحد والقياس. وترتب على المذهب الثاني: عدم جواز تخصيص وتقييد القطعي بالظني، فلا يجوز تخصيص عموم القرآن والسُّنَّة المتواترة ومطلقهما بالدليل الظني كخبر الواحد والقياس. كما ترتب عليه - أيضا -: جواز بيان المجمل القطعي بالظني كخبر الواحد والقياس. وترتب على المذهب الثالث: عدم جواز تخصيص وتقييد القطعي بالقطعي ولا بالظني، ولا يجوز تخصيص وتقييد الظني إلا بالقطعي - فقط -. وكذلك ترتب عليه - أيضا -: عدم جواز بيان المجمل القطعي بالظني، فلا يُبين المجمل الظني إلا بالقطعي - فقط -. وترتب على المذهب الرابع: مثل ما ترتب على المذهب الثالث من حيث التخصيص والتقييد. وترتب عليه - أيضا - مثل ما ترتب على المذهب الأول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1263 والثاني من حيث المجمل، ففي هذا وقع الخلاف بين المذهب الثالث والرابع. *** المسألة السابعة: بيان أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة: لقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة إلى تنفيذ العمل - وهو وقت وجوب العمل بالخطاب -؛ لدليلين: الدليل الأول: أن تأخير البيان عن وقت الحاجة يعتبر تكليفا بما لا يطاق وهو: لا يجوز؛ حيث لا قدرة للمكلف - حينئذ - على الامتثال. الدليل الثاني: أن وقت الحاجة وقت للأداء، فإذا لم يكن مبينا تعذر الأداء، فالبيان - إذن - ضرورة من الضروريات التي لا بد منها. مثل ما لو قال: " حجوا هذا العام "، ثم إذا جاء وقت الحج لم يبين لهم كيفية الحج وطريقته. وقد حكى إجماع العلماء على عدم الجواز - هنا - كثير من العلماء كابن السمعاني، والباجي، والغزالى، والسمرقندي، وابن قدامة، وغيرهم. تنبيه: يلزم على مذهب القائلين بجواز تكليف ما لا يطاق أن يقولوا - هنا -: جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن هذه المسألة فرد من أفراد جواز تكليف ما لا يطاق، فهنا وقع الخلاف، ولكنه يصرف إلى الجواز العقلي، أما الوقوع فقد اتفق العلماء على عدمه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1264 المسألة الثامنة: هل يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة - وهو وقت وجوب العمل بمقتضاه -؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: يجوز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقاً، أي: سواء كان المراد بيانه له ظاهر يُفهم ويُعمل به كالعام والمطلق، أو ليس له ظاهر كالمجمل. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: العقل دلَّ على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقاً، بيانه: أن هذا لا يترتب على فرض جوازه محال؛ لأن غاية ما في الأمر هو: جهل المكلَّف بما كُلِّف به مدة من الزمن، وهذا ليس بمحال، ولا يؤدي إلى المحال فهو إذن جائز. الدليل الثاني: الوقوع، فقد وقع تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة في الشريعة، والوقوع دليل الجواز، وإليك بيان المواضع التي وقع فيها ذلك من الكتاب والسُّنَّة: الموضع الأول: قوله تعالى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) . فإن معنى: (فَإِذَا قَرَأْنَاهُ) : أنزلناه؛ لدلالة قوله: (فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ) ، حيث أمر اللَّه تعالى نبيه بالاتباع بفاء التعقيب، ولا يتصور ذلك قبل الإنزال لعدم معرفته به، وإنما يكون بعد الإنزال وإذا كان المراد بقوله: (قَرَأْنَاهُ) هو: الإنزال: فإن قوله: (ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ) يدل على تأخير البيان عن وقت الإنزال؛ لأن " ثم " للمهلة والتراخي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1265 اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن المراد بالبيان المذكور في الآية: البيان التفصيلي، وتراخي البيان التفصيلي عن وقت الخطاب مسلم لا نزاع فيه، إنما النزاع في البيان الإجمالي. جوابه -: إن تقييد البيان المذكور في الآية بالبيان التفصيلي تقييد بلا دليل، حيث ذكر البيان مطلقا، ولم يوجد ما يقتضي تقييده. الموضع الثاني: أن اللَّه تعالى أمر بني إسرائيل بذبح بقرة؛ حيث قال: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً) ، فالله أمر بذبح بقرة معينة - غير منكرة -، ولكنه لم يعينها ويفصل في صفاتها إلا بعد أن سألوا عدة أسئلة متكررة، ودل على كون المأمور به معينا أمران: أولهما: أن بني إسرائيل سالوا تعيينها، حيث قال تعالى - عنهم -: (ادع لنا ربك يبين لنا ما هي) ، وقوله: (ما لونها) ولو كانت منكرة لما احتيج إلى ذلك؛ لأنه بإمكانهم الخروج عن العهدة بأي بقرة كانت. ثانيهما: تعيين اللَّه للبقرة المطلوبة ووصفها بقوله: (إنه يقول إنها بقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين) ، وقوله: (إنها بقرة لا فارض ولا بكر عوان) ، والضمير في ذلك يصرف إلى ما أمروا به وجوبا، فهذا يدل على أن البقرة معينة، فثبت: أنه أخر بيان أوصاف البقرة المأمور بذبحها إلى وقت الحاجة؛ حيث إن البيان تأخر عن وقت الخطاب؛ فإنه لم يقترن بالخطاب بيان تفصيلي ولا إجمالي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1266 اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ التمسك بهذه الآية؛ لأنه يلزم منه جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ وذلك لأن بني إسرائيل عند الخطاب بهذه الآية كانوا محتاجين إلى البيان وهو باطل. جوابه: لا نسلم أن الآية تقتضي جواز تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأن الأمر يقتضي عدم الفور، وإنما يلزم ذلك لو كان الأمر مقتضيا للفور. اعتراض آخر: قال قائل - معترضا -: إنا لا نُسَلِّمُ أن البقرة كانت معينة؛ لأنها لو كانت معينة لما عنفهم اللَّه تعالى على السؤال عنها، لكنه عنفهم بقوله: (فذبحوها وما كادوا يفعلون) . جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه عنفهم على السؤال، بل على التواني والتقصير في الذبح بعد البيان. الجواب الثاني: أنها لو كانت غير معينة لكان بإمكانهم الخروج عن العهدة بأي بقرة كانت. الموضع الثالث: قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، وقوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ، وقوله: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، ثم جاء بيان ذلك في السُّنَّة: فأخَّر بيان أفعال الصلاة وأوقاتها حتى بيَّن ذلك جبريل عليه السلام للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقال: " يا محمد، هذا وقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1267 الأنبياء من قبلك، والوقت فيما بين هذين الوقتين "، ثم بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لأُمَّته، فقال: " صلوا كما رأيتموني أصلي ". وكذلك في قوله: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - مقدار الواجب وصفته في الذهب والفضة، والمواشي، والعقارات، والثمار، والزروع شيئاً فشيئاً. وكذلك الحج، فقد بيَّن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أفعال الحج وطريقته - بعد نزول آية الحج - وقال: " خذوا عني مناسككم ". الموضع الرابع: قوله تعالى: (وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم) ، وهذا عام، ثم ورد بعد ذلك تخصيصه بقوله تعالى: (لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى) ، وجميع الأعذار الشرعية قد خصصت هذا العموم. الموضع الخامس: قوله تعالى: (إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ) ، وهو عام يشمل كل معبود، فقد قال ابن الرثعْرَى: لأخصمن محمداً، فجاء إلى - صلى الله عليه وسلم - وقال: "أليس قد عبدت الملائكة، أليس قد عبد المسيح، أليس قد عبد عزير، فينبغي أن يكون هؤلاء حصب جهنم، فتوقف النبي - صلى الله عليه وسلم - في الجواب " ثم أنزل قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ) ، فخصصت بذلك الآية الأولى، فثبت بذلك تأخير بيان العام الذي أريد به الخاص، وهو تأخير البيان عن وقت الخطاب. الموضع السادس: قوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فإن لله خمسه وللرسول ولذي القربى) ، ثم بيَّن النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ذلك التقسيم بعد سلب القاتل، وأن المقصود بذي القربى هم: بنو هاشم، وبنو المطلب، وأن بني أمية، وبني نوفل، وبني عبد شمس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1268 غير داخلين في ذوي القربى، فلما سئل عن ذلك قال: " أنا وبنو المطلب لم نفترق في جاهلية ولا إسلام، ولم نزل هكذا "، وشبك بين أصابعه. فثبت أن قوله: " ولذي القربى " لم يبين إلا عند وقت الحاجة، فدل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. الموضع السابع: قوله تعالى - لنوح عليه السلام -: (احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ) ، ففهم نوح - عليه السلام - أن ابنه من أهله، لكن لما أدرك ابن نوح الغرق ورآه نوح - عليه السلام - خاطب ربه قائلاً: (إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق) ، فبيََّن اللَّه تعالى أنه عمل غير صالح، فهنا لم يبين الشارع ذلك وقت الخطاب، بل أخَّره إلى وقت الحاجة. الموضع الثامن: قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، ثم خصَّص ذلك بعده بقوله: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) . الموضع التاسع: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، ثم ورد تخصيصه بقوله عليه السلام: " أحل لنا ميتتان ودمان ". والأمثلة على وقوع تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة في الشريعة كثيرة جداً تكاد لا تحصى، ولا سبيل إلى إنكاره، وإن اعترض بعضهم على بعض الأمثلة والاستشهادات؛ نظراً لتطرق الاحتمال إليه بتقدير اقتران البيان به، فإنه لا يمكن أن يتطرق ذلك إلى جميع الأمثلة، وبالتالي لا يمكن إنكارها كلها،؛ من ادعى ذلك فهو معاند ومكابر، والمعاند والمكابر لا يعتد بقوله. الدليل الثالث: القياس على النسخ، بيان ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1269 أن النسخ بيان وتخصيص في الأزمان، وهذا بيان في الأعيان، والنسخ يجوز تأخيره باتفاق العلماء، بل هو واقع فيه. وعلى هذا: يجوز أن يرد لفظ يدل على تكرار الفعل على الدوام ثم ينسخ ويقطع الحكم بعد حصول ذلك الاعتقاد بلزوم الفعل على الدوام. وورود بيان نسخ الحكم بعد اعتقاد دوامه واقع لا شك فيه - كما سبق في النسخ - فإذا كان هذا جائزاً فإنه يجوز تأخير البيان مطلقا، ولا فرق. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا، أي: سواء كان المراد بيانه له ظاهر يفهم ويعمل كالعام والمجمل، أو ليس له ظاهر كالمجمل إلا النسخ - فقط - فيجوز فيه ذلك. وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية - ونسب إلى الصيرفي منهم -. وهو مذهب جمهور الظاهرية، وجمهور المعتزلة، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة كغلام الخلال - عبد العزيز بن جعفر - وأبي الحسن التميمي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه يراد بالخطابات تفهيم السامع للمطلوب فيها لكي يعمل بها، وهذه هي فائدتها، والخطاب بالمجمل بدون توضيحه وبيانه خطاب بما لا يفهم، والخطاب بما لا يفهم لا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه يكون وجوده كعدمه، وهذا هو العبث الذي يتنزه الله عن الكلام به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1270 جوابه: لا نسلم عدم وجود الفائدة من الخطاب بالمجمل، حيث توجد فائدة في الخطاب به، وهي: معرفة أن هناك أمراً أو نهياً في الشريعة؛ ليعرف بذلك المكلف العازم على امتثال الأمر الذي ورد في هذا الخطاب المجمل، والمكلف العازم على ترك المنهي عنه الوارد في المجمل إذا بُين له، فالمكلف العازم على الفعل في حالة الأمر، والعازم على الترك في حالة النهي - بعد البيان - يستحق الثواب، ويسقط عنه العقاب. فمثلاً: قوله تعالى: (وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) خطاب مجمل. ومع ذلك فقد خاطبنا به الشارع؛ لوجود الفائدة فيه؛ حيث إننا عرفنا بهذا الخطاب ما يلي: 1 - وجوب إيتاء حق الزرع، 2 - وقت دفع زكاة الزروع، 3 - أنه حق المال، فهنا المكلَّف يمكنه أن يعزم فيه على الامتثال، والاستعداد لذلك فيثاب على ذلك، ولو عزم على ترك إلامتثال لكان عاصيا. وكذلك قوله تعالى: (أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح) ، فإن هذا مجمل، ومع ذلك فإن فيه فائدة، وهي: أن يعرف المكلَّف إمكان سقوط المهر بين الزوج والولي. وكذلك قوله تعالى: (يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) ، فهو مجمل، ومع ذلك ففيه فائدة وهي: أن يُعرف أن المطلقة تجب عليها عدة بعد زوجها الأول، فكل هذا لا يخلو عن أصل الفائدة، وإنما يخلو عن كمالها، وذلك غير بعيد، بل واقع في الشريعة. الدليل الثاني: قياس الخطاب بالمجمل بالخطاب بلفظ " أبجد هوز "، وهو يريد به وجوب الصلاة: فكما لا يجوز الخطاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1271 بأبجد هوز، فكذلك لا يجوز الخطاب بالمجمل بجامع: عدم الفائدة في كل منهما. جوابه: إن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأن الخطاب بالمجمل فيه فائدة وهو: قيام المكلف بالعزم على الفعل الذي سيبين - فيما بعد -، واستعداده لذلك، فلا يضر تأخير تفصيل البيان إلى وقت الحاجة. أما الخطاب بلفظ: " أبجد هوز "، وهو يريد وجوب الصلاة فلا يفيد شيئاً؛ لأنه تغيير للوضع، وقلب لحقائق الأمور، فافترقا. الدليل الثالث: أنه اتفق على أنه لا يجوز أن يخاطب الأعجمي بالعربية - لمن لا يفهمها - وسبب ذلك: أن الأعجمي لا يفهم لغة العرب، فهو لم يسمع إلا اللفظ، دون معناه. فكذلك خطابه بالمجمل، دون بيانه لا يجوز؛ لأنه خطاب بما لا يفهم، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز تأخير بيانه إلى وقت الحاجة. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن قياسكم الخطاب بالمجمل على خطاب الأعجمي بالعربية قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لما ذكرناه سابقاً وهو: أن الخطاب بالمجمل يفيد قيام المكلَّف بالعزم على الفعل إذا بيَّن له تفاصيله، ويستعد لذلك، فلا يضر تأخيره. بخلاف خطاب الأعجمي بالعربية لمن لا يفهمها، فإنه لا يفيد شيئا أصلاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1272 الجواب الثاني: أنه لا يمتنع مخاطبة الأعجمي بالعربية؛ قياساً على مخاطبة المعدوم، بيان ذلك: أنا جوزنا كون المعدوم مخاطبا بالتكاليف الشرعية، وذلك على تقدير الوجود، أي: أنه مأمور بها إذا وجد وتوفرت فيه شروط المكلَّف - كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه تعالى - فإذا كان هذا جائزاً، فمن باب أَوْلى جواز مخاطبة - صلى الله عليه وسلم - لجميع أهل الأرض من العرب والعجم، ويشعرهم اشتمال هذا القرآن على أوامر يعرفهم بها المترجم، فكما جاز أمر المعدوم على تقدير وجوده وتوفر شرط التكليف، كذلك يجوز أمر الأعجمي بالعربية على تقدير وجود المبيِّن له، وهو: المترجم. الدليل الرابع: أنه لا خلاف في أنه لو قال: " في خمس من الإبل شاة "، وأراد به خمساً من الغنم أو البقر، فإنه لا يجوز ذلك؛ لأنه تجهيل في الحال، وإيهام الخلاف المراد، فكذلك قوله تعالى: (فاقتلوا المشركين) يوهم قتل كل مشرك، فإذا لم يُبين أنه مخصص فهو تجهيل في الحال، وكذلك لو قال: " له عليّ عشرة " وأراد بالعشرة سبعة فإنه لا يجوز؛ لأنه تجهيل، وإن كان ذلك جائزاً إن اتصل الاستثناء به بأن يقول: " له عليّ عشرة إلا ثلاثة "، وكذلك العموم قد وضع للاستغراق، فلا يجوز إرادة الخصوص به إلا بشرط وجود قرينة متصلة مبينة لذلك، فأما إرادة الخصوص بدون قرينة فهو تغيير للوضع. جوابه: إن ما ذكرتم صحيح لو كان العام نصا في إفادته للاستغراق، أي: لو كانت دلالة العام قطعية لكان ما ذكرتم صوابا، ولكن ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1273 الأمر كذلك عند جمهور العلماء؛ لأن دلالة العام ظنية، حيث إن صيغ العموم تفيد العموم والخصوص، لكن إفادتها للعموم أرجح - كما سيأتي بيانه والاستدلال عليه في باب العموم -. وبناء على ذلك: فيجب على المكلََّف العمل باللفظ العام على عمومه إن تجرد عن القرينة المخصصة، وهو - في نفس الوقت - يحتمل أن يراد منه الخصوص، وينتظر أن ينبه على الدليل المخصص. أما إذا أراد بالعشرة: سبعة، وأراد بالإبل: البقر، ونحو ذلك، فهذا ليس من كلام العرب، وهو تغيير للوضع، وقلب لحقائق اللغة. المذهب الثالث: التفصيل بين المجمل، والعام، والمطلق: فيجوز تأخير بيان المجمل، ولا يجوز تأخير بيان العام والمطلق. وهو مذهب أبي الحسن الكرخي، واختاره الدقاق من الشافعية وأبو الحسين البصري. دليل هذا المذهب: أن اللفظ العام يجب حمله على الحقيقة؛ فإذا ورد لفظ عام، فإنه يجب أن نعتقد العموم فيه، أما إذا ورد لفظ عام أريد به الخصوص ولم يبين مراده في ذلك، فإنه لا يجوز تأخير بيانه عق وقت الخطاب به؛ لأن ذلك يؤدي إلى القول بلزوم اعتقاد الشيء على خلاف ما هو عليه، ويفضي إلى ثبوت حكم في صورة غير مرادة - أصلاً - ولذا فلا يجوز تأخير بيان مثل هذا العموم لئلا يلزم منه ما ذكرناه؛ بخلاف المجمل؛ حيث إن المجمل لا يفهم منه معنى معين؛ لأن معانيه متساوية في الفهم، ولا يرجح أحدهما على الآخر إلا بقرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1274 جوابه: إن ذلك يبطل بالنسخ؛ لأن ما ذكرتموه موجود فيه، فالسامع يعتقد استمراره وعمومه، وهو اعتقاد جهل، كما أن له أن يخبر عنه، وقد جوزنا تأخيره، على أنه عندنا يعتقد عموم اللفظ العام بشرط عدم وجود ما يخصصه، وإذا ورد التخصيص علمنا أن المخصوص لم يدخل في العموم. بيان نوع الخلاف: الخلاف - هنا - معنوي قد أثر في مسائل، منها ما يلي: 1 - هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام؟ فمن أجاز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة أجاز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر التبليغ لما أوحي إليه من قرآن أو غيره إلى وقت الحاجة إليه. ومن منع جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة: قال: لا يجوز للرسول - صلى الله عليه وسلم - أن يؤخر التبليغ - وستأتي هذه المسألة. 2 - إذا عثر الفقيه على عموم القرآن، ثم عثر على خبر واحد يرفع بعض ذلك العموم، وعرف أن الآية متقدمة على الخبر، فهل يكون الخبر نسخاً للآية أو تخصيصا مثل: قوله تعالى: (وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى) فإنها نزلت في غزوة بدر، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة حنين: " من قتل قتيلاً فله سلبه ". فمن أجار تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة: قال بأن الخبر مخصص فيلزم الأخذ به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1275 ومن منع جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب: قال بأن الخبر يكون ناسخاً للآية، فلا يجوز الأخذ به، لأن خبر الواحد لا ينسخ القرآن. *** المسألة التاسعة: هل يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى وقت الحاجة إليها؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى وقت الحاجة إليها. وهو مذهب الجمهور. وهو الحق، لما قلناه في المسألة السابقة وهو: جواز تأخير البيان من وقت الخطاب إلى وقت الحاجة مطلقا، حيث لا يترتب على فرض جوازه محال، وقد سبق بيانه. المذهب الثاني: لا يجوز تأخير تبليغ الأحكام من وقت نزولها إلى وقت الحاجة إليها، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك) . وجه الدلالة: أن اللَّه أمر بتبليغ كل الأحكام، والأمر المطلق يقتضي الفور، فيكون تأخير تبليغ الأحكام يؤدي إلى مخالفة الأمر بالتبليغ، ومخالفة الأمر لا يجوز، فيكون تأخير التبليغ غير جائز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1276 جوابه: نسلم لكم أن الأمر يقتضي الفور، ولكن توجد قرينة صرفته من إفادته للفور إلى كونه مفيداً للتراخي، وهي: العقل؛ حيث إن العقل دلَّ على جواز تأخير تبليغ الأحكام إلى وقت الحاجة؛ حيث لا يترتب على فرض جواز تأخيره ولا وقوعه محال؛ لأن كل ما في الأمر هو: جهل المكلََّف بما كُلِّف به مدة من الزمن، وهذا ليس بمحال، ولا يؤدي إلى المحال، فهو جائز. المذهب الثالث: لا يجوز تأخير تبليغ القرآن، أما السُّنَّة فيجوز تأخير تبليغها، وهو مذهب فخر الدين الرازي، والآمدي. دليل هذا المذهب: إن القرآن هو الذي يطلق عليه القول بأنه منزل على الرسول - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: أنا لا نسلِّم التفريق بين القرآن والسُّنَّة؛ لأن كلًّا من القرآن والسُّنَّة يطلق عليهما بأنهما منزلان، وعلى هذا فإذا كان القرآن يجب تبليغه فوراً، فكذلك بقية الأحكام الواردة في السُّنَّة؛ إذ لا فرق. وإذا وجب التبليغ لي جميع الأحكام فوراً، فإن هذا يكون إذا ورد الأمر مطلقاً، ولكن العقل هو الذي قيده؛ حيث دلَّ العقل على جواز تأخير التبليغ - كما قلنا سابقاً -. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ لأن الخلاف في هذه المسألة راجع إلى الخلاف في المسألة السابقة: فمن أجاز هناك تأخير البيان عن وقت الخطاب، أجاز هنا، ومن منع: منع هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1277 الفصل العاشر في حروف المعاني وهي حروف يحتاج إليها؛ لأن معرفتها مهمة لسلامة استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة؛ حيث إن كثيراً من مسائل الفقه يتوقف فهمها على فهم معنى الحرف ومدلوله. وهذه الحروف التي سنذكرها ليست كلها من قبيل الحروف، بل بعضها من قبيل الأسماء والظروف، لكن أطلقوا عليها حروف المعاني تغليباً، أو تشبيهاً لها بالحروف في البناء وعدم الاستقلال، وحروف المعاني كثيرة، ولكني سأذكر ما تمس الحاجة إليه، وما وقع في تفسيرها بعض الخلاف في الباحث التالية: المبحث الأول: في " الواو ". المبحث الثاني: في " الفاء ". المبحث الثالث: في " ثم ". المبحث الرابع: في " أو ". المبحث الخامس: " في الباء ". المبحث السادس: " في " اللام ". المبحث السابع: في " في " المبحث الثامن: في " مِنْ ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1279 المبحث الأول في " الواو " حرف الواو تأتي للمعاني التالية: أولاً: أنها تأتي عاطفة: واتفق على أنها تفيد الجمع. ولكن اختلف العلماء هل تفيد الترتيب والمعية مع كونها تفيد الجمع على مذاهب: المذهب الأول: أنها لمطلق الجمع من غير إشعار بخصوصية المعية أو الترتيب، أي: أن الواو تدل على جمع المعطوف والمعطوف عليه في حكم واحد من غير ملاحظة حصولهما معا، أو أن أحدهما قبل الآخر، فإذا وجد ترتيب أو معية، فإنما هو من خارج دلالة الواو. وهو مذهب أكثر أهل اللغة، وأكثر علماء الشريعة. وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: أن أهل اللغة يستعملون الواو في أبنية يمتنع فيها الترتيب مثل قولهم: " تقاتل زيد وعمرو "، فلو كانت للترتيب لما حسن هذا؛ حيث لا ترتيب فيه؛ حيث إن المفاعلة إنما تصح عند صدور الفعلين دفعة واحدة، وكذلك قولهم: " جاء زيد وعمرو قجله "، فلو كانت " الواو " للترتيب: للزم التناقض؛ لأن قوله: "قبله " يقتضي تقديم مجيء عمرو، والواو تقتضي تأخيره، وإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1281 استعملوه فيما يمتنع فيه الترتيب وجب أن يكون حقيقة في غير الترتيب؛ لأنها الأصل في الإطلاق، وإذا كان حقيقة في غير الترتيب: وجب أن لا يكون حقيقة في الترتيب؛ دفعا للاشتراك. الدليل الثاني: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان قولوا: ما شاء اللَّه ثم شاء فلان "، فلو كانت الواو للترتيب لما نهاه عن العطف بها، وأمرهم أن يأتوا بلفظ " ثم "، وهذا بدل على أن الواو لمطلق الجمع. الدليل الثالث: الاستقراء دلَّ على أن الواو لمطلق الجمع، بيانه: أنه بعد الاستقراء وتتبع كلام العرب والقرآن والسُّنَّة وجدنا أنها لا تأتي للمعية، ولا للترتيب، من ذلك قوله تعالى: (وادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة) ، وقوله: (وقولوا حطة وادخلوا الباب سجداً) ، فإن هاتين الآيتين وردتا في سورة واحدة وفي قصة واحدة فلو كانت الواو للترتيب لوقع تناقض بين الآيتين؛ لما فيه من جعل المتقدم متأخراً، والمتأخر متقدما. الدليل الرابع: أنه احتج المبرد بقول حسان بن ثابت: وما زال في الإسلام من آل هاشم ... دعائم عز لا ترام ومفخر بها ليل منهم جعفر وابن أمه ... . علي ومنهم أحمد المتخير فلو كانت الواو للترتيب لما قدم جعفر وعليا على النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الخامس: قوله تعالى: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1282 فقدم عيسى على أيوب ويونس، ومعلوم أنهما كانا قبله، وكذلك قدم سليمان على داود، وقد أوحي إليه قبله، فلو كانت الواو للترتيب لما كان هذا. الدليل السادس: أنه لو قال: " رأيت زيداً وعمراً "، فإنه يسبق إلى الفهم السامع أنه رآهما معا، ولا يسبق إلى الفهم أنه رأى زيداً قبل عمرو، وسبق الفهم يدل على الحقيقة، إذن الواو لا تكون للترتيب حقيقة. الدليل السابع: أن أهل اللغة قد فرقوا بين قولنا: " جاء زيد وعمرو "، وقولنا: " جاء زيد ثم عمرو "، فلو كانت الواو للترتيب لما كان بينهما فرق. المذهب الثاني: أنها للجمع بقيد الترتيب، فإذا قال: " جاء زيد وعمرو " دلَّ على أن مجيء زيد قبل مجيء عمرو، وهو مذهب بعض أهل اللغة، وبعض الشافعية والحنفية والحنابلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما خرج إلى السعي قرأ قوله تعالى: (إن الصفا والمروة من شعائر الله) ، ثم قال: " ونبدأ بما بدأ الله به "، فرتب النبي - صلى الله عليه وسلم - الفعل على ما اقتضاه اللفظ، وهذا يدل على أن الواو للترتيب. جوابه: إنه على تقدير صحة الحديث: فإن الجواب واضح؛ إذ لو كانت الواو للترتيب لفهم الصحابة مدلولها، ولما احتاجوا إلى سؤال النبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل ما قاله إلا بعد سؤال سائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1283 الدليل الثاني: أنه لما قال سُحيم عبد بني الحسحاس: عميرة ودع إن تجهزت غازياً ... كفى الشبيب والإسلام ناهيا قال له عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه -: لو قدمت الإسلام على الشبيب لأجزتك. وجه الدلالة: أنه لو لم تكن الواو للترتيب لما أنكر عمر ذلك - وهو من أهل اللسان - فدل ذلك على أن الواو للترتيب. جوابه: إن هذا الإنكار إنما كان على وجه الأدب في تقديم الأهم في الذكر، لا لأن الواو تقتضي الترتيب؛ جمعا بين الأدلة. المذهب الئالث: أنها للجمع بقيد المعية، وهو مذهب بعض المالكية والحنابلة. دليل هذا المذهب: الوقوع؛ حيث وقع أن " الواو " قد جاءت بمعنى " مع " في كلام العرب، من ذلك قول أبي الأسود الدؤلي: لا تنه عن خلق وتأتي بمثله ... عار عليك إذا فعلت عظيم وقوله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ) . فإن الواو - هنا - قد استعملت بمعنى " مع "، والاستعمال دليل الحقيقة. جوابه: إن استعمال " الواو " في غير المعية أكثر، والكثرة يرجح بها، فتكون " الواو " لغير المعية، ولا تستعمل للمعية إلا بقرينة، وقد حصل هنا، فقد استعملت للمعية بقرينة، ولا نزاع عند دلالة القرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1284 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث تأثر بهذا الخلاف كثير من مسائل الفقه، ومنها: أنه لو قال لزوجته: " إن دخلت الدار وكلمت زيداً فأنت طالق ". فيلزم على المذهب الأول: أنه لا يقع الطلاق حتى تدخل وتكلم، ولا فرق في أيهما المقدم؛ لأن الواو لمطلق الجمع، وهو مذهب الشافعية والحنابلة، وهو الصحيح. ويلزم على المذهب الثاني: أنها لا تطلق إلا إذا قدمت الدخول على الكلام؛ لأن الواو للترتيب. ويلزم على المذهب الثالث أنها لا تطلق إلا إذا كانت تكلم زيداً أثناء دخولها؛ لأن الواو للمعية. ثانيا: أن الواو تأتي بمعنى " مع "، وتسمى؛ واو المفعول معه مثل: " سرت والليل "، ويكون ما بعدها منصوبا. ثالثا: تأتي الواو بمعنى " أو " كقوله تعالى: (فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع) ، وقوله: (أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع) رابعا: تأتي " الواو " للاستئناف، كقوله تعالى: (ثم قضى أجلاً وأجل مسمى عنده) ، وقوله: (هل تعلم له سميا ويقول الإنسان) ، وقوله تعالى: (وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به) ، وقد سبق بيانه في المحكم والمتشابه. خامسا: تأتي الواو بمعنى " رب " كقول الشاعر: جران العود: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1285 أي: رب بلدة. سادسا: تأتي الواو للقسم مثل قوله تعالى: (والفجر وليال عشر) . سابعا: تأتي الواو بمعنى الحال مثل: " جاء زيد وهو يضحك،. ثامناً: تأتي الواو بمعنى " إذْ " مثل قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاسا) إلى قوله: (وطائفة قد أهمتهم أنفسهم) أي: إذ طائفة قد أهمتهم أنفسهم. والواو عند التجرد تكون للعطف المتضمن مطلق الجمع كما قلنا في الأول، ولا تستعمل في غير ذلك من المعاني إلا بقرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1286 المبحث الثاني حرف " الفاء " تأتي للمعاني التالية: أولاً: أنها تأتي عاطفة، واختلف في كونها للترتيب والتعقيب على مذاهب: المذهب الأول: أنها تأتي للترتيب، والتعقيب، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ حيث إن " الفاء " تفيد أن ما بعدها ثبت له الحكم بعد ثبوته لما قبلها من غير مهلة، فإذا قلت: " جاء زيد فعمرو ": أفاد هذا أن عمراً ثبت له المجيء بعد زيد من غير تراخ بينهما في الزمن. والترتيب إما أن يكون في الزمان مثل: قوله تعالى: (خلقك فسواك) ، وقولك: " ضربته فهلك ". وإما أن يكون الترتيب في الذكر، وهو عطف مفصل على مجمل كقوله تعالى: (وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) ، وقوله: (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً) ، وقوله: (فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ) ، وكقولك: " أعطى فأجزل "، وقولك: " خطب فأحسن "، وهذا الوقوع دليل على أنها للترتيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1287 وأما الدليل على أنها للتعقيب فهو وقوعها في جواب الشرط مثل قولك.: " إن دخلت الدار فأنت طالق " فالجواب - وهو الطلاق - يلي الشرط عقبه بلا مهلة. المذهب الثاني: أن " الفاء " لا تدل على الترتيب. وهو محكي عن الفراء. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ) . وجه الدلالة: أن مجيء الباس إنما يكون قبل الهلاك، فهذا يدل على أن " الفاء " تأتي وهي لا تدل على الترتيب، وكذلك قوله تعالى: (فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله) . جوابه: إن في الكلام حذفاً تقديره: " أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا "، ومثله الآية الأخرى، ولا شك أن إرادة الإهلاك سابقة على مجيء البأس، ولا شك أن إرادة قراءة القرآن سابقة على قراءته، فتكون الفاء في النصين على أصلها من الترتيب والتعقيب. المذهب الثالث: أن الفاء لا تدل على التعقيب. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1288 وجه الدلالة: أن افتراء الكذب يكون في الدنيا، والإسحات بالعذاب أي: الاستئصال به يكون في الآخرة، وبينهما تراخ في الزمن، إذن: " الفاء " لا تكون للتعقيب. جوابه: إن الفاء في هذه الآية للتعقيب، وقد حصل لهم ذلك الإسحات في الدنيا، بيان ذلك: لا تختلفوا على الله كذبا فيستأصلكم ويهلككم هلاكا لا بقية فيه، فالافتراء والعذاب كلاهما في الدنيا؛ لأن الاستئصال لا يكون في الآخرة، فتعقيب الافتراء بالاستئصال متحقق في الدنيا مباشرة لمن لم يرجع منهم عن غيه، وقد حصل ذلك لفرعون وقومه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث أثر ذلك في بعض الفروع الفقهية ومنها: 1 - هل تجب استتابة المرتد؟ يلزم على المذهب الأول - وهو: أن الفاء للترتيب والتعقيب -: أنه لا تجب استتابة المرتد؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدل دينه فاقتلوه "، فالفاء - هنا - للتعقيب بلا مهلة، وهي تقتضي الترتيب باتصال. ويلزم على المذهب الثالث - وهو: أن الفاء لا تدل على التعقيب -: أنه تجب الاستتابة؛ لأن الفاء ليست للتعقيب. 2 - لو قال: " إن دخلت هذه الدار فدخلت هذه الدار الأخرى فأنت طالق "، فإنه يلزم على المذهب الأول: أنها لا تطلق حتى تدخل الدار الأولى قبل الثانية، فلو عكست لم تطلق؛ لأن الفاء للترتيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1289 ويلزم على المذهب الثاني: أنها تطلق إذا دخلت الدار الثانية قبل الأولى؛ لأن الفاء ليست للترتيب. ثانيا: وتأتي " الفاء " بمعنى " الواو " مثل قول امرئ القيس: بسقط اللوى بين الدخول فحومل و" الفاء " عند التجرد تستعمل حقيقة في العطف والترتيب والتعقيب، ولا تستعمل في غيره إلا بقرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1290 المبحث الثالث حرف " ثُمَّ " بضم الثاء وفتح الميم مع تشديدها وهي تفيد التشريك في الحكم بين المعطوف والمعطوف عليه، والترتيب بينهما بمهملة وتراخ فتقول: " جاء زيد ثم عمرو "، فأفاد هذا: اشتراك زيد وعمرو في المجيء، والترتيب بحيث كان مجيء عمرو بعد مجيء زيد، ومجيء عمر يكون متأخراً عن مجيء زيد. والدليل على أنها للتشريك، والترتيب بمهملة: الاستقراء والتتبع لكلام العرب، والنقل والاستعمال، كقوله تعالى: (ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ) ، وقوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) . قال بعض العلماء: إنها لا تكون للترتيب، بدليل ورودها في بعض النصوص وهي لا تفيده، كقوله تعالى: (خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها) ، حيث إن الجعل قبل خلقنا، وكقول أبي نواس: إن من ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده جوابه: إن هذا ورد مجازاً بقرينة السياق. وقال فريق آخر من العلماء: إنها لا تكون للمهلة بين المعطوفين - وحكي عن الفراء - بدليل قولك: " أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب "، وكقول أبي داود جارية بن الحجاج: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1291 كهز الرديني تحت العجاج ... جرى في الأنابيب ثم اضطرب فالاضطراب يأتي بعد الهز مباشرة بدون تراخ. جوابه: إن هذا خارج عن القاعدة، وهو مجاز. والحق هو ما قلناه وهو أن " ثم " العاطفة للتشريك، والترتيب بمهلة، ويبنى على ذلك أحكاماً شرعية منها: 1 - إذا قال: " أنت طالق ثم طالق ثم طالق "، فإنها تقع واحدة. ولا يقع ما بعدها؛ لأنها بانت بالأولى، فلا تصادف الثانية والثالثة محلاً؛ حيث إن " ثم " للترتيب، وهذا بخلاف " الواو ". 2 - إذا قال: " وقفت على أولادي ثم على أولادهم "، فإنه لا يستحق أحد من البطن الثاني مع وجود أحد من البطن الأول. 3 - أنه يشترط الترتيب في أعضاء التيمم؛ حيث ورد في صفته: " ثم ضرب بشماله على يمينه، وبيمينه على شماله - على الكفين - ثم مسح وجهه ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1292 المبحث الرابع حرف " أوْ " - بفتح الهمزة وتسكين الواو - وهي تفيد أحد الشيئين أو الأشياء. وهي تقع بين اسمين كقولك: " جاء زيد أو عمرو "، وبين فعلين كقولك: " خط الثوب أو ابن الجدار ". وإذا وردت في الإنشاء كالمثال السابق ففيه تفصيل: إن كان أمراً: أفادت التخيير بينهما، وتحافظ على أصلها فتكون لأحد الشيئين أو الأشياء. وإن كان نهيا أو نفيا: أفادت العموم، وأفادت حظر كل واحد منهما منفرداً، وحظرهما مجتمعين قولك: دالا تكلم زيداً أو عمراً،. وما قلناه - وهو أنها لأحد الشيئين أو الأشياء - هو الأصل في استعمالها، وقد تستعمل لغير ذلك، ولكن بقرينة، وإليك بيان المعاني التي تستعمل فيه " أو ". أولاً: أنها تأتي للشك، وهي المختصة بالخبر كقولك: " جاء زيد أو عمرو "، ومنه قوله تعالى: (لبثنا يوما أو بعض يوم) ، وهذا مذهب جمهور العلماء، ودليلهم: الاستقراء لكلام العرب. وحالف في ذلك كثير من الحنفية مستدلين بأن الكلام موضوع لإفهام السامع، وهو منتف في الشك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1293 جوابه: إن هذا التعليل لا يدفع مجيئها للشك، لأن الشك - أيضا - معنى يقصد إفهامه بأن " يخبر المتكلمُ المخاطب بأنه شاك في تعيين أحد الأمرين. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لاتفاق الفريقين على أن " أو " في أصل الوضع لأحد الشيئين، ولاتفاقهم على أنه لو قال: " رأيت زيداً أو عمراً " أنه أخبر عن رؤية أحدهما، وأنه غير معين، وذلك يقتضي الشك، ولا يخرجها عن كونها لأحد الشيئين، وإذا كان المعنى متفقا عليه، فلا خلاف حقيقي. ثانيا: أنها تأتي للإباحة كقولك: " جالس العلماء أو الأدباء ". ثالثا: أنها تأتي للتخيير، وهي التي يمتنع فيه الجمع مثل: "تزوج هنداً أو أختها ". أما الإباحة فيجوز الجمع بينهما. رابعا: أنها تأتي للإبهام، كقولك: " قام زيد أو عمرو " إذا كنت تعلم من هو القائم منهما، ولكن قصدت الإبهام على المخاطب. وبهذا تعرف الفرق بين ذلك وبين الشك؛ حيث إن الشك لا يعلمه المتكلم والسامع، أما الإبهام فيعلمه المتكلم دون السامع. خامسا: أنها تأتي بمعنى " الواو "، فتكون لمطلق الجمع، ومنه قوله تعالى: (إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ) ، وقول الشاعر توبة الحميري مخاطبا ليلى الأخيلية: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1294 وقد زعمت ليلى بأني فاجر ... لنفسي تقاها أو عليها فجورها سادساً: أنها تأتي للإضراب مثل " بل "، ومنه قوله تعالى: (وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون) أي: بل يزيدون. سابعا: أنها تأتي بمعنى " إلا "، كقولك: " لأقتلن الكافر أو يسلم " أي: إلا أن يسلم. ثامناً: أنها تأتي بمعنى " إلى " كقولك: " لألزمنك أو تقضيني حقي ". تاسعا: أنها تأتي للتفريق بين الأشياء والتقسيم بينها، كقولهم: " الكلمة اسم، أو فعل، أو حرف ". عاشراً: أنها تأتي بمعنى " إن " الشرطية، كقولك: " لأضربنه عاش أو مات ". وهذه المعاني لا تفهم إلا بقرائن، والأصل هو المعنى الأول - وهو: أنها تفيد أحد الشيئين أو الأشياء، فإن كانت في أمر أفادت التخيير بينهما، وإن كانت في نهي أفادت العموم وحظر كل واحد منهما منفرداً أو هما معاً مجتمعين، وقد بني على ذلك بعض الأحكام الشرعية ومنها: 1 - لو قال في النفي: " واللهِ لا أكلم زيداً أو عمراً "، فلو كلم واحداً منهما أو كلمهما معاً: حنث. 2 - لو قال في الإثبات: " واللهِ لأدخلن هذه أو هذه الدار ": برَّ بدخول إحدى الدارين. 3 - لو قال: " بع هذا أو هذا "، فإن هذه وكالة صحيحة، وهي بمنزلة ما لو قال له: " بع أحدهما ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1295 المبحث الخامس حرف " الباء " تأتي لمعان هي كما يلي: أولاً: أنها تأتي للإلصاق، وهو: إضافة الفعل إلى الاسم، فيلصق به بعد ما كان لا يضاف إليه لولا دخولها مثل: " مسحت برأسي "، وهو قسمان: الأول: إلصاق حقيقي كالمثال السابق، وقولنا: " أمسكت بالقلم ". الثاني: إلصاق مجازي مثل: " مررت بزيد " حيث إن المرور لم يلصق به، وإنما ألصق بمكان بقرب من زيد. واستعمالها للإلصاق هو الحقيقة. ثانيا: أنها تأتي بمعنى " مِنْ " التي للتبعيض، ومنه قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي: شَرِبتْ بماء البحر ثم ترفَّعَتْ ... مني لجج خضر لهن نشيج أي: بعض ماء البحر، ووروده في لغة العرب دليل على جواز ذلك. وورودها هنا للتبعيض يرد على قول ابن جني: إن " الباء " لا تكون للتبعيض في لغة العرب. ثالثا: أنها تأتي بمعنى الاستعانة، وهي: الداخلة على ألة الفعل مثل: " قطعت بالسكين "، و " وصلت إليك بالسيارة "، ومنه قوله تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1296 رابعا: أنها تأتي بمعنى المصاحبة، وهي: التي يصلح في موضعها " مع " مثل قوله تعالى: (قد جاءكم الرسول بالحق) أي: مع الحق، وقولك: " جاء زيد بسلاحه "، و " اشتريت الدار بمتاعه ". خامسا: أنها تأتي لتعدية الفعل اللازم وتسمى باء النقل، وهي: القائمة مقام الهمزة في تصيير الفاعل مفعولاً مثل: قوله تعالى: (ذهب اللَّه بنورهم) أي: ذهب نورهم. سادسا: أنها تأتي بمعنى البدل مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لقد شهدت في دار عبد اللَّه بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم " أي: ما أحب أن يكون لي بديلاً عنه حمر النعم. سابعا: أنها تأتي بمعنى " عن " للمجاوزة، وتكثر بعد السؤال مثل: قوله تعالى: (فاسأل به خبيراً) ، وقوله: (ويوم تشقق الأرض بالغمام) . ثامنا: أنها تأتي للقسم مثل: " بالله لأقومن ". تاسعا: أنها تأتي بمعنى " إلى " مثل: (وقد أحسن بي) أي: إلي. عاشراً: أنها تأتي للتوكيد، وتقترن إما مع المبتدأ كقولك: "بحسبك درهم "، أو مع الخبر كقوله تعالى: (أليس الله بكاف عبده) ، أو مع المفعول كقوله تعالى: (وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ) ، وبعضهم يسميها: " باء الزائدة "، وهذا لا يجوز. حادي عشر: أنها تأتي بمعنى " على " مثل قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) أي: على قنطار، وعلى دينار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1297 ثاني عشر: أنها تأتي بمعنى " في " الظرفية الزمانية مثل قوله تعالى: (وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل) أي: وفي الليل، والليل زمان. ثالث عشر: أنها تأتي بمعنى " في " الظرفية المكانية مثل قوله تعالى: (ولقد نصركم اللَّه ببدر) أي: في بدر. رابع عشر: أنها تأتي بمعنى السبب مثل قوله تعالى: (فكلاً أخذنا بذنبه) ، وقوله: (ولم أكن بدعائك رب شقيا) . و" الباء " عند التجرد تستعمل للإلصاق حقيقة، ولا تستعمل في غيره من المعاني التي ذكرناها إلا بقرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1298 المبحث السادس حرف " اللام " الجارة وتأتي لمعان هي كما يلي: أولاً: أنها تأتي للاختصاص مثل قولك: " المال لزيد "، و"الباب للمسجد ". وتستعمل اللام للاختصاص حقيقة، ولا تستعمل لأي معنى من المعاني الآتية إلا بقرينة، وهو قول كثير من علماء اللغة كابن يعيش وابن الخشاب. وبعض العلماء - كالجرجاني - جعلها للملك، ومتى ما استعملت في غيره فبقرينة. وهذا ليس بصحيح، بل هي حقيقة للاختصاص - كما قلنا -؛ لأمرين: الأول: أن الاختصاص معنى عام لجميع موارد استعمالها، وبأي معنى استعملت لا تخلو منه. الثاني: أن الملك اختصاص، وليس كل اختصاص ملكا، أي: أن كل مالك مختص بملكه. ثانياً: أنها تأتي للملك مثل:. " هذا المال لزيد ". ثالثا: أنها تأتي للاستحقاق مثل: " النار للكافرين ". والفرق بين " الاختصاص " و " الاستحقاق " و " الملك ": أن ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1299 صح أن يقع فيه التملك، وأضيف إليه ما ليس بمملوك له، فاللام معه: لام الاختصاص مثل: " الباب للمسجد "، أما ما لا يصح له التملك فاللام معه لام الاستحقاق مثل: " النار للكافرين "، أما ما عدا ذلك فاللام: لام الملك. رابعاً: أنها تأتي للتعدية مثل قوله تعالى: (فهب لي من لدنك ولياً) ، وقولك: (ما أضرب زيداً لعمرو) . خامسا: أنها تأتي للصيرورة مثل قوله تعالى: (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا) ، وهذا عند البصريين، أما الكوفيون فيسمونها بلام " كي ". سادساً: أنها تأتي بمعنى التعليل مثل قوله تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة) ، وقوله: (لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) . والفرق بين لام الصيرورة، ولام التعليل: أن لام التعليل تدخل على ما هو غرض لفاعل الفعل، ويكون مرتبا على الفعل، بخلاف لام الصيرورة فليس فيها إلا الترتيب. سابعاً: أنها تأتي بمعنى " في " مثل قوله تعالى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة) أي: في يوم القيامة. ثامناً: أنها تأتي بمعنى " من ": لقولك: " سمعت له صراخا " أي: منه. تاسعاً: أنها تأتي بمعنى " على " كقوله تعالى: (يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ) أي: على الأذقان، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: لعائشة لما أرادت شراء بريرة فتعتقها: " خذيها واشترطي لهم الولاء، فإن الولاء لن أعتق " أي: اشترطي عليهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1300 عاشراً: أنها تأتي بمعنى التمليك مثل قوله تعالى: (إنما الصدقات للفقراء) ، وقولك: " وهبت لزيد ديناراً " أي: ملكت الصدقات الفقراء، وملكت الدينار زيداً. حادي عشر: أنها تأتي بمعنى " إلى " مثل قوله تعالى: (بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) أي: إليها. ثاني عشر: أنها تأتي بمعنى: " عند " الزمانية مثل قوله تعالى: (أقم الصلاة لدلوك الشمس) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "صوموا لرؤيته وأفطر والرؤيته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1301 المبحث السابع في حرف " في " تأتي للمعاني التالية: أولاً: أنها تأتي ظرفية مكانية كقولك: " تعلمت في الكلية "، وتأتي زمانية كقولك: " زرتك في الصباح ". ثانية: أنها تأتي بمعنى " على " التي هي للاستعلاء مثل قوله تعالى: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) . ثالثاً: أنها تأتي للسببية والتعليل كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "دخلت امرأة في هرة". رابعا: أنها تأتي بمعنى " إلى "، ومنه قوله تعالى: (فردوا أيديهم في أفواههم) أي: إليها. خامساً: أنها تأتي مؤكدة - وهي التي يفيد الكلام بدونها - كقوله تعالى: (وقال اركبوا فيها) أي: اركبوها. سادساً: أنها تأتي بمعنى " مع "، كقوله تعالى: (ادخلوا في أمم قد خلت) أي: ادخلوا مع أمم. وأنكر بعض العلماء - كالبيضاوي - استعمال "في " لغير الظرفية. والحق: أن " في " تستعمل حقيقة في الظرفية، ولا تستعمل في غيرها إلا مجازاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1302 المبحث الثامن في حرف " مِنْ " ترد لمعان هي كما يلي: أولاً.: أنها ترد لابتداء الغاية في المكان وفى الزمان، فمثال المكان: قولك: " لك من الأرض من هذا إلى هذا "، ومنه قوله تعالى: (سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام) ، ومثال الزمان قولك: " الامتحان يكون من السبت "، ومنه قوله تعالى: (ومن الليل فتهجد) . ثانياً: أنها ترد للتبعيض، وهي التي يكون منها لفظ " بعض " مثل: " كل من هذا الطعام "، و " خذ من هذه الدراهم ". ثالثاً: أنها ترد لتبيين الجنس، مثل: " مشيت ميلاً من الأرض " و" أكلت شيئاً من الطعام "، ومنه قوله تعالى: (فاجتنوا الرجس من الأوثان) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "التمس ولو خاتماً من حديد ". واختلف العلماء في " من " هل هي حقيقة في ابتداء الغاية، والتبعيض والتبيين، أو هي حقيقة في البعض دون البعض الآخر؟ على مذاهب ثلاثة: أصحها: أن " من " حقيقة في ابتداء الغاية؛ لكثرة استعمالها فيه، والكثرة يُرجح بها، وعلى ذلك فلا تستعمل في غير ابتداء الغاية من المعاني إلا مجازاً، فتحتاج إلى قرينة. رابعاً: أنها تأتي لتأكيد العموم - وهي الداخلة على نكرة لا تختص بالنفي، فمثلاً لو قال. "ما جاءني رجل " لاحتمل أن يكون قد نفى أنه جاءه رجل واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1303 ولكنه لم ينف أنه جاءه رجلان، بل يستطيع أن يقول: " بل رجلان "، لكن إذا وضعت " من " قبل لفظ " رجل "، وقال.: "ما جاءني من رجل " لا يمكن ذلك، وسيأتي ذلك - في باب العموم إن شاء اللَّه. خامساً: أنها تأتي بمعنى " على "، ومنه قوله تعالى: (وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا) أفي: على القوم. سادساً: أنها تأتي بمعنى " الباء "، ومنه قوله تعالى: (ينظرون من طرف خفي) أي: بطرف. ثامناً: أنها تأتي بمعنى البدل كقوله تعالى: (وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ) أي: بدلكم. تاسعاً: أنها تأتي بمعنى " في " كقوله تعالى: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ) أي: في الأرض. عاشراً: أنها تأتي - بمعنى " عند " كقوله تعالى: (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: عند اللَّه. حادي عشر: أنها تأتي للتعليك مثل قوله تعالى: (يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ) أي: لأجل الصواعق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1304 الفصل الحادي عشر في الأوامر والنواهي ويشتمل على تمهيد، ومبحثين: أما التمهيد: فهو في بيان أهمية الأمر والنهي، وسبب تقديم الأمر. أما المبحثان فهما: المبحث الأول: في الأمر. المبحث الثاني: في النهي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1305 التمهيد في بيان أهمية الأمر والنهي، وسبب تقديم الأمر على النهي إن الأمر والنهي من أهم مباحث أصول الفقه؛ لأمرين: أولهما: أنهما أساس التكليف في توجيه الخطاب إلى المكلفين. ثانيهما: أن معرفتهما تؤدي إلى معرفة الأحكام الشرعية بتفاصيلها وبها يتميز الحلال من الحرام. أما سبب تقديم الأمر على النهي فهو: أن الأمر: طلب إيجاد الفعل، أما النهي فهو: طلب الاستمرار على عدم الفعل، فقدم الإيجاد على العدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1307 المبحث الأول في الأمر ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف الأمر. المطلب الثاني: هل تشترط إرادة الآمر المأمور به؟ المطلب الثالث: هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة؟ المطلب الرابع: هل الأمر حقيقة في الفعل؟ المطلب الخامس: فيما تستعمل فيه صيغة الأمر وهي: " افعل ". المطلب السادس: فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقة إذا تجردت عن القرائن. المطلب السابع: هل اقتضاء " افعل " للوجوب ثبت عن طريق الشرع أو اللغة؟ المطلب الثامن: بيان نوع القرينة التي تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره. المطلب التاسع: إذا ورد الأمر بعد النهي فماذا يقتضي؟ المطلب العاشر: الأمر المطلق هل يقتضي فعل الأمور به مرة أو التكرار؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1309 المطلب الحادي عشر: الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضى تكرار الأمور به بتكرار الشرط أو الصفة؟ المطلب الثاني عشر: إذا كرر لفظ الأمر بشيء واحد مثل: " صل ركعتين، صل ركعتين "، فهل يقتضي التكرار؟ المطلب الثالث عشر: الأمر المطلق هل يقتضى فعل الأمور به على الفور أو لا؟ المطلب الرابع عشر: هل يسقط الواجب المؤقت بفوات وقته؟ المطلب الخامس عشر: امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء؟ المطلب السادص عشر: الأمر بالأمر بالشىء هل يكون أمراً بذلك الشيء أو لا؟ المطلب السابع عشر: هل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلق أمر لأمته، وأمر الأمة هو أمر للنبى، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره؟ المطلب الثامن عشر: تعلق الأمر بالمعدوم. المطلب التاسع عشر: هل يجوز الأمر من الله تعالى بما يعلم أن المكلف لايتمكن من فعله؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1310 المطلب الأول في تعريف الأمر الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. بيان هذا التعريف: قوله: " استدعاء " أي: طلب، وهو جنس؛ حيث دخل فيه كل طلب سواء كان طلب فعل، أو طلب ترك، من المساوي، أو من الأدنى، أو من الأعلى. قوله: " استدعاء الفعل " أخرج طلب الترك، وهو النهي. وقوله: " بالقول " أي: الصيغة، فخرج بذلك الإشارات والرموز، وبعض الحركات، والفعل الذي يستدعي بغير قول، فإن هذه الأمور تسمى أمراً مجازيا؛ لأن الطلب من لوازم الأمر الحقيقي، والصيغة من لوازم الطلب؛ بناء على أن الكلام حقيقة في العبارات اللسانية، لا في المعاني النفسانية. وقوله: " على وجه الاستعلاء " معناه: أن يأتي الأمر متكيفا بكيفية الترفع على المأمور كأمر اللَّه للمخلوقين، وأمر السيد لعبيده، وأمر الأب لأولاده، وأمر السلطان لرعيته. فعبارة " على جهة الاستعلاء " أخرج طلب الفعل بالقول على جهة الدعاء والالتماس. وعلى هذا: فإنه يشترط في الأمر الاستعلاء - وهو: أن يجعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1311 الآمر نفسه في مرتبة أعلى رتبة من غيره، وإن لم يكن ذلك حاصلاً باعتبار الواقع. وهو مذهب بعض الشافعية كالآمدي، والرازي، وبعض المالكية كابن الحاجب، والباجي، والقرافي، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب، وابن قدامة، وبعض الحنفية كصدر الشريعة، وابن عبد الشكور. وهو الحق؛ لدليلين: أولهما: أن الرجل العظيم لو قال لغيره: " افعل " لا على سبيل الاستعلاء، بل على سبيل التضرع واللين، فإنه لا يقال: إنه أمر، ولذلك نفى النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر حينما قال لبريرة: " ارجعي إلى زوجك.. " فقالت: أتامرني يا رسول اللَّه؟ قال: " لا، إنما أنا شافع " فهنا لم يكن ذلك القول أمراً؛ لأنه صدر لا على سبيل الاستعلاء. ثانيهما: أنه لو قال من هو أدنى رتبة لمن هو أعلى رتبة منه: "افعل " بصفة المستعلي، فانه يقال: " إنه أمره "، ولذلك يوصف هذا المستعلي بالجهل والحمق بسبب أمره، لمن هو أعلى منه. وهناك من اشترط في الأمر العلو - وهو: كون الأمر في نفسه أعلى رتبة ودرجة من المأمور، لذلك عرف الأمر بأنه: قول القائل لمن هو دونه: افعل. وهناك من لم يشترطهما - أي: لم يشترط في الأمر الاستعلاء ولا العلو - لذلك عرف الأمر بأنه: القول الطالب للفعل مطلقا. وهناك من اشترطهما مع) ، وقد فصلت ذلك في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1312 المطلب الثاني هل تشتراط إرادة الآمر المأمور به أي: هل تشترط إرادة فعل المأمور به والامتثال أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا تشترط إرادة الآمر المأمور به. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لذلك قلنا: إن الأمر هو: " استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء " مطلقا أي: سواء أراد الآمر إرادة المأمور به وامتثاله أو لا. والأدلة على عدم اشتراط إرادة الآمر المأمور به هي كما يلي: الدليل الأول: أن اللَّه تعالى أمر إبراهيم بذبح ابنه، ولم يرده؛ لأنه لو أراده لوقع؛ لأن اللَّه تعالى فعال لما يريد. الاعتراضات التي وجهت إلى هذا الدليل والأجوبة عنها: الاعتراض الأول: أنه لم تثبت صيغة الأمر، فمن أين ثبت أن إبراهيم رأى في المنام صيغة الأمر؟ جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن صيغة الأمر واضحة في النص، حيث قال تعالى: (يا أبت افعل ما تؤمر) . فإن قال قائل: إن الصيغة وهي: (افعل ما تؤمر) للمستقبل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1313 وهذا يعني أنه لم يؤمر حتى الآن، ولو أراد ذلك في الماضي لكان يقول: " افعل ما أمرت ". فإنا نقول: إن فعل المضارع أحياناً يأتي للماضي مثل قوله تعالى: (إني أراني أعصر خمراً) أي: إني رأيت،، وهذا مثله، فالمراد: ما أمرت به. الجواب الثاني: أن إبراهيم لو لم يؤمر لم يجز أن يأخذ ابنه، ويضجعه للذبح؛ لأن ذلك حرام، فثبت أنه أمر وحيا في المنام. الاعتراض الثاني: أن إبراهيم لم يؤمر بالذبح الحقيقي، وإنما أمر بمقدماته من الاضطجاع والأخذ بالمدية، وقد فعل ذلك ووقع ما أراده الله تعالى. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن المأمور به الذبح، وحقيقة الذبح معروفة وهي: قطع مكان مخصوص معه تبطل الحياة. الجواب الثاني: أنه لو كان المأمور به: المقدمات - فقط -: لم يكن في ذلك بلاء مبين، ولا يحتاج فيه إلى الصبر؛ حيث قال تعالى: (إن هذا لهو البلاء المبين) ، وقال: (ستجدني إن شاء الله من الصابرين) . الاعتراض الثالث: أنا نسلم أنه أمر بالذبح، وقد فعل وذبح، ولكن اللَّه يلحم ما يشقه إبراهيم ويعيده كما كان، فوقع ما أمر الله - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1314 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لو وقع الذبح، وكان يلتحم كما تقول: لما احتاج إلى فداء؛ لأنه فعل المأمور به، ولا يجمع بين البدل والمبدل. الجواب الثاني: أنه - لو كان كما تقول لذكره اللَّه تعالى؛ لأنه من الآيات الباهرة. الاعتراض الرابع: أنه أمره بالذبح، ولكنه نهاه عنه. جوابه: هذا لا يجوز على قواعدكم - أيها المعتزلة -؛ لأن الأمر بالشيء يدل على حسن ذلك الشيء، ولا يجوز نهيه عن الحسن. الدليل - الثاني: أنه يحسن أن يقول الرجل لعبده: " أمرتك بكذا ولم أرده منك "، ولو كان من شرط الأمر الإرادة لما حسن ذلك كما لا يحسن أن يقول الرجل لعبده: " أردت منك كذا ولم أرده "؛ لما فيه من التناقض. الدليل الثالث: أن العرب قد سموا من قال لعبده: " افعل كذا " آمراً من قبل أن يعلموا إرادته، فلو كان من شرط الأمر الإرادة لم يجز للعرب أن يسموه بذلك إلا بعد علمهم لإرادته المذهب الثاني: أنه تشترط إرادة الأمر المأمور به. وهو مذهب كثير من المعتزلة، لذلك عرفوا الأمر بأنه: إرادة الفعل بالقول على وجه الاستعلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1315 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن صيغة الأمر ترد والمراد بها الأمر كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) وترد والمراد بها الإباحة كقوله تعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) وترد والمراد بها التهديد كقوله تعالى: (اعملوا ما شئتم) وترد والمراد بها الهوان، كقوله تعالى: (اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) وترد والمراد بها غير ذلك من معاني " افعل "، ولا نميز الأمر من غير الأمر - مما تستعمل له صيغة افعل - إلا بالإرادة، فدل على أنها تشترط. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن الأمر يتميز عما ليس بأمر بالإرادة، وإنما الحق: أن الأمر يتميز عما ليس بأمر بالاستدعاء فقط، فإذا استدعى الآمر وطلب الفعل سمي آمراً، سواء أراد وقوعه أو لم يرده. فأما بقية الصيغ - وهي الإباحة، والتهديد والهوان وغير ذلك - فلا يوجد فيه استدعاء، وعليه: فلا يكون أمراً. الدليل الثاني: القياس، وبيانه: أن قول القائل: " افعل كذا " هو نفسه قول القائل: " أريد منك كذا "، ولا فرق بينهما عند العرب. جوابه: لا نُسَلِّمُ ذلك، بل بين العبارتين فرق من وجهين: الوجه الأول: إن قوله: " أريد " إخبار عن إرادته، وليس باستدعاء، ولهذا يدخله التصديق والتكذيب. أما قوله: " افعل كذا " استدعاء، ولهذا لا يدخله التصديق والتكذيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1316 الوجه الثانى: أن السيد لو قال لعبده: " أريد منك كذا ولست أريده " لأنكر ذلك، لكونه تناقضا وقبحاً، ولكنه لو قال لعبده: "افعل كذا ولست أريده " لا ينكر هذا. الدليل الثالث: قياس الأمر على النهي، بيان ذلك: أن النهي إنما يكون نهياً لعلمنا أن الناهي يكرهه، فكذلك الأمر إنما يكون أمراً لأن الآمر يريد المأمور به. جوابه: لا نسلم ما قلتموه في النهي؛ لأن النهي إنما كان نهياً للزجر عن الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، فكذلك الأمر إنما كان أمراً لاستدعاء الفعل على وجه الاستعلاء. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن مآل كلام أصحاب المذهبين واحد؛ حيث حصل الاتفاق على المعنى، فأصحاب المذهب الأول نظروا إلى السامع الذي يحمل كلام المتكلم على مراده، فيقول: مراد المتكلم بصيغة الأمر: معناها الحقيقي، وهو طلب الفعل؛ نظراً لعدم وجود صارف لهذا الأمر إلى غيره، ولو كان مراد المتكلم غيره لنصب قرينة تدل على ذلك، فكان إرادة غيره احتمالاً عقليا. وهذا هو معنى قول أصحاب المذهب الثاني فإنهم يقرون بأن التهديد ليس معنى حقيقيا، بل هو احتمال عقلي لا يراد إلا عند إقامة دليل أو قرينة تدل على إرادته، فكان الخلاف لفظيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1317 المطلب الثالث هل للأمر صيغة موضوعة في اللغة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن للأمر صيغة موضوعة لغة له، وتدل عليه حقيقة بدون قرينة كدلالة سائر الألفاظ الحقيقية على موضوعاتها ومعانيها، وهي صيغة فعل الأمر: " افعل " مثل: " اكتب ". والمضارع المجزوم بلام الأمر وهي: " ليفعل " كقوله تعالى: (فليحذر الذي يخالفون عن أمره) . واسم فعل الأمر مثل قوله تعالى: (عليكم أنفسكم) . والمصدر النائب عن فعله كقوله تعالى: (فضرب الرقاب) . وإنما تخصص صيغة " افعل " بالذكر؛ نظراً لكثرة دورانها في الكلام. وهذا المذهب هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن العرب قد وضعوا لما لا يحتاج إليه أسماء كالأسد، والهر، والسيف، والخمر، فمن باب أوْلى أن يضعوا صيغة للأمر تدلْ عليه؛ وذلك لأن الحاجة داعية إلى معرفة الأمر، لكثرة مخاطبات الناس به، فلا يمكن أن يتخاطبوا بغير صيغة، فدل هذا على أنهم وضعوا له صيغة وهو: " افعل ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1318 الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " اسقنى ماء "، فلم يسقه، فإنه يستحق - عند أهل اللغة - الذم والتوبيخ، فلو لم تكن هذه الصيغة موضوعة للاستدعاء لما استحق ذلك. الدليل الثالث: أنا نجد في العقل ضرورة أن من وجدت منه صيغة " افعل " يسمى آمراً، أما إذا لم توجد منه هذه الصيغة، فإنه لا يسمى آمراً، ولو كان الأمر أمراً لقيامه في النفس لسمي من لم يوجد منه ذلك آمراً. الدليل الرابع: أن أهل اللغة قد قسموا الكلام إلى أمر، ونهي، وخبر، واستخبار، فعبروا عن الأمرب " افعل "، وعبروا عن النهي بـ " لا تفعل "، وعبروا عن الخبر ب " زيد في الدار "، وعبروا عن الاستخبار بقولهم: " هل جاء زيد؛ "، ولم يشترطوا لذلك أية قرينة، فدل على أن " افعل " للأمر بمجردها بدون قرينة. وهذا التقسيم قد اشتفاض بين أهل اللسان كاستفاضة سخاء حاتم، وشجاعة عنترة. الدليل الخامس: أنه يسبق إلى الفهم إذا أطلقت صيغة " افعل ": أنها للأمر، ولا يسبق إلى الفهم إلا الحقيقة، أما غيره فلا يفهم إلا بواسطة قرينة، فلو كانت صيغة " افعل " مشتركة بين الأمر وغيره: لما سبق إلى فهمنا أن السيد إذا قال لعبده: " افعل " أن ذلك أمر، فلما سبق ذلك إلى فهمنا دلَّ على أنه حقيقة في الأمر مجاز في غيره، بخلاف الألفاظ المشتركة: فلو قال السيد لعبده: " اصبغ الثوب "، أو قال: " ائت العين ": فلا يسبق إلى فهمنا لون دون لون، ولا عين دون عين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1319 المذهب الثاني: أنه ليس للأمر صيغة في اللغة، وإنما صيغة "افعل " مشتركة بين الأمر وغيره، ولا يحمل على أحدهما إلا بقرينة. وهو مذهب أكثر الأشاعرة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن هذه الصيغة - وهي: " افعل " - إما أن تثبت أنها للأمر عن طريق العقل، أو النقل. فإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق العقل، فهذا باطل؛ لأن العقل لا مدخل له في اللغات، وإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق النقل، فهذا باطل - أيضا -؛ لأن النقل قسمان: " متواتر " و"آحاد". فإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق التواتر فهذا باطل؛ لأنه لو ثبت ذلك عن هذا الطريق: لعلمناه بالضرورة كما علمتموه، ولكننا لم نعلمه فثبت أنه لم تثبت أنها للأمر عن التواتر. وإن زعمتم أنها ثبتت للأمر عن طريق الآحاد فهذا باطل؛ لأن الآحاد لا تثبت به قاعدة أصولية كهذه القاعدة وهي: أن " افعل " صيغة للأمر؛ حيث إن الآحاد لا يفيد إلا الظن، والقاعدة الأصولية قطعية، والظني لا يثبت القطعي، إذن: لا أصل لإثبات هذه الصيغة. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا الدليل يقتضي المطالبة بالدليل على أن "افعل " صيغة للأمر، وهذا باطل؛ لأمرين: الأمر الأول: أن المطالبة بالدليل ليس بدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1320 الأمر الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل فإنا قد أقمنا أدلة على أن هذه الصيغة للأمر، وذلك من إجماع عقلاء العرب وأهل اللسان على ذم العبد إذا خالف هذه الصيغة، والذم على المخالفة دليل على أنها تختص بالأمر، وأن أهل اللغة قد فرَّقوا بين الأمر والنهي والخبر والاستخبار في أن كل واحد منها له صيغة تخصه، وأن " افعل " للأمر - كما سبق - وغير ذلك من الأدلة، ولا يمكن لكم أن تنكروا تلك الأدلة، ومن أنكرها فهو معاند. الجواب الثاني: قولكم: " إن الظني لا يثبت القواعد الأصولية؛ لأنها قطعية " لا نسلمه، بل هذا فيه تفصيل: فإن كانت القاعدة علمية، فلا تثبت بالظني. وإن كانت القاعدة عملية أو وسيلة إلى العمل كهذه القاعدة، فإنها تثبت بالظني؛ قياساً على الفروع. الجواب الثالث: أنا نقلب هذا الدليل عليكم: فأنتم قلتم: إن "افعل " مشتركة بين الأمر وغيره، فمن أين أثبتم ذلك: فإن قلتم: ثبت ذلك عن طريق العقل فهذا باطل؛ لما سبق، وإن قلتم: ثبت ذلك عن طريق النقل، فهذا باطل أيضاً؛ لما سبق، فأي جواب لكم يكون هو جوابنا. الدليل الثاني: أن هذه الصيغة - وهي: " افعل " - قد ترد والمراد بها الأمر، وقد ترد والمراد بها الإباحة، وقد ترد والمراد بها التعجيز، أو التهديد، وليس حملها على أحد هذه الوجوه بأوْلى من حملها على الآخر، فوجب التوقف فيها حتى تأتي قرينة ترجح أحد الوجوه؛ قياساً على " اللون ". جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1321 الجواب الأول: أنه إذا وردت صيغة " افعل "، وهي مجردة عن القرائن فهي للاستدعاء، وهو: الأمر، ولا تحمل على غيره من الإباحة والتهديد والتعجيز وغيرها إلا بقرينة واضحة جلية. الجواب الثاني: أنكم قستم صيغة " افعل " على اللفظ المشترك مثل " اللون "، وهذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن لفظ " اللون " لم يوضع لشيء معين، أما صيغة " افعل "، فإن العرب قد وضعوها لشيء معين، وهو: الاستدعاء، فمثلاً: لو أمر السيد عبده بأن يقوم بتلوين ثوبه، فقام العبد فلوَّنه بأيِّ لون شاء فإنه لا يستحق الذم ولا التوبيخ؛ لأن " اللون " لفظ مشترك بين جميع الألوان، لكن لو أمره وقال: " اسقني ماء "، ولم يسقه فإنه يستحق الذم والتوبيخ، لأن " افعل " عند الإطلاق لا تحمل إلا على معنى معين وهو: الاستدعاء. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث إن أصحاب المذهب الأول يحملون صيغة " افعل " على أنها ظاهرة، وأن لها معنيان وهما: إفادتها للأمر، وعدم إفادتها له، وأنه يرجح إفادتها للاستدعاء والأمر بدون قرينة، ويعملون على ذلك. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يحملون لفظ " افعل " على أنه مجمل وأنه لا معنى له راجح: فالمعنيان السابقان لا يرجح أحدهما على الآخر إلا بمرجح خارجي: فلا يجوز عندهم العمل بأن " افعل " للأمر إلا بدليل خارجي يدل على أنه للأمر، وإلا: توقفوا. بيان منشأ الخلاف في هذه المسألة: إنا منشأ الخلاف في مسألة صيغة الأمر هو: خلافهم في مسألة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1322 صفة لكلام، فمن ذهب إلى أن الكلام لفظي: قال: للأمر صيغة وهي " افعل "، وهم أصحاب المذهب الأول، ومن ذهب إلى أن الكلام نفسي قال: لا صيغة للأمر، ولا للنهي، ولا للعام، ولا للخاص - وهم أصحاب المذهب الثاني - وهم الأشاعرة -. فالأمر عند الأشاعرة: هو: اقتضاء الفعل بذلك المعنى القائم بالنفس المجرد عن الصيغة. والصحيح الذي لا يجوز غيره: أن كلام اللَّه هو الذي نقرؤه بألفاظه ومعانيه، فالكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ دل على ذلك أدلة كثيرة منها: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ) ، فصرح - هنا - بأن الذي يسمعه ذلك المشرك المستجير هو: كلام الله بألفاظه ومعانيه. الدليل الثاني: قوله تعالى: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) . فهنا: لم يكن ذلك المعنى القائم بالنفس الذي عبر عنه بالإشارة كلاما. الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا) مع قوله: (فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ) ، حيث أمر اللَّه تعالى مريم بالامتناع عن الكلام، ولكن لما سألوها أن تبين لهم ذلك أشارت إليه، فلم يكن ذلك المعنى القائم بنفسها الذي عبرت عنه بالإشارة كلاما. الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه عفا لأمتي عما حدثت به نفسها ما لم تتكلم أو تعمل به "، فبين - هنا - أن المسلم إذا حدث نفسه بشيء من الأمور السيئة كقتل فلان، أو سبه، فإنه معفو عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1323 شرعاً، إذا لم يتكلم أو يفعل، فهنا لم يسم حديث النفس وما يجول بالخاطر كلاماً. الدليل الخامس: أن أهل اللغة واللسان قد أجمعوا على أن الكلام ينقسم إلى " اسم "، و " فعل "، و " حرف "، وكل واحد من هذه الأقسام تسمى كلمة، فالاسم: كلمة ينطق بها اللسان غير مقترنة بزمان، وهي تفيد كزيد، والفعل: كلمة ينطق بها اللسان مقترنة بزمان كقام، والحرف: كلمة ينطق بها اللسان لا تدل إلا مع غيرها مثل: "إلى". الدليل السادس: أن العقلاء - على اختلاف طبقاتهم - قد تعارفوا على تسمية الذي ينطق بلسانه: أنه متكلم، وتعارفوا - أيضاً - على تسمية من لم يتكلم: أنه ساكت، أو أخرس، فقولكم - أيها الأشاعرة -: " إن الكلام معنى قائم بالنفس " خالفتم ذلك، وسميتم الساكت أو الأخرس بأنه متكلم. الدليل السابع: أن الفقهاء قد أجمعوا: أن المسلم لو حلف أن لا يتكلم، ثم حدَّث نفسه بأشياء، ولم ينطق بلسانه فإنه لا يحنث، ولو نطق بلسانه لحنث، ووجبت الكفارة. الدليل الثامن: أن الكلام لو كان معنى قائما في النفس - كما يقول الأشاعرة - للزم من ذلك التكرار الذي لا فائدة فيه في قوله تعالى: (ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله) ، لأن - على زعمكم - عبارة: " يقولون " تدل على ما في النفس، فيكون قوله: (في أنفسهم) تكراراً لا فائدة فيه، وهذا باطل، لأنه لا يوجد أي حرف في القرآن لا فائدة فيه، فإن قوله: (في أنفسهم) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1324 دليل على أن ذلك القول في النفس وقيد بذلك، فلو لم يقيد بقوله: (في أنفسهم) لانصرف إلى الكلام باللسان. فبان من هذا: أن الأشاعرة لما قالوا: " إن الكلام معنى قائم في النفس "، قد خالفوا ما جاء في الكتاب، والسُّنَّة، وإجماع أهل اللسان واللغة، وإجماع العقلاء فيما تعاليفوا عليه، وإجماع الفقهاء، ومن خالف ذلك فلا يعتد بقوله، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1325 المطلب الرابع هل الأمر حقيقة في الفعل؟ أي: إذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً فهل يدل هذا على أن المفعول مأمور به حقيقة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأمر ليس بحقيقة في الفعل. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأنه يوجد فرق بين الأمر والفعل من وجوه: الوجه الأول: من حيث الحد: فإن الأمر هو: الاستدعاء بالقول على وجه الاستعلاء. بخلاف الفعل فإنه لا يقال فيه ذلك، وإن نُقل هذا التعريف للفعل، فإنه يحتاج إلى دليل يُعتمد عليه، فيكون الأمر حقيقة في القول المخصوص؛ لعدم الحاجة إلى دليل في ذلك، أما الفعل فنظراً لاحتياجه إلى دليل فإنه يكون أمراً مجازاً. الوجه الثاني: أن الآمر بالقول يُقال له: اَمر، بخلاف فاعل الفعل فإنه لا يقال له: إنه آمر بذلك الفعل. الوجه الثالث: أنه يُتصرف في القول فيقال: " أمر، يأمر، أمراً بخلاف الفعل فلا يقال لمن صلى أو صام: إنه أمر ". الوجه الرابع: أن الفعل يصح نفي الأمر عنه بخلاف القول، فتقول: " فعل ذلك ولم يأمر به "، ولكن لا يجوز قول ذلك في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1326 القول، فلا يقال: " أمر بذلك ولم يأمر به "؛ لأنه يلزم منه التناقض. المذهب الثاني: أن الأمر حقيقة في الفعل كما هو حقيقة في القول. وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الفقهاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر) . وجه الدلالة: أنه استعمل الأمر في الفعل، والاستعمال دليل الحقيقة، إذن الأمر حقيقة في الفعل، ويكون المعنى: وما فعلنا إلا واحدة. جوابه: أنه لا يراد أن: فعله كلمح بالبصر، وإنما المراد: أن من صفته وشأنه أنه إذا أراد شيئاً قال له: كن، فيقع ويكون كلمح البصر في السرعة. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وما أمر فرعون برشيد) . وجه الدلالة: كما سبق في الدليل الأول. الجواب: أن المراد بقوله: (وما أمر فرعون برشيد) أي: وما قول فرعون برشيد، ويدل على ذلك قوله - بعد ذلك -: (فاتبعوا أمر فرعون) والاتباع إنما يكون حقيقة في القول، لا في الفعل. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ ويتبين أثره في فعل النبي - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يلزم على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1327 المذهب الأول أنه إذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - فعلاً أمام الصحابة، فإن هذا الفعل ليس بأمر لهم بأن يفعلوا مثله على الوجوب، أو على الندب - على الخلاف الآتي -، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد يفعل الشيء وهو له خاصة، وقد يفعل الشيء على جهة النفل والفضل والندب، وقد يفعله سجية وخلقاً، أما إذا أمر بالقول فإن الأمر يؤخذ من هذا القول فيكون للوجوب، أو الندب على الخلاف الذي سيأتي. ويلزم على المذهب الثاني: أنه إذا فعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - شيئاً فإنه يكون أمراً بفعله - وهذا الفعل يكون واجبا، أو مندوباً - على الخلاف الذي سيأتي -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1328 المطلب الخامس فيما تستعمل فيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - لقد سبق أن قلنا: إن الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول على وجه الاستعلاء، وقلنا - أيضاً -: إن للأمر صيغة وهي: " افعل "، وينبغي أن تعلم هنا: أن صيغة " افعل " - أو ما يقوم مقامها - لا تستعمل للأمر فقط، ولا تستعمل للوجوب أو الندب، بل تستعمل لمعان أخر غير ذلك، وإليك بيان ذلك فيما يلي: الأول: الوجوب كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) . الثاني: الندب كقوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) ، والصارف له من الوجوب إلى الندب هو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر على الصحابة الذين لم يكاتبوا العبيد الذين كانوا تحت أيديهم مع أن فيهم خيراً للإسلام والمسلمين. الثالث: التأديب كقوله - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن أبي سلمة -: " يا غلام، سم اللَّه، وكل بيمينك، وكل مما يليك ". وبين الندب والتأديب عموم وخصوص، بيان ذلك: أن التأديب خاص بإصلاح الأخلاق وتحسينها، وهذا أعم من أن يكون من مكلف وغيره، أما الندب فهو خاص بالمكلفين، وهذا أعم من أن يكون مختصا بإصلاح الأخلاق وغيرها. الرابع: الإرشاد كقوله تعالى: (وأشهدوا إذا تبايعتم) وقوله: (إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1329 والفرق بينه وبين الندب أن المندوب مطلوب لمنافع الآخرة، لذلك يوجد فيه ثواب بخلاف الإرشاد، فإنه مطلوب لمنافع الدنيا لذلك لا ثواب فيه. الخامس: الإباحة كقولك لشخص آخر: " كل من بستاني ". السادس: التهديد كقوله تعالى: (فاعبدوا ما شئتم من دونه) ، وقوله: (اعملوا ما شئتم) ، وسماه بعضهم بالوعيد، وسماه آخرون بالتقريع، وسماه فريق ثالث بالتوبيخ. السابع: الإكرام كقوله تعالى: (ادخلوها بسلام آمنين) الثامن: الإهانة كقوله تعالى: (ذق إنك أنت العزيز الكريم) وضابطه: أن يؤتى بلفظ دال على الإكرام، والمراد ضده. التاسع: التعجيز كقوله تعالى: (فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ) ، وقوله: (فأتوا بسورة من مثله) ، وقوله: (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) ، وهو إنما يكون فيما لا قدرة للعبد عليه. العاشر: السخرية مثل قوله تعالى: (كونوا قردة) ، وسمي ذلك بعضهم بالتسخير، وهذا لا يصح؛ لأن السخرية هو: الهزء كقوله تعالى: (إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون) ، أما التسخير فهو نعمة وإكرام كقوله تعالى: (وسخر لكم الليل والنهار) . الحادي عشر: الدعاء مثل قوله تعالى: (ربنا اغفر لي ولوالدي) وهذا لا يكون إلا من الأدنى إلى الأعلى على وجه الإحسان والتفضل. الثاني عشر: التسوية كقوله تعالى: (فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1330 بعد قوله: (اصلوها) والمراد: أن هذه التصلية لكم سواء صبرتم أو لا، فالحالتان سواء، فيكون قوله تعالى - بعد ذلك -: (سواء عليكم) جملة مبينة ومؤكدة مبالغة في الحسرة عليهم. الثالث عشر: التمني كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كن أبا ذر " أي: يتمنى أن يكون أبا ذر، وكقولك: " كن فلانا كذا " أي: أتمنى أن تكون يا فلان طالب علم، وأكثر الأصوليين يمثلون للتمني بقول امرئ القيس: ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ... بصبح وما الإصباح منك بأمثل وهذا لا يصح؛ لأن المستعمل في التمني - في هذا البيت - هو صيغة الأمر مع لفظ: " ألا " لا الصيغة وحدها. الرابع عشر: الامتنان كقوله تعالى: (كلوا من طيبات ما رزقناكم) ، وسماه بعضهم بالإنعام. والفرق بينه وبين الإباحة: أن الإباحة مجرد إذن، أما الامتنان فلا بد من اقترانه بذكر احتياج الخلق إليه، وعدم قدرتهم عليه. الخامس عشر: التكوين، كقوله تعالى: (كن فيكون) ، وسماه بعضهم: " كمال القدرة ". والفرق بينه وبين السخرية: أن التكوين: سرعة الوجود من العدم، وليس فيه انتقال إلى حال ممتهنة، بخلاف السخرية فإنه لغة الذل والامتهان. السادس عشر: قرب المنزلة كقوله تعالى: (ادخلوا الجنة) . السابع عشر: التحذير والإخبار عما يؤول إليه أمرهم كقوله تعالى: (تمتعوا في داركم ثلاثة أيام) . الثامن عشر: الخبر كقوله ثعالى: (أسمع بهم وأبصر) أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1331 سمعت وأبصرت، وكقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت " أي: إذا لم تستح صنعت ما شئت، حيث يصح في: جوابها الصدق والكذب. التاسع عشر: التعجب كقوله تعالى: (انظر كيف ضربوا لك الأمثال) . وبعضهم مثل كذلك بقوله تعالى: (أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ) أي: ما أسمعهم وأبصرهم، وهذا فيه بُعْد؛ لأنه يفهم منه الخبر كما سبق. العشرون: الإنذار كقوله تعالى: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ) . وقد جعله بعضهم نوعاً من التهديد، ولكن هذا ليس بصحيح، حيث يوجد فرق بينه وبين التهديد من وجوه: الأول: أن التهديد عرفاً أبلغ في الوعيد والغضب من الإنذار. الثاني: أن الفعل المهدد عليه يكون ظاهر البطلان والتحريم، أما الإنذار فقد يكون كذلك، وقد لا يكون. الثالث: أن الإنذار يكون مقروناً بالوعيد كالآية السابقة، وقوله تعالى: (قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار) ، أما التهديد، فقد يكون مقرونا بالوعيد، وقد لا يكون. الواحد والعشرون: الالتماس كقولك لنظيرك: " أعطني كتابا ". الثاني والعشرون: المشورة كقوله تعالى: (ماذا تأمرون) . الثالث والعشرون: التصبر كقوله تعالى: (لا تحزن إن اللَّه معنا) . الرابع والعشرون: الاحتقار كقوله تعالى: (ألقوا ما أنتم ملقون) . وذلك في قصة موسى - عليه السلام - يخاطب السحرة؛ وذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1332 لأن السحر وإن عظم شأنه - عندهم - فإنه في مقابلة ما أتى به موسى - عليه السلام - من المعجز حقير. والفرق بينه وبين الإهانة: أن الإهانة تكون بالقول، أو بالفعل، أو بالتقرير كترك إجابته، أو نحو ذلك، لا بمجرد الاعتقاد، والاحتقار قد يكون بمجرد الاعتقاد، يقال في مثل ذلك: احتقره، ولا يقال: أهانه. الخامس والعشرون: التكذيب كقوله تعالى: (فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) . السادس والعشرون: التحسير كقوله تعالى: (قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ) ، وقوله: (قل موتوا بغيظكم) . السابع والعشرون: التفويض كقوله تعالى: (فاقض ما أنت قاض) ، وسماه بعضهم بالتسليم، وسماه آخرون بالتحكيم. الثامن والعشرون: الاعتبار كقوله تعالى: (انظروا إلى ثمرة إذا أثمر وينعه) ، وقوله: (قل سيروا في الأرض فانظروا) ، حيث إن في ذلك عبرة لمن اعتبر، وبعضهم سماه: تذكير النعم. التاسع والعشرون: إرادة الامتثال لأمر آخر، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كن عبد اللَّه المقتول، ولا تكن عبد اللَّه القاتل، فالمقصود الاستسلام والكف عن الفتن. الثلاثون: الاحتياط كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا قام أحدكم من النوم فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا " بدليل قوله بعده: " فإنه لا يدري أين باتت يده"، فالأمر هنا للاحتياط؛ حيث إنه يحتمل أن تكون يده قد لاقت نجاسة من بدنه لم يعلمها، فليغسلها قبل إدخالها في الإناء؛ لئلا يفسد الماء الذي فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1333 المطلب السادس فيما تقتضيه صيغة الأمر - وهي: " افعل " - حقيقة إذا تجردت عن القرائن بعد أن عرفنا أن صيغة: " افعل " تستعمل في المعاني الثلاثين السابقة، اختلف العلماء في هذه الصيغة إذا تجردت عن القرائن ماذا تقتضي حقيقة؛ على مذاهب: المذهب الأول: أن صيغة الأمر - وهي افعل - إذا تجردت عن القرائن، فإنها تقتضي الوجوب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من المعاني كالندب والإباحة والتهديد يكون مجازاً لا يحمل على أي واحد منها إلا بقرينة، وهو قول كثير من العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ) ، هذا في سورة الأعراف، وقال تعالى في سورة الحجر: (فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى لما أمر الما، ئكة بالسجود سارعوا إلى ذلك وامتنع إبليس عن السجود فوبخه وذمه، وأهبطه من الجنَة؛ إذ قوله تعالى: (ما منعك) استفهام إنكاري قصد به الذم والتوبيخ، ولا يمكن أن يكون المقصود به الاستفهام الحقيقي؛ لأن الاستفهام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1334 الحقيقي يصدر من الجاهل، وهذا منتف بحق الله تعالى، فالله عالم بالسبب الذي من أجله ترك السجود لآدم، فالله لا تخفى عليه خافية. فدل ذلك على أن مقتضى الأمر الوجوب؛ إذ لو لم يكن السجود واجباً عليه لما استحق الذم والتوبيخ على تركه؛ لأنه لا يذم أحد إلا بسبب تركه لواجب، حيث إنا قلنا: إن الواجب هو: ما ذم تاركه مطلقا، فالصيغة - وهي: افعل - تقتضي الوجوب عند التجرد. ما اعترض به على هذا الاستدلال: الاعتراض الأول: أنه يُحتمل أن يكون قد اقترن بتلك الصيغة قرينة تفيد الوجوب، فلذلك ذمَّه على ترك ذلك الواجب، وهذا لا يدخل في محل النزاع؛ لأن العلماء اتفقوا على أن الصيغة تفيد الوجوب إذا انضم إليها قرائن. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن ما قلتموه مجرد احتمال لا دليل عليه، والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يلتفت إليه؛ إذ لو قبلنا كل احتمال - من غير أدلة - لما بقى لنا دليل في الشريعة، وهذا يؤدي إلى ترك الشريعة كلها، وهذا ظاهر البطلان، فإما أن تذكروا القرينة التي تزعمونها حتى نختبرها، وأما أن تقبلوا ما قلناه. الجواب الثاني: أن الظاهر من النص في الآيتين يقتضي أن التوبيخ والذم قد تعلقا بمجرد مخالفة الأمر بالسجود بدون قرينة بدليل قوله: (إذ أمرتك) ، ولم يذكر قرينة أخرى بعد قوله:. (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ) ، فهذا كله يدل على أنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1335 أمر مطلق لا قرينة معه، فدل ذلك كله على أن الذم والتوبيخ قد تعلقا بمجرد المخالفة. الاعتراض الثاني: أن إبليس ليس من الملائكة، فلا يدخل تحت الأمر بالسجود، فيدل هذا على أن توبيخه لمعنى آخر. جوابه.: يجاب عنه بجوابين: الجواب - الأول: أن ظاهبر نص الآيتين يدل دلالة واضحة على أن إبليس من الملائكة، وأنهم قد سجدوا لآدم، ولم يسجد إبليس معهم فوبخه على ترك السجود، فقال في الآية الأولى: (إلا إبليس لم يكن من الساجدين) ، وقال في الآية الثانية: (إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) ، والأصل: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، ولا يترك هذا الأصل إلا بدليل، ولا دليل. فدل ذلك على أن الذم تعلق بتركه السجود. الجواب الثاني: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - وهو حبر الأُمَّة وترجمان القرآن قد روي عنه أنه قال: كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة، وكان خازنا على الجنان، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ". الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) . وجه الدلالة: أن اللَّه حذر الذين يخالفون الأمر بالفتنة والعذاب الأليم، وهذا يدل على أن الأمر المطلق للوجوب؛ لأن الوجوب هو: ما ذُمَّ على تركه مطلقا، أو هو: ما توعد بالعقاب على تركه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1336 مطلقا، والمخالف هنا قد توعد بالعقاب؛ لأنه خالف أمر اللَّه وأمر رسوله وترك امتثاله، فيكون الأمر المطلق يقتضي الوجوب، فلو كان الأمر المطلق لا يقتضي الوجوب - بأن يقتضي الندب أو الإباحة أو التوقف - لما حذر الشارع من مخالفته. الدليل الثالث: قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون ويل يومئذ للمكذبين) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد ذمَّهم على تركهم فعل ما قيل لهم افعلوه، وهذا يدل على أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، لأنه هو الذي يذم على تركه، فلو كان الأمر يقتضي الندب لما ذمهم على ترك المأمور به، كما لا يذم من رخص له في الترك. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم) وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أنه إذا قضى أمراً لم يكن لأحد أن يتخير فيه، وجعل عصيانه ضلالاً، وإذا كانت مخالفة الأمر عصياناً وضلالاً، فإن ذلك يقتضي وجوب امتثال الأمر، لئلا يعصي، فثبت أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب؛ لأنه لو لم يكن للوجوب لما جعل مخالفته عصياناً وضلالاً. الاعتراض على هذا الاستدلال: قال المعترض فيه: إنما ورد هذا في القضاء، والقضاء هو: الإلزام، والإلزام واجب، ولذلك جعل مخالفه عاصياً وضالاً، لا أنه قد جعل مخالف الأمر الصريح عاصياً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1337 جوابه: يجاب على ذلك بأجوبة: الجواب الأول: أنه أراد صريح الأمر: فجعل مخالفة الأمر الصريح عصياناً وضلالاً بدليل سبب نزول الآية، حيث ذكر أن سبب نزولها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمر قوماً أن يزوجوا زيد بن حارثة - مولى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - - فأبوا فنزلت تلك الآية. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن القضاء بمعنى الإلزام؛ لأنه لو كان القضاء بمعنى الإلزام لما قيل: إن اللَّه تعالى قد قضى بالطاعات - كلها -؛ لأن النوافل طاعات، ولكنه لم يلزمها. الجواب الثالث: سلمنا أن القضاء بمعنى الإلزام، والقضاء دون مرتبة الأمر؛ لأن القضاء لا صيغة له، والأمر له صيغة، فإذا كان القضاء لازماً مع أنه دون مرتبة الأمر، فمن باب أولى أن يكون الأمر لازماً. الدليل الخامس: أن - صلى الله عليه وسلم - كان يصلي فمر به أبو سعيد بن المعلى فدعاه - صلى الله عليه وسلم - وهو في الصلاة فلم يجبه أبو سعيد، فلما فرغ الرسول - صلى الله عليه وسلم - من صلاته قال له: ما منعك أن تجيب وقد سمعت اللَّه تعالى يقول: (يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسولِ إذا دعاكم) . وجه الدلالةِ أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد لامَ أبا سعيد على تركه للإجابة بعد أمر اللَّه تعالى بها بدليل قوله له: (ما منعك) ، فدل على أن الأمر للوجوب، ولو لم يكن الأمر للوجوب لما لامه على ذلك؛ لأن ما ليس بواجب لا يلام على تركه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1338 الاعتراض على ذلك: قال المعترض: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يلمه، ولكنه أراد أن يُبين له أنه لا تقبح الاستجابة للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو في الصلاة، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخالف غيره في ذلك. جوابه: لا نسلم ذلك؛ لأن الظاهر من هذه القصة وقوله - صلى الله عليه وسلم - يقتضي لزوم الإجابة، وهو في معنى الإخبار عن نفي العذر، وهذا يدل على أن الأمر للوجوب. الدليل السادس: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة ". وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جعل المشقة من لوازم الأمر، وإنما تكون المشقة لازماً للأمر إذا كان للوجوب. أي: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما جعل المشقة من لوازم الأمر: نفي الأمر الذي فيه مشقة وهو: أمر الوجوب؛ لأنه يعاقب ويذم على تركه، وأثبت الأمر الذي ليس فيه مشقة وهو: أمر الندب؛ لأنه لا يذم ولا يعاقب على تركه. الدليل السابع: أن بريرة قد أعتقتها عائشة - رضي اللَّه عنهما - فخيرها رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بين مفارقة زوجها وعدم ذلك، فاختارت فراقه، وكان زوجها - وهو مغيث - يحبها، وكان يمشي خلفها في الأسواق وهو يبكي، فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ذلك: ذهب إلى بريرة فقال لها: " لو راجعتيه فإنه أبو أولادك "، فقالت: أتأمرني يا رسول اللَّه؟ فقال: " لا إنما أنا شافع "، فقالت: لا حاجة لي فيه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1339 وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نفى الأمر مع ثبوت شفاعته - صلى الله عليه وسلم - الدالة على الندب، فدل على أن أمره للوجوب؛ لأنه لو أثبت الأمر: لوجب عليها الامتثال والرجوع إلى زوجها. الدليل الثامن: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على أن الأمر يقتضي الوجوب؛ حيث إنهم كانوا يسمعون الأمر من الكتاب والسُّنَّة، فيحملونه على الوجوب، ولهذا لم يرد عنهم أنهم سألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - عن المراد بهذا الأمر، بل كانوا يحملون جميع الأوامر على الوجوب إلا إذا اقترن به قرينة تصرفه عن الوجوب، ولم ينكر بعضهم على بعض في ذلك، فكان إجماعا، وهذا ثبت في وقائع كثير:؛ ومنها: الواقعة الأولى: أنه لما روى أبو هريرة - رضي اللَّه عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قوله: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا والثامنة بالتراب " أجمع الصحابة على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات. الواقعة الثانية: أنهم استدلوا على وجوب الصلاة عند ذكرها بالأمر المطلق الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ". الواقعة الثالثة: أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - استدل على وجوب الزكاة على المرتدين بقوله تعالى: (وآتوا الزكاة) ، وقال: "والزكاة من حقها " يقصد:. إن الزكاة من حق كلمة لا إله إلا اللَّه، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً. الواقعة الخامسة: أن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - استدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1340 على وجوب أخذ الجزية من المجوس بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب "، ولم ينكر عليه أحد، فكان إجماعا منهم. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضاً -: يُحتمل أن يكون الصحابة رجعوا في كل واقعة من تلك الوقائع إلى قرينة دلَّت على الوجوب، فكان الوجوب مستفاد من القرينة، لا من مطلق الصيغة، وهذا لا خلاف جوابه: يجاب عن ذلك بأجوبة: الجواب الأول: أن ما ذكر هنا مجرد احتمال لا دليل عليه، والاحتمال الذي لا دليل عليه لا يُعتد به؛ لأنا لو قبلنا كل احتمال بدون أدلة لما استقام لنا دليل في الشريعة، وبهذا تبطل الشريعة كلها، وهذا ظافر البطلان. الجواب الثاني: أن الظاهر من هذه الوقائع: أن الصحابة قد احتجوا بنفس صيغة الأمر الواردة في تلك النصوص على الوجوب، ولم يرجعوا إلى أي قرينة من القرائن، والظاهر يجب العمل به. الجواب الثالث: أنه لو كان هناك قرينة اعتمد عليها الصحابة في حمل الأمر على الوجوب: لما ترك - الصحابة - رضي الله - عنهم - نقلها؛ لأن نقل القرينة أوْلى من نقل لفظ الأمر؛ حيث إن في تركها تضييع للشريعة، ولا يمكن أن ينقل الصحابة الآلاف من الأحاديث، ويتركوا بعض القرائن، فما قيل في الاعتراض اتهام للصحابة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1341 بالتقصير، وهذا لا يجوز؛ لأن الصحابة اختارهم اللَّه لصحبة نبيه، وذلك لنقل هذه الشريعة - كلها - إلى من بعدهم بكل أمانة وإتقان. الجواب الرابع: أنه لم ينقل عن صحابي واحد في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه سأل عن مقتضى الأمر في حال من الأحوال، وهذا يدل على أنهم كانوا يفهمون من الأمر الوجوب، دون قرائن. الدليل التاسع: أن لفظة " افعل " تمنع من الإخلال بالفعل بدليل أن أهل اللغة يعقبون المعصية على الأمر بلفظ " الفاء " فيقولون: "أمرتك فعصيتني "، و " قلت لك افعل فعصيتني "، وقال تعالى: (أفعصيت أمري) ، وقال: (لا يعصون اللَّه ما أمرهم) ، وقال الشاعر الحصيني بن المنذر الرقاشي - لما نصح يزيد بن المهلب بأن لا يذهب إلى الحجاج بن يوسف، ولكنه خالف نصيحته، وذهب إلى الحجاج فعز له - قال: أمرتك أمراً جازماً فعصيتني ... فأصبحت مسلوب الإمارة نادما فهنا جاءت المعصية عقب الأمر غير الممتثل بلفظ " الفاء - التي هي للتعقيب - كما سبق في حروف المعاني - والمعصية توجب العقوبة؛ لقوله تعالى: (وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا) ، فدل هذا على أن المعصية إنما لزمت المأمور؛ لأجل إخلاله بما أمر به، وهذا يقتضي أن لفظة الأمر - وهي افعل - المجردة عن القرائن تفيد الوجوب، ولو لم تكن مفيدة للوجوب لم نكن بمخالفة ذلك الأمر عاصين. الدليل العاشر: أن السيد لو أمر عبده قائلاً: " اسقني ماء "، فإن امتثل العبد بأن سقاه ماء، فإنه يستحق المدح، وإن لم يمتثل - بأن لم يسقه ماء - فإنه يستحق الذم والعقوبة، فرأى العقلاء من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1342 أهل اللغة هذا السيد وهو يعاقب عبده، وسالوه عن سبب ذلك فقال لهم: إني أمرته بأن يسقيني ولم يفعل، فإن هؤلاء يتفقون معه على حسن لومه وعقابه؛، نظراً لمخالفته الأمر، فدل ذلك على أنه ما استحق الذم والعقوبة إلا لأنه ترك واجباً؛ لأن الواجب هو الذي يذم على تركه مطلقا، فلو كان الأمر المطلقَ لا يقتضي الوجوب: لما استحق العبد المخالف للأمر الذم والعقوبة؛ لأنه لا يعاقب إلا على ترك واجب. الدليل الحادي عشر: إن قول القائل: " افعل " لا يخلو من أربعة أمور فقط هي كما يلي: 1 - أن يقتضي المنع من الفعل. 2 - أن يقتضي التوقف. 3 - أن يقتضي التخيير بين القعل وعدمه. 4 - أن يقتضي أن يفعل لا محالة - وهو الوجوب -. أما الأول - وهو اقتضاؤه المنع من الفعل - فهو باطل؛ لأنه يكون معنى " افعل ": لا تفعل، وهذا نقيض فائدة اللفظ. أما الثاني - وهو: التوقف - فهو باطل؛ لأن قوله: " افعل " حث على الفعل فهو نقيض التوقف وهو: عدم الفعل. أما الثالث - وهو التخيير - فهو باطل؛ لأنه ليس للتخيير ذكر في اللفظ، وإنما اللفط يتعلق بالفعل دون تركه. فلما بطل الثلاثة الأول: بقي الرابع وهو: أن " افعل " يقتضي أن يفعل لا محالة - وهو الوجوب -. المذهب الثاني: أن صيغة الأمر - وهي " افعل " - إذا تجردت عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1343 القرائن تقتضي الندب حقيقة، واستعمالها فيما عداه من المعاني كالوجوب والإباحة والتهديد وغيرها يكون عن طريق المجاز، لا يحمل على أي معنى منها إلا بقرينة. وهو مذهب بعض الشافعية، وكثير من المعتزلة، منهم أبو هاشم، واختاره بعض الفقهاء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن قوله: " افعل "، وقوله: " أمرتكم " يشترك الوجوب والندب فيه بشيء واحد، وهو: طلب الفعل واقتضاؤه، وأن فعل المأمور به خير من تركه، وهذا القدر المشترك بينهما معلوم مقطوع به، قدتيقنا منه. أما لزوم العقاب بترك فعل المأمور به فغير مقطوع به، بل مشكوك فيجب تنزيل الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب؛ لأنا قطعنا فيه، وهو طلب الفعل من غير وعيد بالعقاب على الترك وهو: الندب. أما ما شككنا فيه، وهو: لزوم العقاب بترك المأمور به - وهو الوجوب - فإنا نتوقف فيه حتى يرد دليل من خارج. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن ما ذكرتموه إنما يستقيم لو كان الواجب ندبا وزيادة فتسقط الزيادة المشكوك فيها، ويبقى الأصل، وليس كذلك، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1344 بل يدخل في حد الندب - كما سبق -: جواز تركه مطلقا، وجواز ترك الفعل لا يوجد في الوجوب. الجواب الثاني: أن هذا استدلال بالعقل على أنه يُحمل على الندب، وهو معارض باستدلالنا على أنه يحمل على الوجوب؛ حيث إنا قد دللنا على ذلك بنصوص من الكتاب والسُّنَّة، وإجماع الصحابة، وإجماع أهل اللغة والعرف. وإذا تعارض الدليل النقلي مع الدليل العقلي، فإنه يُقدم الدليل النقلي خاصة في مسألة لغوية كهذه المسألة. الدليل الثاني: أنه لو كان لفظ: " افعل " تقتضي الوجوب لما حسن أن يقول العبد لسيده والولد لوالده: " اعطني درهما "، فلما كافي الجميع يتخاطبون بينهم بذلك دلَّ على أنه لا يقتضي الوجوب. جوابه: أنا قلنا بأن لفظ " افعل " يستعمل في غير الوجوب - كما سبق بيانه - وهذا لا يكون إلا بقرينة، فإذا ورد هذا اللفظ - وهو: "افعل " من العبد، أو الابن، فإن العرب تصرفه عن الوجوب إلى محمله، وهذا غير ممتتع؛ لأنه قد ورد على غير وجهه، فيكون قد صدر مجازاً، وهذا لا يخرج اللفظ عن حقيقته، ألا ترى أنهم يقولون للسخي: يا جواد، فلا يخرج ذلك عن الحقيقة. الدليل الثالث: أن السلطان قد يأمر بالقبيح والحسن، ويوصفان بأنهما مأمور بهما على الحقيقة، فلو اقتضى الأمر الوجوب: لكان إذا تناول القبيح جعله واجباً. جوابه: نحن نقول: إنه لو أمر بالقبيح: لكان واجباً هذا هو الأصل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1345 لكن منع من ذلك أصل آخر أقوى منه وهو: أن فوق هذا الآمر - وهو السلطان - آمر آخر وهو الله عَزَّ وجَلَّ؛ حيث نهى عن ذلك - القبيح، وامتثال أمره ألزم من امتثال أمر السلطان، فغلب نهيه على أمر ذلك الأدون - وهو السلطان - فلذلك سقط لزوم أمر هذا. الدليل الرابع: أنه ليس في الأمر لفظة الوجوب، فلم تقتضه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا نقول لكم مثل ما قلتم لنا، وهو: إنه ليس في الأمر لفظة الاستحباب فلم تقتضه - أيضا -. الجواب الثاني: أنه ليس كل ما ليس فيه لفظ معنى لا يقتضيه كالندب والوعيد والتهديد ليس هو في لفظة " افعل "، ومع ذلك هي مقتضية له بقرينة تدل عليه. المذهب الثالث: أن صيغة الأمر " افعل " إذا تجردت عن القرائن تقتضي الإباحة حقيقة، ولا يحمل على غيرها من الوجوب أو الندب إلا بقرينة. وهو مذهب بعض الشافعية كما حكاه عنهم الأستاذ أبو إسحاق في " شرح الترتيب ". دليل هذا المذهب: أن درجات الأمر بالفعل ثلاث: فأعلاها: الثواب على الفعل، والعقاب على الترك، وهذا هو الو جوب. وأوسطها: الثواب على الفعل، وعدم العقاب على الترك، وهذا هو الندب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1346 وأدناها: عدم الثواب وعدم العقاب على الفعل والترك، وهذا هو الإباحة. فالثالث يفهم منه: جواز الإقدام على الفعل، وهو قدر مشترك بين المراتب الثلاث، وهو: الإباحة، فهي إذن: درجة متيقنة. أما الدرجتان الأولى والثانية - وهما الوجوب والندب - فإنه مشكوك فيهما، فنحن نحمل الأمر على ما تيقنا منه، وهو: الإباحة، ونترك ما شككنا فيه إلى أن ترد قرينة من خارج، فيكون الأمر المطلق يقتضي الإباحة. جوابه: إنكم جعلتم - هنا - الإباحة من درجات الأمر، وهذا ليس بصحيح؛ لوجود الفرق بين الإباحة والأمر من وجوه هي كما يلي: الوجه الأول: الفرق من جهة التعريف، فتعريف الأمر يختلف عن تعريف المباح، فقد عرفنا الأمر بأنه: " استدعاء الفعل بالقول ... " - كما سبق - وعرفنا المباح بأنه: " ما أذن اللَّه في فعله وتركه غير مقترن بذم فاعله وتاركه ولا مدحه "، فاتضح من ذلك: أن الأمر طلب واستدعاء، بخلاف الإباحة فإنها إذن في الفعل وإطلاق للفاعل من تقييده بأي شيء. الوجه الثاني: الفرق من جهة وضع اللغة؛ حيث إن اللغة وضعت لفظ " افعل " للأمر، ولفظ " لا تفعل " للنهي، ووضعت عبارة: " إن شئت أفعل وإن شئت لا تفعل " للإباحة، فإنا بمعرفتنا بوضع اللغة ندرك تفرقة بين هذه الصيغ والألفاظ: فلفظ: " افعل " يقتضي طلب شيء، ويمنع من الإخلال بالمأمور به، ولفظ: " لا تفعل " يقتضي النهي ويمنع من فعل المنهي عنه، ولفظ: " إن شئتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1347 افعل وإن شئت لا تفعل " يفيد عدم الطلب، ولا يمنع المخاطب من الفعل ولا من الترك. الوجه الثالث: الفرق من جهة الضرورة؛ حيث إنا علمنا بالضرورة اختلاف معاني هذه الصيغ، وأنها ليست بألفاظ مترادفة، فصيغة: " افعل " وضعت للأمر، و " لا تفعل " وضعت للنهي، و" إن شئت افعل وإن شئت فلا تفعل "، وضعت للإباحة، فعلمنا التفرقة بينها كما علمنا التفرقة بين " قام " و " يقوم "؛ حيث إن لفظ " قام " وضع للماضي، ولفظ " يقوم " وضع للمضارع والمستقبل. فإذا علمنا هذه الفروق بين الأمر والإباحة فكيف تجعلون الإباحة من درجات الأمر بالفعل؟! المذهب الرابع: التوقف في معنى صيغة " افعل " حتى يرد دليل أو قرينة تدل على المعنى المراد. وهو مذهب كثير من الأشاعرة، ونسب إلى أبي الحسن الأشعري، والقا ضي الباقلاني، والغزالي، وصحَّحه الآمدي. واختلف في تفسير ذلك: فمنهم من قال: معناه: أن الصيغة موضوعة لواحد من اثنين هما: الوجوب والندب، ولكن لا يدري عينه. ْومنهم من قال: معناه: أننا لا ندري ما وضعت له الصيغة أهو الوجوب، أو الندب، أو الإباحة، أو التهديد، أو: أنها مشتركة بينها بالاشتراك اللفظي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن صيغة: " افعل " ترد والمراد بها الايجاب، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1348 وترد والمراد بها الندب، وترد والمراد بها الإباحة، وترد والمراد بها التهديد، وليس حملها على أحد فذه الوجوه بأوْلى من حملها على الوجه الآخر، فوجب التوقف فيها. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن هذه الصيغة - وهي افعل - إذا وردت مجردة عن القرائن تحتمل غير الوجوب، وإنما تحمل على غير الوجوب بقرينة قياسا على لفظة: " أوجبت "، فإنها لغة تحمل على الوجوب عند الإطلاق، وتحمل على غير الوجوب بسبب قرينة مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "غسل الجمعة واجب على كل محتلم ". الجواب الثاني: أن ما قلتموه يبطل بأسماء الحقائق كالأسد والحمار، فإنه يجوز استعمالهما في الرجل عند وجود القرينة، ثم هو حقيقة في الحيوان المفترس والحيوان البهيم عند الإطلاق. الدليل الثاني: أنها لو كانت صيغة " افعل " حقيقة في الوجوب أو الندب، أو الإباحة: لما حسن الاستفهام من المأمور بها: فيقول السيد لعبده: " اسقني ماء " فيحسن من العبد أن يقول: هل أمرتني إلزاما أو ندبا؟ جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن الاستفهام يحسن من المأمور بهذه الصيغة إذا تجردت عن القرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1349 الجواب الثاني: أنه قد يحصل استفهام من المأمور بها، ولكن هذا جاء احتياطا، ومنعا من اتساع الفهم. الدليل الثالث: أن استعمال صيغة " افعل " في الندب والإباحة أكثر من استعماله في الوجوب، ولا يجوز أن يكون موضوعا للوجوب مع استعماله في غيره أكثر. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أنه يستعمل في الندب والإباحة أكثر، بل إن استعمال لفظ " افعل " في الوجوب أكثر - كما مر من حمل الصحابة لهذه الصيغة على الوجوب، وكذا أهل اللغة -. الجواب الثاني: إن صح ما قلتموه وهو: أن استعمالها في الندب والإباحة أكثر دليل على أن صيغة: " افعل " حقيقة فيهما، وليس بدليل على التوقف - كما زعمتم -. الجواب الثالث: أن هذا الدليل لا يمنع أن تكون صيغة: " افعل " حقيقة في الوجوب؛ لأنه لا يمتنع أن يكون اللفظ حقيقة في شيء ويُستعمل في غيره أكثر، يدل على هذا: أن " الغائط " حقيقة في المطمئن من الأرض، واستعماله فيما يخرج من الإنسان ممثر. وكذلك " الراوية " حقيقة في الجمل الذي يحمل المزادة، واستعماله في المزادة أكثر. وكذلك " الوطء " حقيقة في الدوس، واستعماله في الجماع أكثر. الدليل الرابع: إن كون هذه الصيغة وهي: " افعل " موضوعة للوجوب أو الندب أو الإباحة، إما أن يعلم عن طريق العقل، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1350 النقل، وكل ذلك باطل، فلا دليل لكي على تعيين أحد هذه الأقسام، فتبقى صيغة " افعل " مشتركة بينها، فوجب التوقف، بيان ذلك: إن زعمتم أن العقل دلَّ على أحد هذه الأقسام، فهذا باطل؛ لأنه لا مدخل للعقل في اللغات. وإن زعمتم أن النقل دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل - أيضاً -؛ لأن النقل قسمان: " متواتر "، و " آحاد ": فإن زعمتم أن المتواتر دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل؛ لأن المتواتر لو أثبت ذلك لعلمناه مثل ما علمتموه، ولقلة التواتر. وإن زعمتم أن الآحاد دلَّ على أحد تلك الأقسام، فهذا باطل أيضا؛ لأن كون صيغة " افعل " للوجوب أو للندب قاعدة أصولية، والقاعدة الأصولية قطعية، والآحاد ظني، والظني لا يقوى على إثبات القطعي، فثبت أنه لا دليل على تعيين أحد هذه الأقسام، إذن: يجب التوقف. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا الكلام مطالبة بالدليل، والمطالبة بالدليل ليس بدليل. الجواب الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل: فإنا قد أثبتنا بأدلة كثيرة من الكتاب والسنة، وإجماع الصحابة، وإجماع الفقهاء، وأهل اللغة واللسان على أن صيغة " افعل " إذا تجردت عن القرائن تقتضي الوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1351 الجواب الثالث: نحن معكم بأن العقل لم يدل على أن " افعل " للوجوب، لأن العقل لا مدخل له في اللغات، ونحن معكم - أيضاً - على أن ذلك لم يثبت عن طريق التواتر، لقلة التواتر وندرته. ولكن لا نوافقكم على أن الآحاد لا يثبت قاعدة أصولية مطلقا، بل في ذلك تفصيل: فإن كانت القاعدة الأصولية علمية - أي: ليست وسيلة إلى العمل - فهذه لا تثبت بالآحاد. وإن كانت القاعدة الأصولية عملية - أي: هي وسيلة إلى العمل - فهذه تثبت بالآحاد، قياسا على العمل بخبر الواحد بالفروع. فهذه القاعدة - وهي اقتضاء صيغة " افعل " للوجوب - إن لم تثبت بأدلة قطعية، فلا أقل من أنها ثابتة بادلة ظنية، وهي: ما فهم من الآيات والأحاديث الآحادية، وإجماع الصحابة السكوتي، وإذا كان الأمر كذلك فلا يجوز التوقف. هذه الأجوبة إنما تصح إذا كان سبب توقفهم هو: عدم ثبوت أدلة ترجح أحد الأقسام. الدليل الخامس: قياس لفظ " افعل " على اللفظ المشترك كالعين والقرء، فكما أنا لا ندري ما المقصود من لفظ " العين "، أهو: المذهب، أو الشمس، أو الجارية، أو الباصرة، فكذلك لا ندري ما المقصود بلفظ: " افعل " أهو: الوجوب أو الندب، أو الإباحة، فلذلك نتوقف فيها كما توقفنا في اللفظ المشترك. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن لفظ " افعل " مثل اللفظ المشترك، بل بينهما فرق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1352 وهو: أن لفظ " افعل " يفهم منه ترجيح الفعل على الترك، وهذا قد أجمعتم معنا عليه، وبهذا خالف اللفظ المشترك كالعين، حيث إنه لايفهم منه معنى معين. وبناء على ذلك: فإنه يلزمكم أن تتوقفوا، بل تنزلوا الأمر على أقل ما يشترك فيه الوجوب والندب: وهو طلب الفعل، وأن فعله خير من تركه - وهذا هو الندب - أما ما زاد على ذلك - وهو: لزوم العقاب على الترك، فلكم أن تتوقفوا فيه، وعلى هذا يكون توقفكم المطلق ظاهر البطلان. الدليل السادس: أن صيغة " افعل " لا تفيد شيئاً، وإنما هي معنى قائم في النفس مشتركة بين الأمر وغيره، ولا يحمل على أي شيء إلا بقرينة. جوابه: إن هذا باطل؛ لأن واضع اللغة قد وضع كل لفظ لمعنى، هذا في الأصل، فلا يوجد أي لفظ إلا وله معنى قطعي أو ظني. ويلزم من كلامكم في دليلكم هذا ما يلي: أولها: أنه يسفه الواضع لهذه اللغة، وأنه يتكلم بكلام لا معنى لبما. ثانيها: أن تلك الألفاظ لا فائدة فيها بمجردها، فيكون وضعها عبثا فهي لا تفيد شيئاً. ثالثها: أن تقدير قرينة - هاهنا - كتقدير قرينة في سائر أنواع الأدلة من الكتاب والسُّنَّة، وهذا يبطلها كلها. أي: أنه إذا كانت صيغة " افعل " لا تفيد شيئاً إلا بقرينة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1353 فكذلك الآيات والأحاديث لا تفيد شيئاً إلا بقرائن؛ لأنها كلها ألفاظ، واشتراط القرينة هنا يجعل المسلم لا يعمل بأي لفظ إلا بقرينة، وهذا يبطل جميع الأدلة، وبذلك تخلو الألفاظ عن الفائدة، وتختل أوامر الشرع العامة، وهذا لا يقوله عاقل. وإذا كانت هذه الأمور تلزم من قولكم في دليلكم هذا: فإنه يكون باطلاً بلا شك. تنبيه: المذاهب في هذه المسألة أكثر مما ذكرت، لكن لم أذكر إلا المهم منها؛ لتأثر الفروع الفقهية فيما ذكرته. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي وهو ظاهر، وأمثلة تأثر الفروع الفقهية بهذا الخلاف كثيرة، ومن ذلك: 1 - اختلافهم في الإشهاد على المراجعة هل هو واجب أو لا؟ فأصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق للوجوب - يقولون: يجب الإشهاد على المراجعة؛ لقوله تعالى: (فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ) ، فقالوا: إن المراد بالإمساك: المراجعة، والإشهاد على المراجعة مأمور به، والأمر يقتضي الوجوب، فإن ترك الإشهاد فهو آثم. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر المطلق للندب - فإنهم يقولون: إن الإشهاد مندوب إليه، فإن ترك الإشهاد فلا إثم عليه؛ استدلالاً بقاعدتهم هنا. أما أصحاب المذهب الثالث - وهم القائلون: إن الأمر المطلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1354 للإباحة - فإنهم يقولون: إن الإشهاد مباح، فإن ترك الإشهاد أو فعله فلا إثم ولا أجر له. أما أصحاب المذهب الرابع - وهم القائلون: إن الأمر المطلق يتوقف فيه - فإنهم يقولون: لا يجوز أن يشهد حتى ترد قرينة تدل على وجوبه، أو عدم ذلك. 2 - إذا قال السيد لعبده أو الوالد لولده: " اسقني ماء ". فأصحاب المذهب الأول قالوا: يجب عليه أن يسقيه، فإن لم يفعل عاقبه. وأصحاب المذهب الثاني والثالث والرابع قالوا: لا يجب عليه أن يسقيه وإن لم يفعل: لا يعاقب. 3 - هل الوعيد على الترك مأخوذ من نفس لفظ " افعل "؛ فذهب أصحاب المذهب الأول إلى أن الوعيد على الترك مستفاد من نفس صيغة " افعل ". أما أصحاب المذاهب الأخرى فذهبوا إلى أن الوعيد على الترك مأخوذ من قرائن اقترنت بهذا الأمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1355 المطلب السابع هل اقتضاء الفعل للوجوب ثبت عن طريق الشرع أو غير ذلك الطريق؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الأول في المطلب السابق - وهم القائلون: إن الأمر المطلق يقتضي الوجوب - فيما بينهم هل اقتضى الأمر المطلق الوجوب بوضع الشرع أو اللغة، أو عن طريق العقل على مذاهب: المذهب الأول: أن صيغة " افعل " اقتضت الوجوب بوضع اللغة، وهذا هو الحق لدليلين: الدليل الأول: أنه قد ثبت عن أهل اللغة تسمية من خالف مطلق الأمر عاصياً وتوبيخه بالعصيان عند مجرد ذكر الأمر، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يقتضي دلالة الأمر المطلق على الوجوب. الدليل الثاني: أن الوعيد مستفاد من اللفظ كما يستفاد منه الاقتضاء الجازم. المذهب الثاني: أن صيغة " افعل " اقتضت الوجوب بوضع الشرع " لأن النصوص الشرعية هي التي بيَّنت أن مخالف الأمر متوعد بالعقاب والعذاب الأليم،. وبذلك يكون مطلق الأمر يقتضي الوجوب. المذهب الثالث: أن صيغة " افعل " اقتضت الوجوب عن طريق العقل؛ لأن العقل هو الذي ربط بين " افعل "، وبين معاقبة تارك المامور به، ونتج عن هذا: أن افعل للوجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1356 جوابهما: يجاب عن المذهبين الثاني والثالث، ودليل كل واحد منهما بأن هذا كله راجع إلى اللغة وفهمها لو دققوا النظر. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأننا إذا قلنا: إن الأمر يقتضي الوجوب بوضع اللغة: وجب حمل الأمر على الوجوب، سواء كان ورد من الشارع أو غيره إلا ما خرج بدليل. أما إذا قلنا: إن الأمر اقتضى الوجوب من جهة الشرع أو العقل كان الوجوب مقصوراً على أوامر صاحب الشرع، والأوامر التي يقتضي العقل أنها للوجوب فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1357 المطلب الثامن بيان نوع القرينة التي تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره لقد اتفق القائلون: " إن الأمر المطلق يقتضي الوجوب " على أنه لا يصرف عنه إلا بقرينة، ولكنهم اختلفوا في نوع هذه القرينة على مذهبين: المذهب الأول: أن أيَّ قرينة قوية تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، وهذا مطلق، أي: سواء كانت نصاً، أو إجماعا، أو قياساً، أو مفهوماً، أو فعلاً، أو مصلحة، أو ضرورة، أو سياق كلام، أو أية قرينة مقالية أو حالية تصلح أن تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، وهذا هو الحق؛ لأن القرينة مما ذكرنا تعتبر دليلاً شرعياً، فلو لم نأخذ بها للزم من ذلك ترك دليل شرعي قد ثبت، وهذا لا يجوز. المذهب الثاني: أن القرينة التي يؤخذ بها لصرف الأمر من الوجوب إلى غيره هي: نص آخر، أو إجماع فقط. وهو مذهب الظاهرية وعلى رأسهم ابن حزم. دليل هذا المذهب: أن النص الآخر والإجماع دليلان يقويان على صرف الأمر من الوجوب إلى غيره، أما غيرهما من القرائن فليست في مستواهما من القوة، فالعدول عن الوجوب بغيرهما انحراف عن الطريق الصحيح وتقول على اللَّه ورسوله، وخروج على مدلولات الخطاب في لغة القرآن والسُّنَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1358 جوابه: لا نسلم أن غير النص والإجماع لا يصلح أن يكون قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، بل كل قرينة معتبرة شرعا تصلح أن تكون صارفة كما صلحت أن تكون دليلاً إلى حكم شرعي يعمل، ولا فرق، فإن منعتم أن تكون أية قرينة صارفة فامنعوا أن تكون دليلاً، وهذا يلزم منه: ترك أكثر أدلة الشريعة، وهذا إبطال لها، وهذا لا يجوز. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - مكاتبة العبد الرقيق. فذهب الجمهور إلى أن مكاتبة الرقيق المسلم الذي فيه خير للإسلام مندوب إليها؛ والأمر الوارد في قوله تعالى: (فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً) مصروف من الوجوب إلى الندب؛ لإقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض الصحابة، حيث إنهم لم يعتقوا عبيدهم مع أن فيهم خيراً للإسلام والمسلمين، ولأنه يترتب على ذلك تعطيل الملك وتحكم المماليك في المالكين. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم الظاهرية - فقالوا: إن المكاتبة واجبة، وعلى السلطان أن يجبر المالكين على المكاتبة؛ لأن الأمر الذي في الآية السابقة للوجوب، ولا يوجد صارف من النص، أو الإجماع له. 2 - وليمة العرس هل هي واجبة؟ فأصحاب المذهب الأول يقولون: إن وليمة العرس ليست واجبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1359 والأمر الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الرحمن بن عوف حين تزوج -: " أولم ولو بشاة " مصروف عن الوجوب إلئ الندب؛ لأنه طعام لسرور حادث فأشبه سائر الأطعمة. أما أصحاب المذهب الثاني وهم الظاهرية فيقولون: إن الوليمة واجبة؛ لأن الأمر الوارد في الحديث السابق مطلق، والأمر المطلق للوجوب، ولا يوجد صارف من نص أو إجماع. 3 - الأكل من هدي التطوع هل هو واجب أو لا؟ أصحاب المذهب الأول - هم الجمهور - قالوا: إن الأكل من الهدي ليس بواجب بل هو مندوب، والأمر الوارد في قوله تعالى: (فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها) مصروف من الوجوب إلى الندب والقرينة الصارفة هي أن الآية قد جاءت مبطلة لما كان عليه العرب في جاهليتهم؛ حيث إنهم كانوا لا يأكلون من النسك، فأذن الله سبحانه في الأكل، وندب إليه؛ لما فيه من مخالفتهم. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم الظاهرية - فقد ذهبوا إلى أن الاكل واجب؛ لأنه مأمور به في الآية السابقة، والأمر يقتضي الوجوب ولا صارف له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1360 المطلب التاسع إذا ورد الأمر بعد النهي ماذا يقتضي؟ إذا وردت صيغة: " افعل " بعد الحظر - وهو النهي فماذا تقتضي؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنها تقتضي الإباحة. وهو مذهب كثير من العلماء منهم: الإمام مالك، وأحمد، والشافعي في ظاهر كلامه، وهو اختيار بعض الحنفية، وأكثر الحنابلة وأكثر الفقهاء. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: الاستقراء والتتبع للأوامر الشرعية الواردة بعد النهي، فإق بعد استقراء وتتبع الأوامر الواردة بعد النهي في النصوص الشرعية لم نجد أمراً ورد بعد الحظر إلا والمراد به الإباحة، ومن ذلك قوله تعالى: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض) ، وقوله: (فإذا تطهرن فأتوهن) ، وقوله: (وإذا حللتم فاصطادوا) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "، وقوله: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي أما الآن فكلوا وادخروا ". ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن هذه المواضع قد حملت على الإباحة بدليل، وهو الإجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1361 جوابه: أنا لا نعلم دليلاً على حملها على الإباحة إلا ورودها بعد الحظر فقط، أما الإجماع فهو حادث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم -، والإباحة مستفادة من هذه الألفاظ في وقته. الاعتراض الثاني: أنه ورد أمر بعد حظر، والمراد به الوجوب كقوله تعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين) جوابه: لا نسلم أن الوجوب مستفاد من هذه الآية، وإنما استفيد وجوب قتل المشركين بآيات أخر كقوله تعالى: (فإن قاتلوكم فاقتلوهم) ، وقوله: (فقاتل في سبيل الله) . الدليل الثاني: العرف والعادة دلَّ على أن الأمر بعد الحظر للإباحة فلو قال السيد لعبده: " لا أكل من هذا الطعام "، ثم قال له بعد ذلك: " كل منه "، فإن هذا الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة؛ لأنه لو لم يأكل لا يذم، ولو أكل لا يمدح، وهذا هو حد الإباحة. المذهب الثاني: إذا وردت صيغة الأمر بعد النهي، فإنها تقتضي ما كانت تقتضيه قبل وجود النهي من وجوب، أو ندب، أو إباحة، أو يتوقف فيها على الخلاف السابق الذكر، أي: أن الأمر بعد النهي في زلة الأمر المبتدأ، وهو مذهب أكثر المتكلمين، وأكثر الحنفية، وأكثر المعتزلة، وأكثر المالكية، وبعض الشافعية كالبيضاوي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول. أن أدلة إفادة الأمر المطلق للوجوب عامة وشاملة لما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1362 تقدمه حظر ولغيره، ولم توجد قرينة تصرفه عن مقتضاه الحقيقي عندنا وهو الوجوب، فأشبهت بذلك صيغة الأمر التي لم يتقدمها نهي، فيكون تقدم النهي على الأمر لم تؤثر عليه. جوابه: نحن نقول: إن صيغة الأمر تقتضي الوجوب إذا كانت متجردة عن القرائن. أما إذا وجدت قرينة صارفة من حمله على الوجوب إلى غيره، فهذا يختلف. وهنا لا نُسَلِّمُ أن صيغة الأمر متجردة عن القرينة، بل تقدم النهي على الأمر قرينة دالة على أن المتكلم لم يستعمل صيغة الأمر للوجوب بل استعملها للإباحة -. أي: أن تقدم النهي على الأمر يعتبر قرينة صرفت الأمر من الوجوب إلى الإباحة. اعتراض على ذلك: قال بعضهم: إن النهي لا يفيد الإباحة بلفظه ولا بمعناه؛ لأن لفظ النهي يقتضي المنع والتحريم، ومعناه لا يوجب ذلك؛ لأنه لا يمتنع أن يكون الشيء محرما، ثم يجعل واجباً، فينسخ التحريم بالإيجاب. جوابه: نحن لا نقول: إن لفظ النهي فقط أفاد الإباحة، وإنما حصلت الإباحة به، وبما بعده من صيغة الأمر، كما لو استأذن العبد سيده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1363 في فعل شيء، فقال له السيد: " افعل "، فإنا نحمله على الإباحة بشيئين هما: " الاستئذان "، و " الأمر وهو قوله: افعل ". الدليل الثاني: قياس الأمر على النهي في ذلك، بيانه: كما أن النهي الوارد بعد الأمر يقتضي ما كان يقتضيه قبل الأمر وهو: التحريم كذلك الأمر الوارد بعد النهي يقتضي ما كان يقتضيه قبل النهي، وهو: الوجوب، ولا فرق. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ الأصل المقاس عليه وهو قولكم: " إن النهي الوارد بعد الأمر يقتضى ما كان يقتضيه قبل الأمر وهو: التحريم "، بل إن النهي إذا ورد بعد الأمر فهو مقتض للكراهة والتنزيه. الجواب الثاني: سلمنا أن النهي إذا ورد بعد الأمر يقتضي التحريم - كما قلتم -، فلا يجوز أن يقاس عليه الأمر الوارد بعد النهي، وذلك لوجود الفرق بينهما. ووجه الفرق: أن النهي آكد؛ لأنه يقتضي قبح المنهي عنه، وذلك محرم، بخلاف الأمر، فإنه: استدعاء للفعل، وقد يستدعي الشارع ما يوجبه، وما يستحبه، وقد يكون المراد به: الإذن بعد المنع، وهو: الإباحة. ويؤيد ذلك: أن النهي يقتضي التكرار، والفور، ولكنهم لا يقولون ذلك في الأمر. المذهب الثالث: الوقف وعدم الجزم بشيء مع الوجوب أو الإباحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1364 وهو مذهب إمام الحرمين. دليل هذا المذهب: أن الأدلة متعارضة بعضها يثبت المذهب الأول، وبعضهم يثبت المذهب الثاني، ولا مرجح لواحد منها على الآخر، فالقول برأي معين تحكم وترجيح بلا مرجح، وهو باطل، فوجب الوقف. جوابه: أنه لا داعي لهذا التوقف مع قوة أدلتنا على أن الأمر بعد النهي للإباحة وضعف أدلة أصحاب المذهب الثاني، فوجب القول بالإباحة. بيان نوع هذا الخلاف: الخلاف معنوي كما هو ظاهر، حيث إنه لد أثر في كثير من الفروع الفقهية، ومنها: 1 - حكم النظر إلى المخطوبة. اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إن النظر إليها مباح؛ لأنه أمر بعد نهي؛ حيث نهي عن النظر إلى المرأة الأجنبية، ثم أمر بالنظر إليها في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " اذهب فانظر إليها ". القول الثاني: أن النظر إليها مندوب إليه؛ لأن الأمر وإن كان أمراً بعد نهي لكنه معلل بعِلَّة تدل على أنه أريد بالأمر الندب، وهي: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ". لعلك أيها القارئ تسأل وتقول: لمَ لم يحمل على الوجوب أخذاً بالمذهب الثاني الأصولي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1365 والجواب: أن هناك قرينة صرفته عن ذلك، وهو قوله: " فإنه أجدر أن يؤدم بينكما ". 2 - حكم زيارة القبور. اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أن زيارة القبور مباحة؛ لأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: "كنتم نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها "، وهو أمر بعد نهي، والأمر بعد النهي للإباحة. القول الثاني: أن زيارة القبور مندوب إليها؛ لأن الأمر بزيارتها وإن كان بعد نهي، لكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - علله بأنها يذكر الموت والآخرة "، وذلك أمر مطلوب شرعاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1366 المطلب العاشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور به مرة واحدة أو التكرار؟ إذا كان الأمر مقيداً بمرة واحدة مثل قولك: " اعط زيداً درهما مرة واحدة " أو مقيداً بمرات كقولك: " اعط زيداً درهما ثلاث مرات " فإن الأمر في هاتين الحالتين يكون مقيداً لما قيد به من المرة أو المرات، وهذا بالاتفاق. أما إذا وردت صيغة الأمر وهي: " افعل " مطلقة، أي: مجردة عن القرائن، فهل تقتضي فعل المأمور به مرة واحدة، أو أنها تقتضي التكرار؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، أي: لا يقتضي إلا فعل المأمور به مرة واحدة - فقط -، فلو قال السيد لعبده: " صم "، فإنه يخرج عن العهدة وتبرأ ذمته بصوم يوم واحد فقط. وهو مذهب أكثر الحنفية والظاهرية، ورواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار كثير من الحنابلة كأبي الخطاب، وابن قدامة، ونُسب إلى اكثر العلماء والمتكلمين، وهو الحق عندي للأدلة التالية: الدليل الأول: أن قول القائل لغيره: " ادخل الدار " معناه: كن داخلاً، وبدخلة واحدة يوصف بأنه داخل، فكان ممتثلاً، وكان الأمر عنه ساقطاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1367 اعتراض على هذا: قال قائل - معترضا -: هو بالدخلة الثانية يوصف بأنه داخل - أيضا - فالدخلة الثانية تكون داخلة تحت الأمر. جوابه: إنه بالدخلة الأولى يكون داخلاً على الكمال؛ لأن بها يسمى داخلاً على الإطلاق، فكمل بها فائدة الأمر، فاما الدخلة الثانية، فتكرار لفائدة الأمر بعد استكمالها. الدليل الثاني: قياس الأمر المطلق على اليمين، والنذر، والوكالة، والخبر. بيان ذلك: 1 - أنة - لو حلف قائلاً: " واللهِ لأصومن "، فإنه يَبَر بصوم يوم واحد. 2 - أنه لو نذر قائلاً: " لله علي أن أصوم "، أو قال: " لله عليّ أن أتصدق "، فإنه يكون قد أوفى بنذره بصوم يوم واحد، والتصدق بدرهم واحد مرة واحدة. 3 - أنه لو قال لوكيله: " طلق زوجتي فلانة " لم، يجز للوكيل أن يطلق أكثر من مرة واحدة. 4 - أنه لو أخبر عن نفسه، وقال: " قد صمت "، فإنه يكون صادقا لو صام يوما واحداً، ولو قال: " سوف أصوم "، لكان صادقا بصوم يوم واحد. فإذا كانت هذه الأمور يكتفي فيها بمرة واحدة، ويخرج بفعل هذه المرة عن العهدة، فكذلك الأمر المطلق، فإذا أمر الشخص أمراً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1368 مطلقا بشيء، فإن الواجب عليه فعل هذا الشيء مرة واحدة فقط، وتبرأ ذمته. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن الأمر في اليمين والتوكيل يقتضي التكرار من جهة اللغة، ولكن تركنا مقتضى اللغة بالشرع، ولا يمتنع أن يكون اللفظ في اللغة يقتضي أمراً، ثم يقرر الشرع فيه غير مقتضاه في اللغة، كما لو حلف وقال: " والله لا آكل الرؤوس "، فإنه يعم في اللغة كل رأس، وفي الشرع يُحملَ على رؤوس الغنم. جوابه: لا نسلم أن الشرع يغير مقتضى اللغة، وإنما الشرع يُقرر اللغة، ويضيف إليها حكما زائداً، بدليل: أنه لو قال: " افعل ذلك أبداً " أو قال: " طلق زوجتي ما أملكه ": لم يقطعه الشرع عن مقتضاه في اللغة، فلا يقطعه عن التكرار، أما مسألة الرؤوس فلا نسلمها؛ حيث إنه يحمل على مقتضاه في اللغة. الدليل الثالث: أن السيد لو قال لعبده: " ادخل الدار ". فإنه لو دخل مرة واحدة، ثم خرج: لخرج عن العهدة، ولا يجوز لومه، ولا توبيخه، ولو أن السيد لام عبده بسبب أنه لم يدخل مرة ثانية وثالثة لخطأه العقلاء من أهل اللغة؛ لأنه بدخوله مرة واحدة يكون قد امتثل الأمر، والصيغة لا دلالة فيها على العدد. المذهب الثاني: أن الأمر المطلق يقتضي التكرار. وهو مذهب بعض الشافعية كالأستاذ أبي إسحاق، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو اختيار بعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وهو قول جماعة من الفقهاء والمتكلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1369 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - قد قاتل من منع الزكاة، واستند في ذلك على قوله تعالى: (وَآتُوا الزَّكَاةَ) ؛ حيث إنه حمل هذا الأمر على أنه لا بد أن يتكرر، وكان ذلك بحضرة الصحابة، فكان ذلك إجماعاً منهم على أن الأمر يفيد التكرار وإلا لما سكتوا على تلك المخالفة، ولما صح لأبي بكر محاربة أهل الردة على ذلك؛ لكونهم قد امتثلوا دفع الزكاة في عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: إن تكرار دفع الزكاة ثبت عن طريق قرينة وهي: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخذها منهم مراراً في أعوام متعددة، وهذا خارج عن محل النزاع، لثبوت القرينة. الدليل الثاني: أن الأمر لا اختصاص له بزمان دون زمان؛ لأنه لا يوجد زمان أَوْلى من زمان آخر، فاقتضى إيقاع الفعل في جميع الأزمان. جوابه: لا نسلم ذلك، بل الأمر يختص بأقرب الأزمان إليه؛ لأن الأمر يقتضي الفور، فيختص إيقاع الفعل بأقرب الأوقات إليه، فيكون مقتضى الأمر: افعله في أول الأوقات، فإن فات فافعله في الثاني، فإن فات الثاني فافعله في الثالث، وهكذا، فعلى هذا: لا يكون الأمر عاماً في جميع الأزمان. "الدليل الثالث: قياس الأمر على النهي، بيانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1370 أن الأمر كالنهي بجامع أن كلًّا منهما: استدعاء وطلب، فالنهي أفاد وجوب ترك الشيء، والأمر أفاد وجوب فعله. والنهي اقتضى وجوب الترك أبداً، فكذلك الأمر يجب أن يكون مثله بأن يقتضي الفعل أبداً. جوابه: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن النهي يقتضي عدم الماهية، وعدمها إنما يكون بعدم الإتيان بها في أي فرد من أفرادها، بخلاف الأمر فإنه يقتضي طلب الماهية، والماهية تتحقق ولو بفرد من أفرادها، فمقتضى التكرار موجود في النهي، وليس موجوداً في الأمر. الدليل الرابع: أن الأمر يقتضي العزم والفعل، ثم إنه يقتضي العزم على التكرار، فكذلك يقتضي الفعل على التكرار، ولا فرق. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لا يمتنع أن يجب دوام العزم، دون دوام الفعل كما لو قال: " صل مرة "، فإن العزم والاعتقاد تجب استدامته، ولا تجب استدامة الفعل، فإذا فعل الصلاة وصلى ركعتين برأت ذمته، لكن دوام العزم والاعتقاد واجب. الجواب الثاني: أن قياس الفعل على الاعتقاد والعزم قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الاعتقاد والعزم على الفعل لم يجب بصيغة الأمر الواردة، وإنما يُستند في وجوبه إلى قيام الدلالة على صدق رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أخبر بالوجوب: وجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1371 اعتقاده، فإذا عرف المكلَّف الأمر فلم يعتقد وجوبه صار مكذبا له في خبره، فيصير كافراً بذلك. بخلاف الفعل، فإنه يجب بصيغة الأمر، فإذا فعل ما يصح أن يعلم الآمر أنه ممتثل كفاه مثل: أن يقول: " صل " فيصلي المأمور ركعتين - فقط - فيحسن أن يقول: " قد صليت ". المذهب الثالث: أن الأمر لا يدل على التكرار ولا على المرة الواحدة، وإنما يدل على طلب الماهية، والماهية كما تتحقق في المرة الواحدة تتحقق كذلك في غيرها، إلا أن المرة الواحدة ضرورية، وليست المرة مما وضع له الأمر. وهو مذهب بعض الشافعية كالإمام الرازي، والآمدي، والبيضاوي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الأمر المطلق ورد استعماله في التكرار شرعا وعرفا، أما في الشرع فمثل قوله تعالى: (أقيموا الصلاة وآتوا الزكاة) أما في العرف فمثل قولك: " أحسن إلى الناس ". وورد استعمال الأمر المطلق في المرة الواحدة شرعا وعرفا. أما في الشرع فمثل قوله عليه الصلاة والسلام: " إن اللَّه كتب عليكم الحج فحجوا ". أما في العرف فمثل قول السيد لعبده: " اشتر اللحم ". والأصل في الاستعمال الحقيقة، فبطل أن يكون اللفظ حقيقة في واحد منهما مجازاً في الآخر؛ لأن المجاز خلاف الأصل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1372 ولا يجوز أن يقال: إنه وضع لكل واحد منهما حقيقة؛ لأن هذا يلزم منه أن يكون الأمر المطلق مشتركا لفظياً، والاشتراك خلاف الأصل، وتخلصاً من ذلك فإنه يقال: إن اللفظ - وهو لفظ الأمر المطلق - وضع للقدر المشترك بينهما، وهو طلب الماهية. جوابه: إذا كان الأمر المطلق وضع للقدر المشترك وهو طلب الماهية - كما زعمتم - فإنه يلزم من هذا: أنه إذا استعمل في المرة الواحدة، أو التكرار يكون عن طريق المجاز؛ لأنه استعمال له في غير ما وضع له، وينتج من ذلك: تكثير المجاز، وهو خلاف الأصل. فوجب القول بأنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؛ تقليلاً للمجاز بقدر الإمكان. ونظراً لقوة أدلتنا على أن الأمر المطلق يقتضي المرة الواحدة، وضعف أدلة القائلين: إن الأمر يقتضي التكرار - كما سبق بيانه - فإن لفظ الأمر المطلق يقتضي المرة الواحدة حقيقة، ولا يحمل على أنه يقتضي التكرار إلا بقرينة، فيكون مجازاً فيه. الدليل الثاني: أنه يحسن السؤال من المأمور بهذه الصيغة، فإذا قال السيد لعبده: " قم "، فإنه يحسن من العبد أن يسأل ويقول: ماذا تريد بأمرك هذا؛ هل تريد فعل المأمور به مرة، أو فعله أكثر من مرة؛ فهذا الاستفسار يدل على أنه لا يفهم من الصيغة المرة الواحدة ولا التكرار، بل لا يفهم منها إلا طلب الماهية. جوابه: إن السؤال والاستفسار قد استحسن هنا طلبا لتأكيد العلم أو الظن: - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1373 فالمأمور فهم عدم التكرار؛ ولكنه استفسر ليتأكد من ذلك، والتأكيد يكون؛ لئلا يتسع الفهم، أو طرد المجاز، لذلك يدخل في الخبر فيقول شخص: " ختمت الليلة الماضية القرآن "، فسمع السامع هذا، ولكنه أراد أن يتأكد فقال: " ختمت القرآن الليلة الماضية؛ ". بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا فيه تفصيل: الخلاف الأول: وهو الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار - وبين أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: إن الأمر يقتضي التكرار - خلاف معنوي؛ حيث تأثر بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - حكم السارق مرة ثانية. أصحاب المذهب الأول: يرون أن السارق إذا سرق مرة ثانية فلا تقطع يده اليسرى بدليل: أن الأمر في قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) لا يقتضي التكرار، ولا يحتمله، فلا تقع من الأيدي إلا يمين السارق فقط. أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم قالوا: الأصل: أن تقطع يد السارق اليسرى إذا سرق مرة ثانية؛ لأن الأمر في الآية السابقة يقتضي التكرار، ولكن هناك قرينة منعت من العمل على هذا الأصل وهي: مراعاة حال السارق، وجعله ينتفع باليسرى. 2 - إذا وكل شخص شخصا آخر يطلاق امرأته فماذا يملك؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1374 لو قال شخص لشخص آخر: " طلق زوجتي فلانة "، فقد اختلف في ذلك. فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه لا يجوز للوكيل أن يطلق إلا مرة واحدة؛ لأن الأمر عندهم يقتضي المرة الواحدة. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قالوا: إنه يجوز للوكيل أن يطلق أكثر من طلقة؛ لأن الأمر عندهم يقتضي التكرار. الخلاف الثاني: وهو الخلاف بين أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر لا يقتضي التكرار -، وبين أصحاب المذهب الثالث - وهم القائلون: إن - الأمر لا يقتضي التكرار، ولا المرة الواحدة -: فإن هذا الخلاف يمكن أن يكون لفظيا، ويمكن أن يكون معنويا. فيكون الخلاف لفظيا إذا نظرنا إلى أن أصحاب المذهبين قد اتفقا على أن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، فمقصد أصحاب المذهب الثالث هو: نفي التكرار والخروج عن العهدة بالمرة الواحدة ضرورة، وهو نفسه مقصد أصحاب المذهب الأول، فلا خلاف إذن. ويكون الخلاف معنوياً إذا نظرنا إلى دلالة الأمر المطلق على المرة هل هي بطريق المطابقة أو الالتزام؟ فبناء على المذهب الأول - وهو: أن الأمر المطلق يقتضي المرة الواحدة ولا يقتضي التكرار، فإن الأمر المطلق يدل على المرة الواحدة دلالة مطابقة. وبناء على المذهب الثالث - وهو: أنه لا يقتضي المرة ولا التكرار وإنما هو طلب الماهية، فإن الأمر المطلق يدل على المرة الواحدة دلالة التزام: على اعتبار أنها لازمة للامتثال؛ إذ لا يحصل بأقل منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1375 المطلب الحادي عشر الأمر المعلق بشرط أو صفة هل يقتضي تكرار المأمور به بتكرار الشرط أو الصفة أو لا؟ أصحاب المذهب الثاني - في المطلب السابق - وهم القائلون: إن مطلق الأمر يقتضي التكرار - قالوا: إذا عُلِّق الأمرُ بشرط كقولك: " إن قام زيد فقم "، أو علق الأمر بصفة كقولك: " اعط الناجح درهماً "، فإنه يقتضي التكرار من باب أوْلى؛ لأنهم إذا قالوا: إن الأمر المطلق يقتضي التكرار، فإنه إذا علق بشرط أو صفة يقتضي التكرار كلما تكرر الشرط، أو تكرر وجود الصفة. أما أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار بل المرة الواحدة: فقد اختلفوا في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأمر المعلق بالشرط أو الصفة لا يقتضي التكرار. وهذا هو مذهب أكثر القائلين: إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن العرف دلَّ على أن الأمر إذا علق بشرط، فإنه لا يتكرر بتكرر الشرط؛ فإنه لا يعقل منه إلا فعل مرة واحدة، بيانه: أن السيد إذا قال لعبده: " إن دخلت السوق فاشتر تمراً "، فإنه لا يعقل منه تكرار شراء التمر، وإن تكرر دخوله السوق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1376 كذلك لو قال الرجل لزوجته: " إن دخلت الدار فأنت طالق "، فإنه لا يتكرر وقوع الطلاق بتكرر دخولها. وكذلك قوله لوكيله: " طلق زوجتي إذا دخلت الدار "، فإنه لا يعقل من هذا أن يطلقها كلما دخلت الدار، وإنما يطلقها مرة واحدة، وإن تكرر دخولها الدار. الدليك الثاني: أن أهل اللغة فرقوا بين قول القائل: " اعط زيداً درهماً إذا طلعت الشمس "، وبين قوله: " اعط زيداً درهما كلما طلعت الشمس " في أن العبارة الأولى تفيد أنه لا يتكرر الإعطاء بتكرر طلوع الشمس، وأن العبارة الثانية تفيد: أنه يتكرر الإعطاء بتكرر طلوع الشمس؛ بسبب كلمة " كلما "، فلو كان الأمر المعلق بشرط يقتضي التكرار بتكرار الشرط: لما كان بين العبارتين فرق. الدليل الثالث: قياس الأمر المعلق على شرط على الخبر المعلق على شرط، بيانه: أنه لو قال شخص: " زيد يدخل الدار إن دخلها عمرو "، فتكرر دخول عمرو، ودخلها زيد مرة واحدة، فإنه يكون صادقا بهذا الخبر، ولو لم يدخلها زيد إلا مرة واحدة. فكذلك لو قال لزيد: " ادخل الدار إن دخلها عمرو "، فلو كرر عمرو الدخول، ودخلها زيد مرة واحدة، فإنه يكون ممتثلاً للأمر، ويخرج بها عن العهدة، ولا فرق بينهما. المذهب الثاني: أن الأمر المعلق بالشرط أو الصفة يقتضي التكرار. وهو مذهب بعض القائلين: " إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث إنه وقع ووجد في كتاب الله أوامر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1377 معلقة بشروط وصفات تتكرر بتكرر الشروط والصفات من ذلك: قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم) ، وقوله: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، وقوله: (الزانية والزاني فاجلدوا) ، فكلما قام المسلم إلى الصلاة فلا بد له من الوضوء، وكلما وجدت صفة السرقة في مسلم فإنه يجب قطع يده، وكلما وجدت صفة الزنى في مسلم فإنه يجب الجلد، فهنا تكرار الفعل بتكرر الشرط والصفة. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن قوله تعالى: (إذا قمتم إلى الصلاة..) يقتضي التكرار، حيث لا يقتضي تكرار الوضوء بتكرار الصلاة: فقد يصلي الإنسان عدة صلوات بوضوء واحد، وقد يتوضأ ولا يصلي. الجواب الثاني: سلمنا أن فيما ذكر تكرار، ولكن هذا التكرار لم يعقل من ظاهر هذه الآيات، وإنما جاء هذا التكرار من أدلة خارجية كالإجماع أو القياس أو غيرهما. الجواب الثالث: أنه كما وجدتم في الشريعة أحكاما تقتضي التكرار بتكرر الشرط، كذلك وجدنا في الشريعة أحكاما لا تقتضي التكرار بتكرر الشرط وهو: الحج والعمرة، فإن الاستطاعة توجد، ولا يجب الحج الثاني. الجواب الرابع: أنه تكرر الحد بتكرر السرقة والزنا لأنهما علتان، والعلة يتبعها حكمها كلما وجدت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1378 الدليل الثاني: قياس التعليق بالشرط على التعليق بالعلَّة، والجامع: أن كل واحد منهما سبب فيه، ثم الحكم يتكرر بَتكرر العِلَّة، فكذلك يتكرر بتكرر الشرط. جوابه: هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ لأنه يوجد فرق بين العلَّة والشرط من حيث إن العلَّة تقتضي الحكم، وتدل عليه، والشرط لا يدل على الحكم، ولا يقتضيه، فلم يتكرر بتكرره بدليل: ما قلنا سابقا وهو: أن من طلق امرأته بشرط دخول الدار لم يكن دخولها في المرة الثانية شرطا في الطلاق. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر هذا الخلاف في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - لو قال لوكيله: " إن دخلت زوجتي الدار فطلقها " هل يتكرر الطلاق بتكرر الدخول؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أنه لا يطلقها إلا طلقة واحدة، وإن تكرر الدخول. القول الثاني: أنه يطلقها كلما تكرر دخولها، فإن دخلت ثلاث مرات يطلقها ثلاث مرات. 2 - هل تجب الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر؟ اختلف في ذلك على أقوال: القول الأول: أن الواجب هو: الصلاة على النبي مرة واحدة في المجلس الذي يتكرر فيه ذكره عملاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "بَعُد من ذكرت عنده فلم يصل علي " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1379 لأن الأمر المطلق بشرط لا يقتضي التكرار بتكرار الشرط. القول الثاني: أن الواجب هو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - كلما ذكر في المجلس الواحد؛ لأن الأمر المطلق يقتضي التكرار بتكرار الشرط. القول الثالث: أن الواجب هو الصلاة على النبي - صلى الله عليه وسلم - مرة واحدة في العمر كله؛ لأن الأمر المعلق بشرط لا يقتضي التكرار بتكرار الشرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1380 المطلب الثاني عشر إذا كرر لفظ الأمر بشيء واحد مثل: " صل ركعتين صل ركعتين " فهل يقتضي التكرار؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يقتضي التكرار، فلفظ الأمر الثاني لم يأت بجديد؛ حيث إنه دلَّ على ما دلَّ عليه لفظ الأمر الأول، ولفظ الأمر الأول اقتضى الوجوب، فلا يجوز حمل لفظ الأمر الثاني على واجب غيره. وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب وابن قدامة، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قياس الأمر المكرر على النذر المكرر، والخبر المكرر، واليمين المكرر، بيان ذلك: أنه لو كرر النذر وقال: " لله علي أن أصوم، لله علي أن أصوم " لم يجب عليه إلا صوم يوم واحد فقط، فلا أثر لتكرار اللفظ. كذلك لو قال: أإني قد تصدقت، إني قد تصدقت "، فإنه يصدق لو لم يتصدق إلا مرة واحدة بدرهم واحد. كذلك لو قال في - اليمين: " والله لأصومن والله لأصومن "، فإنه يبر بصوم يوم واحد فقط، فلم يكن للفظ الأمر الثاني أثر، وقد وقع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: " واللهِ لأغزون قريشا، واللهِ لأغزون قريشا، واللهِ لأغزون قريشاً "، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1381 فلم يكن لهذا التكرار من أثر؛ حيث إنه غزاهم غزوة واحدة وهي غزوة الفتح. فإذا كان الفعل لا يتكرر في هذه الأمور، فكذلك لفظ الأمر لا يقتضي تكرار الفعل ولا فرق. الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " اسقني ماء اسقني ماء " فإن لو أسقاه مرة واحدة فإنه يستحق المدح، ولو لامه السيد وقال له: " اسقني مرات " لانتقده عقلاء أهل اللغة، وذلك لأن الأمر وإن تكرر فإن الواجب الفعل مرة واحدة. المذهب الثاني: أنه يقتضي التكرار. وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار. دليل هذا المذهب: أن الغرض بالأمر هو: استدعاء الفعل؛ لأنه هو المطابق لصيغته، ولا يخلو الأمر الثاني إما أن يكون قد فعل استدعاء للفعل الأول أو لغيره، فإن فعل لاستدعاء الأول فقد حصل الغرض بالأول، فالثاني يكون عبثا، فوجب حمله على فعل آخر؛ لئلا يكون عبثا. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ حمله على فعل آخر، بل يكون الأمر الثاني تأكيداً للأول، والتأكيد. مقصود بلغة العرب والقرآن كقوله تعالى: (فسجد الملأئكة كلهم أجمعون) . بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وهو ظاهر في بعض الفروج الفقهية، ومنها: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1382 1 - أنه لو قال لوكيله: " طلق زوجتي طلق زوجتى "، فإنه لا يطلقها إلا مرة واحدة، لأن ذلك لا يقتضي التكرار. 2 - أنه لو قال لزوجته: " طلقي نفسك طلقي نفسك "، فإنها لا تطلق نفسها إلا بواحدة فقط، لأن ذلك لا يقتضي التكرار. هذا على المذهب الأول. أما على المذهب الثاني فيلزم منه: أنه يطلقها أكثر من طلقة وتطلق نفسها أكثر من طلقة. شروط كونه لا يقتضي التكرار: لقد مثلت لهذه المسألة بقول القائل: " صل ركعتين صل ركعتين، مشيراً إلى أنه يشترط في الأمر المكرر ما يلي: 1 - أن يكون الفعلان من نوع واحد، فإن كانا من نوعين مختلفين مثل: " صل ركعتين، صم يومين " كان الأمران للتأسيس. 2 - أن يكون الفعل قابلاً للتكرار، فإن كان غير قابل للتكرار مثل: " صم هذا اليوم صم هذا اليوم "، فإنه يحمل على أن الثاني مؤكد للأول. 3 - أن لا يكون بين الأمرين حرف عطف، فإن كان بينهما عاطف مثل: " صل ركعتين وصل ركعتين " كان الأمران للتأسيس؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1383 المطلب الثالث عشر الأمر المطلق هل يقتضي فعل المأمور به على الفور أو لا يقتضي ذلك؟ إن اقترن بالأمر قرينة تدل على أن المأمور يفعل المأمور به لا على الفور كأن يقول له: " اخرج في أي وقت شئت " فهو للتراخي اتفاقاً. وإن اقترن بالأمر قرينة تدل على أنه يفعل المأمور به على الفور كأن يقول له: " اخرج الآن "، فهو للفور اتفاقا. أما إذا لم يقترن بالأمر شيء يدل على الفور، ولا على غيره بأن جاء الأمر مطلقا كان يقول له: " اسقني ماء لا أو " صم " أو " قم " فهل يقتضي الفور أو لا؟ القائلون: إن الأمر المطلق يقتضي التكرار - وهو المذهب الثاني من المطلب العاشر كما سبق بيانه - فإنهم يقولون: إن الأمر يقتضي الفور؛ لأنه من ضرورياته؛ لأن تكرار فعل المأمور به يلزم أن يفعل من أول ما صدرت لفظة الأمر إلى ما لا نهاية له على حسب قدرة المكلَّف. أما القائلون: إن الأمر المطلق لا يقتضي التكرار - كما هو مذهب كثير من العلماء وهو الذي رجحناه - فقد اختلفوا في الأمر المطلق هل يقتضي الفور أو لا؛ على مذاهب: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1384 المذهب الأول: أن الأمر المطلق يقتضي الفور، ولا يجوز تأخيره إلا بقرينة. وهو مذهب بعض الحنفية كالكرخي، والجصاص، وجمهور المالكية، وبعض الشافعية كأبي بكر الصيرفي، والقاضي أبي حامد المروزي، والدقاق، وأكثر الحنابلة، وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد، والإمام مالك، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (وسارعوا إلى مغفرة من ربكم) . وجه الدلالة: أن في فعل الطاعة مغفرة، فتجب المسارعة إليها، والمسارعة تقتضي إيقاع الفعل بعد صدور الأمر مباشرة. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: المراد بالآية التوبة من الذنوب، وهذا لا نزاع في أنه تجب المسارعة إله. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الآية خاصة بالتوبة، بل هي عامة للتوبة وغيرها من الطاعات. الجواب الثاني: سلمنا أن الآية خاصة بالتوبة من الذنوب، فإنها عبادة قد وجبت على الفور بمطلق الأمر، فيقاس على ذلك بقية العبادات. الدليل الثاني: قوله تعالى: (إنهم كانوا يسارعون في الخيرات) . وجه الدلالة: أن الله تعالى قد مدح هؤلاء على المسارعة بفعل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1385 الخيرات، فبناء على ذلك: يكون ترك المسارعة يذم عليه، وما يذم على تركه هو الواجب. الدليل الثالث: أن الأمر قد اقتضى الوجوب، فحمله على وجوب الفعل عقيبه واجب؛ لأمرين: أولهما: أنه إذا فعل المأمور به فور صدور صيغة الأمر يكون ممتثلاً للأمر بيقين، دون شك. ثانيفما: أنه بمجرد تأخير الفعل يكون معرضاً نفسه لخطر عدم القيام به، ودرءاً لذلك واحتياطاً فإنه تجب المبادرة إليه. الدليل الرابع: أن السيد إذا قال لعبده: " اسقني ماء "، فإن سقاه على الفور استحق المدح بالاتفاق، وإن تأخر في امتثال الأمر، ولم يسقه فور صدور صيغة الأمر، فإنه يحسن من السيد ذمه وتوبيخه، فلما سأله عقلاء أهل اللغة عن سبب معاقبته لهذا العبد قال لهم: إني أعاقبه؛ لأنه خالف أمري وعصاني؛ حيث إني أمرته بأن يسقيني ماء، وتأخر في جلب الماء إلي، فهنا يُقبل منه هذا العذر، ولا ينكر عليه، فهذا يدل على أن أهل اللغة قد اتفقوا على أن الأمر المطلق يقتضي الفور. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: نحن معكم أن الأمر هنا يقتضي الفور، لكن ذلك دلَّ عليه قرينة وهي: أن السيد لا يستدعي ماء إلا وهو عطشان فتأخره يضر به، فلذلك اقتضى التعجيل، وهذا ليس في محل النزاع. جوابه: لا نسلم أن وجوب التعجيل ثبت عن طريق القرينة؛ لأن السيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1386 - لما سأله عقلاء اللغة عن سبب معاقبته - لم يعلل ذمه وتوبيخه بالعطش، وإنما علله بأنه أمره بشيء فأخره عنه وعصاه بذلك، فدل على أن لفظ الأمر يقتضي الفور. الدليل الخامس: أن صدور صيغة " افعل " هو سبب للزوم الفعل فيجب أن يقع الفعل عقيب صدوره، قياساً على عقد البيع والطلاق والموت، بيان ذلك: أن البائع إذا قال: " بعتك هذه الدار بكذا " ثم قال المشتري: "قبلت "، فإن ملكية الدار تنتقل فوراً إلى المشتري دون تأخير. كذلك الطلاق: فإن الزوج إذا قال: " فلانة طالق "، فإنه يقع فوراً. كذلك إذا مات إنسان فإن ميراثه ينتقل إلى الورثة مباشرة، وهكذا. فهذه الأمثلة وغيرها: الحكم يقع - عقيبها؛ لأنه أقرب الأوقات إليها، فكذلك الأمر يجب أن يقع الفعل في أقرب الأوقات إليه، وذلك لأن كل لفظ اقتضى معنى يجب أن يقع ذلك عقيبه. الدليل السادس: القياس على العزم، وبيان ذلك: أن الأمر يتضمن: " الأمر بالفعل "، و " الأمر بالعزم عليه "، و" الأمر باعتقاد وجوبه ". والعزم، واعتقاد وجوب الفعل واجبان على الفور. فيقاس عليهما: الفعل، بجامع أن الأمر صدر بهما جميعاً. فيجب - على هذا - فعل المأمور به على الفور. المذهب الثاني: أن الأمر المطلق لا يقتضي الفور، بل يجوز تأخير فعله أي: أن الأمر المطلق يقتضي الامتثال من غير تخصيص بوقت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1387 وهو مذهب أكثر الحنفية، واختاره المغاربة من المالكية، وهو مذهب أكثر الشافعية، ونسب إلى الإمام الشافعي، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس الزمان على الآلة، والمكان، والشخص، بيان ذلك: أن قولك: " اقتل " يلزم منه أمور ثلاثة: مكان يقتل فيه، وآلة يقتل بها، وشخص يقتل، وقلنا ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يفعل القتل بدون مكان، وآلة، وشخص يقتل، ويجزئ أي مكان وآية آلة، وأي شخص بدون تحديد، فيصير ممتثلاً بقتل أي شخص في أي مكان، وفي أية آلة. فكذلك الزمان لم تتعرض له صيغة الأمر، ولكنه. يلزم لامتثال الأمر؛ لأنه لا يمكن أن يمتثل الأمر إلا بزمن معين، فيصير المأمور ممتثلاً إذا قتل بأي زمن، بدون تحديد. جوابه: إن قياس الزمان على الآلة، والمكان، والشخص قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن عدم تعيين الزمان لإيقاع الفعل يؤدي إلى تفويته، وإضاعته، بخلاف عدم تعيين المكان والآلة والشخص، فإنه لا يؤدي إلى تفويته؛ لأنه قد يكون في الزمن الأول مصلحة، أو درء مفسدة لا تكون في الزمن الثاني أو الثالث، فلو أخره لفات ذلك، بخلاف المكان والآلة والشخص، فإن المصلحة لا تختلف باختلاف الأمكنة، والآلات، والأشخاص الكفار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1388 الوجه الثاني: أن الزمان الأول أوْلى لفعل المأمور به فيه؛ بدليل ما بيَّنا وذكرنا من الاحتياط، وتحقيق الإيجاب، والسلامة من الخطر، والتيقن والقطع بأن المأمور قد خرج عن العهدة بخلاف الأمكنة، فإنه لا مزية لأحدها على الآخر، وكذلك الأشخاص لا مزية لأحدهم على الآخر، وكذا الآلات لا مزية لإحداها على الأخرى. الدليل الثاني: قياس الأمر على الخبر، بيان ذلك: أنه إذا قال: " سأعطي زيداً درهماً "، فإنه إخبار عن إيقاع الفعل في المستقبل، ويكون ممتثلاً إذا أعطى زيداً بأي وقت شاء بدون تحديد، فكذلك الأمر فلو قال: " أعطني الكتاب "، فإنه طلب الفعل في المستقبل بدون تعيين أي زمن له، ولهذا لما صد المشركون المسلمين عام الحديبية قال عمر لأبي بكر - رضي اللَّه عنهما -: أليس قد وعدنا اللَّه تعالى بالدخول بقوله تعالى: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) فكيف صدونا؛ فقال أبو بكر: " إن الله تعالى وعدنا بذلك ولم يقل بأي وقت "، فهذا كله يقتضي أن الخبر لا يقتضي الوقت الأول، فكذلك الأمر بجامع: أن الفعل فيهما يكون في المستقبل. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن قياس الأمر على الخبر قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجوه: الوجه الأول: أن الخبر يحتمل الصدق والكذب، أما الأمر فلا يحتمل ذلك؛ حيث إنه حث، ووجوب، واستدعاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1389 الوجه الثاني: أن الخبر من الحكيم لا يوجد إلا بعد أن قد تيقن الحكيم أنه يكون المخبر على ما أخبر فيه، فلا غرر عليه في التأخير. أما الأمر، فإنه يلزم المأمور فعلاً لا يعلم أي وقت يوقعه، فكان إيقاعه في أول الوقت أحوط؛ لأمرين: أولهما: أن في التأخير خطر وغرر؛ لأنه ربما فاجأه الموت قبل الفعل فيأثم. ثانيهما: أن الآمر لو أراد التأخير لأخر الأمر بالفعل. الوجه الئالث: أن مقصود الخبر أن يكون صدقا، وأي وقت أخبر به وفعله تحقق المقصود، أما الأمر فالمقصود: الإيجاب، والإيجاب لا يتم إلا بالإيجاد، والتأخير إلى غير غاية، يلحقه بالنوافل، وهذا لا يجوز. الجواب الثاني: أن جميع الصحابة ومنهم عمر - رضي اللَّه عن الجميع - فهموا التعجيل، ولهذا امتنعوا من نحر الهدي، وإنما حمله أبو بكر على التراخي بقرينة: ثبوت صدق الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما يأتي به عن اللَّه، والتأخير والتراخي يجوز بقرينة، وهذا لا خلاف فيه، أما إذا تجرد عن القرائن فإنه يقتضي الفور. الدليل الثالث: قياس الأمر على اليمين، بيان ذلك: أنه لو قال: " واللهِ لأصومن "، فإنه يبر بيمينه إذا صام في أي وقت شاء، فكذلك الأمر، فإذا قال: " افعل "، فإن المأمور يكون ممتثلاً إذا فعل المأمور به في أي وقت فعله. جوابه: إن قياسكم الأمر على اليمين قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1390 ووجه الفرق : أن اليمين خير فيها بين أن يفعل، أو لا يفعل ويكفر، أما الأمر فإنه لم يخير المأمور بين الفعل وتركه. الدليل الرابع: أن المأمور يسمى ممتثلاً إذا فعل المأمور به في أي زمن، فتعيينكم الزمن الأول تحكم منكم لا دليل عليه. جوابه: إن قولنا: فعل المأمور به يجب أن يكون بعد صدور الأمر به مباشرة لم يكن بلا أدلة، بل بادلة من النقل والعقل وإجماع أهل اللغة واللسان كما سبق بيانه. المذهب الثالث: التوقف في ذلك حتى يقوم دليل يرجح المراد هل المقصود الفور، أو التأخير. وهو اختيار بعض الشافعية. دليل هذا المذهب: أن الأمر ورد استعماله في الفور مثل: الأمر بالإيمان، وورد استعماله في التراخي كالأمر بالحج، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فكان الأمر حقيقة في كل منهما على انفراد، فهو مشترك لفظي بين الفور والتراخي، فلا يفيد واحداً بخصوصه إلا بقرينة، فإن لم توجد القرينة على أحدهما بخصوصه توقف في فهم المراد منه حتى تقوم القرينة. جوابه: إن قولكم: " الأصل في الاستعمال الحقيقة " إنما يصح إذا كان اللفظ لا يتبادر منه عند الإطلاق معنى من معانيه، أما إذا كان اللفظ يتبادر منه معنى بخصوصه، فلا يقال ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1391 فلا يصح هذا القول فيما نحن فيه؛ لأن الأمر المطلق يتبادر منه عند الإطلاق خصوص الفور، فكان اللفظ حقيقة فيما يتبادر منه، مجازاً في غيره، والمجاز خير من الاشتراك اللفظي؛ وذلك لعدم احتياجه إلى تعدد في الوضع والقرائن كما سبق. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذا معنوي؛ حيث تأثر بسبب هذا الخلاف كثير من مسائل الفروع، ومنها: 1 - هل قضاء ما فات من رمضان يجب على الفور أو لا؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أن القضاء يجب على الفور، وإذا أخره بدون عذر يأثم، ولا يجوز فعل النوافل من الصيام حتى يؤدي ما عليه من أيام رمضان. القول الثاني: أن القضاء لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره بلا إثم، ويجوز فعل النوافل من الصيام وإن لم يقض ما عليه. 2 - هل يجب الحج فور استطاعة المسلم، أو يجوز تأخيره؛ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أن الحج واجب على الفور، فلا يجوز تأخيره، فإن أخره لغير عذر فقد أثم؛ لقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) ، والأمر للفور. القول الثاني: أن الحج يجوز تأخيره بغير عذر؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1392 3 - إذا بلغ المال النصاب، وحال عليه الحول، فهل يجب إخراج الزكاة على الفور أو لا؟ على قولين: القول الأول: أن الإخراج يجب على الفور، وإن أخر ذلك فهو آثم؛ لأن الأمر الوارد في قوله تعالى: (وآتوا الزكاة) للفور. القول الثاني: أن الإخراج لا يجب على الفور، بل يجوز تأخيره بدون إثم؛ لأن الأمر لا يقتضي الفور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1393 المطلب الرابع عشر هل يسقط الواجب المؤقت بفوات وقته؟ إذا أمر الشارع بالفعل في وقت معين، فخرج الوقت ولم يُفعل فهل يجب القضاء بأمر جديد، أو يجب القضاء بالأمر السابق؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الواجب المؤقت لا يسقط بفوات وقته، وعلى هذا: يكون القضاء يجب بالأمر السابق، ولا يحتاج إلى أمر جديد، فلو لم يصل الفجر في وقتها، وطلعت الشمس فإنه يقضيها بنفس الأمر الأول - وهو أمر الأداء -. وهذا هو مذهب كثير من الحنفية - كالبزدوي، والخبازي، والنسفي، واختاره القاضي عبد الجبار بن أحمد من المعتزلة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب كثير من الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وابن قدامة، والحلواني، وهو الحق عندي؛ لأن الأمر أثبت وجوب العبادة في ذمة المكلف، وكل ما ثبت وجوبه في الذمة، فلا يمكن أن تبرأ الذمة منه إلا بشيئين هما: أولهما: أن تؤدى تلك العبادة. ثانيهما: أن يبرئه من كان له حق عليه من الآدميين، فلا تسقط هذه العبادة إلا بأحد هذين الشيئين. وبخروج الوقت لم يحصل الأداء، ولا الإبراء، فلم يسقط الوجوب. فتكون الذمة مشغولة بهذا الوجوب، لا يزول هذا الشغل إلا بمزيل له، وهو أحد الشيئين السابقين فقط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1394 اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن الوجوب إنما ثبت بشرط الوقت، فإذا خرج الوقت سقط الوجوب؛ لأن شرطه قد زال. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الأمر قد اقتضى الوجوب، والوقت ظرف لإيقاع الفعل فيه، وبعدم الظرف لا يسقط الوجوب. الجواب الثاني: أنه قد ثبت الوجوب بشرط الوقت، ولم يسقط بفوات الوقت، فلو قال: " لله عليّ أن أتصدق يوم الجمعة بعشرة دراهم "، فلم يتصدق يوم الجمعة لم يسقط عنه النذر، وكان من الواجب - على زعمكم -: أن يسقطه؛ لأن شرطه قد فات، فهنا النذر يبقى في ذمته حتى يوفي به: خرج وقته أو لم يخرج. المذهب الثاني: أن الواجب المؤقت يسقط بفوات وقته، ويحتاج في القضاء إلى أمر جديد. أي: أن الأمر المؤقت إذا لم يفعله المكلَّف حتى خرج وقته، فإنه يحتاج في القضاء إلى أمر جديد. ذهب إلى ذلك جمهور العلماء من الحنفية، والمالكية، والشافعية وبعض الحنابلة كأبي الخطاب. والمراد بالأمر الجديد هو: دليل منفصل مثل الإجماع، أو خطاب جلي على وجوب فعل مثل الفائت خارج الوقت، أو قياس. وليس المراد: أنه يتجدد عند فوات كل واجب الأمر بالقضاء؛ لأن زمن الوحي قد انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1395 دليل هذا المذهب: قياس الزمان على المكان والأشخاص، بيان ذلك: أن اللَّه أمر بالحج إلى مكان مخصوص. فقد قيدت الأوامر بصفات معينة لا يجوز التساهل بها، فلو حج لغير مكة لما صح ذلك الحج. فكذلك الأمر بعبادة إذا علق في وقت معين معناه: تخصيص هذه العبادة بهذا الوقت، فمثلاً لا يجوز الصيام في غير رمضان ولا تجوز الصلاة بغير وقتها، قياسا على الأمكنة، والجامع: أن كلها قد قيدت المأمور بصفة معينة لا يجوز مخالفتها، ولا العدول عنها. فالعاري والمتجرد عن تلك الصفة لا يتناوله اللفظ، ولا يدخل في مفهومه، بل يبقى على ما كان قبل الأمر، فلو فات الوقت المحدد فإنه يسقط الواجب، ويحتاج إلى أمر جديد. جوابه: إن قياسكم الزمان على المكان قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، حيث إنه يوجد فرق بين تعلق الأمر بزمان، وبين فعله بمكان معين، والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن الزمان يتعلَّق بعضه ببعض، فالزمان الثاني تابع للأول، فالواجب الذي ثبت في الزمن الأول - إذا لم يفعل - فإنه ينسحب هذا الوجوب إلى الزمن الثاني، ثم الثالث وهكذا، ولا تبرأ ذمة المكلف منه إلا بأدائه ولو في آخر العمر. بخلاف المكان فإنه لا ينسحب إلى مكان آخر، وما يجوز فعله في مكان قد لا يجوز فعله في مكان آخر. الوجه الثاني: أن المكان لا يفوت، فأمكن الفعل فيه، فلا يعدل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1396 إلى غيره إلا أن تعذر الفعل فيه بأن صار لجة بحر، فيجوز الفعل في غيره. بخلاف الزمان، فإنه يفوت فوجب القضاء في غيره. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأنه يلزم على المذهب الأول: أن قضاء العبادة يجب بالدليل الذي وجب به أدائها، فيكون دليل القضاء هو نفسه دليل الأداء، فمن ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها يلزمه القضاء بالأمر الأول بالنص، فيكون الأمر الأول اشتمل على أمرين هما: " الفعل أداء "، والثاني: " الفعل قضاء إن فاته الأداء ". ويلزم على المذهب الثاني عدم جواز قضاء العبادة بالدليل الذي وجب به أدائها، واختلف هؤلاء - أعني أصحاب المذهب الثاني - فيمن ترك الصلاة عمداً حتى خرج وقتها هل يلزمه قضاؤها على قولين: القول الأول: أنه لا يلزمه قضاؤها؛ لأن القضاء يحتاج ويفتقر إلى أمر جديد، ولم يرد فيه شيء. القول الثاني: أنه يلزمه قضاء تلك الصلاة بعد خروج وقتها؛ لأنه ورد دليل على وجوب القضاء بأمر جديد، واختلف هؤلاء في تعيين هذا الأمر الجديد عنى رأيين هما: الرأي الأول: أن الأمر الجديد هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فدين اللَّه أحق بالقضاء". الرأي الثاني: أن الأمر الجديد قياس تارك الصلاة عمداً على النائم والناسي، لورود الأمر بوجوب القضاء عليهما، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها "، وتارك الصلاة مثله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1397 ْ المطلب الخامس عشر امتثال الأمر هل يحصل به الإجزاء ويسقط القضاء؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء، ويسقط القضاء. أي: أن الأمر يقتضي وقوع الإجزاء بفعل المأمور به إذا امتثل وفعل المأمور على الصفات والشروط التي أمر الشارع بها. فالمكلف إذا أتى بالمأمور به على الوجه المشروع يستلزم الإجزاء. وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الأصل براءة الذمة من جميع التكاليف، فإذا أمر المكلف بفعل شيء فإن ذمته تكون مشغولة بهذا المأمور به، أي: أن الأمر اقتضى الوجوب في الذمة، ولا يمكن أن تبرأ ذمته إلا بأحد طريقين: الأول: أداء وفعل المأمور به على الوجه المشروع. الثاني: إبراء المكلف مما عليه من الديون - مثلاً - وهذا خاص با لآدميين. فإذا كان المأمور به واجباً مما أوجبه اللَّه عليه: فلا تبرأ ذمته، ولا يخرج عن العهدة إلا بالإتيان به وفعله، فإذا فعله على الوجه المشروع تكون ذمته بذلك بريئة من هذا التكليف كما كانت في الأصل، فدل على أن امتثال الأمر يحصل به الإجزاء، وإسقاط القضاء، وإبراء الذمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1398 الدليل الثاني: أن المأمور بفعل شيء وفعله على الوجه المشروع إذا قيل له: " هل فعلت ما أمرت به؟ " حسن أن يقول: " نعم فعلت " ويكون خبره صدقا، فلو كان امتثال الأمر لا يحصل به الإجزاء وليس مسقطا للقضاء لكان خبره غير صدق. الدليل الثالث: أنه لو كان امتثال الأمر لا يحصل به الإجزاء ولا بسقط القضاء ولا يخرج عن العهدة: للزم من ذلك الامتثال طول عمرة: فمثلاً: لو قال: " صم " فامتثل المأمور وصام يوما واحداً - كما اقتضت صيغة الأمر:: فإنه - مع الامتثال - يجب القضاء؛ حيث إن الأمر لا زال متوجها إليه بصوم يوم كما كان متوجهاً إليه قبل الامتثال، فيكون فعل المأمور به لازما له طول عمره، وهذا خلاف ما أجمع عليه العلماء. المذهب الثاني: أن امتثال الأمر لا يمنع من وجوب القضاء، فامتثال الأمر لا يسقط القضاء. وهو مذهب بعض المعتزلة كالقاضي عبد الجبار بن أحمد، وأبي هاشم.. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: إن قولنا: " يجزئه " معناه: أنه لا يجب عليه القضاء، وقد علمنا أنه غير ممتنع أن يأمر الحكيم بفعل من الأفعال، ويقول: إذا فعلتموه فقد فعلتم الواجب، واستحققتم الثواب، وعليكم القضاء، وهناك أمثلة في الشرع تؤيد ذلك، ومنها: 1 - أن المسلم إذا فسد حجه فإنه مأمور بأن يكمله ويمضى فيه، مع أنه يجب عليه قضاؤه في السنة القادمة. 2 - أن المسلم قد أمر أن يصلي بغير طهارة إذا عدم الماء والتراب، ثم يجب قضاء تلك الصلاة إذا وجد الماء أو التراب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1399 3 - أن المسلم إذا ظن أنه على طهارة وهو في آخر الوقت، فإن الصلاة واجبة عليه، وهو مأمور بها، ومع ذلك فعليه قضاؤها إذا علم أنه كان على غير طهارة. 4 - أن المكلَّف مأمور بالإمساك في الصوم الفاسد كأن يصوم يوما على أنه من شعبان، فتبين أنه من رمضان، فهذا إذا صامه فإنه يؤجر عليه، ومع ذلك يجب قضاؤه. جوابه: إن المأمور إذا فعل المأمور به على الوجه الشرعي: فإن ذلك يمنع لزوم القضاء؛ لأن القضاء للعبادة المؤقتة هو: فعلها بعد خروج وقتها المحدد شرعاً، ويكون ذلك لأحد أمرين هما: 1 - إما لأن العبادة ما فعلت أصلاً. 2 - أو فعلت على وجه الفساد. وكل من الأمرين غير حاصل؛ لأن المأمور بالعبادة قد فعلها في وقتها بكمال شروطها على الوجه المشروع، فلم يُتصوَّر لزوم القضاء. أما إذا حصل أحد الأمرين فلا شك أنه يجب عليه القضاء، وإن كان فاعلاً له، فالحج الفاسد، والصوم الفاسد، والصلاة الفاسدة فلا نسلم أن القائم بها قد امتثل الأمر؛ لأنه لم يأت بها على ما اقتضاه الأمر؛ حيث إنه أوقعها فاسدة، فلم يأت بها على الوجه الشرعي، فيبقى التعبد الواجب بالأمر في ذمته، ولن تبرأ هذه الذمة من الأمر إلا إذا تدارك الخلل، وقضاها على الوجه المشروع. أما إذا أتى بالحج والصوم والصلاة كاملة ومستوفية لجميع شروطها فإن ذمته تبرأ بذلك الإتيان والامتثال، فلا يعقل مع ذلك إيجاب القضاء. - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1400 الدليل الثاني: أن القضاء يجب بأمر جديد - كما هو مذهب أكثر العلماء، كما قلنا سابقا - وإذا كان الأمر كذلك فلا دلالة للأمر على امتناع التكليف بمثل فعل ما أمر به، فلا يكون الأمر مقتضيا له. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن القضاء يجب بأمر جديد - كما هو مذهبنا كما سبق بيانه - حيث إننا قد صححنا: أن القضاء يجب بالأمر السابق، ولا يحتاج إلى أمر جديد. الجواب الثاني: إن سلمنا صحة أن القضاء يجب بأمر جديد، فإن القضاء إنما سمي بذلك، لأنا نقضي العبادة التي فات وقتها، ولم نفعلها، لذلك قلنا في حقيقة القضاء: " إنه فعل الشيء بعد خروج وقته شرعاً "، وقد سبق بيانه، وهذا هو الذي نتفق معكم على تسميته قضاء، فإن لم يكن كذلك فلا يمكن أن نسميه قضاء. أما إذا وقع الفعل صحيحا لا خلل فيه ثم فعل مرة أخرى، فلا يُسمى ذلك قضاء. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لأنه إن كان المراد لزوم الإتيان بمثله فهي مسألة: " الأمر المعلق يقتضي التكرار "، والخلاف فيها كما سبق، وعلى هذا فالأول يجزئ عن الآخر. وإن كان المراد: أن الفعل الأول فيه خلل ولم يقع الموقع فهو غير مجزئ، ويجب القضاء بالاتفاق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1401 المطلب السادس عشر الأمر بالأمر بالشيء هل يكون أمراً بذلك الشيء أو لا؟ ومثاله: لو قال زيد لبكر: " مر عمراً بأن يشتري لي كذا " فهل يكون زيداً آمراً عمراً بشراء تلك السلعة؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً به ما لم يدل عليه دليل، أي: أن الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال لا يكون أمراً لذلك الغير بذلك الأمر. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أنه لو كان الأمر بالأمر بالشيء أمراً لذلك الغير: لكان ذلك مقتضاه لغة، ولو كان كذلك: لكان أمره - صلى الله عليه وسلم - لأولياء الصبيان بقوله: " مروهم بالصلاة لسبع " أمراً للصبيان بالصلاة من الشارع، ولكن هذا ليس أمراً للصبيان من الشارع ولا إيجابا عليهم؛ لأن الأمر موجه نحو الأولياء؛ حيث إنه أمر تكليف، ولذلك يذم الولي بترك هذا الأمر شرعاً. وأيضا لو كان ذلك أمراً. للصبيان لكانوا مكلفين بأمر الشارع، وهذا غير متصور في حق الصبيان؛ لعدم فهمهم لخطاب الشارع، ولقوله عليه الصلاة والسلام: " رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ.. ". الدليل الثاني: أنه يحسن أن يقول شخص للولي - الذي يرى أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1402 لطفله على طفل غيره شيئاً -: " طالب بحقه "، ويقول للمدعي عليه - إذا عرف أنه لا شيء على طفله -: " لا تطعه ومانعه "، ولا يعد ذلك مناقضة في كلامه، ولو كان الأمر بالأمر بالشيء أمراً لذلك الغير لوقع التناقض. وكذلك يحسن أن يقول السيد لعبده سالم: " مر غانما بكذا "، ويقول لغانم: " لا تطعه "، ولا يعتبر ذلك مناقضة في كلامه، ولو كان ذلك أمراً لغانم لكان كانه قال: " أوجبت عليك طاعتي ولا تطعني " وهو ظاهر التناقض. المذهب الثاني: أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء من الآمر الأول. أي: أن الأمر المتعلق بأمر المكلف لغيره بفعل من الأفعال يكون أمراً لذلك الغير بذلك الفعل، وهو مذهب بعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن نافعا قد روى عن عبد اللَّه بن عمر أنه طلق امرأته وهي حائض، فسأل عمر النبي - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال له: " مره فليراجعها، ثم ليتركها حتى تطهر، ثم تحيض، ثم تطهر، ثم إن شاء أمسك بعد وإن شاء طلق قبل أن يمس، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء ". وجه الدلالة: أن العلماء أجمعوا على أن ذلك كان واجبا على ابن عمر مع أن الأمر ورد إليه من أبيه عمر الذي كان مأموراً من قبل الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فهذا يدل على أن الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء، وإلا: لما وجب على ابن عمر ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1403 جوابه: أن عمر وابنه - رضي اللَّه عنهما - قد فهما أن مقصود رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التبليغ لعبد اللَّه، لا أن أباه يأمر من عند نفسه، ولا نزاع أنه إذا فهم التبليغ أن الثاني يكون مأموراً بالأمر الأول. الدليل الثاني: أنا نقطع بأن اللَّه تعالى إذا أمر رسوله بأن يأمر الأُمَّة بشيء: أن الأُمَّة تكون مأمورة من اللَّه تعالى بذلك الشيء، وحيث ثبت القطع بهذا: كان الأمر بشيء أمراً بذلك الشيء من الآمر الأول. جوابه: إن القطع الذي قلتموه - هنا - لم يأت من خصوص الأمر، وإنما جاء من جهة العلم بأن الرسول مبلغ عن اللَّه أوامره، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - ليس آمراً، وإنما الآمر هو اللَّه تعالى. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن هذا الخلاف قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أن الرجل لو قال لابنه: قل لأمك: أنت طالق، فإن أراد التوكيل فهذا واضح؛ فتطلق؛ لأن الابن يعتبر وكيلاً لأبيه في طلاق أمه. أما إذا لم يرد شيئاً: فإنه يلزم على المذهب الأول - وهو: أن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء - فإنه لا يقع الطلاق. ويلزم على المذهب الثاني - وهو: أن الأمر بالأمر بالشيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1404 أمر بذلك الشيء - فإن الطلاق يقع؛ لأنه يكون كانه أمر بالطلاق فينفذ. 2 - لو قال زيد لبكر: مر عمراً أن يبيع هذه السلعة، ثم باعها الثالث - وهو عمرو - قبل إذن الثاني - وهو بكر - بأن سمع زيداً يقول ذلك - فهل هذا البيع صحيح؟ على المذهب الأول - وهو: أن الأمر بالأمر بالشيء ليس أمراً بذلك الشيء - لا يكون هذا البيع صحيحا. أما على المذهب الثاني - وهو: أن الأمر بالأمر بالشيء أمر بذلك الشيء - يكون هذا البيع صحيحا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1405 المطلب السابع عشر هل أمر النبي - صلى الله عليه وسلم - المطلق أمر لأمته وأمر الأمَّة المطلق هو أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الأمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - هو أمر لأمته، وأمر الأمة هو أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم -، وأمر واحد من الصحابة هو أمر لغيره، ولا يخرج أحد عن خطاب الآخر إلا بدليل. وهذا مذهب أكثر الحنفية، وأكثر المالكية، وأكثر الحنابلة، وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، وقال الإسنوي: " إنه ظاهر كلام الشافعي "، وهو الحق عندي، وللاستدلال على ذلك لا بد من ذكر حالات هذه المسألة الثلاث، وذكر أدلة كل حالة ليكون ذلك أوضح في ذهن طالب العلم فأقول: الحالة الأولى: إذا خاطب اللَّه تعالى نبينا - صلى الله عليه وسلم - بالأمر بفعل عبادة بلفظ ليس فيه تخصيص كقوله تعالى: (يا أيها المزمل قم الليل) ، و (يا أيها النبي اتق الله) ، و (يا أيها المدثر قم فأنذر) ، فإن أُمَّته تشاركه في حكم ذلك الأمر والفعل حتى يدل دليل على تخصيصه بذلك الحكم، ويدل على قولنا هذا ما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1406 وجه الدلالة: أنه لو كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - منفرداً بما يتوجه إليه من الأوامر الشرعية لما كان لتخصيصه بذلك اللفظ فائدة. أي: أن الأصل والقاعدة: دخول الأُمَّة في الخطابات الموجهة إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويدل على ذلك: أن الشارع إذا أراد تخصيصه بشيء فإنه يبين ذلك مثل هذه الآية، أما إذا لم يبين فالأمر يعمه ويعم جميع الأمة. الدليل الثاني: أن بعض الصحابة يسأل الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن الأمر فيجيب عن حال نفسه، وهذا يدل على أنه لا فرق بينه وبينهم، ومن ذلك: 1 - ما روته عائشة - رضي اللَّه عنها -: أن رجلاً سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم "، فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم -.: " وأنا تدركني الصلاة وأنا جنب فأصوم ". 2 - ما روته أم سلمة - رضي اللَّه عنها -: أن امرأة قبلها زوجها وهو صائم فأتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت له ذلك، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ألا فأخبريها أني أفعل ذلك ". فلو كان الحكم مختصا به لم يصلح فعله أن يكون جوابا لهم. الدليل الثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - إذا اختلفوا في حكم من الأحكام الشرعية، فإنهم يرجعون إلى أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - كرجوعهم إلى فعله في الغسل من التقاء الختانين من غير إنزال، ونحو ذلك. فلو كان مخصوصا بحكم الشريعة لما صح رجوعهم إلى فعله - صلى الله عليه وسلم -، فدل على مساواته بغيره في أحكام الشرع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1407 الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أشار إلى ذلك، حيث قال: " إنما أسهوا لأسن "، فخطابه لا يختص به. الحالة الثانية: إذا توجه الخطاب بالأمر إلى الصحابة - رضي الله عنهم - والأمة فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - يدخل فيه كقوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: "يا أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا " دلَّ على ذلك دليلان هما: الدليل الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أمر الصحابة بالفسخ، قالوا: أتامرنا بالفسخ وأنت لا تفسخ، فقال: " لو استقبلت من أمري ما استدبرت لجعلتها عمرة، ولحللت كما تحلون "، وفي رواية عن ابن عمر أنه قال: لما أمرنا رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن نحل بعمرة قلنا: فما يمنعك يا رسول اللَّه أن تحل معنا؛ قال: " إني هديت ولبدت، فلا أحل حتى أنحر هديي ". وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر عليهم سؤالهم، بل أقرهم عليه؛ لأنه يُعرف أن الصحابة أرادوا - بسؤالهم - أن يُفسر لهم انفراده عنهم بالحكم في هذه المرة، فلو لم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - داخلاً معهم في الخطابات الموجهة إليهم لما سألوه عن سبب عدم موافقته لهم، ولما أقرهم على ذلك، وبين لهم عذره وسبب عدم موافقته لهم في هذا الحكم الخاص. الدليل الثاني: قياس مشاركة الرسول - صلى الله عليه وسلم - للصحابة على مشاركتهم له، بيان ذلك: أنه ثبت بالأدلة أن الأُمَّة يشاركون النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحكم الذي وجه إليه - كما سبق في الحالة الأولى - فكذلك يقاس عليه: أنه يشارك أمته في الأحكام الموجهة إليهم ولا فرق؛ لأنه لو ثبت حكم في حق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1408 الصحابة انفردوا به دون - صلى الله عليه وسلم - للزم من ذلك أن يثبت حكم خاص به دون الصحابة، وقد ثبت بطلان الأخير - وهو ثبوت حكم خاص به دون الصحابة - بالأدلة السابقة، وإذا بطل هذا فقد بطل الأول - وهو ثبوت حكم في حق الصحابة انفردوا به دون النبي - صلى الله عليه وسلم -. وبذلك ثبت: أن الخطاب الموجه إلى - الصحابة يدخل فيه النبي - صلى الله عليه وسلم -. الحالة الثالثة: إذا توجه الأمر إلى واحد من الصحابة فإنه يدخل غيره من الصحابة في ذلك الأمر، ويشمملهم حكمه مثل: " رجم ماعز "، و " قطع يد سارق رداء صفوان بن أمية "، ودل على ذلك أدلة، ومنها: الدليل الأول: إجماع الصحابة في أحكام الحوادث؛ حيث إن الصحابة - بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - كانوا يرجعون إلى ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - على أعيان وأشخاص منهم، فيأخذون تلك الأحكام المعينة ويعممونها له ولهم كرجوعهم في حد الزاني إلى قصة ماعز، وفي دية الجنين إلى حديث حمل بن مالك، وفي المفوضة إلى قصة بروع بنت واشق، وفي السكنى والنفقة إلى حديث فاطمة بنت قيس، ونحو ذلك، ولم يقل أحد من الصحابة: إن كل حكم خاص بمن خوطب به - فقط -؛ إذ لو كان لنقل، ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فكان ذلك إجماعا منهم على تساوي الجميع في تلك الأحكام. الدليل الثاني: أن قول الصحابي: " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة " أمر يعم الصحابي الذي رآهَ النبي - صلى الله عليه وسلم - يبيع بالمزابنة، ويعم غيره، وهذا بإجماع الصحابة؛ حيث احتجوا بهذا على تحريم بيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1409 المزابنة، فلو كان الحكم مختصا بمن خوطب به فقط لما كان ذلك عاما لجميع الصحابة، ومن بعدهم إلى قيام الساعة. الدليل الثالث: أنه لو كان الحكم يختص بمن خوطب به من الصحابة فقط، دون غيره من الصحابة: لكان ذلك أصلاً يعرفه كل صحابي، وبناء عليه: لا يحتاج إلى أن - صلى الله عليه وسلم - يخاطب بعض الصحابة ويخصصه بالخطاب، ويبين ذلك باللفظ مثل قوله لأبي بردة في الجذع من الماعز: " يجزيك، ولا يجزي عن أحد بعدك "، فلو كان الصحابي يختص بما خوطب به لما كان لقوله: " ولا يجزي لأحد بعدك " فائدة. الدليل الرابع: قياس هذا على الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة، بيانه: أن الألفاظ الواردة في الكتاب والسُّنَّة من أوامر ونواهي إنما خوطب بها أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأجمع العلماء على أن كل خطاب موجه إلى الصحابة فهو موجه إلى غيرهم في جميع العصور إلى قيام الساعة، وإذا كان الأمر كذلك فمن باب أوْلى أن يكون الخطاب الموجه إلى واحد من الصحابة يدخل فيه غيره من الصحابة. المذهب الثاني: أنه إذا توجه الأمر إلى واحد - مما ورد في تلك الحالات - لم يدخل غيره فيه بإطلاقه، أي: أن الحكم يختص بمن توجه إليه الأمر، ولا يدخل غيره فيه إلا بدليل يوجب التعميم. وهو مذهب أكثر الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي الحسن التميمي، وأبي الخطاب. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس المتعبِّد على العبادة، بيان ذلك: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1410 أنه لو ورد الأمر بعبادة لم يتناول هذا الأمر بمطلقه عبادة أخرى، فكذلك إذا توجه الأمر إلى شخص متعبَّد لم يدخل فيه متعبَّد آخر؛ لأن الأمر يتناول العبادة والمتعبَّد بها، فكما لا يتعدى أحدهما لا يتعدى الآخر. جوابه: إن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الله تعالى إذا أمر بعبادة، فإنه أراد أن تقام تلك العبادة بذاتها؛ لمصلحة يعلمها، بخلاف المتعبَّد فإنه سبحانه إذا أمره بأن يفعل شيئا فإنه لا يقصده هو بالذات، ولكن يقصد جميع المكلَّفين، إذا لم يوجد دليل يخصصه؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - مبعوث إلى الناس كافة، دون تخصيص بعض الأفراد دون بعض. الدليل الثاني: قياس لفظ الخصوص على لفظ العموم، بيانه: أن لفظ الخصوص ضد لفظ العموم، ثم إن لفظ العموم لا يُحمل على الخصوص بمطلقه، فكذلك لفظ الخصوص لا يحمل على العموم والاستغراق بمطلقه. جوابه: إن هذا - أيضا - قياس فاسد -؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الخطاب وإن وجه إلى شخص فإنه يعم جميع الأشخاص؛ بناء على أن الشريعة عامة وشاملة لجميع المكلَّفين؛ حيث قال تعالى: (وما أرسلناك إلا كافة للناس) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت إلى الأحمر والأسود ". وأما لفظ العموم إذا ورد فإنه جاء على أصله، فلا يصرف عن هذا الأصل إلا بدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1411 الدليل الثالث: قياس كلام الشارع على كلام المكلَّفين، بيانه: أنه لا خلاف بين أهل اللغة: أن السيد إذا قال لعبد واحد من عبيده: " افعل كذا وكذا " لم يدخل بقية عبيده في ذلك الأمر، فكذلك إذا أمر اللَّه نبيه بأمر لم تدخل فيه الأُمَّة، وكذلك الأمر للصحابي الواحد لا يعم غيره من الصحابة. جوابه: إن هذا - أيضا - قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن لفظ صاحب الشرع أدل على العموم من لفظ غيره بدليل: أنه لو قال اللَّه تعالى لنبيه، أو قال - صلى الله عليه وسلم - لبعض أُمته: "صم " لأنك صليت " دخل في ذلك كل مصل؛ اعتباراً بتعليله، أما لو قال السيد لواحد من عبيده: " اسقني ماء؛ لأنك صليت " لم يدخل غيره من عبيده المصلين في ذلك، ولو قال: " والله لا آكل السكر؛ لأنه حلو " لم يدخل في يمينه غيره من الحلويات، فكلام الشارع يختلف عن كلام المكلَّفين. بيان نوع الخلاف: لقد اختلف في الخلاف هنا هل هو معنوي أو لفظي على قولين: القول الأول: إن الخلاف معنوي. وهو الحق؛ لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الخطابات الموجهة إلى الأُمَّة، ودخول الأُمَّة في الخطابات الموجهة إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ودخول بقية الصحابة في الخطاب الموجه إلى فرد منهم: ثبت عن طريق اللفظ والنص، ولا يخرج كل واحد من هؤلاء عن خطاب الآخر إلا بدليل خارجي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1412 أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن كل خطاب مختص بمن وجه إليه ولا يدخل غيره إلا بدليل كقياس غير المخاطب على المخاطب. فعلى المذهب الأول: يكون دخول غير المخاطب عن طريق عموم اللفظ والنص. وعلى المذهب الثاني: يكون دخول غير المخاطب عن طريق القياس. والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس من وجهين: الوجه الأؤل: أن الحكم الثابت عن طريق عموم اللفظ والنص أقوى من الحكم الثابت عن طريق القياس. الوجه الثاني: أن الحكم الثابت عن طريق عموم اللفظ والنص ينسخ وينسخ به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ ولا ينسخ به؛ لأنه ثبت عن طريق الاجتهاد، والنسخ خاص بالنصوص. القول الثاني: إن الخلاف لفظي، وهو ما أشار إليه إمام الحرمين. دليل هذا القول: أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على أن الناس سواء في الشرع، ولا فرق بين المخاطب وغير المخاطب إذا كان صالحاً له. واتفقوا - أيضاً - على أن الخطاب الموجه إلى الواحد خاص به عن طريق اللغة وااللسان. فإذا كان هذا متفقا عليه فلا خلاف في المعنى، بل في اللفظ. - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1413 جوابه: إن جميع أصحاب المذهبين قالوا: إن غير المخاطب يدخل في الحكم الخاص، وهذا متفق عليه بشرط صلاحيته له. لكنهم اختلفوا هل هذا الدخول ثبت عن طريق عموم اللفظ والنص أو قياس غير المخاطب على المخاطب. فأصحاب المذهب الأول يقولون: إن دخول غير المخاطب ثبت عن طريق اللفظ والنص، وأصحاب المذهب الثاني يقولون: إن دخول غير المخاطب ثبت عن طريق القياس، وفرق بينهما كما بينا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1414 المطلب الثامن عشر تعلق الأمر بالمعدوم اتفق العلماء على أن المعدوم لا يطلب منه إيقاع المأمور به حال عدمه؛ لأن هذا محال، فلا يتعلق به الأمر ما دام معدوما تعلقا تنجيزيا. واتفقوا - أيضا - على أن المعدوم إذا وجد وهو مستكمل لشرائط التكليف، فإنه يطلب منه إيقاع المأمور به، وأنه يتوجه إليه الخطاب، فيتعلق الأمر به. ولكنهم اختلفوا في تعلق الأمر بالمعدوم الذي علم اللَّه - تعالى - أنه سيوجده مستكملاً لشرائط التكليف على مذهبين: المذهب الأول: الأمر يتعلَّق بالمعدوم على تقدير وجوده، ووجود شروط التكليف فيه، فالأمر يتناول المعدومين الذين علم اللَّه تعالى أنهم سيوجدون على صفة التكليف. وهذا مذهب أكثر المالكية، وأكثر الشافعية، وأكثر الحنابلة، وكثير من الحنفية، ونسبه بعضهم إلى جمهور العلماء. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: إجماع الصحابة والتابعين على أن الأمر متعلق بالمعدوم، بيانه: أن جميع الصحابة والتابعين كانوا يأخذون بأوامر اللَّه وأوامر رسوله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1415 ويطبقونها على من لم يوجد في زمان نزول تلك الأوامر، ولم يحدث أن واحداً امتنع من ذلك التطبيق؛ إذ لو حدث لنقل، ووصلنا، ولكن لم يكن شيء من ذلك، فصار إجماعا منهم على أن الأوامر الشرعية تتناول من كان معدوما حال الخطاب بالأمر. الدليل الثاني: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) . وجه الدلالة: أنه لا خلاف أنه أريد بذلك جميع أُمَّته، فقد خاطبهم وهم معدومين. الدليل الثالث: قوله تعالى: (لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ) . وجه الدلالة: أن المعدوم قد بلغه الأمر إذا وجد، فدل على أن الأمر يتعلق بالمعدوم. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أمرنا باتباع النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا خلاف في أنا مأمورون باتباعه، ولم نكن حين نزول الآية موجودين، ومع ذلك فقد توجه الأمر إلينا بالتكليف، ومن لم يتبع الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقد كفر؛ لأن مخالفة الرسول - صلى الله عليه وسلم - هي مخالفة لله، ومخالفة اللَّه كفر. تنبيه: اختلف أصحاب هذا المذهب - وهم القائلون: إن الأمر متعلق بالمعدوم - فيما بينهم - هل الأمر أمر إعلام، أو إلزام على أقوال ثلاثة: القول الأول: الأمر المتعلق بالمعدوم أمر إعلام، وليس أمر إلزام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1416 القول الثاني: إن المعدوم ليس مأموراً مباشرة، وإنما يتناوله تبعا. القول الثالث: إن الأمر المتعلق بالمعدوم أمر إلزام، وهو الحق عندي؛ لأن أوامر الشرع في موضوعها ملزمة لا معلمة من غير إلزام، وليست مجرد تابعة. المذهب الثاني: أن الأمر لا يتعلق بالمعدومين، ولا يتناولهم، وإنما يختص بالموجودين فقط. وهو مذهب بعض الحنفية كالجصاص، وأكثر المعتزلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المعدوم لا يُعتبر شيئاً، فأمره هذيان وعبث لا فائدة فيه. جوابه: إن المعدوم يتعلق به الأمر بشرط: أن يكون في العلم أنه يوجد، وهذا غير محال. وأيضا فإن من عادة الناس أن يوصلوا إلى من يحدث من أولادهم بالنظر إلى وقوفهم، وصرفها في وجوه يعينها الواقف، وإن كان هؤلاء الأولاد في حال الوصاية معدومين، فهذا لا يمكن أن يكون هذيانا وعبثا. فالأمر تعلق بمأمور وجد في الثاني كما تعلقت الوصية بمن يحدث في الثاني. الدليل الثاني: قياس الأمر مع المأمور على القدرة مع المقدور، بيانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1417 أنه إذا كانت القدرة لا يمكن أن تكون مع عدم المقدور، فكذلك الأمر لا يمكن أن يكون مع عدم المأمور. جوابه: إن هذا القياس فاسد؛ لأنا لا نُسَلِّمُ الأصل المقاس عليه؛ حيث إن اللَّه سبحانه يوصف بأنه قادر قبل وجود المقدور، واذا بطل الأصل فإنه يبطل الفرع المقاس عليه، فيبطل دليلكم. الدليل الثالث: أن المعدوم يستحيل خطابه، وهو: توجيه الكلام إليه بحيث يفهم ذلك الكلام ويسمعه، فإذا استحالت مخاطبته: استحال أن يكلف بامتثال الأمر وفعله. جوابه: إنا لما قلنا: إن الأمر يتعلق بالمعدوم: لم نقل ذلك مطلقا، بل بشرطين هما: " أن يوجد "، و " أن يكون قد استكمل شروط التكليف " فخطابه بإيجاد الفعل حال عدمه مستحيل، أما توجيه ْالأمر إليه بشرط الوجود فلا يكون مستحيلاً؛ لأنه يفعل في حال وجوده ما أمر به سابقا، وعلى هذا يصح أن يكون مأموراً. يدل على ذلك: أن الولد يصير مكلفا بوصية والده الذي لم يراه، وملزما بها حتى إنه يوصف بالطاعة بالامتثال، ويوصف بالعصيان بالمخالفة. الدليل الرابع: قياساً المعدوم على الصبي والمجنون، بيانه: أنه اتفق على عدم تعلق الأمر بالصبي والمجنون مع وجودهما، فمن باب أوْلى: أن لا يتعلق الأمر بالمعدوم، والجامع: عدم فهم الخطاب، وعدم معرفة الأمر والمأمور به، وأنه لا يقع منهم فعل صحيح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1418 جوابه: أنا قلنا: إنه يصح أن يؤمر المعدوم بشرط أن يزول العدم، مثل: الصبي والمجنون، فإنهما مأموران بشرط البلوغ والعقل. اعتراض على هذا الجواب: قال قائل - معترضاً -: هذا الجواب مخالف للنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن المجنون حتى يفيق ... "، فكيف تزعم أن الصبي والمجنون مأموران مع أنهما قد رفع القلم عنهما بالنص؟! جوابه: إنه ليس المراد برفع القلم - في هذا الحديث - هو أنه لا يتوجه إلى الصبي والمجنون أي أمر، بل المراد برفع القلم - هنا - هو: رفع المأثم، ورفع الإيجاب المضيق. أي: أن الصبي والمجنون - في حال الصبا والجنون - لا يأثمان إذا تركا ذلك الأمر، وأن هذا الأمر المتوجه إليهما لا يراد منه التضييق عليهما بالتنفيذ فوراً، وإنما يوجه الأمر الآن، وامتثاله يكون بعد البلوغ والإفاقة. يدل على ذلك: أنه قرن معهما النائم، فالنائم يتوجه إليه الأمر حال نومه، ولكن الامتثال يكون بعد استيقاظه، فكذلك الصبي والجنون مثله. بيان نوع الخلاف: قد يبدو أن الخلاف لفظي لاتفاق أصحاب المذهبين على أن المعدوم مكلَّف إذا وجد وهو مستكمل لشروط التكليف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1419 ولكن الحق أن الخلاف معنوي؛ لأمرين: أولهما: أن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن الأمر للمعدومين ثبت عن طريق النص واللفظ. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا أن الأمر للمعدومين ثبت عن طريق القياس. وفرَّق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس من وجهين ذكرناهما فيما سبق. ثانيهما: أن السيد لو خاطب عبيده قائلاً: " ليقف كل واحد منكم ساعة "، ثم اشترى عبداً جديداً فهل يدخل في ذلك؟ أصحاب المذهب الأول يقولون: نعم يدخل معهم بالنص. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يقولون: إنه لا يدخل معهم إلا بدليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1420 المطلب التاسع عشر هل يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّف لا يتمكن من فعله؟ مثل: إذا أمر اللَّه تعالى عبده بالحج هذا العام، وهو يعلم أن هذا المأمور يموت في شوال - أي قبل الحج - فهل يجوز ذلك؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّف لا يتمكن من فعل المأمور به. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن الأمَّة مجمعة على أن الصبي إذا بلغ فإنه يجب عليه أن يعلم ويعتقد كونه مأموراً بشرائع الإسلام منهياً عن الزنا والسرقة والقتل في الحال، فإذا عزم على فعل المأمور بها، وعزم على ترك المنهي عنها: يكون مثابا على ذلك متقربا إلى اللَّه بذلك، وإن لم يحضره وقت صلاة أو زكاة، ولا حضر من يمكن قتله، أو الزنا بها، أو مال تمكن سرقته، ولكن يعلم نفسه أنه مأمور ومنهي بشرط التمكن؛ لأنه جاهل بعواتب أمره، وعلمه بأن اللَّه - تعالى - عالم بعاقبة أمره، وأنه لا يتمكن من فعل المأمور به لا يدفع عنه وجوب هذا الاعتقاد. المذهب الثاني: لا يجوز الأمر من الله - تعالى - بما يعلم أن المكفَف لا يتمكن من فعل المأمور به. وهو مذهب المعتزلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1421 دليل هذا المذهب: أن الأمر إذا قيد بشرط يؤدي إلى أن يكون وجود الشيء مشروطا بما يوجد بعده، وهذا ممتنع، أي: يمتنع تعليق الأمر بشرط مستقبل؛ لأن الشرط لا بد أن يكون حاصلاً مع المشروط، أو قبله. جوابه: إن هذا ليس شرطاً لوجود ذات الأمر، وقيامه بذات الأمر، بل الأمر موجود قائم بذات الأمر سواء وجد الشرط، أو لم يوجد، وإنما هو شرط لكون الأمر لازما واجب التنفيذ، وليس ذلك من شرط كونه موجوداً. ولهذا قلنا: إن الأمر أمر للمعدوم بتقدير الوجود، وإن لم يبلغه بشرط بلوغه، فليس البلوغ شرطا لقيام نفس الأمر بذات الأمر، بل البلوغ شرط لزوم التنفيذ. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - لو قال: " إن شرعت في الصوم فزوجتي طالق "، ثم شرع ومات في أثناء صوم أول يوم، فإنه بناء على المذهب الأول يلزمه الطلاق؛ لأن هذا صوم في الحال، وتمام ذلك مقيد بالشرط. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يلزمه الطلاق؛ لأن بعض الصوم ليس بصوم، والفاسد لا يحسب شيئاً. 2 - لو علمت المرأة بالعادة أنها تحيض في أثناء يوم من رمضان فإنه يلؤمها الصوم، ويجب عليها الشروع في ذلك اليوم الذي علم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1422 الله أنها تحيض فيه؛ لأن المرخص في الإفطار لم يوجد، والأمر لا زال قائماً، هذا على المذهب الأول. أما على المذهب الثاني: فإنه لا يلزمها أن تصوم ذلك اليوم؛ لأن بعض اليوم غير مأمور بصيامه. فوائد جواز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن - المكلف لا يتمكن من فعل المأمور به: قد يقول قائل: أنتم قلتم: يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّف لا يتمكن من فعل المأمور به، فما فائدة ذلك؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن في ذلك فوائد، ومنها: 1 - أن فيه استصلاحا لحاله يدعوه إلى فعل الطاعات، ويزجره عن فعل المعاصي. 2 - أن فيه إصلاحا لغير المأمور بحثٍّ أو زجر. 3 - أن في هذا امتحانا وابتلاء للمأمور ليشتغل بالاستعداد فيثاب على العزم على امتثال الأمر، ويعاقب على العزم على الترك. وهذه الفوائد هي نفس فوائد مسألة: " جواز النسخ قبل التمكن من الفعل " التي سبقت في باب النسخ؛ لأن هذه المسألة فرع عن تلك، فكما قلنا: ْ يجوز النسخ قبل التمكن من الفعل، فكذلك يقال: يجوز الأمر من اللَّه تعالى بما يعلم أن المكلَّف لا يتمكن من فعله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1423 المبحث الثاني في النهي ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف النهي. المطلب الثاني: هل للنهي صيغة موضوعة في اللغة؟ المطلب الثالث: في ما تستعمل فيه صيغة " لا تفعل ". المطلب الرابع: فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل " حقيقة إذا تجردت عن القرائن. المطلب الخامس: إذا ورد النهي بعد الأمر فماذا يقتضي؟ المطلب السادس: هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار؟ المطلب السابع: أحوال المنهي عنه. المطلب الثامن: هل النهي عن الشيء أمر بضده؟ المطلب التاسع: هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1425 المطلب الأول في تعريف النهي أولاً: النهي لغة: المنع، ومنه سميت العقول نهى كقوله تعالى: (لِأُولِي النُّهَى) ، وذلك لأن العقل ينهى صاحبه عن الوقوع فيما يخالف الصواب. ثانيا: النهي في الاصطلاح هو: استدعاء ترك الفعل بالقول على جهة الاستعلاء. شرح التعريف: تولنا: " استدعاء " المراد به: الطلب، والطلب جنس يشمل: لا طلب الفعل وهو الأمر "، و " طلب الترك وهو النهي ". وقولنا: " ترك الفعل " أخرج الأمر؛ لأنه استدعاء الفعل كما سبق. وقولنا: " بالقول " أخرج الترك بالفعل كأن يُقيِّد عبده، ويمنعه عما يريد، والمقصود بهذا القول: " صيغة النهي وهي: لا تفعل " وليس المقصود أي شيء يدل على الكف مثل: " كف "، و " ذر "، و" دع "، و " اترك "، فإن هذه الألفاظ وإن كان مدلولها الترك إلا أنها ليست نواهي؛ لأن الترك قد دلَّ عليه بلفظ " الكف " ونحوه، والنهي لا بد فيه من أن يدل على الترك لفظ غير الكف مثل: " لا لفعل ". وقولنا: " على جهة الاستعلاء " أخرج صيغة النهي إذا صدرت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1427 من المساوي مثل قول المساوي للمساوي: " لا تضرب فلانا "، ويسمى شفاعة والتماساً. وهذا اللفظ أخرج - أيضاً - صيغة النهي إذا صدرت من الأدنى مثل قوله تعالى: (ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطانا) ويسمى دعاء. وقلنا: ينبغي أن تكون صيغة النهي واردة على جهة الاستعلاء؛ لأن الأقل رتبة لو قال لمن هو أعلى رتبة: " لا تفعل " على وجه الاستعلاء يقال له: إنه " نهاه "، ولذلك يوصف بالجهل والحمق بسبب نهيه لمن هو أعلى منه رتبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1428 المطلب الثاني هل للنهي صيغة موضوعة في اللغة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النهي له صيغة موضوعة في اللغة تدل بمجردها عليه، وهي: " لا تفعل ". وهو مذهب كثير من العلماء وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: إجماع أهل اللغة على أن للنهي صيغة وهي: " لا تفعل "، بيانه: أن السيد لو قال لعبده: " لا تدخل هذه الدار "، فإنه يعقل منه كفه عن الدخول، وإذا دخلها فإنه يستحق العقوبة، ولو رآه العقلاء من أهل اللغة وهو يعاقبه، وسألوه عن سبب معاقبته وقال: إني أعاقبه؛ لأنه عصاني: فقد نهيته عن دخول الدار بقولي: " لا تدخل هذه الدار " فدخلها: لوافقوه على أن العبد قد استحق تلك العقوبة، دون منكر لذلك، فكان هذا إجماعا منهم على أن ذلك اللفظ وضمع للنهي. الدليل الثاني: أن أهل اللغة قد قسموا الكلام إلى: " أمر "، و"نهي "، و " خبر "، و " استخبار "، وجعلوا للأمر: " افعل "، وجعلوا للنهي: " لا تفعل "، وللخبر: " قد فعلت "، وللاستخبار " هل فعلت؟ ". المذهب الثاني: أنه لا صيغة للنهي في اللغة، وإنما صيغة " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1429 " لا تفعل " مشتركة بين الأمر وغيره، ولا يحمل على أحدهما إلا بقرينة. وهو مذهب أكثر الأشاعرة؛ بناء على مذهبهم الفاسد: " إن الكلام معنى قائم في النفس " كما قالوا في الأمر. دليل هذا المذهب: أن هذه الصيغة ترد والمراد بها الكف عن الفعل، وترد والمراد بها الدعاء كقوله: (ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) ، وترد والمراد بها الإرشاد كقوله تعالى: (لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم) وترد والمراد بها غير ذلك، وليس أحد هذه المعاني بأوْلى من الأخرى ولا يجوز ترجيح أحدها بلا مرجح، فوجب التوقف فيها حتى يرد دليل يبين المراد كاللفظ المشترك. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه إذا وردت صيغة: " لا تفعل "، وهي مجردة عن القرائن فلا يفهم منها إلا الكف عن الفعل، ولا نحمله على غيره من المعاني إلا بقرينة من شاهد الحال وغيره، فهي تكون حقيقة في الاستدعاء وطلب الترك مجازاً في غيره، كلفظ " الأسد " المطلق فهو حقيقة في الحيوان المفترس، ولا يحمل على الرجل الشجاع إلا بقرينة. الجواب الثاني: إنكم قستم صيغة: " لا تفعل " على اللفظ المشترك وهذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن اللفظ المشترك كالعين لا يفهم منه معنى معين، أما صيغة: " لا تفعل " فإنه يفهم منها معنى معين وهو: طلب الترك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1430 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ فأصحاب المذهب الأول يجعلون صيغة: " لا تفعل " من باب الظاهر؛ حيث إن لها معنيان: " معنى راجح وهو طلب الترك "، و " معنى مرجوح وهو عدم إفادتها لذلك "، فرجحوا إفادتها لطلب الترك وعملوا على ذلك بدون قرينة. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم جعلوا صيغة: " لا تفعل " من باب المجمل، وهو الذي لا معنى له راجح، ويترتب على ذلك: عدم العمل بصيغة: " افعل " إلا بقرينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1431 المطلب الثالث في ما تستعمل فيه صيغة " لا تفعل " صيغة النهي وهي: " لا تفعل " تستعمل لمعان كثيرة هي كما يلي: الأول: التحريم كقوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله) . الثاني: الكراهة كقوله تعالى: (وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ) . الثالث: الإرشاد كقوله تعالى: (لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ) . الرابع: الدعاء كقول تعالى: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا) . الخامس: التقليل والاحتقار كقوله تعالى: (لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم) ، فهو قليل وحقير، بخلاف ما عند اللَّه. السادس: بيان العاقبة: (وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) : أن عاقبة الجهاد: هي الحياة الأخروية السعيدة. السابع: التسكين والتصبر كقوله تعالى: (لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) . الثامن: الشفقة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تتخذوا الدواب كراسي ". التاسع: اليأس كقوله تعالى: (يا أيها الذين كفروا لا تعتذروا اليوم) . العاشر: الالتماس كقوله لمن هو في مرتبتك: " لا تضرب فلانا ". الحادي عشر: التهديد كقول السيد لعبده: " لا تفعل اليوم شيئاً ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1432 المطلب الرابع فيما تقتضيه صيغة النهي وهي: " لا تفعل " حقيقة إذا تجردت عن القرائن اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن صيغة النهي - وهي: " لا تفعل " - تقتضي التحريم حقيقة، ولا يحمل على غيره من المعاني السابقة إلا بقرينة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - والتابعين؛ حيث إنهم كانوا يستدلون على تحريم الشيء بصيغة النهي - وهي: "لا تفعل " - فيقولون: الزنا محرم؛ لقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) ، والقتل محرم ل قوله تعالى: (ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق) ، والربا حرام لقوله تعالى: (ولا تأكلوا الربا) ، ونحو ذلك، فهم كانوا ينتهون عن ذلك بمجرد سماعهم لتلك الصيغة، ويعاقبون من يفعل المنهي عنه، واستدلالهم على التحريم، وانتهائهم عن المنهي عنه، ومعاقبتهم لمن يفعل المنهي عنه دليل واضح على أن الصيغة حقيقة في التحريم، فإذا استعملت في غيره كان ذلك مجازاً. الدليل الثاني: إجماع أهل اللغة واللسان، بيان ذلك: أن السيد إذا قال لعبده: " لا تخرج من الدار " فخرج، ثم عاقبه على خروجه، فإن العقلاء من أهل اللغة لا ينكرون على السيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1433 معاقبة عبده، فلو لم تكن صيغة " لا تفعل " تقتضي التحريم لما استحق العقوبة بمخالفتها. المذهب الثاني: أن صيغة النهي - وهي: " لا تفعل " تقتضي الكراهة التنزيهية، ولا يحمل على التحريم ولا على غيره إلا بقرينة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن صيغة النهي وهي: " لا تفعل " ترد والمراد بها التحريم، وترد والمراد بها الكراهة التنزيهية، والتحريم: طلب الترك والمنع من الفعل، والكراهة: طلب الترك مع عدم المنع من الفعل، فاشتركا في شيء واحد وهو: طلبط الترك، فنحمله عليه؛ لأنه هو المتيقن، أما المنع من الفعل - وهو التحريم "، فهو شيء زائد يحتاج إلى دليل. جوابه: هذا الدليل يفيد أنكم تطالبوننا بإثبات دليل على أنه يقتضي التحريم - وهو المنع من الفعل - والمطالبة بالدليل ليس بدليل. وإن سلمنا أن المطالبة بالدليل دليل، فإنا قد بينا أن مقتضى صيغة النهي التحريم بدليلين قد سبق ذكرهما، ولهذا كان المخالف لهذه الصيغة يستحق العقوبة، فلو كان النهي للتنزيه لما استحق مخالفها للعقوبة. المذهب الثالث: التوقف حتى يرد دليل يبين المراد من تلك الصيغة. وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن كون صيغة: " لا تفعل " موضوعة للتحريم، أو الكراهة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1434 التنزيهية إنما يعلم بدليل، ولم يثبت دليل من العقل، ولا من النقل على أحدهما، فيجب التوقف. جوابه: إن كان توقفكم جاء بسبب عدم ثبوت دليل على أن المراد بها التحريم أو الكراهة، فهو باطل؛ لأنا قد أثبتنا أدلة من إجماع الصحابة، وإجماع أهل اللغة على أن صيغة " لا تفعل " للتحريم حقيقة. وإن كان توقفكم جاء بسبب تعارض أدلة المثبتين للتحريم، وأدلة المثبتين للكراهة، وأنه لا مرجح لأحدهما على الآخر، فهذا باطل - أيضا -؛ لأن الدليل المثبت للتحريم أرجح من الدليل المثبت للكراهة، فيجب العمل به، والقول بالتحريم؛ لأن العمل بالراجح واجب، فيكون التوقف فيه مخالفة لهذا الدليل، وهذا لا يجوز. وإن كان توقفكم جاء بسبب: أن الصيغة لا تفيد شيئاً، فهذا باطل - أيضا - لأنه يلزم منه تسفيه واضع اللغة، وإخلاء الوضع عن الفائدة بمجرده. المذهب الرابع: أن صيغة " لا تفعل " لفظ مشترك بين التحريم والكراهة، فهي موضوعة لكل منهما بوضع مستقل، وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن صيغة " لا تفعل " قد استعملت في التحريم، والكراهة، والأصل في الاستعمال الحقيقة، فكان اللفظ حقيقة في كل منهما. جوابه: إن الاشتراك اللفظي ينقدح إذا كان اللفظ - وهو: " لا تفعل " الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1435 متردداً بين التحريم والكراهة على السواء، ولا يتبادر منه واحد منهما بخصوصه عند الإطلاق، وهذا لم يحصل؛ لأن اللفظ عند إطلاقه يتبادر منه التحريم، فيكون حقيقة فيه؛ لأن الحقيقة هي التي تتبادر في الذهن وتسبق إليه. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي وهو ظاهر. فأصحاب المذهب الأول يقولون: إن الوعيد على فعل المنهي عنه مستفاد من نفس صيغة " لا تفعل "، فيعاقب على فعل المنهي عنه بدون قرائن. أما أصحاب المذهب الثاني، والثالث، والرابع، فإنهم يقولون: إن الوعيد على فعل المنهي عنه لا يستفاد من نفس الصيغة وهي: " لا تفعل "، وإنما هو مستفاد من قرائن احتفت بالصيغة، فلا يجوز للناهي أن يعاقب المنهي على فعل الشيء المنهي عنه إلا بدليل وقرينة. فمثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ولا يبع بعضكم على بيع بعض "، فإن النهي هنا للتحريم ابتداء عند أصحاب المذهب الأول، ولا يصرف عنه إلى غيره إلا بقرينة. ويكون النهي للكراهة ابتداء عند أصحاب المذهب الثاني، ولا يصرف عنه إلى غيره إلا بقرينة. وكان عند بقية المذاهب مجملاً لا يحمل على التحريم ولا على الكراهة إلا بقرينة. وكذلك قوله تعالى: (ولا يغتب بعضكم بعضا) تقول فيه كما سبق، وقل ذلك في كل نهي ورد مطلقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1436 المطلب الخامس إذا ورد النهي بعد الأمر فماذا يقتضي؟ لقد سبق في مبحث الأمر أن قلنا: إن الأمر إذا ورد بعد النهي فقد اختلف فيه هل يقتضي الإباحة أو يقتضي الوجوب. ولكن هنا عكس المسألة السابقة، والكلام عنها يحتاج إلى تفصيل هوكما يلي: القائلون بأن صيغة الأمر بعد النهي للوجوب اتفقوا على أن النهي بعد الأمر للتحريم؛ لأن النهي يقتضي التحريم كما سبق بيانه، فوروده بعد الأمر لا يمنعه من إفادته للتحريم، فيجب العمل بالمقتضي السالم عن المعارض، فتكون صيغة النهي الواردة بعد الأمر للتحريم كما لو وردت ابتداء. أما القائلون: إن صيغة الأمر الواردة بعد النهي للإباحة، فهم الذين اختلفوا في هذه المسألة وهي: " ماذا تقتضى صيغة النهى بعد الأمر؛ " على مذهبين: المذهب الأول: أن صيغة النهي الواردة بعد الأمر تقتضي التحريم. وهذا هو الحق، وهذا خلاف ما قلناه سابقاً في مسألة: " الأمر الوارد بعد النهي "، فقد قلنا هناك: إن الأمر الوارد بعد النهي يقتضي الإباحة، وهنا قلنا: إن النهي الوارد بعد الأمر يقتضي التحريم، وذلك لوجود الفرق بينهما من وجوه: الوجه الأول: أن دلالة النهي على التحريم أقوى من دلالة الأمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1437 على الوجوب، ولا يلزم من العمل بما هو أقوى العمل بما هو أضعف، ولذلك يقول عليه السلام: " ما اجتمع الحلال والحرام إلا غلب الحرام الحلال ". الوجه الثاني: أن الأصل في الأشياء العدم، فالقول بأن النهي بعد الأمر يقتضي التحريم فيه عمل بالأصل. الوجه الثالث: أن الشارع قد اعتنى بدرء المفاسد أشد من عنايته من جلب المنافع والمصالح، فالقول بأن النهي بعد الأمر للتحريم فيه عمل بهذا الأصل. المذهب الثاني: أن - صيغة النهي الواردة بعذ الأمر تقتضي الإباحة - مثل: صيغة الأمر الواردة بعد النهي؛ حيث قلنا: إنها تقتضي الإباحة. دليل هذا المذهب: أن تقدم الأمر على النهي يعتبر قرينة على أن الفعل مأذون فيه، وليس ممنوعاً، وبذلك تكون صيغة النهي ليس مراداً منها - حقيقتها، بل تكون مجازاً في الإباحة لهذه القرينة. جوابه: إن هذا الدليل يفهم منه قياس " النهي الوارد بعد الأمر " على "الأمر الوارد بعد النهي "، وهذا لا يصح؛ لأن النهي الوارد بعد الأمر يختلف عن الأمر الوارد بعد النهي، فلو قال السيد لعبده: "لا تدخل هذه الدار "، ثم قال له: " ادخلها " هذا يعتبر إذنا بالدخول بعد أن حرم عليه الدخول. بخلاف ما لو قال له: " ادخل هذه الدار "، ثم قال له: " لا تدخلها "، فإنه يعتبر تحريما بعد وجوب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1438 ثم إن الذي يُبين الفرق ما ذكرنا فيما سبق من الوجوه. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي كما هو ظاهر، فلو قال السيد لعبده: - "ادخل هذه الدار " ثم قال له: " لا تدخلها "، فإن دخلها بعد ذلك فهل يستحق العقوبة؛ بناء على المذهب الأول: يستحق العقوبة بدون قرينة. وبناء على المذهب الثاني: لا يستحق العقوبة إلا بقرينة تستوحب ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1439 المطلب السادس هل النهي يقتضي الانتهاء على الفور والتكرار؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه على الفور ويقتضي التكرار، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن النهي يقتضي عدم الإتيان بالفعل، وعدم الإتيان لا يتحقق إلا بترك الفعل في جميع أفراده في كل الأزمنة، وبذلك يكون ترك الفعل مستغرقا جميع الأزمنة، ومن جملتها الزمن الذي يلي النهي مباشرة، فيكون النهي مفيداً للتكرار كما هو مفيد للفور. الدليل الثاني: أن الناهي لا ينهى إلا عن قبيح، والقبيح يجب اجتنابه. على الفور، وفي كل وقت. الدليل الثالث: أن السيد لو قال لعبده: " لا تدخل الدار "، فإن ذلك يقتضي: أن لا يدخل الدار على الفور وعلى التكرار والمداومة، وإن دخلها في أي وقت من الأوقات فإفه يستحق الذم والعقوبة، ولو لم يكن مقتضيا لذلك لما استحق مخالفه الذم والعقوبة. المذهب الثاني: أن النهي لا يقتضي الفور، ولا يقتضي التكرار. وهو مذهب بعض العلماء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1440 دليل هذا المذهب: قياس النهي على الأمر، فكما أن الأمر لا يقتضي الفور ولا التكرار، فكذلك النهي لا يقتضي الفور ولا التكرار، والجامع: أن كلاً منهما استدعاء وطلب. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل المقاس عليه؛ لأن الأمر يقتضي الفور، وهذا ثبت بأدلة قد سبق بيانها. الجواب الثاني: سلمنا أن الأمر لا يقتضي الفور ولا التكرار، لكن قياس النهي عليه لا يصح؛ لأنه قياس فاسد؛ حيث إنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن النهي يقتضي عدم الإتيان بالفعل، وعدم الإتيان لا يتحقق إلا بترك الفعل في جميع أفراده في كل الأزمنة، ومن جملتها الزمن التالي لصدور صيغة النهي. أما الأمر فهو طلب الفعل، والفعل يتحقق ولو في مرة واحدة، فليس في الأمر ما يقتضي التكرار، فصح أن يقال: إنه لا يفيد التكرار، وحيث كان لا يفيد التكرار فهو لا يفيد الفور. بيان نوع الخلاف: الخلاف - هنا - لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على المعنى، وإن اخلفوا في اللفظ والاصطلاح؛ إذ لا يمكن لأحد أن يقول: إن النهي يقتضي الانتهاء عن المنهي عنه بعد صدور صيغة الأمر بفترة ولا يمكن لأحد أن يقول: يجب الانتهاء عن المنهي عنه مرة واحدة، ثم يعود لفعله، هذا لا يقوله أحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1441 قد يقول قائل: ما دام الأمر كذلك إذن ما سبب قول أصحاب المذهب الثاني: إن النهي لا يقتضي الفور ولا التكرار؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن سبب قولهم ذلك: أنهم لما استقرؤا النصوص وجدوا: أن النهي يرد مرة للدوام والتكرار كقوله تعالى: (ولا تقربوا الزنا) ، ومرة يرد لخلافه كقول الطبيب: " لا تشرب اللبن ولا تأكل السمك ". أما أصحاب الأول - وهم الجمهور القائلون: إن النهي يدل على التكرار والدوام والعموم والفور مدة القيد في مثل قول الطبيب: "لا تشرب اللبن ولا تأكل السمك ". وبناء على ذلك: يكون النهي للدوام مدة العمر في المطلق ومدة القيد في المقيد، فهم نجعلوا النهي يقتضي التكرار ويريدون من ذلك مطلق الدوام الأعم من الدوام مدة العمر، ومن مدة القيد. فأصحاب المذهب الثاني نظروا إلى الإطلاق من جهة، ونظروا إلى التقييد من جهة أخرى، وغايروا بين النظرين، وهما واحد عند أصحاب المذهب الأول، فلا خلاف في المعنى، فيكون الخلاف لفظيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1442 المطلب السابع أحوال المنهي عنه المنهي عنه له حالتان: الحالة الأولى: أن يكون المنهي عنه فعلاً واحداً مثل: " لا تدخل هذه الدار "، فإن النهي هنا يقتضي ترك ذلك الواحد بعينه. الحالة الثانية: أن يكون المنهي عنه متعدد، وهذه الحالة لها ثلاث صور: الصورة الأولى: أن يكون كل فعل بخصوصه لا يجوز الإقدام عليه، وجاء بلفظ العطف " الواو " مثل: " لا تقرب الزنا، ولا تأكل الربا "، فإن النهي يقتضي عدم فعلها جميعها، كما لا يجوز فعلها منفردة. الصورة الثانية: أن يكون كل واحد منها يجوز فعله منفرداً، وجاء بلفظ العطف " الواو " مثل: " لا تتزوج هنداً ولا أختها "، فإن النهي هنا يقتضي عدم فعلها مجتمعة، ولا يدل على ترك كل واحد منها على انفراده؛ لأن الدليل قائم على جواز التزوج بكل واحدة منها استقلالا. الصورة الثالثة: أن يكون كل واحد منها يجوز فعله منفرداً، وجاء بلفظ " أو " مثل: " لا تدخل هذه الدار أو هذه الدار "، فإن النهي يقتضي المنع من دخول أحدهما لا بعينه؛ لأن لفظ " أو " للتخيير. وخالف في الصورة الثالثة المعتزلة، وقد ذكرت مذهبهم في كتابي " إتحاف ذوي البصائر " فارجع إليه إن شئت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1443 المطلب الثامن هل النهي عن الشيء أمر بضده؟ لقد سبق - في باب الحرام -: أن الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى على أصح الأقوال. وهذه المسألة عكس تلك المسألة، وهي: النهي عن الشيء هل هو أمر بضده؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النهي عن الشيء أمر بضده إذا كان له ضد واحد، وإن كان له أضداد فهو أمر بأحدها، فإذا قال: " لا تقم " فهو أمر بالقعود. وهذا هو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لأن المنهي يتحتم عليه ترك المنهي عنه، ولا يمكنه ترك المنهي عنه إلا بفعل ضده، وما تحتم فعله إلا لأنه مأمور به. المذهب الثاني: أن النهي لا يكون أمراً بضده، سواء كان له ضد واحد، أو أضداد، وهو لبعض الحنفية كالجرجاني، وبعض المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لا يمكن أن يكون لفظ واحد أمراً ونهيا. جوابه: نحن لم نقل: إن لفظ " لا تفعل " هي عين: " افعل "، بل إنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1444 نقول: إن النهي عن الشىء أمر بضده من جهة المعنى، كما قلنا: إن الأمر بالشيء نهي عن ضده من جهة المعنى، فهو مثل قولنا: "زيد موجود في مكة"، ومعناه: " أنه ليس موجوداً في المدينة " وهكذا. الدليل الثاني: أن الإنسان منهي عن قتل نفسه، وليس بمأمور بترك قتل نفسه؛ لأنه لا يثاب على ترك قتل نفسه، ولو كان مأموراً به لأثيب عليه. جوابه: لا نسلم ذلك، بل هو مأمور بترك قتل نفسه، ويثاب على ذلك كما يعاقب على قتل نفسه. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إن الرجل إذا قال لزوجته: " إن خالفت أمري فأنت طالق "، ثم قال لها: " لا تقومي " فقامت، فإنه يلزم على المذهب الأول: أنها تطلق؛ لأن النهي عن الشيء أمر بضده، ويلزم على المذهب الثاني: أنها لا تطلق؛ لأن النهي عن الشيء ليس أمراً بضده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1445 المطلب التاسع هل النهي يقتضي فساد المنهي عنه أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا، أي سواء كان المنهي عنه عبادة، أو معاملة. والمراد بالفساد: عدم ترتب الآثار. فأثر النهي في العبادات: عدم براءة الذمة. وأثر النهي في المعاملات: عدم إفادة الملك والحل. فإذا ورد النهي عن السبب المفيد حكما يقتضي فساده، سواء كان النهي عنه لعينه، أو لغيره في العبادات، أو في المعاملات كالنهي عن البيع بعد النداء الثاني، والنهي عن بيع المزابنة، والنهي عن نكاح المتعة، والشغار، وبيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها. فالنهي عن كل ذلك يقتضي فسادها. وهذا مذهب كثير من العلماء من المالكية، والشافعية، والحنابلة، والظاهرية، وبعض الحنفية، وبعض المتكلمين. وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الشارع لا ينهى عن شيء إلا لأن المفسدة متعلقة بالمنهي عنه، أو لازمة له، فقد ثبت من استقراء وتتبع النصوص الشرعية: أن الشارع لا ينهى عن مصلحة، فلم يبق إلا أن نهيه عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1446 مفسدة، وإذا كانت الأشياء المنهي عنها فيها مفاسد، فسيلحق الناس منها ضرر، وإعدام الضرر مناسب عقلاً وشرعاً، ولا يمكن ذلك إلا بقولنا: " إن النهي يقتضي الفساد مطلقا ". الدليل الثاني: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم -؛ حيث إنهم استدلوا على فساد العقود بالنهي عنها، ومن أمثلة ذلك: أنهم استدلوا على فساد عقود الربا بالنهي الوارد في قوله عليه الصلاة والسلام: " لا تبيعوا الذهب بالذهب، ولا الورق بالورق، ولا البر بالبر ... "، واستدلوا على فساد نكاح المحرم في الحج بالنهي عنه الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكح المحرم ولا ينكح "، وغير ذلك، فلو لم يكن النهي يقتضي الفساد لما استدلوا بتلك النواهي على فساد الأمور المنهي عنها، ولم ينكر أحد هذا الاستدلال فكان إجماعا. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: لعلهم رجعوا إلى فساد ذلك بسبب قرينة دلَّت في الحال على ذلك الفساد. جوابه: لو كان هناك قرينة لذكرت، ونقلت كما نقل استدلالهم بتلك النواهي، فلما لم ينقل شيء من ذلك: دلَّ على أنهم فهموا من النهي الفساد مطلقاً. الدليل الثالث: أن النهي عن الشيء يقتضي ترك هذا الشيء المنهي عنه واجتنابه، والأمر بذلك الشيء يقتضي إيجاده وعدم تركه. وتركه وعدم تركه متناقضان، والشرع بريء من التناقض وما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1447 يفضي إليه، ويلزم للتخلص من هذا التناقض - أن يقال: إن النهي يقتضي فساد المنهي عنه مطلقا. والأمر يقتضي صلاح المأمور به. المذهب الثاني: التفريق بين العبادات والمعاملات، بيانه: أن النهي عن العبادات يقتضي فسادها. أما النهي عن المعاملات فلا يقتضي فسادها. وهذا مطلقا أي: سواء كان النهي عن الشيء لعينه كالزنا، أو كان النهي عنه لغيره كالبيع عند النداء الثاني يوم الجمعة. وهو مذهب بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، وبعض المعتزلة كأبي الحسين البصري، وهو اختيار بعض الفقهاء. تنبيه: اختلف أصحاب هذا المذهب فيما بينهم هل النهي اقتضى الفساد مطلقا من جهة اللغة أو الشرع؛ على أقوال: القول الأول: إن النهي اقتضى الفساد من جهة اللغة. القول الثاني: إن النهي اقتضى الفساد من جهة الشرع. القول الثالث: إن النهي اقتضى الفساد من جهة المعنى، وهو الصحيح عندي؛ لأن النهي يدل على قبح المنهي عنه وحظره، وهو مضاد للمشروعية. دليل هذا المذهب: أن العبادة طاعة، والطاعة عبارة عما يوافق الأمر، والأمر والنهي متضادان، فما يوافق الأمر قربة وطاعة، وارتكاب النهي معصية، فلا يمكن أن يجتمعا في شيء واحد، بأن يكون هذا الشيء منهيا عنه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1448 ومأموراً به في حال واحدة، فهذا يجعل النهي عن العبادات يقتضي فسادها. وذلك بخلاف المعاملات، فإنها ليست قربة، فلا يناقض المقصود منها ارتكاب النهي، فالنهي عن المعاملات لا يقتضي فسادها، فمثلاً: البيع وقت النداء الثاني يوم الجمعة صحيح يفيد الملك، لكن البائع آثم لارتكابه المنهي عنه، فلا يوجد تناقض هنا. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عدم تناقض ذلك، فقد بيَّنا تناقضهما في أدلتنا السابقة على مذهبنا. الجواب الثاني: سلمنا أن النهي قد لا يناقض الصحة، لكن الظاهر من النهي أنه يقتضي الفساد؛ للأدلة التي ذكرناها، والعمل بالظاهر واجب. وعلى فرض أنا خالفنا هذا الظاهر - وهو: أن النهي يقتضي الفساد - وقلنا بالصحة في بعض الفروع، فإن هذا كان بسبب قرينة صرفت اللفظ عن المعنى الراجح وهو الظاهر إلى المعنى المرجوح. وهذا لا يعني أنا عدلنا عن قاعدتنا وأصلنا - وهو: أن النهي يقتضي الفساد، بل نعمل على هذه القاعدة في مطلق النهي، قياسا على قولنا: إن مطلق النهي يقتضي التحريم، لكن لو وردت صيغة النهي مع قرينة صرفتها من التحريم إلى الكراهة: عملنا بتلك القرينة، أما إذا تجرد النهي عن القرائن فإنه يقتضي التحريم، كذا هاهنا. المذهب الثالث: التفريق بين ما نهي عنه لعينه، أو لغيره، بيانه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1449 إن كان النهي عن الشيء لعينه كالزنا والسرقة، فإنه يقتضي الفساد. وإن كان النهي عن الشيء لغيره كالبيع عند النداء الثاني في يوم الجمعة، فإنه لا يقتضي الفساد. هذا هو المذهب المنسوب للإمام أبي حنيفة والشافعي. دليل هذا المذهب: أن الشيء المنهي عنه لذاته ولعينه له جهة واحدة كالنهي عن الزنا والكفر، والملاقيح والمضامين، وبيع الميتة، ونكاح المحارم، فهذه التصرفات فاسدة قطعا؛ لعدم قابلية المحل للتصرف الشرعي، فلا يترتب عليها أي أثر شرعي. أما الشيء المنهي عنه لغيره كالنهي عن البيع عند النداء الثاني في يوم الجمعة، له جهتان، فيصح من جهة، ويأثم البائع من جهة أخرى، فالبيع صحيح؛ لتوفر شروط وأركان البيع ويأثم البائع، لوقوعه في هذا الوقت المنهي عنه، وعلى هذا: لا يقتضي النهي الفساد إذا كان النهي عن الشيء لغيره. كذلك يقال في الصلاة في الثوب الحرير، والصلاة في الثوب المسروق، وصوم أيام التشريق. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا مخالف لعموم النص، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد "؛ حيث إنه عام وشامل للمنهي عنه لعينه ولغيره، فهو يبين: أن المنهي عنه ليس عليه أمره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1450 مطلقا، فيجب أن يكون مردوداً، وهذا يشمل ذاته.، وآثاره، ومتعلقاته. الجواب الثاني: أنه لا فرق بين المنهي عنه لعينه، والمنهي عنه لغيره، وذلك لأن الشارع لا ينهى عن شيء إلا لوجود المفسدة في هذا الشيء المنهي عنه، ووجود هذه المفسدة إما قطعي - وهي المفسدة الخالصة - أو ظني - وهي المفسدة الراجحة - والعمل بالقطعي والظني واجب، ولا يجوز العمل بالمرجوح؛ لأنه كالمعدوم لذا يجب اجتناب الشيء المنهي عنه مطلقا؛ نظراً لوجود المفسدة فيه. المذهب الرابع: أن النهي عن الفعل يقتضي صحة المنهي عنه، وهو اختيار أبي حنيفة، ومحمد بن الحسن، وكثير من الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن مجرد صدور صيغة النهي يدل على تصور وقوع المنهي عنه، فالنهي - مثلاً - عن صوم يوم النحر يدل على انعقاده، فلو استحال انعقاده في نفسه لما نهى عنه؛ لأن المحال لا ينهى عنه، أي: أن النهي عن غير المقدور عليه عبث، والعبث لا يليق بالحكيم، فلا يجوز أن يقال للمقعد: " لا تطر "، ولا يجوز أن يقال للأعمى: " لا تبصر هذا القلم "؛ لأن مثل ذلك عبث. جوابه: أنا نوافقكم بأن النهي يدل على تصور وقوع المنهي عنه عن طريق الحس وهي الأفعال، أما الصحة والفساد فهما حكمان شرعيان وضعيان لم يرد الأمر بهما، ولا النهي عنهما، يؤيد ذلك: سائر مناهي الشرع، فلم يرد فيها ذلك، بل إنا نحن وأنتم قد أجمعنا على إبطال كل ما نهى الشارع عنه، فقد أبطلنا بيع المحاقلة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1451 والمزابنة، والمنابذة، والملامسة، والربا، والصلاة أثناء الحيض، ونحو ذلك، ولا مستند لذلك إلا النهي، فهذا يدل على أن النهي يقتضي الفساد والبطلان مطلقا. تنبيه: إن هذا المذهب بعيد جداً؛ لأن النهي لا يدل على الصحة عن طريق اللغة، ولا عن طريق الشرع، ولا عن طريق الضرورة، فالمصير إليه تحكم ودعوى بلا دليل، بل الاستدلال بالنهى على فساد الشيء المنهي عنه أقرب من الاستدلال بالنهي على الصحة، وأصحاب هذا المذهب منعوا أن يكون النهي يدل على الفساد، فكيف منعوا أن يكون النهي يدل على الفساد مع قربه منه، ويجيزوا أن يكون النهي يدل على الصحة مع بعده؛ هذا بعيد وغريب. المذهب الخامس: أن النهي لا يقتضي فساداً، ولا صحة مطلقا. وهو مذهب بعض الفقهاء، وبعض المتكلمين. دليل هذا المذهب: أنه لا يوجد دليل صحيح من العقل ولا من النقل يفيد أن النهي يقتضي الفساد، ولا يقتضي الصحة، ولا يوجد ما يفيد أنه يقتضي الصحة. أما كون الفاعل يأثم بفعل المنهي عنه، فذلك من دليل خارجي. جوابه: إن هذا الدليل متضمن للمطالبة بالدليل على الفساد، والمطالبة بالدليل على الصحة، وهذا باطل من وجهين: الوجه الأول: أن المطالبة بالدليل ليست بدليل. الوجه الثاني: على فرض أن المطالبة بالدليل دليل، فإنا قد ذكرنا أدلة صريحة تدل على أن النهي يقتضي الفساد، ولا يصرفه عنه إلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1452 بقرينة، وأبطلنا أدلة المخالفين، وإذا كان النهي يقتضي الفساد، فإنه لا يقتضي الصحة بالضرورة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر ذلك في بعض الفروع الفقهية ومنها: 1 - أن نكاح المحرم فاسد؛ لأن النهي الوارد في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ينكح المحرم.. " يقتضي الفساد، وهو مذهب جمهور العلماء. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يفسد، ولم يعملوا بهذه القاعدة وعملوا بأدلة أخرى، وهو مذهب الحنفية. 2 - من نذر صيام يوم العيد، فإن هذا النذر فاسد ولو صام لا يصح صومه، ولا يسقط القضاء عنه؛ لأنه نهي عن صوم يوم العيد والنهي يقتضي الفساد؛ فلا يكون صوم يوم العيد مشروعا، وهو مذهب جمهور العلماء. وذهب بعض العلماء إلى أن النذر صحيح بأصله دون وصفه. وهو ما قاله الحنفية: فالناذر عندهم يجب عليه الفطر، والقضاء، لكن لو صام هذا اليوم صح صيامه مع التحريم، ولم يعملوا بتلك القاعدة - وهي: أن النهي يقتضي الفساد، فالنهي عندهم لا ينافي المشروعية. هذا آخر المجلد الثالث من كتاب: " المهذب في علم أصول الفقه المقارن " للشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة حفظه الله ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الرابع إن شاء الله وأوله " العموم والخصوص " وهو الفصل الثاني عشر من الباب الرابع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1453 المجلد الرابع الفصل الثاني عشر في العموم والخصوص ويشتمل على مبحثين: المبحث الأول: في العموم. المبحث الثاني: في الخصوص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1455 المبحث الأول في العموم ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف العام. المطلب الثاني: بيان أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة. المطلب الثالث: هل العموم من عوارض المعاني حقيقة أو لا؟ المطلب الرابع: في أقسام العام. المطلب الخامس: هل للعموم صيغة في اللغة؟ المطلب السادس: صيغ العموم. المطلب السابع: الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي؟ المطلب الثامن: هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة بينهما من كل الوجوه؟ المطلب التاسع: الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عموم بالنسبة إلى مفعولاته أو لا؟ المطلب العاشر: دلالة العام هل هي قطعية أو ظنية؟ المطلب الحادي عشر: أقل الجمع ما هو؟ المطلب الثاني عشر: هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1457 المطلب الثالث عشر: حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم؟ المطلب الرابع عشر: حكاية الراوي لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟ المطلب الخامس عشر: هل يدخل العبد فى الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين والأمَّة والمسلمين؟ المطلب السادس عشر: الجمع الذي فيه علامة التذكير هل يتناول النساء؟ المطلب السابع عشر: العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو يكون مجازاً؟ المطلب الثامن عشر: هل العام المخصوص حُجَّة في الباقي؟ المطلب التاسع عشر: هل يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد؟ المطلب العشرون: المخاطِب - بكسر الطاء - هل يدخل في عموم خطابه؟ المطلب الواحد والعشرون: هل يجب اعتقاد عموم اللفظ قبل البحث عن المخصص؟ المطلب الثاني والعشرون: الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع هل يقتضي العموم في كل من المضاف والمضاف إليه؟ المطلب الثالث والعشرون: هل المفهوم له عموم؟ المطلب الرابع والعشرون: ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال هل ينزل منزلة العموم في المقال؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1458 المطلب الأول تعريف العام العام هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وضع واحد. شرح التعريف: قولنا: " اللفظ " جنس يشمل كل ما يتلفظ به مما يتكون من حروف هجائية، سواء كان مهملاً، أو مستعملاً، عاما أو خاصا، مطلقا أو مقيداً، مجملاً أو مفصلاً، حقيقة أو مجازاً. والمقصود هنا باللفظ هو: اللفظ الواحد، لكن لم نذكر لفظ "الواحد" للعلم به. وقد عبَّرنا ب " اللفظ " لإخراج أمرين هما: الأمر الأول: العموم المعنوي، أو المجازي كقولنا: " هذا مطر عام "، فإن مثل ذلك لا يدخل في التعريف "، وذلك لأن العموم المعنوي لا يتحد الحكم فيه، بل يختلف - كما سيأتي بيانه - أما العموم اللفظي - وهو ما نحن بصدده - فإن الحكم فيه متحد، أي: قولنا: " أكرم الطلاب " عام وشامل جميع الطلاب بدون تخصيص. الأمر الثاني: الألفاظ المركبة، أي: أن قولنا: " اللفظ " أخرج الشيء الذي أفاد العموم، ولكن بأكثر من لفظ كقولهم: " ضرب زيد عمراً "، فإن العموم قد استفدناه من الفاعل وهو الضارب وهو زيد، والمفعول به، وهو المضروب وهو عمرو، والفعل وهو: الضرب، وكقولهم: " كلام منتشر ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1459 قولنا: " المستغرق " أي: يشترط أن يكون هذا اللفظ مستغرقاً أي: متناولاً لما وضع له من الأفراد دفعة واحدة. وقد عبَّرنا بلفظ " المستغرق " لإخراج ما يلي: الأول: اللفظ المهمل مثل: " ديز "، حيث إنه لا يدخل في التعريف؛ لأن الاستغراق فرع الاستعمال والوضع، والمهمل غير موضوع لمعنى وغير مستعمل، فمن باب أوْلى أنه لا يستغرق. الثاني: اللفظ المطلق مثل قوله تعالى: (فتحرير رقبة) ، فإنه لا يدخل في التعريف، لأن اللفظ المطلق يتناول واحداً لا بعينه - كما سيأتي -. أما اللفظ العام فإنه يتناول أفراداً بأعيانهم. الثالث: النكرة في سياق الإثبات، حيث لا تدخل في التعريف، لأن النكرة وإن وضعت للفرد الشائع في جنسه إلا أنها لا تستغرق جميع ما وضعت له، أي: أنها لم تتناوله دفعة واحدة، وإنما تتناوله على سبيل البدل، فمثلاً: " اضرب رجالاً " معناه: حقق الضرب في أقل الجمع وهو: ثلاثة، فإذا ضربت ثلاثة رجال فإنك تخرج عن العهدة. قولنا: " لجميع ما يصلح له " معناه: ما وضع له اللفظ، فالمعنى الذي لم يوضع له اللفظ لا يكون اللفظ صالحاً له. فمثلاً لفظ " مَنْ " وضع للعاقل، ولفظ " ما " وضع لغير العاقل، وهما من صيغ العموم - كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه - فلا يمكن أن تستعمل " من " لغير العاقل، فنقول: " اشتر من رأيته من البهائم "، ولا يمكن أن تستعمل " ما " للعاقل فتقول: " أكرم ما رأيته من العلماء ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1460 إذن: قولنا: " لجميع ما يصلح له " قيد قصد منه تحقيق معنى العموم. وقصد منه - أيضا - الاحتراز عن اللفظ الذي استعمل في بعض ما يصلح له مثل قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ) ، فإن لفظ " الناس " صيغة من صيغ العموم، ولكن لم يقصد بها هنا العموم، بل قصد بها فرد واحد، وهو: نعيم بن مسعود، وقيل: طائفة من الأعراب استأجرتهم قريش، وقيل غير ذلك. قولنا: " بحسب وضع واحد " معناه: أن يكون اللفظ يدل على معناه بحسب وضع واحد. وهذه العبارة أتى بها لإخراج أمرين هما: الأول: اللفظ المشترك؛ لأن المشترك هو اللفظ الدال على معنيين، فكثر لا مزية لأحدها على الآخر مثل: " العين "، و "القرء"، أما اللفظ العام فهو اللفظ الواحد الموضوع لمعنى واحد، هذا المعنى عام. ولهذا: نعمل باللفظ العام؛ لأن معناه واحد قد فهمناه. أما اللفظ المشترك، فلا نعمل به إلا بعد أن تأتي قرينة ترجح أحد المعاني - كما سبق بيانه -. الثاني: اللفظ الصالح للحقيقة والمجاز مثل: " الأسد ". اعتراض على هذا التعريف: قال قائل - معترضا -: إن العام عرف بالمستغرق، والمستغرق مرادف للعام، وتعريف الشيء بمرادفه دور، فكأنه قال: إن العام هو المستغرق، والمستغرق هو العام، والدور لا يصح في التعريفات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1461 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الاستغراق مرادف للعموم؛ لأن العموم لغة هو: الشمول، والشمول يختلف عن الاستغراق من جهة اللغة، فهما لفظان لكل منهما معنى يخالف الآخر، فلا ترادف بينهما، وإن اشتركا في بعض اللوازم. الجواب الثاني: سلمنا أن الاستغراق مرادف للعموم، وهذا لا مانع منه، ويكون من الحد اللفظي الذي سبق أن ذكرناه في الباب الأول، فيجوز أن يعرف الشيء بلفظ يرادفه إذا كان أوضح منه، ولا شك أن لفظ " الاستغراق " أوضح من لفظ العام بالنسبة للسامع، فعرف به زيادة في البيان والإيضاح، فيكون كما نعرف الليث بأنه الأسد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1462 المطلب الثاني بيان أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة اتفق العلماء على أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، والعوارض جمع عارض، والعارض هو: الذي يذهب ويجيء، ومنه سمي المال عرضا؛ لأنه يذهب ويجيء، قال تعالى: (تريدون عرض الدنيا) . فمعنى قولنا: " إن العموم من عوارض الألفاظ ": أن العموم يلحق الألفاظ. وهو عرض لازم لما لحقه من الألفاظ، وهذا خاص ببعض الألفاظ، والمقصود بذلك صيغ العموم التي تدل على استغراق اللفظ بجميع الأفراد، فإذا قلنا: " هذا اللفظ عام "، فإن إضافة العموم إلى اللفظ ووصفه به حقيقة، وهذا كقولنا: " هذا حيوان مريض "، فإن إضافة المرض إليه حقيقة. إذن: العموم عارض للفظ قد يجيء إليه، وقد يزول عنه، وليس العموم داخل في حقيقة اللفظ: فمتى ما وجد اللفظ فهو عام، هذا ليس هو المقصود، وإنما المقصود ما ذكرنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1463 المطلب الثالث هل العموم من عوارض المعاني حقيقة أو لا؟ لقد عرفنا أن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة، وهذا متفق عليه، ولكن العلماء اختلفوا هل العموم من عوارض المعاني حقيقة على مذاهب: المذهب الأول: أن العموم ليس من عوارض المعاني حقيقة، بل هو من عوارضها مجازاً، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن من لوازم العام أن يكون اللفظ العام متحداً، ومع اتحاده يكون متناولاً لأمور متعددة من جهة واحدة: فالأفراد الذين تناولهم اللفظ يجب أن يكونوا متساوين في الحكم، فمثلاً قولك: " أكرم الطلاب " يجب أن يتساوى جميع الطلاب بالإكرام، فإكرام زيد يجب أن يكون مثل إكرام عمرو وبكر، وهكذا دون زيادة أو نقصان. أما لو قال: " عم المدينة المطر " - ونحو ذلك من أمثلة العموم المعنوي أو المجازي - فهذا إطلاق مجازي متساهل فيه؛ لأن المطر قد يكون في بعض الوديان والأماكن أكثر من البعض الآخر، كذلك لو قال: " عم القبيلة العطاء " هو إطلاق مجازي؛ لأن الخليفة لا يمكن أن يعطي كل فرد من أفراد القبيلة مثل ما أعطى الآخر، فعطاء رئيس القبيلة يختلف عن عطاء غيره، فاختلفوا في الحكم. بخلاف ألفاظ العموم، فإن الحكم متساو في جميع الأفراد، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1464 فقوله تعالى: (أقيموا الصلاة) ، فإن كل فرد يجب أن يصلي الظهر أربع ركعات، سواء كان رئيس القبيلة أو غيره. الدليل الثاني: أن العموم لغة هو شمول أمر واحد لمتعدد، والمتبادر من الوحدة: الوحدة الشخصية، والمعاني ليست مشخصة، فلا توصف بالعموم، وإنما يوصف به ما يتحقق فيه الشخص وهو اللفظ، فإذا وصف المعنى بالعموم كان مجازاً. المذهب الثاني: أن العموم من عوارض المعاني حقيقة، وهو اختيار ابن الحاجب. دليل هذا المذهب: أنه ورد استعمال العموم في المعاني كقولهم: " عم الخليفة الناس بالعطاء "، و " عمهم المطر "، و " عمهم القحط "، و " هذا عطاء عام " ونحو ذلك، وهذا قد شاع وذاع في لسان أهل اللغة، والأصل في الاستعمال الحقيقة. جوابه: إنا لو قلنا: إن استعمال العموم في المعاني استعمالاً حقيقياً، مع قولنا: إن العموم من عوارض الألفاظ حقيقة للزم من ذلك أن يكون العموم مشتركاً لفظيا بين الألفاظ والمعاني، والاشتراك خلاف الأصل، لكن لو قلنا: إن العموم من عوارض المعاني مجازاً، فإنا نكون قد تخلصنا من الاشتراك. فإن قلت: إن المجاز أيضاً خلاف الأصل - كما سبق -. أقول: إن المجاز مقدم على المشترك، فهو أوْلى أن يقال به. والدليل على أن العموم من عوارض المعاني مجازاً: ما قلناه - فيما سبق - من أن لازم العام: أن يكون اللفظ واحداً متناولاً لجميع الأفراد بنسب متساوية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1465 أما العموم المعنوي أو المجازي: فإنه يخالف هذا اللازم، فعطاء هذا الفرد غير عطاء ذلك الفرد، والمطر في هذا المكان غير المطر في ذلك، فاختلفت النسبة، فنتج: عدم وجود لازم العام، فلم يكن عاماحقيقة. المذهب الثالث: أن العموم ليس من عوارض المعاني حقيقة ولا مجازاً. دليل هذا المذهب: أن العموم لغة هو: شمول أمر واحد لمتعدد، وقد قلنا فيما سبق: إن الوحدة يتبادر منها الوحدة الشخصية، وهي لا تتحقق إلا في الألفاظ، فالمعنى لا يوصف بالعموم حقيقة، ولا يوصف - أيضاً - مجازاً؛ لعدم العلاقة بين اللفظ والمعنى. جوابه: أن المعاني توصف بالعموم مجازاً، والعلاقة متحققة، وهي: علاقة الدال بالمدلول. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ لأن الخلاف راجع إلى تفسير العموم ما هو وما المراد به؟ فإن أريد بالعموم: استغراق اللظ لمسمياته، فهو من عوارض الألفاظ خاصة، وهذا هو الحق. وإن أريد بالعموم شمول أمر لمتعدد مطلقا بدون النظر إلى تساوي النسب أو لا، فهو من عوارض الألفاظ والمعاني معا. وإن أريد بالعموم: شمول مفهوم الأفراد فهو من عوارض المعاني خاصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1466 المطلب الرابع أقسام العام ينقسم العام إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: عام من جهة اللغة، وهو: ما استفيد عمومه من جهة اللغة. أي: أن اللفظ قد وضع في اللغة للعموم، وهي صيغ العموم التي سيأتي ذكرها إن شاء اللَّه - وهو المقصود بباب العموم -. القسم الثاني: العام من جهة العرف، وهو: ما استفيد عمومه من جهة عرف أهل الشريعة، مع كون اللفظ لا يفيد العموم من جهة اللغة كقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، فإن هذا اللفظ لو نظرنا إليه نظرة لغوية فإنه لا يعم، حيث إنه يفيد: تحريم الأكل فقط، ولكن عرف الفقهاء جعله مفيداً لتحريم كل ما يتعلق بالميتة من أكلها، وجميع أنواع الانتفاعات. القسم الثالث: العام من جهة العقل، وهو: ما استفيد عمومه من جهة العقل، دون العرف واللغة، وهو ثلاثة أنواع: النوع الأول: أن يكون اللفظ مفيداً للحكم ولعلته، فيقتضي ثبوت الحكم أينما وجدت العلة، كاللفظ المشتمل على ترتيب الحكم على الوصف كقولنا: " حرم الخمر للإسكار "، فهذا اللفظ لا يفيد العموم من جهة اللغة، كل ما أفاده هو: أن الوصف عِلَّة للحكم فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1467 وإنما عم من جهة العقل؛ لأن العقل يحكم بأن العِلَّة كلما وجدت وجد المعلول، وكلما انتفت ينتفي المعلول، وعن طريق ذلك نقول: إن كل مسكر حرام، وبذلك يكون عموم هذا اللفظ ثابتاً بالعقل. النوع الثاني: أن يكون المفيد للعموم: ما يرجع إلى سؤال السائل كما إذا سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عمن جامع في نهار رمضان، فيقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعتق رقبة "، فنعلم أنه يعم كل مجامع وهو مكلف. النوع الثالث: مفهوم المخالفة كقوله عليه الصلاة والسلام: " في سائمة الغنم الزكاة "، فإنه يدل على أنه لا زكاة في كل ما ليس بسائمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1468 المطلب الخامس هل للعموم صيغة في اللغة موضوعة له؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن للعموم صيغة في اللغة خاصة به، موضوعة له، تدل على العموم حقيقة، ولا تحمل على غيره إلا بقرينة، وهي أدوات الشرط والاستفهام، وكل اسم دخلت عليه " أل " الاستغراقية سواء كانت جمعاً أو مفرداً، وكل نكرة أضيف إلى معرفة، وكل وجميع والنكرة في سياق النفي، والأسماء الموصولة، و" واو " الجمع، ولفظ " سائر " المشتقة من سور المدينة، وسيأتي بيان ذلك. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما سيأتي من الأدلة: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على أن تلك الصيغ للعموم، بيانه: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وهم من بلغاء العرب وفصحائهم كانوا يجرون تلك الألفاظ والصيغ - السابق ذكرها على العموم إذا وردت في الكتاب والسنة، وكانوا - رضي الله عنهم - يحملونها على إفادتها للعموم، ولا يطلبون دليلاً على ذلك، فكأن إفادتها لذلك أمر مسلم به، ولكنهم كانوا في اجتهاداتهم واستدلالاتهم - يطلبون دليل التخصيص، ليخصصوا به الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1469 العموم، فإن وجدوا المخصص أخذوا به، وإن لم يجدوا: أجروها على أصلها وعلى حقيقتها، وهو العموم، وكانوا يفعلون ذلك دون أن ينكر بعضهم على بعض، فكان إجماعا سكوتيا منهم على أن تلك الصيغ والألفاظ دلَّت بالوضع على العموم، وفعل الصحابة ذلك عن طريق وقائع وقعت لهم، وإليك أمثلة لذلك: منها: أنهم عملوا على أن قوله تعالى: (والسارق والسارقة) ، وقوله: (الزانية والزاني) يفيد العموم بسبب وجود المفرد المحلى بأل الاستغراقية، فعملوا على أن جميع السارقين، وجميع السارقات، وجميع الزناة والزانيات يعاقبون بالعقاب الوارد في الآيات، دون نكير من أحد. ومنها: أنهم تمسكوا بقوله عليه السلام: " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللَّه " على عدم جواز قتال مانعي الزكاة حتى روى لهم أبو بكر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إلا بحقها "، حيث إنه استثناء، والاستثناء يدل على أن المستثنى منه عام. ومنها: احتجاج أبي بكر - رضي اللَّه عنه - على الأنصار لما قالوا: " منا أمير ومنكم أمير " بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الأئمة من قريش ". والكل سلموا له هذا الاحتجاج، ولم ينكر عليه أحد. ومنها: احتجاج علي - رضي اللَّه عنه - بقوله تعالى: (وأن تجمعوا بين الأختين) على تحريم الجمع بين الأختين، ولولا أن المثنى المعرف بـ " أل " يفيد العموم لما صح هذا، أي: أنه يحرم الجمع بين الأختين، سواء كانتا حرتين أو أمَتين. ومنها: أنه لما نزل قوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1470 (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ) قالت الصحابة - رضي اللَّه عنهم -: فأينا لم يظلم نفسه، فبين عليه السلام: أنه أراد به ظلم النفاق والكفر. ومنها: قوله تعالى: (وذروا ما بقي من الربا) فيه ثلاث صيغ للعموم، وهي: " واو الجمع في قوله: وذروا "، و " اسم الموصول في قوله: ما بقي "، واسم المفرد المحلى بـ " أل " وهو قوله: " الربا "، فعمل الصحابة على أن كل ذلك يفيد العموم، والتقدير: ليترك جمعكم كل الذي بقي من جميع أنواع الربا. ومنها: قوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم) ، حيث يوجد فيه: واو الجمع، والجمع المنكر المضاف إلى المعرفة وهو: الكاف في قوله: " أنفسكم "، فعمل الصحابة على أن ذلك كله عام، والتقدير: لا يجوز لكل واحد منكم أن يقتل نفسه. ومنها: قوله تعالى: (وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا) . ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تنكح المرأة على عمتها "، وقوله: " لا يرث القاتل "، فعمل الصحابة على أن بهل ذلك يفيد العموم، دون نكير. ومنها: أن فاطمة بنت النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جاءت إلى أبي بكر تطالبه بميراثها من أبيها محتجة بقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) ، حيث إن هذا عام يشمل جميع الأولاد وأنهم يرثون من آبائهم، فقال لها أبو بكر: إني سمعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - يقول: " نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة ". فهنا لم ينكر عليها الاحتجاج بعموم الآية، وإنما أتى لها بمخصص يخرج أولاد الأنبياء عن بقية الأولاد، ويكون التقدير: أن جميع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1471 الأولاد يرثون من آبائهم إلا أولاد الأنبياء، فإنهم لا يرثون أصلاً "، ولم ينكر ذلك أي صحابي، فكان إجماعا. ومنها: أنه لما نزل قوله تعالى: (لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) قال عبد اللَّه بن أم مكتوم: " إني ضرير "، فنزل قوله تعالى: (غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ) ، ففهم عبد الله من الجمع المعرف بأل وهو: (القاعدون) العموم لذلك ذهب، وقد وافقه الرسول - صلى الله عليه وسلم -، إذ لم ينكر عليه ذلك، بل سكت حتى نزل الاستثناء، والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام. ومنها: أن لبيد بن ربيعة لما قال - على مجمع من قريش -: ألا كل شيء ما خلا اللَّه باطل ... ... ... ... ... ... قال عثمان بن مظعون - رضي اللَّه عنه - وكان بين الحاضرين في مكة -: " صدقت ". ولما قال لبيد: ... ... ... ... ... وكل نعيم لا محالة زائل قال عثمان: كذبت، نعيم الجنة لا يزول. وجه الدلالة: أنه لو لم تكن " كل " الواردة في الشطر الثاني - مفيدة للعموم لما صح هذا التكذيب، ولم ينكر ذلك أحد فكان إجماعاً سكوتيا. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أنه إن صح أن بعض الصحابة قد فهموا من تلك الصيغ العموم، فإنه لم يصح من جميعهم، والحُجَّة في فهم جميعهم، أما فهم بعضهم فلا حُجَّة فيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1472 جوابه: إن بعض الصحابة الذين فهموا من تلك الصيغ العموم وعملوا على ذلك، لم ينكر عليهم الآخرون، إذ لو وجد إنكار لنقل، ولكن لم ينقل إلينا شيء من ذلك، فكان إجماعاً سكوتياً. الاعتراض الثاني: أنكم استدللتم بالإجماع السكوتي على أن تلك الصيغ للعموم. ولا نسلم لكم أن الإجماع السكوتي يصلح لأن يحتج به في إثبات الأحكام. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا أثبتنا - في الباب الثالث فصل الإجماع -: أن الإجماع السكوتي حُجَّة تثبت به القواعد الأصولية، والأحكام الفرعية. الجواب الثاني: سلمنا أن الإجماع السكوتي ليس بحُجَّة في الشرعيات، لكنه حُجَّة في إثبات اللغويات؛ لأن الصحابة يعتبرون من فصحاء العرب، وأعلم باللغة، واشتقاقاتها، واستعمالاتها، وصيغها، وموضوعاتها من غيرهم. الدليل الثاني: أن السيد لو أمر عبده وقال له: " من دخل داري فأعطه درهماً " فأعطى العبد جميع الداخلين، فإنه يستحق المدح، وإن أعطى الجميع إلا واحداً فإنه يستحق اللوم والذم، واستحقاقه للمدح في الحالة الأولى، وللذم في الحالة الثانية دليل على أن "من " الشرطية تفيد العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1473 الدليل الثالث: أن الشخص لو أخبر نجقال: " ما رأيت اليوم أحداً "، والحقيقة: أنه رأى زيداً، فإن خبره يكون مخالفة للواقع، وكذبا: فهو أخبر بصيغة عموم - وهي: النكرة في سياق النفي - أنه ما رأى أحداً، فيقتضي هذا: أنه لم ير أيَّ إنسان، ولكن هذا خلاف الحقيقة؛ حيث إنه رأى زيداً في الواقع، فيكون خبره كذبا ونقضا، ومخالفا للواقع، فلو لم تفد النكرة في سياق النفي العموم لما صح تكذيبه. الدليل الرابع: أن القضاة والحكام والمفتين يبنون على أن تلك الصيغ والألفاظ تفيد العموم إذا نطق بها المتكلم، وعلى ذلك أمثلة: منها: أن السيد لو قال: " أعتقت عبيدي وإمائي "، ثم بعد ذلك مات مباشرة، فإنه يُحكم على أن جميع العبيد والإماء أحرار؛ حيث إنه تكلم بصيغة من صيغ العموم وهي: الجمع المنكر المضاف إلى معرفة الوارد في قوله: " عبيدي وإمائي "، وعلى ذلك جاز لمن سمع هذا القول: أن يزوج عبيده، ويتزوج من إمائه بغير إذن الورثة؛ لأنهم بهذه الصيغة أصبحوا أحراراً لا دخل لأحد بهم، ولو لم يكن الجمع المنكر المضاف إلى معرفة مفيداً للعموم لما كان ذلك. ومنها: لو قال السيد: " العبيد الذين فى يدي ملك زيد "، فإن القاضي يحكم بأن جميع العبيد ملك لزيد؛ لأن السيد ذكر في كلامه صيغة عموم، وهي الجمع المعرف بـ " أل ". ومنها: لو قال زيد لعمرو: " لي عليك ألف ريال "، فقال عمرو: " ما لك عليّ شيء "، لكان هذا إنكاراً لجميع الألف؛ لأنه عبر بصيغة عموم وهي: النكرة في سياق النفي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1474 والأمثلة على بناء الأحكام الشرعية على أمثال هذه العمومات في سائر اللغات لا يمكن حصرها. الاعتراض الذي وجه إلى أدلة الجمهور جميعاً - وهي الأربعة السابقة الذكر -. قال قائل - معترضاً على ما سبق قوله في الأدلة السابقة الذكر -: إن مجرد اللفظ والصيغة لا تفيد العموم، ولكنها أفادت العموم فيما ذكرتموه من الأمثلة بسبب قرائن اقترنت بها. أي: أنه يحتمل أن يكون بين الصحابة عرف أن هذه الصيغ تفيد العموم، أو أن هناك أدلة أخرى - لم تصل إلينا - جعلتها للعموم، كذلك يحتمل أن يكون بين السيد وعبده تعارف وتفاهم على أنه إذا أمره بصيغة من تلك الصيغ، فإنه يمتثل على العموم، وكذلك الشأن عند القضاة والحكام، أو يكون عرف منتشر بين الناس في بلدة من البلدان على ذلك. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أنه لو كان هناك قرائن جعلت تلك الصيغ للعموم لنقلت إلينا؛ لأن ما لا يتم الدليل إلا به لا يجوز للراوي ترك نقله، وحيث لم ينقل، ثبت أنه لم تكن قرائن. الجواب الثاني: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقريتة: للزم من ذلك عدم الاستدلال بأي آية، وبأي حديث، إلا إذا وردت قرينة تؤيد هذا الاستدلال، فنكون قد استفدنا الأحكام من القرائن لا من النصوص، وهذا ظاهر البطلان؛ لأنه يؤدي إلى أمرين باطلين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1475 أولهما: تعطيل أكثر الآيات والأحاديث عن العمل، وهذا كفر ظاهر. ثانيهما: مخالفة إجماع العلماء؛ حيث أجمعوا على الاستدلال بمجرد الآية، والحديث بدون قرائن. الجواب الثالث: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة للزم من ذلك: أن تخلو تلك الصيغ عن الفائدة؛ لأن القرينة هي التي جعلتها تفيد العموم، أما تلك الصيغ والألفاظ فلا تفيد شيئا، فيكون ذكرها في الكتاب والسُنَّة عبثا لا فائدة فيه، وهذا ظاهر البطلان؛ لأنه يؤدي إلى الكفر. الجواب الرابع: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة للزم من ذلك اضطراب واختلال الشريعة كلها: أوامرها ونواهيها العامة؛ حيث يمكن لكل شخص أن لا يمتثل الأوامر العامة، ولا ينتهي عن النواهي العامة؛ لأنه - على زعمكم - سيطلب القرينة التي تدخله مع المأمورين، أو مع الذين قد نهوا، وهذا لم يقله أحد. الجواب الخامس: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة للزم من ذلك: أن لا يصح من أحد أن يحتج بلفظ عام، كقوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) في صورة خاصة، بيانه: أنا لو وجدنا شخصا لا يصلي، وقلنا له: لماذا لا تصلي؛ فقال: لأن اللَّه لم يأمرني بالصلاة، قلنا له: بل أمرك بقوله: " أقيموا الصلاة "، فقد ورد فيه صيغة عموم - وهي واو الجمع - فتشملك وغيرك إلى قيام الساعة، فلو كانت تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة لكان يمكنه أن يقول: " لم أعلم إني مراد بهذا الأمر، لأنه؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1476 لم ترد قرينة تدل على أني أدخل مع المأمورين، أو يقول: لا يوجد في اللفظ دلالة ولا قرينة تدل على أني مراد معهم، إذن لا يلزمني الامتثال. وقال هذا الشخص ذلك؛ لأن اللفظ العام لا يدل على الصورة الخاصة إلا بقرينة - على زعمكم - وهذا يبطل الشريعة كلها. الجواب السادس: أنا لو قلنا: إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة للزم من ذلك: أن لا يقدر أحد أن يأمر جماعة بأمر عام، ولا ينهاهم بنهي عام، فمثلاً لو قال السيد لعبيده: " اخرجوا من هذه الدار "، فخرج بعضهم دون بعض، فيلزم على زعمكم: أنه لا يمكنه معاقبة الذين لم يمتثلوا الأمر؛ لأنه لم يبين قرينة تدل على أنه يجب عليهم الخروج، بل يلزم - على زعم المعترض - أن يقول: أنت يا فلان اخرج، وأنت يا فلان اخرج، وهكذا، حتى ينتهي العدد، وهذا لا يمكن بل تستحيل الحياة مع ذلك. فبان من هذا الأجوبة الستة: أن قول المعترض: " إن تلك الصيغ لا تفيد العموم إلا بقرينة " ظاهر البطلان، وواضح الفساد. المذهب الثاني: أنه لا صيغة للعموم معلومة، وتلك الصيغ ليست لعموم ولا لخصوص، بل هي مشتركة بينهما اشتراكا لفظياً، أي: أن الجمع المعرف بـ " أل " - مثلاً - يفهم منها معنيان: " العموم "، و"الخصوص "، ولا يرجح أحدهما إلا بقرينة. وهو مذهب محكي عن أبي الحسن الأشعري. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: حسن الاستفهام والاستفسار من السامع لها يدل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1477 على أنها لا تدل على العموم فقط، ولا على الخصوص فقط، بل تدل عليهما. أي: أن هذه الصيغ عند التكلم بها يحسن الاستفهام من المتكلم بها عما أراده منها، إذ يحسن أن يقال له: هل أردت بذلك البعض أو الكل، وحسن الاستفهام دليل على أن تلك الصيغ يفهم منها العموم، والخصوص، فتكون حقيقة في كل منهما، فلو كانت للعموم فقط، أو للخصوص فقط: لما حسن الاستفهام. جوابه: لا نسلم أن حسن الاستفهام دليل على أن تلك الصيغ حقيقة في الخصوص والعموم، بل إن الاستفهام إنما حسن هنا لإزالة اللبس، ولأجل احتياط المستفهم من كلام المتكلم، فقد يكون المتكلم غير متنبه، أو أن الصيغة يجوز أن تحمل على الخصوص مجازاً، فيزول هذا اللبس بالاستفهام، وهذا الاستفهام أريد به التوكيد، ومعروف أن فائدة التوكيد هي: رفع اللبس عن ذهن السامع، وإزالة الاتساع في الفهم وحمل اللفظ. وأيضا: فإن الاستفهام عن المراد ومن اللفظ لا يدل على ما ذكرتم؛ بدليل: أن من قال: " رأيت أسداً " يصح أن يقال له: أردت الرجل الشجاع، أو الحيوان المفترس؛ ومع ذلك لا يمكن أن يقول قائل: إن لفظ " الأسد " يستعمل حقيقة في الرجل الشجاع. الدليل الثاني: أنه لا نزاع في أن اللفظ مستعمل في العموم تارة كقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) ، واستعمل في الخصوص تارة أخرى كقوله تعالى: (الذين قال لهم الناس) ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1478 والأصل في الاستعمال الحقيقة، فتكون تلك الصيغ حقيقة في العموم والخصوص بالاشتراك اللفظي. جوابه: أن الأصل في الاستعمال الحقيقة محمول على ما إذا كان اللفظ متردداً بين المعاني من غير أن يتبادر منه أحدها بخصوصه، وتلك الصيغ ليست من هذا؛ حيث إن العموم يتبادر إلى الفهم عند الإطلاق، فكانت حقيقة في العموم، مجازاً في الخصوص، وقلنا ذلك؛ لأمرين: أولهما: أن العموم هو المتبادر إلى الفهم. ثانيهما: تخلصا من الاشتراك اللفظي؛ حيث إنه خلاف الأصل، وقلنا بالمجاز - وإن كان خلاف الأصل - إلا أنه خير من الاشتراك وأَوْلى منه كما سبق في الفصل الثامن - وهو تعارض ما يخل بالفهم -. المذهب الثالث: أن تلك الصيغ ليست حقيقة في العموم، وإنما هي حقيقة في الخصوص، مجاز في العموم. أي: أن تلك الصيغ يتبادر إلى الفهم منها الخصوص، ولا تحمل على العموم إلا بقرينة. وهو لبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن دلالة تلك الصيغ على الخصوص متيقنة، ودلالتها على العموم مشكوك فيها، وجعل اللفظ حقيقة في المتيقن أوْلى، لعدم احتمال الخطأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1479 جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن كون اللفظ دالاً على الشيء يقينا لا يدل على أنه مجاز في الزائد عليه بدليل: أن الجمع المذكر كالمسلمين يدل على الثلاثة - وهو أقل الجمع - يقيناً مع أنه ليس بمجاز في الزائد عليه وفاقاً. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن الحمل على العموم مشكوك فيه، بل قد غلب على ظننا بسبب أدلة قد سبق ذكرها من إجماع الصحابة، وغيره. الجواب الثالث: أن حمل تلك الصيغ على العموم أوْلى وأحوط؛ لأن الحمل على العموم محصل لغرض المتكلم على التقديرين - أعني: إرادة العموم أو الخصوص، والحمل على الخصوص غير محصل لغرض المتكلم، على تقدير إرادة العموم، فكان الحمل عليه أَوْلى. الدليل الثاني: أن هذه الصيغ لو كان للعموم للزم من استعمالها في بعض الصور: الكذب، بيان ذلك: أن الشخص لو قال: " رأيت العباد "، و " طفت البلاد "، و"لبست الثياب "، و " ركبت الخيول "، و " اشتريت العبيد "، و"أنفقت دراهمي "، فإن تلك الصيغ لو كانت للعموم للزم من الكلام بها الكذب؛ ضرورة؛ لأنه يعلم قطعاً أنه ما رأى كل العباد، وأنه ما طاف كل البلاد، وأنه ما لبس جميع الثياب، وأنه ما ركب جميع الخيول، وأنه ما اشترى جميع العبيد الذين في الأرض، وأنه ما أنفق كل دراهمه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1480 أما لو كانت للخصوص، فإنه لا يلزم من استعمال ذلك هذا المحذور، فكان جعله حقيقة في الخصوص أوْلى. جوابه: لا نسلِّم لزوم الكذب فيما ذكرتموه من الأمثلة؛ لأنه يجوز أن يراد بها الخصوص بقرينة العقل، والعقل من المخصصات المعروفة، فلا يمكن عقلاً أن يرى جميع العباد، أو أن يطوف جميع البلاد، وهكذا. وحينئذٍ لا يلزم الكذب؛ لأن إرادة المجاز من اللفظ الصالح له ليس بكذب، ولو قلنا: إن هذا كذب للزم أن يكون قول القائل: "رأيت حماراً " - عندما رأى بليداً - أن يكون ذلك كذباً، وهذا لم يقله أحد. المذهب الرابع: التوقف، بمعنى: إنا لا ندري أن تلك الصيغ حقيقة في العموم مجاز في الخصوص، أو العكس، وهو أنه حقيقة في الخصوص مجاز في العموم. وهو مذهب حكي عن أبي الحسن الأشعري، وأبي بكر الباقلاني. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن كون تلك الصيغ موضوعة للعموم، أو للخصوص إما أن يعلم عن طريق العقل، أو عن طريق النقل، وهذا كله باطل، بيان ذلك: إن زعمتم، أن العقل هو الذي أثبت أن تلك الصيغ للعموم أو للخصوص، فهذا باطل؛ لأن العقل لا مدخل له في اللغات؛ وذلك لأن اللغات لا تثبت إلا بالنقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1481 وإن زعمتم أن النقل هو الذي أثبت أن تلك الصيغ للعموم، أو للخصوص، فهذا باطل - أيضا -؛ لأن النقل قسمان: " آحاد "، و" متواتر ". فإن زعمتم أن المتواتر هو الذي أثبت ذلك فهذا باطل؛ لأمرين: أولهما: لقلته وندرته. ثانيهما: أنه لو كان الأمر كذلك لعلمناه كما علمتموه؛ لأن المتواتر هو: ما علم ضرورة لكل الناس، لا أن تعلمه طائفة دون أخرى. وإن زعمتم أن الآحاد هو الذي أثبت ذلك فهذا باطل - أيضاً -؛ لأن الآحاد لا يحتج به على إثبات القواعد الأصولية؛ لأن القواعد قطعية، والآحاد لا يفيد إلا الظن، والظني لا يقوى على إثبات القطعي. فبان أنه لا دليل على أنها للعموم، ولا على أنها للخصوص، فوجب التوقف. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن حاصل هذا الدليل هو: أنكم تطالبوننا بالدليل على أن تلك الصيغ تفيد العموم، وهذا لا يستقيم ولا يصح؛ لأمرين: أولهما: أن المطالبة بالدليل ليست بدليل، أي: أن مطالبتكم لنا بالدليل على أن تلك الصيغ تفيد العموم ليس بدليل لكم على أن تلك الصيغ لا تفيد العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1482 ثانيهما: على فرض أن المطالبة بالدليل تعتبر دليلاً، فإنا قد أثبتنا أدلة من إجماع الصحابة، وأهل اللغة، واستعمالاتهم على أن تلك الصيغ تفيد العموم بمجردها. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ لكم أن الآحاد لا يحتج به على إثبات القواعد الأصولية، بل خبر الواحد يثبت تلك القواعد بشرط: أن تكون تلك القواعد وسيلة إلى العمل، قياسا على العمل بالآحاد في الفروع. فنتج: أن هذه الصيغ قد ثبتت بالآحاد؛ لأنها وسيلة إلى العمل. الدليل الثاني: أن الأدلة متعارضة، والاحتمالات متقاومة، والجزم بواحد ترجيح بلا مرجح، ولو قدرنا أن يكون هناك مرجح، لكن لا نزاع أن هذا المرجح ليس بقاطع؛ حيث إنه يحتمل الخطأ، فوجب التوقف. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن الأدلة المثبتة للخصوص في قوة الأدلة المثبتة للعموم، بل إن أدلة القائلين: إن تلك الصيغ حقيقة في العموم أقوى من أدلة المذاهب الأخرى - كما سبق بيانه - وإذا كان الأمر كذلك فإن كونها للعموم أرجح، والعمل بالراجح واجب، وحينئذٍ لا داعي لهذا التوقف. المذهب الخامس: أن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم في الأمر والنهي - فقط - ولا يعلم هل هي حقيقة أو مجاز في الأخبار. وهو مذهب لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الأوامر والنواهي تكليف بعمل، فلو لم نعرف المراد بها لاقتضى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1483 تكليف ما لا يطاق، فوجب حمل تلك الصيغ والألفاظ على أنها حقيقة في العموم. بخلاف الخبر من الوعد والوعيد، وغير ذلك، فإنه لا يقتضي وجوب شيء يحتاج أن يعمل به. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل إن تلك الصيغ والألفاظ حقيقة في العموم مطلقا، سواء كانت أمراً أو نهيما أو خبراً، ولا فرق بين الأوامر والنواهي والأخبار. ودلَّ على عدم التفريق بينهما ما يلي من الوجوه: الأول: أن الحال فيهما واحدة؛ حيث إنه يخاطب بالخبر لفائدة كالأمر، فالمكلف مطالب بالعلم بمراد الشارع منهما. الثاني: أن الطريق إلى إثبات أحدهما هو الطريق إلى إثبات الآخر، فالممتنع من أحد الأمرين يلزمه الامتناع من الآخر بدليل: أن أهل اللغة يستعملون الأمرين على وجه واحد. الثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا يرجعون في أوامر اللَّه تعالى ونواهيه، وأخباره إلى ظاهر الخطاب، ولا يفرقون بينها. بيان نوع الخلاف: ابخلاف - هنا - معنوي، وهو ظاهر، فأصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - يحملون أي صيغة من الصيغ السابقة على العموم بدون أي قرينة، ولا يحملونها على الخصوص إلا بقرينة، ويعملون على هذا بدون توقف، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1484 أما أصحاب المذهب الثاني والرابع فهم لا يحملون تلك الصيغ على العموم ولا على الخصوص، ولا يعملون بشيء منهما حتى ترد قرينة ترجح أحد الأمرين، ولا يفرقون بين الأوامر والنواهي والأخبار. أما أصحاب المذهب الثالث: فهم يحملون أيَّ صيغة من الصيغ على أنها حقيقة في الخصوص بدون قرينة، ولا يحملونها على العموم إلا بقرينة ويعملون على ذلك بدون توقف، ولا يفرقون في ذلك بين الأوامر والنواهي والأخبار. أما أصحاب المذهب الخامس: فإنهم يفرقون: فإن كانت الصيغة وردت في سياق أمر أو نهي، فإنهم يحملونها على العموم، وإن وردت في سياق الإخبار، فإنهم يض وقفون. وطبق على ذلك قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، فأصحاب المذهب الأول يقولون: إنه عام لجميع الناس دون استثناء. وأصحاب المذهب الثالث يقولون: إنه خاص لبعض الناس، ولا يحمل على جميع الناس إلا بقرينة. وأصحاب المذهب الثاني والرارج: لا يحملونه على العموم ولا على الخصوص حتى تأتي قرينة ترءجح أحدهما. وأصحاب المذهب الخامس يقولون: إنه عام؛ لأنه أمر، وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1485 المطلب السادس في صيغ العموم بعد أن عرفنا أن للعموم صيغة في اللغة خاصة، موضوعة له، تدل على العموم حقيقة: نريد أن نبين في هذا المطلب تلك الصيغ، فأقول: هي كما يلي: الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام. الصيغة الثانية: أدوات الشرط. الصيغة الثالثة: " كل " و " جميع ". الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل ". الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة. الصيغة السادسة: " واو " الجماعة. الصيغة السابعة: " النكرة في سياق النفي ". الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل ". الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة. الصيغة العاشرة: الاسم الموصول. الصيغة الحادية عشرة: " سائر " المشتق من سور المدينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1487 وإليك بيان تلك الصيغ، مع الاستدلال على كل واحدة منها، وبيان المتفق عليه والمختلف فيه منها. وقد ذكر بعضهم: أن الصيغ أكثر من هذا، ولكن كل ما ذكروه يرجع إلى ما ذكرناه، فأقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1488 الصيغة الأولى: أدوات الاستفهام، وهي أنواغ: النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقولك: " من عندك من الطلاب؟ ". النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقولك: " ما عندك من البهائم؟ ". النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقولك: " أي العلماء قابلت؟ "، والمسنعملة لغير العقلاء كقولك: " أي الدواب ركبت؟ ". النوع الرابع: " متى " الزمانية كقولك: " متى تزورني؟ ". النوع الخامس: " أين " المكانية كقولك: " أين تذهب؛ ". النوع السادس: " أيان " الزمانية كقوله تعالى: (يسألونك عن الساعة أيان مرساها) ، وغير ذلك. دليل إفادة هذه الصيغة للعموم: دل على أن أدوات الاستفهام تفيد العموم: أن تلك الألفاظ والصيغ إما أن تكون للعموم فقط، أو للخصوص فقط، أو لهما معاً بالاشتراك اللفظي، أو لا تكون لكل واحد منهما، والكل باطل إلا الأول. بيان ذلك: أنه لا يصح أن تكون موضوعة للخصوص فقط، إذ لو كانت موضوعة له: لما حسن من المجيب أن يجيب بلفظ كل أو جميع؛ لأن الجواب يجب أن يكون مطابقاً للسؤال، لكن لا نزاع في ذلك، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1489 فإذا قال: " من عندك؟ " يمكن للمجيب أن يقول: " عندي جميع أو كل الطلاب "، فلو كانت للخصوص لما صح ذلك. ولا يصح أن تكون موضوعة للخصوص والعموم بالاشتراك اللفظي؛ لأنه يكون مجملاً، والمجمل لا يمكن أن يجاب عنه بجواب معين إلا بعد عدة استفهامات عن الأقسام الممكنة، فمثلاً إذا قال: " من عندك؟ "، فإذا كانت " من " مشتركة بين الخصوص والعموم، فإن المجيب - لا بد أن يقول له: " أتسألني عن الرجال أم عن النساء؟ "، فإذا قال: أسألك عن الرجال، فلا بد أن تقول: أتسألني عن رجال العرب أو عن رجال العجم؟ ، فإذا قال: أسألك عن رجال العرب، فلا بد أن تقول: أتسألني عن رجال ربيعة، أو مضر؟ وهلم جرا إلى أن يأتي على جميع أحياء العرب وقبائلهم، ثم يأتي على جميع أصنافها من العلماء، والجهال، والشيوخ، والكهول، والبيض، والسود، وغير ذلك. فثبت أنه لو صح الاشتراك لوجبت هذه الاستفهامات، لكنها غير واجبة؛ لأمرين: أولهما: أنه لا عام إلا وتحته عام آخر، وإذا كان كذلك: كانت التقسيمات الممكنة غير متناهية، والسؤال عنها على سبيل التفصيل محال. ثانيهما: أنا علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان: أنهم يستقبحون مثل هذه الاستفهامات، فبطل كون تلك الصيغ موضوعة للعموم والخصوص بالاشتراك اللفظي. ولا يصح أن لا تكون تلك الصيغ موضموعة للعموم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1490 ولا للخصوص بالاتفاق؛ لأن هذا يؤدي إلى أنه يوجد في الكتاب والسّنَّة ألفاظ لا تفيد شيئاً، وهذا غير ممكن. فلما بطلت الأقسام الثلاثة: لم يبق إلا الأول - وهو أنها موضوعة للعموم - وهو الصحيح. *** الصيغة الثانية: أدوات الشرط، وهي أنواع: النوع الأول: " من " المستعملة للعقلاء كقوله تعالى: (ومن يتوكل على اللَّه فهو حسبه) . النوع الثاني: " ما " المستعملة لغير العقلاء كقوله تعالى: (ما عندكم ينفد) . النوع الثالث: " أي " المستعملة للعقلاء كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "أيما امرأة نكحت نفسها فنكاحها باطل "، والمستعملة لغير العقلاء كقولك: "أي بهيمة رأيتها فاشترها "، و" أي " عامة فيما تضاف إليه من الأشخاص، والأزمان، والأمكنة، والأطوال. النوع الرابع: " أين " المكانية كقوله تعالى: (أينما تكونوا يدرككم الموت) . النوع الخامس: " متى " الزمانية كقولك: " متى تجلس أجلس ". ونحو ذلك. الأدلة على إفادة تلك الصيغة للعموم: دل على أن أدوات الشرط تفيد العموم ما يلي من الأدلة: الدليل الأول: صحة الاستثناء مما دخلت عليه أداة الشرط، فيصح أن يقول: " من دخل داري فأكرمه إلا زيداً "، والاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل، فثبت أن " من " الشرطية للعموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1491 الدليل الثاني: إجماع الفقهاء وأهل اللسان على ترتب الأحكام العامة إذا عبر بلفظ من هذه الألفاظ الشرطية، فمثلاً لو قال: " من دخل من عبيدي هذه الدار فهو حر "، فإن الفقهاء وأهل اللسان قد أجمعوا على أنه يعتق كل عبد له دخل الدار، ولهذا يجوز لكل من سمع هذا ورأى دخول العبد الدار أن يستخدمه، ويستأجره، ويشتري منه ويبيع عليه، دون إجازة مولاه. الدليل الثالث: توجيه الاعتراض والذم إلى من خالف الأمر العام بها، وسقوطه عمن جرى على موجب العموم، فمثلاً لو قال السيد لعبده: " من دخل داري فأكرمه "، فإن أكرم جميع الداخلين فإنه يستحق المدح والثواب، وإن أكرم بعض الداخلين فقط دون البعض الآخر، فإنه يستحق الاعتراض من السيد، وذمه وعقوبته فلو جاء عقلاء أهل اللغة وهو يعاقبه فقالوا: لماذا تفعل به هذا؛ فقال لهم: إني قد أمرته بأمر عام، فلم ينفذ ذلك الأمر العام، فهنا يوافقونه على هذا الذم، وهذا يدل على أن أداة الشرط تفيد العموم. الصيغة الثالثة: " كل "، و " جميع ": مثل قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) ، وقوله: (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ) . والفرق بين " كل " و " جميع ": أن " كل " تقتضي الاستغراق والعموم مطلقا، سواء أضيفت إلى نكرة نحو قوله تعالى: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ) . أو أضيفت إلى معرفة وهي جمع كقولك: " كل الرجال ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1492 أو أضيفت إلى معرفة وهي مفرد كقولك: " كل غزال جميل ". ولذلك كانت " كل " أصرح صيغ العموم؛ لشمولها العاقل وغيره، والمذكر والمؤنث، والمفرد، والمثنى، والجمع، وسواء ذكر المضاف إليه كما سبق، أو حذف المضاف إليه نحو قوله تعالى: (كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ) . أما " جميع " فهي مثل " كل " إلا أنها لا تضاف إلا إلى معرفة فقط، فتقول: " جميع الرجال "، ولا تقول: " جميع رجل "، أما " كل " فيجوز ذلك. الأدلة على إفادة هذه الصيغة للعموم: دل على أنهما يفيدان العموم: ما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن أهل اللغة إذا أرادوا التعبير والغوص في الاستغراق، فإنهم يفزعون إلى استعمال لفظ " كل "، و " جميع " ولو لم يفيدا العموم لما فزعوا إليهما وتركوا غيرهما. الدليل الثاني: أنه لما سمع عثمان بن مظعون قول لبيد: ... ... ... ... ... وكل نعيم لا محالة زائل قال له: " كذبت نعيم الجنة لا يزول "، فلولا أن " كل " تفيد العموم لما صح هذا التكذيب، وقد سبق هذا. الدليل الثالث: لو قال السيد: " أعتقت كل - أو جميع - عبيدي وإمائي "، ومات في الحال، ولم يعلم منه أمر آخر سوى هذه العبارة: فإن الفقهاء قد أجمعوا على أن جميع عبيده وإمائه قد عتقوا، ولهذا يجوز أن يتصرف معهم بأي نوع من أنواع التصرف بدون الرجوع إلى الورثة. الدليل الرابع: أن لفظ " كل " و " بعض " موضوع أحدهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1493 للعموم، والآخر موضوع للخصوص، و "كل " مقابل للبعض، واتفق على أن لفظ " بعض " للخصوص، فيكون لفظ " كل " للعموم. الدليل الخامس: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهما، وتوجيهه على العاصي، بيانه: أن السيد لو قال لعبده: " أكرم كل من دخل داري "، فإن أكرم جميع الداخلين، فإنه يسقط الاعتراض عنه، ويستحق المدح، فلو قال السيد لعبده: " أنت أفنيت دراهمي بإكرامك جميع الداخلين وإنما قصدت من عبارتي: إكرام العلماء فقط "، فيقول العبد - مدافعاً عن نفسه -: " أنت ما أمرتني بإكرام العلماء، وإنما أمرتني بإكرام جميع الداخلين "، فعقلاء أهل اللغة يوافقون العبد على تصرفه، ويخالفون السيد، فلو لم تكن " كل " مفيدة للعموم لما صح ذلك. وكذلك لو أن العبد أعطى كل الداخلين إلا واحداً، فقال له السيد: لماذا لم تعطه؛ فقال العبد: لأنه جاهل - مثلاً - فإن العبد يستوجب التأديب من قبل السيد، ومن قبل عقلاء أهل اللغة، لأنه لم يمتثل الأمر على العموم، ولو لم تكن " كل " تفيد العموم لما صح ذلك. *** الصيغة الرابعة: الجمع المعرف بـ " أل " مثل: " الرجال " و" المسلمين " و " الناس ": إن كان هناك معهود، فإنه ينصرف إلى المعهود مثل قولهم: "جمع الأمير الصاغة "، وإن لم يكن هناك معهود، فقد اختلف العلماء هل يفيد العموم أو لا؛ على مذهبين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1494 المذهب الأول: أنه يفيد العموم. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لما قال بعض الأنصار: " منا أمير ومنكم أمير " قال أبو بكر - رضي اللَّه عنه -: إني سمعت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - يقول: " الأئمة من قريش "، فسلم الأنصار ذلك وانسحبوا، ولو لم يدل الجمع المعرف بـ " أل " - وهو هنا " الأئمة " على العموم لما صحت تلك الدلالة، ولما انسحب الأنصار - ولما وافقه بقية الصحابة على ذلك، وقد سبق. الدليل الثاني: أنه لما عزم أبو بكر على قتال مانعي الزكاة، قال له عمر: أليس قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا اللَّه - فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها "، فهنا قد احتج عليه بعموم لفظ " الناس "، ولم ينكر عليه أبو بكر ولا أحد من الصحابة إفادته للعموم، بل عدل أبو بكر إلى الاستثناء، فقال: أليس قد قال: " إلا بحقها "، وأن الزكاة من حقها. الدليل الثالث: أن هذا الجمع يؤكد بما يقتضي العموم، كقوله تعالى: (فسجد الملائكة كلهم أجمعون) ، فلو لم يفد العموم لما جاز تأكيده بـ كل، وبـ أجمع. الدليل الرابع: صحة الاستثناء من الجمع المعرف بـ " أل " فتقول.: "أكرم الرجال إلا زيداً"، ولو لم يكن مفيداً العموبم لما صح الاستثناء منه. الدليل الخامس: الجمع المعرف أعلى في الكثرة من الجمع المنكر؛ لأنه يصح انتزاع المنكر من المعرف، ولا ينعكس: فيجوز أن تقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1495 " رجال من الرجال "، ولا يجوز أن تقول: " الرجال من رجال "، ومعلوم بالضرورة أن المنتزع منه أكثر من المنتزع. المذهب الثاني: أن الجمع المعرف بـ " أل " لا يفيد العموم، بل هو يحتمل العموم والخصوص، وهو مذهب قد حكي عن أبي هاشم المعتزلي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن " أل " يحتمل أن تكون استغراقية، ويحتمل أن تكون عهدية، والاحتمالان متساويان، فيكون الجمع المعرف بأل مشتركا بين العموم والخصوص. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن " أل " للتعريف، فينصرف إلى ما يعرفه السامع، فإن كان هناك عهد، فالسامع به أعرف، فيصرفه إليه، وإن لم يكن هناك عهد كان السامع أعرف بالكل من البعض؛ لأن الكل واحد، والبعض كثير مختلف، فيكون الجمع المعرف بـ أل منصرفا إلى الكل. الجواب الثاني: إنما يقال ذلك: إذا كان لا يتبادر من الجمع المعرف بـ " أل " أي معنى من المعنيين، وهذا غير صحيح هنا؛ لأنه يتبادر من الجمع المعرف بـ " أل " الاستغراق، فيكون يقتضيه حقيقة، ولا يحمل على العهد إلا بقرينة. الدليل الثاني: أنه يقال: " جمع الأمير العلماء "، فإنه معلوم: أنه ما جمع جميع العلماء الذين على وجه الأرض، والأصل في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1496 الكلام الحقيقة، فتكون هذه الألفاظ حقيقة فيما دون الاستغراق، فوجب أن لا تكون حقيقة في الاستغراق. جوابه: أن هذا القول صحيح، ولكنه مخصص بالعرف، فهو جمع العلماء الذين يمكنه جمعهم عرفا، كما يقال: " من دخل داري أكرمته "، فإنه لا يتناول الملائكة واللصوص. الدليل الثالث: أنه لو كان الجمع المعرف بـ " أل " يفيد العموم: للزم أن يكون قولنا: " رأيت كل الناس " خطأ؛ لأنه تكرار للفظين يؤديان معنى واحداً وهما: " كل "، و " الناس "، حيث يفيدان العموم. وللزم أن يكون قولنا: " رأيت بعض الناس " خطأ؛ لأنه تناقض، حيث إن لفظ " بعض " مناقض للفظ: " الناس ". جوابه: لا نسلم أن الأول يكون تكراراً، بل يكون تأكيداً. ولا نسلم أن الثاني يكون نقضا، بل يكون تخصيصا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي وهو ظاهر، فإنه على المذهب الأول يكون لفظ " الرجال "، أو " المؤمنون " مفيداً للعموم بدون قرائن، أما على المذهب الثاني فإنه لا يفيد العموم إلا بقرينة. فلو حلف ليصومن الأيام، فإنه بناء على المذهب الأول: يحمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1497 على جميع أيام العمر، وبناء "على المذهب الثاني: لا يحمل على شيء حتى تأتي قرينة تبين المراد، وهكذا. *** الصيغة الخامسة: الجمع المعرف بالإضافة يفيد العموم: دلَّ على ذلك ما يلي: الدليل الأول: صحة الاستثناء، فيجوز أن تقول: " أكرم طلاب الكلية إلا زيداً ". الدليل الثاني: لو قال: " أعتقت عبيدي وإمائي "، و " طلقت نسائي "، فإنه يعم جميع العبيد، والإماء، والنساء بإجماع العلماء. الدليل الثالث: سقوط الاعتراض عن المطيع بالأمر بهذه الصيغة وتوجهه على العاصي. وكل هذه الأدلة قد سبق بيانها. *** الصيغة السادسة: " واو " الجمع تفيد العموم، فإذا أمر جمعا بصيغة الجمع فإنه يكون للعموم: يدل على ذلك: أن السيد لو قال لعبيده: " قوموا "، فإن قاموا جميعا، فإنهم يستحقون المدح، وإن قام بعضهم، دون بعض، فإن الذين قاموا يستحقون المدح، أما الذين لم يقوموا فإنهم يستحقون الذم والتأديب. فاستحقاق هؤلاء للمدح، وهؤلاء للذم دليل على أن الصيغة للعموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1498 أثر هذه الصيغة: أنه لو قال - مثلاً - لوكلائه: " أعطوا زيداً مما في أيديكم عشرة"، فإن كل واحد مأمور بإعطاءه شيئاً، ويفهم أيضا من كلامه: أن كل واحد مأمور بإعطاءه عشرة غير ما يعطيه صاحبه. *** الصيغة السابعة: النكرة في سياق النفي هل تفيد العموم؟ مثاله: " لا أحد في الدار "، أو " ما قام أحد " ونحو ذلك. اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النكرة في سياق النفي تفيد العموم. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: صحة الاستثناء من هذه النكرة، فيجوز أن تقول: " لا رجل في الدار إلا زيداً "، و " ما قام أحد إلا زيداً "، والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام. الدليل الثاني: أنه لو لم تكن النكرة في سياق النفي تعم لما كان قول الموحد: " لا إله إلا اللَّه " نفيا لجميع الآلهة سوى اللَّه تعالى. الدليل الثالث: أن " لا " في قولهم: " لا رجل في الدار " مسماة بـ " لا الجنس "، وإنما ينتفي الجنس بانتفاء كل فرد من أفراده، وذلك يدل على أنه يفيد الاستغراق. المذهب الثاني: أن النكرة في سياق النفي لا تفيد العموم إلا بشرط أن تكون النكرة مسبوقة بـ " من " الجارة، سواء كانت ظاهرة كقوله تعالى: (وما من إله إلا الله) ، أو مقدرة كقوله: (لا إله إلا الله) ، والتقدير: ما من إله يعبد بحق إلا اللَّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1499 وهو مذهب بعض النحاة كأبي البقاء العكبري، وبعض اللغويين. دليل هذا المذهب: أن النكرة في سياق النفي إذا خلت من حرف " من " تكون غير صريحة في إفادتها للعموم؛ حيث يجوز الزيادة عليها فتقول مثلاً: " ما عندي رجل بل رجلان "، وهذا لا يؤدي إلى التناقض؛ حيث إنه قصد: أن ما عنده رجل واحد، بل عنده رجلان، لذلك لا تعم. أما إذا قال: " ما عندي من رجل "، فإنه يعم؛ لامتناع إثبات الزيادة عليه، فلا يمكنه أن يقول: " ما عندي من رجل بل رجلان " صمان قاله: وقع تناقض، ولا فرق بين الصورتين إلا إثبات " منْ " وعدمها، فدل على أن " من " هي المؤثرة في العموم. جوابه: يجاب عن هذا بجواب إجمالي، وتفصيلي: أما الجواب الإجمالي فهو أن يقال: إن هذا مخالف لإجماع العلماء في الفقه والعقيدة. أما مخالفته لما أجمع عليه العلماء في الفقه، فهو أن العلماء قد أجمعوا على أن الشخص لو حلف وقال: " والله لا آكل رغيفا " فإنه يحنث إذا أكل رغيفين، وتجب عليه كفارة يمين، فلو كان قولكم صحيحا: لما حنث؛ حيث إنه يؤول - على زعمكم - بأنه حلف أن لا ياكل رغيفا واحداً، ولم يحلف على أنه لا ياكل رغيفين. أما مخالضه لما أجمعت عليه الأُمَّة في العقيدة فبيانه أن يقال: لو كان يجوز أن يقال: " ما عندي رجل بل رجلان " لجاز أن يقال في قوله تعالى: (ولم تكن له صاحبة) بل صاحبتان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1500 ولجاز أن يقال في قوله تعالى: (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) ، بل يظلم اثنين، لأنه ورد فيها كلها نكرة، ولم يتوفر فيها شرطكم، وهو: كونها مسبوقة بـ مِن، لذلك ما تقتضي العموم على زعمكم، وهذا ظاهر البطلان، بل يؤدي إلى الكفر. أما الجواب التفصيلي فهو أن يقال: إن النكرة إذا أطلقت - أي: لم تقيد بأي قرينة - فإنها تكون مستعملة فيما وضعت له حقيقة، وهو العموم مثل قولنا: "ما عندي رجل "، و " لا رجل في الدار". أما إذا لم تطلق بل قيدت بقرينة، فإنها تكون لما اقتضته هذه القرينة، فتكون لغير ما وضعت له، وهو المجاز، أي: الخصوص مثل قوله: " ما عندي رجل بل رجلان "، فقوله: " بل رجلان " قرينة لفظية صرفت اللفظ، وهي: النكرة في سياق النفي من كونها مفيدة للعموم إلى أنها للخصوص، فإذا زالت هذه القرينة، فإن الصيغة وهي: النكرة في سياق النفي تعود لما وضعت له أصلاً، وهو: العموم، قياساً على أسماء الحقائق، فلو قال مثلاً: " رأيت أسداً "، فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على ما وضع له حقيقة وهو: الحيوان المفترس، فإذا قال المتكلم: " رأيت أسداً يخطب " فإن السامع يحمل لفظ " الأسد " على غير ما وضع له، وهو: الرجل الشجاع بسبب تلك القرينة، وهي لفظ " يخطب "، فلو زالت القرينة، فإن السامع يحمل لفظ " الألممد " على الحقيقة، وهو الحيوان المفترس. كذلك هنا: فإن لفظ " بل رجلان " إذا وجد لم تفد النكرة في سياق النفي العموم، وصارت للخصوص، وإذا عدم هذا اللفظ أفادت النكرة في سياق النفي العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1501 اعتراض على هذا الجواب: قال قائل - معترضاً -: إن كلامكم يدل على أن " من " الجارة لا تأثير لها في العموم، ووجودها في بعض الآيات، كقوله تعالى: (مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) لا فائدة منه، مما يؤدي إلى أن نقول: إن هناك حروفاً في القرآن قد وردت عبثا. جوابه: نحن لا نقول: إن لفظ: " من " لا فائدة لها، بل لها فائدة وهي: أنها مؤكدة للعموم، أي: أن النكرة في سياق النفي المسبوقة بـ " من " اَكد من النكرة في سياق النفي التي لم تسبق بـ " من "، وفائدة التوكيد في الكلام: رفع اللبس، وإزالة الاتساع في الفهم. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: ما سبق من أنه إذا قال: " والله لا آكل رغيفاً "، فإنه بناء على المذهب الأول يحنث إذا أكل رغيفاً فأكثر، وبناء على المذهب الثاني فإنه لا يحنث إذا اكل رغيفين. *** الصيغة الثامنة: المفرد المحلى بـ " أل " هل يفيد العموم؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يفيد العموم. وهو مذهب كثير من العلماء وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: صحة الاستثناء من المفرد المحلى بال، وقد ورد ذلك في القرآن كقوله تعالى: (إن الإنسان لفى خسر إلا الذين آمنوا) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1502 فاستثنى اللَّه تعالى هذا الجم الغفير - وهم المؤمنون - من لفظ " الإنسان "، وهو مفرد محلى بـ أل، فلو لم يكن المفرد المحلى بـ أل مفيداً للعموم لما جاز الاستثناء منه. الدليل الثاني: أنه يؤكد بما يؤكد به العموم، وقد ورد ذلك في قوله تعالى: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ) ، فلفظ "الطعام " مفرد محلى بـ " أل "، وأكد بلفظ " كل "، فلو لم يكن المفرد المحلى بـ " أل " مفيداً للعموم لما جاز تاكيده بما يؤكد به العموم. الدليل الثالث: أنه ينعت بما ينعت به العموم، وورد ذلك بقوله تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) ، فهنا قد نعت لفظ " الطفل " وهو مفرد محلى بـ " أل " بالجمع، وهو قوله: (الذين) ، فلو لم يكن المفرد المحلى بـ " أل " مفيداً للعموم: لما جاز ذلك. المذهب الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم. وهو مذهب كثير من العلماء كفخر الدين الرازي، وأكثر أتباعه، وأبي هاشم. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لو كان المفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم للزم أنه إذا قال: " لبست الثوب "، أو " شربت الماء " أنه لا يصدق إلا إذا لبس جميع ثياب العالم، وشرب جميع مياه الدنيا، وهذا لا يمكن، فدل على أن المفرد المحلى بـ " أل " لا يفيد العموم. جوابه: إن هذه الأقوال مفيدة للعموم، لكنها مخصصة بالعرف، ودليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1503 العقل، وهما مخصصان للعموم، فهو لم يلبس إلا الثوب المتعارف عليه أن يلبس، ولم يشرب إلا الماء الذي يرويه عرفا. الدليل الثاني: أن المفرد المحلى بـ " أل " لا ينعت بما ينعت به الجمع، فلا يقال: " جاءني الطالب الفضلاء "، فلو كان مفيداً للعموم لجاز ذلك. جوابه: أنا أثبتنا أن المفرد المحلى بـ " أل " ينعت بما ينعت به الجمع، وهذا ثبت عن طريق النقل من كتاب الله، ومن كلام العرب: أما الكتاب، فقد قال تعالى: (أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء) . أما كلام العرب فقد قالوا: " أهلك الناس الدينار الصفر والدرهم البيض "، فهنا قد نعت المفرد المحلى بـ " أل " وهو: " الدينار "، و"الدرهم " بالجمع، وهو " الصفر "، و " البيض "، ولم يقولوا: " أهلك الناس الدينار الأصفر والدرهم الأبيض " مما يدل على أن المفرد المحلى بـ " أل " يفيد العموم، أما ما ذكرتموه فهو من إنشاءكم لا يقوى على معارضة ما ذكرناه. بيان نوع الخلاف: هذا الخلاف معنوي؛ حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها: 1 - أنه لو قالت المرأة: " قد أذنت للعاقد بهذا البلد أن يزوجني " فإنه على المذهب الأول: يجوز لكل عاقد أن يزوجها، أما على المذهب الثاني: فلا يجوز. 2 - أنه لو قال: " إذا قدم الحاج فأنت طالق ".، فعلى المذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1504 الأول: أنها لا تطلق إلا إذا قدم جميع حجاج هذه البلدة، فلو مات أحد حجاج هذه البلدة، أو لم يرجع فإنها لا تطلق. أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق إذا قدم واحد من الحجاج. 3 - إذا نوى التيمم بتيممه الصلاة وأطلق، ولم ينو فرضاً ولا نفلاً - وقلنا: إن التيمم يبيح الصلاة ولا يرفع الحدث - فهل يتناول هذا التيمم الفرض والنفل؛ فبناء على المذهب الأول: أنه يتناول الأمرين، وبناء على المذهب الثاني: فإنه يتناول النفل فقط. الصيغة التاسعة: المفرد المعرف بالإضافة يفيد العموم: وهذا دلَّ عليه: صحة الاستثناء، فتقول مثلاً: " أكرم عالم هذه المدينة إلا زيداً "، والاستثناء دليل على أن المستثنى منه عام. أثر هذه الصيغة: 1 - إذا قال: " زوجتي طالق وعبدي حر "، ولم ينو معيناً: فإن جميع زوجاته طوالق، وجميع عبيدء أحرار؛ استدلالاً بهذه القاعدة. 2 - إذا قال: " وقفت هذه الدار على ولدي "، فإنه يتناول جميع أولاده الذكور والإناث؛ بناء على هذه القاعدة. *** الصيغة العاشرة: الاسم الموصول، سواء كان مفرداً كالذي، والتي، أو مثنى كاللذين، أو جمعاً كاللذين، واللاتي، واللائي يفيد العموم: دل على ذلك ما يلي: الدليل الأول: صحة الاستثناء فتقول: "أكرم الذي نجح إلا زيداً". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1505 الدليل الثاني: سقوط الاعتراض من السيد لعبده إذا أمر بأمر فيه اسم موصول، وامتثل العبد أمر السيد، وتوجهه إذا لم يمتثل. وهذا إذا قال للعبد: " أكرم الذي يدخل الدار ". وقد سبق بيان ذلك مراراً. *** الصيغة الحادية عشرة: " سائر ": وهي المشتقة من سور المدينة، أي: الشامل. أما " سائر " التي بمعنى الباقي فليست من صيغ العموم، ومنه قوله - صلى الله عليه وسلم - لغيلان الثقفي لما أسلم وتحته عشر من النسوة -: " اختر منهن أربعاً وفارق سائرهن " أي: باقيهن. ويدل على أن " سائر " من صيغ العموم ما يلي: الدليل الأول: استعمال فصحاء العرب لها على أنها تفيد العموم كقول أبي العلاء المعري: أشرب العالمون حبك طبعا ... فهو فرض في سائر الأديان وقال: فظن بسائر الإخوان شراً ... ولا تأمن على سر فؤادا الدليل الثاني: صحة الاستثناء، وقد ورد ذلك في قول ذي الرمة: معرسا في بياض الصبح وقعته ... وسائر السير إلا ذاك منجذب. فسائر هنا بمعنى: جميع، بدليل أنه استثني منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1506 المطلب السابع الجمع المنكر هل يفيد العموم إذا لم يقع في سياق النفي؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يفيد العموم، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن الجمع المنكر صالح لكل مرتبة من مراتب الجماعة التي تبتدي من الثلاثة إلى العشرة، فيصح أن تقول: "رجال ثلاثة وأربعة وخمسة"، وهذا كله جائز، لكن لا تشير بذلك إلى أقل من ثلاثة، إذن الثلاثة لا بد منها، فثبت أنها تفيد الثلاثة فقط؛ لأنه أقل الجمع، ولا يحمل على ما زاد عليه إلا بدليل. المذهب الثاني: أنه يفيد العموم. وهو مذهب الجبائي. دليل هذا المذهب: أن المرتبة المستغرقة لهذه المراتب إحدى مراتب الجمع المنكر، فيحمل عليها؛ لأنه أحوط، فإن ما عداها داخل فيها، أما هي فلا تدخل في غيرها، وما دام الجمع المنكر يصح حمله على المرتبة المستغرقة لجميع المراتب كان عاما؛ لأنه يصدق عليه تعريف العام، وهو: أنه لفظ استغرق جميع ما يصلح له. جوابه: لا نسلم أن الأحوط هو حمل الجمع المنكر على المرتبة المستغرقة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1507 بل هذا ممنوع؛ لجواز أن يكون الأحوط هو حمله على أقل مراتبه، خصوصاً إذا وقع الجمع في جانب الأمر؛ لأن ذلك فيه براءة الذمة بخلاف حمله على المرتبة المستغرقة، فإن ذلك يكون شغل الذمة بما لم يقم الدليل على شغلها به، والأصل أن الذمة بريئة من التكاليف. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو ظاهر، فلو قال السيد لعبده: " أكرم علماء "، فإنه بناء على المذهب الأول: يكرم العبد ثلاثة فقط وتبرأ ذمته، وبناء على المذهب الثاني: فإنه لا تبرأ ذمة العبد إلا بعد أن يكرم جميع العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1508 المطلب الثامن هل نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة بينهما من كل الوجوه؟ فمثلاً إذا قلنا: " لا يستوي زيد وعمر "، فهل هذا يقتضي نفي المساواة في جميع الوجوه: في الكرم والعلم، والخلق، وغير ذلك أو هو: يقتضي نفي المساواة من بعض الوجوه - فقط - كالكرم، أو نحو ذلك؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن نفي المساواة بين الشيئين يقتضي نفي المساواة بينهما من كل الوجوه التي يمكن نفيها عنهما. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأن هذا من قبيل النكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي من صيغ العموم - كما سبق - وهي تفيد العموم من جميع الوجوه. المذهب الثاني: أن نفي المساواة بين الشيئين لا يقتضي نفي المساواة بينهما من كل الوجوه، بل من بعضها - فقط -. وهو مذهب بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من الحنفية. دليل هذا انذهب: أن نفي المساواة بين الشيئين يحتمل احتمالين هما: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1509 الاحتمال الأول: نفي المساواة بينهما من كل الوجوه. الاحتمال الثاني: نفي المساواة بينهما من بعض الوجوه. ومعلوم أن المقسم - وهو نفي المساواة - أعم من القسمين، وبذلك يكون نفي المساواة أعم، وكل واحد من القسمين أخص، والأعم لا يدل على الأخص من حيث خصوصه، فلا يكون نفي المساواة عاماً في نفيها من كل الوجوه. جوابه: نسلم أن الأعم لا يدل على الأخص في جانب الإثبات؛ لأن ثبوت الأعم لا يعتبر ثبوتاً للأخص، فمثلاً: لو قال شخص: "رأيت حيواناً " لا يدل على أنه رأى إنسانا. أما في جانب النفي فلا نسلم ما ذكرتموه، فإن الأعم يدل على الأخص، لأن المراد بالنفي هو: نفي الماهية، والماهية لا تنتفي إلا بانتفاء جميع أفرادها، فلو بقي فرد من أفرادها لتحققت الماهية فيه، وحينئذٍ لايتحقق ما قصد من اللفظ. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها: إذا قتل المسلمُ الكافر الذمي فهل يقتل المسلم به؟ اختلف في ذلك على قولين -: القول الأول: إن المسلم لا يقتل بالكافر الذمي؛ لقوله تعالى: (لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة) ، ونفي الاستواء يقتضي نفيه من جميع الوجوه، فلو قتل المسلم بالكافر: لحصل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1510 بينهما استواء في القصاص، والذمي غير مساو للمسلم، بل هو أقل منه في العصمة. القول الثاني: أن المسلم يقتل بالكافر الذمي، واستدلوا بآثار، منها: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قتل مسلما بذمي وقال: " أنا أحق من وفى بذمته ". ولما قيل لهم: إن هذا ينافي نص الآية التي نفت المساواة بينهما، وهذا النفي عام للدنيا والآخرة. قالوا: إن المراد بنفي المساواة في الآية، هو: نفي المساواة من وجه واحد وهو: نفيها في الفوز بالجنة بدليل قوله: (أصحاب الجنة هم الفائزون) . فعند أصحاب القول الثاني: إن المساواة متحققة بين المسلم والكافر الذمي في الدنيا، فالذمي دمه معصوم كالمسلم، فمن قتله قتل به، ولو كان مسلما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1511 المطلب التاسع الفعل المتعدي إلى مفعول هل له عموم بالنسبة إلى مفعولاته أو لا؟ المسألة مفروضة فيما إذا كان الفعل متعديا، ولم يذكر مفعوله، ووقع الفعل في سياق النفي كقوله: " والله لا آكل "، أو وقع في سياق الشرط كقوله: " إن أكلت فأنتِ طالق "، فهل يكون هذا عاما في جميع المأكولات أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يكون عاماً في جميع المأكولات، وإذا كان كذلك فإنه يقبل التخصيص؛ حيث إنه: إن نوى المتكلم مأكولاً معيناً، فإنه لا يحنث بأكل غيره. وهذا مذهب جمهور العلماء وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الفعل من باب النكرة، والنكرة إذا وقعت في سياق النفي فإنها تعم، كذلك الفعل إذا وقع في سياق الشرط فإنه يعم، وقد سبق أنهما - أي: أن النكرة في سياق النفي، والشروط - من صيغ العموم، إذن الفعل في سياق النفي، والشرط عام، ومتى ثبت عمومه فإنه يقبل التخصيص. الدليل الثاني: أن الفعل المنفي في قوله: " والله لا آكل " يقصد منه نفي الماهية، والماهية - كما قلنا سابقاً - لا تنتفي إلا بانتفاء جميع أفرادها، حيث إنه لو بقي فرد لتحققت الماهية فيه، فيكون اللفظ - على هذا - عام، والعام يقبل التخصيص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1512 المذهب الثاني: أنه لا يكون عاما في جميع المأكولات، وإذا كان كذلك فإنه لا يقبل التخصيص، وهو مذهب كثير من الحنفية. دليل هذا المذهب: قياس الفعل المتعدي في مفعوله على الزمان والمكان، بيان ذلك: أنه لو عم الفعل المتعدي في مفعوله: للزم من ذلك: أن يعم كذلك في الزمان والمكان؛ قياساً على ذلك، والجامع: أن كلًّا من هذه الأمور يعتبر لازماً من لوازم الفعل، فالفعل المتعدي لا يتحقق إلا بمفعول، وهو كذلك لا يتحقق إلا في زمان ومكان، لكن الفعل المتعدىِ لا يعم بالنسبة للزمان، ولا المكان، فلذلك لا يقبل التخصيص فيها، فكذلك ما نحن فيه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عدم عموم الفعل في الزمان والمكان؛ بل هو عام فيهما، وإذا كان كذلك فإنه يقبل التخصيص، فمن قال لزوجته: " إن كلمت زيداً فأنت طالق "، ثم قال: " قصدت التكليم شهراً "، فإنه يقبل منه ذلك، ونقل هذا عن الإمام الشافعي وهذا صريح في عموم الزمان وقبوله التخصيص، والمكان مثله. الجواب الثاني: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن ذكر الفعل المتعدي يعتبر ذكراً للمفعول به، فكأنه موجود في اللفظ، فإذا قال: " والله لا آكل "، فإن الأكل قد ذكر في اللفظ، فيوصف بالعموم، ويرد عليه التخصيص، أما ذكر الفعل فلا يعتبر ذكراً لزمانه ولا لمكانه، فلا يكون كل منهما مذكوراً في اللفظ، فلا يوصفان بالعموم، ولذا لا يقبل التخصيص. - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1513 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - لو قال: " والله لا أضرب " ونوى الضرب بالعصا مثلاً، فإنه لا يحنث بالضرب بالسوط أو غيره؛ لأن كلامه عام وخصصه بالنية، وهذا بناء على المذهب الأول. أما بناء على المذهب الثاني، فإنه يحنث بالضرب بأي آلة؛ لأن كلامه لا يعم؛ لذلك لا تقبل التخصيص. 2 - لو قال: " إن أكلت فأنت طالق "، ونوى أكلاً معينا كالتفاح، فإنها لا تطلق إذا أكلت البرتقال، أو غير التفاح؛ لأن كلامه عام، وخصصه بالنية؛ لأن العام يقبل التخصيص، هذا بناء على المذهب الأول. أما على المذهب الثاني: فإنها تطلق باكل أي أكل؛ لأن كلامه لا يعم، لذلك لا يقبل التخصيص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1514 المطلب العاشر دلالة العام هل هي ظثية أو قطعية؟ لقد قلنا: إن للعموم صيغاً مستعملة فيه تدل عليه، وهي تلك الصيغ التي ذكرناها، لكن هل إفادتها للعموم ظنية، أو قطعية؛ أي: هل تلك الألفاظ والصيغ تدل على العموم مع احتمال أن المقصود بها الخصوص، أو أنها تدل على العموم مع عدم احتمال الخصوص؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن دلالة العام ظنية، أي: أن تلك الصيغ والألفاظ تدل على العموم والخصوص، لكن دلالتها على العموم أرجح من دلالتها على الخصوص. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن هذه الصيغ تستعمل للعموم كما سبق الاستدلال عليه - ومع ذلك فقد كثر إطلاقها وإرادة الخصوص كثرة لا تحصى حتى اشتهر قولهم: " ما من عام إلا وقد خصِّص " إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ، واستعمال تلك الألفاظ والصيغ في الخصوص كثيراً تجعل دلالتها على العموم ظنية؛ لأن احتمال إرادة الخصوص بها وارد وثابت بدليل، وهو ما سبق. المذهب الثاني: أن دلالة العام قطعية، أي: أن تلك الصيغ والألفاظ تدل على العموم دلالة قطعية، فلا يحتمل الخصوص. وهو مذهب أكثر. الحنفية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1515 دليل هذا المذهب: أن تلك الصيغ وضعت للعموم، دون الخصوص، فلا يفهم منها عند إطلاقها إلا ما وضعت له - وهو العموم -، واحتمال الخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليل، والاحتمال المجرد عن الدليل لا ينافي قطعية الدلالة. جوابه: لا نسلم أن احتمال الخصوص منها احتمال عقلي مجرد عن الدليل بل إرادة الخصوص منها هو احتمال ناشى عن دليل - وهو: كثرة استعمالها في الخصوص حتى قيل: ما من عام إلا وقد خصص، والاحتمال الناشئ عن دليل ينافي القطعية بالمدلول. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، له أثره؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول: فإن القياس وخبر الواحد يقويان على تخصيص العام؛ لأن دلالته عند هؤلاء ظنية، ودلالة خبر الواحد والقياس ظنية، والظني يقوى على تخصيص الظني. أما بناء على المذهب الثاني: فإن القياس وخبر الواحد لا يقويان على تخصيص العام؛ لأن دلالته عند هؤلاء قطعية، ودلالة القياس وخبر الواحد ظنية، والظني لا يقوى على تخصيص القطعي. وانبنى على ذلك بعض الفروع التي سيأتي ذكرها في المخصصات إن شاء اللَّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1516 المطلب الحادي عشر أقل الجمع ما هو؟ لتحرير محل النزاع في هذه المسألة لا بد أن أذكر ما يلي: أولاً: ليس محل النزاع في هذه المسألة في معنى لفظ " الجمع " المركب من " ج، م، ع "، وذلك لأن موضوع هذا اللفظ يقتضي ضم شيء إلى شيء، وهذا منطبق على الاثنين والثلاثة، وما زاد بلا خلاف. ثانيا: وليس محل لخلاف في لفظ " الجماعة " في غير صلاة، فإن أقله ثلاثة بلا خلاف. ثالثاً: وليس محل الخلاف في تعبير الاثنين عن نفسيهما، أو الواحد عن نفسه بضمير الجمع، سواء كان ضمير المتكلم متصلاً كقوله: "فعلنا"، أو منفصلاً كقوله: " نحن ". رابعاً: وليس محل الخاث ف مدلول مثل قوله تعالى: (فقد صغت قلوبكما) ، وقول اسقائل: " ضربت رؤوس الرجلين "، و"وطئت بطونهما "، وذلك لأن التعبير عن عضوين من جسدين بلفظ الجمع يقصد منه التخفيف، فإنه لو قيل: " قلباكما " لثقل اجتماع ما يدل على التثنية فيما هو كالكلمة الواحدة مرتين. خامسا: وليس محل التخفيف هو الجمع المعرف بـ " أل " كالرجال، فإنه للاستغراق. إذن ما هو محل النزاع؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1517 محل النزاع هو: جمع القلة المنكر، وهي التي تكون على وزن أربعة أمور هي كما يلي: 1 - أفعلة كأرغفة 2 - أفعل كأرجل. 3 - أفعال كأثواب 4 - فِعْلَة كصبية. وكذلك جمع المذكر السالم المنكر كمسلمين، وجمع المؤنث السالم كـ " مسلمات ". وكذلك جمع الكثرة المنكر كرجال. وكذلك " واو الجمع " مثل الواو في قوله: " خرجوا ". فاختلف العلماء في أقل الجمع هل هو ثلاثة أو اثنان أو واحد على مذاهب هي كما يلي: المذهب الأول: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنين والواحد مجازاً. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: ما روي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - أنه دخل على عثمان - رضي اللَّه عنه - فقال له: إن الأخوين لا يردان الأم إلى السدس، إنما قال تعالى: (فإن كان له أخوة فلأمه السدس) ، والأخوان في لسان قومك ليسا بأخوة، فقال عثمان: "لا أستطيع أن أنقض أمراً كان قبلي، وتوارثه الناس، ومضى في الأمصار ". وجه الدلاله: أن ابن عباس - وهو من أرباب اللسان وأهل اللغة والفصاحة والبلاغة، وترجمان القرآن وحبر الأمة - قد بيَّن أن أقل الجمع ثلاثة في اللغة، وعثمان - وهو أيضاً من أهل اللسان واللغة - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1518 قد وافقه على ذلك، فلم ينكر عليه ذلك، وإنما اعتذر عنه بأنه ترك مقتضى اللسان في هذه المسألة الفرعية - وهي مسألة حجب الأم من الثلث إلى السدس - بسبب وجود قرينة صرفت اللفظ من كونه لثلاثة إلى كونه يحمل على اثنين، وهذه القرينة والدليل هو: إجماع من قبله على خلافه، فلما عدل عن ذلك بالإجماع دلَّ على صحة ما قاله ابن عباس من أن الأخوين ليسا بأخوة في لغة العرب، فدل على أن الجمع لا يطلق على الاثنين حقيقة، فدل على أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن هذا الأثو ضعيف من حيث سنده؛ لأنه من رواية شعبة بن دينار، وهذا قد تكلم فيه أئمة الحديث، والحديث الضعيف لا يمكن أن يستدل به على إثبات قاعدة أصولية ككون أقل الجمع ثلاثة. جوابه: لا نسلم ضعف هذا الأثر؛ حيث إن الحاكم قد صحَّحه في "المستدرك "، فقال: " هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه "، وقد وافقه الذهبي على ذلك في " تعليقه على المستدرك "، ونقل الذهبي في " ميزان الاعتدال " أن أحمد بن حنبل قال في شعبة هذا: إنه ما به بأس. الاعتراض الثاني: على فرض صحة هذا الأثر، فإنه معارض بما أخرجه البيهقي في " السنن الكبرى "، والحاكم في " المستدرك " عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أبيه أنه كان يقول. " الإخوة في كلام العرب أخوان فصاعداً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1519 جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا الأثر المنقول عن زيد بن ثابت قد ورد في سنده عبد الرحمن بن أبي الزناد، وهذا الرجل قد تكلم فيه بعض أئمة الحديث، فقال الإمام أحمد بن حنبل: " إنه مضطرب الحديث " وقال يحيى بن معين: " ابن أبي الزناد لا يحتج بحديثه "، وهذا الكلام في هذا الرجل قد ضعَّف من هذا الأثر مما جعله لا يقوى على معارضة الأثر الوارد عن ابن عباس وعثمان. الجواب الثاني: على فرض صحة ما نقل عن زيد ومعارضته لما نقل عن ابن عباس وعثمان، فإنا نرجح الأثر المروي عن عثمان وابن عباس؛ وذلك نظراً لكثرة وعظم مرتبة ابن عباس وعثمان - رضي الله عن الجميع - وعلمهما الواسع في الشريعة واللغة. الجواب الثالث: سلمنا صحة نسبة الأثر إلى زيد: فإنه يمكن الجمع بينه وبين الأثر المروي عن ابن عباس وعثمان بطرق، أحسنها: أن الأثر المروي عن عثمان وابن عباس يحمل على إطلاق اللغة بصورة عامة، فإنها تقتضي أن أقل الجمع ثلاثة في جميع أبواب الفقه، أما كلام زيد فإنه يحمل على أن الجمع يطلق علي الاثنين في هذه المسألة فقط، وهي: " حجب الأم من الثلث إلى السدس بالأخوين "، وهناك أجوبة أخرى وطرق للجمع قد ذكرتها في كتابي " أقل الجمع عند الأصوليين "، فارجع إليه. الدليل الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الراكب شيطان، والراكبان شيطانان والثلاثة ركب ". وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - قد فصل بين التثنية والجمع، وجعل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1520 للاثنين اصطلاحاً خاصا دون الجمع، فعلم أن التثنية ليست بجمع حقيقة. الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشيطان يهم بالواحد والاثنين، فإذا كانوا ثلاثة لم يهم بهم ". وجه الدلالة: نفس السابق. الدليل الرابع: أن الثلاثة تنعت بالجمع، والجمع ينعت بالثلاثة فيقال: " ثلاثة رجال "، و " رجال ثلاثة "، لكن التثنية لا تنعت بالجمع، ولا ينعت الجمع بالتثنية، فلا يقال " اثنان رجال "، ولا يقال: " رجال اثنان "، فلو كان الاثنان أقل الجمع: لجاز نعت أحدهما بالآخر، لكن ذلك لا يجوز، فلا يكون الاثنان جمعا. الدليل الخامس: أن العرب جعلت مراتب الأعداد ثلاثة أقسام: " الواحد "، ثم " التثنية "، ثم " الجمع "، فقالوا: " رجل "، و" رجلان "، و " رجال ". فلو كان الجمع يطلق على الاثنين حقيقة: لكانت مراتب الأعداد منحصرة في ضربين هما: " الواحد "، و " الجمع "، وهذا مما لا يجوز؛ لأنه خلاف ما استقر عليه وضع لغة العرب. الدليل السادس: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع في الضمير المتصل، فقالوا في التثنية: " فعلا "، و " افعلا "، وقالوا في الجمع: " فعلوا "، و " افعلوا "، فلو كان الجمع يطلق على التثنية: لما فرقوا بينهما، ولقالوا لكل منهما: " فعلوا " أو " افعلوا" ولكنهم لم يقولوا ذلك مما يدل على أن التثنية ليست بجمع، فينتج: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة. الدليل السابع: أن أهل اللغة قد فرقوا بين التثنية والجمع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1521 الضمير المنفصل، فقالوا في الجمع: " هم فعلوا "، وقالوا في التثنية: " هما فعلا "، فلو كانت التثنية جمعا لما فرقوا بينهما في ذلك، ولقالوا: " هم فعلوا " للجمع والتثنية. الدليل الثامن: أن أهل اللغة قد فرَّقوا بين التثنية والجمع بالتأكيد، فقالوا في الجمع: " جاء الزيدون أنفسهم "، وقالوا في التثنية: "جاء الزيدان أنفسهما "، فلو كان الجمع يطلق على التثنية وأن الاثنين أقل الجمع: لجاز تأكيد أحدهما بالآخر. الدليل التاسع: أن ما فوق الاثنين هو المتبادر إلى الفهم من صيغة الجمع، والتبادر إلى الفهم من علامات الحقيقة، بخلاف عدد الاثنين، فإنه لا يتبادر إلى الفهم من إطلاق لفظ الجمع، وهذا يدل على، أن الجمع يكون حقيقة في الزائد على الاثنين، وهو: الثلاثة فما فوقها، فيكون أقل الجمع ثلاثة. المذهب الثاني: أن أقل الجمع اثنان حقيقة، ويطلق على الواحد مجازاً. وهو مذهب القاضي الباقلاني، والباجي، وابن الماجشون، وداود الظاهري، وابنه محمد، وأبي إسحاق الإسفراييني، وهو اختيار علي بن عيسى النحوي، ونفطويه، والخليل بن أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع وهو الوارد بقوله: " معكم "، والمراد: موسى وهارون - عليهما السلام - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1522 وهما اثنان، والمراد بالإطلاق الحقيقة، فلو لم يكن الاثنان جمعا لما أطلق عليهما ضمير الجمع وأرجعه إليهما. جوابه: إن الضمير الوارد في قوله: (معكم) لم يرجع إلى اثنين - كما زعمتم -، بل هو راجع إلى ثلاثة وهم: موسى، وهارون، وفرعون، والمقصود بالمعية هنا: هي: معية العلم، أي: أن اللَّه لما أمر موسى وهارون بالذهاب إلى فرعون، فلما وصلوا إليه فهو معهم بالعلم لما يقولون - أي: مع موسى وهارون والذي ذهبوا إليه، وهو فرعون. الدليل الثاني: قوله تعالى: (عسى اللَّه أن يأتيني بهم جميعا) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه أطلق ضمير الجمع، وهو الوارد في قوله: (بهم) ، وأرجعه إلى اثنين، وهما: " يوسف " وشقيقه " بنيامين ". فلو لم يكن الاثنان جمعا: لما جمع الضمير، ولقال: " بهما"، ولكنه سبحانه لم يقل ذلك، بل قال: " بهم " مما يدل على أن التثنية جمع، فيكون أقل الجمع اثنين. جوابه: إن الضمير في قوله: " بهم " لم يرجع إلى اثنين - كما زعمتم - بل رجع إلى ثلاثة، وهم: " يوسف "، و " بنيامين "، وأخيهم الأكبر: " شمعون " القائل: (فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي) فيكون على وجهة. الدليل الثالث: قوله تعالى: (وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1523 وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد استعمل لفظ " الجمع " في قوله: (إِذْ تَسَوَّرُوا) في الاثنين وهما الملكان، وهما الخصمان، بدليل قوله: (خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ) إلى قوله: (إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ) ، فلو لم يكن الاثنان جمعا لما أرجع ضمير الجمع في (تَسَوَّرُوا) إليهما، فيكون أقل الجمع اثنين. جوابه: إن الضمير في قوله: (تَسَوَّرُوا) لم يرجع إلى اثنين، بل رجع إلى أكثر، حيث إنه يجوز أنه حضر مع جبريل وميكائيل جماعة من الملائكة، ورد الضمير بلفظ الجمع إلى الجميع، فقال: (إِذْ تَسَوَّرُوا) . الدليل الرابع: قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد رد ضمير الجمع في قوله: (اقتتلوا) إلى التثنية، وهما: (الطائفتان) ، فدل على أن التثنية جمع، فيكون أقل الجمع اثنين. جوابه: إن هذه الآية لا تصلح للاستدلال بها على أن أقل الجمع اثنان؛ لأن المراد بالطائفة - هنا - الجمع، وليس المفرد، يؤيد ذلك سبب. نزول هذه الآية، حيث قال سعيد بن جبير: إن الأوس والخزرج كان بينهم على عهد رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قتال بالسيف والنعال ونحوه، فأنزل اللَّه هذه الآية فيهم، وقال مجاهد: تقاتل حيان من الأنصار بالعصي والنعال فنزلت الآية، وقيل في سبب نزولها غير ذلك، وكل ما ذكر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1524 من سبب يدل دلالة واضحة على أن المراد بالطائفة هنا هو جمع وليس مفرداً. الدليل الخامس: قوله تعالى: (وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد جمع الضمير في قوله: (لِحُكْمِهِمْ) مع أن المراد به اثنان هما: " سليمان "، و " داود " مما يدل على أن صيغة الجمع تتناول الاثنين حقيقة، فيكون أقل الجمع اثنين. جوابه: إن ضمير الجمع الوارد في قوله: (لِحُكْمِهِمْ) لم يرجع إلى اثنين، بل هو راجع إلى أربعة وهم: الحاكمان وهما: " داوود "، و" سليمان "، والمحكوم له وهو صاحب الزرع، والمحكوم عليه وهو صاحب الغنم. اعتراض على هذا الجواب: قال قائل - معترضا -: سلمنا أن الحكم يضاف إلى الحاكم، لكن لا نُسَلِّمُ أن الحكم يضاف إلى المحكوم عليه أو له. جوابه: يجوز في لغة العرب نسبة الحكم إلى المحكوم عليه أوله عن طريق المجاز، يقال للذي له قضية في محكمة: " هل صدر حكمه؟ " فمثل هذا الإطلاق يجوز لغة، ولا مانع منه، وهو محكوم له أو عليه، والقرآن نزل بلغة العرب. وهناك ستة أجوبة عن الاستدلال بهذه الآية قد ذكرتها في كتابي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1525 " أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه "، فارجع إليه إن شئت. الدليل السادس: قوله تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد عبر عن الإخوة بالأخوين، وهذا يدل على أن التثنية جمع، فلو لم تكن التثنية جمعا لما قال ذلك، فيدل على أن أقل الجمع اثنان. جوابه: المراد بلفظ " الأخوين " هنا: الطائفتان، أو القبليتان، أو الجماعتان؛ لأن اسم الأخوين يقع على ذلك، قال الشاعر: فألحق بحلفك في قضاعة إنما ... قيس عليك وخندق إخوان فسمى القبيلتين أخوين. الدليل السابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الاثنان فما فوقهما جماعة ". وجه الدلالة: أن هذا نص في أن أقل الجمع اثنان؛ حيث إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن الاثنين جماعة، والرسول - عز وجل - من أهل اللغة، بل أبلغهم وأفصحهم، فلو نقل هذا عن واحد من الأعراب لكان حُجة، فعن صاحب الشرع أوْلى. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الحديث ضعيف؛ حيث روي هذا الحديث من طرق كثيرة كلها ضعيفة، وقد بيَّنت هذه الطرق في كتابي " أقل الجمع عند الأصوليين "، وإليك بعضا من ذلك: أن في سنده: " الربيع بن بدر " قال عنه النسائي: " متروك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1526 الحديث "، وقال يحى بن معين: " ليس بشيء "، وقال ابن أبي حاتم الرازي: " الربيع بن بدر لا يشتغل به، ولا بروايته، فإنه ضعيف الحديث "، وقال ابن كثير في " تحفة الطالب ": " الربيع اتفق أئمة الجرح والتعديل على جرحه ". وقيل غير ذلك. وإذا كان كذلك فلا يصلح للاستدلال به على إثبات قاعدة أصولية وهي: أن أقل الجمع اثنان. الجواب الثاني: على فرض صحة هذا الحديث فإنه لا يدل على أن أقل الجمع اثنان مطلقا، بل يحمل على أن المراد حصول فضيلة الصلاة جماعة من حيث الحكم الشرعي، لا من حيث اللفظ اللغوي؛ لأن الشارع إنما يبين الأحكام التي بعث لبيانها لا اللغات التي عرفت من غيره؛ لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما بعث لبيان الشرعيات. وبهذا يكون هذا الحديث - إن صح - دليلاً لنا، لا لهم؛ حيث إنه لو كان الاثنان جمعا حقيقة: لما احتاج إلى البيان؛ لأنه يعرف ذلك من اللغة ما يعرفه. المذهب الثالث: أن أقل الجمع واحد حقيقة. وهو مذهب أبي حامد الإسفراييني، ونسبه بعضهم إلى إمام الحرمين، ولكن هذه النسبة ليست صحيحة كما بينت ذلك في كتابي " أقل الجمع عند الأصوليين ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1527 وجه الدلالة: أنه سبحانه وحده منزل الذكر، فإذا ثبتت العبارة بلفظ الجمع عن الواحد لم يستنكر حمل معلوم المخصص على الواحد حقيقة. جوابه: إن هذا ليس في محل النزاع؛ حيث قلنا: إن الواحد الذي يُعبِّر عن نفسه بلفظ الجمع، فإنه تعبير صحيح، لكن جاء عن طريق المجاز. الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) . وجه الدلالة: هو نفسه ما سبق. جوابه: هو نفس الجواب السابق. الدليل الثالث: أن إطلاق لفظ الجمع على الواحد قد ورد في كلام العرب، فمثلاً: إذا برزت امرأة لرجل واحد حَسُنَ من زوجها أن يقول - في توبيخها -: " أتتبرجين للرجال يا لكعاء "، وهو لم ير إلا رجلاً واحداً. جوابه: إنه لا يعني بلفظ " الرجال " رجلاً واحداً، بل استعمل لفظ الجمع، وهو " الرجال " بدلاً من لفظ " الواحد "، لأن غرض الزوج لم يتعلق بذلك الرجل الواحد، بل تعلق غرضه بجنس الرجال لظنه أنها ما تبرجت لواحد إلا وقد تبرجت لغيره، فتبرجها لواحد سبب للإطلاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1528 المذهب الرابع: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ويطلق على الاثنين مجازاً، ولا يطلق على الواحهد لا حقيقة ولا مجازاً. دليل هذا المذهب: أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثة جقيقة بأدلة أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور -. ثانيا: واستدلوا على أنه يطلق على الاثنين مجازاً بما استدل به أصحات المذهب الأول؛ حيث إنهم يطلقون الجمع على الثلاثة، ولا يمنعون من إطلاقه على الاثنين مجازاً. ثالثاً: استدلوا على أن الجمع لا يطلق على الواحد مجازاً بقولهم: إن المجاز لا بد فيه من قرينة وعلاقة، ولا علاقة بين المعنى الحقيقي - وهو الثلاثة - والمعنى المجازي - وهو الواحد - فلا يصح إطلاق الجمع عليه مجازاً. جوابه: إن الجمع يطلق على الواحد مجازاً، كما في الواحد ينزل نفسه منزلة الجمع كقوله: " نحن فعلنا "، وهذا معروف أنه مجاز - كما قلنا ذلك في المذهب الثالث -. والعلاقة بين المعنى الحقيقي وهو: الجمع، والمعنى المجازي وهو: الواحد موجودة، وهي اليتعدد الصادق بالتعدد الواقعي كما في الجمع، والتعدد التقديري كما في الواحد الذي يقوم بما تقوم به الجماعة. المذهب الخامس: أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة، ولا يطلق على الاثنين حقيقة ولا مجازاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1529 أدلة هذا المذهب: أولاً: استدل أصحاب هذا المذهب على أن أقل الجمع ثلاثة حقيقة بما استدل به أصحاب المذهب الأول، وهم الجمهور. ثانياً: واستدلوا على أن الجمع لا يطلق على الاثنين لا حقيقة، ولا مجازاً بالأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لا علاقة بين الاثنين والجمع، وعند فقد العلاقة يمتنع المجاز، وذلك لأن المجاز لا بد فيه من العلاقة. جوابه: أن الجمع يطلق على الاثنين بطريق المجاز، والعلاقة بين الاثنين والجمع موجودة وهي: التعدد الواقعي؛ حيث إن الاثنين فيهما تعدد، والجمع فيه تعدد كذلك. الدليل الثاني: أنه لو صح إطلاق الجمع على الاثنين، ولو مجازاً: لصح نعت التثنية بالجمع وبالعكس، لكن لا يجوز أن يقال: " جاءني رجلان عالمون "، ولا " جاء رجال عالمان ". جوابه: إن العرب كانت تراعي صورة اللفظ محافظة للتماثل بين الصفة والموصوف، فلهذا لم يجوزوا نعت المثنى بالجمع ولا العكس. وقد التزم بعضهم النعت مع الاختلاف مجازاً. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، قد أثر في بعض المسائل الفقهية، ومنها: 1 - لو حلف وقال: " والله لا أكلم بني آدم ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1530 فإنه لا يحنث إلا إذا كلم ثلاثة؛ بناء على المذهب الأول وهو: أن أقل الجمع ثلاثة. وقيل: يحنث إذا كلم اثنين، بناء على المذهب الثاني وهو: أن أقل الجمع اثنان. ويلزم على المذهب الثالث - وهو: أن أقل الجمع واحد: أنه يحنث إذا كلم واحداً. 2 - الصلاة على الميت. قيل: لا بد أن يصلي عليه ثلاثة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة. وقيل: يكفي أن يصلي عليه اثنان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان. وقيل: يكفي أن يصلي عليه واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد. 3 - لو قال الزوج: " إن تزوجت نساء فأمرأتى طالق ": لم تطلق إلا إذا تزوج ثلاث نسوة؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة. ويلزم على المذهب الثاني - وهو: أن أقل الجمع اثنان -: إن امرأته تطلق إذا تزوج امرأتين. ويلزم على المذهب الثالث - وهو؛ أن أقل الجمع واحد -: إن امرأته تطلق إذا تزوج امرأة واحدة. 4 - إذا نذر صوم أيام - ولم يبين مقصده - فإنه يلزمه ثلاثة أيام؛ بناء على أن أقل الجمع ثلاثة. ويلزمه يومان؛ بناء على أن أقل الجمع اثنان. ويلزمه يوم واحد؛ بناء على أن أقل الجمع واحد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1531 5 - لو قال لزوجته: " أنت طالق طلقات " - ولم يبين مقصده - فإنه يلزمه ثلاث طلقات، بناء على أن أقل الجمع ثلاثة. ويلزمه طلقتان، بناء على أن أقل الجمع اثنان. ويلزمه طلقة واحدة؛ بناء على أن أقل الجمع واحد. وقد أفردت هذه المسألة بمصنف مستقل - لما رأيت أهميتها لطالب العلم - سميته: " أقل الجمع عند الأصوليين وأثر الاختلاف فيه " قد توسعت بذكر المذاهب، وأدلتهم، والمناقشة، وأثر الخلاف الفقهي والأصولي، فارجع إليه إن شئت فهو مطبوع بمجلد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1532 المطلب الثاني عشر هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب؟ إذا ورد لفظ عام على سبب خاص - واللفظ مستقل بنفسه دون سببه - فهل يسقط السبب عموم اللفظ أو لا؟ فمثلاً إذا حدثت حادثة فوردت في حكمها آية أو حديث بلفظ عام من الألفاظ، والصيغ السابقة الذكر، فهل يكون هذا الحكم خاصا، نظراً إلى سببه، أو عاماً نظراً إلى لفظه؛ أي: إن كان الجواب عاما والسؤال خاصا، فهل خصوص السبب يخصص العام، أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب. أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص لا يختص به، بل يكون عاماً لمن تسبَّب في نزول الحكم ولغيره. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الحجة في لفظ الشارع: فإن أورد الشارع الحكم وهو مشتمل على صيغة من صيغ العموم - السابقة الذكر -: جعلنا الحكم عاماً سواء نزل ذلك الحكم بسبب، أو بغير سبب، وإن أورد الشارع الحكم بلفظ خاص: خصصنا ذلك الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1533 فالمعتبر هو اللفظ، وقد أجمع العلماء على ذلك في بعض الصور. فمثلاً لو كان لرجل أربع نساء فقلن له: " طلفنا جميعاً "، فقال هو: فلانة طالق، فإنه لا تطلق إلا واحدة، وهي المعينة، فلم ينظر إلى السؤال العام، بل نظرنا إلى لفظ الزوج. كذلك لو قالت واحدة منهن: " طلقني "، فقال: " كل نسائي طوالق "، فهنا: جميع نسائه يطلقن؛ حيث نظرنا إلى لفظ الزوج، ولم ينظر إلى سبب هذا القول. الدليل الثاني: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على تعميم الأحكام الواردة على أسباب خاصة، بيان ذلك: أن أكثر العمومات - قد وردت على أسباب خاصة، فمثلاً: آيات الظهار نزلت في شأن أوس بن الصامت وزوجته، وآيات اللعان نزلت في شأن عويمر العجلاني وزوجته، وقيل: إنها نزلت في هلال بن أمية وزوجته، وآية السرقة قد نزلت في سرقة رداء صفوان بن أمية، وآية القذف نزلت في شأن عائشة - رضي اللَّه عن الجميع - والأمثلة كثيرة. والصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد عمموا أحكام هذه الآيات من غير نكير، فدل على أن الأحكام لا تخصص بأسبابها، ولو كانت مخصصة بأسبابها: لكان إجماع الصحابة على التعميم خلاف الدليل، وهذا لم يقل به أحد. الدليل الثالث: أن المقتضي للعمل بالعموم موجود، وهو اللفظ العام الذي يشمل السبب وغيره وضعا، والمانع له غير موجود؛ حيث لا يوجد بين السبب والعام تنافي؛ نظراً لإمكان العمل بالعام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1534 في السبب وفي غيره، ومتى وجد المقتضي وانتفى المانع وجب العمل بالعام على عمومه؛ لوجود المقتضي السالم عن المعارض. المذهب الثاني: أن العبرة بخصوص السبب، لا بعموم اللفظ. أي: أن اللفظ العام الوارد على سبب خاص يختص به. أي: أن خصوص السبب يخصص العام، ويجعله مراداً به هذا السبب بخصوصه، فلا يعمل بالعام على عمومه. وهو مذهب الإمام مالك في رواية عنه، واختاره بعض الشافعية كالمزني، والدقاق، والقفال، وحكي عن الإمام الشافعي، وحكي عن أبي ثور. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لو كان الخطاب الوارد على سبب عاما: لجاز إخراج السبب عن العموم بالاجتهاد، كما في غيره من الصور الداخلة تحت العموم ضرورة تساوي نسبة العموم إلى الكل، وهو خلاف الإجماع. فمثلاً: نزلت آية اللعان بسبب قصة عويمر العجلاني، وهي بلفظ عام، فإن حكم اللعان يختص بعويمر؛ لأنه لو لم يختص حكم اللعان به - وهو سبب نزوله - لجاز إخراج السبب - أي: إخراج عويمر - بالتخصيص كأي فرد من أفراد العموم، ولكنه لا يجوز إخراجه؛ لأن الآيات نزلت بشأنه أصلاً، وما دام أنه لا يخرج بأي حال، بينما غيره من الأفراد يجوز إخراجه، فثبت أن اللفظ مختص بسببه وهو عويمر. جوابه: إنا لما قلنا: إن الحكم الوارد بلفظ عام على سبب خاص يجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1535 تعميمه لما ورد بشأنه ولغيره، فإن هذا لا يلزم منه: جواز إخراج السبب - وهو ما ورد الحكم بشأنه كعويمر في آيات اللعان - وذلك لأنه لا خلاف في أن كلام الشارع في آيات اللعان - مثلاً - هو بيان لحكم ما وقع لعويمر، ولكن هل هذه الآيات الواردة في اللعان بيان لعويمر خاصة، أو بيان له ولغيره مما شابه ذلك؛ هذا هو محل النزاع. فعندنا: أن اللفظ الوارد في حكم اللعان يعم عويمر ويعم غيره، لكن الفرق بينه وبين غيره: أن اللفظ تناوله تناولاً قطعيا، وتناول غيره تناولاً ظنيا، لذلك قلنا - هناك -: إن دلالة العام ظنية، وما دام أن الخطاب في حق عويمر قطعي، فلا يمكن أن يخصص أو يخرج بحال، أما غيره فيجوز خصيصه بدليل معتبر. الدليل الثاني: أن الراوي حرص على نقل سبب نزول الحكم ولا فائدة من حرصه على نقل السبب إلا لأن الحكم مختص به، فلو كان الحكم عاما: لكان نقل السبب وعدم نقله سواء في عدم الفائدة. جوابه: لا نسلم ما قلتموه، بل إن لنقل الراوي للسبب فائدتان هما: الفائدة الأولى: امتناع إخراج السبب - وهو عويمر مثلاً - من آيات اللعان بحكم التخصيص بالاجتهاد، وذلك لأنه تناوله قطعا - فذكره للسبب ينبه على ذلك - وقد سبق بيان ذلك. الفائدة الثانية: معرفة أسباب نزول الآيات، وورود الأحاديث، وهذا يتضمن فوائد، منها: أولاً: معرفة سير الصحابة وما جرى بينهم، لنقتدي بالحسن من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1536 الوقائع التي وقعت في عصرهم، والتأسي بصبرهم على ما ألم بهم من مصائب. ثانياً: معرفة معاني النصوص الشرعية من الكتاب والسنَّة، فإن العارف بسبب نزول هذه الآية أعلم بمراد الشارع من غير العارف. ثالثا: معرفة مقاصد الشارع في كل آية أو حديث. رابعا: التوسع في علم الشريعة؛ حيث إن العالم بأسباب نزول الآيات أقدر على استنباط الأحكام منها من غيره. الدليل الثالث: أنه لو لم يكن للسبب تأثير في الحكم لما أخر الشارع بيان الحكم إلى حالة وقوع تلك الواقعة. أي: أن الشارع قد أنزل حكم الظهار - مثلاً - بعد وقوع حادثة أوس بن الصامت وزوجته مباشرة، وهذا يدل على أن حكم الظهار مختص بأوس وامرأته؛ إذ لو كان الحكم عاماً لأوس وزوجته وغيرهما لأنزل حكم الظهار قبل وقوع تلك الواقعة، أو أخره عن وقوع الحادثة، ولكن لم يفعل ذلك، فثبت أن نزول الحكم بهذا الوقت بالذات يدل على اختصاصه بالحادثة التي وقعت فيه. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن قولكم - في هذا الدليل - تحكم على الله تعالى، وليس لنا التحكم عليه، وسؤاله: لمَ فعل كذا؛ ولِمَ لم يفعل كذا؛ وما فائدة نزول هذا في هذا الوقتَ؛ إلى آخر الأسئلة التي لو سمح بمثلها لأدى إلى الكفر والظلال، فلا يجوز طلب الفائدة لأفعال اللَّه تعالى، فهو معلوم أنه لا يفعل شيئاً إلا وفيه فوائد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1537 ومصالح: فقد يدركها بعض العلماء، أو يدرك بعضها، وقد لا يدركها فتكون تعبدية، فله سبحانه أن ينشئ التكليف في أي وقت شاء؛ لعلمه سبحانه أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي ذلك، قال تعالى: (لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ) . الجواب الثاني: أن قولكم: " إنه ما أخر بيان الحكم إلى وقوع الواقعة إلا لأن الحكم مختص بهذه الواقعة " يلزم منه: أن يختص الرجم بماعز، واللعان بعويمر وزوجته، أو هلال وزوجته، والسرقة بمن نزلت فيهم؛ لأن اللَّه أخر بيان تلك الأحكام إلى وقوع وقائعهم، وذلك كله خلاف إجماع الصحابة، فيكون ظاهر البطلان. الجواب الثالث: على فرض أن سؤالكم صحيح: فإنا نقول - في الجواب عن ذلك -: إن اللَّه علم أن مصلحة العباد والبلاد تقتضي نزول اَيات اللعان - مثلاً - في هذا الوقت، فأراد إيقاع واقعة لينزل الحكم بشأنها، فأحدث واقعة عويمر مع زوجته، فأنزل آيات اللعان، لتكون حكما له ولغيره ممن شابهه. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا - لِمَ أحدث حادثة لأجل إنزال حكم اللعان، ولِمَ لم ينزله ابتداء كغيره؟ جوابه: إن اللَّه أحدث بعض الحوادث، وأنزل بشأنها أحكاما شرعية، لأمرين: أولهما: أن إنزال الحكم والجواب بعد حدوث الحادثة أوقع في النفوس من إنزال الحكم ابتداء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1538 ثانيهما: ليعلم الناس أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يأت بشيء من عنده، بل إن كل ما جاء به من القرآن والسُّنَّة هو من عند اللَّه وحده، قال تعالى: (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ) ، ولذلك كان يتوقف عن جواب بعض الأسئلة حتى ينزل به وحي. الدليل الرأبع: أن الحكم جواب، والواقعة والحادثة سؤال، ومن شرط الجواب: أن يكون مطابقا للسؤال لا يزيد عنه ولا ينقص، فلو كان الجواب عاماً والسؤال خاصا لم يكن الجواب مطابقا للسؤال، والأصل المطابقة؛ لكون الزيادة عديمة التأثير فيما يتعلق به غرض السائل. جوابه: إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: الكشف عنه، وبيان حكمه، وأن يكون متناولاً له: فهذا نسلمه لكم، وقد وجد وحصل. أما إن أردتم بمطابقة الجواب للسؤال: أن يكون مطابقا له تمام المطابة: بدون زيادة بعض البيانات لغير ما سئل عنه: فلا نسلم؛ وذلك لأنه قد ثبت في الشريعة أن الشارع يسأل عن شيء فيجيب عنه وعن غيره، كما ورد أنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن الوضوء بماء البحر قال: " هو الطهور ماؤه الحل ميتته "، فهنا قد تعرض لحل الميتة، ولم يكن مسؤولاً عنها. بيان نوع الخلاف: قد يبدو أن الخلاف - هنا - لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على أن أحكام اللعان، والظهار، والسرقة، والرجم، وغيرها مما نزلت بسبب حوادث خاصة: هي عامة لمن نزلت بسببهم، ولغيرهم، لكن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قالوا: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1539 أخذنا هذا العموم عن طريق اللفظ العام: ولم يلتفتوا إلى كونه نزل بسبب أو بغير سبب، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: إن تلك الأحكام لا شك أنها عامة، لكن لم نأخذ عمومها عن طريق اللفظ العام الوارد في النص؛ لأن هذا اللفظ العام مختص بسببه، ولكن أخذنا ذلك العموم عن طريق القياس، أي: قياس الحوادث المشابهة على ما حدث لعويمر، وهلال، وأوس. كذلك لو نظرنا إلى الدلالة، فقد اتفق أصحاب المذهبين على أنها ظنية؛ لأن دلالة العام ظنية، ودلالة القياس ظنية. ولكن الحق: أن الخلاف معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا أن تلك الأحكام قد ثبتت للحوادث المشابهة لما حدث لعويمر وأوس، وهلال عن طريق النص واللفظ. أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أن تلك الأحكام قد ثبتت للحوادث المشابهة لعويمر وأوس عن طريق القياس. والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس من وجهين هما: أولهما: أن الحكم الثابت عن طريق عموم النص أقوى من الحكم الثابت عن طريق القياس. ثانيهما: أن الحكم الثابت عن طريق النص ينسخ، ويُنسخ به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ، ولا ينسخ به - كما سبق بيانه -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1540 المطلب الثالث عشر حكاية الصحابي للحادثة بلفظ عام هل يفيد العموم؟ إذا حكى الصحابي ما شاهده من الحوادث بلفظ عام كقوله: "نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن المزابنة، وأمر بوضع الجوائح، وقضى بالشفعة للجار، فهل يؤخذ بعموم قوله أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، أو نهى، أو قضى، أو حكم يقتضي العموم، وهو مذهب كثير من العلماء، واختاره سيف الدين الآمدي، وهو الحق عندي؛ لإجماع الصحابة ومن جاء بعدهم من علماء السلف والخلف على أن قوله يفيد العموم: فقد عرفنا - بالاستقراء والتتبع - أنهم كانوا يرجعون إلى هذه الألفاظ، ويحتجون بها في عموم الصور التي تحصل في أزما انهم: فقد قال ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: " كنا نخابر أربعين سنة حتى أخبرنا رافع أن - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة "، وإذا رأى أحد منهم شخصا يبيع بالمزابنة أو المحاقلة منعوه مستدلين بقول الصحابي: " نهى رسول اللَّه لمجيم عن المزابنة والمحاقلة، وكانوا يمنعون عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه مستدلين بقول الصحابي: "نهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الثمر حتى يبدو صلاحه "، وكذلك فقد أخذوا بقول الصحابي: " أمر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - بوضع الجوائح "، وبقوله: " رخص رسول اللَّه في السلم "، وبقوله: " رخص رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - في العرايا "، وقوله: " قضى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1541 بالشفعة للجار "، وكانوا يفعلون ذلك، ويستدلون بتلك الألفاظ دون نكير من أحد، فصار هذا إجماعا منهم على الاحتجاج بمثل ذلك في عموم الصور، وعلى العمل بها. المذهب الثاني: أن قول الصحابي: أمر رسول اللَّه، أو نهى، أو قضى لا يفيد العموم. وهو مذهب أكثر العلماء. دليل أصحاب هذا المذهب: أن قول الراوي: أمر، أو نهى هو حكاية للراوي لما شاهده، وهذه الحكاية محتملة لاحتمالات هي كما يلي: الاحتمال الأول: أن يكون قد سمع لفظاً عاماً، فحكاه كما سمع. الاحتمال الثاني: أن يكون قد سمع لفظا خاصا فظنه عاماً، فحكاه على أنه عام. الاحتمال الثالث: أن يكون قد شاهد أمراً خاصا، ولكنه فهم العموم، فحكاه بصيغة العموم. وهذه الاحتمالات متساوية، فلا يرجح أحدها إلا بمرجح، ولا يوجد مرجح، فالتمسك بعموم هذا هو تمسك بتوهم العموم، لا بلفظ عرف عمومه، وقيل: إن الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال. جوابه: إن هذه الاحتمالات تنقدح في الذهن، ولكن رجحنا إفادة ما يقوله للعموم، لأمرين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1542 أولهما: إجماع الصحابة ومن بعدهم من السلف والخلف - كما سبق بيانه -. ثانيهما: أن الحاكي - وهو الصحابي - عربي فصيح عارف بدلالات الألفاظ، فهذا يبعد عنه احتمال أن يفهم ما ليس عاما أنه عام حتى يحكيه بصيغة العموم. وكذلك هو - أي: الحاكي وهو الصحابي - قد شهد اللَّه له ورسوله بالعدالة، فهو ذو ورع ودين وتقوى، وهذا كله يمنعه من حكاية العموم، وهو غير متيقن له، لأنه يعلم أن ذلك يوقع الناس في لبس دمابهام. وعلى فرض أن هذا الراوي الصحابي لم يقطع بالعموم، فلا يمكن أن ينقل ما يقتضي العموم إلا وقد ظهر له العموم، والغالب إصابته فيما ظنه ظاهراً وراجحاً، والعمل - بالغالب الظاهر واجب، فيجب العمل بما ظهر منه، ومهما ظن صدق الراوي فيما نقله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وجب اتباعه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، بيان ذلك: أن أصحاب المذهبين قد اتفقا على أن النهي عن المزابنة، والمخابرة، والمحاقلة، والمنابذة، والملامسة، والغرر، والأمر بوضع الجوائح، والقضاء بالشفعة فيما لم يقسم - إلى آخر ذلك عام وشامل للأشخاص الذين نهوا، وأمروا، وقضي في حقهم ولمن جاء بعدهم ممن شابههم. ولكن اختلفوا في طريق ذلك: فأصحاب المذهب الأول قالوا: استفدنا ذلك العموم عن طريق لفظ الصحابي ونصه، أما أصحاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1543 المذهب الثاني فقالوا: قد استفدنا تعميم الأحكام من دليل خارجي، وهو القياس، أي قياس غيرهم عليهم. والفرق بين ما ثبت عن طريق النص، وما ثبت عن طريق القياس من وجهين قد ذكرناهما في مسألة: " هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1544 المطلب الرابع عشر حكاية الراوي لفعل النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظ "كان " هل يفيد العموم؛ وأن هذا الفعل يتكرر منه - صلى الله عليه وسلم -، أو لا؟ إذا قال الراوي: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل كذا "، فهل هذا يفيد العموم والتكرار أو لا؟ اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: أن هذا يفيد العموم. وهو لبعض العلماء، وهو الحق؛ لأن الراوي إنما يحكي الفعل والحادثة بلفظ " كان " إذا ثبت عنده تكرار ذلك الفعل، حيث لا يفهم من لفظ " كان " إلا التكرار في مخاطباتنا فتقول - مثلاً -: "كان زيد يأتي هذه المكتبة "، لا يمكن أن يقول ذلك إلا إذا كان زيد يتردد عليها أكثر من مرة. المذهب الثاني: أن هذا لا يفيد العموم، وهو مذهب جمهور العلماء. دليل هذا المذهب: أن الفعل إنما يفيد الماهية من حيث هي بقطع النظر عن المرة أو التكرار، وحيث لا موجب للتكرار، فلا يكون هذا القول دالًّا على التكرار، بل يكون التكرار مستفاداً من دليل خارجي. جوابه: إن هناك موجبا للتكرار، وهو ما ذكرناه في دليلنا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1545 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن المعبر بلفظ " كان " يدل تعبيره على أن فعل - صلى الله عليه وسلم - الذي حكاه هذا الراوي بلفظ " كان " متكرر؛ بناء على المذهب الأول. أما بناء على المذهب الثاني: فإن تعبيره بلفظ " كان " لا يدل على تكرار الفعل، بل يدل على المرة الواحدة فقط. ولا شك أن ما تكرر وقوعه من فعله - صلى الله عليه وسلم - أقوى مما وقع مرة واحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1546 المطلب الخامس عشر هل يدخل العبد في الخطاب المضاف إلى الناس والمؤمنين، والأمة، والمسلمين؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن العبد يدخل تحت خطاب التكليف بالألفاظ العامة المطلقة مثل: " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "، و"الأمة "، فهو كالحر، فلا يخرج منها إلا بقرينة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن العبد من جملة من يتناوله اللفظ؛ فهو من " الناس "، ومن " المؤمنين "، ومن "المسلمين "، ومن " الأُمَّة "، بدليل: أنه يوصف فيقال: هذا العبد مسلم، ومؤمن، ومن الناس، والأُمَّة، ولا يوجد مانع من دخوله لا شرعي ولا عقلي. المذهب الثاني: أن العبد لا يدخل تحت تلك الخطابات إلا بدليل وقرينة تدخله، وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض المالكية. دليل هذا المذهب: أن أكثر الأوامر الشرعية لم يدخل العبد فيها كالأمر بصلاة الجمعة، والأمر بالزكاة، والأمر بالحج، والأمر بالجهاد، ونحو ذلك، مما يدل على أن تلك الخطابات موجهة إلى كاملي التكليف، وهم الأحرار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1547 أي: أنه نظراً إلى خروج العبد عن بعض التكاليف، فإنه لا يدخل ضمن الخطابات العامة إلا بدليل وقرينة. جوابه: إن خروج العبد عن بعض التكاليف لا يلزم منه: عدم دخوله في الخطابات العامة؛ لأن هذه التكاليف التي سقطت ورفعت عنه: قد سقطت ورفعت عنه لعذر، وهو: كونه رقيقا مما جعله فقيراً مشتغلاً بخدمة سيده، فإذا زال هذا العذر - وهو الرق - عادت إليه التكاليف كاملة، قياساً على المريض والمسافر والحائض والنفساء، فإن هؤلاء تسقط عنهم بعض التكاليف كأداء صوم رمضان في وقته لعذر، وهو التلبس بالمرض، أو السفر، أو الحيض، أو النفاس، فإذا زال هذا العذر عاد إليهم هذا التكليف. وقياساً على الحائض، والنفساء، حيث تسقط عنهما الصلاة في وقتها لعذر وهو: الحيض، والنفاس، ولا يقضيان، فإذا زال الحيض أو النفاس عاد إليهما وجوب الصلاة. ولم يقل أحد: إن المريض، والمسافر، والحائض، والنفساء لا يدخلون تحت لفظ " الناس "، و " المؤمنين "، و " المسلمين "، و" الأمَّة "، وهم في حالة عذرهم، فكذلك العبد يدخل تحت لفظ الناس والمؤمنين، وغيرها من الخطابات، وهو في حالة الرق، ولا فرق بين العبد وهؤلاء، والجامع: أن كلًّا من العبد والمريض والمسافر والحائض والنفساء قد زال عنه التكليف لعذر، وهو الرق بالنسبة للعبد، والمرض، والسفر، والحيض، والنفساء، فإذا زال هذا العذر عادت إلى هؤلاء جميعاً التكاليف كاملة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1548 اعتراض على هذا: قال قائل - معترضاً -: إن الصلاة والصيام قد سقطت عن المسافر، والحائض، والمريض، والنفساء؛ نظراً لوجود السبب السقط وهو: وجود مشقة الجمع بين هذه التكاليف والمرض، والسفر، والحيض، والنفاس، أما العبد فلا توجد هذه المشقة فيستطيع أن يصلي الجمعة، ويحج، ويزكي، ويجاهد، ومع ذلك فقد أسقطت عنه تلك التكاليف، فلم تسقط عنه تلك إلا لأنه لا يدخل تحت الخطابات الموجهة إلى الأحرار. جوابه: كذلك العبد قد أسقطت عنه هذه التكاليف لأسباب، وهي كما يلي: أما سبب سقوط صلاة الجمعة عمه فهو: أنه مأمور بخدمة سيده؛ حيث إنه يعتبر من مال السيد، فلا بد أن يسخر لهذه الخدمة. والخدمة لا تتم إلا إذا كان خادماً في كل الأوقات، ومنها وقت صلاة الجمعة؛ حيث إنه يبقى في المنزل ويجهزه استعداداً لقدوم سيده من الصلاة، ثم إنه قد أخرج أبو داود: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "الجمعة حق على كل مسلم في جماعة إلا أربعة: عبد مملوك، أو امرأة، أو صبي، أو مريض ". فاستثناء هؤلاء يدل على أنهم يدخلون في الخطابات، كما دخل غيرهم، وإنما خرج العبد بالاستثناء؛ لما ذكرناه من السبب. أما سبب سقوط الزكاة عنه فهو: أن الزكاة تجب على من ملك نصابا وحال عليه الحول، والعبد لا يملك المال، بل كله مملوك؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1549 قياساً على الحر الفقير الذي لا يملك نصابا، فإنه لا تجب عليه الزكاة، ومع ذلك فقد دخل تحت تلك الخطابات، فكذلك العبد. أما سبب سقوط الحج عنه فهو: ما قلناه في سبب سقوط صلاة الجمعة عنه. ولأن الحج مشروط بالاستطاعة المالية، والعبد لا يملك شيئاً، لذلك سقط عنه الحج، قياساً على الحر الذي لا يملك ما يحج به، فإنه يسقط عنه الحج، ومع ذلك يدخل تحت الخطابات، فكذلك العبد. أما سبب سقوط الجهاد عنه فهو: أن رقبته مال، والمالية التي فيه للسيد، وفي الجهاد تعرض للتلف، والسيد له حفظ ماله من التلف. المذهب الثالث: أن العبد لا يدخل في الخطابات العامة المتعلقة بحقوق الآدميين، أما الخطابات العامة المتعلقة بحقوق اللَّه، فيدخل. حكي هذا عن أبي بكر الجصاص. دليل هذا المذهب: أن العبد لا يملك فعل شيء من حقوق الآدميين كالعقود والإقرارات، ونحو ذلك، فلم يدخل في الخطاب بها، أما حقوق الله فإنه يملك أن يتعبد اللَّه سبحانه. جوابه: إن العبد لم يمبك التصرف في العقود والإقرارات بسبب: كونه رقيقاً وملكاً لسيده، وهذا لا يمنع من دخوله في الخطاب بها وبغيرها، ثم يخص بدليل، وذلك كصيغة العموم، فإنها تستغرق جميع الأفراد، وإن جاز أن يخصص فرداً، وتخصيص هذا الفرد لا يبطل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1550 ما وضع له، وكذلك حقوق اللَّه تعالى يتوجه إليه الخطاب بها، وكثير منها لا يملك فعله - كما سبق بيانه - ومع ذلك لا يمنع دخوله تحت تلك الخطابات. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ وذلك لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن العبد يدخل ضمن الخطابات الموجهة إلى الأحرار كالناس، والأُمَّة، والمسلمين، والمؤمنين دخولاً أصلياً، ولا يخرج عن ذلك الخطاب إلا بدليل، وهي الأسباب التي ذكرناها سابقاً. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن العبد لا يدخل ضمن تلك الخطابات أصلاً، وما دخل فيها فإنه دخل بدليل مثل القياس. أما أصحاب المذهب الثالث فهم وافقوا أصحاب المذهب الأول بالنسبة لحقوق اللَّه تعالى، ووافقوا أصحاب المذهب الثاني بالنسبة لحقوق الآدميين. ويلزم من ذلك: بناء على المذهب الأول أنه تجب على العبد صلاة الجمعة إذا أذن له سيده في حضورها؛ لأن المانع كان من جهة السيد وقد انتفى. وكذلك يلزم منه بناء على المذهب الأول: أنه يجب عليه الحج إذا أذن له سيده في دخول الحرم. أما على المذهب الثاني فإنه يلزم منه: أنه لا تجب عليه صلاة الجمعة، ولا الحج، ولو أذن له سيده؛ لأنه أصلاً لم يدخل تحت التكاليف إلا بدليل خارجي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1551 المطلب السادس عشر الجمع الذي فيه علامة التذكير هل يتناول النساء؟ ولبيان محل النزاع لا بد مما يلي: أولاً: إن كان الجمع خاصا بالذكور كلفظ " الرجال "، فإن النساء لا يدخلن اتفاقا. ثانياً: إن كان الجمع خاصا بالإناث كالنساء، والبنات، فإن الرجال لا يدخلون بالاتفاق. ثالثا: إن كان لفظ الجمع متناولاً للذكور والإناث لغة ووضعا كلفظ " الناس "، فهو يتناول الذكور والإناث بالاتفاق. رابعا: إن كان لفظ الجمع قد جاء بلفظ لا يتبين فيه التذكير، ولا التأنيث مثل: أدوات الشرط والاستفهام، فإن هذا يتناول الذكور والإناث اتفاقا. خامسا: إن كان الجمع قد ورد بلفظ قد تبين فيه علامة التذكير بشكل واضح كالجمع بالواو والنون مثل: " المسلمين "، أو " المؤمنين "، أو " الصابرين "، أو " الشاكرين "، أو جمع بضمير الجمع مثل قوله تعالى: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) ، و "قاموا"، و" قعدوا ". فهذا هو الذي وقع فيه الخلاف هل تدخل النساء فيه أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أن النساء يدخلن في الجمع الذي تبينت فيه علامة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1552 التذكير كالمسلمين، والمؤمنين، واشربوا، وكلوا، وقاموا، ولا يخرجن إلا بدليل. وهو مذهب الإمام أحمد في رواية عنه، وأكثر الحنابلة، وكثير من الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض المالكية، وبعض الظاهرية كمحمد بن داود. وهو الحق عندي لدليلين: الدليل الأول: أن المألوف والمعتاد عند العرب أنه إذا اجتمع الذكور والإناث غلَّبوا جانب التذكير في ألفاظهم وخطاباتهم، ولو كان الذكر واحداً. فمثلاً: إذا كان أمامك عدد من النساء، فإن اللغة تقتضي أن تقول: " قمن "، و " اخرجن " اتفاقاً. وإذا كان أمامك عدد من الرجال، فإن اللغة تقتضي أن تقول: " قوموا "، و " اخرجوا " اتفاقاً. وإذا كان أمامك عدد من الرجال وعدد من النساء - وهم مجتمعون - فإن الصحيح عند أهل اللغة أن تقول: " قوموا "، و"اخرجوا " بدليل: أنك لو قلت للرجال: " قوموا "، و"اخرجوا"، وللنساء " قمن "، و " اخرجن " لعده أهل اللغة، لكنة وعياً، وغير موافق للقواعد اللغوية. فعلم من ذلك: أن الخطاب يصلح لهما، ويشتمل عليهما. وقد وقع تغليب المذكر على المؤنث في قوله تعالى: (قلنا اهبطوا منها جميعاً) ، والخاطبون ثلاثة: " آدم "، و " حواء "، و"إبليس "، فلو كانت النساء لا يدخلن لقيل لآدم وإبليس: " اهبطا" الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1553 ولحواء: " اهبطي "، ولكنه لم يقل ذلك، مما يدل على أن النساء يدخلن ضمن الخطاب الذي ظهرت فيه علامة جمع المذكر. وقاعدة التغليب معمول بها عند العرب، معمول بها في كلامهم، والقرآن جاء بلغة العرب، والأمثلة على ذلك كفيرة: فمنها: تغليب جمع من يعقل إذا كان معه من لا يعقل كقوله تعالى: (وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ) . ومنها: تغليب أحد الاسمين على الآخر؛ لأسباب هي: إما لشرف التذكير كقوله تعالى: (وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ) ، فإنه غلب هنا الأب على الأم، ومنه قول الفرزدق: أخذنا بآفاق السماء عليكم ... لنا قمراها والنجوم الطوالع فقوله: " قمراها " تغليب للفظ " القمر " على لفظ " الشمس " لكون القمر مذكراَّ، والشمس مؤنثا. وإما أن يغلب أحد الاسمين على الآخر لخفته كقولهم: " دولة العمرين " يريدون أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما -. وأما أن يغلب أحد الاسمين لكراهة النطق بالاسم الآخر كقول عائشة - رضي اللَّه عنها -: " وما لنا عيش إلا الأسودان " تريد: التمر والماء، والتمر أسود، والماء أبيض، فغلبت التمر الأسود مع أن كلاهما مذكر، ولكن العرب شأنها كراهة ذكر البياض، لإيهامه البرص، ولذلك تجدهم يسمون الأبيض أحمراً، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام: " بعثت إلى الأسود والأحمر ". الخلاصة: أن العرب ألف منهم تغليب شيء على شيء، وإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1554 ألف ذلك كان كالقاعدة اللغوية، فمن تكلم بغير ذلك، فإنه لم يتكلم بلغتهم. الدليل الثاني: أن أكثر أوامر الشرع ونواهيه، وخطاباته العامة وردت بلفظ التذكير كقوله تعالى - في كثير من الآيات -: (يا أيها الذين آمنوا) ، وقوله: (هدى للمتقين) ، وقوله: (كلوا واشربوا ولا تسرفوا) ، وقوله: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وآتوا الزكاة) ، وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا) ، وقوله: (ولا تقتلوا النفس) ، وقوله: (وذروا ما بقي من الربا) ، وانعقد الإجماع على أن النساء يشاركن الرجال في أحكام تلك الأوامر والنواهي، وجميع الخطابات فلو كانت الصيغة خاصة بالذكور لكانت تلك التكاليف خاصة بهم فلا تتعداهم إلى النساء، وهذا خلاف ما أجمعت عليه الأُمَّة. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضاً -: إن النساء لم يدخلن في ذلك اللفظ، وإنما شاركن الرجال في الحكم بدليل غير اللفظ. جوابه: أنه لو كان هناك دليل خارجي لعلمناه، وما دمنا لم نعلمه فلا يثبت، ومدعيه يحتاج إلى إظهاره. المذهب الثاني: أن النساء لا يدخلن في الجمع الذي تبينت فيه علامة التذكير كالمسلمين ونحوها إلا بدليل خارجي. وهو مذهب كثير من الحنفية، وبعض المالكية كالباقلاني، وأكثر الشافعية، والأشاعرة، وبعض الحنابلة كالطوفي، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة أصحاب هذا المذهب: الدليل الأول: أن اللَّه ميز النساء بألفاظ خاصة كالمسلمات، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1555 والمؤمنات، ونون النسوة، فقال تعالى: (إن المسلمين والمسلمات ... ) ، فلو كن يدخلن ضمن الخطاب الذي ظهر فيه علامة التذكير: لما حرص على تخصيصهن وتمييزهن بألفاظ خاصة، ولاكتفى بخطاب التذكير، ولكنه لم يفعل ذلك، بل خص الذكور بخطاب والإناث بخطاب آخر مما يدل على أنهن لا يدخلن ضمن الخطابات التي ظهرت علامة التذكير فيها إلا بقرينة. جوابه: أن الشارع قد خص النساء بألفاظ كالمسلمات ونون النسوة للبيان، والإيضاح، والتأكيد عليهن، وكونه يفعل ذلك لا يمنع من دخولهن في اللفظ العام الصالح لهن، فقد ورد أنه يذكر لفظ عام لجميع الأفراد، ثم يخص بعض الأفراد بالذكر، ويعطف الخاص على العام للتأكيد عليه والاهتمام به مثل قوله تعالى: (مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ) ، فلفظ " الملائكة " عام لجميع الملائكة، ويدخل جبريل وميكائيل، ومع ذلك فقد خصهما بالذكر، ومثله قوله تعالى: (فاكهة ونخل ورمان) ، فإن لفظ " الفاكهة " عام وشامل لجميع أنواع الفاكهة، ومنها الرمان، ومع ذلك فقد خصه بالذكر. فإذا جاز ذلك فإنه يكون جائزاً في قوله تعالى: (إن المسلمين والمسلمات) ، فيكون لفظ " المسلمين " عام للذكور والإناث، وعطف عليه " المسلمات " زيادة في التأكيد وتخصيصا للشيء بالذكر. الدليل الثاني: قياس الجمع على المفرد، بيان ذلك: أن الجمع هو ذكر الواحد ثلاث مرات. فقولنا: " مسلمون " هو تكرير لقولنا: " مسلم ومسلم ومسلم " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1556 والمفرد وهو: " المسلم " لا يشمل المؤنث اتفاقاً، فكذلك الجمع لا يتناول المؤنث. جوابه: إن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن كلامنا في الجمع الذي فيه علامة التذكير، وليس كلامنا في المفرد، فالمفرد لا شك أنه لا تدخل النساء فيه، أما الجمع فيدخلن، ولا يمتنع أن يدخل الشيء في الشيء في حال الجمع، ولا يدخل في حال الإفراد. يؤيد هذا: أن من لا يعقل يدخل في جمع من يعقل، ولكنه لا يدخل من لا يعقل فيمن يعقل في حال الإفراد. الدليل الثالث: قياس الرجال على النساء، بيانه: كما أن الرجال لا يدخلون في جمع النساء، فكذلك النساء يجب أن لا يدخلن في جمع الرجال. جوابه: إن هذا القياس فاسد - أيضا -؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إنا قلنا: إن النساء يدخلن ضمن الخطابات التي فيها علامة التذكير؛ لأن اللغة وردت بذلك، ولم ترد بدخول الرجال في جمع التأنيث - كما سبق بيانه - وذلك لكون التذكير أقوى؛ حيث إن العرب غلبوا لفظ التذكير، ولم يغلبوا لفظ التأنيث لأسباب ذكرناها. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن النساء دخلن في دلالة اللفظ الذي فيه علامة التذكير، ولا يخرجن إلا بدليل. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1557 النساء لم يدخلن في دلالة ذلك اللفظ ولا يعمهن، ولا يدخلن تحته وضمنه إلا بدليل كالقياس عليهم. وبناء على ذلك فقد اختلفوا في بعض الفروع، ومنها: 1 - إذا قال لمن أمامه من الرجال والنساء: "ملكتكم هذه الدار". فإنه بناء على المذهب الأول: فإن النساء يشاركن الرجال في ملكية هذه الدار، أما على المذهب الثاني: فإن النساء لا حق لهن في هذه الدار. 2 - إذا صلَّت المرأة ودعت بدعاء فهل يكفيها أن تقول: " وما أنا من المشركين، وأنا من المسلمين "، أو لا بد من ذكر جمع المؤنث؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إنه يكفيها أن تقول ذلك؛ بناء على المذهب الأول. القول الثاني: أنه لا بد أن تقول: " وما أنا من المشركات، وأنا من المسلمات "، وإلا لما قبل دعاؤها، وهذا بناء على المذهب الثاني. 3 - إذا قال رجل لجمع من الرجال والنساء ومعهم زوجته - وهو يعلم بوجودها -: " طلقتكم "، فهل تطلق زوجته؟ اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: أنها تطلق؛ لأنها تدخل في خطاب الرجال، هذا بناء على المذهب الأول. القول الثاني: أنها لا تطلق؛ لأنها لا تدخل في خطاب الرجال إلا بدليل، وقوله: " طلقتكم " خطاب رجال فلا تدخل فيه، فينبغي لأجل ذلك: ألا تطلق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1558 المطلب السابع عشر العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي أو يكون مجازاً؟ أي: اللفظ العام إذا خص منه أفراد هل يكون حقيقة في الباقي، أو يصير مجازاً فيما بقي بعد التخصيص؛ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن العام إذا دخله التخصيص فإنه حقيقة فيما بقي بعد التخصيص مطلقا، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو غير متصل. وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، وأكثر الحنابلة، وحكي عن الإمام أحمد، وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: قياس اللفظ العام بعد التخصيص على اللفظ قبل التخصيص. بيانه: أن اللفظ العام متناول للباقي بعد التخصيص كما كان متناولاً له قبل التخصيص، واستعمال اللفظ العام في الباقي قبل التخصيص حقيقة اتفاقاً؛ لكون اللفظ متناولاً له، فيكون استعماله في الباقي بعد التخصيص حقيقة كذلك، لوجود المقتضي للحقيقة، وهو اللفظ المتناول لهما. الدليل الثاني: أن المخصص قد أثر في المخصوص والمخرج فقط، ولم يؤثر في الباقي بعد التخصيص فيبقى على ما هو عليه، بيان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1559 ذلك: أن لفظ " السارق " - مثلاً - قد وضع لجميع السارقين، فلما جاء المخصص صرف دلالة لفظ " السارق " عن بعض السارقين، وبين أن هذا البعض - كالمجنون والصبي - لا تقطع أيديهما إذا سرقا، وإذا صرفت دلالته عن هذين الشخصين، فإن دلالة اللفظ - وهو السارق - على الأفراد غير المخصوصين باقية لم تتغير، ومستمرة على ما هي حقيقة. فالمخصص لم يؤثر في الباقين، بل أثر في المخصص والمخرج، فتبقى دلالة اللفظ العام المخصوص حقيقة فيما بقي. يؤيد ذلك الاستثناء فإنه لو قال لعبده: " أكرم الرجال إلا زيداً "، فإن الاستثناء خاص بزيد، والخطاب متعلق به، وقد أخرجه عن الإكرام، فالاستثناء - هنا - قد صرف دلالة اللفظ عن زيد فقط، ولم يتعرض للرجال الباقين لا من قريب ولا من بعيد، فيبقى الخطاب موجه إليهم بالإكرام حقيقة، فتكون دلالته حقيقية عليهم. ولا فرق بين القرينة المخصصة المتصلة والمنفصلة في ذلك، كما لاحظت من المثالين؛ لأن الشارع لم يفرق بينهما. المذهب الثاني: أن العام إذا دخله التخصيص، فإنه يصير مجازاً فيما بقي بعد التخصيص مطلقاً، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو غيرمتصل. وهو مذهب كثير من الحنفية، وكثير من الشافعية، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب، وابن تيمية، وبعض المالكية كالقرافي، وابن الحاجب، وهو اختيار إمام الحرمين والغزالي. دليل هذا المذهب: أن حد المجاز هو: استعمال اللفظ في غير ما وضع له، ولفظ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1560 العموم وضع أصلاً وحقيقة لاستغراق جميع الأفراد، فإذا استعمل اللفظ العام في بعض الأفراد صار ذلك اللفظ مستعملاً في غير ما وضع له، فصار مجازاً كما لو استعمل الحمار في الرجل البليد. جوابه: إنكم قستم ما نحن فيه على أسماء الحقائق إذا استعملت في غير ما وضعت له، فذكرتم أن هذا كاستعمال الحمار في الرجل البليد، وهذا لا يسلم لكم، فالعرب لم تضع اسم الحمار للرجل البليد حقيقة، واستعملوا لفظ العموم في البعض حقيقة. المذهب الثالث: أن العام إذا دخله المخصص المتصل - كالشرط، والاستثناء، والصفة، والغاية - فإنه يكون حقيقة في الباقي. وإن خص بمنفصل فإنه يصير مجازاً فيما بقي. وهو اختيار أبي الحسين البصري، ونسب إلى القاضي أبي بكر البا قلاني. دليل هذا المذهب: أنه يوجد فرق بين العام المخصص بالمنفصل، والعام المخصص بالمتصل، وهو: أن العام إذا خصص بالمنفصل - كالعقل والنص - فإنه يكون قد أريد بذلك اللفظ العام غير ما وضع له بسبب قرينة، فمثلاً لو قال: " أكرم العلماء "، ثم قال: " أريد الطوال "، فإنه يتناول الباقي كما يتناول غيره، وهو ما خرج بالمخصص، فإذا استعمل في الباقي بعد التخصيص صدق عليه أنه مستعمل في بعض ما تناوله، فكان مجازاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1561 أما العام إذا خصص بالمتصل كالاستثناء، فإنه يكون مقيداً بهذا المخصص، والمقيد بشيء لا يتناول غير ما قيد به، فالاستثناء - مثلاً - قد أثر في المخرج فقط - كما سبق - فيبقى اللفظ العام متناولاً للباقي حقيقة؛ لأنه يصدق عليه: أنه لفظ استعمل فيما تناوله لا في غير ما تناوله. جوابه: أنا لا نسلِّم التفريق بين التخصيص بالمنفصل والمتصل، فهما سواء، فقول القائل: " أكرم العلماء "، ثم قوله: " أريد الطوال " هو نفسه: "أكرم العلماء إلا القصار". بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن الأفراد الذين بقوا بعد التخصيص قد دلَّ عليهم اللفظ العام وتناولهم حقيقة، أي: دخلوا في عمومه بدون قرينة. أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم قصدوا أن الأفراد الذين بقوا بعد التخصيص لا يدل عليهم اللفظ العام ولا يتناولهم إلا بقرينة. وكون اللفظ يدل على ما بقي بدون قرينة أقوى من كونه لا يدل عليهم إلا بقرينة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1562 المطلب الثامن عشر هل العام المخصوص حُجَّة في الباقي؟ اللفظ العام إذا دخله التخصيص وأخرج بعض أفراده - بعد التخصيص - هل يبقى حُجَّة فيما لم يخص أو لا؟ فمثلاً قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) عام في جميع الميتات وهي مثلاً خمس ميتات - وهي: ميتة البقر، وميتة الغنم، وميتة الإبل، وميتة السمك، وميتة الجراد - وجاءنا مخصص لهذا العموم وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أحل لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد.. "، فأخرج السمك والجراد، فصار الباقي ثلاث ميتات - وهي: ميتة الإبل، والغنم، والبقر - فهل يحتج بقوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) على ما بقي بعد التخصيص - وهي: الثلاث الميتات - أو لا؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن اللفظ العام إذا دخله التخصيص يبقى حُجَّة فيما لم يُخص مطلقا، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على الاحتجاج بالعمومات، واكثرها قد خص، فلم يمنعهم خروج بعض الأفراد من أن يستدلوا باللفظ العام على ما بقي بعد التخصيص، ولهذا صور كثيرة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1563 منها: احتجاج فاطمة - رضي اللَّه عنها - بعموم قوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) على طلب حقها من ميراث أبيها، ولم ينكر عليها أبو بكر ولا غيره من الصحابة ذلك، مع أنه مخصص بالكافر، والقاتل، والعبد، فإنهم قد استدلوا بعموم هذه الآية على ميراث الباقي بعد إخراج هؤلاء الثلاثة. ومنها: قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وقوله: (والسارق والسارقة ... ) فقد احتجوا بهما مع أنهما قد خصا بالمكره، والصبي، والمجنون، والجاهل. والأمثلة على ذلك كثيرة؛ حيث إن كلها تدل على إجماع الصحابة على الاحتجاج بالعموم المخصوص. الدليل الثاني: أن دلالة العام لا زالت على ما هي عليه لم تتغير بعد التخصيص، كما كانت قبل التخصيص، بيان ذلك: أن لفظ " السارق " مثلاً قد وضع لجميع السارقين؛ حيث إنه لفظ مفرد محلى بـ " أل "، فهو يفيد العموم - فهو يتناول كل سارق فتقطع يده، فلما جاء المخصص وأخرج بعض السارقين كالمجنون، والصبي، ومن سرق ما دون النصاب، وبيَّن أن هؤلاء لا تقطع أيديهم وإن سرقوا، فإن هذا المخصِّص قد صرف اللفظ العام - وهو السارق في قوله تعالى: (والسارق والسارقة ... ) عن دلالته على هؤلاء، وإذا صرف المخصوص دلالة اللفظ عن هؤلاء، فإنه لم يصرفه عن دلالته على الباقي، ولم يتعرض للباقي لا من قريب، ولا من بعيد، فيبقى اللفظ يدل على الباقي على ما كان سابقا، ويستمر على ذلك بدون تأثير، وهذا قياساً على الاستثناء، فإذا قال: "أكرم الطلاب إلا زيداً "، فإن الاستثناء خاص بزيد، وقد أخرجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1564 عن الإكرام، ولم يتعرض لبقية الطلاب، فيبقون على إكرامهم دون تغيير. المذهب الثاني: أن اللفظ العام إذا دخله التخصيص لا يبقى حُجَّة فيما لم يخص مطلقاً، أي: سواء كان المخصص متصلاً أو منفصلاً، وهو ما ذهب إليه أبو ثور - إبراهيم بن خالد صاحب الشافعي - واختاره عيسى بن أبان الحنفي. دليل هذا المذهب: أن العام بعد التخصيص أصبح كل فرد من الأفراد الباقية يحتمل أن يخرج بالتخصيص، ويحتمل أن لا يخرج، ولا يمكن ترجيح أحد الاحتمالين، فيكون بقاء الأفراد مشكوكا فيه، والمشكوك لا حُجَّة فيه، فاللفظ العام بعد تخصيص بعض أفراده لا يبقى حُجَّة على الباقي. جوابه: أن احتمال خروج الأفراد الباقية - بعد التخصيص - لا يؤثر بالظن الغالب على كونها باقية على ما كانت؛ لأن الأصل البقاء، حتى يقوم دليل على خلاف ذلك، ومتى كانت دلالة العام على الباقي ظنية وجب العمل به في الباقي؛ لأن العمل بالظن متعين وواجب. المذهب الثالث: العام حُجَّة في الباقي إن خُمنَ بمتصل كالاستثناء والغاية والصفة، ولا يكون حُجَّة في الباقي إن خُصَّ بمنفصل كالنص والعقل. وهو مذهب أبي الحسن الكرخي. دليل هذا المذهب: أنه يوجد فرق بين العام المخصَّص بالمتصل، والعابم المخصَّص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1565 بالمنفصل وهو: أن العام المخضَص بالمتصل لا يحتمل غير الأفراد الباقية، فيكون العام ظاهراً في هؤلاء الأفراد، فيكون حُجَّة فيهم؛ حيث إن العمل بالظاهر واجب. أما العام المخصَّص بالمنفصل فإنه متناول لما خرج كما هو متناول للباقي بعد الإخراج، وهذا يؤدي إلى جواز أن يخرج من الباقي بعض آخر بدليل لم يظهر لنا، فلا يكون العام ظاهراً في الباقي، فلا يكون حُجَّة. جوابه: إن العام كان حُجَّة قبل أن يدخله التخصيص في كل الأفراد، نظراً لكونه متناولاً لهؤلاء الأفراد، فيكون حُجَّة بعد التخصيص؛ لكونه لا يزال متناولاً لهؤلاء الأفراد الباقين، وذلك لأن المخصص قد أثر في الأفراد المخرجين، أما الباقين فلم يتأثروا بهذا المخصِّص، فيبقى اللفظ العام دالًّا على الباقي كما كان وهذا مطلقا. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن الباقي بعد التخصيص يعمل به؛ لأن دلالة اللفظ العام عليه ظاهرة، ولا يحتاج الأمر إلى أي قرينة، أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا: أن الباقي بعد التخصيص لا يعمل به إلا إذا جاءت قرينة تدل على وجوب العمل به. فمثلاً: قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وخصص منها: الصبي، والمجنون، والجاهل. فإن أصحاب المذهب الأول قالوا: يستدل بعموم الآية على ثبوت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1566 حكم الزنى على الأفراد الباقية، فيجلدون إذا زنوا، دون الثلاثة الذي خصوا. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم يتوقفون، ولا يستدلون بعموم اتلك الآية على إثبات حكم الزنى على الأفراد الباقية، ولا يثبت عليهم ذلك إلا بدليل خارجي. - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1567 المطلب التاسع عشر هل يجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز أن يُخصَّص العام إلى أن يبقى واحد مطلقاً، أي: سواء كان العام جمعاً كالرجال، أو غير جمع مثل: "من "، و "ما". وهو مذهب الإمام مالك، وأكثر الحنفية، وبعض الشافعية، واكثر الحنابلة، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه واقع في القرآن الكريم، ومنه قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) ، ومنزل الذكر هو الله الواحد الأحد. ومنه قوله تعالى: (أولئك مبرءون مما يقولون) ، وأراد بذلك عائشة - رضي اللَّه عنها -، ومنه قوله تعالى: (الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ) ، فقد عبر بلفظ العموم وهو: "الناس "، والمراد به واحد وهو: نعيم بن مسعود الأشجعي، كما ذكره المفسِّرون. الدليل الثاني: أنه واقع عند أهل اللغة: فقد كتب عمر إلى سعد ابن أبي وقاص - رضي اللَّه عنهما - قائلاً: " قد أنفذت إليك ألفي رجل "، وكان قد أرسل إليه ألفاً من الرجال والقعقاع بن عمرو، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1568 فهنا قد أطلق اسم الألف الأخرى وأراد بها واحداً وهو القعقاع، ولم ينكر عليه أحد. الدليل الثالث: أنه لفظ من ألفاظ العموم يجوز تخصيصه إلى الثلاثة، فجاز إلى ما دونها ولا فرق، قياساً على " من "، فإنه يجوز تخصيصها إلى أن يبقى واحد، فتقول: " من دخل داري من الطلاب فأكرمه إلا فلاناً وفلانا "، حتى يبقى واحد، فكذلك غيرها ولا فرق. المذهب الثاني: التفصيل، بيانه: إن كانت الصيغة غير الجمع، فيجوز تخصيصها إلى أن يبقى واحد. وإن كانت الصيغة جمعاً، فإنه يجوز تخصيصها إلى أن يبقى ثلاثة، ولا يجوز ما دون ذلك. وهو مذهب القفال، وأبي بكر الرازي. دليل هذا المذهب: أن هناك فرقاً بين الجمع وغيره، وهو: أن اسم الجمع حقيقة في الثلاثة فصاعداً، لأنها أقل مراتب الجمع على الصحيح، واستعماله فيما دون الثلاث إخراج له عن موضوعه، فلا يجوز. أما في غير الجمع من صيغ العموم كأدوات الشرط والاستفهام، واللفظ المفرد، فيجوز تخصيصها إلى أن يبقى واحد " لأنه أقل مراتبه نحو قوله: " من نجح فله جائزة "، وهو يريد شخصا واحداً: جوابه: إنه لا فرق بين الصيغ عندنا؛ لما ذكرناه من الآيات والخبر، وهذا أثبت عندنا مما ذكرتموه من إنشاءكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1569 المذهب الثالث: أنه لا يجوز أن يخصص العام إلى أن يبقى واحد، ولا أقل الجمع، بل الذي يجوز هو: أن يخصص العام إلى أن صبقى عدد يوصف بالجمع الكثير مطلقا، أي: سواء كان لفظ العموم جمعا كالرجال، أو غير جمع كأدوات الشرط والاستفهام. إلا أن يستعمل ذلك اللفظ الواحد على سبيل التعظيم، كقوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر) . وهو مذهب أبي الحسين البصري، واختاره فخر الدين الرازي، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه لو جاز أن يكون الباقي بعد التخصيص ثلاثة فما دونها: لكان قول القائل: " قتلت كل الناس " وهو لم يقتل إلا ثلاثة فأقل: غير مستقبح عرفا؛ لكونه قد استعمل اللفظ فيما يصلح له، لكن هذا القول مستقبح عرفاً؛ حيث إن أهل العرف يلومون هذا القائل، ويستقبحون هذا القول منه، فدل على أن العام لا يصلح للثلاثة ابتداء، فلا يصلح لها كذلك بعد التخصيص. جوابه: إنه عند وجود القرينة المخصصة، فإن أهل العرف لا يعيبونه، ولا يلومونه، ولا يستقبحون قوله ذلك. فيجوز أن يقول ذلك وإن قتل القليل، كما يجوز أن يقول الشخص العليل الذي يصف أمراً للطبيب: " أكلت اللحم "، ويريد به القليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1570 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: ما إذا كان للرجل أربع نسوة، وقال: " نسائي طوالق "، ثم قال؛ " كنت أخرجت ثلاثا "، فإنه يقبل بناء على المذهب الأول، حيث إن الباقية واحدة، ويجوز تخصيص العام إلى أن يبقى واحد. ولا يقبل بناء على المذهب الثاني؛ لأن الصيغة جمع، والجمع لا يخصص إلى واحد. ولا يقبل هذا؛ بناء على المذهب الثالث، لأن اسم النساء لا يقع على الواحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1571 المطلب العشرون المخاطِب - بكسر الطاء - هل يدخل في عموم خطابه؟ إذا تكلم شخص وأمر، أو نهى، أو أخبر بأمر عام، أو نهي عام، أو خبر عام - فهل يكون المتكلم داخلاً في عموم هذا الخطاب لغة أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن المتكلم والمخاطب يدخل في عموم خطابه وكلامه مطلقا، أي: سواء كان الكلام أَمراً أو نهيا أو خبراً. وهو مذهب بعض الشافعية، وأكثر الحنابلة، ونسب إلى الأكثرين، وهو الحق؛ لأن السيد لو قال لعبده: " من أحسن إليك فأكرمه "، ثم أحسن إليه السيد نفسه، فإن أكرمه فإنه يستحق المدح والثناء، وإن لم يكرمه، فإنه يستحق الذم واللوم، وهذا باتفاق العقلاء من أهل اللغة فاستحقاقه للمدح في الحالة الأولى، واستحقاقه للذم في الحالة الثانية دليل على أن السيد داخل في عموم خطابه، ومتناول له؛ فلو لم يكن الخطاب متناولاً للسيد، وأنه من جملة من أمر العبد بإكرامه لما استحق الذم لما لم يكرم السيد؛ لأن العبد لم يخالف ما أمر به، فدل ذلك على أن المتكلم يدخل في عموم كلامه. المذهب الثاني: أن المتكلم والمخاطب لا يدخل في عموم كلامه وخطابه مطلقا، أي: سواء كان الخطاب أمراً، أو نهيا، أو خبراً. وهو لبعض العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1572 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) . وجه الدلالة: أنه لو كان المتكلم داخلاً في عموم كلامه، لكان هذا الكلام من اللَّه مقتضيا دخوله سبحانه وتعالى ودخول صفاته، وهو باطل. جوابه: أنا لو نظرنا نظرة لغوية مجردة لاقتضى ذلك العموم، ولكن القرينة قد خصصت المتكلم والمخاطِب - وهو اللَّه عَزَّ وجَلَّ - والقرينة هنا هي العقل. الدليل الثاني: أن السيد لو قال لعبده: " من دخل داري فأعطه درهماً "، فلو كان المتكلم داخلاً في عموم خطابه وكلامه: لكان هذا القول يقتضي دخول السيد في هذا الخطاب، فيكون العبد مأموراً بإعطاء السيد إذا دخل؛ لأنه يوصف بأنه داخل، ومع ذلك فإن السيد لو دخل لا يحسن من العبد أن يعطيه درهماً، وذلك في نظر العقلاء، ويجعل ذلك مستقبحاً منه؛ حيث إن العبد لو أعطى السيد فكأن السيد قد أعطى نفسه؛ لأن العبد يأخذ الدراهم من سيده، وهذا لا يسمى عطاء، فدل ذلك على أن السيد ليس داخلاً في عموم كلامه وخطابه. جوابه: نفس الجواب عن الدليل السابق، فنقول: إنا لو نظرنا إلى قول السيد لعبده نظرة لغوية مجردة لوجدنا أن اللفظ عام، ولكنه مخصص بالقرينة، وهي: العقل؛ حيث إن السيد لا يُعطى؛ لأن العقل منع أن يعطي الإنسان نفسه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1573 المذهب الثالث: الفرق بين الأمر وغيره، بيانه: إذا كان المتكلم والمخاطب آمراً، فإنه لا يدخل في عموم كلامه وخطابه. وإن كان المتكلم والمخاطب غير آمر، فإنه يدخل في عموم كلامه وخطابه. وهو مذهب أبي الخطاب الحنبلي، وأبي الحسين البصري. أدلة هذا المذهب: أما الدليل على أن غير الآمر يدخل في عموم كلامه وخطابه، فهو دليل المذهب الأول. أما الدليل على أن المتكلم والمخاطب لا يدخل في عموم كلامه وخطابه إذا كان آمراً، فهو يتكون من وجهين: الوجه الأول: أن المقصود والغرض من الآمر: أن يمتثل المأمور به ويفعل، ولهذا يقول الممتثل للأمر: " أطعت وامتثلت وفعلت "، وهذا لا يكون إلا من الغير. الوجه الثاني: أن الأمر هو: استدعاء الفعل بالقول ممن هو دونه، والإنسان لا يتصور أن يكون دون نفسه، بل هو على نمط واحد ليس بعضه أدون من بعض، فلذلك لا توجد حقيقة الأمر هنا، فلم يجز أن يأمر العاقل نفسه. وبناء على هذين الوجهين: لا يدخل الآمر بالخطاب العام ضمن خطابه. جوابه: أن المتكلم والمخاطب يدخل تحت عموم خطابه وكلامه سواء كان آمراً أو غير آمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1574 والآمر في الوجهين اللذين ذكرهما أصحاب المذهب الثالث قد خرج من العموم بسبب القرينة، وهي: أن العاقل لا يأمر نفسه في الوجه الأول، ولا يطلب الامتثال من نفسه في الوجه الثاني. إذن: الآمر يدخل تحت عموم أمره، إلا أن القرينة قد خصصته وأخر جته، لما ذكرناه. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إن مقصد أصحاب المذهب الأول: أن الأصل أن المتكلم - مطلقاً - يدخل في عموم كلامه ولا يخرج إلا بقرينة. أما أصحاب المذهب الثاني: فإن الأصل عندهم: أن المتكلم - مطلقا - لا يدخل في عموم كلامه، ولا يدخل إلا بقرينة. أما أصحاب المذهب الثالث، فقد فرقوا بين الآمر، وغيره، فالأصل في الآمر أنه لا يدخل في عموم كلامه. أما غير فالأصل أنه يدخل. وقد تأثر بذلك بعض الفروع الفقهية التي منها: 1 - أنه لو قال المسلم: " نساء المسلمين طوالق "، فإن زوجته تطلق؛ بناء على المذهب الأول؛ لأن المتكلم يدخل في عموم كلامه. وكذلك تطلق بناء على المذهب الثالث؛ لأن الزوج ليس آمراً، فيدخل في عموم كلامه. وبناء على المذهب الثاني: فإن زوجته لا تطلق؛ لأنه لا يدخل في عموم كلامه. 2 - لو قال: " عندي لورثة أبي ألف ريال "، فإنه يدخل معهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1575 ويكون له نصيب منها عند أصحاب المذهب الأول، وكذلك يدخل عند أصحاب المذهب الثالث؛ لأنه خبر وليس بأمر، وهو يدخل في الخبر دون الأمر عندهم. وأما عند أصحاب المذهب الثاني فلا يدخل، وليس له نصيب منها؛ لأن المخاطب والمتكلم لا يدخل في عموم كلامه. 3 - لو قال لزوجته: " إن كلمت رجلاً فأنت طالق "، فكلمت زوجها وقع الطلاق بناء على المذهب الأول، وكذلك بناء على المذهب الثالث. ولا يقع الطلاق؛ بناء على المذهب الثاني؛ لأن المتكلم لا يدخل تحت عموم كلاملى. 4 - لو وقف داراً على الفقراء، ثم افتقر ذلك الواقف، فإنه يدخل معهم بناء على المذهب الأول، والثالث. ولا يدخل معهم بناء على المذهب الثاني، وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1576 المطلب الواحد والعشرون هل يجب اعتقاد عموم اللفظ قبل البحث عن المخصص؟ إذا ورد لفظ من ألفاظ العموم - السابقة - فهل يجب على السامع اعتقاد عمومه قبل أن يبحث عن المخصص، أو لا يجب اعتقاد عمومه إلا بعد البحث عن المخصص فلا يجد؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجب اعتقاد عموم اللفظ في حال علمنا به، وإذا اعتقد عمومه وجب العمل بذللث، إذا جاء وقت العمل به، قبل البحث عن المخصص، وفي حين عملنا به فإن وجدنا مخصِّصا تركنا العام واعتقدنا المخصص - وما بقي بعد التخصيص - إن بقي شيء - وإن لم نجد المخصِّص له نستمر في العمل بالعام. أي: يجب اعتقاد عموم اللفظ ؤبل ظهور المخصِّص، فإذا ظهر المخصَّص تغير ذلك الاعتقاد. وهو مذهب أبي بكر الصيرفي، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد، واختاره كثير من الحنابلة كأبي يعلى، وتلميذه ابن عقيل، وابن قدامة، وأبي بكر عبد العزيز بن جعفر " غلام الخلال "، وبعض الحنفية. وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن ترك التمسك با العام لاحتمال وجود المخصص: يلزم منه: ترجيح المرجوح على الراجح، وهو ممتنع، بيان ذلك: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1577 أن اللفظ العام راجح؛ حيث إنه قد وجد وأثبت الحكم بلا شك فهو معلوم قطعاً، واحتمال وجود المخصص مرجوح؛ حيث إنه مجرد احتمال لا دليل عليه قد يثبت وقد لا يثبت، فكوننا نترك دليلاً قد ثبت - وهو اللفظ العام - من أجل احتمال وجود مخصّص هذا ترجيح المرجوح على الراجح، وهذا ممتنع عقلاً. الدليل الثاني: أن الأصل عدم المخصص، وذلك يوجب ظن عدم المخصص، وهو يكفي في ظن إثبات الحكم باللفظ العام. الدليل الثالث: أن احتمال وجود الشيء لا يترك به الشيء الثابت بدليل عمل الصحابة - رضي اللَّه عنهم - في النسخ: فقد كان الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - يعتقدون بسبب كثرة ما نزل عليهم من الناسخ والمنسوخ - أن كل حكم ينزل عليهم سينسخ فيما بعد، ولكن هذا الاعتقاد لم يمنعهم من العمل بالحكم حال نزوله، فإذا نزل ما ينسخه تركوا المنسوخ، وعملوا بالناسخ. فكذلك هنا: يجب اعتقاد عموم اللفظ حال علمنا به، والعمل على ذلك وإن كنا نْحتمل وجود مخصص له، فإن ثبت هذا المخصِّص تركنا العام وعملنا بالمخصص، وإن لم يثبت مخصِّص نستمر في العمل على العموم، وهذا فيه من الاحتياط ما يعلمه كل فطن. الدليل الرابع: القياس على أسماء الحقائق، بيانه: أنه لو لم يجز التمسك بالعام إلا بعد البحث عن المخصص: لما جاز التمسك باللفظ على حقيقته إلا بعد البحث هل يوجد ما يقتضي صرفه عن المجاز أو لا؛ بجامع: احتمال الخطأ، لكن لا يجب ذلك -، بل نحمل لفظ " الأسد " على الحقيقة، وهو: الحيوان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1578 المفترس، ونعمل على ذلك من غير بحث من أنه هل وجد ما يقتضي صرفه عنه أو لا؟ فكذلك هنا نعتقد عموم اللفظ، ونعمل على ذلك من غير بحث عن وجود مخصص أو لا. الدليل الخامس: القياس على صيغة الأمر وصيغة النهي، بيان ذلك: أن الأمر المطلق يقتضي الوجوب، والنهي المطلق يقتضي التحريم، فإذا وردت صيغة من صيغ الأمر، فإنه يجب اعتقاد الوجوب ونعمل على ذلك، ولا يصرفنا عن هذا إلا صارف من قرينة أو دليل يبين أن المراد غير الوجوب من الندب وغيره. وكذلك إذا وردت صيغة من صيغ النهي، فإنه يجب اعتقاد التحريم ونعمل على ذلك ولا يصرفنا عن هذا إلا صارف من قرينة أو دليل يبين أن المراد غير التحريم من كراهة أو نحوه. فكذلك هنا فإنه إذا وردت صيغة من صيغ العموم، فإنه يجب اعتقاد عمومه، ونعمل على هذا الاعتقاد، ولا يصرفنا عن ذلك إلا صارف ومخصص يبين أن المراد غير العموم. المذهب الثاني: أنه لا يجب اعتقاد عموم اللفظ والعمل به حتى يبحث عن المخصص، فلا يجد ما يخصه. وهو مذهب ابن سريج، وهو اختيار بعض الحنابلة كأبي الخطاب، وهو مذهب أكثر العلماء من المالكية، والشافعية، وبعض الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن أفيَ صيغة من صيغ العموم - السابقة الذكر - لا تفيد العموم إلا بشرط وهو: عدم المخصص، وقبل طلب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1579 المخصص يكون وجوده وعدمه مشكوكا فيه، والشك في الشرط يوجب الشك في المشروط، أي: إذا شككنا في وجود المخصص وعدم وجوده: فإن هذا يلزم منه أن نشك في هذا اللفظ هل أفاد العموم أو لا؟ إذن: حجته بالنسبة إلى كل فرد مشكوك فيها، والمشكوك فيه لا يعمل به. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن وجود المخصص وعدمه مشكوك فيه، بل عدمه عندنا أغلب على الظن، فيكون ظن حجية اللفظ العام أغلب، فعلى هذا يعتقد عمومه، ويجب العمل بذلك. الدليل الثاني: أن اللفظ العام يحتمل أن يكون مراداً به العموم باعتبار أنه وضع لذلك لغة، واللفظْ عند إطلاقه يدل على ما وضع له. ويحتمل أن يكون العموم غير مراد منه لوجود ما يخصصه؛ نظراً لكثرة ورود التخصيص على العام حتي شاع قولهم: " ما من عام إلا وقد خصص ". والاحتمالان متساويان، فلو عمل بالعام قبل طلب المخصص لزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر، بدون مرجح، وهو باطل. إذن طلب الباحث للمخصص يريد بذلك ترجيح أحد الأمرين بمرجح، فإن وجد المخصص فقد ترجح الخصوص على العموم، وإن لم يجده فقد ترجح العموم على الخصوص؛ لأن عدم الوجدان دليل. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1580 الجواب الأول: أنا نعمل بالأصل، والأصل هو عموم اللفظ، أما التخصيص فهو عارض له يحتاج إلى قرينة مخصِّصة، كما عملنا بأسماء الحقائق. فإن الأصل حمل الاسم - وهو الأسد مثلاً - على حقيقته، أما المجاز، فهو عارض له يحتاج إلى قرينة. وبذلك يكون احتمال العموم راجحا على احتمال الخصوص - وليسا سواء كما زعمتم - فيعتقد عموم اللفظ، ويعمل على هذا الاعتقاد؛ لأن العمل بالراجح واجب. الجواب الثاني: أن كلامكم يؤدي إلى التوقف مما يؤدي إلى ترك العمل بالدليل الثابت - وهو اللفظ العام - وذلك لأن الأدلة المخصصة كثيرة وغير محصورة، فقد يجد المجتهد الدليل المخصص اليوم، وقد لا يجده اليوم، ويقول: سأبحث عنه في الغد، وهكذا حتى تذهب الأيام، وهو يؤمل نفسه بأنه سيجد مخصصا لهذا العموم، وبينما هو يفعل ذلك - يكون ذلك الدليل الثابت - وهو اللفظ العام - معطلاً عن العمل، وهذا لا يجوز. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن اللفظ العام يجب أن يُعمل به حال سماعنا إياه بدون قرائن. أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أن اللفظ العام لا يعمل به إلا بقرينة، وهي: عدم وجود مخصص. وهذا يظهر في مسألة وهي: هل يجوز للحاكم أن يحكم بالبينة أو بالإقرار بدون الرجوع إلى الخصم أو الغريم؛، فبناء على المذهب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1581 الأول: يجوز ذلك، وبناء على المذهب الثاني: لا يجوز؛ حيث إن العمل بذلك كالعمل بالدليل قبل الفحص عن المعارض، وهذا هو الذي أرجحه؛ لأن هناك مخصصا وهو: أن هذه الأمور لا بد فيها من مناقض. مسألة: هل يشترط القطع بعدم وجود المخصص للعمل باللفظ العام أو لا؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الثاني في ذلك على قولين: القول الأول: أنه لا يشترط القطع بعدم وجود المخصص، بل يكفي أن يبحث المجتهد عن المخصص، ويستقصي في ذلك في مضانه، فإذا غلب على ظنه عدم وجود المخصص: حكم بأنه لا مخصص لهذا اللفظ العام، وحينئذ يجب العمل به. ذهب إلى ذلك: ابن سريج، وإمام الحرمين، والغزالي، وأبو الخطاب، وأكثر أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: لا يجب اعتقاد عموم اللفظ والعمل به إلا بعد البحث عن المخصص، فلا يوجد -. دليل هذا القول: أنه لو اشترط القطع بعدم وجود المخصِّص للزم من ذلك تعطيل العمل بالعمومات كلها؛ لكثرة الأدلة، وعدم انحصار الأصول وتفرقها، فيكفي أن يغلب على ظنه عدم وجود المخصص والعمل بما يغلب على الظن واجب. القول الثاني: إنه يشترط القطع بعدم وجود المخصص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1582 أي: أن المجتهد يبحث عن المخصص، فإذا قطع بعدم وجوده، وسكنت نفسه بأنه لا دليل مخصص، فإنه يعمل باللفظ العام. وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني. دليل هذا القول: أنه إذا كانت نفسه تشعر بدليل شذ عنه، وتردد فيه، وقال في نفسه: يمكن أن يوجد ذلك الدليل المخصص، ويمكن أن لا يوجد، فكيف يحكم بدليل ويعمل به - وهو اللفظ العام - يجوز أن يكون الحكم به حراماً. جوابه: يمكن لأصحاب القول الأول أن يجيبوا عن ذلك بقولهم: إنه إذا بحث عن المخصص وغلب على ظنه عدم وجوده، فإنه يغلب على ظنه أن هذا اللفظ عام، فيجب اعتقاد عمومه والعمل به؛ لأن العمل بالظن الغالب واجب، ولا يقع في ذلك تردد؛ إذ لو اشترط القطع في كل دليل: لما بقى دليل؛ لأن جل الأدلة ظنية. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث اتفق أصحاب القولين على أنه يجب اعتقاد عموم اللفظ والعمل على ذلك، سواء علم قطعا أو ظناً بعدم وجود المخصص؛ لأنه اتفق على العمل بالظن؛ حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا لا يفرقون بين الدليل القطعي، والدليل الظني في وجوب العمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1583 المطلب الثاني والعشرون الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع هل يقتضي العموم في كل من المضاف والمضاف إليه؟ مثال ذلك: قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً) ، فهل تقتضي هذه الآية أخذ الصدقة من كل نوع من أنواع مال كل مالك؟ أو أخذ الصدقة من نوع واحد من مال كل مالك؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع يقتضي العموم في كل من المضاف والمضاف إليه، وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لأن الجمع المضاف من صيغ العموم، وضمير الجمع من صيغ العموم - أيضاً - فإذا أضيف العام إلى العام اقتضى ذلك: العموم في كل من المضاف والمضاف إليه عملاً بظاهر اللفظ. المذهب الثاني: أن الجمع المنكر المضاف إلى ضمير الجمع لا يقتضي العموم في كل من المضاف والمضاف إليه. وهو مذهب جمهور الحنفية، وقد نسب إلى الكرخي، وهذه النسبة غير صحيحة. دليل هذا المذهب: أن اللفظ دال على إيجاب صدقة منكرة محلها المال المضاف إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1584 المالك، فإذا أخرج من نوع واحد صدقة، فقد أخرج من جملة الأموال، فلا يجب عليه الزيادة على ذلك، يؤيد ذلك: أن الرجل لو قال: " لبس القوم ثيابهم "، فإنه يفهم من ذلك أن كل واحد منهم ليس ثوبه. فكذلك هنا: فإنه إذا أخذ الصدقة من جزء المال صدق أخذها من المال، ولهذا فقد وقع الإجماع على أن كل درهم ودينار من دراهم ودنانير المالك موصوف بأنه من ماله، ومع ذلك فإنه لا يجب أخذ الصدقة من خصوص كل درهم ودينار له؛ لعدم دلالة اللفظ عليه. جوابه: إن إضافة العام إلى العام لا بد أن يكون له فائدة، ولا فائدة له إلا اقتضائه العموم في المضاف والمضاف إليه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه يترتب على المذهب الأول: أنه يجب أخذ صدقة من كل نوع من أنواع المال لكل مالك، فعلى هذا المذهب لا تكفي صدقة من نوع واحد من الأموال. ويترتب على المذهب الثاني: أنه يكفي أخذ صدقة من نوع واحد من جميع الأموال من كل مالك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1585 المطلب الثالث والعشرون هل المفهوم له عموم؟ المفهوم ينقسم إلى قسمين: مفهوم موافقة وهو: ما كان حكم المسكوت عنه موافقاً لحكم المنطوق به، كقولنا بتحريم ضرب الوالدين أخذاً من منطوق قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) . ومفهوم مخالفة وهو: ما كان حكم المسكوت عنه مخالفا لحكم المنطوق، كقولنا: المعلوفة من الغنم لا زكاة فيها أخذاً من قوله عليه الصلاة والسلام: " في سائمة الغنم الزكاة ". فهل المفهوم في هذين القسمين يعم أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يعم. أي: يثبت الحكم في جميع صور المسكوت عنه إما على موافقة المنطوق به أو على مخالفته، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق؛ قياساً على اللفظ، فكما أن اللفظ يثبت الحكم في جميع صور مسمياته، فكذلك مفهومه يثبت الحكم في جميع صور مسمياته، فالشارع لما قال؛ " في سائمة الغنم زكاة "، فقد تضمن ذلك القول قولاً آخر، وهو: أنه لا زكاة في المعلوفة، ولو صرح بذلك لكان عاماً. المذهب الثاني: أن المفهوم لا يعم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1586 وهو اختيار الغزالي. دليل هذا المذهب: أن العموم من صفات اللفظ والنطق، والمفهوم ليس بلفظ، فلذلك لا يعم. جوابه: إن مفهوم الموافقة والمخالفة كالمنطوق، فلذلك قلنا في باب النسخ: إنه ينسخ، ويُنسخ به، فكذلك هنا يدخله العموم كما دخل اللفظ ولا فرق. بيان نوع الخلاف: اختلف في هذا الخلاف هل هو معنوي، أو لفظي على قولين: القول الأول: أن الخلاف معنوي، وهو الحق عندي؛ لأنه تأثر بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية، ومنها: أن قوله عليه الصلاة والسلام: " إذا بلغ الماء قلتين لم ينجس "، فإن هذا النص قد دلَّ بمفهومه على أن ما دونهما ينجس بملاقاة النجاسة، سواء تغير أو لا، كوثر بماء طاهر ولم يبلغ قلتين، أو لم يكاثر. هذا إذا كان للمفهوم عموم، وهو المذهب الأول. أما إذا قلنا: إن المفهوم لا عموم له، فإن الحديث لا يقتضي النجاسة في هذه الصورة. القول الثاني: أن الخلاف لفظي لا ثمرة له؛ لأن الخلاف إن كان في أدن مفهومي الموافقة والمخالفة يثبت فيهما الحكم في جميع ما سوى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1587 المنطوق من الصور أو لا؟ فالحق الإثبات، وهو مراد أصحاب المذهب الأول، وأصحاب المذهب الثاني لا يخالفونهم في ذلك. وإن كان الخلاف في ثبوت الحكم فيهما بالمنطوق أو لا؛ فالحق النفي، وهو مراد أصحاب المذهب الثاني، وأصحاب المذهب الأول لا يخالفونهم فيه، ولا ثالث - هنا - يمكن فرضه محلاً للنزاع. والحاصل؛ أنه نزاع لفظي يعود إلى تفسير العام بأنه ما يستغرق في محل النطق، أو هو: ما يستغرق في الجملة. جوابه: إن الخلاف في أن مفهومي الموافقة والمخالفة يثبت فيهما الحكم في جميع ما سوى المنطوق أو لا؟ وأصحاب المذهب الأول يثبتون ذلك. أما أصحاب المذهب الثاني فهم لا يوافقونه، كما زعمتم، بل يخالفون ذلك، ويقولون: إن الحكم يثبت في صورة واحدة مخالفة للمنطوق فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1588 المطلب الرابع والعشرون ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال هل ينزل منزلة العموم في المقال؟ مثاله: أن ابن غيلان الثقفي قد أسلم وتحته عشرة نسوة، فقال له الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "أمسك أربعاً وفارق سائرهن "، ولم يسأله عن كيفية عقده عليهن في الجمع أو الترتيب، أي: لم يستفسر منه هل عقد على هذه النسوة بعقد واحد في زمن واحد، أو عقد عليهن بعقود متعددة في أزمان مختلفة، فهل تركه السؤال عن ذلك يفيد العموم وينزل منزلة عموم المقال؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن ترك الاستفصال في حكاية الحال مع وجود الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.. وهو مذهب الإمام الشافعي، وتبعه على ذلك كثير من العلماء، وهو الحق؛ لأن ترك الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاستفصال من الحاكي في حكايته مع قيام الاحتمال الذي من شأنه أن يؤثر في الحكم، فإن ذلك ينزل منزلة العموم في المقال، فيكون الحكم - وهو إمساك أربع ومفارقة الباقي - عام في جميع الأحوال، سواء كان العقد على هذه النسوة في زمن واحد أو في أزمان متعددة. المذهب الثاني: أن ذلك لا ينزل منزلة العموم في المقال. وهو مذهب أبي حنيفة، وبعض الشافعية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1589 دليل هذا المذهب: أن " ترك الاستفصال.. " ليس من صيغ العموم، فلا يقتضي العموم، ثم إن. ما ذكره أصحاب المذهب الأول هو قضية خاصة، فلا يستدل بها على إثبات قاعدة عامة؛ لاحتمال أن يكون الرسول لمجيم قد عرف خصوص الحال؛ حيث إنه عارف بحال القائل - وهو أنه عقد عليهن بوقت واحد - فأجاب بناء على ذلك: لا؛ لأنه لا فرق بين تلك الحالة وغيرها في ذلك الحكم. جوابه: أن هذا ضعيف؛ لأن القاعدة ليست مفروضة في كون تارك الاستفصال عالما بشيء، وإنما هي مفروضة في قضية لا يعلم فيها تارك الاستفصال عن حال صاحب القضية مع احتمال اللفظ إياها، وظاهر الحديث يدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يعلم شيئاً عن زواج غيلان، هل هو بعقد واحد أو مختلف، وما قالوه من الاحتمال لا دليل عليه، فيبقى على ظاهره. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه ترتب على المذهب الأول: أن الشخص لو أسلم وعنده أكثر من أربع نسوة، فعليه أن يمسك أربعا منهن فقط، ويفارق الباقي، فيختار منهن ما شاء، ويترك الباقي مطلقا، سواء كان العقد على هذه النسوة في زمن واحد، أو في أزمان متعددة؛ وهذا يتبين فيه سماحة الإسلام ويسره. - أما أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: " إن ترك الاستفصال ... " لا يفيد العموم - فهم بنوا الحكم على عدم وجود الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1590 هذه القاعدة، فقالوا: إن كان العقد عليهن في وقت واحد، فعليه أن يجدد عقد النكاح على أربع منهن على حسب اختياره. وإن كانت تلك العقود مرتبة - أي: كل واحدة عقد عليها بعد الأخرى: فعليه أن يمسك الأربع الأول، ويفارق ما عداهن، وذلك لأن العقود الأولى قد صادفت محلاً قابلاً للعقد، فكانت صحيحة، أما ما عداها فلم يصادف محلاً قابلاً للعقد، فكان باطلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1591 المبحث الثاني في الخصوص ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريف التخصيص. المطلب الثاني: هل يجوز تخصيص العموم؟ المطلب الثالث: مخصصات العموم المنفصلة. المطلب الرابع: مخصصات العموم المتصلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1593 المطلب الأول تعريف التخصيص التخصيص هو: قصر العام على بعض أفراده. المراد من " قصر العام ": قصر حكمه، وإن كان لفظ العام باقياً على عمومه، لكن لفظاً لا حكما. والمراد من قوله: " على بعض أفراده " أي: أن هذا العام يخصص ويكون المراد به بعض أفراده بسبب قرينة مخصصة. مثل قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، فقد أورد اللَّه تخصيص ذلك بقوله: (وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن) ، فهنا قد خصص الشارع المطلقة الحامل، وجعل عدتها وضع الحمل، فلم يبق لفظ العموم - وهو المطلقات - على عمومه، بل قصره على بعض أفراده. مثال آخر: إذا قال: " أكرم الطلاب الناجحين "، فهنا قد قصر هذا اللفظ العام - وهو: الطلاب - على أفراد معينة وهم الناجحون. وإذا قيل: هذا كلام مخصوص معناه: أنه قصر على بعض فائدته، وكان غرض المتكلم به: بعض ما وضع له. والتخصيص يقرب من النسخ إلا أن بينهما فروقا قد ذكرتها في باب النسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1595 المطلب الثاني هل يجوز تخصيص العموم؟ لقد اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن تخصيص العموم يجوز مطلقا، أي: سواء كان اللفظ العام أمراً، أو نهياً، أو خبراً. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: وقوعه في كتاب اللَّه وسُنَّة رسوله، والوقوع دليل الجواز. فمن أمثلة وقوعه في الأمر قوله تعالى: (والسارق والسارقة) وقوله: (والزانية والزاني ... ) مع أنه ليس كل سارق يقطع، وكل زان يجلد. وقوله تعالى: (يوصيكم اللَّه في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) مع خروج الكافر، والعبد، والقاتل عنه. ومن أمثلة وقوعه في النهي: قوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) مع أن بعض القربان غير منهي عنه. ومن أمثلة وقوعه في الخبر: قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) مع أنها لم تؤت السموات والأرض وملك سليمان، وقوله: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) مع أنها لم تدمر السموات والأرض والجبال. وأكثر العمومات الواردة في الآيات والأحاديث قد خصصت حتى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1596 قيل: " ما من عام إلا وقد خصص " إلا قوله تعالى: (وهو بكل شيء عليم) ، كما سبق بيانه، ولو لم يكن التخصيص جائزاً لما وقع في الكتاب والسُّنَّة. الدليل الثاني: أنه لا معنى لتخصيص العموم سوى صرف اللفظ عن جهة العموم الذي هو حقيقة فيه إلى جهة الخصوص بطريق المجاز، والتجوز غير ممتنع لذاته، ولهذا لو قدرنا وقوعه لم يلزم المحال عنه لذاته، ولا بالنظر إلى وضع اللغة، ولهذا يصح من اللغوي أن يقول: " زارني كل أهل البلد "، وإن تخلف عنه بعضهم. المذهب الثاني: التفريق بين الخبر وبين غيره. فيجوز تخصيص اللفظ العام إذا كان أمراً أو نهيا، أما إذا كان خبراً فلا يجوز، وهو لبعض الطوائف. دليل هذا المذهب: أما جواز التخصيص إذا كان اللفظ العام أمراً أو نهيا: فدليله: الوقوع كما سبق. أما عدم جواز التخصيص إذا كان اللفظ العام خبراً، فدليله: أنه لو جاز تخصيص الخبر للزم الكذب في الخبر، لما فيه من مخالفة المخبر للخبر، وهو غير جائز كما في نسخ الخبر. جوابه: لا نسلم لزوم الكذب، ولا وهم الكذب بتقدير إرادة الخصوص والمجاز، وقيام الدليل على ذلك، ولو لم يكن جائزاً للزم من ذلك أن يكون قول القائل: " رأيت أسداً "، وهو يريد الرجل الشجاع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1597 أن يكون كاذبا إذا تبينا أنه لم يرد الأسد الحقيقي، وليس كذلك بالإجماع، وعلى هذا قلنا بجواز نسخ الأخبار. المذهب الثالث: التفريق بين الأمر، وغيره. فيجوز تخصيص اللفظ العام إذا كان غير أمر، أما إذا كان أمراً فلا يجوز، وهو لبعض الطوائف. دليل هذا المذهب: أما جواز التخصيص إذا كان اللفظ العام غير أمر، فدليله الوقوع كما سبق. أما عدم جواز التخصيص إذا كان اللفظ العام أمراً فدليله: أن القول بجواز تخصيص الأمر يوهم البَداء - وهو ظهور المصلحة بعد خفائها - وهذا مستحيل على اللَّه تعالى، لذلك لا يجوز تخصيص الأمر. جوابه: لا نسلم إيهام البَداء؛ لأنا نعلم أن اللفظ في الأصل يحتمل التخصيص، فقيام الدليل على وقوعه مبيِّن للمراد، وإنما يلزم البداء أن لو كان المخرج مراداً. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأنه لا أحد ينكر أن بعض الأفراد مخرج عن دخولها تحت بعض الألفاظ العامة، ولكن بعضهم - وهم الجمهور - قد سموا ذلك بالتخصيص، وبعضهم سموه بغير ذلك، فالخلاف - إذن - بالتسمية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1598 المطلب الثالث في مخصِّصات العموم المنفصلة لقد قلنا: إن التخصيص هو: قصر العام على بعض أفراده، فيكون المخصص هو: القاصر للعام على بعض أفراده، أي: هو فاعل التخصيص فهو المخرج، وهو: إرادة المتكلم الإخراج. والمخصص ينقسم إلى قسمين: مخصص منفصل وهو: ما يستقل بنفسه، بأن لا يكون مرتبطا بكلام آخر. ومخصص متصل وهو: ما لا يستقل بنفسه، بل هو مرتبط بكلام آخر. وإليك الكلام عن المخصصات المنفصلة في المسائل التالية: المسألة الأولى: في التخصيص بالحس. المسألة الثانية: في التخصيص بالعقل. المسألة الثالثة: في تخصيص الكتاب بالكتاب. المسألة الرابعة: في تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة: قولية أو فعلية. المسألة الخامسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة، والآحادية بالآحادية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1599 المسألة السادسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية بالكتاب. المسألة السابعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد. المسألة الثامنة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -. المسألة التاسعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع. المسألة العاشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم الموافقة. المسألة الحادية عشر: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم المخالفة. المسألة الثانية عشر: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس. المسألة الثالثة عشرة: في تعارض الخاص مع العام. المسألة الرابعة عشرة: قول الصحابي وفعله ومذهبه هل يخصص العموم؟ المسألة الخامسة عشرة: العرف والعادة هل يخصص بها العموم؟ المسألة السادسة عشرة: هل يجوز تخصيص العام بذكر بعضه؟ المسألة السابعة عشرة: العام إذا قصد به المدح أو الذم هل يخصص العام؟ المسألة الثامنة عشرة: عطف الخاص على العام هل يخصص العام؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1600 المسألة الأولى: في التخصيص بالحس: وهو الدليل المأخوذ من أحد الحواس الخمس، وهي: الرؤية البصرية، أو السمع، أو اللمس، أو الذوق، أو الشم. والحس قد أنجمع العلماء على جواز التخصيص به، دلَّ على ذلك: الوقوع: حيث وقع أن الحس قد خصص اللفظ العام، والوقوع دليل الجواز. من أمثلة ذلك: قوله تعالى: (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بأمر ربها) ، ونحن نشاهد أشياء كانت حين هبوب الريح لم تدمرها كالجبال، والسماء، والأرض. ومن ذلك: قوله تعالى: (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) ، ونحن نعلم أن هناك أشياء كثيرة لم تؤت منها بلقيس كالسموات، والأرض، وأن ما كان في يد سليمان - عليه السلام - لم يكن في يدها، وهو شيء. *** المسألة الثانية: في التخصيص بالعقل: العقل هو: آلة إدراك الأشياء والتمييز بينها. والعقل قد اختلف في جواز التخصيص به على مذهبين: المذهب الأول: أن العقل يجوز تخصيص العموم به. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليل الوقوع؛ حيث إنه قد وقع أن "العقل خصَّص وأخرج بعض أفراد العام، وبين أنهم غير داخلين في عموم اللفظ، وهذا هو التخصيص، والوقوع دليل الجواز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1601 ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) ، فإن لفظ " الناس " صيغة عموم - حيث إنها جمع معرف بـ " أل " - فيدخل فيه كل الأفراد، ولكن العقل اقتضى بنظره عدم دخول الصبي والمجنون بالتكليف بالحج؛ لعدم فهمهما، بل هما من جملة الذين لا يخاطبون بخطاب التكليف. ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (الله خالق كل شيء) ، فإن لفظ " كل " قد تناول بعمومه لغة كل شيء مع أن ذاته وصفاته أشياء حقيقة، ومع ذلك فإنها لا تدخل في هذا العموم، وخرج ذلك بدلالة ضرورة العقل من عموم اللفظ، وذلك مما لا خلاف فيه بين العقلاء، ولا نعني بالتخصيص غير ذلك. المذهب الثاني: أنه لا يجوز التخصيص بالعقل. ذهب إلى ذلك طائفة من المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن دليل العقل متقدم وسابق في الوجود على أدلة السمع، والمخصِّص ينبغي أن يكون متأخراً عن المخصَّص، فلا يصلح أن يكون العقل مخصصا للعموم وهو متقدم. جوابه: أن العقل يجب أن يكون متأخراً بالنظر إلى ذاته، أو بالنظر إلى صفته، وهو كونه مبيناً ومخصصاً. أما الأول - وهو: كون العقل متأخراً بالنظر إلى ذاته - فنحن نسلم لكم أنه متقدم على النقل والسمع. أما الثاني - وهو: كون العقل متأخراً بالنظر إلى صفته، وهو: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1602 كونه مخصصا -: فلا نسلم أنه لا يتأخر، بل يكون متأخراً عن النقل والسمع؛ لأن العقل وإن كان متقدما في ذاته على الخطاب العام غير أنه لا يوصف قبل ذلك بكونه مخصصا لا لم يوجد، وإنما يصير مخصصاً ومبيناً بعد وجود الخطاب، فيصير التخصيص من صفاته. وذلك لأن المخصص هو: الدليل المعرف لإرادة المتكلم بهذا اللفظ، وأنه أراد هذا التكلم بهذا اللفظ العام معنى خاصا، والعقل يدل على ذلك بعد وجود الخطاب العام وإن كان متقدما في ذاته على ذلك الخطاب. الدليل الثاني: أن حقيقة التخصيص هي: إخراج بعض ما تناوله اللفظ عنه، ونحن نعلم بالضرورة أن المتكلم لا يريد بلفظه الدلالة على ما هو مخالف لصريح العقل، فلا يكون لفظه دالًّا عليه لغة، أي: لا يمكن تناول اللفظ لما يخالف صريح العقل، ومع عدم الدلالة اللغوية على الصورة المخرجة لا يكون تخصيصاً. فقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت) نعلم منه ضرورة بالعقل أن الصبي والمجنون لا يدخلان تحت لفظ " الناس " أصلاً، فلا يكون متناولاً لهما لغة؛ لأنه لا يمكن أن يتناول البفظ لما يخالف صريح العقل، فلا يكون هذا اللفظ عاما أصلاً للصبي والمجنون، وبالتالي: لا يكون العقل مخصصا لهما. جوابه: لا نسلم ذلك، بل يدخل غير المعقول، والمخالف لصريح العقل تحت اللفظ من حيث اللسان والوضع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1603 بيان نوع هذا الخلاف: القد اختلف في ذلك على قولين: القول الأول: إن الخلاف معنوي، وهو الحق؛ وذلك لأنه أثر في مسألة من مسائل أصول الفقه وهي: " العام بعد التخصيص هل هو حقيقة في الباقي، أو يكون مجازاً؛ " - وقد سبقت في المبحث الأول -. فبناء على المذهب الأول: فإن تخصيص العموم بدليل العقل يجري فيه الخلاف السابق في تلك المسألة هل هو حقيقة في الباقي، أو مجاز. وبناء على المذهب الثاني - وهو: عدم جواز التخصيص بالعقل - فإن العام المخصوص بالعقل حقيقة بلا خلاف؛ لأن العقل لا يخصص أصلاً، فيبقى اللفظ على ما هو عليه حقيقة. القول الثاني: إن الخلاف لفظي، واختاره بعض العلماء - كالباقلاني، وإمام الحرمين، والغزالي، وإلكيا الهراسي، والقرافي، والتاج ابن السبكي، والإمام الرازي، وغيرهم -، ودليلهم: أن المعنى قد اتفق أصحاب المذهبين عليه. ولكن اختلف في تسميته تخصيصا. جوابه: أنه يفهم من أدلة أصحاب المذهب الثاني: أن الأفراد المخصوصين بالعقل لم يدخلوا في اللفظ العام أصلاً، فعلى مذهبهم: لا يوجد شيء يخصص بالعقل، فإذا لم يتناول اللفظ العام هؤلاء المخرجين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1604 بالعقل، فإنه لا يصدق عليه تعريف التخصيص، وهو: قصر العام على بعض أفراده، فيكون الخلاف معنوياً. المسألة الثالثة: في تخصيص الكتاب بالكتاب: لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: الو قوع؛ والوقوع دليل الجواز. ومثال الوقوع: أن قوله تعالى: (وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) ورد مخصصاً لقوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) . أي: كل مطلقة تعتد بثلاث حيض إلا الحامل، فإنها تعتد بوضع الحمل ولو بعد ساعة من الطلاق، أو بعد سنة. مثال آخر: أن قوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم) ورد مخصصا لقوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) . أي: أنه لا يجوز نكاح الكافرات والمشركات إلا نساء أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، فيجوز نكاحهن. الدليل الثاني: أن العام والخاص من الكتاب إما أن يعمل بهما معا أو لا يعمل بهما معا، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1605 أما الأول - وهو العمل بالخاص والعام - فهو باطل؛ لأن فيه جمعاً بين متناقضين. أما الثاني - وهو: عدم العمل بهما معا - فهو باطل - أيضا -؛ لأنه يستلزم ترك دليلين قد ثبتا، وهذا لا يجوز. وأما الثالث - وهو: أن يعمل بالعام دون الخاص - فهو باطل - أيضاً -؛ لأنه يستلزم ترك دليل بالكلية - وهو الخاص - وهذا لا يجوز. وأما الرابع - وهو: أن يعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص - فهو الصحيح؛ لأنه يستلزم إعمال الدليلين على حسب القدرة، وهذا أَوْلى من إبطال أحدهما بالكلية. المذهب الثاني: أن الكتاب لا يخصص الكتاب، وهو مذهب بعض أهل الظاهر. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى فوض البيان إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -، والبيان هو التخصيص، وذلك يقتضي: أن لا يحصل البيان والتخصيص إلا بقوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا يحصل بقول اللَّه تعالى. جوابه: يجاب عنه بجوابينْ: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه يلزم من تفويض البيان إليه أن لا يحصل البيان منه تعالى، وهذا لأنه يجوز أن يفوض الشيء إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1606 شخص، ويحصل ذلك الشيء من غيره، والفائدة في التفويض نصبه لذلك، لا أن غيره ممنوع منه. الجواب الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ أن المراد من الآية هو: البيان - كما ذكرتم - بل المراد من الآية هو: إظهار ما نزل اللَّه، وإبلاغه إلى الأُفَة يدل على ذلك: أنا لو حملنا قوله تعالى: (لتبين للناس) على البيان، وهو: إزالة الإشكال لوقع تعارض بين تلك الآية، وقوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) ، والتعارض خلاف الأصل، فوجب - للتخلص من هذا التعارض - حمل الآية التي استدللتم بها على التلاوة، والإبلاغ، وإذا كان المراد من تلك الآية: الإبلاع، والتلاوة: لم يلزم من تفويض البيان إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم -: أنه لا يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على أن يكون عدة الحامل مطلقهَ هو: وضع حملها؛ لقوله تعالى: (وأولات الأحمال) مع أنه قال: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، وللاتفاق على جواز نكاح نساء أهل الكتاب، لقوله تعالى: (والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب ... ) مع قوله تعالى: (ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن) ، لكن أصحاب المذهب الأول قالوا بأن هذا من باب تخصيص الكتاب بالكتاب، وأصحاب المذهب الثاني لم يجعلوه من هذا الباب، وإنما جعلوه من باب آخر وسموه باسم آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1607 المسألة الرابعة: في نخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة سواء كانت السُّنَّة قولية أو فعلية: هذا جائز بالاتفاق؛ لدليلين هما: الدليل الأول: الوقوع، والوقوع دليل الجواز. مثال تخصيص الكتاب بالسُّنَة القولية: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يرث القاتل "، وقوله؛ " لا يرث المسلم الكافر، ولا الكافر المسلم "، فإنهما وردا مخصصين لقوله تعالى: (يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ) أي: أن جميع الأولاد يرثون من آبائهم إلا القاتل لا يرث، والولد الكافر. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضاً -: إن هذين الحديثين ليسا بمتواترين، بل هما في مرتبة الآحاد، فكيف تقول: إنهما في مرتبة التواتر. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنهما في مرتبة الآحاد، بل كانا في مرتبة التواتر في زمن التخصيص، وهو زمن الصحابة - رضي الله عنهم - والعبرة بزمن التخصيص، لا بهذا الزمن. الجواب الثاني: على فرض أنهما في مرتبة الآحاد، وأن العبرة بهذا الزمن، فإن الآية قد خصصت بهما مع أنهما في مرتبة الآحاد، وإذا خصصت الآية بهما مع أنهما في مرتبة الآحاد، فمن باب أوْلى أن يخصص الكتاب بالمتواتر؛ لأن المتواتر أقوى من الآحاد. ومثال تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة الفعلية: رجم ماعز بن مالك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1608 قد خصص قوله تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، وأصبحت الآية قاصرة على الزاني البكر، والزانية البكر. الدليل الثاني: أن العام من الكتاب والخاص من السُّنَّة المتواترة دليلان قد ثبتا، فإما أن يعمل بهما معاً، أو لا يعمل بكل واحد منهما، أو يعمل بالعام دون الخاص، أو يعمل بالخاص وما بقى بعد التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيكون الرابع هو الصحيح كما بينا ذلك في تخصيص الكتاب بالكتاب. المسألة الخامسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة بالسُّنَّة المتواترة وتخصيص السّنَّة الآحادية بالآحادية: هذا قد اختلف فيه على مذهبين: المذهب الأول: أن ذلك كله يجوز. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: وقوعه، والوقوع دليل الجواز، حيث إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا زكاة فيما دون خمسة أوسق " ورد مخصصا لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " فيما سقت السماء الزكاة ". الدليل الثاني: أن العام من السُّنَّة المتواترة، والخاص منها دليلان قد ثبتا فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل بهما، أو نعمل بالعام دون الخاص، أو نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص والثلاثة الأولى باطلة، فيكون الرابع هو الصحيح، وقد سبق بيان ذلك في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب بالكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1609 وكذلك يقال في العام من الأحاد والخاص منها. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة مطلقا. وهو لبعض الجلماء. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (لتبين للناس ما نزل إليهم) . وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد جعل مبيِّنا، فلا يحتاج كلامه إلى بيان. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنه كما أن الكتاب يبين ويُخصص بعضه بعضا، فكذلك السُّنَّة تبين وتخصص بعضها البعض الآخر ولا فرق، بجامع: أن كلًّا منهما من اللَّه تعالى. الجواب الثاني: أن المقصود بالآية هو: إظهار ما نزل اللَّه وإبلاغه إلى الأُمَّة، وليس المراد: إزالة الإشكال، وبناء على ذلك فلا يصح الاستدلال بالآية على ما ذكرتموه، ثم إنه قد وقع، ولا يترتب على فرض وقوعه تنافي. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ حيث لم يترتب على هذا الخلاف أثر في الفروع، وأن تخصيص السُّنَّة بالسُّنَّة قد وقع، لكن أصحاب المذهب الأول يسمونه تخصيصا وبيانا، وأصحاب المذهب الثاني لا يسمونه بذلك، وقد يجعلونه مبينا ومخصصا بأي مخصص غير السُّنَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1610 المسألة السادسة: في تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية بالكتاب: قد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحادية بالكتاب. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . وجه الدلالة: أن السُّنَّة شيء من الأشياء، والتخصيص بيان، فيكون الكتاب مخصصا لها. الدليل الثاني: أن العام من السُّنَّة المتواترة والآحاد، والخاص من الكتاب دليلان قد ثبتا، فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل بكل واحد منهما، أو نعمل بالعام دون الخاص، أو نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى - كلها - باطلة، فيصح الرابع وهو المطلوب، وقد سبق بيان ذلك في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب بالكتاب. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص السُّنَّة المتواترة والآحاد بالكتاب، وهو مذهب بعض الشافعية، وقول بعض المتكلمين. دليل هذا المذهب: أن وصف الكتاب بكونه بياناً للسُّنَّة يوهم بأنه تابع للسُّنَّة؛ لأن البيان تابع، فوصما أن لا يجوز؛ لئلا يقع إيهام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1611 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا نمنع ذلك؛ لأن الله تعالى قد وصف الكتاب بكونه (تبياناً لكل شيء) في معرض المدح له، فلو كان كونه بياناً لغيره يوهم بالتبعية لما كان ذلك صفة مدح. الجواب الثاني: على فرض تسليم ما قلتموه، فإن الإيهام زائل بما علم بالضرورة من كون القرآن أصلاً غير تابع لكل ما يقع بيانا له، وهو أقل رتبة منه. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا أنه لو جاء عام من السُنَّة وجاء خاص من الكتاب، فإن العام يخصص بالخاص، ويعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص، أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم قصدوا أن العام من السُّنَّة لا يخصصه الخاص من الكتاب، بل يكون له دلالة أخرى. *** المسألة السابعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد: ولقد اختلف فيه على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد مطلقاً. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم -؛ حيث إنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1612 كان البعض منهم يخصص العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد، ولا ينكر عليه الاَخرون، فكان ذلك إجماعا على ذلك. ومن أمثلة ذلك: أنهم خصصوا قوله تعالى: (يوصيكم الله في أولادكم) بما روى أبو بكر - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "، وبقوله: " لا يتوارث أهل ملتين مختلفتين "، وهما خبران من أخبار الآحاد. ومنها: أنهم خصصوا قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) بما روي عنه عليه السلام أنه قال: " لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ". ومنها: أنهم خصصوا عموم قوله تعالى: (حتى تنكح زوجا غيره) بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - قال لامرأة رفاعة: " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك ". ومنها: أنهم خصصوا قوله تعالى: (وقاتلوا المشركين كافة) بما روى عنه عليه السلام أنه قال في حق المجوس: " سنوا بهم سُنَّة أهل الكتاب "، ونحو ذلك مما لا يحصى كثرة. الدليل الثاني: أن العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة، والخاص من خبر الواحد دليلان قد ثبتا، فإما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل بكل واحد منهما، أو نعمل بالعام ونترك الخاص، أو نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيكون الرابع هو الصحيح على ما فصلناه في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب بالكتاب. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد مطلقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1613 وهو مذهب بعض الفقهاء وبعض المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: إجماع الصحابة على رد خبر الواحد إذا خالف الكتاب؛ حيث روي أن عمر - رضي اللَّه عنه - رد خبر فاطمة بنت قيس فيما روته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين طلقها زوجها - لم يفرض لها النفقة ولا السكنى فقال - أي: عمر -: " لا ندع كتاب ربنا وسُنَّة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت، أنسيت أم ذكرت " ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعا. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نسلِّم حصول الإجماع الذي زعمتموه؛ لأن عمر قال ذلك وسمعه بعض الصحابة الموجودين في المدينة، أما بقية الصحابة وهم الذين خارج المدينة، فلم يسمعوا بهذا، فادعاء الإجماع بعيد جداً. الجواب الثاني: على فرض حصول الإجماع، فإن عمر - رضي الله عنه - لم يرد خبرها لكونه خبر آحاد ولا يقوى على تخصيص الكتاب، ولكنه ردَّ خبرها؛ لأنه شك في حفظها بدليل قوله: " لا ْندري أنسيت أم ذكرت "، فلو لم يكن هذا هو سبب رده لخبرها لما كان لهذه العبارة فائدة، ولا يمكن أن يأتي أي صحابي بعبارة لا فائدة منها. أي: يلزم لتحصيل فائدة هذه العبارة أن نجعلها هي سبب رده. ولو قلنا بأن سبب ردِّه هو: كون خبر الواحد لا يخصص الكتاب لما كان لهذه العبارة فائدة، وتكون عبثا، وهذا لا يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1614 الدليل الثاني: أن الكتاب والسُّنَّة المتواترة مقطوع بهما، وخبر الواحد مظنون، فتقديمه على الكتاب والسُنَّة المتواترة تقديم المرجوح على الراجح، وهو ممتنع عقلاً. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن خبر الواحد وإن كان ظني الثبوت إلا أن دلالته على معناه - أقوى من دلالة العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة -؛ لأن خبر الواحد خاص في مراده لا يحتمل غير المراد، أما العام فهو يحتمل، وإذا كان دلالة الخبر أقوى في الدلالة على معناه من العام، فإنه يكون راجحاً عليه، والعمل بالراجح متعين. الجواب الثاني: أن هذا منقوض بالبراءة الأصلية، فإنها يقينية مع أنها تترك بخبر الواحد، فكذلك العام من الكتاب والسُنَّة المتواترة يترك بخبر الواحد. الدليل الثالث: قياس التخصيص على النسخ، بيان ذلك: أنه كما لا يجوز نسخ الكتاب والسُّنَّة المتواترة بخبر الواحد، فكذلك لا يجوز تخصيصهما به؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا القياس صحيح لو لم يرد دليل أقوى منه قد ألغى هذا القياس، وهو: الإجماع، فإن الصحابة قد أجمعوا على رد خبر الواحد إذا كان ناسخا للمقطوع، كما أجمعوا على قبوله إذا كان مخصصا له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1615 الجواب الثاني: سلمنا عدم حصول هذا الإجماع، لكن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن التخصيص أهون من النسخ، لأن التخصيص دفع، والنسخ رفع، والدفع أسهل من الرفع. المذهب الثالث: التفصيل بين ما خُصَّ بقطعي، وبين ما خُصَّ بظني، بيانه: إن كان العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة قد خُصَّ بدليل متفق عليه - وهو الدليل القطعي -: فإنه يجوز تخصيصه بخبر الواحد. وإن كان العام منهما لم يخص بقطعي، فإنه لا يجوز تخصيصه بخبر الواحد، وهو مذهب عيسى بن أبان، وكثير من الحنفية. دليل هذا المذهب: أن ما دخله التخصيص بدليل قطعي صار مجازاً فيما بقي وصارت دلالة العام ظنية، وحينئذ يقوى خبر الواحد على تخصيصه؛ لأن كلا الأمرين مظنون، والظق يعارضه ظن مثله. أما إذا لم يدخله التخصيص أصلاً فهو باق على حقيقته في الاستغراق؛ حيث إن دلالة العام عند أكثر الحنفية قطعية وحينئذٍ لا يقوى خبر الواحد على تخصيصه، لأنه قطعي وخبر الواحد ظني، والظني لا يقوى على تخصيص القطعي. جوابه: إن هذا الكلام مبني على قاعدتكم - أي: قاعدة الحنفية وهي: أن دلالة العام قطعية - ونحن نخالفكم في هذه القاعدة؛ حيث قلنا هناك: إن دلالة العام ظنية، وهي أضعف من دلالة الخاص - وهو: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1616 خبر الواحد -؛ حيث إن الخاص - كخبر الواحد - لا يقبل التخصيص بخلاف العام، فإنه يقبل التخصيص ويرد عليه، فيكون خبر الواحد أقوى من العام، فإذا كان الأمر كذلك فإن خبر الواحد يقوى على تخصيص العام. المذهب الرابع: التفصيل بين المخصَّص بالمتصل، وبين المخصَّص بغيره. بيانه: أن العام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة إن لم يخص أصلاَّ أَو خص بمتصل كالشرط والغاية والاستثناء، فلا يخصصه خبر الواحد. أما إذا خص بمنفصل كالنص، أو القياس، أو الإجماع، فإن خبر الواحد يخصصه، وهو مذهب أبي الحسن الكرخي. دليل هذا المذهب: أن العام إذا لم يخصص أصلاً، فإن دلالته على الأفراد قطعية، فلا يقوى خبر الواحد على تخصيصه، وإن خص بالمخصص المتصل فإنه أيضا تكون دلالته قطعية؛ لأنه لا يحتمل غير ما قُيِّد به من الأفراد الموصوفة بالصفة، أو الشرط، ونحو ذلك، فتكون دلالته على الباقي قطعية، وإذا كانت دلالة العام قطعية، فإن خبر الواحد لا يقوى على تخصيصه. أما إذا خصص العام: بمنفصل كالنقل والقياس، فإنه يصبح ظني الدلالة على الباقي؛ لأنه يحتمل أن تخرج منه بعض الأفراد الباقية بدليل كما خرج بعض الأفراد في المرة الأولى، وإذا كان العام ظني الدلالة وخبر الواحد كذلك، فإنهما يتساويان في الظن، فيتعارضان، فيقدم - حينئذ - خبر الواحد؛ لأن فيه عملاً بالدليلين؛ لأنه يعمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1617 بالخاص، وما بقى بعد التخصيص، أما لو عملنا بالعام للزم إبطال دليل قد ثبت وهو الخاص، فلا يجوز. المذهب الخامس: أن العام يعمل فيه فيما عدا الفرد الذي دلَّ عليه خبر الواحد الخاص، أما الفرد الخاص الذي دلَّ عليه خبر الواحد، فإنه يتعارض مع ما دلَّ عليه اللفظ العام، وحينئذ لا نرجح أحدهما على الآخر، ونتوقف حتى يرد دليل يرجح أحدفما، وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني. دليل هذا المذهب: أن خبر الواحد والعام قد اجتمع في كل واحد منهما قطع من وجه وظن من وجه آخر، فوقفا موقفاً سواء، ولم يترجح أحدهما على الآخر. بيانه: أن خبر الواحد مقطوع الدلالة والمعنى، حيث إنه خاص، ولكنه من جهة أخرى مظنون السند والأصل. واللفظ العام الوارد في الكتاب والسُّنَّة المتواترة مقطوع السند والأصل، ولكنه من جهة أخرى مظنون المعنى والدلالة والشمول. فخبر الواحد قطعي الدلالة ظني الثبوت، والعام من الكتاب والسُّنَّة المتواترة قطعي الثبوت ظني الدلالة، فكل واحد منهما قوي من جهة وضعيف من جهة أخرى، فهما - إذن - متقابلان، ومتساويان في القوة، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر، ولا دليل على ترجيح أحدهما على الآخر، فوجب التوقف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1618 جوابه: إن خبر الواحد أرجح من العام؛ لما ذكرناه كثيراً فيما سبق، وهو: أن العمل بالخاص - وهو ما دلَّ عليه خبر الواحد - فيه إعمال للدليلين. حيث يتضمن: العمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص من العام، أما العمل بالعام ففيه إبطال للخاص - وهو ما دلَّ عليه خبر الواحد -، ومعروف أن إعمال الدليلين إن أمكن أوْلى من إعمال أحدهما دون الآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: قوله تعالى: (وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ) ، فقد خصَّصه أصحاب المذهب الأول بما روت عائشة - رضي الله عنها -: أن قوما قالوا: يا رسول الله، إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم اللَّه عليه أم لا؛ فقال: " سموا عليه وكلوا "، وما روي أنه قال: " ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم اللَّه أو لم يذكر "، ونحوهما. فعند أصحاب المذهب الأول: أن التسمية سُنَّة، وأن متروك التسمية عمداً حلأل كله، وعموم تلك الآية قد خصص بما ذكرناه من أخبار الآحاد. أما عند أصحاب المذهب الثاني والثالث والرابع فلم يُخصِّصوا الآية السابقة بتلك الأحاديث، وقالوا: إن هذه الأحاديث ظنية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1619 ودلالة العام قطعية، والظني لا يخصص القطعي، وبناء على ذلك قالوا: أن متروك التسمية عمداً ليس بحلال، ولا يجوز أكله؛ أخذاً بعموم الآية السابقة. أما أصحاب المذهب الخامس فقد توقفوا في ذلك حتى يأتي دليل يرجح أحدهما. المسألة الثامنة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بتقرير النبي - صلى الله عليه وسلم -. لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن التقرير يخصص العموم مطلقا، سواء كان اللفظ العام ورد في الكتاب أو السُّنَّة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن تقرير النبي - صلى الله عليه وسلم - لذلك الواحد على ذلك الفعل، وسكوته عن الإنكار دليل واضح على جواز ذلك الفعل له، وإلا كان فعله منكراً، ولو كان كذلك لاستحال من النبي - صلى الله عليه وسلم - السكوت عنه، وعدم النكير عليه؛ لأنه لا يحل له الإقرار على الخطأ، وهو معصوم، وإذا لم ينكر عليه كان سكوته دليلاً من أدلة الشرع، وهو مقابل بالنص العام، إذن هما دليلان قد ثبتا، وحينئذ نقول: إما أن نعمل بكل واحد منهما، أو لا نعمل بواحد منهما، أو نعمل بالعام ونترك الخاص، أو نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص، والثلاثة الأولى باطلة، فيصح الرابع وهو: أن نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص؛ جمعا بين الدليلين كما سبق بيانه في الدليل الثاني من أدلة تخصيص الكتاب بالكتاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1620 المذهب الثاني: أنه لا يجوز تخصيص العموم بتقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن التقرير لا صيغة له، فلا يقع في مقابلة ما له صيغة، فلا يكون مخصصاً للعموم. جوابه: إن التقرير وإن كان لا صيغة له غير أنه حُجَّة قاطعة في جواز الفعل؛ نفياً للخطأ عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، بخلاف العام، فإنه ظني محتمل للتخصيص، فيكون التقرير أقوى، والأقوى يخصص الأضعف، فالتقرير يخصص العام. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو واضح؛ حيث إنه لو وجد عام من النص، وأقر - صلى الله عليه وسلم - على فعل يخالف دلالة ذلك العام، فإن العام لا يكون حكمه متناولاً لهذا الفرد، بل يكون مراداً به غيره، هذا عند أصحاب المذهب الأول. أما عند أصحاب المذهب الثاني: فإن العام يكون حكمه متناولاً لهذا الفرد وغيره؛ لأن التقرير لا يقوى على تخصيص العام عندهم. *** المسألة التاسعة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة المتواترة بالإجماع: هذا جائز باتفاق العلماء المعتد بأقوالهم، دلَّ عليه ما يلي: الدليل الأول: الوقوع، والوقوع يدل على الجواز، بيانه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1621 أنه لما قال تعالى: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) ، فإنهم خصصوا هذه الآية بالإجماع على أن العبد يجلد خمسين جلدة على النصف من الحر؛ قياساً على الأمة، وبيانه: أن اللَّه تعالى قال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ) ، فهنا قد صرح بأن على الأمة نصف ما على الحرة، فيقاس على الأمة العبد، فيكون عليه نصف ما على الحر، وأجمعوا على هذا فخصص به قوله تعالى: (الزانية والزاني..) ، فتكون الآية مخصصة بالإجماع، وقد يكون مستند الإجماع غير ذلك القياس، لكن غير المجمعين لا يلزمهم البحث عن هذا المستند، بل يكفيهم الإجماع على التخصيص. الدليل الثاني: أن الإجماع أوْلى من عام الكتاب والسُّنَّة المتواترة؛ لأنهما نصوص، والنص قابل للتأويل، والإجماع غير قابل لذلك، فيكون الإجماع أقوى، وحينئذ يخصص عام الكتاب والسُّنَّة المتواترة. تنبيه: لا يجوز تخصيص الإجماع بالكتاب والسُّنَّة المتواترة، لاستحالة أن ينعقد الإجماع على خلاف الكتاب والسُّنَّة المتواترة. *** المسألة العاشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم الموافقة: لقد اتفق العلماء على أن مفهوم الموافقة - وهو: دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه وموافقته له - يخصص العموم من الكتاب والسُّنة، وذلك لأن مفهوم الموافقة دليل خاص الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1622 من أدلة الشرع، والعام دليل كذلك، فإذا تعارض الدليلان، فإنا نعمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص؛ جمعا بين الدليلين، وهو أَوْلى من العمل بالعام، وترك الخاص، لأن فيه إهمال لدليل قد ثبت، وقد سبق هذا مراراً. مثاله: لو قال: " كل من دخل داري فاضربه "، ثم قال: " إن دخل زيد فلا تقل له أف "، فإن ذلك يدل على تحريم ضرب زيد وإخراجه من العموم. *** المسألة الحادية عشرة: في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بمفهوم المخالفة: لقد اختلف العلماء في مفهوم المخالفة - وهو: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف لما دلَّ عليه المنطوق - هل يُخصص العام من الكتاب والسُّنَّة أو لا؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم المخالفة يخصص العام من الكتاب والسُّنَّة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لما ذكرناه من الدليل على جؤاز تخصيص العام بمفهوم الموافقة، وقد سبق. المذهب الثاني: أن مفهوم المخالفة لا يخصص العام من الكتاب والستُنَّة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن العام منطوق به، والمنطوق أقوى من المفهوم؛ نظراً لافتقار الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1623 المفهوم فى دلالته إلى المنطوق، وعدم افتقار المنطوق فى دلالته إلى المفهوم. فيكون المفهوم أضعف، فلو خص العام به للزم من ذلك العمل بالأضعف وترك الأقوى، وهو خلاف المعقول. جوابه: نسلم لكم أن المفهوم أضعف من المنطوق، لكن الذي جعلنا نعمل بالمفهوم الخاص هو أنه لا يلزم منه إبطال العمل بالعام مطلقا؛ حيث إنا نعمل به وما بقي بعد التخصيص، أما العمل بالعموم فإنه يلزم منه إبطال العمل بالمفهوم الخاص، ولا يخفى أن الجمع بين الدليلين ولو من وجه أَوْلى من العمل بظاهر أحدهما، وإبطال الآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي. فإنه بناء على المذهب الأول، فإن مفهوم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "فى سائمة الغنم زكاة " يخصص عموم قوله غيهيم: "فى أربعين شاة شاة "، فتكون الزكاة واجبة فى الغنم السائمة فقط، أما المعلوفة فتخرج عن الوجوب، والذى أخرجها المفهوم. أما بناء على المذهب الثانى، فإن هذا المفهوم لا يخصص ذلك العموم. **** المسألة الثانية عشرة في تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1624 المذهب الأول: أن القياس يخصص عموم الكتاب والسُّنَّة مطلقاً. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن القياس دليل شرعي خاص، والعام دليل شرعي، ولا يمكن أن نقدم العام على الخاص؛ لأنه يلزم منه إلغاء الخاص بالكلية، أما تقديم الخاص عليه، فلا يوجب ذلك، فكان تقديم الخاص - وهو القياس - أَوْلى. وقد سبق بيان ذلك كثيراً. الدليل الثاني: أن صيغة العموم قد ضعفت بسبب كثرة تعرضها للتخصيص، وكثرة احتمالات دخول المخصصات عليها حتى قيل: "ما من عام إلا وقد خص منه البعض " فى حين أن القياس لا يحتمل ذلك، والمحتمل أضعف من غير المحتمل، فيكون القياس أقوى من العام، والقوي يخصص الضعيف. المذهب الثاني: أن القياس لا يخصص عموم الكتاب والسُّنَّة مطلقاً. وهو مذهب بعض المعتزلة كالجبائي، وبعض الفقهاء، ووجه عند الإمام أحمد، واختاره بعض الحنابلة كأبي إسحاق بن شاقلا. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: حديث معاذ - رضي اللَّه عنه - حيث رتب الأدلة فكان الكتاب أولاً، ثم السُّنَّة، ثم الاجتهاد - ومنه القياس - فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -، فالقياس يعمل به بشرط: عدم وجود كتاب ولا سُنّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1625 فلا يمكن على هذا تقديم القياس على عموم النص من الكتاب والسئُنَة. فالفول بتخصحص عموم الكتاب والسُّنَّة بالقياس تقديم للقياس على الكتاب والسُّنَّة، وأنه خلاف النص فكان باطلاً. جوابه: أن كلامكم هذا يقتضي: أن لا يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنَة المتواترة؛ لأن الكتاب متقدم عليها، وهذا باطل؛ حيث قلنا هناك: إنه يجوز تخصيص الكتاب بالسُّنَّة المتواترة، فإذا جاز تخصيص الكتاب بالسُّنة المتواترة مع تأخرها في الرتبة عنه، فإنه يجوز تخصيص النص بالقياس مع تأخره عنه في الرتبة. الدليل الثاني: أن النص العام أصل - حيث إنه ثبت بكتاب أو سُنَّة - والقياس فرع لذلك النص العام؛ حيث إنه يلحق به، والفرع لا يمكن أن يسقط أصله، أي: لو خصصنا النص العام بالقياس للزم من ذلك تقديم الفرع على الأصل، ولزم إسقاط الفرع للأصل، وهذا لا يجوز. جوابه: إنا لم نترك الأصل بفرعه، وإنما القياس هو فرع لنص آخر، وليس فرعا للنص المخصوص، والنص تارة يخصص بنص آخر، وتارة يخصص بمعقول نص آخر، ولا معنى للقياس إلا معقول النص. فمثلاً: لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: " لا تبيعوا البر بالبر " قسنا عليه الأرز، وقلنا بأنه لا يجوز الربا فيه، قياسا على البر، خصصنا بهذا القياس عموم قوله تعالى: (وأحل اللَّه البيع) ، فهنا لم يخصص الأصل بفرعه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1626 الدليل الثالث: أن النصوص العامة تفيد ظن الحكم فائدة أقوى وأكثر من إفادة القياس لظن الحكم، فلا يجوز تقديم الأضعف والأقل فائدة - وهو القياس - على الأقوى والأكئر فائدة - وهو العموم -. جوابه: لا نسلم ذلك على الإطلاق، بل قد تكون الظنون المستفادة من القياس أقوى، وقد تكون الظنون المستفادة من العموم أقوى في نفس المجتهد، إذن: لا يبعد أن يوجد قياس قوي أغلب على الظن من عموم ضعيف. المذهب الثالث: الفرق بين القياس الجلي، والقياس الخفي، بيانه: إن كان القياس جلياً، فإنه يخصص العموم. وإن كان القياس خفيا، فإنه لا يخصص العموم. وهو مذهب ابن سريج، والإصطخري من الشافعية، وبعض المتكلمين. ثم اختلف هؤلاء في تفسير الجلي والخفي على أقوال: فقيل: إن الجلي هو قياس العِلَّة - وهو إثبات الحكم في الفرع بعفَة الأصل - ولا يوجد له إلا أصل واحد، والقياس الخفي هو: قيَاس الشبه وهو: تردد الفرع بين أصلين، ويكون شبهه بأحدهما أكثر فنلحق الفرع بأكثرهما شبها. وقيل: إن الجلي هو: ما يظهر فيه المعنى الجامع بين الأصل والفرع، والقياس الخفي هو: ما كانت فيه العِلَّة مستنبطة من حكم الأصل، وقيل غير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1627 دليل هذا المذهب: أن القياس الجلي أقوى من عموم الكتاب والسُّنَّة، فيقوى على تخصيصه. أما القياس الخفي فهو أضعف من العموم فلا يقوى على تخصيصه. وعلى المجتهد اتباع الأقوى من الدليلين. جوابه: أنه لا فرق بينهما؛ حيث إن القياس الخفي دليل، فكان حكمه حكم القياس الجلي ولا فرق؛ حيث إنه من جنسه في تخصيص العموم؛ قياسا على خبر الواحد: لما كان دليلاً كان حكمه حكم الجلي، وهو: خبر المتواتر في التخصيص. المذهب الرابع: أن العام المخصوص يخصص بالقياس، أما غيره فلا، وهو مذهب عيسى بن أبان، وهو اختيار أكثر الحنفية. دليل هذا المذهب: أنا ما دخله التخصيص من اللفظ العام يصير مجازاً، فيكون بذلك ضعيفا فيقوى القياس على تخصيصه. أما العام الذي لم يدخله التخصيص فهو باق على حقيقته في الاستغراق - حيث تكون دلالته قطعية - فلا يقوى القياس على تخصيصه؛ لأن القياس ظني فهو أضعف من القطعي. جوابه: أن هذا مبني على قاعدتكم، وهي: أن دلالة العام قطعية، ونحن نخالفكم فيها، فإن دلالة العام عندنا ظنية - كما سبق بيان ذلك - وإذا كانت كذلك، فإن القياس يقوى على تخصيص العام؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1628 لتساويهما في الدلالة، ولا فرق عندنا بين العام المخصوص، وبين غيره في ذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه قد تأثر بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية، ومنها: أن قوله تعالى: (ومن دخله كان آمنا) قد أجراه أصحاب المذهب الثاني والثالث والرابع على عمومه، حيث إنهم قالوا: إن من وجب عليه حد في النفس، ثم لجأ إلى الحرم لا يقتص منه داخل الحرم، ولكنه يلجأ إلى الخروج بعد إطعامه، وسقياه، ومعاملته، وكلامه حتى إذا خرج اقتص منه. وهذا مذهب الحنفية. أما أصحاب المذهب الأول فإنهم قالوا: إنه يُقتص منه، وخصَّصوا ذلك من عموم الآية السابقة بالقياس؛ حيث قاسوه على من جنى في داخل الحرم، فإن قتله جائز أخذاً من قوله تعالى: (وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) ، وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الصحيح. المسألة الثالثة عشرة: تعارض الخاص مع العام: إذا كان الخاص يثبت حكماً في بعض أفراد العام، وهذا الحكم يخالف حكم العام كقول السيد: " أكرم الطلاب "، و " لا تكرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1629 زيداً "، فما الحكم هنا؛ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن النص الخاص يخصص اللفظ العام مطلقا. أي: سواء علمنا تاريخ نزول كل واحد منهما، أو لم نعلم، وسواء تقدم العام على الخاص أو تأخر، أو جهل التاريخ فلا نعلم أيهما المتقدم والمتأخر؛ أو كانا متقارنين في النزول، أو غير ذلك. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق، لدليلين: الدليل الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا إذا تعارض العام مع الخاص، فإنهم يقدمون الخاص مطلقا ولا ينظرون إلى كون أحدهما متقدماً أو متأخراً ولا إلى غير ذلك، ومن أمثلة ذلك: قوله تعالى: (يوصيكم اللَّه في أولادكم) ، فهذا النص عام يدل على أن جميع الأولاد يرثون من اَبائهم فخصصوه أولاً بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " لا يرث الكافر من المسلم، ولا المسلم من الكافر "، فخرج الولد الكافر، فإنه لا يرث من أبيه المسلم، وخصصوه ثانياً بما روي عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " لا يرث القاتل "، وخصصوه ثالثا بما رواه أبو بكر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " نحن الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة "، فخرج أولاد الأنبياء. وكذلك قوله تعالى: (وأحل لكم ما وراء ذلكم) ، فهو عام يدل على جواز الزواج - بغير المذكورات في الآية -: فيجوز - على ذلك - الزواج بعمة الزوجة، وبخالتها، وبابنة أختها وابنة أخيها، ولكن الصحابة قد خصصوا هذه الآية بما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1630 "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها "، فأخرج هذا الحديث أربع نساء -: خالة الزوجة، وعمتها، وابنة أختها، وابنة أخيها، ونحو ذلك، مما لا يحصى عنهم ولم ينقل إلينا أنهم بحثوا هل العام نزل قبل الخاص، أو الخاص قبله، فدل على أن الخاص يخصص العام مطلقا، سواء تقدم على العام، أو تأخر عنه، أو جهل التاريخ. الدليل الثاني: أن تخصيص العام بالخاص فيه عمل بكل واحد من الدليلين معاً، وذلك لأن الخاص يعمل فيه فيما دلَّ عليه من الأفراد، والعام يعمل به فيما بقي بعد التخصيص، وفي هذا جمع بين الدليلين - وهما العام والخاص -. وهو أَوْلى من أن يقال: إن المتأخر ينسخ المتقدم إن علم تاريخ نزولهما؛ لأنه يلزم منه إهمال وإبطال دليل قد ثبت. وهو أَوْلى من التوقف إن جهل التاريخ؛ لأنه يلزم منه: ترك دليلين قد ثبتا. فكان القول بأن الخاص يُخصِّص العام مطلقا هو الراجح؛ لئلا يلزم ترك وإبطال الدليلين أو أحدهما. المذهب الثاني: الفرق بين أن يعلم تاريخ نزولهما، أو أن يجهل، أو يكون الخاص والعام مقترنين بيانه: إن علمنا أن الخاص نزل وورد بعد العام، فإن الخاص ينسخ العام فنعمل بما دلَّ عليه الخاص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1631 وإن علمنا أن العام والخاص نزلا معاً، فإن الخاص يخصص العام كما سبق. وإن علمنا أن العام نزل وورد بعد الخاص، فإن العام يكون ناسخاً للخاص، ويثبت الحكم لجميع الأفراد. وإن لم نعلم التاريخ، حيث لم نعلم تقدم أحدهما، ولا كون أحدهما مقارناً للآخر، فإنا نتوقف عن العمل بكل واحد منهما حتى تأتي قرينة تدل على المراد. وهو مذهب جمهور الحنفية، وإمام الحرمين، والقاضي عبد الجبار. دليل هذا المذهب: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قال: " كنا نأخذ الأحدث بالأحدث من أعمال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ". وجه الدلالة: أن هذا ظاهر أن المتأخر أوْلى بالعمل من المتقدم عند العلم أن أحدهما متأخر عن الآخر، ولم يفرق هذا الأثر بين أن يكون المتقدم الخاص، أو المتقدم العام، فيكون المتأخر منهما هو المعمول به، فيكون المتأخر ناسخا للمتقدم. أما إذا علمنا مقارنة الخاص للعام، فلم يوجد مقتضى النسخ - وهو العلم بالتأخر - فيكون الخاص مخصصا للعام على ما سبق. أما إذا جهلنا التاريخ فلم نعلم المتقدم منهما فإنا نتوقف؛ لأن كلاً من العام والخاص دلالته قطعية: فهما متساويان، فإذا عملنا بأحدهما دون الآخر نكون قد رجحنا واحداً منهما بدون مرجح، والترجيح بدون مرجح لا يجوز، فيلزمنا التوقف حتى يأتى دليل يرجح أحدهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1632 جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن هذا الأثر هو قول صحابي واحد، فيكون ضعيف الدلالة. الجواب الثاني: على فرض صحته فإنا نحمله على ما إذا كان الأحدث خاصاً، فيخصص العام؛ جمعا بين الدليلين. الجواب الثالث: أنا لا نُسَلِّمُ تساوي الدليلين - العام والخاص - عند جهل التاريخ، بل هذا الزعم مبني على قاعدتكم وهي -: أن دلالة العام قطعية، وهذا لا نسلمه لكم، بل إن دلالة العام ظنية، وإذا كانت ظنية، فإن الخاص يكون أقوى من العام؛ لأن دلالة الخاص قطعية، وحينئذٍ يقوى الخاص على تخصيص العام. الجواب الرابع: أن العام والخاص إذا تعارضا فإن الخاص أرجح - وإن جهل التاريخ -؛ لأن العمل به فيه إعمال للدليلين معاً؛ حيث إنه يعمل بالخاص، وما بقي بعد التخصيص من العام، أما إذا تركنا العمل. به، ففيه ترك لأحدهما، والإعمال خير من الإهمال والترك. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إن أصحاب المذهب الأول قصدوا: أن الخاص يخصص العام بدون البحث عن تأخر أحدهما أو تقدمه أو نحو ذلك، أما أصحاب المذهب الثاني فقد قصدوا: أنه إذا ورد خاص وعام، فإنهم يبحثون هل العام نزل قبل الخاص، أو العكس، أو جهل ذلك، أو كانا مقترنين وكل قسم له حكم قد سبق بيانه، وقد انبنى على ذلك بعض الفروع الفقهية، ومنها؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1633 أن قوله تعالى: (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس) ، وقوله: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى) إلى آخر آيات القصاص: فإنها تفيد العموم، سواء كان القاتل أو المقتول مسلماً أو كافراً، وعلى هذا فإنه يجب القصاص على المسلم إذا قتل كافراً مطلقاً، وهو من أفراد العموم. إلا أن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قد خصَّصوا هذا العموم وقالوا: إنه لا يقتل المسلم بالكافر الذمي، والمخصص لذلك أحاديث منها: " ... ألا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده "، وكذلك ما جاء فيما رواه أبو جحيفة قال: قلت لعليٍّ: هل عندكم شيء من الوحي ما ليس في القرآن؛ قال: لا، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهماً يعطيه اللَّه رجلاً في القرآن، وما في هذه الصحيفة، قلت: وما في هذه الصحيفة؛ قال: العقل، وفكاك الأسير، وأن لا يقتل مسلم بكافر ". أما أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية - فلم يخصصوا تلك الآيات بتلك الأحاب يث الخاصة، وذهبوا إلى أن المسلم يقتل إذا قتل ذمياً؛ وأوَّلوا الحديث بأن المراد: لا يقتل مسلم بكافر حربي - فقط - وللجمهور وللحنفية استدلالات أخرى يمكن أن تراجع في كتب الفروع. *** المسألة الرابعة عشرة: قول الصحابي وفعله ومذهبه هل يخصِّص العموم؟ لقد اختلف فى ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن قول الصحابي ومذهبه لا يُخصص العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1634 وهو مذهب أكثر الشافعية، والمالكية، وكثير من العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن العام دليل ظاهر فيما اقتضاه من التعميم، ولم يوجد له ما يصلح أن يكون معارضا له سوى فعل الصحابي وقوله، وهو غير صالح لمعارضته؛ حيث إن فعله غير مستند إلى نص يدل على أن المراد بذلك العام الخاص، بل يكون مستنداً إلى ما يظنه دليلاً أقوى منه، فيحتمل أن يكون دليلاً، ويحتمل أن لا يكون دليلاً، وبتقدير أن يكون دليلاً يحتمل أن يكون أقوى منه، ويحتمل أن لا يكون، وهذه الاحتمالات متساوية، ولا مرجح؛ أما العام فهو دليل لا يحتمل شيئاً، فيقدم غير المحتمل على المحتمل، وعليه: فلا يقوى قول الصحابي ومذهبه على تخصيص العام. الدليل الثانى: أن الواقع من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يشهد بأن قول الصحابي لا يخصص العموم؛ حيث إنه كان الواحد منهم إذا سمع العموم من الكتاب والسُّنَّة، فإنه يترك قوله ومذهبه من أجل هذا العموم، وما نقل عن أحد منهم أنه خص عموما بقول نفسه، فهذا يدل على أن قوله أضعف من عموم كلام الشارع. فانظر مثلاً إلى ابن عمر، حيث ترك مذهبه لحديث رافع بن خديج في المخابرة، فروي أن ابن عصر قال: كنا نخابر أربعين سنة لا نرى بذلك بأساً حتى أخبرنا رافع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فإذا كان ابن عمر قد ترك قوله ومذهبه، وهو من فقهاء الصحابة فغيره أوْلى بالترك. المذهب الثاني: أن قول الصحابي ومذهبه يخصص به العموم. وهو مذهب الحنفية والحنابلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1635 دليل هذا المذهب: أن قول الصحابي حُجَّة يقدم على القياس، وتخصيص العموم بالقياس جائز - كما سبق - فقول الصحابي المقدم عليه أَوْلى أن يخصص به. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا قلنا في الباب الثالث - في دليل قول الصحابي -: إن قول الصحابي حُجَّة إذا لم يعارض نصا من كتاب أو سُنَّة، أما إذا عارض ذلك فلا يحتج به. الجواب الثاني: أن قياسكم قول الصحابي على القياس، قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن الاحتمالات تتطرق في قول الصحابي ومذهبه أكثر من تطرق الاحتمالات في القياس كما سبق بيانه في دليلنا الأول من المذهب الأول، وكما سبق في دليلنا الثاني من المذهب الأول من مسألة تخصيص الكتاب والسُّنَّة بالقياس. الوجه الثاني: أن القياس ثبت اعتماداً على أصل ثابت بكتاب أو سُنَة، فجاز التخصيص به لمعرفتنا للدليل الذي اعتمد عليه، أما قول الصحابي ومذهبه المخصص للعموم فلا نعرف مستنده لذلك رددناه، ونعمل بما ثبت وعلمناه، وهو العموم. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث أثر هذا الخلاف في بعض الفروع، ومنها: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قد روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1636 قال: " من بدل دينه فاقتلوه "، فهذا عام في الرجال والنساء، لكن روي عنه - أي: عن ابن عباس - أن مذهبه: أن المرأة إذا ارتدت لا تقتل، فهل يخصص عموم الحديث بمذهبه أو لا؛ على المذهبْ الأول: لا يخصص عموم الحديث بقول ومذهب ابن عباس وعليه: تقتل المرأة إذا ارتدت. وعلى المذهب الثاني: يخصص ذلك العموم بقول ابن عباس، وعلى ذلك: لا تقتل المرأة إذا ارتدت. وقد تكلمت عن مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف مخالفة كلية، أو مخالفة لبعضه من حيث تخصيصه في كتابي: "مخالفة الصحابي للحديث النبوي الشريف - دراسة نظرية تطبيقية - ورجحت فيه: أنه لا يلتفت إلى قول ومذهب الصحابي، بل يعمل بعموم قول الشارع من الكتاب أو السُّنَّة، وذكرت أدلة كثيرة على ذلك، وناقشت أدلة المخالفين، مع بيان نوع الخلاف هناك وتكثير الأمثلة، فراجعه إن شئت فهو مطبوع في مجلد ومنتشر في المكتبات العامة والخاصة. *** المسألة الخامسة عشرُة: العرف والعادة هل يُخصَّص بها العموم؟ للكلام عن هذه المسألة لا بد التفصيل الآتي: أولاً: إن كان الرسول - صلى الله عليه وسلم - أوجب أو حرم أشياء بلفظ عام، ثم رأينا العرف والعادة جارية بترك بعضها، أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك العادة في تخصيص ذلك العام حتى يقال: المراد من ذلك العام ما عدا ذلك البعض الذي جرت العادة بتركه، أو بفعله أم لا تؤثر في ذلك، بل هو باق على عمومه متناول لذلك الفعل ولغيره؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1637 الجواب فيه تفصيل: 1 - إن علم أن العادة كانت حاصلة في عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مع علمه بها، وعدم منعهم عنها: كانت مخصصة، لكن المخصص في الحقيقة ليس العرف ولا العادة بل تقرير الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2 - وإن علم أنها ما كانت حاصلة في عصره، أو ما علم بها، أو كان يمنعهم من ذلك، أو لم يثبت شيء من ذلك: فإنه لا يجوز التخصيص بها؛ لأن أفعال الناس ليست بحُجَّة على الشرع. 3 - إذا فرضت العادة بحيث تكون مجمعاً عليها بأن يستمر عليها كل واحد من العلماء وغيرهم: كانت مخصصة، لكن المخصص في الحقيقة هو الإجماع، وليست العادة والعرف. ثانيا: إذا كانت العادة جارية بفعل معين كأكل طعام معين مثلاً، ثم إنه سمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه نهاهم عنه بلفظ تناوله وغيره مثل قوله: " نهيتكم عن أكل الطعام "، فهل يكون النهي مقتصراً على أكل ذلك الطعام فقط، أم يجري على عمومه، ولا تؤثر عادتهم في ذلك؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن العرف والعادة لا يخصص بها العموم. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن أفعال الناس وعاداتهم وأعرافهم لا تكون حُجَّة على الشرع، واللفظ عام، ولم يوجد له معارض، والعادات لا تصلح أن تكون معارضة؛ لما قدمنا، فوجب العمل بعموم اللفظ. المذهب الثاني: أن العرف والعادة يخصص بها العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1638 وهو مذهب الحنفية. دليل هذا المذهب: أن العرف يُعتبر من أدلة الشريعة، فإذا دلَّ هذا الدليل على شيء خاص، وعارض عموم آية أو حديث، فإنا نعمل بالخاص وما بقي بعد التخصيص من العام؛ جمعاً بين الدليلين، وهو أوْلى من العمل بالعام وترك الخاص - الذي هو العرف -؛ لأنه يلزم منه: العمل بأحد الدليلين وترك الآخر. جوابه: نحن معكم أن العرف دليل من أدلة الأحكام، لكن بشرط أن لا يعارض نصاً من النصوص الشريعة، فإن عارضه: فلا يكون دليلاً، ولا يؤخذ به. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: ما ذكرناه: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لو قال: " نهيتكم عن أكل الطعام " وكانت العادة جارية بأكل طعام معين كالأرز - مثلاً - فإنه على المذهب الأول: فإن النهي يكون على جميع الأطعمة، ولا تؤثر على هذا العموم عادتهم. أما على المذهب الثاني، فإن النهي يكون مقتصراً على أكل ذلك الطعام وهو الأرز فقط؛ لأن العادة مخصصة للعموم. *** المسألة السادسة عشرة: هل يجوز تخصيص العام بذكر بعضه؛ مثال ذلك: قوله عليه السلام: " أي إهاب دبغ فقد طهر "، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1639 فإنه عام في كل جلد غير مدبوغ؛ حيث إن الإهاب اسم لذلك، وقال عليه السلام في شأن ميمونة: " دباغها طهورها "، فهل ذكر هذا يعتبر تخصيصا لذلك العام؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز تخصيص العام بذكر بعضه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن المخصص يجب أن يكون منافياً للعام، وذكر بعض العام بحكم العام غير مناف له، فحكمهما واحد فامتنع التخصيص؛ لعدم وجود ما يقتضيه. المذهب الثاني: أنه يجوز تخصيص العام بذلك الفرد المذكور. وهو مذهب قد نسب إلى أبي ثور - رحمه اللَّه - فيكون المراد من الإهاب جلد الشاة. دليل هذا المذهب: أن المفهوم مخصِّص كما سبق، وتخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه بطريق مفهوم المخالفة، وعلى ذلك: يكون تخصيص جلد الشاة بالذكر يدل على نفي ذلك الحكم عما عداه، وإذا ورد عام متناول لكل الجلود، فإنه يقع التعارض بينه وبين مفهوم ذلك الخاص، ويقع التنافي بينهما، إذن يكون المقتضي للتخصيص موجود، فيكون ذكر بعض العام مخصصا للعام، ويحصر على هذا البعض المذكور فقط. جوابه: إن مفهوم المخالفة الذي قلنا بأنه مخصص هو: الذي اعتبر دليلاً من أدلة الشرع، وهو: مفهوم الصفة ومفهوم الشرط والعدد وغيرها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1640 من أنواع المفاهيم إلا مفهوم اللقب فليس بدليل، - لذلك لا يخصص العام، وهذا الذي ذكرتموه هو من قبيل مفهوم اللقب، حيث إن ذكر جلد الشاة إنما يدل على عدم ما عداه بطريق مفهوم اللقب، فلا يرد ذلك علينا. ولو سلم أن مفهوم اللقب حُجَّة، لكنه في غاية الضعف، فلا يصلح أن يكون مقاوماً للعموم، فالتمسك بالعموم أوْلى. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع، ومنها ما سبق؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور - قد أخذوا بعموم قوله عليه السلام: " أيما إهاب دبغ فقد طهر "، ولم يخصصوه بما روي أنه - صلى الله عليه وسلم - مر على شاة ميمونة فوجدها ميتة، فقال: " هلا أخذوا جلدها فانتفعوا به دباغها طهورها "، وقالوا: إن كل جلد ميتة يطهر بالدباغ من غير فرق بين مأكول اللحم وغيره، وقالوا ذلك بناء على قاعدتهم. أما أصحاب المذهب الثاني - وهو: أبو ثور ومن تبعه - فإنهم قد خصصوا ذلك العموم بالحديث الخاص وهو حديث شاة ميمونة وقالوا: إن الحديث يحمل على الشاة دون غيرها من مأكول اللحم - كالبقر والإبل، قالوا ذلك بناء على قاعدتهم. *** المسألة السابعة عشرة: العام إذا قصد به المدح أو الذم هل يخصص ذلك العام؟ مثال ذلك: قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1641 ، فهل قصد الذم يخرج هذا اللفظ عن عمومه أو لا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: إن قصد الذم والمدح من اللفظ العام لا يخصص العام، وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق؛ لأن قصد المدح والذم وإن كان مطلوباً ومقصوداً للمتكلم، فلا يمنع ذلك من قصد العموم معه؛ لأنه لا منافاة بين قصد المدح والذم وبين العموم، وقد أتى بالصيغة الدالة على العموم، وقصد المدح والذم ليس من مخصصاتها فتبقى على ما هي عليه مفيدة للعموم. المذهب الثاني: أن قصد الذم والمدح من اللفظ العام، يخصص العام، وهو محكي عن الإمام الشافعي. دليل هذا المذهب: أن اللفظ لم يقصد به العموم، وإنما قصد به المدح - فقط - مبالغة في الحث على الامتثال، أو قصد به الذم مبالغة في الزجر عنه، وما دام أنه لم يقصد باللفظ العموم فلا يكون عاما. جوابه: أنا لا نعلم مقصد الشارع، فقد يكون قد قصد الأمرين معا، فالاحتياط هو: الجمع بين المقصودين معا، وهو أوْلى من العمل بأحدهما وتعطيل الآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ خيث أثر ذلك في بعض الاستدلالات من النصوص، فبناء على المذهب الأول - وهو مذهب الجمهور -. فإن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1642 يصلح للاستدلال به على وجوب زكاة الحلي لكون العموم مقصوداً والذم لم يخرج اللفظ عن العموم. وبناء على المذهب الثاني: فإن تلك الآية لا تصلح للاستدلال بها على وجوب زكاة الحلي، لكون العموم غير مقصود، بل المقصود في ذلك هو والذم، وهو قد أخرج اللفظ عن عمومه. *** المسألة الثامنة عشرة: عطف الخاص على العام هل يخصص العام؟ مثاله: قوله عليه السلام: " لا يقتل مسلم بكافر، ولا ذو عهدٍ بعهده ". فهل يعمل على أن لفظ " كافر " عام وشامل لجميع الكفار: الذمي، والمستأمن، والحربي، فإذا قتل مسلم أحد هؤلاء الثلاثة، فإنه لا يقتل به قصاصا، أو أن قوله: " ولا ذو عهد في عهده " معطوف عليه، وهو خاص بالمعاهد وهو: الذمي والمستأمن، فيخصص ذلك عموم لفظ " كافر "، فيكون المقصود: لا يقتل مسلم بكافر حربي فقط. لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن عطف الخاص على العام لا يخصص العموم. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن المقتضي للتعميم قائم، وهو اللفظ العام - وهو بالمثال: النكرة في سياق النفي - والمعارض الموجود، وهو عطف الخاص عليه لا يصلح أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1643 معارضا له؛ لأن مقتضى العطف هو الاشتراك بين المعطوف والمعطوف عليه في أصل الحكم الذي عطف عليه، لا الاشتراك فيه من جميع الوجوه، وإذا كان كذلك لم يكن عطف الخاص منافيا لتعميم المعطوف عليه، فلم يصلح معارضا له، وإذا وجد المقتضي للتعميم ولم يوجد المعارض له وجب القول بالتعميم. المذهب الثاني: أن عطف الخاص على العام يخصص العموم. وهو مذهب الحنفية. دليل هذا المذهب: أن حرف العطف يجعل المعطوف والمعطوف عليه كالشىء الواحد، وذلك يقتضي التسوية بينهما في الحكم وتفاصيله. جوابه: نسلِّم أن حرف العطف يقتضي ذلك، لكن في الحكم العام، لا في تفاصيل الحكم. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث ترتب على هذا الخلاف أثر في بعض الفروع. ومنها ما سبق: فعلى المذهب الأول: أن المسلم لا يقتل بالكافر العام، أي: جميع الكافرين، سواء كانوا ذميين أو حربيين، وذلك لأن لفظ " كافر " نكرة في سياق نفي فاقتضت العموم، وقوله: "ولا ذو عهد في عهده " معطوف على لفظ " لا يقتل "، فيكون التقدير، وأيضا لا يقتل ذو عهد، وهو ما يزال في عهده. وعلى المذهب الثاني: فإن المسلم يقتل بالذمي والمستأمن، أما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1644 الكافر الحربي فلا يقتل به؛ لأن قوله: " ولا ذو عهد في عهده " خاص، وقد عطف على عام فيخصصه، فيكون التقدير: لا يقتل مسلم بكافر، ولا يقتل ذو عهد في عهده بكافر حربي. وبما أن المعطوف يشارك المعطوف عليه في كل المتعلقات: يكون قوله: " لا يقتل مسلم بكافر " مشاركا للمعطوف وهو: " ولا ذو عهد في عهده بكافر حربي "، وما دام أن المعطوف عليه قد قصد به الخاص وهو الحربي، فكذلك المعطوف يكون المقصود به الحربي؛ حيث خصصناه به، فلا يقتل مسلم بكافر حربي، أما الذمي والمستأمن إذا قتلهما المسلم فإنه يُقتل بهما. ولا بد من قول ذلك حتى يكون لعبارة: " ولا ذو عهد في عهده " فائدة؛ حيث إن هذه العبارة ليس كلاما مستقلاً قصد به النهي عن قتل المعاهد ما دام في عهده؛ لأن هذا معلوم بقوله تعالى: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره) ، فتكون هذه العبارة قد قصد بها بيان حكم القصاص عند قتل المستأمن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1645 المطلب الرابع في المخصصات المتصلة وهي أنواع: النوع الأول: الشرط. النوع الثاني: الصفة. النوع الثالث: الغاية. النوع الرابع: الاستثناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1647 النوع الأول من المخصصات المتصلة الشرط وفيه مسائل: المسألة الأولى: تعريفه. المسألة الثانية: أقسامه. المسألة الثالثة: صيغه. المسألة الرابعة: أحكام التخصيص بالشرط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1649 المسألة الأولى: تعريفه: أولاً: الشرط لغة هو: العلامة - وهذا إذا كان بفتح الراء. ولكن المراد به هنا: الشرط بتسكين الراء، وهو: الإلزام. ثانيا: الشرط في الاصطلاح هو: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود، ولا عدم لذاته. وقد سبق بيان ذلك في أقسام الحكم الوضعي في الباب الثاني. *** المسألة الثانية: أقسام الشرط: ينقسم الشرط باعتبار وصفه إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الشرط العقلي، وهو: ما لا يوجد المشروط، ولا يمكن عقلاً بدونه مثل: اشتراط الحياة للعلم؛ حيث إن العقل يحكم بأنه لا علم بلا حياة. القسم الثاني: الشرط العادي، وهو ما يكون شرطاً عادة مثل: نصب السلم لصعود السطح، فإن العادة تقتضي: أنه لا يمكن لأي إنسان أن يصعد السطح إلا بوجود سلم يصعد عليه. القسم الثالث: الشرط الشرعي، وهو ما جعله الشارع شرطا لبعض الأحكام كاشتراط الطهارة لصحة الصلاة. القسم الرابع: الشرط اللغوي، وهو: ما يذكر بصيغة التعليق وهي: " إن "، أو إحدى أخواتها كقولك لزوجتك: " إن دخلت الدار فأنتِ طالق "، فإن الطلاق - هنا - يقع عند دخولها.. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1651 ومثل قولك: " إن جئتني أكرمتك "، فإنه علق الإكرام بالمجيء، فهنا قد خصص الإكرام بالمجيء فقط، فلا فرق بين ذلك وبين أيِّ مخصص، فلا فرق بين تلك العبارة وبين قولك: " لن أقوم بإكرامك إلا إذا جئتني "، وهذا استثناء، وقولك: " لن أكرمك حتى تأتيني "، وهذه غاية، وكقولك فى الصفة: " من أتاك فأكر مه ". وهناك تقسيمات أخرى للشروط قد ذكرتها في الحكم الوضعي في الباب الثاني. *** المسألة الثالثة: صيغ الشرط اللغوي: لما كان الشرط اللغوي هو المهم في هذا الباب، وهو التخصيص كان لا بد من بيان - باختصار - صيغ الشرط، وأصل الباب، فأقول: صيغ الشرط هي: " إن " المخففة، و " إذا "، و " من "، و "ما" و" مهما "، و " حيثما "، و " أينما "، و " إذ ما "، وأم هذه الصيغ: " إن " وقلنا ذلك لأمرين: أولهما: أتها حرف، وما عداها أسماء، والأصل في إفادة المعاني إنما هي الحروف. ثانيهما: أنها تستعمل في جميع صور الشرط، بخلاف أخواتها، فإن كل واحد منها تختص بمعنى لا يجري في غيره كقولهم: " من " لمن يعقل، و " ما " لغير العاقل، و " أينما " للمكان، وهكذا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1652 المسألة الرابعة: أحكام التخصيص بالشرط: الشرط مع المشروط له أحكام خاصة به، وهي: الحكم الأول: أنه يجب اتصاله بالمشروط اتصالا عاديا، بحيث لا يصح الفصل بينهما بالزمن فصلاً تحكم العادة فيه بأن الشرط غير تابع للمشروط. الحكم الثاني: يجوز تقديم الشرط وتأخيره، وإن كان وضعه الطبيعي هو صدر الكلام، والتقدم على المشروط لفظا لكونه متقدما عليه في الوجود طبعا. الحكم الثالث: أن الشرط الواقع بعد الجمل المتعاطفة يرجع إلى جميع الجمل مثل قولك: " أكرم الرجال، وتصدق على المساكين إن دخلوا الدار "، فكأنه قال: أكرم الرجال إن دخلوا الدار، وتصدق على المساكين إن دخلوا الدار. الحكم الرابع: أنه إذا اتحد الشرط والمشروط أو تعددا يختلف الحكم باختلاف آلة التعدد وهي " الواو "، و " أو "، وهذا يتبين في حالات: الحالة الأولى: أن يتحد الشرط والمشروط مثل: " إن دخل الدار فكرمه "، فيتوقف المشروط على هذا الشرط وحده وجوداً وعدماً. الحالة الثانية: أن يتحد الشرط ويتعدد المشروط بالواو كقوله: "إن نجحت تصدقت بدرهم وصمت يوما "، فيقتضي الشرط الجمع بين التصدق والصيام معا. الحالة الثالثة: أن يتحد الشرط ويتعدد المشروط بلفظ " أو " كقولك: " إن نجحت فإني سأتصدق أو أصوم يوما لا، فيقتضي الشرط حصول التصدق وحده، أو الصيام وحده. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1653 الحالة الرابعة: أن يتعدد الشرط بحرف " الواو "، ويتحد المشروط كقولك: " إن نجحت وشفى أبي تصدقت بألف ريال " فهنا لا يمكن أن يوجد المشروط - وهو التصدق بألف ريال - إلا بعد أن يحصل الشرطان معا وهما النجاح والشفاء. الحالة الخامسة: أن يتعدد الشرط بحرف " الواو "، ويتعدد المشروط بحرف " الواو " أيضاً كقولك: " إن نجحت وشفي أبي تصدقت بألف ريال وصمت يوما " فيقتضي هذا: أنه لا يمكن وجود المشروطين وهما التصدق والصيام إلا إذا وجد الشرطان وهما: النجاح والشفاء معاً. الحالة السادسة: أن يتعدد الشرط بحرف الواو، ويتعدد المشروط بحرف " أو " كقولك: " إن نجحت وشفي أبي تصدقت بألف ريال أو صمت يوماً "، فهنا يكون حصول الشرطين وهما: النجاح والشفاء مقتضيا حصول أحد المشروطين على التخيير، فإما التصدق أو الصيام. الحالة. السابعة: أن يتعدد الشرط بحرف " أو "، ويتحد المشروط كقولك: " إن بني زيد الجدار أو نجح فأعطه درهماً "، فهنا لا بد من حصول أحد الشرطين حتى يحصل على الدرهم. الحالة الثامنة: أن يتعدد الشرط بلفظ " أو "، ويتعدد المشروط بحرف " الواو " كقولك: " إن بنى زيد الجدار أو نجح فأعطه كتابا ودرهما "، فهنا لا بد من حصول أحد الشرطين وهما: البناء أو النجاح، فإذا حصل أحدهما فإنه يستحق المشروطين معا وهما: الكتاب والدرهم. الحالة التاسعة: أن يتعدد الشرط بحرف " أو "، ويتعدد المشروط الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1654 بحرف " أو " أيضاً كقولك: " إن بنى زيد الجدار أو نجح فأعطه كتابا أو درهما "، فهنا لا بد من حصول أحد الشرطين - وهما البناء أو النجاح، فإذا حصل أحدهما فإنه يستحق أحد الشروطين وهما: الكتاب، أو الدرهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1655 النوع الثاني من المخصصات المتصلة الصفة ويشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: تعريفها. المسألة الثانية: أحكام التخصيص بالصفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1657 المسألة الأولى: تعريف الصفة: الصفة هي: التابع المشتق الذي يقع نعتا للموصوف مثل: "طالب ناجح "، فلفظ " ناجح " قيد به اللفظ المطلق وهو: "طالب ". وقيل: هو ما أشعر بمعنى يتصف به بعض أفراد العام كقولك: "أكرِم الطلاب الناجحين "، فلفظ " الطلاب " عام يشمل الناجحين والراسبين. ولما وصف الطلاب بالناجحين أخرج الطلاب الراسبين، فيكون الإكرام مقتصراً على الناجحين فقط. *** المسألة الثانية: أحكام التخصيص بالصفة: الحكم الأول: يشترط في الصفة اتصالها بالموصوف، فلا يصح الفصل بينهما في الزمن. الحكم الثاني: أن الصفة إن وقعت بعد جملة كقولك: " أكرم الطلاب الناجحين "، فإن هذا الوصف يقتضي اختصاص الإكرام بالناجحين من الطلاب - فقط -، ولولا ذلك الوصف لعم الإكرام الناجحين وغير الناجحين من الطلاب، فالصفة أخرجت بعض ما كان داخلاً تحت اللفظ لولا الصفة. الحكم الثالث: أن الصفة إن وقعت بعد جمل كقولك: " أكرم العلماء، والتجار، والطلاب الطوال "، فإن الصفة تعود إلى الجمل كلها، أي: أكرم الطوال من العلماء، والطوال من التجار، والطوال من الطلاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1659 وقيل: بل الصفة ترجع إلى أقرب مذكور - وهي الجملة الأخيرة - فيكون المراد: أكرم جميع العلماء والتجار والطوال من الطلاب، والخلاف فيه كالخلاف في الاستثناء هل يرجع إلى الجملة الأخيرة، أو جميع الجمل فيما لو قال: " أكرم العلماء والتجار والطلاب إلا الطوال "، وسيأتي بالتفصيل إن شاء اللَّه. الحكم الرابع: أن الصفة إن وقعت قبل جمل كقولك: " أكرم الطوال من العلماء والتجار "، فإنها ترجع إلى الجميع، فيكون المراد: أكرم الطوال من العلماء والطوال من التجار فقط، وهذا على الصحيح من أقوال العلماء. الحكم الخامس: أن الصفة إن وقعت وسطا بين جملتين مثل: "أكرم العلماء الطوال والتجار "، فإن الصفة ترجع إلى ما قبلها فقط، أما ما بعدها فلا ترجع إليه، والتقدير: اكرم العلماء الطوال، أما التجار فأكرمهم جميعاً طوالهم وقصارهم هذا على القول الراجح. وقال بعضهم: إن الصفة ترجع إلى الجملتين: إلى ما قبلها وإلى ما بعدها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1660 النوع الثالث من المخصصات المتصلة الغاية ويشتمل على مسألتين: المسألة الأولى: تعريفها وألفاظها. المسألة الثانية: أحكام التخصيص بالغاية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1661 المسألة الأولى: تعريفها، وألفاظها: الغاية في اللغة هي: طرف الشيء، ومنتهاه، وأقصاه. والغاية في الاصطلاح هي: أن يؤتى بعد اللفظ العام بحرف من أحرف الغاية مثل " اللام "، و " حتى "، و " إلى ". و" حتى " تكون من ألفاظ الغاية إذا كانت جارة. أما إن كانت عاطفة فإنها لا تكون دالة على الغاية. *** المسألة الثانية: أحكام التخصيص بالغاية: الحكم الأول: أن الغاية إذا ذكرت بعد جملة واحدة فلها صورتان: الصورة الأولى: أن تكون الغاية واحدة كقولنا: " أكرِم العلماء إلى أن يدخلوا الدار "، فإن دخول الدار يقتضي اختصاص الإكرام بما قبل الدخول، وإخراج ما بعد الدخول من عموم اللفظ، ولولا ذلك لعم الإكرام حالة ما بعد الدخول وما قبل الدخول. الصورة الثانية: أن تكون الغاية متعددة، وهذه لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون الغاية متعددة، وكانت على الجمع بحرف " الواو " كقولك: " أكرم العلماء إلى أن يدخلوا الدار ويأكلوا الطعام "، فإن ذلك يقتضي استمرار الإكرام إلى تمام الغايتين معاً، وهما: دخول الدار، وأكل الطعام دون ما بعدهما. الحالة الثانية: أن تكون الغاية متعددة، وكانت على التخيير بحرف " أو " كقولك: " أكرم العلماء إلى أن يدخلوا الدار أو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1663 السوق "، فإن ذلك يقتضي استمرار الإكرام إلى تمام إحدى الغايتين - أيهما كانت - دون ما بعدها. الحكم الثاني: أن الغاية إذا ذكرت بعد جمل متعددة كقولك: "أكرم العلماء والتجار إلى أن يدخلوا الدار "، فإن الغاية ترجع إلى الجملتين معاً، فإكرام العلماء يستمر إلى غاية دخولهم الدار، وإكرام التجار يستمر إلى غاية دخولهم الدار، هذا على الصحيح من أقوال العلماء. وقيل: إن الغاية - هنا - ترجع إلى أقرب مذكور، أى: إلى الجملة الأخيرة، فيكون التقدير على هذا: " أكرم جميع العلماء مطلقاً: دخلوا أو لم يدخلوا، وأكرم التجار إلى أن يدخلوا الدار. وهذا الحكم يكون مطلقا، أي: سواء كانت الغاية واحدة كما مثلنا أو متعددة على الجمع كقولنا: " أكرم العلماء والتجار إلى أن يدخلوا الدار أو السوق "، وسواء كانت الغاية معلومة الوقوع في وقتها كقولنا: " أكرم العلماء إلى أن تطلع الشمس "، أو غير معلومة الوقت كقولنا: " أكرم العلماء إلى أن يدخلوا الدار ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1664 النوع الرابع من المخصصات المتصلة الاستثناء ويشتمل على مسائل: المسألة الأولى: تعريفه. المسألة الثانية: صيغ الاستثناء وأدواته. المسألة الثالثة: الفرق بينه وبين التخصيص بالمنفصل. المسألة الرابعة: الفرق بينه وبين النسخ. المسألة الخامسة: هل يشترط في الاستثناء اتصاله؟ المسألة السادسة: هل يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه؟ المسألة السابعة: الاستثناء من غير الجنس هل يسمى استثناء حقيقة أو مجازاً؟ المسألة الثامنة: حكم استثناء كل المستثنى منه. المسألة التاسعة: هل يجوز استثناء الأكثر؟ المسألة العاشرة: هل يجوز استثناء النصف؟ المسألة الحادية عشرة: الاشتثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو هل يرجع إليها جميعاً، أو إلى الأخيرة فقط؟ المسألة الثانية عشرة: صور الاستثناءات المتعددة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1665 المسألة الأولى: تعريف الاستثناء: أولاً: الاستثناء لغة: مأخوذ من الثني، وهو: العطف من قوله: ثنيت الحبل أثنيه: إذا عطفت بعضه على بعض. وقيل: إن الثني هو: الصرف، يقال: " ثنيته عن الشيء " إذا صرفته عنه. ثانياً: الاستثناء اصطلاحا هو: قول متصل يدل بحرف إلا أو إحدى أخواتها على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول. شرح التعريف، وبيان محترزاته: قوله: " قول " أخرج المخصصات العقلية والحسية. وقوله: " متصل " أخرج بقية المخصصات المنفصلة السابقة الذكر. والمراد: أن يكون الاستثناء متصلاً بالجملة غير منفصل عنها. وقوله: " يدل " أخرج الصيغ والألفاظ المهملة التي لا تدل على شيء. وقوله: " بحرف إلا أو إحدى أخواتها " أخرج أمرين: أولهما: المخصصات المتصلة الأخرى كالتخصيص بالشرط، والصفة، والغاية السابقة الذكر، فإن لهذه المخصصات أدوات وصيغ تختلف عن أدوات الاستثناء. ثانيهما: أخرج مثل قولهم: " أكرم القوم دون زيد " فإن هذا ليس باستثناء لغة. وقوله: " على أن المذكور معه غير مراد بالقول الأول " معناه: أن المذكور بعد أداة الاستثناء مخرج من القول الأول ولا يدخل تحته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1667 مثاله: قوله: " نجح الطلاب إلا زيداً "، فقوله: " إلا زيداً " قول متصل بما قبله من الكلام - وهو: " نجح، الطلاب "، ولكن هذا القول - بما فيه صيغة الاستثناء - دلَّ دلالة واضحة على أن المذكور معه - وهو زيد - غير مراد بالقول الأول، حيث لا يشمله حكم النجاح. *** المسألة الثانية: صيغ الاستثناء وأدواته: أدوات وصيغ الاستثناء إحدى عشرة صيغة وهي: " إلا "، وهي أم الباب، و " غير "، و " سوى "، و " ما عدا "، و " ليس "، و"لا يكون "، و " حاشا "، و " خلا "، و " سيما "، و " ما خلا "، و "عدا". أما صيغة: " إلا " فهي حرف بالاتفاق. وأما صيغة: " حاشا " فهي حرف عند سيبويه، وهو الصحيح، ويقال فيها: " حاشى "، و " حشا ". وأما صيغة: " لا يكون " فهي فعل بالاتفاق. وأما صيغة: " ليس "، و " ما عدا "، و " ما خلا " فهي أفعال على الأصح. وأما صيغة: " خلا "، و " عدا " فهما مترددان بين الفعلية والحرفية بحسب الاستعمال، فإن نصب ما بعدهما كانتا فعلين، وإن جر ما بعدهما كانتا حرفين. وأما صيغة: " لا غير "، و " سوى " فهما اسمان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1668 ويجوز في " سوى " ضم السين، وكسرها، والمد، فيقال: "سواء". وأما صيغة: " لا سيما " فاجتمع فيه حرف واسم. *** المسألة الثالثة: الفرق بين الاستثناء والتخصيص بالمنفصل: الفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن الاستثناء يشترط فيه الاتصال فتقول: " أكرم الطلاب إلا زيداً "، ولا يجوز أن تقول: " أكرم الطلاب "، ثم بعد مدة تقول: " إلا زيداً "، وسيأتي لذلك زيادة بيان إن شاء اللَّه. أما التخصيص بالمنفصل فلا يشترط فيه ذلك؟! إذ يجوز أن يأتي متصلاً، ويأتي متراخيا ولا مانع من ذلك، وقد سبق بيان ذلك. الوجه الثاني: أن الاستثناء يتطرق إلى ما يدل على معناه دلالة ظاهرة، وإلى ما نص على معناه فتقول: " أكرم الطلاب إلا زيداً " وتقول: " له علي عشرة دراهم إلا ثلاثة ". أما التخصيص بالمنفصل، فإنه لا يجوز في النص، وإنما يصح في الظاهر - وهو العام فقط - فيجوز أن يقال: " أكرم الطلاب،، ثم يقول: " لا تكرم زيداً "؛ لأن دخول زيد في عموم الطلاب ظني؛ حيث قلنا: إن دلالة العام ظنية، ولكن لا يقال: " أكرم زيداً وعمراً وبكراً "، ثم بعد ذلك يقول: " لا تكرم زيداً "، فإن قال ذلك فإنه يكون نسخاً، لا تخصيصا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1669 المسألة الرابعة: الفرق بين الاستثناء والنسخ: الفرق بينهما من أوجه: الوجه الأول: أن الاستثناء يشترط فيه اتصاله بالمستثنى منه؛ لأنه لايستقل بنفسه. أما النسخ فيشترط فيه: أن يكون الناسخ متراخيا عن المنسوخ؛ حيث قلنا في تعريف النسخ: " إنه رفع الحكم الثابت بخطاب متقدم بخطاب متراخ عنه "، وقلنا النسخ يشترط فيه الانفصال؛ لأن كلاً من الناسخ والمنسوخ يستقل بنفسه. الوجه الثاني: أن الاستثناء مانع، والنسخ رافع، أي: أن الاستثناء يمنع بعض الأفراد من الدخول تحت اللفظ، ولولا هذا الاستثناء لدخل، فالاستثناء يمنع دخول المستثنى تحت لفظ المستثنى منه. أما النسخ فهو يرفع ما دخل تحت اللفظ الوارد. الوجه الثالث: أن الاستثناء يمنع بعض الأفراد من الدخول تحت اللفظ فتقول: " أكرم الطلاب إلا زيداً "، ولكن لا يجوز أن يمنع الاستثناء جميع الأفراد من الدخول تحت اللفظ، فلا يجوز أن يقال: " لي عليه عشرة إلا عشرة ". أما النسخ فيجوز أن يرفع جميع الحكم أحياناً كرفع وجوب الصدقة بين يدي مناجاة النبي - صلى الله عليه وسلم -. ويجوز أن يرفع بعض الحكم كرفع بعض عدة المتوفى عنها زوجها، فقد كانت حولاً كاملاً، فنسخ ورفع بعضها حتى صارت أربعة أشهر وعشراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1670 وقد سبق بيان الفرق بين النسخ والتخصيص في الباب الثالث بصورة إجمالية فراجعه إن شئت. *** المسألة الخامسة: هل يشترط في الاستثناء الاتصال: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يشترط - لصحة الاستثناء -: أن يكون الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، فلا يجوز الفصل بينهما. أي: أن يكون متصلاً بالكلام حقيقة مثل: " نجح الطلاب إلا زيداً " بدون انقطاع، أو يكون في حكم المتصل بأن يكون انفصاله قبل أن يستوفى المتكلم غرضه من الكلام نحو: أن يسكت عن الاستثناء لانقطاع نفسه، أو لبلع ريقه، أو سعال، أو ما أشبه ذلك. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن الاستثناء غير مستقل بنفسه، فهو جزء من الكلام أتي به لإتمامه وإفادته، لذلك لا يفيد شيئاً إلا إذا اتصل به مباشرة، لكن لو انفصل الاستثناء عن المستثنى منه لم يكن ذلك الاستثناء متمما لذلك الكلام الأول، فمثلاً لو قال: "أكرم الطلاب " ثم قال بعد شهر: " إلا زيداً "، وقال: إني أردت به الاستثناء من الكلام الذي قلته منذ شهر: فإنه يقبح عند أهل اللغة، ويعدون ذلك لغواً؛ لأن الكلام يورد لإفهام الغير وإفادته، وقوله: " إلا زيداً " لا يفهم منه شيء، حيث إنه لا يرتبط بقوله: " أكرم الطلاب ". وهذا قياساً على الخبر مع المبتدأ، فكما أن الخبر لا يفيد شيئاً بدون المبتدأ، والمبتدأ لا يفيد شيئاً بدون الخبر، فكذلك المستثنى لا يفيد شيئاً بدون المستثنى منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1671 الدليل الثاني: أنه لو جاز الفصل في الاستثناء لما علم صدق صادق، ولا كذب كاذب؛ لأن من تكلم بكلام يحكم من خلاله أنه يكون كاذباً قد يستثني، فلا يكون كاذبا، وهذا باطل؛ حيث يفضي إلى عدم استقرار الأمور، فلا تتم عقود، ولا تصح مواثيق ولا معاملات، وهذا لا يمكن أن يقصده عاقل، لذلك لم يجز الفصل في الاستثناء طلباً للاستقرار ومعرفة حقائق الأمور. المذهب الثاني: أنه لا يشترط اتصال المستثنى بالمستثنى منه، بل يجوز انفصال المستثنى عن المستثنى منه. وهو لبعض العلماء، وقد حكى عن ابن عباس، والحسن البصري، وعطاء بن أبي رباح، وسعيد بن جبير، وغيرهم - وسيأتي ذكر خلافهم في مدة هذا الفصل -. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " والله لأغزون قريشاً مرتين أو ثلاثاً " ثم سكت، ثم قال: " إن شاءَ اللَّه "، ولولا صحة الاستثناء بعد السكوت لما فعله؛ لكونه مقتدى به. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه ليس المراد به الاستثناء - هنا -، وإنما المراد به أن الأفعال المستقبلية لا بد أن تقيد بمشيئة اللَّه - تعالى - امتثالاً لقوله تعالى: (وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ) ، ولقوله تعالى: (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ) . الجواب الثاني: على فرض أن المراد به الاستثناء، فإن بسكوته قبل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1672 الاستثناء يحتمل احتمالاً قوياً: أنه من السكوت الذي لا يحل بالاتصال الحكمي - كما ذكرنا فيما سبق - ويجب العمل على ذلك. الدليل الثاني: أن الاستثناء بيان وتخصيص للكلام الأول فجاز تأخيره كالنسخ، والأدلة المنفصلة المخصصة للعموم. جوابه: إن قياسكم على النسخ، وعلى الأدلة المنفصلة المخصصة قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، حيث إنا أثبتنا فرقين بين الاستثناء والمخصص المنفصل في المسألة الثالثة السابقة، وكذلك أثبتنا ثلاثة فروق بين الاستثناء والنسخ في المسألة الرابعة السابقة، ومع وجود الفرق فلا قياس. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن المتكلم لو فصل بين المستثنى منه والمستثنى، فإن المستثنى لا يؤثر على المستثنى منه إلا إذا فصله بشيء اضطر إليه كسعال ونحوه كما لو قال. " عليّ ألف ريال استغفر الله إلا مائة "، فإنه لا يصح الاستثناء، وذلك لأنه فصل بشيء يستطيع تركه، هذا بناء على المذهب الأول. أما بناء على المذهب الثاني، فإنه يصح الاستثناء، وقالوا: إنه فصل يسير فلم يؤثر، وقد رجحه بعض الشافعية، وإني أتعجب من ذلك؛ حيث خالفوا في ذلك الأصل الذي قالوا به وهو: اشتراط الاتصال. تنبيه: المشترطون للاتصال - وهم أصحاب المذهب الأول - وهم الجمهور اتفقوا على أن ينوي المتكلم الاستثناء في الكلام، فلو لم يعرض له نية الاستثناء إلا بعد فراغ المستثنى منه لم يُعتد به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1673 تنبيه ثان: اختلف أصحاب المذهب الأول في موضع نية الاستثناء فقال أكثرهم: يُكتفى بوجود النية قبل فراغه، وهو الصحيح، وقال بعضهم: يعتبر وجود النية في أول الكلام. تنبيه ثالث: اتفق أصحاب المذهب الأول - وهم المشترطون للاتصال - على أنه لا يجوز تقدوم المستثنى في أول الكلام كقولك: " إلا زيداً قام القوم "، وكذلك لا يجوز ولو تقدمه حرف نفي كقولك: " ما إلا زيداً في الدار أحد "، وأما قول الشاعر: وبلدة ليس لها طوري ... ولا خلا الجن بها إنسي فهذا شاذ ولا يقاس عليه. تنبيه رابع: اختلف أصحاب المذهب الثاني - وهم المجوزون لانفصال المستثنى عن المستثنى منه - في وقت هذا الانفصال على أقوال: القول الأول: أنه يجوز الانفصال شهراً، وهو محكي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -. القول الثاني: أنه يجوز الانفصال سنة، وهو محكي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -. القول الثالث: أنه يجوز الانفصال وإن طال أبداً، وهو محكي عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما -. ولكن الصحيح: أنه يؤول ما جاء عن ابن عباس - رضي الله عنهما - إن صح - على نسيان: " إن شاء اللَّه "، كما ورد ذلك عن بعض العلماء، كالإمام أحمد والقرافي وابن جرير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1674 القول الرابع: يجوز تأخير الاستثناء ما دام في المجلس، وهو المروي عن الحسن البصري، وعطاء، وقد أومأ إليه الإمام أحمد. القول الخامس: يجوز الفصل بين المستثنى والمستثنى منه في اليمين في زمن يسير إذا لم يخلط كلامه بغيره. القول السادس: يجوز تأخير الاستثناء إلى أربعة أشهر. القول السابع: يجوز تأخير الاستثناء لفظا، لكن مع إضمار الاستثناء متصلاً بالمستثنى منه، ويكون المتكلم به مدينا فيما بينه وبين الله تعالى، ونسب إلى بعض المالكية. القول الثامن: يجوز تأخير الاستثناء إذا ورد معه كلاماً يدل على أن ذلك الاستثناء مما تقدم مثل: أن يقول: " جاء الناس "، ثم يقول بعد زمان: " إلا زيداً، وهو استثناء مما كنت قلت ". *** المسألة السادسة: هل يجوز تقديم المستثنى على المسثثنى منه؟ لقد اختلف المشترطون للاتصال على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه إذا كان متصلاً به، فيجوز أن تقول: " ما جاءني إلا أخاك من أحد "، و"قام إلا زيداً القوم "، و " القوم إلا زيداً ذاهبون "، و " في الدار إلا زيداً أصحابك "، و " ضربت إلا زيداً القوم "، ومنه قول الكميت بن زيد: فما لي إلا آل أحمد شيعة ... وما لي إلا مشعب الحق مشعب والتقدير: فما لي شيعة إلا أحمد، وما لي مشعب إلا مشعب الحق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1675 ومنه: قول كعب بن مالك للنبي - صلى الله عليه وسلم - شعراً: الناس ألب عليك فينا ليس لنا ... إلا السيوف وأطراف القنا وزر والتقدير: ليس لنا وزر إلا السيوف وأطراف القنا، وهو قول جمهور العلماء. وهو الحق، لوروده في السماع كما سبق من الأبيات الشعرية. ولأنه لا يخل بالفهم. المذهب الثاني: لا يجوز تقديم المستثنى على المستثنى منه، وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الأصل في المستثنى التأخير، والأصل في المستثنى منه التقديم، وإذا جاء المستثنى متقدما، فهو خلاف الأصل، فلا يُعتد به. جوابه: أن تقديم المستثنى على المستثنى منه لا يخل بالفهم، ولذلك جاز. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع، ومنها أنه لو قال: " له عليّ إلا عشرة مائة دينار "، فإنه استثناء صحيح، ويكون المتكلم مقرًّا بتسعين، بناء على المذهب الأول. أما عند أصحاب المذهب الثاني، فإن هذا لا يصح، ولم يقر بشيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1676 المسألة السابعة: الاستثناء من غير الجنس هل يسمى استثناء حقيقة أو مجازاً؟ لقد اتفق العلماء على أن الاستثناء من الجنس حقيقة، واختلفوا في الاستثناء من غير الجنس هل هو استثناء حقيقة أو مجاز؛ على مذهبين: المذهب الأول: يشترط - لصحة الاستثناء -: أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، فلا يصح الاستثناء من غير الجنس فلا تقول: " رأيت الناس إلا حماراً "؛ لأن الحمار لا يدخل في عموم الناس، وإذا ورد ذلك - أي: ورد استثناء من غير الجنس - فهو مجاز، وليس بحقيقة. وهو مذهب كثير من العلماء. وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن حقيقة الاستثناء تدل على ذلك، بيانه: أن الاستثناء هو: استفعال مأخوذ من الثني، ومنه تقول: "ثنيت الشيء ": إذا عطفت بعضه على بعض، وتقول: " ثنيت زيداً عن رأيه " إذا رددته، وحقيقة الاستثناء - بالمفهوم العام - هو: إخراج بعض ما تناوله اللفظ المستئنى منه. أى: بعد أن كان اللفظ متناولاً لجميع الأفراد ثناه الاستثناء عن البعض، وهذا غير متحقق في قول القائل: " رأيت الناس إلا حماراً "؛ لأن الحمار - وهو المستثنى - غير داخل في مدلول الناس - وهو المستثنى منه - حتى يقال بإخراجه وثنيه عنه، بل الجملة الأولى باقية بحالها لم تتغير، ولا تعلق للثاني بالأول أصلاً؛ لأنه ذكر لفظ " الحمار " وهو ما لا دخول له في الكلام الأول - وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1677 الناس - فلم تتحقق حقيقة الاستثناء؛ حيث إنه لم يصرف الكلام ولا ثناه عن وجه استرساله، فلم يتحقق الاستثناء من اللفظ. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضا -: إنه يصح الاستثناء بناء على ما وقع به الاشتراك من المعنى بين المستثنى والمستثنى منه؛ حيث إنهما يشتركان في الحيوانية. جوابه: أنه لو جاز ذلك للزم منه جواز استثناء كل شيء من كل شيء ضرورة: أنه ما من شيئين إلا وهما مشتركان في معنى عام لهما، وليس كذلك. الدليل الثاني: أن الاستثناء من الجنس قد كثر استعماله كثرة شائعاً حتى إنه إذا أطلق يتبادر منه أنه من الجنس، والتبادر أمارة الحقيقة، فكان حقيقة في الاستثناء من الجنس، فإذا ورد استثناء من غير الجنس فقد ورد على خلاف الحقيقة، فيكون مجازاً. الدليل الثالث: أن الاستثناء من غير الجنس على غير وضع اللغة، فلو قال: " رأيت العلماء إلا الكلاب "، أو قال: " قدم الحاج إلا الحمير "، لكان ذلك مستهجناً وعيباً عند عقلاء أهل اللغة، وما هذا شأنه لا يكون وضعه مضافاً إلى أهل اللغة. المذهب الثاني: أنه لا يشترط أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه، بل إن الاستثناء من غير الجنس صحيح، ويكون حقيقة. وهو مذهب أبي حنيفة، ومالك، وبعض الشافعية، وبعض المتكلمين، وبعض النحويين كابن جني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1678 دليل هذا المذهب: أن الاستثناء من غير الجنس قد استعمل في القرآن ولغة العرب، والاستعمال يدل على الحقيقة، ومن أمثلة ذلك: الثال الأول: قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاما) فقد استثنى السلام من اللغو، وليس من جنسه. الثال الثاني: قوله تعالى: (لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ) فقد استثنى التجارة من الباطل، وهي ليست من جنس الباطل. الثال الثالث: قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) فوقع استثناء الظن من العلم، وهو ليس من جنسه. المثال الرابع: قوله تعالى: (ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ) ، وإبليس لم يكن من جنس الملائكة؛ لقوله تعالى: (إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) ، والجن ليسوا من جنس الملائكة؛ لأنه كان مخلوقا من نار، قال تعالى: (خلقتني من نار) ، والملائكة من نور، والنار غير النور، فلا يكون من جنسهم. المثال الخامس: قول جران العود - عامر بن الحارث - شعراً: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس. واليعافير والعيس ليست من جنس الأنيس، وذلك لأن " اليعافير " جمع يعفور "، وهو ولد الظبية، ويطلق على ولد البقرة الوحشية -.، و" العيس " هي إبل بيض يخالط بياضها شقرة واصفرار. المثال السادس: قول النابغة الذبياني: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1679 ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب وليس فلول السيوف عيباً لأربابها، بل فخراً لهم، وقد استثناها من العيوب، وليست من جنسها. المثال السابع: قول العرب: " ما جاءني زيد إلا عمرو "، وقولهم: " ما زاد إلا ما نقص "، وقولهم: " وما بالدار من أحد إلا الوتد "، فقد استثنوا هنا عمراً من زيد، والنقص من الزيادة، والوتد من أحد، وليست من جنسه. والأمثلة على الاستثناء من غير الجنس كثيرة، كلها تدل على أنه ورد استعمال ذلك في القرآن وكلام العرب: الشعر والنثر، والاستعمال دليل الحقيقة، فيكون الاستثناء من غير الجنس صحيحاً، وهو حقيقة كالاستثناء من الجنس. جوابه: لا نسلم أن في هذه الأمثلة استثناء من غير الجنس، بل إن بعضها استثناء من الجنس، والبعض الآخر لا يوجد فيه استثناء، فتكون "إلأ للاستدراك، وإليك بيان ذلك: أما المثال الأول: وهو قوله تعالى: (لا يسمعون فيها لغواً إلا سلاماً) . والمثال الثاني: وهو قوله تعالى: (لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم) . وقول - العرب: " ما جاءني زيد إلا عمر " من المثال السابع: فإن " إلا " في هذه الأمثلة بمعنى: " لكن ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1680 والتقدير في الآية الأولى: لا يسمعون فيها لغواً لكن يسمعون كلاما وسلاما. والتقدير في الآية الثانية: لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل لكن إذا كانت تجارة عن تراض منكم فكلوا. والتقدير في المثال: " ما جاءني زيد لكن جاءني عمرو ". أما بقية الأمثلة، فإن الاستثناء فيها من الجنس، وإليك بيان ذلك. أما المثال الثالث وهو قوله تعالى: (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ) ، فإن هذا عام في كل ما يسمى علما، والظن يُسمى علما، فتقول: " هذا علم ظني "، و " هذا علم يقيني "، ودليل ذلك قوله تعالى: (فإن علمتموهن مؤمنات) ، وأراد: إن ظننتموهن؛ لاستحالة اليقين في ذلك. وقيل: إن " إلا " هنا بمعنى " لكن "، والتقدير: وما لهم به من علم لكن اتبعوا الظن. أما المثال الرابع وهو قوله تعالى: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس) ، فهو استثناء من الجنس؛ لأن إبليس كان من الملائكة؛ لأمور ثلاثة: أولها: أن ذلك قول ابن عباس - وهو حبر الأمة وترجمان القرآن -. ثانيها: أن اللَّه تعالى قد استثناه من الملائكة، والأصل أن يكون من جنسهم؛ للاتفاق على صحة الاستثناء من الجنس، والاختلاف في غيره. ثالثها: أنه لو لم يكن إبليس من الملائكة لما كان عاصيا للأمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1681 المتوجه إلى الملائكة؛ لكونه ليس منهم، ودلل على عصيانه بقوله: (إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين) . فقولكم: " إنه من الجن " لا نسلمه؛ لما قلناه حيث إنه كان من الملائكة من قبيل يقال لهم: " الجن "؛ لأنهم كانوا خزان الجنان، وكان إبليس رئيسهم، وتسميته جنياً لنسبته إلى الجنة، ويحتمل أن يكون قد سمي بذلك لاجتنانه واختفائه. أما المثال الخامس، وهو قول الشاعر: جران العود: وبلدة ليس بها أنيس ... إلا اليعافير وإلا العيس فانه استثناء من الجنس؛ لأن اليعافير - وهي أولاد الضباء، أو أولاد البقر الوحشية، والعيس وهي الإبل مما يؤنس بها، فهي من جنس الأنيس، بل قد يحصل الأنس بالأبنية والأشجار فضلاً عن الحيوانات. أما المثال السادس وهو قول النابغة: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب فهو استثناء من الجنس؛ لأن فلول السيوف عيب في السيوف، وإن كان يسبب فلولها فخراً ومدحة لأربابها، فهو في الجملة استثناء من الجنس. وأما المثال السابع، وهي: الأقوال التي رويت عن العرب، فهي استئناء من الجنس، فقولهم: " ما زاد إلا ما نقص " تقديره: " ما زاد إلا الذي نقص " أي: ينقص. وقولهم: " ما بالدار من أحد إلا الوتد " استثناء من الجنس؛ لأن " أحد " يطلق على الجمادات كما يطلق على الآدمي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1682 وقال بعضهم: إن " إلا " في هذا المثال بمعنى " لكن " وهكذا تبين لك أيها المستدل أن الأمثلة التي زعمت أن الاستثنا من غير الجنس قد استعمل فيها أصبحت لا تصلح لما استدللت له، فبطل دليلك، ومن ثم يبطل مذهبك. * * * بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث ترتب على هذا الخلاف: أن من قال: إن الاستثناء من غير الجنس لا يصح، ولا يسمى استثناء حقيقة - وهم أصحاب المذهب الأول - فإنه لم يجوز التخصيص به، فلو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه: كان استثناؤه باطلاً..، أما من قال: إن الاستثناء من غير الجنس يصح، ويسمى، استثناء حقيقة - وهم أصحاب المذهب الثاني - فإنه يجوز التخصيص به، فلو أقر بشيء واستثنى من غير جنسه كان استثناؤه صحيحا، فإذا قال: " عليّ لزيد ألف درهم إلا ثوبا "، كان هذا صحيحا عند هؤلاء. أما عند أصحاب المذهب الأول فلا يصح هذا. * * * المسألة الثامنة: حكم استثناء كل المستثنى منه: لقد أجمع العلماء على أنه لا يجوز استثناء كل المستثنى منه، بحيث لا يبقى منه فرد، ولو فعل متكلم ذلك: لكان استثناؤه لغواً، وكانت العبرة بما نطق به أولا. ودليل ذلك: أن استثناء الكل يفضي إلى العبث؛ حيث ينفي بعد أن أثبت، وعلى هذا فلو قال: " له عليّ عشرة إلا عشرة "، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1683 العشرة تلزمه، كذلك لو قال: " أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا "، فإنه يلزمه الطلاق بالثلاث؛ لأنه رفع الإقرار، والإقرار لا يجوز رفعه. لكن نقل ابن طلحة - أبو بكر عبد اللَّه بن طلحة البابري الإشبيلي المالكي - في كتابه: " المدخل في الفقه " أن الرجل لو قال لامرأته: " أنت طالق ثلاثاً إلا ثلاثا "، ففيه قولان: القول الأول: أنه استثناء ينفعه. والثاني: أنه لا ينفعه، ويلزمه الثلاب، ويعد نادما. فعلى القول الأول: لا تطلق زوجته، وذلك يدل على صحة استثناء الكل. ولكن قال كثير من العلماء: إنه قول غريب وشاذ. ولذلك لا يخرق ما أجمع العلماء عليه من أنه لا يجوز استثناء الكل، وهو الحق - لما قلنا فيما سبق - فلو استثنى الكل لكان هذا الاستثناء لغواً، وكانت العبرة بما نطق به أولاً، فمن قال: " له عليّ عشرة إلا عشرة "، فإن هذا يعتبر لاغيا، فتلزمه العشرة التى أقر بها أولاً. وأثر هذه المسألة قد وضح من المثال السابق. *** المسألة التاسعة: هل يجوز استثناء الأكثر أو لا؟ لقد اختلف العلماء في. ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز استثناء الأكثر، بل الذي يصح: استثناء الأقل، أي: لا يجوز أن يكون المستثنى أكثر من الباقي بعد الاستثناء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1684 وهو مذهب أكثر نحاة البصرة، وأكثر الحنابلة، وبعض الحنفية كأبي يوسف، وبعض المالكية كابن الماجشون، والباقلاني. وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن الاستثناء وأحكامه قد أخذناه عن طريق أهل اللغة، وأهل اللغة أنفسهم ذكروا أن المتكلم لو استثنى الأكثر لكان كلامه عياً ولكنة. قال ابن جني: " ولو قال قائل: هذه مائة إلا تسعين - ما كان متكلما بالعربية، وكان كلامه عيا ولكنة. وقال القتبي - وهو ابن قتيبة -: يجوز أن يقول: " صمت الشهر إلا يوماً "، ولا يجوز أن يقول: " صمت الشهر كله إلا تسعة وعشرين يوما ". وقال مثل ذلك ابن درستويه: عبد اللَّه بن جعفر النحوي. وقال أبو إسحاق الزجاج: لم يأت الاستثناء في كلام العرب إلا في القليل من الكثير، فإذا كان هؤلاء الأئمة قد أنكروا استثناء الأكثر، فإنه يثبت أن استثناء الأكثر ليس من اللغة، فلا يجوز. ولو جاز استثناء الأكثر لجاز في كل ما قبحه أهل اللغة وكرهه لسان العرب. الدليل الثاني: أن الاستثناء قد جرى في كلام العرب على خلاف الأصل؛ لأنه إنكار بعد إقرار، والأصل: عدم الإنكار، لكن لما كان الإنسان قد يغفل عن بعض ما أقر به أجيز استثناء القليل لدفع الضرر، وأما الأكثر فلا يُعقل أن يغفل عنه الإنسان، فلم يجز فيه الاستثناء جريا على الأصل في الكلام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1685 المذهب الثاني: أنه يجوز استثناء الأكثر. وهو لجمهور العلماء، فيجوز أن يقول: " له علي عشرة إلا تسعة "، فيكون مقراً بواحد. ِأدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين) ، وقال: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين) . وجه الدلالة: أنه في الآيتين قد استثنى كل واحد منهما من الآخر، ففي الآية الأولى قد استثنى العباد من الغاوين، وفي الآية الثانية قد استثنى الغاوين من العباد، فإن استووا فقد استثنى المساوي وإن تفاوتوا فأيهما كان أكثر فقد استثناه وأبقى الأقل، وهذا يدل على جوازه. على أن الغاوين أكثر من غير شك بدليل قوله تعالى: (وقليل في عبادي الشكور) ، وقوله: (ولا تجد أكثرهم شاكرين) ، وقوله: (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) . جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لو ثبت أن أحد الفريقين أكثر من الآخر، وأنه استثناء لم يكن قد استثنى الأكثر، بل استثنى الأقل في الموضعين، بيان ذلك: أما الآية الأولى، فإن هناك شواهد دلَّت على أنه استثنى الأقل؛ حيث قال تعالى: (لأغوينهم أجمعين) يعني ولد آدم بدليل قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1686 تعالى في سورة أخرى: (أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا) ثم استثنى في سورة أخرى قائلاً: (إلا عبادك منهم المخلصين) ، وهم القليل المذكور، ولهذا قيده بلفظ " منهم "، فثبت أنه استثنى الأقل وأبقى الأكثر. أما الآية الثانية، فإن اللَّه تعالى قال فيها: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) ، فأضاف العباد إليه مطلقا، وذلك يقع على كل عبد له من مَلَك، وآدمي، وجني، ثم قال: (إلا من اتبعك من الغاوين) ، والغاوون من جميع العباد هم الأقل؛ لأن الملائكة كلهم غير غاوين كما قال تعالى: (بل عباد مكرمون) ، وهم أكثر الخلق، ويضاف إليهم من آمن من الإنس والجن، فيكونون أكثر من الغاوين، فثبت أنه استثنى الأقل، وأبقى الأكثر. الجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أن " إلا " في الآيتين للاستثناء، بل هي بمعنى " لكن "، والتقدير يكون في الآية الأولى: " ولكن عبادك المخلصين لا أستطيع غوايته "، والتقدير في الآية الثانية: " ولكن من اتبعك من الغاوين فإن جهنم موعدهم أجمعين ". أما الآية الأولى فظاهر فيها أن المراد"بلفظ " إلا ": " لكن ". أما الآية الثانية وهي قوله: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك) ، فظاهرها يفيد أنه استثناء - في السلطان، تقديره: " إلا اتبعك من الغاوين، فإن لك عليهم سلطانا "، وهذا لا يصح؛ لأن الغاوين لا سلطان له عليهم - أيضا - دلَّ على ذلك قوله تعالى: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) ، فأخبر أنه لا سلطان له على الغاوين - أيضا - فدل هذا على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1687 أن تقدير الكلام: " لكن من اتبعك من الغاوين وإن جهنم لموعدهم أجمعين ". الدليل الثاني: قياس الاستثناء على التخصيص بالمنفصل، بيان ذلك: أنه كما يجوز إخراج أكثر ما تناوله اللفظ بالمخصصات المنفصلة. فكذلك يجوز إخراج أكثر ما تناوله اللفظ بالاستثناء، ولا فرق، بجامع: أن كلاً منهما يخرج من العموم ما لولاه لدخل. جوابه: إن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن التخصيص بالمنفصل لا يختص بعبارة، فهو يصح بجميع أدلة العقل والنقل، ولا يقف على حرف مخصوص، أما الاستثناء فلا يجوز إلا بحروف مخصوصة، ولهذا يجوز تخصيص المعلوم من المجهول، والمجهول من المعلوم في المنفصل، ولا يجوز ذلك في الاستثناء بالعدد. الوجه الثاني: أن من جنس التخصيص بالمنفصل ما يرفع الجملة وهو: النسخ؛ لأن التخصيص: تخصيص الأعيان، والنسخ: تخصيص الزمان، وليس من جنس الاستثناء ما يرفع الجملة؛ حيث لا يجوز استثناء الكل كما سبق. الدليل الثالث: قياس استثناء الأكثر على استثناء الأقل، بيانه: أنه كما يجوز استثناء الأقل وإبقاء الأكثر باتفاق، فكذلك يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1688 استثناء الأكثر وإبقاء الأقل، ولا فرق، بجامع: أن كلاَّ منهما فيه إخراج بعض ما شمله العموم. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن استثناء الأقل هي لغة العرب، واستعمله أهل اللسان وصرحوا بجوازه، بخلاف استثناء الأكثر فقد نفوه وقبحوه كما سبق ذكر ذلك، فقياس ما قبحه أهل اللغة وأنكروه - وهو استثناء الأكثر - على ما استحسنه أهل اللغة وأجازوه - وهو استثناء الأقل - لا يمكن عقلاً. الوجه الثاني: أن الاستثناء وضع للاختصار، أو للاستدراك، ويحسن ذلك في الأقل، وليس في الحكمة وجود ذلك في الأكثر. الدليل الرابع: أن استثناء الأكثر قد ورد استعماله في قول الشاعر: أدوا التي نقصت تسعين من مائة ... ثم ابعثوا حكما بالحق قواما فهنا قد استثنى الشاعر تسعين من مائة، وهو استثناء الأكثر، فهذا الاستعمال دليل جوازه. جوابه: إن هذا البيت ليمس فيه استثناء لفظي؛ لأنه لم يأت فيه بأداة الاستثناء، وأدوات الاستثناء معروفة ومحصورة، ؤإنما ذكر نقصان الأكثر مما دخل تحت الاسم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1689 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا قد اختلف العلماء فيه على قولين: القول الأول: إن الخلاف معنوي، وهو الحق؛ لأنه قد أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أنه لو قال لزوجته: " أنت طالق ثلاثاً إلا اثنتين " فقد اختلف العلماء في ذلك، والخلاف مبني على الخلاف فى هذا الأصل. فبناء على قول أصحاب المذهب الأول - وهم المانعون من جواز استثناء الأكثر - فإنه يلزم الزوج جميع المستثنى منه، وهي التطليقات الثلاث، ويكون الاستثناء لغواً. وبناء على قول أصحاب المذهب الثاني - وهم المجيزون لاستثناء الأكثر - فإنه يلزم الزوج طلقة واحدة. 2 - إذا قال: " له عليّ عشرة إلا تسعة " فقد اختلف في الشيء الذي يلزم المقر - هنا -. فبناء على قول أصحاب المذهب الأول - وهم المانعون من استثناء الأكثر - فإنه يلزم المقر جميع المستثنى منه، ويكون الاستثناء لغواً، فتلزمه العشرة - كلها -. وبناء على قول أصحاب المذهب الثاني - وهم المجيزون استثناء الأكثر - فإنه يلزم المقر واحد فقط. القول الثاني: إن الخلاف لفظي، وهو اختيار المازري، وعلل ذلك بأن أصحاب المذهبين لم يخالفوا في الحكم، وإنما خالف أصحاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1690 المذهب الأول؛ لأن العرب لم تستعمل استثناء الأكثر، لكن العرب وإن لم تستعمله فلا يسقط حكم الاستثناء في الإقرار وغيره. جوابه: لا نسلم أن أصحاب المذهب الأول لم يخالفوا في الحكم، بل خالفوا في مسائل الإقرار، والطلاق، وغير ذلك؛ بناء على خلافهم في هذه القاعدة. المسألة العاشرة: هل يجوز استثناء النصف: لقد اختلف أصحاب المذهب الأول في المسألة السابقة - وهم المانعون من استثناء الأكثر - في استثناء النصف على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز استثناء النصف، بل الذي يجوز استثناء أقل من النصف. وهو مذهب الباقلاني، وأكثر الحنابلة، والخليل ابن أحمد، والنضر بن شميل، وجمهور البصريين، وهو الحق؛ لما سبق من الدليلين المذكورين في المذهب الأول - وهو عدم جواز استثناء الأكثر - وهما يدلان على عدم جواز استثناء النصف. المذهب الثاني: يجوز استثناء النصف، وأما الأكثر منه فلا يجوز. وهو اختيار بعض النحويين كابن درستويه النحوي، وبعض الحنابلة. دليل هذا المذهب: قوله تعالى: (يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلاً نصفه) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1691 وجه الدلالة: أنه هنا قد استثنى النصف، وليس هو بأقل من المستثنى منه، بل هو مساوي له، وهو استدلال مبني على أن "نصفه " بدل من " قليلاً "، فيكون في حكم المستثنى من الليل، والتقدير: " قم الليل إلا نصفه ". جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن لفظ " نصفه " كلام مبتدأ ليس باستثناء، وإنما الاستثناء في قوله: " إلا قليلاً ". الجواب الثاني: أن " نصفه " ظرف للقيام فيه، ويكون " نصفه " بدل من الليل، والتقدير: " قم الليل نصفه إلا قليلاً "، أو تقول: التقدير: " قم نصف الليل إلا قليلاً ". إذن الآية لا تصلح للاستدلال بها على جواز استثناء النصف. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أنه لو قال: " له علي عشرة إلا خمسة " فقد اختلف في الشيء الذي يلزم المقر - هنا -. فبناء على المذهب الأول - وهو عدم جواز استثناء النصف - فإنه يلزم المقر جميع المستثنى منه، ويكون الاستثناء لغواً، فتلزمه العشرة - كلها -. وبناء على المذهب الثاني - وهو جواز استثناء النصف - فإنه يلزم المقر خمسة فقط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1692 المسألة الحادية عشرة: الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو هل يرجع إليها جميعاً، أو يرجع إلى الأخيرة فقط؟ محل الخلاف في هذه المسألة إذا لم يكن هناك قرينة تدل على إرادة الجميع، أو قرينة تدل على أن المراد الجملة الأخيرة أو الأولى، فإن كان هناك قرينة وجب العمل بما تقتضي تلك القرينة. ومثال الاستثناء الذي يعود إلى الجميع بقرينة: قوله تعالى: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) ، فإن الاستثناء هنا راجع إلى الجميع اتفاقا. وأيضاً يمكن أن يمثل لذلك بقوله تعالى: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ... ) ، ثم قال في آخر الآية: (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا ... ) ، فإنه يرجع إلى الجميع اتفاقا. ومثال الاستثناء الذي يرجع إلى الجملة الأولى بقرينة قوله تعالى: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) ، فالاستثناء هنا راجع إلى الجملة الأولى؛ لأن المعنى: فمن شرب منه فليس مني إلا من اغترف غرفة بيده فإنه مني، ولو كان الاستثناء راجعاً إلى الأخيرة لكان المعنى: ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده، وهذا لا يراد. ومثال الاستثناء الذي يرجع إلى الجملة الأخيرة بقرينة قوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1693 (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا) ، فإن الاستثناء راجع إلى الأخيرة؛ لأن تحرير الرقبة هو حق لله، فلا يسقط بإسقاطهم. والنزاع واقع في الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو، أما إذا كان العاطف غيرها كالفاء، وثم، فإن الاستثناء يختص بالأخيرة، حيث إن الفاء وثم يقتضيان الترتيب كما سبق قوله في معاني الحروف، أما الواو فلا تقتضي ذلك. إذن: اختلف العلماء في الاستثناء الواقع بعد الجمل المتعاطفة بالواو هل يرجع إليها جميعاً، أو يرجع إلى الأخيرة فقط؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه يرجع إلى جميع الجمل. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: اتفاق أهل اللغة على أن تكرار الاستثناء عقيب كل جملة يعتبر نوعاً من العي، والركاكة فيما لو أراد إرجاعه إلى الجميع كما لو قال: " إن شرب زيد الخمر فاضربه إلا أن يتوب، وإن زنا فاضربه إلا أن يتوب "، فإذا ثبت استقباح ذلك: فلم يبق - للتخلص من ذلك - إلا أن يجعل استثناء واحداً في آخر الجمل ويعود إلى جميعها فيقول: " إن شرب زيد الخمر فاضربه، وإن زنا فاضربه إلا أن يتوب ". الدليل الثاني: القياس على الشرط، بيانه: كما أن الشرط إذا تعقب جملاً، فإنه يرجع إلى جميع الجمل، فتقول: " نسائي طوالق، وعبيدي أحرار إن كلمت زيداً "، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1694 فكذلك الاستثناء فإنه يرجع إلى جميعها، ولا فرق بينهما، والجامع: أن كلًّا منهما لا يستقل بنفسه، وأنهما يتعلقان بغيرهما من الكلام، ولا بد من اتصالهما، فإذا ثبت شيء لأحدهما ثبت في الآخر. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا - على ذلك: إن قياسكم الاستثناء على الشرط قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن رتبة الشرط: أن يتقدم على الجزاء سواء تقدم على اللفظ أو تأخر، فكانه في المثال السابق قال: " إن كلمت زيداً فنسائي طوالق وعبيدي أحرار ". بخلاف الاستثناء فإنه لا يصلح أن يتقدم - كما سبق بيانه -. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: نحن لم نقس الاستثناء على الشرط مطلقا، بل قسنا الاستثناء على الشرط المتأخر، فإنه هنا لا فرق بينهما كما سبق. الجواب الثاني: على فرض تقدم الشرط فإنه يتعلق بجميع الجمل مثل ما إذا تأخر، فقولنا: " إن كلمت زيداً فنسائي طوالق وعبيدي أحرار "، مثل قولنا: " نسائي طوالق وعبيدي أحرار إن كلمت زيدأ"، ولا فرق، فإذا كان الشرط متعلقا بجميع الجمل، سواء تقدم أو تأخر، فكذلك الاستثناء فإنه مساو للشرط في حال تأخره. الدليل الثالث: أن الجمل المعطوف بعضها على بعض بمنزلة الجملة الواحدة، ولهذا فلا فرق بين قوله: " اضرب الجماعة التي منها قتلة وسراق وزناة إلا من تاب "، وبين قوله: " اضرب من قتل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1695 وزنا وسرق إلا من تاب "، فوجب اشتراكهما في عود الاستثناء إلى الجميع. الدليل الرابع: أن الاستثناء صالح لأن يعود إلى كل واحدة من الجمل، وليس البعض أَوْلى من البعض، فوجب العود إلى الجميع كالعام. المذهب الثاني: أن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة، ولا يرجع إلى جميع الجمل. وهو مذهب أبي حنيفة، وجمهور الحنفية، وبعض الحنابلة كالمجد ابن تيمية، وكثير من الظاهرية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن العموم يثبت في كل صورة وجملة بيقين، وعود الاستثناء إلى جميعها مشكوك فيه، فلا يرفع اليقين بالشك. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن العموم لا يثبت قبل تمام الكلام، وما تم الكلام حتى أردف وأتى باستثناء يرجع إلى العموم. الجواب الثاني: يلزم من كلامكم هذا: أن لا يعود الشرط والصفة على جميع الجمل - لما ذكروه من أن التعميم متيقن - مع أن أكثركم يسلم أن الشرط والصفة يعودان إلى جميع الجمل. الدليل الثاني: أن الجملة الثانية فاصلة بين الاستثناء والجملة الأولى، فلم يرجع الاستثناء إليها، كما لو فصل بينهما بقطع الكلام، وإطالة السكوت، أو بكلام آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1696 جوابه: لا نسلم أنه فصل؛ لأنا ذكرنا أنه لما عطف بعض الجمل على البعض الآخر بالواو صارت الجمل كالجملة الواحدة. الدليل الثالث: أن الاستثناء لا يستقل بنفسه، ولا يفيد بمفرده، فوجب رده إلى ما قبله مباشرة، فإذا رد إلى ما قبله مباشرة، وهو الذي يليه، فقد استقل وأفاد، فإذا استقل وأفاد فلا حاجة إلى تعليقه بما قيل ذلك من الجمل؛ لأن تعليقه بذلك تعليق على الزيادة فيجري مجرى الكلام المستقل بغيره لا من ضرورة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا قد جعلنا الاستثناء يرجع إلى جميع الجمل التي قبله؛ نظراً لصلاحيته لأن يرجع إليها، فلا نسلم أنه تعلق بما قبله ضرورة. الجواب الثاني: أن كلامكم هذا يبطل بالشرط والصفة؛ لأنهما يتعلقان بجميع الجمل، فكذلك الاستثناء، ولا فرق، فلو قال: "أكرم العلماء والتجار إن كانوا طوالا "، أو قال: " أكرم العلماء والتجار الطوال "، فإن ذلك يرجع إلى الجميع، فكذلك هنا. بيان نوع الحنلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إن هذا الخلاف قد أثر في بعض الفروع، ومنها: 1 - قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1697 فإنه بناء على المذهب الأول فإن هذا الاستثناء راجع إلى الجملتين السابقتين معا، وهما الواردتان في قوله تعالى: (ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً) ، وقوله: (وأولئك هم الفاسقون) ، والتقدير: " لا تقبلوا لهم شهادة أبداً إلا الذين تابوا منهم فاقبلوا شهادتهم فيما بعد "، وكذلك يقال: " وأولئك هم الفاسقون إلا الذين تابوا، فلا يحكم عليهم بفسق ". أي: أنه على المذهب الأول: القاذف إذا تاب تقبل شهادته، وتعود إليه عدالته؛ بناء على أن الاستثناء يرجع إلى الجملتين السابقتين. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم أرجعوا الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط، فلذلك قالوا: إن التوبة لا تسقط عدم قبول الشهادة، بل إن شهادته تبقى مردودة، ولكنها - أي: التوبة - ترفع عنه وصف الفسق. 2 - قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يؤم الرجل في أهله، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه ". فإن الاستثناء على المذهب الأول يرجع إلى الجملتين السابقتين معا وهما: " لا يؤم الرجل في أهله "، و " لا يجلس على تكرمته ". إذن يكون الإذن في الأمرين، أي: لا يؤم الرجل في أهله إلا بإذنه، ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه. أما على المذهب الثاني، فإن الاستثناء يرجع إلى الجملة الأخيرة فقط، وعلى ذلك يكون الإذن يشترط في جلوسه على تكرمته فقط، دون الإمامة في الصلاة، وهكذا تقول في كل ما يماثل ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1698 المسألة الثانية عشرة: صور الاستثناءات المتعدِّدة: الصورة الأولى: أن يكون استثناء معطوف على ما قبله كقولك: " علي عشرة إلا ثلاثة وإلا اثنين "، فترجع جميعها إلى العشرة، فيكون المقربة خمسة؛ لأن العطف يقتضي الشاركة بين المعطوف والمعطوف عليه في الحكم، والعطوف خارج من المستثنى منه، فكذلك المعطوف عليه. الصورة الثانية: أن لا يعطف الاستثناء، ويكون الثاني مستغرقاً لا قبله كقولك: " عليّ عشرة إلا اثنين إلا ثلاثة " فترجع جميعها إلى العشرة وهو الأولى؛ لأن استغراق الثاني للأول يمنع من رجوعه إليه؛ حيث قلنا: إن الاستثناء لا يستغرق. الصورة الثالثة: عدم وجود العطف، وعدم استغراق الثاني للأول كقولك: " عليّ عشرة إلا ثمانية إلا سبعة إلا ستة " فهنا كل استثناء يرجع إلى ما قبله مباشرة؛ لقربه منه فيختص به، فتكون السبعة مستثناة من الثمانية، والثمانية مستثناة من العشرة، والستة مستثناة من السبعة، ويعمل في ذلك قاعدة: " أن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي "، وتطبق المثال على هذه القاعدة فتقول: إن " الثمانية " منفية؛ لأننا قد استثنيناها من " العشرة " المثبتة. وتكون " السبعة " مثبتة؛ لأننا قد استثنيناها من " الثمانية " المنفية. وتكون " الستة " منفية؛ لأننا قد استثنيناها من " السبعة " المثبتة. فيلزمه على هذا ثلاثة فقط، قد تقول: كيف أخرجت ذلك؛ نقول: إنه لا استثنى الثمانية من العشرة يكون الباقي اثنين. ولما استثنى السبعة من الثمانية " المنفية " أي: التي نفاها عنه يكون بذلك قد أثبت السبعة، فإذا ضممت إلى السبعة الاثنين السابقين يكون جملة ما لزمه تسعة، فإذا أخرج من التسعة ستة بقي ثلاثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1699 الفصل الثالث عشر المطلق والمقيد ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريف المطلق. المبحث الثاني: بيان في أي شيء يكون المطلق؛ والأمثلة على ذلك. المبحث الثالث: تعريف المقيد. المبحث الرابع: على أي شيء يطلق المقيد؟ المبحث الخامس: مقيدات المطلق. المبحث السادس: إذا اجتمع مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟ المبحث السابع: إذا ورد لفظ مطلق، ثم قيده مرة، ثم قيده مرة ثانية بخلاف التقييد الأول فما الحكم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1701 المبحث الأول تعريف المطلق المطلق لغة هو: الانفكاك من أي قيد: حسيا كان أو معنوياً، فمثال الحسي: قولهم: " هذا الفرس مطلق "، ومثال المعنوي: الإطلاق في الأدلة. المطلق اصطلاحا: اللفظ المتناول لواحد لا بعينه باعتبار حقيقة شاملة لجنسه. فقولنا: " اللفظ " جنس يشمل كل ملفوظ به: مفيداً أو غير مفيد. وقولنا: " المتناول لواحد " أخرج اللفظ غير المفيد، وأخرج ألفاظ الأعداد المتناولة لأكثر من واحد. وقولنا: " لا بعينه " أخرج أسماء الأعلام، وما مدلوله واحد معين، والعام المستغرق. وقولنا: " باعتبار حقيقة شاملة لجنسه " أخرج المشترك، والواجب المخير، فإن كلًّا منهما يتناول واحداً لا بعينه باعتبار حقائق مختلفة. فمثلاً: قول السيد لعبده: " أكرم طالبا "، فإن هذا الأمر قد تناول واحداً من الطلاب غير - معين، ومدلول هذا الأمر شائع في جنسه. أي: لا يوجد طالب معروف، أو جماعة من الطلاب معروفين بصفة معينة، بل الواجب على العبد اخحيار أي طالب ويكرمه، وتبرأ ذمة العبد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1703 المبحث الثاني في أي شيء يكون المطلق؛ والأمثلة على ذلك المطلق يكون في أمور: الأول: أنه قد يكون في معرض الأمر كقولك: " اعتق رقبة "، أو " أعط طالباً جائزة ". الثاني: قد يكون في مصدر الأمر كقوله تعالى: (فتحرير رقبة) . الثالث: قد يكون في مصدر الخبر عن المستقبل كقوله عليه السلام: " لا نكاح إلا بولي "، وكقولك: " سأعتق رقبة ". لكن لا يمكن أن يكون الإطلاق في معرض الخبر المتعلق بالماضي كقولك: " رأيت رجلاً "، أو " أعطيت طالباً "، أو " أعتقت رقبة"؛ لأن هؤلاء - وهم الرجل والطالب والرقبة - قد تعينوا بالضرورة، وهي ضرورة إسناد الرؤية إلى الرجل، وضرورة إسناد العطية إلى الطالب، وضرورة إسناد الإعتاق إلى الرقيق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1704 المبحث الثالث تعريف المقيد المقيد لغة: ما يقابل المطلق، وهو ما قيد بشيء من وصف أو شرط أو نحوه. والمقيد اصطلاحا هو: المتناول لمعين، أؤ لغير معين موصوف بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه. مثال ذلك: قولنا: " أعط هذا الطالب "، أو " أعط الطالب الطويل "، فقد قيدنا الطالب الأول بتعيينه بالإشارة إليه، وقيدنا الطالب الثاني بوصفه بالطول الذي أخرجه عن بقية الطلاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1705 المبحث الرابع على أي شيء يطلق المقيد؟ التقييد يطلق باعتبارين: الأول: ما كان من الألفاظ دالاً على غير معين، ولكنه موصوف بوصف زائد على مدلوله المطلق، كقوله تعالى: (وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ، وكقولك: " أكرم الطالب الناجح ". الثاني: ما كان من الألفاظ الدالة على مدلول معين، أو ما تناول معيناً كزيد وعمرو، وهذا الرجل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1706 المبحث الخامس مقيدات المطلق المطلق والمقيد كالعام والخاص فيما ذكر من مخصصات العموم المتصلة والمنفصلة، المتفق عليها، والمختلف فيها. فعلى هذا يجوز تقييد الكتاب بالكتاب، والسُّنَّة بالسُّنَّة، وتقييد السُّنَّة بالكتاب و، والعكس، وتقيد المطلق بالإجماع، والقياس، والمفاهيم، ونحو ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1707 المبحث السادس إذا اجتمع مطلق ومقيد فهل يحمل المطلق على المقيد أو لا؟ هذا يختلف باختلاف أحوال ورودهما، ففي بعض الحالات لا يحمل المطلق على المقيد إذا وردا، وفي بعض الحالات يحمل، وإليك بيان ذلك: الحالة الأولى: أن لا يكون متعلِّق حكم المطلق هو عين متعلِّق حكم المقيد مثل أن يقول: " أدوا الصلاة "، ويقول: " اعتقوا رقبة مؤمنة إذا حنثتم " فهنا لا يحمل المطلق على المقيد اتفاقا؛ لأنه لا يوجد مناسبة بينهما، ولا تعلق لأحدهما بالآخر أصلاً. الحالة الثانية: أن يكون متعلِّق حكم المطلق هو عين متعلّق حكم المقيد. وهذه الحالة لها ست صور: الصورة الأولى: أن يكون متعلقهما واحداً والسبب واحداً، وكل واحد منهما أمراً كقوله: اعتقوا رقبة إذا حنثتم، ثم يقول: اعتقوا رقبة مؤمنة إذا حنثتم، فهنا يحمل المطلق على المقيد، وكذا لو قال: اعتقوا رقبة مؤمنة، ثم قال: اعتقوا رقبة، وكذا لو لم نعلم تقدم أحدهما، ففي هذا كله يحمل الطلق على المقيد. دليل ذلك. أن الجمع بين الدليلين أَوْلى من إعمال أحدهما وترك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1708 الآخر: فالعمل بالمقيد عمل بالمطلق ضرورة أن المطلق جزء من المقيد، والآتي بالكل آت بالجزء، فيكون العمل بالمقيد عملاً بالدليلين، وأما العمل بالمطلق فليس عملاً بالمقيد؛ لأن الآتي بالجزء لا يكون آتيا بالكل، بل يكون تاركا للمقيد، فيكون العمل بالمطلق يستلزم ترك المقيد بالكلية. الصورة الثانية: أن يكون متعلق المطلق والمقيد واحداً والسبب واحداً، وكل واحد منهما نهيا مثل أن يقول: " لا تعتق رقبة "، ثم يقول مرة أخرى: " لا تعتق رقبة كافرة في كفارة اليمين "، فهنا فيه تفصيل: أن من يقول بأن المفهوم حُجَّة، وأنه يخصص به العموم فإنه يخصص النهي العام؛ لأن النهي في قوله: " لا تعتق رقبة كافرة " يدل على إجزاء المسلمة؛ لأنه مختص بالنهي عن الكافرة، وهو بمفهومه يدل على إجزاء المسلمة، وهذا بناء على جواز التخصيص بالمفهوم كما سبق بيانه. أما من لم يحتج بالمفهوم، فإنه لا يخصص النهي العام؛ لأنه لا موجب لذلك. الصورة الثالثة: أن يكون متعلق المطلق والمقيد واحداً، والسبب واحداً، ويكون أحدهما أمراً والآخر نهيا، فإن المقيد يوجب تقييد المطلق بضده، سواء كان المطلق أمراً والمقيد نهيا كقوله: " اعتق رقبة"، ثم يقول: " لا تعتق رقبة كافرة "، أو كان المطلق نهيا، والمقيد أمراً كقوله: " لا تعتق رقبة "، ثم يقول: " اعتق رقبة مؤمنة". الصورة الرابعة: أن يكون حكم المطلق والمقيد واحداً، وسبب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1709 المطلق يختلف عن سبب المقيد، وكل واحد منهما أمراً كقوله تعالى في كفارة الظهار: (وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا) ، وقوله في كفارة القتل: (وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ) ، فهنا الحكم واحد، وهو في وجوب إعتاق رقبة، وهو في المطلق والمقيد أمر، والسبب مختلف، حيث إن سبب عتق الرقبة في المطلق هو: الظهار، وسبب عتق - الرقبة في المقيد هو: القتل الخطأ، فهل يحمل المطلق على المقيد، لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: إن قام دليل نحو القياس على المقيد أو غيره حمل المطلق على المقيد، وإن لم يقم دليل، فإن المطلق يبقى على إطلاقه، وهو مذهب جمهور الشافعية، ومنهم الإمام الشافعي، والآمدي، وفخر الدين الرازي، وبعض المالكية كالقاضي أبي بكر الباقلاني، وبعض الحنابلة كأبي الخطاب، وبعض المعتزلة كأبي الحسين البصري، وهو الحق عندي لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن القياس دليل شرعي عام في كل صورة إلا إذا فقد فيه ركن من أركانه، أو شرط من شروطه، وذلك لأن الأدلة على حجيته لم تفرق بين صورة وصورة، فإذا دلَّ القياس على حمل المطلق على المقيد، فإنه يجب العمل على في لك عملاً بحجية القياس. الدليل الثاني: قياس تقييد المطلق على تخصيص العام بالقياس، بيانه: أنه كما أن العام يجوز تخصيصه بالقياس، فكذلك يجوز تقييد المطلق بالقياس، والجامع: صيانة القياس عن الإلغاء، بل هذا أَوْلى " لأن دلالة العام على كل الأفراد دلالة لفظية، ودلالة المطلق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1710 على ذلك ليست لفظية، بل معنوية، ومعروف: أن الدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية، فإذا كان القياس يخصص العام مع أن دلالته على الأفراد لفظية وهي قوية، فمن باب أوْلى جواز تقييد المطلق بالقياس. المذهب الثاني: أن المطلق يحمل على المقيد عن طريق اللغة واللفظ من غير حاجة إلى دليل آخر. وهو مذهب بعض الحنابلة كأبي يعلى، وبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المطلق في باب الشهادة، كقوله تعالى: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم) ، قد حمل على المقيد الوارد في قوله تعالى: (وأشهدوا ذوي عدل منكم) ، ولذلك أجمع العلماء على اعتبار العدالة في جميع الشهود، ومنها شهود المداينة مع أنه أطلق فيها هاهنا. والجامع: تقديم المقيد الذي هو كالخاص على المطلق الذي هو كالعام. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن ذلك التقييد بحسب اللفظ، من غير دليل، بل هو بدليل وهو الإجماع والنص، وهو قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) ، والقياس على الموضع الذي نص فيه على العدالة بجامع حصول الثقة بقولهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1711 الجواب الثاني: أن هذا غير منضبط في كل شيء، فقد قيد في الوضوء بالمرافق، وأطلق بالتيمم، فلم نحمله عليه، فتقابلا. الدليل الثاني: أن حمل المطلق على المقيد هو لغة العرب، فالعرب تطلق الحكم في موضع، وتقيده في موضع آخر، فيحمل المطلق على المقيد، وهذا له أمثلة كثيرة. من ذلك: قوله تعالى: (والحافظين فروجهم والحافظات والذاكرين الله كثيراً والذاكرات) ، فحمل لفظ " الحافظات " و" الذاكرات " على " الحافظين " و " الذاكرين "، وقول الشاعر: نحن بما عندنا وأنت بما ... عندك راض والرأي مختلف والتقدير: ونحن بما عندنا راضون، فحمل المطلق على المقيد لغة وغير ذلك من الأمثلة جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن جميع ما ذكروه حمل المطلق على المقيد بدليل، والدليل في تلك الأمثلة هو: العطف؛ لأن حكم المعطوف هو حكم المعطوف عليه. وهو واضح في الآيتين وبيت الشعر. الجواب الثاني: أن المطلق حمل على المقيد في تلك الأمثلة السابقة لدليل، وهو: أن أحد الكلامين غير مستقل بنفسه، ولا يفيد فائدة فحمل على الآخر لموضع الحاجة على حمل الكلام على فائدة. المذهب الثالث: أنه لا يحمل المطلق على المقيد مطلقا، وهو قول أكثر الحنفية، وبعض الشافعية، وكثير من الحنابلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1712 دليل هذا المذهب: أن حمل المطلق على القيد رفع لحكم المطلق، وذلك نسخ له، والنسخ لا يثبت بالقياس. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن زوال الحكم كان بطريق النسخ، بل هو عندنا بطريق التقييد، ولهذا يكون الحكم كذلك لو كان المطلق والمقيد مقترنين في الورود، أو كان القيد متقدماً، ولو كان بطريق النسخ لما كان كذلك؛ لأن من شروط النسخ أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ - كما سبق -. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ لأن بعض الفروع الفقهية قد تأثرت بهذا الخلاف، ومنها: أنه قال تعالى في الظهار: (فتحرير رقبة) ، وقال في آية قتل الخطأ: (فتحرير رقبة مؤمنة) ، فعلى المذهب الأول والثاني: يحمل المطلق على القيد في هذه الصورة، فلا يجزي عند أصحاب هذين المذهبين في الكفارتين إلا الرقبة المؤمنة، وهو مذهب جمهور العلماء. أما عند أصحاب المذهب الثالث - وهم الذين منعوا حمل المطلق على المقيد في هذه الصورة - فقد أعملوا المطلق على إطلاقه، وأعملوا المقيد على تقييده، ففي كفارة الظهار تجزئ عندهم الرقبة الكافرة عملاً بالإطلاق، وفي كفارة القتل الخطأ لا تجزئ إلا الرقبة المؤمنة عملاً بالتقييد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1713 الصورة الخامسة: أن يكون حكم المطلق والمقيد واحداً، وكل واحد منهما نهياً، والسبب مختلف مثل أن يقول: " لا تعتق رقبة " في كفارة الظهار، ثم يقول: " لا تعتق رقبة كافرة " في كفارة القتل، في هذه الصورة تفصيل: فمن يحتج بالمفهوم وتقييد المطلق بالمقيد إن وجد دليل، فإنه يخصص النهي العام بالكافرة إن وجد دليل، وإن لم يوجد فلا يخصص، فمفهوم قوله: " لا يعتق رقبة كافرة " هو: اعتق رقبة مؤمنة، فالمفهوم هذا يخصص ويقيد قوله: " لا تعتق رقبة " أي: لا تعتق رقبة كافرة، فيكون المراد: اعتق رقبة مؤمنة. أما من لم يحتج بالمفهوم فلا يخصص النهي العام. الصورة السادسة: أن يكون حكم المطلق والمقيد واحداً، ويكون أحدهما أمراً، والآخر نهياً، والسبب مختلف، فالمقيد يوجب تقييد المطلق، سواء كان المطلق أمراً مثل أن يقول: " اعتق رقبة في كفارة الظهار "، والمقيد نهياً مثل قوله: " لا تعتق رقبة كافرة في كفارة القتل "، أو بالعكس: أي يكون نهيا في المطلق كقوله: " لا تعتق رقبة في كفارة الظهار "، ويكون المقيد أمراً كقوله: " اعتق رقبة مؤمنة في كفارة القتل ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1714 المبحث السابع إذا ورد لفظ مطلق، ثم قيده مرة، ثم قيده مرة ثانية بخلاف التقييد الأول، فما الحكم؟ الجواب يختلف باختلاف اتحاد السبب، أو اختلافه، فيكون الأمر على صورتين: الصورة الأولى: أن يتحد السبب في الإطلاق، والقيدين مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعاً إحداهن بالتراب "، وروي في حديث آخر: " أولاهن بالتراب ": وروي في حديث آخر: " أخراهن بالتراب ". فالحكم في هذه الصورة: أن يبقى المطلق على إطلاقه، ويتعارض المقيدان؛ لأن التقييد في هذا متفق عليه، وليس إلحاقه بأحدهما أوْلى من إلحاقه بالآخر، فيبقى على إطلاقه. الصورة الثانية: أن يختلف السبب مثل: إطلاقه في قضاء رمضان بقوله تعالى: (فعدة من أيام أُخر) من غير اشتراط التتابع والتفريق، وقيد صوم التمتع بالتفريق، حيث قال تعالى: (فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ) ، وقيد صوم كفارة الظهار بالتتابع بقوله تعالى: (فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ) ، فالحكم في هذه الصورة: أن المطلق يقيد بالمقيد إذا دلَّ عليه قياس، أو دليل آخر، فيحمل على ما كان القياس عليه أولى، أو على ما كان دليل الحمل عليه أقوى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1715 أي: أن قضاء رمضان المطلق يحمل على الأقوى شبها به من صوم التمتع المفرق، أو صوم كفارة الظهار المتتابع، وإن لم يكن هناك تشابه بين المطلق وبين أحد هذين القيدين، فإنه يبقى على إطلاقه فيخير الإنسان في قضاء رمضان بين التتابع، والتفريق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1716 الفصل الرابع عشر في المنطوق والمفهوم اعلم أن اللفظ باعتبار طريق فهم دلالته على المعنى والحكم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: المنطوق. القسم الثاني: المفهوم. وإليك بيان ذلك في المبحثين التاليين: المبحث الأول: في المنطوق. المبحث الثاني: في المفهوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1717 المبحث الأول في المنطوق ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: تعريفه. المطلب الثاني: أقسامه: " منطوق صريح "، و "منطوق غير صريح ". المطلب الثالث: أقسام المنطوق غير الصريح: القسم الأول: دلالة الاقتضاء. القسم الثاني: دلالة الإيماء. القسم الثالث: دلالة الإشارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1719 المطلب الأول تعريف المنطوق المنطوق في اللغة هو: الملفوظ به. واصطلاحا هو: ما دلَّ عليه اللفظ في محل النطق. أي: أن يكون حكماً للمذكور وحالاً من أحواله، سواء ذكر ذلك الحكم ونطق به أو لا، مثل: وجوب الزكاة في الغنم السائمة الذي دلَّ عليه منطوق قوله عليه السلام: "في سائمة الغنم الزكاة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1721 المطلب الثاني أقسام المنطوق ينقسم المنطوق إلى قسمين: القسم الأول: منطوق صريح، وهو: ما وضع اللفظ له فيدل اللفظ عليه بالمطابقة أو التضمن، أي: أن المنطوق الصريح هو دلالة اللفظ على الحكم بطريق المطابقة، أو التضمن؛ حيث إن اللفظ قد وضع له. مثاله: قوله تعالى: (وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا) ، حيث دلَّ اللفظ بمنطوقه الصريح على نفي المماثلة بين البيع والربا، فالبيع جائز، والربا حرام، وهذا القسم يسميه الحنفية " عبارة النص "، أو دلالة العبارة، ويقصدون بها: دلالة اللفظ على المعنى المقصود منه الذي سيق له. القسم الثاني: منطوق غير صريح، وهو: ما لم يوضع اللفظ له، بل يلزم مما وضع له. أي؛ أن المنطوق غير الصريح هو: دلالة اللفظ على الحكم بطريق الالتزام؛ إذ أن اللفظ مستلزم لذلك المعنى والحكم، فاللفظ - هنا - لم يوضع للحكم، ولكن الحكم فيه لازم للمعنى الذي وضع له ذلك اللفظ، فمثلاً قوله تعالى: (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) ، فالحكم المنطوق به بالصراحة هو: أن نفقة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1722 الوالدات من رزق وكسوة واجبة على الآباء، فهذا هو المتبادر من ظاهر اللفظ، وهذا هو ما سيقت الآية لأجله. ولكن الآية دلَّت بالالتزام على أن النسب يكون للأب، لا للأم، وعلى أن نفقة الولد على الأب، دون الأم، فإن " اللام " لم يوضع لإفادة هذين الحكمين، ولكن كل منهما لازم للحكم المنصوص عليه في الآية. والالتزام معتبر في المنطوق غير الصريح، كما هو رأي كثير من العلماء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1723 المطلب الثالث أقسام المنطوق غير الصريح ينقسم المنطوق غير الصريح إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: دلالة الاقتضاء. القسم الثاني: دلالة الإيماء. القسم الثالث: دلالة الإشارة. ووجه الحصر في انقسام المنطوق غير الصريح إلى هذه الأقسام الثلاثة هو: أن المدلول عليه بالالتزام إما أن يكون مقصوداً للمتكلم من اللفظ، أو لا يكون مقصوداً له. فإن كان الأول - وهو كونه مقصوداً للمتكلم - فذلك بحكم الاستقراء قسمان: أحدهما: أن يتوقف على المدلول صدق الكلام، أو صحته عقلاً أو شرعاً، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الاقتضاء. ثانيهما: أن لا يتوقف عليه ذلك، فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة إيماء. وإن كان الثاني - وهو: أن لا يكون مقصوداً للمتكلم - فدلالة اللفظ عليه تسمى دلالة الإشارة، وإليك بيان هذه الأقسام الثلاثة فيما يلي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1724 القسم الأول دلالة الاقتضاء ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: تعريف دلالة الاقتضاء. المسألة الثانية: أنواع المقتضَى - بفتح الضاد - المسألة الثالثة: أركان الاقتضاء. المسألة الرابعة: هل للمقتضى عموم؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1725 المسألة الأولى: تعريف دلالة الاقتضاء: دلالة الاقتضاء هي: دلالة اللفظ على معنى لازم مقصود للمتكلم يتوقف عليه صدق الكلام، أو صحته العقلية، أو صحته الشرعية. وقيل: هي: ما كان المدلول فيه مضمراً إما لضرورة صدق المتكلم وإما لصحة وقوع الملفوظ به. أي: أن المدلول فيه مضمر، ولم ينطق به، ولكن يكون من ضرورة اللفظ. *** المسألة الثانية: أنواع المقتضَى - بفتح الضاد -: المعنى الزائد الذي يستدعيه النص، والذي يتوقف صدف الكلام أو صحته العقلية أو الشرعية على تقديره ينقسم إلى ثلاثة أنواع: النوع الأول: ما يتوقف عليه صدق الكلام. النوع الثاني: ما يتوقف عليه صحة الكلام شرعاً. النوع الثالث: ما يتوقف عليه صحة الكلام عقلا. وإليك بيان كل نوع مما سبق مع الأمثلة فأقول: النوع الأول، وهو: ما يتوقف عليه صدق الكلام، أي: ما وجب تقديره ضرورة صدق الكلام. فلولا تقديره مقدما لكان الكلام كذبا، ومخالفاً للواقع والحقيقة. مثال ذلك: قوله عليه الصلاة والسلام: " إن اللَّه رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه "، فإن ظاهر هذا يدل على أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1727 كلاً من الخطأ والنسيان قد وضعا عن الأُمَّة، وأنهما لا يقعان فيها، وهذا لا يطابق الواقع؛ حيث إنه يقع من الأمَّة الخطأ والنسيان والإكراه؛ لأن الأُمَّة ليست معصومة، والرسول لا يخبر إلا صدقاً، وعلى هذا لا بد - لأجل أن يكون الكلام صدقاً - من تقدير محذوف، فتعئن أن نقدِّر شيئاً زائداً - عن الذي استفدناه عن طريق عبارة النص - وهو: " الإثم " فيكون تقدير الكلام بعد هذا: "رُفع عن أمتي إثم الخطأ، وإثم النسيان، وإثم ما استكرهوا عليه ". مثال آخر: قوله عليه الصلاة والسلام: " لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل "، فإن ظاهر هذا النص يدل على نفي وجود ذات الصيام إلا بعزم ونية، وهذا لا يطابق الواقع؛ لأن ذات الصيام وصورته قد يقع بدون نية، فلا بد لصدق هذا الكلام من تقدير شيء زائد وهو: " صحيح "، فيكون تقدير الكلام بعد الزيادة: " لا صيام صحيح لمن لم يجمع الصيام من الليل ". النوع الثاني: ما توقف عليه صحة الكلام شرعا. أي:. ما وجب تقديره ضرورة تصحيح الكلام ص شرعا، فيمتنع وجود الملفوظ شرعا بدون ذلك المقتضى. مثال ذلك: قوله تعالى: (فمن كلان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر) ، فظاهر هذا يدل على أن المسافر يصوم عدة من أيام أخر، سواء صام في سفره أو لم يصم، ولكن الشرع دلَّ على أن المسافر إذا أفطَر في سفره فعليه القضاء في أيام أخر، أما إذا صام في سفره فلا موجب للقضاء عليه، فيكون التقدير - لأجل تصحيح الكلام شرعا - " أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر ". مثال آخر: قول الإنسان لمن يملك عبداً: " اعتق عبدك عني وعلي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1728 ثمنه "، فهذا تصرف قولي، فما دلَّ بعبارة نصه لا يصح شرعا إلا بتقدير بيع سابق؛ إذ لا يجوز شرعاً عتق عبد الغير بدون ولاية أو وكالة. وبناء عليه: فإن صحة هذا التصرف شرعا تتوقف على ثبوت ملك مريد العتق أو لا، والشيء الذي يتصور ناقلاً لملكية العبد إلى من أراد عتقه - هنا - هو " البيع ". فهذا هو المعنى الذي قصده مريد العتق، ولو لم ينطق به؛ لأنه قد فهم من مضمون قوله بدليل ذكره للثمن، فصار تقدير الكلام: " بع عبدك هذا عليّ بألف ريال - مثلاً - وكن وكيلاً عني في عتقه ". فالمقتضى - هنا - هو " البيع "، وقدر مقدما ليستقيم ويصح التصرف. النوع الثالث: ما توقف عليه صحة الكلام عقلاً. أي: ما وجب تقديره ضرورة لتصحيح الكلام من جهة العقل، فيمتنع وجود الملفوظ عقلاً بدون ذلك المقتضى. مثاله: قوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) ، فإن العقل يمنع من إضافة التحريم إلى ذات الأمهات، فوجب إضمار فعل يتعلق به الحكم - وهو هنا التحريم -، فوجب إضمار " الوطء "، نظراً إلى أن العقل يقتضيه، فيكون التقدير: " حرم عليكم وطء أمهاتكم ". مثال آخر: قوله تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) ، فإن العقل يمنع من إضافة الحكم إلى ذات الميتة، فوجب عقلاً إضمار فعل يتعلق به التحريم، وهو هنا " الأكل ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1729 والأمثلة على ذلكْ كثيرة كقولك: " حرمت عليك هذه الدار " والمقصود: دخول الدار، كذلك قولك: " حرمت عليك هذا الطعام، أي: أكله، وهكذا. *** المسألة الثالثة: أركان الاقتضاء: لقد علمت من تعويف الاقتضاء، وأقسامه: أن دلالة الاقتضاء تتكون مما يلي: 1 - المقتضِي - بكسر الضاد - وهو: النص، أو الكلام الذي يستلزم معنى مقدراً ومقدما على المنطوق بلفظه ضرورة استقامة معناه، ويسمى الحامل على التقدير والزيادة. 2 - المقتضَى - بفتح الضاد - وهو: المعنى المزيد المقدر الذي طلبه واستلزمه - ضرورة - كلام الشارع، أو المتكلم لتصحيحه، وليستقيم معناه شرعا أو عقلاً. 3 - الاقتضاء، وهو: النسبة بينهما، أي: أن استدعاء المنطوق نفسه لذلك المقدر لحاجته إليه، ولعدم استقامته إلا بذلك التقدير والزيادة يسمى اقتضاء. فإذا توفرت هذه الأمور في الكلام المراد استخراج حكم شرعي منه يكون ما ثبت به حكم المقتضى. وإن شئت المزيد عن الكلام عن " دلالة الاقتضاء " فراجع كتابي: " دلالة الألفاظ على الأحكام عند الحنفية وأثرها الفقهي ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1730 المسألة الرابعة: هل للمقتضى عموم؟ إذا كان المقتضى عاما يشمل أفراداً كثيرين، ولم يقم دليل على تعيين واحد منها، فهل يقدر ما يعم تلك الأفراد، أو يقدر واحد منها؛ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا عموم له. وهو مذهب الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، والآمدي. وهو الحق عندي؛ لأن ثبوت المقتضى كان للضرورة حتى إذا كان الكلام مفيداً للحكم بدونه لم يصح إثباته لغة ولا شرعا. وإذا كان للضرورة فإن الضرورة تقدر بقدرها، ولا حاجة لإثبات العموم فيه ما دام الكلام مفيداً بدونه، ويبقى فيما وراء موضع الضرورة - وهو استقامة الكلام - فلا يثبت فيه العموم؛ قياسا على أكل الميتة، فإنه لما أبيح للضرورة قدر بقدرها، وهو سد الرمق فقط، وما وراء ذلك من الحمل والتناول حتى الشبع: فلا يثبت حكم الإباحة فيه. المذهب الثاني: أن المقتضى له عموم.. وهو مذهب بعض الشافعية، ونسب إلى الإمام الشافعي، وعليه كثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المقتضى بمنزلة المنصوص في ثبوت الحكم، حتى كان الحكم الثابت به بمنزلة الثابت بالنص لا بالقياس، فكذلك في إثبات صفة العموم فيه، فيجعل كالمنصوص، فيجوز فيه العموم كما يجوز في النص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1731 جوابه: إن المقتضى تبع للمقتضي، فإنه شرطه ليكون مفيداً، وشرط الشيء يكون تبعاً، فلو جعل المقتضى كالمنصوص لخرج من أن يكون تبعا، والعموم حكم صيغة النص خاصة، فلا يجوز إثباته في المقتضى. الدليل الثاني: أن اللفظ في مثل قوله: " رفغ عن أمتي الخطأ والنسيان " دال على رفع ذات الخطأ، وهذا متعذر، فوجا تقدير ما هو أقرب إلى رفع الذات، وهو: رفع جميع الأحكام؛ لأنه إذا تعذر نفي الحقيقة وجب أن يصار إلى ما هو أقرب إلى الحقيقة، وهو هنا جميع الأحكام؛ لأن رفعها يجعل الحقيقة كالعدم، فكأن الذات قد ارتفعت حقيقة. جوابه: إن إضمار جميع الأحكام يلزم منه تكثير مخالفة الدليل المقتضي للأحكام، وهو وجود الخطأ والنسيان. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث ترتب على ذلك اختلافهم في بعض الفروع الفقهية، ومنها: أن من تكلم في صلاته ناسيا، أو مخطئا، أو ساهياً، بطلت صلاته ولا إثم عليه، وعليه الإعادة، وهو قول أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن المقتضى لا عموم له - حيث قالوا: إن قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان " لا عموم له، فيكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1732 المرفوع حكماً واحداً وهو: " الإثم " المقتضي للعقوبة في الآخرة، ولم يرفع الحكم الدنيوي وهو: الإعادة. أما على قول أصحاب المذهب الثاني - وهو: أن للمقتضى عموما - فإن من تكلم في صلاته ناسيا أو مخطئاً فلا تبطل صلاته إذا كان الكلام قليلاً، واحتجوا بعموم المقتضى في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ... "، حيث قال هؤلاء: إن الحكم الذي عفي عنه عام شامل للحكم الدنيوي، وهو عدم البطلان، وللحكم الأخروي وهو: عدم الإثم والمؤاخذة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1733 القسم الثاني دلالة الإيماء وهي دلالة اللفظ على لازم مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته عقلاً، أو شرعا، في حين أن الحكم المقترن بوصف لو لم يكن للتعليل لكان اقترانه به غير مقبول، ولا مستساغ. فذكر الحكم مقروناً بوصف مناسب يفهم منه أن عِلَّة ذلك الحكم هو ذلك الوصف. مثل قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) فإن الحكم - وهو قطع يد السارق - رتبه الشارع على السرقة، فالآية قد أومأت إلى عِلَّة قطع اليد، وهي: السرقة. مثال آخر: قوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم) فإنه إيماء إلى أنهم ما صاروا في النعيم إلا لعِلَّة وهي: برهم. وكذلك قوله تعالى: (وإن الفجار لفي جحيم) فإنه إيماء إلى أنهم ما صاروا في الجحيم إلا لفجورهم. وكقولك: " أكرم العلماء وأهن الفساق " فيه إيماء إلى أن إكرام العلماء لعلة وهي: العلم، وأن إهانة الفساق لعلة وهي: الفسق، ويقاس على ذلك كل ما خرج مخرج المدح والذم. تنبيه: هذا القسم قد سماه بعضهم: دلالة الإيماء، وسماه بعض آخر بالتنبيه، وبعضهم سماه بفحوى الكلام، وبعضهم سماه بلحن الكلام. تنبيه آخر: دلالة الإيماء يتنوع إلى ستة أنواع، وهو من مسالك العلَّة الاجتهادية، وسيأتي الكلام عنها في باب القياس بالتفصيل إن شاء اللَّه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1734 القسم الثالث دلالة الإشارة وهي: دلالة اللفظ على لازم غير مقصود للمتكلم لا يتوقف عليه صدق الكلام ولا صحته، فالحكم قد أخذناه - هنا - من إشارة اللفظ، لا من اللفظ نفسه. ويعني به: ما يتبع اللفظ من غير تجريد قصد إليه، فكما أن المتكلم قد يفهم بإشارته وحركته في أثناء كلامه ما لا يدل عليه نفس اللفظ فيسمى إشارة، فكذلك قد يتبع اللفظ ما لم يقصد به ويُبنى عليه. مثالهْ قوله تعالى ت (وحمله وفصاله ثلاثون شهراً) ، فإن هذا يدل مع قوله: (وفصاله في عامين) على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهذه دلالة إشارة. وهذا الحكم غير مقصود من لفظ الآيتين، بل المقصود في الآية الأولى هو: حق الوالدة وما تقاسيه من الآلام في الحمل وفي الفصال، والمقصود في الثانية -: بيان أكثر مدة الفصال. ولكن لزم منهما: أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهذه دلالة إشا رة. مثال آخر: قوله تعالى: (فالآن باشروهن) ، فإنه أباح المباشرة إلى طلوع الفجر بقوله: (حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود) ، وكان بيان ذلك هو: المقصود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1735 ومع ذلك فقد لزم منه: أن من جامع في ليل رمضان وأصبح جنبة لم يفسد صومه؛ لأن من جامع في آخر الليل لا بد من تأخر غسله إلى النهار، فلو كان ذلك مما يفسد صومه لما أبيح الجماع في آخر جزء من الليل، فهذا الحكم قد أخذ من دلالة الإشارة. إذن يكون المنطوق غير الصريح ثلاثة أقسام: اقتضاء النص، وإيماء النص، وإشارة النص، وهذا منهج الجمهور في تقسيمه، أما الحنفية فلا يخالفونهم في هذه الأسماء وأمثلتها إلا أنهم يخالفونهم في أصل التقسيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1736 المبحث الثاني في المفهوم وهو يشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف المفهوم، وبيان أقسامه. المطلب الثاني: في مفهوم الموافقة. المطلب الثالث: في مفهوم المخالفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1737 المطلب الأول تعريف المفهوم، وبيان قسميه المفهوم لغة: ما يستفاد من اللفظ، وهو اسم مفعول من الفهم، وهو: إدراك معنى الكلام، فالمفهوم - إذاً -: ما يدرك من الكلام ويستفاد منه. والمفهوم اصطلاحا هو: معنى يستفاد من اللفظ في غير محل النطق. فقولنا: " معنى يستفاد من اللفظ " جنس يتناول المنطوق والمفهوم. وقولنا: " في غير محل النطق " يخرج المنطوق بقسميه: المنطوق الصريح، والمنطوق غير الصريح، فيختص التعريف للمفهوم. والمفهوم ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مفهوم الموافقة. القسم الثاني: مفهوم المخالفة. وإليك بيان كل قسم فيما يلي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1739 المطلب الثاني في مفهوم الموافقة ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: في تعريف مفهوم الموافقة. المسألة الثانية: في أسماء مفهوم الموافقة. المسألة الثالثة: في شروط مفهوم الموافقة. المسألة الرابعة: هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية أو دلالة لفظية؟ المسألة الخامسة: هل مفهوم الموافقة له عموم؟ المسألة السادسة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث كونه أوْلى أو مساوبا. المسألة السابعة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث القطعية والظنية. المسألة الثامنة: حجية مفهوم الموافقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1741 المسالة الأولى: في ثعريف مفهوم الموافقة: مفهوم الموافقة هو: ما يكون مدلول اللفظ في محل السكوت موافقا لمدلوله في محل النطق. أو تقول: هو دلالة اللفظ على ثبوت حكم المنطوق به للمسكوت عنه وموافقته له نفيا وإثباتا. مثل قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) فالمسكوت عنه - وهو تحريم ضرب الوالدين، وشتمهما - قد دلَّ عليه اللفظ المنطوق به وهو: تحريم التأفيف. فتقول: إذا كان مجرد التأفيف قد حرم، فمن باب أوْلى أن يحرم ما لم ينطق به الشارع وهو: الضرب وكل ما هو أشد من التأفيف. المسألة الثانية: أسماء مفهوم الموافقة: الاسم الأول: مفهوم الموافقة، وهذا عند الشافعية وجمهور العلماء، وسموه بهذا، لأن مدلول اللفظ في محل السكوت موافق لمدلوله في النطق. الاسم الثاني: دلالة النص، وهذا عند الحنفية، ويقصدون بهذا ما ثبت بمعنى النص لا اجتهاداً ولا استنباطاً. الاسم الثالث: دلالة الدلالة، وهذا عند بعض العلماء، ووجه ذلك: أن الحكم فيها يؤخذ من معنى النص، لا من لفظه. الاسم الرابع: مفهوم الخطاب، وهذا عند ابن فورك، وأبي يعلى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1743 الاسم الخامس: القياس الجلي، وهذا عند الإمام الشافعي، ووجه ذلك: أنه إلحاق المسكوت بالمنطوق لمعنى يقتضي ذلك. الاسم السادس: دلالة التنبيه الأولى. الاسم السابع: فحوى اللفظ، ويعبر عن ذلك بعضهم بفحوى الخطاب، ووجه ذلك: أن الحكم الذي يثبت بمنطوقه يثبت لغير المذكور بروحه، ومعناه، ومعقوله. الاسم الثامن: لحن الخطاب، ويعبر بعضهم عنه بقوله: " لحن القول ". واختلف العلماء في " الفحوى "، و " اللحن " هل هما مترادفان أو بينهما فرق؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنهما اسمان مترادفان. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الصحيح عندي؛ لأن فحوى الكلام يقصد به معناه، وهذا هو اللحن، وهذا مستفاد من كلام العرب، يقولون: " عرفت ذلك في لحن كلامه " أي: فحواه، وفيما يصرفه إليه من غير إفصاح به، ومنه قوله تعالى: (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) أي: في مفهومه، وما يظهر لك بالفطنة. ويقول العريب: " تلاحن الرجلان " إذا تكلم كل واحد منهما بما يفهمه عنه صاحبه، وقال الشاعر مالك بن أسماء الفزاري: منطق صائب وتلحن أحيا ... ناً وأحلى الحديث ما كان لحنا أي: ما كان مفهوماً فحواه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1744 ومراد الشاعر: أن جاريته تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها، فتزيله عن جهته، وذلك لفطنتها وذكائها. المذهب الثاني: أنهما متباينان، أي: أن " الفحوى " غير "اللحن ". واختلف أصحاب هذا المذهب في الفرق بينهما على أقوال: فقيل: فحوى الخطاب هو: ما كان المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، أما لحن الخطاب فهو: ما كان المسكوت عنه مساويا للمنطوق به، وهذا قول تاج الدين ابن السبكي وتبعه بعض الأصوليين. وقيل: إن الفحوى: ما نبه عليه اللفظ، أما اللحن فهو: ما لاح في اللفظ. جوابه: أنه لا دليل على هذا التفريق، وما لا دليل عليه، لا يُعتد به. *** المسألة الثالثة: شروط مفهوم الموافقة: الشرط الأول: وجود المعنى المشترك بين المنطوق والمسكوت، بأن عرف المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه، وعرف وجوده في المسكوت عنه بحيث لا يكون هذا المعنى المقصود أقل مناسبة في المسكوت عنه من مناسبته للمنطوق به. فمثلاً قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) قد عرفنا أن المقصود من تحريم التأفيف هو: حماية الوالدين من الأذى وكفه عنهما، فيثبت هذا تحريم الضرب، والشتم، والسب، والقتل؛ لأن هذه الأمور الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1745 أشد إيذاء من مجرد التأفيف، ولولا هذه المعرفة لما لزم من تحريم التأفيف تحريم الضرب والشتم والقتل وغيرها من أنواع الأذى؛ لأنه قد يقول الملك للجلاد إذا أمره بقتل منازع له في الملك أو غير ذلك: " لا تقل له أف ولكن اقتله "، لكون القتل أشد في دفع محذور المنازعة من التأفيف. الشرط الثاني: أن يكون المسكوت أوْلى بالحكم من المنطوق به، أو مساوياً له، ومثال الأول: تحريم ضرب الوالدين أخذاً من النهي عن التأفيف لهما، وقد سبق، ومثال الثاني: تحريم إحراق مال اليتيم على أكله المنهي عنه بقوله تعالى: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً) ، فإن إحراقه مساوي لأكله ولا فرق. ولقد اختلف العلماء في هذا الشرط، أي: هل يشترط في مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به أو لا يشترط ذلك، وتكفي المساواة؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في مفهوم الموافقة كون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق، بل تكفي المساواة بينهما: بأن يكون وجود مناط الحكم على قدر واحد من التوافر في المنطوق والمسكوت، فإن كان المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، فهذا من باب أوْلى. لكن يشترط فيه: أن يكون المعنى في المسكوت عنه أقل مناسبة للحكم عن المنطوق به. وهذا مذهب الحنفية، وبعض الشافعية كالغزالي، والبيضاوي. وهو الحق عندي؛ لأنا نعلم قطعا أنه ربما يفهم ثبوت الحكم في المسكوت عنه من ثبوته للمنطوق به مع عدم أولويته بالحكم، وذلك الفهم مناط الحكم لغة من غير حاجة إلى إعمال الذهن. في البحث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1746 عن هذا المناط، كما في تحريم إحراق مال اليتيم، أو تبذيره، فإنا قلنا ذلك أخذاً من تحريم أكله ظلماً، حيث قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) . إذن: لا وجه لترك هذه الدلالة الدالة على ثبوت الحكم للمسكوت كفهم ثبوته للمنطوق بمجرد فهم اللغة، بل لا بد من إعمالها. وكل ما في الأمر أن الاحتجاج بمفهوم الموافقة الأولوي أقوى من الاحتجاج بالمفهوم المساوي، ويشتركان في أن كلًّا منهما يفهم من معنى النص بمجرد فهم اللغة. لذلك جعلنا تعريف مفهوم المرافقة شاملاً للأولوي والمساوي. المذهب الثاني: أنه يشترط في مفهوم الموافقة: كون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق به، ولا يكتفي بمجرد التساوي في الحكم بين المنطوق والمفهوم. وهو مذهب جمهور العلماء. دليل هذا المذهب: أنه إذا كان المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق أمكن فهم اتحادهما في الحكم جزما؛ لأنه يبعد أن يكون هناك احتمال للتعبد في ثبوت الحكم للمنطوق، أما في حالة المساواة فإنه يرد احتمال التعبد في ثبوت الحكم للمنطوق، وهذا الاحتمال يمنع من إلحاق المسكوت بالمنطوق، فإن ألحق به مع قيام هذا الاحتمال: كان إلحاقاً بطريق القياس، لا بطريق المفهوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1747 جوابه: إن هذا الدليل نقل للمسألة عن محل النزاع، بيانه: أن محل النزاع هو إلحاق المسكوت بالمنطوق لاشتراكهما في معنى يدرك بمجرد معرفة اللغة، وكون المناط الذي يجمع بين المنطوق والمسكوت مما يدرك لغة ينفي احتمال التعبد في ثبوت الحكم للمنطوف. بيان نوع الخلاف: لقد اختلف في الخلاف هنا هل هو معنوي، أو لفظي على قولين: القول الأول: أن الخلاف معنوي، وهو الحق؛ حيث إنه ترتب على هذا الخلاف ما يلي: 1 - أنه بناء على المذهب الأول: فإن مفهوم الموافقة ينقسم إلى نوعين وهما: مفهوم الموافقة الأولوي، ومفهوم الموافقة المساوي، ولا يخفى ما في ذلك من سعة الاستدلال بالنص. أما بناء على المذهب الثاني، فإن مفهوم الموافقة نوع واحد، وهو: مفهوم الموافقة الأولوي، ولا يخفى ما في ذلك من التضييق بالاستدلال بالنصوص. 2 - أنه بناء على المذهب الأول - وهو: عدم اشتراط الأولوية - فإن ثبوت حكم المنطوق للمسكوت في حال المساواة إنما يكون بطريق النص. أما بناء على المذهب الثاني - وهو: اشتراط الأولوية - فإن ثبوت حكم المنطوق للمسكوت عنه في حال المساواة إنما كان بطريق القياس، لا بطريق النص. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1748 وفرق بين ما تجري عليه أحكام القياس، وبين ما يأخذ حكم المنصوص. فإن ما يؤخذ عن طريق النص أقوى مما يؤخذ عن طريق القياس. القول الثاني: أن الخلاف لفظي يرجع إلى مجرد التسمية؛ حيث إنهم قد اتفقوا على المعنى، واختلفوا في اللفظ؛ فالمشترطون للأولوية - وهم أصحاب المذهب الثاني - جعلوها شرطا للتسمية بمفهوم الموافقة، وأن المفهوم المساوي لا يسمى بالموافقة وإن كان مثل الأولوي من ناحية الاحتجاج به عن طريق القياس. جوابه: أنا نسلم أنه مثل الأولوي من حيث الاحتجاج به، ولكن يختلفان في المعنى: فالأولوي يحتج به عن طريق اللفظ والنص؛ أما المساوي فإنه يحتج به عن طريق القياس، وفرق بين ما تجري عليه أحكام القياس، وما تجري عليه أحكام النص. فالنص ينسخ ويُنسخ به، أما الكتياس فلا ينسخ ولا ينسخ به. والقياس أضعف في الدلالة من الدلالة المأخوذة من النص، كما سبق بيانه أكثر من مرة. المسألة الرابعة: هل دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية أو دلالة لفظية؟ اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان: المذهب الأول: أن دلالة مفهوم الموافقة دلالة لفظية معنوية. وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر المالكية كابن الحاجب، والقرافي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1749 وبعض الشافعية كالآمدي، وتاج الدين ابن السبكي، وكثير من الحنابلة كأبي يعلى. وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن التنبيه بالأدنى على الأعلى، أو بأحد المتساويين على الآخر أسلوب عربي فصيح تستعمله العرب للمبالغة في تأكيد الحكم في محل السكوت، وهو أفصح عندهم من التصريح بحكم المسكوت عنه. فمثلاً إذا قصدوا كون أحد الفرسين سابقا للآخر قالوا: " هذا الفرس لا يلحق غبار هذا الفرس "، وكان هذا التعبير عندهم أبلغ من قولهم: " هذا الفرس سابق لهذا الفرس ". الدليل الثاني: أن الحكم الثابت بمفهوم الموافقة مستند في فهمه إلى المناط اللغوي، وهو المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه، فلم يتوقف فهمه على الاجتهاد والاستنباط والتأمل الدقيق، بل إنه عند سماع اللفظ والنص يتنبه الذهن من العارف باللغة، فينتقل مباشرة من المنطوق إلى المسكوت انتقالا ذهنيا سريعا بدون توقف على مقدمات شرعية، أو استنتاجية. المذهب الثاني: أن دلالة مفهوم الموافقة من قبيل القياس، وهو ما يُسمى بالقياس الجلي. وهو مذهب الإمام الشافعي، وأكثر الشافعية، ومنهم: إمام الحرمين، وأبو إسحاق الشيرازي، وفخر الدين الرازي، وبعض الحنفية، وبعض الحنابلة كأبي الحسن الجزري. دليل هذا المذهب: أن مفهوم الموافقة يدل على إلحاق مسكوت عنه بمنطوق به؛ لاشتراكهما في عِلَّة الحكم فانطبق عليه حد القياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1750 أي: أنا لا نلحق المسكوت بالمنطوق إلا إذا عرفنا المعنى الذي سيق الكلام لأجله، فإذا سبق إلى الفهم هذا المعنى، ومقصد الشارع منه من غير تأمل طويل، فإنا نلحق المسكوت بالمنطوق. أما إذا لم نعرف ذلك المعنى فلا يجوز ذلك الإلحاق إجماعا، فمثلاً لو لم نعرف المعنى الذي سيق له الكلام في قوله تعالى: (فلا تقل لهما أف) من كف الأذى عن الوالدين لما قضينا بتحريم الشتم والضرب والقتل، فهنا قد اجتمعت أركان القياس، حيث إن الأصل هو: التأفيف، والفرع: الضرب، والعلَّة: الإيذاء في كل، والحكم: تحريم كل من القتل والشتم وغيرهاً من أنواع الأذى، وهذا هو بعينه القياس، فتكون دلالة مفهوم الموافقة قياسية. جوابه: إنكم جعلتم دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية، وهذا لا نسلمه؛ لوجود الفرق بينهما من وجوه: االوجه الأول: أن المعنى المشترك بين المنطوق والمسكوت شرط لغوي لدلالة المنطوق على المسكوت، فلا يلزم من وجود هذا المعنى أن تكون الدلالة في محل النزاع دلالة قياسية، لأن قياس الفرع على الأصل من حيث المعقول، لا من حيث اللغة، وهو بخلاف مفهوم الموافقة كما قلنا. الوجه الثاني: أن الدلالة في مفهوم الموافقة ثابتة قبل استعمال القياس، فإن كل أحد يعرف اللغة: فإنه يفهم من قوله: " لا تقل له أف "، لا تضربه، ولا تشتمه، ولا تقتله، ونحو ذلك من أنواع الأذى، سواء علم شرعية القياس أو لا. الوجه الثالث: أن الأصل في القياس أنه لا يجوز أن يكون جزءاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1751 من الفرع ومندرجاً تحته بالإجماع، بخلاف مفهوم الموافقة، فإنه قد يقع ذلك مثاله قوله تعالى: (فمن يعمل مثفال ذرة خيراً يره) ، فإن ذلك يدل بمفهوم الموافقة على أن ما زاد على الذرة حكمه حكم الذرة والذرة جزء من هذه الزيادة. الوجه الرابع: أن الفرع في القياس يشترط فيه أن يكون أدنى من الأصل، أما في مفهوم الموافقة فإنه يشترط أن يكون مساوياً للأصل، أو أعلى منه. بيان نوع الخلاف: لقد اختلف في نوع الخلاف هل هو لفظي أو معنوي على قولين: القول الأول: أن الخلاف معنوي، وهو الحق عندي؛ لأنه قد ترت على هذا الخلاف خلاف في بعض المسائل، ومنها: 1 - من يرى أن دلالة مفهوم الموافقة لفظية قد تعامل مع ذلك مثل ما لفعل مع الألفاظ: من أن اللفظ ينسخ وينسخ به، وهو أقوى من القياس. أما من يرى أن دلالة مفهوم الموافقة قياسية فقد عامل ذلك مثل ما يفعل مع القياس: من أنه لا ينسخ، ولا ينسخ به، وهو أضعف من دلالة الألفاظ. فلو قال قائل: هل يجوز النسخ بمفهوم الموافقة؟ جوابه: إن الخلاف مبني على الخلاف في هذه المسألة: فمن قال: إن دلالة مفهوم الموافقة لفظية: قال يجوز النسخ به. ومن قال: إن دلالة مفهوم الموافقة قياسية: قال: لا يجوز النسخ به، وقد سبق بيان ذلك في النسخ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1752 2 - عند تعارض مفهوم الموافقة مع القياس فإن مفهوم الموافقة يقدم على القياس عند من يرى أن دلالته لفظية، فيكون الحكم الذي استفدناه عن طريق مفهوم الموافقة مقدما على الحكم الذي استفدناه عن طريق القياس. 3 - أن مفهوم الموافقة تثبت به العقوبات كالحدود، والقصاص، والكفارات عند أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن دلالة مفهوم الموافقة لفظية؛ وذلك لأن هذه الدلالة لفظية خلت عن الشبهة في دلالتها، وهذا عند الحنفية. أما إذا كانت دلالة مفهوم الموافقة دلالة قياسية، فلا يُعتبر مفهوم الموافقة طريقا لإثبات ما يندري بالشبهات من الحدود والكفارات؛ حيث إنها مقدرات، ولا مدخل للعقل أو الاجتهاد بالرأي في المقدرات، هذا أيضاً عند الحنفية. أما عند الجمهور، فإن العقوبات من حدود وكفارات تثبت بمفهوم الموافقة، سواء كانت دلالته دلالة لفظية، أو من قبيل القياس، وهذا قد بينته بالتفصيل في كتابي " إثبات العقوبات بالقياس " فارجع إليه إن شئت، وسيأتي تفصيله في باب القياس إن شاء اللَّه تعالى. القول الثاني: إن الخلاف لفظي لا ثمرة له، وهو اختيار إمام الحرمين، والغزالي، والتفتازاني، وأمير بادشاه. دليل هذا القول: أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على اعتبار هذا النوع من الدلالة، واتفقوا على الحكم، إلا أن أصحاب المذهب الأول جعلوه من الدلالة اللفظية، وأصحاب المذهب الثاني جعلوه من قبيل القياس الجلي، فالخلاف اعتباري اختلفت أنظار الفريقين إليه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1753 فمن نظر إلى المعنى الذي هو مناط الحكم، والذي كان واسطة إلحاق المسكوت بالمنطوق به يدرك بمجرد فهم اللغة دون حاجة إلى استنباط واجتهاد: اعتبره من الدلالة اللفظية، وسماه مفهوم موافقة أو دلالة نص، وهو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الأول. ومن نظر إلى إلحاق المسكوت بالمنطوق على أنه إلحاق فرع بأصل؛ لاشتراكهما في عِلَّة جامعة سنهما: اعتبره من قبيل القياس الجلي، وهو ما ذهب إليه أصحاب المذهب الثاني. إذن: يكون الخلاف في التسمية، لا في المعنى، فيكون الخلاف لفظياً. جوابه: أن من جعله من قبيل الدلالة اللفظية يقصدون أن مفهوم الموافقة يعامل معاملة الألفاظ من حيث إنه ينسخ ويُنسخ به، وأنه أقوى من القياس، أما من جعله من قبيل القياس، فإنهم يقصدون أن مفهوم الموافقة يعامل معاملة القياس في أحكامه، فيكون الخلاف - على هذا - خلافاً معنوياً. المسألة الخامسة: هل مفهوم الموافقة له عموم؟ اختلف القائلون: إن دلالة مفهوم الموافقة دلالة لفظية في مفهوم الموافقة هل له عموم؛ على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم الموافقة له عموم. وهو مذهب بعض الحنفية كابن الهمام، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة. وهو الحق عندي؛ لأنه يُعامل معاملة الملفوظ به، والملفوظ به قد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1754 يكون عاما، وقد يكون خاصا، لذلك تجد مفهوم الموافقة - بناء على ذلك - ينسخ وينسخ به. المذهب الثاني: أنه لا عموم لمفهوم الموافقة. وهو مذهب بعض الشافعية كالغزالي، وبعض الحنابلة، وجمهور الحنفية. دليل هذا المذهب: أن العموم من أوصاف اللفظ، ولا لفظ في مفهوم الموافقة؛ حيث إنه فحوى اللفظ ومعناه اللغوي. جوابه: أن مفهوم الموافقة هو كالملفوظ به سواء بسواء، بل قد يكون الحكم في المسكوت عنه أوْلى من الحكم في المنطوق به - كما قلنا فيما سبق، وإذا كان الأمر كذلك؛ فإنه يجري عليه ما يجري على الألفاظ. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لا ثمرة له؛ حيث لا تترتب عليه فائدة بالنظر إلى إثبات الحكم تحليلاً وتحريما: فمفهوم الموافقة يتحقق في جميع صور إيذاء الوالدين من قتل وضرب وشتم ونحو ذلك، فيكون حكمها التحريم، وذلك فهمناه من حرمة التأفيف في قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) ، ولكن بعضهم قال: أخذنا ذلك من عموم مفهوم الموافقة، والبعض الآخر يقول: أخذنا ذلك عن طريق عموم اللفظ المنطوق به. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1755 المسألة السادسة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث كونه أَوْلى أو مساوياً: لقد سبق أن قلنا: إنه لا يشترط في مفهوم الموافقة: أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق به، فيترتب على ذلك: أن مفهوم الموافقة ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: مفهوم موافقة أولوي. القسم الثاني: مفهوم موافقة مساوي. أما القسم الأول - وهو: مفهوم الموافقة الأولوي - فهو: ما كان المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق به، أي: أن المناسبة بين المسكوت عنه وبين الحكم أقوى وأشد منها بين المنطوق وبين هذا الحكم، فيكون المسكوت عنه أوْلى منه بالحكم، وهو يسمى بالتنبيه بالأدنى على الأعلى، والأمثلة على ذلك كثيرة: منها: قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) ، وقد سبق بيان ذلك، ومنها قوله تعالى: (وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا) ، فإن هذا تنبيه - وهو عدم أدائه للدينار - على الأعلى - وهو: عدم أدائه للأكثر من الدينار -، أي: إنه إذا كان لا يؤدي الدينار مع قلته، فإنه من باب أَوْلى أن لا يؤدي ما هو أكثر منه. القسم الثاني: مفهوم الموافقة المساوي، وهو: ما كان المسكوت عنه مساويا للمنطوق به في الحكم. أي: أن المناسبة بين المسكوت عنه وبين الحكم على قدر الناسبة الموجودة بين المنطوق وبين هذا الحكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1756 ومن الأمثلة على ذلك: تحريم إحراق مال اليتيم أو تبذيره؛ لأنه مساوي لأكله المحرم، وقد سبق بيان ذلك فلا داعي لتكراره. المسألة السابعة: أقسام مفهوم الموافقة من حيث القطعية والظنية: ينقسم من هذه الحيثية إلى قسمين: القسم الأول: مفهوم موافقة قطعي. القسم الثاني: مفهوم موافقة ظني. فالقسم الأول - وهو: مفهوم الموافقة القطعي - هو: ما كان فيه المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه معلوماً جزماً. أما القسم الثاني - وهو مفهوم الموافقة الظني - فهو: ما كان فيه المعنى المقصود من الحكم المنصوص عليه راجحا على غيره. وهذا التقسيم على الرأي الذي رجحناه فيما سبق، وهو عدم اشتراط كون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوق به، فهو شامل للمساوي وللأولوي. وعلى هذا يكون إلحاق المسكوت عنه بالمنطوق بطريق مفهوم الموافقة إما أن يكون قطعيا، أو ظنيا، وفي كل منهما إما أن يكون المسكوت عنه أوْلى بالحكم من المنطوق، أو مساويا له، فكان مجموع ذلك أربعة أنواع: النوع الأول: مفهوم موافقة قطعي أولوي. النوع الثاني: مفهوم موافقة قطعي مساوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1757 النوع الثالث: مفهوم موافقة ظني أولوي. النوع الثالث: مفهوم موافقة ظني مساوي. وإليك أمثلة لكل نوع من تلك الأنواع: مثال النوع الأول - وهو: مفهوم الموافقة القطعي الأولوي - قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) ، فإنه يفهم من ذلك - قطعا ومن باب أَوْلى - أن من عمل مثقال جبل خيراً أو شراً فإنه سيراه، وهذا مما لا شك فيه، ولا يتطرق إليه احتمال. مثال آخر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أخذ شبراً من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين "، فقد بين الشارع الوعيد الشديد لمن اغتصب شبراً من الأرض، فإذا كان هذا الوعيد الشديد يقع على من اغتصب هذه المساحة القليلة، فإن اغتصاب ما هو أوسع منه مساحة أشد في الوعيد، وأدخل في الظلم، وقد نبَّه بالقليل والأدنى على الكثير والأعلى، وهذا لا يتطرق إليه احتمال. مثال النوع الثاني - وهو: مفهوم الموافقة القطعي المساوي -: قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) ، فقد توعد الشارع من أكل مال اليتيم ظلماً بالوعيد الشديد، وعلمنا بطريق المفهوم: أن من أحرق مال اليتيم أو أتلفها بأي صورة من صور الإتلاف، فإن عليه ذلك الوعيد، وهذا المفهوم الموافق المسكوت عنه مساو للمنطوق به في الحكم جزماً. مثال النوع الثالث - وهو: مفهوم الموافقة الظني الأولوي - قوله - صلى الله عليه وسلم -: "أربع لا تجوز في الأضاحي: العوراء البين عورها ... ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1758 فهو نص على منع التضحية بالعوراء، وبما أن العمى عور مرتين، فإن العمياء أَوْلى بالحكم المذكور في العوراء بجامع: أن هذا العور يسبب نقص في القيمة، فالعمياء أحرى بهذا المعنى. لكن قد يقول قائل: لماذا لم نقل: إن هذا من أمثلة مفهوم الموافقة القطعي الأولوي. جوابه: أن هذا المعنى الذي من أجله منع التضحية بالعوراء لم نجزم به، بل هو يغلب على ظننا؛ حيث إن هناك احتمالاً آخر وهو: أن يكون المعنى الذي من أجله منع التضحية بالعوراء: أن العوراء مظنة الهزال والضعف والسقام؛ لأن العوراء ناقصة البصر، لا ترى إلا ما قابل عينها المبصرة فقط، فيكون هذا مظنة لنقص رعيها، ونقص رعيها مظنة لهزالها، وهذا المعنى قد لا يوجد في العمياء؛ لأن صاحبها يعرف بعماها لذلك تجده يهتم بها ويعلفها، وقد يختار لها أجود العلف وذلك مظنة السمن. مثال النوع الرابع - وهو مفهوم الموافقة الظني المساوي -: قوله عليه الصلاة والسلام: " من أعتق له شركا في عبد فكان له مال يبلغ ثمن العبد قوم العبد عليه قيمة عدل فأعطى شركاؤه حصصهم وعتق عليه العبد وإلا فقد عتق منه ما عتق ". فهو يدل على سراية العتق في حق العبد، والعلماء قد ألحقوا الأمة بالعبد في هذا الحكم؛ لأنه يغلب على الظن عدم وجود الفرق بينهما في ذلك. قد يقول قائل: لماذا لم نجعل هذا من أمثلة مفهوم الموافقة القطعي المساوي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1759 جوابه: الذي منعنا من ذلك: أنه يوجد احتمال وهو: أن يكون الشارع إنما نص على العبد في هذا الحديث لخصوصية في العبد لا توجد في الأمة وهي: أن العبد إذا عتق فإنه يزاول مناصب الرجال وأعمالهم ما لا تزاوله الأنثى، ولو كانت حرة. *** المسألة الثامنة: حجية مفهوم الموافقة: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم الموافقة حُجَّة، وهو طريق لاستنباط الأحكام الشرعية. وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف. وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأولْ: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - حيث إنهم فهموا ذلك من خطاب اللَّه تعالى ورسوله، ومن مخاطباتهم - فيما بينهم -؛ وذلك في وقائع كثيرة، ومنها: 1 - أنهم فهموا من قوله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) : أن ما زاد على مثقال ذرة أولى منه في أن الشخص يراه يوم القيامة. 2 - قول أبي بكر - رضي اللَّه عنه - في شان مانعي الزكاة: "والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم عليه " فإن الصحابة قد فهموا من هذا: أنه إذا قاتلهم على عقال البعير، فمن باب أوْلى أن يقاتلهم على ما فوقه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1760 الدليل الثاني: أن هذا الأسلوب من الدلالة معروف عند أهل اللغة قبل ورود الشرع، بل هو أبلغ في الدلالة من التصريح؛ حيث إفي العرب يرون ذلك ضربا من البلاغة، ونوعاً من التأكيد للحكم في محل السكوت، وهم أهل اللسان، وأرباب البيان، وبلغتهم نزل القرآن، فإن الشارع ينزل خطاباته على الأصول اللغوية وأساليبها وعرفها في الفهم، وما هو حُجَّة لغة يجب اعتباره حُجَّة شرعا ما لم يقم دليل على أن الشارع أراد معنى خاصا. الدليل الثالث: تبادر فهم العقلاء، بيانه: أن العقلاء إذا سمعوا هذا التعبير من الكلام كقول السيد لعبده: "لا تعط زيداً درهماً، ولا تظلمه بذرة، ولا تعبس في وجهه، ولا تقل له أف "، فإنه يتبادر إلى أذهانهم: امتناع إعطاء زيد ما فوق الدرهم، وامتناع الظلم إلى ما فوق الذرة، وامتناع أذيته فيما فوق التعبيس، وفوق التأفيف كالشتم والضرب، قال ابن تيمية - رحمه اللَّه -: " وجمهور العلماء يرون أن إنكار فهم تحريم الضرب من تحريم التأفيف من نقص العقل، والفهم، وأنه من باب السفسطة في جحد مراد المتكلم ". وقال شمس الدين الذهبي: " ما فهم أحد قط من عربي ولا نبطي ولا عاقل ولا واع: أن النهي عن قول: " أف " للوالدين إلا وما فوقها أولى منها، وهل يفهم ذو حس سليم إلا هذا؛ وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى، وبالأصغر على الأكبر ". المذهب الثاني: أن مفهوم الموافقة ليس بحُجَّة. وهو مذهب ابن حزم وأكثر الظاهرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1761 دليل هذا المذهب: أن مفهوم الموافقة ما هو إلا نوعا من القياس، والقياس باطل جملة وتفصيلاً - كما سيأتي تفصيل كلامهم فيه - فيكون مفهوم الموافقة ليس بحُجَّة مثله. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أن مفهوم الموافقة من قبيل القياس، بل إن دلالته دلالة لفظية، كما سبق بيان ذلك بالتفصيل وما كانت دلالته لفظية، فإنه يكون حُجَّة كالنصوص. الجواب الثاني: على فرض أن مفهوم الموافقة من قبيل القياس، فإنه حُجَّة؛ لأن القياس حُجَّة على رأي جمهور العلماء. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث تأثرت في هذا كثير من الفروع الفقهية، وسيأتي ذكر ذلك؛ حيث إن الظاهرية جعلوا مفهوم الموافقة من قبيل القياس، وهم ينكرون القياس وينفونه، والجمهور يثبتونه فتكون الأمثلة تنطبق على البابين، ولا داعي لتكرار ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1762 المطلب الثالث في مفهوم المخالفة ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: في تعريفه. المسألة الثانية: في أسمائه. المسألة الثالثة: في أنواعه وحجية كل نوع. المسألة الرابعة: في شروطه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1763 المسألة الأولى: تعريف مفهوم المخالفة: هو: دلالة اللفظ على ثبوت حكم للمسكوت عنه مخالف للحكم الذي دلَّ عليه المنطوق نفياً وإثباتاً. مثاله: قوله عليه السلام: " في سائمة الغنم الزكاة "، فإن اللفظ دلَّ بمنطوقه: أن الغنم السائمة فيها زكاة. ودلَّ بمفهوم المخالفة: أن الغنم المعلوفة لا زكاة فيها. فاللفظ - وهو الغنم السائمة - دلَّ على ثبوت حكم للمسكوت عنه، وهو - هنا - الغنم المعلوفة - مخالف للحكم الذي دلَّ عليه المنطوق - وهو وجوب الزكاة - وهذا الحكم المخالف هو: أن المعلوفة لا زكاة فيها. وقيل: هو: الاستدلال بتخصيص الشيء بالذكر على نفي الحكم عما عداه. ومعنى ذلك: أنه إذا خص شيء بالذكر ونطق به وصرح بحكمه، فإنا نستدل بذلك على أن المسكوت عنه يخالفه في الحكم، فإن كان المنطوق به قد أثبت حكمه، فالمسكوت عنه قد نفي عنه ذلك الحكم، وإن كان المنطوق به قد نفي حكمه، فالمسكوت عنه قد أثبت له ذلك الحكم. فقوله تعالى: (وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ) ، فالمنطوق به: أن من قتل شيئاً وهو محرم متعمداً فيجب عليه المثل، ومفهوم المخالفة: أن من قتل شيئاً وهو محرم خطأ، فلا يجب عليه شيء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1765 وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أحق بنفسها من وليها ". فالمنطوق: أن الثيب أحق بنفسها في أمر النكاح. والمفهوم: أن البكر وليها أحق منها في أمر النكاح. وقولك: " اعط السائل لحاجته " يفهم بمفهوم المخالفة: أن غير المحتاج لا يعطى. *** المسألة الثانية: أسماء مفهوم المخالفة: مفهوم المخالفة يسمى بعدة أسماء عند العلماء، وهي كما يلي: الاسم الأول: مفهوم المخالفة، وهذا هو المشهور عند جمهور العلماء في كتبهم. وسمي بذلك؛ لأنه استنتاج مجرد، غير مستند إلى منطوق، فيكون مفهوماً، أي: أن المفهوم منه يخالف المنطوق به حكما. الاسم الثاني: دليل الخطاب، وسمي بذلك لأحد أمور ثلاثة: الأول: سمي بذلك إما لأن دليله من جنس الخطاب. الثاني: أو سمي بذلك لأن الخطاب دال عليه. الثالث: أو سمي بذلك لمخالفته منطوق الخطاب. الاسم الثالث: تخصيص الشيء بالذكر، وهذا الاسم منتشر عند الحنفية، واعتبروا التمسك به من التمسكات الفاسدة - كما سيأتي ذكره - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1766 المسألة الثالثة في أنواع مفهوم المخالفة وبيان حجية كل نوع وهي كما يلي: النوع الأول: مفهوم الصفة. النوع الثاني: مفهوم الشرط. النوع الثالث: مفهوم الغاية. النوع الرابع: مفهوم العدد. النوع الخامس: مفهوم الاستثناء. النوع السادس: مفهوم الحصر بـ " إنما ". النوع السابع: حصر المبتدأ في الخبر. النوع الثامن: مفهوم اللقب. وإليك بيان كل نوع: النوع الأول: مفهوم الصفة: أولاً: بيان حجيته: إذا كان للمنصوص عليه صفتان، فعلق الحكم بإحدى الصفتين هل يدل هذا على نفي الحكم عما يخالفه في الصفة الأخرى؟ أو تقول: الخطاب العام المعلق حكمه على صفة لا توجد في كل مدلول هل يدل على نفي ذلك الحكم عما انتفت عنه تلك الصفة؛ كقوله عليه السلام: " في الغنم السائمة زكاة "، فهل يدل على نفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1767 الزكاة عن غير السائمة وهي المعلوفة أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين هما: المذهب الأول: أنه يدل على النفي، أي: أن مفهوم الصفة حُجَّة. فإذا علق الحكم على صفة، فإن هذا يدل على نفي ذلك الحكم إذا انتفت تلك الصفة. وهو مذهب الأئمة الثلاثة: مالك، والشافعي، وأحمد، وأكثر أصحابهم، وبعض أهل العربية كأبي عبيدة - معمر بن المثنى - وهو اختيار أبي الحسن الأشعري، وهو الحق عندي لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن تخصيص الحكم بالصفة لا بدَّ له من فائدة صوناً للكلام عن اللغو، فإن لم يكن هناك فائدة سوى انتفاء الحكم عما عدا الموصوف بتلك الصفة وجب حمله عليه، وإن لم يحمل عليه: كان التخصيص بتلك الصفة لغواً، وكلام الشارع يصان عن اللغو، ولأجل ذلك يحمل تخصيص الحكم بتلك الصفة على نفيه عند عدم تلك الصفة. الدليل الثاني: قياس تقييد الخطاب العام بالصفة على تقييده بالاستثناء، وقد ثبت أن الاستثناء من النفي إثبات، ومن الإثبات نفي، فكذا التقييد بالصفة يجب أن يفيد النفي فيما عدا الموصوف بتلك الصفة إن كان الكلام موجبا، أو بالعكس إن كان منفيا. الدليل الثالث: أن الحكم المرتب على الخطاب المقيد بالصفة معلول بتلك الصفة؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف يشعر بالعلية - كما سيأتي بيان ذلك في باب القياس - وانتفاء العلة يوجب انتفاء الحكم، فيلزم من ذلك انتفاء الحكم فيما انتفت عنه تلك الصفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1768 الدليل الرابع: أنه روي عن أبي عبيد - القاسم بن سلام - أنه لما سمع قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لَيُّ الْوَاجِدِ يُحِلُّ عِرْضَهُ وَعُقُوبَتَهُ "، قال: إن من ليس بواجد لا يحل عرضه وعقوبته، وروي عنه - أيضا - أنه لما سمع قول - صلى الله عليه وسلم -: "مطل الغني ظلم " قال: مطل غير الغني ليس بظلم، فأبو عبيد - وهو من فصحاء العرب وأهل اللغة - قد فهم أن تعليق الحكم وتخصيصه بصفة يدل على نفي ذلك الحكم عما إذا انتفت تلك الصفة عنه. الدليل الخامس: أن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - قد منع توريث الأخت مع وجود البنت مستدلاً بمفهوم المخالفة من قوله تعالى: (إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ) حيث - رضي الله عنه - قد فهم من توريث الأخت مع عدم الولد: امتناع توريثها مع البنت؛ لأنها ولد، وهو من فصحاء العرب، وهو أفقه الناس في الدين، وأعلمهم بالتأويل، وترجمان القرآن. الدليل السادس: أنه لما روى أبو ذر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "يقطع صلاة الرجل: الحمار، والكلب الأسود، والمرأة "، قال له عبد اللَّه بن الصامت: ما بال الأسود من الأحمر من الأصفر من الأبيض؟ وجه الدلالة: أن عبد اللَّه بن الصامت فهم من تخصيص الكلب الأسود بالحكم نفي هذا الحكم عن غيره، وأن الكلب الأبيض، أو الأحمر لا يقطع الصلاة، ولم ينكر عليه أبو ذر - راوي الحديث - بل قال: يا ابن أخي، سالت رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - كما سألتني فقال: "الكلب الأسود شيطان "، فقد فهم عبد اللَّه وأبو ذر من تعليق الحكم - وهو قطع الصلاة - على الكلب الموصوف بالسواد انتفاء الحكم عن غير الكلب الأسود، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر ذلك، والنبي - صلى الله عليه وسلم - أفصح العرب لسانا، وعبد الله وأبو ذر من فصحاء العرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1769 الدليل السابع: أن العربي لو قال لوكيله: " اشتر لي حصانا أسود " لفهم منه: عدم شراء الأبيض، ولو أنه اشترى أبيض لم يكن ممثلاً، ولو قال لزوجاته: " الداخلة منكن لهذه الغرفة طالق " لطلقت كل واحدة تدخل هذه الغرفة، وفهم منه انتفاء الطلاق عند عدم الدخول. المذهب الثاني: أنه لا يدل على النفي، أي: أن مفهوم الصفة ليس بحُجَّة. فإذا علق الحكم على صفة، فإن هذا لا يدل على نفي ذلك الحكم إذا انتفت تلك الصفة، وهو مذهب أبي حنيفة، وأتباعه. وهو اختيار بعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والآمدي، وابن شريح، وبعض المالكية كأبي بكر الباقلاني، وأكثر المعتزلة، وبعض أهل العربية كالأخفش. أدلة هذا المذهب: - الدليل الأول: أن المقيَّد بالصفة لو دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها: لما حسن الاستفهام عن الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتا كما هو الواقع في مفهوم الموافقة، حيث إنه في مفهوم الموافقة لا يحسن الاستفهام فيه، فمثلاً لو قال السيد لعبده: " لا تقل لزيد أف " لا يحسن من العبد أن يسأل ويقول: هل أضربه؟ ولكنه في مفهوم الصفة - وهو من مفهوم المخالفة - يحسن فإنه لما قال - صلى الله عليه وسلم -: "في الغنم السائمة زكاة" حسن أن يقال: هل في المعلوفة زكاة أو لا؟ فهو إذاً غير دال على الحكم فيه لا نفيا ولا إثباتا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1770 جوابه: أن مفهوم الموافقة لم يحسن الاستفهام فيه؛ لأن دلالته قطعية، أما مفهوم الصفة فدلالته ظنية، لذلك حسن الاستفهام، فلا يلزم من قبح الاستفهام في مفهوم الموافقة قبحه في مفهوم الصفة. أما إذا كانت دلالة مفهوم الموافقة ظنية - كما قلنا فيما سبق - فإن السؤال حسن للتأكيد، والتأكيد يكون لإزالة الاتساع في الفهم، وهذا قلناه في باب العموم. الدليل الثاني: أن المقيد بالصفة لو كان دالاً على نفي الحكم عما عداه، فإما أن يعرف ذلك بالعقل، أو بالنقل، وهما باطلان. بيان ذلك: أنه إن زُعم أن ذلك معروف بالعقل فهو باطل؛ لأن العقل لا مدخل له في اللغات. وإن زعم أن ذلك معروف بالنقل فهو باطل أيضاً - لأن النقل قسمان: " متواتر "، و " آحاد ": فإن زُعم أن ذلك معروف بالمتواتر فهذا باطل؛ لأنه لو كان معروفاً بذلك، لاشترك الناس في علمه، ومنهم المخالف؛ نظراً لاشتراكهم في أسباب العلم كسلامة الحاسة، ومخالطة أهل اللغة، والاقتباس منهم، ولكنه لم يعلم بذلك، فبطل أن يكون معلوما من جهة التواتر. وإن زعم أن ذلك معروف بالآحاد، فعلى تقدير صحته وسلامته عن المعارض، فإنه غير كاف؛ لأنه لا يفيد إلا الظن، والظن لا يقوى على إثبات قاعدة أصولية كمفهوم الصفة، أي: لا يمكن إثبات مثل هذا الأصل الذي نزل عليه كلام اللَّه، وكلام رسوله بما لا يفيد إلا الظن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1771 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: نسلم لكم أن هذا غير معروف بالعقل، ولا بالتواتر، ولكن لا نُسَلِّمُ قولكم: " إن الظن لا يثبت القاعدة الأصولية " على إطلاقه، ولكن في ذلك تفصيل، إليك بيانه: إن كانت القاعدة الأصولية علمية فنحن معكم بأنها لا تثبت بالظن، وإن كانت القاعدة الأصولية عملية، فإنها تثبت بالظن؛ قياسا على إثبات الفروع العملية بالآحاد. الجواب الثاني: أنا نقلب ذلك عليكم، ونقول لكم مثل ما قلتم لنا درهو: أن مفهوم الصفة ليس بحُجَّة إما أن يعرف عن طريق العقل أو النقل، وكل ذلك باطل، وجوابكم هو جوابنا. الدليل الثالث: أن المقيد بالصفة لو كان دالًّا على نفي الحكم عما عدا الموصوف بالصفة لذل عليه إما من جهة صريح الخطاب، وإما من جهة أن تخصيص الحكم بالصفة لا بد له من فائدة، ولا فائدة سوى نفي الحكم عندْ عدم الصفة، وإما من جهة أخرى، وكلها باطلة. بيان ذلك: إن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة صريح الخطاب فهو باطل؛ لأنه ليس في الخطاب إلا إثبات الحكم في الموصوف فقط. وإن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة أن تخصيص الحكم بالصفة لا بد له من فائدة، ولا فائدة سوى نفي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1772 الحكم عند عدم الصفة، فهذا باطل؛ لأن تخصيص الحكم بالصفة له فوائد كثيرة، ومنها: الفائدة الأولى: تكثير أبواب الاجتهاد، بيان ذلك: أن الشارع لو استوعب جميع محل الحكم، ونص على كل حكم لم يبق للاجتهاد مجال، ولكنه يخصص بعض الأحكام بالذكر ويعلقها على أوصاف، ويخصص بعض الحوادث بالأحكام معللاً بعلة ظاهرة، أو غير ظاهرة مريداً من ذلك أن يحصل النظر والاجتهاد فيها، وبذلك الاجتهاد يحصل الثواب الجزيل للمجتهدين. الفائدة الثانية: عدم إخراج المذكور من عموم اللفظ، بيانه: أن الشارع قد ذكر هذا الشيء الموصوف تأكيداً عليه، وللاحتياط من أن يأتي بعض ألناس ويجتهد ويخرجه عن اللفظ بالتخصيص. فمثلاً لو قال: " في الغنم زكاة "، ولم يخصص " السائمة " بالذكر لجاز لأي مجتهد أن يخرج السائمة عن العموم بالاجتهاد، فخص " السائمة " بالذكر، لئلا تكون محلًّا للاجتهاد، وتكون غيرها محل الاجتهاد. الفائدة الثالثة: تأكيد الحكم في المسكوت عنه، بيانه: أنه إذا كان قد ذكر الحكم وهو معلق بتلك الصفة وذلك المعنى، فإنه إذا وجدت تلك الصفة وذلك المعنى في المسكوت، عنه بصورة أقوى، فإن حكم المنطوق به يكون للمسكوت من باب أوْلى مثل ما قلنا في مفهوم الموافقة. الفائدة الرابعة: أن يكون مقصود صاحب الشرع تكثير ألفاظ النصوص ليكثر ثواب القارئ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1773 وغير ذلك من الفوائد. وإن قلتم: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة أخرى، فهذا باطل؛ لأن الأصل عدمه، فلا يمكن أن يصار إليه إلا لدليل يحققه. جوابه: نحن نقول: إنه دلَّ على نفي الحكم عما عدا الموصوف من جهة أنه لا بد للتخصيص من فائدة، لكن لا لأنه لا فائدة سوى نفي الحكم عما عدا الموصوف، بل لما ذكرتموه من الفوائد أيضا، ولكن هذه الفائدة التي ذكرناها - وهي: دلالة ذلك على نفي الحكم عما عدا الموصوف - هي الأسبق إلى الذهن والأقوى، فيكون الحمل عليه أَولى. أما الباقي مما ذكرتموه من الفوائد فهي تنقدح في الذهن، ولكن أضعف من انقداح الفائدة التي ذكرناها، فلا تمتنع، وقلنا ذلك تكثيراً لفوائد الكلام؛ حيث إن تكثير فوائد الكلام أوْلى من الإقلال منها. الدليل الرابع: قياس مفهوم الصفة على مفهوم اللقب، بيانه: أنه لو دلَّ تقييد الحكم بألصفة على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها، لدلَّ تقييد الحكم بالاسم على نفيه عما عداه بجامع: التمييز؛ حيث إن القصد من الصفة إنما هو تمييز الموصوف بها عن غيره، فكذا المقصود من الاسم إنما هو تمييز المسمى عن غيره، أو بجامع: صيانة التخصيص عن الإلغاء، أو بجامع: حمله على تكثير الفائدة. ولكن تقييد الحكم بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه، فكذلك تقييد الحكم بالصفة لا يدل على نفيه عما عداه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1774 جوابه: أن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن نفي الحكم في صورة التقييد بالصفة أسبق إلى الفهم من سائر الفوائد، وهو غير حاصل في صورة التقييد بالاسم. أي: أن شعور الذهن عند سماع اللفظ العام المقيد بالصفة الخاصة بما ليس له تلك الصفة أزم من شعوره بما يغاير مدلول اسم "ما " عند سماعه. وإذا كان الأمر كذلك، فإنه لا يلزم من دلالة مفهوم الصفة على النفي دلالته على النفي في صورة التقييد بالاسم. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأنه قد ترتب على هذا خلاف في بعض الفروع، ومنها إذا قال: " وقفت هذا على أولادي الفقراء "، فإن غير الفقراء لا يدخلون بناء على المذهب الأول. ويدخل غير الفقراء بناء على المذهب الثاني. ولهذا فروع كثيرة في أبواب الوقف، والوصايا، والنذور والأيمان وهو واضح ولا داعي لذكره. ثانياً: اختلف أصحاب المذهب الأول في أن تقييد الحكم بالصفة هل يدل على نص الحكم عما عداه مطلقا، سواء كان من جنس المثبت فيه أو لم يكن من جنسه، أو يختص فيما إذا كان من جنسه، فمثلاً إذا قلنا: " إن في سائمة الغنم الزكاة " هل يدل ذلك على نفي الزكاة عن المعلوفة مطلقا، سواء كانت معلوفة الغنم أم الإبل، أم البقر، أو يختص النفي بمعلوفة الغنم؟ اختلف في ذلك على قولين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1775 القول الأول: إن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس لا غير. وهذا قول أكثر أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون بحجية مفهوم الصفة - وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن دلالة المفهوم تابعة لدلالة المنطوق، والتابع لا يزيد على المتبوع، ولا يتعداه. الدليل الثاني: أن دلالة المفهوم مخالفة لدلالة المنطوق، وهو لم يتناول إلا الجنس المذكور، فمخالفه كذلك لا يخالف إلا الجنس المذكور؛ تحقيقا لمعنى المخالفة. القول الثاني: أن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس وفي غيره. وهو قول الأقل من أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون بحجية مفهوم الصفة -. دليل هذا القول: أن الوصف المذكور في الحكم علَّة الحكم، فإذا انتفت العلَّة انتفى الحكم؛ لأن الأصل اتحاد العِلَّة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن الوصف المذكور علَّة الحكم؛ لأنه يحتمل أن يكون شرطاً له. الجواب الثاني: سلمنا أن الوصف المذكور علَّة الحكم، لكن يكون عِلَّة في الجنس المذكور ولا يكون عِلَّة مطلقا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1776 بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: أنه لما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "في سائمة الغنم الزكاة "، فإن مفهومه: أنه لا زكاة في معلوفة الغنم، أما معلوفة الإبل والبقر ففيها الزكاة؛ وهذا بناء على القول الأول - وهو: أن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفيه عما عداه في ذلك الجنس -. أما بناء على القول الثاني: فإنه لا زكاة في معلوفة الغنم والإبل والبقر، لأن تقييد الحكم بالصفة في جنس يدل على نفي الحكم عما عدا الموصوف بها في ذلك الجنس وفي غيره. ثمالثما: صور مفهوم الصفة. مفهوم الصفة له صور وهي كما يلي: الصورة الأولى؛ أن يذكر اسم عام، ثم يذكر بعده وصف خاص مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في الغنم السائمة زكاة " - وهو كما سبق -. الصورة الثانية: تخصيص الحكم بصفة عارضة، والمراد منها: تعليق الحكم على صفة لا تستقر، بل تطرأ أحيانا وتزول أحيانا أخرى مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أحق بنفسها من وليها "، فهنا اقترن الحكم - وهو كون المرأة أحق بنفسها من وليها - بوصف - وهو الثيوبة - وهذا الوصف طارئ على المرأة. الصورة الثالثة: مفهوم التقسيم وهو: أن يذكر قسمين، ويذكر حكم أحد القسمين، فإن هذا يدل على انتفاء ذلك الحكم عن القسم الآخر، مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: " الأيم أحق بنفسها من وليها والبكر تستأذن "، فهنا قسم المرأة إلى قسمين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1777 الأول: " ألي م "، وهي التي فارقت زوجها وتسمى " الثيب ". الثاني: " بكر "، وهي التي لم تتزوج. وجعل لكل قسم حكماً معيناً، فحكم " الأيم " أنها أحق بنفسها، أي: تستأمر، وحكم البكر: أنها تستأذن. فتخصيص " الأيم " بأنها أحق بنفسها يدل على نفيه عن البكر، وتخصيص البكر بالاستئذان يدل على نفيه عن الأيم. الصورة الرابعة: مفهوم العِلَّة وهو: دلالة اللفظ المقيد بالعلة على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي انتفت عنه تلك العِلَّة كقوله: " حرمت الخمرة لإسكارها "، فإن هذا يدل بمفهومه على أن ما لا إسكار فيه لا يحرم. الصورة الخامسة: مفهوم الحال، وهو دلالة اللفظ المقيد بحال من الأحوال على ثبوت نقيض حكمه للمسكوت عنه الذي عدمت فيه تلك الحال كقوله تعالى: (ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد) ، فحرمت المباشرة في حالة معينة وهي: الاعتكاف، ودل بمفهومه المخالف: حل المباشرة إذا انتفى فيه تلك الحال. الصورة السادسة: مفهوم المكان، وهو: دلالة اللفظ الذي علق الحكم فيه بمكان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك كقوله تعالى: (فاذكروا الله عند المشعر الحرام) . الصورة السابعة: مفهوم الزمان، وهو: دلالة اللفظ الذي علق الحكم فيه بزمان معين على ثبوت نقيض هذا الحكم للمسكوت عنه الذي انتفى عنه ذلك الزمان كقوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1778 (الحج أشهر معلومات) ، فإنه يدل بمفهومه المخالف: عدم صحة الحج إذا وقع في غير زمانه. وكل هذه الصور تجمعها عبارة " مفهوم الصفة "، وكلها حُجَّة عندنا والأدلة على ذلك هي نفس الأدلة على حجية الصفة. النوع الثاني: مفهوم الشرط: والمراد هنا: الشرط اللغوي، دون الشرعي والعقلي، فالحكم المعلق على شيء بكلمة " إن " هل هو عدم عند عدم ذلك الشيء أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم الشرط حُجَّة. أي: يوجد الحكم بوجود الشرط، وينتفي الحكم إذا انتفى الشرط. وهو مذهب القائلين: لمفهوم الصفة، وبعض المنكرين له كابن سريج، وأبي الحسن الكرخي، وأبي الحسين البصري، والإمام فخر الدين الرازي. وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه روي أن يعلى بن أمية قال لعمر بن الخطاب: ما لنا نقصر وقد أمنا، وقد قال تعالى: (فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا) . وجه الدلالة: أن أبا يعلى قد فهم من تخصيص القصر بحالة الخوف عدم القصر عند عدم الخوف، ولم ينكر عليه عمر، بل قال: قد عجبت مما عجبت منه، فسألت - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك فقال: " صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1779 فيعلى وعمر قد فهما من تعليق إباحة القصر في حالة الخوف وجوب الإتمام في حالة الأمن، والنبي - صلى الله عليه وسلم - لم ينكر هذا الفهم، بل أقره. ما اعترض به على ذلك: الاعتراض الأول: أن أبا يعلى وعمر إنما عجبا؛ لأن الإتمام واجب بحكم الأصل، حيث إن الآيات أمرت بإتمام الصلاة، وإنما استثنى حالة الخوف، وأباح فيها القصر لهذا العذر، وهو: الخوف، فبقيت حالة الأمن على ما هي عليه يجب فيها الإتمام، فثبت أنهما عجبا نظراً لمخالفة الأصل. جوابه: لا يوجد في القرآن آية تدل على وجوب إتمام الصلاة بلفظها خاصة، ولهذا يقال: إن الأصل في الصلاة القصر، فروي عن عائشة - رضي اللَّه عنها - أنها قالت: " كانت صلاة السفر والحضر ركعتين فأقرَّت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر "، فدل على أنهما فهما وجوب الإتمام عند الأمن بسبب مفهوم الشرط. الاعتراض الثاني: أن الآية حُجَّة لنا؛ حيث لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فيجوز القصر عند عدم الخوف. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن مفهوم الشرط قد دلَّ على منع القصر عند عدم الخوف، وإنما ترك العمل بمفهوم الشرط لدليل آخر أباح القصر ولو لم يوجد خوف؛ قياساً على ظاهر العموم، فإنه يترك أحيانا لدليل آخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1780 الجواب الثاني: أنه يحتمل أنه ذكر الشرط يبين فيه: أن السبب في نزول إباحة القصر كان الخوف، ثم عممت الإباحة كما في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ) ، فبين أن ذلك سبب الارتهان، لا أنه شرط في الارتهان. الدليل الثاني: أن كتب النحو بأسرها ناطقة بأن كلمة " إنْ " تسمى عند أهل اللغة بحرف الشرط، والشرط هو: ما ينتفي الحكم عند انتفائه، فيقال: الطهارة شرط لصحة الصلاة، والحول شرط وجوب الزكاة، والاستطاعة شرط وجوب الحج، والحياة شرط العلم والقدرة؛ فيلزم من انتفاء الطهارة، وانتفاء الحول، وانتفاء الاستطاعة، وانتفاء الحياة: انتفاء صحة الصلاة، ووجوب الزكاة، ووجوب الحج، وانتفاء العلم والقدرة. فيكون انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط معنى عاما في جميع موارد استعماله، فوجب جعله حقيقة فيه؛ دفعا للاشتراك، والتجوز. المذهب الثاني: أن مفهوم الشرط ليس بحُجَّة. أي: أن أداة الشرط لا تدل على انتفاء المشروط عند انتفاء شرطه، وإنما انتفاء المشروط عنذ انتفاء الشرط يعلم من البراءة الأصلية. وهو مذهب أكثر الحنفية، والإمام مالك، واختاره أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وأكثر المعتزلة منهم القاضي عبد الجبار، وأبو عبد اللَّه البصري، وهو مذهب الآمدي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الرجل لو قال لزوجته: " إن دخلت الدار فأنت طالق "، فإن هذا لا ينفي وقوع الطلاق بدون دخول الدار؛ حيث إنه لو نجز أو علق بشيءآخر فإنه يقع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1781 جوابه: لا نسلم أنه لا ينتفي وقوع الطلاق بدون دخول الدار إذا نظرنا إلى قوله فقط. أما استدلالكم على قولكم بوقوع المنجز أو المعلق بتعليق آخر: فهذا استدلال غير صحيح؛ لأن ذلك غير المطلق بدخول الدار. الدليل الثاني: أن أداة الشرط لو دئَت على انتفاء المشروط عند انتفاء الشرط لكان قوله تعالى: (وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا) دالاً على أن الإكراه على الزنا غير حرام عند إرادة الزنا، أي: أن الآية - لم تدل على نفي حرمته عند إرادته، لكن الآية لا تدل على ذلك، وعليه: لا تكون أداة الشرط دالة على نفي المشروط عند انتفاء الشرط. جوابه: أن تخصيص الشرط بالذكر هنا قد ظهر له فائدة أقوى من فائدة نفي الحكم عند انتفائه، وتلك الفائدة هي: التقبيح والتشنيع على هؤلاء الذين يكرهون الإماء على الزنا، ويحملونهن عليه مع أن الإماء أنفسهن لا رغبة لهن فيه، فتكون الآية - على ذلك - ليست من باب مفهوم الشرط. بيان. نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية ومنها: 1 - أن أصحاب المذهب الأول قالوا: إن الطلقة ثلاثا الحائل لا تجب النفقة عليها؛ أخذاً بمفهوم الشرط في قوله تعالى: (وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) فهنا قد جعلت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1782 الآية النفقة للبائن بشرط أن تكون حاملاً، فينتفي الحكم عند انتفاء الشرط، فيثبت عدم وجوب النفقة للمطلقة ثلاثا الحائل. أما أصحاب المذهب الثاني فقد قالوا: تجب النفقة للمطلقة ثلاثاً مطلقا، أي: سواء كانت حاملاً أو حائلاً، ولم يأخذوا بمفهوم الشرط في هذه الآية، وقالوا: إذا كانت الآية قد صرحت بوجوب النفقة للحامل، فهي ساكتة عن نفقة الحائل، فيبقى الحكم على أصله، وهو الوجوب للنفقة؛ لأن الزوجة قبل الطلاق كانت نفقتها واجبة على الزوج، فيستمر ذلك ما دامت في العدة. النوع الثالث: مفهوم الغاية: مد الحكم إلى غاية ونهاية محددة بواسطة لفظ " إلى "، كقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل) ، أو بلفظ " حتى "، كقوله تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ، أو مد الحكم بصريح الكلام كقولك: " صوموا صوماً آخره الليل "، هل يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية أو لا؟ لفد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم الغاية حُجَّة. أي: أن الحكم إذا قيد بغاية، فإن ذلك يدل على نفي الحكم فيما بعد الغاية، فحكم ما بعد الغاية يخالف ما قبلها. وهو مذهب القائلين بمفهوم الشرط، وبعض المنكرين له كالقاضي أبي بكر، والقاضي عبد الجبار، والغزالي. وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن ما بعد الغاية في مثل قوله تعالى: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1783 (فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ) ، وقوله: (وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ) ليس كلاماً تاماً، ولا يستقل بنفسه؛ لأنه لو ابتدأ قائلاً: " حتى تنكح زوجاً غيره "، و " حتى يطهرن "، وسكت، لم يحسن السكوت عليه، ولا يصح ذلك حتى يتعلق بما قبله، وهو قوله: (فلا تحل له) ، وقوله: (ولا تقربوهن) . إذن: لا بد فيه من إضمار، وذلك الإضمار إما ضد ما قبله أو غيره. أما الثاني - وهو: أن يضمر غير الضد - فهو باطل؛ لأنه ليس في الكلام ما يدل عليه عيناً. فتعيَّن الأول - وهو: "إضمار الضد - فيكون تقدير الكلام في المثال الأول: " فلا تقربوهن حتى يطهرن فاقربوهن "، وتقدير الكلام في المثال الثاني: " حتى تنكح زوجا غيره فتحل له "، فإذا ثبت ذلك في هذه الصورة ثبت في غيرها لعدم القائل بالفرق. الدليل الثاني: أن ما بعد الغاية يقبح الاستفهام عنه، فلو قال السيد لعبده: " لا تعط زيداً درهما حتى يقوم "، و " اضرب عمراً حتى يتوب "، فإنه يقبح من العبد أن يسأل ويقول: إذا قام هل أعطيه درهما؛ وإذا تاب هل أضربه؟ وسبب هذا القبح هو: أن الجواب قد فهم بدون ذلك، فالسؤال يكون تحصيل حاصل، فلو لم يفهما لما قبح الاستفهام عنهما. الدليل الثالث: أن غاية الشيء: نهايته، ونهاية الشيء: منقطعه، ومعروف أن الشيء إذا انقطع وانتهى صار خاصا بحكم، وصار ما بعده خاصا بحكم آخر، وهو ضده، وإن لم يكن ضده لم يتحقق مفهوم الغاية، ففي الأمثلة السابقة: ضد تحريم الزوجة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1784 بعد الطلقة الثالثة هو: حلها بعد الزواج بزوج آخر، وضد وجوب الصوم في النهار هو: عدم وجوبه في الليل، وضد عدم قربان الزوجة قبل الطهر هو: حلها بعد الطهر. المذهب الثاني: أن مفهوم الغاية ليس بحُجَّة. أي: أن الحكم إذا قيد بغاية فإنه لا يدل على نفي هذا الحكم فيما بعد الغاية، وهو مذهب كثير من الحنفية، وبعض الشافعية كالآمدي، وبعض المالكية كالباجي. دليل هذا المذهب: أن النطق واللفظ خاص بحكم ما قبل الغاية، أما ما بعد الغاية فهو مسكوت عنه: لم يتعرض له اللفظ والنطق لا بنفي، ولا بإثبات، فيبقى على النفي الأصلي، وهو الأصل فتبقى الذمة بريئة من التكليف فيه. جوابه: نسلم لكم أن الأصل هو بقاء الذمة بريئة من التكاليف، ولكن إذا جاء دليل يغير هذه الحالة ويرفع هذا الأصل أخذنا به، وعندنا قد قام دليل على أن حكم ما بعد الغاية يكون ضد ما قبلها، وهي الأدلة الثلاثة السابقة الذكر. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا هو معنوي، حيث إنه أثر على بعض الفروع، ومنها: الأمثلة السابقة. وأيضا: أن الغسل يجزئ عن الوضوء بدليل مفهوم الغاية في قوله تعالى: (حتى تغتسلوا) ، فإن مفهومه: إن اغتسلتم فلكم أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1785 تقربوا الصلاة، فلولا أن الغسل يجزئ عن الوضوء لم يكن للمغتسل أن يقرب الصلاة. النوع الرابع: مفهوم العدد: إذا خصص الحكم بعدد معين وقيد به، فهل يدل هذا على نفي ذلك الحكم عن غير ذلك العدد، سواء كان ذلك الغير زائداً عليه أو ناقصاً عنه أو لا؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم العدد حُجَّة. أي: أن تقييد الحكم بعدد مخصوص يدل على نفي ذلك الحكم فيما عدا ذلك العدد، سواء كان زائداً أو ناقصا. وهو مذهب أكثر القائلين بمفهوم المخالفة، وهو اختيار بعض الحنفية، وداود الظاهري، وبعض الشافعية، وعلى رأسهم الإمام الشافعي. وهو الحق عندي لكن بشرط وهو: أن لا يكون قد قصد بالعدد التكثير أو المبالغة نحو قولك: " جئتك ألف مرة ولم أجدك ". والأدلة على حجية مفهوم العدد هي كما يلي: الدليل الأول: أن قتادة - رضي اللَّه عنه - قال: لما نزل قوله تعالى: (اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ) ، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "قد خيرني ربي فواللهِ لأزيدن على السبعين "، ففهم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الآية أن نفي المغفرة مقيد بالسبعين، فإذا زاد العدد عن السبعين فقد انتفى الحكم - وهو عدم المغفرة - رجاء أن يبدله بحكم آخر وهو المغفرة، ولذلك قال: لأزيدن على السبعين فيكون تخصيص الحكم بعدد "، على نفي الحكم عن غير هذا العدد المعين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1786 ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن هذا الحديث ضعيف لم يدون في الصحاح، والحديث الضعيف لا يحتج به في إثبات قاعدة أصولية، قال ذلك أبو بكر الباقلاني، وإمام الحرمين، وأشار إليه الغزالي. جوابه: إن هذا غير مسلَّم، بل أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب التفسير، باب: قوله: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم ... ) عن ابن عمر - رضي اللَّه عنهما - قال: لما توفى عبد اللَّه بن أُبي جاء ابنه إلى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه، فأعطاه، ثم سأله أن يصلي عليه، فقام رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - ليصلي فقام عمر فأخذ بثوب رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول اللَّه، تصلي عليه وقد نهاك ربك أن تصلي عليه، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "إنما خيرني اللَّه فقال: (استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة ... ) ، وسأزيد على السبعين ... "، وأخرجه مسلم في صحيحه في كتاب فضائل الصحابة، باب: من فضائل عمر، وأخرجه الترمذي، والنسائي. إذن: يكون الحديث صحيحا؛ حيث إن أصح الأحاديث ما اتفق عليه البخاري ومسلم، وهذا قد اتفق عليه البخاري ومسلم. الاعتراض الثاني: على فرض صحته، فإنه خبر واحد؛ وخبر الواحد لا يقوى على إثبات قاعدة أصولية كمفهوم العدد. جوابه: إن خبر الواحد يثبت القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل مثل هذه القاعدة، كما قلنا ذلك أكثر من مرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1787 الدليل الثاني: أن الحكم لو ثبت فيما زاد على العدد المذكور لم يكن لذكر العدد فائدة، وكلام الشارع لا يجوز أن يعرى عن الفائدة ما أمكن، كما لا يجوز أن يخلى ذكر الصفة، والشرط عن الفائدة، فثبت أن فائدة ذكر العدد هي: أن ينفى الحكم عما عدا المقيد بعدد، وهذا هو مفهوم العدد. الدليل الثالث: أن الأمة قد عقلت من تحديد حد القاذفِ بثمانين نفي وجوب الزيادة، وعدم جواز النقصان. المذهب الثاني: أن مفهوم العدد ليس بحُجَّة. أي: أن تقييد الحكم بعدد مخصوص لا يدل على نفي ذلك الحكم فيما عدا ذلك العدد. وهو مذهب أبي حنيفة، وأكثر الحنفية، وأكثر الشافعية كالآمدي، وفخر الدين الرازي، وأكثر المعتزلة، وأكثر الظاهرية. دليل هذا المذهب: أن تعليق الحكم على العدد لا يدل على نفيه عما زاد، ولا عما نقص، لاحتمال أن يكون في تعليقه بذلك العدد فائدة سوى نفيه عما زاد أو نقص. جوابه: لا شك أنه توجد فوائد كثيرة في تعليق الحكم على العدد - كما قلنا فيما سبق - ولكن أقوى الفوائد انقداحا في الذهن وأقربها إليه هو: أنه يدل على نفي الحكم عما زاد أو نقص، وهذا هو مفهوم العدد. تنبيه: أكثر الأدلة على حجية مفهوم الصفة والشرط تصلح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1788 للاستدلال بها على حجية مفهوم العدد، وأكثر أدلة المخالفين فيهما تصلح للاستدلال بها على عدم حجية هذا المفهوم، والجواب نفس الجواب. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أنه لو قال لوكيله: " بع هذا الثوب بمائة ريال "، فإن باع وكيله هذا الثوب بأكثر من مائة أو أقل فإنه لا يصح البيع؛ هذا بناء على المذهب الأول؛ لأن مفهوم العدد حُجَّة. أما على المذهب الثاني: فإنه لو باع بأكثر صح البيع؛ لأنه لا مفهوم للعدد. 2 - أن النجاسة إذا أصابت ما دون القلتين نجسته، وحمل الخبث؛ استدلالاً بمفهوم العدد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث ". وبناء على المذهب الثاني فإن ما دون القلتين يحمل الخبث. 3 - أنه يجب الوضوء من ثلاث قطرات من الدم، بناء على المذهب الأول؛ استدلالاً بمفهوم العدد من قوله - صلى الله عليه وسلم -: " ليس في القطرة والقطرتين من الدم وضوء إلا أن يكون دما سائلاً "، بخلاف المذهب الثاني؛ حيث لا يقولون بمفهوم العدد. النوع الخامس: مفهوم الاستثناء من النفي: لقد اختلف العلماء في الاستثناء من النفي هل هو إثبات أو لا؟ مثل قوله: " لا عالم في البلد إلا زيد " على مذهبين: المذهب الأول: أن الاستثناء له مفهوم، أي: أن الاستثناء من النفي إثبات، فإذا قلنا: " لا عالم في المدينة إلا زيد "، فإنه يدل على نفي كل عالم سوى زيد، وإثبات كون زيد عالما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1789 وهو مذهب جمهور العلماء، وأكثر منكري المفهوم. وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن القائل: " لا إله إلا اللَّه " يُعتبر موحداً مثبتا للألوهية لله تعالى، ونافيا لها عما سواه بالإجماع، ولو كان نافيا للألوهية عما سوى اللَّه تعالى غير مثبت لها بالنسبة إلى اللَّه تعالى لما كان ذلك توحيداً لله تعالى؛ لعدم إشعار لفظه بإثبات الألوهية لله تعالى، وذلك خلاف الإجماع. الدليل الثاني: أن كون الاستثناء من النفي إثباتا يتبادر إلى فهم كل سامع، فمثلاً لو قال: " لا عالم إلا زيد "، و " لا فتى إلا علي "، و" لا سيف إلا ذو الفقار "، فإنه يتبادر إلى ذهن كل سامع لغوي: أن هذا من أدل الألفاظ على علم زيد وفضله، ومن أدل الألفاظ على فتوة علي، وعلى أنه لا سيف قاطع إلا المسمى بذي الفقار. الدليل الثالث: أنه ثيت عن أهل اللغة أنهم قالوا: الاستثناء من الإثبات نفي، ومن النفي إثبات، وكلامهم حُجَّة؛ حيث إنهم أعلم الناس بما وضعت له الألفاظ، وبذلك يكون الاستثناء دالاً على ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنى، فيكون الاستثناء من النفي إثباتا، ومن الإثبات نفياً. المذهب الثاني: أن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، فقولك: "لا عالم إلا زيد " لا يدل على كون زيد عالما. وهو مذهب أبي حنيفة، وأكثر أصحابه. دلبل هذا المذهب: أنه لو كان الاستثناء من النفي إثباتاً لكان قوله عليه الصلاة والسلام: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1790 " لا صلاة إلا بطهور "، وقوله: " لا نكاح إلا بولي " مقتضيا تحقق الصلاة عند وجود الطهارة، وتحقق النكاح عند وجود الولي؛ حيث إن الطهور والولي مستثنى من نفي الصلاة، ونفي النكاح، والاستثناء من النفي إثبات - على زعمكم - فيلزم من ذلك صحة الصلاة عند وجود الطهارة، وصحة النكاح عند وجود الولي، وهذا ليس بصحيح باتفاق العلماء؛ لأن الطهارة قد تكون موجودة، ومع ذلك لا تصح الصلاة؛ نظراً لفقدان شرط آخر، وكذلك قد يوجد الولي، ومع ذلك لا يصح النكاح؛ نظراً لفقدان شرط آخر، وهكذا. فإذا كان الأمر كذلك فليس الاستثناء من النفي إثبات، بل إن الاستثناء هو: إخراج المستثنى عن دخوله في المستثنى منه، وأنه غير متعرض لنفيه ولا إثباته. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه يحتمل أن يكون قد قصد بهذين الحديثين وما شابههما: بيان أن الطهارة شرط في صحة الصلاة، وأن الولي شرط في صحة النكاح، فإن هذا لا يفيد ثبوت صحة الصلاة عند الطهارة، وثبوت صحة النكاح عند وجود الولي؛ قياساً على قولنا: " لا قضاء إلا بعلم وورع "، فإن هذا القول لا يفيد ثبوت القضاء لكل ورع وعالم، وإنما يفيد اشتراط العلم والورع فيمن يتولى القضاء. الجواب الثاني: أنه يحتمل أنه قد قصد بالحصر في هذين الحديثين المبالغة والاهتمام بالشيء، وبيان أنه أهم شروطه؛ حيث إن أهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1791 شروط الصلاة: الطهارة، وأهم شروط النكاح: وجود الولي؛ قياساً على قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الحج عرفة ". فهذا الحديث لم يقصد منه ثبوت الحج عند الوقوف، ونفيه عند عدم الوقوف؛ لأن الحج قد يبطل مع الإتيان بالوقوف؛ لكونه قد ترك ركناً آخر من أركانه، ولكنه ذكر ذلك لأن الوقوف بعرفة أهم أركان الحج. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ لأنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - إذا قال المقر: " ليس له عليّ شيء إلا درهما "، فإن أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الاستثناء من النفي إثبات - يوجبون على المقر درهماً، لأن الاستثناء من النفي إثبات. وأما أصحاب المذهب الثاني - وهم الحنفية - فلا يوجبون شيئا على المقر؛ لأن الاستثناء من النفي ليس بإثبات، ويقولون: إن المستثنى مسكوت عنه، لا يحكم عليه بنفي ولا إثبات. 2 - إذا قال: " والله لا آكل إلا هذا الرغيف "، فإن على المذهب الأول يحنث إن لم يأكل الرغيف؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات. أما بناء على المذهب الثاني: فإنه إذا لم يأكل شيئاً من الرغيف فإنه لا يحنث؛ لأن الاستثناء من النفي ليس بإثبات. النوع السادس:. مفهوم " إنما ": هل تقييد الحكم بهذا اللفظ - وهو إنما - كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق ": وقوله: " إنما الأعمال بالنيات "، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1792 وقوله: "إنما الربا في النسيئة " يدل على الحصر، وإثبات الحكم، ونفيه عما عداه أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن " إنما " يدل على الحصر، وإثبات المذكور، ونفي ما عداه، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن لفظة " إنما " مركبة من جزئين هما: " إن " المشددة، و " ما ". و" إنَّ " للإثبات مثل: " إن زيداً ناجح ". و" ما " للنفي مثل: " ما زيد بناجح ". وإذا كانت " إن " للإثبات، و " ما " للنفي حال انفرادهما، فيجب استصحاب ذلك وإبقاء ما كان على ما كان في حال اجتماعهما في التركيب، إذن لفظ " إنما " موضوع للأمرين: للإثبات، والحصر، ونفي ما عدا المذكور. أي: أن لفظ " إنما " يفيد الإثبات إذا نظرنا إلى " إنَّ "، ويفيد الحصر ونفي ما عدا المذكور إذا نظرنا إلى " ما ". الدليل الثاني: أن المتبادر إلى أفهام أهل اللغة والعارفين بأساليب اللغة العربية من لفظ " إنما " هو: الحصر، وإثبات المذكور ونفي ما عدا المذكور، فلم تستعمل في موضع من النصوص الشرعية، أو الأشعار العربية إلا ويحسن فيه الحصر والنفي، والأصل في الاستعمالِ الحقيقة، والأمثلة على ذلك كثيرة. ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ) ، حيث حصر الله سبحانه نفسه في صفة الوحدة مع أنه له صفات كثيرة، ولكنه حصرها هنا باعتبار خاص، وهو المعلوم من سياق الآية، حيث قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1793 تعالى: (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ) . ومنها قوله تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) ، فقد حصر الخشية على العلماء وإن كان يوجد من العباد من يخشاه سبحانه من غير العلماء، ولكنه حصر ذلك في العلماء؛ لكونهم أشد خشية لله بسبب علمهم بالآيات. ومنها: قوله تعالى: (إنما أنا منذر) ، فقد فسَّره بصريح الحصر في غير موضع كقوله تعالى: (وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ) ، وقوله: (إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) . ومنها: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الأعمال بالنيات "، وقد فسَّره بقوله: " لا عمل إلا بنية " وهو حصر. ومنها: قول الفرزدق: أنا الضامن الراعي عليهم وإنما ... يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي فحصر المدافعة فيه أو في مثله. المذهب الثاني: أن تقييد الحكم بلفظ " إنما " لا يدل على الحصر، بل يدل على إثبات الحكم المذكور - فقط - ولا يدل على نفي ما عداه. وهو مذهب أكثر الحنفية وبعض الشافعية كالآمدي، وبعض الحنابلة كالطوفي. دليل هذا المذهب: أن لفظ " إنما " مركبة من جزأين هما: " إنَّ " و " ما ". و" إنَّ " للتأكيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1794 و" ما " كافة، وليست نافية. أي: أن " ما " تكف " إنَّ " وأخواتها عن العمل فيما بعدها، وتقلبها من اختصاصها بالدخول على الأسماء - فقط - إلى دخولها على الفعل: فلفظ " إنَّ " مختصة بالدخول على الأسماء فقط فيقال: " إن زيداً مسافر "، ولا تدخل على الأفعال فلا يقال: " إنَّ قام زيد ". ولكن لما وردت لفظة " ما " بعد " إن " أفادت أمرين: أولهما: أنها كفتها عن العمل. ثانيهما: أنها جعلت " إن " تدخل على الفعل فتقول: " إنما قام زيد". وإذا كانت " ما " كذلك فليست نافية، ولا تدل على النفي كقولنا: " إنما النبي محمد "، فإن هذا يدل على إثبات النبوة لمحمد - صلى الله عليه وسلم -، ولا تنفي النبوة عن غيره من الأنبياء. جوابه: لا نسلم ما ذكرتموه، لأن " إنما " تفيد الإثبات والنفي؛ لوجود ما يقتضيهما وهما: " إنَّ. " المؤكدة المثبتة، و " ما " النافية؛ قياسا على الاستثناء من النفي الذي هو إثبات، فكما أن قولنا: " لا فتى إلا علي" يفيد نفي الفتوة عن غير علي، وتأكيد الفتوة لعليّ، فكذلك هنا فقولنا: " إنما العالم زيد " يفيد إثبات العلم الصحيح لزيد والتأكيد على ذلك، ونفي العلم الصحيح عن غيره. أما قولكم: " إنما " النبي محمد، فهذا كلام من إنشاءكم، وهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1795 اختراع على اللغة لم يسمع به، فلا يقوى على معارضة ما ورد في القرآن وكلام العرب. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث تأثرت بهذا الخلاف بعض الفروع الفقهية، ومنها: لو أخبر مخبر قائلاً: " إنما العالم زيد "، فإن هذا يُفهم أن العلم محصور على زيد، وأن غيره لا علم عنده، هذا بناء على المذهب الاءول. أما على المذهب الثاني: فإن هذا لا يفيد الحصر، بل يفيد تأكيد الإثبات، فالعلم يوجد عند زيد وعند غيره. النوع السابع: حصر المبتدأ في الخبر: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم "، وقوله: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم "، وقولنا: " العالم زيد "، و " صديقي زيد " هل يدل ذلك على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وعلى حصر تحريم الصلاة في التكبير، وتحليل الصلاة في التسليم، وعلى حصر الحلم في زيد، وعلى حصر الصداقة فى زيد أو لا؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن ذلك يدل على الحصر ويفيده. أي: أن ذلك يدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وحصر التحريم في التكبير، وحصر التحليل في التسليم، وحصر العلم والصداقة في زيد. وهو مذهب كثير من العلماء منهم الغزالي، وإلكيا الهراسي، وابن قدامة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1796 وهو الحق عندي؛ لدليلين: الدليل الأول: أن أهل اللغة يُفرقون بين قول القائل: " زيد صديقي "، وبين قوله: " صديقي زيد " بأن الثاني يفيد الحصر، ولولا أن الثاني يفيد الحصر لما حصلت التفرقة بينهما، فكل من قال بالتفرقة بينهما قال: إن تلك التفرقة بإفادة الحصر وعدم إفادته. الدليل الثاني: أن الاسم إذا دخلت عليه " أل " كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "الشفعة فيما لم يقسم "، أو أضيف إلى معرفة كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "تحريمها التكبير وتحليلها التسليم "، وقولنا: " صديقي زيد "، فإن هذا الاسم يفيد الاستغراق، وبالتالي فإن ذلك يفيد الحصر، وهو ظاهر فيه، بيان ذلك: أنه أفاد الحصر؛ لأن المحكوم به - وهو الخبر - يجب أن يكون مساويا للمحكوم عليه - وهو المبتدأ - أو أعم منه. فمثال المساوي: قولنا: " الإنسان بشر "، فالإنسان - هنا - وهو المبتدأ - محكوم عليه بأنه بشر - وهو الخبر - وهو مساوٍ له. ومثال الأعم قولنا: " الإنسان حيوان "، فالإنسان هنا. وهو المبتدأ - محكوم عليه " بأنه حيوان وهو أعم من الإنسان، وإذا ثبت ذلك فإن " التحريم " الوارد في حديث: " تحريمها التكبير " مبتدأ، و" التكبير " خبره، فيكون " التكبير " مساويا للتحريم، فينحصر التحريم في التكبير كما حصرنا " الإنسان " في " الحيوان "، وكما حصرنا الإنسان في البشرية. وعلى ذلك: فإن التحريم يجب أن ينحصر في التكبير، والتحليل يجب أن ينحصر في التسليم، والشفعة يجب أن تنحصر فيما لم يقسم، والصداقة يجب أن تنحصر في زيد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1797 المذهب الثاني: أن ذدك لا يدل على الحصر ولا يفيده. أي: أن ذلك لا يدل على حصر الشفعة فيما لم يقسم، وحصر التحريم في التكبير، وحصر التحليل في التسليم، وحصر العلم والصداقة في زيد في الأمثلة السابقة. وهو مذهب أكثر الحنفية، رالقاضي أبي بكر، وبعض المتكلمين. دليل هذا المذهب: أن مثل ذلك لو أفاد الحصر: لكان قول القائل: " صديقي زيد وعمرو " تناقضاً، لأن قوله: " صديقي زيد " يفيد الحصر - على زعمكم - وقوله: " وعمرو " يقتضي أن لا تكون صداقته منحصرة في زيد، بل توجد فيه وفي عمرو، فثبت التناقض. جوابه: أننا قلنا: إن هذا يفيد الحصر إذا كان مجرداً عن القرائن، أما إذا اقترن به ما يغيره عنه، فلا يفيد الحصر " لأجل هذه القرينة، و"عمرو " معطوف على " زيد " فهو يغيره، فيصير - حينئذ - المعطوف والمعطوف عليه كأنه جملة واحدة، والمعطوف عليه بدون المعطوف بعض الكلام، وبعض الكلام لا اقتضاء له على الانفراد، وهذا قياساً على ما قلناه في الاستثناء، فإن المستثنى منه مع المستثنى جملة واحدة، فإن المستثنى منه لو لم يقترن بالمستثنى كان المستثنى منه تمام الكلام، وبتقدير الاقتران به يصير بعض الكلام. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إن هذا الخلاف قد أثر في بعض الفروع، ومنها ما سبق من الأمثلة، فإنه بناء على المذهب الأول، فإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1798 التحريم يجب أن ينحصر في التكبير، والتحليل يجب أن ينحصر في التسليم، والشفعة يجب أن تنحصر فيما لم يقسم، والصداقة، والعلم يجب أن ينحصرا في زيد، هذه القاعدة، ولكن إذا وجد دليل أو قرينة تدل على غير ذلك، فإنه يؤخذ بها. أما بناء على المذهب الثاني - وهو أن مثل هذا لا يفيد الحصر - فإنه يترتب على ذلك - في الأمثلة السابقة -: أن بعض الشفعة فيما لم يقسم، وبعض التحريم التكبير، وبعض التحليل التسليم، وبعض العلم عند زيد، وبعض الأصدقاء زيد. هذه القاعدة عندهم - في مثل هذا التعبير - ولكن إذا وجدت قرينة تدل على غير ذلك كأن تدل على أن التحرلي م منحصر في التكبير فإنه يؤخذ بها. النوع الثامن: مفهوم اللقب: إذا قيد الحكم أو الخبر بالاسم فهل يدل على نفي الحكم عما عداه؟ اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن مفهوم اللقب ليس بحُجَّة. أي: أنه إذا قيد الحكم أو الخبر باسم فلا يدل ذلك على نفي الحكم عما عداه، مطلقاً: أي: سواء كان هذا الاسم علماً أو اسم جنس. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن تقييد الحكم بالاسم لو كان دليلاً على نفي الحكم عما عداه لكان قول القائل: " عيسى رسول اللَّه " كفراً؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1799 لأنه يدل بمفهومه على أن محمداً - صلى الله عليه وسلم - وغيره من الأنبياء ليسوا برسل، وهذا كفر صريح. الدليل الثاني: أنه لو كان تقييد الحكم بالاسم يدل على نفي الحكم عما عداه لما حسن من الإنسان أن يخبر أن زيداً يأكل إلا بعد علمه أن غيره لم يأكل، وإلا كان مخبراً بما يعلم أنه كاذب فيه، أو ربما لا يأمن فيه من الكذب، وحيث استحسن العقلاء ذلك مع عدم علمه بذلك دلَّ على عدم دلالته على نفي الأكل من غير زيد. الدليل الثالث: أنه لو كان تقييد الحكم بالاسم يدل على نفي الحكم عما عداه لأفضى ذلك إلى سد باب القياس، لأنه إذا قال - في حديث الأشياء الستة -: " لا تبيعوا البر بالبر " يجب أن لا يقاس الأرز عليه، لأن تخصيص البر بالذكر يوجب إباحة ربا الفضل في غيره من الأرز وغيره، فلما كان هذا مانعاً من القياس الثابت وجب تركه. المذهب الثاني: أن مفهوم اللقب حُجَّة. أي: أنه إذا قيد الحكم أو الخبر باسم، فإنه يدل على نفي الحكم عما عداه. وهو مذهب بعض المالكية، وبعض الشافعية كأبي بكر الدقاق، وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس تقييد الحكم بالاسم على تقييده بالصفة، فإن الصفة تميز الموصوف من غيره، وكذلك الاسم وضع لتمييز المسمى من غيره، ثم إذا علق الحكم على صفة دلَّ على أن ما عداه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1800 بخلافه، فكذلك إذا علق الحكم على الاسم، فإنه يدل على أن ما عداه بخلافه ولا فرق، فإذا قال: "اعط هذا الكتاب لزيد"، فإنه يفهم منه: أنه لا يعطيه إلى عمرو، ولا إلى غيره، بل يعطى لزيد فقط. جوابه: أن قياسكم الاسم على الصفة قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجهين: أولهما: أن الصفة يجوز أن تكون علَّة يعلق الحكم عليها بخلاف الاسم فلا يجوز أن يكون عِلَّة، فلا يعلق الحكم عليه. ثانيهما: أن الصفة تذكر مع اسم فلا تفيد إلا تخصيصه. بخلاف الاسم، فإنه يعدل عن اسم إلى اسم كل واحد منهما يقع به التعريف، فلا يوجب ذلك التخصيص. الدليل الثانيْ أنه لو تخاصم رجلان فقال أحدهما: " أما أنا فليست أمي ولا أختي ولا زوجتي زانية "، فإنه يتبادر إلى الفهم أنه ينسب الزنا إلى أم خصمه، وأخته، وزوجته، ولذلك يجب حد القذف على الأول عند بعض العلماء. جوابه: أن ذلك إن فهم منه، فإنما يفهم من قرينة حاله، وهي الخصومة، لا من دلالة مقاله. ولو فرض ذلك في غير الخصومة، فنحن نمنع فهمه، لذلك لا يجوز إقامة حد القذف على القائل بذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إن بعض الفروع قد تأثرت بهذا الخلاف ومنها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1801 1 - أنه لو قال في الخصومة: " إن زوجتي ليست بزانية "، فإن هذا لا يعتبر قذفاً لزوجة خصمه عند أصحاب المذهب الأول؛ لأن مفهوم اللقب ليس بحجة، لذلك لا يجوز إقامة حد القذف على القائل. أما بناء على المذهب الثاني، فإن هذا يعتبر قذفا لزوجة خصمه، فتجب إقامة حد القذف على القائل، لأن مفهوم اللقب حُجَّة. 2 - إذا أوصى بعين لزيد، ثم قال بعد ذلك: أوصيت بها لعمرو، فإنه بناء على المذهب الأول لا يُعتبر ذلك رجوعاً عن الوصية لزيد، بل يشرك بينهما؛ لأنه لا يفهم من كونه أوصى بها لزيد أنه ما أوصى بها لعمرو، ولا يجعل التعبير بالاسم الثاني دالاً على نفي غيره. أما أصحاب المذهب الثاني، فإنهم قالوا: يكون هذا رجوعاً عن الوصية لزيد، وتصح وصية عمرو، فيجعل التعبير بالاسم الثاني - وهو عمرو - دالاً على نفي غيره. المسألة الرابعة: شروط مفهوم المخالفة: إنني لما قلت: إن مفهوم الصفة، والتقسيم، والغاية، والحال، والمكان، والزمان، والشرط، والغاية، والعدد، والاستثناء، والحصر بإنجا، وحصر المبتدأ في الخبر كلها حُجَّة ليس هذا على إطلاقه، بل يشترط في ذلك شروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن لا يرجع حكم المفهوم المخالف على أصله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1802 المنطوق به بالإبطال؛ لأن المفهوم فرع المنطوق، ولا يجوز أن يُقدم الفرع على الأصل، ويُسقطه. الشرط الثاني: أن لا تظهر أولوية المسكوت عنه بالحكم، أو مساواته فيه للمنطوق، وإلا استلزم ثبوته في المسكوت عنه، فكان مفهوم موافقة، ولا يكون مفهوم مخالفة. الشرط الثالث: أن لا يوجد في المسكوت - المراد إعطاؤه حكما - دليل خاص يدل على نقيض حكم المنطوق، فإن وجد ذلك الدليل الخاص كان هو طريق الحكم المعمول به، لا المفهوم المخالف، كما قلنا في قوله تعالى: (فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) إنه لم يعمل بمفهوم الشرط هنا؛ حيث لم يثبت انتفاء الحكم عند انتفاء الشرط، فيجوز القصر عند عدم الخوف، وذلك لوجود دليل آخر قد أباح القصر ولو لم يوجد الخوف، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صدقة تصدق اللَّه بها عليكم فاقبلوا صدقته ". الشرط الرابع: أن يذكر القيد مستقلاً، فلو ذكر على وجه التبعية لشيء آخر فلا مفهوم له مثل قوله تعالى: (وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) ، فتقييده بالمساجد لا مفهوم له؛ لأن المعتكف ممنوع من المباشرة مطلقاً. الشرط الخامس: أن لا يكون هناك تقدير جهالة بحكم المسكوت عنه من جهة المخاطب. الشرط السادس: أن لا يكون القيد قد خرج مخرج الأغلب المعتاد كقوله تعالى: (فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ) ، وذلك لأن الخلع إنما يكون عند خوف عدم القيام بما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1803 أمر اللَّه به من قبل كل من الزوجين، فلا يفهم منه: أنه عند عدم الخوف لا يجوز الخلع، فهذا الوصف لا مفهوم له، كذلك قوله تعالى: (وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ) ، فإن وصف الربائب بكونهن في الحجور جار وموافق للغالب لمن تزوج امرأة معها ابنتها، فإنه يربيها في بيته، فهذا الوصف لا مفهوم له؛ إذ لا يجوز للرجل أن يتزوج من ابنة امرأته، ولو تربت في غير بيته. الشرط السابع: أن لا يكون المقصود من القيد هو: المبالغة في التكثير كقولك: " جئتك ألف مرة " - وقد سبق التنبيه عليه - فهذا لا مفهوم. الشرط الثامن: أن لا يكون المقصود من القيد: المبالغة في التنفير كقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة) فهذا لا مفهوم له، حيث لا يدل بالمفهوم المخالف: أن الربا القليل حلال، ولكن سيق هذا لبيان أن الربا كان جاريا على الأغلب وللتنفير منه. الشرط التاسع: أن لا يكون المقصود من القيد: الحث على الامتثال كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشراً "، فالوصف بالإيمان لا مفهوم له؛ لأنه سيق للحث على الامتثال لأوامر اللَّه في الإحداد ثلاث ليال على الميت، وليس المقصود منه جواز ما زاد إن كانت لا تؤمن بالله. الشرط العاشر: أن لا يكون المقصود من القيد: إظهار الامتنان كقوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا) ، فإن هذا لا مفهوم له، لأنه سيق لإظهار المنة بطيب اللحم الطري، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1804 وليس المقصود من ذلك الوصف - وهو قوله: (لَحْمًا طَرِيًّا) كون اللحم غير الطري ممتنع أكله. الشرط الحادي عشر: أن لا يكون الكلام الذي ورد فيه القيد جواباً لسؤال سائل، أو حادث معين، فإن كان كذلك فإنه لا يعمل بالمفهوم؛ لأن فائدة المنطوق قد وردت خاصة بذلك السؤال، أو الحادثة، كما لو سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن سائمة الغنم، فأجاب بوجوب الزكاة في سائمة الغنم، فإنه لا يدل على أن المعلوفة لا زكاة فيها من هذا اللفظ. الشرط الثاني عشر: أن لا يكون الشارع قد ذكر القيد للقياس عليه، فإن وجد فيه شروط القياس - كلها - فلا مفهوم له، كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم: الحية، والغراب الأبقع، والفأرة، والكلب الأسود، والحدبا "، فلا مفهوم لذلك؛ حيث إن الشارع إنما ذكرهن لما فيهن من الأذى، فيجوز أن نلحق بهن كل ما فيه أذى. هذه أهم شروط مفهوم المخالفة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1805 الباب الخامس في القياس ويشتمل على تمهيد، وأربعة فصول: أما التمهيد فهو في بيان أهمية القياس. أما الفصول فهي: الفصل الأول: في تعريف القياس. الفصل الثاني: في حجية القياس. الفصل الثالث: في أركان القياس وشروطها وما يتعلق بها. الفصل الرابع: في قوادح القياس ومبطلاته، والاعتراضات عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1807 التمهيد في بيان أهمية القياس لقد قلنا في الباب الثالث: إن القياس هو رابع الأدلة المتفق عليها إجماعاً بعد الكتاب والسُّنَّة والإجماع، ولقد أخرته إلى هنا؛ لأنه يأتي بالمرتبة الرابعة بعد الكتاب والسُّنَّة والإجماع، وما تفيده النصوص والألفاظ من الأحكام، كما قال الشاعر: إذا أعيا الفقيه وجود نص ... تعلَّق لا محالة بالقياس فالمجتهد لا يلجأ إليه إلا بعد فقد النص من الكتاب والسُّنَّة أو الإجماع. ومعرفة القياس من أهم شروط المجتهد؛ إذ لا يمكن أن يبلغ أحد الاجتهاد أو يستنبط حكما شرعيا لحادثة متجددة إلا بواسطة القياس. قال الإمام الشافعي - رحمه اللَّه -: " من لم يعرف القياس فليس بفقيه "، وقال الإمام أحمد - رحمه الله -: " لا يستغنى أحد عن القياس "، وأهمية القياس تتبين في أمور: الأول: أنه يُعوَّل على القياس في معرفة أسرار الأحكام، والوقوف على الحكَم والمقاصد والعلل التي شرعت من أجلها الأحكام من جلب مَصالح أو درء مفاسد. الثاني: أن القياس هو المنهل العذب الذي نأخذ عن طريقه أحكام الوقائع والحوادث والقضايا المتجددة، وذلك لأنه من المعروف أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1809 النصوص قليلة ومتناهية، والحوادث والوقائع والقضايا المتجددة كثيرة غير متناهية، فالنصوص لا تقوى على مد كل واقعة وحادثة بحكم منصوص عليه، فليس أمام المجتهد إلا القياس، وما يتعلق به من وجوه النظر والاستدلال، فكانت الحاجة إلى القياس لا تنقطع، وفوائده لا تنتهي ما دامت الحوادث والوقائع والقضايا تتجدد على مدى السنوات والقرون إلى قيام الساعة. الأمر الثالث: أن من عرف القياس معرفة دقيقة فإنه يغنيه عن معرفة أكثر علوم الشريعة؛ حيث إنه إذا أراد أن يقيس على حكم من الأحكام ثبت بنص، فإنه لا بد أن يتأكد من ثبوت هذا النص، وأن يعرف تفاسير العلماء لهذا النص - سواء كانت آية أو حديثاً - وهل هو ناسخ أو منسوخ؟ وهل هو محكم أو متشابه؟ وهل هو حقيقة أو مجاز؟ وهل دلَّ على الحكم المقاس عليه بالمنطوق أو بالمفهوم؟ وهل هو عام أو خاص؟ أو مطلق أو مقيد؟ أو هو أمر أو نهي؟ أو هو مجمل أو ظاهر أو نص؟ إلى آخر ما يتعلق بالنص، ثم إذا كان الحكم مأخوذاً من حديث فإنه لا بد أن يعرف ما سبق، ويزيد معرفته لرجال الحديث، لأنه لا يجوز القياس على شيء مشكوك فيه، وهكذا، وهذا يشمل كل العلوم. الأمر الرابع: أن القياس باب من أبواب تعميم الأحكام الشرعية، حيث إنه إذا ثبت حكم من الأحكام وعرفنا عِلَّة ذلك الحكم، ووجدنا تلك العلَّة في فروع أخرى، فإنا نلحق تلك الفروع بذلك الأصل ونعمم حكم الأصل ونجعله لتلك الفروع. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1810 الفصل الأول في تعريف القياس وبشتمل على مباحث: المبحث الأول: تعريف القياس لغة. المبحث الثاني: تعريف القياس اصطلاحا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1811 المبحث الأول في تعريف القياس لغة ويشتمل على مطلبين هما: المطلب الأول: فيما يطلق عليه لفظ " القياس " لغة. المطلب الثاني: في خلاف العلماء في لفظ القياس هل يطلق على "التقدير " و " المساواة " حقيقة أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1813 المطلب الأول فيما يطلق عليه لفظ " القياس " لغة القياس لغة يطلق على إطلاقين: الإطلاق الأول: يطلق على التقدير، والتقدير هو: أن يعرف قدر أحد الأمرين بواسطة معرفتنا لقدر الآخر مثل: قولنا: " قست الثوب بالذراع " أي: قدرت الثوب بالذراع. ومنه قولهم: " قاس الطبيب الجراحة " أي: قدر الطبيب مدى غور ذلك الجرح بواسطة الميل، والميل هو: آلة تدخل في الجرح ليرى هل هو عميق ووصل إلى العظم، أو أنه وسط، أو أنه سطحي لم يؤثر، وذلك من أجل تقدير أرش - الجناية. الإطلاق الثاني: يطلق القياس لغة على المساواة، سواء كانت المساواة حسية كقولنا: " قست النعل بالنعل " أي: ساويت إحداهما بالأخرى، وقولنا: " قست الثوب بالثوب " أي: حاذيت وساويت أحدهما بالآخر. أو كانت المساواة معنوية كقولنا: " فلان يقاس بفلان " أي: يساويه في الفضل، والشرف، والعلم، وكقولنا: " فلان لا يقاس لفلان " أي: لا يساويه في الفضل والعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1815 المطلب الثاني في خلاف العلماء في لفظ " القياس " هل هو حقيقة في هذين المعنيين، أو حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر؟ على مذاهب: المذهب الأول: أن القياس مشترك معنوي بين " التقدير "، و" المساواة ". أي: أنه حقيقة في التقدير، ويكون المطلوب به شيئين هما: الأول: معرفة مقدار الشيء مثل: " قست الثوب كالذراع ". الثاني: التسوية في مقدار الشيء مثل: " فلان لا يقاس بفلان " أي: لا يساويه. فصار " التقدير " كلي تحته فردان: أحدهما: استعلام القدر نحو: " قست الثوب بالذراع ". والآخر: التسوية في المقدار نحو: " فلان لا يقاس بفلان ". وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق عندي؛ لأن القياس إما أن يكون حقيقة في التقدير، مجازاً في المساواة، أو هو مشترك بينهما بالاشتراك اللفظي، أو بالاشتراك المعنوي، والأمر إذا دار بين الاشتراك اللفظي والاشتراك المعنوي قدم الاشتراك المعنوي، لأن الاشتراك اللفظي خلاف الأصل، لأنه يحتاج إلى قرينة تبين المراد من المعنيين، وإذا دار اللفظ بين الحقيقة والمجاز قدمت الحقيقة؛ لأن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1816 المجاز خلاف الأصل؛ لأن المجاز يحتاج إلى قرينة، فتبين أن لفظ القياس مشترك معنوي بين " التقدير " و " المساواة " - كما بيناه فيما سبق - لنسلم من الاشتراك اللفظي، والمجاز اللذين هما على خلاف الأصل. المذهب الثاني: أن القياس في اللغة حقيقة في التقدير مجاز في المساواة. وهو مذهب بعض العلماء كالآمدي. دليل هذا المذهب: أن المساواة لازمة للتقدير، والتقدير ملزوم، واستعمال اللفظ في ذلك مجاز لغوي من باب إطلاق الملزوم على اللازم، وهو شائع مشهور - وقد سبق بيانه في مبحث المجاز -. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن المجاز خلاف الأصل؛ حيث إنه يحتاج في دلالته إلى قرينة مانعة من إرادة المعنى الأصلي الحقيقي بينما الحقيقة لا تحتاج إلى تلك القرينة، وما لا يحتاج مقدم على ما يحتاج. المذهب الثالث: أن لفظ " القياس " مشترك لفظي بين " التقدير " و" المساواة ". وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن لفظ " القياس " قد استعمله العرب في " التقدير "، واستعمله العرب في " المساواة "، والأصل في الاستعمال الحقيقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1817 جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن الاشتراك اللفظي خلاف الأصل؛ لأمرين: أولهما: أن الأصل عدم تعدد الوضع، أي: أن الأصل: أن يكون اللفظ له معنى واحد، فإذا ورد لفظ له معنيان فهذا خلاف الأصل. ثانيهما: أن المشترك اللفظي يحتاج في دلالته على أحد معنييه أو معانيه إلى قرينة تعين المراد منه، وما لا يحتاج يقدم على ما يحتاج. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ لأن أصحاب المذهب الأول يحملون لفظ القياس على التقدير المتضمن معنى المساواة، ويحملونه على المساواة المتضمن معنى التقدير بدون الحاجة إلى قرينة، أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم يحملونه على التقدير بدون قرينة، ولا يحملونه على المساواة إلا بقرينة؛ لأنهم يفرقون بينهما، أما أصحاب المذهب الثالث: فإنهم لا يحملون لفظ القياس على شيء منهما إلا بقرينة، أي: أنهم يتوقفون حتى تثبت قرينة تبين المراد منه. * * * تنبيهان: التنبيه الأول: القياس يتعدى بـ " على " وهو كثير جداً في الاستعمال، ومنه قولنا: " النبيذ يقاس على الخمر "، و " الأرز يقاس على البر ". ويتعدى بـ " الباء " قليلاً يقال: " قاسه بالشيء "، ومنه قولهم: " قياس صب البول في الماء الراكد بالبول فيه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1818 التنبيه الثاني: القياس واوي، ويائي، وكل ذلك ورد عن العرب. فقد ورد: قاس، يقيس، قيسا، قياسا. وقد ورد: قاس، يقوس، قوساً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1819 المبحث الثاني في تعريف القياس اصطلاحا ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: هل يمكن تحديد القياس بحد حقيقي؟ المطلب الثاني: هل القياس دليل مستقل أو هو من فعل المجتهد؟ المطلب الثالث: نعريف القياس المختار، وبيانه بالشرح والأمثلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1821 المطلب الأول هل يمكن تحديد القياس بحد حقيقي؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يمكن تحديد القياس بحد حقيقي. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن القياس اعتباري اصطلاحي، تكون حقيقته على حسب ما يصطلح عليه أهل الفن، لذلك يمكن أن يحده كل مجتهد بحسب اعتباره واصطلاحه الذي رآه. المذهب الثاني: أنه لا يمكن تحديد القياس بحد حقيقي، أي: يتعذر حد القياس بحد حقيقي، وهو اختيار إمام الحرمين وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن القياس يشتمل على حقائق مختلفة وهي: الأصل، والفرع، والعِلَّة، والحكم في نفي وإثبات، وكل واحد من هذه الحقائق يشترط فيه شروط تختلف عن شروط الآخر، فلا يمكن جمع هذه ْالحقائق وشروطها في حد واحد جامع مانع. وقالوا: ما وجد من تعريفات للقياس، فإنها ليست حدوداً حقيقية، بل هي رسوم، والرسوم غير الحدود. جوابه: لقد قلنا: إن القياس أمر اعتباري اصطلاحي، وبناء على ذلك الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1823 فإنه يمكن للمجتهد أن يجمع أركان القياس، والقيود التي يراها في تعريف واحد على حسب رأيه هو فقط. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن كلًّا من أصحاب المذهبين قد قام بتعريفه، لكن أصحاب المذهب الأول يسمون ذلك حداً، وأصحاب المذهب الثاني يسمون ذلك رسما وليس بحد، فالخلاف في التسمية، أما المعنى فهو متفق عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1824 المطلب الثاني هل القياس دليل مستقل أو هو من فعل المجتهد؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن القياس من فعل المجتهد، لا يتحقق إلا بوجوده. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة: أن الاعتبار هو الإلحاق بعد النظر في وجوه الأدلة، ولا شك أن ذلك من فعل المجتهد؛ يؤيده: أنه سبحانه أضاف الاعتبار إلى ذوي العقول البصيرة، فقال: " فاعتبروا ... ". الدليل الثاني: حديث معاذ - رضي اللَّه عنه - حيث قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن عرض عليك قضاء فبمَ تقضي؟ " قال: بكتاب اللَّه، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسنّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: " فإن لم تجد؛ " قال: أجتهد رأيي، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وجه الدلالة: أنه أضاف الاجتهاد إلى رأيه هو، والقياس من الرأي، فالقياس - إذن - يكون من فعل المجتهد. الدليل الثالث: أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابا جاء فيه: " الفهم فيما جاءك مما ليس في قرآن ولا سُنَة، ثم قس الأمور عند ذلك ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1825 وجه الدلالة: أن عمر أمر أبا موسى بأن يلحق ما لم يرد في حكمه نص بما يشابهه مما ورد فيه نص، وليس هذا الإلحاق إلا من قبيل فعل المجتهد. الدليل الرابع: أن إلحاق الفرع بالأصل، وثبوت مثل حكم الأصل للفرع ليس بالأمر السهل، حيث إنه لا يجوز للمجتهد إلحاق هذا بذاك إلا بعد معرفة أن هذا الشيء شبيه بذلك الشيء، ومعرفة العِلَّة في الأصل، والتحقق من وجودها في الفرع إلى غير ذلك من الأمور التي تشترط للقياس - كما سيأتي التفصيل فيه - وكل هذا من فعل المجتهد وهو القائس. المذهب الثاني: أن القياس دليل مستقل كالكتاب والسُنَّة وضعه الشارع لمعرفة حكمه، سواء نظر فيه المجتهد أو لم ينظر، وليس فعلاً للمجتهد. وهو مذهب الآمدي، وابن الحاجب، والكمال ابن الهمام، وابن عبد الشكور، والأنصاري. دليل هذا المذهب: أن القياس وضعه الشارع ليعرف عن طريقه المجتهد حكم الله - تعالى - بواسطة النظر فيه؛ حيث إن دلالة القياس على الأحكام دلالة ذاتية وثابتة كالكتاب والسُّنَّة، سواء نظر المجتهد أو لم ينظر. جوابه: يجاب عنه بثلاثة أجوبة: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ ذلك؛ لأن القياس لا يدل على أي حكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1826 شرعي إلا بوجود مجتهد يبين هذه الدلالة، بواسطة تأكد هذا المجتهد من وجود أركان القياس الأربعة، وتوفر شروط كل ركن. الجواب الثاني: أن قياسكم القياس على الكتاب والسُّنَّة فهو قياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن دلالة الآية من الكتاب، والحديث من السُّنَّة على الحكم لا يشترط فيها توفر أركان أو شروط، أما القياس فيشترط ذلك، ولا يبين ذلك إلا المجتهد. الجواب الثالث: أن الآية أو الحديث يستدل المجتهدون بهما على حد سواء بخلاف القياس، فقد يستدل بعض المجتهدين بهذا القياس في حين أن المجتهد الآخر - في تلك المسألة - يستدل بقياس آخر على رأي مخالف للأول مثل ما حصل بين ابن عباس، وزيد في مسألة " هل الجد يحجب الإخوة؛ "، فابن عباس - رضي الله عنهما - قد جعل الجد يحجب الإخوة، ودليله على ذلك: القياس، حيث قاس الجد على ابن الابن بجامع: أن كلًّا منهما في مرتبة واحدة بالنسبة للميت، فقال: " ألا يتقي اللَّه زيد يجعل ابن الابن ابناً، ولا يجعل أب الأب أباً " أي: أنه كما أن ابن الابن يحجب الإخوة، فكذلك ينبغي للجد أن يحجب الإخوة، ولا فرق بسبب الجامع السابق. أما زيد بن ثابت فإنه ورث الإخوة مع الجد، ودليله القياس، وهو قياس غير قياس ابن عباس، حيث قاس الأخ على الجد بجامع: أن كلًّا منهما قد أدلى بالأب، فالجد ما صار جداً للميت إلا لأنه أب أبيه، والأخ ما ضار أخاً للميت إلا لأنه ابن أبيه، فإذا كان الجد يرث فكذلك الأخ. فهنا كل من ابن عباسٍ وزيد - رضي اللَّه عنهم - قد استعمل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1827 القياس واستدل به، ولكن استدلال واستعمال ابن عباس يختلف عن استدلال واستعمال زيد، فهذا يبين أن القياس من فعل المجتهد، بخلاف الآية أو الحديث، فإن استدلال هذا المجتهد بها هو نفسه استدلال المجتهد الآخر بها. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذا معنوي؛ حيث أثر في تعريفات الأصوليين للقياس. أي: أن عبارات الأصوليين في تعريف القياس قد اختلفت؛ بناء على اختلافهم في هذه المسألة. فمن أخذ بالمذهب الأول - وهو أن القياس من فعل المجتهد - فقد عبَّر - في تعريف القياس - بلفظ: " حمل فرع على أصل "، أو " إثبات "، أو " إلحاق "، أو " تعدية "، أو " تسوية "، أو " رد " أو نحو ذلك مما يفيد أن القياس من فعل المجتهد، ومكتسب منه؛ حيث إن الحمل يحتاج إلى حامل، والإثبات يحتاج إلى مثبت، ْوالإلحاق يحتاج إلى ملحق، والتعدية تحتاج إلى معدي، والتسوية تحتاج إلى مسوي، والرد يحتاج إلى راد، وهذا هو المجتهد وهو القائس، وقد فعل ذلك الجمهور، ومنهم القاضي أبو بكر الباقلاني، والغزالي، وناصر الدين البيضاوي، وتاج الدين ابن السبكي، وصدر الشريعة من الحنفية، وفخر الدين الرازي، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو الوليد الباجي، وغيرهم من جمهور السلف والخلف. ومن أخذ بالمذهب الثاني - وهو: أن القياس دليل مستقك، وهم الآمدي، وابن الحاجب، وابن عبد الشكور، وابن الهمام، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1828 والأنصاري - فقد عبر عن القياس بأنه " استواء "، أو " مساواة "، أو نحو ذلك. والمساواة صفة قائمة بالمنتسبين: " الأصل "، و " الفرع "، مما يعطينا علماً بأن القياس ليس فعلاً للمجتهد، وكان مجرد عمله: إظهار حكم ما لم ينص عليه بطريق القياس بمساواته فيما نص عليه؛ لاشتراكهما في عِلَّة حكم الأصل. أي: أن " الأصل "، و " الفرع " مستويان تمام التساوي، ولكن المجتهد يظهر هذا الاستواء - فقط - كالآية هي تدل على حكم تلك الحادثة، والمجتهد أظهر لنا هذه الدلالة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1829 المطلب الثالث تعريف القياس المختار، وبيانه بالشرح والأمثلة لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف القياس، والسبب في هذا الاختلاف هو: اختلافهم في القياس هل هو دليل مستقل أو هو من فعل المجتهد؛ وقد سبق بيان ذلك، ونظراً لأني لا أريد أن أدخل طالب العلم في متاهات قد لا يخرج منها إلا بشق الأنفس، وانسجاماً للمنهج الذي رسمته للسير عليه في هذا الكتاب، فإني اخترت تعريفاً للقياس أقرب للصحة من غيره في نظري، وهو: أن القياس: إثبات مثل حكم أصل لفرع لاشتراكهما في علَّة الحكم عند المثبت. بيانه وشرحه: قولنا: " إثبات " جنس يشمل كل إثبات، سواء كان إثباتا لمثل حكم الأصل في الفرع، وهو قياس المساواة - وهو الذي نحن بصدده -. أو كان إثباتاً لنقيض حكم الأصل في الفرع لنقيض العِلَّة فيه، رهو قياس العكس مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "وفي بضع أحدكم صدقة "، قالوا: يا رسول اللَّه، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجر؟ ، قال: " أرأيتم لو وضعها في حرام؛ " أي: أكان يأثم؛ قالوا: نعم، قال: "فمه ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1830 يعني: أنه كما أنه إذا وضعها في حرام يأثم، فكذلك إذا وضعها في حلال، فإنه يؤجر. فهنا ثبت نقيض حكم الأصل - وهو الوطء في الحرام - في الفرع - وهو الوطء في الحلال - لنقيض العِلَّة وهي: افتراقهما في الحلال والحرام. ومعنى " الإثبات ": إدراك النسبة بين الفرع والأصل، والمراد به هنا: مطلق إدراك النسبة، سواء كان على جهة الإيجاب، أو جهة النفي، وسواء كان على سبيل القطع، أو على سبيل الظن. وقلنا ذلك حتى يشمل القياس: القياس في المثبتات، وفي المنفيات، وفي القطعيات، وفي الظنيات. فمثال القياس في المثبتات: قياس الضرب على التأفيف بجامع الإيذاء في كل فيكون حراما، فأثبتنا تحريم التأفيف في الضرب. ومثال القياس في المنفيات قولهم: الكلب نجس، فلا يصح بيعه كالخنزير، فلما نفينا صحة بيع الخنزير نفينا صحة بيع الكلب؛ قياساً عليه بجامع النجاسة في كل. ومثال القياس في القطعيات: قياس الضرب على التأفيف في الحرمة بجامع الإيذاء، وقياس إحراق مال اليتيم على أكله بجامع الإتلاف. وقلنا:. إنه قطعي هنا؛ لأن الفرع أَولى بالحكم من الأصل، هو في المثال الأول، أو مساوي له - كما هو في المثال الثاني -. ومثال القياس في الظنيات: قياس الأرز على البر في حرمة الربا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1831 بجامع كونه مكيلاً، وقلنا: إنه ظني؛ لأن الفرع ليس بأوْلى بالحكم من الأصل، ولا هو بالمساوي له. وقولنا: " مثل " في التعريف، المثل لا يحتاج إلى تعريف؛ لأن تصوره بديهي؛ حيث إن كل عاقل يعرف بالضرورة: أن هذا الحار مثل ذلك الحار في كونه حاراً، وأنه يخالف البارد. ولفظ: " مثل " أتى به في التعريف؛ لأمرين: أولهما: لإخراج قياس العكس؛ لأن قياس العكس هو: إثبات نقيض حكم الأصل في الفرع؛ لافتراقهما في عِلَّة الحكم. ثانيهما: أنه ذكر للإشارة إلى أن الحكم الثابت في الفرع ليس هو عين الحكم الثابت في الأصل، وإنما هو مثله؛ وذلك لاستحالة قيام الواحد بالشخص بمحلين؛ لذلك يكون الحكم في الفرع أضعف من الحكم في الأصل؛ لأن المشبه ليس في قوة المشبه به. فقولنا: " زيد كالأسد في الشجاعة " لا يفهم من هذا أن شجاعة زيد في قوة شجاعة الأسد، وإنما تقارب ذلك. فكذلك هنا لما قلنا: إن النبيذ مثل الخمر في الإسكار، فينبغي أن يكون مثله في التحريم لا يفهم من هذا أن تحريم النبيذ - وهو الفرع - هو نفسه تحريم الخمر - وهو الأصل -، بل إن الحكم في الفرع أخف من الحكم في الأصل، فإثم شارب النبيذ أقل من إثم شارب الخمر؛ وذلك لأن تحريم الخمر ثبت بدليل قطعي وهو النص، وتحريم النبيذ ثبت بدليل ظني، وهو القياس، وما ثبت بدليل ظني أخف مما ثبت بدليل قطعي. قولنا: " حكم أصل لفرع " المراد بالحكم هو الحكم المطلق وهو: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1832 نسبة أمر إلى آخر، وقلنا ذلك ليكون القياس شاملاً للقياس في الشرعيات، والقياس في اللغويات، والقياس في العقليات. وقال بعضهم: إن المراد بالحكم - هنا - هو الحكم الشرعي العرف بأنه خطاب اللَّه المتعلق بأفعال المكلَّفين اقتضاء أو تخييراً أو وضعاً. وهذا ليس بصحيح؛ لأن تفسير الحكم بهذا يجعل القياس يختص بالشرعيات، وهذا تخصيص بدون مخصص قوي. والمراد بالأصل هو: المقيس عليه، وهو: الحادثة التي ورد حكمها في النص والإجماع مثل؛ " الخمر "، و " البر "، و "الهرة". والمراد بالفرع هو: المقيس، وهو الحادثة التي لم يرد حكمها في نص ولا إجماع مثل: " النبيذ "، و " الأرز "، و " الفأرة ". قولنا: " لاشتراكهما في عِلَّة الحكم " اللام - هنا - سببية. ومعنى اشتراكهما أي: اتحاد الأصل والفرع. والعلَّة هي: الجامع بين الفرع والأصل، ويُسمَّى مناط الحكم. مثل: قياس النجيذ على الخمر بجامع: الإسكار، وقياس الأررْ على البر بجامع: الكيل أو الوزن، وقياس الفأرة على الهرة بجامع: أن كلًّا منهما يكثر التطواف في المنزل ويصعب التحرز منها. والمراد بعِلَّة الحكم أي: عِلَّة حكم الأصل. وتقدير الكلام: أن القياس هو: إثبات مثل حكم أصل لفرع، هذا الإثبات جاء بسبب اتحاد الأصل والفرع في علَّة حكم الأصل لا بسبب آخر، لذلك تجد المجتهد يفكر أولاً في الحكم هل هو معلل، وهلً علته متعدية؛ ثم يفكر ثانيا هل توجد هذه العلة في جزئية من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1833 الجزئيات؛ ثم يفكر ثالثاً في الإلحاق، ثم يفكر رابعا في نوع هذا الإلحاق، وهكذا - كما سيأتي التفصيل فيه إن شاء اللَّه تعالى -. وأتي بعبارة: " لاشتراكهما في علَّة الحكم " للاحتراز عن إثبات الحكم في الفرع بواسطة نصٍ أو إجماع، فلا يكون حكم الفرع ثابتا بالقياس، بل قد ثبت بذلك النص. مثال ثبوت حكم الفرع بالنص: ثبوت تحريم النبيذ بعموم قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام "، فمن أثبت تحريمه بهذا النص لا يجوز أن يقيسه على الخمر. ومثال ثبوت حكم الفرع بالإجماع: ثبوت الإرث للخالة؛ لإجماع الصحابة على ذلك، لا بسبب القياس على الخال الثابت إرثه بقوله عليه السلام: " الخال وارث من لا وارث له ". قولنا: " عند المثبت " المراد بالمثبت: القائس، وهو المجتهد الذي تولى عملية القياس، سواء كان مجتهدأ مطلقا أم كان مجتهداً بالمذهب، وليس المراد به: المقلد؛ لأن المقلد يأخذ الحكم من المجتهد. والمراد من هذا: أن إثبات مثل حكم الأصل للفرع بسبب اشتراكهما في عِلَّة حكم الأصل، هذا على حسب ما ظهر لذلك المجتهد فقط دونَ غيره، لذلك قلنا فيما سبق: إن القياس من فعل المجتهد؛ حيث إنه قد يثبت هذا المجتهد مثل حكم الأصل للفرع بسبب جامع بينهما في حين أن مجتهداً آخر في عصره لا يرى ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1834 الفصل الثاني في حجية القياس، أو التعبد بالقياس ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في بيان معنى الحجية، والتَّعبُّد. المبحث الثاني: في تحرير محل النزاع. المبحث الثالث: كل القياس حُجَّة عقلاً؛ أي: هل يجوز التعبد بالقياس ويكون دليلاً من الأدلة على إثبات الأحكام؟ المبحث الرابع: النص على علَّة الحكم هل هو أمر بالقياس؟ المبحث الخامس: هل التنصيص على العلَّة يوجب الإلحاق عن طريق القياس، أوَ عن طريق اللفظ والعموم؟ المبحث السادس: في تقسيمات القياس. المبحث السابع: فيما يجري فيه القياس، وما لا يجري. المبحث الثامن: هل القياس من الدين؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1835 المبحث الأول في بيان معنى الحجية، والتعبد الحُجَّة هي الدليل والبرهان، ومعنى كون القياس حُجَّة: أنه دليل وبرهان نصبه الشارع لمعرفة بعض الأحكام، والمراد من قولنا: القياس حُجَّة - كما قال فخر الدين الرازي - أنه إذا حصل للمجتهد ظن بأن حكم هذه الصورة مثل حكم تلك الصورة فهو مكلف بالعمل به في نفسه، ومكلف بأن يفتي به غيره. وقول بعضهم: " يجوز التعبد بالقياس " هذه عبارة عن إيجاب الله تعالى العمل بمقتضى القياس، وذلك كإيجاب العمل بالكتاب والسُّنَّة تماما، فيكون المكلَّف بالقياس - على هذا - المجتهد ومن يقلده. فالحكم الذي توصلنا إليه من خلال عملية القياس هو الذي نتعبد الله به، فنرجوا من اللَّه الثواب على العمل به، ونخاف منه العقاب عند ترك العمل به. فالحجية والتعبد متلازمان، بيان ذلك: أنه لا فائدة من حجية القياس سوى وجوب العمل بمقتضاه، ولا يمكن أن نعمل به إلا إذا كان حُجَّة. إذن: يجوز أن نُعبِّر عن هذا بالتعبد والحجية، ولا ضير في ذلك، وهو منتشر في كتب الأصول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1837 المبحث الثاني تحرير محل النزع يتبين ذلك فيما يلي: أولاً: الأمور الدنيوية يجري القياس فيها بالاتفاق. والمقصود بالأمور الدنيوية هي: التي لم يكن المطلوب بها حكما شرعياً كمداواة الأمراض، والأدوية، والأسفار، مثل: أن يفقد الطبيب دواء لمرض معين - فيأتي الطبيب بدواء يشابهه في تأدية نفس الغرض " والجامع: أن كلًّا منهما موافق لمزاج المرض المخصوص. ومعنى كون القياس حُجَّة في ذلك: أنه ليس حُجَّة من قِبَل الشارع، حيث إنه حُجَّة صناعية اقتضتها صناعة الطب يسترشد بها الطبيب لمداواة الأمراض، واستمدادها من العقل، ومثل ذلك الأغذية فيجوز قياس غذاء على غذاء في تأدية عمل واحد. ثانياً: الأمور اللغوية كقياس النبش على السرقة، واللواط على الزنا. هذا اختلف العلماء في جريان القياس فيها على مذهبين - وقد سبق بيان ذلك -. ثالثاً: الأمور الشرعية، وهو موضوع مبحث القياس، وإذا أطلق القياس فالمراد به: القياس في الشرعيات، وقد اختلف في جواز هذا القياس. والخلاف لم يجر في كل قياس، بل إن الخلاف قد جرى في جزئية من القياس، وتتبين تلك الجزئية فيما يلي فأقول: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1838 لقد علمت: أن القياس هو: إثبات مثل حكم أصل لفرع لاشتراكهما في علَّة الحكم عند المثبت، فلا بد - إذن - من أربعة أركان وهي: " الأصل "، و " الفرع "، و " العِلَّة "، و " الحكم ". فالقياس إذن متوقف على مقدمتين هما: المقدمة الأولى: أن يتأكد المجتهد أن الحكم في الأصل معلل بعِلَّة، وأنها متعدية. المقدمة الثانية: أن يتأكد أن تلك العِلَّة حاصلة بتمامها في الفرع. فهنا ننظر إما أن تكون تلك المقدميتن قطعيتين، أو ظنيتين، أو الأولى قطعية، والثانية ظنية، أو العكس، فهذه أربعة أقسام، إليك بمانها: القسم الأول: أن تكون المقدمتان قطعيتين، فهنا قد اتفق العلماء على أن القياس حُجَّة يجب العمل به، وإن كان بعضهم لا يسميه قياساً. وهذا ينحصر في ست صور هي كما يلي: الصورة الأولى: أن ينص على العِلَّة نصا صريحاً كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر "، فهنا نص على العِلَّة وهي: البصر أو النظر، والاطلاع على أسرار الناس، ولذلك شرع الحكم، وهو مشروعية الاستئذان، فيقاس على ذلك الاستماع، ويمكن أن يمثل له بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ". الصورة الثانية: إيماء النص إلى العلَّة كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الهرة: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، فهنا قد نبَّه النص على العِلَّة وهي: " كثرة التطواف وصعوبة التحرز منها "، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1839 فلذلك شرع الحكم، وهو طهارة سؤر الهرة، فيقاس عليها الفأرة لوجود نفس العِلَّة، وهي كثرة التطواف وصعوبة التحرز منها، فيكون حكم الفأرَة مثل حكم الهرة وهو طهارة سؤرها. ومن العلماء من جعل هذه الصورة من الصورة الأولى وهو: النص على العِلَّة. الصورة الثالثة: أن يجمع العلماء على العِلَّة كالحجر على الصبي لعلة ظاهرة، وهي: ضعف الإدراك عنده. الصورة الرابعة: أن يكون المسكوت عنه أَوْلى بالحكم من المنطوف به كتحريم ضرب الوالدين قياساً على تحريم التأفيف لهما بجامع الإيذاء - وقد سبق في مفهوم الموافقة -. الصورة الخامسة: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به كتحررم إحراق مال اليتيم قياساً على تحريم أكله، بجامع الإتلاف في كل - وقد سبق بيانه في مفهوم الموافقة. ويُسمى هذا بنفي الفارق بين الأصل والفرع كقياس العبد على الأَمَة أو العكس. الصورة السادسة: قياس النبي - صلى الله عليه وسلم - مثل قوله لعمر - رضي اللَّه عنه - لما جاءه وقال له: يا رسول اللَّه، إني قبلت وأنا صائم، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -: "أرأيت لو تمضمضت؛ " يعني: قس القُبْلة على المضمضة. فاتفق العلماء على أن القياس يجوز في هذه الصور؛ نظراً لأن المقدمتين قد قطع بهما، وحينئذٍ يجب العمل بالقياس فيها. والدليل على ذلك: الاستقراء والتتبع لكلام علماء الأصول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1840 المحققين في تحرير محل النزاع، وفي أدلة المجوزين للقياس والمانعين منه، حيث اتضح من خلال هذا الاستقراء أن الخلاف في القياس في غير تلك الصور الست، وإن ذكر بعضهم خلافا فيها فليس خلافا حقيقياً يترتب عليه اختلاف في الحكم، فيكون خلافا لفظيا لا ثمرة له، وهو خلاف لا يضر ما دام أن الكل يقولون بوجوب العمل به. القسم الثاني: أن تكون المقدمة الأولى قطعية، والثانية ظنية مثل قياس القاضي في حال الجوع والعطش على قضائه حال الغضب بجامع: اشتغال الفكر، وتشوشه عن فهم أدلة الخصمين. فهنا: قد أجمع العلماء على أن عِلَّة منع القاضي من القضاء حين الغضب هو ذلك التشوش الذي حصل في فكره، وهذه العِلَّة مقطوع بها، لذلك أجمع العلماء عليها، أما التشوش الحاصل عند العطشان والجوعان والحاقن وما شابه ذلك لم يقطع به بل هو ظنيء القسم الثالث: أن تكون المقدمة الأولى ظنية، والثانية قطعية كقياس التفاح على البر في حرمة ربا الفضل بعِلَّة كونه مطعوماً. فهنا: العلَّة في البر مظنونة لاحتمال أن تكون العِلَّة كونه مكيلاً، أو كونه موزوناً، أو كونه مقتاتا، أو كونه مدخراً - حيث جرى الخلاف في ذلك -. لكن العلَّة في الفرع مقطوع بها وهو: كونه مطعوما؛ حيث لا يوجد عِلَّة سَواها في الفرع. القسم الرابع: أن تكون المقدمتان ظنيتين كقياس النبيذ على الخمر، والأرز على البر، والزبيب على التمر، وغير ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1841 فالإسكار علَّة مظنونة في الأصل وهو الخمر، ومظنونة في الفرع، وهو النبيذ، ويقال مثل ذلك في باقي الأمثلة. وهذه الأقسام الثلاثة - وهو كون المقدمتين ظنيتين - أو إحداهما ظنية والأخرى قطعية - قد اختلف العلماء فيها؛ لأن ذلك يفيد ظنية القياس، والخلاف في القياس الظني، وتلك الظنية كما أنها متحققة بظنية المقدمتين معاً: فهي أيضاً متحققة بظنية إحداهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1842 المبحث الثالث هل القياس حُجَّة؛ أي: هل يجوز التعبد بالقياس ويكون دليلاً من الأدلة على إثبات الأحكام أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب كثيرة، فبعضهم قال: يجوز عقلاً، ويجوز شرعا، وبعضهم قال: يجب عقلاً، ويجوز شرعا، وبعضهم قال: يجب عقلاً وشرعا، وبعضهم قال: يجوز عقلاً ولا يجوز شرعا، وبعضهم قال: لا يجوز عقلاً ولا شرعا، وقد بينت ذلك ببعض التفصيل في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " إلا أن هذه الأقوال والمذاهب وإن كثرت ترجِع إلى مذهبين هما " أن القياس حُجَّة "، و " أن القياس ليس بحُجة "، وإليك بيانهما: المذهب الأول: أن القياس حُجَّة، أي: يجوز التعبد بالقياس عقلاً وشرعا، أي: أن القياس دليل من الأدلة الشرعية المعتبرة لإثبات أحكام شرعية. وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي على أن القياس يُعتبر دليلاً من الأدلة الشرعية. والاستدلال بالإجماع أقوى من الاستدلال بالكتاب والسُّنَّة هنا؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1843 لأنه لا يؤلي النسخ، ولا يحتمل التأويل بخلاف النص من الكتاب والسُّنَّة، فإنه يقبل النسخ والتأويل، وما لا يقبل يُقدم على ما يقبل. لذلك قال فخر الدين الرازي: " الإجماع هو الذي يعول عليه جمهور الأصوليين " - أي: في حجية القياس -. وقال الآمدي: " الإجماع أقوى الحجج في هذه المسألة ". وقال أكثر العلماء: إن إجماع الصحابة على العمل بالقياس يعد أقوى الأدلة على ثبوت حجيته ووجوب العمل به. وتقرير إجماع الصحابة على حجية القياس هو أن يقال: أجمع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - على إثبات الأحكام بالقياس وعلى أنه يعمل به، وما أجمع عليه الصحابة فهو حق، فالعمل بالقياس حق. وسأبين ذلك بوجوه أربعة: الوجه الأول: أنه ثبت عن جمع كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - القول بالقياس والعمل به في الوقائع التي لا نص فيها، فقاموا بإلحاق المثل بالمثل بسبب جامع، والعادة تقتضي بأن اجتماع جمع كثير من الصحابة على العمل بالشيء لا يكون إلا بقاطع دال على العمل به. الوجه الثاني: أنه قد تكرر عمل أكثر الصحابة بالقياس عند عدم النص وشاع وذاع، ولم ينكر ذلك أحد. الوجه الثالث: أنه لما لم ينكر بعض الصحابة على الآخرين قولهم بالقياس واستدلالهم به، فإن القول به يكون مجمعا عليه بين الصحابة، وهذا الإجماع صحيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1844 الوجه الرابع: أن المجمع عليه بين الصحابة حُجَّة يجب العمل بمقتضاه. فالناتج من هذه الوجوه الأربعة: أن القياس حُجَّة، يجب العمل به، وأنه مصدر من مصادر التشريع الإسلامي بعد الكتاب والسُنَّة والإجماع. الأدلة على هذه الوجوه الأربعة: سأبين فيما يلي دليل كل وجه من تلك الوجوه الأربعة، وبعض الاعتراضات الموجهة إلى كل دليل، والجواب عنه فأقول: أما الوجه الأول - وهو: أنه ثبت عن جمع كثير من الصحابة القول بالقياس والعمل به في الوقائع التي لا نص فيها - فالدليل عليه: ما نقل عن الصحابة من الوقائع التي حكموا فيها بالقياس، وهذا كثير، ومن ذلك: 1 - قياس الصحابة - رضي الله عنهم - خلافة أبي بكر على الإمامة في الصلاة، وقالوا في ذلك: " رضيه رسول الله لديننا أفلا نرضاه لدنيانا ". وجه الدلالة: أنهم قاسوا الإمامة العظمى، وهي الخلافة على الإمامة الصغرى، وهي: الصلاة بجامع: الصلاحية في كل. 2 - اجتهاد أبي بكر - رضي اللَّه عنه - في أخذ الزكاة من منع دفع الزكاة بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - وقتالهم على ذلك، ووافقه الصحابة. وجه الدلالة: أن أبا بكر قاس خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أخذ الزكاة، وقتالهم عليها، بجامع: قيام كل منهما في تنفيذ أوامر الشريعة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1845 اعتراض على ذلك: أن أبا بكر لم يتمسك بالقياس، وإنما تمسك بالنص، وهو قوله تعالى: (خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم) ، فهنا الآية قد أمرت بالأخذ، والأمر المطلق يقتضي الوجوب، فيجب أن يؤخذ من المسلمين الزكاة، فمن أطاع فلا إشكال، ومن عصى وأبى أن يؤديها فيجب قتاله؛ استنادأ إلى قاعدة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب "، وأبو بكر نائب عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيجب أن يقاتلهم على ذلك، فيكون أبو بكر قد استدل بالنص على قتالهم، لا بالقياس. جوابه: أن قوله تعالى: (خذ من أموالهم) خطاب مع النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يتعدَّى إلى غيره إلا بدليل، ولا دليل إلا القياس هنا. وقال بعض العلماء: إن أبا بكر قاتل من منع الزكاة؛ قياساً على الصلاة، فكما أن الصلاة يُقاتل من تركها، فكذلك يقاتل من منع الزكاة بجامع: أن كلًّا منهما ركن من أركان الإسلام، وهذا ممكن لكن القياس الأول أَوْلى، وعليه الأكثر. 3 - أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - ورث أم الأم، وترك أم الأب، فقال له رجل يقال له عبد الرحمن بن سهل بن حارثة: "لقد ورثت امرأة من ميت لو كانت هي الميتة لم يرثها، وتركت امرأة لو كانت هي الميتة ورث جميع ما تركته، فرجع أبو بكر عن ذلك إلى التشريك. وجه الدلالة: أن أبا بكر رجع عن إفراد أم الأم بالسدس إلى رأي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1846 آخر، وهو تشريك أم الأم مع أم الأب بالسدس؛ قياسا لأم الأب على أم الأم. 4 - أن أبا بكر - رضي اللَّه عنه - قاس تعيين الإمام بالعهد إلى عمر على تعيينه بعقد الأُمَّة له بالخلافة بجامع: أن كلًّا منهما صادر ممن هو أهل لذلك، فالأُمَّة عقدوا لأبي بكر بالخلافة لأنهم أهل لذلك، وأبو بكر أهل لذلك؛ لأنه نائب عنهم. 5 - ما روي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه كتب إلى أبي موسى الأشعري كتابه المشهور، والذي جاء فيه: " اعرف الأشباه والنظائر وقس الأمور برأيك ". 6 - ما روي عن عمر - أيضاً - أنه جلد أبا بكرة واثنين معه هما: نافع، وشبل بن معبد، حد القذف؛ حيث لم يكمل نصاب الشهادة على المغيرة بن شعبة بأنه زنى. وجه الدلالة: أن عمر قاس الشاهد في الزنا عند عدم تمام النصاب على القاذف في وجوب الحد. 7 - ما روي عن عمر - أيضا - في مسألة المشركة - وهي: زوج وأم وأخوة الأم وأخوة أشقاء فحكم فيها بأن النصف للزوج، والسدس للأم، والثلث للأخوة لأم، ولم يعط الإخوة الأشقاء شيئاً، فقال الإخوة الأشقاء: هب أن أبانا كان حماراً، أو حجراً ألسنا من أم واحدة؛ فشرك بين الإخوة لأم والإخوة الأشقاء في قضاء آخر، فهنا قاس الإخوة الأشقاء على الإخوة لأم بجامع: اشتراكهم في الإدلاء للميت بالأم. 8 - ما روي: أن عمر - رضي الله عنه - قد أرسل إلى امرأة فأجهضت - أي: أسقطت جنينها - خوفا وفزعا من هيبته، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1847 فاستشار الصحابة في ذلك، فقال - عبد الرحمن بن عوف وعثمان بن عفان: إنما أنت مؤدب فلا شيء عليك، وقال له عليّ بن أبي طالب: أما المأثم فأرجو أن يكون محطوطاً عنك، وأرى أن عليك الدية فاتبع عمر رأي علي. وجه الدلالة: أن عثمان وعبد الرحمن بن عوف قاساه على مؤدب امرأته وولده وغلامه، وقاسه علي على قاتل الخطأ. 9 - ما روي: أن عمر - رضي اللَّه عنه - كان متردداً في قتل الجماعة بالواحد، فقال عليّ - رضي اللَّه عنه -: يا أمير المؤمنين، أرأيت لو أن نفراً اشتركوا في سرقة أكنت تقطعهم؟ قال: نعم، قال: فكذلك. وجه الدلالة: أنه قاس القتل على السرقة. 10 - قال علي - رضي اللَّه عنه -: " اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد ألا يبعن، أما الآن فقد رأيت بيعهن ". وجه الدلالة: أن المسألة مختلف فيها: فمن ذهب إلى جواز بيع أمهات الأولاد قاسهن على الإماء وغيرهن من الممتلكات، ومن ذهب إلى عدم جواز بيعهن قاسهن على الحرائر. 11 - ما روي عن علي أنه قال في حد شارب الخمر: " إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، دماذا هذى افترى، فعليه حد المفتري ". وجه الدلالة: أن عليا قاس شارب الخمر على القاذف بجامع: الافتراء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1848 12 - اختلاف ابن عباس مع زيد بن ثابت في توريث الإخوة مع فإن زيداً قد ورث الإخوة مع الجد، ودليله: القياس؛ حيث قاس الأخ على الجد بجامع: أن كلًّا منهما قد أدلى إلى الميت بالأب. أما ابن عباس فقد أنكر على زيد ذلك وقال: " ألا يتقي اللَّه زيد يجعل ابن الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا "، حيث إنه يذهب إلى أن الجد يحجب الإخوة، ودليله: القياس، حيث قاس الجد على ابن الابن، فكما أن ابن الابن في منزلة الابن في حجبه للإخوة، فكذلك الجد في منزلة الأب في حجبه للإخوة. 13 - اختلاف الصحابة في الخلع هل هو طلاق أو فسخ؛ فمن ذهب إلى أنه طلاق - وهو ما روي عن عثمان - فإنه ألحقه بالطلاق قياسا عليه، فأعطاه حكمه، وجعله يهدم من عدده، ومن لم يذهب إلى أنه طلاق، فقد قال: إنه فسخ - وهو ما حكي عن ابن عباس - فلم يهدم عنده من عدد الطلاق شيئاً. 14 - ما روي عن ابن عباس أنه قال في دية الأسنان: ألا اعتبرؤم ذلك بالأصابع سواء وإن اختلفت منافعها. وجه الدلالة: أن ابن عباس قاس الأسنان على الأصابع في حكم الدية. 15 - اختلاف الصحابة في مسألة " الحرام "، وهو قول الزوج لزوجته: " أنت علي حرام "، فبعضهم - وهو عليّ، وزيد، وابن عمر - ذهب إلى أنه في حكم التطليقات الثلاث. وبعضهم - وهو ابن مسعود - ذهب إلى أنه في حكم التطليقة الواحدة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1849 وبعضهم - وهو أبو بكر، وعمر، وعائشة - ذهب إلى أنه في حكم اليمين تلزم فيه الكفارة. وبعضهم - وهو ابن عباس - ذهب إلى أنه في حكم الظهار. وجه الدلالة: أن من قال: إنه طلاق ألحقه بالألفاظ الموضوعة للطلاق؛ لأنه لفظ يؤثر في تحريم الزوجة، وهو ليس من صريح الطلاق، وليس مما أجمعوا على أنه من كناياته، ثم من جعله ثلاثا فقد احتاط في الأمر، ومن جعله واحدة رجعية أخذ بالمتيقن، ومن جعله واحدة بائنة توسط. ومن قال: إنه ظهار فقد ألحقه بصيغته لمشابهته له في افتضاء التحرريم؛ لأنه ليس من الألفاظ الموضوعة له. ومن قال: إنه يمين ألحقه باليمين، فأوجب عليه كفارته. هذا بعض ما نقل عن الصحابة من القول بالقياس والعمل به، وهي وإن كانت آحاداً فإنه لا يمتنع تواتر القدر المشترك بين التفاصيل، وهو: العمل بالقياس في الجملة. اعتراض على هذا الوجه - وهو: الوجه الأول -: ما ذكرب م من الصور السابقة لا يفيد ذهاب الصحابة جميعاً إلى القول بالقياس، وما رويتم عن بعض الصحابة لا تزيد رواتها مع ما شابهها على المائة والمائتين، وذلك لا يفيد القطع بالصحة؛ لاحتمال تواطؤ هذا القدر على الكذب. جوابه: أن هذه مكابرة ومعاندة، فإنه لا يشك عاقل في أن القدر المشترك مما ذكرنا أو لم نذكره مما شابهه متواتر، ومن اطلع على كتب السمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1850 والأخبار والمحدثين والفقهاء، فإنه يقطع بصحة ذلك، قال المزني صاحب الشافعي: " الفقهاء من عصر الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى يومنا هذا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا بأن نظير الحق حق، وأن نظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس؛ لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها. أما الوجه الثاني - وهو: أنه لم يوجد من واحد من الصحابة إنكار أصل القياس - فالدليل عليه: أن القياس أصل عظيم في الشرع نفياً وإثباتا، فلو أنكر بعضهم القياس لكان ذلك الإنكار منقولاً إلينا، وهو أوْلى بالنقل من مسألة " الحرام "، و " الجد والإخوة "، ونحوهما، ولو نقل لاشتهر ولوصل إلينا، فلما لم يصل إلينا: علمنا أنه لم يوجد إنكار أصل القياس. اعتراض على هذا الوجه - وهو الوجه الثاني -: لا نسلم ما قلتموه في هذا الوجه - وهو الوجه الثاني - بل ثبت الإنكار ووصل إلينا، فإنه نقل عن الصحابة إنكار الرأي تارة، وأخرى إنكار القياس، وثالثة ذم من أثبت الحكم غير مستند لكتاب أو سُنة، من ذلك: 1 - أنه روي عن أبي بكر - رضي الله عنه - أنه قال: " أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب اللَّه برأي ". 2 - ما روي عن عمر - رضي اللَّه عنه - أنه قال: " إياكم وأصحاب الرأي فإنهم أعداء السق، أعيتهم الأحاديث أن يحفظوها فقالوا بالرأي فضلوا وأضلوا ". 3 - أنه روي عن عمر - أيضا - قال: " إياكم والمكايلة "، قيل: ما المكايلة؛ قال: " المقايسة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1851 4 - أن شريحاً قال: كتب عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - إليَّ قائلاً: " أقض بما في كتاب اللَّه، فإن جاءك ما ليس في كتاب ، لله فاقض بما في سُنَّة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فإن جاءك ما ليس فيها فاقض بما أجمع عليه أهل العلم ... ". 5 - أنه روي عن علي أنه قال: " لو كان الرأي أوْلى من السُّنَّة لكان باطن الخف أوْلى بالمسح من ظاهره ". 6 - أنه روي أن عليا قال - في مسألة الجنين -: " إن اجتهدا فقد أخطئا، وإن لم يجتهدا فقد غشاك " - يعني: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان - في قصة الجنين السابقة الذكر -. 7 - أنه روي أن عليا قال: " من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم فليقل في الجد برأيه ". 8 - أنه روي أن ابن مسعود قال: " يذهب قراؤكم وصلحاؤكم ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم "، وروي هذا عن ابن عباس. 9 - أنه روي أن ابن عباس قال: " من أحدث رأيا في كتاب الله عَزَّ وجَل، ولم تمض به سُنَّة من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لم يدر على ما هو منه إذا لقي اللَّه تعالى ". 10 - أنه روي أن ابن عباس قال: إن اللَّه تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم -: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) ، ولم يقل: بما رأيت، ولو جعل لأحد أن يحكم برأيه لجعل ذلك لنبيه - صلى الله عليه وسلم -. 11 - أنه روي أن ابن عباس قال: " إياكم والمقاييس فإنما عبدت الشمس بالمقاييس ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1852 12 - أنه روي ابن عمر قال: " السُّنَّة: ما سنَّه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - لا تجعلوا الرأي سُنَّة للمسلمين ". 13 - أنه روي أن ابن مسعود قال: " إذا قلتم في دينكم بالقياس فقد أحللتم كثيراً مما حرَّمه اللَّه، وحرَّمتم كثيراً مما أحلَّه اللَّه ". فهذه الصور وما شابهها مما ورد عن الصحابة إنكارات صريحة للرأي والقياس، ونقلت إلينا، فإذا نظرنا إلى هذه الإنكارات منهم فإنه يثبت أنهم أنكروا أصل القياس؛ إذن لا إجماع على اعتباره. جوابه: يجاب عنه بجوابين: " جواب إجمالي "، و " جواب تفصيلي ". أما الجواب الإجمالي فنقول فيه: إن هذه الروايات الواردة في إنكار وذم القياس منقولة عمن نقل عنهم القول بالقياس والعمل به. إذن: التعارض بين النقلين ثابت فلا بد من دفعه. ودفعه لا يمكن إلا بالتوفيق بين هذين النقلين؛ لأنه لا يمكن أن نترك النقلين معا؛ حيث إن فيه تركا لأمرين قد ثبتا شرعا، وهذا باطل. ولا يمكن أن نعمل بهما معاً؛ لأنه يلزم من ذلك الجمع بين النقيضين وذلك مستحيل. ولا يمكن - أيضا - أن نعمل بأحد النقلين دون الآخر من غير قرينة ترجح أحدهما. فلم يبق إلا التوفيق بينهما. وطريق التوفيق بينهما: أن نحمل ما نقل عنهم من العمل بالرأي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1853 والقياس على القياس الصحيح، وهو: المستكمل لجميع شروط الاحتجاج به، والصادر من أهل الاجتهاد. أما ما نقل عنهم من إنكار وذم العمل بالرأي والقياس فنحمله على ما كان صادراً عن الجهال، ومن لم يصل إلى درجة الاجتهاد، وما كان مخالفا للنص، وما ليس له أصل يشهد له بالاعتبار، وما كان على خلاف القواعد الشرعية، وهذا هو المسمى بالقياس الفاسد. أما الجواب التفصيلي فهو: أن يجاب عن كل رواية من الروايات المنقولة السابقة في ذم الرأي والقياس، فنقول على الترتيب السابق: 1 - أما - قول أبي بكر - رضي الله عنه -: " أي سماء تظلني وأي أرض تقلني ... "، فإنما أراد به قوله في تفسير القرآن، ونحن نسلم أنه لا مجال للرأي في ذلك؛ لكونه مستنداً إلى محض السمع عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأهل اللغة. 2 - وأما قول عمر - رضي الله عنه -: " إياكم وأصحاب الرأي.. "، فإنما قصد به ذم من ترك الموجود من الأحاديث، وعدل إلى الرأي والقياس مع أن العمل به مشروط بعدم النص. 3 - وأما قول عمر: " إياكم والمكايلة "، وفسر المكايلة بأنها المقايسة، فإن المراد بالمقايسة التي حذر عمر عنها هي القابسة الفاسدة. 4 - وأما قول عمر لشريح: " اقض بما في كتاب اللَّه.. " فنقول فيه: إن القياس مما أجمع أهل العلم على العمل به. 5 - وأما قول علي: " لو كان الرأي أوْلى من السُنَّة.. " فالمقصود منه: أن الشريعة ليست كلها على ما يقتضيه القياس، بل بعضها تعبدي لا يجوز القياس فيه، وبعضها الآخر له عِلَّة يمكن أن يقاس عليه بسبب تلك العِلَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1854 6 - وأما قول عليّ في الجنين: " إن اجتهدا فقد أخطئنا.. "، فإن عليا يبين في هذه المقالة: أنه ليس كل اجتهاد صوابا، وليس كل اجتهاد خطأ، فإنه قد يخطى المجتهد في اجتهاده. 7 - وأما قول علي: " من أراد أن يقتحم جراثيم جهنم ... " فإنه يقصد الرأي المجرد، وهو غير المستند إلى أصل من كتاب أو سُنَة، فإن هذا لا يجوز. 8 - وأما قول ابن مسعود: " يذهب قراؤكم وصلحاؤكم، ويتخذ الناس رؤساء جهالاً يقيسون الأمور برأيهم "، فالمراد منه: القياس المذموم، وهو القياس الفاسد الصادر عن الجهال، ولهذا وصفهم بأنهم جهال. 9 - وأما قول ابن عباس: " من أحدث رأيا في كتاب اللَّه "، فإنه يحمل على الرأى المجرد عن اعتبار الشارع له. 10 - وأما قول ابن عباس: " إن اللَّه تعالى قال لنبيه: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله) ، ولم يقل بما رأيت "، فإن الحكم بالقياس هو حكم بما أنزل اللَّه؛ لأن اللَّه عَزَّ وجَلَّ أمر به بقوله: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . 11 - وأما قول ابن عباس: " إياكم والمقاييس.. "، فإن المراد بالمقاييسِ هنا: المقاييس الفاسدة وهي التي لم تتوفر فيها شروط القياس. 12 - وأما قول ابن عمر: " السُّنَّة: ما سنه رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، ولا تجعلوا الرأي سُنَّة المسلمين "، فإنه يفيد أن السُّنَّة هي: ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من قول أو فعل أو تقرير، والرأي المعتبر من الشارع هو من السُنَّة؛ لأن السُنَّة دلَّت عليه بأحاديث سيأتي ذكرها - إن شاء اللَّه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1855 أما الرأي المجرد من اعتبار الشارع له فليس من السُّنَّة في شيء. 13 - وأما قول ابن مسعود: " إذا قلتم في دينكم بالقياس فقد أحللتم كثيراً مما حرمه اللَّه ... "، فالمقصود بالقياس هنا: القياس الفاسد، وهو الذي لم يستند إلى أصل، أو الصادر من الجاهل، أو المخالف للقواعد الشرعية. والحاصل: أن هذه الأجوبة التفصيلية عن تلك النصوص مستفادة من الجواب الإجمالي: فكل نص فيه ذم للقياس يُعنى به القياس الفاسد غير المعتبر شرعا، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس، وكل نص فيه دليل على العمل بالقياس، وفيه مدح له، فإنه يُعنى به القياس الصحيح، وهو المستكمل لشروط القياس. اعتراض على جوابنا هذا: قال قائل - معترضاً -: لا نُسَلِّمُ لكم هذا الجمع بين النقلين، بل يمكن الجمع عندنا بطريق آخر وهو: أن نعتبر أن القائل بالقياس انقلب منكراً له في آخر أمره، وحينئذٍ يحصل الإجماع على إنكار القياس، وهو ما ندعيه. جوابه: أن قولكم: إن القائل به انقلب منكراً في آخر أمره لا دليل عليه، فيكون قولكم دعوى بلا دليل، فتكون دعواكم باطلة، فيجب المصير إلى الجمع الذي ذكرناه؛ حيث إنه يعتبر من طرق الجمع بين الدليلين إذا تعارضا. أما الوجه الثالث - وهو: أنه لما لم ينكر بعض الصحابة على الآخرين قولهم بالقياس فقد انعقد الإجماع على صحته -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1856 فالدليل عليه: أن سكوتهم وعدم إنكارهم على القائلين بالقياس إما أن يكون عن خوف أو عن رضا. لا يمكن أن يكون سكوتهم عن خوف؛ لأمرين: أولهما: أن بعضهم خالف البعض الآخر في مسألة: " الحرام " و" الخلع "، و " الجد والإخوة "، و " بيع أمهات الأولاد "، وغيرها ولو كان هناك خوف يمنعهم من إظهار ما في قلوبهم لما وقع ذلك الخلاف، فلا يعقل أن يكون سكوتهم عن مسائل أخرى عن خوف. ثانيهما: أنا نعلم من حال الصحابة - رضي اللَّه عنهم - شدة انقيادهم للحق، لا سيما فيما لا يتعلق به رغبة ولا رهبة في العاجل أصلاً، وذلك مانع قوي يمنع من حمل سكوتهم على الخوف. فثبت بذلك: أن سكوتهم كان عن رضا وعن موافقة، وذلك يوجب الإجماع على حجية القياس، وإلا لكانوا مجمعين على الخطأ. ما اعترض به على هذا الوجه - وهو الوجه الثالث -: الاعتراض الأول: إذا كان سكوتهم لا عن خوف، فلا يلزم منه ثبوت الإجماع على حجية القياس؛ لأنه يحتمل أن يكون سكوتهم لخفاء الدليل. جوابه: إن هذا بعيد، لأنهم عرفوا أن الشرع من عند اللَّه، فلو لم يكن القياس مأذونا فيه: لكان القائس مشرعا، وحينئذٍ كانوا ينكرون عليه. الاعتراض الثاني: إذا كان سكوتهم لا عن خوف فلا يلزم منه ثبوت الإجماع على حجية القياس، لأنه يحتمل أن يكون سكوتهم لأنهم في مهلة النظر، ولم يظهر لهم كون القياس حقا أو باطلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1857 جوابه: أن سكوتهم المستمر - بعد مدة تكفي للنظر - دليل واضح على أن هذا السكوت عن رضا وموافقة واقتناع. الاعتراض الثالث: أنه لا مانع من أن يكون سكوتهم عن إنكار القياس ناتج عن خوف، لأن القائل بالقياس هم: أبو بكر، وعمر، وعلي، وعثمان، وابن عباس، وابن عمر، وزيد، ومعاذ من أصحاب الدولة والسلطان ومن حولهم وحواشيهم وجلسائهم، فهؤلاء معهم الرغبة والرهبة، فشاع ذلك في الدهماء، وانقادت لهم العوام، فإنه يجوز للباقين السكوت تقية، أو لعلمهم أن إنكارهم غير مقبول، وكيف يقال: إن الخوف زائل وقد قال ابن عباس في مسألة العول - يقصد عمر -: " هبته وكان والله مهيبا "؟! جوابه: إن هذا طعن قبيح في حق الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وجهل بما كانوا عليه من الصلابة في الدين، بدليل الاستقراء والتتبع لجميع الوقائع التاريخية المستفيضة، حيث إنها تؤكد أن جميع الصحابة لا تأخذهم في اللَّه لومة لائم، وأنهم لا يمكن أن يروا منكراً ويسكتوا عنه، ومن تلك الوقائع: ما ذكرناه من استدراكات بعض الصحابة على بعض، ومخالفة بعضهم لبعض. ومن ذلك: خبر المرأة التي راجعت أمير المؤمنين عمر بن الخطاب في مسألة تحديد المهر حتى عدل عن رأيه إلى رأيها وقال: " أصابت امرأة وأخطا عمر ". ومن ذلك: ما قاله سلمان الفارسي لعمر بن الخطاب: " لا سمع لك علينا ولا طاعة حتى تخبرنا من أين لك هذا الثوب؟ "، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1858 فأمر عمر ابنه عبد اللَّه بأن يجيب سلمان فأخبره أنه لما أصبح ثوب أبيه خلقاً فيه اثنتا عشرة رقعة، فقد تبرع بنصيبه من الثياب وضمه إلى ثوب أبيه ليصنع منه ثوباً يصلي فيه بالناس الجمعة ويستقبل به الوفود. ومن ذلك: قول عبيدة السلماني لعليّ: " رأيك مع الجماعة أحب إلينا من رأيك لوحدك "، لما قال عليّ: " اجتمع رأي ورأي عمر في أمهات الأولاد أن لا يبعن، وأنا الآن أرى بيعهن ". ثم إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - اعتادوا على حرية الرأي، فلا يضيق أحد منهم برأي الآخر مهما كان مركزه أو سلطانه بدليل: أن رجلاً جاء إلى أمير المؤمنين عمر فساله عن حكم مسألة فأحاله إلى عليّ وزيد فأفتياه، ثم رأى عمر الرجل صاحب المسألة، فسأله عن قضاء عليّ وزيد فأخبره، فقال عمر: " لو كنت أنا لقضيت بكذا " فقال الرجل: فما يمنعك والأمر إليك؛ قال عمر: " لو كنت أردك إلى كتاب الله أو سُنَّة نبيه لفعلت، ولكني أردك إلى رأي والرأي مشترك ". وأما قول ابن عباس: " لقد هبته وكان واللهِ مهيبا "، فإنه يجاب عنه: بأن الأمر أمر اجتهاد، ولو كان لدى ابن عباس دليل على مذهبه من الكتاب والسُّنَّة يؤكد ذلك المذهب لأعلنه، ولكنه الرأي. أما الوجه الرابع - وهو: أن المجمع عليه بين الصحابة حُجَّة يجب العمل به - فهو صحيح لا ينبغي لعاقل أن يتردد فيه - وقد سبق الاستدلال على ذلك في باب الإجماع. ما اعترض به على هذا الوجه - وهو الوجه الرابع -: الاعتراض الأول: سلمنا أن سكوتهم عن موافقة وعن رضا، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1859 ولكن لا حُجَّة في إجماع الصحابة، لأنهم عدلوا عما أمروا به ونهوا عنه وتجبروا وتآمروا، وجعلوا الخلاف طريقا إلى أغراضهم حتى جرى بينهم ما جرى من الفتن والحروب. ومثل هؤلاء لا يجوز الاحتجاج بأقوالهم. جوابه: إن هذا يعتبر من سخافات النظام والرافضة، ويجب على المسلم أن لا يلتفت لمثل هذه السخافات، حيث إنها تحط من قدر الصحابة، فإن ذلك زندقة وإلحاد في الدين. وكيف يقال فيهم مثل ذلك، والله عَزَّ وجَل قد عدلهم ورضي عنهم، واختارهم لصحبة نبيه، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إن اللَّه اختارني واختار لي أصحاباً وأصهاراً "؟! الاعتراض الثاني: سلمنا معكم أن إجماع الصحابة على العمل بالقياس حُجَّة، لكن لم ينقل إلينا أنهم أجمعوا على العمل بجميع أنواع القياس، أو بنوع واحد معين منها، فما المانع من أن يكون إجماعهم على القياس الأولى وهو: أن يكون الفرع أوْلى بالحكم من الأصل، أو يكون إجماعهم على منصوص العلَّة، وهذان النوعان ليسا محل النزاع، بل متفق على جريان القياس فيهما. جوابه: إن تخصيص ما أجمعوا عليه على هذين النوعين يحتاج إلى دليل ولا دليل عندكم، وإذا لم يوجد دليل على التخصيص، فإن الأمر بالقياس يبقى على العموم، فيثبت أنهم أجمعوا على العمل بجميع أنواع القياس، وأنه لا فرق بينها، وهذا هو الظاهر من استقراء حالهم في الخلاف والاستدلال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1860 الاعتراض الثالث: سلمنا أن الصحابة أجمعوا على العمل بجميع أنواع القياس، فما المانع من أن يكون خاصا بهم: فلا يلزم من جواز العمل بالقياس للصحابة جوازه لمن بعدهم؛ لأن هناك فرقا بين الصحابة وغيرهم؛ ووجه الفرق: أن الصحابة شاهدوا الوحي والتنزيل، وكان معروفا منهم شدة اليقين والصلابة في الدين، وكثرة التحفظ، وبذل النفس والنفيس، وترك الأهل والأوطان في سبيل نصرة دين اللَّه وإقامته، وقد ورد في حقهم من الفضل والثناء في القرآن والسُّنَّة ما لم يرد في حق غيرهم. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه كما أن الكتاب والسُنَّة يحتج بهما كل شخص توفرت فيه شروط الاجتهاد على إثبات الأحكام الشرعية في كل زمان، ولا فرق في ذلك بين فرد وفرد وشخص وشخص، فكذلك القياس يحتج به كل شخص؛ لأنه لا قائل بالفرق بين الأزمان ولا بين الأشخاص من حيث الحجج الشرعية. الجواب الثاني: أن هذا الاعتراض مخالف للإجماع؛ وما خالف الإجماع فهو ساقط لا يعتد به، بيان ذلك: أن الناس افترقوا - بالنسبة للقياس - إلى فريقين فقط: فريق قائل بان القياس حُجَّة بالنسبة إلى جميع الأُمَّة، وفريق آخر قائل بأن القياس ليس بحُجَّة بالنسبة إلى جميع الأمَّة، فاتفق الفريقان على نفي التفصيل، فيكون القول بالتفصيل خرقا لهذا الإجماع. الاعتراض الرابع: سلمنا أن إجماع الصحابة حُجَّة، ولكنه إجماع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1861 سكوتي -، والإجماع السكوتي لا يفيد إلا الظن، ومسألتنا قطعية؛ حيث إنها قاعدة أصولية، والقطعي لا يستفاد من دليل ظني. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أنها قطعية، بل هي ظنية عندنا؛ لأن هذه المسألة عملية، والظن قائم مقام العلم في وجوب العمل بدليل: أنه لا فرق بين أن يعلم بالمشاهدة وجود الغيم الرطب المنذر بنزول المطر الذي يجب التحرز منه، وبين أن يخبر بوجود مثل هذا الغيم مخبر لمن لا يمكنه مشاهدة الغيم في أنه يلزمه التحرز منه، فكذا هاهنا لا فرق بين أن يتواتر النقل من الشرع في أنا مأمورون بالقياس، وبين أن يخبرنا به من يظن صدقه في وجوب العمل بالقياس، وإن لم نعلم صدق المخبر بذلك. هذا هو الدليل الأول من أدلة الجمهور على حجية القياس. الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة من هذه الآية على أن القياس حُجَّة من طريقين: الطريق الأول: أن الاعتبار عند أهل اللغة هو تمثيل الشيء بغيره، وإجراء حكمه عليه، ومساواته به. والله أمر بالاعتبار في قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا ... ) ، فيكون اللآصياس على هذا مأمور به، فيكون تقدير الآية: " اعلموا أنكم إذا صرتم إلى الخلاف والشقاق ساوت حالكم حال بني النضير، واستحققتم من العقاب مثل الذي استحقوه، واللفظ عام في الاعتبار فوجب حمله على عمومه، والأمر بكل اعتبار إلا ما خصه الدليل، وإن كان السبب الذي ورد فيه من الأخبار عن بني النضير خاصاً ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1862 الطريق الثاني: أن القياس مجاوزة الحكم من الأصل إلى الفرع، والمجاوزة اعتبار؛ لأن الاعتبار معناه العبور والانتقال من مكان إلى مكان آخر، والعبور هو المجاوزة يقال: " عبرت هذا النهر " أي: جزته واجتزته، وإذا كان الاعتبار مجاوزة، والقياس مجاوزة، فتكون النتيجة: أن القياس هو الاعتبار. والاعتبار مأمور به بالآية، فتكون النتيجة أن القياس مأمور به. والأمر للوجوب؛ لأنه لا توجد قرينة تصرف الأمر من الوجوب إلى غيره، فيكون القياس واجبا، والوجوب مستلزم للجواز، أي: إذا كان القياس واجبا، فمن باب أوْلى أن يكون جائزاً؛ لأن الوجوب جواز وزيادة. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: لا نُسَلِّمُ أن المراد بالاعتبار هنا: القياس الشرعي؛ لأنه لو كان المراد بالاعتبار القياس لخالف أول الآية آخرها، وكان تقدير الآية: " يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فألحقوا الفروع بالأصول، أو قيسوا الذُّرَة على البر "، وهذا في غاية الركاكة، ولا يليق بجلال القرآن. بل نقول: إن الاعتبار المأمور به هو الاتعاظ؛ حيث إنه هو الذي يتفق مع أول الآية وآخرها، ويكون المعنى: اتعظوا يا أولي العقول السليمة بفعل هؤلاء حتى لاينزل بكم مثل ما نزل بهم. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن لفظ " الاعتبار " لفظ مشترك بين ثلاث معان: القياس، والمجاوزة، والاتعاظ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1863 ونحن رجحنا أن يكون المراد بالاعتبار القياس لوجهين: الوجه الأول: أن كثيراً من أهل اللغة ذكروا أن معنى الاعتبار القياس مباشرة - كما سبق -. الوجه الثاني: أن كثيراً من أهل اللغة ذكروا أن معنى الاعتبار القياس بطريق غير مباشر؛ حيث قالوا: إن الاعتبار مجاوزة، والقياس مجاوزة، إذن يكون القياس هو الاعتبار - كما سبق بيانه -. فنحن رجحنا أن يكون معنى المراد من الاعتبار: القياس بواسطة مساعدة اللغة لنا. الجواب الثاني: أن الذي لا يناسب صدر الآية هو الاعتبار بمعنى القياس - فقط - ونحن لم نقل: إنه هو المأمور به، بل نقول: إن المأمور به هو الاعتبار بمعنى المجاوزة، وهو القدر المشترك بين الاتعاظ والقياس، والمجاوزة هي: الانتقال من شيء إلى آخر، سواء كان انتقالاً من حال إلى آخر، كما في الاتعاظ، أو من أصل إلى فرع كما في القياس، فكل من القياس والاتعاظ فيه مجاوزة، فيكون معنى الآية: " إنا فعلنا بهم ما فعلنا فقيسوا الأمور أنتم يا أولي الأبصار"، فدخل في ذلك قياس أفعالنا على أفعالهم في وصول الجزاء، فيحصل الاتعاظ، وكذلك قياس الفروع على الأصول، فلا يلزم من كون صدر الآية غير مناسب للقياس بخصوصه عدم مناسبته للقدر المشترك لما فيه من معنى الاتعاظ. الاعتراض الثاني: نسلم أن المأمور به في الآية هو: الاعتبار الذي هو بمعنى المجاوزة، وأن المجاوزة كلي يشمل القياس والاتعاظ، حيث إنه مشترك بينهما، ولكن لا نُسَلِّمُ أن الآية مع هذا تثبت أن القياس حُجَّة، لأن الأمر الكلي من حيث هو كلي لا دلالة فيه على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1864 الجزئي بخصوصه، فالمجاوزة من حيث هي مجاوزة لا دلالة فيها على خصوص القياس، ولا توجد قرينة تدل على ذلك، فلا يلزم الأمر بالمجاوزة الأمر بالقياس. جوابه: نُسلم لكم أن الأمر بالكلي ليس أمراً بكل جزئي بالنظر لذاته، من غير أن تنظم إليه قرينة تفيد العموم، أما إذا انضم إليه ما يفيد العموم فإنه يكون أمراً بكل جزئي؛ لأن دلالة العام كلية، أي: مقصود بها الحكم على كل فرد فرد، وهنا وجد في الآية ما يقتضي العموم، وهو هنا الاستثناء، فإنه يصح أن يقال: اعتبروا إلا الاعتبار الفلاني - مثلاً -، وقلنا - فيما سبق -: إن الاستثناء معيار العموم، وحينئذ يكون عاماً، والأمر به أمر بكل جزئي، وبذلك يكون القياس مأموراً به قصداً، والعمل به واجبا، والوجوب يستلزم الجواز. الاعتراض الثالث: نسلم لكم أن الآية تفيد الأمر بالقياس، لكن لا يجوز التمسك بها؛ لأن دلالتها على الوجوب دلالة ظنية، والظن لا يكتفى به في إثبات المسائل الأصولية؛ لشدة اهتمام الشارع بها. جوابه: إن القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل فإنها تثبت بالدليل الظني، فالقياس - إذن - يثبت بالأدلة الظنية؛ لأن المقصود من كون القياس حُجَّة هو وجوب العمل به، لا مجرد اعتقاد وجوبه، فأي مسألة هي وسيلة إلى العمل فإنها تأخذ حكم المسائل العملية. الاعتراض الرابع؛ أن الآية تفيد الأمر بالقياس، ولكن الأمر قد يرد للوجوب، أو الندب، أو الإباحة، وغير ذلك من المعاني التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1865 ترد لها صيغة " افعل " - كما سبق - ولا قرينة قدل على أنها للوجوب دون الندب والإباحة، فحمل الأمر على الوجوب - هنا - هو ترجيح بدون مرجح. جوابه: أن الأمر إذا تجرد عن القرائن، فإنه يقتضي الوجوب دون غيره - عندنا كما سبق بيانه - ولا يصرف إلى غيره إلا بقرينة، ولا قرينة - هنا - تصرفه عن إفادة الوجوب. الدليل الثالث: قوله تعالى: (فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ) هذا ما استدل به الشافعي. وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قد أقام مثل الشيء مقام الشيء، فدل ذلك على أن حكم الشيء يعطى لنظيره، وأن المتماثلين حكمهما واحد، وذلك هو القياس الشرعي. أو تقول في وجه الدلالة: إن اللَّه لما أوجب المثل ووكل تحقيقه في شيء خاص إلى اجتهادنا: كان إذناً من - اللَّه تعالى بالاجتهاد مطلقا، فلزم من يقول بمشروعية الاجتهاد في تحقيق المناط أن يقول بمشروعية الاجتهاد القياسي. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، واستدل بتلك الآية ابن سريج. وجه الدلالة: أن المتنازع فيه لو ردوه إلى أولي الأمر - وهم العلماء - لعلموا حكمه بالاستنباط، ولا معنى للاستنباط إلا القياس، مأخوذ من استنبط الماء إذا أخرج من معدنه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1866 اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ أن الاستنباط هو القياس، بل يمكن أن يكون المراد به ما هو أعم من القياس؛ حيث إنه يصح أن يقال: إن مستخرج الحكم من ظاهر النص يُسمى مستنبطا. جوابه: إن لفظة: " الاستنباط " لو دققنا النظر فيها لوجدنا أنها خاصة في الشيء الذي لا يستخرج إلا بصعوبة، فالشخص الذي يأتي بماء من بئر عميق يُسمَّى مستنبطا للماء، لكن الذي يأتي به من البحر أو النهر، فإنه لا يُطلق عليه أنه مستنبط عرفا، فكذلك هنا فإن من استخرج حكما بصعوبة ومشقة، فإنه يُطلق عليه أنه مستنبط، وهذا يحصل في القياس فقط، ومن عرف حكما من ظاهر نص كمعرفته لوجوب الصلاة من قوله تعالى: (وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) ، فإنه لا يسمى مستنبطاً عادة وعرفا. الدليل الخامس: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا) . وجه الدلالة: أن القياس هو في حقيقته تمثيل الشيء بالشيء، وتشبيه أحدهما بالآخر، فإذا جاز ذلك من اللَّه العالم بكل شيء الذي لا تخفى عليه خافية، فهو من المخلوق أوْلى بالجواز. وقد أكثر ابن القيم - رحمه الله - من ذكر مثل هذهَ الآية التي فيها ضرب اللَّه فيها لعباده الأمثال، وساقها للاستدلال بها على حجية القياس. الدليل السادس: قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1867 وجه الدلالة: أن العدل هو: التسوية بين المتماثلين في الحكم، ولا شك أنه يتناول القياس؛ حيث إن فيه تسوية بين الفرع والأصل. الدليل السابع: قوله تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) . وجه الدلالة: أن اللَّه سبحانه قاسهم على الأمم السابقة في أنهم إن فعلوا مثل فعلهم من التكذيب نالهم ما نال السابقين من العاقبة السيئة، فهنا أربعة أركان كاملة، فالأصل: الأمم السابقة، والفرع: المخاطبون بالسير والنظر، والعِلَّة: التكذيب، والحكم: الهلاك. الدليل الثامن: حديث معاذ، وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما بعث معاذاً إلى اليمن قاضياً، قال: " كيف تقضي إن عرض عليك قضاء؟ " قال: بكتاب اللَّه عَزَ وجَلَّ، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: بسُنَة رسول اللَّه، قال: " فإن لم تجد؟ " قال: أجتهد رأيي ولا آلو، فضرب رسول اللَّه على صدر معاذ ثم قال: " الحمد لله الذي وفق رسول رسول اللَّه إلى ما يرضي اللَّه ". وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صوَّب معاذاً على أخذ الأحكام عن طريق الاجتهاد، والقياس نوع من أنواع الاجتهاد، فيكون القياس دليلاً من أدلة التشريع. أو تقول - في وجه الدلالة -: إنه لو لم يكن القياس أصلاً ودليلاً من أدلة الأحكام مطلقا لما صوب النبي - صلى الله عليه وسلم - معاذاً على ما قال، ولما أقره؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لا يقر على خطأ، خصوصا في مثل هذا الأصل العظيم. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن الحديث ضعيف، من حيث سنده، والحديث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1868 الضعيف لا يمكن أن يستند إليه ويعتمد عليه في إثبات قاعدة أصولية كالقياس. بيان ذلك الضعف: أن الحديث رواه شعبة عن أبي عون، عن الحارث بن عمرو - ابن أخي المغيرة بن شعبة - عن أناس من أهل حمص من أصحاب معاذ بن جبل، عن معاذ. والحارث بن عمرو مجهول لا يعرف، وأصحاب معاذ من أهل حمص مجهولون - أيضا -. قال الذهبي: " تفرَّد به أبو عون - محمد بن عبد اللَّه الثقفي - عن الحارث، وما روى أحد عن الحارث غير أبي عون، فهو مجهول ". وهذه الجهالة في الحارث،؛ أصحاب معاذ تسببت في ضعف الحديث. جوابه: يجاب عنه باجوبة: الجواب الأول: أن حامل لواء هذا الحديث هو شعبة، وشعبة هذا قد أثنى عليه أهل الحديث، فقال بعضهم: " إذا رأيت شعبة في إسناد حديث فاشدد يديك به "، فتقوى الحديث برواية شعبة له. الجواب الثاني: أن الحديث قد انتشر بين رجال من أهل حمص من أصحاب معاذ، وهذا يقوي الحديث؛ حيث إن أصحاب معاذ قد عرفوا بالعلم والدين والفضل والصدق، ولا يعرف في أصحابه متهم ولا كذاب ولا مجروح، فانتشاره واشتهاره بينهم يقوي الحديث. الجواب الثالث: أن الحارث بن عمرو معدود من الثقات كما قاله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1869 ابن حبان، والعبرة بالتجريح اتفاق أئمة الحديث، أما تجريح بعض أئمة الحدث لبعض الرواة، فهذا قل من يسلم منه. الجواب الرابع: على فرض ضعف الحدمث فقد تقوى بعدة شواهد موقوفة عن عمر، وابن مسعود، وزيد، وابن عباس، روى ذلك كله البيهقي في " السنن الكبرى " - بعد أن روى هذا الحديث - تقوية له، حيث قضى هؤلاء بما يدل عليه الحديث من الاجتهاد. الجواب الخامس: أن هذا الحديث روي عن طريق آخر بإسناد متصل، ورجاله معروفون بالثقة، قال أبو بكر الخطيب: " وقد قيل: إن عبادة بن نسي رواه عن عبد الرحمن بن غنم، عن معاذ، وهذا إسناد متصل ورجاله معروفون بالثقة ". الجواب السادس: أن هذا الحديث وإن كان مرسلاً، فإن الأُمَّة قد تلقته بالقبول، والحديث المرسل إذا نقلته الأُمَّة بالقبول فإنه يعمل به ويكون حُجَّة بالاتفاق. الاعتراض الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صوَّب معاذاً على استعمال الاجتهاد عند عدم وجود نص؛ حيث روي الحديث برواية أخرى، وهي: أنه لما قال معاذ: " اجتهد رأيي "، قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اكتب إليّ وأكتب إليك ليس لأحد أن يقول أنا "، فهنا - في هذه الرواية - لم يقره على الاجتهاد برأيه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذه الرواية والزيادة غريبة وشاذة، فلا تقوى على معارضة روايتنا الصحيحة المشهورة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1870 الجواب الثاني: نسلم لكم صحة هذه الزيادة، ولكن يمكن الجمع بينها وبين روايتتا لأن نقول: إنه تحمل هذه الزيادة والرواية التي ذكرتموها على ما إذا اتسمع الوقت للواقعة التي نزلت؛ حيث يمكن الصبر حتى يكاتب - صلى الله عليه وسلم - وهو في المدينة. أما روايتنا فإنا نحملها على ما إذا ضاق الوقت، بحيث لا يمكن الصبر في معرفة حكم اللَّه فيها على ذهاب الكتاب إلى المدينة ورده. الاعتراض الثالث: أن هذا الحديث مناقض لقوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله: (وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) ، حيث قال النبي لمجيم لمعاذ: " إذا لم تجد الحكم في الكتاب ... " يقتضي هذا أن الكتاب لم يشتمل على جميع الأحكام. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ أن المقصود بالكتاب في الآيتين هو القرآن الكريم، بل هو اللوح المحفوظ، فلا تناقض. الجواب الثاني: سلمنا أن المراد به: القرآن الكريم، فلا يمكن أن يفهم أحد اشتمال القرآن على جميع الأحكام؛ لأن ظاهر القرآن يخلو من دقائق الحساب، وتفاريع الحيض، والوصايا، وأحكام السائل التي اختلف فيها الصحابة كمسألة الجد والإخوة، والتحريم، والخلع، وغير ذلك، فيتعين أن يكون المراد اشتماله عليها ابتداء، وهذا لا يناقض العمل بالقياس؛ لأنه لما أمر اللَّه بالقياس بقوله تعالى: (فاعتبروا) كان ما يستفاد منه مما اشتمل عليه بالواسطة. الاعتراض الرابع: أن تصويب النبي - صلى الله عليه وسلم - لمعاذ العمل بالقياس كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1871 قبل نزول قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) ، فإن هذه الآية أفادت إكمال الدين وتمامه، فيكون القياس قبل نزول هذه الآية حُجَّة؛ لكون النصوص غير وافية لجميع الأحكام، أما بعد إكمال الدين والتنصيص على جميع الأحكام، فلا يكون القياس حُجَّة؛ لعدم الحاجة إليه. جوابه: إن هذه الآية إنما تدل على كمال الدين من حيث أصوله، دون فروعه؛ لأن الواقع أن النصوص لم تتناول جميع الفروع؛ لعدم تناهيها، وبذلك تكون الحاجة ماسة إلى القياس لإثبات أحكام بعض الفروع التي لم ينص على حكمها، فيكون القياس حُجَّة. الاعتراض الخامس: أن معاذاً إنما قال: " أجتهد رأيي "، ولم يقل أقيس، والاجتهاد كما يكون في القياس فكذلك يكون في تحقيق المناط، فترجيح أن المراد بالاجتهاد هو القياس ترجيح بلا مرجح. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه قال: " أجتهد "، والاجتهاد عام وشامل للقياس وغيره، فيكون - على هذا - القياس أحد جزئيات الاجتهاد فيدخل، بل القياس هو أعلى مراتب الاجتهاد، فدخوله أوْلى من دخول غيره. الجواب الثاني: أنه يوجد دليل يجعلنا نرجح أن المراد بذلك القياس وهو: أن معاذاً ذكر الاجتهاد بعد النص من الكتاب والسُّنَّة، أي: أنه يجتهد فيما لا نص فيه، أما تحقيق المناط فمعروف أنه يعتمد على النص. - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1872 الاعتراض السادس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أقر لمعاذ العمل به، فما المانع من أن يكون خصوصية له رضي اللَّه عنه. جوابه: إن الأصل: أن يكون عاما غير مختص بمعاذ بدليل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قولي لامرأة كقولي لمائة امرأة "، فلا يختص بمعاذ إلا بدليل، ولا دليل صحيح عندنا، فيبقى العام على عمومه. الاعتراض السابع: أن الحديث خبر آحاد، فلا يفيد إلا الظن، والظن لا يكتفى به على إثبات قاعدة أصولية كالقياس. جوابه: أن القاعدة الأصولية إذا كانت وسيلة إلى العمل، فإنها تثبت بالظن؛ قياساً على الفروع - كما قلنا ذلك فيما سبق أكثر من مرة - هذا الدليل الثامن من الأدلة على أن القياس حُجَّة. الدليل التاسع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لعن اللَّه اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها وباعوها وأكلوا أثمانها ". وجه الدلالة: أنه - صلى الله عليه وسلم - حكم بتحريم أثمان الشحوم، قياساً على أكلها المحرم بالنص. الدليل العاشر: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أقضي بينكم برأي فيما لم ينزل علي فيه شيء". وجه الدلالة: أنه دلَّ على أنه - صلى الله عليه وسلم - يقضي برأيه، والقياس نوع من أنواع الرأي، فيكون حُجَّة. اعتراض على هذا: أن هذا خاص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، حيث إن اللَّه سبحانه يخطأه إذا أخطأ، بخلاف غيره من العلماء، وعليه فيجوز له الاجتهاد دون غيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1873 جوابه: إنه إذا جاز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد، فإنه يجوز لغيره من العلماء إذا فهموا المعنى الذي من أجله شرع الحكم المقاس عليه، ثم إن الخطأ من المجتهد يؤجر عليه بأجر واحد. الدليل الحادي عشر: ما روي أن عمر بن الخطاب سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن قُبْلة الصائم فقال: " أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته؟ " قلت: لا بأس بذلك، فقاق الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "ففيم؟ ". وجه الاستدلال: أن هذا تنبيه على إلحاق القُبْلة بالمضمضة في عدم الإفطار، والجامع: أن كلًّا منهما مقدمة لما يفطر، ولكنه لا يفطر، فالمضمضة مقدمة للشرب، والقُبْلة مقدمة للإنزال، فتبين أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد استعمل القياس، وذلك يوجب كون القياس حُجَّة. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن هذا من أقيسة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فلا يدخل في محل النزاع؛ للاتفاق على جوازه. جوابه: إذا جاز له - صلى الله عليه وسلم - أن يقيس، فإنه يجوز لغيره، والجامع: فهم المعنى الذي من أجله شرع الحكم. الاعتراض الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ذكر المضمضة - هنا - تقريبا لفهم عمر؛ لا لأجل قياس القُبْلة عليها. جوابه: إن المسألة في الحديث ليست من الأمور الصعبة التي تحتاج إلى تقريب لفهمه، فلو لم يكن المقصود من ذكر المضمضة التنبيه على أصل القياس لما كان لذكره فائدة، بل يكفي أن يقول: لا، القُبْلة لا تفطر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1874 الاعتراض الثالث: أن هذا خبر واحد، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، والظن لا يكتفى به على إثبات قاعدة أصولية كالقياس. جوابه: أن القياس قاعدة أصولية وسيلة إلى العمل، فيكتفى بإثبات ذلك بالدليل الظني؛ قياسا على الفروع. الدليل الثاني عشر: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه - أحيانا - يذكر الحكم مقرونا بعلته، والتعليل يفيد تعدي الحكم أينما وجدت العِلَّة، وذلك هو نفس القياس. من ذلك: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي لأجل الدافة "، وقوله عليه السلام في حق المحرم الذي وقَصَتْه ناقته: " لا تخمروا رأسه ولا تمسوه طيبا، فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً"، وقوله: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تذكركم الآخرة "، وقوله - لما سئل عن بيع الرطب بالتمر -: "أينقص الرطب إذا جف؟ " قالوا: نعم، فقال: " فلا إذن "، وقوله: " إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا، فإنه لا يدري أين باتت يده "، وقوله: " إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، فتعليل الشارع لبعض الأحكام إنما هو لإرشاد الخلق إلى كيفية ربط الأحكام بعللها ليلحقوا ما وجدت فيه تلك العلل بتلك الأحكام. اعتراض على هذا الدليل: أنه لا يلزم من تعليل الحكم المنصوص عليه بعلَّة: إلحاق غير المنصوص به؛ لاشتراكهما في العِلَّة، بل يجوز أَن يكون التعليل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1875 لبيان الباعث على الحكم؛ ليكون أقرب إلى الامتثال، ولهذا جاز التعليل بالعِلَّة القاصرة التي لا قياس عليها. جوابه: أن الأصل في التعليل: أن يكون لتعدية الحكم، وذلك لا ينافي قصد بيان الباعث على الحكم؛ ليكون أقرب إلى الامتثال، فالتعليل يعم الأمرين، ولا يوجد مخصص لأحدهما. الدليل الثالث عشر: أنه لو لم نعمل بالقياس لأدى ذلك إلى خلو أكثر الحوادث بدون أحكام؛ لأمرين: أولهما: قلة النصوص. ثانيهما: كثرة الحوادث والصور والجزئيات التي لا نهاية لها. فثبت أنه لا بد من القياس لإيجاد أحكام لتلك الحوادث المتجددة، وهذا فيه رد على أعداء الإسلام حيث قالوا: إن الإسلام غير قادر على إيجاد أحكام للحوادث المتجددة. الدليل الرابع عشر: أن المجتهد إذا غلب على ظنه أن حكم الأصل معلل بعلَّة معينة، ثم وجد هذه العِلَّة في محل آخر - وهو الفرع - فإنه يحَصل عنده ظن غالب بأن حَكم الأصل متعدٍ إلى ذلك المحل الذي وجدت العِلَّة فيه، واحتمل عنده احتمالاً مرجوحا عدم تعدية حكم الأصل للفَرع، فالمجتهد أمامه أربعة أمور - لا خامس لها - وهي: الأول: إما أن يعمل بما غلب على ظنه، ويعمل بالاحتمال المرجوح معا. الثاني: وإما أن لا يعمل بهما معا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1876 الثالث: وإما أن يعمل بالاحتمال المرجوح فقط ويترك العمل بما غلب على ظنه. الرابع: وإما أن يعمل بما غلب على ظنه فقط ويترك العمل بالاحتمال المرجوح. وكلها باطلة إلا الرابع، بيان ذلك: أما الأول - وهو: العمل بهما معاً - فهو محال؛ لأنه جمع بين متناقضين، والجمع بين المتناقضين محال. أما الثاني - وهو: ترك العمل بهما معا - فهو محال - أيضا -؛ لأنه رفع للنقيضين معاً، وخلو الشيء عن النقيضين محال. أما الثالث - وهو: العمل بالاحتمال بالمرجوح، وترك العمل بالظن الراجح - فهو خلاف المشروع والمعقول؛ لأنه عمل بالضعيف وترك للعمل بالقوي، وهذا لا يجوز شرعا ولا عقلاً. فلم يبق إلا الرابع، وهو العمل بالظن الراجح، والعمل بالراجح متعين؛ لأنه ثبت بعد استقراء أمور الشرع الجزئية والكلية أن الظن الراجح يجب العمل به، وهذا ما يفيده القياس، فكان العمل في قتضى القياس واجباً وهو المطلوب. هذا ما صح عندنا من الأدلة على حجية القياس، وأنه دليل من الأدلة الشرعية المعتمدة. المذهب الثاني: أن القياس ليس بحُجَّة، ولا يجوز التعبد به عقلاً ولا شرعا، أي: أن القياس لا يعتبر دليلاً من الأدلة الشرعية. وأصحاب هذا المذهب افترقوا إلى فريقين: الفريق الأول: أنكروه شرعا، أي: أن الأدلة الشرعية دلَّت على أن القياس ليس بحُجَّة وهم الظاهرية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1877 الفريق الثاني: أنكروه عقلاً، أي: أن معقول الشرع دلَّ على أن القياس ليس بحجة، وهم النظام ومن تبعه. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) . وجه الدلالة: أن الآية أفادت نهي المؤمنين عن التقدم على الله وعلى رسوله بأي قول أو فعل، والقول بالقياس تقدم على الله ورسوله؛ لأنه حكم بغير قولهما، فيكون منهيا عنه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الآية لا تمنع من العمل بالقياس، بل ربما أوجبت العمل به؛ لأنها نهت عن العمل بغير كتاب اللَّه وسُنَّة رسوله، والعمل بالقياس عمل بكتاب اللَّه وسُنَّة رسوله من وجهين: الوجه الأول: أن من شروط الأصل - كما سيأتي إن شاء الله -: أن يكون ثابتا بكتاب أو سُنَّة، فلا يقاس إلا على ما ثبت بهما واختلف في القياس على المجمع عليه، فيكون العمل بالقياس عمل بالكتاب والسُّنَّة. الوجه الثاني: أن الكتاب والسُّنَّة قد ورد فيهما الأمر بالقياس في آيات وأحاديث كثيرة ذكرناها سابقا في أدلتنا على حجية القياس، فيكون العمل بالقياس عملاً بالكتاب والسُّنَّة. الجواب الثاني: أن عملنا بالقياس ليس فيه تقديم على الكتاب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1878 والسُنَّة؛ لأننا لا نجري القياس فيما فيه نص من كتاب أو سُنَّة، بل نجريه فيما ليس فيه نص، وليس في ذلك تقديم عليهما. الدليل الثاني: قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) ، وقوله: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) . وجه الدلالة: أن هذا دلَّ على أن الكتاب اشتمل على جميع الأحكام الشرعية، فما ليس في كتاب اللَّه وجب: أن لا يكون حمقا، وجاء ذكر السُّنَّة فكانت حقاً، وجاء ذكر الإجماع فكان حقاً، لكن لم يذكر القياس فوجب أن يبقى على النفي الأصلي، فلا يجوز. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن الكتاب قد اشتمل على جواز القياس مباشرة بقوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ، وغيرها من الآيات التي ذكرتها في الاستدلال على أن القياس حُجَّة، فيكون الأمر بالقياس قد ورد به الكتاب. الجواب الثاني: إن لم يُسلّم أن الكتاب قد دلَّ على جواز القياس مباشرة، فإنه دلَّ على ذلك بطريق غير مباشر؛ حيث إنه دلَّ على أن السُّنَة حُجَّة بقوله تعالى: (وما آتاكم الرسول فخذوه) ، وغيرها من الآيات. ودل على أن الإجماع حُجَّة بقوله تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ..) ، وغيرها من الآيات - كما سبق بيانه - وهما - أي: السُّنَّة والإجماع - قد دلا على أن القياس حُجَّة بواسطة الأحاديث التي ذكرناها أثناء استدلالنا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1879 لحجية القياس، وبواسطة إجماع الصحابة السكوتي، وقد سبق بيانه. الجواب الثالث: إن لم يُسلَّم أن الكتاب قد دلَّ على جواز القياس مباشرة أو بطريق غير مباشر، فادعاء المستدل أن الكتاب قد اشتمل على جميع الأحكام الجزئية غير صحيح؛ لعدم وجود حكم في الجد والإخوة، والتحريم، والمفوضة، والعول، والخلع، وغيرها مما اختلف الصحابة فيها. فإما أن يقال: إنه لا حكم لها، وإما أن يقال: إن لها حكما في الكتاب، وإما أن يقال: إن لها حكما وأخذناه عن طريق القياس. فإن زعم المستدل: أنه لا حكم لها، فهذا باطل؛ لأنه لا يوجد حادثة إلا ولها حكم في الإسلام، وإن ادعى أحد غير ذلك فقد كفر. وإن زعم المستدل: أن لها حكما ووجدناه في الكتاب، فهذا غير صحيح؛ إذ لو كان هناك حكم في الكتاب لما اختلف الصحابة فيها. فلم يبق إلا أن لها حكماً وأخذناه عن طريق القياس، وهو الصحيح، وهو الذي أفتى به الصحابة. الدليل الثالث: قوله تعالى؛ (إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا) . وجه الدلالة: أن ثمرة القياس، وهو: ثبوت حكم الفرع مظنون لا معلوم، وكل مظنون لا يغني من الحق شيئاً منهي عن اتباعه، فحكم الفرع منهي عن العمل به، فيثبت عدم جواز تعبدنا بالقياس. جوابه: إن الظن المنهي عن اتباعه والذي لا يغني عن الحق شيئاً فيما يكون العلم واليقين ضرورة له كالعقائد وأركان الإسلام، دون مطلق الظن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1880 وإلا انتقض بدلالات الكتاب والسُّنَّة على الأحكام، فإنها كلها ظنية، ومع ذلك يجوز العمل بها بالإجماع. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ) . وجه الدلالة: أن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل اللَّه، وكل حكم لم ينزله اللَّه تعالى ابتداعا في الدين، وهذا منهي عنه، فالقياس منهي عنه. جوابه: - إن الحكتم بالقياس حكم بما أنزل اللَّه؛ لأمرين: أولهما: أن الله تعالى ورسوله قد دلَّ كلامهما في الكتاب والسُّنَّة على جواز الحكم بالقياس بواسطة تلك الآيات والأحاديث التي ذكرناها أثناء استدلالنا على حجية القياس، وإذا كان الأمر كذلك فالحكم بالقياس يعتبر حبهما بما أنزل اللَّه. ثانيهما: أن من شروط صحة القياس - كما سيأتي - أن يكون حكم الأصل ثابتا بكتاب أو سُنَّة، فلا يقاس إلا على ما ثبت بهما، فيكون العمل بالقياس عملاً بما هو مستنبط من المنزل، وكأنه حكم بالمنزل وهو الكتاب والسُّنَّة. الدليل الخامس: قوله تعالى: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) . وجه الدلالة: أن الآية دلَّت على أن الأُمَّة إذا تنازعت في شيء ولم تعرف حكمه، فيجب أن تأخذ حكمه من الكتاب والسُّنَّة، فالحكم بالقياس ليس مردوداً إلى اللَّه ولا إلى رسوله، فيكون ذلك الماخوذ عن طريق القياس باطلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1881 جوابه: إن الحكم بالقياس حكم مردود إلى اللَّه ورسوله، أي: إلى الكتاب والسُّنَّة؛ لأمرين، قد ذكرتهما في جواب الدليل الرابع السابق. ثم إن هذه الآية حُجَّة عليكم لا لكم؛ حيث أبطلتم القياس من غير رد إلى قول اللَّه ولا إلى قول رسوله، ولا إلى ما استنبط منهما. الدليل السادس: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "تعمل هذه الأُمَّة برهة بكتاب اللَّه، وبرهة بسُنَّة رسول اللَّه، وبرهة بالرأي، فإذا فعلوا ذلك ضلوا وأضلوا ". وجه الدلالة: أن الأُمَّة إذا عملت بالرأي، فإن عملهم به مذموم وموجب للضلال والإضلال، والقياس من الرأي، فيكون مذموماً، وغير مشروع. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الحديث ضعيف، والضعيف لا يستدل به على شيء، بيان الضعف: أنه كان من رواته عثمان بن عبد الرحمن الزهري، وهذا متفق على ضعفه كما قال الهيثمي، وكذلك من رواته جبارة بن المفلس، وهو ضعيف، كما قال ابن السبكي. الجواب الثاني: أن الحديث على فرض صحته، فإنه معارض بالأحاديث القوية التي استدللنا بها على حجية القياس السابقة، وحينئذ يجب الجمع بينهما، ووجه الجمع: أن يحمل هذا الحديث الذي اً ستدل به المنكر للقياس على القياس الفاسد، وهو الذي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1882 لم يستجمع شروط القياس، وتحمل الأحاديث الدالة على جواز القياس على القياس الصحيح، وهو المستجمع لشروط القياس، وعلى هذا فإنه يعمل بالدليلين. الدليل السابع: ما روي عن - صلى الله عليه وسلم -: "الحلال ما أحلَّ اللَّه والحرام ما حرَّم اللَّه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ". وجه الدلالة: أن الحديث قد بين أقساما ثلاثة هي: " حلال "، و" حرام "، و " مسكوت عنه لا يلحق بالحرام ولا بالحلال "، فلو قلتم بالقياس فإما أن تلحقوا المسكوت عنه بالحرام، فيكون حراما بعد أن كان مباحاً، وهذا تحريم لما أحله اللَّه بالسكوت عنه. وإما أن تلحقوا المسكوت عنه بالواجب، ويكون تاركه آثما بعد أن كان مباحاً، وعليه: فالقياس يؤدي إلى تحريم الحلال وإيجاب المباح، وهذا خلاف ما دلَّ عليه الحديث والشرع كله، فيكون القياس باطلاً، لأنه يؤدي إلى باطل. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث ضعيف، حيث إن من رواته سيف ابن هارون البرجمي، ضعَّفه النسائي والدارقطني، كما نقله الذهبي، والحديث الضعيف لا يصلح للاستدلال به على شيء. الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث فإنا لا نُسَلِّمُ أن ما ثبت حكمه عن طريق القياس مسكوت عنه، فيكون معفواً عنه، وإنما هو داخل فيما حرَّمه اللَّه، أو أوجبه؛ لأمرين: أولهما: أن الشارع لما علل الحكم في المنصوص على حكمه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1883 جعل بهذا التعليل سريان حكمه في المسكوت عنه، فكان المسكوت عنه محكوماً فيه معنى بحكم اللَّه. ثانيهما: أن دخول الواقعة في التحريم أو الإيجاب كما يعرف بدلالة اللفظ يعرف - أيضا - بالدلائل العامة التي تبينها مقاصد الشريعة في جملة نصوصها، وعامة أحوالها. الدليل الثامن: ما روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " تفترق أمتي على بضع وسبعين فرقة، أعظمها فتنة على أمتي قوم يقيسون الأمور برأيهم فيُحلون الحرام، ويحرمون الحلال ". وجه الدلالة: أن الحديث ظاهر في ذم من يقيس الأمور برأيه، بل جعل القائلين بالقياس والعاملين به خطراً على الأُمَّة، وأنهم يسببون الفتنة التي ذمَّها اللَّه، وهذا يبطل القياس. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث ضعيف، حيث قال يحمص بن معين: إن هذا الحديث ليس له أصل، والحديث الضعيف لا يصلح للاستدلال به. الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث، لكنه معارض بالأحاديث التي دئَت على حجية القياس - وهي التي ذكرناها فيما سبق - فيجب - حينئذٍ - الجمع بينها، ووجه الجمع: أن نحمل هذا الحديث على القياس الفاسد، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس، وأن القائس ليس أهلاً للاجتهاد، ويؤيد ذلك قوله فيه: "فيحملون الحرام، ويحرمون الحلال "، ونحمل الأحاديث التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1884 دلَّت على العمل بالقياس على القياس الصحيح المستكمل لشروط القياس. الدليل التاسع: ما روي عن - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما هلكت بنو إسرائيل حتى كثر فيهم المولدون: أبناء سبايا الأمم، فأخذوا في دينهم بالمقاييس فهلكوا وأهلكوا ". وجه الدلالة: الحديث بيق أن ذم بني إسرائيل كان بسبب القياس الذي استعملوه في دينهم، فمن فعل مثل ما فعلوا فقد استحق الذم من اللَّه تعالى، أي: فمن استعمل القياس في معرفة الأحكام فقد استحق الذم، فيكون استعمال القياس مذموما. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحديث لم يصح؛ لأن في سنده سويداً قال عنه الإمام أحمد: إنه متروك الحديث، وقال الشهاب البوصيري: إنه ضعيف، وفي سنده - أيضا - ابن أبي الرجال وهو متروك عند النسائي، ومنكر الحديث عند البخاري، وإذا كان الحديث لم يصح فلا يصلح للاستدلال به. الجواب الثاني: على فرض صحة الحديث فإنه يحمل على القياس الفاسد، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس، أو أن القائس لم يكن أهلاً للقياس، ويؤيد ذلك معنى الحديث؛ حيث إن معناه: إنهم لم يعرفوا الأشباه، ولم يدركوا الإمثال ونظائرها، بل قاسوا بالهوى والتعصب كما فعلوا في الشحوم حين حرمها الله عليهم، فجملوها وباعوها، وما هذا إلا ضلال لا يقول به عاقل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1885 وعلى هذا فالقياس الصحيح وهو المستكمل لشروط القياس، وفاعله من أهل الاجتهاد، وهو الذي يجري على حسب أمر الشارع لا يؤدي إلى ضلال، بل يؤدي إلى حق، والحق يجب اتباعه، فيكون القياس حُجَّة. الدليل العاشر: إجماع الصحابة السكوتي دلَّ على أن القياس ليس بحُجَّة. بيان ذلك: أنه نقل عن بعض الصحابة ذم العمل بالقياس - وقد ذكرنا عدداً من النصوص على ذلك أثناء الاعتراض على الوجه الثاني من وجوه تقرير الإجماع عند الجمهور - وهم القائلون بحجية القياس وقد سبق -. قال المنكرون للقياس: ولم يظهر من واحد منهم الإنكار على ذلك الذم، وذلك يدل على انعقاد الإجماع على فساد القياس، وعلى أن اللَّه لم يتعبدنا به. جوابه: لقد أجبنا عن ذلك بجوابين: " جواب إجمالي "، و " جواب تفصيلي ". أما الجواب الأجمالي فقد سبق بالتفصيل، ولا مانع من أن أشير إليه هنا تذكرة للقارئ وهو: أن أقول: إن كل نص ورد فيه ذم للقياس والرأي وأهله: فالمقصود فيه القياس الفاسد، وهو الذي لم يستكمل شروط القياس، أو ورد من شخص ليس أهلاً للاجتهاد، وأن كل نص ورد فيه مدح للقياس فالمقصود فيه القياس الصحيح، إلى آخر ما قلناه هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1886 وأما الجواب التفصيلي فالمقصود منه: الجواب عن كل نص ونقل عن الصحابة فيه ذم للقياس، وقد سبق بيان ذلك هناك، ولا داعي لتكراره. الدليل الحادي عشر: إجماع العترة دلَّ على أن القياس ليس بحُجَّة والمراد منهم: علي بن أبي طالب وزوجته فاطمة الزهراء، والحسن والحسين، بيان ذلك: أن المستدلين قالوا: كما نعلم بالضرورة - بعد مخالطة أصحاب النقل - أن مذهب الأئمة الأربعة - وهم أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد - القول بالقياس، فكذا نعلم بالضرورة أن مذهب أهل البيت كالصادق والباقر إنكار القياس؛ حيث انعقد إجماعهم على ذلك، وإذا ثبت أن آل البيت أجمعوا على إنكار القياس ثبت أنه لا يجوز العمل به؛ لأن إجماعهم حُجَّة. وهذا قول الشيعة الإمامية. قال الحيدري: " ومذهب أهل البيت معلوم متواتر عنهم قد نقله الخلف عن السلف في رد القياس، ورد من قال به ". جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن نقل الشيعة الإمامية إنكار القياس عن العترة معارض بنقل الشيعة الزيدية عن العترة وجوب العمل بالقياس، قال يحيى الزيدي: " إن أكثر أهل البيت قائلون بالقياس، وكيف يدعى إنكار القياس والإمام علي بن أبي طالب قد عمل بالقياس في فتاويه، وكذا من جاء من بعده من أئمة الشيعة " اهـ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1887 فهنا ثبت أن النقلين متعارضان، فبطلت دعواهم أن العترة أجمعوا على إنكار القياس، وإذا كان النقلان متعارضين، فلا بد من الجمع بينهما، ووجه الجمع: أن نحمل قول من قال بعدم حجية القياس بأنه يقصد القياس الفاسد الذي لم يستكمل شروط القياس أو الصادر من غير أهل الاجتهاد، ونحمل قول من قال بحجية القياس بانه يقصد القياس الصحيح الذي استكمل شروط القياس. الجواب الثاني: إن سلمنا صحة حصول إجماع العترة على إنكار لمقياس، فإنا لا نُسَلِّمُ أن إجماعهم حُجَّة على غيرهم عند المخالفة؛ لأن العترة بعض المجتهدين، والإجماع ينبغي أن يتفق عليه كل المجتهدين الموجودين في العصر الواحد؛ لأن العصمة ثبتت للكل، لا للبعض، فيكون قول الكل هو الحُجَّة، فيبطل - بذلك - دعواهم أن إجماع العترة حُجَّة. الدليل الثاني عشر: أن القياس يؤدي إلى الخلاف والمنازعة بين المجتهدين؛ لأن مقدماته ظنية، والظن سبيل الخلاف، لا سبيل الوفاق، والخلاف والمنازعة منهي عنهما؛ لقوله تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) ، وبذلك يكون القياس منهياً عنه، فيحرم العمل به. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول؛ أن الخلاف والمنازعة المنهي عنها في الآية المراد بها: الخلاف والمنازعة في الحروب وسياسة الأمَّة وإدارة شئونها؛ حيث إنها توجب الفشل وتسبب الهزيمة أمام الأعداء، أما الخلاف والمنازعة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1888 الأحكام الشرعية، بحيث يرى مجتهد ما لا يراه الآخر لدليل ثبت عنده: فليس منهياً عنها بدليل: ما اشتهر عن الصحابة أنهم اختلفوا في مسائل كثيرة تكاد لا تحصى كمسألة الجد والإخوة، والخلع، والتحريم، والعول، وغيرها، ولو كان الاختلاف والمنازعة منهيا عنها على الإطلاق: لكان الصحابة قد أخطأوا في ذلك، بل لكانت الأمَّة كلها مخطئة، وهذا ممتنع؛ لأن الأُمَّة معصومة عن الخطأ. الجواب الثاني: أنه بناء على اعتقادكم وهو: أن الظن سبيل الخلاف يكون كل ما أفاد الظن منهيا عنه؛ لأنه يؤدي إلى المنازعة، فيلزم على هذا: أن لا نعمل بظواهر النصوص، ولا خبر الواحد، ولا الشهادة، ولا الأدلة العقلية، فتبطل بذلك أغلب أدلة الشرع، وهذا لا يقوله عاقل. الدليل الثالث عشر: أن القياس مبني على التعليل، والشريعة الإسلامية مبنية على التعبد والتحكم، فالقياس على هذا لا يمكن في الشريعة، لعدم التناسب بينهما. أما الدليل على أن القياس مبني على التعليل فهو قولكم: إن مدار القياس على العلَّة، فإن وجدت عِلَّة الأصل في الفرع ألحقناه به، وإن لم توجد لا يجوز الإلحاق. وأما الدليل على أن الشريعة مبنية على التعبد والتحكم، فهو أنها تفرق بين المتماثلات في الحكم، وتجمع بين المختلفات في الحكم. أما التفرقة بين المتماثلات فمنها الصور التالية: الأولى: أن الشارع رخص في قصر الصلاة في الرباعية في حق المسافر، دون الثلاثية والثنائية مع أن الصلوات متماثلة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1889 الثانية: أن الشارع فضل بعض الأزمنة والأمكنة على بعض: ففضل ليلة القدر على سائر الأزمنة مع أنها متماثلة مع باقي الليالي، وفضل مكة والمدينة وبيت المقدس وعرفة وسائر المشاعر مع أن الأمكنة متماثلة. الثالثة: أنه أوجب قضاء الصوم على الحائض والنفساء، ولم يوجب قضاء الصلاة عليهما مع أنهما متماثلين؛ حيث إن كلًّا منهما عبادة بل الصلاة أولى من الصوم بالمحافظة. الرابعة -: أنه فرض الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً، وهو طاهر، دون البول، وهو نجس. الخامسة: أنه حرم النظر إلى العجوز الشوهاء القبيحة المنظر إذا كانت حرة مع أنها لا تفق الشبان ألبتة، وأباح النظر إلى الأمَة الشابة الحسناء مع أنها تفق الشيخ الهرم. السادسة: أنه أوجب قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير مع أنهما متماثلين، بل غاصب الكثير أوْلى بالقطع. السابعة: أنه أوجب الجلد بالقذف بالزنا، دون القذف بالكفر مع أن القذف بالكفر أشد. الثامنة: أنه أوجب جلد قاذف الحر الفاسق، دون قاذف العبد العفيف. التاسعة: أنه قبل في القتل شاهدين، دون الزنى فإنه لا يقبل فيه إلا أربعة، مع أن القتل أشد من الزنى. العاشرة: أنه أوجب غسل الثوب من بول الصبية، وأوجب الرش من بؤل الصبي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1890 الحادية عشرة: أنه فرق في العدة بين الموت والطلاق مع أن الرحم لايختلف فيهما. فكيف مع ذلك التفريق بين المتماثلات أن يقال بجواز القياس في الشريعة؟! إذ لو جاز القياس لألحق المثل بالمثل، ولكنه لم يفعل. أما الجمع بين المختلفات فمنها الصور التالية: الأولى: أن الشارع سوَّى بين قتل الصيد في الحج عمداً والقتل خطأ في وجوب الضمان مع أنهما مختلفان. الثمانية: أنه سوَّى بين الصبية المتوفى عنها والكبيرة في العدة مع اختلافهما. الثمالثة: أنه سوَّى بين الماء والتراب؛ حيث جعل التراب كالماء مع وجود الاختلاف؛ حيث إن التراب لا ينظف، بل يزيد في تشويه الوجه. فبسبب هذه الصور أثبت النظام أن الشريعة فرقت بين المتماثلات وجمعت بين المختلفات في الحكم، وقال: إذا كان هذا هو حال هذه الشريعة، فلا مجال للعقل فيها، وبالتالي لا يسوغ استعمال القياس فيها؛ لأنه مبني على تعقل المعنى الذي من أجله شرع الحكم، والعقل لا يمكنه إدراك مثل هذه الأمور. هذا هو الدليل الثالث عشر على عدم حجية القياس. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أن الأحكام أقسام ثلاثة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1891 القسم الأول: أحكام لم نعرف عللها، فهو تعبدي كعدد الصلوات والركعات. القسم الثاني: أحكام قد تُردد في تعليله. القسم الثالث: أحكام قد عرفنا عللها. ونحن لم نقل بأن القياس جائز مطلقا، بل لا نقيس إلا بشروط منها: قيام الدليل على أن الحكم معلل، ودليل على عين العِلَّة المستنبطة، ودليل على وجود تلك العِلَّة في الفرع، والصور التي ذكرها النظام لم تتوفر فيها هذه الأدلة، فلذلك لم يجر فيها القياس، فيكون الاعتراض بها باطل، وعدم ظهور الحكمة فيها لمثل النظام لا يجعلها دليلاً على أن كل أحكام الشريعة غير معللة، وبالتالي لم يصح الأخذ بالقياس عليها. الجواب الثاني: أن هذه الصور التي أراد النظام بسردها أن يثبت أن الشريعة جمعت بين المختلفات، وفرقت بين المتماثلات قليلة جداً ونادرة، وورود الصور النادرة على خلاف الغالب لا يقدح في حصول الظن، كما أن الغيم الرطب إذا لم يمطر في حالة واحدة لا يقدح في ظن نزول المطر منه، فامتناع القياس في صور معدودة لا يقتضي امتناعه من أصله. الجواب الثالث: وهو الجواب التفصيلي عن كل صورة ذكرها النظام فأقول: أولاً: ما ذكره من صور التفرقة بين المتماثلات، فالجواب عنها فيما يلي: - أما قوله في الصورة الأولى: " إنه رخص في قصر الصلاة في الرباعية للمسافر دون الثلاثية والثنائية "، فالجواب عنه: بأنه فرق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1892 بينها، لقيام الفارق وهو: أن القصد من قصر الصلاة إنما هو التخفيف على المسافر، والمحتاج للتخفيف إنما هو العدد الكثير المانع للمسافر من قضاء حوائجه كالرباعية، دون العدد القليل كالثنائية، فهي خفيفة على المسافر لا تمنعه من قضاء حوائجه. وأيضا: فإن الصلاة الثنائية لو قصرت لعادت إلى ركعة واحدة، وذلك ليس له نظير في أصل مشروعية الصلاة. أما الثلاثية فإنه لا يمكن قصرها؛ لأمور: أولها: أنه لا يمكن شطرها. ثانيها: أنه لو حذف ثلثيها فإنه يبقى ركعة واحدة، وهذا مخل لها، وليس لذلك نظير في أصل مشروعية الصلاة. وثالثها: أنه لو حذف ثلثها، فإنه تبقى ركعتان، وهذا يخرجها عن حكمة مشروعيتها وترأ، فإنها شرعت ثلاثا، فتكون وتر النهار كما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " وتر الليل ثلاث كوتر النهار صلاة المغرب ". أما قوله في الصورة الثانية: " إنه فضل بعض الأزمنة والأمكنة مع أنها متماثلة،، فالجواب عنه: أنه ليس المعنى المقتضي للتفضيل هو حقيقة الزمان والمكان كما توهم النظام، بل إن بعض الأزمنة وبعض الأمكنة فضلت لوجود ما يقتضي لذلك التفضيل من الأمور التي وقعت فيها: فليلة القدْر فضلت عن سائر الليالي؛ لأن القرآن نزل فيها، وجعلت ميعاداً لنزول الملائكة والروح فيها بإذن ربهم، ففضلت عند الخلائق بسبب ما ينزل بها من النعم والرحمات، فكانت العبادة فيها أفضل حتى يكون حظ العبد فيها أوفر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1893 ومكة المكرمة فضلت؛ نظراً لوجود المسجد الحرام والمشاعر الكريمة. والمدينة فضلت؛ لأنها مكان هجرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وأهلها أول من بايعه على النصرة والمنعة، وفيها قبر أفضل الخلق نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. وفضل بيت المقدس؛ لأن فيه المسجد الأقصى، وهو أولى القبلتين، ومجمع الأنبياء، والمكان الذي أسري النبي - صلى الله عليه وسلم - إليه، وعرج منه إلى السماء. وفضلت عرفة؛ لأنه محل وقوف الجم الغفير من الخلائق متجردين ملبين. فاتضح مما سبق أن التفضيل لا لأجل حقيقة الزمان والمكان، بل لوجود ما يقتضي ذلك التفريق، ونتيجة لذلك اختلف الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من أنها متساوية. وأما قوله في الصورة الثالثة: " إنه أوجب قضاء الصوم على الحائض والنفساء دون قضاء الصلاة مع أنهما متماثلين "، فالجواب عنه: أن إيجاب قضاء الصوم دون الصلاة ليس ذلك لزيادة العناية بالصوم دون الصلاة، بل السر في ذلك: أن الشارع نظر إلى المشقة وعدمها، والمصلحة وعدمها، بيان ذلك: أنه نظراً لحصول المشقة الشديدة في قضاء الصلاة؛ لتكررها لم يوجب الشارع قضائها، ونظراً لعدم المشقة في الصوم فإنه أوجب قضائها. وأيضا: فإن مصلحة الصلاة ستحصل فى زمن الطهر - لتكررها - فلم يوجب قضائها، وأما مصلحة الصوم فإنها لا تحصل - لعدم تكرره - فأوجب قضائه لتحصل المصلحة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1894 فثبت بذلك أن بين الصلاة والصوم فرقا اقتضى ذلك الاختلاف في الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من كونهما متماثلين. وأما قوله في الصورة الرابعة: " إنه أوجب الغسل من المني وأبطل الصوم بإنزاله عمداً وهو طاهر، دون البول وهو نجس "، فالجواب عنه: أن بين المني والبول فروقاً هي كما يلي: الأول: أن المني يخرج من جميع البدن، لذلك سماه اللَّه تعالى سلالة؛ لأنه يسيل من جميع البدن، وأما البول فهو فضيلة الطعام والشراب المستحيلة في المعدة والمثانة، فتأثر البدن بخروج المني أعظم من تأثره بخروج البول. الثاني: أن الجسم كله يحصل له ارتخاء وثقل وكسل عقب خروج المني، والاغتسال بالماء يشده ويعيد إليه قوته، أما البول إذا خرج فلا يحدث في الجسم ذلك، فلا يحتاج إلى الاغتسال. الثالث: أن إيجاب الغسل من المني وإبطال الصوم بإنزاله عمداً ليس في ذلك حرج ومشقة؛ نظراً لقلة ما يقع، أما البول فإنه لو أوجب اللَّه الغسل في كل مرة يبول فيها الإنسان لوقع الناس في حرج ومشقة؛ نظراً لكثرة ما يقع. فثبت أن المني يختلف عن البول فاقتضى ذلك اختلافهما في الحكم، فبطل ما ادعاه النظام في أنهما متماثلان. وأما قوله في الصورة الخامسة: " إنه حرم النظر إلى العجوز الشوهاء إذا كانت حرة، وأباح النظر إلى الأمَة الحسناء "، فالجواب عنه: أن الذي أوقع النظام في هذه الشبهة: أنه أخطأ في العِلَّة ومقصد الشارع هنا؛ حيث توهم بأن السر؛ في ذلك الحكم هو القبح والحسن في جزئيات النساء، وليس ذلك بصحيح، بل إن الحرة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1895 حرَّم النظر إليها مهما كانت، دون الأمَة مهما كانت؛ لأنه يوجد فرق، وهو: أن المقصود من الأمَة الخدمة، وهي تستوجب التعرض للنظر، وتكون الأمَة معها مبتذلة؛ إذ لا يمكن أن تقوم بعملها تمام القيام وهي متسترة، وليس المقصود من الأمَة التزوج والنكاح لما يترتب عليه استرقاق الولد، ولهذا لم يجز التزوج بأمَة الغير إلا فى حالة الضرورة القصوى، من أجل ذلك أباح النظر إليها، فلو حرم النظر إلى الأمَة لوجد في ذلك مشقة شديدة. أما الحرة، فبما أنها قد أعدت للتزوج بها وإنكاحها، وهي المقصودة للنسل والذرية، فإن ذلك كان داعيا إلى المحافظة عليها، وتكريمها وتحسينها أمام الرجال الأجانب بمنع النظر إليها؛ دفعاً للفتنة وحفظا للأنساب. فثبت بهذا أن بين الحرة والأمَة فرقا اقتضى اختلاف الحكم. فبطل - بهذا - ما قاله النظام من أنهما متماثلان. وأما قوله في الصورة السادسة: " إنه أوجب قطع يد سارق القليل دون غاصب الكثير مع أنهما متماثلان "، فالجواب عنه: أن بين السرقة والغصب فرقا هو: أن السرقة أخذ مال الغير خفية من حرز مثله في وقت ليس للمال حارس، ولا مدافع، أي: أن السارق لا يمكن الاحتراز منه؛ حيث إنه ينقب الدور، ويهتك الحرز، ويكسر القفل، ولا يستطيع صاحب المال الاحتراز بحفظ ماله بكثر من ذلك فلو لم يشرع قطع يده لكثرت السرقة وعظم الضرر، واشتدت المحنة بالناس؛ حيث يجمع شخص ماله بكل مشقة، ثم يأخذه شخص آخر بدون أدنى تعب. أما الغاصب فإنه يأخذ المال بمرأى من الناس، وبمرأى من صاحب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1896 المال، فيمكن التحرز منه، ويمكن للناس أن يأخذوا على يديه، ويقوموا بأخذ حق المظلوم والمغصوب، ويشهدوا أمام القضاء على اعتدائه. فثبت أن بين الغاصب والسارق فرقا اقتضى ذلك اختلاف الحكم فيهما، فبطل ما ادعاه النظام من أنهما متماثلان. وأما قوله في الصورة السابعة: " إنه أوجب الجلد بالقذف بالزنى دون القذف بالكفر "، فالجواب عنه: أن الذي جعل النظام يقول بذلك هو توهمه بأن السر في حد القذف كونه رماه بأمر محرم شرعا لذلك قال بأن القذف بالكفر أشد، فهو أوْلى بهذا الحد، وهذا ليس بصحيح، بل بين القذف بالزنى والقذف بالكفر فرقان هما: الفرق الأول: أن جلد القاذف بالزنى في غاية المناسبة؛ حيث إنه لا سبيل إلى العلم بكذبه، فجعل الحد تكذيبا له، وتبرئة لعرض المقذوف. الثاني: أن المقذوف بالزنى يلحقه من العار والشنار ما اللَّه به عليم لا سيما إدا كان المقذوف بالزنى امرأة، فإن العار والمعرة التي تلحقها بالقذف بين أهلها وتشعب ظنون الناس فيها، وكونهم بين مصدق ومكذب: لا يمكن أن يلحقها مثله بالقذف بالكفر؛ حيث إن الكفر فيه تعاظم وجبروت وقوة بخلاف الزنا، فإن فيه خسة، ودناءة، وسفول، ولو خير شخص بين الزواج بكافرة لم تزن ولا يمكنها أن تفعل ذلك، وبين مسلمة قد زنت مرة واحدة، أو قيل عنها شيء في ذلك لاختار الكافرة اليهودية أو النصرانية؛ وذلك لعظم الزنى في الشريعة وفي نفوس الأحرار من الناس؛ لكونه يخلط الأنساب، ويسبب شك الزوج في هؤلاء الأولاد هل هم له أو لغيره طول عمره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1897 فثبت أن بين القذف بالزنى والقذف بالكفر فرقا، فاقتضى ذلك أن يختلف الحكم فيهما. وأما قوله في الصورة الثامنة: " إنه أوجب جلد قاذف الحر الفاسق دون قاذف العبد العفيف "، فالجواب عنه: أن الجلد ليس المعنى فيه مجرد العفة حتى يكون قاذف العبد العفيف أحق بهذا الحد، بل المعنى الذي اقتضى حد القذف هو: ما سبق قوله في جواب الصورة السابعة من أن الزنى مستقبح في العادات، وأن العار الذي يلحق فاعله لا يستطيع أن يتحمله من كان عنده شيء من المروءة والشهامة والشيمة، فلو ترك الناس يقذف بعضهم بعضا بهذا الأمر المستقبح دون إقامة الحد على القاذفين، لأدى ذلك إلى مفاسد لا تعد ولا تحصى، يقوم بتلك المفاسد الحاقدون والحاسدون الذين يريدون إسقاط وإهدار قيمة الآخرين، وإذهاب كرامتهم، وبما أن الحر أشرف من العبد خص بهذه المزية، دون العبد الذي هو نازل القدر شرعاً، فثبت أن ما ادعاه النظام غير صحيح. وأما قوله في الصورة التاسعة: " إنه يقبل في القتل بشاهدين، دون الزنى لا بد فيه من أربعة "، فالجواب عنه: أن هذا في غاية الحكمة والمصلحة، فكان الشارع قد احتاط للقصاص وللدماء كما احتاط لحد الزنى، بيان ذلك: أن الشارع لو لم يقبل في القتل إلا أربعة شهود لتجرأ المعتدون على القتل، وضاعت أكثر الدماء. وأما الزنى فإنه قد بالغ في ستره، فلم يقبل فيه إلا أربعة شهود يشهد كل واحد منهم بما رآى شهادة يتنفى معها الاحتمال، وكذلك في الإقرار به لم يكتف بأقل من أربع مرات؛ احتياطاً من الشارع في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1898 إثباته، وحرصا على ستره، كما كره الشارع إظهاره والتكلم به، وتوعد من يحب إشاعته في المؤمنين بالعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، وما ذلك إلا لما يلحق الشخص بالزنى من العار، بخلاف ما يلحق القاتل. فثبت اختلافهما فاقتضى ذلك اختلافهما في الحكم، فبطل توهم النظام. وأما قوله في الصورة العاشرة: " إنه أوجب غسل الثوب من بول الصبية، - وأوجب الرش من بول الصبي مع تماثلهما لا، فالجواب - عنه: أنه نرق بينهما لوجود فروق هي كما يلي: الأول: أن بول الأنثى أخبث وأنتن من بول الذكر؛ لما في الأنثى من برودة ولما في الذكر من حرارة، والحرارة تخفف من نتن البول. الثاني: أن بول الصبية ينزل في مكان واحد فيسهل غسله، أما بول الصبي فإنه لا ينزل في مكان واحد، بل ينزل متفرقاً، فيشق غسله. الثالث: أن الصبي يكثر حمل الرجال والنساء له، فالبلوى تعم ببوله فيشق غسله، بخلاف الصبية. فلما ثبتت هذه الفروق بين الصبي والصبية اختلف الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من أنهما متماثلان. وأما قوله في الصورة الحادية عشرة: " إنه فرق في العدة بين الموت والطلاق مع أن الرحم لا يختلف فيهما "، فالجواب عنه: أن الشارع فرق بين عدة المتوفى عنها وعدة المطلقة؛ لوجود الفارق بينهما وهو: أن صاحب النسب في حال الموت غير موجود، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1899 فاحتيط له بأربعة أشهر وعشراً، بخلاف المطلق؛ حيث إنه موجود، فتبين أنه ليس المقصود من العدة براءة الرحم فقط، ولما وجد هذا الفارق فرق الشارع بينهما في الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من تماثلهما. ثانيا: ما ذكره من صور الجمع بين المختلفات، فالجواب عنها فيما يلي: أما قوله - في الصورة الأولى -: " إن الشارع قد سوى بين قتل الصيد في الحج عمداً، والقتل خطأ في وجوب الضمان مع اختلافهما "، فالجواب عنه: أن هذا من باب الحكم الوضعي؛ حيث إن سبب الضمان وجد فيهما وهو: نفس الإتلاف، وإن افترقا في الإثم، وربط الضمان بالإتلاف من باب ربط الأحكام باسبابها، وهذا في غاية العدل، فلو فرق بين المتعمد والمخطئ في الضمان لادعى المتلف الخطأ وعدم القصد والعمد، فتساويا في الحكم، فبطل ما ادعاه النظام من اختلافهما. وأما قوله - في الصورة الثانية -: " إنه سوى بين الصبية المتوفى عنها والكبيرة في العدة مع اختلافهما "، فالجواب عنه: أن هذا من باب سد الذرائع؛ بيان ذلك: أن الصبية لو استثنيت من وجوب العدة لوقع أن تزوج البنت باعتقاد أنها صغيرة مع أن رحمها مشغول، فيحصل بذلك اختلاط في الأنساب، فاحتياطا للمحافظة على الأنساب وجدت العدة حتى على المتيقن من براءة رحمها، فيكون تساوي الصبية المتوفى عنها والكبيرة في العدة من باب الاحتياط، فبان من ذلك عدم اختلافهما، فيكون ما ادعاه النظام من اختلافهما باطلاً. وأما قوله - في الصورة الثالثة -: " إن الشارع قد سوى بين الماء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1900 والتراب حيث جعل التراب كالماء مع وجود الاختلاف. فالجواب عنه: أنا لا نُسَلِّمُ أنه سوى بينهما، بل جعل التراب بدلا عن الماء عند فقده، وجعل التراب بديلاً عن الماء عند فقده؛ لأمور هي كما يلي: الأول: أنه عام ومتيسر، ويحصل عليه كل الناس بدون مشقة. الثاني: أن الشارع جمع الماء والتراب، وجعل منهما حياة كل حيوان؛ حيث أخرج منهما أقوات بني آدم، والحيوانات. الثالث: أن تكوين البشر من عنصرين: الماء والتراب. الرابع: أن في استعمال التراب عند فقد الماء رفع للحرج الذي يجده فاقد الماء، أو من يحتاج إلى شرب الماء إذا خاف على نفسه في السفر أو الحضر. فاتضح من ذلك أن الماء والتراب يجتمعان في أمور لذلك جمع الشارع بينهما، وجعل التراب بد، عن الماء عند فقده. الدليل الرابع عشر: أن البراءة الأصلية معلومة، والحكم الثابت بالقياس لا يخلو إما أن يكون على وفق البراءة الأصلية، أو على خلافها. فإن كان الحكم الثابت بالقياس على وفق البراءة الأصلية، فإن القياس غير مفيد؛ لأن الحكم حاصل بالبراءة الأصلية. وإن كان الحكم الثابت بالقياس على خلاف البراءة الأصلية، فهو ممتنع؛ لأن الحكم الثابت بالقياس معارض للحكم الثابت بالبراءة الأصلية، والحكم الثابت بالبراءة الأصلية مقطوع به؛ لأن البراءة دليل قطعي، والحكم الثابت بالقياس مظنون؛ لأن القياس دليل ظني، والظني إذا عارض القطعي كان الظني باطلاً، فيلزم كون القياس باطلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1901 جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحكم الثابت بالقياس إذا وافق البراءة الأصلية فهو يفيد التأكيد والتقوية، كما يقال: " دلَّ على هذا الحكم الكتاب والسُّنَّة والإجماع "، فلا نسلم لكم عدم الفائدة. أما إذا خالف الحكم الثابت عن طريق القياس البراءة الأصلية، فلا نسلم أن هناك مقطوعاً به عارض مظنونا؛ لأن المقصود هو استمرار البراءة الأصلية، واستمرارها مظنون، فيكون مظنون قد عارض مظنوناً. الجواب الثاني: على فرض التسليم أن فيه مقطوعا به عارض مظنوناً، لكن هذا منقوض بمخالفة البراءة الأصلية بالنصوص الظنية كخبر الواحد، والعمومات، وجواز العمل بالفتوى، والشهادة، وتقويم المقومين، وجواز العمل بالظن بالأمور الدنيوية. الدليل الخامس عشر: أن القياس لا يفيد إلا الظن؛ لأنه يعتمد على مقدمات ظنية، وكل ما أفاد الظن يستحيل أن يتعبدنا اللَّه به؛ لأن الظن يؤدي بالمجتهدين إلى أن يحكموا حكما يمكن أن يكون مخالفا لحكم اللَّه، ويؤدي إلى التخبط في أحكام الله. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا معكم أن القياس يفيد الظن، ولكن ينبغي التنبيه إلى أننا لا نقبل قياس كل أحد مطلقا، بل لا نقبل إلا قياس المجتهد - وهو من توفرت فيه شروط المجتهد وهي كثيرة - فمن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1902 توفرت فيه تلك الشروط وبحث ودقق في المسألة، ثم بعد ذلك خرج بحكم معين، فإن هذا هو حكم الله، وهو حكم ظني راجح، والعمل به واجب. أما الشخص الذي لم تتوفر فيه شروط الاجتهاد، فإن هذا لا يقبل منه شيء وإن جزم بالحكم الذي ذكره؛ لأنه ذكره لا عن نظر واستدلال، فيرد عليه جملة وتفصيلاً، حيث إنه هو يؤدي إلى حكم يحتمل أن يكون مخالفاً لحكم اللَّه. الجواب الثاني: أن هذا الدليل لهم منقوض بورود التعبد بالمظنون كأخبار الآحاد، والنصوص التي فيها إجمال، أو عموم أريد به خصوص، وقبول الشهادة، والاجتهاد في القبلة، وتقدير النفقات، وتقييم المتلفات، فإذا أجازوا التعبد بهذه الظنون فليجيزوا التعبد بالقياس، ولا فرق بينها بجامع: أن كلًّا منها لا يفيد إلا الظن. الدليل السادس عشر: أن إثبات القياس لا يخلو إما أن يكون عن طريق العقل أو طريق النقل، وكل الطريقين باطل، بيان ذلك: أنه إن قيل: إنه ثبت عن طريق العقل فهو باطل؛ لأن العقل لا مجال له في الشرعيات، وإن قيل: إنه ثبت عن طريق النقل فهو باطل؛ لأن النقل قسمان: " متواتر "، و " آحاد "، فإن زُعم أنه ثابت عن طريق التواتر فهو باطل؛ لأنه لو كان لعرفناه كما عرفه ذلك المثبت له، وإن زعم أنه ثابت عن طريق الآحاد فهذا باطل - أيضاً -؛ لأنه لا يجوز إثبات القواعد الأصولية بالآحاد. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ أنه لا يجوز إثبات القاعدة الأصولية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1903 بخبر الواحد مطلقاً، بل إنه إذا كانت القاعدة وسيلة إلى العمل فإنه يجوز إثباتها بالآحاد؛ قياساً على الفروع. الجواب الثاني: أنا قد أثبتنا القياس عن طريقين: أحدهما: الأخبار التي تلقتها الأُمَّة بالقبول، والأخبار التى تلقتها الأُمَّة بالقبول تكون بمنزلة التواتر في إيجاب العلم والعمل، والثاني: إجماع الصحابة - كما سبق بيانه -. الدليل السابع عشر: أنه لو كان التعبد بالقياس جائزاً لما تعارضت الأقيسة؛ لأن حجج اللَّه تعالى لا تتعارض ولا تتهافت، لكن الأقيسة قد عارض بعضها البعض الآخر؛ حيث ترى أحد المتنازعين من أهل القياس يزعم أن قوله هو القياس الصحيح، ثم يأتي الآخر بقياس آخر يناقضه، ويزعم أنه هو القياس الصحيح. جوابه: إن سبب تعارض أقيستهم: اختلافهم في المعنى الذي علل به الحكم تبعا لاختلاف أنظارهم في فهمه، كما يختلفون في فهم الكتاب والسُّنَّة. الدليل الثامن عشر: أنه لو جاز التعبد بالقياس لكان على عليته دلالة، والدلالة إما أن تكون بالنص، وإما أن تكون بالعادات. فإن زعم أنه دلَّ عليها بالنص فهذا ليس في محل النزاع؛ لأن النزاع فِيما كانت العلَّة مستنبطة، والمستنبطة غير المنصوصة. وإن زعم أنه دً عليها بالعادات، فهذا لا يجوز؛ لأن العادات لا تثبت الأحكام الشرعية، فلا تكون مثبتة لعللها. جوابه: لا نسلم هذا الحصر فيما ذكرتم؛ فإن هناك طردا أخرى يعرف بها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1904 كون الوصف الجامع عِلَّة كا لإيماء، والتنبيه، والإجماع، والدوران، والسبر، والتقسيم، والمناسبة - كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه -. الدليل التاسع عشر: أن التحليل والتحريم أحكام شرعية، والحكم خبر عن اللَّه، وأخبار اللَّه إنما تعلم بالتوقيف، لا بالقياس؛ القياس من فعل القائس، لا من توقيف الشارع، وربما أخطأ القائس في الحكم، فكيف يكون حُجَّة مع هذا الاحتمال؟! جوابه: إن إثبات الحكم بالقياس أو نفيه يتوقف على ورود دليل من نص أو إجماع على التعبد به، فلما ورد دليل يدل على ذلك كان إخباراً عن إثبات الحكم بالفرع. أي: أن الأحكام تعرف بالنص، وما عرف بالقياس فهو معروف بالنص، لأن النص دال على القياس، فما أدى إليه فهو مأخوذ من النص، وإن كان التوصل إلى ذلك بضرب من الاستدلال والنظر. الدليل العشرون: أن التعبد بالقياس غير جائز في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه لم يكن حُجَّة فيه؛ لعدم جواز الاجتهاد في عصره، فبطل كونه متعبداً به في سائر العصور. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد استعمل القياس في أحاديث كثيرة قد ذكرنا بعضها في أدلتنا، فهذا فيه دلالة على مشروعية القياس. الجواب الثاني: نسلم لكم أن القياس غير جائز في زمنه - صلى الله عليه وسلم -، ولكن هذا لا يدل على عدم جوازه بعد زمنه، لأن الناس في زمنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1905 - صلى الله عليه وسلم - لم يكونوا بحاجة إلى القياس، لكون الوحي لا زال ينزل بأحكام لحوادث، بخلاف ما بعده من الأزمان. الدليل الواحد والعشرون: أن أقوى عِلَّة عندكم هي: العِلَّة المنصوص عليها ومع قوتها فإنها لا تقوى على إلحاق الفرع بالأصل، فلو قال السيد لوكيله: " أعتق من عبيدي سالما؛ لأنه أسود "، للزم من ذلك إعتاق سالم فقط، ولا يتعداه إلى كل أسود قياسا مع أن العِلَّة منصوص عليها، وهذا متفق عليه، فكذلك لو قال الشارع: " حرمت الربا في البر؛ لأنه مطعوم "، فإنه لا يتعدى ذلك البر أبداً إلى كل مطعوم، فلا يقاس عليه كل مطعوم، فإذا كانت العِلَّة المنصوص عليها لا توجب الإلحاق، فمن باب أوْلى أن العِلَّة المستَنبطة لا توجب الإلحاق؛ لأنها أضعف منها. جوابه: يجاب عنه بأجوبة: الجواب الأول: أنكم قستم كلام الشارع على كلام المكلَّفين، وهذا لا يصح؛ لوجود الفرق بينهما. ووجه الفرق: أنه لم يجز قياس غير سالم عليه بجامع السواد بالاتفاق؛ لأن هذا يخص الأملاك، والشارع قد قيد الأملاك حصولاً وزوالاً على ألفاظ قد تعبدنا اللَّه بها دون الإرادات، فلا يجوز القياس فيها كالبيع، والشراء، والنكاح، والطلاق، والعتاق، هذه الأمور لا بد من أن يتلفظ المالك بلفظة واضحة تدل على مراده، فلو أن رجلاً قد أعطى آخر ثمنا لسلعة أضعاف ثمنها الأصلي، وظهر على صاحب السلعة علامات الفرح، ولكنه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1906 لم يتكلم فإنه لا يصح البيع؛ لأنه لم يتلفظ بشيء، وهكذا القول في العتق لا بد أن يقول: " أعتقت فلان "، وإلا لما صح العتق. والسر في ذلك: أن اللَّه تعالى أراد حفظ مال المسلم، فلو أجاز القياس في كلام المكلفين فيما يخص الأملاك لأصبح المسلم غنيا وأمسى فقيراً. أما الشارع، فإن الأحكام تؤخذ من ألفاظه، ومقاصده، وسكوته، فلذلك يجوز أن نأخذ حكم المسكوت عنه من المنطوق به بواسطة عِلَّة يستنبطها المجتهد. الجواب الثاني: أننا لو فكرنا في ذلك تفكيراً لغويا مجرداً عن الشرع لجاز القياس على العلَّة المنصوص عليها كقولنا: " لا تجالس زيداً، فإنه مبتدع "، فإنَّ اللغة تقتضي عدم مجالسة كل مبتدع، فكذا يجوز قياس كل أسود على سالم عن طريق اللغة، لكن الشرع قد منع من هذا القياس؛ لأنه تعبدنا بألفاظ فيما يخص الأملاك. الجواب الثالث: أنكم وقعتم فيما فررتم منه، حيث إنكم قد استعملتم القياس لإبطال القياس، فقستم كلام الشارع على كلام المكلفين، فإن كان القياس باطلاً عندكم، فإنه يبطل دليلكم هذا؛ لأنه مبني عليه. الدليل الثاني والعشرون: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد أوتي جوامع الكلم، ومع ذلك فإنه ذكر الأشياء الستة في حديث عبادة بن الصامت مع طوله، وترك عبارة: " حرمت الربا في المكيل " مع قصرها، فكيف يليق به ذكر الطويل الموهم وهو حديث الأشياء الستة، وترك الوجيز المفهم وهي عبارة: " حرمت الربا في المكيل "؟! فلو كان القياس جائزاً لما شق على نفسه بذكر هذه الأشياء بأعيانها - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1907 ولقال: " حرمت الربا في المكيل "، فما ذكرها بأعيانها إلا لأنه لا يجوز الترابي فيها فقط، ولا يجوز القياس عليها. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن قولكم: " كيف يليق به ... " هذا تحكم على اللَّه وعلى رسوله، وهو لا يجوز؛ لأنه لو فتح مثل هذا لكثرت الاستفسارات عن الشريعة كلها، فيقال: لماذا طول في بعض الأحكام وفصل فيها، وبعضها الآخر اختصر؟ ولماذا لم يبين أن القياس حُحة، أو أنه ليس بحُجَّة لينقطع النزاع، وهكذا. الجواب الثاني: على فرض جواز مثل هذه الأسئلة، فإنا نجيب عن ذلك فنقول: إنه ترك الوجيز المفهم إلى الطويل الموهم لغرض أراده وهو: الحث على طلب العلم والتشمير عن ساعد الجد لتبيين ذلك للناس وتوضيحه،. وما ذلك إلا ليرفع الذين آمنوا والذين أوتوا العلم درجات، ولتكون هذه النصوص محل تفكير وتدبر من قبل المجتهدين إلى يوم القيامة، ولو أبان اللَّه كل شيء لحفظ ذلك، ولم يشتغل أحد بالتفكير فيها ولسد باب الاجتهاد. هذه أهم أدلة النكرين للقياس والجواب عنها فاتضح بذلك: أن القياس يعتبر دليلاً من أدلة الشريعة يحتج به على إثبات الأحكام الشرعية، ولقد أطلت في أدلة المثبتين، والنافين له والرد عليها، لأمرين: أولهما: أهمية القياس، حيث إن أكثر الأحكام الفقهية مبنية عليه، وقد بيَّنت ذلك في التمهيد. ثانيهما: أن الأدلة من قِبَل المثتبتين للقياس، وأدلة النافين له الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1908 ومناقشتها تفيد القارئ معرفة واسعة لأسرار، وعلل، وحِكَم الأحكام الشرعية، مما يجعله متوسعاً في معرفته لمقاصد الشريعة، وهو مطلب مهم لكل طالب علم. بيان نوع الخلاف: الخلاف في حجية القياس خلاف معنوي، قد أثر في كثير من الفروع الفقهية، ومنها: 1 - إذا دخل اللبن إلى جوف الصبي - دون السنتين - عن طريق الأنف وهو السعوط، أو صب اللبن في الحلق ودخل الجوف، فإنه بناء على المذهب الأول: يحرم ويثبت الرضاع؛ قياسا على الْتقام الثدي، وعلة ذلك: أن كلًّا منهما يقوي العظم، وينبت اللحم، وهذا مذهب الجمهور. أما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم ذهبوا إلى أن ذلك لا يحرم، فلا يحرم عندهم إلا ما وصل إلى الجوف عن طريق الْتقام الثدي، ولم يقولوا في ذلك بالقياس، وهذا رواية عن الإمام أحمد، وهو مذهب الظاهرية. 2 - إذا قال الزوج: " أنت عليّ كظهر أختي "، أو قال أي لفظ يشبه ذلك كقوله: أنت عليّ كيَدِ أمي، أو كرِجْلها، أو نحو ذلك من تشبيه الزوجة بمن تحرم عليه، فإنه يحصل الظهار؛ قياسا على لفظ الظهار الصريح، وهو قوله: " أنت عليّ كظهر أمي " التي أجمع العلماء عليها، ولا فرق؛ حيث شبه ذلك بمن تحرم عليه، وهذا قول أصحاب المذهب الأول وهم: المثبتون للقياس. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم المنكرون للقياس فقد ذهبوا إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1909 أنه لا يحصل الظهار إلا بقول الرجل لزوجته: " أنت علي كظهر أمي " دون غيرها من الصيغ، ولم يأخذوا بالقياس. 3 - ذهب أصحاب المذهب الأول - وهم المثبتون للقياس - إلى أن كل صنف يشابه الأصناف الستة الواردة في حديث عبادة بن الصامت وهي: الفضة، والذهب، والبر، والشعير، والملح، والتمر، فإنه يجري فيه الربا كما جرى في هذه الأصناف، قياسا عليها، فيجري الربا في الأرز والذرة والعدس وغير ذلك، وهو مذهب الجمهور. أما أصحاب المذهب الثاني - وهم المنكرون للقياس - فإنهم قالوا: إن الربا لا يقع إلا في هذه الأصناف الستة فقط، ولا يتعدى حكم الربا إلى غيرها؛ بناء على عدم جواز القياس عندهم، فلا ربا عندهم في الأرز، والذرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1910 المبحث الرابع النص على عِلَّة الحكم هل هو أمر بالقياس أو لا؟ بيان المقصود بهذه المسألة: إذا ذكر الشارع وصفا صالحاً لتعليل الحكم به كقوله - صلى الله عليه وسلم - في لحوم الأضاحي: " كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة "، أو قولك: " حرمت الخمر لعلة الإسكار "، فهل يُعد هذا أمراً بإجراء القياس في كل ما توجد فيه هذه العِلَّة؟ أي: أن الشارع إذا نص على علَّة الحكم في محل ثم وجد المجتهد تلك العلَّة في محل آخر، هل يجب عليه أن يعدي الحكم إلى ذلك المحل الآخر الذي وجدت العِلَّة فيه، أو لا يجب على المجتهد، ولا يكلف بتعدية الحكم إلى غير ذلك المحل الذي نص فيه على العِلَّة إلا إذا ورد فيه أمر يُفيد التعبد بالقياس. اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن التنصيص على العِلَّة يفيد الأمر بالقياس مطلقا، أي: سواء كان التنصيص على العِلَّة َ في جانب الفعل بأن يكون الحكم إيجاباً أو ندبا، أو في جانبَ الترك بأن يكون الحكم تحريما أو كراهة. وهو مذهب أبي الخطاب الحنبلي، وأكثر الحنابلة، واختاره أبو إسحاق الشيرازي، وأبو بكر الجصاص، والكرخي، وأكثر الحنفية، وأبو الحسين البصري، وأشار إليه أحمد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1911 وهذا المذهب هو الحق عندي، للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لو لم يجز القياس على العلَّة المنصوص عليها لم يكن للنص عليها فائدة؛ حيث لا فائدة لذكَرها في النص إلا القياس عليها، وإلا لكان وجودها عبثاً. اعتراض: قال قائل - معترضاً -: إن هناك فائدة وهي: أن يعلمنا أنها عِلَّة، حيث عقلنا المعنى الذي من أجله شرع الحكم، ولا نقول بالتعميم إلا بدليل يدل عليه، وإذا كان المقصود هو العلم بالعِلَّة، فالعلم نفسه فائدة. جوابه: إنه يلزم على قولكم هذا أن يكون الأمر لا يفيد الوجوب أو الندب، وكذلك لا يفيد التحريم أو الكراهة، وإنما تكون فائدته أن يُعلم أنه أمر، أو نهي، وكذلك سائر أقسام الكلام. فيثبت: أنه لا فائدة في معرفة العِلَّة وذكرها إلا لنعرف المصلحة فيها، وإذا عرفت المصلحة لزمه العمل عليها أين وجدت من المحال، وإلا فذلك الحكم قد استفدناه بالنص، فلا فائدة في معرفة علته. الدليل الثاني: أن التنصيص على العِلَّة يفيد وجوب تعميم الحكم في جميع المحال التي وجدت فيها تلكَ العِلَّة، مثل لو قال الله تعالى: " أوجبت أكل السُّكَّر في كل يوم؛ لأَنه حلو "، لكان ذلك تعليلاً لوجوبه في كل يوم؛ ولعلمنا أن الحلاوة - فقط - وجه المصلحة في الوجوب في كل يوم؛ حيث قصر التعليل عليها، فإذا ثبت ذلك علمنا: أن الحلاوة هي المؤثرة في المصلحة، وهي العلَّة، فوجب أكل كل شيء فيه حلاوة مثل: العسل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1912 مثال آخر: لو قال الطبيب: " لا تأكل هذا لبرودته "، فإنه يتبادر إلى الذهن: النهي عن كل ما توجد فيه هذه العِلَّة، وهي البرودة. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضاً -: إن التنصيص على العِلَّة لم يكن لأجل الإلحاق، بل لبيان الحكمة والمصلحة في كل حكم، وهذا يفيد الانقياد والقبول؛ حيث إن النفوس تميل إلى قبول ما عرفت فيه الحكمة والمصلحة التي من أجلها شرع هذا الحكم أو ذاك. جوابه: إن - صلى الله عليه وسلم - بعث لبيان الأحكام الشرعية التي يجب أن تتعبد بها الأُمَّة، ويعملوا بمقتضاها مصداقا لقوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) ، ولم يبعث لأجل التنبيه على أسرار الأحكام دون العمل بها. المذهب الثاني: أن التنصيص على عِلَّة الحكم ليس أمراً بالقياس مطلقاً، أي: سواء كان التنصيص علىَ العِلَّة في جانب الفعل، أو في جانب الترك. وهو مذهب فخر الدين الرازي، والغزالي، والأستاذ أبي إسحاق الإسفراييني، والآمدي، ونسبه إلى أكثر الشافعية، ونسبه ابن الحاجب إلى الجمهور، واختاره جعفر بن مبشر وجعفر بن حرب المعتزليان، واختاره بعض الحنفية، وهو مذهب الشيعة الزيدية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الأحكام إنما شرعت لمصلحة المكلفين، وجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1913 أن تكون المصلحة إذا نص على إيجاب أكل السكر؛ لأنه حلو أن تختص بالسكر دون غيره مما وجدت فيه الحلاوة كالعسل مثلاً، بدليل:. أن من تصدق على رجل؛ لأنه فقير لا يجب أن يتصدق على كل فقير، فكذلك هاهنا من أوجب عليه أن يأكل السكر؛ لأنه حلو لا يجب عليه أن يأكل كل حلو. جوابه: إنه إذا كانت العلَّة هي وجه المصلحة في الموضع المخصوص المنصوص وجب تعلق الحكم بها أينما وجدت؛ لجواز أن تكون مصلحة - أيضاً - فيكون الإخلال بفعله مفسدة. الدليل الثاني: أن تعدية الحكم من محله إلى المحل الآخر لا بد له من دليل يدل عليه، وحيث لا يوجد دليل من أمر، أو إخبار من الشارع يدل على ذلك، فإن التنصيص على العلَّة لا يفيد وجوب الأمر بتعدية الحكم. جوابه: إن ثبوت تعليل الحكم بمنزلة الإخبار من الشارع بوجوب تعدية الحكم من المحل المنصوص عليه إلى المحل الآخر، وكأن الشارع لما نص على العِلَّة قال: يجب على المجتهد أن يعدي الحكم إلى كل ما توجد فيه تلك العِلَّة؛ لوجود المصلحة فيه. الدليل الثالث: أن الإنسان إذا قال: " أعتقت عبدي فلانا؛ لأنه أسود "، أو قال: " والله لا آكل السكر؛ لأنه حلو ": لم يلزمه عتق كل عبيده السود، ولا يحنث باكل أي حلو غير السكر، فلو كان التنصيص على العِلَّة يوجب تعدية الحكم من المحل المنصوص إلى جميع المواضع التي توجد فيه هذه العِلَّة: لوجب أن يعتق عليه كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1914 عبد له أسود، وللزمه أن يحنث باكل كل حلو، ولما لم يعتق كل عبد له أسود، ولم يحنث بأكل كل حلو دلَّ على التنصيص على العِلَّة ليص أمراً بالقياس. جوابه: إن الكلام هنا يخص ما يجعله صاحب الشرع عِلَّة، وليس ما يجعله البشر عِلَّة، بيان ذلك: أنه إنما لم يعتق عليه كل أسود، ولم يحنث بأكل كل حلو غير السكر؛ لأن الواحد منا يجوز عليه التناقض والبَداء في أفعاله وأقواله، بخلاف صاحب الشرع، فإن المناقضة والبَداء عليه غير جائزة في أفعاله وأقواله في طرد عِلَّته وجريانها في أحكامها. المذهب الثالث: أن التنصيص على العلَّة أمر بالقياس في جانب الترك في التحريم - فقط - أما التنصيص عَلى العِلَّة في جانب الفعل فليس أمراً بالقياس، وإلى هذا التفصيل ذهب أبو عبد اللَّه البصري. مثال جانب الترك: ما إذا قال: " حرمت الخمر لإسكارها " فالتنصيص على العِلَّة - هنا - يفيد الأمر بالقياس. ومثال جانب الفعل: ما إذا قال: " تصدقت على زيد لفقره " فالتنصيص على العِلَّة - هنا - لا يفيد إلا الأمر بالقياس. دليل هذا المذهب: أن تحريم الشيء وطلب تركه؛ لعلة يقتضي ترتب المفسدة على فعل ذلك الشيء لتلك العِلَّة، ومعروف أن التباعد عن هذه المفسدة لا يحصل إلا بترك جميع ما وجدت فيه هذه العِلَّة. أما إيجاب الشيء وطلب فعله لعلة تترتب عليها مصلحة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1915 فإن حصول هذه المصلحة لا يتوقف على فعل جميع ما يترتب عليه مثلها. قال ابن تيمية في " المسودة " - بعد ذكر رأي أبي عبد اللَّه البصري هذا -: الفرق بين التحريم والإيجاب في العِلَّة المنصوصة قياس مذهبنا في الأيمان وغيرها؛ لأن المفاسد يجب تركها كلها بخلاف المصالح، فإنما يجب تحصيل ما يحتاج إليه، فإذا أوجب تحصيل مصلحة لم يجب تحصيل كل ما كان مثلها للاستغناء عنه بالأول، ولهذا نقول بالعموم في باب الأيمان إذا كان المحلوف عليه تركا بخلاف ما إذا كان المحلوف عليه فعلاً " اهـ. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن فعل كل خير ليس بواجب متى وجدت فيه المصلحة التي أمر بالفعل لأجلها، بل الأمر الواجب كالنهي في طلب الخير ودفع الضرر، فإيجاب كل شيء تحريم لضده، فترك الواجب كفعل المنهي عنه يكون مشتملاً على ضرر يجب دفعه، وعلى هذا: يجب أن يكون حال الفعل والإيجاب كحال الترك والنهي، ولا فرق. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي لا ثمرة له؛ لأن الخلاف لم يتوارد على محل واحد؛ حيث إن ما أثبته كل فريق لا ينفيه الآخر، وما نفاه كل فريق لا يثبته الفريق الآخر، فأحد المذاهب يفرض الكلام في استقلال التنصيص على العِلَّة بالوجوب بدون ضميمة شيء آخر معها، والمذهب الآخر يفرضه في عدم استقلال التنصيص على العلَّة بالوجوب، وأنه لا بد أن ينضم إلى ذلك كون العِلَّة مناسبة، وهَذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1916 يقتضي أن النفي والإثبات في هذا الخلاف لم يتواردا على محل واحد، فكان الخلاف لفظيا. تنبيه: هذه المسألة مفروضة في حال عدم التعبد بالقياس، فلما ورد التعبد بالقياس بالأدلة العقلية والنقلية تصبح هذه المسألة قليلة الجدوى لا نصيب لها من الواقع، وبخاصة بالنظر إلى المجتهد الذي يبحث في الأدلة التفصيلية، وما تدل عليه من أحكام، فإذا كان دليل وجوب العمل بالقياس ثابتا عنده، وقد نص الشارع على العلَّة، فمما لا شك فيه أنه يجب عليه العمل به بعد توفر أركانه وشروط كل ركن، وبذلك لا يوجد تنصيص على العِلَّة لم ينضم إليه دليل يدل على التعبد، فتكون هذه المسألة فرضية، قصد منها الجلإل والمناظرة. وبعض العلماء قصد من إيرادها بعد حجية القياس إضافة دليل آخر يؤيد حجية القياس والعمل به في هذه المسألة، وهذا سائغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1917 المبحث الخامس هل التنصيص على العلَّة يوجب الإلحاق عن طريق القياس، أو عن طَريق اللفظ والعموم؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن التنصيص على العِلَّة يوجب الإلحاق عن طريق القياس فقط. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق عندي؛ لأننا لو نظرنا نظرة مجردة في قوله: " حرمت الخمر لشدتها "، فإنه لا يتناول إلا تحريمها خاصة، ولو لم يرد التعبد بالقياس لاقتصرنا على ذلك، ولما جاز لنا إلحاق كل مشتد من نبيذ وغيره بالخمر، ولكن جاز إلحاق النبيذ وكل مشتد بالخمر بسبب ورود التعبد بالقياس فقط. المذهب الثاني: أن التنصيص على العِلَّة يوجب الإلحاق عن طريق اللفظ والعموم، لا بطريق القياس، وهو ما ذهب إليه النظام. دليل هذا المذهب: أنه لا فرق في اللغة بين قوله: " حرمت الخمرة لشدتها " وبين قوله: " حرمت كل مشتد "، فإن القولين بمعنى واحد؛ فالنبيذ يدخل مع المشتدات كما دخل الخمر عن طريق العموم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1918 جوابه: لا نسلم ذلك؛ لأن قوله: " حرمت الخمرة لشدتها " لا تتناول من حيث الوضع اللغوي إلا تحريم الخمرة المشتدة فقط، ولو لم يرد التعبد بالقياس لاقتصرنا عليه، وكيف يصح ما تقولونه من الإلحاق عن طريق اللفظ والعموم، ولله تعالى أن ينصب شدة الخمر خاصة عِلَّة، ويكون فائدة ذكر العِلَّة زوال التحريم عند زوال الشدة. بيان نوع الخلاف: أن الخلاف هذا يمكن أن يكون لفظيا، ويمكن أن يكون معنويا فيكون الخلاف معنويا؛ لأن النظام قصد من كلامه: أن تحريم النبيذ ثبت عن طريق اللفظ والنص، والجمهور قصدوا: أن تحريم النبيذ ثبت عن طريق القياس. والفرق بين ما ثبت عن طريق اللفظ والنص وبين ما ثبت عن طريق القياس من وجهين: الوجه الأول: أن الحكم الثابت عن طريق عموم النص أقوى من الحكم الثابت عن طريق القياس. الوجه الثاني أن الحكم الثابت عن طريق النص يَنسخ، ويُنسخ به، أما الحكم الثابت عن طريق القياس فلا ينسخ ولا يُنسخ به؛ لأنه ثبت عن طريق الاجتهاد، والنسخ لا يكون بالاجتهاد، كما سبق بيانه في باب النسخ. ويمكن أن يكون الخلاف لفظياً إذا نظرنا إلى الاتفاق على الحكم، وإلى الدلالة؛ بيان ذلك: أن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على تحريم النبيذ، ولكن اختلفوا في طريق الوصول إليه:. فالنظام توصل إلى هذا التحريم عن طريق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1919 عموم اللفظ، فهو يريد: أنه لما قال الشارع: " حرمت الخمر؛ لشدته " أن المحرم جميع المشتدات، والنبيذ من المشتدات، إذن النبيذ يدخل ضمن جزئيات المشتد. أما الجمهور فإنهم توصلوا إلى تحريم النبيذ عن طريق القياس وقالوا: إن النبيذ يلحق بالخمر بجامع الإسكار، ولو لم يرد التعبد بالقياس لما حرم النبيذ. كذلك لو نظرنا إلى الدلالة فإنا نقول: إن أصحاب المذهبين قد اتفقوا على أن تحريم النبيذ ثبت عن طريق دليل ظني، فالنظام أثبت ذلك عن طريق العموم، ودلالة العموم ظنية، والجمهور أثبتوا ذلك عن طريق القياس، ودلالة القياس ظنية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1920 البحث السادس تقسيمات القياس إن هذا له علاقة قوية بحجية القياس من حيث معرفة مراتبه التي ينشأ عنها اختلاف في قوة الاحتجاج به تبعاً لاختلاف تلك المراتب من جهة القوة والضعف، لذلك نقول: إن القياس له تقسيمات عديدة هي كما يلي: التقسيم الأول: ينقسم القياس من حيث القوة والضعف إلى قسمين: " القياس الجلي "، و " القياس الخفي ". فالقسم الأولى، وهو القياس الجلي هو: ما كانت العِلَّة فيه منصوصة أو غير منصوصة غير أن الفارق بين الأصل والفرع مقطوع بنفي تأثيره، وهو صادق بالقياس الأولى، والقياس المساوي. فقياس الأولى: أن يكون المسكوت عنه أولى بالحكم من المنطوق به كقياس تحريم ضرب الوالدين على تحريم التأفيف بجامع: الأذى في كل منهما. وقياس المساوي: أن يكون المسكوت عنه مساوياً للمنطوق به كقياس الأَمة على العبد في وجوب تقويم النصيب على معتق بعضها؛ حيث لم نعلم وجود فارق بينهما سوى الذكورية والأنوثة، وهما لا يلتفت إليهما الشارع في أحكام العتق، ومثال آخر: قياس إحراق مال اليتيم على أكله بجامع الإتلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1921 أما القسم الثاني وهو: القياس الخفي فهو: ما كانت علَّته مستنبطة من حكم الأصل، واحتمال تأثير الفارق فيه قوي كقياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، وقياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع: أن كلًّا منهما يعتبر قتلاً عمداً عدواناً. التقسيم الثاني: ينقسم القياس من حيث القطع والظن إلى قسمين: " قياس قطعي "، و " قياس ظني ". أما القسم الأول وهو: القياس القطعي فهو: ما قطع فيه بعلية الوصف في الأصل، وقطع بوجودها في الفرع، ويشمل القياس الأولى والقياس المساوي - كما سبق بيانه -. أما القسم الثاني وهو: القياس الظني فهو: ما كانت إحدى المقدمتين فيه أو كلتاهما ظنية، أي: أنا ظننا ظنا غالبا أن هذه هي علَّة الأصل، وقطعنا بوجودها في الفرع، أو أنا ظننا أن هذه هي علَّة الأصل، وظننا وجودها في الفرع - كما ذكرنا ذلك في تحرير محل النزاع، وهذا هو المقصود بباب القياس مثل: قياس النبيذ على الخمر بجامع الإسكار، وكقياس التفاح على البر بجامع الطعم. وهذا التقسيم لا ينفي قول بعضهم: " إن القياس لا يكون إلا ظنياً "، حيث إن مقصود هذا: أن القياس المختلف في حجيته لا يكون إلا كذلك، فلم ينف وجود القياس القطعي، وإنما حصر الخلاف في الظني. والقياس القطعي قد اختلف في تسميته بذلك، فبعضهم سماه بذلك، وبعضهم سماه بمفهوم الموافقة بقسميه، وبعضهم سماه، بدلالة النص كما ذكرنا ذلك أثناء كلامنا عن المفهوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1922 التقسيم الثالث: ينقسم القياس باعتبار ذكر نفس العِلَّة فيه أو ذكر ما يدل عليها، أو عدم ذلك إلى ثلاثة أقسام: " قياس عِلَّة "، و"قياس دلالة "، و " قياس في معنى الأصل ". أما القسم الأولى وهو: قياس العِلَّة فهو: ما صرح فيه بها، وذلك كقياس النبيذ على الخمر في الحرمة بجامع الإسكار، وقد يظهر وجه الحكمة معها كالفساد الذي في الخمر، وما فيها من الصد عن ذكر اللَّه، وقد لا يظهر، بل يستأثر اللَّه عَزَّ وجَل به كالكيل والوزن والاقتيات في تحريم الربا. وأما القسم الثانىِ وهو: قياس الدلالة فهو: ما جمع فيه بين الأصل والفرع بلازم العِلَّة، أو أثرها أو حكمها. فمثال ما جمع فيه بين الأصل والفرع بلازم العِلَّة: قياس النبيذ على الخمر في الحرمة بجامع الرائحة المشتدة في كل؛ حيث إن الرائحة المشتدة لازمة عادة أو عقلاً للإسكار. ومثال الجمع بينهما بأثر العلَّة: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع الإثم في كل؛ حيث إنه أثر العِلَّة التي هي القتل العمد العدوان، وهو لازم شرعي. ومثال الجمع بينهما بحكم العِلَّة: قياس قطع الجماعة بالواحد على قتلهم به بجامع: وجوب الدية عليهم فيما لو كان غير عمد، وهو حكم العلَّة التي هي القطع منهم خطأ في الصورة الأولى، والقتل منهم خَطأ في الصورة الثانية، فقتل الجماعة بالواحد في العمد ووجوب الدية بالقطع عليهم في الخطأ أمر ثابت من الشارع. وأما قطعهم به في العمد فلم يرد حكمه في النصوص الشرعية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1923 لذلك أثبتناه بما هو معلوم من الشارع وهو: وجوب الدية عليهم بالقطع فيما لو كان خطأ. والجمع يلازم العِلَّة في هذا القسم أقوى من الجمع بأثرها، والجمع بأثر العِلَّة أقوى من الجمع بحكمها. وأما القسم الثالث وهو القياس في معنى الأصل فهو: الذي لم يصرح فيه بالعلَّة، ولا يلازمها، ولا بأثرها، ولا بحكمها، وإنما جمع فيه بين الأصل والفرع بنفي الفارق كقياس صب البول في الماء على التبول فيه في المنع بجامع: عدم الفارق بينهما في مقصود المنع، وهو: تقذير الماء وإفساده وتنجيسه. وسبب تسمية هذا القسم بالقياس في معنى الأصل: أن الفرع فيه بمنزلة الأصل، حيث لم يوجد فارق بينهما. التقسيم الرابع: ينقسم القياس إلى " قياس أولى "، و " قياس مساو "، و " قياس أدنى ". أما القسم الأول - وهو: القياس الأولى - فهو: ما كان فيه ثبوت الحكم في الفرع أولى من ثبوته في الأصل كقياس ضرب الوالدين على التأفيف لهما في الحرمة بجامع: الإيذاء، وكقياس الشاة العمياء على العوراء في عدم الاكتفاء بها في التضحية بجامع: وجود النقص المنافي للمقصود من الأضحية، وكقياس الجنون والإغماء والسكر وكل ما أزال العقل على النوم في نقص الوضوء، فإن الأمور المذكورة أولى بالحكم من الأصل. وأما القسم الثاني - وهو: القياس المساوي - فهو: ما كان حكم الفرع فيه مثل حكم الأصل، وذلك كقياس إحراق مال اليتيم على أكله في التحرلي م بجامع: الإتلاف في كل من غير وجه حق، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1924 وكقياس المرأة على الرجل في أنها إذا أفلست وعندها شيء لم تدفع ثمنه، فإن صاحب المال يكون أحق به من غيره. والقياس الأولى والقياس المساوي يسميان بالقياس الجلي، وبالقياس القطعي، وقد اختلف في تسميته قياسا كما سبق بيانه. أما القسم الثالث - وهو القياس الأدنى - فهو: ما عدا القسمين السابقين. وهو المسمى بالقياس الخفي، وبالقياس الظني، وهو المقصود بالقياس عند الإطلاق، وهذا متفق على تسميته قياسا. وبعض العلماء ذكروا أقساما كثيرة لكني لم أذكرها هنا؛ لأنها إما إنها تدخل ضمن ما ذكرت، أو أنها تعتبر عن مسالك العلَّة، فوضعها هناك أولى - كما سيأتي إن شاء اللَّه تعالى -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1925 المبحث السابع في ما يجري فيه القياس وما لا يجري فيه لما فرغنا من حجية القياس، وبينا أن مذهب جمهور العلماء: أن القياس حُجَّة: اختلف الجمهور - فيما بينهم - هل القياس حُجَّة في كل شيء، أو أن هناك بعض الأمور يجري فيها القياس، بينما هناك أمور لا يجري فيها القياس؛، فاختلفوا في ذلك، ولبيان ذلك بالتفصيل قد قسمت ذلك إلى الطالب التالية: المطلب الأول: في القياس في العقوبات. المطلب الثاني: في القياس في المقدرات. المطلب الثالث: في القياس في الأبدال. المطلب الرابع: في القياس في الرخص. المطلب الخامس: في القياس في الأسباب والشروط والموانع. المطلب السادس: في القياس في العبادات وما يتعلق بها. المطلب السابع: في القياس في العاديات. المطلب الثامن: في القياس في العقليات. المطلب التاسع: في القياس في كل الأحكام. المطلب العاشر: في القياس في الأمور التي لا يراد بها العمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1927 المطلب الأول في القياس في العقوبات والمراد من ذلك: الحدود والكفارات، فاختلف العلماء في جواز القياس في الحدود والكفارات كقياس النباش على السارق، واللائط على الزاني، وقياس من أفطر في نهار رمضان بشرب على المجامع في نهار رمضان في وجوب الكفارة، على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز إجراء القياس في هذه الأمور. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول. عموم أدلة حجية القياس التي ذكرناها فيما سبق، ومنها: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) ، والآيات الأخرى، وحديث معاذ والأحاديث التي ذكرناها معه، وإجماع الصحابة السكوتي، وغير ذلك، فإنها تدل دلالة واضحة على أن القياس يجري في جميع الأحكام إذا استكملت جميع شروط القياس، فلم تفرق بين حكم وحكم، فالقول بأنه حُجَّة في بعض الأحكام دون بعض إما تخصيص للعام أو تقييد للمطلق، وقد اتفق العلماء على أنه لا يجوز تخصيص العام ولا تقييد المطلق إلا بدليل، وحيث إنه لا دليل لكل منهما، فتبقى أدلة القياس على عمومها وعلى إطلاقها، فيكون القياس يجري في جميع الأحكام المستكملة لشروط القياس، فينتج من ذلك جريان القياس في الحدود والكفارات، وجميع المقدرات؛ لأنها من ضمن الأحكام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1929 اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن أردتم أن أدلة القياس تدل على جريانه في الأحكام الشرعية عند استكماله لشروطه، فهذا مسلم، ولكن لا نسلم إمكان حصولها في الحدود والكفارات لعدم إدراك العقل المعنى الذي من أجله شرع هذا الحد أو تلك الكفارة. جوابه: إن العقل يحكم بأنه لا يمتنع عقلاً أن يشرع الشارع الحد أو الكفارة لمعنى معين مناسب للحكم، ثم يوجد ذلك المعنى في صورة أخرى. الدليل الثاني: أن خبر الواحد تثبت به الحدود والكفارات وإن كان طريقه غلبة الظن، ويجوز فيه الخطأ والسهو، فكذلك يجوز أن تثبت الحدود والكفارات بالقياس ولا فرق، والجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن، ويجوز الخطأ والسهو في كل منهما. الدليل الثالث: أن عمر بن الخطاب - رضي اللَّه عنه - استشار في الخمر يشربها الرجل، فقال له عليّ: " نرى أن نجلده ثمانين، فإنه إذا شرب سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى "، فجلد عمر شارب الخمر ثمانين جلدة، فهذا إلحاق شارب الخمر بالقاذف في الحد قياسا؛ إذ ليس من قبيل الاجتهاد بالنص، ولا الإجماع، ولا البراءة الأصلية، ولا غيرها من الأدلة سوى القياس، وشاع وذاع، ولم ينكره أحد فكان إجماعا، فينتج من ذلك: أن القياس يجوز في الحدود، وإذا جاز في الحدود فإنه يجوز - أيضاً - في الكفارات؛ لأنها أحكام مقدرة من قِبَل الشارع. الدليل الرابع: أن العمل بالقياس عمل بالظن الغالب، ونحن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1930 مأمورون بأن نعمل به، وبذلك يكون إثبات الحدود والكفارات بالقياس عملاً بما أمرنا به من الحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر. المذهب الثاني: لا يجوز القياس في الحدود والكفارات. وهو مذهب الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الحد شرع للردع والزجر عن المعاصي، والكفارات وضعت لتكفير المأثم، وما يقع به الردع عن المعاصي، وما يتعلق به التكفير عن المأثم لا يعلمه إلا اللَّه تعالى، فلا يجوز إثبات شيء من ذلك بالقياس، لأننا لا نعلم المصلحة التي من أجلها شرعت هذه الأمور. جوابه: إن هذا لو كان طريقاً في نفي القياس في الحدود والكفارات: لوجب أن يجعل مثل هذا طريقاً في نفي القياس في جميع الأحكام، كما فعله نفاة القياس حيث قالوا: " إن الأحكام شرعت لمصلحة المكلفين، والمصلحة لا يعلمها إلا اللَّه تعالى، فيجب أن لا يعمل فيها بالقياس ". ولما بطل هذا في نفي القياس في جميع الأحكام: بطل في نفي القياس في الحدود والكفارات، فينتج جواز القياس فيها. الدليل الثاني: أن الحدود والكفارات تشتمل على تقديرات لا تعقل معناها بالرأي كعدد المائة في الزنا، والثمانين في القذف، والقياس لا يصح إلا إذا عقل المعنى الذي من أجله شرع الحكم، فلما لم نعقل ولم ندرك المعنى والعِلَّة في الحدود والكفارات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1931 فلا يجوز جريانها بالقياس كأعداد الصلوات، وركعات كل صلاة، وأنصبة الزكوات. جوابه: إن الأحكام التي أدركنا العِلَّة التي من أجلها شرع الحكم يجري فيها القياس: فمن الممكن أن يشرع الشارع الحد أو الكفارة لمعنى مناسب، ثم يوجد ذلك المعنى المناسب في شيء آخر، فتكون معقولية التقدير غير ممتنعة، من أمثلة ذلك: قياس النباش على السارق في القطع بجامع: أخذ مال غيره خفية من حرز مثله، وقياس القاتل عمداً عدواناً على القاتل خطأ في وجوب الكفارة بجامع: القتل بغير حق. وأما ما لا يدرك فيه المعنى المناسب، فلا خلاف في أنه لا يجوز القياس فيه؛ لفقدانه ركناً من أهم أركان القياس، وهي العِلَّة. الدليل الثالث: أن القياس يفيد الظن، والظن يدخله احتمال الخطأ فيكون شبهة، فلا يصح أن يثبت به الحد؛ لأن الحدود تدفع بالشبهات بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " ادرؤا الحدود بالشبهات ". وكذلك الكفارات فيها شائبة العقوبة، وقد يدخلها احتمال الخطأ، فتدفع بالشبهات، فينتج: أنه لا قياس في الحدود والكفارات. جوابه: لا نسلم أن مجرد الظن يكون شبهة يمنع من إجراء القياس في الحدود والكفارات مع ظهور الظن الغالب؛ لأنه لو كان مطلق الظن مانعا من إقامة الحد: لما وجب هذا الحد بالأدلة الظنية كاخبار الآحاد، وظواهر النصوص، والشهادات، وما شابه ذلك: فخبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1932 الواحد يجوز عليه الخطأ، ومع ذلك يثبت به الحد، والشهود يجوز عليهم الكذب والخطأ، ومع ذلك تقبل شهادتهم في الحدود، وكذلك يقبل تقويم المقوم في نصاب السرقة مع جواز الخطأ عليه، فإذا لم يكن الظن في هذه الأدلة مثيرة للشبهة، فكذلك القياس الظني لا يثير الشبهة، فيقبل القياس في الحدود والكفارات. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أن من أفطر متعمداً من غير عذر بأكل أو شرب، فعليه كفارة من جامع في نهار رمضان، وهو قول أصحاب المذهب الأول، ودليلهم: قياس الآكل والشارب عمداً على المجامع في نهار رمضان بجامع: أن كلًّا منهما قد انتهك حرمة رمضان بقصد منه. وذهب بعض العلماء - وهو المذهب الثاني - إلى أنه لا كفارة عليه، ودليلهم على ذلك: حديث الأعرابي الذي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم -: إني واقعت أهلي في نهار رمضان، قال: " اعتق رقبة "، فإنه ورد في الجماع في نهار رمضان، ولا يُعدَّى الحكم إلى كل إفطار، وهو ما عليه كثير من العلماء. 2 - النباش - وهو من ينبش القبر فيأخذ ما في الأكفان - تقطع يده؛ قياساً على السارق بجامع أخذ مال غيره من حرزه، وهو قول أصحاب المذهب الأول. وذهب أصحاب المذهب الثاني إلى أنه لا تقطع يد النباش؛ لعدم وجود دليل على ذلك، ولا يصح القياس في الحدود عند أصحاب هذا المذهب. تنبيه: لقد بحثت إثبات العقوبات بالقياس في مصنف مستقلِ فراجعه - إن شئت - فهو مطبوع متداول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1933 المطلب الثاني القياس في المقدرات المراد من ذلك: أن يرد من الشارع تقدير بعدد في موضع يمكن إدراك المعنى الذي تعلق به هذا المقدار، ويوجد هذا المعنى في موقع آخر، فهل يتعلق به ذلك التقدير كما تعلق في الموضع الأول؛ مثال ذلك: تقدير نصاب السرقة بثلاثة دراهم، وتقدير مدة القصر للمسافر بأربعة أيام، وتقدير الحد في حد الزنى بمائة، وتقدير التسبيح بمائة، فهل يجوز القياس على ذلك؟ لقد اختلف العلماء - في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز إثبات المقدرات بالقياس. وهو مذهب الباقلاني، والباجي، وأبي إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين، وأبي يعلى، وأبي الخطاب، وفخر الدين الرازي، وتاج الدين ابن السبكي، وهو الحق، لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: عموم أدلة حجية القياس للأحكام المقدرة، وغير المقدرة، فتكون الأحكام المقدرة فرداً من أفراد ذلك العموم.. الدليل الثاني: أن خبر الواحد تثبت به المقدرات، فكذلك تثبت بالقياس بجامع: أن كلًّا منهما ظنيا. الدليل الثالث: أن المقتضي للتعدية قد وجد في المقدرات، فينبغي أن يوجد القياس كسائر الأحكام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1934 المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس في المقدرات. وهو مذهب الحنفية. دليل هذا المذهب: أن التقديرات قد ثبتت على وجه لا يمكن إدراك وجه اختصاصها بذلك التقدير، دون ما هو أعلى أو أدنى، كما في تقدير نصب الزكوات، فكانت من الأمور التعبدية التي لا نعلم العِلَّة التي من أجلها شرعت، فلا يجري القياس فيها. جوابه: إننا في القياس ننظر إلى المعاني التي تعلَّقت بها تلك المقدرات، فإذا وجدنا ما يساوي هذا المعنى في محل آخر أثبتنا فيه ما كان ثابتا في الأصل من حكم، دون تعرض إلى وجه اختصاص ذلك المعنى المشترك بين الأصل والفرع بمقدار عينه الشارع، فالنظر إلى المعنى المشترك، وإثبات الحكم له، وليس النظر إلى وجه الاختصاص بذلك المقدار لذلك المعنى. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي كما قلنا في إثبات العقوبات بالقياس؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني لم يقيسوا على المقدرات شيئاً آخر، بينما أصحاب المذهب الأول قد قاسوا على المقدرات وعملوا على ذلك القياس. فإن قال قائل: إن الخلاف يشبه أن يكون لفظيا؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني قد أثبتوا التقدير فيها بالقياس. ومن ذلك: تقدير المسح للرأس بثلاثة أصابع؛ قياساً على مسح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1935 الخف وتقدير الخرق الذي يعفى عنه في الخف بثلاثة أصابع؛ قياساً على مسحه، وتقدير الدلاء التي تنزح من البئر حتى يحكم بطهارتها إذا وقع فيها فأرة بعشرين، وتقدير سن البلوغ بسبع عشرة. قلت - في الجواب عن ذلك -: إنهم قالوا: إن تلك المواضع وأمثالها إنما كان من باب الاجتهاد في تحقيق المناط، فلم ينظروا في الاجتهاد في أمور وردت فيها تقديرات من الشارع، كما في الحدود وعدد الركعات، وإنما في أمور لم يرد فيها تقدير، فقالوا: إنا إذا نظرنا في تعيين التقدير المناسب لها نجد أن التقدير لها متردد بين مرتبتين هما: " المرتبة الدنيا "، و " المرتبة العليا "، فنجتهد في تحديد المرتبة المتوسطة بينهما، وبذلك يتعين المقدار المناسب، فمثلاً، إنا قلنا: إدن سن البلوغ سبع عشرة هذا لم نتوصل إليه بالقياس، بل بالاجتهاد في تحفيق المناط، وطريقة ذلك: أن عندنا مرتبة دنيا هي عشر سنين لا يكون فيها بالغاً، ومرتبة عليا، وفي عشرون سنة يكون فيها بالغا، وبينهما مرتبة متوسطة مترددة، فنجتهد في تحديد هذه المرتبة وإزالة هذا التردد، وعلى ضوئها يكون تقدير السن التي يحكم فيها بالبلوغ، ومثل ذلك مثل الاجتهاد في تحقيق المناط في تقدير مهر المثل، والئفقة، ونحو ذلك. وفرق بين الاجتهاد بتحقيق المناط، والاجتهاد بالقياس، حيث إن ما ثبت بالاجتهاد بتحقيق المناط أقوى مما ثبت بالقياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1936 المطلب الثالث القياس في الأبدال المراد بإثبات الأبدال بالقياس: أن يرد من الشارع اعتبار أمر قائماً مقام أمر لم يتمكن من طولب به من الإتيان به، مع إمكان إدراك المعنى الذي تعلق به هذا الاعتبار، ويوجد هذا المعنى في محل آخر، فهل يحكم على ما وجد فيه هذا المعنى بكونه بدلاً كما حكم في الأول؛ مثل: المحصر إذا لم يجد هدياً هل ينتقل إلى الصوم؛ لأنه هدقي تعلق وجوبه بالإحرام، فجاز الانتقال عنه إلى الصوم؛ قياسا على سائر الهدايا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يجوز إثبات الأبدال بالقياس. وهو ما ذهب إليه أبو إسحاق الشيرازي، والباجي، وأبو يعلى الحنبلي. وهو الحق؛ للأدلة الثلاثة التي ذكرناها في إثبات المقدرات بالقياس، فراجعها من هناك. المذهب الثاني: أنه لا يجوز إثبات الأبدال بالقياس. وهو مذهب الحنفية. دليل هذا المذهب: هو نفس استدلالهم على أن المقدرات لا يجوز إثباتها بالقياس، فراجعه من هناك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1937 جوابه: وهو نفس الجواب الذي ذكرناه هناك. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث أثر في بعض الفروع، ومنها: 1 - أن تارك الواجب في الحج إذا لم يجد الدم، فإنه ينتقل إلى الصوم؛ لأنه دَمٌ تعلق وجوبه بالإحرام، فجاز الانتقال عنه إلى الصوم؛ قياساً على دمِ التطيب واللباس، هذا بناء على المذهب الأول، ومنع ذلك أصحاب المذهب الثاني؛ لأن هذا إثبات بدل بالقياس، وهو لا يجوز إثبات الأبدال بالقياس. 2 - المحصر إذا لم يجد هدياً، فإنه ينتقل إلى الصوم؛ لأنه هدي تعلق وجوبه بالإحرام، فجاز الانتقال عنه إلى الصوم، قياساً على سائر الهدايا، هذا على المذهب الأول. أما أصحاب المذهب الثاني فلم يقولوا بذلك؛ نظراً لأنهم يمنعون إثبات الأبدال بالقياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1938 المطلب الرابع في القياس في الرخص هل يجوز القياس في الرخص كقياس الثلج على المطر في جواز الجمع بين الصلاتين بجامع أن كلًّا منهما يتأذى منه المسلم؟ اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز إثبات الرخص بالقياس، ولا مانع من ذلك إذا عرفنا العِلَّة وتحققنا منها. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: عموم الأدلة المثبتة لحجية القياس من الإجماع والكتاب والسُّنَّة والمعقول - كما سبق بيانه -؛ حيث إنها دلَّت على أن القياس يجري في جميع الأحكام الشرعية إذا عرفت العلَّة وتحققت في الفرع ووجدت جميع شروط القياس، فإن تلك الأدلة لم تفرق بين حكم وحكم، وبما أن الرخصة حكم من الأحكام الشرعية، فإنها تدخل في هذا العموم. الدليل الثاني: أن الرخص تثبت بخبر الواحد، فكذلك تثبت بالقياس، ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما يفيد الظن، ويجوز الخطأ والسهو في كل منهما. المذهب الثاني: لا يجوز إجراء القياس في الرخص. وهو مذهب الحنفية، وقول للإمام مالك، وقول للإمام الشافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1939 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الرخص مخالفة للدليل، فالقول بجواز القياس عليها يؤدي ويفضي إلى كثرة مخالفة الدليل، فوجب أن لا يجوز. جوابه: إن الدليل إنما يخالفه صاحب الشرع لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل؛ عملاً بالاستقراء، وتقديم الأرجح هو شأن صاحب الشرع، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في صورة أخرى وجب أن يخالف الدليل بها - أيضاً - عملاً برجحانها - فنحن حينئذٍ قد اكثرنا موافقة الدليل لا مخالفته. الدليل الثاني: أن الرخص منح من اللَّه - تعالى - وعطايا فلا يتعدى بها عن مواضعها؛ حيث إن في قياس غير المنصوص على المنصوص في الأحكام الاحتكام على المعطي في غير محل إرادته، وهذا لا يجوز، فينتج من ذلك: عدم جواز إثبات الرخص بالقياس. جوابه: إن مدار إجراء القياس على إدراك العلَّة والمعنى من شرع الحكم، وكون الرخص تتصف باليسر والتخفيف لا يمنع من إجراء القياس فيها، فمتى أدركنا العلَّة التي من أجلها شرعت تلك الرخصة، ووجدنا تلك العلَّة في شَيء آخر، فإننا نعدي تلك الرخصة إلى ذلك الشيء؛ تكثير لمنح اللَّه، وحفظا لحكمة الوصف من الضياع. وقال إمام الحرمين - في الجواب عن ذلك الدليل -: هذا هذيان، فإن كل ما يتقلب فيه العباد من المنافع فهي منح من اللَّه تعالى، ولا يختص بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1940 بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أن الثلج تجمع من أجله الصلاتين؛ قياسا على المطر بجامع: أن كلًّا منهما يتأذى منه المسلم، هذا على المذهب الأول. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يجمع بين الصلاتين من أجل الثلج، لأن الرخصة تخص المطر - فقط - ولا قياس في الرخص، ولا يدخل الثلج في لفظ " المطر "، وهو رأي أصحاب المذهب الثاني. 2 - أن الإنسان إذا ركب دابة مسافة ميل، وخاف الغرق إن نزل أو خاف غيره من أسباب القتال، فإنه يصلي صلاة القتال، ولا يعيد؛ قياساً على الصلاة في القتال بجامع: الخوف في كل، أي: كما رخص للمقاتل كذلك يرخص للراكب الخائف، هذا قول أصحاب المذهب الأول. وذهب بعض العلماء إلى أنه لا يصلي صلاة القتال، بل يؤدي الصلاة المعتادة؛ لأن الرخصة تخص المقاتل - فقط - ولا تتعدى إلى غيره؛ حيث إنه لا قياس في الرخص، وهو قول أصحاب المذهب الثاني. تنبيه: لقد تكلمت عن هذه المسألة في مصنف مستقل وسميته "الرخص الشرعية وإثباتها بالقياس " فارجع إن شئت، فهو مطبوع متداول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1941 المطلب الخامس القياس في الأسباب والشروط والموانع المراد بالقياس في الأسباب هو: إثبات سببية وصف لحكم قياسا له على وصف ثبتت سببيته لحكم آخر. مثاله: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص بجامع: القتل العمد العدوان، ولما كان السبب في وجوب القصاص هو القتل بالمحدد، فإنه يكون القتل بالمثقل سبباً لوجوب القتل. كذلك إيجاب الحد على اللائط قياساً على الزاني بجامع إيلاج فرج في فرج محرم شرعاً، فلما كان الزنى سبباً لإيجاب الحد كذلك تكون اللواطة سبباً لإيجاب الحد. والمراد بالقياس في الشروط هو: أنه لما كان معنى الشرط: ما يلزم من عدمه العدم، ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته: فإنا إذا وجدنا أمراً من الأمور قد نص على شرطه ووجدنا ما يشاركه في وجه الشرطية فيلحق به على وجه القياس ليكون شرطا لذلك الأمر الآخر المشارك، مثاله: أن الشارع قد اشترط لصحة الصلاة الاستنجاء من البول والغائط بالماء أو الحجر، والحجر إنما صح الاستنجاء به بدل الماء؛ لكونه قالعاً لعين النجاسة فيقاس عليه كل جامد يتوفر فيه هذا الوصف، وكقياس الوضوء على التيمم بجامع: تمييز العادة عن العبادة بكل منهما، والنية شرط في التيمم، فتكون شرطاً في الوضوء. والمراد بالقياس في الموانع هو: أن المانع لما كان وجوده سببا لعدم الحكم، فإنه إذا وجد في شيء لم ينص عليه، فإنه يكون سببا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1942 للحكم بعدم الحكم؛ قياساً على وجوده في الصورة التي نص فيها على الحكم. مثاله: أن الشارع قد أسقط عن الحائض الصلاة؛ لوجود الحيض فيقاس عليه النفاس في وجوب إسقاط الصلاة عنها بجامع أن كلاً منهما أذى وقذر يجب تنزيه المصلي منه. هذا المراد في القياس في الأسباب والشروط والموانع، وهو قد اختلف العلماء في جواز ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن القياس لا يجري فى الأسباب والشروط والموانع. وهو مذهب أكثر الحنفية، وبعض المالكية كابن الحاجب، وبعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والآمدي، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن مدار القياس على العِلَّة والجامع بين الأصل والفرع: فإن لم توجد العلة والجامع في - الأسباب والشروط والموانع، فلا يجوز القياس وهو ظاهر؛ حيث فقد أهم ركن من أركان القياس وهو: العِلَّة. وإن وجدت العِلَّة والجامع بين الأصل والفرع، فلا فائدة في القياس؛ لأن هذا الجامع يعتبر هو السبب أو الشرط أو المانع، ويكون كل من الأصل والفرع فرداً من أفراد هذا السبب،. أو هذا الشرط، أو هذا المانع، وبذلك يكون الاشتغال بالقياس في الأسباب والشروط والموانع لا فائدة فيه. فمثلاً: لما قاس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد بجامع: القتل العمد العدوان، فإنه جعل القتل العمد العدوان هو سبب وجوب القصاص، فيكون القتل بالمثقل، والقتل بالمحدد فردين من أفراد القتل العمد العدوان، فلا حاجة إذن للقياس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1943 وكذلك لما قاس الوضوء على التيمم بجامع: أن كلًّا منهما طهارة مقصودة يتميز بها العبادة عن العادة، فإنه جعل الطهارة التي تميز العبادة عن العادة هي شرط صحة الصلاة، فيكون الوضوء والتيمم لزدين من أفراده، فلا حاجة مع هذا للقياس. وكذلك لما قاس النفاس على الحيض بجامع: أن كلًّا منهما أذى وقذر يجب تنزيه المصلي منه: جعل الأذى والقذر الذي يجب تنزيه المصلي منه مانع لصحة الصلاة، فيكون الحيض والنفاس فردين من أفراده، فلا حاجة إذن للقياس. الدليل الثاني: أن إجراء القياس في الأسباب والشروط والموانع يؤول إلى إبطال الأصل المقيس عليه، ومن شروط القياس: ألا يعود التعليل والقياس على الأصل بالإبطال، بيانه: أننا إذا ألحقنا السبب والشرط والمانع الذي لم ينص عليه بالسبب والشرط والمانع المنصوص عليه لعلة وجامع جمع بين المنصوص عليه - من السبب أو الشرط أو المانع - وبين غير المنصوص عليه من السبب أو الشرط أو المانع - فإن هذا سيؤول إلى أن السبب والشرط والمانع في الأصل لم يكن هو ما نص عليه، وإنما هو معنى أوسع منه، وفي هذا إبطال للأصل، وهو السبب والشرط والمانع المنصوص عليه. ولعلي أصور ذلك بالمثال: أنه لما قاس اللواط على الزنى في وجوب الحد؛ لوجود معنى مشترك بينهما وهو الجامع، وهو: إيلاج فرج في فرج محرم شرعا، فإن هذا يؤدي إلى أن الزنى لم يكن عِلَّة للحد، وإنما العلَّة هي معنى أوسع منه وهو: إيلاج قرج في فرج محرم شرعا. كذلك لما قاس النفاس على الحيض في إسقاط الصلاة بجامع: أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1944 كلاً منهما أذى، فإن يؤدي ويفضي إلى أن الحيض لم يكن علَّة لإسقاط الصلاة، وإنما العِلَّة معنى أوسع منه وهو: وجود الأذَى والقذر. المذهب الثاني: أن القياس يجري في الأسباب والشروط والموانع. وهو مذهب بعض الحنفية كصدر الشريعة، وابن الهمام، وكثير من الشافعية كالغزالي، وتاج الدين ابن السبكي، وابن برهان، والحنابلة. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: عموم أدلة حجية القياس؛ حيث إنها لم تفرق بين حكم وحكم، والأسباب والشروط والموانع تُعتبر داخلة تحت هذا العموم؛ لأنه يطلق عليها أحكام شرعية فيجري القياس فيها كما يجري في غيرها. جوابه: أنا نسلم لكم عموم أدلة حجية القياس، ولكن بشرط توفر جميع أركان القياس وشروط كل ركن، والأسباب والشروط والموانع تخصص من هذا العموم، فلا يجري فيها القياس؛ لأن إجراء القياس في الأسباب والشروط والموانع يؤدي إلى أمرين باطلين: أولهما: أن إجراء القياس فيها لا فائدة فيه. تانيهما: أنه يؤدي إلى تغيير الأصل وإبطاله، وقد بيَّنت ذلك في الدليلين اللذين ذكرتهما فىِ مذهبنا. وهذان الأمران هما اللذان قد خصصا الأسباب والشروط والموانع وأخرجاها عن إجراء القياس فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1945 الدليل الثاني: أن خبر الواحد تثبت به الأسباب والشروط والموانع فكذلك تثبت الأسباب والشروط والموانع بالقياس بجامع: أن كلا منهما يفيد الظن. جوابه: إن قياس القياس على خبر الواحد قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن إثبات الأسباب والشروط والموانع بالقياس يترتب عليه: أن هذا القياس يؤدي إلى إبطال الأصل، وهو السبب والشرط والمانع المقيس عليه، وهذا لا يوجد في إثبات الأسباب والشروط والموانع بخبر الواحد. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول - وهم: المانعون من إجراء القياس في الأسباب والشروط والموانع - بيَّنوا أن لا يكون كل من السببين سببا للحكم من حيث خصوصه، وإنما السبب: القدر المشترك بينهما. وهذا المعنى لا ينكزه ولا ينفيه أصحاب المذهب الثاني - وهم: المجوزون لإجراء القياس في الأسباب والشروط والموانع -؛ لأنهم إنّما قاسوا لأجل أن يثبتوا أن المقيس فرد من أفراد القدر المشترك كالمقيس عليه الذي دلَّ النص على سببيته، لا ليثبتوا أنه مستقل بالسببية بخصوصه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1946 المطلب السادس القياس في العبادات وما يتعلَّق بها المراد بالعبادات هو: أعظم العبادات وأدخلها في باب التعبد كالصلوات وما شابهها، والزكوات، والصيام، والحج كإثبات صلاة بإيماء الحاجب قياسا على صلاة المومئ برأسه. ولقد اختلف العلماء في جريان القياس في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز القياس في العبادات. وهو مذهب جمهور العلماء. وهو الحق؛ لعموم أدلة حجية القياس، فهي دلَّت على جواز القياس في جميع الأحكام الفقهية ولم تفرق بين ما يخص العبادات أو المعاملات، والمرجع في ذلك هو: معرفة العلَّة التي من أجلها شرع الحكم، فمتى ما عرفناها في الحكم المنصوصَ على حكمه، ووجدناها في الفرع، فإنه يصح القياس، مع استكمال شروط القياس. المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس في العبادات. وهو مذهب بعض الحنفية كالكرخي، وبعض المعتزلة كالجبائي، ونسب إلى أبي حنيفة. دليل هذا المذهب: أن الصلاة بإيماء الحاجب وما شابه ذلك هي من الأمور الهامة التي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1947 تتوفر الدواعي على نقلها، فلو كانت مشروعة لوجب على النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يبينها، وينقل ذلك أهل التواتر إلينا حتى يصير ذلك معلوما لنا قطعاً، ولما لم يحصل ذلك علمنا أن المصير إلى هذا القول باطل. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن عدم النقل لا يدل على عدم الوجدان، وعدم الوجدان لا يدل على العدم، كما أن العدم لا يدل على عدم الجواز. الجواب الثاني: أن هذا منتقض بوجوب الوتر عندهم، حيث إن الوتر واجب عندهم مع أنه لم يعلم وجوبه قطعا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لأن أصحاب المذهب الثاني - وهم: المانعون من إجراء القياس في العبادات - مقصودهم: أن إثبات الحكم بالقياس ابتداء من غير أصل يقاس عليه، أو إثبات عبادة زائدة على العبادات الواردة في تلك الأصول ابتداء أو إثبات كيفية خاصة لتلك العبادات مما لا مجال للعقل فيه: غير صحيح. وهذا يوافقهم عليه أصحاب المذهب الأول - وهم المجوزون -. أما إجراء القياس مع توفر شروط القياس فهو صحيح، وهذا يؤيده الاستقراء والتتبع لكلام الفقهاء في جميع أبواب العبادات، فإنه مملوء بالقياسات في العبادات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1948 المطلب السابع القياس في العاديات ما كان طريقه العادة والخلقة كأقل الحيض وأكثره، وأقل الحمل وأكثره، هل يجوز إجراء القياس فيه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجري القياس في الأمور العادية والخلقية. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن القياس - كما علمنا سابقاً - مبني على إدراك العلَّة في الأصول والفروع، والأمور العادية ترجع إلى العادة والخلقة تختلف باختلاف الأشخاص والأمزجة، ولا يعرف أسبابها، فلا يجوز إثباتها بالقياس. المذهب الثاني: أنه يجري القياس في الأمور العادية. وهو مذهب بعض العلماء، نقله أبو عبد اللَّه المحلي. دليل هذا المذهب: أن مدار القياس على إدراك المعنى الذي لأجله شرع الحكم، وهذه الأمور العادية والخلقية ممكن إدراك معناها. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ إدراك المعنى الذي لأجله شرع الحكم في الأمور العادية؛ نظراً لاختلاف عادات الناس، وأمزجتهم، وما يصلح لهذا قد لا يصلح لذاك وهكذا، فيصعب إدراك عِلَّة تجمع بين الأصل والفرع، بل لا يمكن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1949 بيان نوع الخلاف: الخلاف لا شك أنه معنوي؛ حيث أثر في مسألة وهي: هل الحامل تحيض أو لا؟ فمن ذهب إلى أن القياس يجري في الأمور العادية: أثبت أن الحامل تحيض وقال: لو منع الحمل دم الحيض لمنع دم الاستحاضة، ألا ترى أن الصغر لما منع أحدهما منع الآخر، فكذلك الكبر. ومن ذهب إلى أن القياس لا يجري في هذه الأمور قال: إن الحامل لا تحيض، وقال: لو كان الدم الذي ينزل من الحامل دم حيض لحرم به الطلاق، وانقضت به العدة، ولكن كل ذلك لم يصح، فلم يكن ما ينزل منها دم حيض. فإذا ثبت أن ما ينزل من الحامل هو دم حيض - كما قال الأولون هنا - فإنه يترتب على ذلك أحكام شرعية مثل: تحريم مس المصحف، وامتناعها عن الصلاة، وامتناعها من مواصلة الصوم، وتحريم وطئها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1950 المطلب الثامن القياس في العقليات لقد اختلف في جريان القياس في الأمور العقلية على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز جريان القياس في العقليات، وهو: إلحاق الغائب بالشاهد، وله جامع عقلي يكون في أربعة أشياء هي: العِلَّة، والحد، والشرط، والدليل. فمثال الجمع بالعلَّة: كون الشيء يصح أن يرى معللاً بالوجود شاهداً، فكذا في الغائب بقصد قياس الباري سبحانه وتعالى على خلقه في أنه يرى بجامع الوجود؛ حيث إنه عِلَّة الرؤية. ومثال الجمع بالحد: قولك: حقيقة العالم شاهداً من له العلم، فيجب طرد ذلك الحد غائبا بقصد إثبات العلم لله تعالى بالقياس على ثبوت ذلك لخلقه مع الجزم باختلاف العلمين في الحقيقة والكيفية؛ إذ ليس كمثله شيء. ومثال الجمع بالشرط: قولك: العلم مشروط بالحياة شاهداً، فكذلك غائبا، قالأصل هو الشاهد، والفرع هو: الغائب، والجامع: كون كل منهما حيا، والحكم اتصاف كل منهما بالعلم والإرادة، مع الاختلاف في الحقيقة. ومثال الجمع بالدليل: قولك: الإحكام يدل على العلم والإرادة شاهداً، فكذا غائباً. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، وليس المقصود من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1951 القياس هنا: استنباط كون اللَّه موجوداً أو عالما، فهذا قد ثبت بالنقل لمن آمن بالله وكتبه ورسله، ولكن المقصود هو: تقريب ذلك إلى الأذهان وتصوير هذه الأمور للسامع، ولا مانع من ضم دليل إلى دليل آخر ليحصل بذلك الترجيح، فيما لو وجد تعارض. المذهب الثاني: لا يجوز جريان القياس في العقليات. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن القياس لا يفيد اليقين، والمطالب العقلية يقينية. جوابه: إن هذا الدليل يدل على عدم الحاجة إلى القياس، ولا يدل على امتناع القياس في الأمور العقلية، ثم إن ما أفاد القطع أو الظن سواء في الشريعة. ثم إننا أردنا في القياس التصوير والتقريب إلى الأذهان فقط - لا أخذ الحكم. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ إذ أن تلك الأحكام العقلية والعقائدية ثابتة، سواء استعمل القياس أو لا، ولكن أصحاب المذهب الأول قالوا بجواز استعماله في العقليات من باب كثرة الاستدلال والاستئناس، وأما أصحاب المذهب الثاني: فإنهم بيَّنوا أن تلك الأحكام ثابتة بدون قياس، فلا داعي له، فيكون استعماله عبثا، والعقل يمنع من العبث. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1952 المطلب التاسع في القياس في كل الأحكام هل القياس يجري في جميع الأحكام الشرعية بلا استثناء؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن القياس لا يجري في جميع الأحكام الشرعية. وهو مذهب أكثر العلماء، وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: أنه لو كان كل حكم يصح أن يثبت قياسا: للزم من ذلك أن يكون حكم أصل القياس ثابتا بالقياس - أيضا - وكذلك حكم أصل أصله، ثم إن انتهى إلى أصل لا يتوقف على القياس على أصل آخر فهو خلاف الغرض، وإن لم ينته وتسلسل الأمر امتنع وجود قياس ما؛ وذلك لتوقفه على أصول لا نهاية لها. الدليل الثاني: أنه معلوم أنه يتعذر إجراء القياس في كثير من الأحكام كعدد الصلوات، وعدد ركعات كل صلاة، وعدد الطواف، والسعي، وأكثر مناسك الحج وما شابه ذلك مما لم نتمكن من عقل معناه، وإدراك علته، ومدار القياس على تعقل المعنى الذي يعلل به الحكم في الأصل، وهذا لم ندرك علته. الدليل الثالث: أنا بينا في هذا الفصل عدم جواز إجراء القياس في العاديات والأمور الخلقية، والأسباب والشروط والموانع، وهذا يبطل القول بإجراء القياس في كل الأحكام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1953 المذهب الثاني: أنه يجوز إجراء القياس في كل الأحكام. ذهب إلى ذلك بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الأحكام الشرعية - كلها - من جنس واحد، وتدخل تحت حد واحد، وهو حد الحكم الشرعي، وحيث ثبت جريان القياس في بعضها، فانه يثبت جريانه في بعضها الآخر؛ لأنهما متماثلان ولا فرق بينهما. جوابه: لا نسلم أن جميع الأحكام متماثلة، بل بينها فرق؛ حيث إن بعضها قد يقترن بأمور تجعله يختلف عن بعضها الآخر، ويتميز عنه: فبعضها ندرك العِلَّة التي من أجلها شرع الحكم، فهذا يجوز فيه القياس؛ لأن مدارَ القياس مبني على إدراك العِلَّة. وبعضها الآخر: لا ندرك تلك العِلَّة، فهذا لا يجوز القياس فيها مطلقاً. فثبت: أنه مع دخول كل الأحكام تحت حد واحد وهو الحكم الشرعي، وأنها كلها من اللَّه تعالى، فإنه يوجد بينها فرق من حيث إدراك العِلَّة وعدم ذلك - كما بينت -. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي هنا؛ لأن أصحاب المذهب الأول - إنما نفوا جريان القياس في كل الأحكام بالفعل وإثبات جميعها به؛ بناء على أن من الأحكام ما تحقق لدينا عدم إدراك معناه، وإن إثبات جميعها به قد يؤدي إلى أن لا يثبت حكم منها بغيره، وذلك محال؛ لأنه يلزم منه الدور والتسلسل وهما باطلان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1954 أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم لما أجازوا جريان القياس في كل الأحكام، فإنهم قصدوا بتجويزه: أن كل حكم بالنظر لذاته، وبقطع النظر عن غيره صالح لأن يثبت بالقياس إذا أدرك معناه؛ بناء على رأي الجمهور وهو: أن جميع الأحكام لها علل ومعاني في الحقيقة والواقع، ولكننا أدركنا ذلك في بعض الأحكام، ولم ندرك علل ومعاني الأحكام الأخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1955 المطلب العاشر في القياس في الأمور التي لا يراد بها العمل الأمور التي لا يتعلق بها عمل كدخول النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة عنوة أو صلحاً لا يجري فيه القياس. دليل ذلك: أن ما كان من هذا القبيل إنما يراد ليعرف ويعلم لا ليعمل به، فطريق ذلك الرواية والسماع، ولا مجال للقياس في ذلك. تنبيه: بقي من موضوع ما يجري فيه القياس وما لا يجري: القياس في اللغات هل يجوز أو لا يجوز، وهذا قد تكلمت عنه بالتفصيل في المبحث الرابع من الفصل الأول - من الباب الرابع الذي هو في الألفاظ ودلالتها على الأحكام، فارجع إليه إن شئت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1956 المبحث الثامن هل القياس من الدين؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: - أن القياس دين، أي: يسمى دينا. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد أمرنا بالقياس، وإذا أمرنا به، فإنا نكون متعبدين به، وإذا ثبت: أن اللَّه تعالى قد تعبدنا به، فإنه يكون من الدين. الدليل الثاني: أن من نزلت به حادثة، وكان فيها مجتهداً لنفسه، وضاق عليه الوقت: وجب عليه أن يقيس وينظر، وإذا لم يضق عليه الوقت استحب له ذلك ليعد الجواب لوقت الحاجة، والواجب والمستحب من الدين، فيصح بذلك أن يسمى القياس دينا. المذهب الثاني: أن القياس لا يُسمى دينا، وليس منه. وهو مذهب أبي الهذيل العلاف. دليل هذا المذهب: أن القياس لا يطلق عليه اسم الدين؛ لأن اسم الدين يقع على ما هو ثابت مستمر، وكيف يسمى دينا، وهو فعل القائس. أي: أن القياس من فعل المكلف، وهو القائس، ولا يصح أن يكون الدين من فعل المكلف؛ إذ لو كان فعلاً للمكلف لم يعرف به الحكم. جوابه: نسلم أن القياس من فعل المكلف، ولكن اشترط أن يكون هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1957 المكلف مجتهداً - وهو من توفرت فيه شروط الاجتهاد - دون غيره، والمجتهد يُعتبر مرجعاً لغير المجتهد في أحكام اللَّه تعالى؛ لمعرفته بها، فيكون كل ما يقوله من الدين والشرع، فإذا توصل إلى أن الأرز من المطعومات قياساً على البر، فإنه يحرم الربا فيه، فإن هذا من الدين والشرع. ولو لم يقبل قياس المجتهد ويعمل به لضاعت أكثر الشريعة؛ لأن أكثر الفروع مبنية على القياس، وغيره مما يجتهد فيه المجتهدون، فيعتبر كلامهم وقياساتهم من الدين الذي نتعبد اللَّه به، فنرجوا بذلك ثواب اللَّه، ونخاف عقابه. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لا يترتب عليه أي أثر، لاتفاق أصحاب المذهبين على أن القياس حُجَّة، فلم يرد عن أبي الهذيل، أو الجمهور مخالفة في حجية القياس، والعمل بمقتضاه، فالعمل به متفق عليه. وإنما النزاع بين المذهبين جاء في تسمية ذلك دينا أو لا، فالجمهور سموه بذلك، وأبو الهذيل منع من هذه التسمية. فالخلاف إنما هو في مجرد التسمية فقط، فيكون الخلاف لفظيا. هذا آخر المجلد الرابع من كتاب: " المهذب في علم أصول الفقه " لفضيلة الشيخ الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة حفظه الله ونفع به الإسلام والمسلمين، ويليه المجلد الخامس إن شاء الله وأوله: " أركان القياس وشروطها وما يتعلق بها " وهو الفصل الثالث من الباب الخامس الجزء: 4 ¦ الصفحة: 1958 المجلد الخامس الفصل الثالث في أركان القياس وشروطها وما يتعلق بها ويشتمل على تمهيد، ومباحث: أما التمهيد: فهو في تعريف الركن، وبيان أركان القياس إجمالاً. أما المباحث فهي: المبحث الأول: في الأصل وحكمه وشروطهما وما يتعلق بهما. المبحث الثاني: في الفرع وشروطه وما يتعلق به. المبحث الثالث: في العلة وشروطها وما يتعلق بها. - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1959 التمهيد في تعريف الركن، وبيان أركان القياس إجمالاً ويشتمل على ثلاثة مطالب: المطلب الأول: في تعريف الركن لغة واصطلاحا. المطلب الثاني: في بيان أركان القياس إجمالاً. المطلب الثالث: في بيان أسباب عدم ذكر حكم الفرع من الأركان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1961 المطلب الأول تعريف الركن أولاً: تعريف الركن لغة: الركن لغة هو: أحد الجوانب التي يُستند إليها ويقوم بها، وركن الشيء جانبه الأقوى. ثانياً: تعريف الركن اصطلاحا: الركن اصطلاحاً: هو الداخل في حقيقة الشيء المحقق لماهيته، وقيل: هو: ما يتم به الشيء، وهو داخل فيه. - والماهية هي الحقيقة الكلية المعقولة. وقولهم: إن الركن داخل في الماهية معناه: أنه جزء من مفهومها يتوقف تعلقها على تعلقه. فيكون الفرق بين الركن والشرط: أن شرط الشيء: ما يتم به الشيء ويتوقف عليه، لكنه خارج عنه. فالركوع - مثلاً - ركن في الصلاة؛ لأن الصلاة تتوقف عليه مع أنه داخل فيها، والوضوء شرط لها؛ لأنها تتوقف عليه - أيضا - لكنه خارج عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1963 المطلب الثاني في بيان أركان القياس إجمالا ً جمهور العلماء الذين قالوا بحجية القياس يعتبرون أركان القياس أربعة هي: الأول: الأصل، والثاني: الفرع، والثالث: العلَّة الجامعة بين الأصل والفرع، والرابع: حكم الأصل. فهذه الأركان لا يتم القياس إلا بها، فالقياس مجموع الأمور الأربعة. وقد قدم ذكر الأصل على غيره من الأركان؛ لأن الأصل يجب تقديمه دائما، وقدم الفرع على حكم الأصل؛ لأن الفرع مقابل للأصل، فناسب أن يذكر عقيبه لما بين الضدين من اللزوم في الذهن، وقدمت العلَّة على حكم الأصل؛ لأنها سبب بالنسبة له، ولا شك أنه يقدم السبب على المسبب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1964 المطلب الثالث في بيان أسباب عدم ذكر حكم الفرع من أركان القياس لم يذكر حكم الفرع ضمن أركان القياس، لسببين: أولهما: أن حكم الفرع ثمرة القياس، وثمرة الشيء لا يصح أن تكون من أركانه. ثانيهما: أن حكم الفرع لو عُدَّ منها لاقتضى توقف القياس عليه، فيكون دوراً، والمعلوم: توقف ثمرة القياس على القياس لا العكس. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضاً -: لو أطلق لفظ " حكم " لكان أوْلى ليشمل حكم الأصل وحكم الفرع. جوابه: إننا قيدنا لفظة: " حكم " بقولنا: " حكم الأصل "؛ لكون حكم الأصل هو السابق في ثبوته؛ حيث إن العلم به سابق على العلم بحكم الفرع، فحكم الأصل هو الطريق إلى العلم بحكم الفرع؛ إذ لولاه لما ثبت للفرع حكم، فلو أطلقنا لفظة: " حكم " للزم تسوية السابق باللاحق والمتقدم بالمتأخر، ويكون حكم الفرع هو عين حكم الأصل، وهذا لا يجوز؛ لأننا قلنا في حقيقة القياس: "إثبات مثل حكم أصل لفرع ... "، فحكم. الفرع مثل حكم الأصل، وليس هو عينه، وقد بيَّنَّا ذلك أثناء شرحنا لتعريف القياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1965 فلو قال الشارع: " حرمت الخمر لإسكارها " ثم قيس النبيذ عليها. فالأصل.: الخمر، والفرع: النبيذ، والجامع: الإسكار، والحكم: التحريم الذي نص عليه، وعلم في الخمر قبل أن يعلم في النبيذ، وليس تحريم النبيذ هو عين تحريم الخمر، بل إن الخمر أشد تحريماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1966 المبحث الأول في الأصل وحكمه وشروطهما وما يتعلق بهما ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد بالأصل. المطلب الثاني: في بيان المراد بحكم الأصل. المطلب الثالث: هل حكم الأصل المنصوص عليه ثابت بالنص أو بالعِلَّة؟ المطلب الرابع: في اشتراط كون حكم الأصل شرعيا عمليا. المطلب الخامس: في اشتراط كون حكم الأصل حكما ثابتا مستمراً. المطلب السادس: في اشتراط كون حكم الأصل معقول المعنى. المطلب السابع: في اشتراط أن لا يكون دليل حكم الأصل متناولاً بعمومه حكم الفرع. المطلب الثامن: هل يشترط قيام دليل على جواز القياس على الأصل؟ المطلب التاسع: هل يشترط في الأصل: أن يكون قد انعقد الأجماع على أن حكمه معلل، أو أن تثبت علته بالنص؟ المطلب العاشر: هل يجوز القياس على أصل محصور بعدد؟ المطلب الحادي عشر: اشتراط كون حكم الأصل معللاً بعلة معينة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1967 المطلب الثاني عشر: بيان أن حكم الأصل إذا كان ثابتا بنص فإنه يجوز القياس عليه. المطلب الثالث عشر: حكم القياس على أصل ثابت عن طريق الإجماع. المطلب الرابع محشر: هل يشترط في الأصل المقاس عليه: أن تجمع الأمة - كلها - عليه، أو يكفي اتفاق الخصمين؟ المطلب الخامس عشر: حكم القياس على الأصل الثابت عن طريق القياس. المطلب السادس عشر: إذا كان حكم الأصل منصوصا عليه، وقد اختلف فيه الخصمان، فهل يجوز القياس عليه؟ المطلب السابع عشر: هل يقاس على حكم الأصل الخارج عن قاعدة القياس؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1968 المطلب الأول في بيان المراد بالأصل لقد اختلف العلماء في المراد بالأصل على مذاهب: المذهب الأول: أن الأصل هو: محل الحكم المشبه به. وهو مذهب كثير من العلماء وهو الحق؛ لأن الأصل هو: ما كان حكم الفرع مقتبسا منه، ومردوداً إليه، وهذا إنما يتحقق في محل الحكم المقيس عليه، أو المشبه به. فمثلاً: حرم اللَّه تعالى الخمر بقوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه) فإذا قيس عليها النبيذ بجامع الإسكار، فإن النبيذ - على هذا - يكون محرما كالخمر، فالأصل فناا هو: الخمر الذي هو محل الحكم، ويكون الفرع هو النبيذ؛ حيث إن النبيذ مردود إلى نفس الخمر، فيأخذ مثل حكمه. المذهب الثاني: أن الأصل هو: دليل الحكم، أي: نفس الدليل الدال على حكم الواقعة، فيكون الأصل في المثال السابق هو نفس الدليل الدال على تحريم الخمر وهي الآية. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الدليل هو الذي بني عليه الحكم وهو التحريم - هنا - فيكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1969 هو الأصل؛ لأنه مفتقر إليه، ولا يصح أن يكون المحل هو الأصل؛ لأنه محتاج إلى غيره، وهو الدليل الذي أثبت الحكم فيه. المذهب الثالث: أن الأصل هو: الحكم الثابت في المحل، وهو التحريم في المثال السابق. وهو مذهب فخر الدين الرازي، وسراج الدين الأرموي. دليل هذا المذهب: أن الأصل هو: ما ابتنى عليه غيره، وكان العلم به موصلاً إلى العلم أو الظن بغيره، وهذه الخاصية موجودة في الحكم لا في غيره؛ لأن حكم الفرع لا يتفرع عن المحل، وكذا فقد يؤخذ الحكم عن دليل عقلي، أو مما هو معروف بالضرورة فيقاس عليه، ويتفرع منه حكم الفرع. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ نظراً لصحة إطلاق الأصل على كل من هذه المذاهب، ولا مانع من ذلك، بيان ذلك: أنه إذا كان معنى الأصل: ما يبنى عليه غيره، فإنه يمكن أن يكون الحكم أصلاً؛ لبناء الحكم في الفرع عليه، وهو مراد أصحاب المذهب الثالث. وإذا كان الحكم في الخمر أصلاً فالنص الذي به معرفة الحكم يكون أصلاً للأصل، وعلى هذا: فأيُّ طريق عرف به حكم الأصل من نص أو إجماع أمكن أن يكون أصلاً، وهو مراد أصحاب المذهب الثاني. وكذلك الخمر فإنه إذا كان محلاً للفعل الموصوف بالحرمة فهو - أيضاً - أصل للأصل، فيمكن أن يكون أصلاً، وهو مراد أصحاب المذهب الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1970 المطلب الثاني في بيان المراد بحكم الأصل حكم الأصل هو: الحكم الشرعي الذي ورد به نص من كتاب أو سُنَّة، أو إجماع في الأصل، ويراد: إثبات مثله في الفرع كحرمة الخمر، فإنا أثبتنا مثله في الفرع وهو النبيذ، وحرمة الربا في البر، فإنا أثبتنا مثله في الفرع وهو: الأرز أو الذرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1971 المطلب الثالث هل حكم الأصل المنصوص عليه ثابت بالنص أو بالعلة؟ قال العلماء: إن علَّة تحريم ربا التفاضل في الأرز هي: كونه مكيل جنس، قياساً على البر، فهل الحكم في البر - وهو أحد الأصناف المنصوص عليها - ثابت بهذه العِلَّة أو بالنص؟ لقد اختلف العلماء في هذا على مذهبين: المذهب الأول: أن حكم الأصل ثابت بالعِلَّة، لا بالنص. وهو مذهب المالكية، والشافعية، وبعض الحنفية، وهو الحق؛ لأنه لو كان الحكم يثبت في محل النص بالنص، دون العِلَّة لامتنع جريان القياس بإلحاق الفرع بالأصل، والسبب في ذلك: أنه لا يتحقق القياس إلا إذا كان الحكم ثابتا في المنصوص عليه بالعلَّة حتى يمكن إثبات مثل ذلك الحكم بمثل تلك العِلَّة، فاما إذا كانَ الحكم ثابتاً في الأصل بالنص، لا بالعلَّة، ولا نص في الفرع، ولم يثبت بالعِلَّة في الأصل لم يتصور إثبات مثل حكم الأصل بمثل الوصف الذي في الفرع، وينقطع نظام القياس - حينئذٍ -، ويكون الفرع غير مقاس على الأصل، لكن القياس صحيح بإجماع القائسين، فيكون إجماعهم على ذلك إجماعا على أن الحكم في الأصل ثابت بالعِلَّة. المذهب الثاني: أن حكم الأصل ثابت بالنص، لا بالعلَّة. وهو مذهب كثر الحنفية، وكثر الحنابلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1972 أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن حكم الأصل قد يثبت تعبُّداً، فلو ثبت بالعلَّة لم يثبت مع عدمها. جوابه: إن كل الأحكام معللة، لكن بعض الأحكام قد أدركنا العِلَّة التي من أجلها شرع الحكم، فإن كانت قاصرة لم نقس على ذلك، وإن كانت متعدية استعملنا القياس. أما البعض الآخر من الأحكام فلم ندرك العِلَّة التي من أجلها شرع الحكم، فلذلك قلنا: إن الحكم تعبدي، فالحكم التعبدي له عِلَّة قد ثبت الحكم بها، لكن لم ندركها. الدليل الثاني: أن العِلَّة مستنبطة من حكم الأصل، ومتفرعة عليه ، وتابعة له في الوجودَ، فلو كان الحكم ثابتاً بها، لكان الأصل ثابتاً بما لا ثبوت له دون ثبوته، وهذا دور. جوابه: إنا لا نريد أن العِلَّة هي المعرفة للحكم بالنسبة إلينا؛ لأنها مستنبطة منه، وأنها لا تعرف دون معرفته، وإنما نريد أنها المعرفة للمعنى الذي شرع لأجله الحكم، أي: أن العِلَّة دالة على أن الحكم لم يوجد هنا - مثلاً - إلا من أجل كذا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، وذلك لأن قول أصحاب المذهب الأول - إن الحكم ثابت بالعلَّة - لا يريدون به أن العِلَّة معرفة له بالنسبةِ إلينا؛ لأنها مستنبطة منه، وأنها لا تعرف دون معرفته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1973 وإنما يريدون أن هذه العِلَّة هي التي من أجلها شرع الشارع هذا الحكم في الاءصل. وقول أصحاب المذهب الثاني - وهو: أن الحكم ثابت بالنص - وأن العلَّة غير مثبتة للحكم لم يريدوا بذلك أنها ليست العِلَّة التي من أجلهاً شرع الحكم، وإنما أرادوا: أنها غير معرفة لحكم الأصل بالنسبة إلينا، ولم ينكر أصحاب المذهب الأول ذلك، فلا خلاف في المعنى، بل في اللفظ. ولقد ذكرت في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين " أن العلماء اختلفوا في ذلك على قولين، ورجحت: أن الخلاف معنوي، وأنا الآن أعدل عن ذلك الرأي، وأثبت هنا أن الخلاف لفظي؛ لما ذكرت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1974 المطلب الرابع في اشتراط كون حكم الأصل حكماً شرعيا عمليا يشترط في حكم الأصل أن يكون حكما شرعيا عمليا قد ثبت بكتاب أو سُنّة، أو إجماع؛ لأن المراد فيه القياس الشرعي الذي يكون الغرض منه إثبات حكم شرعي في الفرع. وخرج بذلك: الحكم العقلي، والحكم اللغوي، والحكم الحسي، فعلى تقدير جريان القياس فيها، فإنه ليس قياسا شرعيا، بل عقليا، ولغويا، وحسيا. ويستثنى من ذلك: ما إذا كان القياس لغويا، ويتوصل به إلى حكم شرعي، فإن هذا يعتبر داخلاً في الحكم الشرعي كقياس تسمية النبش سرقة، واللواطة زنى، ليثبت بذلك القطع، والجلد أو الرجم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1975 المطلب الخامس اشتراط كون حكم الأصل حكما ثابتا مستمرا ً يشترط في حكم الأصل الذي قصد تعديته إلى الفرع أن يكون ثابتا مستمراً في الأصل؛ لأنه إذا لم يكن ثابتا فيه بأن لم يشرع فيه أصلاً، أو أنه شرع فيه، لكنه نسخ، فإنه لا يجوز بناء حكم الفرع عليه؛ لأمرين: أولهما: أن كون الشيء مبنيا على الغير صفة له، وتحقق الصفة يستدعي تحقق الموصوف، فإذا لم يكن الموصوف ثابتا لم تكن الصفة ثابتة له. ثانيهما: أنه إذا لم يكن الحكم في الأصل ثابتا أمكن توجيه المنع عليه، فلا يمكن للمستدل أن ينتفع به قبل إقامة الدليل على ثبوته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1976 المطلب السادس اشتراط كون حكم الأصل معقول المعنى يشترط في القياس: أن يكون حكم الأصل مدرك المعنى والعلَّة التي لأجلها شرع هذا الحكم؛ لأن القياس مبني على إدراك العِلَّة؛ حيث إن المراد منه تعدية الحكم من محل إلى محل بواسطة تعدي العلَّة. أما ما لا يعقل معناه ولا تدرك عِلَّته كاعداد الصلوات، وركعات كل صلاة، وعدد السعي والطواف، فإنه لا يجوز القياس فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1977 المطلب السابع اشتراط أن لا يكون دليل حكم الأصل متناولاً بعمومه حكم الفرع فمثلاً: لو جعلنا دليل تحريم الخمر هو ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "كل مسكر حرام "، فإنه لا يصح قياس النبيذ على الخمر هنا؛ لأن هذا النص قد تناول بعمومه النبيذ كتناوله للخمر، فالنبيذ محرم بالنص، لا بالقياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1978 المطلب الثامن هل يثشترط قيام دليل على جواز القياس على الأصل؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في الأصل: أن يقوم دليل على جواز القياس عليه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: عموم الأدلة المثبتة للقياس؛ حيث إنها أجازت القياس على الأصل مطلقا، فلم تعتبر هذا الشرط. الدليل الثاني: أنا إذا ظننا كون حكم الأصل معللاً بوصف، ثم علمنا أو ظننا حصوله في الفرع: حصل ظن أن حكم الفرع مثل حكم الأصل، والعمل بالظن واجب. المذهب الثاني: أنه لا يقاس على الأصل إلا إذا قامت الدلالة على جواز القياس عليه. وهو مذهب عثمان البتي البصري. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لم يورد دليلاً على ما زعمه، وما لا دليل عليه فإنه لا يعتمد ولا يعول عليه. الجواب الثاني: أن هذا معارض بالواقع من الصحابة - رضي الله عنهم - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1979 حيث إنه من تتبع أحوالهم في مجاري اجتهاداتهم فإنه يعلم أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل عند وجود ما يظن كونه علَّة لحكم الأصل في الأصل ووجدها في الفرع وإن لم يقم دليل خَاص على وجوب تعليل حكم ذلك الأصل، وجواز القياس عليه، وأصرح شيء في ذلك قول عمر لأبي موسى: " اعرف الأشباه والأمثال ثم قس الأمور برأيك "، ولم يفصل. من ذلك: أنهم اختلفوا في قول الرجل لامرأته: " أنت علي حرام "، فقاسه بعضهم على الطلاق، وبعضهم قاسه على الظهار، وبعضهم قاسه على اليمين، ولم ينقل نص خاص، ولا إجماع على القياس على تلك الأصول. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الثاني تصبح دائرة القياس ضيقة جداً، كما هو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1980 المطلب التاسع هل يشترط في الأصل أن يكون قد انعقد الإجماع على أن حكمه معلل، أو أن تثبت علته بالنص؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط في الأصل: أن يكون قد اتفق العلماء على أن حكمه معلل، ولا يشترط - أيضا - أن تثبت علَّته بالنص، بل لو ثبت ذلك بالطرق الاجتهادية الظنية جاز القياس عليه. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للدليلين اللذين ذكرتهما في " أنه لا يشترط في الأصل أن يقوم دليل على جواز القياس عليه "، وهو المطلب السابق. المذهب الثاني: أن ذلك يشترط فلا يقاس على أصل حتى يدل نص على عين علَّة ذلك الحكم، أو انعقد الإجماع على كون حكمه معللاً. وهو مذهب بشر المريسي المعتزلي. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا المذهب لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعتمد عليه. الجواب الثاني: أن هذا معارض بالواقع من الصحابة والواقع من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1981 فقهاء الإسلام، حيث إنه ثبت عن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أنهم كانوا يقيسون الفرع على الأصل بواسطة عِلَّة اجتهادية مثل فعلهم في مسألة: " أنت عليّ حرام "، فقاسه بعضهم على الطلاق بعلَّة تختلف عمن قاسه على اليمين. ومثل فعلهم في " مسألة الجد والإخوة " وغيرها. وكذلك فقهاء الإسلام كثيراً ما نراهم يختلفون في عِلَّة الأصل، فمثلاً: حرم التفاضل في بيع البر بالبر، وهذا ثابت بحديث الأشياء الستة، ولكن الفقهاء اختلفوا في العلَّة التي من أجلها حرم هذا التفاضل على أقوال: فقيل: إن العِلَّة هي الطعم، وعليه يحرم التفاضل في كل مطعوم. وقيل: إن العِلَّة هي الاقتيات والادخار، وعليه فإنه يحرم التفاضل فيما يقتات وما يدخر كالأرز والذرة. وقيل: إن العلَّة هي الكيل أو الوزن، وعلى هذا: يحرم التفاضل فيما يكال وَما يوزن ومع ذلك فقد جاز القياس. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، حيث إنه بناء على المذهب الثاني تكون دائرة القياس ضيقة جداً، لأن أكثر العلَل اجتهادية عقلية، فلو لم نعلل بتلك العلل لما بقي لنا قياس إلا في القليل النادر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1982 المطلب العاشر هل يجوز القياس على أصل محصور بعدد معين؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يجوز القياس على أصل محصور بعدد معين. أي: لا يشترط في الأصل: أن لا يكون محصوراً بالعدد، بل يجوز القياس على الأصل، سواء كان محصوراً أو لم يكن محصوراً. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لعموم أدلة حجية القياس، فإنها لم تفرق بين الأصل المحصور بالعدد وبين الأصل غير المحصور إذا أدركت عِلَّة حكم الأصل. المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس على الأصل المحصور بالعدد. وهو مذهب بعض العلماء حتى إنهم قالوا: لا يجوز القياس على جواز قتل الفواسق الخمس في الحل والحرم؛ لأنهن محصورات في قوله عليه السلام: " خمس يقتلن في الحل والحرم ". أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن مفهوم العدد حُجَّة، وذلك يدل على نفي الحكم عما عداه، أي: أن تخصيص ذلك بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه يمنع أن مفهوم العدد هنا حُجَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1983 الجواب الثاني: سلمنا أن مفهوم العدد حُجَّة هنا، لكن القياس أقوى منه هنا إذا فهم المعنى الذي لأجله شرع الحكم. الدليل الثاني: أن جواز القياس عليه يبطل الحصر، فلم يجز كما إذا كان القياس يرفع شيئاً من مدلولات النص الدال على حكم الأصل. جوابه: أنا نمنع أن القياس على الأصل المحصور يبطل الحصر، أو يرفع شيئا من مدلولات النص، بل إن القياس يزيد عليه أشياء بشرط الاتفاق مع المذكورات بالعلَّة. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الثاني لا يقاس على الخمس اللاتي يقتلن بالحل والحرم، ولا يقاس على الأشياء الستة في حديث عبادة بن الصامت. أما بناء على المذهب الأول فإنه يقاس على كل شيء إذا وجدت العلَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1984 المطلب الحادي عشر اشتراط كون حكم الأصل معللاً بعلة معينة قد صرح بها لأن العلَّة المبهمة لا يعلم وجودها في الفرع، فلا يقال مثلاً: تجب الزكاة في الحلي للعِلَّة المقتضية لوجوبها في النقد. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1985 المطلب الثاني عشر بيان أن حكم الأصل إذا كان ثابتا بنص فإنه يجوز القياس عليه. لأن النص من الأدلة المثبتة للأصل؛ لأن الأصل ينبني عليه الفرع، ويلحق به، ويعتمد عليه، والشيء الذي لم يثبت لا يتصور بناء غيره عليه. مثاله: قولنا: الخنزير إذا ولغ في الإناء، فإنه يغسل سبع مرات؛ قياسا على الكلب بجامع: أن كلًّا منهما حيوان نجس، فإن منع أحدهم الحكم في ولوغ الكلب دللنا عليه بنص الحديث الذي هو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1986 المطلب الثالث عشر حكم القياس على أصل ثبت عن طريق الإجماع لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز القياس على أصل ثابت عن طريق الإجماع. وهو مذهب جمهور العلماء. وهذا هو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن الإجماع أصل ثابت تثبت به أحكام الشرع، فجاز القياس على الأصل الثابت به كالقياس على ما ثبت بالكتاب والسُّنَّة. الدليل الثاني: أنه يجوز القياس على أصل ثابت بخبر الواحد، وهو يفيد الظن.، فمن باب أَوْلى أن يقاس على أصل ثابت بالإجماع؛ لأن الإجماع آكد من خبر الواحد. المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس إلا على الأصل الثابت بالكتاب والسُّنَّة - فقط - ولا يجوز القياس على أصل ثابت بالإجماع مطلقاً. ْوهو مذهب بعض الشافعية، وحكي عن بعض الحنابلة. دليل هذا المذهب: إنه إذا أجمع العلماء على أصل، فإن ذلك الإجماع أو الاتفاق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1987 حصل عن دليل - وهو مستند الإجماع - فيجب طلب الدليل والمستند، فإنه ربما كان نطقا يتناول الفرع فيغني عن القياس، وربما كان معنى لا يتعدى الحكم الذي ثبت بالإجماع، فلا يجوز القياس عليه. جوابه: إن الدليل الذي ثبت به الإجماع إن كان نطقاً يتناول الفرع: لم يمنع القياس، بل يقويه. وإن كان معنى لا يتعدى الحكم الذي ثبت بالإجماع لا يمنع أن يكون هناك معنى آخر يتعدى إلى الفرع فيقاس عليه. فإذا لم يوجد ما يمنع القياس على ما ثبت بالإجماع، فإنه يقاس عليه بشرط: معرفة العِلَّة، ولا داعي للنظر فى مستند الإجماع. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الثاني فإنه لا يجوز إلا على ما شبت بدليلين هما: الكتاب والسُّنَّة، أما على المذهب الأول فإنه يقاس على الأصل الثابت بثلاثة أدلة: الكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، فتكون دائرة القياس عند أصحاب المذهب الثاني أضيق من دائرة القياس عند أصحاب المذهب الأول، ويكون كل قياس الأصل فيه مجمع عليه باطلاً عند أصحاب المذهب الثاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1988 المطلب الرابع عشر هل يشترط في حكم الأصل المقاس عليه أن تجمع عليه كل الأمة، أو يكفي اتفاق الخصمين؟ لقد بيَّنت فيما سبق: أنه يجوز القياس على ما ثبت بالإجماع، ولكن اختلف العلماء هل يكفي اتفاق الخصمين أو يشترط اتفاق كل الأُمَّة؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه يكفي اتفاق الخصمين، فلا يشترط أن يكون حكم الأصل المقيس عليه متفقا عليه من كل الأُمَّة؛ حيث إن الخصمين - المستدل والمعترض - إذا اتفقا على حكم الأصل، فإن المناظرة تنضبط، ويكون لها فائدة، أما إن كان حكم الأصل مختلفاً فيه، فإن المعترض له أن ينازع فيه كما ينازع في الفرع، وهذا هو الحق؛ لما ذكرت. مثال ذلك: قياس الأرز على البر في تحريم ربا الفضل بجامع: الطعم، أو الكيل، فإن الحكم متفق عليه، وإن اختلف في العِلَّة كما سبق. المذهب الثاني: أنه يشترط في حكم الأصل المقيس عليه: أن يكون متفقا عليه بين الأمَّة، ولا يكفي أن يكون الأصل متفقاً عليه بين الخصمين. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن حكم الأصل إذا لم تجمع عليه كل الأمَّة، فإنه يجوز للخصم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1989 - وهو المعترض -: أن يعلل حكم الأصل بعلَّة قاصرة لا تتعدى إلى الفرع، وإن وافقه المستدل على هذا بطل القياس؛ لعدم وجود المعنى الجامع بين الأصل والفرع. وإن لم يوافقه المستدل على ذلك، بل علل المستدل بعلة أخرى متعدية إلى الفرع: بطل القياس أيضا؛ لأن المعترض قد علل حكم ذلك الأصل بعلة قاصرة، ومنع أن يكون ذلك الشيء الذي أتى به المستدل عِلَّة للأصل. وبيَّن - أي: المعترض - عدم موافقته على أن العِلَّة في حكم الأصل تلك العلَّة المتعدية التي أوردها المستدل، وذكر أَن عِلَّة حكم الأصل هي التي لا تتعدى إلى الفرع. وسموا ذلك بالقياس المركب، وهو: أن يكون الحكم متفقا عليه بين الخصمين، لكن لعلتين مختلفتين، فكل واحد من الخصمين علل الحكم بعلة مخالفة لعلة الآخر، كما في قياس حلي البالغة على حلي الصبية؛ فإن عدم وجوب الزكاة في حلي الصبية متفق عليه بين الخصمين، لكن لعلتين مختلفتين، فإنه عند أحدهما: لعلَّة كونه حليا، وعند الآخر: لعِلَّة كونه ما، للصبية. جوابه: أنا لو عملنا بهذا الشرط، وهو إجماع كل الأُمَّة على حكم الأصل، فإن ذلك يفضي إلى ندرة الأصل وحكمه المقاس عليه، وبالتالي ندرة القياس كله مما يؤدي إلى خلو كثير من الحوادث عن الأحكام. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، كما سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1990 المطلب الخامس عشر حكم القياس على الأصل الثابت عن طريق القياس لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: لا يجوز القياس على أصل ثبت عن طريق القياس. وهو مذهب جمهور العلماء، فلا يجوز قياس الذرة على الأرز الذي هو مقاس على البر. وهذا هو الحق؛ لأن العلَّة الجامعة بين الأصل الثاني - وهو في المثال: البر - والأصل الأول - وهو الأرز - إن كانت موجودة في الفرع وهو: الذرة، فليقم القائس بقياس الفرع - وهو الذرة - على الأصل الثاني - وهو البر - مباشرة؛ لأن ذكر الأصل الأول يكون - حينئذٍ - تطويل من غير فائدة، وغير المفيد عبث يجب رده وعدم اعتباره. وإن كانت العِلَّة الجامعة بين الأصلين - الأصل الأول وهو الأرز، والأصل الثاني وهو البر - غير موجودة في الفرع - وهو الذرة -: لم يجز قياس الذرة على الأصل الأول - وهو الأرز -؛ لأنه قد ظهر أن حكم الأصل الأول - وهو الأرز - قد ثبت بعِلَّة غير موجودة في الفرع، وهذا يبطل القياس؛ لأن من شرط صحة القياس: أن تكون عِلَّة الأصل وعِلَّة الفرع متساويتين. المذهب الثاني: أنه يجوز القياس على أصل ثبت بالقياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1991 وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية، وكثير من الحنابلة، وهو اختيار أبي عبد اللَّه البصري. دليل هذا المذهب: أنه لما ثبت الحكم في الفرع صار أصلاً في نفسه، فجاز أن يستنبط منه عِلَّة، ويقاس عليه غيره كالنص نفسه، ولا فرق. جوابه: إن هذا يؤدي إلى إثبات حكم في الفرع بغير علَّة الأصل، وذلك لا يجوز. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، كما سبق من المثال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1992 المطلب السادس عشر إذا كان حكم الأصل منصوصا عليه وقد اختلف فيه بين الخصمين فهل يجوز القياس عليه؟ لقد بيَّنت فيما سبق: أنه يجوز القياس على حكم الأصل المنصوص عليه، واتفق عليه الخصمان، وبيَّنت أن الحكم الذي اتفق الخصمان عليه يجوز القياس عليه. لكن إذا نص على حكم أصل، ولكن اختلف الخصمان فيه، فهل يجوز القياس عليه؟ لقد اختلف العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز القياس على الأصل وحكمه إذا كان منصوصاً عليه، وإن خالف فيه أحد الخصمين، فلا ينظر إلى خلافه، وقد بيَّنا ذلك فيما سبق. مثاله: قولنا: إن الخنزير إذا ولغ في الإناء، فإنه يغسل ذلك الإناء سبع مرات؛ قياسا على الكلب بجامع: أن كلًّا منهما حيوان نجس. فإن منع الخصم في ولوغ الكلب - أي: فإن خالف الخصم في حكم الأصل - فإن المستدل يرد ويقول: إن غسل الإناء من ولوغ الكلب سبع مرات قد ثبت بالنص.، وهو قوله عليه السلام: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا "، فيصح قياس الخنزير على الكلب، وإن خالف الخصم في الأصل وحكمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1993 لكن صحة هذا مشروطة بأن يكون النص غير شامل للفرع، فإن كان شاملاً للفرع أخذنا حكمه من النص، ولا داعي للقياس. هذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لأن الأصل وحكمه يعتبران من أركان القياس، فإذا خالف أحد في هذا الأصل، فيجوز للمستدل أن يثبته بدليل معتمد كالنص وغيره، وهذا حال جميع أركان القياس إذا خالف في أحدها بعض المعترضين، وليس طريق إثبات حكم الأصل مقصوراً على الاتفاق - فقط -، بل يكفي أي دليل يجعل المجتهد يغلب على ظنه أنه قد أثبت ذلك الحكم، والنص يغلِّب الظن، فيجب أن يثبت به الأصل وحكمه كالإجماع، لأن الفرق بينهما تحكم. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضاً -: إذا كان الأمر كذلك فلماذا لم تجوزوا القياس على ما ثبت بالقياس، مع أن القياس يغلب على الظن أنه عبت للأصل. جوابه: إن الأصل عندنا لا يثبت بالقياس، لذلك لا يجوز القياس على ما ثبت بالقياس، لأن العِلَّة الجامعة بين الأصل الأول والثاني إن كانت موجودة في الفرع، فلَيقم المستدل ويقيسه على الأصل الثاني مباشرة ويكفيه، وإن لم تكن العلَّة موجودة في الفرع لم يصح القياس؛ لأن القياس مبني على وجوَد العِلَّة، وهي هنا ليست كوجودة، لهذا السبب منعنا القياس على ما ثبت بالقياس. المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس على المختلف فيه وإن كان منصوصا عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1994 وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن القياس المختلف فيه بين الخصمين، يؤدي ويفضي إلى الانتقال من مسألة إلى مسألة أخرى، بيان ذلك: أن المستدل إذا قاس على أصل مختلف فيه بين الخصمين، فإن المعترض يمنع ذلك، ويقول: لا أسلم ثبوت ذلك الأصل بذلك النص، فإن أثبت المستدل الأصل بدليل آخر كالمفهوم، أو الإجماع السكوتي، أو نحوهما: جاز للمعترض أن يمنع الاستدلال بذلك، فيكون مختلفاً فيه، وهكذا إن حاول المستدل أن يثبت الأصل بأي دليل عارضه خصمه فيه، فينتقل الكلام من مسألة إلى مسألة أخرى، ويبني الخلاف على الخلاف، وليس أحد الخصمين بأوْلى من الآخر في ذلك، حيث إن كلًّا منهما قد بلغ درجة الاجتهاد. جوابه: إن الأصل وحكمه يثبت بالنص كغيره من أحكام الشريعة كثبوت الأحكام بأخبار الآحاد، والظواهر من النصوص، والمجتهد الذي يثبت حكماً بأي نص يعمل به ويفتي به، ولا يضره مخالفة الخصم وعدم أخذه بذلك النص، فكذلك هنا فإنه يُثبت الأصل وحكمه بأي نصٍ صح عنده ويبني عليه أحكاما أخرى من قياس عليه، ونحو ذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وهو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1995 المطلب السابع عشر هل يُقاس على حكم الأصل الخارج عن قاعدة القياس؟ أو تقول: هل يقاس على حكم الأصل المعدول به عن سنن القياس؟ المراد من ذلك: أن الطريقة المعهودة في القياس الشرعي: كون ذلك الحكم معللاً بعلَّة منصوصة أو مستنبطة، وكون تلك العلَّة موجودة في صور كثيرة، فإذا ورد حكم معدول به عن هذا فهَل يقاس عليه أو لا؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن الأحكام المشروعة أنواع، سأذكرها وأذكر منها الخارج عن قاعدة القياس، وغير الخارج، فأقول: النوع الأول: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يؤخذ من أصول أُخر، ولا يعقل معناها كأعداد الصلوات، وأعداد ركعات كل صلاة، ونصب الزكاة، ولِمَ جُعل الركوع مفرداً، والسجود مثنى؟ فهذا النوع لا يجوز القياس فيه؛ نظراً لعدم وجود العِلَّة التي هي أهم ركن من أركان القياس. وهذا غير خارج عن قاعدة القياس؛ لأنه لم يسبقها عموم قياس يمنع منها، ولا يستثنى عن أصول أخر حتى يسمى بالخارج عن القياس، ولكن بعض العلماء سماه بالخارج عن قاعدة القياس، وهذه التسمية مجاز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1996 النوع الثاني: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير أن يؤخذ ويقتطع من أصول أُخر، وهي معقولة المعنى، لكنها عديمة النظير والمثيل. أي: لا يكون له نظير خارج عما يتناوله الدليل الدال على تلك الأحكام، فهذا لا يقاس عليها؛ نظراً لتعذر الفرع الذي هو ركن من أركان القياس. من أمثلته: رخصة المسح على الخفين؛ فإنه معلل بعسر نزعه في كل وقت، وأن الحاجة ماسة إليه، ولكن لا يساويه في هذا المعنى شيء مما يشبهه من بعض الوجوه كالعمامة والقفازين، فلذلك لم يجز قياس شيء منها عليه، وهذا على مذهب من قال: لا يجوز القياس على الرخص. وكذلك رخصة القصر لعذر السفر، فمانه معلل بالمشقة المخصوصة وهي غير حاصلة في حق غير المسافر، فإن الشقة مناسبة ظاهرة لذلك الحكم، ولا يمكن تعليله بمطلق المشقة، وإلا لوجب ثبوت القصر في حق المريض. وكذلك مشروعية القسامة تجب على من لم يدع عليه ولي الدم القتل، ولا تسقط بها عنهم الدية، ووجبت على عدد مخصوص، وجعل الخيار إلى ولي الدم فيمن يحلف، وهذا لا يوجد في غيره. وهذا غير خارج عن قاعدة القياس، لكن القياس هنا امتنع؛ لعدم وجود الفرع - كما سبق قوله -. ولذلك لا يصح ما يقوله بعض الفقهاء: إن توقيت الإجارة خارج عن قياس الأصول كالبيع والنكاح؛ لأنه ليس جعل أحدهما أصلاً والآخر خارجاً عنه بأوْلى من العكس، بل كل واحد منها أصل بنفسه لانظير له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1997 النوع الثالث: ما شرع من الأحكام على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة والأصول المقررة، ولا يحقل معناه، وهذا النوع لا يقاس عليه؛ نظراً لفقد العِلَّة التي عليها مدار القياس. من أمثلة ذلك: قبول شهادة خزيمة بمفرده لقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من شهد له خزيمة فهو حسبه "، وقوله لأبي بردة: هاني بن نيار الأنصاري - وقد ضحى بالجذع من المعز -: " تجزيك ولن تجزي عن أحد بعدك ". وتسمية هذا النوع بالخارج عن قاعدة القياس تسمية حقيقية؛ حيث إن القاعدة: أن الجذع من المعز لا تجزئ، والقاعدة: أنه لا يقبل في الشهادة إلا شهادة اثنين. النوع الرابع: ما شرع من الأحكام على وجه الاستثناء والاقتطاع عن القواعد العامة، وهو مخالف للأصول المقررة، وهو معقول المعنى. مثل: مشروعية بيع العرايا - وهو بيع الرطب في رؤوس النخل بمثل قدره تمراً عن طريق الخرص - فهذا على خلاف القاعدة وهي: النهي عن بيع المزابنة - وهي: بيع التمر بالتمر - ونعلم أنه لم يشرع ناسخا لبيع المزابنة، بل على وجه الاستثناء والاقتطاع عنها لحاجة الفقراء، فيقاس العنب على الرطب؛ لأنه في معناه. وكذلك: ما شرع من رد المصراة، ورد صاع من التمر معها بدل اللبن الموجود في ضرعها؛ فإن هذا لم يشرع لقاعدة ضمان المثليات بالمثل، والمتقومات بالقيمة، ولكنه على وجه الاستثناء من تلك القاعدة؛ لعِلَّة وهي: الحاجة لذلك؛ حيث إن اللبن الكائن في الضرع لدى البيع اختلط باللبن الحادث بعده، ولا يمكن التمييز الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1998 بينهما، ولا يمكن معوفة القدر الموجود في الضرع عند البيع، وكان الأمر قد تعلق بمطعوم، لذلك خلَّص الشارع المتبايعين من المنازعة والوقوع في ورطة الجهل بالتقدير بصاع من التمر، لاشتراكهما في وصف الطعام، ولتقاربهما في القيمة كما قدر دية الجنين بغرة عبد أو امَة، مع اختلاف الجنين بالذكورة والأنوثة، ولما فهمنا المعنى الذي لأجله شرع الحكم قسنا عليه غيره؛ حيث إنا نقول: لو ردَّ المصراة بعيب آخر غير التصرية رد معها أيضا صاعا من التمر بدل اللبن الموجود في الضرع. وهذا النوع قد اختلف فيه هل يجوز القياس عليه أو لا؟ اختلف في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان: المذهب الأول: أنه يجوز القياس عليه مطلقا وإن كان خارجا عن قاعدة القياس. هو مذهب كثير من الشافعية، والحنابلة، وبعض الحنفية. وهو الحق؛ لأنه حكم شرعي معقول المعنى، مُدرك العلَّة إما عن طريق النص، أو عن طريق الاستنباط، فجاز القياس عليه كالقياس على غيره من الأصول الغير المعدول به عن سنن القياس، والجامع: توفر أركان القياس وشروط كل ركن. المذهب الثاني: أنه لا يجوز القياس عليه. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن القياس على المعدول به عن سنن القياس تكثير لمخالفة الدليل؛ لأن قياس الأصول يقتضي أن يكون حكم المعدول عن سنن القياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 1999 كحكمه، لكن النص أخرجه عنه، فيبقى ما عداه على وفقه، فإخراج غيره عن حكمه تكثير لمخالفته، بخلاف القياس على الأصول الغير المعدول به عن سق القياس؛ فإنه لا يلزم منه مخالفة الدليل. جوابه: إن الشارع إنما يخالف الدليل لمصلحة تزيد على مصلحة ذلك الدليل؛ عملاً بالاستقراء، وتقديم الأرجح، وهو شأن صاحب الشرع، فإذا وجدنا تلك المصلحة التي خولف الدليل لأجلها في صورة أخرى: وجب أن يخالف الدليل بها - أيضا - عملاً برجحانها، فنحن - حينئذٍ - قد أكثرنا موافقة الدليل لا مخالفته. بيان نوع الخلاف: الخلاف في هذا النوع معنوي؛ حيث أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: 1 - أنه على المذهب الأول: يجوز قياس العنب على الرطب، فيجوز بيع العنب بالزبيب، كما جاز بيع الرطب بالتمر. وعلى المذهب الثاني: لا يجوز ذلك. 2 - أنه على المذهب الأول: يجوز القياس على مسألة المصراة بخلاف المذهب الثاني. النوج الخامس: ما شرع من الأحكام ابتداء من غير اقتطاع عن أصول أخر، وهي معقولة المعنى، ولها نظير وفروع. فهذا اتفق القائلون بالقياس على أنه يجري فيه القياس. وهو قسم غير خارج عن قاعدة القياس باعتبار وجه من الوجوه. فهذه الأنواع الخمسة اختلف حكم القياس فيها بسبب اختلاف الأحكام فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2000 المبحث الثاني في الفرع وشروطه وما يتعلق به ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد بالفرع. المطلب الثاني: اشتراط كون العلَّة الموجودة في الفرع مثل علة حكم الأصل من غير تفاوت واختلاف. المطلب الثالث: اشتراط عدم كون حكم الفرع منصوصا عليه أو مجمعاً عليه. المطلب الرابع: اشتراط كون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه أو جنسه. المطلب الخامس: اشتراط عدم تقدم حكم الفرع على حكم الأصل. المطلب السادس: هل يشترط أن تكون العِلَّة في الفرع معلومة قطعا؟ المطلب السابع: هل يشترط في حكم الفرع أن يكون مما ثبت بالنص جملة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2001 المطلب الأول بيان المراد بالفرع لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الفرع هو الحل الذي لم ينص على حكمه كالنبيذ فإنه فرع، والخمر أصل؛ لأن الجميع مسكر. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لأن الفرع هو: المفتقر إلى غيره، والمردود إليه، وهذا إنما يتحقق على الحل وهو النبيذ؛ حيث إنه مقيس على الخمر ومشبه به بوجه شبه وهو: الإسكار، فلولا الخمر لا عرفنا حكم النبيذ. المذهب الثاني: أن الفرع هو: حكم تلك الصورة المقيسة، فيكون الفرع - على هذا - تحريم النبيذ. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن حكم الصورة الثانية متفرج عن العِلَّة، والعلَّة متفرعة عن حكم الصورة الأولى، وفرع الفرع فرع لذلك الأصل، فصح أن يكون حكم الصورة الثانية فرعا. جوابه: إن هذا فيه تكلفا واضحا؛ حيث إن الفرع عند الإطلاق ينصرف إلى الفرع المباشر، لا إلى ما كان فرعا بواسطة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2003 بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ نظراً لصحة إطلاق الفرع على كل من هذين المذهبين، ولا مانع من ذلك؛ لكن إطلاقه على المذهب الثاني فيه بعض التكلف، فيكون الفرع على المذهب الأول أوْلى. فيكون - على هذا - الأصل هو المحل الذي ورد حكمه في الكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع كالخمر، والهرة، والصبي. والفرع هو المحل الذي لم يرد حكمه في كتاب، ولا سُنَّة، ولا إجماع: كالنبيذ، والفأرة، والسفيه، بيان ذلك: أننا لما قسنا النبيذ على الخمر كان عندنا أربعة أركان: الأصل: الخمر، والفرع: النبيذ، والعِلَّة: الإسكار، والحكم: التحريم. ولما قسنا الفأرة على الهرة: كان عندنا أربعة أركان: الأصل: الهرة - الوارد حكمها بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، والفرع: الفأرة، والعلَّة: كثرة التطواف وصعوبة التحرز منها، والحكم: طهارة سؤرَ كل منهما. ولما قسنا السفيه على الصبي كان عندنا أربعة أركان: الأصل: الصبي، حيث أجمع العلماء على أنه يحجر عليه - والفرع: السفيه، والعِلَّة: ضعف التصرف، والحكم: الحجر عليهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2004 المطلب الثاني اشتراط كون العلَّة الموجودة في الفرع مثل علة حكم الأصل من غير تفاوت واختلاف وذلك كالإسكار، فإنه موجود في الخمر، وموجود في النبيذ من غير اختلاف، لذلك ألحقنا النبيذ بالخمر، وكالطعم، فإنه موجود في الأرز وفي البر من غير اختلاف وتفاوت، لذلك قسنا الأرز على البر، والقتل العمد العدوان فإنه موجود في القتك بالمثقل، وموجود في القتل بالمحدد من غير تفاوت، لذلك قسنا القتل بالمثقل على القتل بالمحدد، وهكذا. فإن وجد تفاوت واختلاف فإنا ننظر: إن كان هذا الاختلاف جاء عن طريق نقصان علَّة الفرع عن عِلَّة حكم الأصل كقول بعضهم: تجب الزكاة في مال الصبي؛ قياسا على مال المكلف بجامع: أن كلًّا منهما يملك ماله، فإن هذا لا يصح؛ لأنه قياس مع الفارق؛ حيث إن علَّة حكم الأصل تختلف عن علَّة الفرع؛ حيث إن علَّة الأصل - وهو البالغ -: أنه يملك ماله بالقوة والفعل، أما عِلَّة الفرع فهي: إنه يملك ماله بالقوة فقط. وإن كان هذا الاختلاف جاء عن طريق زيادة عِلَّة الفرع: فإن القياس يصح، بل يكون الفرع أوْلى بالحكم من الأَصل، كما في قياس ضرب الوالدين على التأفيف لهما في التحريم بجامع الإيذاء في كل، فإن الإيذاء في الضرب أشد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2005 المطلب الثالث اشتراط عدم كون حكم الفرع منصوصا عليه أو مجمعا عليه أي: يشترط في الفرع: أن يكون خالياً عن نص من كتاب، أو سُنَّة، أو إجماع يصادم وينافي حكم القياس، فإذا كان النص أو الإجماع يخالف القياس فلا قياس، وإلا لزم تقديم القياس على الحكم الثابت بالنص والإجماع، هذا إذا كان النص أو الإجماع يخالف الحكم الذي ورد به القياس. أما إذا كان يوافق القياس فإنا ننظر: إن كان النص أو الإجماع الدال على ثبوت حكم الفرع بعينه هو الذي دلَّ على حكم الأصل، فالقياس باطل؛ لأن نسبة دلالة النص أو الإجماع على حكنم الفرع وحكم الأصل على السواء، فلا فرق بينهما، فليس جعل تلك الصورة أصلاً، والأخرى فرعا أوْلى من العكس. وإن كان النص أو الإجماع الدال على ثبوت حكم الفرع غير النص أو الإجماع الدال على حكم الأصل: فالقياس جائز عند أكثر العلماء، وهو الحق، لأن ترادف الأدلة على المدلول الواحد جائز؛ لإفادة زيادة الظن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2006 المطلب الرابع اشتراط كون الحكم في الفرع مماثلاً لحكم الأصل في عينه، أو جنسه مثال المماثلة بينهما في العين: قياس القتل بالمثقل على القتل بالمحدد في وجوب القصاص في النفس بجامع: القتل العمد العدوان. فعين الحكم تعدى إلى الفرع، وهو قصاص النفس، فالحكم في الفرع هو الحكم في الأصل بعينه. ومثال المماثلة بينهما في الجنس: قياس ثبوت ولاية النكاح على الثيب الصغيرة بالقياس على إثبات الولاية في مالها بجامع: الصغر: فقد تعدى جنس الولاية في الفرع، وهو جنس تحته ولاية المال، وولاية النفس، لأن ولاية النكاح من جنس ولاية المال، فإنهما سبب لنفاذ التصرف، وليست عينها لاختلاف التصرفين. وهذا الاشتراط واضح في تعريفنا للقياس، حيث قلنا: " إن القياس: إثبات مثل حكم أصل لفرع ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2007 المطلب الخامس اشتراط عدم تقدم حكم الفرع على حكم الأصل يشترط: ألا يكون حكم الفرع متقدما على حكم الأصل مثل: أن يقال: الوضوء شرط للصلاة فتجب فيه النية كالتيمم، ومعلوم أن مشروعية التيمم متأخرة عن مشروعية الوضوء؛ فمشروعية الوضوء كانت قبل الهجرة، ومشروعية التيمم كانت بعد الهجرة في السنة الرابعة، وقيل: في الخامسة. واشترط ذلك: لأن ثبوت حكم الأصل الذي هو وجوب النية في التيمم مقارن لعلته التي هي كونها شرطا في الصلاة، فإذا تقدم حكم الفرع كوجوب النية في الوضوء على حكم الأصل الذي هو وجوب النية في التيمم: لزم تقدمه على عِلَّته المقارنة لحكم الأصل، وهذا لا يصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2008 المطلب السادس هل يشترط أن تكون العِلَّة في الفرع معلومة قطعا؟ لقد اختلف العلماء فى ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك، بل يكفي ظن وجود العِلَّة في الفرع. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ لقوله تعالى: (فاعتبروا) حيث إنه عام، ولم يشترط فيه العلم القطعي، فتخصيصه بالقطعي تخصيص بلا مخصص، وهو باطل، فثبت أنه يدخل فيه العلم والظن. المذهب الثاني: أنه يشترط حصول العلَّة في الفرع معلوما، لا مظنونا. وهو مذهب بعض العلماء. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أنه لا دليل على هذا المذهب، وما لا دليل عليه لا يعول عليه. الجواب الثاني: أن الظن غاية الاجتهاد فيما يقصد به العمل، فإذا حصل ظن كون الحكم معللاً بذلك الوصف، ثم حصل ظن ثبوت ذلك الوصف في الفرع: حصل ظن أن الحكم في الفرع يماثل الحكم في الأصل، والعمل بالظن واجب. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الثاني فإن دائرة القياس تكون أضيق من العمل على المذهب الأول، وقد سبق ذكر ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2009 المطلب السابع هل يشترط في حكم الفرع: أن يكون مما ثبت بالنص جملة؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يشترط ذلك، بل يجوز القياس مطلقا. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لعموم حديث معاذ السابق الذكر؛ حيث قال: " أجتهد رأيي "، فلم يفصل بين ما ثبت حكم الفرع فيه على جهة الإجمال، وبين غيره، وأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على ذلك، فدلَّ على أن القياس لا يشترط فيه تقدم نص مجمل على الفرع. المذهب الثاني: يشترط لصحة القياس: أن يثبت حكم الفرع بالنص على جهة الإجمال. وهو ما ذهب إليه أبو هاشم، حيث نقل عنه أنه يذهب إلى وجوب تناول النصوص لحكم الفرع على جهة الإجمال، والقياس إنما هو للكشف عن مواضعها وانتزاع تفاصيلها، وذلك كميراث الجد مع الإخوة الثابت بنص إجمالي، ثم استعمل القياس لتفصيله، فلولا ورود ميراث الجد لما جاز القياس في توريثه مع الإخوة الدال عليه الإجماع وإطلاق قوله تعالى: (ولأبويه لكل واحد منهما السدس) ، وكذلك القول في سائر الفروع، فاما إثبات فرع لم يتناول حكمه نص على سبيل الجملة فلا يصح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2010 دليل هذا المذهب: أن الصحابة لم تستعمل القياس إلا في فروع قد ورد حكمها بنصوص على سبيل الإجمال، ألا ترى إلى قياسهم الجد على ابن الابن، وقياسهم حد شارب الخمر على حد القاذف في تعيين عدد الجلدات لورود حد القاذف بالنص بخلاف الشارب، وهذا على جهة الإجمال. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ ذلك، بل إنه ثبت بعد تتبع واستقراء ما ورد من الأقيسة التي استعملها الصحابة - رضي اللَّه عنهم - أنهم كانوا يستعملون القياس مطلقاً بدون أن يتقيدوا بهذا الشرط، من ذلك: أنهم استعملوا القياس في الكنايات في الطلاق، ومن ذلك: أنهم قاسوا من قال لزوجته: " أنت عليّ حرام " على الطلاق، وعلى الظهار، وعلى اليمين، وأنهم قاسوا العهد على العقد، وقاسوا الأخوة الأشقاء على الإخوة لأم في المشركة، وقاسوا المفوضة على الزوجة المدخول بها في استحقاق المهر ونحو ذلك، فثبت حكمه ولا نص في الفرع أصلاً لا جملة ولا تفصيلاً. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ لما سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2011 المبحث الثالث في العِلَّة وشروطها وما يتعلق بها ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في تعريف العِلَّة لغة وأسمائها. المطلب الثاني: في تعريف العِلَّة اصطلاحا. المطلب الثالث: في تقسيمات لمعِلَّة. المطلب الرابع: في طرق ثبوت العلَّة " مسالك العِلَّة ". المطلب الخامس: هل يشثرط: أَن تكون العلَّة مناسبة مشتملة على حكمة قصدها الشارع من تَشريعه؟ المطلب السادس: هل يشترط أن تكون العِلَّة ظاهرة جلية، أو يجوز التعليل بالوصف الخفي؟ المطلب السابع: حكم التعليل بالحكم الشرعي. المطلب الثامن: بيان أنه يشترط في العِلَّة: أن لا تخالف نصا ولا إجماعا. المطلب التاسع: حكم التعليل بالحكمة. المطلب العاشر: هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي وتعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، وتعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي، وتعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2013 المطلب الحادي عشر: حكم التعليل بالوصف المركب. المطلب الثاني عشر: حكم التعليل بأكثر من علة " تعدد العلل ". المطلب الثالث عشر: حكم تعليل حكمين أو أحكام بعلة واحدة. المطلب الرابع عشر: هل الطرد دليل على صحة العِلَّة؟ المطلب الخامس عشر: في بيان أنه يشترط في الوصف المستنبط المعلل به: أن لا يرجع على الأصل بإبطاله. المطلب السادس عشر: حكم التعليل بالاسم الجرد. المطلب السابع عشر: حكم التعليل بالوصف العرفي. المطلب الثامن عشر: هل يجوز التعليل بالعِلَّة القاصرة؟ المطلب التاسع عشر: بيان أنه يشترط في العِلَّة أن لا تكون معارضة بعلة أخرى. المطلب العشرون: تخصيص العِلَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2014 المطلب الأول في تعريف العِلَّة لغة، وأسمائها العَلة - بفتح العين - هي: الضرة، وهي الزوجة الثانية، وسميت هذه بالضرة؛ لأنها تعل بعد صاحبتها من العلل الذي يعنى بها الشربة الثانية عند سقي الإبل، والأولى منهما تسمى النهل. أما العِلَّة - بكسر العين - فإنها تأتي بمعنى المرض، يقال: اعتل العليل علة صعبة. ولهذا سميت العلَّة في القياس بهذا الاسم؛ لأنها معنى يحل بالمحل فيتغير به حال المحل بلا اختيار، ومنه سمي المرض عِلَّة - كما قلنا -؛ لأن المرض إذا حل بشخص تغيرت حاله من النشاط إلى الضعف، ومن الصحة إلى السقم، ومن الفتوة إلى الوهن. وتسمى العِلَّة بالمناط، أي: مناظ الحكم، وهو متعلق الحكم من ناط، ينوط، نوطاً، أي علَّق، يُعلِّق، تعليقا. فمناط الحكم: إذا أضاف الشرع الحكم إليه، وناطه به، ونصبه علامة عليه، فحكم الفرع متعلق بتلك العلَّة: إن وجدت عِلَّة حكم الأصل في الفرع: وجد مثل حكم الأصل للفرع، وإن انتفَت العِلَّة انتفى الحكم. وتسمى العِلَّة: بالوصف المناسب الجامع بين الأصل والفرع. وتسمى العِلَّة بالمعنى الذي لأجله شرع الحكم. وتأتي بمعنى السبب، ولعل هذا هو المناسب للمعنى الاصطلاحي؛ لأن العلة سبب في ثبوت الحكم في الفرع المطلوب إثبات الحكم له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2015 المطلب الثاني في تعريف العِلَّة اصطلاحا لقد عرفت العلَّة بتعريفات كثيرة، وأقربها إلى الصحة هو: الوصف المعرِّف للحَكم. الوصف معنى قائم بالموصوف. وينبغي أن يكون هذا الوصف: وصفا ظاهراً منضبطا مجاوزاً فشتملاً على معنى مناسب للحكم. والمراد بالظاهر: ما كان من أفعال الجوارح كشرب الخمر علة للحلد، والسرقة علة للقطع، والقتل العمد العدوان علة للقصاص، وهكذا. وقيدنا الوصف بكونه ظاهراً لتخرج الصفات غير الظاهرة كالصفات الخفية كالرضى والسخط، كأن يعلل ثبوت البيع برضى العاقدين، فهذا لا يجوز؛ لأنه وصف خفي غير ظاهر: حيث إن الوصف المعلل به يكون معرفا للحكم الشرعي، والخفي لا يصلح أن يكون معرفاً؛ نظراً لخفائه، فهو محتاج إلى التعريف. اعتراض: قال قائل - معترضا -: إن الوصف الخفي يجوز التعليل به، فالوصف وإن كان خفيا، لكنه بدلالة الصيغ الظاهرة عليه كدلالة الإيجاب والقبول على الرضى: يكون من الأوصاف الظاهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2016 جوابه: التعليل بالوصف الخفي وإن صح في بعض الأحكام؛ لقرينة، لكنه لا يصح في جميع الأحكام؛ لذلك يحصل اختلاف بين حكم وحكم، بخلاف الوصف الظاهر فلا يحصل فيه ذلك. وقيدنا الوصف بكونه منضبطا لبيان أن الوصف المعلل به ينبغي أن يكون مستقراً على حالة واحدة لا يختلف باختلاف الأشخاص، ولا الأزمان، ولا الأحوال: فالسفر ثلاثة فراسخ علة إباحة الفطر في رمضان مطلقاً، أي: لجميع الأشخاص المكلَّفين كبيراً أو صغيراً، يتحمل المشاق أو لا يتحمل في صيف أو شتاء، في حالة مرض أو حالة صحة وفتوة. فيخرج بذلك الوصف غير المنضبط كالمشقة، فإنها غير منضبطة؛ حيث إنها تختلف باختلاف الأزمان، والأشخاص، والأحوال، فلو عللنا إباحة الإفطار في رمضان بالمشقة لوقع اضطراب واختلاف بين الأشخاص والأزمان، فتجد بعض الناس يباح له الإفطار؛ لأنه يجد مشقة، وتجد آخر لا يفطر؛ لأنه لا يجد تلك المشقة التي وجدها الآخر، ولأبيح الإفطار في الشتاء دون الصيف أو العكس، وتجد من ركب الراحلة لا يباح له الإفطار؛ حيث إن السفر عليه أيسر، بينما الذي لا يملك الراحلة يباح له ذلك. إذن لا بد من اشتراط الانضباط في الوصف حتى يتحد الناس في الحكم وتسود العدالة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية. وقيدنا الوصف بكونه مجاوزاً؛ لبيان أن هذا الوصف ينبغي أن يكون موجوداً في غير محل الحكمْ كالطعم: فإنه موجود في البر الذي هو محل الحكم، وموجود في غيره كالأرز والذرة، ومثل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2017 القتل العمد العدوان: فإنه موجود في القتل بالحدد، وموجود في غيره كالقتل بالمثقل، ويُسمَّى ذلك الوصف " علة متعدية ". وخرج بذلك العلَّة القاصرة - وهي التي توجد في محل الحكم ولا توجد في غيره - كالسفر الذي هو علَّة إباحة الفطر في رمضان، والنقدية في الذهب والفضة؛ حيث إنهمَا وصفان لا يوجدان في غير السفر، وغير الذهب والفضة. وقيدنا الوصف بكونه مشتملاً على معنى مناسب للحكم لبيان أن هذا الوصف ينبغي أن يكون مشتملاً على الحكمة التي من أجلها شرع الحكم، فلا يجوز تعليل حكم بعِلَّة لا تناسب الحكم. وقولنا: " المعرِّف " معناه: أن يكون هذا الوصف دالًّا على وجود الحكم في محله، وأنه شُرع لهذا المعين. وخرج بذلك الشرط؛ لأنه ليس معرِّفا للمشروط؛ حيث إنه يصح وجود الشرط بدون وجود المشروط كالطهارة، فإنها شرط للصلاة، لكن قد توجد الطهارة، ولا توجد الصلاة، بخلاف العلَّة فإنها لا يمكن أن توجد بدون المعلول، فإنه كلما وجدت السرقة وجد القطع، وكلما وجد الزنى وجد الجلد أو الرجم، وكلما وجد القتل العمد العدوان وجد القصاص، وهكذا. والمراد بلفظ " الحكم ": الحكم الشرعي، أي: أن هذا الوصف قد عرفنا بالحكم الشرعي. وهذا احتراز عن الوصف المعرف لنقيض الحكم وهو: المانع. اعتراض على هذا التعريف: لقد قال قائل - معترضا -: إنه يلزم من هذا التعريف: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2018 أنه لا فرق بين العلَّة والعلامة؛ حيث إنه يصدق على العلامة: أنها معرفة للحكم، وَهي ليست عِلَّة، مما يجعلنا أن نقول: إن التعريف غير مانع من دخول العلامة فيه. جوابه: إن الأحكام تضاف إلى عللها، لا إلى علاماتها، فالقصاص مضاف إلى علَّته وهي: القتل العمد العدوان، والرجم مضاف إلى علَّته وهي: الزنى، ولا يضاف الحكم إلى العلامة، فالرجم لا يضَاف إلى الإحصان، لأنه علامته، بل يضاف إلى الزنى. تنبيه: لقد سبق في المسألة الرابعة من المطلب الأول من المبحث الرابع من الفصل الرابع من الباب الثاني ذكر تعريفات العلماء للعلَّة، وبيان أن الخلاف بينهم في تعريفها لفظي أثناء بحثنا للسبب من الحكم الوضعي، فلا داعي لإعادته فراجعه من هناك. وقد بينت ذلك بالتفصيل في كتابي " الخلاف اللفظي عند الأصوليين " فراجعه فهو مطبوع متداول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2019 المطلب الثالث في تقسيمات العِلَّة تنقسم العِلَّة إلى عدة تقسيمات باعتبارت وحيثيات مختلفة هي كما يلي: التقسيم الأول: العلَّة تنقسم من حيث هي إلى قسمين: القسم الأول: العلًّة الشرعية وهي: التي تصير علة بجعل جاعل مثل: المكيل في البر، فإن المكيل موجود في البر قبل مجيء الشرع، لكن الشارع عده عِلَّة لتحريم ربا الفضل، والإسكار في الخمر، حيث إن الإسكار موجود في الخمر قبل مجيء الشرع، ولكن الشارع عده عِلَّة لتحريم الخمر، وهكذا. القسم الثاني: العِلَّة العقلية وهي: التي لا تصير عِلَّة بجعل جاعل، بل بنفسها مثل: الحركة من المتحرك، فإن الحركة علة على كون المتحرك متحركاً من جهة العقل. التقسيم الثاني: العِلَّة تنقسم من حيث ثبوتها إلى قسمين: القسم الأول: العِلَّة المنصوصة وهي: ما ثبتت بالنص. أي: ما نص الشارع عليها نصا صريحاً كقوله تعالى: (لئلا يكون للناس على اللَّه حجة) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر "، أو ما نص الشارع عليها نصا غير صريح كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2020 القسم الثاني: العِلَّة المستنبطة، وهي ما ثبتت باجتهاد المجتهدين كتعليل تحريم الخمر بالإسكار، وتعليل وجوب القصاص على القاتل بالمحدد بالقتل العمد العدوان، وهكذا. وهذان القسمان سيأتي التفصيل فيهما في مسالك العِلَّة إن شاء الله تعالى. التقسيم الثالث: العِلَّة تنقسم من حيث تعديها وعدم ذلك إلى قسمين: القسم الأول: العِلَّة المتعدية وهي: العلة التي توجد في محال وفروع غير المحل المنصوص عليه كالإسكار يوجد في الأصل وهو الخمر، ويوجد في غيره كالنبيذ وأي مسكر، والمكيل يوجد في الأصل وهو البر، ويوجد في غيره كالأرز والذرة. القسم الثاني: العِلَّة القاصرة وهي: العِلَّة التي لا توجد إلا في المحل المنصوص عليه، فلا تتجاوزه إلى غيره مثل: السفر؛ حيث إنه عِلَّة لقصر الصلاة، ولا يوجد في غيره، وكذلك الثمنية أو جوهرية الثمن؛ حيث إنه عِلَّة لتحريم الربا في النقدين، فإن هذا الوصف قاصر على النقدين فقط. التقسيم الرابع: العِلَّة تنقسم من حيث لزوم الوصف أو عدم ذلك إلى قسمين: القسم الأول: الوصف اللازم، وهو: الوصف المعلل به الذي يكون لازما للموصوف لا ينفك عنه مثل: كون البر مطعوما، فإنه يُعلل به تحريم ربا الفضل في البر، والطعم لازم للموصوف لا ينفك عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2021 القسم الثاني: الوصف غير اللازم، وهو: الوصف غير اللازم للموصوف، أي: ينفك عنه، وهو نوعان: الأول: الوصف الأصلي وهو: ما ثبت بمقتضى الخلقة والطبيعة كالتعليل بوصف البكارة في جواز إجبار البكر على الزواج. الثاني: الوصف الطارئ: كانقلاب العصير خمراً، وإمكان زوال ذلك. التقسيم الخامس: العِلَّة تنقسم من حيث توقف معلولها على شرط وعدم ذلك إلى قسمين: القسم الأول: العلَّة المتوقفة على حصول شرط كقولنا: الزنا علَّة للرجم، لكن هذا الرجم لا يمكن إلا إذا توفر شرط وهو: كون الزاني محصنا، فالإحصان شرط لرجم الزاني. القسم الثاني: العلَّة غير المتوقفة على حصول شرط كقولنا: الزنا عِلَّة للجلد، فإن هَذا الجلد يحصل من غير أن يتوقف على شرط الإحصان. التقسيم السادس: العلَّة تنقسم من حيث الدفع والرفع بها إلى أربعة أقسام: القسم الأول: الوصف اِلدافع للحكم والرافع له مثل: الرضاع، فإنه يدفع حل النكَاح، ويرفع النكاح إذا طرأ عليه. القسم الثاني: الوصف الرافع للحكم، وغير الدافع له، مثل: الطلاق، فإنه يرفع حل الاستمتاع.، ولكنه لا يدفعه؛ نظراً لجواز النكاح بعده؛ حيث لا يكون الطلاق مانعا من وقوع نكاح جديد. القسم الثالث: الوصف الدافع للحكم، وغير الرافع له مثل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2022 العدة، فإنها تدفع النكاح اللاحق؛ حيث إن العدة تمنع النكاح من غير الزوج، ولكنها لا ترفع النكاح السابق فهو موجود. القسم الرابع: الوصف غير الدافع للحكم، وغير الرافع له، وهذا لا دخل له هنا؛ لأنَّ الدفع والرفع خاصان بالوصف المانع. التقسيم السابع: العِلَّة تنقسم من حيث كونها مع الحكم ثبوتية، أو عدمية تنقسم إلى أربعة أقسام: القسم الأول: العلة الثبوتية والحكم الثبوتي كإثبات الطعم علَّة لثبوت تحريم الربا في البر. القسم الثاني: العِلَّة العدمية، والحكم العدمي كقولنا: عدم الرضا عِلَّة لعدم صحة اَلبيع. القسم الثالث: العلَّة العدمية، والحكم الثبوتي كقولنا: عدم الفسخ في زمن الخيار عِلَّة لثبوت واستقرار الملك. القسم الرابع: العلَّة الثبوتية، والحكم العدمي كقولنا: ثبوت الدين عِلَّة لعدم وجوبَ الزكاة. التقسيم الثامن: العِلَّة من حيث نسبتها إلى المكلف وعدم ذلك تنقسم إلى قسمين: القسم الأول: عِلَّة من فعل المعَلف كقولنا: شرب الخمر عِلَّة لوجوب الحد، فإن الشرب فعل المكلف. القسم الثاني: عِلَّة ليست من فعل المكلف كقولنا: البكارة عِلَّة في ثبوت ولاية الإجبَار في النكاح. التقسيم التاسع: العِلَّة من حيث تعدد أوصافها، وعدم ذلك تنقسم إلى قسمين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2023 القسم الأول: العِلَّة ذات الوصف الواحد كقولنا: الإسكار عِلَّة لتحريم الخمر. القسم الثاني: العِلَّة ذات الأوصاف المتعددة، كقولنا: القتل العمد العدوان عِلَّة لوجوب القصاص. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2024 المطلب الرابع في طرق ثبوت العِلَّة " مسالك العِلَّة " علة حكم الأصل تثبت بطرق ومسالك كثيرة، وهي تنقسم إلى قسمين:. القسم الأول: إثبات العِلَّة عن طريق النقل. القسم الثاني: إثبات العِلَّة عن طريق الاجتهاد. وإليك بيان كل قشم مع الأمثلة فأقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2025 القسم الأول إثبات العلَّة عن طريق النقل " مسالَك العِلَّة النقلية " ويشتمل على ما يلي: الطريق الأول: النص الصريح. الطريق الثاني: النص الظاهر. الطريق الثالث: الإجماع. وفيما يلي بيان كل طريق فأقول: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2026 الطريق الأول: النص الصريح المثبت للعلية: وهو: ما وضع للتعليل من غير احتمال، فيكون قاطعا في تأثيره. أي: ما صرح فيه الشارع بكون الوصف علَّة أو سببا للحكم، فيقول - مثلاً -: " اقطعوا يد السارق؛ لعلةَ كذا "، أو " لسبب كذا "، أو " لموجب كذا "، أو " لأجل كذا "، أو " من أجل كذا"، أو " لمؤثر كذا ". ومن أمثلته: قولك: " اقطعوا يد السارق؛ لعلة سرقته، أو لسبب سرقته ". ومنه قوله تعالى: (من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " إنما جعل الاستئذان من أجل البصر"، وقوله: " إنما نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي من أجل الدافة ". والخلاصة: أن أي صيغة موضوعة للتعليل، ولا تحتمل غيره تعد من قبيل النص الصريح في التعليل. شرط التعليل بالنص الصريح: يشترط في صيغ النص الصريح في العلية: أن لا يقوم دليل يدل على أنه لم يقصد بها التعليل. فإن قام دليل على أن المتكلم لم يقصد التعليل الحقيقي فلا تكون صيغة للتعليل كما لو قلنا لشخص: لِمَ فعلت كذا؛ فقال: لأجل إني أردت، فإن هذه الصيغة وإن كانت صريحة في التعليل إلا أنها ملغاة، حيث إن قرينة الحال هنا تنبي إلى أنه لم يقصد التعليل، ولهذا يقال: إنه استعمل اللفظ في غير محله، فيكون مجازاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2027 الطريق الثاني: النص الظاهر المثبت للعلية: والمراد به: ما لا يكون فاطعا في تأثيره، فيكون يحتمل التعليل ويحتمل غيره، ولكن التعليل به أرجح. وألفاظ النص الظاهر في العلية هي كما يلي: 1 - لفظ " كي "، سواء كانت مجردة عن " لا "، كقوله تعالى: (كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا) أو كانت مقرونة بها كقوله تعالى: (كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) . ويشترط فيها: أن تكون بمنزلة لام التعليل معنى وعملاً. وبعضهم جعلها من النص الصريح. 2 - لفظ " اللام "، كقوله تعالى: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ) ، وقوله: (ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ) . 3 - لفظ " أنْ " بفتح الهمزة، وتخفيف النون، ومنه قوله تعالى: (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا) ، ومنه قولك: "جئت أن أعطى " أي: للإعطاء. 4 - لفظ " إنْ " بكسر الهمزة، وتخفيف النون، وهي الشرطية، والشروط اللغوية أسباب كقولك: " إن تقم أقم معك " يعني: علة قيامي هي: قيامك. 5 - لفظ " أنَّ " بفتح الهمزة وتشديد النون كقوله تعالى: (وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ) ، ودخلها التعليل بسبب تقدير لام العِلَّة، والمراد: لئلا يرجعون. 6 - لفظ " إن" بكسر الهمزة، وتشديد النون، ومنه قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2028 تعالى: (إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ) ، وقوله: (وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات "، وقوله في المحرم الذي وقصته ناقته فمات: " اغسلوه بماء وسدر وكفنوه في ثوبيه ولا تخمروا رأسه، فإن اللَّه يبعثه يوم القيامة ملبياً ". و" أنَّ "، و " إنَّ " تكونان من ألفاظ النص الظاهر في العلية، سواء دخلت عليهما الفاء أو لا، فيقال: " فأنَّ " أو " فإنَّ ". 7 - لفظ " الباء " كقوله تعالى: (إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل) ، وقوله: (ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله) ، وقوله: (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم) . والباء تأتي للتعليل إذا كانت سببية، وهي التي تصلح في الغالب أن تحل اللام محلها. 8 - لفظ " إذ " بكسر الهمزة، وسكون الذال، كقوله تعالى: (ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون) أي: لأجل ظلمكم في الدنيا، وهي بمنزلة اللام، ومنهم من قال: إنها للتعليل، ولكن هذا التعليل لم يستفد من لفظها، ولكنه مستفاد من المعنى. وقال بعض العلماء: إنها لا تكون - للتعليل، ومعنى الآية هنا: إذ ثبت ظلمكم. 9 - لفظ " الفاء " التي بمعنى السببية، ومثالها في النفي المحض قوله تعالى: (لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا) ، ومثالها في الطلب المحض قوله تعالى: (يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا) . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2029 وبعضهم منع أن تكون الفاء للتعليل. 10 - لفظ " لعل "، ومنه قوله تعالى: (اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون) ، وهو مذهب الكوفيين. وبعضهم منع أن تكون " لعل " تفيد التعليل. 11 - لفظ " حتى " المرادفة للفظ " كي " كقوله تعالى: (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم) ، ومنه قولك: " راجع دروسك حتى تنجح "، ومنه قوله تعالى: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم) ، وقوله تعالى: (وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة) . ولفظ " حتى " تحتمل أن تكون للاستثناء، ومنه قوله تعالى: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) . 12 - ذكر المفعول له كقوله تعالى: (لأمسكتم خشية الإنفاق) ، وقوله: (يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت) . 13 - لفظ " إذن "، ومنه قوله تعالى: (إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ) . والخلاصة: أن أي لفظ يحتمل التعليل، ويحتمل غيره احتمالاً مرجوحاً، أو أخذ التعليل من معنى النص لا من لفظه: فهو من قبيل النص الظاهر المثبت للعلية. *** الطريق الثالث: الإجماع المثبت للعلية: والمراد به: اتفاق مجتهدي العصر على أن هذا الوصف المعين علَّة للحكم المعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2030 ومن أمثلة العِلَّة المجمع عليها: أن البكر الصغيرة يولى عليها، والعِلَّة هي: الصغر اتفاقا، ويقاس عليها الثيب الصغيرة في وجوب التولية عليها بجامع: الصغر. مثال آخر.: أن الأخ الشقيق مقدم في الإرث على الأخ لأب، والعلَّة هي: امتزاج النسبين: نسب الأم ونسب الأب واختلاطهما إجماعا. ويقاس على ذلك: تقديم الأخ الشقيق على الأخ لأب في ولاية النكاح، وتحمل العاقلة بجامع: امتزاج النسبين. مثال ثالث: أن الغاصب يضمن ما أتلف من مال، والعلَّة: كون التالف مالاً قد تلف تحت اليد العادية إجماعا. فيقاس على ذلك: السارق، فإنه يضمن ما أتلف - وإن قطعت يده - والعِلَّة: أنه مال تلف تحت اليد العادية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2031 القسم الثاني من أقسام طرق ثبوت العلَّة: ثبوت العلَّة عن طريق الاجتهاد " مسالكَ العِلَّة الاجتهادية " ويشتمل على ما يلي: الطريق الأول: الإيماء إلى العِلَّة. الطريق الثاني: المناسبة والإخالة. الطريق الثالث: السبر والتقسيم. الطريق الرابع: تنقيح المناط. الطريق الخا مس: الدوران. الطريق السادس: الوصف الشبهي " الشبه ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2033 الطريق الأول في الإيماء إلى العِلَّة ويشتمل على بيان الإيماء وهو التمهيد، وبيان أنواعه: أما التمهيد فهو في تعريف الإيماء، والفرق بينه وبين النص والظاهر على العلة. أما الأنواع فهي: النوع الأول: أن يذكر الوصف، ثم يذكر الحكم بعده، وهو مقترن بالفاء. النوع الثاني: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط. النوع الثالث: أن يذكر الشارع حكما بعد سؤال سائل مباشرة. النوع الرابع: أن يذكر الشارع وصفا مع حكم لو لم يكن الحكم معللاً به لما كان لذكره فائدة. النوع الخامس: أن يفرق الشارع بين أمرين بذكر صفة تشعر بأنها هي علة التفرقة في الحكم. النوع السادس: أن يأتي أمر الشارع أو نهيه في شيء ما، ثم يذكر في أثنائه شيئاً آخر لو لم يقدر كونه علة لم يكن له تعلق بأول الكلام ولا بآخره. النوع السابع: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن يكون علة لذلك الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2035 التمهيد في تعريف الإيماء والفرق بينه وبين النص والظاهر على العِلَّة أولاً: الإيماء لغة هو: بمعنى الإشارة، مأخوذ من " وما إليه " "يمأ"، و " - مئا "، ويأتي الإيماء بمعنى الإشارة بالرأس، أو باليد. وبعضهم يطلق على ذلك: " الإيماء والتنبيه "، وهما لفظان متقاربان في المعنى لغة. ثانيا: الإيماء اصطلاحا هو: اقتران وصف بحكم لو لم يكن هو أو نظيره للتعليل لكان بعيداً، فيحمل على التعليل؛ دفعا للاستبعاد. ويراد به: أن يكون التعليل مفهوما من لازم مدلول اللفظ وضعا. والفرق بينه وبين النص الصريح والظاهر على العلية: أن النص الصريح على العلية يشترط فيه: أن يكون اللفظ موضوعا للتعليل، ولا يحتمل غيره. والنص الظاهر على العلية يشترط فيه: أن يترجح أن اللفظ موضوعا للتعليل مع احتمال غيره. أما الإيماء إلى العِلَّة فهو: أن اللفظ فيه لا يكون موضوعا للتعليل، وإنما يفهم التعليل منه من السياق، أو القرائن اللفظية الأخرى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2037 النوع الأول - من أنواع الإيماء -: أن يذكر الوصف ثم يذكر الحكم بعده وهو مقترن بالفاء: أولاً: بيان ذلك با لأمثلة والدليل: ومن الأمثلة: قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا) ، وقوله: (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ) وقوله؛ (قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض) ، وقوله عليه الصلاة والسلام: " من بدل دينه فاقتلوه "، وقوله: " من أحيا أرضا ميتة فهي له ". فإن في هذه الأمثلة دلالة على أن الوصف المتقدم - وهو السرقة، والزنى، والأذى، وتبديل الدين، وإحياء الأرض - علَّة للحكم وهو: وجوب القطع، والجلد، والاعتزال، والقتل، وتمليك الأرض. ودليل ذلك: أن الفاء ظاهرة في أنها للتعقيب، ولهذا فإنه لو قيل: " جاء زيد فعمرو "، فإن ذلك يدل على مجيء عمرو عقيب زيد من غير مهلة، فكذلك هنا فإن ذكر الحكم وهو مقترن بالفاء بعد وصف مباشرة يلزم منه أمران: أولهما: ثبوت الحكم عقيب ذلك الوصف من غير مهلة. ثانيهما: السببية؛ لأنه لا معنى لكون الوصف سببا إلا ما ثبت الحكم عقيبه وبعده مباشرة. وليس ذلك قطعا، بل ثبت ذلك بالاجتهاد؛ لأن الفاء في اللغة ترد بمعنى الواو في إرادة الجمع المطلق، وقد ترد بمعنى " ثم " في إرادة التأخير مع المهلة، غير أنها ظاهرة في التعقيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2038 ثانيا: هل تشترط المناسبة للوصف المومأ إليه؟ لقد اختلف العلماء في الحكم المترتب على الوصف هل يشترط لإشعاره بكون الوصف عِلَّة: أن يكون الوصف مناسباً لذلك الحكم، أو لا يشترط ذلك؛ على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا تشترط المناسبة للحكم. أي: أن ذكر الوصف أولا، ثم ذكر الحكم بعده، وهو مقرون بالفاء يدل على أن ذلك الوصف سبب وعلَّة لذلك الحكم مطلقا، أي: سواء كان ذلك الوصف مناسباً للحكم، كقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، وما ذكر معه من الأمثلة، أو لم يكن مناسباً للحكم كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من مس ذكره فليتوضأ "، فإن عِلَّة وجوب الوضوء هي: مس الذكر، وإن لم نعلم مناسبة هذا الوصف لذلك الحكم. وهذا هو مذهب الغزالي، وفخر الدين الرازي، وابن الحاجب، وصفي الدين الهندي، وهو الحق؛ لأنا لو قلنا: إن الوصف المومأ إليه الخالي عن المناسبة لا يصلح أن يكون عِلَّة للحكم، فإنه يلزم على هذا القول أحد أمرين هما: الأمر الأول: إما أن لا يكون للحكم عِلَّة أصلاً. الأمر الثاني: إما أن تكون له عِلَّة أخرى غير ذلك الوصف. أط الأمر الأول - وهو: أن لا يكون للحكم عِلَّة أصلاً - فهو باطل لوجهين: الأول: أن الحكم بدون العِلَّة والحكمة عبث، والعبث محال على الله سبحانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2039 الوجه الثاني: أن الحكم مع عِلَّته أكثر فائدة مما إذا لم يكن كذلك، ومما لا شك فيه أن حمل تصرفات الشارع على ما هو أكثر فائدة أوْلى وأليق، لا سيما إذا علمنا أن الغالب في تصرفات الشارع أن تكون على وفق تصرفات العقلاء والعرف. أما الأمر الثاني - وهو: أن تكون له علَّة أخرى غير ذلك الوصف فهو باطل - أيضا -؛ لأن ذلك الغيرَ معدوم، والأصل بقاء ما كان على ما كان. وعلى هذا: فإنه يتعين ذلك الوصف الخالي عن المناسبة علَّة للحكم. المذهب الثاني: أنه تشترط المناسبة للحكم. أي: أن الوصف المذكور قبل الحكم المقرون بالفاء لا يدل على العلية إلا إذا كان مناسبا لذلك الحكم، وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه قد استقبح عرفا أن يقال: " أكرموا الجهال "، وهذا الاستقباح إنما جاء من أن الجهل مانع من الإكرام، فالأمر بإكرام الجاهل إثبات للحكم مع قيام المانع وهو: الجهل، إذن لا بد أن يكون الوصف الدال على العلية مناسبا للحكم. جوابه: إن الجاهل قد يستحق الإكرام بسبب جهة أخرى غير جهله، كان يكون ذلك لكرمه، أو لشجاعته، أو لنسبه، فيتضح أن الجهل لا يكون مانعا من الإكرام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2040 ثالثاً: بيان أن كلام الراوي مثل كلام الشارع في ذلك: قول الراوي: " سهى رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - فسجد"، وقوله: "رض يهودي رأس جارية فأمر به رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أن يرض رأسه بين حجرين "، وقوله: " زنا ماعز فرجم "، فإن هذا القول مثل كلام الشارع - السابق الذكر -. أي: أن الراوي إذا ذكر وصفاً ثم ذكر بعده حكما مقروناً بالفاء، فإنه يُفهم أن ذلك الوصف سبب وعِلَّة لذلك الحكم. ففي الأمثلة السابقة: يكون السهو هو علَّة وسبب السجود، ويكون رض اليهودي رأس الجارية هو سببَ وعلَّة رض رأسه بين حجرين، ويكون الزنا هو سبب رجم ماعز، وهكذا في جميع الأمثلة المماثلة لذلك، كما قلنا فيما صدر من الشارع من غير فرق، إلا أن كلام الشارع - سواء كان من اللَّه أو من رسوله - أقوى في الدلالة على العلية والسببية من كلام الراوي؛ لأن كلام الشارع لا يتطرق إليه من الخلل والزلل والخطأ الذي يمكن أن يتطرق لكلام الراوي. أدلة ذلك: لقد دلَّ على أن كلام الراوي مثل كلام الشارع في فهم السببية والعلية أدلة من أهمها: الدليل الأول: أن الراوي وهو الصحابي الذي شهد له اللَّه تعالى ورسوله بالعدالة، وبذل النفس والنفيس لإعلاء كلمة اللَّه لا يمكن أن يُعبر بلفظ يفهم السببية والعلية إلا إذا كان الأمر كذلك حقيقة، ذلك لأنه يعلم - تمام العلم - أنه لو عبر بهذا اللفظ الذي يفهم السببية وهو ليس كذلك، فإنه يكون ملبساً ومدلسا في دين اللَّه، ويعم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2041 فساده؛ لأن هذه الشريعة عامة وشاملة لجميع المكلفين إلى قيام الساعة، وهذا كله يتنزه عنه الصحابى الذي اختاره اللَّه لصحبة نبيه، ولنقل الشريعة كما هي إلى من بعده. الدليل الثاني: أن الصحابي لا يمكن أن يعبر بلفظ يفهم السببية والعلية إلا إذا كان كذلك بحكم كونه من فصحاء العرب، وكونه عارفاً: لمواقع الكلام، ومجاري اللغة، وعالما بدلالات الألفاظ واشتقاقاتها، وأساليبها. رابعا: هل يشترط الفقه في الراوي الذي فهمنا من كلامه السببية أو لا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يشترط في الراوي: أن يكون فقيهاً. أي: أن الراوي الفقيه إذا ذكر وصفا ثم ذكر بعده حكما مقرونا بالفاء، فإنه يفهم أن ذلك الوصف سبب وعلة لذلك الحكم. وهو مذهب أكثر العلماء. وهو الحق؛ لأن احتمال الخطأ والوهم في كلام الراوي غير الفقيه أقوى من احتماله في كلام الراوي الفقيه. المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك، فالراوي إذا ذكر وصفا، ثم ذكر بعده حكما مقرونا بالفاء، فإنه يفهم أن ذلك الوصف سبب وعلة لذلك الحكم مطلقا، أي: سواء كان الراوي فقيها، أو غير فقيه. وهو مذهب بعض العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2042 دليل هذا المذهب: أن التعبير بلفظ يفهم منه السببية والعلية لا يقتبس من الفقه، ولكنه يستفاد من اللغة ودلالات الألفاظ، لذلك اشتراط الفقه من الراوي لامعنى له. جوابه: أن الراوي لو نقل إلينا نص اللَّه تعالى، أو نص رسوله - صلى الله عليه وسلم - فنحن نوافقكم على هذا. أما إذا رأى عملأ عمله رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، وأراد أن يعبر عنه بلفظه وأسلوبه الخاص، فلا بد أن يكون عالما ومدققا بدلالات الألفاظ - كما قلتم - وعالماً بفقه الأحكام ومقاصد الأفعال، ومراد الشارع من كلامه وفعله. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ فبناء على المذهب الأول: فإن كلام الراوي الفقيه في ذلك يفيد السببية والعلية بدون قرائن أخرى، أما كلام الراوي غير الفقيه فإنه لا يفهم السببية والعلية إلا بواسطة قرائن أخرى، وبناء على المذهب الثاني: فإن كلام الراوي يفيد السببية مطلقا وبدون قرائن. *** النوع الثاني - من أنواع الإيماء -: ترتيب الحكم على الوصف بصيغة الجزاء والشرط: فإذا وردت أداة من أدوات الشرط، فإن فعل الشرط يكون وصفا وعلة، وجواب الشرط يكون هو الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2043 ومن أمثلته: قوله تعالى: (ومن يتق الله يجعل له مخرجا) . فورود الوصف وهو تقوى اللَّه - فعلاً للشرط " من " يدل على أنه عِلَّة وسبب للحكم وهو: إخراجه من الضيق الذي هو فيه. وأيضاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من اتخذ كلباً - إلا كلب ماشية أو صيد نقص من أجره كل يوم قيراطان ". فيكون هنا: سبب وعِلَّة نقصان أجره هو اتخاذه للكلب. ووجه جعل ذلك من الإيماء إلى العِلَّة: أن الجزاء والجواب يتعقب فعل الشرط ويلازمه، ولا ينفك عنه، ومعروف: أن السبب يثبت الحكم عقيبه، ويوجد بوجوده. وهذا يعني: أن الشرط في مثل هذا المقام سبب للجزاء والجواب. تنبيه: بعض العلماء جعلوا هذا النوع من النص الظاهر على العلَّة. والحق أنه من ثبوت العِلَّة عن طريق الاجتهاد، من نوع الإيماء؛ حيث يحتاج إلى بعض النظر والاستدلال. النوع الثالث: أن يذكر الشارع حكما بعد سؤال سائل مباشرة فإن ذلك يغلِّب على الظن: كون ذلك السؤال عِلَّة لذلك الحكم: مثاله: حديث الأعرابي الذي جاء إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال: هلكت يا رسول اللَّه، قال: " ماذا صنعت؟ " قال: وقعت على أهلي في نهار رمضان، قال: " اعتق رقبة.. ". أي: أسألك عن حكم ذلك، فلما قال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2044 "اعتق رقبة " غلب على الظن: أن الوقاع - وهو الجماع في نهار رمضان - عامداً عِلَّة لوجوب الكفارة. ووجه كون الوقاع سببا وعِلَّة للحكم: أنه لما كان الحكم الذي ذكره رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - جوابا عن سؤال الأعرابي، فإنه يتضمن أن يكون السؤال معاداً في الجواب تقديراً، فكأنه قال له: إذا واقعت أهلك في نهار رمضان فكفِّر بكذا. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن ما ذكره الرسول - صلى الله عليه وسلم - يحتمل أن يكون جواباً عن سؤال الأعرابي، ويحتمل أن يكونه جوابا عن سؤال آخر، أو هو ابتداء كلام مستأنف، أو هو زجر للأعرابي عن الكلام، وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. جوابه: إن هذه الاحتمالات قد تتصور عقلاً، لكنها ممتنعة هنا؛ لأن قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "اعتق رقبة " لو لم يكن جوابا عن سؤال الأعرابي: للزم خلو سؤال الأعرابي عن الجواب مما يؤدي إلى تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا غير جائز اتفاقا. اعتراض على هذا الجواب: قال قائل - معترضا -: لا نُسَلِّمُ أنه يلزم منه تأخير البيان عن وقت الحاجة؛ لأنه يحتمل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - علم أنه لا حاجة للمكلف إلى ذلك الجواب في ذلك الوقت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2045 جوابه: أن الغالب في السؤال: أن يكون في وقت الحاجة، ونحن نعمل على الغالب الأعم، أما ما قلتموه - وإن كان محتملاً - لكنه مرجوح؛ لأنه نادر الوقوع، ولا يعمل على النادر. *** النوع الرابع: أن يذكر الشارع وصفا مع حكم، ولم يصرح بالتعليل به، ولكن لو لم يكن الحكم معللاً به لما كلان لذكره فائدة: - ولذلك نقول: إن هذا يفيد العلية ظنا؛ لأمرين: أولهما: أنه لو لم يكن كذلك لكان ذكره لغواً وعبثاً لا فائدة فيه. ثانيهما: أنه إذا كان ذكر عديم الفائدة في كلام العقلاء لا يجوز، فعدم وروده في كلام الشارع أوْلى. فيجب تقدير الكلام على وجه مفيد، وذلك صيانة لكلام الشارع عن اللغو والعبث وعدم الفائدة. حالات هذا النوع: الحالة الأولى: أن يُسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم شيء ما، فيسأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن وصف له، وبعد إخباره بالوصف يقول حكمه فيه، فهذا يفيد أن ذلك الوصف الذي أخبروه به علَّة لذلك الحكم الذي نطق به بعده. مثاله: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - سئل عن جواز بيع الرطب بالتمر، فقال عليه الصلاة والسلام: " أينقص الرطب إذا جف؟ "، فقالوا: نعم، فقال: " فلا إذن ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2046 فقد دلَّ سؤاله واستكشافه عن نقصان الرطب عند الجفاف على أن هذا النقصان عِلَّة لعدم جواز بيعه رطبا. ولو لم يفهم منه ذلك: لا كان للسؤال عنه وذكر الحكم بعده فائدة. الحالة الثانية: أن يتوجه سؤال إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن حكم واقعة معينة، فيذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - حكم حادثة أخرى مشابهة لها منبها على وجه الشبه بذكر وصف مشترك بينهما، فيفيد أن ذلك الوصف عِلَّة لذلك الحكم. مثاله: أن امرأة من جهينة جاءت إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - فقالت: يا رسول اللَّه، إن أمي أدركتها الوفاة وعليها فريضة الحج، فهل يجزئ أن أحج عنها؛ فقال: " أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يجزئ عنها؟ " قالت: نعم، قال: " فدين اللَّه أحق أن يقضى ". فهنا: قد ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - نظير دين اللَّه، وهو دين الآدمي، ونبه على التعليل به؛ لكونه عِلَّة الانتفاع، ولو لم يكن قد ساقه لهذا الغرض - وهو التعليل به - لكان عبثا، ففهم من هذا: أن نظيره في المسؤول عنه - وهو دين اللَّه وهو: الحج - كذلك عِلَّة لمثل ذلك الحكم، وهو النفع. الحالة الثالثة " أن يذكر الشارع وصفا ظاهراً في محل الحكم ابتداء من غير سؤال، لو لم يكن هذا الوصف مؤثرأ في الحكم لكان ذكره عبثاً. مثاله: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لابن مسعود بعد ما توضأ بماء نُبذت فيه تمرات لتجذب ملوحته: " تمرة طيبة وماء طهور "، فقد نبَّه - صلى الله عليه وسلم - على تعليل الطهورية ببقاء اسم الماء عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2047 الحالة الرابعة: أن يذكر الشارع الحكم لدفع إشكال في محل آخر، ويردفه بوصف، فحينئذ يغلب على الظن: أن ذلك الوصف عِلَّة لذلك الحكم. مثاله: أنه روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب، فقيل له: إنك تدخل على بني فلان وعندهم هرة، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس إنها من الطوافين عليكم والطوافات ". بيان ذلك: أنه حصل عند الناس إشكال وهو: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رآه الناس قد امتنع من الدخول على قوم عندهم كلب استشكلوا دخوله عند قوم آخرين وعندهم هرة، اعتقاداً منهم أن الكلب والهرة في الحكم سواء، فبين لهم - صلى الله عليه وسلم -: أن الحكم مختلف، فإن الهرة طاهرة، وليست بنجسة، وعلَّة طهارتها: كثرة تطوافها وصعوبة التحرز منها، ولو لم يكن لذكر تطوافها عقيب الحكم أثر في الطهارة لما كان لذكره فائدة. تنبيه: ويمكن أن يعرف أن كثرة التطواف عِلَّة الطهارة سؤر الهرة بطريق النص الظاهر على العلية - كما سبق بيانه -. *** النوع الخامس: أن يفرق الشارع بين أمرين في الحكم: بأن يذكر صفة ما تشعر بأنها هي علَّة التفرقة في الحكم ما دام قد خصها بالذكر دون غيرها، فلو لم تكن علَّة لكان ذلك على خلاف ما أشعر به اللفظ، وذلك فيه إلباس لا يمكن أن يرد من الشارع: وهذا يكون على حالتين: الحالة الأولى: أن يكون حكمهما مذكوراً في خطاب واحد، وتقع التفرقة فيما يلي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2048 1 - أن تقع التفرقة بلفظ الاستدراك كقوله تعالى: (لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ) ، فقد فرق بينهما في أن تعقيد الأيمان هي المؤثرة في المؤاخذة. 2 - أن تقع التفرقة بلفظ الاستثناء كقوله تعالى: (فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون) ، فقد فرق بين لزوم النصف وعدمه في ضمن الاستثناء. 3 - أن تقع التفرقة بلفظ الغاية كقوله تعالى: (ولا تقربوهن حتى يطهرن) ، فقد فرق في الحكم بين الطهر والحيض في جواز القربان من عدمه. 4 - أن تقع التفرقة فيه باستئناف أحد الشيئين بذكر صفة من صفاته بعد ذكر الآخر كقوله - صلى الله عليه وسلم -: " للراجل سهم، وللفارس ثلاثة أسهم " فهنا: فرق بين الراجل والفارس، ووجه الفرق بين الموصوفين في الحكم: هو ذكر وصفين هما الراجلية والفارسية. 5 - أن تقع التفرقة بلفظ الشرط والجزاء كقوله - صلى الله عليه وسلم - : " لا تبيعوا البر بالبر ... " إلى قوله: " فإذا اختلف الجنسان فبيعوا كيف شئتم يداً بيد "، فهنا: قد حصل التفريق بين منع بيع الجنس بجنسه متفاضلاً، وبين جواز بيعه بغير جنسه، ولو لم يكن ذلك لعلية الاختلاف بين الأمرين، لكان بعيداً عن المراد. الحالة الثانية: أن يكون حكم أحد الأمرين مذكوراً في هذا الخطاب كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "القاتل لا يرث "، فإن هذا مشعر بأن عِلَّة حرمانه من الإرث هو: القتل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2049 النوع السادس: أن يأتي أمر الشارع أو نهيه في شيء ما، ثم يذكر في أثناء هذا الأمر أو هذا النهي شيئاً آخر: لو لم يقدر لمحونه عِلَّة لذلك الحكم المطلوب لم يكن له تعلق بالكلام لا بأوله، ولا بآخره مما قد يعتبر خبطا واضطراباً في الكلام يتنزه الشارع عنه. مثاله: قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) . فيفهم من هذا: أن عِلَّة النهي عن البيع هي: كونه مانعا من السعي إلى الجمعة؛ لأنناً لا يمكن أن نقدر النهي عن البيع مطلقا، فإنه متناقض مع قوله تعالى: (وأحل اللَّه البيع) ، ويكون خبطا في كلام الشارع واضطرابا فيه. فلم يبق إلا أن يكون النهي عن البيع في وقت محدد، وهو وقت: كونه شاغلاً عن السعي للجمعة. *** النوع السابع: أن يذكر الشارع مع الحكم وصفا مناسبا لأن يكون عِلّة لذلك الحكم: كقوله تعالى: (إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم) فعِلَّة جعل الأبرار في الجنة هي: البر، وعِلَّة جعل الفجار في النار هي: فجورهم. وهذا الحكم عام في كلام الشارع، وكلام المكلَّفين، ولا فرق بينهما: فغالب كلام وألفاظ الشارع قد اعتبرت فيه المناسبة. وكذلك كلام المكلَّفين العقلاء قد اعتبرت فيه المناسبة، ومن ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2050 قولهم: " أكرم العلماء وأهن الفساق "، فهنا يفهم: أن علَّة إكرام العلماء هي: العلم، وعِلَّة إهانة الفساق هي: الفسق. حالات هذا النوع: الحالة الأولى: الوصف الذي اعتبر وكان عِلَّة في نفسه وذاته كما مثلنا فيما سبق: فإن العلم هو بنفسه الوصف الذي اعتبر عِلَّة لإكرام العلماء. الحالة الثانية: الوصف الذي اعتبر وكان اعتباره؛ لكونه يحتمل: أن العِلَّة ما تضمنه ذلك الوصف واشتمل عليه. ومثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يقضي القاضي بين اثنين وهو غضبان ". فهنا: نرى أن الشارع قد نهى عن القضاء مع الغضب، والعلَّة ليست هي نفس الوصف المناسب - وهو الغضب - ولكن العلَّة هي: " الدهشة المانعة من تركيز الفكر "، التي تضمنها وصف الغضب. وسبب قولنا ذلك: أنا لما علمنا أن الغضب اليسير الذي لا يمنع من استيفاء الفكر ولا يشوش عليه لا يمنع من القضاء، وأن الجوع المبرح والألم المبرح ومدافعة الأخبثين يمنع من استيفاء الفكر وتركيزه: علمنا أن عِلَّة المنع ليست هي الغضب، بل تشويش الفكر. وهذا ما ذهب إليه الغزالي، وفخر الدين الرازي، وكثير من العلماء. أما كثير من العلماء فقد ذهبوا إلى أن علَّة النهي عن القضاء هي: نفس الغضب، فالغضب - عند هؤلاء - هي: العِلَّة المانعة من القضاء؛ لأن فيه تشويشاً للفكر، واضطراب الحال يؤدي إلى عدم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2051 العدل والإنصاف والدقة التي ينبغي للقاضي أن يكون حكمه على وفْقها، ولهذا تجدهم قد جعلوا الوصف - وهو الغضب - من أمثلة الحالة الأولى. وذكروا: أن الحديث وإن دلَّ بظاهره على أن مطلق الغضب علَّة إلا أن جواز القضاء مع الغضب اليسير يدل على أن مطلق الغضَب ليس بعلَّة، بل المقصود بالغضب المانع من القضاء إنما هو الغضب الشديد الذي يشوش الفكر، ويمنع القاضي من استيفاء النظر والفكر. جوابه: أنا نمنع كون نفس الغضب هو العلَّة؛ لأن الحكم لما دار مع تشويش الفكر وجوداً وعدماً، وانقطع عن الغضب وجوباً وعدما، وليس بين التشويش والغضب ملازمة أصلاً؛ لأن تشويش الفكر قد يوجد حيث لا غضب، والغضب يوجد حيث لا تشويش، فعلمنا بذلك أنه ليس بينهما ملازمة، وحينئذٍ: نعلم أنه لا يمكن أن يكون الغضب عِلَّة، بل العِلَّة إنما هو التشويش - فقط -. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول يجوز قياس كل ما يشوش الفكر على الغضب كالجوع، والعطش، وحصر البول، والألم، ونحو ذلك؛ حيث إن العِلَّة متعدية. أما بناء على المذهب الثاني - وهم القائلون: إن العِلَّة هي نفس الغضب - فلا يجوز القياس على الغضب غيره - حيث إن العلَّة عندهم قاصرة، فلا يجوز قياس الجوع والألم عليه. تنبيه: لا مانع من أن يكون مثال واحد ينطبق على أكثر من نوع من أنواع الإيماء إلى العِلَّة، وحيمئذ يكون الإيماء فيه من عدة جهات بحسب جهة النظر فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2052 الطريق الثاني من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ثبوت العِلَّة بالمناسَبة والإخالة ويشتمل على ما يلي: أولاً: تعريف المناسبة، وسبب تسميتها بالإخالة. ثانيا: الدليل على أن المناسبة قفيد العلية. ثالثاً: أقسام المناسب. رابعا: هل المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2053 أولاً: تعريف المناسبة وسبب تسميتها بالإخالة: 1 - المناسب لغة يأتي بمعنى المشاكل للشيء، يقال:، ليس بينهما مناسبة " أي: مشاكلة. ويأتي لفظ " ناسب " بمعنى: أشرك في النسب، يقال: " ناسبه " أي: أشركه في نسبه. ويطلق على الملائمة، ومنه قولهم: " تلائم القوم والتأموا " إذا اجتمعوا، واتفقوا، وتناسبوا. 2 - والمناسب في الاصطلاح هو: وصف ظاهر منضبط يحصل عقلاً من ترتب الحكم عليه ما يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء من حصول مصلحة أو دفع مفسدة. والمراد بالمصلحة: اللذة ووسيلتها، والمراد بالمفسدة: الألم ووسيلته. وكل من المصلحة والمفسدة يكون على البدن، والنفس، ويكون في الدنيا والآخرة. وإنما أتي بعبارة: " يصلح أن يكون مقصوداً للعقلاء "؛ لأن العاقل متى ما خير، فإنه مما لا شك فيه يختار المصلحة ودفع المفسدة. وأتي بلفظ: " الظاهر المنضبط "؛ لأن الخفي منه وغير المنضبط غير معتبر؛ لأنه غير معلوم، فلا يمكن أن يعرف الحكم به. وما خفي من الأوصاف يلجأ فيها إلى مظنتها الظاهرة المنضبطة. فمثلاً وجوب القصاص لم يُعلل بالعمد؛ لأن العمدية فيه خفية؛ حيث إن القصد وعدمه من الأمور النفسية التي لا يدرك شيء منها، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2055 وإنما علل القصاص وأنيط بما يلازم العمدية من الأعمال المخصوصة التي يتحقق فيها العمدية، وهو القتل بأحد الآلات الجارحة، فصارت العِلَّة: " القتل العمد العدوان ". كذلك: المشقة قد تظهر أنها مناسبة لترتب الحكم - وهو الإفطار في السفر - عليها تحصيلاً للمصلحة المقصودة وهي التخفيف، لكن المشقة لما كانت غير منضبطة؛ حيث إنها تختلف باختلاف الأزمان والأشخاص: تعذر جعلها عِلَّة الحكم، وجعل نفس السفر هو العِلَّة؛ لأنه مظنتها. وتسمى المناسبة بالإخالة؛ لأن بها يخال ويظن أن الوصف هو العلَّة. *** ثانياً: الدليل على أن المناسبة تفيد العلية: الدليل يتكون من مقدمتين، ونتيجة، وإليك بيان ذلك: المقدمة الأولى: أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد. المقدمة الثانية: أن هذا الحكم مشتمل على هذه الجهة من المصلحة. النتيجة: أنه يغلب على الظن أنه إنما شرع الحكم الفلاني لأجل تلك المصلحة. وإليك الاستدلال على المقدمة الأولى، والثانية، والنتيجة فأقول: أما المقدمة الأولى - وهي: أن الأحكام مشروعة لمصالح العباد - فإنه قد دلَّ عليها ما يلي: الدليل الأول: أن اللَّه تعالى حيم بإجماع المسلمين، ولا معنى لحكمته إلا أنه لا يفعل شيئاً إلا وفيه مصلحة؛ لأن هذا شأن الحكيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2056 الدليل الثاني: قوله تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم) ، ومن مقتضى التكريم والتشريف الذي خلق اللَّه الإنسان عليه أن لا يكلف بما لا فائدة له فيه؛ لأن ذلك ينافي تكريمه وتشريفه، ومفهوم هذا: أنه لو كلف فإنه لا يكلف إلا بما فيه مصلحة. الدليل الثالث: أنه ثبت من استقراء النصوص الشرعية أن الله رحيم بعباده، وأن رحمته وسعت كل شيء، وأنه أرسل الرُّسُل رحمة بالناس أجمعين، مما لا يقبل معه شك في أنه سبحانه أراد مصلحتهم، ولم يشرع ما فيه ضرر عليهم، وأنه تعالى لم يرد بعباده العسر، وإنما أراد لهم اليسر، وكل هذا يدل بوضوح على أن التكاليف بأسرها للمصالح؛ لأن تكليف الناس بما لا فائدة معه في غاية العسر والمشقة والحرج، وليس فيه رحمة، ولا رأفة، بل يتحقق معه من الضرر ما ينافي كونه رحيما رؤوفا بالعباد. الدليل الرابع: أن أحكام اللَّه: إما أن تكون مشروعة للإضرار بالعباد، أو مشروعة لا لمصلحة لهم، ولا له، أو مشروعة لمصلحة عباده. أما الأول - وهو كونها مشروعة للإضرار بالعباد - فهو باطل؛ لأنه يكون بذلك ظالماً، والظلم عليه سبحانه محال؛ لقوله تعالى: (وما الله يريد ظلما للعالمين) ، وقوله: (وما ربك بظلام للعبيد) ، ولإجماع المسلمين على أن الظلم منتف عليه تعالى. وأما الثاني - وهو: كون الأحكام ليست مشروعة لمصلحة عباده ولا له - فهو باطل - أيضاً -؛ لأنه يؤدي إلى القول بأنه شرعها عبثا، والعبث على اللَّه محال؛ لقوله تعالى: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا) ، وقوله: (ربنا ما خلقت هذا باطلاً) ، ولإجماع المسلمين على أنه تعالى محال أن يوصف بالعبث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2057 فلم يبق إلا الثالث - وهو: أن اللَّه تعالى إنما شرع الأحكام لمصلحة العباد ونفعهم -. أما المقدمة الثانية - وهي: أن هذا الحكم مشتكل على هذه الجهة من المصلحة - فالدليل عليها: أن القول بأن الحكم الفلاني مشروع للمصلحة الفلانية مبني على أننا وجدناه كذلك من اشتماله على تلك المصلحة. وأما النتيجة - وهي: أنه غلب على الظن أنه إنما شرع الحكم الفلاني لأجل تلك المصلحة - فالدليل عليها أن يقال: إن الحكم لم يشرع إلا لمصلحة - كما سبق -، وهذه المصلحة إما أن تكون هي نفس المصلحة الظاهرة لنا، أو غيرها. أما الثاني - وهو: أن تكون غير المصلحة الظاهرة لنا - فهو باطل؛ لأن الأصل عدم مصلحة أخرى يضاف إليها الحكم. وإذا ثبت أن غير هذا الوصف ليس عِلَّة لهذا الحكم ثبت ظن غالب أن هذا الوصف هو العِلَّة لهذا الحكم. *** ثالثاً: أقسام المناسب من حيث تأثيره وعدم تأثيره: المناسب بهذا الاعتبار ينقسم إلى خمسة أقسام هي كما يلي مرتبة على حسب القوة: القسم الأول: المناسب المؤثر وهو: ما ظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم المتنازع فيه بالإجماع أو النص، أو ما ظهر تأثير عينه في جنس الحكم. مثال ما ظهر تأثير عين الوصف في عين الحكم: أن الحرة الحائض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2058 تسقط عنها الصلاة بالنص والإجماع لوصف مناسب وهو: مشقة التكرار؛ حيث إن الصلاة تتكرر، فلو وجب قضاؤها لشق عليها ذلك، فهنا قد ظهر تأثير عين الوصف - وهو المشقة - في عين الحكم وهو: سقوط الصلاة. فنقيس الأُمَّة على الحرة في ذلك؛ لأنهما يشتركان في مشقة التكر ار. مثال آخر: أن الثيب الصغيرة تزوج لصغرها، ثم يبين أن عين الصغر ظهر تأثيره بالإجماع في الولاية في حق الابن، وفي ولاية المال، فهنا قد ظهر عين هذا المعنى في عين هذا الحكم في محل آخر، فعدي ذلك الحكم بعينه - وهو الولاية - بتلك العِلَّة بعينها - وهو: الصغر - إلى محل النزاع، وهو الثيب الصغيرة. ومثال ما ظهر تأثير عين الوصف في جنس الحكم: أن الأخ الشقيق مقدم على الأخ لأب في الميراث، فيقاس على ذلك تقديمه في ولاية النكاح، فهنا: قد أثر امتزاج النسبين - وهو عين الوصف - في جنس الحكم وهو مطلق الولاية. القسم الثاني: المناسب الملائم وهو: ما ظهر تأثير جنس الوصف في جنس ذلك الحكم مثل: سقوط قضاء الصلاة إذا علل بالحرج والمشقة، فإن هذا من جنس معاني الشرع وملائم له إذا نظرنا إلى إسقاط الشرع كثيراً من التكاليف بأنواع من الكلفة، كما هو الشأن في السفر والمرض. القسم الثالث: المناسب الغريب وهو: الذي لم يظهر تأثيره ولا ملائمته لجنس تصرفات الشرع مثل: أن المطلقة ثلاثا في مرض الموت ترث، لأن الزوج قصد الإضرار بها، والفرار من ميراثها، فيعامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2059 بنقيض قصده على ما هو متبع في القواعد الشرعية، قياسا على القاتل في عدم توريثه؛ لأنه استعجل الإرث بجامع وهو: أن كلاً منهما قد استعجل أمراً قبل أوانه، ومن استعجل أمراً قبل أوانه عوقب بحرمانه. فتعليل حرمان القاتل بهذا الوصف لم يناسب جنسا من تصرفات الشرع، مع أنه يبدو مناسبا. تنبيه: لقد اختلف العلماء في المراد بالمناسب المؤثر، والملائم والغريب اختلافا عظيما حتى أن بعض العلماء قد عرف المؤثر بما عرف به الآخرون الملائم، وعرف بعضهم الغريب بما عرف به الآخرون الملائم، وعرف بعضهم المؤثر تعريفا شاملاً لأنواع أربعة، وبعضهم حصره في نوعين وهكذا، وقد ذكرت بعضا من ذلك في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فراجعه فهو مطبوع متداول. القسم الرابع: المناسب المرسل، وهو الذي لم يشهد له أصل معين بالاعتبار، ولا بالإلغاء، وهو موضوع المصلحة المرسلة التي سبق الكلام عنها في الأدلة المختلف فيها. ومثاله: قياس شارب الخمر على القاذف؛ حيث إن الناس لما استحقروا الحد المشروع في الخمر جمع عمر بن الخطاب كثيراً من الصحابة وشاورهم في الأمر، فقال علي - رضي اللَّه عنه -: " من شرب سكر، ومن سكر هذى، ومن هذى افترى، فأرى أن عليه حد المفتري " فأخذوا بقوله؛ أخذاً بالمصلحة. القسم الخامس: المناسب الملغى، وهو: الوصف الذي لم يشهد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2060 له أصل بالاعتبار بوجه من الوجوه، وقد ظهر إلغاؤه، وإعراض الشارع عنه في جميع صوره. مثاله: أن بعض فقهاء الأندلس قد أفتى بأن على المجامع في نهار رمضان: كفارة وهي: صيام شهرين متتابعين، فهذا فيه مصلحة وهي: منع هذا المكثر من الجماع في نهار رمضان من فعله، ولكن هذه المصلحة قد خالف نصا وهو حديث الأعرابي الذي رتب الكفارة على ما يلي: عتق الرقبة، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يجد فإطعام ستين مسكين. لذلك اتفق العلماء على عدم الأخذ بهذا القسم. *** رابعاً: هل المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المناسبة تبطل بمعارضة مفسدة مساوية أو راجحة. وهو مذهب الآمدي، وابن الحاجب، والصفي الهندي، وبعض العلماء، ونسبه بعضهم إلى أكثر العلماء، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن المصلحة متى ما عورضت بمفسدة مساوية، أو راجحة، فإن العمل بالمصلحة حينئذِ لا يُعدُّ من المصلحة عند العقلاء، بل يكون عبثا يخرجه العقل عن كونه مناسبا إلى كونه غير مناسب. الدليل الثاني: أن المفسدة إذا كانت مساوية للمصلحة أو راجحة عليها، فإن هذا يقتضي عقلاً أن لا مصلحة حينئذِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2061 فلو أن رجلاً - مثلاً - اشترى ثوباً بعشرة ريالات، ثم قال لوكيله: " بع هذا الثوب بعشرة ريالات، أو بثمانية "، فإن هذا القول لا يقبل منه؛ لأنه يؤدي أن لا يربح، ولو فعل رجل ذلك لعد منه خروج عن تصرفات العقلاء. الدليل الثالث: استقراء أحكام الشريعة والعقل قد دلا على أن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة، بيان ذلك: أنه بعد استقراء وتتبع الأحكام الشرعية وجدنا أنه عند تعارض المفسدة مع المصلحة، فإنه يقدم دفع المفسدة على جلب المصلحة في كثير من الأمور. والعقل حاكم في ذلك أيضاً؛ لأن في دفع المفسدة مصلحة أيضاً، وعلى هذا لا يجوز العمل بمصلحة معارضة بمفسدة مساوية لها أو راجحة عليها. المذهب الثاني: أن المناسبة لا تبطل بمعارضة المفسدة مطلقا. وهو مذهب فخر الدين الرازي، والبيضاوي، وكثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: الوقوع؛ حيث إنه قد ورد من الشارع ما يدل على إعمال المناسبتين المتعارضتين، وعدم بطلانهما بذلك التعارض. كالصلاة في الدار المغصوبة، فقد رتب عليها الثواب من حيث كونها صلاة، والعقاب من حيث كونها مغصوبة، وكذلك البيع وقت النداء الثاني للجمعة قد رتب عليه الملك؛ لأنه بيع صحيح الأركان، والعقاب؛ لأنه وقع في وقت النداء المنهي عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2062 ففي هذين المثالين نرى الشارع قد رتب على جهة المصلحة والمفسدة مقتضاهما. جوابه: إن الكلام في مصلحة تعارضها مفسدة في شيء واحد، أما ما ذكرتموه في المثالين فإنه ليس كذلك؛ حيث إن مفسدة الغصب لم تكن قد نشأت من الصلاة، بدليل: أنه يأثم إذا أشغل المغصوب واستعمله ولو لم يصل، وكذلك فإن مصلحة الصلاة لم تنشأ من الغصب بدليل: أن صلاته صحيحة إذا أداها في غير الأرض المغصوبة، فلم يحصل التعارض بين مصلحة الصلاة، ومفسدة الغصب؛ حيث لا تعارض بين المقتضى الذاتي، والمقتضى الخارجي. الدليل الثاني: أن السلطان لو ظفر بجاسوس من أعدائه، فإنه يحسن منه أمران: " عقابه "، و " العفو عنه ": فقد يعاقبه زجراً لأمثاله وتأديبا لهم، وقد يحسن إليه ويعفو عنه إما لكشف أسرار عدوه عن طريق هذا الجاسوس، وإما أنه عفى عنه للاستهانة بعدوه، وفعل السلطان هذا لا يعد خارجاً به عن مقتضى المناسبة والحكمة، وسواء في ذلك ما إذا كانت المناسبتان متساويتين، أو إحداهما أرجح من الأخرى. جوابه: لا نسلم أن هذا التصرف من السلطان حسن على الإطلاق، بل لا بد أن يفعل الأرجح منهما، ولو فعل المرجوح منهما لا يكون تصرفه وفعله موافقاً لتصرفات العقلاء، ولا يكون مناسبا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون: بعدم بطلان المناسبة بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2063 أرادوا من العلَّة الوصف المؤثر المعرف للحكم، ولم يريدوا جملة ما يتوقف عليه المعلول، ولا دخل لوجود الشرط، وعدم المانع في التأثير اتفاقا، بل المؤثر نفس الوصف، وقد تخلف الحكم عنه، وهو موجود قطعا. أما أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون ببطلان المناسبة بمعارضة المفسدة الراجحة أو المساوية - فإنهم أرادوا من العِلَّة أنها جملة ما يتوقف عليه المعلول من وصف مؤثر معرف للحكم، ووجود شرط وعدم مانع، ولا شك أن هذه الجملة تزول إذا تخلف الحكم لفقد شرط، أو وجود مانع. وهذا لا يمنع اتفاق أصحاب المذهبين على أن العِلَّة في غير موضع التخلف تامة صحيحة يترتب عليها المعلول، وفي موضع التخلف غير تامة، والحكم معدوم، وهو لم يترتب على العِلَّة إلا أن العدم عند أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون ببطلان المناسبة - مضاف إلى عدم وجود العلَّة، أي: أن المناسبة لما بطلت بمعارضة مفسدة راجحة أو مساوية كأنها لم توجد. والعدم عند أصحاب المذهب الثاني - وهم القائلون بعدم بطلانها - مضاف إلى وجود المانع، أو تخلف شرط. أي: أن المناسبة موجودة لم تبطل بمعارضة تلك المفسدة الراجحة، أو المساوية، ولكن لم يعمل بها؛ نظراً لوجود مانع، أو تخلف شرط. إذن اتفق الفريقان على المعنى وهو: أنه لا يُعمل بالمناسبة المعارضة بمفسدة راجحة أو مساوية، ولكن اختلفوا في سبب عدم العمل. فأصحاب المذهب الأول قالوا: إن السبب هو: كون المناسبة معارضة بالمفسدة فأسقطتها. وأصحاب المذهب الثاني قالوا: إن السبب هو: وجود المانع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2064 الطريق الثالث من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ئبوت العِلَّة بالسبر والتقسيم ويشتمل على ما يلي: أولاً: تعريف السبر والتقسيم. ثانيا: أسماء هذا الطريق. ثالثا: أقسام التقسيم، وتعريف كل قسم، وشروطه، وبيان إفادة كل قسم للعلية. رابعا: بيان كيفية سبر الأوصاف غير الصالحة للعلية وحذفها وإبطالها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2065 أولأ: تعريف السبر والتقسيم: 1 - السبر والتقسيم لغة: السبر لغة: الأصل، واللون، والهيئة، والمنظر، ومنه قولهم: " حسن السيرة " أي: حسن الهيئة. وهو يطلق على الاختبار، ومنه قولهم: " سبرت الجرح " أي: نظرت ما غوره. والتقسيم لغة هو: مأخوذ من قسم الشيء إذا جزأه وفرقه. 2 - السبر والتقسيم اصطلاحا: السبر اصطلاحا هو: اختبار الوصف في صلاحيته وعدمها للتعليل والتقسيم اصطلاحا هو: حصر الأوصاف المحتملة للتعليل بان يقال: العِلَّة إما كذا أو كذا. 3 - المراد بهذا الطريق هنا: المراد بالسبر والتقسيم: حصر الأوصاف التي تحتمل أن يُعلل بها حكم الأصل في عدد معين، ثم إبطال ما لا يصح بدليل، فيتعين أن يكون الباقي عِلَّة. فمثلاً: أن يقول المجتهد: إن تحريم الربا في البر ثبت لعلة، والعلة هذه يحتمل أن تكون: كونه مكيلاً، أو كونه مطعوما، أو كونه مقتاتا، أو كونه مدخراً، أو كونه موزونا، أو كونه مالاً، وعجز عن استنباط عِلَّة أخرى فوق هذه العلل الست، فهذا يُسمَّى بالتقسيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2067 ثم يبدأ بسبر واختبار تلك الأوصاف، وينظر فيها، ويسقط ما لم يجده مناسبا، وما لا يصلح لتعليل الحكم به بحيث يبقى ما يمكن التعليل به وعجز عن إبطاله، وهو كونه مكيلاً - مثلاً - فهذا يُسمى بالسبر. مثال آخر: أن يقول المجتهد في ولاية الإجبار على النكاح: إن هذا الحكم إما أن يعلل بالصغر، أو يعلل بالبكارة. أما تعليل الإجبار على النكاح بالصغر فإنه باطل؛ لأنها لو كانت العلَّة الضغر لثبتت ولاية الإجبار على الثيب الصغيرة؛ نظراً لوجود نفسَ العلَّة فيها، وهذا مخالف لنص وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أحق بنفسها"، وهو عام للثيب الصغيرة والكبيرة، فلم يبق إلا أن يعلل بالثاني وهو: البكارة. *** ثانيا: أسماء هذا الطريق: بعض العلماء يطلق عليه: " السبر " فقط، وبعضهم يطلق عليه "التقسيم " فقط، وبعض ثالث يطلق عليه " السبر والتقسيم " معا، وهذا هو المنتشر، وهو الصحيح؛ لأن هذا الطريق لثبوت العِلَّة يتكون منهما معا، فلا يغني السبر عن التقسيم، ولا يغني التقسيم عن السبر. اعتراض على عبارة: " السبر والتقسيم ": قال قائل - معترضا -: إنه من خلال معرفتنا لتعريف السبر والتقسيم، فإنه من الأنسب تقديم التقسيم على السبر في الذكر ما دام أنه متقدم عليه في الواقع ونفس الأمر، فيقال: " التقسيم والسبر؛ حيث إن التقسيم متقدم في الوجوب على السبر كما سبق في التعريف، والأمثلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2068 جوابه: إن التسمية الصحيحة هي: " السبر والتقسيم " كما صححنا ذلك؛ لأمرين: أولهما: أن الأصل هو السبر؛ لأنه هو الذي يؤثر في معرفة العلية، وأما التقسيم فقد وجد بسبب: أن السبر يحتاج إلى شيء يسبر. ثانيهما: أن محل السبر هو التقديم على التقسيم في العمل، وذلك لأن المجتهد أولاً يسبر ويختبر المحل هل فيه أوصاف، أو هو تعبدي؛ ثم إذا أثبت أن فيه أوصافاً فإنه يحصر تلك الأوصاف، ويقسمها، ثم يسبر ثانياً، فقدم السبر في اللفظ باعتبار السبر الأول. *** ثالثاً: أقسام التقسيم: ينقسم التقسيم إلى قسمين: القسم الأول: التقسيم الحاصر، وهو ما يكون دائراً بين النفي والإثبات. وطريق معرفة العِلَّة فيه: أن يقوم المجتهد بحصر الأوصاف التي تنقدح في الذهن مما يمكن تعليل حكم الأصل فيه، ثم يختبرها بالأدلة والأمارات التي سلكت في اعتبار الوصف المنايسب للعلية، ثم يبطل ما لا يصلح منها بواحد من طرق الإبطال والحذف التي ستأتي - إن شاء اللَّه - فما يتبقى بعد هذا الحذف والإبطال يعتبر هو الوصف الذي يتعين للتعليل به عند المجتهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2069 فمثلاً: يقول المجتهد في ولاية الإجبار على النكاح: إن هذا الحكم إما أن لا يكون معللاً بعلَّة أصلاً، أو يُعلل بالصغر، أو يعلل بالبكارة، أو يعلل بغيرهما. أما الأول - وهو: أن يكون الحكم غير معلل - فهو باطل بالإجماع؛ حيث أجمع العلماء على تعليل هذا الحكم. وأما الثاني - وهو أنه معلل بالصغر - فهو باطل أيضا؛ لأن الحكم لو كان معللاً بالصغر للزم عليه ثبوت ولاية الإجبار على الثيب الصغيرة، وهذا مخالف للنص، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الثيب أحق بنفسها". وأما الرابع - وهو أن الحكم معلل بغير الصغر والبكارة - فهو باطل بالإجماع؛ حيث أجمع العلماء على عدم وجود غير هذين الأمرين لتعليل الحكم بهما. فلم يبق إلا الثالث وهو: أن الحكم معلل بالبكارة. مثال آخر: أنه اختلف العلماء في جارية بين رجلين جاءت بولد فادعياه، فقال بعض الغلماء: بالرجوع إلى قول القائف، وقال آخرون: نقبل القرعة فيه، وقال فريق ثالث: بالتوقف، فلا ينسب الولد إلى واحد منهما، وقال فريق رابع: يثبت النسب منهما جميعاً. فإذا أفسدنا وأبطلنا الأقوال الثلاثة الأولى بأي طريق من طرق الإبطال، فإنه يصح القول الرابع، وهكذا في جميع الأمثلة. بيان أن هذا القسم يفيد العلية بالاتفاق: التقسيم الحاصر يفيد العلية إما قطعاً، وإما ظنا. فيفيد العلية قطعا في حالة كون الحصر للأقسام وإبطال الأوصاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2070 غير الصالحة بطريق قطعي، وهذا قليل في الشرعيات، لكنه يكثر في العقليات. ويفيد العلية ظنا إذا كان الحصر وإبطال الأوصاف غير الصالحة، ورد بطريق ظني، وهو كثير في الشرعيات، ومن أمثلته ما سبق. شروط هذا القسم: هذا القسم - وهو الحاصر - لا يصح ولا يُثبت العِلَّة إلا بشروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون حكم الأصل معللاً بالاتفاق؛ لأن الحكم إذا لم يجمع على تعليله وحصر المجتهد جميع علل هذا الحكم، فإنه لا يلزم من إبطال جميع تلك العلل صحة العِلَّة التي عجز عن إبطالها. الشرط الثاني: أن لا تكون العلَّة مركبة، أما إن كان هناك احتمال لتركيب العِلَّة: فإن إبطال بعض الأوصاف المحتملة غير كاف في الاستدلال لعلية المتبقي؛ لأن الساقط وإن صح أن لا يكون عِلَّة مستقلة، إلا أنه لا يزال الاحتمال قائما في أنه جزء من أجزاء العَلَّة بحيث إذا انضم إلى غيره يكون عِلَّة مستقلة، فلا بد - إذن - في مثل هذه الحالة من إبطال كون المجمَوع عِلَّة أو جزءا من العِلَّة. الشرط الثالث: أن يكون سبره حاصراً بجميع الأوصاف التي يمكن أن تكون علَّة، واشترطنا ذلك لأنه إذا كان سبره لم يكن حاصراً بجميع عللَ الحكم لجاز وجود عِلَّة لم يذكرها قد تكون هي العِلَّة الحقيقية لمشروعية الحكم، فيكون القياس خطأ. كيف يثبت المجتهد حصر العلل؟ لقد ذكرنا في الشرط الثالث: أنه لا بد أن يكون سبره حاصراً لجميع علل الحكم، ويثبت حصر العلل بأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2071 الأمر الأول: أن يسلم الخصم - ويوافق على أن ما ذكره المستدل من الأوصاف هي الممكنة لأن تكون علَّة، ولا يوجد غيرها كانحصار عِلَّة تحريم الربا في البر بكونه مكيلاً، أو موزونا، أو مطعوما، أو مدخراً، أو مقتاتا، وكانحصار عِلَّة وجوب الكفارة في الجماع في نهار رمضان في: " جماع مكلَّف في نهار رمضان "، أو في " إفساد الصوم المحترم "، وكانحصار عِلَّة الإجبار في النكاح في " الصغر " أو " البكارة ". الأمر الثاني: أن لا يسلم الخصم ولا يوافق على هذا الحصر الذي ذكره المستدل، فهنا ننظر إلى المستدل: فإن كان المستدل مجتهداً فعليه السبر للأوصاف بقدر إمكانه، بحيث يعجز عن إيراد غير ذلك من الأوصاف والعلل. وإن كان المستدل مناظراً - أي: أمامه خصم يناظره في مسألة ما - فإنه يكفيه أن يقول: هذا ما استطعت التوصل إليه من أوصاف وعلل، وقد بحثت فلم أجد غير ذلك، وعليك أيها الخصم أن يلزمك ما يلزمني إذا كنت تشاركني في الجهل بغير ذلك من الأوصاف. أما إن كنت مطلعا على وصف آخر غير ما ذكرت، فعليك التنبيه عليه وإظهاره لأنظر في صحته وفساده، فإن كتمان ذلك الوصف أو العلَّة محرم، حيث إن من كتم ذلك إما أن يكون كاذبا وهو حرام، وإما أن يكون كاتما لدليل مست الحاجة إلى إظهاره وهو محرم أيضا، وكلاهما يتسببان في جعل هذا الخصم لا يعول على قوله، ولا يُعتد بما صدر عنه. القسم الثاني - من أقسام التقسيم -: التقسيم المنتشر، وهو: ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2072 لا يكون دائراً بين النفي والإثبات، أو كان دائراً بينهما، ولكن الدليل على نفي عِلته فيما عدا الوصف المبين فيه ظني. وطريق معرفة العِلَّة فيه: أن يقال: الحكم إما أن يكون معللاً، أو لا يكون كذلك. أما كونه غير معلل فبعيد؛ لأن الغالب المألوف من الشارع - على حسب ما دلَّ عليه الاستقراء - أن أحكام اللَّه - كلها - معللة - كما سبق بيان ذلك -. وإذا ثبت أن الحكم معلل، فإن العِلَّة إما أن تكون غير ظاهرة لنا، أو تكون ظاهرة. أما كون العِلَّة غير ظاهرة لنا: فهو بعيد؛ لأمور هي كما يلي: الأمر الأول: أن الغالب في علل الأحكام إنما هو الظهور، وإذا وجد فرد منها غير ظاهر، فإنه يندرج تحت الأعم والأغلب على الظن، فيكون ظهورها أغلب على الظن. الأمر الثاني: أن الحكم إذا كان معقول المعنى كان على وفق المعتاد من تصرفات العقلاء وأهل العرف، والأصل مطابقة الشرع للعقل والعرف. الأمر الثالث: أن عدم ظهور العِلَّة يبطل فائدة التعليل؛ لأن فائدته التوسع في معرفة الأحكام، وانقياد المكلف لها، وتلقيها بالقبول ما دامت نفسه مطمئنة أن الحكم ملائم لطبيعته. وإذا ثبت أن عدم ظهور العلة بعيد: فإنه يكون الغالب ظهورها. وإذا كان الغالب ظهور العلة، فإنه يقال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2073 العلة إما هذا الوصف أو ذاك الوصف، أو الوصف الثالث إلى آخر الأوصاف التي تكون محتملة للتعليل في نظر المعلل. ولما كان المعلل سليم الحس والعقل عدلا ثقة: فإنه يحصل غلبة الظن بانحصار صفات محل الحكم فيما ذكره من الأوصاف، ولم يجد سواها. ثم بعد أن يُثبت حصر الأوصاف بالطريقة السابقة يسقط بعد ذلك بعضها عن درجة الاعتبار بدليل صالح يغلب على الظن منه عدم صلاحية ما أسقط للتعليل به، فيلزم من ذلك انحصار التعليل فيما استبقاه؛ بناء على قولنا: يمتنع خلو محل الحكم عن عِلَّة ظاهرة. بيان أن هذا القسم يفيد العلية: هذا القسم يفيد العلية؛ وهو حُجَّة للمستدل وهو المجتهد الناظر - وهو: من بحث لنفسه، فما غلب على ظنه وجب عليه العمل به، ولا يكون حُجَّة على الغير، وهو اختيار الآمدي، وبعض العلماء. وهو الحق؛ لأن هذا التقسيم - وهو: المنتشر - يثير غلبة الظن عند المجتهد، فيجب أن يتبع ما غلب على ظنه؛ لأن المجتهد مهما غلب على ظنه شيء: فإنه يجب أن ياخذ به. وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه حُجَّة مطلقا للناظر، وهو المجتهد المستدل، وللمناظر، وهو الخصم. وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه حُجَّة في الأحكام العملية دون العلمية. وبعض العلماء ذهبوا إلى أنه ليس بحجة مطلقا. وقد ذكرت هذه المذاهب مع أدلتها في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر "، فارجع إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2074 رابعا: بيان كيفية سبر الأوصاف غير الصالحة للعلية وحذفها وإبطالها: قلنا في تعربف السبر والتقسيم: إن المجتهد والمستدل يقوم باختيار علَّة واحدة، ويعلل الحكم الشرعي بها، ويحذف العلل والأوصاف غير الصالحة للعلية، ويسلك في حذف تلك الأوصاف وإبطالها المسالك الآتية: المسلك الأول: الإلغاء، وهو: بيان أن الحكم في الصورة الفلانية ثابت بالوصف الذي استبقاه - فقط - دون غيره، ويتبين بهذا أن المحذوف من الأوصاف لا أثر له في الحكم؛ لأنه لو كان المحذوف من الأوصاف له أثر في الحكم لما جاز إثبات الحكم بدونه. وكيفية ذلك: أن يقوم المجتهد ببيان أن الوصف الذي أبقاه للتعليل به قد ثبت الحكم به في صورة من الصور من غير أن يقترن بالأوصاف التي تم إلغاؤها وحذفها، وهذا يوضح أن الوصف الذي أبقاه مستقل بالتعليل، وعند ظهور ذلك يمتنع إضافة الحكم في محل التعليل إلى الوصف الذي تم حذفه، لأن في هذا إثباتا للحكم بوصف لم يثبت استقلاله، وإلغاء للوصف الذي ثبت استقلاله وهو ممتنع. المسلك الثاني: أن يكون الوصف المحذوف قد ألف من الشارع إلغاءه في جنس ذلك الحكم المعلل، وحيحئذ يكون إلغاؤه واجباً وإن كان مناسبا. فمثلاً قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أعتق شركاً له في عبد قوم عليه الباقي من نصيب شريكه "، فهنا حذف العلماء وصف الذكورة وإن أمكن تقرير مناسبة بين صفة الذكورة وسراية العتق غير أنا لما عهدنا من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2075 الشارع التسوية بين الذكر والأنثى في أحكام العتق ألغينا صفة الذكورة في السراية، بخلاف ما عداه من الأحكام، حيث اعتبر الشارع وصف الذكورة في الشهادة والقضاء، والإمامة، وولاية عقد النكاح. المسلك الثالث: الحذف وهو: أن يبين المجتهد - وهو: المستدل - أن ما يحذفه من الأوصاف من جنس الأوصاف التي عهدنا وألفنا وعرفنا من الشارع عدم الالتفات إليها في إثبات الأحكام كالأوصاف الطردية كالطول، والقصر، والسواد، والبياض، ونحو ذلك. المسلك الرابع: عدم وجدان مناسبة بين الوصف والحكم. وبيانه: أن لا يجد المجتهد - وهو العدل الثقة المؤهل للنظر والبحث - مناسبة بين الوصف والحكم أو ما يوهم المناسبة، وحينئذ لو قال: لم أجد فيه ذلك لصدق في كلامه، فيكون الوصف غير مناسب، فيلزم حذفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2076 الطريق الرابع من طرق ثبوت العِلَّة بالاجتهافى ثبوت العِلَّة عن طريق تنقيح المناط ويشتمل على ما يلي: أولاً: تعريفه. ثانيا: بيان أن تنقيح المناط يُعتبر من طرق ثبوت العِلَّة. ثالثا: الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم. رابعاً: الفرق بين تنقيح المناط وتخريج المناط، وتحقيقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2077 أولاً: تعريف تنقيح المناط: 1 - التنقيح لغة: التشذيب، والتهذيب، ومنه: " تنقيح الجذع من النخلة " أي: تشذيبه حتى يُخلص من السعف والأغصان التي لا فائدة منها، ولا تؤثر على ثمرة النخلة، ويقال: " نقح الشاعر قصيدته " إذا هذبها وخلصها من الأبيات التي لا دخل لها في الموضوع. والمناط مأخوذ من ناط الشيء ينوطه نوطا، أي: علقه، فالمناط ما يتعلق به الشيء، يقال: نطت الحبل بالوتد أنوطه نوطاً: إذا علقته به، ومنه: ذات أنواط وهي: الشجرة التي يعلق عليها المشركون أسلحتهم، والمناط من أسماء العِلَّة، وقد سبق بيان ذلك. 2 - تنقيح المناط اصطلاحا هو: أن ينص الشارع على الحكم، ويضيفه إلى وصف فيقترن به أوصاف لا مدخل لها في الإضافة، فيقوم المجتهد بحذف ما لا يصلح عِلَّة ليتسع الحكم. أو تقول هو: أن ينص الشارع على الحكم عقيب أوصاف يعرف فيها ما يصلح للتعليل، وما لايصلح للتعليل، فينقح المجتهد الصالح ويلغي ما سواه. فلا بد في تنقيح المناط من توفر شرطين: أولهما: أن يكون النص دالًّا عليه وصف خاص بالأصل، ويكون دور المجتهد حذف خصوص الأصل، وحينئذ يشترك الأصل والفرع في الحكم معاً. ثانيهما: أن يدل النص على علية أوصاف أخرى، ويقوم المجتهد بحذف ما لا دخل له في العلية ليصبح الباقي عِلَّة للحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2079 مثاله: حديث الأعرابي، وهو: أنه قد أتى أعرابي إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: هلكت يا رسول اللَّه، قال: " ما لك؟ " قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "اعتق رقبة ". فهنا: قد أشار النص إلى أوصاف وهي: " كون المواقع أعرابيا " و" كون الموطوءة زوجته "، و " كون الوقاع حصل في رمضان معين "، و " كون الوقاع حصل في رمضان من مكلف "، و " كونه أفسد صوما محترماً ". فحذف بعض العلماء جميع هذه الصفات إلا وصفا واحداً هو: "كونه واقع في نهار رمضان "، فخصص الحكم بهذا الوصف، فأوجب الكفارة - على من واقع في نهار رمضان فقط، دون غيره، فتكون هذه العِلَّة قاصرة. وبعض العلماء الآخرين حذفوا جميع تلك الأوصاف إلا وصفا واحداً هو؛ " كونه أفسد صوماً محترما "، لذلك أوجبوا الكفارة على كل من أفسد الصوم المحترم، سواء أفسده بالجماع، أو بالأكل والشرب عمداً بلا عذر، فتكون العِلَّة هنا متعدية. ولا يجوز لأي عالم مهما كان أن يحذف أي وصف إلا بدليل شرعي مقبول، وقد بيَّنت الأدلة على حذف تلك الأوصاف بإسهاب في كتابي " إتحاف ذوي البصائر بشرح روضة الناظر " فارجع إليه. *** ثانيا: بيان أن تنقيح المناط يعتبر طريقا من طرق ثبوت العِلَّة: من دقق في تعريف تنقيح المناط، فإنه يجزم بأنه طريق من طرق إثبات العِلَّة، حيث إن حاصله: هو حصر العلل التي وردت في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2080 النص الخاص بذلك الحكم، ثم اختبار وسبر تلك العلل من قبل المجتهد فيحذف ويبطل ما لا يصلح أن يعلل به الحكم، فإذا أبطلها كلها إلا واحدة جعلها هي العِلَّة مثل ما قلناه في حديث الأعرابي السابق الذكر، وهذا قريب من السبر والتقسيم. وبعض العلماء سماه بالاستدلال كالحنفية، وهم قد وافقوا الجمهور في طريقة حذف الأوصاف إلا وصفا واحداً، فيكون الخلاف بيننا وبين الحنفية لفظياً. *** ثالثا: الفرق بين تنقيح المناط والسبر والتقسيم: قد يقول قائل: إن حقيقة تنقيح المناط قريبة من حقيقة السبر والتقسيم الذي هو الطريق الثالث من طرق ثبوت العلية، فهل هما واحد، أم بينهما فرق؟ أقول: لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يوجد فرق بينهما. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق، لذلك جعلناه طريقا لإثبات العِلَّة غير طريق السبر والتقسيم. واختلف هؤلاء في وجه الفرق على أقوال: القول الأول: أن تنقيح المناط خاص في الأوصاف التي دلَّ عليها ظاهر النص، وهي محصورة بواسطة هذا الظاهر، أما السبر والتقسيم فإنه خاص في الأوصاف المستنبطة الصالحة للعلية، ثم إلغاؤها إلا ما ادعي أنه عِلَّة، وهذا هو الحق عندي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2081 القول الثاني: إن تنقيح المناط اجتهاد في الحذف والتعيين معا، أما السبر والتقسيم فهو اجتهاد في الحذف، فيتعين الباقي. جوابه: لا نسلم ذلك، بل إن السبر والتقسيم لا بد فيه من الاجتهاد في الحذف، والتعيين؛ حيث لا يمكننا أن نعين هذه العِلَّة ونقول: إنها هي العِلَّة الحقيقية إلا بعد عدة اجتهادات فيها. القول الثالث - في وجه الفرق بينهما -: إن السبر والتقسيم لابد فيه من تعيين الجامع والاستدلال على عليته، أما تنقيح المناط فإنه لا يجب فيه تعيين العِلَّة. جوابه: لا نسلم ذلك، بل يجب تعيين العِلَّة في تنقيح المناط والاستدلال عليها، وإلا لما جاز العمل بها؛ لأنه لا يمكن ثبوت شيء بدون دليل فالمجتهد لا يمكنه أن يحذف أي عِلَّة، أو يعينها إلا بدليل. هذه أقوال جمهور العلماء القائلين بوجود الفرق بين تنقيح المناط، والسبر والتقسيم. المذهب الثاني: أنه لا فرق بين تنقيح المناط، وبين السبر والتقسيم؛ لأن تنقيح المناط في الحقيقة:. استخراج للعِلَّة بالسبر. وهو مذهب إعام الحرمين. جوابه: لا نسلم ذلك، بل يوجد فرق بينهما كما سبق بيانه. ثم لا نُسَلِّمُ أن تنقيح المناط هو: استخراج للعِلة بالسبر، بل هو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2082 تعيين وصف من الأوصاف التي ذكرت في النص، وبيان أنه هو العِلَّة دون غيره من الأوصاف، فهو تعيين لا تخريج. أما السبر والتقسيم فهو خاص في العِلَّة المستنبطة المستخرجة فقط. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي؛ حيث اتفق أصحاب المذهبين على العمل بتنقيح المناط على أنه طريق من طرق إثبات العِلَّة بالاجتهاد إلا أن أصحاب المذهب الثاني أدخلوا تنقيح المناط ضمنَ السبر والتقسيم؛ حيث إن السبر والتقسيم عندهم عام وشامل للمنصوصة والمستنبطة لذلك جعلوهما طريقاً واحداً. أما أصحاب المذهب الأول، فإنهم فرَّقوا بين المنصوصة والمستنبطة، وجعلوا تنقيح المناط خاصا بالعلَّة المنصوص عليها ظاهراً وجعلوا السبر والتقسيم خاصاً بالعلَّة المستنبطة، وجعلوا ذلك طريقين لإثبات العلَّة: طريق السبر والتقسيم وهو خاص بالمستنبطة. طريق تنقيح المناط وهو خاص بالمنصوصة. رابعاً: الفرق بين تنقيح المناط وتخريجه، وتحقيقه: الاجتهاد في العِلَّة ينحصر في ثلاثة أنواع: النوع الأول: تحقيق المناط. النوع الثاني: تنقيح المناط. النوع الثالث: تخريج المناط. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2083 وهذه الأنواع تختلف باختلاف ظهور العِلَّة وعدم ذلك، وإليك بيان كل نوع: أما النوع الأول - وهو: تحقيق المناط - فهو: أن المجتهد قد تحقق من وجود العِلَّة والمناط في الأصل، ولكنه يجتهد من تحقيق وجودها في الفرع، وآحاد الصور. أي: أنه اتفق على أن هذا الوصف هو عِلَّة حكم الأصل بنص، أو إجماع، فيقوم المجتهد بالتحقق والتأكد من وجود هذا الوصف في الفرع - الذي يراد إلحاقه بالأصل -. إذن وظيفة المجتهد هنا سهلة؛ حيث إن عِلَّة الأصل موجودة، ولكنه يتأكد من وجودها في الفرع بنوع اجتهاد. مثاله: الاجتهاد في القِبْلة؛ حيث إن استقبال القِبْلة معلوم بالنص، أما أن تكون جهة القبْلة هذه أو تلك عند الاختلاف فهو معلوم بنوع اجتهاد، حيث إنه لا يجتهد المجتهد - هنا - في وجوب القبْلة، ولكنه يجتهد في هذه هل هي قِبْلة أم لا؟ وكذلك: علل الشارع وجوب نفقة القريب بالكفاية، وهو ثابت بالنص، وهذا لا يجتهد فيه المجتهد، بل يجتهد في بعض الصور الفرعية، فيقول: الكفاية واجبة في النفقة، وهذا معلوم بالنص، والرطل من الأكل يكفي هذا الشخص بعينه، إذن: يكون هو الواجب في نفقة القريب، وهذا معلوم بالاجتهاد. وكذلك: فإن الشارع قد علل قبول الشهادة بالعدالة، وهو معلوم بالإجماع، والنص، أما تحقق العدالة في زيد أو عمرو، فإنه معلوم بالاجتهاد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2084 وهذا لم يختلف العلماء فيه؛ لأن العِلة معلومة بنص أو إجماع. أما النوع الثاني - وهو: تنقيح المناط فهو: أن ينص الشارع على العلة نصاً غير صريح، فيقوم المجتهد بالاجتهاد في تعيين عِلَّة حكم الأَصل وإبرازها، وحذف ما علق بها من أوصاف بأنواع من الاجتهادات، ثم يجتهد في تحقق هذه العِلَّة في الفرع - كما سبق بيانه. ووظيفة المجتهد هنا أصعب من وظيفته في النوع الأول؛ حيث إنه يبذل جهداً في إبراز عِلَّة الأصل وتعيينها في هذا النوع، ثم يجتهد مرة أخرى في تحققها في الفرع. أما النوع الأول: فلا يجتهد المجتهد في عِلَّة الأصل؛ لأنها منصوص عليها أو مجمعا عليها، ولكنه يجتهد فقطَ في تحققها في الفرع. أما النوع الثالث: وهو تخريج المناط فهو: أن ينص الشارع على حكم في محل، ولا يتعرض لمناطه وعلته لا صراحة ولا إيماء، فيقوم المجتهد باستنباط واستخراج عِلَّة حكم الأصل أولاً، ثم يتحقق من وجود هذه العِلَّة في الفرع. ووظيفة المجتهد في هذا النوع أصعب من وظيفته في النوعين السابقين، بيان ذلك: أن العلَّة في النوع الأول منصوص عليها أو مجمع عليها، فهي واضحة هنا جلية، فيتحقق من وجودها في الفرع فقط لذلك سمي بتحقيق المناط، حيث يتحقق من وجود المناط والعِلَّة في الفرع فقط. أما العلَّة في النوع الثاني فهي منصوص عليها نصاً غير صريح، حيث أضيفَ الحكم إليها وإلى عدد من الأوصاف الأخرى، فيقوم المجتهد بإبرازها عن غيرها وتعيينها وتهذيبها وحذف ما سواها، ثم يقوم بالتحقق من وجودها في الفرع لذلك سمي بـ " تنقيح المناط ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2085 أما العِلَّة في النوع الثالث، فلم ينص عليها لا نصاً صريحاً ولا غير صريح، فيقوم المجتهد باستنباط عِلَّة حكم الأصل بأي طريق من طرق إثبات العلَّة كالمناسبة، أو الدورَان، أو السبر والتقسيم، أو الوصف الشبهي، ثم يقوم بالتأكد والتحقق من وجودها في الفرع، لذلك سمي هذا بتخريج المناط؛ لأن المجتهد أخرج العِلَّة من خفاء إلى وضوح. مثاله من الكتاب: قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر ... ) فهنا قد نص الشارع على تحريم الخمر، ولم يتعرض هذا النص للعلة لا صراحة ولا إيماء، فقام المجتهد باستنباط العِلَّة بطريق المناسبة وقَال: إن عِلَّة تحريم الخمر: الإسكار بعد تدبر واخَتبار واستقصاء واستقراء وتتبع، ثم تأكد من وجودها في الفرع وهو النبيذ، قألحق النبيذ بالخمر بواسطة هذه العِلَّة. ومثاله من السُّنَّة: قوله - صلى الله عليه وسلم - -: " لا تبيعوا البر بالبر إلا مثل بمثل ... " فهنا لم يتضمن هذا النص لا صراحة ولا إيماء ما يدل على علَّة تحريم الربا، لكن المجتهد استنبط العلَّة بالنظر والاجتهاد واستعمال طرق استنباط العلل، فقال: إن الربا في البر قد حرم، لكونه مكيلاً، أو مطعوماً، وهذه العِلَّة موجودة في الأرز، فيلحق الأرز بالبر في تحريم الربا فيهما بجامع الكيل أو الوزن. ونظراً لقلة اجتهاد المجتهد في النوعين الأول والثاني وهما: تخريج المناط وتنقيحه، فإنه قد اتفق على الاحتجاج بهما، وأقرَّ بهما أكثر منكري القياس. أما النوع الثالث - وهو: تخريج المناط فقد اختلف العلماء فيه، نظراً إلى كثرة وظائف المجتهد، واعتماده على كثير من الظنون فيه، وهذا هو الاجتهاد القياسي الذي وقع الخلاف فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2086 الطريق الخامس من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ثبوت العِلَّة بالدَوران ويشتمل على ما يلي: أولاً: في تعريفه. ثانيا: هل الدوران يفيد العلية؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2087 أولأ: في تعريف الدوران: 1 - الدوران لغة: مأخوذ من دار الشيء يدور دوراً، ودورانا، أي: طاف، ومنه قولهم: " يدور حول البيت " إذا طاف به، وليس عنده طرف يقف عنده. 2 - الدوران اصطلاحاً هو: أن يوجد الحكم عند وجود الوصف وينعدم عند عدمه. مثاله: دوران حكم العصير مع وجود الإسكار وعدم وجوده، فإن عصير العنب قبل وجود الإسكار كان حلالاً، فلما حدث الإسكار: حرم، فلما زال الإسكار وصار خلا صار حلالاً. فهنا تلاحظ: أن الحكم - وهو التحريم - قد دار مع الإسكار وجوداً وعدماً، فلما وجد وصف كونه مسكراً وجد الحكم وهو التحريم، ولما انتفى عنه وصف الإسكار انتفى عنه الحكم وهو: التحريم. فقد دلنا هذا الدوران على أن العِلَّة في تحريم العصير إنما هي السكر. ويُسمَّى هذا ب " الدوران الوجودي والعدمي "، أو " الدوران المطلق ". أما إذا وجد الحكم عند وجود الوصف، ولا ينعدم الحكم عند عدم الوصف، فهذا يسمى: " الدوران الوجودي ". أما إذا انعدم الحكم عند عدم الوصف، ولا يوجد الحكم عند وجود الوصف، فهذا يسمى: " الدوران العدمي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2089 ثانياً: هل الدوران يفيد العلية؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن الدوران يفيد العلية ظنا بشرط: عدم المزاحم، وعدم المانع. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: العادة والعقل، بيانه: أنا نجد العقلاء من الناس يفزعون في أمور الأدوية والأغذية إلى التجربة، فهم - على اختلاف عقائدهم ومللهم ومعادنهم ولغاتهم - يرون أن التجارل أثبتت أن الأثر الفلاني مما يعد صحة ونشاطا قد حصل عند استعمال هذا الدواء، أو ذاك الغذاء الفلاني وتكراره، ولم يحصل ذلك حالة انعدامه، فيستمسكون به عندما يريدون الحصول على ذلك الأثر، ولولا غلبة ظنهم أن استعماله سبب لذلك الأثر لما فزعوا إليه عند إرادتهم له، ولم يفزعوا لغيره، فإذا كان الدوران دليل على صحة العِلَّة العقلية هنا، فإنه يكون دليلاً على صحة العِلَّة الشرعية ولا فرق. الدليل الثاني: أدط الدوران يفيد العلية فى الأمور العادية والمألوفة، فإذا كان الأمر كذلك في الأمور العادية فمانه يفيد ظن العلية في غيرها؛ لعدم الفارق. فمثلاً: لو أن زيداً قد دخل فرأينا عمراً قد قام، فلما خرج زيد جلس عمرو، وتكرر ذلك فإنه يغلب على ظننا: أن العلَّة في قيام عمرو هي: دخول زيد. كذلك لو أن جماعة من الناس قد رأوا زيداً يغضب عند مناداته بلقب مخصوص، ولا يغضب إذا دعي بغيره، وقد تكرر منه ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2090 فإنه يحصل لهم الظن أنه إنما يغضب لكونه يُدعى بذلك اللقب المخصوص. ولهذا فإنهم لو سئلوا عن سبب غضبه، فمما لا شك فيه أنهم سيعللون ذلك بتلك المناداة، بل إن الصبيان لو علموا أمره فإنهم متى ما أرادوا إغضابه، فإنهم لا يترددون في دعائه بذلك اللقب الذي يكون مدعاة لإثارة ذلك الغضب فيه، ولو سئلوا عن السبب لأجابوا بنفس الجواب أيضاً. ولولا أن الدوران مفيد لظن العلية لما حصل لهم ذلك الظن، وإذا ثبت أن الدوران يفيد ظن العلية في مثل هذه الصورة، فإنه يثبت ذلك الظن في غيرهما؛ لأن الأصل أن يترتب الحكم على المقتضى، والمقتضى لذلك الظن إنما هو الدوران، وهذا يعني: أن يثبت الظن حيث ثبت الدوران. المذهب الثاني: أن الدوران يفيد العلية قطعا. وهذا مذهب قد حكي عن بعض المعتزلة، وقيل: إنهم إنما قالوا: إن الدوران يفيد القطع بالعلية عندما وجدوا أن الوصف مناسب كما هو الشأن في الإسكار الذي دارت معه حرمة عصير العنب. جوابه: لا يسلم أن ذلك يفيد العلية قطعاً؛ لأن مناسبة الوصف لا تمنع الاحتمال، ولا يستلزم العلية، نظراً لجواز أن يكون وصف مناسب ولا يكون هو العِلَّة بأن لا يعتبره الشارع في تعلق الحكم، ومع الاحتمال كيف يثبَت الفطع؟! المذهب الثالث: أن الدوران لا يفيد العلية بمجرده لا قطعا ولا ظناً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2091 وهو مذهب بعض الشافعية كابن السمعاني، والآمدي، وبعض المالكية كابن الحاجب، وهو اختيار أكثر الحنفية. دليل هذا المذهب: أن الدوران قد وجد فيما لا دلالة له على العلية كدوران أحد المتلازمين المتعاكسين، ومن ذلك المتضايفان كالأبوة والبنوة، فإنه كلما تحقق أحدهما تحقق الآخر، وكلما انتفى أحدهما انتفى الآخر، وليس أحدهما علَّة للآخر، فإذا كان الدوران قد يوجد من غير أن يكون عِلَّة دلَّ ذلك على عدم دلالته على العلية. جوابه: نحن لم نقل: إن الدوران يفيد ظن العلية مطلقا. بل اشترطنا لذلك شرطين هما: " عدم المزاحم "، و " عدم المانع ". أي: أننا نقول: إن الدوران الذي يفيد ظن العلية هو الذي لم يقم دليل على عدم علية المدار فيه، أي: الخالي عن المزاحم. وما ذكرتم من الصور التي تخلفت عنه العلية فيها ليس من الدوران الذي هو حُجَّة عندنا، لأنه ليس خاليا عن المزاحم ما دام الدليل قائما على عدم العلية فيه بين المدار والمدار، فلا يقدح هذا في الدوران الذي هو دليل على العلية عندنا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهبين الأول والثاني قالوا بإفادة الدوران للعلية بشرط: وجود الدوران مع عدم المزاحم وانتفاء الموانع، وصلاحية الوصف للعلية، وظهور المناسبة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2092 وأصحاب المذهب الثالث قالوا بعدم إفادة الدوران للعلية إذا لم تظهر معه مناسبة الوصف للعلية. وعلى هذا فقد اتفق أصحاب المذاهب على أن الدوران بمجرده ليس مسلكاً مستقلاً لإثبات العِلَّة، بل لا بد أن يكون معه من المناسبة وغيرها مما يدل على العلية، فكان الخلاف لفظيا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2093 الطريق السادس من طرق ثبوت العلَّة بالاجتهاد ثبوت العِلَّة بالوصف الشبَهي - وهو الشبه - ويشتمل على ما يلي: أولاً: تعريفه. ثانيا: هل الوصف الشبهي مثبت للعلية - وحجة؟ ثالثاً: غلبة الأشباه، أو قياس الأشباه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2095 أولاً: تعريف الوصف الشبهي: 1 - الشبه لغة: هو المثل، والجمع: أشباه، وأشبه الشيء الشيء إذا ماثله. 2 - واصطلاحا هو: " الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام عنها ممن هو أهله، ولكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام ". بيان هذا التعريف: لبيان هذا التعريف لا بد أن نقسم الوصف إلى قسمين: القسم الأول: الوصف الذي ظهرت فيه المناسبة بعد البحث التام. القسم الثاني: الوصف الذي لم تظهر فيه الناسبة بعد البحث التام. أما القسم الأول - وهو: الوصف الذي ظهرت فيه المناسبة بعد البحث التام - فهو الوصف المناسب، وقد سبق الكلام عنه في الطريق الثاني من طرق ثبوت العِلَّة بالاجتهاد، وهو: " المناسبة والإخالة ". أما القسم الثاني - وهو: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام - فهو نوعان: النوع الأول: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة، ولم يؤلف من الشارع الالتفات إليه في شيء من الأحكام، ويُسمى بالوصف الطر دي، وذلك كا لطول، والقصر، والسواد، والبياض، ويطلق عليه بـ: " قياس الطرد " كأن يقول قائل في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف، فكان طاهراً كالخروف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2097 أو يقول قائل: حرمت الخمرة لكون لونها أحمراً، أو لكونها معبأة في زجاجات، أو يقول قائل: إن الأعرابي قد وجبت عليه الكفارة؛ لكونه طويلاً أو أسمراً، أو نحو ذلك. أو يقول قائل: الخل مائع لا يصح أن تزال به النجاسة، وعلل ذلك بقوله: إنه لا تبنى عليه القناطر، ولا يصطاد فيه السمك، ولا تجري فيه السفينة، فكان في ذلك كالدهن، فإنه لا تصح إزالة النجاسة به بالاتفاق، بخلاف الماء فنظراً لكونه تبنى عليه القناطر، ويصطاد فيه السمك، وتجري فيه السفينة فإنه يصح أن تزال به النجاسة. فإن تلك الأوصاف التي ذكرت في تلك الأمثلة السابقة أوصاف طردية لا مناسبة بينها وبين الحكم الشرعي؛ حيث إن الشارع لم يعتبرها، ولم يلتفت إليها، فهذا باطل عند جمهور العلماء. النوع الثاني: الوصف الذي لم تظهر فيه المناسبة بعد البحث التام لكن ألف من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام. وهذا ما يسمى بـ " الوصف الشبهي ". وسمي بالوصف الشبهي - أو الشبه -؛ لأنه أشبه الوصف الطردي من جهة، وأشبه الوصف المناسب من جهة أخرى. فهو قد أشبه الوصف الطردي من جهة أن المجتهد لم يقف على مناسبة بين هذا الوصف وبين الحكم رغم البحث والتقصي، فهنا ظن المجتهد أنه غير معتبر كالوصف الطردي. وهو قد أشبه الوصف المناسب من جهة أن المجتهد قد وقف على اعتبار الشرع له في بعض الأحكام، فإن هذا يوجب على المجتهد أن يتوقف عن الجزم بانتفاء مناسبته، فهنا يظن المجتهد أنه معتبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2098 فنجد الوصف الشبهي تردد بين أن يكون معتبراً من وجه، وغير معتبر من وجه آخر: فمن حيث إن المجتهد لم يقف على مناسبته بعد البحث التام: ربما يجزم بعدم مناسبته. ومن حيث إنه عهد من الشارع الالتفات إليه في بعض الأحكام: فإن هذا ربما يوجب عليه التوقف عن هذا الجزم بعدم المناسبة. فهو في مرتبة تعتبر دون مرتبة المناسب، وفوق مرتبة الطردي، وفيه شبه منهما. مثاله.: قول بعضهم في الاستدلال على مسألة إزالة النجاسة المتقدمة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز بغير الماء كطهارة الحدث، فالجامع بينهما: كون كل منهما طهارة لأجل الصلاة. أما مناسبتها لتعيين الماء فيها فإنها غير ظاهرة بعد البحث، لكن عهد من الشارع الالتفات إليها في بعض الأحكام مثل: مس المصحف، والطواف، وذلك يوهم اشتمالها على المناسبة. *** ثانياً: هل الوصف الشبهي - أو الشبه - مثبت للعلية، وحجة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الوصف الشبهي يعتبر طريقاً من طرق ثبوت العلة، فهو حُجَّة. وهو مذهب الإمام الشافعي في ظاهر مذهبه، والإمام أحمد في رواية صحيحة عنه، وهو اختيار جمهور الشافعية، والحنابلة، وأكثر الفقهاء. وهو الحق؛ قياسا على الوصف المناسب، بيان ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2099 أن الوصف المناسب أثبت العلة؛ لأنه يفيد غلبة الظن، فكذلك الوصف الشبهي يفيد الظن الغالب، فكان مفيداً للعلة مثل الوصف المناسب، فيكون حجة بجامع: إفادة كل واحد منهما للظن. وإنما قلنا: إن الوصف الشبهي يفيد ظن العِلَّة؛ لأن الحكم متى ما ثبت في محل، ولم يعلم وجود وصف مناسب فيه، بل علم وجود وصف شبهي مع أوصاف طردية أخرى، فإن هذا لا يخلو من أمرين: الأمر الأول: أن يكون الحكم غير معلل بمصلحة أصلاً، وهذا بعيد؛ لأن الأحكام معللة بالمصالح؛ حيث إن أحكام الشرع لا تخلو من حكمة، فاحتمال كون الحكم لمصلحة وعلة ظاهرة أرجح من احتمال كونه تعبدياً. الأمر الثاني: إذا ثبت أن الحكم معلل بمصلحة، فإن تلك المصلحة لما لم تكن وصفا مناسبا مستقلاً، فإنها لا بد أن تكون موجودة ضمن الوصف الشبهي، أو ضمن الوصف الطردي - أي: لمصلحة ضمن أوصاف أخرى غير معتبرة عند الشارع -. أما وجود المصلحة ضمن الوصف الطردي فهو باطل؛ لأن الوصف الشبهي دائر بين أن يكون مستلزما للمناسبة، وبين أن يكون موهما للمناسبة بخلاف الوصف الطردي، فإنه لم يكن دائراً بينهما، بل هو خال من المناسبة قطعا، ولا يوهم وجودها فيه. فاتضح بذلك أن احتمال اشتمال الوصف الشبهي على المصلحة أغلب وأظهر من اشتمال الأوصاف الباقية عليها. فبان - من ذلك - أن ظن كون الوصف الشبهي متضمنا لتلك المصلحة أكثر، فلا يجوز إسناد الحكم إلى الوصف الطردي؛ لأن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2100 العمل المرجوح مع وجود الظن الراجح غير جائز، فثبت أن الحكم يثبت بالوصف الشبهي. إذن الوصف الشبهي يفيد ظن العلية؛ فيجب العمل به؛ لقيام الأدلة على أن العمل بالظن واجب. المذهب الثاني: أن الوصف الشبهي لا يعتبر طريقا لثبوت العِلَّة فليس بحُجَّة. وهو مذهب المحققين من الحنفية، وبعض المالكية كالقاضي أبي بكر، وبعض الشافعية كأبي إسحاق المروزي، وأبي إسحاق الشيرازي، وبعض الحنابلة كالقاضي أبي يعلى، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الوصف الشبهي إما أن يكون مناسبا، وإما أن يكون غير مناسب. فإن كان مناسباً فهو مقبول باتفاق القائسين؛ لأنه قياس عِلَّة. وإن كان غير مناسب فهو مردود باتفاق القائسين؛ لأنه وصف طردي، والوصف الطردي مردود. جوابه: لا نسلم هذا الحصر، بل إن الوصف قسمان: "وصف مناسب "، و" وصف غير مناسب ". وغير المناسب نوعان: " وصف شبهي "، و " وصف طردي "، والمردود هو الوصف الطردي فقط؛ لعدم التفات الشارع إليه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2101 جميع الأحكام، أما الوصف الشبهي فهو مقبول، نظراً لالتفات الشارع إليه في بعض الأحكام. الدليل الثاني: أن إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - هو الدليل المعتمد في إثبات القياس، ولم يثبت أن الصحابة قد علَّلوا بالوصف الشبهي في قياساتهم، وما دام أن الصحابة لم يعملوا به، فلا يثبت. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنكم لم تثبتوا بالأدلة على أن الصحابة لم يعملوا بالوصف الشبهي، وما لا دليل عليه لا يعتد به. الجواب الثاني: على فرض أن الصحابة لم يعملوا بذلك، فإنه لا يلزم من عدم عمل الصحابة بهذا النوع من الأوصاف والأقيسة عدم جواز العمل به، لجواز أن يدل عليه دليل آخر غير عملهم به. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي فيما يظهر لي راجع إلى التسمية فقط؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني يعملون بالوصف الذي يلتفت إليه الشارع في بعض الأحكام ويعتبره، ولكنهم يدخلونه ضمن الوصف المناسب. أما إذا لم يلتفت إليه الشارع مطلقا فهو الطردي الذي لا يعتبر. وهذا موافق لما قاله أصحاب المذهب الأول، لكنهم جعلوا درجة متوسطة بين الوصف المناسب، والوصف الطردي سموها بالوصف الشبهي؛ حيث إنه يشبه الوصف المناسب من جهة، ويشبه الوصف الطردي من جهة أخرى، وقد سبق بيان ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2102 ثالثاً: كلبة الأشباه، أو " قياس الأشباه ": وهو: أن يتردد فرع بين أصلين، ويكون شبهه بأحدهما أكثر فيلحق باكثرهما شبها به. ومعناه: أن يكون الفرع - المطلوب بيان حكمه - قد ترد بين أصلين؛ لأنه يشبه كل واحد منهما ببعض الجوانب. فالمناط الموجود في الفرع قد وجد في كل واحد من الأصلين، إلا أنه يشبه أحدهما في أوصاف هي أكثر من الأوصاف التي بها مشابهته للأصل الآخر، فيلحق الفرع بالأصل الذي شبهه به أكثر، فلو أن الفرع قد أشبه المبيح في ثلاثة أوصاف، وأشبه الحاضر في أربعة أوصاف، فإنا نلحق الفرع بالحاضر؛ لأنه أكثر شبها به. مثاله: العبد إذا قتل خطأ وزادت قيمته على دية الحر، فإنه يلاحظ فيه أمران: أولهما: كونه نفسا، وصورته صورة آدمي، فهو في ذلك يشبه الحر، وهذا يقتضي أن يدفع القاتل الدية، ولا يزاد على الدية المفروضة في الحر. ثانيهما: كونه مالأ متقوما، فهو في ذلك يشبه الحيوان كالفرس وغيره، وما إلى ذلك من الأموال المتقومة، وهذا يقتضي أنه يمكن أن يزاد في تعويضه على دية الحر. فالملاحظ في العبد المقتول خطأ أنه اجتمع مناطان متعارضان، وبالموازنة: نجد أن مشابهته للحر في كونه آدميا مكلفا يثاب على الخير ويعاقب على الشر، ومشابهته للحيوان لأتعدو كونه مملوكا متقؤَما في الأسواق، فهو بالحر أكثر شبها، فكان إلحاقه به أوْلى من إلحاقه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2103 بالحيوان، أو غيره من الأموال المتقومة، وعلى ذلك فلا يزاد في قيمته على دية الحر، هذا ما ذهب إليه أبو حنيفة، وأحمد. أما الشافعي فإنه ألحقه بالحيوان؛ حيث إنه أكثر شبها به من شبهه بالحر، لذلك تجب على القاتل قيمة العبد حتى ولو زادت على دية الحر. مثال آخر: " المذي " متردد بين البول والمني، فمن قال: إنه نجس قال: هو خارج من الفرج، ولا يخلق منه الولد، ولا يجب به الغسل، فهو في ذلك يشبه البول أكثر من مشابهته للمنى، فيلحق به فيكون نجساً مثله. ومن قال: إنه ظاهر: قال: هو خارج فيه نوع من الشهوة، ويخرج أمامها فهو في ذلك يشبه المني. والخلاصة: أنا نلحق الفرع بالأصل الذي يغلب على ظننا أنه يشبهه أكثر، لذلك سمي بـ " غلبة الأشباه "، أو " قياس الأشباه ". تنبيه: بعض العلماء قد غرف قياس الأشباه، أو غلبة الأشباه بأنه: تردد فرع بين أصلين قد أشبه أحدهما في الحكم، وأشبه الآخر في الصورة، وهو قريب من تعريفنا، ومثاله نفس المثال الأول الذي ذكرناه. تنبيه آخر: كثير من العلماء يذهبون إلى أن قياس الأشباه أو غلبة الأشباه داخل في قياس الشبه، لذلك تجدهم عرفوا قياس الشبه بنفس تعريفنا لقياس الأشباه، أو غلبة الأشباه، وهذا ليس بصحيح. بل الحق: أن قياس الشبه هو الذي سميناه بـ " الوصف الشبهى" وهو يعتبر طريقاً من طرق إثبات العلة غير الوصف المناسب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2104 أما غلبة الأشباه، أو قياس الأشباه، فإنه يختلف عنه، فقد يوجد فيه الوصف المناسب، لكن تنازع الفرع فيه أصلان - كما ذكرت - فتدبر ذلك. ولقد ذكرت هذا في هذا المكان، لبيان الفرق بينهما. ونظراً لاختلاف العلماء فيه، وخلطهم بين الأمرين، وأن الفرق بينهما دقيق جداً، فإن ذلك قد غمض على بعض العلماء حتى قال بعضهم: " لست أرى في مسائل الأصول مسألة أغمض من هذه ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2105 المطلب الخامس هل يشترط أن تكون العلَّة مناسبة أي: مشتملة على حكمة قصدها الشارع من تشريعه للحكم؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: يشترط أن تكون العِلَّة مشتملة على حكمة قصدها الشارع. والمراد بالحكمة: تحصيل مصلحة، أو تكميلها، أو دفع مفسدة أو تقليلها مثل: تعليل الترخص في قصر الصلاة بالسفر؛ لاشتماله على الحكمة المناسبة للتخفيف، وهي المشقة، ومثل: جعل الزنا علَّة لوجوب الحد على الزاني؛ لاشتماله على حكمة مناسبة، وهي: اختلاط الأنساب. فلا بد أن تكون العلَّة وصفا مناسبا يغلب على ظن المجتهد فيه وجود المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم. فالإسكار - مثلاً - مناسب لتحريم الخمر، وإيجاب العقوبة على السكران. والمصلحة في ذلك حفظ عقول الناس. وقتل الوارث مورثه مناسب لحرمانه من الميراث؛ لأن ترتب الحرمان على ذلك القتل يحقق مصلحة هي: دفع العدوان عن من هو أوْلى الناس بالرعاية، والاحترام، والمحافظة عليه، وهو قريبه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2106 ولولا حرمان الوارث القاتل لمورثه الذي استعجل الشيء قبل أوانه؛ لأدى إلى أن يقوم كثير من الناس بقتل مورثيهم استعجالاً لذلك المال، وفي ذلك من الفساد ما لا يخفى. وعلى ذلك فلا يجوز التعليل بالأمارة المجردة، وهي العلامة المحضة أو الوصف الطردي. والوصف الطردي هو: ما ليس من شأنه تعليق الحكم عليه، كأن يُعلل وجوب الحد في الزنى باسم الشخص الزاني، أو هيئته، أو نحو ذلك، أو يعلل تحريم الربا في البر بكونه من المزروعات أو نحو ذلك، أو يعلل حرمة الخمر بكونه شرابا أحمر، أو أنه عصير عنب، أو أنه يحفظ في أوزان خاصة. أو يعلل وجوب قطع يد السارق بكون السارق غنيا، أو نحو ذلك من الأوصاف التي لا مناسبة بينها وبين الحكم. وهذا هو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن الحكم حينما أثبتناه في الفرع، فإنما أثبتناه بواسطة وصف غلب على ظننا أن حكم الأصل قد ثبت من أجله، وهذا غير متصوَّر في الأوصاف الطردية المحضة، والأمارات غير المؤثرة. المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك، فيجوز أن يكون الوصف مناسبا، وغير مناسب، متضمنا لمصلحة مناسبة وغير متضمن لذلك، أي: يستوي المناسب وغيره. وهو مذهب الغزالي، وتبعه على ذلك كثير من الحنابلة. دليل هذا المذهب: أن الوصف أمارة على الحكم ومعرفا له، فيُعلل به، سواء كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2107 مناسباً أو غير مناسب؛ لأنه معرف للحكم، فيصدق عليه تعريف العلَّة. جوابه: إنه لو جاز تعليل الحكم بمجرد الأمارة لم تكن لها فائدة سوى تعريف الحكم، وذلك يفضي إلى لزوم الدور، بيانه: أن العلَّة مستنبطة من حكم الأصل فهي - إذن - فرع منه، وإذا صح القول بأنها لمجرد تعريف الحكم - فقط - كان الحكم متفرعا عنها، وذلك هو الدور، وهو ممنوع. ونحن لما قلنا: إن العِلَّة هي: الوصف المعرِّف للحكم: قلنا: إن الوصف يُشترط فيه: أن يكون ظاهراً، منضبطاً، مجاوزاً، مشتملاً على معنى مناسب للحكم، فلم يطلق ذلك الوصف فتدبر التعريف الذي سبق للعِلَّة. بيان نوع الخلاف: الخلاف فيما يظهر لي لفظي؛ لأنا نريد في المذهب الأول: العِلَّة التي نلحق الفرع بالأصل بسببها، فلا يمكن هذا الإلحاق إلا إذا كان الوصف مناسبا: غلب على ظننا وجود المصلحة المقصودة للشارع من تشريع الحكم، وهذا لا يخالفه أصحاب المذهب الثاني. وأصحاب المذهب الثاني يريدون العِلَّة المطلقة الشاملة للعِلَّة المتعدية، أو العِلَّة القاصرة التي لا يمكن أنَ نلحق بواسطتها أي فرع فلم يتوارد كلام الفريقين على محل واحد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2108 المطلب السادس هل يشترط أن تكون العلَّة ظاهرة جلية أو يجوز التعليل بالوصف الجلي والخفي؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يشترط أن تكون العِلَّة ظاهرة جلية. وهو مذهب المالكية، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو الحق؛ لأن المقصود من الوصف المعلل به إثبات الحكم في الفرع، ولا يمكن هذا إلا إذا كان هذا الوصف جليا ظاهراً في الأصل ويوجد في الفرع كما وجد في الأصل، أما إذا كان هذا الوصف خفياً في الأصل فإنه لا يمكن إثبات الحكم بواسطته في الفرع فمثلاً لو قلنا: إن عِلَّة الملك في البيع هو: التراضي بين المتبايعين، فإن هذه العلَّة لا تصح؛ لأن الرضى من الأوصاف الخفية التي يتعذر الوقوف عليَها بنفسها، لذلك لا بد أن نعلل الملك في البيع بأمر ظاهر يكون مظنة تحقيق الرضا في البيع وهو: الإيجاب والقبول من الطرفين، أو المعاطاة في الأشياء اليسيرة والحقيرة. فإن الإيجاب والقبول من الطرفين في الأشياء النفيسة والمعاطاة في الأشياء الحقيرة دليل على رضا المتعاقدين. المذهب الثاني: أنه لا يشترط ذلك، بل يجوز التعليل بالوصف الجلي والخفي، ولا فرق. وهو مذهب أكثر الحنفية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2109 تفسير الجلي والخفي من الأوصاف عند الحنفية: المراد بالوصف الجلي عندهم: ما لا يحتاج إلى النظر الكثير كتعليل طهارة سؤر الهرة بكثرة التطواف وصعوبة التحرز منها المنبه عليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنها ليست بنجس، إنها من الطوافين عليكم والطوافات ". والمراد بالوصف الخفي عندهم: ما يحتاج إلى نظر كثير ودقة تأمل كالعلل التي يتطرق إليها الاحتمال كتعليل تحريم ربا الفضل في البر بالطعم، أو الاقتيات، وتعليل عررم الربا في الذهب والفضة بالثمنية، ونحو ذلك. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إن أصحاب المذهب الأول إنما اشترطوا أن يكون الوصف ظاهراً بنفسه أو بغيره، وهذا موافق لما أراده أكثر الحنفية؛ حيث بيَّنوا: إن الوصف الخفي يكتسب الظهور مما يقوم مقامه، فمثلاً الرضا بين المتعاقدين وإن كان خفيا، إلا أن دلالة صيغة العقد الظاهرة عليه جعلته من الأوصاف الظاهرة التي يجوز التعليل بها، وعليه: فإن كل وصف يمكن الوقوف عليه بدليل يزيل خفاءه يصح نصبه أمارة وعِلَّة ما دام المقصود حاصلاً به، وهو التعريف بالحكم. فهذا الكلام منهم يدل على أن الوصف الظاهر هو الذي يعلل به، أما ما خفي فلا يعلم إلا بواسطة الوصف الظاهر، وهو موافق لما قلناه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2110 المطلب السابع حكم التعليل بالحكم الشرعي هل يجوز أن يكون الوصف المعلل به حكما شرعيا؟ مثاله: قول المجتهد في الذمي: يصح ظهاره؛ لأنه يصح طلاقه كالمسلم. مثال آخر: قياس الوضوء على التيمم في وجوب النية؛ لأنهما طهران عن حدث. لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أننا قلنا: إن العِلَّة هي المعرف للحكم، ولا يستبعد أن يجعل حكما ما معرفاً لحكم آخر، كأن يقول الشارع: "مهما رأيتم أني أثبت الحكم الفلاني في الصورة الفلانية فاعلموا أني أثبت الحكم الفلاني فيها أيضا ". الدليل الثاني: أن الحكم قد يدور مع الحكم الآخر وجوداً وعدما، فتثبت عليته بذلك، كما ثبتت علة غيره؛ لأن الدوران طريق من طرق إثبات العِلَّة مطلقاً، أي: من غير فرق بين عِلَّة وعِلَّة - كما سبق بيانه -. فمثلاً: صحة ظهار الذمي توجد مع صحة طلاقه، فمن صح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2111 طلاقه صح ظهاره، ومن لم يصح طلاقه لا يصح ظهاره، فتكون صحة طلاقه عِلَّة لصحة ظهاره. وكذلك: جواز رهن المشاع يوجد مع جواز بيعه وجوداً وعدما، فما صح بيعه صح رهنه، وما لم يصح بيعه لا يصح رهنه، فيكون جواز بيع المشاع عِلَّة لجواز رهنه. الدليل الثالث: أنه وقع في الشريعة تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي، والوقوع دليل الجواز، من ذلك أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن أمي نذرت أن تحج فماتت قبل أن تحج أفأحج عنها؟ قال: " نعم حجي عنها، أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته؟ اقضوا حق الله فالله أحق بالوفاء ". فهنا نبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - على أن العلَّة لصحة القضاء: كون الشيء صار ديناً في الذمة، فقد قاس - صلى الله عليه وسلم - إجزاء الحج عن الغير بإجزاء قضاء الدين عنه بعلَّة كون المقضي ديناً، والدين حكم شرعي؛ لأنه لزوم أمر في الذمة، وهذا اللزوم معتبر شرعاً، مترتب على خطاب الله تعالى المتعلق بأداء الحق. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تعليل الحكم الشرعي بالحكم الشرعي. وهو لبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الحكم الذي جعل عِلَّة يحتمل فيه ثلاثة احتمالات فقط هي: الاحتمال الأول: إما أن يكون مقارناً للحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2112 الاحتمال الثاني: إما أن يكون متأخراً عنه. الاحتمال الثالث: إما أن يكون متقدما عليه. أما الأول - وهو: أن يكون الحكم الذي جعل عِلَّة مقارنا للحكم الذي جعل معلولاً - فإنه لا يصح التعليل به؛ لأَن جعل أحدهما علَّة والآخر معلولاً تحكما؛ حيث إنه يحتمل أن يكون الحكم الذي جعله عِلَّة معلولاً، ويحتمل العكس، فلا مزية لأحدهما على الآخر، فالقطع بكون أحدهما عِلَّة والآخر معلولاً تحكم. أما الثاني - وهو: أن يكون الحكم الذي جعل عِلَّة متأخراً عن الحكم الذي جعل معلولاً - فإنه لا يصح التعليل به؛ لأن المتأخر لا يكون عِلَّة للمتقدم؛ نظراً لوجود العلول بدون العِلَّة. أما الثالث - وهو: أن يكون الحكم الذي جعل علَّة متقدما على الحكم الذي جعل معلولاً - فلا يصح التعليل به - أَيضا -؛ لأن القول بجوازه يلزم عليه وجود العِلَّة مع تخلف معلولها عنها - وهو الحكم - وهذا نقض، والنقض من قوادح ومبطلات العِلَّة، وسيأتي إن شاء اللَّه، وبذلك اتضح أن التعليل بالحكم الشرعي غير جائز. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ قولكم في الأول والثاني، بيان ذلك: أن قولكم: " إن الحكم المقارن لا يكون علَّة " لا نسلمه، بل لا مانع من جعل الحكم علَّة للحكم المقارن له، ولا يكون في ذلك تحكم؛ لجواز أن يكون أَحد الحكمين مناسباً، والآخر غير مناسب، فتكون المناسبة مرجحة لكون ذلك الحكم المناسب عِلَّة. وقولكم: " إن الحكم المتأخر لا يكون عِلَّة للمتقدم " لا نسلمه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2113 بل يكون الحكم المتأخر علَّة للحكم المتقدم؛ لأنا نقصد بالعلَّة المعرف؛ لأن المعرف يجوز أَن يكون متأخراً عن المعرف. الدليل الثاني: أن الشارع إذا أثبت حكمين في صورة واحدة معا، فليس أحدهما يتميز عن الآخر في الوجود والافتقار، والمعلومية، وعلى ذلك فليس جعل أحدهما عِلَّة للآخر أوْلى من العكس، وحينئذ: 1 - إما أن لا يكون أحدهما عِلَّة للآخر، وهذا مطلوبنا. 2 - أو أن يجعل كل واحد منهما عِلَّة للآخر، فيلزم الدور. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ قولكم: " إنه لا مزية لأحدهما على الآخر "، بل قد توجد مزية من حيث إنه يجوز أن يكون أحد الحكمين مناسبا للآخر من غير عكس، أو يجوز أن يكون أحدهما أكثر مناسبة من الآخر، فيكون المناسب، أو الأكثر مناسبة هو العلة. اَلجواب الثاني: لا نُسَلِّمُ أنه يلزم الدور إذا جعلنا كل واحد منهما علَّة، وذلك لأن العلَّة هي المعرف، ولا مانع من أن يكون كل واحد مَن الشيئين معرفا للآخر. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إن أصحاب المذهب الثاني لا يجيزون التعليل بالحكم الشرعي في الأمثلة السابقة، وكذلك مثل: قياس زكاة مال اليتيم بزكاة غيره في أنه مالك تام الملك، وقياس الرقبة الواجبة في الظهار على الرقبة الواجبة في القتل، وجعل الإيمان شرطاً فيهما باعتبار أن كل واحدة منهما كفارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2114 المطلب الثامن بيان أن العلَّة يشترط فيها أن لا تخالف نصا أو إجماعاً هذا قد اتفق العلماء عليه؛ لأن العلَّة مستنبطة من حكم الأصل الثابت بالنص أو الإجماع، فالعلَّة هي الوصف الذي دلَّنا عليه النص أو الإجماع، وإذا كان الأمرَ كذلك فلا يعقل أن يخالف العلَّة أصولها، وهو النص، أو الإجماع، وتكون علَّة صالحة لثبوت الحكم، فإذا علل أحدهم بعِلَّة تخالف نصا أو إجماعاً، فإنها مردودة. مثل: ما ورد عن بعض فقهاء الأندلس، حيث أفتى للملك الذي أكثر من الجماع في نهار رمضان بأنه يصوم شهرين متتابعين، وعلل ذلك بسهولة العتق على مثل هذا الملك لما لديه من الأموال والجواري حيث لا يجد في ذلك أي نوع من المشقة، ولا يحقق الزجر الذي شرعت الكفارة من أجله، فألزمه بالصوم الذي هو يشق عليه، وأجدر بتحقق الزجر والردع لأمثاله. لكن هذه العِلَّة مردودة؛ لأنها مخالفة للنص، وهو حديث الأعرابي الذي رتب كفارة الجماع في نهار رمضان على ثلاث مراتب: أولها: عتق الرقبة، فإن لم يجد فالصيام، فإن لم يستطع فالإطعام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2115 المطلب التاسع حكم التعليل بالحكمة الحكمة لغة: ما تعلقت بها عاقبة حميدة، وهي: بخلاف السفه. وهي في الاصطلاح تطلق على ما يترتب على التشريع من جلب مصلحة أو تكميلها أو دفع مفسدة أو تقليلها. فيكون الفرق بينها وبين العلَّة: أن العِلَّة هي الوصف الظاهر المنضبط الذي جعله الشارع مناطَا لثبوت الحكم؛ حيث ربط الشارع به الحكم وجوداً وعدماً بناء على أنه مظنة لتحقيق المصلحة المقصودة للشارع من شرع الحكم. أما الحكمة فهي: المصلحة نفسها، ولذلك فإنها تتفاوت درجاتها في الوضوح والانضباط. فمثلاً: أباح الشارع للمسافر قصر الصلاة، وعلل ذلك: بالسفر؛ حيث لا يختلف باختلاف الأفراد، ولا الأحوال فهو ظاهر منضبط وهو مظنة للمشقة. والحكمة هي: المصلحة التي قصدها الشارع. كذلك: أجاز الشارع - مثلاً - للشريك أن يتشفع في مال شريكه والوصف المنضبط في ذلك: الشركة فتكون هي العِلّة. أما الوصف غير النضبط والذي يختلف باختلاف الأفراد والأحوال، والذي قصده الشارع في التشريع، فإنه دفع الضرر عن الشريك القديم من الشريك الجديد، وهذا هو حكمة التشريع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2116 ونظراً لكون تلك الحكمة تختلف باختلاف الأفراد والأحوال، وقد تكون خفية، فإن العلماء قد اختلفوا هل يجوز تعليل الحكم بها أو لا يجوز؟ على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز التعليل بالحكمة. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن حكمة الحكم الغالب فيها الخفاء، وعدم الانضباط: فهي مختلفة باختلاف الأحوال، والأفراد، والأزمان، فمثلاً: المشقة التي هي حكمة مشروعية قصر الصلاة في السفر، وإباحة الإفطار في السفر تختلف باختلاف الأشخاص، فبعضهم يشعر بالمشقة عند أدنى تعب، وبعضهم لا يشعر بشيء مهما صعب السفر، وبعضهم قد توسط، كذلك المسافر في الشتاء قد لا يشعر بالعطش، كمن سافر في الصيف، كذلك الراكب دابة أو سيارة، أو طائرة يختلف عن غير الراكب، فلو قلنا: إن المشقة هي العلَّة في الإفطار لترتب على ذلك: اختلاف الحكم باختلاف الأفراد وقوة تحملهم وعدم ذلك، وترتب عليه أيضا اختلاف الحكم باختلاف الأزمان، وترتب عليه - أيضاً - اختلاف الحكم باختلاف المركوب ونحو ذلك، وهذا يجعل أحكام الشرع تختلف باختلاف الأفراد، والأحوال، حتى أنك لتجد اثنين مسافرين: هذا يجوز له الإفطار، وهذا لا يجوز؛ نظراً لاختلاف ظروفهما. ويترتب عليه: لزوم البحث الشديد والنظر الدقيق لمعرفة مناط الحكم لهذا الشخص أو ذاك، وهذا فيه من التكليف ما اللَّه به عليم، والكلفة خلاف حكمة التخفيف الذي جاءت به الأحكام الشرعية، وقد وجدنا الشارع رد الناس في مثل هذه الأمور - التي يختلف فيها الناس - إلى مظانها الظاهرة الجلية؛ دفعا للتخبط في الأحكام، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2117 ونفياً للحرج والمشقة والعسر، فرخص في القصر والفطر لعلَّة ظاهرة جلية لا تختلف باختلاف الأفراد والظروف وهي: مجرد السفر ثمانين كيلو متراً، ولم يعلق الترخص بالمشقة؛ لأنها مما يضطرب بها الناس ويختلفون فيها - كما قلنا -. ويؤيد ذلك: أن الشارع لم يرخص للعمال في التحميل، أو البناء في الفطر في الحضر مع أنهم يجدون من المشقة ما لا يجده المسافرون. كذلك قلنا: إن حد الزنى وجب لعلة وهي: نفس الزنا، ولم نعلل بالحكمة وهي: اختلاط الأنساب؛ لأنا لو عللنا بوجوب الزنا باختلاط الأنساب لقال قائل: أنا أضمن أنه لا تختلط الأنساب بأن أزنى بامرأة لا زوج لها وهى موقوفة لا ترى الرجال ولا يرونها، وإذا كان الحكم يدور مع العِلة: إذا وجدت وجد الحكم وإذا عدمت عدم الحكم كما قلنا في الدوران: فإنه على هذا إذا وجد اختلاط الأنساب وجد الحكم، وهو تحريم الزنا والحد عليه، وإن لم يوجد اختلاط الأنساب فلا يوجد الحكم، فلا حد على الزاني. ولكن العلماء قد اتفقوا على بطلان ذلك، وعللوا وجوب حد الزنا بعلة ظاهرة جلية وهي: نفس الزنا. كذلك: أوجب الشارع العدة لبراءة الرحم بالوطء الذي هو مظنة لشغل الرحم حتى لو كان صغيرة أو يائسة مما لا يتصور معها اختلاط الأنساب، والأمثلة على ذلك كثيرة لا تعد ولا تحصى. وهذا قياسا على ما ذكرناه في أن الصبي المميز غير مكلف؛ حيث إن الصبي وإن كان مفرقاً بين الخير والشر، والجيد والرديء، والطيب والخبيث إلا أنا لا نقول بأنه مكلف؛ لأنا لا نعلم بالدقة متى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2118 عرف ذلك، ولأن الصبيان يختلفون في ذلك باختلاف بيئاتهم، ونوع التربية التي ربوا عليها مما يلزم منه: أن يقال: إن هذا الصبي مكلف، وذاك غير مكلف فيختلف الحكم باختلاف الصبيان. لكن الشارع قد وضع لنا حداً إذا بلغه الصبي يكون مكلفاً لا يختلف فيه الصبيان وهو: حد البلوغ - وهو: خمسة عشر عاما، أو الاحتلام، أو الإنبات من قبل، وتزيد الصبية الحيض. كذلك هنا: فإن حكمة الحكم وهي المشقة مثلاً في السفر تختلف باختلاف الأشخاص والأقوال، فوضع لنا الشارع علامة ظاهرة جلية لا تختلف باختلاف الأشخاص والأقوال، وهي: السفر، فيكون الحكم واحداً لجميع المكلفين. الدليل الثاني: أنه لو جاز التعليل بالحكمة: للزم تخلف الحكم عن علته، وهذا خلاف الأصل. فمثلاً لما قلنا بوجوب الحد على الزاني، فإما أن يعلل ذلك بالوصف المنضبط الظاهر وهو: الزنا، وإما أن يعلل ذلك بحكمته وهي: اختلاط الأنساب. لا يمكن أن نعلل بالثاني - وهو اختلاط الأنساب -؛ لأنه يلزم منه التخلف في بعض الصور؛ حيث يتحقق اختلاط الأنساب بدون الزنا؛ كأن يأخذ إنسان أطفالأ صغاراً جداً على حين غفلة من آبائهم وفرقهم حتى صاروا رجالاً، فلن يستطيع آباؤهم التعرف عليهم، فهنا قد تحققت الحكمة، وهي: اختلاط الأنساب، فينبغي على هذا: القول بوجوب الحد على من أخذهم؛ لأنه حقق الحكمة، وهي: اختلاط الأنساب، وهذا لم يقل به أحد، فبان من هذا: أنه، قد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2119 تخلف الحكم عن علَّته، وهو نقض مبطل للتعليل كما سيأتي إن شاء الله، فثبت أنه يعلل بالأول وهو الوصف الظاهر، وهو: الزنا. الدليل الثالث: أن الشارع قد علل الترخص في قصر الصلاة بالسفر نفسه حتى لو انتفت فيه المشقة كالسفر المريح بأي وسيلة، ولم يعلل ذلك بالحضر وإن اشتمل على المشقة، كما هو الشأن فيمن يلاقي المشاق في الأعمال الشاقة كعمال المصانع. فهنا وجدنا الشارع اعتبر المظان عند خلوها عن الحكمة. ولو جاز التعليل بالحكمة لما وجدنا الشارع اعتبر تلك المظان؛ لأنه لا عبرة بها مع تحقق خلوها عن الحكمة، لكنه اعتبرها فدلنا ذلك على أن المعتبر المظنة دون الحكمة. المذهب الثاني: أنه يجوز التعليل بالحكمة مطلقا. وهو مذهب الغزالي، وفخر الدين الرازي، والبيضاوي، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الحكمة - وهي: مقصود الشارع من شرع الحكم - هي أصل لذلك الوصف، فإذا جاز التعليل بالوصف المشتمل عليها، فإنه من باب أوْلى أن يجوز التعليل بالحكمة؛ لأنها أصل لذلك الوصف، ولا يعقل أن يكون الأصل أقل درجة من فرعه. أي: إذا جاز التعليل بالفرع - وهو الوصف - فإنه من باب أوْلى إلى جواز التعليل بالأصل - وهي الحكمة. جوابه: إن قياس الحكمة على الوصف بالقياس الأولى لا نسلمه، بل هو قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2120 أن الوصف المشتمل على الحكمة يجوز التعليل به؛ لأمرين: أولهما: اشتماله على الحكمة، ثانيهما: كونه ظاهراً منضبطا. بخلاف الحكمة، فإنه لا يتوفر فيها الأمر الثاني؛ لعدم انضباطها غالبا - كما قلنا سابقا - حيث تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، والأشخاص كالمشقة. المذهب الثالث: التفصيل، بيانه: إن كانت الحكمة ظاهرة منضبطة بنفسها، فإنه يجوز التعليل بها. وإن كانت الحكمة خفية مضطربة، فإنه لا يجوز التعليل بها. وهو ما ذهب إليه الآمدي، وابن الحاجب، والصفي الهندي، وكثير من الحنابلة. دليل هذا المذهب: أنا قلنا: إنه لا يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت خفية غير منضبطة لأمرين هما: أولهما: أن الحكمة الخفية المضطربة تختلف باختلاف الأشخاص والأماكن، والأزمان والأحوال، ويعسر معرفة حكمة الحكم والحال هذه. ثانيهما: أن التعليل بالحكمة الخفية المضطربة يفضي إلى العسر والحرج في حق المكلََّف؛ حيث إنه سيكلف بالبحث عنها والاطلاع عليها، والنصوص تنفي العسر عن المكلفين. وقد سبق بيان هذين الأمرين في الدليل الأول من أدلة المذهب الأول، وهو أنه لا يجوز التعليل بالحكمة مطلقاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2121 وقلنا: إنه يجوز التعليل بالحكمة إذا كانت ظاهرة منضبطة؛ لأن الوصف الظاهر المنضبط يصح التعليل به؛ لاشتماله على حكمة مقصودة للشارع، وهذا الوصف يعتبر فرعا لحكمته أقيم مقامها؛ لأنه ظاهر منضبط، ومن الواضح أن العلماء لم يقولوا بصلاحية الوصف للعلية، إلا لأنه مظنة لتلك الحكمة المقصودة أصلاً في التشريع، فإذا وجدنا الحكمة بهذه الصفة من الظهور والانضباط، فإنها تكون مساوية لذلك ألوصف بالظهور والانضباط، وعلى هذا فإن التعليل بها جائز. جوابه: إن الحكمة لو كانت ظاهرة منضبطة لجاز التعليل بها؛ لكنها غير ظاهرة ولا يمكن أن تنضبط؛ لأنها - كما قلت مراراً - تختلف باختلاف الأشخاص، والأماكن، والأحوال، والأزمان، فهي راجعة إلى دفع مفسدة، أو جلب مصلحة، وهذه الأمور تختلف باختلاف الناس وحاجاتهم ومصالحهم، ودفع المفاسد عنهم، وكل ذلك مما يخفى ويزيد وينقص بحسب الأحوال والأشخاص، فإذا كان الأمر كذلك فلا تكون ظاهرة، ولا يمكن أن تنضبط إلا نادراً، ولا يمكننا العلم بهذا النادر إلا بعد عسر وحرج، والعسر والحرج مرفوعان في الشريعة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، فيما يظهر؛ لأن أصحاب المذاهب قد اتفقوا على الترخص للمسافر في قصر الصلاة وإباحة الفطر، ولم نجد واحداً منهم قد نظر إلى تحقق المشقة وعدم تحققها، وهذا يجعل الخلاف لا أثر له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2122 المطلب العاشر هل يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي وتعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي، وتعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي، وتعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي؟ هذا فيه تفصيل إليك بيانه: أما الأول - وهو: تعليل الحكم الوجودي بالوصف الوجودي - فهو جائز مثل: وجود تحريم الربا في البر، والعِلَّة وجود الطعم فيه، أو الكيل، أو الوزن. أما الثاني - وهو: تعليل الحكم العدمي بالوصف الوجودي - فهو - أيضا - جائز مثل: وجود الدين عِلَّة لعدم وجوب الزكاة. أما الثالث - وهو: تعليل الحكم العدمي بالوصف العدمي - فهو أيضاً جائز مثل: عدم الرضا علَّة لعدم صحة البيع، مثال آخر: عدم نفاذ التصرف بالنسبة للمجنون والعِلَّة: عدم العقل. أما الرابع - وهو: تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي - فهو مثل: قولنا: عدم الفسخ في زمن الخيار عِلَّة لثبوت واستقرار اللك: فقد اختلف العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2123 وهو مذهب فخر الدين الرازي، وصفي الدين الهندي، وكثير من العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الدوران يدل على ذلك؛ حيث إن الحكم يدور مع بعض العدميات، فيقال: ثبت واستقر الملك لما عدم الفسخ في زمن الخيار، ولو وجد الفسخ في زمن الخيار لما ثبت الملك، كذلك تقول: عدم السبب الشرعي الناقل للملك موجب لحرمة الانتفاع بما وضعت اليد عليه، ووجود السبب الشرعي الناقل للملك مبيح للانتفاع به، وهذا هو الدور، والدور يفيد ظن العلية - كما قلنا فيما سبق - والعمل بالظن واجب. الدليل الثاني: أن العِلَّة هي: المعرف للحكم - كما قلنا في تعريف العلَّة - وهذا المعنى لا ينافي العدم؛ لأن العدم قد يكون معرفا على وجود حكم ثبوتي، كما يكون معرفا لحكم عدمي. فمثلاً: عدم الشرط يعرفنا عدم المشروط، وعدم العِلَّة يعرفنا عدم المعلول، فكذلك العدم يعرفنا بوجود حكم ثبوتي، فعدم امتثال العبد لأوامر سيده يعرفنا غضبه عليه والغضب أمر وجودي. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تعليل الحكم الوجودي بالوصف العدمي. وهو مذهب الآمدي، وابن الحاجب، وكثير من الشافعية، وهو مذهب أكثر الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل م لأول: أنه اتفق على أنه يجب على المجتهد البحث عن عِلَّة الحكم بالسبر والتقسيم للأوصاف التي تصلح للعلية - كما سبق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2124 بيانه - وهذا شيء يستطيعه المجتهد في الأوصاف الثبوتية، أما الأوصاف العدمية فإنها غير متناهية لذلك لا يجب عليه سبرها؛ لعدم استطاعته على حصرها -، وهذا يدلنا على أن الأوصاف العدمية لا تصلح للعلية؛ إذ لو كانت واجبة لوجب على المجتهد سبرها شأنها في ذلك شأن الأوصاف الثبوتية؛ لأنه لا يجوز إهمال شيء مما يصح التعليل به. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ ما ذكرتموه، بل يجب على المجتهد سبر جميع العلل التي يمكن أن يعلل به الحكم، سواء كانت ثبوتية، أو عدمية، وإن لم يفعل المجتهد ذلك فلا يصلح للاجتهاد. الجواب الثاني: سلمنا عدم وجوب سبر الأوصاف العدمية على المجتهد، فليس ذلك الحكم؛ نظراً لعدم صلاحيتها للتعلل بها، بل إن ذلك سقط عن المجتهد لتعذره؛ حيث إن العدميات غير متناهية. الدليل الثاني: أنه يصح في الاستعمال اللغوي والعرفي أن يقول قائل - سائلاً -: " أي شيء وجد حتى حدث هذا الأمر؟ "، وهذا يفهم أنه لو لم يكن الحدوث متوقفا على وجود شيء: لكان لغواً شأنه في ذلك شأن قول القائل: " أي رجل مات حتى حدث لفلان هذا المال؟ "، فإن حدوث المال غير متوقف على موت أحد، فكان سؤالاً فاسداً. وهذا كله يفيد: أنه لا بد للحكم الثبوتي من عِلَّة وجودية وثبوتية، وهو يتضمن عدم جواز التعليل بالعدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2125 جوابه: أنه لو سلم توقف حدوث ذلك الأمر على الأمر الوجودي، فإنه معارض بما يدل على صحة تعليل الأمر الوجودي بالأمر العدمي، فيصح أن يقال: عاقب الوالد ولده؛ لأنه لم يمتثل أمره، وطرد زيد من الكلية؛ لأنه لم ينجح، وهذا كله تعليل للأمر الوجودي بالأمر العدمي. بيان نوع الخلاف: الخلاف لفظي فيما يظهر لي؛ لأن أصحاب المذهب الثاني موافقون على تعليل الحكم الثبوتي والوجودي بالوصف العدمي، إلا أنهم لا يعبرون بالوصف العدمي، بل يعبرون بمفهومه، فمثلاً: لما قلنا: إن عدم الفسخ في زمن الخيار علَّة لثبوت الملك، قال أصحاب المذهب الثاني: إن انتهاء زمن الخيارَ علَّة لثبوت الملك، وهكذا فلا خلاف في الحكم في اللفظ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2126 المطلب الحادي عشر حكم التعليل بالوصف المركب المراد بالوصف المركب: الوصف المتكون والمركب من عدة أجزاء كتعليل وجوب القصاص بالقتل العمد العدوان، أو تعليل وجوب الكفارة بوقاع مكلف في نهار رمضان، وهكذا. فهل يجوز التعليل بذلك؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز التعليل بالوصف المركب من أجزاء كما جاز التعليل بالوصف الواحد. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قياس العِلَّة المركبة من عدة أوصاف على العِلَّة المتكونة من وصف واحد، بيان ذلك: أن الوصف الواحد يغلب على الظن أنه علَّة بأحد طرق إثبات العلَّة السابقة كدلالة طريق النص الصريح، أَو طريق الإيماء، أو طريق الإجماع، أو طريق المناسبة، أو السبر والتقسيم، أو تنقيح المناط، أو الدوران، فكذلك الوصف المركب من عدة أجزاء يظن عليته بتلك الطرق؛ لأن ما يثبت به علية الوصف الواحد يصلح أن يثبت به علية الأوصاف المتعددة من غير فرق؛ لأن القول بالفرق لا دليل عليه، وما لا دليل عليه لا يعتمد عليه. الدليل الثاني: أن المصلحة قد لا تحصل إلا بعلة مركبة من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2127 أوصاف؛ حيث إنه بعد الاستقراء والتتبع ثبت أن كثيراً من الأحكام الشرعية يتوقف القول فيها على حصول أوصاف عديدة ليكمل التناسب بين الوصف والحكم، فمثلاً لو اقتصرنا على وصف واحد لكان الحكم واسعاً لا يمكن حصره، فمثلاً لو قلنا: إن علَّة كفارة الوقاع هي: الوقاع فقط لدخل المكلف وغيره، ولو قلنا:إن العِلَّة هي: وقاع مكلَّف في نهار رمضان لحصر ذلك في هذا الشخص الموصوف بتلك الصفات. كذلك لو قلنا: إن عِلَّة وجوب القصاص هي: " القتل " فقط، لدخل قتل الخطأ، وقتل شبه العمد، ولما ناسب وجوب القصاص، ولكن لما أضيف إليه كونه عمداً عدواناً حُصر الشخص الذي يجب عليه القصاص، وناسب الحكم. الدليل الثالث: وقوع التعليل بالوصف المركب في السنة، ومن ما جاء في بعض الروايات: تعليل أحكام المستحاضة بأنه دم عرق انفجر، فعلل الدم بالانفجار، وهذا هو التركيب، والوقوع دليل الجواز. المذهب الثاني: لا يجوز التعليل بالوصف المركب من أجزاء. وهو مذهب بعض المعتزلة، وحكي عن أبي الحسن الأشعري. دليل هذا المذهب: أنه لو صح التعليل بالوصف المركب من أجزاء، فعندنا احتمالات: الاحتمال الأول: إما أن تكون العلية قائمة بجزء غير معين. الاحتمال الثاني: إما أن تكون العلية قائمة بجزء معين. الاحتمال الثالث: إما أن تكون العلية قائمة بكل واحد منها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2128 الاحتمال الرابع: إما أن تكون العلية قائمة بمجموع الأجزاء. وكلها باطلة، بيان ذلك: أن الأول - وهو: كون العلية قائمة بجزء غير معين - باطل؛ لأن العلية وصف موجود، والواحد لا بعينه لا وجود له، وغير الموجود لا يصح أن يقوم به الموجود. وأما الثاني - وهو: كون العلية قائمة بجزء معين - فهو باطل - أيضاً -؛ لأن قيام العلية بجزء معين يجعل الجزء المعين هو العِلَّة، فتكون العِلَّة مفردة، لا مركبة، وهو خلاف ما نحن بصدده. وأما الثالث - وهو: كون العلية قائمة بكل جزء من هذه الأجزاء - فهو باطل - أيضا -؛ لأنه يؤدي إلى جعل كل جزء عِلَّة مستقلة، فيكون كل واحد منها عِلَّة، ولا يكون المجموع هو العَلة كما هو المفروض في هذه المسألة. وأما الرابع - وهو: كون العلية قائمة بمجموع الأجزاء - فهو باطل؛ لأن ذلك يوجب قيام المتحد بالمتعدد أو اتحاد المتعدد، وهو قلب للحقائق. وإذا بطلت تلك الاحتمالات فإنه يمتنع قيام العلية بالوصف المركب. جوابه: إن هذا الدليل منتقض بالحكم على المتعدد من الألفاظ والحروف بأنه خبر أو استخبار، أو وعد أو وعيد، وما إلى ذلك من أقسام الكلام؛ لأن كونه خبراً. زائد عليه، فإما أن يقوم كونه خبراً بكل حرف، أو بمجموع الحروف. ومنتقض بما يتجدد من الأعداد والهيئة الاجتماعية، فمثلاً: كل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2129 واحد من العشرة ليس بعشرة، وعند اجتماعها يكون المجموع عشرة. فكذلك: كل واحد من أجزاء الوصف ليس هو العِلَّة، وعند اجتماعها يكون المجموع عشرة. المذهب الثالث: يجوز التعليل بالوصف المركب من أجزاء بشرط: أن لا يزيد على سبعة أجزاء. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أنه بعد الاستقراء والتتبع ثبت أن أجزاء الوصف هي سبعة، ولذلك لا يزاد على ذلك، فإن زاد فلا يجوز التعليل به. جوابه: لا داعي لهذا التقييد بهذا العدد من الأجزاء؛ لعدم وجود الدليل المقيد أو المخصص، وإن وجد في حالة واحدة، فالحالة الواحدة لا يقيد بها قاعدة عامة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا قد اختلف فيه على قولين: القول الأول: أن الخلاف لفظي، وهو الحق؛ لأن أصحاب المذاهب قد اتفقوا على أن الأجزاء لا بد منها في العلية، ولكن الخلاف وقع بينهم - بعد ذلك - في أنها هل هي أجزاء للعلة، أو أن واحداً منها علة والباقي شروط فيها. فمن أجاز التعليل بالعلة المركبة - وهم أصحاب المذهب الأول والثالث - جعل جميع الأجزاء علة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2130 ومن منع التعليل بالعلة المركبة من أوصاف تعلق بوصف واحد، وجعل الباقي شروطا لذلك الوصف. ولا يترتب على الخلاف شيء بالنسبة لوجود باقي الأجزاء؛ حيث إنه لا بد منها، سواء كانت أجزاء أو شروطا. القول الثاني: إن الخلاف معنوي، وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا القول: أن لهذا الخلاف أثراً وهو: أنه من أجاز التعليل بالوصف المركب من أجزاء قالوا بعلية كل جزء، وبناء على ذلك فإنهم يشترطون المناسبة في كل الأجزاء. أما من منع التعليل بالوصف المركب من أجزاء، فإنهم لا يشترطون المناسبة إلا في هذا الجزء الذي جعلوه عِلَّة، دون الباقي. جوابه: أن المناسبة تشترط في العِلَّة مطلقا، أي: سواء كانت وصفاً مفرداً، أو متعدداً مركبا، وليس هذا أثراً للخلاف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2131 المطلب الثاني عشر حكم تعليل الحكم بأكثر من عِلَّة " تعدد العِلَل " اتفق العلماء على جواز تعليل الحكم الواحد نوعاً المختلف شخصا بعلل مختلفة، كان تعلل إباحة قتل شخص بكونه مرتداً، وتعلل إباحة قتل شخص آخر بكونه قاتلاً، وتعلل إباحة قتل شخص ثالث بكونه زانيا محصنا. واختلف العلماء في تعليل الحكم الواحد في صورة واحدة بعلتين مختلفتين، أو أكثر من ذلك مثل: تعليل حرمة وطء امرأة؛ بكونها معتدة، وكونها حائضا، وتعليل وجوب القتل على مكلف بكونه زانيا وهو محصن، وبكونه قاتلاً، وبكونه مرتداً، فهل يجوز ذلك؟ اختلف في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يجوز تعليل الحكم الواحد بعلتين فأكثر مطلقا. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن العلَّة هي: الوصف المعرف للحكم - كما قلنا في تعريف العِلَّة - ولَا مانع من اجتماع المعرفات والأمارات على شيء واحد، ولذلك قالوا: إن من لمس وبال، فإنه ينتقض وضوؤه بهما. الدليل الثاني: الاستقراء والتتبع دلَّ على جواز ذلك؛ حيث إنه بعد الاستقراء والتتبع للأحكام وأسبابها وجدنا إنه يمكن جدا أن يصدر من شخص واحد في ساعة واحدة سببان يوجدان معا يوجبان قتله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2132 كالزنا والردة، ومن الممكن أن تحرم المرأة بسببين يوجدان معا كالحيض والإحرام، أو الإحرام والعدة، أو الحيض والعدة، أو تجتمع الثلاثة وهي: العدة والحيض والإحرام معا. كذلك لو جمع شخص بين لبق أخته ولبن زوجة أخيه، ثم سقاه لصبية دون السنتين، فإن تلك الصبية تحرم على ذلك الشخص بسببين معا وهما: " أنه يعد عمها "، و " أنه خالها ". فكان عمها من جهة أنها رضعت من لبن زوجة أخيه الذي أصبح أباً لها. وكان خالها من جهة أنها رضعت من لبن أخته التي أصبحت أمًّا لها. فاجتمع للتحريم سببان وعلتان معا، فهذا يدل على وقوع اجتماع الأسباب دفعة واحدة في حكم واحد، وهذا يدل على جوازه. المذهب الثاني: أنه لا يجوز مطلقا. وهو مذهب الآمدي، وتاج الدين ابن السبكي، ونسب إلى القاضي أبي بكر الباقلاني. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن من شروط العلَّة: أن تكون مناسبة للحكم، والقول بمناسبة الحكم الواحد لعلتين مختلفتين يقتضي أن الحكم مساو لهما، والقول بمساواته لهما يقتضي اختلافه مع نفسه؛ لأن مساوي المختلفين مختلف، ولما استحال اختلافه مع نفسه نتج: عدم جواز تعليله بعلتين فأكثر مختلفة حتى لا يؤدي إلى المحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2133 جوابه: نحن قلنا بجواز تعليل الحكم بعلتين أو أكثر بشرط مناسبتهما للحكم، فيجوز أن تكون العلتان قد اشتركتا في جهة واحدة، وحينئذٍ تتحقق المناسبة بينهما وبين الحكم في تلك الجهة، ويزول ما ذكرتموه من الامتناع، إذن: لا مانع من القول بجواز تعليل الحكم بأكثر من عِلَّة. الدليل الثاني: أن تعليل الحكم بأكثر من علَّة يلزم منه أمور ثلاثة: " إما تحصيل الحاصل "، أو " اجتماع المثلين "، أو " نقض العِلَّة " وهذه الأمور الثلاثة كلها باطلة، فيكون التعليل بأكثر من علَّة لحكم واحد باطل.، بيانه: أن الحكم يحصل بأي علَّة من تلك العلَل المختلفة، وهذا لا بد منه؛ لأنا لو لم نقل بذلك فإنه يلزم النقض من غير مانع، وهو باطل، وعلى هذا تكون العِلَّة الثانية إذا وجدت فلا يخلو: إما أن تقتضي أيضاً حصول نفس الحكم، وهذا هو تحصيل الحاصل. وإما أن تقتضي حكما آخر مماثلاً للحكم الأول، ويلزم على هذا اجتماع المثلين. وإما أن تقتضي حكما آخر غيرهما، أو لم تقتضي شيئاً، فيلزم - على هذا - النقض بدون مانع، وهو باطل. جوابه: أنا فسرنا العلَّة بأنها: المعرف للحكم، ولا مانع من اجتماع معرفين للحكم الواحد - كما سبق بيانه - وعليه فلا يمتنع تحصيل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2134 الحكم بعلتين فأكثر، أى: تحصيل الحكم بالعلَّة الأولى، والثانية، وغيرهما. وما ذكرتموه من امتناع تحصيل الحكم السابق تحصيله بالعلَّة الأولى متصور إذا فسرت العِلَّة بالمؤثر؛ لأنه قد حصل الحكم بالمؤثر السابق - وهي العِلَّة الأولى - فلا معنى للمؤثر اللاحق - وهي العِلَّة الثانية -. المذهب الثالث: التفصيل بين المنصوصة والمستنبطة، حيث يجوز تعدد العلل إذا كان منصوصا عليها، ولا يجوز تعدد العلل إذا كانت مستنبطة. وهو اختيار ابن فورك، وفخر الدين الرازي. دليل هذا المذهب: أنه لو أعطى إنسان فقيرا قريبا له، فإنه: يحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي الفقر فقط. ويحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي القرابة فقط. ويحتمل أن يكون قد أعطاه لداعي الفقر والقرابة معا. ويحتمل أن يكون قد أعطاه لا لفقره ولا لقرابته. وهذه الاحتمالات متنافية بدليل: أن كون الفقر مثلاً داعيا ينافي كون غير الفقر داعيا، أو جزءاً من الداعي. ولما كانت متنافية، وكانت متساوية من حيث التعليل بها، فعندنا احتمالان هما: الاحتمال الأول: إما أن تبقى على جهل التعليل بواحدة منها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2135 المؤدي إليه التساوي، فلا يحصل الظن بواحد منها على التعيين، فلا يجوز أن يحكم بأنه عِلَّة. الاحتمال الثاني: وإما أن يترجح بعضها، وهذا الترجيح يحصل بأمرين هما: " المناسبة "، و " الاقتران "؛ لأن ذلك مشترك بين هذه الاحتمالات، وحينئذ تكون العلَّة هي الراجح منها دون المرجوح، وهذا يعني أنا نعلل الحكم بالراجح فقط، إذن لا يجوز تعدد الأوصاف في العلَّة المستنبطة، أما العلَّة المنصوصة فيجوز فيها ذلك؛ للنص. جوابه: لا نسلِّم التفريق بين العلَّة المنصوصة والمستنبطة، بل كلاهما واحد في جواز تعدد العلل، فإذا جاز في العلَّة المنصوصة محإنمه يحوز في المستنبطة ولا فرق. ثم المثال الذي ذكرتموه لا نسلمه؛ لأنا لا نُسَلِّمُ أن احتمال كون إعطائه لفقره مثلاً ينافي احتمال كونه أعطاه لفقهه فقط. المذهب الرابع: عكس الثالث، وهو: أنه يجوز تعدد العلل في المستنبطة، ولا يجوز في المنصوصة. وهو لبعض المذاهب. دليل هذا المذهب: قياس العلَّة المنصوصة على العِلَّة العقلية، فكما أنه لا يجوز اجتماع العلَل العقلية على معلول واحد، فكذلك العِلَّة الشرعية المنصوصة بجامع: أن كلأ منهما قطعية؛ فالعقلية معروف أنها قطعية، والمنصوصة فإنها كانت قطعية؛ لأنه لم يعتبر غيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2136 وهذا بخلاف العِلَّة المستنبطة، فإنها لما كانت ظنية فإنه يصح أن يكون كل واحد منَ الوصفين - أو الأوصاف - عِلَّة كما أن سبب ظن العلية حاصل في كل واحد من الوصفين. جوابه: لا نسلم ما ذكرتموه، فلا نسلم أن العلل المنصوص عليها كلها قطعية، بل أكثر العلل المنصوصة ظنية، حيث إن هناك من النصوص الدالة على علية الوصف آحاد، أو دلالة هذا النص على العِلَّة دلالة ظنية وإن كان ثابتا عن طريق التواتر، وهذا أكثر العلل المنصوصة، وما وجد من العلل المنصوصة القطعية فهو قليل جداً، ولا يمكن أن تثبت قاعدة أصولية والمستند صور قليلة، ويترك صوراً كثيرة لا يلتفت إليها. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذاهب على المعنى، واختلافهم في العبارة؛ لأنه لا يوجد أحد من أصحاب المذاهب يمنع قيام وصفين، كل واحدي منهما لو انفرد لاستقل بالحكم، لكن يقال: هل الحكم مضاف إليهما أم هو مضاف إلى كل واحد منهما؛ ولقد رجحت في كتابي: " الخلاف اللفظي عند الأصوليين " أن الخلاف معنوي، وفصَّلت في ذلك، ولكن الآن أعدل عما قلته هناك إلى ما قلته هنا؛ لما سبق من التعليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2137 المطلب الثالث عشر حكم تعليل حكمين أو أحكام بعِلَّة واحدة لتحرير محل النزاع لا بد أن أقول: إن الأحكام لا تخلو من أمور: الأمر الأول: أن تكون العِلَّة الواحدة قد أثبتت أحكاما متماثلة، وهذا له صورتان: الصورة الأولى: أن تكون في ذات واحدة، وهذا غير جائز؛ لاجتماع المثلين. الصورة الثانية: أن تكون في ذاتين، وهذا جائز كأن يحصل قتل بفعل زيد وعمرو، فيجب القصاص على كل واحد منهما، فهو حكم في ذاتين. الأمر الثاني: أن تكون العلَّة الواحدة قد أثبتت أحكاما مختلفة، ولكنها غير متضادة، فإن هذا جائز، مثل: تحريم الصلاة والصوم ومس المصحف، والعِلَّة واحدة وهي: الحيض. الأمر الثالث: أن تكون العِلَّة الواحدة قد أثبتت أحكاما مختلفة متضادة مثل: القتل العمد العدوَان عِلَّة لوجوب القصاص، ولحرمان القاتل من الميراث، وهذا الذي اختلفَ العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز تعليل حكمين فكثر بعِلَّة واحدة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن العِلَّة - كما قلنا فيما سبق - هي: المعرف للحكم، ولا مانع من أن يكون الوصف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2138 الواحد معرفاً بحكمين أو أكثر، فيكون مناسبا لهما: فالقذف مثلاً عِلَّة لوجوب الحد على القاذف، وهو أيضاً عِلَّة لعدم قبول شهادته. والقتل العمد العدوان عِلَّة لوجوب القصاص، وعِلَّة أيضاً لحرمان القاتل من الميراث. والغروب علَّة لجواز الفطر في رمضان، وعلَّة أيضا لوجوب صلاة المغرب، وعِلَّة أيضا لصحة الحج. المذهب الثاني: أنه لا يجوز تعليل حكمين فأكثر بعِلَّة واحدة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن الواحد لا يصدر عنه إلا الواحد، وعليه فلا يصح أن يكون الوصف الواحد عِلَّة لحكمين. جوابه: هذا الكلام ليس على إطلاقه، بل ذلك يصح في الواحد الحقيقي من جهاته، أما كلامنا هنا فيخص الجهات المختلفة، فالغروب - مثلاً - علامة وعِلَّة لجواز الفطر من جهة، وعلامة وعِلَّة لوجوب المغرب من جهة أخرى. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي فيما يظهر لي؛ ذلك لأن أصحاب المذهب الثاني لا يخالفون في أن القتل العمد العدوان عِلَّة لوجوب القصاص، وعلَّة - أيضا - لحرمان القاتل من الميراثَ؛ حيث لا يوجد ما يعلل به هذان الحكمان إلا هذه العِلَّة، فيكون الخلاف في اللفظ دون المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2139 المطلب الرابع عشر هل الطرد دليل على صحة العِلَّة؟ المراد من الطرد هو: الوصف الذي لم يعلم كونه مناسبا، ولا مستلزماً للمناسب إذا كان الحكم حاصلاً مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع. بيان محترزات التعريف: فقولنا: " الوصف الذيْ لم يعلم كونه مناسبا " أخرج الوصف المناسب للحكم، وقد سبق بيانه. وقولنا: " ولا مستلزما للمناسب " أخرج الوصف الشبهي؛ لأن الوصف الشبهي قد التفت إليه الشارع في بعض الأحكام، فيكون فيه شبه من المناسب، وقد سبق بيان ذلك. وقولنا: " إذا كان الحكم حاصلاً مع الوصف في جميع الصور المغايرة لمحل النزاع " أخرج الدوران؛ لأن الدوران هو: اقتران الحكم مع الوصف وجوداً وعدما، فإذا وجد الوصف وجد الحكم، وإذا عدم الوصف عدم الحكم - وقد سبق بيان الدوران -. أي: أن هذه العبارة تميز الطرد عن الدوران، فلو اقترن الحكم مع الوصف في صورة النزاع لكان دوراناً. فالفرق بين الطرد والدوران: أن الدوران: مقارنة الحكم مع الوصف وجوداً وعدماً، والطرد: مقارنة الوصف في الوجود دون العدم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2140 فاتضح من ذلك: الفرق بين الوصف الطردي، والوصف المناسب، والوصف الشبهي، والدوران. وقد سبقت أمثلة الوصف الطردي أثناء كلامنا عن الوصف الشبهي، ومنها: قول بعضهم في نية الوضوء: عبادة يبطلها الحدث، وتشطر بعذر السفر فيشترط فيها النية كالصلاة. ومنها: قول بعضهم في طهارة الكلب: حيوان مألوف له شعر كالصوف، فكان طاهراً كالخروف. فهل الطرد دليل على صحة العِلَّة؟ وللجواب عن ذلك أقول: في ذلك تفصيل: فالقائلون بأن الدوران لا يكون دليلاً على صحة العلَّة، ولا يعتبر طريقاً لثبوت العلَّة كابن السمعاني، والآمدي، وابن الحاجب،. وأكثر الحنفية - كما سبق بيانه - يقولون بعدم اعتبار الطرد طريقا لصحة العِلَّة من باب أوْلى؛ لأن الطرد يتعلق بجانب الوجود فقط، لذلك سُمِّي بـ " الدوران الوجودي ". أما الدوران فهو يتعلق بجانب الوجود والعدم معا - وقد تقدم الإشارة إلى ذلك أثناء تعريفنا للدوران، فمن نفى أن يكون الدوران طريقاً لثبوت العِلَّة: نفى أن يكودط الطرد دليلاً على ثبوتها وصحتها. أما القائلون بأن الدوران حُجَّة، وأنه دليل على صحة العلَّة - وهو قول أكثر العلماء، وهو الذي رجحناه - فإنهم اختلفوا في الطرد هل يصلح أن يكون دليلاً لصحة العِلَّة أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أن الطرد لا يصلح دليلاً على صحة العِلَّة مطلقا. وهو قول جمهور القائلين بحجية الدوران، وهو الحق؛ لدليلين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2141 الدليل الأول: أن أقل أحوال الدليل الشرعي: أن يوجب الظن، لأن مناط الأعمال في الشريعة ينقسم إلى معلوم ومظنون، وما لا يفيد العلم ولا الظن، فمعلق الحكم به متحكم - وهو الدعوى بلا دليل -، والتحكم ممنوع شرعا، وقد رأينا الطرد في علل لا يغلب على الظن تعلق الحكم بها واتباعه لها، فإذا ادعى الطارد الظن في أحدها تبين خطأوه، لأن للظن في العرف أسبابا كما أن للعلوم النظرية طرقا مفضية إليها، فمن ادعى أن وراء هذا الجدار شخصا من غير أن يبني ظنه على سبب يقتضي ذلك: كان مخطئا، فكذلك الحال في الوصف الطردي لا يصلح سببا لظن الأحكام. الدليل الثاني: أن طرد العِلَّة لا يرجع في التحقيق إلا إلى تعليق المعتل للحكم بها أينما وجدت، وذلك فعله وهو مخالف فيه، وإنما يجب تعليق الحكم بها إذا ثبت كونها عِلَّة بالدليل، ومتى لم يثبت ذلك لم يجب تعليق الحكم بها في أي موضع، وإذا ثبت ذلك وجب تقدم العلم بكونها عِلَّة على طردها. المذهب الثاني: أن الطرد يصلح دليلاً على صحة العِلَّة. وهو مذهب فخر الدين الرازي، والبيضاوي، والصيرفي، وابن القصار. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن عدم الطرد يدل على فساد العلَّة، وهو النقض، فيجب أن يكون وجود الطرد يدل على صحتها. جوابه: إن القائلين بتخصيص العِلَّة يمنعون ذلك - كما سيأتي بيانه -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2142 أما من لم يقل بتخصيص العلَّة فإنهم يقولون: إن الطرد شرط في صحة العِلَّة، ولذلك تفسد العلة بعدم الطرد، ولكن هذا لا يدل على أن وجوده دليل على صحتها، فلا يلزم من كون عدم الشرط يمنع الصحة: أن يكون وجوده موجباً لها، يؤيد ذلك أمران: الأمر الأول: أن عدم الإحصان يمنع وجوب الرجم، ووجود الإحصان لا يوجب الرجم، كذلك: عدم الطهارة يمنع صحة الصلاة، ووجودها لا يوجب صحة الصلاة. الأمر الثاني: أن الشيء يجوز أن يثبت بمعنى ولا يثبت ضده بعدم ذلك المعنى: فالحكم ثبتت صحته بالإجماع، ولا يثبت فساده بعدمه، فكذلك هنا: يجوز أن يثبت فساد العِلَّة لعدم الطرد، ولا تثبت صحتها لوجوده. الدليل الثاني: من الواقع؛ حيث إننا إذا رأينا مركوب القاضي عند باب الأمير، فإنه يغلب على ظننا كون القاضي في دار الأمير، وسبب ذلك: أن مقارنتهما في سائر الصور أفاد ظن مقارنتهما في هذه الصورة المعينة. جوابه: أن هذا ليس من قبيل قياس الطرد، بل من قبيل العمل بقرائن الأحوال، وترجيح احتمال على احتمال: فغلب على الظن وجود القاضي في منزل الأمير عند النظر إليها واعتبارها. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن أصحاب المذهبين اتفقوا على أنه لا يمكن أن يُنكر الطرد إذا غلب على الظن، وأنه لا يمكن لأحد أن يتبع كل وصف لا يغلب على الظن، وإن أحالوا أطراداً لا ينفك عن غلبة الظن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2143 المطلب الخامس عشر في بيان أنه يشترط في الوصف المستنبط المعلل به أن لا يرجع على الأصل بإبطاله ودليل هذا الشرط: أن العِلَّة لما كانت فرعا لهذا الحكم من حيث إنها مستنبطة منه، والفرع لا يجوز أن يعود على أصله بالإبطال؛ لأنه يلزم منه: أن يرجع إلى نفسه بالإبطال - أيضا - باعتبار أن إبطال الأصل إبطال للفرع، فلا يجوز - إذن - أن يكون الوصف المعلل به مبطلاً لحكم أصله أو جزء منه؛ لأن إبطال الشىء نفسه محال. ومن أمثلة العلَّة التي تعود على أصلها بالإبطال: ما ذكره بعض المالكية من أن اتبَاع رمضان بصوم ستة أيام من غير شوال كاف في المطلوب، ما دام أن المعنى موجود فيه وهو: أنه تكميل للسنة، ولا يخفى. وهذا التعليل مبطل لخصوص شوال الذي دلَّ عليه النص. ومنها: أنه لما ورد قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل أربعين شاة شاة " علل كثير من الحنفية وجوب الشاة في الزكاة بدفع حاجة الفقراء، ولذلك - جوزوا إخراج قيمتها. وهذا التعليل - وهو: دفع الحاجة - يرفع وجوب الشاة بعينها مع أن الحديث صريح في وجوبها؛ لأن حاجة الفقير تندفع بقيمة الشاة - أيضاً - فتعليل هذا بهذه العِلَّة - وهي: دفع الحاجة - نقل وجوب الشاة بعينها إلى تخيير المزكي بين إخراج شاة بعينها، وبين قيمتها، وهذا التعليل قد محاد على أصله بالإبطال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2144 المطلب السادس عشر حكم التعليل بالاسم المجرد لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه لا يجوز مطلقا التعليل بالاسم المجرد مثل: تعليل تحريم الخمر بكون العرب سمته خمراً، وتعليل تحريم الربا في المذهب بكونه ذهباً. حيث إنا نعلم بالضرورة أن مجرد هذا اللفظ لا أثر له، فإن أريد به تعليله بمسمى هذا الاسم، وهو: كونه مخامراً للعقل مانعا عن إدراك حقائق الأمور، فإنه يكون تعليلاً بالوصف لا بالاسم، وإن أريد به غير ذلك فممنوع؛ لعدم أثره. وهو مذهب كثير من الشافعية، والمالكية، وهو الحق؛ لما ذكرناه ولأن الاسم ليس وصفا ولا فيه معنى الوصف، فانتفت عنه حقيقة العلَّة. المذهب الثاني: أنه يجوز التعليل بالاسم مطلقا. وهو مذهب أكثر الحنفية، وكثير من الشافعية مثل قولهم: لا يجوز بيع الكلب المعلَّم؛ لأنه كلب فهو وغير المعلم في ذلك سواء، ومثل قول آخرين في النبيذ: إنه يسمى خمراً فيحرم كالمعتصر من العنب، ومثل قول فريق ثالث في بول ما يؤكل لحمه: إنه بول كبول الآدمي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2145 جوابه: يجاب عنه: أننا عرفنا العلة بأنها الوصف المعرف للحكم والاسم ليس وصفا، ولا فيه معنى الوصف. ثم لو دققنا في تلك الأمثلة التي ذكرتموها وزعمتم أنها تعليل بمجرد الاسم، فإنا لا نجدها كذلك، بل فيها شبه بالوصف، حيث شبه الأسماء بالأوصاف. المذهب الثالث: التفصيل بين الاسم المشتق، فيجوز التعليل به، وبين الاسم العلم واسم الجنس، فلا يجوز على خلاف بينهم. وهو مذهب كثير من المالكية، وبعض الحنفية، وبعض الشافعية، وكثير من المعتزلة. بيان هذا المذهب ودليله: أن الاسم إذا كان مشتقا من فعل كالضارب، فإنه يجوز أن يكون عِلَّة، لأن الأفعال يجوز أن تجعل عللاً في الأحكام. أما إذا كان الاسم غير مشتق فهو نوعان: النوع الأول: الاسم العَلَم كزيد وبكر: قد اتفق أصحاب المذهب الثالث على أنه لا يجوز التعليل به؛ لأن الأعلام غير لازمة؛ لجواز انتقالها. ولأن العَلَم إنما جعل في موضع الإشارة على الشيء، والإشارة ليس بعلَّة في أي حال من الأحوال، فينبغي أن يكون القائم مقامها - وهو العَلَم - كذلك. النوع الثاني: اسم الجنس كالرجل، والمرأة، والفرس: قد اختلف فيه أصحاب المذهب الثالث على قولين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2146 القول الأول: إنه يجوز التعليل به، وهو مذهب المعتزلة، وعللوا ذلك: بأن هذا الاسم لازم غير منتقل. القول الثاني: إنه لا يجوز التعليل به، وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية. وعللوا ذلك: بأن التعليل بالأسامي يشبه التعليل بالطرد، والتعليل بالطرد فاسد - كما سبق بيانه. وإنما جوزوا التعليل بالأسامي المشتقة مع أنها أسامي؛ للاشتقاق الذي فيها لا بنفس الاسم. جوابه: إن كلامنا في الاسم المجرد، حيث إنا قلنا: إنه لا يجوز التعليل به، أما الاسم الذي تضمن صفة كالاسم المشتق كالضارب، أو هو مستلزم للصفة، فإنه يجوز التعليل به؛ لأنه يؤدي إلى كونه تعليلاً بالوصف لا بالاسم. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي فيما يبدو لي؛ وذلك لأن أصحاب المذاهب قد اتفقوا على أن الاسم إذا كان وصفا، أو هو بمعنى الوصف، أو يفهم منه الوصف بأي شكل، فإنه يجوز التعليل به؛ لأن هذا تعليل بالوصف لا بالاسم. أما إذا كان الاسم لا يفهم منه الوصف، فإنه لا يجوز التعليل به؛ لأن مجرد الاسم لا أثر له ولا يدل على معناه. ويدلنا على ذلك: قول أصحاب المذهب الثالث: إنا جوزنا التعليل بالأسامي المشتقة؛ للاشتقاق الذي فيها، لا بنفس الاسم. ويؤيد ذلك - أيضاً -: الأمثلة التي ذكرها أصحاب المذهب الثاني فإنه يفهم من الاسم الذي عللوا به فيها الصفة ولو كان فهما بعيداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2147 المطلب السابع عشر حكم التعليل بالوصف العرفي الوصف العرفي هو: الوصف الذي لا يختلف باختلاف الأزمان كالشرف والخسة والدناءة، والكمال، والنقصان. فهذه الأوصاف يجوز التعليل بها؛ لأن المناسبة التي هي الشرط الأساسي في التعليل موجودة في تلك الأوصاف العرفية، فمثلاً: الشرف يناسب التكريم، وتحريم الإهانة، ووجوب المحافظة، والخسة تناسب إباحة الإهانة. ولكن لا يجوز التعليل بتلك الأوصاف إلا بشرطين: الشرط الأول: أن يكون الوصف العرفي مطرداً: لا يختلف باختلاف الأوقات والأزمان، واشترط ذلك؛ لأمرين: أولهما: أن الحكم إذا لم يوجد في جميع صور ذلك الوصف وقد وجد الحكم معه وبدونه، فإن هذا يسمى بـ " عدم التأثير "، وهو من مبطلات العِلَّة؛ كما سيأتي إن شاء اللَّه. ثانيهما: أن العرف لو لم يكن مطرداً لجاز أن يكون ذلك العرف حاصلاً في عصر غير حاصل في غيره، وهذا لا يجعله صالحا للتعليل به. الشرط الثاني: أن يكون الوصف العرفي مضبوطا متميزا عن غيره. واشترطنا ذلك؛ لأن القعليل بالشيء فرع تميزه عن غيره، ولا يتم ذلك إلا عند تمام التصور للوصف المعلل به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2148 المطلب الثامن عشر هل يجوز التعليل بالعِلَّة القاصرة؟ تحرير محل النزاع: لقد سبق في المطلب الثالث الذي هو في تقسيمات العِلَّة: أن قلنا: إن العِلَّة من حيث تعديها وعدم ذلك تنقسم إلى قسمين: " عِلة متعدية "، و " علة قاصرة ". أما العِلَّة المتعدية فهي: ما يئبت وجودها في الأصل والفرع، أي: تتعدى من محل النص إلى غيره كالقتل العمد العدوان، والزنا، والإسكار، والكيل " وغير ذلك. أما العِلَّة القاصرة أو الواقعة، فهي التي يثبت وجودها في الأصل فقط، ولا تتعدى إلى الفرع، أي: لا تتعدى محل النص كالسفر المبيح للفطر والقصر، والاستبراء للأُمَّة في أول حدوث ملكها للتعرف على براءة رحمها، والرمل في الأشواط الأول من الطواف؛ لإظهار الجلد والنشاط للمشركين. واتفق العلماء على صحة التعليل بالعلَّة المتعدية، سواء كانت منصوصة أو مستنبطة، ولا يمكن أن يختلفوَا فيها؛ لأن القياس لا يتم إلا بعِلَّة تتعدى إلى الفرع لتكون سببا في إلحاقه بالأصل. واتفق العلماء على صحة التعليل بالعلَّة القاصرة المنصوص عليها، أو المجمع عليها؛ لأن المنصوصة ليستَ محل اجتهاد واختلاف. أما العِلَّة القاصرة المستنبطة فقد اختلف العلماء في جواز التعليل بها على مذهبين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2149 المذهب الأول: أنه يجوز التعليل بالعلَّة القاصرة المستنبطة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن العِلَّة القاصرة المستنبطة كالعلَّة القاصرة المنصوص عليها أو المجمع عليها ولا فرق، فإذا جاز التعليل بالعلَّة القاصرة المنصوص عليها أو المجمع عليها، فكذلك إذا استنبطت، فيجب أن تكون صحيحة، كما أننا لم نفرق بين العِلَّة المتعدية المنصوص عليها أو المجمع عليها وبين العِلَّة المتعدية المستنبطةَ. الدليل الثاني: أنه إذا كان الوصف القاصر مناسبا للحكم، والحكم ثابت على وفقه، فإنه يغلب علىِ الظن كونه عِلَّة للحكم، أي: كونه معرفا للحكم، ولا معنى لصحة العِلَّة إلا ذلكَ. المذهب الثاني: أنه لا يجوز التعليل بالعلَّة القاصرة. وهو مذهب أكثر الحنفية، وهو اختيار بعض الشافعية، ومال إليه أبو عبد اللَّه البصري من المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لا فائدة للتعليل إلا التعدية إلى الفرع، والعلة القاصرة - كما سبق - لا تتعدى إلى الفرع، وما دام أنه يخلو التعليل بالعلَّة القاصرة من التعدي فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه فلا يرد به الشرع، وبناء على ذلك فإنه يبطل التعليل بالعلَّة القاصرة. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن فائدة العِلَّة منحصرة بما ذكرتم من التعدي إلى الفرع، بل إن للعِلة فوائد هي كما يلي: الفائدة الأولى: أنه بسبب العِلة القاصرة يمكننا التعرف على أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2150 ذلك الحكم مطابق للحكمة والمصلحة، فتميل النفوس - بطبيعتها - إلى قبول ما عرفت الحكمة والمصلحة التي من أجلها شرع ذلك الحكم أكثر من قبولها للأحكام التي لم تعرف الحكمة والمصلحة التي من أجلها شرع الحكم، وهذه فائدة عظيمة لمن تدبرها. الفائدة الثانية: لو ظهرت علَّة قاصرة، وعلَّة متعدية في حكم واحد، ولم يوجد دليل يرجح العلَّة المتعدية بالعلية، فإنه لا يجوز تعدية الحكم إلى الفرع؛ لأن وجود العلَّة القاصرة منع من ذلك؛ فلولا وجود العِلَّة القاصرة لتعدى الحكم بتلك العِلَّة من غير توقف على دليل مرجح. الفائدة الثالثة: أن ثبوت العلَّة القاصرة دليل يستدل به المجتهد على اختصاص النص الأصلي بذلك الحكم، وحينئذ لا يشتغل المجتهد بالتعليل لأجل أن يعدي الحكم إلى الفرع، وذلك حينما عرف اختصاص الأصل به. الفائدة الرابعة: أن العلَّة القاصرة تفيد بمفهومها، فإذا ثبتت النقدية عِلَّة في النقدين، فإن عدَم النقدية مشعر بانتفاء تحريم الربا. الفائدة الخامسة: أن العارف للعلة القاصرة يحصل له أجران إذا امتثل الحكم: أجر قصد به الامتثال، وأجر قصد به فعل الفعل لأجل العِلَّة القاصرة من جلب مصلحة أو دفع مفسدة. الفائدة السادسة: أن العلَّة قد تكون في زمان قاصرة، لا فرع لها، ولكن قد يحدث هناكَ فرع في المعنى علق على العِلَّة نفسها، فحينئذٍ يقوم المجتهد بإلحاق ذلك بالمنصوص عليه. وهذه الفوائد قد اعترض على بعضها، ولكن هذه الاعتراضات ضعيفة؛ لذلك لم أذكرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2151 ثم لو سلمنا أن تلك الاعتراضات على بعضها صحيحة، فإنه لا يمكن أن يعترض عليها جميعها، ومن اعترض عليها جميعا، فإنه معاند ومكابر، والمعاند والمكابر لا يعتد بقوله. الدليل الثاني: أن العِلَّة الشرعية أمارة، وإذا كانت أمارة فلا بد أن تكون كاشفة عن شيء ما، وهذا لا يتوفر في العِلَّة القاصرة، لأنها لا تكشف عن الأحكام، فلا يصح أن تكون أمارَة، وعليه فلا يصح أن تكون عِلَّة. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن العِلَّة لا تكشف عن شيء ما، بل تكشف عن المنع من استعمال القياس، وعن الفوائد التي ذكرناها سابقا. الدليل الثالث: أن العلَّة القاصرة غير معلومة من طريقة الصحابة - رضي اللَّه عنهم - فلاً تثبت؛ لأن القياس وتفاريعه إنما يتلقى من الصحابة، ويلزم من عدم المدرك عدم الحكم. جوابه: أن من استقرأ وتتبع ما نقل عن الصحابة، فإنه يجد أنهم - رضي الله عنهم - اجتهدوا في التوصل إلى أحكام الشريعة وأحكامها، وأسرارها بحسب الإمكان، والاطلاع على حكمة الحكم في الأصل وقاسوا بسبب بعض العلل، وتوقفوا في الأخرى. ثم إن كون الصحابة لم يعتبروا العلل القاصرة، ولم يكن ذلك من طريقتهم لا دليل عليه، وما لا دليل لا يعتد به. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ حيث إنه لا أثر له في الفروع الفقهية، حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2152 إن أصحاب المذهبن قد اتفقوا على المعنى: فأصحاب المذهب الأول أرادوا - بالتعليل استخراج المناسب، فحكموا بصحة التعليل، وأصحاب المذهب الثاني أرادوا بالتعليل: القياس - هذا اصطلاح أكثر الحنفية -، والقاصرة - على هذا - ليست قياسا، بل هي إبداء حكمة، فلم تكن تعليلاً. أي: لا خلاف في المعنى؛ لأن مراد من أجاز التعليل بها: استخراج المناسبة وإبداء الحكمة، وهذا لا يمنعه من لم يجز التعليل بها - وهم أصحاب المذهب الثاني -. ومراد من منع التعليل بها: منع القياس والتعدية، وهذا لا يخالف فيه من أجاز التعليل بالعلَّة القاصرة. تنبيه: قلت هنا: إن الخلاف لفظي، إذ لا أثر له في الفروع، وقلت في كتابي " الخلاف اللفظي ": إن الخلاف معنوي؛ حيث أثر في أصول الفقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2153 المطلب التاسع عشر بيان أنه يشترط في العلَّة التي عللنا بها: أن لا تكون معارضة بعلة أخرى تقتضي إبطالها العِلَّة قسمان: عِلَّة منصوصة، وعلة مستنبطة. أما العلة المنصوصة، فلا يمكن أن تتعارض مع غيرها من العلل؛ لأن العِلَّة المنصوصة يجب الأخذ بها واتباعها، فلا يصح الانتقال منها إلى مجموع العلل المستنبطة التي يمكن أن يعلل بها الحكم؛ لأن المنصوصة ثبتت بالنص، والمستنبطة ثبتت بالاجتهاد، فكانت المنصوصة أَوْلى من المستنبطة بالاعتبار، وكذلك الأمر في العلَّة المجمع عليها لا يجوز الانتقال منها إلى غيرها. أما العِلَّة المستنبطة فإنه يمكن أن يقع بينها وبين غيرها تعارض: فإن عارضتها عِلَّة أخرى مستنبطة فإنا ننظر: إما أن تكون غير صالحة لتعليل الحكم بها، وهذا نعرفه عن طريق السبر والتقسيم - الذي سبق بيانه -: فالعلة غير الصالحة للتعليل لا يتصور أن تعارض العِلَّة الصالحة. وإما أن تكون العلة المعارضة - بكسر الراء - صالحة لتعليل الحكم بها: فهذه العِلَّة المعَارضة - بكسر الراء - لها حالتان: الحالة الأولى: أن تكون العلتان متساويتين، أي: لا تتميز إحداهما عن الأخرى، فإن المجتهد في هذه الحالة يختار أي العلتين شاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2154 الحالة الثانية: أن تكون إحدى العلتين أرجح من الأخرى، ففي هذه الحالة تقدم الراجحة على المرجوحة. وهذا ما قاله كثير من العلماء. والأوْلى: أن لا يذكر هذا الشرط؛ لأمرين: أولهما: أن العلل وتعارضها وتقديم الأرجح منها، وإبطال بعضها يُعلم عن طريق السبر والتقسيم، كما بينا فيما سبق. ثانيهما: أن هذا مما يخص التعارض بين المعاني الذي سيأتي بيانه إن شاء اللَّه في باب التعارض والترجيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2155 المطلب العشرون تخصيص العِلَّة قلنا: إن العِلَّة مطردة، ومعنى ذلك: أنه كلما ثبتت العِلَّة في محل: ثبت بها الحكم، وهذا الاطراد هو بمثابة العموم؛ قياسا على اللفظ: فكما أن اللفظ الذي يشمل عدداً غير محصور يُسمى عاما، فكذا العِلَّة التي تكون في محال كثيرة تسمى عِلَّة عامة من حيث وجودها في كل هذه المواضع والمحال. وإذا كان اللفظ العام يرد عليه ما يخصصه - كما سبق بيانه -: فهل العلَّة التي ثبت وجودها في مواضعها، وتخلف حكمها في مواضع منها يصح أن يحمل هذا التخلف على التخصيص، وتبقى العِلَّة ويبقى حكمها فيما عداه من المواضع والمحال، أو أن وجودها في موضع دون حكمها يؤثر عليها، ويكون هذا دليلاً على أنها ليست بعِلَّة؛ لأنها لو كانت عِلَّة صحيحة لثبت بها الحكم في جميع المحال. لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب. المذهب الأول: أنه يجوز تخصيص العِلَّة مطلقا، أي: سواء كانت منصوصة أو مستنبطة. وهو مذهب كثير من الحنفية كالكرخي، وصدر الشريعة، والدبوسي، وبعض الشافعية، كصفي الدين الهندي، وبعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2156 الحنابلة كأبي الخطاب، وحكي عن الأئمة الثلاثة: أْبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وهو رواية للإمام أحمد. وهو مذهب المعتزلة، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: القياس على الأدلة اللفظية: فكما أن التخصيص لا يقدح في كون العام حُجَّة، فكذلك تخلف الحكم عن الوصف في بعض المواضع لا يقدح في كون الوصف عِلَّة؛ لأنه يكون تخصيصا للعلَّة، والجامع: أن كلًّا من اللفظ اَلعام والعِلَّة دليل شرعي: فالعَام لفظ الشارع، والعِلَّة معنى لفظ الشارع. الدليل الثاني: أن العِلَّة الشرعية أمارة على الحكم في الفرع، ووجودها في موضع معَ تخلف الحكم عنها لا يخرجها عن كونها أمارة؛ لأنه ليس من حقيقة الأمارة ملازمة حكمها في كل موضع وحال، بدليل: أن الغيم الرطب أمارة على نزول المطر، وإن لم يكن المطر ملازما له في بعض الأحوال. المذهب الثاني: لا يجوز تخصيص العِلَّة مطلقا، أي: سواء كانت منصوصة، أو مستنبطة. وهو مذهب بعض المالكية كالقاضي أبي بكر الباقلاني، والقاضي عبد الوهاب، وبعض الشافعية كفخر الدين الرازي، والأستاذ أبي إسحاق، وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وبعض المعتزلة كأبي الحسين البصري، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن العِلَّة لو صحت مغ تخلف الحكم عنها للزم من ذلك ثبوت الحكم في المحل الذي وجدت فيه العلة؛ لأن من لازم كون العِلَّة صحيحة أن يثبت بها الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2157 جوابه: لا نسلم أنه قولكم: إنه من لازم العِلَّة ثبوت الحكم بها؛ لأنه ليس المراد بالعلَّة: ما يلزم الحكم لها مطلقا، وإنما المراد بالعلَّة: ما اشتمل على معنى مقصود للشارع من شرع الحكم ببعث المكلف على الامتثال، وهي بذلك المعنى يتوقف ثبوت الحكم بها على عدم المانع ووجود الشرط، وحينئذٍ: لا يلزم من صحة العِلَّة ثبوت الحكم بها. الدليل الثاني: قياس العِلَّة الشرعية على العِلَّة العقلية، فكما أن العِلَّة العقلية لا يجوز تخصَيصها، بل يلزم من ثبوتها في محل ثبوت حكمها، فكذلك العِلَّة الشرعية لا يجوز تخصيصها: فيلزم من ثبوتها ثبوت حكمها، وإلا لم تكن عِلَّة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا القياس لا يصح؛ لانه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن العلَل العقلية علَل مقتضية للحكم بذاتها، أما العلَل الشرعية فهي عَلَل بوضع الشرع لها، وقد يتخلف عنها حكمها. الجواب الثاني: أنا لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل المقاس عليه وهي: العِلَل العقلية، حيث إن العِلَل العقلية يتخلف عنها حكمها إذا وجد مانع مثل: تخلف الإحراق عن النار حيثما يكون الحطب رطبا لكون الرطوبة مانعة من الإحراق. المذهب الثالث: أنه يجوز تخصيص العِلَّة إذا كانت منصوصة، أما إذا كانت العِلَّة مستنبطة فلا يجوز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2158 وهو مذهب أكثر الحنفية كالبزدوي، والسرخسي، وكثير من المالكية كالباجي، وأكثر الشافعية، ومنهم: أبو إسحاق الشيرازي. دليل هذا المذهب: أن العِلَّة المنصوصة لفظ الشارع، واتباع مقتضى لفظه واجب، قإذا خص بعض ما تناولته العِلَّة، فإن ما عدا الصورة المخصوصة يبقى على حاله وهو الوجوب، بخلاف العِلَّة المستنبطة، فهي تكتسب اعتبارها بوجود حكمها معها في جميع المحال، فإذا تخلف عنها في محل تبين أنها ليست بعِلَّة كاملة، وإنما هي بعض العِلَّة. جوابه: إن هذا الدليل مبني على قصر اعتبار العِلَّة على وجودها في جميع المحال مع حكمها، وهذا غير مسلم؛ لأحد أمرين: أحدهما: كون مسلك الاطراد غير معتبر لإثبات العِلَّة. ثانيهما: أو أنه لا بد مع الاطراد من توفر كون الوصف مناسبا. المذهب الرابع: عكس الثالث، وهو: أنه يجوز التخصيص إذا كانت العِلَّة مستنبطة، ولا يجوز إذا كانت العِلَّة منصوصة. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن العِلَّة التي ثبتت بالنص تتناول محل النقض بعمومها النصي، فتثبت فيه العِلَّة صريحا، فلا يقبل التخصيص؛ لأننا لو قلنا بجواز تخصيصه للزم من ذلك إبطال دلالة النص، بخلاف العِلَّة المستنبطة فإنها ثبتت بالاستنباط من قبل المجتهد؛ ودليلها اقتران الحكم بها مع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2159 عدم المانع، ولا يصح تخلف الحكم عنها مع عدم وجود مانع، أو تخلف شرط. جوابه: أن العموم النصي إن كان قطعيا، فإنا نسلم أنه لا يقبل التخصيص كغيره من العمومات التي تدل على أفرادها دلالة قطعية، وهذا لا يختص بتخصيص العِلَّة، فيكون هذا خارجا عن محل النزاع. أما إن كان العموم ظاهراً في الدلالة، فيجوز تخصيصه، ويقدر وجود مانع في محل التخلف. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي راجع إلى تفسير العِلَّة أهي موجبة أو مقتضية؛ فمن فسرها على أنها مقتضية: فإنه أجاز تخصيصها؛ لأن كونها مقتضية يتوقف على اشتراط شروط، وانتفاء موانع، فربما تخلف عنها الحكم، ومفهوم هذا: أنه لا يرى تخصيصها في العِلَّة الموجبة التي لا يتخلف عنها الحكم. ومن فسر العِلَّة على أنها موجبة: فإنه لم يجز تخصيصها؛ لأن الموجبة هي التيَ لا يتخلف عنها الحكم، ومفهوم هذا: أنه يرى جواز تخصيصها في العِلَّة المقتضية التي ربما تخلف عنها الحكم. تنبيه: موضوع تخصيص العلَّة يُسمى عند بعض العلماء بالنقض - وهو وجود العِلَّة دون وجود حكمها - وقد اختلف العلماء في كون " النقض قادحا للعِلَّة أو لا؛ وعندي أنه لا يصلح أن يكون قادحا للعِلَّة مطلقا كما سيأتي بيانه إن شاء اللَّه، لذلك جعلته هنا وسميته لاتخصيص العِلَّة " كما فعل كثير من العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2160 الفصل الرابع في قوادح القياس ومبطلاته والاعتراضات عليه ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في قادح سؤال الاستفسار. المبحث الثاني: في قادح منع الحكم في الأصل. المبحث الثالث: في قادح منع وجود الوصف في الأصل. المبحث الرابع: في قادح منع وجود الوصف في الفرع. المبحث الخامس: في قادح منع وجود الوصف في الأصل والفرع. المبحث السادس: في قادح منع كون الوصف عِلَّة. المبحث السابع: في قادح التقسيم. المبحث الثامن: في قادح النقض. المبحث التاسع: في قادح التركيب. المبحث العاشر: في قادح فساد الوضع. المبحث الحادي عشر: في قادح فساد الاعتبار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2161 المبحث الثاني عشر: في قادح المعارضة في الأصل. المبحث الثالث عشر: في قادح المعارضة في الفرع. المبحث الرابع عشر: في قادح عدم التأثير. المبحث الخامس عشر: في قادح الكسر. المبحث السادس عشر: في قادح القلب. المبحث السابع عشر: في قادح القول بالموجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2162 المبحث الأول في سؤال الاستفسار ويشتمل على مطلبين هما: المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: كيفية الجواب عنه: أولاً: كيفية الجواب عن استفسار المعترض حينما يكون اللفظ مجملاً. ثانيا: كيفية الجواب عن استفسار المعترض حينما يكون اللفظ غريبا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2163 المطلب الأول بيان المراد بسؤال الاستفسار وهو: طلب معنى اللفظ؛ لإجمال فيه أو غرابة. ومعنى ذلك: أن يطلب المعترض من المستدل بيان معنى اللفظ الذي أورده في قياسه. فيقول المعترض للمستدل: إنه ورد لفظ في قياسك يحتمل معنيين في نظره، أو فيه غرابة فاطلب منك تفسيره وبيان المراد منه. وسؤال الاستفسار يقدم على جميع القوادح؛ لأن ما بعده من القوادح فرع على فهم معنى اللفظ الوارد في القياس. والصيغ التي يستعملها المعترض في هذا السؤال هي: صيغ الاستفهام كالهمزة، وأي، وهل، وأين، وكم، وكيف، ومن، ومتى، وأشهر الصيغ في هذا الموضع هي: الهمزة، وما، وأي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2165 المطلب الثاني كيفية الجواب عن الاستفسار أولاً: الجواب عن استفسار المعترض حينما يكون اللفظ مجملاً: إذا طلب المعترض من القائمس بيان المعنى الذي يريده من اللفظ الذي أورده في قياسه، فإن القائس يجيب عن ذلك بطرق هي: الطريق الأول: أن يمنع القائس كون اللفظ مجملاً: فيقول: إن اللفظ الذي أوردته لا يحتمل إلا معنى واحداً، ويستشهد على ذلك بكلام أهل اللغة. مثاله: قال المستدل - وهو القائس - مستدلاً على أن الحيض مانعاً من صحة الطواف -: قرء تحرم معه الصلاة، فيحرم معه الطواف؛ قياسا عليها. فيقول المعترض: إن قياسك الطواف على الصلاة قد اشتمل على لفظ مجمل، وهو لفظ قرء -؛ لأنه يحتمل أن يراد به الحيض، ويحتمل أن يراد به الطهر، فما الذي تريده منهما بهذا اللفظ؟. فيجيب المستدل - وهو القائس - بقوله: أنا أمنع كون لفظ: "القرء " يحتمل أكثر من معنى؛ لأنه لا يطلق إلا على معنى واحد هو: الحيض، ويورد من كلام أئمة اللغة ما يدل على ذلك. الطريق الثاني: أن يقر المستدل - وهو القائس - على أن اللفظ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2166 يحتمل معنيين، ولكنه يُبين أن لفظه ظاهر في الدلالة على مقصوده ومراده، ويبين أن ذلك ظاهر من جهة الشرع، أو من جهة العرف، أو من جهة اللغة، وإليك مثالاً لكل واحد: مثال بيان المستدل: أن اللفظ الذي أورده ظاهر الدلالة على مراده شرعا: قوله: الوضوء قربة فوجبت له النية؛ قياسا على غيره من القرب كالصلاة. فيقول المعترض: قد اشتمل قياسك هذا على لفظ مجمل - وهو: لفظ " الوضوء "؛ لأنه يحتمل أن يقصد به الوضوء اللغوي، أو الأفعال المخصوصة، وهو معنى شرعي، فأي المعنيين تريد بهذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إن لفظ " الوضوء " الوارد في قياسي ظاهر الدلالة على أن المراد به الأفعال المخصوصة شرعاً؛ لأن لفظ "الوضوء" لا يتبادر إلى الذهن عند إطلاقه إلا المعنى الشرعي. ومثال بيان المستدل: أن اللفظ الذي أورده ظاهر من جهة العرف: قوله: خروج الدم اليسير من المصلي لا ينقض وضوءه؛ لأن الدم اليسير معفو عنه؛ قياسا على ما لو كان خارج الصلاة. فيقول المعترض: قياسك هذا قد اشتمل على لفظ مجمل، وهو لفظ " يسير "؛ حيث يتفاوت المكلَّفون في تقدير هذا اليسير. فيجيب المستدل بقوله: إن ما أوردته في قياسي من لفظ " اليسير " ظاهر الدلالة على أن المراد به اليسير في عرف أوساط المكلَّفين لا الغالين، ولا الجافين. ومثال بيان المستدل: أن اللفظ الذي أورده ظاهر من جهة اللغة: قوله: إذا حال عن الماء أسد جاز التيمم قياسا على فاقد الماء حقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2167 فيقول المعترض: قياسك هذا قد اشتمل علر، لفظ مجمل وهو: " أسد "؛ لأنه يحتمل أن يراد به الحيوان المفترس، أو يراد به الرجل الشجاع، فما الذي تريده بهذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إن لفظ " الأسد " ظاهر من حيث الوضع اللغوي على الحيوان المفترس وهي: دلالة حقيقية، ودلالته على الرجل الشجاع دلالة مجازية، لهذا قد اتضح أن المراد به الحقيقة وهو: الحيوان المفترس. الطريق الثالث: أن يفسر المستدل مراده باللفظ؛ بأن يسلم المستدل بالإجمال، ولا يدعي الظهور، وإنما يختار أحد المعنيين أو المعاني المحتملة. مثاله: قول المستدل: المكره على القتل مختار للقتل فيقتص منه كغير المكره. فيقول المعترض: قد اشتمل هذا القياس على لفظ مجمل، وهو لفظ " مختار "؛ حيث إنه يحتمل أن يكون اسم فاعل، وهو القادر على القتل، أو أن يراد به الفاعل الراغب للقتل، فما المعنى الذي تريده منهما بهذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إني أريد بهذا اللفظ الأول وهو: الفاعل القادر على الإتيان بالفعل؛ حيث لا مانع له في بدنه وإن كان محمولاً على هذا الفعل من خارج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2168 ْثانيا: كيفية الجواب عن الاستفسار حينما يكون اللفظ غريبا: يجيب المستدل عن استفسار المعترض في هذا بطرق هي كما يلي: الطريق الأول: أن يمنع المستدل كون اللفظ غريبا. مثاله: قال المستدل: لا تحل فريسة الكلب غير المعلم؛ لأنه وحش لم يروض فلا تحل فريسته؛ قياسا على الذئب. فيقول المعترض: قد اشتمل قياسك هذا على لفظ غريب وهو لفظ " فريسته "، فما الذي تريده بهذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إني أمنع أن يكون لفظ " الفريسة " غريبا، بل هو معروف المعنى. الطريق الثاني: أن يُبَيِّن المستدل كون هذا اللفظ ظاهر المعنى، ويبين أن ذلك ظاهر من جهة القرينة، أو جهة اللغة، أو جهة العرف، وإليك مثالاً لكل واحد: مثال بيان المستدل: أن اللفظ ظاهر من جهة القرينة: قول المستدل: طلَّة زوجت نفسها فلا يصح نكاحها كما لو لم يأذن وليها. فيقول المعترض: قد اشتمل قياسك على لفظ غريب، وهو لفظ " طلَّة "، فما المراد بهذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إن هذا اللفظ - وهو: " طلَّة " - الوارد في قياس ظاهر المعنى؛ حيث إن المراد به المرأة؛ لقرينة إسناد التزويج لها. ومثال بيان المستدل: أن اللفظ ظاهر المعنى من جهة اللغة: قوله: لا يحل الأكل من الصيد الذي أكل منه الكلب المعلم؛ لأنه صيد جارحه لم ترض فلم يحل كغير المعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2169 فيقول المعترض: إنه ورد في قياسك لفظ غريب وهو: " لم يرض "، فما المراد من هذا اللفظ؟ فيجيب المستدل بقوله: إن لفظ " لم يرض " ظاهر المعنى، على حسب الوضع اللغوي؛ حيث إنه من الرياضة. ومثال بيان المستدل: أن اللفظ ظاهر المعنى من جهة العرف: قوله: القُبْلة من الصائم مبدأ مجرد عن الغاية، فلا تفسد الصوم كالمضمضة. فيقول المعترض: إنه ورد في قياسك هذا لفظان غريبان هما: "مبدأ "، و " غاية "، فما المراد بهما عندك؟ فيجيب المستدل بقوله: إق لفظ " مبدأ "، و " غاية " ليسا بغريبين بل هما ظاهران عرفا عند المجتهدين المتخصصين بعلم المناظرة ومسائل الخلاف؛ حيث إن المراد بلفظ " المبدأ ": السبب، والمراد بلفظ " غاية ": المقصود. الطريق الثالث: أن يفسر المستدل مراده باللفظ، فيسلم كون اللفظ غريباً، ويكتفي ببيان المعنى الذي يتضح به اللفظ. مثاله: قول المستدل: لا يحل صيد الكلب غير المعلم؛ لأنه خراش لم يُبْلَ، فلا تحل فريسته كالسيد. فيقول المعترض: إنه ورد في قياسك هذا ألفاظ غريبة وهي لفظ: " خراش "، ولفظ: " لم يُبْلَ "، ولفظ " السيد "، فما مرادك بهذه الألفاظ؟ فيجيب المستدل بقوله: أريد بلفظ: " خراش ": الكلب، وأريد بلفظ " لم يُبْلَ ": أنه لم يجرب ويمتحن حتى يتعلم، وأريد بلفظ " السيد ": الذئب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2170 المبحث الثاني في قادح منع الحكم في الأصل ويشتمل على مطلبين هما: " المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: في كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2171 المطلب الأول في بيان قادح منع الحكم في الأصل المراد منه: أن يمنع المعترض الحكم الذي يدير المستدل ثبوته في الأصل. مثاله: قول المستدل: الخل مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجاسة قياساً على الدهن، فهنا جعل المستدل - وهو القائس - الدهن أصلاً، والفرع: الخل، وحكم الأصل أن الدهن غير مزيل للنجاسة، والعِلَّة: أن كلًّا منهما مائع لا يرفع الحدث. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، فإن الدهن عندي مزيل للنجاسة. مثال آخر: قول المستدل: الخنزير حيوان نجس العين، فيوجب غسل الإناء من ولوغه سبعا؛ قياسا على الكلب. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، فالكلب عندي لا يغسل الإناء من ولوغه سبعا. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2173 المطلب الثاني كيفية الجواب عن منع الحكم في الأصل إذا منع المعترض ثبوت الحكم في الأصل، وأراد المستدل الجواب عن هذا المنع، فإن الجواب يختلف باختلاف أحوال مذهب المعترض وهي: الحالة الأولى: أن يكون مذهب المعترض معلوما، وهو متحد مع مذهب المستدل. الحالة الثانية: أن يكون مذهب المعترض معلوما، وهو مختلف مع مذهب المستدل. الحالة الثالثة: أن يكون مذهب المعترض غير معلوم. وإليك بيان تلك الحالات مع أمثلتها: أما الحالة الأولى - وهي: كون مذهب المعترض معلوما متحداً - فإن المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بثلاث طرق: الطريق الأول: أن يقوم المستدل بتفسير حكم الأصل بما يسلم به المعترض: مثاله: قول المستدل: الإجارة عقد على منفعة، فبطل هذا العقد بموت المعقود له؛ قياساً على النكاح. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، حيث إن النكاح لا يبطل بالموت، وإنما ينقضي وينتهي بالموت كالإجارة إذا انتهت مدتها، فإنه لا يقال: بطلت، وإنما يقال: انتهت وانقضت. فيجيب المستدل بقوله: إني أردت ببطلان العقد بالموت: أن يرتفع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2174 بالموت: وحينئذ يسلم حكم المستدل من ورود المنع؛ لأنه لا خلاف بين المعترض والمسًتدل في أن العقد يرتفع بالموت. فهنا فسر المستدل حكم الأصل بتفسير يسلِّم به المعترض، وسبب ذلك: أن مذهب المعترض معلوم متحد مع مذهب المستدل. الطريق الثاني: أن يُبيِّن المستدل محلا من المسألة متفقا عليه بينهما. مثاله: قول المستدل: لا تجب قراءة الفاتحة على المأموم؛ لأنه مأموم، فوجب أن يسقط عنه فرض القراءة؛ قياسا على ما إذا أدرك المأموم الإمام، وهو راكع. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل؛ حيث إن المأموم إذا أدرك الإمام وهو راكع وأمكنه قراءة الفاتحة وإتمامها قبل فوات الركعة وجبت عليه قراءتها. فيجيب المستدل بقوله: لا خلاف بيننا وبينكم أنه إذا خاف فوات الركعة لم تجب عليه قراءة الفاتحة، وهذا يكفي أن تسلم به. الطريق الثالث: أن يورد المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في الأصل. مثاله: قول المستدل: الوضوء عبادة يفسدها الحدث، فيكون الترتيب فيها واجباً قياساً على الصلاة. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، وهو وجوب الترتيب في الصلاة. فيجيب المستدل بقوله: إن الحكم في الأصل وهو وجوب الترتيب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2175 في الصلاة ثبت بقوله لمجفه: "صلوا كما رأيتموني أصلي "، ولم ينقل عنه - صلى الله عليه وسلم -: أنه صلى إلا مرتبا، فدل على وجوب الترتيب. مثال آخر: قول المستدل: الخنزير حيوان نجس العين، فوجب غسل الإناء من ولوغه سبعا؛ قياسا على الكلب. فيقول المعترض: أنا أمنع الحكم في الأصل، فالكلب عندي لا يغسل من ولوغه سبعاً. فيجيب المستدل بقوله: لقد ثبت الحكم في الأصل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسنله سبع مرات ". وهذا على رأي جمهور العلماء، أي: أن المعترض إذا منع الحكم في الأصل، فإن المستدل يثبت حكم الأصل بأي نوع من أنواع الأدلة، فإذا أثبت ذلك فإن قياسه صحيح. لكن هل ينقطع المعترض إذا أقام المستدل دليلاً على حكم الأصل - كما سبق -؟ أقول - في الجواب عن ذلك -: إن المعترض لا ينقطع إذا أثبت المستدل الحكم في الأصل؛ بل للمعترض أن يسعى إلى إبطال دليل المستدل؛ لأن المستدل إذا علم أن المعترض لن يعترض عليه إذا أورد الدليل لإثبات الحكم في الأصل، فإنه يحتمل أن يورد المستدل دليلاً لا يصلح أن يكون مثبتا للحكم، وهذا يجعل المعترض لا يورد الاعتراض ابتداء؛ لأنه يعلم أنه سيقبل من المستدل أيمما دليل يثبت به الحكم في الأصل، وعلى هذا: لا يكون لمنع الحكم ابتداء معنى، ومنعا لهذا الاحتمال، فللمعترض أن يسعى إلى إبطال دليل المستدل الذي أورده لإثبات الحكم في الأصل حتى يعجز، وهو رأي الآمدي، وابن الحاجب، وابن الهمام، وغيرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2176 وهناك رأي آخر في المسألة وهو: أن المعترض ينقطع إذا أقام المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في الأصل، ولا يجوز المعترض أن يعترض على ذلك، وهذا الرأي ضعيف لما قلناه. هذا الكلام عن الحالة الأولى - وهي: كون مذهب المعترض معلوماً متحداً -. أما الحالة الثانية - وهي: كون مذهب المعترض معلوماً وهو مختلف - فإن المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بالطرق الثلاث التي ذكرناها في الحالة الأولى، وهي: " تفسير حكم الأصل بما يسلم به المعترض "، و " بيان محلاً من الحكم يسلم به المعترض "، و " إقامة الدليل على حكم الأصل "، والأمثلة نفس الأمثلة السابقة، لكن يراعى فيها أن الحكم مختلف فيه في المذهب. وتزيد هذه الحالة طريق رابع وهو: أن يبين المستدل أن الصحيح من مذهب المعترض هو التسليم بحكم الأصل. مثاله: قول المستدل الشافعي: من أحرم بالحج نفلاً وعليه فرض، فإن إحرامه ينعقد فرضا؛ لأنه إحرام بالحج ممن عليه فرضه، فانصرف إحرامه إلى ما عليه من الفرض؛ قياسا على ما لو أحرم إحراما مطلقا. فيقول المعترض الحنفي: أنا أمنع الحكم في الأصل؛ حيث إن الإحرام الذي أطلق فيه النية أنه يكون تطوعا، وهذا قد نقله الحسن ابن زياد عن أبي حنيفة. فيجيب المستدل بقوله: إن أبا الحسن الكرخي - وهو الذي ينقل الرواية الصحيحة عن أبي حنيفة - قد نقل عن أبي حنيفة التسليم بحكم الأصل، فإذا ثبت أنها الرواية الصحيحة، فإن المنع يبطل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2177 أما الحالة الثالثة - وهي: كون مذهب المعترض غير معلوم - فإن المستدل يجيب عن منعه للحكم في الأصل بطريقين: الطريق الأول: أن يبين المستدل رأي إمام المعترض. هذا خاص فيما إذا كان رأي إمام مذهب المعترض موافقا لما يراه المستدل. مثاله: قول المستدل: العيوب في النكاح تثبت الخيار، لأنها تمنع معظم المقصود بالنكاح، فيثبت بها الخيار؛ قياسا على الجُب. فيقول المعترض: لا أعلم لإمام مذهبي رأيا في هذا. فينقل المستدل عن إمام مذهب المعترض ما يدل على أن تلك العيوب تثبت الخيار. الطريق الثاني: أن يورد المستدل دليلاً على ثبوت الحكم في الأصل. مثاله: قول المستدل: من قتل بآلة غير السيف لم يقتص منه إلا بالسيف؛ لأنها آلة لا يقتص بها لو كان القتل بالسيف، فلم يجز القصاص بها إذا كان القتل بها؛ قياسا على ما إذا سقى القاتل المقتول خمراً، فإنه لا يجوز أن يسقى القاتل خمراً حتى يموت، وإنما يقتص منه بالسيف. فيقول المعترض: لا أعلم لإمام مذهبي رأيا في هذا، فلا يلزمني التسليم به. فيجيب المستدل بقوله: إن الحكم في الأصل قد ثبت بقوله - صلى الله عليه وسلم -: - " لا قود إلا بالسيف ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2178 المبحث الثالث في قادح منع وجود الوصف في الأصل ويشتمل على مطلبين هما: المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: في كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2179 المطلب الأول في بيان منع وجود الوصف في الأصل المراد منه: أن يمنع المعترض وجود الوصف المعلل به في الأصل. وهذا له حالتان: الحالة الأولى: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الأصل بناء على أصله هو. مثاله: قول المستدل: الكلب حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا فلا يطهر جلده بالدباغ قياسا على الخنزير. فيقول المعترض: أنا أمنع، الوصف في الأصل؛ حيث إن الخنزير عندي لا يغسل الإناء من ولوغه سبعا. الحالة الثانية: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الأصل بناء على أصل المستدل. مثاله: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه على الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: إن الوصف الذي تدعيه في الأصل غير موجود بناء على مذهبك؛ حيث يصح البيع بالكتابة، ولا يتعين بالقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2181 المطلب الثاني كيفية الجواب عن قادح منع وجود الوصف في الأصل المعترض إذا منع وجود الوصف في الأصل، فإن جواب المستدل يختلف باختلاف الحالتين السابقتين. أما الحالة الأولى - وهي: منع المعترض وجود الوصف في الأصل بناء على أصله هو - فإن المستدل يجيب عن هذا بأحد طريقين: الطريق الأول: أن يفسر لفظ الوصف على نحو يسلم به المعترض. مثاله: قول المستدل: الوضوء عبادة يبطلها الحدث، فيشترط فيها الترتيب قياسا على الصلاة. فيقول المعترض: أنا أمنع وجود الوصف في الأصل، فالصلاة لا يبطلها الحدث الذي لم يتعمد عندي. فيجيب المستدل بقوله: أردت بقولي: " يبطلها الحدث ": أن الحدث يمنع من إتمامها، وهذا مسلم به. الطريق الثاني: أن يأتي المستدل بدليل يثبت فيه وجود الوصف في الأصل. مثاله: قول المستدل: الكلب حيوان يغسل الإناء من ولوغه سبعا فلم يطهر جلده بالدباغ، قياسا على الخنزير. فيقول المعترض: أنا أمنع الوصف في الأصل، وهو غسل الإناء سبعاً من ولوغ الخنزير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2182 فيستدل المستدل - وهو القائس - على وجود الوصف في الأصل بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا "، فإذا وجب الغسل سبعا في الكلب وهو أدنى من الخنزير، فأولى أن يجب الغسل من ولوغ الخنزير. أما الحالة الثانية - وهي: منع المعترض وجود الوصف في الأصل بناء على أصل المستدل - فإن المستدل يجيب عن هذا: بأن يفسر المستدل لفظ الوصف بما يسلم به المعترض. مثاله: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه على الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: الوصف الذي ذكرته في الأصل غير موجود فيه؛ بناء على مذهبك؛ لأن البيع يصح عندك بالكتابة، ولا يتعين القول. فيجيب المستدل بقوله: أنا أردت بقولي: " تتعلق صحته بالقول " أي: أنه يصح بالقول، لا أني أريد أنه لا يصح إلا بالقول، فصحته بالقول لا تنفي صحته بغيره، وهي الكتابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2183 المبحث الرابع في قادح منع وجود الوصف في الفرع وهو يشتمل على مطلبين: المطلب الأول: بيان المراد منه. المطلب الثاني: كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2185 المطلب الأول بيان قادح منع وجود الوصف في الفرع المراد منه: أن يمنع المعترض وجود الوصف المعلل به في الفرع. ولهْ حالتان - أيضا - هما: الحالة الأولى: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الفرع بناء على أصله هو. مثاله: قول المستدل: يجوز الاستئجار على الحج؛ لأن الحج فعل يجوز أن يفعله الشخص عن غيره، فجاز أن يفعله عنه بأجرة؛ قياساً على الخياطة. فيقول المعترض: أنا أمنع الوصف في الفرع، فالحج لا تدخله النيابة عندي. الحالة الثانية: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الفرع بناء على أصل المستدل. مثاله: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه في الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: الوصف الذي ذكرته في الفرع غير موجود فيه؛ بناء على مذهبك؛ لأن الطلاق يصح عندك بالكتابة مع النية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2187 المطلب الثاني كيفية الجواب عن قادح منع وجود الوصف في الفرع المعترض إذا منع وجود الوصف في الفرع، فإن جواب المستدل يختلف باختلاف الحالتين السابقتين، وإليك بيان ذلك: أما الحالة الأولى - وهي: منع المعترض وجود الوصف في الفرع بناء على أصله - فإن المستدل يجيب عن هذا بأحد طريقين: الطريق الأول: أن يُفسر المستدل لفظ الوصف بما يوافق عليه المعترض. مثاله: قول المستدل: يجوز الاستئجار على الحج؛ لأن الحج فعل يجوز أن يفعله الشخص عن غيره، فجاز أن يفعله عنه بأجرة؛ قياساً على الخياطة. فيقول المعترض: أنا أمنع الوصف في الفرع، فالحج لا تدخله النيابة عندي. فيجيب المستدل بقوله: إني أردت بقولي: " يجوز أن يؤديه الإنسان عن غيره " أنه يجوز أن يأمر شخص آخر أن ينوي الإحرام عنه، ويضيف التلبية بالحج إليه. الطريق الثاني: أن يقيم المستدل دليلاً يدل على وجود الوصف في الفرع. مثاله: قول المستدل: القتل بالمثقل قتل عمد عدوان، فوجب فيه القصاص؛ قياسا على القتل بالمحدد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2188 فيقول المعترض: أنا أمنع وجود وصف العدوان في الفرع. فيجيب المستدل بقوله: إن وجود الوصف في الفرع ثبت بدليل وهو: تحريم الشارع للعدوان، كما قال تعالى: (ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) . أما الحالة الثانية - وهي: منع المعترض وجود الوصف في الفرع بناء على أصل المستدل - فإن المستدل يجيب عن هذا بتفسير لفظ الوصف في الفرع بما يسلم به المعترض. مثاله: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه على الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: الوصف الذي ذكرته في الفرع غير موجود فيه بناء على مذهبك؛ حيث إن الطلاق يصح عندك بالكتابة مع النية. فيجيب المستدل بقوله: إني أردت بقولي: " تتعلق صحته بالقول " أي: يصح بالقول، لا أنه لا يصح إلا بالقول، فصحته بالقول لا تنفي صحته بغيره، وهي الكتابة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2189 المبحث الخامس في قادح منع الوصف في الأصل والفرع معا وهو يشتمل على مطلبين هما: المطلب الأول: في بيان المراد به. المطلب الثاني: في كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2191 المطلب الأول في بيان المراد من منع الوصف في الأصل والفرع المراد: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الأصل والفرع. وله حالتان: الحالة الأولى: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الأصل والفرع بناء على أصله. مثاله: قول المستدل: التيمم لليدين يكون إلى المرفقين؛ لأنه طهارة بالصعيد، فوجب أن يستوعب فيها المحل كتطهير الوجه. فيقول المعترض: أنا أمنع الوصف في الأصل والفرع، فإن التيمم ليس بطهارة في الأصل - الذي هو الوجه - وليس بطهارة في الفرع - الذي هو اليدان -؛ وذلك لأن الطهارة: ما طهر المحل ورفع الحدث، ونحن قد اتفقنا على أن التيمم لا يرفع الحدث، فوصفه بأنه طهارة غير حقيقي. الحالة الثانية: أن يمنع المعترض وجود الوصف في الأصل والفرع بناء على أصل المستدل. مثال ذلك: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه على الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: الوصف الذي ذكرته لا يوجد في الأصل ولا في الفرع؛ بناء على مذهبك: فالأصل الذي هو البيع يصح عندك بالكتابة، ولا يتعين بالقول. والفرع الذي هو الطلاق يصح عندك بالكتابة، ولا يتعين بالقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2193 المطلب الثاني في كيفية الجواب عن قادح منع وجود الوصف في الفرع والأصل المعترض إذا منع وجود الوصف فيهما، فإن جواب المستدل يختلف باختلاف الحالتين السابقتين، بيان ذلك: أما الحالة الأولى - وهي: منع المعترض وجود الوصف فيهما بناء على أصله هو - فإن المستدل يجيب عن ذلك سالكا أحد طريقين: الطريق الأول: أن يفسرْ المستدل لفظ الوصف بما يوافق عليه المعترض. مثاله: قول المستدل: الكلب حيوان يغسل الإناء من ولوغه عدداً فلم يطهر جلده بالدباغ؛ قياساً على الخنزير. فيقول المعترض: أنا أمنع الوصف في الأصل والفرع، فالغسل عدداً لا يجب في ولوغ الخنزير، ولا في ولوغ الكلب. فيجيب المستدل بقوله: عندكم أنه إذا غلب على الظن عدم طهارة الإناء بغسلة واحدة، فإن الغسل يكرر حتى تحصل غلبة الظن بالطهارة، وعندنا العدد معتبر في حالة غلبة الظن وعدمها، فيصح - على هذا - اعتبار العدد في الغسل من ولوغ الكلب في الجملة. الطريق الثاني: أن يقيم المستدل دليلاً على وجود الوصف في الأصل والفرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2194 مثاله: المثال السابق؛ فإذا قال المعترض: أمنع الوصف في الأصل والفرع، فالكلب والخنزير لا يجب غسل الإناء من ولوغهما سبعا. فيستدل المستدل على وجود الوصف في الأصل والفرع بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا ". فإذا نص على وجوب غسل الإناء من ولوغ الكلب سبعا، وهو أدنى من الخنزير، فالخنزير أوْلى أن يجب فيه هذا الحكم. أما الحالة الثانية - وهي: منع المعترض وجود الوصف فيهما بناء على أصل المستدل - فإن المستدل يجيب عن ذلك سالكا طريقا واحداً وهو: أن يفسر لفظ الوصف بما يسلم به المعترض. مثاله: قول المستدل: الطلاق معنى تتعلق صحته بالقول، فلم يصح تعليقه على الشعر؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: ما ذكرته في قياسك من الوصف غير موجود في الأصل على مذهبك: فالبيع الذي هو الأصل يصح عندك بالكتابة ولا يتعين بالقول. كذلك: ما ذكرته في قياسك من الوصف غير موجود في الفرع على مذهبك: فالطلاق - الذي هو الفرع - يصح عندك بالكتابة مع النية، ولا يتعين بالقول. فيجيب المستدل بقوله: إني أردت بقولي: " تتعلق صحته بالقول ": أنه يصح بالقول، لا أنه لا يصح إلا بالقول، فصحته بالقول لا تنفي صحته بغيره وهي الكتابة، وبهذا لا ينتفي الوصف عن الأصل والفرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2195 المبحث السادس في قادح منع كون الوصف عِلَّة ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: في حجيته. المطلب الثالث: في كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2197 المطلب الأول في بيان المراد منه والمراد منه: أن يمنع المعترض كون الوصف الذي ذكره المستدل عِلَّة للحكم. أي: أن المستدل إذا قاس الفرع على الأصل بجامع عِلَّة سماها وذكرها، فإن المعترض يقول: أنا أمنع كون هذا الوصف عِلَّة لهذا الحكم. أو يقول: ما الدليل على كون هذا الوصف عِلَّة للحكم؟ ولهذا يطلق بعض العلماء عليه مصطلح: المطالبة، أي: المطالبة بتصحيح العِلَّة، أو إثبات كونها تصلح للعلية. وهو أهم قادح من قوادح العِلَّة؛ لأمرين: أولهما: عموم وروده على جميع ما يدعي أنه عِلَّة. ثانيهما: كثرة الأدلة التي يثبت بها المستدل أن هذا الوصف عِلَّة. مثاله: قول المستدل: تقاس الفارة على الهرة، فيكون سؤر الفأرة طاهراً كسؤر الهرة بجامع: كثرة التطواف في المنزل. فيقول المعترض: أنا أمنع كون كثرة التطواف علَّة لطهارة سؤر الهرة، أو يقول: ما الدليل على أن التطواف عِلَّة لطهاَرة سؤر الهرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2199 المطلب الثاني حجيته وهو حُجَّة، أي: أن للمعترض منع كون الوصف عِلَّة، وهو قول بعض الحنفية كالدبوسي، والسرخسي، وابن الهمام، وبعض المالكية كابن الحاجب، والباجي، وبعض الشافعية كأبي إسحاق الشيرازي، وإمام الحرمين، والغزالي، والآمدي، وتاج الدين ابن السبكي، وبعض الحنابلة كأبي يعلى، وتلميذيه: أبي الخطاب وابن عقيل، وهو الحق عندي؛ لأن إثبات الحكم في الفرع لا يمكن الاستناد في إثباته إلى مجرد وجود الحكم في الأصل؛ حيث إنه لا بد من عِلَّة جامعة بينهما، وهذه العِلَّة تكون مشتملة على معنى مقصود للشارع من شرع الحكم، حيثَ إننا قلنا: إن الأحكام مبنية على المصالح، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد أن يُطالب المستدل بان يُبين تأثير هذا الوصف في الحكم الذي ذكره، ولا بد أن يشعر المستدل بأنه سيطالب بذلك؛ لأن عدم شعوره بذلك سيؤدي إلى أن بعضهم سيتمسك بالأوصاف الطردية التي لا تشتمل على معنى مقصود للشارع - كما سبق بيانه - وهذا يفضي إلى التلاعب بالأحكام، فيضيع القياس، لأنه لم يفد الظن الذي من أجله صح الاعتماد عليه. وبعضهم قال: ليس للمعترض منع كون الوصف علَّة، وعللوا ذلك بأن قبول منع كون الوصف عِلَّة يؤدى إلى التسلسل، وانتشار الكلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2200 وهذا غير صحيح؛ لأن المستدل إذا أورد دليلاً يفيد الظن بكون هذا الوصف يصلح أن يكون عِلَّة، فلا مجال للتسلسل وانتشار الكلام، ويكون منع المعترض لهذَا الدليل بعد ذلك من العناد؛ لأنه مطالبة بعلية ما غلب على الظن كونه عِلَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2201 المطلب الثالث كيفية الجواب عن قادح منع كون الوصف عِلَّة لما قلنا: إن للمعترض منع كون الوصف الذي ذكره المستدل عِلَّة للحكم، أي: للمعترض مطالبة المستدل بإقامة الدليل على كون الوصف عِلَّة، فإنه يجب على المستدك حينئذ أن يجيب عن هذا المنع بإثبات كون الوصف عِلَّة للحكم. ويثبت كون الوصف يصلح لأن يكون عِلَّة بالطرق المثبتة للعلية، وهي مسألة العِلَّة التي ذكرناها فيما سبق، وهي: النص الصريح، والنص الظاهر، والإجماع، والإيماء، والمناسبة، والإخالة، والسبر والتقسيم، وتنقيح المناط، والدوران، والوصف الشبهي. مثال ذلك: قول المستدل: النباش يُقاس على السارق في وجوب قطع يده، والعِلَّة: أخذ المال بخفية. فيقول المعترض: أنا أمنع كون " أخذ المال بخفية " علة للقطع. أو يقول: ما الدليل على كون هذا الوصف - " وهو أخذ المال بخفية"عِلَّة؟ فيجيب المستدل بقوله: إن الدليل على كون هذا الوصف علة للقطع قوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) . والسرقة: الأخذ بخفية، فقد ورد الحكم وهو مقرون بالفاء بعد الوصف مباشرة، وهذا من أنواع الإيماء إلى العِلَّة المعتبرة - كما سبق بيانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2202 مثال آخر: قول المستدل: لا يباع العنب بالزبيب؛ لأن العنب إذا جف نقص، فلم يصح البيع قياسا على بيع الرطب بالتمر. فيقول المعترض: أنا أمنع كون النقصان بالجفاف علة لمنع البيع، أو يقول: ما الدليل على كون هذا الوصف علة للحكم؟ فيجيب المستدل بقوله: إن الدليل على كون وصف الجفاف علَّة لمنع البيع هو: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن بيع الرطَب بالتمر - قال: أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، قال: "فلا إذن " أي: فلا تبيعوا الرطب بالتمر. فهنا: قد رتب الرسول - صلى الله عليه وسلم - الوصف - وهو النقصان بالجفاف - على الحكم - وهو عدم جواز البيع - بما يدل بالإيماء على التعليل، وقد سبق بيان ذلك. مثال ثالث: قول المستدل: تجري على الصغير الولاية في النكاح؛ لأنه صغير، فجرت عليه الولاية فيه؛ قياسا على الولاية في المال. فيقول المعترض: أنا أمنع كون الصغر عِلَّة في ولاية المال، أو يقول: بين الدليل على كون هذا الوصف عِلَّة لهذا الحكم. فيجيب المستدل بقوله: إن الدليل على ذلك هو: الإجماع. مثال رابع: قول المستدل: المطلقة طلاقا ثلاثا بائنا في مرض الموت ترث من زوجها معاملة له بنقيض قصده؛ قياسا على القاتل. فيقول المعترض: أنا أمنع كون المعاملة بنقيض المقصود علَّة في منع القاتل من الإرث، أو يقول: ما الدليل على أن هذا الوَصف عِلَّة لهذا الحكم؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2203 فيجيب المستدل: الدليل على كون المعاملة بنقيض المقصود عِلَّة في منع القاتل من الإرث هو: مناسبة هذا الوصف لهذا الحكم؛ َ حيث إن القاتل قتل مورثه لتعجيل حصوله على مال مورثه، فعاملناه جزاء تصرفه الممنوع بأن منعنا عنه هذا المال. وهكذا يثبت المستدل علية الوصف بأحد طرق ثبوت العِلَّة. موقف المعترض من ذلك: إن اقتنع المعترض بهذا الطريق أو المسلك، والدليل المثبت لعلية الوصف: صح قياس المستدل، وانقطع المعترض. وإن لم يقتنع المعترض فإن له أن ينظر في هذا الدليل أو المسلك الذي أقامه المستدل، ويعترض عليه إذا أمكنه ذلك بأن يورد الاعتراضات المناسبة لكل دليل أو مسلك من المسالك التي اعتمد عليها المستدل، وكأن المستدل قد أورد هذا الدليل ابتداء. فمثلاً: إذا استدل المستدل على كون الوصف يصلح أن يكون علَّة لهذا الحكم عن طريق الكتاب، فإن المعترض يورد عليه الاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالكتاب ابتداء، وإذا استدل عليها عن طريق السُّنَّة، فإن المعترض يورد عليها الاعتراضات التي تورد على الاستدلال بالسُّنَّة، وهكذا. ففي المثال الأول السابق - وهو: قياس النباش على السارق - حيث إن المستدل استدل على كون الوصف - وهو أخذ المال بخفية - عِلَّة بقوله تعالى: (وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) ، فقد يعترض المعترض بأحد الأمور التالية: فقد يقول - أي: المعترض -: إن هذه الآية منسوخة، والمنسوخ لا يستدل به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2204 وقد يقول المعترض: إنك أيها المستدل قد استدللت بالمفهوم المخالف من الآية، وأنا لا أحتج بالمفهوم. وقد يقول المعترض: إنك أيها المستدل قد أوردت هذه الآية على قراءة لإثبات كون الوصف علَّة، وأنا عندي قراءة أخرى لا يمكن معها إثبات كون الوصف عِلَّةَ. وهكذا في بقية الاعتراضات على الكتاب، ويقول ذلك أيضا في السُّنَة، ويزيد: اعتراض المعترض على سند الحديث. موقف المستدل من ذلك: إن اقتنع المستدل بأحد هذه الاعتراضات: فإنه يبطل قياسه، ولنقطع. وإن لم يقتنع، فإن عليه أن ينظر في هذه الاعتراضات، ويجيب عنها كل اعتراض بحسبه: فإن كان الاعتراض بالنسخ، فإن المستدل ينظر فيه من حيث تعيين الناسغ، وتاريخ النسخ، وإمكان الجمع. وإن كان الاعتراض بالمفهوم، فإن المستدل يبين حجية المفهوم بالأدلة، وهكذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2205 المبحث السابع في قادح التقسيم ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: في حجيته. المطلب الثالث: في شروطه. المطلب الرابع: في بيان الفرق بينه وبين الاستفسار. المطلب الخامس: في كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2207 المطلب الأول في بيان المراد منه والمراد منه: ترديد المعترض لفظ المستدل بين احتمالين - أو أكثر - مع منع أحدهما وتسليم الآخر، أو مع تسليمهما مع اختلاف ما يترتب عليهما. ومعناه: إذا اشتمل قياس المستدل على لفظ محتمل لمعنيين أو أكثر، فإن للمعترض - إن استطاع -: أن يُردِّد بينهما بأن يقول: اللفظ الذي أوردته أيها المستدل في قياسك مُحتمل لمعنيين: أحدهما ممنوع، والآخر: مسلَّم. أو يقول: إنه محتمل لمعنيين أسلم بهما، لكن يرد على أحدهما ما لا يمكن الاحتجاج بهذا المعنى. مثاله: قول المستدل: لا تجب الزكاة في مال الصبي؛ لأنها عبادة فلم تجب عليه كسائر العبادات. فيقول المعترض: اشتمل قياسك هذا على لفظ " عبادة "، وهو متردد بين معنيين: أحدهما: أنها عبادة محضة، وهذا ممنوع؛ لأن فيها جانب المؤنة. ثانيهما: أنها عبادة غير محضة، وهذا مسلم، لكنه لا يفيدك في عدم وجوب الزكاة على الصبي؛ لأنها عبادة من جهة، ومؤنة من جهة أخرى: فهي - إذن - واجبة في ماله باعتبارها مؤنة كنفقة الزوجة والأقارب، والولي هو الذي يخرجها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2209 المطلب الثاني حجيته هذا القادح حُجَّة، أي: أن للمعترض أن يورد التقسيم على قياس المستدل، وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن تحديد مراد المستدل من لفظ قياسه مطلوب منه، وبواسطة التقسيم يتوصل إلى بيان المراد، فكان مقبولاً. وبعض العلماء قالوا بعدم حجية هذا القادح؛ حيث إنه يغني عنه قادح الاستفسار. وهذا ليس بصحيح؛ لأن يين قادح التقسيم، وقادح الاستفسار فروقا سيأتي ذكرها إن شاء اللَّه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2210 المطلب الثالث شروط التقسيم ليس كل ما يقوله المعترض من التقسيم مقبولاً، بل اشترط في المقبول منه شروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون لفظ المستدل في قياسه مما يصح تردده بين احتمالين أو أكثر؛ إذ لو لم يكن لفظه متردداً لما كان للتقسيم فائدة؛ لأنه سيحمل حينئذ على معناه الذي لا يحتمل غيره، ولو لم يكن ما يقول المعترض من الوجهين صحيحا: لكان عبثا. مثال ذلك: قول المستدل: المكره على القتل مختار للقتل، فيقتص منه كالمكرِه - بكسر الراء -. فيقول المعترض: قد اشتمل قياسك هذا على لفظ " مختار " وهو يحتمل معنيين: الأول: مختار بمعنى الفاعل الراغب في القتل، وهذا ممنوع. الثاني: مختار بمعنى الفاعل القادر على القتل، وهذا مسلم. هذا مثال ما توفر فيه هذا الشرط. أما مثال ما لم يتوفر فيه هذا الشرط فهو قول المستدل: النبيذ شراب مسكر، فكان حراماً كالخمر. فيقول المعترض: قد اشتمل قياسك هذا على لفظ " مسكر "، وهو محتمل لثلاثة معان: " مسكر بالمعنى الشرعي "، و " مسكر بالمعنى اللغوي "، و " مسكر بالمعنى العقلي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2211 فهذا التقسيم لا يصح؛ حيث إنه لا يحتمله اللفظ. الشرط الثاني: أن يكون التقسيم حاصراً لجميع المعاني التي يحتملها لفظ المستدل ما لم يحترز في إيراده. ويمثل له بما سبق من قياس المكره - بفتح الراء - على المكرِه - بكسر الراء - السابق. أما إذا لم يكن التقسيم حاصراً، فإنه لا يتم إيراده؛ لاحتمال أن يكون ذلك المعنى الذي لم يذكره المعترض هو مراد المستدل. فمثلاً لو قال المستدل: المرأة الحرة العاقلة يجوز لها ولاية عقد النكاح؛ لأنها عاقلة، فصحت منها الولاية كالرجل. فيقول المعترض: لفظ " عاقلة " متردد بين معنيين: الأول: أنها عاقلة بمعنى أنها مجربة، وهذا ممنوع. الثاني: أنها عاقلة بمعنى أن لها حسن رأي وتدبير، وهذا مسلم. فهذا التقسيم غير حاصر؛ لاحتمال أن يورد المستدل المعنى الثالث لكونها عاقلة وهو: أن لها عقلاً غريزيا يمكن أن تدرك به المصالح والمفاسد، ويكون هذا هو مراد المستدل فيبطل تقسيم المعترض. الشرط الثالث: أن يكون التقسيم مطابقا لما ذكره المستدل، فلا يورد المعترض زيادة على لفظ المستدل. ويمثل له بما سبق من قياس الزكاة على سائر العبادات في أنها لا تجب على الصبي بجامع: أن كلًّا منهما عبادة. وكذلك: قياس المكره على المكره، ونحوهما. أما إذا كان التقسيم غير مطابق بأن زاد المعترض على ما ذكره الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2212 المستدل لم يصح ذلك منه، فيكون ذلك سببا في رد تقسيم المعترض؛ حيث إن المستدل لم يذكر هذه الزيادة. مثال ذلك: قول المستدل: البكر البالغة لا تجبر على النكاح؛ لأنها بالغة عاقلة؛ قياساً على الثيب. فيقول المعترض: قولك: " بالغة عاقلة " مع كونها بكراً، أو مع كونها ليست بكراً: الأول: ممنوع، والثاني: مسلم. فإن هذا التقسيم فيه زيادة على ما ذكره المستدل من لفظه، حيث إن المستدل لم يتعرض في لفظه إلى ما ذكره المعترض، فإيراده لهذه الزيادة لا يلزم المستدل قبولها، فالمستدل له أن يقول: هذه زيادة على ما ذكرته فلا يلزمني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2213 المطلب الرابع في بيان الفرق بين التقسيم والاستفسار لقد ذكر بعض العلماء: أن التقسيم لا يختلف عن قادح الاستفسار وهذا ليس بصحيح كما سبق. وشبين الفرق بينهما من وجهين: الوجه الأول: أن التقسيم يرد من المعترض حينما يكون اللفظ متردداً بين احتمالين أو أكثر، أي: يرد حينما يكون اللفظ مجملاً فقط. أما الاستفسار فإنه يرد حينما يكون اللفظ مجملاً، وحينما يكون اللفظ غريبا. الوجه الثاني: أن المعترض في التقسيم يحكم على ما يحتمله لفظ المستدل بأن هذا ممنوع، أو هو مسلم. أما المعترض في الاستفسار فلا يحكم على ما يحتمله لفظ المستدل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2214 المطلب الخامس في كيفية الجواب عن هذا القادح المستدل له: أن يجيب عن تقسيم المعترض بطرق هي كما يلي: الطريق الأول: أن يُبين المستدل أن لفظه الذي أورده في قياسه ظاهر الدلالة على مراده، شرعا، أو عرفا. مثال بيان المستدل لمراده شرعا: قول المستدل: الوضوء طهارة قربة اشترطت لها النية كغيرها من القرب. فيقول المعترض: إن لفظ " طهارة " تحتمل معنيين: أحدهما: أنها طهارة قربة بمعنى النظافة من الخبث، وهذا ممنوع كونه من القرب التي هي عِلَّة في وجوب النية. ثانيهما: أنها طهارة قربة بمعنى الأفعال المخصوصة التي هي الوضوء الشرعي، وهذا مسلم. فيجيب المستدل بقوله: إن لفظ انطهارة ظاهر الدلالة شرعا في أن المراد به الوضوء الشرعي؛ لأنه هو المتبادر عند الإطلاق. ومثال بيان المستدل لمراده عرفا: قول المستدل: لا ينقض الوضوء الدم اليسير الخارج من المصلي؛ لأنه معفو عنه؛ قياسا على ما لو كان خارج الصلاة. فيقول المعترض: إن لفظ " اليسير " احتمل ثلاث معان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2215 أحدها: اليسير في نظر الجافين. ثانيهما: اليسير في نظر المغالين. ثالثهما: اليسير في نظر المعتدلين. والأول والثاني: ممنوعان. والثالث: مسلم؛ لجريانه على منهج الشريعة. فيجيب المستدل بقوله: إن لفظ " اليسير " ظاهر الدلالة في أن المراد به اليسير في نظر المعتدلين؛ لأن العرف يقتضي صرف مثل هذا التقدير إليهم. الطريق الثاني: أن يختار المستدل المعنى الذي سلم به المعترض، فيقول به، فيندفع عنه مقتضئ التقسيم. مثاله: قول المستدل: المكرَه على القتل مختار للقتل فيقتص منه كالمكرِه. فيقول المعترض: لفظ " مختار " يحتمل معنيين: أولهما: أن المراد به الفاعل الراغب في القتل. ثانيهما: أن المراد به الفاعل القادر على القتل. والأول ممنوع، والثاني مسلم. فيجيب المستدل بقوله: أنا أختار المعنى الثاني وهو: الفاعل القادر على القتل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2216 المبحث الثامن في قادح النقض ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد به، وأهميته. المطلب الثاني: في حجيته. المطلب الثالث: الحالات التي يرد عليها النقض وحكم كل حالة. المطلب الرابع: هل على المستدل أن يحترز عن النقض في قياسه؟ المطلب الخامس: كيفية الجواب عن هذا القادح، وبيان موقف المعترض من ذلك الجواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2217 المطلب الأول في بيان المراد بالنقض، وأهميته المراد به: وجود العلة في موضع دون حكمها. ويُسمى عند الحنفية: المناقضة. والنقض يعتبر من أهم المباحث عند الأصوليين وأهل النظر والجدل؛ نظراً لكثرة حاجتهم إليه، وكثرة وجوده في المناظرات بين العلماء. مثاله: قول المستدل - في حق من لم يبيت النية -: تعرى أول صومه عنها، - فلا يصح، فجعل عراء أول الصوم عن النية علة لبطلانه. فيقول المعترض: هذا منتقض بصوم التطوع، فإنه يصح بدون تبييت النية. فهنا قد وجدت العلة وهي: عراء أول الصوم عن النية قد وجدت في صوم التطوع، وتخلف الحكم - وهو عدم صحة الصوم عنه -؛ لأن الصوم في هذه الحالة صحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2219 المطلب الثاني حجيته لقد اختلف العلماء في النقض هل يقدح في العلية أو لا؟ على مذاهب: المذهب الأول: أن النقض لا يقدح في العلية مطلقا فيما وراء محل النقض، سواء كانت العلة منصوصة أو مستنبطة، وسواء كان التخلف لمانع، أو لغير مانع. وهو مذهب أكثر الحنفية، وكثير من المالكية، وبعض الحنابلة، وهو الحق؛ لأن تخلف الحكم عن الوصف في بعض الصور إما أن يكون عن دليل، أو لغير دليل. فإن كان التخلف لدليل يدل عليه: لم يقدح؛ لأن هذا الدليل يكون مخصِّصاً للدليل الذي دلَّ على العلية، والتخصيص جائز باتفاق؛ لأنه يرد على العام مطلقا، سواء كان العموم مستفاداً من اللفظ، أو من المعنى. وإن كان التخلف لغير دليل: فإن هذا التخلف لا يُعتبر، ولا يُعتدُّ به لعدم وجود الدليل، والمعتبر هو الدليل الذي دلَّ على العلية، وبذلك لا يكون النقض قادحاً. المذهب الثاني: أن النقض يعتبر قادحا للعلية مطلقاً. المذهب الثالث: التفصيل بين العلَّة المنصوصة، فإن النقض لا يقدح فيها، وبين العلة المستنبطة، فإن النقض يقدح فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2220 المذهب الرابع: عكس الثالث. وهذه المذاهب قد سبق الكلام عنها بالتفصيل في " تخصيص العِلَّة"، وهو المطلب العشرون من الفصل الثالث السابق. فنظراً إلى أني لا أعتبر النقض قادحاً للعلية، فإنه يعتبر تخصيصا للعلة، وليس قادحا من قوادحها، لذلك قدمت الكلام عنه هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2221 المطلب الرابع الحالات التي يرد عليها النقض وحكم كل حالة الحالة الأولى: أن يورد المعترض النقض بما يسلِّم به المستدل. وإيراد النقض بناء على ذلك صحيح؛ لأن على المستدل أن يفي بمقتضى علته، وهو: وجودها في جميع المحال، والمعترض يخبره بعدم وجودها في بعض المحال، وإذا بين له ذلك كانت العِلَّة منتقضة باعتراف المستدل، فلزمه النقض. مثاله: قول المستدل: الخل مائع مزيل للعين والأثر، فجاز أن يكون مطهراً للمحل النجس؛ قياساً على الماء. فيقول المعترض: هذا منتقض بالدهن، فهو مائع مزيل للعين والأثر، ومع ذلك فإنه لا يطهر المحل النجس عندكم. الحالة الثانية: أن يورد المعترض النقض بناء على أصله هو الذي يسلم به، لا على ما يراه المستدل. وإيراد النقض بناء على ذلك قد اختلف فيه على مذهبين: أصحهما: عدم جواز إيراد المعترض النقض بناء على أصله؛ لأن العلة التي أوردها المعلل حُجَّة على المعترض، والنقض الذي يورده المعترض دعوى، ولا تنقض الحُجَّة بالدعوى. مثال ذلك: قول المستدل: لا يقتل المسلم بالذمي؛ لأنه كافر، فلا يقتل به المسلم؛ قياساً على الحربي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2222 فيقول المعترض الحنفي: هذا منتقض على أصلي بالمعاهد، فهو كافر ويقتل به المسلم عندي. مثال آخر: قول المستدل: المتوفى عنها زوجها لا يجب لها السكنى؛ لأنه لا نفقة لها؛ قياسا على الموطوءة بشبهة. فيقول المعترض الشافعي: هذا منتقض على أصلي بالمطلقة الحائل؛ فإنه لا نفقة لها، ويجب لها السكنى. فلا يقبل هذا؛ لأن عِلَّة المستدل لا ترد بمجرد الدعوى. الحالة الثالثة: أن يورد المعترض النقض بناء على أصله هو، وبناء على أصل المستدل، أي: أنهما يُسَلِّمان بذلك معا. وإيراد النقض بناء على هذه الحالة صحيح؛ لأنه يلزم على أصل المعترض والمستدل، فكل منهما يُسلم بهما. مثاله: قول المستدل: الأرز مكيل يحرم فيه التفاضل؛ قياسا على البر. فيقول المعترض: هذا منتقض ببيع الجنسين فهما مكيلان، ويجوز التفاضل بينهما. فيسلم كل من المعترض والمستدل، حيث يريان التعليل بالكيل والجنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2223 المطلب الرابع هل على المستدل أن يحترز عن النقض في قياسه؟ إذا أثبت المستدل حكما عن طريق القياس فهل عليه أن يورد في قياسه هذا ما يدفع عنه النقض من قِبَل أي معترض؟ فمثلاً لو قال المستدل: الخل مائع، فجازت إزالة النجاسة به كالماء، فهل يورد المستدل في علته قيداً يحترز به على النقض، فيقول - أي: المستدل -: الخل مائع طاهر - فيزيد لفظ " طاهر " في العِلَّة؛ لئلا تنقض عِلَّته بأن يقول المعترض: إن هذا منتقض بالمائع النجس؛ حيث إنه مائع، ولا تجوز إزالة النجاسة به، أو لا؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: أصحهما: أنه على المستدل أن يحترز عن النقض بذكر قيد يدفع عنه ورود النقض؛ لأن الاحتراز عن النقض فيه ضبط لمجرى الكلام، وبعد عن انتشار الكلام وتوسعه، وكثرة احتمالاته وحصر لمقصود المستدل، فكان الالتزام به متعينا. وعلى هذا: فإنه لا بد أن يقول المستدل في العِلَّة - في المثال السابق -: " مائع طاهر "؛ لئلا يكثر الكلام وهو يستطيع منع ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2224 المطلب الخامس بيان كيفية جواب المستدل عن هذا القادح وبيان موقف المعترض من هذا الجواب إذا أورد المعترض صورة زعم فيها وجود عِلَّة المستدل مع تخلف الحكم عنها تنقض عِلة المستدل: فإن للمستدل أن يجيب عن ذلك بأحد الطرق التالية: الطريق الأول: أن يمنع المستدل وجود علته في تلك الصورة التي أوردها المعترض. مثال ذلك: قول المستدل: المضمضة في الغسل واجبة؛ لأن الفم عضو يجب غسله من النجاسة، فوجب غسله من الجنابة؛ قياسا على سائر الأعضاء. فيقول المعترض:. هذا منقوض بالعين فهي عضو يجب غسله من النجاسة، ولا يجب غسله في الجنابة. فيجيب المستدل بقوله: العين عندي لا يجب غسلها من النجاسة، فلا يلزم النقض. مثال آخر: الوقف عقد نقل، فوجب أن يفتقر للقبول؛ قياسا على البيع. فيقول المعترض: هذا منتقض بالعتق فهو عقد ينتقل فيه الملك، ولا يفتقر إلى القبول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2225 فيجيب المستدل بقوله: العتق عندي ليس بنقل، وإنما هو إسقاط كالطلاق، والإسقاط لا يفتقر للقبول بخلاف النقل والتمليك. موقف المعترض من الجواب بهذا الطريق: حينما يمنع المستدل وجود العلَّة في صورة النقض، فإنه يجوز للمعترض إقامة الدليل على وجَود العلَّة إذا تعين طريقا للمعترض لنقض العِلَّة؛ لأن فيه تحقيقا لفائدة المناظَرة. أما إذا لم يتعين طريقا للمعترض، بل وجد ما يحقق المقصود بطريق آخر، فلا يجوز له - أي: للمعترض - إقامة الدليل على وجود العلَّة في الصورة المنقوض بها علة المستدل؛ لأن الفائدة تتحقق بذلك الطريق الآخر. مثال ذلك: قول المستدل: الوضوء طهارة فتحتاج إلى النية كالتيمم. فيقول المعترض: هذا منتقض بإزالة النجاسة فهي طهارة، ولا تجب فيها النية. فججيب المستدل بقوله: أنا أمنع كون إزالة النجاسة طهارة. فيقيم المعترض الدليل على وجود الدليل على أن إزالة النجاسة طهارة، وهو قوله تعالى " (وثيابك فطهر) . الطريق الثاني: أن يفسر المستدل لفظ علته، وهذا فيه التفصيل الآتي: 1 - أن يفسر المستدل لفظ علته وله معنى واحد. مثاله: قول المستدل: الوضوء طهارة من حدث، فتفتقر إلى النية؛ قياسا على التيمم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2226 فيقول المعترض: هذا منتقض بإزالة النجاسة، فهي طهارة ولا تحتاج إلى النية. فيجيب المستدل بقوله: إني قد ذكرتُ قيداً في العِلَّة، وهو كونه حدثا، وإزالة النجاسة ليست عن حدث. 2 - أن يفسر المستدل لفظ علته وله معنيان. مثاله: قول المستدل: جمع الطلاق في القرء الواحد لا يكون مبتدعا؛ قياساً على ما لو طلقفا ثلاثا في قرء واحد مع الرجعة بين الطلقتين. فيقول المعترض: إن هذا منتقض بما لو طلقها ثلاثا في الحيض، فهو جمع للطلاق في قرء واحد وهو بدعي. فيجيب المستدل بقوله: أنا أريد بالقرء: الطهر، لا الحيض. 3 - هل يفسر المستدل لفظ علته العام بالخاص؟ قد اختلف العلماء فيه على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز للمستدل أن يفسَّر اللفظ العام بالخاص. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن لفظ المستدل عام، ومقتضاه شمول جميع المحال؛ حيث إنه لازم له، فإذا أورد - عليه النقض فهو مورد على ما يلزمه، وإرادته الخاص بعد النقض زيادة في الوصف؛ ليدفع بها النقض، وهذا لا يصح. المذهب الثاني: يجوز ذلك. وهو مذهب بعض العلماء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2227 دليل هذا المذهب: القياس على الشارع، بيان ذلك: كما أن للشارع أن يطلق لفظا عاما ثم يخصه، فكذا المستدل ولا فرق. جوابه: هذا قياس باطل؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن للشارع النسخ، وله أن يذكر بعض العلَّة، ويترك الباقي إلى اجتهاد المجتهد، وهذا لا يجوز في حق المسَتدل الذي يريد إثبات الحكم بعلته. الطريق الثالث: أن يزيد المستدل وصفا في علته. وهذا ليس بصحيح، فلا يجوز للمستدل أن يزيد وصفا في علته؛ لأمرين: الأمر الأول: أن ما ذكره المستدل هو جميع العِلَّة، والنقض قد ورد على جميع العلَّة، فإذا ذكر وصفا آخر للعِلَّة بعد ورود النقض: كان هذا انتقالاً إلى علَّة أخرى متكونة من العلَّة السابقة، ومن الوصف الذي زاده. الأمر الثاني: أن القول بجواز هذه الزيادة للمستدل إخلال بقواعد الجدل والمناظرات، وعدم الالتزام بضوابطها التي تقتضي إيراد المستدل دليله كاملاً أمام المعترض. مثاله: قول المستدل: باع رجل مطعوما بمطعوم متفاضلاً، فهذا لا يجوز؛ قياسا على البر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2228 فيقول المعترض: هذا منتقض ببيع الأرز بالبر متفاضلاً. فيجيب المستدل بقوله: أنا أزيد وصفاً في العِلَّة، فأقول: "مطعوم من جنس واحد " حتى لا يرد هذا النقض. فهنا: لا يجوز للمستدل أن يزيد ذلك لما قلناه. الطريق الرابع: أن يمنع المستدل تخلف الحكم عن صورة النقض. إذا قال المعترض: إن قياسك هذا علته منقوضة؛ حيث إن العِلَّة قد وجدت ولم يوجد حكمها، فإن للمستدل أن يجيب بمنع كون الحكم متخلفا عن صورة النقض التي أوردها المعترض. مثاله: قول المستدل: الأرز ربوي، لأنه مطعوم قياسا على البر. فيقول المعترض: هذا منقوض بالتفاح فهو مطعوم، ولا يجري فيه الربا. فيجيب المستدل بقوله: أنا - أمنع تخلف الحكم عن الصورة التي أوردتها - أيها المعترض - وهي: التفاح -، لأن التفاح عندي ربوي. الطريق الخامس: أن يُبين المستدل في صورة النقض التي أوردها المعترض فوات شرط، أو وجود مانع. مثاله: قول المستدل: الحلي تجب فيه الزكاة، لأنه نصاب كامل حال عليه الحول، فوجبت فيه الزكاة قياسا على المضروب. فيقول المعترض: هذا منتقض بحلي غير البالغ، فهو نصاب كامل، وحال عليه الحول، ومع ذلك لا تجب فيه الزكاة. فيجيب المستدل بقوله: إن ما أوردته من صورة النقض قد تخلف عنها ما هو شرط، وهو: التكليف تغليباً لمعنى العبادة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2229 المبحث التاسع في قادح التركيب ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: المراد منه. المطلب الثاني: أقسامه. المطلب الثالث: حجيته. المطلب الرابع: كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2231 المطلب الأول بيان المراد منه المراد من قادح التركيب: أن يكون الحكم في الأصل ثابتا بطريق اتفق المستدل والمعترض عليه، مع منع المعترض كون الحكم ثابتا بعلة المستدل: إما بمنع كونها عِلَّة، أو بمنع وجودها في الأصل. أي: أن حكم الأصل قد اتفق عليه المستدل والمعترض، وهذا الحكم معلل بعلَّة عند المستدل، ومعلل بعلَّة أخرى عند المعترض، فيمنع المعترض أن الحكم معلل بعلة المستدلَ إما بمنع كونها علَّة، أو بمنع وجودها في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2233 المطلب الثاني أقسام قادح التركيب لقد اتضح من التعريف: أن المعترض يعترض على عِلَّة المستدل إما بمنع كون وصف المستدل عِلَّة للحكم، وإما بمنع وجود علَّة المستدل في الأصل. ولهذا ينقسم هذا القادح إلى قسمين: القسم الأول: قادح التركيب في الأصل. القسم الثاني: قادح التركيب في الوصف. أما القسم الأول - وهو قادح التركيب في الأصل - فهو: أن يتفق الخصمان - المستدل والمعترض - على حكم الأصل، ويعين كل واحد منهما علَّة تخصه، فيمنع المعترض كون وصف المستدل علَّة لحكم الأصل. مثاله: قول المستدل: المرتدة إنسان بدل دينه فتقتل كالمرتد. فيقول المعترض: الحكم عندي في الأصل هو قتل المرتد، لكن العِلَّة لقتله هي: الجناية على المسلمين بتنقيص عددهم، وإعانة عدوهم عليهم، لا أنها تبديل الدين، وهذه العلَّة التي ذكرتها أنا لا توجد في الفرع، فإن سلَّمت بها لم يتعد الحكَم إلى الفرع؛ لعدم وجودها فيه. أما القسم الثاني - وهو قادح التركيب في الوصف - فهو: أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2234 يتفق الخصمان - المستدل والمعترض - على حكم الأصل مع تعيين المستدل عِلَّة لحكم الأصل، وتعيين المعترض عِلَّة أخرى مع منعه كون عِلَّة المستدل موجودة في الأصل. مثال ذلك: قول المستدل: إن الرجل لو قال: إن تزوجتُ فلانة فهي طالق: لم يقع طلاقه بعد العقد عليها؛ لأنه تعليق للطلاق قبل النكاح فلا يقع؛ قياسا على ما لو قال: فلانة التي سأتزوجها طالق. فيقول المعترض: أنا أوافقك على حكم الأصل، وهو عدم وقوع الطلاق، ولكن العلَّة فيه هي كونه تنجيزاً لا تعليقا؛ حيث إنه نظراً لكون هذه الصيغة تقتضي وقوع الطلاق في الحال، وهو لا يملك الطلاق في الحال، فإنها تكون لغواً لا أثر له بعد العقد. أما ما ذكرته - أيها المستدل - من العِلَّة - وهي: كونه تعليقا - فغير موجود في الأصل. وسواء سلمت بما ذكرته من عِلَّة، أو أخذت بعلتك التي لا توجد في الأصل، فإن الحكم لن يتعدى إلى الفرع؛ لأن علتي لا توجد في الفرع، وعلتك لا توجد في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2235 المطلب الثالث حجية التركيب لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: أصحهما: أن للمعترض إيراد القدح بالتركيب بأن يمنع علَّة المستدل في الأصل الذي يتفق مع المستدل على حكمه، أو يمنع وجود عِلَّة المستدل في الأصل؛ وذلك لأن قادح التركيب ينبني على الخلاف في قياس التركيب، والخلاف في قياس التركيب متعلق بالأصل، والأصل يشتمل على العِلَّة والحكم، وإذا منع المعترض كلاً من العِلَّة والجكم، فإن للمستدل إقامة الدليل الدال على كون وصفه عِلَّة، وإقامة الدليل الدال على وجود وصفه في الأصل. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضا -: إن المستدل إذا أقام الدليل على كون الوصف عِلَّة، أو أقام الدليل على وجود العلَّة في الأصل، فإن هذا انتقال عنَ المقصود. جوابه: إن فعل المستدل هذا ليس انتقالاً إلى المقصود، بل هو في صميم المقصود وإثباته؛ حيث - إنه إثبات لما هو من مقدمات القياس، ودفاع عن دليله. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2236 المطلب الرابع كيفية الجواب عن قادح التركيب هذا فيه التفصيل الآتي: أولاً: الجواب عن قادح التركيب في الأصل: إن المعترض هنا يمنع كون وصف المستدل عِلَّة لحكم الأصل. وإذا كان الأمر كذلك فإن المستدل يجيب بنفس الجواب عن منع كون الوصف علَّة الذي سبق في المبحث السادس من هذا الفصل، وذلك بذكر المسالك والأدلة الدالة على كون الوصف عِلَّة. ثانياً: الجواب عن قادح التركيب في الوصف: المعترض هنا يمنع وجود العِلَّة في الأصل، وإذا كان الأمر كذلك: فإن المستدل يجيب بنفس الجَواب عن منع وجود العلَّة في الأصل الذي سبق في المبحث الثالث من هذا الفصل، وذلكَ بذكر الأدلة من الشرع أو العقل أو الحس على وجود العِلَّة في الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2237 المبحث العاشر في قادح فساد الوضع ويشتمل على مطلبين هما: المطلب الأول: بيان المراد منه وأقسامه. المطلب الثاني: كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2239 المطلب الأول بيان المراد من قادح فساد الوضع وأقسامه المراد منه: أن يبين المعترض أن قياس المستدل لم يكن على الهيئة الصالحة لاعتباره في ترتيب الحكم، وأن يكون ما جعله المستدل عِلَّة للحكم مشعراً بنقيض الحكم المرتب عليه. ويبين هدا التعريف من ذكر أقسامه والأمثلة لكل قسم، فأقول: ينقسم قادح فساد الوضع إلى قسمين: القسم الأول: أن يكون الجامع في قياس المستدل قد ثبت اعتباره في نقيض الحكم الذي رتبه عليه المستدل بنص أو إجماع. مثال الأول - وهو ما كان المعنى الجامع قد ثبت اعتباره بنص في نقيض الحكم -: قول المستدل: يجوز بيع الرطب بالتمر؛ لأن النقص يحصل بجفاف الرطب، فلا يمنع هذا صحة البيع؛ قياسا على بيع التمر الحديث بالتمر القديم. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأن الشارع قد رتب على العلَّة التي ذكرتها حكماً هو نقيض ما رتبته عليها في قياسك، وذلك بالنص، وهو: أنه سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الرطب بالتمر، فقال: " أينقص الرطب إذا يبس؟ " قالوا: نعم، قال: " فلا إذن ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2241 فهنا جعل النقص بالجفاف عِلَّة لمنع البيع، وعدم جوازه، وما جعله الشارع عِلَّة للمنع لا يجوز أن يجعل عِلَّة للجواز. ومثال الثاني - وهو: ما كان المعنى الجامع قد ثبت اعتباره بإجماع في نقيض الحكم - قول المستدل: مسح الرأس مسح، فاستحب تكراره؛ قياسا على الاستجمار بالحجر. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأن الإجماع قد رتب على هذه العِلَّة التي ذكرتها حكما هو نقيض ما رتبته عليها من حكم، وذلك في مسح الخف، حيث لا يستحب فيه التكرار إجماعا مع أنه مسح. القسم الثاني: أن يرتب المستدل على المعنى الجامع حكما هو ضد لما يقتضيه ذلك المعنى، وهذا يفهم من مقتضى أصول الشريعة، ومعرفة مقاصدها كأن يرتب المستدل على المعنى الجامع حكما خفيفا مع أن هذا المعنى يقتضي التثقيل والتغليظ، أو يرتب عليه حكما واسعاً وهو يقتضي التضيق. فمثال الأول - وهو: أن يرتب المستدل على المعنى الجامع حكما خفيفا مع أنه يقتضي التغليظ - قول المستدل: من أفطر في نهار رمضان عامداً، فلا كفارة عليه؛ لأنه أفطر بما يصح وقوعه من الواحد، فلا تجب عليه الكفارة، قياسا على ما لو أفطر في السفر. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأنك علَّقت على المعنى الجامع الذي يقتضي التشديد والتغليظ حكما خفيفا؛ وذلك لأن الإفطار في نهار رمضان عمداً إثمه عظيم وشديد، فيناسب أن توجب عليه الكفارة تشديداً وتغليظا حتى لا يعود لمثلها، ولا يكون مقتضياً للتخفيف بسقوط الكفارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2242 ومثال الثاني - وهو: أن يرتب المستدل على المعنى الجامع حكما واسعا مع أنه يقتضي التضييق - قول المستدل: الزكاة وجبت على وجه الارتفاق لدفع حاجة الفقير، فكان أداؤها على التراخي؛ قياسا على وجوب الدية على العاقلة. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأنك رتبت على المعنى الذي يقتضي التضييق حكما بالتوسيع؛ حيث إن دفع الحاجة يناسب المبادرة، لا التراخي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2243 المطلب الثاني كيفية الجواب عن قادح فساد الوضع لقد ذكرنا قسمين لقادح فساد الوضع، والجواب عن هذا القادح يختلف باختلاف القسمين السابقين، فأقول: أولاً: الجواب عن القسم الأول: أن يورد المستدل من الأجوبة على النص والإجماع كما لو كان الاستدلال بهما ابتداء، فيقول مثلاً: إن النص هذا منسوخا. ويقول - أي: المستدل -: إني لا أرى الاستدلال بهذه الآية أو ذاك الحديث من الوجه الذي أوردته أيها المعترض، كأن يستدل المعترض بالمفهوم المخالف من الآية أو الحديث، وهو لا يرى الاحتجاج به، أو يقول المستدل: إن الآية التي أتيت بها أيها المعترض لها قراءة أخرى غير ما قرأت بها، أو يعترض بأن هذا الحديث مرسل، والحديث المرسل غير حجَّة، أو أن في السند رجلا غير ثقة، أو نحو ذلك. ويقول في الإجماع: إن الإجماع الذي استندت إليه إجماع سكوتي، وهو ليس بحُجَّة عندي، أو نحو ذلك. مثال ذلك: قول المستدل: سؤر السبع نجس؛ لأنه سؤر سبع ذي ناب، فكان نجسا كسؤر الكلب والخنزير. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأنك رتبت على العلة ضد ما علقه الشارع عليها في قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "الهر سبع " فجَعل الرسول - صلى الله عليه وسلم - كونه سبعا عِلَّة للطهارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2244 فيجيب المستدل بقوله: هذه الرواية التي ذكر فيها التعليل بالسبعية رواية ضعيفة هذا من جهة السند. وهي غير صحيحة من جهة المتن؛ لأن التعليل بكونه سبعا منقوض بالحكم بنجاسة سؤر الكلب فهو سبع، وقد حكم الشارع بنجاسة سؤره بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا ولغ الكلب في إتاء أحدكم فليغسله سبعا ". مثال جواب المستدل على اعتراض المعترض بالإجماع: ما سبق من أنه يستحب تكرار مسح الرأس؛ قياسا على الاستجمار بالحجر، فيقول المعترض: قياسك فاسد الوضع؛ لأن الإجماع قد رتب على هذه العِلَّة التي ذكرتها حكما نقيض ما رتبته عليها من حكم، وذلك في مسح الخف، حيث لا يستحب فيه التكرار إجماعا مع أنه مسح. فيجيب المستدل بقوله: لم أرتب على هذه العِلَّة إلا ما تقتضيه، وما رتبته من حكم هو مقتضى الوصف فيما ذكرت أيها المعترض، فيستحب التكرار في مسح الخف، إلا أنه وجد مانع من التكرار؛ حيث إن تكرار مسح الخف يؤدي إلى تلفه. ثانيا: الجواب عن القسم الثاني - وهو: أن يبين المستدل أنه ما رتب على العِلَّة إلا ما تقتضيه -. مثاله: قول المستدل: القتل عمداً معنى يوجب القتل، فلا يوجب الكفارة؛ قياسا على الردة. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الوضع؛ لأنك قد رتبت على العلَّة التي تقتضي التشديد حكما بالتخفيف؛ حيث إن عظم الجناية، وهي: القتل يقتضي تشديد الحكم، لا تخفيفه بعدم إيجاب الكفارة. فيجيب المستدل بقوله: لم أرتب على العِلَّة إلا ما اقتضته، لا ضد ذلك؛ لأن تشديد وتغليظ عقوبة الجناية بإيجاب القصاص قد بلغ الغاية في العقوبة، فلا يغلظ فيه بوجه آخر بإيجاب الكفارة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2245 المبحث الحادي عشر في قادح فساد الاعتبار ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: في بيان المراد منه. المطلب الثاني: كيفية الجواب عنه. المطلب الثالث: الفرق بينه وبين فساد الوضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2247 المطلب الأول بيان المراد من قادح فساد الاعتبار المراد منه: أن يبين المعترض: أن الحكم الذي دلَّ عليه قياس المستدل مخالفا لدليل من الكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع. فالقياس إذا خالف نصا من كتاب أو سُنَّة، أو خالف إجماعا، فإن القياس لا يعتبر؛ لأمرين: أولهما: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - فقد كانوا يقولون بالقياس ويستدلون ويقرون به، ويستخرجون أحكام بعض الحوادث المتجددة عن طريقه، ولكن بشرط: أن لا يكون الحكم الثابت عن طريق القياس مخالفا لكتاب، أو سُنَّة، أو إجماع. ثانيهما: حديث معاذ السابق الذكر في حجية القياس؛ حيث جعل القياس في المرتبة الثالثة بعد الكتاب والسُّنَّة، فصوبه النبي - صلى الله عليه وسلم -. وقد سمي هذا بفساد الاعتبار؛ لأن اعتبار القياس مع النص والإجماع اعتبار له مع دليل أقوى منه، وهو اعتبار فاسد للأمرين السابقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2249 المطلب الثاني كيفية الجواب عن هذا القادح إذا استدل المستدل على حكم حادثة بالقياس، ثم اعترض عليه المعترض بقوله: إن قياسك هذا فاسد الاعتبار - أي: لا يعتبر - حيث إنه مخالف لنص، أو إجماع، فإن المستدل يجيب عن ذلك بإيراد المناقشات التي ترد على الاستدلال بالكتاب، أو السُّنَّة، أو الإجماع ابتداء، وذلك بالتفصيل التالي: أولاً: إذا قال المعترض: إن قياسك أيها المستدل قد خالف نصا من الكتاب، وهي: قوله تعالى كذا، فإن المستدل يورد المناقشات التي ترد على الاستدلال بالكتاب كما لو كان الاستدلال بالكتاب مبتدأ، فيقول: مثلاً: إن الآية التي زعمت بانها تعارض قياسي منسوخة. أو يقول: إن الآية التي أوردتها أيها المعترض لها قراءة أخرى توافق قياسي. أو يقوم المستدل بتأويل الآية بأن يحملها على معنى غير ظاهر بدليل يقتضي هذا الحمل، أو يقول: إن الآية دلَّت بعموم قد خصص، وهو لا يرى الاستدلال بالعموم الذي خصص، أو يبين - أي المستدل - أن هذه الآية معارضة بآية أخرى هي كذا، فتعارضت الآيتان، فلم يتم الاستدلال بهما، وسلم القياس، وهكذا إلى آخر الاعتراضات والمناقشات التي يمكن أن توجه إلى الاستدلال بالكتاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2250 مثال ذلك: قول المستدل: صوم رمضان مفروض، فاشترط له تبييت النية، قياسا ضلى صوم القضاء. فيقول المعترض اقياسك هذا فاسد الاعتبار؛ لأنه يخالف نصا من القرآن، وهو قوله تعالى: (والصائمين والصائمات) إلى آخر الآية، فهنا قد - أطلق الصيام، فيكون صحيحا دون تبييت النية. فيجيب المستدل بقوله: أنا أمنع كون الآية ظاهرة الدلالة على صحة الصوم دون تبييت النية، حيث إن الصيام فيها مطلق، ونحن قيدناه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل ". ثانياً: إذا قال المعترض: إن قياسك هذا - أيها المستدل - قد خالف نصا من السُّنَّة، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم - كذا: فإن المستدل يورد المناقشات التي ترد على الاستدلال بالسُّنَّة، كما لو كان الاستدلال بالسُّنَّة ابتداء، فيورد عليه نفس المناقشات التي ذكرناها في الاستدلال بالكتاب، ويزيد على ذلك المناقشات والاعتراضات على السند بأن يقدح في عدالة أو حفظ راوي الحديث، أو أن يثبت أن راوي الحديث قد خالف ما رواه، أو أن الرواية قد اختلفت، أو يثبت أن هذا الحديث الذي ذكره المعترض معارض بحديث آخر فيتساقطان، ويسلم قياسه، وهكذا إلى آخر الاعتراضات والمناقشات التي يمكن أن توجه إلى الاستدلال بالسُّنَّة. مثال ذلك: قول المستدل: لا يجوز السلم في الحيوان؛ لأنه غير منضبط، قياساً على السلم في المختلطات. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الاعتبار؛ لأنه قد خالف حديثا ثابتا عن - صلى الله عليه وسلم - وهو: " أنه رخص في السلم "، فلفظ "السلم " عام في جميع ما يمكن أن يكون فيه، وذلك لوجود " أل " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2251 الاستغراقية المفيدة للعموم، فيكون السلم فردا من أفراد هذا العموم، فيجوز السلم فيه. فيجيب المستدل بقوله: إن هذا الحديث يحمل على ما سوى الحيوان مما يمكن ضبطه من المكيل والموزون، دلَّ على هذا الحمل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "من أسلف في شيء ففي كيل معلوم، ووزن معلوم إلى أجل معلوم ". ثالثا: إذا قال المعترض: إن قياسك - أيها المستدل - قد خالف إجماعا: فإن المستدل يورد المناقشات والاعتراضات التي ترد على الاستدلال بالإجماع كما لو كان الاستدلال بالإجماع ابتداء، فيورد عليه بأن لا يسلم أن هذا مجمع عليه، أو أن الطريق الذي ثبت به هذا الإجماع مشكوك فيه، أو أن هذا الإجماع إجماع سكوتي، والإجماع السكوتي ليس بحُجَّة عنده، أو غير ذلك. مثال ذلك: قول المستدل: أن الرجل لا يجوز له أن يُغسِّل زوجته المتوفاة؛ لأن الصلة التي بينه وبينها قد انقطعت، فلا يجوز نظره إليها؛ قياسا على الأجنبية. فيقول المعترض: قياسك هذا فاسد الاعتبار؛ لأنه قد خالف الإجماع، وهو: أن عليا رضي اللَّه عنه قد غَسَّل فاطمة الزهراء بعد وفاتها، ولم ينكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعاً على جواز ذلك. فيجيب المستدل بقوله: أنا أمنع صحة سند هذا الإجماع، فلم يصح هذا عن علي رضي اللَّه عنه. أو يقول: لو سلمت أن هذا وقع من علي، فإني لا أسلم كونه قد اشتهر وسمع به كل الصحابة حتى يكون سكوتهم عن الإنكار إجماعا. أوِ يقول: إن هذا ثبت عن طريق الإجماع السكوتي، وهو ليس بحُجَّة عندي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2252 المطلب الثالث الفرق بين قادح فساد الاعتبار وقادح فساد الوضع بعض العلماء كالشيرازي وغيره - يجعل فساد الوضع وفساد الاعتبار من باب ترادف الألفاظ، فيجعل أحدهما مغنيا عن الآخر. وهذا ليس بصحيح، بل بينهما فرق؛ لذلك جعلت لكل واحد له منهما مبحثا خاصا به، ووجه الفرق واضح من خلال حقيقة كل واحد منهما. وبيانه: أنه إذا كان القياس على هيئة غير صالحة لأخذ الحكم منه مع أنه لم يخالف نصا من كتاب أو سُنَّة، ولم يخالف إجماعا: فإن هذا يرد عليه قادح فساد الوضع. وإذا كان القياس على هيئة صالحة لأخذ الحكم منه مع أنه مخالف لنص من كتاب أو سُنَّة، أو لإجماع: فإن هذا يرد عليه قادح فساد الاعتبار. وقد يجتمعان بأن يكون القياس على هيئة غير صالحة لأخذ الحكم منه مع أنه قد خالف نصا أو إجماعا، فإن هذا يرد عليه القادحان معا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2253 المبحث الثاني عشر في قادح المعارضة في الأصل ويشتمل على مطالب هي: المطلب الأول: بيان المراد منه. المطلب الثاني: بيان أنواعه. المطلب الثالث: بيان حجيته. المطلب الرابع: بيان أن المعترض لا يحتاج إلى دليل يشهد لوصفه الذي اعترض به. المطلب الخامس: بيان أنه على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي اعترض به عن الفرع. المطلب السادس: بيان كيفية الجواب عن هذا القادح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2255 المطلب الأول بيان المراد من قادح المعارضة في الأصل المراد به: أن يبين المعترض معنى في الأصل الذي ذكره المستدل يرى أنه العِلَّة غير ما ذكره المستدل، أو أنه جزء العِلَّة. أي: أن المعارضة في الأصل هي: أن يذكر المعترض عِلَّة أخرى في الأصل المقيس عليه غير العِلَّة التي علل بها المستدل، ويدعي المعترض أن الحكم في الأصل نشأ بالعلَّة التي ذكرها لا بالعلَّة التي ذكرها المستدل، وهذه العِلَّة التي ذكرهاً المعترض معدومة في الفرع. مثاله: قول المستدل الحنفي - في عدم وجوب تبييت النية في صوم الفرض -: إن صوم الفرض صوم عين فيؤدى بالنية قبل الزوال؛ قياسا على صوم النفل. فيقول المعترض: ليس المعنى في الأصل - وهو صوم النفل - هو ما ذكرت، بل المعنى فيه: أن النفل مبني على السهولة والتخفيف، ولهذا جاز أداؤه بنية متاخرة من الشروع، وهذه العِلَّة لا توجد في الفرع، وهو - صوم الفرض - وعليه فلا يجوز قياسه على صوم النفل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2257 المطلب الثاني بيان أنواع المعارضة في الأصل قادح المعارضة في الأصل يتنوع من حيث استقلال العِلَّة التي يبديها المعترض وعدم استقلالها إلى ثلاثة أنواع. النوع الأول: أن يكون ما أبداه المعترض مستقلاً بالتعليل. مثاله: قول المستدل: لا يجوز بيع الفواكه متفاضلاً؛ قياساً على البر بجامع كونهما طعاما. فيقول المعترض: ليست العِلَّة فى الأصل كونه مطعوما، وإنما العلَّة هي: كونه مدخراً، وهذه العلة لا توجد في الفرع الذي هو الفَواكه؛ حيث إنها لا تدخر، وعليه: فلا يجوز قياس الفواكه على البر. النوع الثاني: أن يكون ما أبداه المعترض جزءا من العِلَّة. مثاله: قول المستدل: يجب القصاص على من قتل بالمثقل؛ قياسا على من قتل بالمحدد، والعِلَّة الجامعة بينهما: القتل العمد العدوان. فيقول المعترض: ليست العِلَّة في الأصل هي ما ذكرت، فقط، بل لا بد أن تزاد جزءاً وهو لفظ: " بجارح "، فتكون العِلَّة كاملة هي: القتل العمد العدوان بجارح، وهذه لا توجد فيَ الفرع، وهو القتل بالمثقل، وعليه: فلا يقاس على القتل بالمحدد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2258 النوع الثالث: أن يكون ما أبداه المعترض تقييداً لعِلة المستدل المطلقة. مثاله: قول المستدل: الذي يتحول من اليهودية إلى النصرانية، أو العكس فإنه يُقتل؛ لأنه بدَّل دينه، قياسا على المرتد. فيقول المعترض: ليست العِلَّة في الأصل على إطلاقها، بل إنا قلنا: إن المرتد يُقتل استدلالاً بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "من بدَّل دينه فاقتلوه "؛ حيث إنه خاص بتبديل الإسلام بالكفر فقط، وليست العِلَّة هي مطلق التبديل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2259 المطلب الثالث في حجية قادح المعارضة في الأصل هذا القادح حُجَّة، فللمعترض إيراد المعارضة في الأصل على التعريف السابق، وهذا هو مذهب جمهور العلماء وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أنه يحتمل أن يكون الوصف الذي ذكره المستدل علة لحكم الأصل استقلالأ، ويحتمل أن يكون الوصف الذي ذكره المعترض هو علَّة حكم الأصل استقلالاً، أو جزءا من العِلَّة، والاحتمالان متسَاويان؛ حيث إن الوصفين متساوس في اقتضاء الحكم فترجيح أحدهما دون الآخر تحكم، وينتج من ذلك: أنه يجوز للمعترض إيراد المعارضة في الأصل، فإن استطاع المسمتذل الجواب عنه، وإلا يقدح هذا القادح القياس ويبطله. اعتراض: قال قائل - معترضا -: لا أسلم المساواة بين وصف المستدل والوصف الذي أبداه المعترض، بل إن وصف المستدل يرجح على وصف المعترض؛ لأن اعتبار وصف المستدل يؤدي إلى توسيع دائرة الأحكام؛ لأنه يعدي الحكم إلى الفرع، وبخلاف وصف المعترض - الذي لا يوجد في الفرع - فإنه لا يعدي الحكم إلى الفرع. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2260 الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ هذا الوجه الذي ذكرته لترجيح وصف المستدل أن يكون عِلَّة - وهو توسيع دائرة الأحكام - لأمرين: أولهما: أن هذا ليس مسلكا لإثبات كون الوصف عِلَّة. ثانيهما: أن هذا الاستدلال يؤدي إلى الدور؛ حيث يتوقف كونه عِلة على توسيع الأحكام، وتوسيع الأحكام يتوقف على كونه عِلَّة. الجواب الثاني: على فرض صحة هذا الوجه الذي ذكرته من وجه الترجيح، إلا أنه معارض بما يدل على ترجيح وصف المعترض، فالمعترض أيضا مجتهد قد أبدى لنا وصفا اعتبره هو عِلَّة الحكم، فإذا اعتبرنا وصف المستدل، ولم نقبل وصف المعترض، فقد تحكمنا وأثبتنا الحكم في الفرع، وإثبات حكم الفرع خلاف الأصل؛ لأن الأصل عدم الحكم في الفرع. الدليل الثاني: أن المستدل قد التزم بإيراد وصف يصح التعليل به، ومن ضرورة صحة التعليل بأي وصف سلامته مما يعارضه، أي: من شروط الوصف الذي يصلح للتعليل به أن لا يعارضه شيء من الأوصاف الأخرى كما سبق بيانه في المطلب التاسع عشر من المبحث الثالث من الفصل الثالث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2261 المطلب الرابع بيان أن المعترض لا يحتاج إلى دليل يشهد لوصفه الذي اعترض به وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن حاصل المعارضة هو نفي ثبوت الحكم في الفرع بالعِلَّة التي ذكرها المستدل، ويكفي المعترض في تحقيق هذا النفي أن يثبت أن جملَّة المستدل غير مستقلة، ولا يحتاج المعترض في إثبات أن ما أبداه من الوصف مستقل بالتعليل؛ لأن إثبات كون ما أبداه جزء العِلَّة يحقق المطلوب، فما أبداه المعترض قد لا يكون عِلَّة بل جزء منَ العلَّة - وحينئذ فهو لا يؤثر - من حيث هو - في أصَل، حتى يقال يحتاج إلى أصل ودليل يشهد له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2262 المطلب الخامس بيان أنه على المعترض بيان انتفاء الوصف الذي اعترض به عن الفرع وهو مذهب الباجي، وبعض العلماء، وهو الحق؛ لأن مقصود المعترض بإيراده للوصف الذي اعترض به على وصف المستدل هو: بيان الفرق بين الأصل والفرع، ولا يتم هذا المقصود إلا بنفي ما أبداه من الوصف عن الفرع؛ لأنه لا يتم مقصوده إلا بذلك، فوجب عليه، من باب ما لا يتم الواجب إلا به. وقد ذكرت عدداً من الأمثلة على ذلك فيما سبق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2263 المطلب السادس بيان كيفية الجواب عن قادح المعارضة في الأصل إذا أراد المستدل أن يجيب عن اعتراض المعترض بهذا القادح، فإنه يجيب بأحد الطرق التالية: الطريق الأول: أن يمنع المستدل وجود الوصف الذي أورده المعترض في الأصل. مثاله: قول المستدل في وجوب القصاص من القاتل بالمثقل قياسا على القاتل بالمحدد بجامع: القتل العمد العدوان. فيقول المعترض: ليست العِلَّة كما ذكرت، بل هي: القتل العمد العدوان بجارح. فيجيب المستدل: أنا أمنع كون وصف " جارح " يضاف إلى العِلَّة وهي: القتل العمد العدوان؛ حيث إن العبرة بإزهاق الروح عن طريق العمد العدوان. الطريق الثاني: أن يبين المستدل أن الوصف الذي أبداه المعترض ملغى. مثاله: قول المستدل: لا يجوز بيع الأرز بالأرز متفاضلاً؛ قياسا على البر بجامع الطعم. فيقول المعترض: ليست العلَّة كما ذكرت، ولكن العلَّة في الأصل هي: كونه مطعوما، وكون لونه يميل للحمرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2264 فيجيب المستدل بقوله: إن وصف الحمرة ملغى شرعا؛ لأنه وصف طردي لا يؤثر في الأحكام. الطريق الثالث: أن يبين المستدل أن ما ذكره قد استقل بالتعليل بظاهر نص أو إجماع، دون ما أبداه المعترض. مثال ذلك: قول المستدل: الأرز مطعوم، فيجري فيه الربا؛ قياسا على البر. فيقول المعترض: العِلَّة عندي هي: كونه مكيلاً. فيجيب المستدل بقوله: إن هناك نصا قد دزَ على اعتبار التعليل بالطعم، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الطعام بالطعام مثلاً بمثل ". الطريق الرابع: أن يبين المستدل استقلال وصفه بالتعليل، وذلك بإثبات الحكم في صورة دون وصف المعترض. مثاله: قول المستدل: إذا أمَّن العبد الحربي فإنه يجوز؛ لأنه أمان من مسلم عاقل، فجاز قياسا على الحر. فيقول المعترض: العلَّة في الاصل عندي هي: الإسلام، والعقل، والحرية؛ لأن الحرية تمكنه من إظهار مصالح الأمان أكمل. فيجيب المستدل بقوله: إن ما ذكرته من الإسلام والعقل مستقل بالتعليل، وذلك في صورة العبد الذي أذن له العبد في أن يقاتل، فيكون - على هذا - وصف الحرية ملغى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2265 المبحث الثالث عشر في قادح المعارضة في الفرع ويشتمل على مطالب هي كما يلي: المطلب الأول: في بيان المراد منه وأقسامه. المطلب الثاني: في بيان حجيته. المطلب الثالث: في بيان كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2267 المطلب الأول في بيان المراد منه، وبيان أقسامه المراد من قادح المعارضة في الفرع: أن يُبين المعترض في الفرع ما يقتضي نقيض حكم المستدل في الفرع إما بنص، أو إجماع، أو بوجود وصف مانع للحكم، أو بفوات شرط للحكم. أقسام هذا القادح: لقد تبين من التعريف أن هذا القادح ينقسم إلى قسمين: القسم الأول: معارضة قياس المستدل بالنص أو الإجماع. فيذكر المعترض دليلاً آكد من قياس المستدل من نص أو إجماع يدل على خلاف ما دلَّ عليه قياسه، فيتبين بذلك أن ما ذكره المستدل فاسد الاعتبار؛ نظراً لمخالفة قياسه للنص أو الإجماع، وهذا مذكور في قادح فساد الاعتبار، وقد سبق بيان ذلك بالتفصيل في المبحث الحادي عشر من هذا الفصل. القسم الثاني: معارضة قياس المستدل بالوصف. ومعناه: أن يقول المعترض: ما ذكرته أيها المستدل من الوصف وإن اقتضى ثبوت الحكم في الفرع إلا أن عندي وصفا آخر يقتضي نقيض الحكم الذي تريد إثباته. وهذا هو المراد من قادح المعارضة في الفرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2269 وينبغي أن تتنبه إلى أن هذا الوصف الذي أبداه المعترض يحتاج إلى أصل يرد إليه، ويحتاج إلى أن يكون ثابتا، ولا بد أن يكون ثبوته بمسلك من المسالك المثبتة لعلية الوصف، ولا يشترط أن يكون بالمسلك الذي أثبت به المستدل علية وصفه. فالمعترض - في هذا - كالمستدل في كيفية إثباته لعلية الوصف، فكما أن المستدل يحتاج لإثبات علية وصفه، فكذلك المعترض. مثاله: قول المستدل: الوضوء طهارة عن حدث، فافتقرت إلى النية؛ قياساً على التيمم. فيقول المعترض: الوضوء طهارة بالماء، فلم تفتقر إلى النية؛ قياساً على إزالة النجاسة. فهنا المستدل قد استند إلى " أصل "، و " عِلَّة ": فالأصل هو: التيمم، والعِلَّة هي: الطهارة من الحدث. وهو يرى: أن هذه العلَّة يشترك فيها الفرع - الذي هو الوضوء - والأصل - الذي هو التيمم -، فيثبت في الفرع الحكم الثابت في الأصل وهو: وجوب النية. أما المعترض هنا فهو لم يسلم بهذا القياس، فأبدى في الفرع وصفاً آخر قد استند فيه إلى أصل آخر، وهذا الوصف هو: كونه طهارة بالماء، والأصل هو: إزالة النجاسة. وهذا الوصف الذي أبداه المعترض قد عارض به ثبوت حكم المستدل في الفرع: فيقتضي وصف المعترض في الفرع عدم وجوب النية، ويقتضي وصف المستدل وجوب النية، إذن اقتضى وصف المعترض في الفرع ضد ما اقتضاه وصف المستدل. " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2270 المطلب الثاني بيان حجيته قادح المعارضة في الفرع حُجَّة كقادح المعارضة في الأصل. أي: أن للمعترض إيراد المعارضة في الفرع - هو رأي جمهور العلماء - وهو الحق؛ لأن مقصود المستدل إثبات حكم الأصل في الفرع بواسطة العلَّة المشتركة بينهما، وهذا المقصود لا يمكن أن يتم إلا إذا غلب على الظن عدم وجود المعارض لتلك العلَّة؛ حيث إنا قد بينا في المطلب التاسع عشر من المبحث الثالث من الفصل الثالث: أنه يشترط في العِلَّة عدم وجود ما يعارضها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2271 المطلب الثالث في بيان كيفية الجواب عن قادح المعارضة في الفرع المستدل يجيب عما أورده المعترض في المعارضة في الفرع بما يرد على المستدل من اعتراضات ابتداء. فيقول المستدل - مثلاً -: إن قياسك الذي عارضتني به فاسد الوضع، أو فاسد الاعتبار، أو علتك التي استندت إليها منقوضة، أو غير مؤثرة، أو الحكم في الأصل ممنوع، أو إلى آخر تلك الأجوبة التي ترد على المستدل ابتداء قدحا في قياسه. تنبيه: بعض العلماء ذكر بعد ذلك قادح الفرق وتكلم عنه على أنه قادح منفرد. والحق: أنه لا يخرج عن قادح المعارضة في الأصل أو في الفرع لذلك ترك ذكره كثير من العلماء. والجواب عنه لا يخرج عما ذكرناه في جواب المعارضة في الأصل والفرع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2272 المبحث الرابع عشر في قادح عدم التأثير ويشتمل على ما يلي من المطالب: المطلب الأول: بيان المراد منه. المطلب الثاني: بيان أن هذا القادح خاص بقياس المعنى إذا كانت علته مستنبطة. المطلب الثالث: أقسامه. المطلب الرابع: كيفية الجواب عنه. المطلب الخامس: بيان سبب إفراد هذا القادح في هذا المبحث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2273 المطلب الأول بيان المراد من قادح عدم التأثير المراد منه: أن يبين المعترض أن الوصف الذي ذكره المستدل لا مناسبة فيه للحكم، ولا أثر له فيه فيبقى الحكم بدون ذلك الوصف. أي: أن تأثير العلَّة في الحكم معناه: انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف في نفس المحل الذي ثبتت علية الوصف فيه، فيكون على هذا معنى عدم التأثير: وجود الحكم بدون الوصف في المحل الذي ثبتت عليته فيه. مثاله: قول المستدل: الغائب مبيع غير مرئي فلا يصح بيعه كالطير في الهواء. فهنا: جعل المستدل العِلَّة في عدم صحة بيع الطير في الهواء: كونه غير مرئي ليلحق الغائب به في هذه العِلَّة. فيقول المعترض: هذه العلَّة لا تأثير لها في الأصل المقاس عليه، - وهو الطير -؛ لأن عدمَ الصحة يوجد في الطير ولو كان مرئيا؛ حيث إنه معلوم أن الطير في الهواء لا يجوز بيعه، سواء كان مرئيا أو غير مرئي؛ لعدم القدرة على تسليمه، إذن يكون الوصف الذي ذكره المستدل غير مؤثر في الحكم؛ لوجود الحكم بدونه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2275 المطلب الثاني بيان أن هذا القادح خاص بقياس المعنى إذا كانت علته مستنبطة لقد اتضح من تعريف قادح عدم التأثير: أن معناه: أن الوصف لا مناسبة فيه للحكم، وهذا يجعل هذا القادح مختصا بقياس المعنى وهو: ما ثبتت فيه علية الوصف المشترك بين الأصل والفرع بالمناسبة؛ حيث إنه هو الذي يشتمل على المناسب. أما غيره كقياس الشبه، فلا يتصور معه قادح عدم التأثير؛ لأن المستدل بقياس الشبه لم يقيم قياسه فيه على المناسبة، فلا يمكن أن يرد عليه هذا القادح. كذلك هذا القادح خاص بالعلَّة المستنبطة الاجتهادية المختلف فيها، فلا يتصوَّر في العلَّة المنصوصة، ولا المستنبطة المجمع عليها، وذلك لأن كلًّا من المنصوصة والمجمع عليها لا بدَّ فيهما من المناسبة؛ صونا للنص والإجماع عن الخطأ، ومن هنا لا يصح أن يرد عليهما هذا القادح، وهو عدم التأثير. أما المستنبطة فنظراً لكونها واردة من المجتهد، ومن فعله واستنباطه فإنه يرد عليها هذا القادح، وهو عدم تأثيرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2276 المطلب الثالث أقسام عدم التأثير ينقسم هذا القادح إلى أربعة أقسام: القسم الأول: عدم التأثير في الوصف. القسم الثاني: عدم التأثير في الأصل. القسم الثالث: عدم التأثير في الحكم. القسم الرابع: عدم التأثير في الفرع. أما القسم الأول - وهو: عدم التأثير في الوصف - فهو: أن يبين المعترض أن الوصف الذي أورده المستدل في قياسه طرديا، لا مناسبة فيه، ولا شبه. مثاله: قول المستدل: صلاة الصبح صلاة لا تقصر، فلا يقدم آذانها قبل وقتها، قياسا على صلاة المغرب. فيقول المعترض: إن الوصف الذي عللت به - وهو عدم القصر - إنما هو تعليل بوصف طردي لا مناسبة فيه لعدم التقديم بدليل: أن عدم التقديم للآذان موجود حتى في الصلاة التي تقصر. أما القسم الثاني - وهو: عدم التأثير في الأصل - فهو: أن يُبين المعترض أن الوصف الذي علل به المستدل في الأصل الذي قاس عليه مستغنى "عنه، ويذكر - أي: المعترض - وصفا آخر فيه مستقلاً بإثبات الحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2277 مثاله: قول المستدل: المبيع الغائب مبيع لم يره العاقد، فلا يجوز بيعه؛ قياسا على الطير في الهواء. فيقول المعترض: إن ما ذكرته من الوصف - وهو: عدم الرؤية - وإن كان مناسباً لنفي الصحة، إلا أنه يغني عنه وصف عدم القدرة على التسليم، فيكون ما ذكرته وصفا غير مؤثر في حكم هذا الأصل؛ نظراً لوجود وصف آخر يغني عنه؛ حيث إن المؤثر في الحكم هو وصف القدرة على التسليم، وعلى هذا: فإنه لو حصلت الرؤية ولم تتحقق القدرة على التسليم، فإن البيع لا يصح. أما القسم الثالث - وهو: عدم التأثير في الحكم - فهو: أن يُبين المعترض أن المستدل قد ذكر في الدليل وصفا لا تأثير له في الحكم المعلل، أو تقول: معناه: أن تكون العِلَّة مشتملة على وصف مستغنى عنه في إثبات الحكم؛ حيث إن الحكم يثبت بدونه. مثاله: قول المستدل: صلاة الجمعة صلاة مفروضة، فلا تفتقر إلى إذن الإمام لإقامتها؛ قياسا على غيرها من الصلوات المفروضة. فيقول المعترض: إن وصف " مفروضة " الوارد في قياسك لا تأثير له في حكم الأصل، فلا حاجة إليه؛ حيث إنه لو حذف، فإن العِلَّة لا تنتقض؛ لأن الفرض والنفل في هذا سواء في أن كلاً منهما لا يحتاج إلى إذن الإمام. مثال آخر: قول المستدل: المرتد ترك الصلاة بمعصية فقضاؤها يجب عليه؛ قياسا على السكران. فيقول المعترض: إن الوصف الذي ذكرته - وهو: المعصية - لا تأثير له في إثبات حكم الأصل؛ حيث إن السكران يجب عليه قضاء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2278 الصلاة، وإن لم يكن عاصيا بسكره؛ كما لو شرب الخمر مكرها، أو شربه لإزالة لقمة قد غص بها. أما القسم الرابع - وهو: عدم التأثير في الفرع - فهو: أن يُبين المعترض أن المستدل قد ذكر وصفا وإن كان مناسبا، إلا أنه لا يوجد في جميع صور الفرع. مثاله: قول المستدل: المرأة التي تولت عقد نكاحها زوجت نفسها بغير إذن وليها وبغير كفء، فلم يصح نكاحها؛ قياساً على ما لو زوجها وليها بغير كفء. فيقول المعترض: إن الوصف الذي ذكرته وهو: وصف الزواج بغير كفء وإن كان مناسبا لعدم صحة النكاح، إلا أنه لا يوجد في جميع صور الفرع وهو: تزويج المرأة انفسها مطلقا بكفء وبغير كفء. أي: أن كون الزواج من غير كفء لا أثر له؛ لأن النزاع واقع فيما إذا زوجت نفسها مطلقا: من الكفء أو من غير الكفء، وحكمهما سواء فلا أثر له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2279 المطلب الرابع كيفية الجواب عن قادح عدم التأثير لقد قلنا: إن قادح عدم التأثير ينقسم إلى أربعة أقسام وهي: عدم التأثير في الوصف. عدم التأثير في الأصل. عدم التأثير في الحكم. عدم التأثير في الفرع. ولكل قسم جواب، ولبيان ذلك لا بد من التفصيل الآتي: أولاً: قد تبين أن عدم التأثير في الوصف - وهو القسم الأول - معناه: كون الوصف لا مناسبة فيه، ولا شبه، فيكون طرديا، وهو بهذا التفسير راجع إلى قادح منع كون الوصف عِلَّة الذي فصلنا الكلام عنه في المبحث السادس من هذا الفصل، فيكون - على هذا - الجواب عنه مثل الجواب عن قادح منع كون الوصف علَّة، فارجع إليه. ثانياً: قد تبين أن عدم التأثير في الأصل - وهو القسم الثاني - معناه: كون الوصف الذي ذكره المستدل في الأصل مستغنى عنه بالوصف الذي أظهره المعترض، وهو بهذا التفسير راجع إلى قادح المعارضة في الأصل بمعنى آخر؛ وذلك لأن المستدل يذكر وصفا، والمعترض يذكر وصفا آخر، وقد فصلنا الكلام عن ذلك في المبحث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2280 الثاني عشر من هذا الفصل، وعلى هذا يكون الجواب عن هذا القسم هو نفس الجواب عن قادح المعارضة في الأصل. ثالثاً: قد تبين أن عدم التأثير في الحكم - وهو القسم الثالث - معناه: أن يذكر المستدل وصفة لا تأثير له في الحكم، وهو بهذا التفسير راجع إلى القسم الأول - وهو: كون الوصف لا تأثير له وهو الطردي، وإذا كان راجعا إلى القسم الأول، والقسم الأول - كما قلنا - راجع إلى قادح منع كون الوصف عِلَّة، فيكون - على هذا - جوابه نفس جواب قادح منع كون الوصف عِلَّة. رابعا: قد تبين أن عدم التأثير في الفرع - وهو القسم الرابع - معناه: اشتمال عِلَّة المستدل على وصف مقيد بصورة من محل الخلاف، بحيث لا تطرد العِلَّة معه في جميع صور محل الخلاف، وهو بهذا التفسير راجع إلى القسم الثالث - وهو عدم تأثير الوصف في الحكم -، وذلك لأن الوصف الذي ورد مقيداً بصورة جعل العِلة لا تطرد معه في جميع صور الفرع، فكان الوصف مع وجوده غير مؤثر في الحكم في جميع صور الفرع، وإذا كان راجعا إلى القسم الثالث، والقسم الثالث راجع - كما قلنا - إلى القسم الأول، والقسم الأول راجع إلى قادح منع كون الوصف عِلَّة: فيكون - على هذا - الجواب عن هذا القسم هو نفس الجواب عن قادح منع كون الوصف عِلَّة المذكور بالتفصيل في المبحث السادس من - هذا الفصل. وإليك مثالاً على طريقة الجواب عن هذا القادح وهو: قول المستدل: المرأة المرتدة كفرت بعد إسنلام، فتستحق القتل قياسا على الرجل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2281 فيقول المعترض: قولك: " كفرت بعد إسلام " وصف لا تأئير له في حكم الأصل وهو الرجل؛ لأن الرجل يقتل بالكفر وإن كان أصلياً. فيجيب المستدل بقوله: إن الوصف الذي ذكرته قد ثبت تأثيره بالنص، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: رجل كفر بعد إسلامه، أو زنى بعد إحصانه، أو قتل نفسا بغيرحق ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2282 المطلب الخامس بيان سبب إفراد هذا القادح في هذا المبحث لو دققت النظر لوجدت أن الأقسام الأربعة قد انحصرت في قسمين فقط وهما: القسم الأول: عدم التأثير في الوصف. القسم الثاني: عدم التأثير في الأصل. أما القسم الأول: فهو راجع إلى قادح منع كون الوصف عِلَّة. وأما القسم الثاني: فهو راجع إلى قادح المعارضة في الأصل. فإذا كان الأمر كذلك، فما سبب إفراده بهذا المبحث؟ أقول: إن سبب ذلك هو كثرة استعمال العلماء له على هذا المصطلح في مناظراتهم ومجادلاتهم، ومناقشاتهم، ومحاوراتهم في الفروع، حيث إنهم كثيراً ما يرددون قولهم: " إن عدم التأثير موجب لفساد العِلَّة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2283 المبحث الخامس عشر في قادح الكسر ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: بيان المراد منه. المطلب الثاني: بيان حجيته. المطلب الثالث: بيان كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2285 المطلب الأول بيان المراد من قادح الكسر المراد منه: أن يُبين المعترض عدم تأثير أحد وصفي العِلَّة ونقض الوصف الآخر. ومعناه؛ أن العِلَّة تكون مركبة من وصفين: أحدهما: لا تأثير له، أي: يوجد الحكم بدونه. الثاني: أنه منقوض، أي: يوجد، والحكم يتخلف عنه. فالكسر - على هذا - مركب من قادحين قد سبق الكلام عنهما، هما: 1 - قادح النقض الذي سبق الكلام عنه في المطلب الثامن من هذا الفصل. 2 - قادح عدم التأثير الذي سبق الكلام عنه في المطلب الرابع عشر من هذا الفصل. مثاله: قول المستدل: لا يجوز بيع الغائب؛ لأنه مبيع مجهول الصفة عند العاقد حال العقد، فلم يصح؛ قياساً على ما لو قال: بعتك ثوبا. فيقول المعترض: هذا القياس منكر بما لو عقد على امرأة لم يرها؛ فإنها مجهولة الصفة عند العاقد حال العقد، ومع ذلك صح العقد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2287 فالعِلة في هذا القياس مركبة من وصفين هما: " كونه مبيعا "، و" كونه مجهول الصفة ". والمعترض لم يعتبر الوصف الأول - وهو: كونه مبيعا -؛ لأنه لا تأثير له عنده؛ حيث إن المرهون والمستأجر كالمبيع. أما الوصف الثاني - وهو: كونه مجهول الصفة - قد نقضه المعترض بقوله: ليس كل مجهول الصفة لا يصح العقد عليه؛ حيث إنه يصح العقد على امرأة لم يرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2288 المطلب الثاني بيان حجية قادح الكسر هذا القادح حُجَّة، أي: للمعترض أن يوجه هذا القادح إلى عِلَّة المستدل المتكونة من أوصاف، وهو مذهب البيضاوي، وأبي إسحاق الشيرازي، وأبي الوليد الباجي، وتاج الدين ابن السبكي، والإسنوي، وفخر الدين الرازي، وهو الحق عندي؛ لأن العِلَّة إما أن تكون مجموع أوصاف، وإما أن تكون بعضا منها. أما كونها مجموع الأوصاف فباطل؛ لأن المعترض قد بين أن أحد هذه الأوصاف لا أثر له. فلم يبق إلا الاحتمال الثاني وهو كون بعض الأوصاف هو العلَّة، والمعترض - في هذا القادح - قد أورد على الوصف الباقي النقض، فيكون باطلاً. اعتراض: قال قائل - معترضاً -: إن هذا القادح وهو الكسر يؤول في نهاية الأمر إلى النقض، فلا داعي لذكره منفرداً. جوابه: إنه يوجد فرق بينهما، والفرق من وجهين: الوجه الأول: أن الكسر وإن آل إلى النقض - وهو نقض ما ثبت أنه عِلَّة - إلا أنا لم نتوصل إلى ذلك إلا بعد أن سبقه مرحلة وهي: بيان عدم تأثير أحد الوصفين. الوجه الثاني: أن الكسر - كما اتضح من حقيقته - لا يكون إلا في العِلَّة المركبة من وصفين أو أكثر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2289 المطلب الثالث في بيان كيفية الجواب عن قادح الكسر يجيب المستدل عن هذا القادح بأحد طريقين هما: الطريق الأول: أن يبين المستدل أن ما أسقطه المعترض وصف مؤثر بدليل يقيمه على ذلك، أو أن يبين أن هذا الوصف هو مؤثر عنده فقط، بيان ذلك: إن أسقط المعترض وصفا مؤثرأ، فإن المستدل له أن يبين أن ما أسقطه من الوصف هو مؤثر بأن يقيم الدليل على كونه مؤثرا. مثاله: قول المستدل: إن كل ما تحقق فيه الطعم مطعوم جنس، فلا يجوز التفاضل في بيعه؛ قياسا على البر. فيقول المعترض: وصف الطعم الذي ذكرته منقوض ببيع الحنطة بالشعير فهما مطعومان، ولا يحرم التفاضل بينهما. فيجيب المستدل بقوله: إن الوصف الذي أسقطته وهو: "الجنس " هو وصف مؤثر قد ثبت ذلك بالدليل، وهو قوله - صلى الله عليه وسلم -: " فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد "، وما دل عليه الدليل الشرعي الصحيح، فلا يجوز إسقاطه. وإن أسقط المعترض وصفا قد اختلف في تأثيره، فإن المستدل له أن يبين أن ما أسقطه المعترض هو مؤثر عنده، وإن لم يكن مؤثرا عند المعترض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2290 الطريق الثاني: أن يبين المستدل فرقا بين ما ذكره هو وبين ما أورده المعترض في صورة الكسر. مثاله: ما سبق وهو: قياس المستدل بيع الغائب على ما لو قال: بعتك ثوبا. فقال المعترض؛ هذا منكسر بما إذا عقد على امرأة لم يرها. فيجيب المستدل بقوله: إن هناك فرقا بين ما أوردته من العلَّة، وما أوردته - أيها المعترض -، فالنكاح ليس كالبيع في الجهالة؛ لأن للجهالة في التأثير في عقد البيع ما ليس لها في عقد النكاح؛ حيث يثبت الخيار بعد الرؤية في عقد البيع، ولا يثبت في عقد النكاح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2291 المبحث السادس عشر في قادح القلب ويشتمل على مطالب هي: المطلب الأول في بيان المراد منه. المطلب الثاني: في بيان حجيته، وأنه من باب المعارضة، وليس من باب الإفساد. المطلب الثالث: في بيان أنواعه. المطلب الرابع: في بيان كيفية الجواب عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2293 المطلب الأول المراد من قادح القلب المراد منه: أن يبين المعترض حكما مخالفا لحكم المستدل بعِلَّة المستدل وأصل المستدل. مثاله: قول المستدل: إزالة النجاسة طهارة تراد لأجل الصلاة، فلا تجوز إزالتها بغير الماء؛ قياسا على طهارة الحدث. فيقول المعترض: إزالة النجاسة: طهارة تراد لأجل الصلاة، فيجوز إزالتها بغير الماء؛ قياسا على طهارة الحدث. فهنا قد اتفق المستدل والمعترض في العلَّة والأصل - كما تلاحظ - ولكن المستدل أورد قياسه لإثبات عدم جَواز إزالة النجاسة بغير الماء. أما المعترض فقد قلب على المستدل استدلاله، وقد استند إلى علَّة المستدل وأصله؛ حيث أثبت بواسطتهما حكما في الفرع مخالفا للحكم الذي أثبته المستدل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2295 المطلب الثاني في بيان حجيته، وأنه معارضة قادح القلب حُجَّة، أي: قادح في العِلَّة، وهو مذهب كثير من العلماء، منهم الباقلاني، والآمدى، وفخر الدين الرازي، وإمام الحرمين، وأبو إسحاق الشيرازي، وأبو يعلى، وتلميذاه: أبو الخطاب، وابن عقيل، والدبوسى، والسرخسي، والقرافي، والباجي، وغيرهم، وهو الحق؛ قياسا على الاستدلال بالنص الشرعي، فكما أن النص الشرعي يستعمله المستدل للاستدلال به على حكم شرعي، ويستعمله المعترض للاستدلال به على حكم آخر كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار "، فقد استدل به المستدل على أن الغاصب لخشبة قد وضعها في بنائه لا يؤمر بنقض بنائه لأجل ذلك المغصوب " لأن في ذلك إضرارا به. واستدل المعترض - أيضا - بهذا النص على أن منع صاحب الخشبة المغصوبة منه لا يجوز؛ لأنها ملك له، ففي منعه حقه إضرار فإذا جازت المشاركة في الاستدلال من النص، جازت المشاركة في الاستدلال بالعِلَّة، لأن النص أصل للقياس، والمعترض قد شارك - هنا - المستدل في عِلَّته. وإذا ثبت أن القلب قادح في العلة فهو من باب المعارضة، وليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2296 من باب الإفساد، وهو ما ذهب إليه جمهور العلماء، وهو الحق؛ بدليل: أن القلب لو كان مفسداً للعلَّة لما صح من المعترض إيراد القلب؛ إذ كيف يستند المعترض إلى علَّة يرى أنها فاسدة، فالعلَّة عند المعترض في قادح القلب - كما قلنَا سابقا - صحيحة، ولكن استعملها المستدل في غير وجهها، كما استعمل بعض المجتهدين النص على غير وجهه الصحيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2297 المطلب الثالث في بيان أنواعه وهو يتنوع إلى أنواع، إليك بيانها: النوع الأول: قلب الغرض منه إبطال مذهب المستدل صراحة، أو ضمنا. مثال ما يبين المعترض فيه إبطال مذهب المستدل صراحة: قول المستدل - على وجوب مسح ربع الرأس -: مسح الرأس ركن في الوضوء، فيكفي فيه أقل ما يطلق عليه الاسم كالوجه. فيقول المعترض: مسح الرأس ركن في الوضوء، فلا يكفي فيه الربع كالوجه. فكان هذا القياس مبطلاً لمذهب المستدل صراحة؛ حيث إن قياس المعترض نتج عنه: أن مسح الرأس لا يكفي فيه الربع، وقياس المستدل نتج عنه: أن مسح الربع يكفي. ومثال ما يبين المعترض فيه إبطال مذهب المستدل ضمنا وإلزاما: قول المستدل - للاستدلال على اشتراط الصوم في الاعتكاف -: الاعتكاف لبث محض، فلا يكون قربة بنفسه كالوقوف بعرفة. فيقول المعترض: الاعتكاف لبث محض، فلا يشترط الصوم في صحته؛ قياساً على الوقوف بعرفة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2298 فكما تلاحظ فإن المستدل أراد بقياسه: إثبات اشتراط انضمام أمر إلى الاعتكاف؛ حيث إن الاعتكاف بنفسه لا يكفي؛ كما هو الحال في الوقوف بعرفة؛ حيث لا بد فيه من الإحرام، والأمر الذي يريد المستدل أن ينضم إلى الاعتكاف هو الصوم إلا أنه لم يصرح به. والمعترض - كما تلاحظ - قد صرح بالحكم الذي يريد إثباته؛ فهو قلب على المستدل استدلاله باعتماده على أصل المستدل وعلته، مثبتا في الفرع حكما مخالفا لحكم المستدل، وهو بفعله هذا قد أبطل مذهب المستدل الذي لم يصرح به. النوع الثاني: قلب التسوية وهو: أن يكون في الأصل حكمان: أحدهما: منتف عن الفرع بالاتفاق بين المعترض والمستدل، والحكم الآخر مختلف فيه بينهما، فإذا قام المستدل بإثبات ذلك المختلف فيه بالقياس على الأصل اعترضه المعترض بوجوب التسوية بين الحكمين في الفرع بالقياس على الأصل، فيلزم من وجوب التسوية بينهما في الفرع إبطال مذهب المستدل. أي: أنه من لازم ثبوت هذه المساواة بين الحكمين في الفرع: أن لا يثبت الحكم الذي أراده المستدل في الفرع؛ لأنه بالمساواة التحق بالحكم المتفق على انتفائه عن الفرع. مثاله: قول المستدل - للاستدلال على وقوع طلاق المكرَه -: المكرَه مكلف مالك للعصمة، فيقع عليه الطلاق؛ قياسا على المختار. فيقول المعترض: المكرَه مكلف مالك للعصمة، فيستوي فيه إقراره بالطلاق، وإيقاع الطلاق؛ قياسا على المختار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2299 فهنا تلاحظ: أن الأصل الذي استند عليه المستدل في قياسه قد اشتمل على أمرين هما: " الإقرار بالطلاق "، و " إيقاع الطلاق ". وحكم الأول - وهو الإقرار بالطلاق - فقد اتفق على نفيه المستدل والمعترض، أي: اتفقا على أن المكرَه لا يؤخد بإقراره بالطلاق؛ لسلب الاختيار عنه. أما حكم الثاني - وهو إيقاع الطلاق - فقد اختلف المستدل والمعترض فيه. فالمستدل أراد بقياسه إثبات هذا الحكم - وهو إيقاع الطلاق في الفرع - وهو المكرَه - وهو قول الحنفي. والمعترض - وهو الشافعي - بين المساواة بين الحكمين في الفرع، ومن لازم التسوية بينهما: أن ينتفي الحكم هذا، وهو إيقاع الطلاق الذي أراد المستدل إثباته في الفرع - وهو المكرَه -. النوع الثالث: قلب العِلَّة حكما والحكم عِلَّة، وهو: أن يورد المستدل قياسه الذي اشتملَ على أصل وعِلَّة وحكم لإثبات ذلك الحكم في فرع يرى أنه وجدت فيه عِلَّة الأصل، فينظر المعترض في قياس المستدل، فيقلب ما كان عِلَّة إلى حكم، وما كان حكما إلى علة؛ لبيان أن ما جعله المستدل علَّة لا يصح أن يكون عِلَّة؛ نظرا لصحة جعله حكما، فيلزم من ذلك: أن لا يثبت في الفرع الحكم الذي أراد المستدل إثباته فيه. مثال ذلك: قول المستدل: يصح ظهار الذمي؛ لأن من صح طلاقه صح ظهاره؛ قياسا على المسلم. فيقول المعترض: المسلم صح طلاقه؛ لأنه صح ظهاره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2300 فهنا المستدل - كما تلاحظ - أورد قياسه لإثبات أن الذمي إذا صدر منه الظهار، فإن ظهاره يقع صحيحا، والأصل الذي قاسه عليه هو السلم، والعِلَّة: صحة الطلاق، والحكم: صحة الظهار، وهذه العِلَّة قد وجدت في الفرع، وهو الذمي؛ حيث يصح طلاقه، فحينئذٍ يثبت فيه الحكم، وهو صحة الظهار. أما المعترض فإنه - كما تلاحظ - نظر إلى العِلة والحكم الذين قد اشتمل عليهما أصل المستدل فقلبهما، فجعل ما هو عِلَّة حكما، وما هو حكم علَّة؛ حيث جعل العِلَّة صحة الظهار، والحكم هو: حُجَّة الطلاق. فيلزم من هذا: أن لا يثبت في الفرع - الذي هو الذمي - الحكم الذي أراد المستدل إثباته فيه، فلا يصح الظهار منه؛ لأن العِلَّة التي استند إليها المستدل لم تصح لإثبات ما أراده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2301 المطلب الرابع في بيان كيفية الجواب عن قادح القلب يختلف جواب المستدل عن قادح القلب باختلاف أنواعه، ولبيان ذلك لا بد من التفصيل الآتي: أولاً: الجواب عن النوع الأول: يكون جواب المستدل عن قادح القلب الذي يبديه المعترض في هذا النوع بما يرد على العلَّة المبتدأة: فيورد المستدل من أوجه الجواب ما يورده على علَّة المعترض، كما لو كان المعترض قد جاء بعلَّة أخرى غير العِلَّة التي قد جاء بها المستدل، فله - أي: للمستدل - أن يجيب بعدم التأثير أو بفساد الوضع، أو بفساد الاعتبار، أو بمنع وجود العلَّة في الأصل، أو بمنع وجودها في الفرع، أو بترجيح علته على عِلَّة المعترض. مثال ذلك؛ قول المستدل: الرأس ممسوح، فلا يجب استيعابه بالمسح؛ قياساً على الخف. فيقول المعترض: الرأس ممسوح، فلا يقدر مسحه بالربع؛ قياسا على الخف. فيجيب المستدل بقوله: أنا أمنع الحكم في الأصل، وهو: أن مسح الخف لا يتقدر بالربع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2302 فهنا: المستدل قد منع الحكم الذي في الأصل؛ حيث اعتمد عليه المعترض في قلبه قياس المستدل، وفعل ذلك المستدل لأجل أن يصح قياسه. ثانياً: الجواب عن النوع الثاني - وهو: قلب التسوية - يكون بما تقدم في النوع الأول. ويزاد في الجواب عن هذا النوع: بأن يبين المستدل الفرق بين ما يرى المعترض أنهما متساويان. مثاله: نفس المثال السابق في النوع الثاني وهو: قياس المكرَه على المختار في وقوع طلاق كل منهما بجامع: أن كلًّا منهما مكلف مالك. فيقول المعترض: المكرَه مكلف مالك للعصمة فيستوي فيه إقراره بالطلاق، وإيقاع الطلاق. فيجيب المستدل بقوله: أنا لا أسلم التسوية بين إيقاع الطلاق والإقرار به؛ بل بينهما فرق، ووجه الفرق: أن الإقرار بالطلاق يدخله الصدق والكذب، أما الإيقاع به فإنه لا يحتمل ذلك، بل إذا وجد وقع. ثالثا: الجواب عن النوع الثالث - وهو: قلب العِلَّة حكما، وقلب الحكم عِلَّة - يكون بما تقدم من الأجوبة عن النوع الأول، لا سيما الجواب بأن يرجح المستدل تعليله على تعليل المعترض بأحد أوجه الترجيح. مثاله: نفس المثال السابق في النوع الثالث وهو: أن يقيس المستدل الذمي على المسلم في صحة الظهار منه بجامع: أن كلا منهما يصح منه الطلاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2303 فيقول المعترض: المسلم صح طلاقه؛ لأنه صح ظهاره. فيجيب المستدل بقوله: إن ما ذكرته من التعليل يرجح على ما ذكرته - أيها المعترض - وسبب الترجيح: أن التعليل الذي ذكرته تكون العلَّة فيه متعدية؛ حيث إن تعليل صحة ظهار المسلم بصحة طلاقه، يجعل العِلَّة متعدية إلى الفرع الذي هو الذمي؛ حيث إن الذمي يصح طلاقه، فيصح ظهاره. أما التعليل الذي ذكرته - أيها المعترض - تكون العلَّة فيه قاصرة، فلا تتعدى إلى الفرع؛ حيث إنك - أيها المعترض - لما قلبت هذا الأصل بأن كانت صحة ظهار المسلم عِلَّة لصحة طلاقه، فهذا يجعل العِلة غير متعدية للفرع، فلا يثبت فيه الحكم وهو صحة الظهار من الذمي. ومعروف أن العِلَّة المتعدية أَوْلى من القاصرة؛ حيث إن فيه تعميما للأحكام الذي هو مقصد من مقاصد الشريعة؛ لأن الأصل تعميم الأحكام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2304 المبحث السابع عشر في قادح القول بالموجب ويشتمل على المطالب التالية: المطلب الأول: بيان المراد منه. المطلب الثاني: أنواعه، وبيان كيفية الجواب عن كل نوع. المطلب الثالث: في بيان أنه لا يجوز للمعترض تغيير كلام المستدل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2305 المطلب الأول بيان المراد من قادح القول بالموجَب - بفتح الجيم - المراد منه: أن يسلم المعترض مقتضى قياس أو تعليل المستدل مع بقاء الخلاف بينهما في الحكم المتنازع فيه. مثاله: قول المستدل: يقتص ممن وجب عليه القصاص وإن كان قد لجأ إلى الحرم؛ لأنه قد وجد منه سبب جواز استيفاء القصاص، فكان استيفاؤه منه جائزاً. فيقول المعترض: أنا أقول بموجب تعليلك هذا، فاستيفاء القصاص جائز عندي، لكن الخلاف بيني وبينك في جواز استيفائه في الحرم، وليس في تعليلك ما يدل على جوازه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2307 المطلب الثاني أنواعه، وبيان كيفية الجواب عن كل نوع يتنوع القول بالموجب إلى نوعين هما: النوع الأول: ما يكون القول بالموجب فيه يرد على دليل يكون المطلوب به إبطال مذهب الخصم. ويعبر بعض العلماء عن ذلك بالقول بالموجب الذي يقع في جانب النفي. وهو قسمان: القسم الأول: أن يكون المطلوب نفي الحكم، فيكون اللازم من دليل المستدل نفي كون شيء معين موجبا لذلك الحكم. مثاله: قول المستدل: القتل بالمثقل لا تفاوت بينه وبين القتل بالمحدد إلا في آلة القتل، والآلة وسيلة للقتل، والتفاوت في الوسيلة لا يمنع من وجوب القصاص كالتفاوت في محل المتوسل إليه مثل كون المقتول صغيراً، أو كبيراً، أو غنياً، أو فقيراً. فيقول المعترض: نعم أنا أقول بموجبه وهو: أن التفاوت في الوسيلة لا يمنع من وجوب القصاص. لكن لِمَ لا يمتنع القصاص لشيء آخر غير التفاوت كوجود مانع اَخر، أو فقد شرط، أو عدم المقتضى؛ وما ذكرته أيها المستدل لا يقتضي امتناع شيء من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2308 القسم الثاني: أن يكون المطلوب نفي علية ما هو علَّة الحكم عند الخصم، ويكون اللازم من القياس نفي عليه ملزوم علته. مثاله: قول المستدل - في أن الإجارة لا تنفسخ بالموت -: إن الموت معنى يزيل التكليف، فلا تنفسخ فيه الإجارة؛ قياساً على الجنون، فإنه كذلك. فيقول المعترض: أنا أقول بموجب دليلك وهو: أن الإجارة لا تنفسخ بالموت، وإنما ينفسخ عقده فقد حدث ما يقتضي ذلك، وهو زوال الملك، ولهذا قال العلماء: لو باع العين المستأجرة انفسخت الإجارة. كيف يجيب المستدل عن هذا النوع؟ يجيب بأحد طريقين: الطريق الأول: أن يُبين المستدل لزوم حكم محل النزاع بوجود مقتضيه مما ذكره في دليله إن أمكنه بيانه كأن يقول المستدل في المثال السابق: يلزم من كون التفاوت في الآلة لا يمنع القصاص: وجود مقتضى القصاص، فيقول - أي المستدل -: إذا سلمت - أيها المعترض -: أن تفاوت الآلة لا يمنع القصاص: فالقتل المزهق هو المقتضي، والتقدير: أنه موجود. الطريق الثاني: أن يُبين المستدل أن النزاع إنما هو فيما يعرض له في الدليل إما بإقرار، أو اعتراف من المعترض بذلك. مثاله: قول المستدل: الدين لا يمنع وجوب الزكاة. فيقول المعترض: أنا أسلم أن الدين لا يمنع الزكاة، لكن لِمَ قلت: إن الزكاة تثبت؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2309 فيجيب المستدل بقوله: إن هذا القول بالموجب لا يسمع؛ لأن محل النزاع في هذه المسألة مشهور، وهو: - هل الزكاة تجب مع الدين؟ ومع الشهرة لا يقبل العدول عنها. النوع الثاني: أن يكون المطلوب فيه إثبات الحكم في الفرع، ويكون اللازم من دليل المستدل ثبوته في صورة ما من الجنس. مثاله: قول المستدل: تجب الزكاة في الخيل، لأنه حيوان تجوز المسابقة عليه؛ قياساً على الإبل. فيقول المعترض: أنا أقول بموجب دليلك، ومن هنا وجبت فيه زكاة التجارة، لكن النزاع ليس في زكاة التجارة، إنما هو في زكاة عينه، ودليلك أيها المستدل إنما يقتضي وجوب أصل الزكاة، ولا يلزم من إثبات المطلق إثبات جميع أنواعه. كيف يجيب المستدل عن هذا النوع؟ يجيب المستدل بنفي أن يكون هذا من القول بالموجب بأن يقول في المثال السابق: إن هذا ليس من القول بالموجب؛ لأن كلامنا في زكاة العين، والنزاع فيها، فحينما قلنا: تجب الزكاة فيها انصرف الذهن إليها؛ لأن الألف واللام للعهد، والمعهود ذهنا هنا هو زكاة العين، وعلى ذلك: فإن ما قلته أيها المعترض ليس قولاً بالموجب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2310 المطلب الثالث في بيان أنه لا يجوز للمعترض تغيير كلام المستدل لو أورد المعترض القول بالموجب بطريقة ووجه يغير كلام المستدل عن ظاهره: فإن هذا لا يجوز، ولا يتوجه إلى المستدل، بل يكون المعترض قد تكلَّم في موضوع آخر، فانقطعت الصلة بينه وبين المستدل. مثاله: قول المستدل - في إزالة النجاسة بالخل - مائع لا يرفع الحدث، فلا يزيل النجس، قياسا على المرق. فيقول المعترض: أنا أقول بموجب ذلك؛ فإن الخل النجس عندي لا يزيل النجاسة، ولا الحدث. فإن هذا الكلام من المعترض لا يتوجه ولا يصح؛ لأنه أورد القول بالموجب على وجه غيَّر فيه كلام المستدل؛ لأن المستدل يقصد الخل الطاهر، فهو المحل الذي تنازع العلماء فيه، والمعترض تكلم عن الخل النجس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2311 الباب السادس في الاجتهاد والتقليد ويشتمل على فصلين: الفصل الأول: في الاجتهاد. الفصل الثاني: في التقليد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2313 الفصل الأول في الاجتهاد ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: في تعريفه. المبحث الثاني: في مجالاته ومواضعه. المبحث الثالث: شروط المجتهد. المبحث الرابع: حكم الاجتهاد. المبحث الخامس: هل يقبل اجتهاد شخص في مسألة معينة إذا عرف دقائقها، دون المسائل الأخرى؟ وهو: " تجزؤ الاجتهاد ". المبحث السادس: هل يجوز الاجتهاد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ المبحث السابم: هل يجوز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -؟ المبحث الثامن: هل وقع الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ المبحث التاسع: هل يجوز الخطأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في اجتهاده؟ المبحث العاشر: هل كل مجتهد مصيب في الفروع أو المصيب واحد؟ المبحث الحادي عشر: هل كل مجتهد مصيب فى أصول الدين أو المصيب واحد؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2315 المبحث الثاني عشر: إذا تعارض عند المجتهد دليلان، وعجز عن الترجيح فماذا يفعل؟ المبحث الثالث عشر: هل يجوز للمجتهد أن يقول في الحادثة الواحدة قولين متضادبن في وقت واحد؟ المبحث الرابع عشر: المجتهد الذي لم يجتهد في مسألة، ولكن العلوم كلها حاصلة عنده، وعنده القدرة على الاجتهاد، فهل يجوز له أن يقلد غيره؟ المبحث الخامس عشر: إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلَّة ذكرها ووجدنا تلك العلَّة في مسَائل أخرى فما الحكم؟ المبحث السادس عشر: إذا نص المجتهد على حكم في مسألة، ولم يبين علته فيها، وتوجد مسألة تشبه تلك المسألة فما الحكم؟ المبحث السابع عشر: إذا نص المجتهد على مسألتين متشابهتين بحكمين مختلفين فهل يجوزنقل حكم إحداهما للأخرى؟ المبحث الثامن عشر: إذا روي عن مجتهد في مسألة واحدة روايتان مختلفتان، وصح هذا النقل فما الحكم؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2316 المبحث الأول في تعريف الاجتهاد أولاً: الاجتهاد لغة هو: افتعال من الجهد - بالضم والفتح - وهو: الطاقة والوسع. وقال ابن الأثير: هو: بفتح الجيم: المشقة، وقيل: المبالغة والغاية، وبالضم: الوسع والطاقة. ويقال: " اجتهد في الأمر " أي: بذل ما في وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده، ويصل إلى نهايته. فالاجتهاد لغة: استفراغ الوسع، أي: غاية ما يقدر على استفراغه لتحصيل أمر شاق. ثانيا: الاجتهاد في الاصطلاح: 1 - تعريف الاجتهاد الراجع إلى النظر إلى الاجتهاد باعتبار المعنى المصدري الذي هو فعل المجتهد هو: " بذل الفقيه ما في وسعه لتحصيل ظن بحكم شرعي عملي من دليل تفصيلي ". بيان التعريف ومحترزاته: قولنا: " بذل " جنس في التعريف، يشمل كل بذل مطلقا، أي: سواء كان من فقيه، أو غيره، وسواء كان في الأحكام، أو في غيرها، وسواء كانت شرعية، أو لغوية، أو نحوية، أو منطقية أو حسابية، أو هِندسية، أو نحو ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2317 فلما أضفنا لفظ " بذل " إلى لفظ " الفقيه " أخرج غير الفقيه مما سبق ذكره. والمراد بالفقيه: المتهيئِ للفقه، ومن عنده ملكة استنباط، وقدرة على استخراج أحكام شرعية لحوادث متجددة. قولنا: " ما في وسعه " الوسع - كما قلت سابقا - هو: الجهد والطاقة، ويعرف ذلك بالإحساس بالعجز عن زيادة البحث والنظر. قولنا: " لتحصيل ظن " قد أورد في التعريف؛ لبيان أن الاجتهاد لا يفيد إلا حكما ظنياً. وأتي بعبارة: " بحكم شرعي " لإخراج الحكم اللغوي، أو العقلي، أو الحسي، أو العرفي، أو التجريبي. وقلنا: " عملي " لبيان أن الاجتهاد يجري في الفروع - فقط - ولا يجري في الأصول - وهي العقائد -. وقولنا: " من دليل تفصيلي " لبيان أن الفقيه يبذل جهده لاستنباط حكم شرعي فرعي من آية أو حديث، أو قياس، أو أيّ دليل من الأدلة المختلف فيها. والخلاصة: أن المجتهد هو الفقيه، وقد بينت بالتفصيل الفقيه والفقه في الفصل الأول من الباب الأول. 3 - تعريف الاجتهاد الراجع إلى النظر إلى المعنى الإسمي للاجتهاد - الذي هو وصف قائم بالمجتهد: " إنه ملكة تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2318 فأورد لفظ " ملكة " لبيان أن صاحب الملكة يصدق عليه أنه مجتهد، سواء باشر عملية الاستنباط فعلاً أو لم يباشر. و" تحصيل الحجج على الأحكام الشرعية " أي: تحصيل الدليل، أو الأمارة على الحكم، وهذا قريب من قولنا في التعريف السابق: " لتحصيل ظن بحكم شرعي ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2319 المبحث الثاني مجالات الاجتهاد ومواضعه الاجتهاد يكون في الظنيات فقط، وذلك يشمل الأقسام التالية: القسم الأول: النص قطعي الثبوت، ظني الدلالة، وهذا يكون في الآية، الذي دلَّ لفظها على الحكم دلالة ظنية، والحديث المتواتر الذي دلَّ لفظه على الحكم دلالة ظنية، مثاله: قوله تعالى: (وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ) ، فهذا قطعي الثبوت؛ لأنه قرآن، ولكنه ظني الدلالة؛ لأن لفظ " القرء " يحتمل أن يكون معناه " الحيض "، ويحتمل أن يكون معناه: " الطهر "، فيجتهد المجتهد للوصول إلى المراد من أحد المعنيين. القسم الثاني: النص ظني الثبوت قطعي الدلالة، وهذا يكون في خبر الواحد الذي دلَّ على معناه دلالة قطعية، مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "في كل خمس من الإبل شاة "، فإن هذا نص قطعي الدلالة؛ لأنه لا يدل إلا على معنى واحد فقط، ولكنه ظني الثبوت؛ لأنه لم ينقل إلينا بطريق التواتر، فيجتهد المجتهد بالبحث عن سنده، وطريق وصوله إلينا، وحال رواته من العدالة والضبط. القسم الثالث: النص ظني الثبوت والدلالة معا، وهذا يكون في خبر الواحد الدال على معناه دلالة ظنية، مثاله: قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب "، فإن المجتهد يجتهد هنا في أمرين هما: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2320 الأول: في سند الحديث، وطريق وصوله إلينا، وحال رواته من العدالة والضبط. الثاني: في دلالة الحديث؛ لأن الحديث يحتمل معنيين هما: دالا صلاة صحيحة إلا بفاتحة الكتاب "، و " لا صلاة كاملة إلا بفاتحة الكتاب ". القسم الرابع: الاجتهاد فيما لا نص فيه ولا إجماع، وهذا يكون في حادثة لم يرد حكمها في نص ولا إجماع، فيبذل المجتهد ما في وسعه في تحصيل حكم لتلك الحادثة، وذلك باستعمال أدلة أرشده إليها الشارع مثل: القياس، والاستحسان، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، والاستصحاب، وشرع من قبلنا، والعرف، وسد الذرائع، ونحو ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2321 المبحث الثالث شروط المجتهد الاجتهاد لا يقبل ولا يعمل به ولا ينظر فيه إلا إذا صدر من شخص قد توفرت فيه شروط هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون عارفا بكتاب اللَّه تعالى وما يتعلَّق به: فإذا أراد المجتهد الاستدلال بآية على حكم حادثة، فإنه لا بد أن يعرف عنها ما يلي: أولاً: هل هي ناسخة أو منسوخة حتى لا يستدل بآية منسوخة. ثانيا: سبب نزولها؛ لأنه يساعده على معرفة معنى الآية. ثالثاً: أقوال الصحابة فيها؛ لأنهم أعرف بمعناها من غيرهم. رابعا: أقوال كبار التابعين فيها؛ لأنهم يقربون من الصحابة في ذلك. خامسا: تفاسير علماء الشريعة وعلماء اللغة لها. سادساً: معرفة ما يعارضها من ظواهر الآيات الأخرى، والأحاديث. سابعاً: معرفة نوع دلالتها هل دلَّت على الحكم بمنطوقها، أو مفهومها، ونوع هذا المنطوق، ونوع هذا المفهوم. ولا يشترط حفظ القرآن كله، ولا يشترط حفظ آيات الأحكام - كما قال بعضهم - بل يكفيه أن يعرف مواقع آيات الأطعمة من القرآن، وآيات الحدود منه، وآيات النكاح والطلاق والرضاع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2322 والنفقات، ونحو ذلك، حتى إذا نزلت حادثة في الأطعمة مثلاً يذهب إلى المواضع التي توجد فيها آيات الأطعمة، ويستدل على حكم حادثته بآية منها، بعد أن يطبق عليها ما ينبغي معرفته عنها. الشرط الثاني: أن يكون عارفا بسُنَّة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فإذا أراد المجتهد الاستدلال بحديث على حكم حادثة، فإنه لا بد أن يعرف عنه مثل معرفته عن الآية تماماً، وقد سبق ذلك. ويزاد في الحديث: أن يعرف سند الحديث، وطريق وصوله إلينا، وحال رواته من العدالة والضبط، ومعرفة الصحيح من الأحاديث والضعيف. ولا يشترط حفظ الأحاديث كلها، ولا حفظ أحاديث الأحكام - كما قال بعضهم - بل يكفي معرفة ما تتعلق به الأحكام إجمالاً كما قال جمهور العلماء؛ ذلك لأن المجتهد الذي توفرت فيه جميع شروط المجتهد إذا لم يطلع على حديث مما يمكن أن يغيب عن ذهنه بعد البحث الجاد عن كل ما يتصل بموضوع اجتهاده من النصوص لا يمنعه ذلك من تحصيل الظن بالحكم الشرعي بدليل آخر، يؤيد ذلك الصحابة - رضي اللَّه عنهم - فقد كانوا يجتهدون بالنوازل ويستدلون على ذلك بأدلة، ثم يظهر لهم بعد ذلك حديث يخالف اجتهادهم أو يوافقه. فمثال المخالفة: قول ابن عمر - رضي اللَّه عنهما -: كنا نخابر أربعين سنة حتى أخبرنا رافع بن خديج بأن - صلى الله عليه وسلم - قد نهى عن المخابرة. ومثال الموافقة: أن ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - قد قضى في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2323 المفوضة بأن لها مهر مثيلاتها، ولها الميراث؛ وعليها العدة، فاخبره معقل بن سنان الأشجعي أن هذا القضاء لك يا ابن مسعود هو قضاء النبي - صلى الله عليه وسلم - في بروع بنت واشق من جماعتنا، ففرح ابن مسعود على أن قضاءه قد وافق قضاء الرسول - صلى الله عليه وسلم -. والأمثلة على خفاء بعض الأحاديث عن بعض الصحابة كثيرة. ويقع هذا منهم، ولم يسلب ذلك منهم ملكة الاجتهاد، أو وصف الاجتهاد. الشرط الثالث: أن يكون عالِما بالمجمع عليه، والمختلف فيه. واشترط ذلك؛ لئلا يجتهد في مسألة قد أجمع العلماء على حكمها. ولا يلزم أن يحفظ جميع مواقع الإجماع، بل في كل مسألة يفتي فيها ينبغي أن يعلم أن فتواه غير مخالفة للإجماع. وأما المختلف فيها من المسائل، فلا بد للمجتهد أن يعرف المسألة، وأدلة كل فريق. ولقد كان الأئمة الأربعة ومن تبعهم يعرفون الاختلافات والمناظرات والمحاورات التي جرت بين الصحابة، ومن جاء بعدهم ممن يُعتد بقولهم؛ لذا اهتم كثير من العلماء بهذا - وهو علم الخلاف - وألفوا فيه كالمحلى لابن حزم، والذخيرة للقرافي، والحاوي للماوردي، والمغني لابن قدامة، والمجموع شرح المهذب للنووي، وبداية المجتهد لابن رشد، والمبسوط للسرخسي، وغيرها. الشرط الرابع: أن يكون عالما بعلم أصول الفقه؛ حيث إنه يجعله عالِما بأن هناك أدلة متفقا عليها كالكتاب، والسُّنَّة، والإجماع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2324 والقياس، وأن هناك أدلة مختلف فيها كالاستصحاب، والاستحسان، وقول الصحابي، والمصالح المرسلة، وسد الذرائع، والعرف، وشرع من قبلنا، وأن هناك قواعد أصولية. ويعرف أقسامها، وشروط كل دليل، وترتيبها، وفك التعارض بينها. الشرط الخامس: أن يكون عالما بالقياس، حيث إن أكثر من نصف الفقه مبني عليه، فيعرف أركانه، وشروط كل ركن، وقوادحه، ونحو ذلك مما قلناه في باب القياس، قال الإمام الشافعي: " من لم يعرف القياس فليس بفقيه "، وقال الإمام أحمد: " لا يستغني أحد عن القياس "، وعرف بعضهم الاجتهاد بأنه القياس، وهذا كله يدل على أهمية القياس. الشرط السادس: أن يكون عالما باللغة العربية وقواعدها من لغة ونحو، وبلاغة، وبديع، ومعرفة كل ما يتوقف عليه فهم الألفاظ؛ لأن القرآن والسُّنَّة وردا بلغة العرب، ولا يمكن لأي شخص أن يعرف ما تدل عليه ألفاظهما إلا بمعرفته باللغة العربية. ولا يشترط أن يتعمق في علم النحو واللغة، ومعرفة دقائق ذلك كسيبويه، أو الكسائي، أو الخليل بن أحمد، أو المبرد. وإنما ينبغي معرفة القدر الذي يفهم به خطاب العرب، وعاداتهم في الاستعمال إلى حد يفرق بين صريح الكلام، وظاهره، ومجمله، وحقيقته، ومجازه، وعامه، وخاصه، ومحكمه، ومتشابهه، ومطلقه، ومقيده، ونصه، وفحواه، ولحنه، ومعرفة أي شيء يساعد على فهم الأحكام الشرعية من الألفاظ. ويتفطن للمراد هل أريد باللفظ المعنى اللغوي له، أو العرفي، أو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2325 الشرعي بقرائن السياق، والقرائن العقلية، وحال المتكلم، والموضوع الذي قيل فيه، والغرض الذي سيق لأجله. الشرط السابع: معرفة مقاصد الشريعة بأن يفهم المجتهد مقاصد الشارع العامة من تشريع الأحكام، وأن يكون خبيراً بمصالح الناس، وأحوالهم، وأعرافهم، وعاداتهم. الشرط الثامن: أن يكون عدلاً مجتنبا للمعاصي القادحة في العدالة، وهذا الشرط يشترط لجواز الاعتماد على فتواه: فمن ليس بعدل فإنه لا تقبل فتواه، ولا يعمل بها الآخرون. أما هو في نفسه، فيجب عليه أن يعمل باجتهاده إذا توفرت فيه الشروط السابقة. سؤال: إن المجتهد الفاسق لو أظهر دليله، وكان دليلاً صالحا للاحتجاج به، فهل يجب الأخذ بقوله، والاعتماد عليه؟ جوابه: إن كان المستمع لهذه الفتوى عالِما ومدركا لصحة الدليل، ووجه دلالته على الحكم فإنه يعمل بفتوى ذلك الفاسق؛ اعتماداً على الدليل الصحيح الذي أظهره، وليس هذا اعتماداً على اجتهاد المجتهد. وإن كان المستمع لهذه الفتوى لا يعلم ولا يدرك صحة الدليل الذي أظهره ذلك المجتهد الفاسق، فإنه لا يعمل بفتواه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2326 المبحث الرابع حكم الاجتهاد إذا توفرت شروط المجتهد السابقة في شخص، فالاجتهاد في حقه يكون تارة فرض عين، وتارة فرض كفاية، وتارة مندوبا، وتارة محرما، وإليك بيان ذلك: أولاً: يكون فرض عين في حالتين هما: الحالة الأولى: اجتهاد المجتهد في حق نفسه فيما نزل به؛ لأن المجتهد لا يجوز له أن يقلد غيره في حق نفسه. الحالة الثانية: اجتهاد المجتهد في حق غيره إذا تعين عليه الحكم فيه بأن لا يوجد في العصر إلا هو، أو ضاق وقت الحادثة، فإنه يجب على الفور؛ لأن عدم الاجتهاد يقتضي تأخير البيان عن وقت الحاجة، وهذا لا يجوز. ثانيا: يكون الاجتهاد فرض كفاية عندما تنزل حادثة بأحد، فاستفتى العلماء، أو عين واحداً أو طائفة، فإن الوجوب يكون فرضا علهيم جميعاً، وأخصهم بفرضه المخصوص بالسؤال عنها، فإن أجاب واحد منهم عنها سقط الفرض عن جميعهم، وإن أمسكوا مع ظهور الصواب لهم أثموا، وإن أمسكوا مع التباسه عليهم عذروا. ثالثا: يكون الاجتهاد مندوبا إليه في حالتين هما: الحالة الأولى: أن يجتهد العالم قبل نزول الحادثة ليسبق إلى معرفة حكمها قبل وقوعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2327 الحالة الثانية: أن يستفتيه سائل عن حكم حادثة قبل نزولها. رابعا: يكون الاجتهاد محرما في حالتين هما: الحالة الأولى: أن يقع الاجتهاد في مقابلة دليل قاطع من نص أو إجماع. الحالة الثانية: أن يقع ممن لم تتوفر فيه شروط المجتهد فيما يجتهد فيه؛ لأن نظره لا يوصله إلى الحق، فيفضي إلى الضلال، والقول في دين اللَّه بغير علم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2328 المبحث الخامس هل يقبل اجتهاد شخص في مسألة معينة إذا عرف دقائقها دون المسائل الأخرى في نفس الباب؟ وهي مسألة " تجزؤ الاجتهاد " لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين. المذهب الأول: أنه يقبل اجتهاده فيها، أي: أنه يجوز تجزؤ الاجتهاد. فالشخص العارف لمسألة معينة وأدلتها، وطرق النظر فيها، وما يئعلق بها، فإنه يجوز أن يجتهد فيها، ويعمل باجتهاده. وهو مذهب جمهور العلماء. فمثلاً لو أحاط بمسألة المشركة - وهي: زوج، وذات سدس، وأخوة لأم، وأخوة أشقاء، فعرف كل ما يتصل وما يتعلق بها من معرفة علم الفرائض، وأركانه، وشروطه، ثم اجتهد فيها فإنه يقبل اجتهاده ويعمل به، وإن كان جاهلاً بأي مسألة أخرى كان يكون جاهلاً بمسألة المفوضة، أو الجد والإخوة. وهذا هو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أنه لو كان العلم في جميع مسائل الفقه شرطا لبلوغ درجة الاجتهاد وشرطا لقبوله منه: لكان توقف بعض الصحابة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2329 - رضي اللَّه عنهم - وبعض الأئمة عن الفتيا في بعض المسائل وعدم قدرتهم على ذلك مخرجا لهم عن الاجتهاد. ولكن الأمر ليس كذلك؛ حيث توقف بعض الصحابة عن الفتوى في بعض المسائل، ومع ذلك لم يزل عنه وصف الاجتهاد، وكذلك سبق أن بيَّنا أن الإمام أبا حنيفة، ومالكا، والشافعي، وأحمد كانوا يكثرون من قولهم: " لا أدري "، ولم يكن ذلك مخرجا لهم عن درجة الاجتهاد، بل كانوا يجتهدون في المسائل الأخرى فيقبل اجتهادهم فيها. الدليل الثاني: أن بعض مسائل الفقه لا صلة لها بالمسألة الأخرى، فالغفلة غن المسائل الأخرى لا تضره. فمثلاً: لا صلة لمسالة " المشركة " فى مسألة " الجد والإخوة "، فيتم اجتهاد المجتهد في مسألة المشركة بلا نقصان، فيقبل اجتهاده فيها. وكذلك من عرف مسألة " قتل المسلم بالذمي " وما ورد فيها من الآيات والأحاديث والآثار وأقوال السلف والخلف فيها، فإنه يقبل اجتهاده فيها، ولا يضره عدم معرفته بمسألة " قتل الحر بالعبد " وهكذا؛ لأن الاجتهاد تام. المذهب الثاني: أنه لا يقبل اجتهاده فيها، أي: لا يجوز تجزؤ الاجتهاد ... وهو مذهب بعض الحنفية كملا خسرو، والفناري، وبعض الشافعية كالشوكاني. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: إن لم يحط بأدلة جميع مسائل الفقه لا يحصل له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2330 عند البحث عن حكم مسألة ظن عدم المانع؛ لإمكان وجود ما يتصل بموضوعه في موضع آخر لم يطلع عليه وينظر فيه، ومن لا يحصل له ذلك الظن لا يتمكن من استخراج الحكم، إذن: لا يعتبر عمله اجتهاداً شرعياً يصح أن يؤخذ به. جوابه: لما قلنا بقبول اجتهاد ذلك الشخص بمسألة معينة قد عرف دقائقها لم نقل ذلك مطلقاً، بل اشترطنا: أن يغلب على ظنه أنه قد أحاط بجميع ما يتعلَّق بتلك المسألة من أدلة، أما الاحتمالات التي لا دليل عليها فلا تؤثر على اجتهاده. الدليل الثاني: أنه لو جاز تجزئة الاجتهاد للزم أن يقال: نصف مجتهد، أو ثلثه، أو ربعه، ولم يقل بذلك أحد. جوابه: لا يلزم ذلك ولا يُسمَّى بنصف أو ثلث مجتهد، بل يسمى مجتهداً في ذلك البعض، وهو اجتهاد تام فيما اجتهد فيه، وإن كان قاصراً بالنظر إلى من فوقه من المجتهدين. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الثاني، فإن المجتهد قسم واحد وهو: المجتهد العام العارف لكل مسألة من مسائل الفقه بأدلتها غالباً، فلا يعتد بقول غيره من المجتهدين الذين يختصون بمعرفة مسائل معينة. أما بناء على المذهب الأول فإن المجتهد قسمان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2331 القسم الأول: مجتهد خاص وهو: الشخص الذي يجتهد بمسألة معينة، وقد سبق بيان ذلك. القسم الثاني: مجتهد عام، وهو: العارف لغالب مسائل الفقه بأدلتها. وكل واحد منهما يقبل اجتهاده، ويُعتد به، ولا فرق بينهما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2332 المبحث السادس هل يجوز الاجتهاد في زمان - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد - اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز الاجتهاد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقا. وهو مذهب أكثر المحققين من العلماء كالغزالي، والآمدي، وفخر الدين الرازي، ومحمد بن الحسن، والقاضي أبي بكر الباقلاني، وهو الحق عندي لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن - صلى الله عليه وسلم - قد جاءه خصمان يختصمان فقال - صلى الله عليه وسلم - لعمرو بن العاص: " اقض بينهما يا عمرو "، فقال عمرو: أنت أوْلى مني يا رسول اللَّه، قال: " وإن كان "، قال عمرو: فإن قضيت، بينهما فما لي؟ قال: " إن أنت قضيت بينهما فأصبت القضاء فلك عشر حسنات، وإن أنت اجتهدت فأخطأت فلك حسنة " وهذا صريح في جواز الاجتهاد في زمنه - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الثاني: أن - صلى الله عليه وسلم - قال لعقبة بن عامر ولرجل من الصحابة: " اجتهدا فإن أصبتما فلكما عشر حسنات، وإن أخطأتما فلكما حسنة "، وهو في معنى الدليل الأول. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فوض الحكم في بني قريظة إلى سعد بن معاذ؛ حيث رضوا بحكمه، فحكم سعد فيهم برأيه واجتهاده، فقال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - له: " لقد حكمت بحكم اللَّه فوق سبعة أرقعة ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2333 وجه اجتهاد سعد - رضي اللَّه عنه - فيهم هو: أحد أمرين: إما أنه قاسهم على المحاربين الذين قال اللَّه تعالى فيهم: (إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) ، والجامع: الفساد في كل؛ وذلك لموالاتهم قريشاً في وقعة الأحزاب، ونقضهم عهدهم. وإما أنه قاسهم على الأسرى الذين عوتبوا على فدائهم، وتبين أن قتلهم كان هو الحكم. وهذا يدل على وقوع الاجتهاد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم -، والوقوع دليل الجواز مطلقاً. الدليل الرابع: أن بعض الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يروي عن البعض الآخر الأخبار، والأحكام، والناسخ والمنسوخ، وكانوا يقبلون ذلك، ويعملون به، دون مراجعة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو بينهم، فكذلك يجوز لهم الاجتهاد في زمانه - صلى الله عليه وسلم - دون مراجعته، ولا فرق. الدليل الخامس: أنه لا يلزم من فرض اجتهاد الصحابة في زمانه - صلى الله عليه وسلم - محال، ولا يؤدي إلى مفسدة، وما كان كذلك فهو جائز، فيكون الاجتهاد في زمانه - صلى الله عليه وسلم - جائزاً. المذهب الثاني: أنه لا يجوز الاجتهاد في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم. وهو مذهب بعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن كثيراً من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد رجعوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسألونه عن حكم وقائع قد حصلت لهم، ولو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2334 كان الاجتهاد في زمانه - صلى الله عليه وسلم - جائزاً: لاجتهدوا واستنبطوا أحكام حوادثهم بأنفسهم، ورجوعهم إليه دلَّ على أن الرجوع واجب، فالاجتهاد حرام. جوابه: إن رجوعهم إلى - صلى الله عليه وسلم - في بعض الأمور لا يدل على منعهم من الاجتهاد بالكلية، أو أنه حرام، بل رجوعهم إليه يحتمل عدة احتمالات هي: الأول: أنه يحتمل أنهم رجعوا إليه فيما لم يظهر لهم فيه وجه الحكم بالاجتهاد. الثاني: أنه يحتمل أنهم مخيرون بين الرجوع إليه، وبين الاجتهاد، فاختاروا الرجوع إليه. الثالث: أنه يحتمل أن الذي رجع إليه لم تتوفر فيه شروط المجتهد. وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. الدليل الثاني: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - يمكنهم معرفة الحكم عن طريق الوحي الصريح القاطع بالحكم، وإذا كان يمكنهم معرفة الحكم معرفة قطعية، فلا يجوز ردهم إلى الاجتهاد المفيد للظن. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن هذا الدليل منقوض بما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه قد تعبَّد بالقضاء بقول الشهود، والحكم بظاهر أقوالهم حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: "إنكم لتختصمون إلي ولكل بعضكم يكون ألحن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2335 بحجته من بعض، وإنما أقضي بنحو ما أسمع "، فهنا يقضي الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالظن، وكان يمكن نزول الوحي، ويبين الحق صريحا وواضحا وقطعياً في كل واقعة حتى لا يحتاج إلى رجم بالظن، وخوف الخطأ. الجواب الثاني: أنه إذا نزل الوحي بالنص، وثبت فإنا نحكم به، ولكن إذا لم ينزل نص، فإنه يجوز الاجتهاد؛ لأن هذا الاجتهاد لا يضاد نصاً قاطعاً ثابتا. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول يجوز الاجتهاد بين مياه تنجس بعضها، وهو على شاطئ البحر. أما بناء على المذهب الثاني فلا يجوز ذلك. ويجوز - أيضاً - الاجتهاد في أوقات الصلاة مع إمكان الصبر إلى اليقين. أما بناء على المذهب الثاني فلا يجوز ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2336 المبحث السابع هل يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد؟ أولاً: اتفق العلماء على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور الدنيوية، ومنها أمور الحرب، بدليل وقوعه منه - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث صالح غطفان مقابل ثمار المدينة، ولم تتم هذه المصالحة بسبب مخالفة رؤساء أهل المدينة، ووقوعه في تأبير النخل - بعد قدومه المدينة. ثانياً: اتفق العلماء - أيضا - على جواز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - في تحقيق مناط الحكم، ومنه الأقضية، وفضل الخصومات، ونحو ذلك. ثالثاً: اختلف العلماء في جواز اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - في غير ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو قول جمهور العلماء، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: عموم قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) حيث إن اللَّه قد أمر أهل البصائر أن يعتبروا ويقيسوا الأشياء بما يماثلها - كما سبق بيان ذلك في باب القياس - وهو عام وشامل لجميع أهل البصائر، ورسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - أعلى أهل البصائر، وأرفعهم منزلة، فكان بالاعتبار أولى. الدليل الثاني: قياس نبينا - صلى الله عليه وسلم - على داود وسليمان عليهما السلام. بيانه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2337 أنه لما اعتدت غنم قوم على زرع آخرين، ذهب صاحب الزرع وصاحب الغنم يتخاصمان إلى داود - عليه السلام - ليحكم بينهما، فحكم بينهما بحكم، وخالفه فيه سليمان - عليه السلام - وحكم - أي: سليمان - بحكم آخر، فكان حكمهما بالاجتهاد، بدليل: أن سليمان لو لم يحكم بالاجتهاد لما قال تعالى: (ففهمناهما سليمان) ، وما يذكر بالتفهيم إنما يكون بالاجتهاد، لا بطريق الوحي. وإذا جاز لداود وسليمان - عليهما السلام - الاجتهاد، فإنه يجوز الاجتهاد لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا فرق، والجامع: النبوة في كل. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يشارك أُمَّته فيما لم يرد فيه تخصيص له، أو تخصيص لهم - كما سبق بيانه -، والاجتهاد قد أمرت أُمَّته به لإيجاد أحكام شرعية للحوادث المتجددة، لكي تكون الشريعة صالحة لكل زمان ومكان، فهو يشارك أُمَّته في الاجتهاد، فيجوز له - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد مثل غيره، وليس في العقل ما يحيله في حقه ويصححه في حقنا، ولهذا أوجب عليه وعلينا العمل باجتهادنا في مضار الدنيا ومنافعها. الدليل الرابع: أنه لا يلزم من فرض تعبده - صلى الله عليه وسلم - بالاجتهاد محال عقلاً، ولا يؤدي إلى مفسدة، وكل ما كان كذلك كان جائزأ عقلاً، فتعبده بالاجتهاد جائز عقلاً. الدليل الخامس: وقوع الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يكن متعبدا بالاجتهاد لما وقع منه، فقد اجتهد في حوادث شتى، منها: اجتهاده في أسرى بدر، حيث أخذ الفداء مقابل إطلاق الأسرى، وهذا بالاجتهاد، وستأتي أمثلة على ذلك في المسألة التالية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2338 المذهب الثاني: لا يجوز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب بعض الشافعية، وحكي عن أبي منصور الماتريدي من الحنفية، وهو ظاهر مذهب ابن حزم، واختاره أبو علي وابنه أبو هاشم. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قادر على معرفة الحكم بالوحي الذي يفيد العلم قطعا وصريحا، وكل من كان قادراً على العلم القطعي لا يجوز له العمل بالظن، فلا يجوز للنبي - صلى الله عليه وسلم - العمل بالظن الحاصل بالاجتهاد، فلا يجوز له الاجتهاد. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان قادراً على معرفة الحكم بالوحي؛ لأن الوحي ليس في اختياره ينزل عليه متى شاء، ولذلك قد يضطر إلى الاجتهاد في الأمور التي لا تقبل التأجيل. الدليل الثاني: إنه ثبت - فيما سبق في حجية السُّنَّة -: أن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - نص قاطع، وحُجة قاطعة على من سمعه شفاها أو بلغه عن طريق التواتر، والاجتهاد لا يفيد إلا الظن. فهنا حصل تضاد بين قوله - صلى الله عليه وسلم -، حيث قلنا بإفادته القطع، وبين اجتهاده حيث إنه لا يفيد إلا الظن، فالقطع غير الظن فكيف يجتمعان؟! جوابه: أنه لو قيل له: إن ظنك علامة على حكم اللَّه - تعالى - فيكون قد استيقن الظن والحكم معاً، فلا تنافي بين معرفته الحكم بالوحي، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2339 ومعرفته إياه بالاجتهاد؛ لأنه - صلى الله عليه وسلم - لما ظن الحكم بالاجتهاد فإنه يقطع بكونه حكم اللَّه في الحادثة. الدليل الثالث: لو جاز الاجتهاد للرسول - صلى الله عليه وسلم -: لأجاب عن كل واقعة سئل عنها، ولما انتظر الوحي؛ لأن الاجتهاد هو الوسيلة لمعرفة الحكم فيما لا قاطع فيه، لكنه - صلى الله عليه وسلم - توقف في اللعان والظهار، وانتظر الوحي، فهذا يدل على عدم جواز القياس. جوابه: إن توقف - صلى الله عليه وسلم - عن الاجتهاد في بعض الوقائع والحوادث وانتظاره للوحي لا يلزم منه عدم تعبده بالاجتهاد في جميع الحوادث؛ لأنا لا نقول: إن الرسول - صلى الله عليه وسلم - يجتهد حال حدوث الحادثة، بل كان ينتظر الوحي، فإذا لم ينزل عليه وحي وخشي الفوات اجتهد. وعلى هذا، فإنه يحتمل أن يكون تأخره بسبب السعة في الوقت. ويحتمل أن يكون بسبب أنه لم ينقدح في ذهنه اجتهاد الآن. ويحتمل أن يكون بسبب توقفه؛ حيث إن بعض المسائل لا تقبل الاجتهاد، أو هي مما نهي فيه عن الاجتهاد. الدليل الرابع: قوله تعالى: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إن هو إلا وحي يوحى) . وجه الدلالة: أن هذه الآية بينت أن كل ما ينطق به النبي - صلى الله عليه وسلم - وحي، وإذا كان الأمر كذلك، فلا يبقى للاجتهاد مجال، ولكان الاجتهاد في حقه نطقاً عن الهوى المنفي عنه بالآية الكريمة، فالضمير في قوله تعالى: (إن هو) يرجع إلى النطق المذكور في الآية في ضمن قوله: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) وهو عام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2340 جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: لا نُسَلِّمُ عموم الآية، بل إن الآية وردت لرد ما كان يقوله الكفار بأن ما يأتي به - صلى الله عليه وسلم - من القرآن ليس وحيا من عند اللَّه، بل هو افتراء منه على اللَّه - تعالى - فالضمير في قوله تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى) يرجع إلى القرآن، فيكون تقدير الآية كذا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ينطق فيما ينطق به من القرآن من هوى نفسه، ما القرآن إلا وحي يوحى إليه من اللَّه تعالى، فعلى هذا تنفي الآية: أن يتكلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بغير القرآن، ولا تمنع الآية من ذلك. الجواب الثاني: سلمنا أن الآية عامة في جميع ما نطق به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من القرآن وغيره، إلا أن ذلك لا ينفي اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -؛ لأنه لو كان متعبداً بالاجتهاد بواسطة الوحي لما كان اجتهاده نطقا عن الهوى، بل كان بالوحي، وما حكم به باجتهاده إما صواب من أول الأمر، أو يحتمل الخطأ في بادئ أمره، لكن اللَّه تعالى يرشده إلى الصواب، أو يقره عليه، فلا يحتمل غير الحق. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه بجوز بناء على المذهب الأول أن يكتفي المجتهد بالاستدلال على حكم مسألة بدليل ظني مع أنه قادر على الاستدلال عليه بدليل قطعي. كما يجوز على هذا المذهب الاجتهاد في أوقات الصلاة والقِبْلة مع إمكان الصبر إلى اليقين. أما بناء على المذهب الثاني فلا يجوز كل ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2341 المبحث الثامن هل وقع الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الأول في المبحث السابع - وهم القائلون: يجوز الاجتهاد للنبي - صلى الله عليه وسلم - - فيما بينهم هل وقع الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم - أو لا؟ على مذهبين: المذهب الأول: أن الاجتهاد وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب بعض الحنفية، وكثير من المالكية ومنهم ابن الحاجب، وكثير من الشافعية ومنهم: الآمدي، وفخر الدين الرازي، وكثير من الحنابلة ومنهم: أبو الخطاب، وابن قدامة، وهو الحق عندي؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن - صلى الله عليه وسلم - قد استشار أبا بكر وعمر - رضي الله عنهما - في الأسرى يوم بدر، فأخذ برأي أبي بكر، حيث وافق رأيه رأي النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ الفداء مقابل إطلاق سراح الأسرى، فعاتبه الله تعالى بقوله: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) ، فحزن النبي - صلى الله عليه وسلم - بعد نزول هاتين الآيتين. فلو لم يكن الرسول لمجييه قد وقع منه الاجتهاد وعمل به لما عوتب، لأنه لا عتاب على العمل بالوحي. الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما أعلن فرضية الحج سأله الأقرع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2342 ابن حابس - رضي اللَّه عنه -: لعامنا هذا أم للأبد؛ فقال - صلى الله عليه وسلم -: "هو للأبد، ولو قلت لعامنا لوجب ". وجه الدلالة: أنه لو لم يكن للرسول - صلى الله عليه وسلم - الاختيار لما قال ما قال، وكون الاختيار له - صلى الله عليه وسلم - في أن يقول: " نعم " ظاهره الاختيار بالاجتهاد، أي: له الحق في أن يقول ذلك بالاجتهاد. الدليل الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أراد أن ينزل ببدر دون الماء، قال له الحباب بن المنذر: إن كان هذا بوحي فنعم، وإن كان الرأي والمكيدة فأنزل بالناس دون الماء، لنحول بينه وبين العدو، فقال لهم: ليس بوحي، وإنما هو رأي واجتهاد، ورجع إلى قوله، ورحل وذهب إلى الموضع الذي أشار به الحباب، فهذا صريح في وقوع الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الرابع: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قال بشأن مكة: " لا يختلى خلاها، ولا يعتضد شجرها ... " قال له العباس: إلا الإذخر فإنه لقبورنا وبيوتنا، فقال عليه السلام: " إلا الإذخر ". فلم يقبل الرسول - صلى الله عليه وسلم - قول العباس الطالب للتخفيف إلا بالاجتهاد ومعلوم أن الوحي لم ينزل عليه في تلك الحالة، فكان الاستثناء بالاجتهاد. اعتراض على هذا: قال قائل - معترضا -: إن هذا الدليل يحتمل احتمالات هي: الأول: أنه يحتمل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان مأموراً بالوحي بالاستثناء عندما يسأله العباس. الثاني: أنه يحتمل أن جبريل - عليه السلام - كان حاضراً، فأشار إليه بقبول طلب العباس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2343 الثالث: أنه يحتمل أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يريد أن يستثني الإذخر فسبقه العباس. وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول عام لجميع الاحتمالات وهو: أن هذه الاحتمالات مجرد تصورات لا دليل عليها، وما لا دليل عليه لا يعتد به. الجواب الثاني خاص في الاحتمال الثالث - وهو: كون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يريد استثناء الإذخر فسبقه العباس - وهو: أنا لا نسلم ذلك؛ لأن المستثنى لا يجوز تأخيره عن المستثنى منه، حذراً من التلبيس، وقد انتقل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الجملة التي تفيد حرمة قطع الإذخر من غير أن يستثني إلى أخرى وهي: " ولا تحل ساقطتها إلا لمنشد، ومن قتل قتيلاً فهو بخير النظرين ... " وحين ذاك قال العباس ما قال. المذهب الثاني: أن الاجتهاد لم يقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وكثير من المتكلمين. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه لو وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم - الاجتهاد لاستفاض نقله؛ لكونه حادثاً غريبا بالنسبة له - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لم ينقل إلينا فلم يقع منه - صلى الله عليه وسلم -. جوابه: أن الاجتهاد وقع منه - صلى الله عليه وسلم -، واستفاض، ونقل إلينا بطرق مختلفة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2344 تكفي لإثبات أن - صلى الله عليه وسلم - اجتهد في أمور، وقد سبقت الأمثلة على ذلك، ولا يلزم عدم اطلاع بعض الناس عليها أنه لم يقع. الدليل الثاني: أنه لو وقع الاجتهاد من النبي - صلى الله عليه وسلم - للزم من ذلك اختلاف اجتهاداته - كعادة المجتهدين - ولو اختلفت اجتهادات النبي - صلى الله عليه وسلم - لاختلفت أحكامه التي يصدرها فيتهم بسبب ذلك بتغير رأيه، وبوضع الشريعة، لكنه لم تتغير أحكامه، ولم يتهم بذلك، فينتج أن لم يقع منه الاجتهاد. جوابه: أن اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم - ليس مثل اجتهادات غيره تتغير وتتبدل في قضايا متشابهة، بحيث يوجه إليه هذه التهمة، وعندما أخطأ في بعض اجتهاداته مما يكون سببا في تغيير نتائجها: نزل الوحي لتصحيح هذا الخطأ، فمنع السبب في توجيه تلك التهمة إليه - صلى الله عليه وسلم -، وبذلك يكون مجتهداً من غير أن يصدر منه ما يوجب هذا الاتهام، فلا يتخذ عدم توجيه هذه التهمة إليه ذريعة لإنكار اجتهاده. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لاتفاق أصحاب المذهبين على جواز اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -، وكونه وقع منه ذلك الاجتهاد أو لم يقع، فإنه لا يغير من المعنى والحكم شيئاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2345 المبحث التاسع هل يجوز الخطأ في اجتهاد - صلى الله عليه وسلم -؟ لقد اختلف أصحاب المذهب الأول - وهم القائلون: إن الاجتهاد وقع منه - صلى الله عليه وسلم - في جواز الخطأ في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -. المذهب الأول: أنه يجوز الخطأ في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: قوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ) . وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما أذن للذين تخلفوا عن غزوة تبوك: بين اللَّه تعالى في هذه الآية خطأه في ذلك. الدليل الثاني: قوله تعالى: (ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض) . وجه الدلالة: أن - صلى الله عليه وسلم - لما أخذ المال عوضا عن أسرى بدر: بين اللَّه تعالى له أنه أخطأ بترك قتل هؤلاء الأسرى، حتى قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لو نزل من السماء عذاب لما نجا منه إلا عمر "، وذلك لأن عمر بن الخطاب قد أشار بقتل الأسرى. الدليل الثالث: قوله عليه الصلاة والسلام: " إنما أحكم بالظاهر وإنكم لتختصمون إليَّ، ولعل أحدكم يكون ألحن بحجته من بعض، فمن قضيت له بشيء من مال أخيه، فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2346 وجه الدلالة: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بين هنا أنه يقضي بما لا يكون حقا في نفس الأمر، وهذا يدل على أنه يقع منه الخطأ في اجتهاده. المذهب الثاني: أنه لا يجوز الخطأ في اجتهاده - صلى الله عليه وسلم - وهو مذهب بعض الشافعية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) . وجه الدلالة: أن اللَّه - تعالى - قد أمرنا - هنا - باتباع حكم الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فلو جاز عليه الخطأ في حكمه لكنا قد أمرنا باتباع الخطأ، والشارع لا يمكن أن يأمر بذلك. جوابه: هذا منقوض بأن اللَّه - تعالى - قد أمر العامي باتباع قول المجتهد والمفتي مع جواز خطئه، فلو كان ما ذكروه صحيحا للزم من ذلك: أن اللَّه تعالى أمر باتباع الخطأ، وهذا لا يقوله أحد. الدليل الثاني: أن المقصود من البعثة وإظهار المعجزة: اتباع الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الأحكام الشرعية؛ إقامة لمصالح الخلق، فلو جاز الخطأ على النبي - صلى الله عليه وسلم - في حكمه.: للزم من ذلك التردد في قوله، والشك في حكمه، وذلك مما يخل بمقصود البعثة، وهذا محال. جوابه: إن المقصود من البعثة إنما هو تبليغه عن اللَّه - تعالى -: أوامره، ونواهيه، والمقصود من إظهار المعجزة: إظهار صدقه فيما يقوله من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2347 الرسالة، والتبليغ عن اللَّه تعالى، وذلك مما لا يتصور خطأه فيه بالإجماع. بخلاف ما يحكم به عن اجتهاده، فإنه لا يقول فيه عن وحي، ولا بطريق التبليغ، بل حكمه فيه حكم غيره من المجتهدين، فتطرق الخطأ إليه في ذلك لا يوجب الإخلال بمعنى البعثة. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي؛ لأن ما حكم به باجتهاده - صلى الله عليه وسلم - إما أن يكون صوابا من أول الأمر، أو يحتمل الخطأ في بادئ الأمر، لكن الله تعالى يرشده إلى الصواب، فهو صواب في نهاية الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2348 المبحث العاشر هل كل مجتهد مصيب في الفروع أو المصيب واحد؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المصيب واحد من المجتهدين. وأصحاب هذا المذهب يُسمون بالمخطئة؛ حيث إنهم يرون: أن لله تعالى في كل حادثة حكما معينا، أصاب الحق من أصابه، وأخطأه من أخطأه. فمثلاً: إذا حدثت حادثة في الفروع، ولم يوجد دليل قاطع في حكمها من نص، أو إجماع: فإنا نعلم أن لله تعالى فيها حكما شرعيا معينا، فيطلب المجتهدون ذلك الحكم بشتى أنواع الاجتهاد: فمن أدركه كان مصيبا، ومن لم يدركه كان مخطئا لا إثم عليه، ولا يقطع بخطأ واحد بعينه من المجتهدين، ولا يقطع بإصابة واحد بعينه. وهذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: إجماع الصحابة السكوتي، بيانه: أنه انتشرت عن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وقائع ومسائل خطأ بعضهم بعضاً فيها، وصرخوا بلفظ الخطأ والإنكار، فلو كان كل مجتهد في ذلك مصيبا لم يخطئ بعضهم بعضا، بل كان يقول بعضهم لبعض: " أنا مصيب وأنت مصيب ". وإليك بعض الأمثلة على ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2349 1 - قول أبي بكر رضي اللَّه عنه - لما سئل عن الكلالة -: "أقول فيها برأيى، فإن كان صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمني، وأستغفر اللَّه، والله ورسوله بريئان منه، الكلالة: ما عدا الوالد والولد ". 2 - قول عمر - رضي اللَّه عنه - في قضية قضاها -: " والله ما يدري عمر أصاب أم أخطأ ". 3 - أنه لما كتب كاتب لعمر: " هذا رأي اللَّه ورأي عمر " قال له عمر: " بئس ما قلت: اكتب: هذا مارآه عمر، فإن يكن صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمن عمر ". 4 - قول ابن مسعود - رضي اللَّه عنه - لما سئل عن المفوضة: هل لها مهر؛ -: أقول فيها برأيى فإن كان صوابا فمن اللَّه، وإن كان خطأ فمن الشيطان: للمرأة مهر مثيلاتها ... ". ففي هذه الأمثلة الأربعة قد بين كل من أبي بكر، وعمر، وابن مسعود أن الحق واحد قد يصيبه بعض المجتهدين، وأن غيره خطأ. 5 - أن عمر أرسل إلى امرأة فأفزعها فأجهضت، فاستشار عثمان ابن عفان، وعبد الرحمن بن عوف فقالا: " لا شيء عليك إنما أنت مؤدب "، وكان عليّ في القوم ساكتا، فقال عمر: عزمت عليك يا أبا الحسن لتخبرني، فقال عليّ: " إن كانا قد اجتهدا فقد أخطئا، وإن كانا ما اجتهدا فقد غشاك: عليك الدية "، فقبل قوله، ولم ينكر عليه عمر تخطئة عثمان وعبد الرحمن. 6 - أنه لما ورَّث زيد بن ثابت الإخوة مع الجد اعترض عليه ابن عباس - رضي اللَّه عنهم - فقال: " ألا يتقي اللَّه زيد، يجعل ابن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2350 الابن ابنا، ولا يجعل أب الأب أبا "، فلو كان كل مجتهد مصيبا لما أنكر على زيد، ولقال هو: هو مصيب، وأنا مصيب. فهذه الأمثلة والصور وإن لم تتواتر آحادها إلا أنه بمجموعها تفيد حصول التواتر عن طريق المعنى على أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد اتفقوا على أن الحق واحد يصيبه بعض المجتهدين ويخطئه آخرون. ما اعترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: أن إنكار بعضهم على بعض لا يدل على أن الحق واحد، وأن بعض المجتهدين يصيبه، والبعض الآخر قد يخطئه، بل إن الواحد قد نسب الخطأ إلى الآخر في اجتهاده؛ نظراً لأن الصحابي المخطئ لم يبلغ درجة الاجتهاد، لذلك أنكر عليه. جوابه: أن هذا الاعتراض ظاهر البطلان؛ لأن الصحابة الذين قد اتهموا بالخطأ في الاجتهاد، أو اتهموا أنفسهم: هم من كبار الصحابة المجتهدين كأبي بكر، وعمر، وابن مسعود، وابن عباس، وعثمان، وعبد الرحمن بن عوف، وعلي، كما سبق في الأمثلة، فإن كان هؤلاء لم يبلغوا درجة الاجتهاد وليسوا أهلاً له، فمن الذي بلغ درجة الاجتهاد في نظر هذا المعترض؟! الاعتراض الثاني: أن الواحد قد نسب الخطأ إلى الآخر في اجتهاده؛ نظراً لأن الصحابي المخطئ قد بلغ درجة الاجتهاد لكنه قد قصر في الاجتهاد، ولم يبذل قصارى جهده للوصول إلى الحق. جوابه: إن هذا ظاهر الفساد - أيضا -؛ لأنه سوء ظن في الصحابة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2351 - رضي اللَّه عنهم -، وأنهم فرَّطوا، وقصروا في النظر، وأفتوا بالخطأ مع استطاعتهم على الوصول إلى الصواب، وهذا فيه حكم بالجهل، وحكم بالهوى والتشهي المجرد، وهذا لا يمكن في صحابة قد اختارهم اللَّه لصحبة نبيه لمجيم، وعدَّلهم اللَّه ورسوله، وبذلوا النفس والنفيس لأجل إعلاء كلمة اللَّه، ونصرة دينه. فهذا الاعتراض يدل على أن قائله جاهل بأحوال الصحابة وما هم عليه من التقوى والورع والزهد، وأنهم يتدافعون الفتوى، ولا يفتي أحدهم إلا بعد التروي والمكث الطويل، ومن كان جاهلاً بهذه الأحوال عن الصحابة، فلا يعتد بقوله. الدليل الثاني: قوله تعالى: (ففهمناها سليمان وكلاً آتينا حكما وعلما) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى قد بين أن المصيب واحد، وأن الحق في قوله، وهو سليمان - عليه السلام - فخصصه بفهم الحق في تلك الواقعة، وهذا يدل على عدم فهم داود - عليه السلام - له، فلو كانا مصيبين معاً في الحكم لم يكن سليمان مختصا بفهمها. أي: لو استوى داود وسليمان - عليهما السلام - في إصابة الحكم لما كان تخصيص سليمان بالفهم مقيدا. وهذه الآية تدل - أيضا - على أن الإثم محطوط عن المجتهد المخطئ؛ لأن اللَّه تعالى مدح كلًّا من داود وسليمان فى آخر الآية السابقة. ما افترض به على هذا الدليل: الاعتراض الأول: معروف أنه لا يجوز الخطأ على الأنبياء - عليهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2352 السلام - فكيف تجوز نسبة الخطأ إلى داود - عليه السلام - وهو نبي من الأنبياء؟ جوابها: لقد قلنا - فيما سبق -: إنه يجوز الخطأ في اجتهاد النبي - صلى الله عليه وسلم -، لكنه لا يقر عليه، وهو مذهب الجمهور، وقد ذكرت عدة أدلة على ذلك، وإذا جاز الخطأ إلى اجتهاده - صلى الله عليه وسلم -، فإنه يجوز الخطأ في اجتهاد بقية الأنبياء ولا فرق. الاعتراض الثاني: أنه لا يوجد دليل يدل على أن داود قد حكم باجتهاده، ثم نسب إليه الخطأ، بل قد يكون داود قد حكم بنص، ثم نسخ ذلك النص، فعلم سليمان بذلك النسخ، ولم يعلم داود فحكم فاصاب. جوابه: إن ظاهر الآية قد دلَّ على أن داود قد حكم بالاجتهاد؛ حيث قال تعالى: (ففهمناها) ، وإنما يوصف بالفهم من سمع الشيء المشتبه ففهمه بفكره عن طريق أمارات ودلائل ظهرت له. فلو حكم داود بالنص - كما زعم المعترض -: لما اختص سليمان بالفهم دونه؛ لأنهما لا يختلفان في ذلك؛ حيث إن من أخبر بالحكم، ولم يخبر به غيره: لا يقال: فهم دون غيره، وإنما يقال: سمع وأخبر، دون غيره. الاعتراض الثالث: أنه لو كان داود مخطئا في الحكم فإنه لا يمدح، بل يذم، ولكن اللَّه تعالى قد مدحه، فوصفه بأنه قد أوتي حكما وعلما، فثبت أن اجتهاده كان صوابا وعلما. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2353 جوابه: أن اللَّه تعالى لما قال: (وكلا آتيناه حكما وعلما) ، فإنه عمم ذلك، فلم يقل: إنه آتاه حكماً وعلما في هذه القضية، والحكومة، فيحتمل: أنه أتاه في غيرها. أو يكون " كلاً آتيناه حكماً وعلما " بوجود الاجتهاد، وطرق الأحكام، ثم إن أحدهما فهم هذه الحكومة، والآخر لم يفهمها. الدليل الثالث: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر ". وجه الدلالة: أن هذا صريح في أنه المجتهد يصيب ويخطئ، ويؤجر المخطئ بأجر وثواب أقل من أجر المجتهد المصيب، فدل هذا على أن الحق واحد يصيبه المجتهد تارة، ويخطئه أخرى. الدليل الرابع: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إنما أحكم بالظاهر، وإنكم لتختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته منْ بعض، وإنما أقضي على نحو ما أسمع، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه، فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار ". هذا الحديث يدل على أن المصيب واحد، وغير مخطئ من وجوه: الوجه الأول: أنه لو كان ما قضي به الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الحكم عند الله - تعالى -: لما اختلف باختلاف لحن المتخاصمين، أو تساويهما في ذلك. الوجه الثاني: أنه لو كان ما قضى به النبي - صلى الله عليه وسلم - هو مصيب فيه، وأنه حكم اللَّه - تعالى -: لما قال: " قضيت له بشيء من حق أخيه "، ولما قال: " إنما أقطع له قطعة من النار "، حيث إنا نفهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2354 من ظاهر هاتين العبارتين أنه - صلى الله عليه وسلم - يمكن منه الخطأ، فيعطي حق هذا لذاك، ولكنه لا يأثم في هذا الخطأ. الوجه الثالث: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - بيَّن أنه يقضي للإنسان بحق أخيه عن طريق الخطأ؛ لأنه يقضي بالظاهر، وقد يكون الظاهر خلاف الواقع، ولو كان المخطى في الاجتهاد يأثم لما فعله النبي - صلى الله عليه وسلم -. الدليل الخامس: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان إذا بعث جيشا أوصاهم بقوله: " إذا حاصرتم حصنا، أو مدينة، فطلبوا منكم أن تنزلوهم على حكم اللَّه فلا تنزلوهم على حكم اللَّه، فإنكم لا تدرون ما يحكم الله فيهم.. ". وجه الدلالة: أن هذا يدل على أن لله تعالى حكما في الحادثة، وأن هذا الحكم ليس هو ما يؤدي إليه الاجتهاد قطعا ويقينا. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إنه نهى عن ذلك؛ مخافة أن يحكموا فينزل اللَّه - تعالى - حكما غير ذلك الذي حكموا به. جوابه: أن هذا الكلام من المعترض يدل على أن لله حكما قد يدركه المجتهد، وقد يخطئه. الدليل السادس: أنه لو صح تصويب كل واحد من المجتهدين: لجاز لكل واحد من المجتهدين في القِبْلة أن يقتدي كل واحد منهما بصاحبه؛ لأن صلاة كل واحد صحيحة، فما المانع من الاقتداء بمن صلاته صحيحة؛ وكذلك لو اختلف مجتهدان في الماء الذي في هذا الإناء: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2355 فقال أحدهما: إنه طاهر، وقال الآخر: إنه نجس، فإنه يجوز على مذهب المصوبة اقتداء كل واحد منهما بالآخر، ولكن هذا لا يجوز؛ لاتفاق الأُمَّة على فساد هذا الاقتداء، فدل على أن الحق واحد. الدليل السابع: أن الأُمَّة مجمعة على جواز المناظرة بين المجتهدين؛ لما في ذلك من الفوائد الكثيرة، ولو كان كل واحد من المتناظرين مصيبا فيما ذهب إليه لم يكن للمناظرة معنى ولا فائدة، وذلك لأن كل واحد يعتقد أن ما صار إليه خصمه حق، وأنه مصيب فيه. ووجدت المناظرة إما لأجل معرفة أن ما صار إليه خصمه صواب، أو لرده عنه. فإن كان الأول ففيه تحصيل الحاصل، وإن كان الثاني فقصد كل واحد لرد صاحبه عما هو عليه مع اعتقاده أنه صواب يكون حراما. المذهب الثاني: أن كل مجتهد في الفروع مصيب، وأن حكم الله - تعالى - لا يكون واحداً معيتا، بل هو تابع لظن المجتهد، فحكم اللَّه - تعالى - في حق كل مجتهد ما أدى إليه اجتهاده، وغلب على ظنه، وسمي أصحاب هذا المذهب بالمصوبة. وهو مذهب أبي بكر الباقلاني، والغزالي، وبعض المتكلمين، وأكثر المعتزلة، ومنهم أبو الهذيل، وأبو علي، وابنه. دليل هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه تعالى أخبر أن القطع والترك بأمر اللَّه تعالى فهما صوابان مع كونهما ضدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2356 جوابه: هذا من باب الواجب ألمخير؛ حيث خير اللَّه تعالى عباده بين قطع النخل وعدمه، والعلمأء لم يمنعوا أن يرد الحكم من اللَّه تعالى بالتخيير في الأشياء، كما ورد التخيير بين خصال كفارة اليمين. وإنما منعوا أن يكون الحكم من المجتهد وضده من مجتهد آخر، كلاهما يكونان على صواب. الدليل الثاني: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم ". وجه الدلالة: إن هذا الحديث يدل على أن كل واحد منهم على صواب في اجتهاده. جوابه: إن الحديث يحتمل عدة احتمالات هي كما يلي: الأول: أن المراد به أن العامي يقلد من أراد منهم. الثاني: أن المراد به أن أيهم اقتديتم واهتديتم في روايته - عني - أي: عن النبي - صلى الله عليه وسلم -. الثالث: أن المراد به أن قول الواحد منهم حُجَّة إذا انفرد. واذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. اعتراض: قال قائل - معترضا -: إذا ثبت أن العامي يقلد من شاء دلَّ على أن الحق ليس في واحد، بل كل منهم على الحق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2357 جوابه: نحن جوَّزنا تقليد من شاء، ولم نشترط عليه تقليد من معه الحق؛ لأنه لا طريق له إلى ذلك بأن يأخذ الحكم. الدليل الثالث: أنه لو كان الحق في واحد لما أجمع العلماء على جواز أن يقلد العامي من شاء من المجتهدين، فلما أجمعوا على ذلك دلَّ على أن كل مجتهد مصيب. جوابه: أن الحكم المجتهد فيه لا يوجد عليه دليل مقطوع به، وإلا فلو كان مع أحدهما دليل مقطوع به: لجاز أن يقال للمقلد: من أفتاك خلاف هذا فلا تقبله. وأجمع العلماء - أيضاً - على أن المجتهد إذا أخطا، فلا إثم على المقلد له، وهو مصيب في تقليده، فلهذا لم يمنع. الدليل الرابع: قياس اختلاف الفقهاء على اختلاف القراء، فكما أن كل من قرأ بحرف نقول: إنه مصيب، والقارئ بحرف آخر نقول: إنه مصيب أيضا، فكذلك هنا. جوابه: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن اختلاف القراء يرجع إلى نقل متواتر، وإعلام الشرع بأن القرآن نزل على سبعة أحرف، ولا تناقض في ذلك، ولهذا كل واحد من القراء له أن يقرأ بحرفه، وحرف غيره في حالة واحدة. بخلاف مسألتنا التي نحن فيها، فإنه ليس لمجتهد أن يفتي بشىء وضده في حالة واحدة؛ لما في ذلك من التناقض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2358 الدليل الخامس: أنه لو أداه اجتهاده في وقت إلى جواز شيء، ثم أداه اجتهاده في وقت آخر إلى تحريم ذلك الشيء: فلو قلنا بأن الحق واحد للزم من ذلك: أنه لا يجوز له أن يحكم بالثاني - وهو التحريم -؛ لأن عنده أن ذلك خطأ؛ حيث إنه حكم بالأول. جوابه: إنه ثبت عنده أنه خطأ ظنا لا علما، وفي هذه الحال قد بأن له أنه صواب أيضا بالظن، وأن الأول خطأ، فحكم في كل حال بما أداه إليه اجتهاده أنه الحق، وصار كالحكم في مسألتين. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث ترتب على ذلك اختلاف في بعض الفروع الفقهية، ومنها: إذا صلى خلف من توضأ تاركا للنية، أو الترتيب، أو أي شيء مما اختلف فيه: فإنه تجب الإعادة على من يرى وجوب النية في الوضوء، أو الترتيب فيه بناء على المذهب الأول. أما بناء على المذهب الثاني، فإن الإعادة لا تجب على من يرى وجوب النية والترتيب في الوضوء؛ لأن كل مجتهد مصيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2359 المبحث الحادي عشر هل كل مجتهد مصيب في أصول الدين أو المصيب واحد؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن المصيب واحد في أصول الدين. وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو الحق؛ لأن كل قولين لا يجوز ورود الشرع بصحة كل واحد منهما: لم يجز أن يكونا صوابين كقول المسلمين بالتوحيد، وقول غيرهم بالتثنية وقول النصارى بالتثليث. المذهب الثاني: أن كل مجتهد مصيب. وهو ما روي عن عبيد الله بن الحسن العنبري؛ حيث حكي عنه قوله: " إن المجتهدين في الأصول من أهل القبْلة جميعهم مصيبون مع اختلافهم "، وحكي أيضا عن الجاحظ. دليل هذا المذهب: قياس الأصول على الفروع، فإذا جاز أن يكون كل مجتهد مصيبا في الفروع جاز مثله في الأصول، ولا فرق. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الأصل المقاس عليه لا نسلمه؛ حيث إنه ليس كل مجتهد مصيبا في الفروع، بل المصيب واحد كما قلنا ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2360 الجواب الثاني: على فرض تسليم الأصل المقاس عليه، فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الفرع ليس عليها أدلة قطعية، ويجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين فيها في حق شخصين كالصلاة تحرم على الحائض، وتجب على الطاهر، فلذلك جاز القول فيها: إن كل مجتهد مصيب، بخلاف الأصول، حيث إن عليها أدلة قاطعة، ولا يجوز أن يرد الشرع بحكمين متضادين فيها، ولذلك لم يجز الحكم فيها ويقال: إن كل مجتهد مصيب. تنبيه: هذه المسألة تخص العقيدة، ولا صلة لها بأصول الفقه، وإنما ذكرتها هنا لأنها لها صلة بالمسألة السابقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2361 المبحث الثاني عشر إذا تعارض عند المجتهد دليلان وعجز عن الترجيح وتحيَّر فماذا يفعل؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن عليه التوقف إلى أن يعلم أن أحدهما أرجح من الآخر بأي أمارة، فإن لم يعلم فإنه يسقطهما، ويعمل بالبراءة الأصلية، ولا يجوز التخيير بينهما، ولا العمل بأحدهما. وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية، والحنابلة، وهو الحق عندي؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن تخيير المجتهد في الأخذ بأحد الدليلين المتعارضين عنده يؤدي إلى باطل، وما يؤدي إلى باطل فهو باطل؛ وذلك لأن التخيير يلزم منه الجمع بين النقيضين؛ لأن التخيير هو تساوي الطرفين، وهو الإباحة، والمباح نقيض المحرم، فإذا تعارض دليل مبيح مع دليل محرم، فخيرنا المجتهد بين كونه محرما يأثم بفعله، وبين كونه مباحا لا إثم على فاعله: كان ذلك جمعا بين هذين المتناقضين، والجمع بينهما باطل. الدليل الثاني: أنه لو تعارض دليلان عند المجتهد، أحدهما يقضي بإيجاب الحكم، والآخر يقضي بإباحته، ثم ذهب المجتهد إلى المذهب الثاني - وهو: تخيير المجتهد بينهما - فقد تضمن هذا ترجيح الدليل المبيح على الدليل الموجب بلا دليل، وهذا تحكم، والتحكم باطل بالاتفاق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2362 المذهب الثاني: أنه إذا تعارض دليلان عند المجتهد، ولم يترجح أحدهما على الآخر عنده، فإنه يتخير بينهما، فإن شاء أخذ بهذا الدليل، وإن شاء أخذ بالدليل الآخر، ولا يرجح أحدهما على الآخر، ولا يجوز له التوقف. وهو مذهب بعض الحنفية كالجرجاني، والجصاص، وبعض المعتزلة كأبي علي وابنه، وبعض المالكية كأبي بكر الباقلاني. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن أمام المجتهد احتمالات خمسة باطلة إلا واحد، وهي كما يلي: الاحتمال الأول: إما أن يعمل المجتهد بالدليلين معا؛ المثبت والنافي، وهذا محال؛ لأنه جمع بين متناقضين. الاحتمال الثاني: وإما أن يسقط المجتهد الدليلين معا، فلا يعمل بهما وهو باطل؛ لأنه يؤدي إل تعطيل دليلين قد ثبتا. - الاحتمال الثالث: وإما أن يتوقف فلا يعمل بهما معا حتى يرد ما يرجح أحدهما، وهو باطل؛ لأن التوقف إلى غير غاية فيه تعطيل لدليلين قد ثبتا، ويمكن أن يكون الحكم في المسألة لا يقبل التأخير بأي حال. الاحتمال الرابع: وإما أن يرجح أحدهما فيعمل به، دون الآخر، وهو باطل؛ لأنه تحكم، أي: هو تعيين بلا دليل، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر. الاحتمال الخامس: وإما أن يتخير بينهما، فيختار ما شاء منهما فيأخذه فيعمل به على طريقة الإباحة، وهذا هو الصحيح؛ وذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2363 لكون كل واحد منهما في قوة الآخر، وليس أحدهما بأوْلى من الآخر، وهو مذهبنا. جوابه: لا نسلم صحة الاحتمال الخامس؛ لما ذكرناه من الدليلين السابقين على أن التخيير باطل. بل المسلم هو الاحتمال الثالث وهو: التوقف - وهو مذهبنا - وليس فيه تعطيلاً للدليلين، حيث إنا لا نقصد به التوقف المطلق، بل نقصد أن يتوقف إلى أن يعلم أن أحدهما أرجح من الآخر، فإن لم يعلم فإنه يسقطهما، ويعدل إلى دليل آخر كالبراءة الأصلية؛ قياساً على القاضي إذا تعارضت عنده بينتان. ومعروف أنه لا توجد أية حادثة إلا ويوجد لها دليل يدلنا على الحكم فيها؛ لأن اللَّه تعالى قد كلفنا بأن نوجد أحكاما شرعية لكل الحوادث المتجددة، ولا سبيل لإيجاد هذه الأحكام إلا بدليل شرعي، فلو لم يجعل دليلاً لذلك: كان هذا تكليفا بما لا يطاق. والتوقف واقع في الشريعة في صور، ومنها: 1 - أن المجتهد إذا سأله بعض المستفتين عن حكم مسألة لم يجد لها دليلاً يعتمد عليه من نقل، أو عقل، فإنه حينئذٍ يتوقف. 2 - أنه إذا حدثت حادثة للعامي، فلم يجد مجتهداً يفتيه بها بحكم، فليس أمامه إلا التوقف، لأنه لا يعرف الأدلة حتى يجتهد لنفسه. الدليل الثاني: قياس المجتهد على العامي؛ حيث إن العامي إذا حدثت له حادثة، فسأل مجتهداً عن حكمها فأفتاه بأن حكمها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2364 الجواز، وسأل مجتهدا آخر فافتاه بأن حكمها التحريم: فإن العامي يختار أيهما شاء إما حكم الجواز، أو التحريم، ولا حرج عليه في ذلك، فكذلك المجتهد إذا تعارض عنده دليلان يختار أيهما شاء ولا فرق بجامع: أن كلًّا منهما يتخير، فالعامي يتخير بين حكمين، والمجتهد يتخير بين دليلين. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أنا لا نُسَلِّمُ الحكم في الأصل المقاس عليه وهو العامي؛ حيث إن العلماء اختلفوا في العامي إذا أفتاه مجتهدان قد اختلفا في الحكم على أقوال: فقيل: إن العامي يتخير بين فتوى هذا، وفتوى ذاك، وهو رأي أكثر العلماء. وقيل: إن العامي ينظر في أعيان المجتهدين، فيقبل قول أدينهما، وأعلمهما، وهو مذهب كثير من الحنابلة، وبعض الشافعية. وقيل: إن العامي يأخذ بالأثقل والأغلظ من قولي المجتهدين؛ احتياطاً. وقيل: إن العامي يأخذ بالأسهل والأخف من قوليهما؛ لأن الشريعة جاءت باليسر. وقيل: إن العامي يأخذ بالأرجح دليلاً في اعتقاده. وقيل: إنه ينبغي أن يسأل مجتهداً ثالثا. إذن الحكم في الأصل مختلف فيه، فلا يجوز لكم أن تقيسوا على أصل قد اختلف في حكمه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2365 الجواب الثاني: سلمنا أن الأصل المقاس عليه قد اتفق على حكمه وهو: أن العامي يتخير بين الحكمين، فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن العامي ليس أهلاً للنظر في الأدلة، ولم يتعبَّده الشارع باتباع موجب ظنه. وكذلك فإن العامي لا يكلف بأن يرجح بين حكمي المجتهدين في حادثته. أما المجتهد فإنه يختلف عنه في ذلك؛ فإنه أهل للنظر في الأدلة، وقد تعبّده اللَّه باتباع موجب ظنه، وهو مكلف بترجيح أحد الدليلين إذا تعارضا. فأما إذا تعارض دليلان، ولم يجد مرجحا لأحدهما على الآخر، فإنه لم يغلب على ظنه ترجيح أحد الدليلين على الآخر؛ لأنه لا ظن له هنا، فحينئذٍ يجب عليه التوقف. الدليل الثالث: أن التخيير بين الحكمين في الشرع قد وقع في صور، ومنها: 1 - التخيير بين خصال كفارة اليمين بين الإعتاق، أو الإطعام، أو الكسوة. 2 - أن من دخل الكعبة، فإنه يخير بأن يستقبل أي جدار أراد. ووقوع التخيير في الشرع دليل على أن التخيير بين الدليلين بالنسبة للمجتهد ليس ببعيد ولا بمستنكر. جوابه: أنا لا ننكر أن التخيير قد ورد في الشرع كما ذكرتم من الأمثلة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2366 وهذا التخيير ليس فيه جمع بين نقيضين، فلم يمتنع عقلاً، فجاز عقلاً وشرعا. لكن الذي ننكره هو التخيير الذي يؤدي إلى الجمع بين النقيضين مثل: أن يتخير بين الواجب، وغير الواجب، والحرام، والمباح، فهذا لم يرد به الشرع، ويمتنع عقلاً؛ لأنه محال. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، وهو واضح؛ حيث إنه يجوز الاستدلال بالبراءة الأصلية على حكم حادثة قد ورد فيها دليلان متعارضان، وهذا بناء على المذهب الأول. أما بناء على المذهب الثاني: فإنه لا يجوز الاستدلال بالبراءة الأصلية عند تعارض الدليلين، بل يختار أحد الدليلين ويعمل به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2367 المبحث الثالث عشر هل يجوز للمجتهد أن يقول في الحادثة الواحدة قولين متضادين في وقت واحد؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز ذلك، فلا يجوز له أن يقول في الحادثة الواحدة قولين متضادين كالتحريم والإباحة في وقت واحد. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد تكلموا في فروع فقهية كثيرة - كما سبق في باب القياس - ولم يحك ويرو عن أحد منهم أنه قال في مسألة واحدة قولين متضادين في وقت واحد، مع أنه روي لنا آلاف من الآثار عنهم، وهذا يدل على عدم جوازه. الدليل الثاني: أن قول المجتهد في مسألة واحدة قولين متضادين في وقت واحد لا يخلو من ثلاث حالات: الحالة الأولى: إما أن يكونا صحيحين. الحالة الثانية: إما أن يكونا فاسدين. الحالة الثالثة: إما أن يكون أحد القولين صحيحاً، والقول الآخر فاسداً. أما الحالة الأولى - وهي: كونهما صحيحين - فلا تصح؛ لأن الشيء لا يجوز أن يكون حلالاً حراما، ولا نفيا ولا إثباتا؛ حيث إنهما ضدان، ولا يمكن اجتماع الضدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2368 أما الحالة الثانية - وهي: كونهما فاسدين - فلا تصح - أيضا -؛ لأن القولين إذا كانا فاسدين، فإن القول بهما يكون حراما. أما الحالة الثالثة - وهي: كون أحدهما صحيحا والآخر فاسدا - فلا تصح - أيضا -؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون عالما بفساد القول الفاسد، وإما أن يكون غير عالم بذلك. أما الأول - وهو: كون المجتهد عالم بفساد الفاسد - فهذا لا يصح ولا يمكن؛ لأنه يبعد أن يقول مجتهد بقول فاسد يحرم على الأمة العمل به، فهذا تلبيس وتدليس لا يمكن أن يقوله مجتهد من مجتهدي أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -. وأما الثاني - وهو: كونه غير عالم بفساد الفاسد - فهذا قد اشتبه عليه الفاسد من غير الفاسد، ومثل هذا لا يكون مجتهداً في المسألة؛ حيث لم يعلم بحكم تلك المسألة، فلا يقبل منه شيء، فخرج - بهذا - عن المجتهدين. وإذا ثبت بطلان الحالات الثلاث فإنه يبطل قول المجتهد في حادثة واحدة بقولين في وقت واحد. المذهب الثاني: أنه يجوز أن يقول المجتهد في المسألة الواحدة قولين متضادين في وقت واحد. وهو محكي عن الشافعي، وبعض العلماء. دليل هذا المذهب: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن وليتم أبا بكر وليتم ضعيفا في بدنه قويا في أمر اللَّه تعالى، وإن وليتم عمر وليتم قويا في بدنه قويا في أمر اللَّه تعالى ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2369 وجه الدلالة: أن هذين قولان، ولم ينص على أحدهما. جوابه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يقل: ولُّوا فلانا، وإنما قال: " إن وليتم فلانا فهو كذا، وإن وليتم فلاناً فهو كذا " فهو يبين صفة كل واحد منهما. الدليل الثاني: أن عمر - رضي اللَّه عنه - جعل الأمر شورى في ستة، ولم ينص على واحد منهم بعينه. جوابه: أن عمر - رضي اللَّه عنه - لم يقل: إن الخليفة بعدي فلان، وفلان، وإنما قال: لا أدري أحق بهذا الأمر من أحد هؤلاء الستة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2370 المبحث الرابع عشر المجتهد الذي لم يجتهد في مسألة، ولكن العلوم كلها حاصلة عنده، وعنده القدرة على الاجتهاد فهل يجوز له أن يقلد غيره من المجتهدين؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: لا يجوز له تقليد غيره مطلقا، أي: سواء مع ضيق الوقت، أو سعته، لا فيما يخصه، ولا فيما يفتي به، وسواء كان المجتهد الآخر مثله في العلم، أو أقوى منه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن تقليد من لم تثبت عصمته ولا يعلم بالحقيقة إصابته الحكم الشرعي، بل يجوز خطأوه، وتلبيسه لا يمكن أن يثبت إلا بنص أو قياس على منصوص، ولا يوجد هنا نص، ولا قياس؛ لأن المنصوص عليه هو: أن العامي يقلد المجتهد؛ حيث إن المجتهد له أن يأخذ بنظر نفسه، وللعامي أن يأخذ بقول المجتهد، بيان ذلك: أما المجتهد فإنما جاز له الحكم بظنه؛ نظراً لعجزه عن العلم القطعي بالحكم، فالضرورة دعت إلى ذلك في كل مسألة ليس فيها دليل قاطع. أما العامي فإنما جاز له تقليد غيره؛ نظراً لعجزه عن تحصيل العلم والظن بنفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2371 والمجتهد غير عاجز، فلا يكون في معنى العاجز، فيجب عليه أن يطلب الحق بنفسه، ولا يساوى بالعامي. الدليل الثاثي: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة: أن المجتهد من أولي الأبصار الذين أمرهم الله تعالى بالاعتبار والاجتهاد، فلو جاز له تقليد غيره: لكان تاركا ما وجب عليه، وترك الواجب حرام، فكان تقليده لمجتهد آخر حراما. الدليل الثالث - وهو: خاص للاستدلال على أن المجتهد لا يقلد الآخر وإن كان مثله في العلم أو أقوى منه -: أن الواجب على المجتهد أن ينظر في المسألة: فإن غلب على ظنه أن الحكم في المسألة كذا، ووافق ذلك ما غلب على ظن المجتهد الأقوى فحسن. وإن غلب على ظن المجتهد الأقل علما خلاف ما غلب على ظن المجتهد الأقوى علما، فماذا ينفع كونه أقوى علما، وقد صار ما غلب على ظنه مزيفا وباطلاً عند المجتهد الأقل علما، والخطأ جائز على الأعلم، وظن المجتهد الأقل علما أقوى في نفسه من ظن غيره، وإن كان أعلم منه، وللمجتهد الأقل علما أن يأخذ بظن نفسه اتفاقا، ولا يلزمه تقليد غيره وإن كان أعلم منه. ويؤيد ذلك: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - قد سوغوا الخلاف لصغار الصحابة كابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، وزيد، وغيرهم من أحداث الصحابة؛ حيث كانوا يخالفون كبار الصحابة كأبي بكر، وعمر، وعلي، وغيرهم. اعتراض على ذلك: قال قائل - معترضا -: إن بعض الصحابة: مثل طلحة بن عبيد الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2372 والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف لم ينقل عنهم أنهم نظروا في الأحكام، واجتهدوا فيها، مع ظهور الخلاف في عدة مسائل كمسالة: الجد والإخوة، والعول، والتحريم، ونحوها مما يدل على أنهم أخذوا بقول غيرهم من الصحابة الآخرين، وقلدوهم في ذلك. جوابه: أن ما ذكررم من الصحابة - رضي اللَّه عنهم - وما ماثلهم كانوا لا يفتون ولا ينظرون في الأحكام؛ لأنهم اكتفوا بغيرهم من الصحابة، أما علمهم في حق أنفسهم فلم يكن إلا بما سمعوه من - صلى الله عليه وسلم - من الكتاب والسّنَة، وعرفوه، فإن وقعت واقعة لم يعرفوا دليلها شاوروا غيرهم؛ ليعرفوا الدليل، لا لأجل التقليد. المذهب الثاني: أنه يجوز للمجتهد تقليد مجتهد آخر مطلقا. وهو مذهب سفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وهو رواية عن الإمام أحمد. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قوله تعالى: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون) . وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمر بالسؤال، وأدنى درجاته جواز اتباع المسؤول، واعتقاد قوله، وليس المراد به من لم يعلم شيئاً أصلاً، بل المراد به من لم يعلم تلك المسألة، وسواء كان عاميا أو لم يجتهد فيها وإن كانت له أهلية الاجتهاد، فكان هذا داخلاً تحت عموم الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2373 جوابه: لا نسلم عموم الآية، بل هي خاصة بسؤال من ليس من أهل العلم وهو العامي، فيكون المراد منها: أمر العوام بسؤال العلماء؛ لأنه ينبغي أن يتميز السائل عن المسؤول، فمن هو من أهل العلم مسؤول، وليس بسائل، وكون حكم هذه المسألة غير حاضر في ذهن المجتهد حال سؤال المستفتي عنه لا يخرجه عن كونه عالما؛ لأنه متمكن من معرفة ذلك من غير أن يتعلم من غيره. وعلى هذا: لا يكون داخلاً تحت هذه الآية؛ لأن الآية لا دلالة لها على أمر أهل العلم بسؤال أهل العلم، فإنه ليس المسؤول أوْلى بذلك السائل. الدليل الثاني: قوله تعالى: (أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) . وجه الدلالة: أن المراد بأولي الأمر: العلماء، أي: أمر غير العالم بحكم المسألة بطاعة العالم، وأدنى درجاته جواز اتباعه فيما هو مذهبه، وهو عام. جوابه: أنه اختلف في المراد بـ " أولي الأمر " هنا على قولين: القول الأول: إن المراد بهم الولاة، وعلى هذا فإن طاعتهم واجبة على الجميع، ولا يجب على المجتهد اتباع وطاعة مجتهد آخر. القول الثاني: أن المراد بهم: العلماء، وعلى هذا: وإن طاعتهم واجبة على العوام، فلا تصلح الآية للاستدلال بها على ما زعمتم. الدليل الثالث: أن المجتهد لا يقدر إلا على تحصيل ظن بالحكم، وظن غيره من المجتهدين مثل ظنه، فما المانع من اتباع - ظن غيره؟! إذ لا فرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2374 جوابه: أنه إذا حصل ظن المجتهد في مسألة لا يجوز له أن يتبع ظن غيره، فكان ظنه أصلاً، وظن غيره بدلا منه، ولا يجوز العدول الأخذ بالبدل مع القدرة على إيجاد المبدل كما في سائر الأبدال والمبدلات. المذهب الثالث: أنه يجوز أن يقلد المجتهد مجتهدا آخر أعلم منه إذا تعذر عليه الاجتهاد. وهو مذهب ابن سريج. المذهب الرابع: يجوز أن يقلد المجتهد الواحد من الصحابة إذا كان قد ترجح في نظره على غيره ممن خالفه، وإن استووا في نظره فإنه يتخير في تقليد من شاء منهم، ولا يجوز تقليد من عدى الصحابة. وهو مذهب أبي علي الجبائي، وحكي عن الشافعي أنه قال بذلك. المذهب الخامس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد الواحد من الصحابة والواحد من التابعين فقظ، دون من عداهم. المذهب السادس: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر فيما يخصه، دون ما يفتي نجه. المذهب السابع: أنه يجوز للمجتهد أن يقلد مجتهداً آخر مطلقا إذا خشي أن يفوت الوقت لو اشتغل بالاجتهاد. جواب عن تلك المذاهب: يقال في ذلك: إن صاحب كل مذهب قد قيد مذهبه بما سبق، ولم يذكر دليلاً على هذا التقييد، لذلك لا يلتفت إلى ذلك ويبقي الأصل وهو: إطلاق عدم الجواز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2375 المبحث الخامس عشر إذا نص المجتهد على حكم في مسألة لعلَّة قد ذكرها ووجدنا تلك العِلَّة في مسائل أخرى فَما الحكم؟ أقول: إذا نص المجتهد في مسألة على حكم، وعلل بعِلَّة توجد في مسائل أُخر - سوى المنصوص عليها -: فإن مذهبه في تلك المسائل هو مذهبه في المسألة المعللة، سواء قلنا بتخصيص العِلَّة أو لم نقل؛ وذلك لأن هذا المجتهد يعتقد أن الحكم تابع للعِلَّة، أي: يوجد الحكم حيث وجدت العِلَّة، فمثلاً هو: اعتقد أن وجوب النية لعلة هي: " الطهارة عن الحدَث "، فكل ما وجدت هذه العِلَّة فيه: يجب أن يكون الحكم موجوداً فيه وهو: وجوب النية، فالوضوء طهارة عن حدث، والغسل عن المحيض طهارة عن حدث، إذاً يجب أن يوجد الحكم، وهو: وجوب النية، وهكذا. هذا إذا لم نقل بتخصيص العِلَّة. وإن قلنا بتخصيص العِلَّة: فإن نخصيص العِلَّة إذا قام على تخصيصها دليل فإنا نأخذ به، وإن لم يقم: فهي تبقى على عمومها كلفظ العموم يدل على الشمول ما لم يخصه دليل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2376 المبحث السادس عشر إذا نص المجتهد على حكم في مسألة معينة، ولم يذكر عِلَّة ذلك الحكم، ووجدنا مسألة أخرى تشبهها شبها يجوز أن يخفى على بعض المجتهدين فإنه لا يجوز أن نجعل ذلك الحكم مذهبه في المسألة الأخرى أي: لا يجوز أن يحكم بحكم تلك المسألة المنصوص عليه، ويجعل في المسألة الأخرى المشابهة. دل على ذلك دليلان: الدليل الأول: أن تلك المسألة المشابهة الأخرى لم يتناولها لفظ المجتهد في المسألة الأولى، ولا أشار إليها لا من قريب، ولا من بعيد، ولم تخطر على بال ذلك المجتهد، ويمكن لو خطرت على باله، أو عرضت عليه لصار فيها إلى حكم آخر غير حكم المسألة التي نص على حكمها. الدليل الثاني: أن الحكم الذي أثبته المجتهد في المسألة الأولى لو أثبتناه في مسألة أخرى تشبهها: للزم من ذلك: إثبات مذهب المجتهد بالقياس بسبب علَّة مستنبطة، وهذا لا يجوز في كلام المكلَّفين، بخلاف كلام الشَارع، فإنه يجوز كما سبق. الاعتراض على ذلك: قال قائل - معترضاً -: إن الشارع يجوز القياس على كلامه وإن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2377 كانت العِلَّة مستنبطة، فكذلك المجتهد يجوز القياس على كلامه، ولا فرق. جوابه: إن هذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن صاحب الشرع إذا حكم في مسألة، واستنبطنا عِلَّة ذلك الحكم، فإنه قد تعبدنا أن نجري حكمها في أي صورة وجدت فيها تلك العِلَّة. أما المجتهد فإنه لم يدلنا على ذلك، ويجوز أن يوجد فرق فيقع الخطأ، وصاحب الشرع لا يجوز عليه ذلك، فافترقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2378 المبحث السابع عشر إذا نص المجتهد في مسألة على حكم ونص على مسألة أخرى تشبهها على حكم آخر فهل يجوز نقل حكم إحداهما وجعله في المسألة الأخرى أو لا؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز نقل حكم المسألة الأولى، وجعله في الثانية، ولا يجوز العكس. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: القياس على المسألة السابقة في المبحث السادس عشر، بيان ذلك: أنا قلنا - في المبحث السادس -: إنه إذا نص المجتهد على حكم في مسألة معينة، ولم يبين علته فيها لا يجوز أن يجعل ذلك الحكم مذهبه في مسألة أخرى تشبهها قد سكت عن حكمها، فإذا كان هذا لا يجوز، فمن باب أوْلى أن لا نجعل مذهبه في مسألة قد نص على حكمها هو مذهبه في مسألة أخرى قد نص على حكم فيها مخالف للمسألة الأولى. الدليل الثاني: أن المذهب إنما يضاف إلى الإنسان إذا قاله ونص عليه، أو دلَّ عليه بدلالة تجري مجرى نصه من تنبيه وغيره، فإذا عدم شيء من ذلك لم يجز إضافته إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2379 وقد توجد من المجتهد نوع دلالة على حكم المسألة الأخرى، لكن هو قد نص على خلاف تلك الدلالة، وإذا تعارضت الدلالة بأي وجه من أوجه الدلالة مع النص الصريح، فإنه يقدم النص الصريح على الدلالة البعيدة. المذهب الثاني: أنه يجوز نقل حكم إحدى المسألتين وجعله في الأخرى. وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية. دليل هذا المذهب: أن المجتهد إذا نص في إحدى المسالتين على حكم، ونص في نظيرتها على غيره، وجب حمل إحداهما على الأخرى بدليل: أن الله تعالى لما نص في كفارة القتل على الإيمان، وأطلق في كفارة الظهار، قسنا إحداهما على الأخرى، وشرطنا الإيمان فيهما، كذلك يقال في هذه المسألة. جوابه: هذا قياس المسألة التي نحن بصدد الكلام عنها على مسألة قد صرح بالحكم في إحدى المسألتين وسكت عن الأخرى، وهذا قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق. بيان ذلك: أنه قد صرح في الكفارة في إحدى المسألتين، وسكت في الأخرى، فقسنا المسكوت على المنطوق. بخلاف مسألتنا، فإنه صرح في كل واحدة من المسألتين بخلاف الأخرى، فلا يجوز جعل حكم إحداهما على الأخرى، كما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2380 ذكرنا ذلك في أن الشارع لما نص في صوم الظهار على التتابع، وفي صوم التمتع على التفريق لم نلحق إحداهما بالأخرى. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه بناء على المذهب الأول لا يجوز أن يكون للمجتهد في جمل مسألة منهما قولان، ولا يكون هذا طريقا لمعرفة مذهب المجتهد. أما بناء على المذهب الثاني فإنه يجوز أن يكون للمجتهد في كل مسألة منهما قولان، ويكون هذا طريقا لمعرفة مذهب المجتهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2381 المبحث الثامن عشر إذا روي عن مجتهد في مسألة واحدة روايتان مختلفتان وصح هذا النقل عنه ففيه التفصيل الآتي: أولاً: أنه لا يجوز أن يقول كل واحدة منهما في وقت واحد وفي حالة واحدة كما بينا ذلك في المبحث الثالث عشر. ثانيا: إذا قال المجتهد هذين الحكمين المختلفين - في تلك المسألة في حالتين فلا يخلو إما أن لا نعلم الرواية الأخيرة أو لا نعلم: فإن لم نعلم الرواية الأخيرة من هذا المجتهد، بحيث جهلنا تقدم إحداهما على الأخرى، فإنا ننظر في هاتين الروايتين: فإن كانت إحداهما أشبه من الأخرى بأصول ذلك المجتهد، فإنا نجعلها مذهبا له، وتكون الأخرى مشكوكاً فيها، ولا يعمل بالشك. وإن علمنا الرواية الأخيرة: فقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الرواية الأخيرة عن هذا المجتهد هي مذهبه في المسألة، وتكون الرواية الأولى قد رجع عنها، فلا تضاف إليه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأن الرواية الأولى كالمنسوخ، والرواية الثانية كالناسخ، فكما أن الصحابة يتركون الحكم المنسوخ إذا جاء بعده ما ينسخه ويعملوا بالناسخ، فكذلك هنا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2382 فالروايتان حكمان مختلفان وردا من مجتهد واحد في مسألة واحدة فهما قولان متضادان، فالثاني منهما ترك للأول كالنصين الواردين من صاحب الشرع. فيفهم من نصه الأخير أنه رجع عن رأيه الأول؛ حيث إن المجتهد إذا أفتى شخصا بجواز شيء، ثم عاد وأفتاه بتحريمه فالظاهر أنه رجع عن الأول؛ لأن الحق عنده قي واحد. المذهب الثاني: أن الرواية الأولى هي التي تكون مذهبا له إلا أن يصرح بالرجوع عنها. وهو مذهب بعض الشافعية، وبعض الحتابلة. دليل هذا المذهب: أن قول المجتهد في الرواية الأولى كان بالاجتهاد، وقوله في الرواية الثانية كان بالاجتهاد، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد. ولهذا روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه لما جاءته مسألة فيها أم، وزوج، وأخوة لأم، وأخوة أشقاء في عام لم يعط الإخوة الأشقاء شيئاً، فلما جاءت نفس المسألة بعد سنوات، أعطى الإخوة الأشقاء فقيل له: إنك في عام كذا وكذا لم تشرك الإخوة الأشقاء، فقال: " فتلك على ما قضينا يومئذ، وهذه على ما نقضي الآن "، فلم يبطل عمر الاجتهاد الأول بالاجتهاد الثاني. جوابه: أن المجتهد إذا حكم في حق غيره ونفذ الحكم، ثم حكم بحكم آخر بعد ذلك بنفس المسألة، فإنه لا يجوز له الرجوع إلى هذا الغير ويبطل حكمه فيه؛ لأن نقض الاجتهاد بالاجتهاد هنا يفضي إلى أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2383 لا يستقر حكم، وإلى وقوع الشغب بين الناس، وعدم وثوقهم بالمجتهدين، ولهذا فإنه لا يسوغ للحاكم أن ينقض حكم من سبقه إذا خالفه. وهذا لا يدخل في مسألتنا التي نحن بصددها، حيث إن هذه المسألة تخص مذهب الإنسان إذا لم يتعلق به حق غيره، فإذا قال رأيا أولاً ثم عاد، وقال رأياً آخر: علمنا أنه تبين له الحق فرضيه، وترك الأول، وبناء على هذا فإنا ننسب إليه الثاني، فلا يبقى الأول مذهبا له. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي كما هو ظاهر، فأصحاب المذهب الأول نسبوا إليه الرواية الثانية وجعلوها مذهبا له، والرواية الأولى تكون باطلة ومنسوخة. أما أصحاب المذهب الثاني فإنهم نسبوا إليه الرواية الأولى وجعلوها مذهبا له، وتركوا الرواية الثانية. ويترتب على هذا اختلاف مذهب هذا المجتهد. وما الذي ننسب إليه من الروايتين؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2384 الفصل الثاني في التقليد ويشتمل على المباحث التالية: ْالمبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: هل يجوز التقليد في أصول الدين؟ المبحث الثالث: هل يجوز التقليد في الفروع؟ المبحث الرابع: بيان طرق معرفة العامي للمجتهد حتى يستفتيه. المبحث الخامس: مجهول الحال هل يجوز تقليده؟ المبحث السادس: إذا كان في البلد مجتهدان فأكثر فأيهم الذي يستفتيه العامي؟ المبحث السابع: إذا سأل العامي مجتهدين عن حكم حادثة، فحكم أحدهما بالجواز وحكم الاآخر بالتحريم، وأحدهما أفضل من الآخر فهل يعمل بحكم الأفضل أو يتخير؟ المبحث الثامن: إذا استوى عند العامي المجتهدان اللذان قد أصدرا فتواهما في جميع الأحوال، وأحدهما أفتى بحكم أخف من الحكم الذي أفتى به الآخر فأي الحكمين يأخذ به العامي؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2385 المبحث الأول تعريف التقليد أولاً: التقليد لغة هو: جعل الشيء في عنق الدابة وغيرها حال كونه محيطا بهذا العنق، وهذا الشيء يسمى قلادة. فلفظ " قلد " - كما قال ابن فارس -: يدل على تعليق شيء على شيء. ولا بد من كونه محيطا بالعنق؛ لأن الشيء إذا لم يكن محيطا بالعنق لا يسمى قلادة في عرف اللغة. ثم بعد ذلك استعمل - استعارة - في تفويض الأمر إلى الشخص واتباعه في كل ما يقول. ثانيا: التقليد اصطلاحا هو: قبول مذهب الغير من غير حُجَّة. شرح التعريف وبيان محترزاته: لفظ " قبول " جنس يشمل قبوله مع العمل به، وعدم العمل به، فالمراد به: اعتقاد ذلك، ولو لم يعمل به لفسق. ولفظ " مذهب " عام ما كان قولاً للمجتهد أو فعلاً له. ونسب المذهب إلى الغير حتى يخرج به ما كان معلوما بالضرورة، ولا يختص به ذلك الغير إذا كان من أقواله وأفعاله التي ليس له فيها اجتهاد، فإنها لا تسمى مذهبه. وأتي بلفظ " من غير حُجَّة " لبيان أنه يشترط في المقلد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2387 أن لا يعرف الدليل الذي اعتمد عليه ذلك الغير - وهو المجتهد - في حكمه، فخرج بهذا: المجتهد الذي وافق اجتهاده اجتهاد مجتهد آخر وعرف دليل ذلك المجتهد الآخر على حكمه، فإنه لا يسمى تقليداً كما يقال: أخذ أحمد بمذهب أبي حنيفة في هذه المسألة، أو أخذ الشافعي بمذهب مالك. وسبب قولنا هذا: أن المجتهد وإن كان آخذاً بقول الغير، لكنه بسبب معرفته لدليل المجتهد الآخر حق المعرفة، وأخذه - حقيقة - بالدليل، لا يسمى مقلداً، فيكون إطلاق الأخذ بمذهبه فيه تجوز. وبناء على هذا: فإن الرجوع إلى قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، والرجوع إلى الإجماعِ لا يسمى تقليداً؛ لأن كلًّا من قول الرسول - صلى الله عليه وسلم - والإجماع يعتبر حُجّة في نفسه. بخلاف فتوى المجتهد فإن قوله ليس بحُجَّة في نفسه، ولا يعتبر دليلاً على الحكم؛ لأنه فتواه تحتاج إلى دليل يعتمد عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2388 المبحث الثاني هل يجوز التقليد في أصول الدين؟ لقد اختلف في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن أصول الدين لا يجوز فيها التقليد. فلا يجوز التقليد في الأحكام التي تخص أصول الدين وهي: المسائل الأصولية المتعلقة بالاعتقاد كمعرفة اللَّه تعالى، ووحدانيته، وصحة الرسالة، ووجود اللَّه تعالى، وما يجوز عليه، وما يجب له، وما يستحيل عليه. فيحرم التقليد في هذه الأمور عند أكثر العلماء، وقالوا: يجب على الكل معرفة ذلك بغير تقليد؛ وهذا هو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن العلماء أجمعوا على وجوب معرفة اللَّه تعالى، ولا تحصل بتقليد؛ لجواز كذب المخبر، واستحالة حصوله. الدليل الثاني: قوله تعالى: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) . وجه الدلالة: أن هؤلاء الكفار قد بئنوا لهم أنهم سيحملون خطاياهم، فرد اللَّه سبحانه عليهم قولهم، وكذبهم في ذلك، فدلَّ على أنه لا يصح التقليد في أصول الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2389 الدليل الثالث: قياس أصول الدين على أركان الإسلام، فكما أنه لا يجوز التقليد في أركان الإسلام وهو وجوب الصلاة، والزكاة، والحج، والصوم، فأصول الدين من الوحدانية، والنبوة أوْلى بعدم الجواز. المذهب الثاني: أنه يجوز التقليد في أصول الدين. وهو محكي عن بعض الشافعية، وهو اختيار الحشوية. دليل هذا المذهب: أن المنع من التقليد في أصول الدين يؤدي إلى إضلال أكثر الناس، بيان ذلك: أن العامة - وهم أكثر الناس - لا يدركون الأدلة على الأسماء، والصفات، ولا يعرفون كيفية ترتيبها، ولا الطريق الذي أخذ منه التوحيد والنبوات، ولا يمكن لهم ذلك، فإذا كانوا لا يعرفون الأدلة، ويمنعون من تقليد غيرهم في ذلك أفضى ذلك إلى إضلالهم، وهذا لا يجوز، فوجب القول بجواز التقليد لهم، كما جاز لهم التقليد في فروع الشريعة ولا فرق، والجامع: عدم معرفتهم لأدلة كل من الأصول والفروع. جوابه: أن العامي عارف بتلك الدلائل الخاصة بإثبات وحدانية اللَّه تعالى، والأسماء والصفات كالعلماء في ذلك، وهو - أي العامي - وإن كان لا يقدر على أن يعبر عنه بالألفاظ الكلامية، فإن ذلك لا يضره في معرفته؛ لأن ذلك عجز عن العبارة، لا عن المعنى المحصل للمعرفة، بيان ذلك: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2390 أن العامي يشارك العلماء في معرفة اللَّه تعالى، وطرق التوحيد والنبوات، فيعلم مما يدركه من صنائع اللَّه تعالى من السموات، والأرضين، والشمس، والقمر، والنجوم، وسيرها، وثبوت الأرض على الماء مع أن البناء لا يثبت على الماء، وتنقل الإنسان في خلقه من النطفة إلى مراحل أخرى حتى وصل إلى إنسان سوي يصرف الأمور، وأن الشمس تطلع في موعدها، وتغرب في موعدها، وكذلك القمر، والنجوم دون تأخير أو تقديم، وأنه لو اجتمع الإنس والجن على أن ينفعوا إنسانا بشيء لم يكتبه اللَّه له فلن يستطيعوا ذلك، وأنه لو اجتمعوا على أن يضروه بشيء لم يكتبه الله عليه، فلن يستطيعوا ذلك، وأن هذا قائم مستمر لا فرق بين إنسان وآخر، أو زمان وآخر، ويعلم أن كل ذلك قد جرى بانتظام، واتساق أحوال، ولو كان لله تعالى شريك في ملكه، أو معه مدبر لفسد هذا النظام، ووقع الاختلاف، كما يشاهد في كل شريكين، كل ذلك يعلمه العامي بحسه، ويدركه بمجرد اختلاطه بالآخرين، بل لا أبالغ إذا قلت: إن من العوام من يدرك ذلك ويؤمن به إيمان@ قويا أكثر من بعض من يسمى نفسه أنه متعلم. أما قياسكم أصول الدين على فروعه في ذلك فهو قياس مع الفارق؛ لأن أدلة الفروع كثيرة ومتنوعة، وتحتاج إلى دقة في النظر، بخلاف أدلة أصول الدين فهي قليلة، وواضحة وأكثرها يؤخذ من الواقع لذلك لا ينقطع عمر الإنسان ومعاشه فيها. وأيضا لا خطر ولا محذور في تقليد العامي للمجتهد في الفروع؛ حيث إن الإثم محطوط عن المجتهد إذا أخطا، وهذا بخلاف أصول الدين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2391 المبحث الثالث هل يجوز التقليد في الفروع؟ في ذلك تفصيل: أولاً: لقد أجمع العلماء على أن أركان الإسلام - وهي: الصوم، والصلاة، والزكاة، والحج - لا يجوز فيها الاجتهاد؛ لأنه ثبت بالتواتر ونقلته الأُمَّة خلفا عن سلف، فمعرفة العامي فيها توافق معرفة العالم فيها، كما تتفق معرفة الجميع فيما يحصل بأخبار التواتر من البلدان كالهند، والصين. ثانيا: أما فروع الدين - غير ما سبق - كالبيوع، والأنكحة، والعتاق، والحدود، والكفارات، وبعض جزئيات وتفاصيل العبادات، ونحو ذلك من الأحكام الفقهية فقد اختلف الحلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز للعامي، أو طالب العلم الذي لم يبلغ درجة الاجتهاد أن يقلد المجتهد، والأخذ بفتواه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: الإجماع على جواز ذلك قبل ولادة ذلك المخالف؛ حيث إن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم كانوا يُسألون عن الأحكام فيفتون، وكان السائل يتبع المجتهد والمفتي فيما يقول، وكان العلماء يبادرون إلى الإجابة من غير إشارة إلى ذكر الدليل، أو طريق الحكم، ولا ينهونهم عن ذلك من غير نكير من أحد، فكان إجماعا على جواز اتباع العامي للمجتهد مطلقا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2392 الدليل الثاني: قوله تعالى: (ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) . وجه الدلالة: أن هذا دلَّ على أنه يرد الحكم إلى أهل الاستنباط وهم المجتهدون. الدليل الثالث: أنه لا خطر ولا محذور في تقليد العامي للمجتهد في الفروع؛ لأن المجتهد لو أخطأ فلا إثم عليه، بل له أجر، إذن لا خطر على المقلد في هذا. أما في أمور العقائد، فإن المجتهد إذا أخطأ فعليه إثم، كما بيَّنا هناك، لذلك جوزنا التقليد في الفروع، دون الأصول. الدليل الرابع: أن الإجماع قد انعقد أن العامي إذا نزلت به حادثة فإنه يلزمه فيها حكم شرعي، وهو بين أمرين لا ثالث لهما: الأمر الأول: إما أن يعرف حكم حادثته بنفسه بواسطة الاستدلال. الأمر الثاني: أو يعرف حكمها عن طريق التقليد. أما الأمر الأول فلا يمكن؛ لأنه إذا أراد معرفة حكم حادثته بنفسه فإنه لا بد أن يبدأ بتعلم العلم، فيعرف الأدلة، وكيفية ترتيبها، والناسخ منها والمنسوخ، وأقوال العلماء في كل دليل، ومعرفة ما يعارض ذلك الدليل، وكيفية فك ذلك التعارض، وهذا كله إذا كان قابلاً للتعلم، وكذلك تعلم القياس وشروط كل ركن من أركانه، وهذه المعرفة لا يمكنه تحصيلها إلا في زمان طويل، قد يذهب عمره وهو لم يصل إلى حكم شرعي لحادثته، وكثير من أهل الحديث يعرفون صحيح الأحاديث وسقيمها، ثم لا يمكنهم الاجتهاد. إذن لا يمكن للعامي أن يعرف حكم حادثته بنفسه بواسطة الاستدلال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2393 فلم يبق إلا أن يعرف حكمها عن طريق تقليده لغيره من المجتهدين. المذهب الثاني: أنه لا يجوز التقليد في الفروع، بل يلزم العوام الاجتهاد والنظر في الدليل. وهو مذهب معتزلة بغداد، وبعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أنه قد لا يثق العامي بالمجتهد الذي أفتاه بأن لم يخلص بالاجتهاد أو نحو ذلك، فيكون فعله مفسدة، فيحتاج العامي أن يفهم دليل المجتهد ليزول شكه، ويكون واثقا من الحكم الذي قاله له المجتهد. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابين: الجواب الأول: أن المجتهد لو أخبر العامي بالدليل الذي اعتمد عليه، فإن هذا لا يفيد شيئاً؛ لأن العامي لا يعرف وضعه وطريقه وكيفية الاستفادة منه - كما قلنا ذلك فيما سبق -. الجواب الثاني: أن هذا الدليل منتقض بخبر الواحد، فإن العالم لا يأمن أن يكون المخبر قد كذب عليه، فيكون بأخذه ما جاء في الخبر والاستدلال به فاعلاً للمفسدة، ولكنه يأخذ المجتهد ممن توفرت شروط الراوي فيه ما يرويه. الدليل الثاني: قياس الفروع على الأصول، فكما أنه لا يجوز للعامي التقليد في أصول الدين، فكذلك لا يجوز في الفروع. جوابه: أن هذا القياس قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ويفرق بينهما من وجهين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2394 الوجه الأول: أن طرق مسائل أصول الدين من التوحيد، والنبوات عقلية يحتاج الإنسان فيها إلى تنبيه يسير، فلا ينقطع عمر الإنسان ومعاشه فيها. أما الفروع فنظرا إلى كثرة أدلته، وتنوعها، وتشعبها، وتجدد الاجتهاد فيها، وأنه لا يتم إلا بأمور شرعية لا يمكن ضبطها ومعرفتها إلا بطول بحث وسعة نظر واطلاع، وهذا يفضي إلى الانقطاع عن المعاش الذي به قوام الدنيا. الوجه الثاني: أن مسائل الفروع يطلب فيها ما يغلب على ظنه أنه الحق، وذلك يحصل للعامي بقول المفتي وهو المجتهد، كما يحصل للعالم بخبر الواحد عن الرسول - صلى الله عليه وسلم -. بخلاف مسائل الأصول، فلا بد من الجزم فيها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2395 المبحث الرابع بيان طرق معرفة العامي للمجتهد حتى يستفتيه قلنا: إنه يجوز للعامي تقليد كل شخص غلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد، وأهل العدالة والتقوى، ولكن يرد سؤال وهو: كيف يعرف ذلك المجتهد أو المفتي؟ أقول: يعرفه بطرق هي: الطريق الأول: انتصاب ذلك الشخص للفتيا بمشهد من أعيان العلماء، دون أن ينكروا عليه. الطريق الثاني: أخذ الناس عنه، واجتماعهم على سؤاله والعمل بما يقول، دون منكر. الطريق الثالث: ما يظهر على ذلك الشخص المفتي من علامات وصفات الدين والتقوى، والعدالة والورع. الطريق الرابع: أن يخبره عدل ثقة عنده بأن هذا عالم عدل. فإذا توفر واحد من هذه الطرق، فإنه يغلب على ظنه أن هذا هو الذي ينبغي أن يقلد. أما إذا غلب على ظنه أن هذا الشخص ليس من أهل الاجتهاد، وأنه جاهل بأحكام الشريعة، فلا يجوز له أن يقلده، أو يأخذ عنه إجماعاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2396 المبحث الخامس مجهول الحال هل يجوز تقليده؟ إذا لم يعرف العامي عن شخص أفيَ شيء، أي: لا يعرف عنه أنه عالم، ولا أنه جاهل فهل يجوز له تقليده، والأخذ عنه؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: ْالمذهب الأول: أن مجهول الحال لا يجوز تقليده، ولا العمل بفتواه. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: القياس على الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وعلى الشاهد، وحال الراوي، بيان ذلك: كما أن الرسول لا يمكن أن تقبل الأُمَّة المبعوث إليهم قوله إلا بعد أن تعرف وتطلع على المعجزات التي يذكرها؛ إذ لو قبلت الأُمَّة كل من ادَّعى النبوة بدون أدلة على ذلك لضاعت الحقيقة، ولكثر الذين يدَّعون النبوة كذباً وزوراً، وكما أن القاضي يجب أن يعرف حال الشاهد من الصدق والعدالة، وكما أن الراوي للخبر يجب عليه أن يعرف حال رواته بالتفصيل. فكذلك يجب على العامي أن يعرف حال المجتهد والمفتي الذي يريد أن يقبل قوله، ويعمل به، والجامع: أن كلًّا من الرسول، والشاهد، والراوي، والمجتهد: مُتبع فيما يقول، ويترتب عليه آثار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2397 الدليل الثاني: أنا لا نأمن أن يكون حال المسؤول كحال السائل في العامية المانعة من قبول القول، بل قد يكون أجهل من السائل. واحتمال كونه أجهل من السائل قوي، لأن الأصل عدم العلم والجهل؛ حيث إن الغالب إنما هم العوام. فلذلك لا بد أن يسأل عنه، فإن كان عالما قلَّده، وإلا فلا. المذهب الثاني: أن مجهول الحال يجوز تقليده، واستفتاؤه، وليس على العامي البحث عنه. وهو لبعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن من عادة العوام إذا دخلوا بلدة يريدون الاستفسار والسؤال عن حكم حادثة حدثت لهم، فإنهم لا يبحثون عن عدالة من يسألونه، ومن يستفتونه، ولا يسألون عن علمه، وهل هو قد بلغ درجة الاجتهاد أو لا؟ وهذا شائع وذائع لا يحتاج إلى برهان. جوابه: أنا لا نُسَلِّمُ أن عادة العوام تعتبر دليلاً من أدلة الشرع حتى تكون مثبتة لقاعدة من القواعد الأصولية، ولو جعلنا عادة العوام طريقا لإثبات القواعد لانهدمت أكثر الشريعة. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2398 المبحث السادس إذا كان في البلد مجتهدان فأكثر فأيهم الذي يستفتيه العامي؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن للعامي أن يسأل من شاء ممن غلب على ظنه أنه من أهل الاجتهاد، ويتخير، ولا يلزمه أن يسال الأعلم والأفضل. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لإجماع الصحابة؛ حيث إن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - فيهم الفاضل والمفضول من المجتهدين، يتبين ذلك من بعض النصوص الواردة في ذلك كقوله - صلى الله عليه وسلم -: "عليكم بسُنَّتي وسُنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ "، وقوله: " ... وأقضاكم عليّ، وأفرضكم زيد، وأعرفكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل "، وكان فيهم العوام، ومن فرض ذلك: اتباع الفاضلين والأخذ بقولهم لا غير، ومع ذلك لم ينقل عن أحد من الصحابة تكليف العوام الاجتهاد في أعيان المجتهدين، ولم ينكر أحد منهم اتباع المفضول، وقبول قوله مع وجود الأفضل، فهذا يدل على أن العامي والمستمْتي له أن يتخير بين الفاضل والمفضول. المذهب الثاني: أنه يلزم العامي أن يسأل الفاضل، ويترك المفضول، أي: أن العامي لا يتخير بين المجتهدين حتى يأخذ من شاء منهم، بل يلزمه الاجتهاد في أعيان المجتهدين من الأورع، والأدين، والأعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2399 وهو مذهب ابن سريج، والقفال، وبعض الشافعية، وبعض الحنابلة، وهو رواية عن الإمام أحمد، وجماعة من المتكلمين. دليل هذا المذهب: قياس العامي على الأعمى عند الاختلاف في جهة القِبْلة؛ حيث إنه لو كان هناك ثلاثة رجال سافروا، وأحدهم أعمى، فلما حضرت الصلاة: اختلف المبصران في جهة القِبْلة: أحدهما يقول: إن جهة القبْلة كذا، والآخر يخالفه ويقول: إن جهة القِبْلة كذا، فإن الأعمَى يتبع أوثقهما في الدين والعدالة والتقوى وأعلمهما بجهات القِبْلة. فكذلك هنا فإن العامي لا يتبع إلا أفضل المجتهدين ديناً وعلما ولا فرق. جوابه: أن هذا قياس مع الفارق، والقياس مع الفارق فاسد، ووجه الفرق: أن المسألة المقاس عليها تختلف عن المسألة المقاسة وهي مسألتنا؛ حيث إن العامي لو سأل مجتهدين فاختلفا في الحكم، فأحدهما قال بجواز ذلك، والآخر قال بتحريمه، فإنا نوافق ونسلم أن العامي يأخذ بقول الأفضل منهما في علمه ودينه، وهذا ليس من مسألتنا - وستأتي بعد هذه -. أما المسألة التي نحن بصددها هي: إذا كان في البلد عدة مجتهدين بعضهم أفضل من بعفمن حيث العلم، فهل يسأل العامي الأفضل أو المفضول؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2400 والخلاصة: أن الخلاف بين المسألتين: أن ما نحن فيه لم يسأل العامي أيَّ مجتهد. أما المسألة الأخرى فهي: أن العامي قد سأل مجتهدين، وكل واحد منهما قد أفتاه بفتوى تخالف فتوى الآخر، وأحدهما أفضل من الآخر، فأيهما الذي يتبع العامي؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2401 المبحث السابع إذا سأل العامي مجتهدين عن حكم حادثته فحكم أحدهما بأنه يجوز فيها كذا، وحكم الآخر بأنه لا يجوز فيها كذا وأحدهما أفضل من الآخر من حيث العلم فهل يعمل بحكم الأفضل، أو يتخير؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن العامي يأخذ بقول وحكم الأفضل، ويترك قول وحكم المفضول. وهو مذهب بعض العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: قياس العامي على المجتهد، بيانه: أنه إذا تعارض عند المجتهد دليلان: أحدها يحرم، والآخر يجوز، فإن المجتهد يأخذ بأرجحهما وأقواهما في ظنه. فكذلك العامي يتبع ظنه في الترجيح بين المجتهدين المتفاضلين. أي: إن غلب على ظنه أن أحد المجتهدين أفضل من الآخر، فإنه يتبع الأفضل، ويترك المفضول. الدليل الثاني: أن العامي لا يشك في أن الصواب في أحد القولين، وهذا شيء يحس به في قريرة نفسه، فإنه لا بد أن يجتهد في أن يبعده عن هذا القول الخاطئ، ولا طريق له في ذلك إلا بأن يتبع المجتهد الأفضل، ويترك المفضول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2402 المذهب الثاني: أن العامي يتخير بين الحكمين، فإن شاء أخذ بقول الأفضل، وإن شاء أخذ بقول المفضول. وهو مذهب كثير من العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن العامي لا يمكنه أن يعرف الأفضل منهما على الحقيقة، بل قد يغتر بالظواهر، فيقدم المفضول، ويعتقد أنه هو الأفضل، وذلك لأن معرفة أن هذا العالم أفضل من ذاك يحتاج إلى معرفة أدلة كل واحد منهما على حكمه، وهذا ليس من شأن العوام، ولا يمكنهم ذلك لو أرادوا، ولو جاز أن يعرف العامي أدلة كل واحد من المجتهدين: لجاز للعامي أن ينظر في مسألته بنفسه ابتداء، دون أن يرجع إلى أي مجتهد. ثم إن زيادة الفضل لا تؤثر؛ لأن المفضول - أيضا - من أهل الاجتهاد يُسأل ويفتي لو انفرد، فكذلك إذا كان معه غيره، ولا فرق. جوابه: أن العامي يعرف الأفضل بكل سهولة، حيث إنه يمكنه أن يعرف ذلك بإحدى طرق: الطريق الأول: الأخبار: كأن يخبره العدل الثقة بأن فلانا هو أفضل علماء هذا العصر، أو يبلغه خبر عن طريق التواتر في ذلك. الطريق الثاني: بالمشاهدة، كأن يرى فلانا من المجتهدين يذعن له العلماء الآخرون، ويبجلونه، ويقدمونه عليهم، ويقبلون ما يقول. الطريق الثالث: بالأمارات والقرائن، كأن يلاحظ عليه بعض الأمور التي تجعله يحكم - بغلبة الظن - أن هذا هو الأفضل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2403 أما قولكم: " إن زيادة الفضل لا تؤثر "، فليس بصحيح؛ بل إنها تؤثر في زيادة الاطمئنان على الحكم، وأنه بعيد عن الحكم الخاطئ. الدليل الثاني: إجماع الصحابة، حيث إنهم لا ينكرون على العامة ترك النظر في أحوال العلماء، وأنهم لم يفرقوا بين الفاضل والمفضول. جوابه: أن هذا الإجماع صحيح، ولكنه محمول على أنه لا يفاضل بين المجتهدين قبل السؤال، فيكون هذا يصلح للاستدلال به على المذهب الأول من المسألة السابقة في المبحث السادس. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي؛ حيث إنه لو اختلف مجتهدان في القبْلة، فإنه يقلد أوثقهما وأعلمهما بجهات القبْلة عنده، وهذا بناء على المذهب الأول. أما على المذهب الثاني: فإنه يقلد من شاء منهما، ويتخير. * * * الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2404 المبحث الثامن إذا استوى عند العامي المجتهدان اللذان قد أصدرا فتواهما في جميع الأحوال - أي: لا يوجد أفضل ولا مفضول - وأحد المجتهدين قد أفتى بحكم شديد والآخر قد أفتى له بحكم خفيف فأي الحكمين يأخذ به العامي؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أن العامي يتخير بين الحكمين، فإن شاء أخذ بالأخف، وإن شاء أخذ بالأشد. وهو مذهب كثير من العلماء، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: أن المجتهدين إذا تساويا عند العامي في جميع الأحوال، فإن قول أحدهما يساوي في القوة قول الآخر، فلا فرق بينهما، فليس قول أحدهما بأفضل وأقوى وأوْلى من قول الآخر؛ فلا مجال للمفاضلة بينهما، ولو أراد أن يفاضل بينهما لما استطاع. الدليل الثاني: أنه للعامي أن يقلد أيهما شاء في الابتداء قبل الفتوى - كما قلنا في المبحث السادس - فكذلك له أن يختار قول أيهما شاء بعد الفتوى، ولا فرق في ذلك. المذهب الثاني: أنه يجب على العامي الأخذ بالحكم الأشد. وهو مذهب بعض الشافعية، والخطيب البغدادي، وحكي عن الظاهرية، وهو اختيار القاضي عبد الجبار بن أحمد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2405 دليل هذا المذهب: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " الحق ثقيل قوي، والباطل خفيف، ولربما شهوة تورث حزنا طويلاً ". وجه الدلالة: أن هذا الحديث دلَّ على أن الحق في الأشد. جوابه: أن هذا الحديث معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " بعثت بالحنيفية السمحة السهلة "، وبقوله: " إن اللَّه يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه ". وإذا تعارض الدليلان تساقطا، فيكون الصحيح هو أن يخير العامي بينهما. المذهب الثالث: أنه يجب عليه الأخذ بالحكم الأخف. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "بعثت بالحنيفية السمحة السهلة ". ووجه الدلالة: أنه بيَّن أن الحق في الأخف الأسهل. جوابه: أن هذا الحديث معارض بقوله - صلى الله عليه وسلم -: " الحق ثقيل، والباطل خفيف ". وإذا تعارض الدليلان تساقطا، فيكون الصحيح: أن يخير العامي بينهما كما قلنا. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي كما هو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2406 الباب السابع في التعارض والجمع والترجيح ويشتمل على ثلاثة فصول: الفصل الأول: في التعارض. الفصل الثاني: في الجمع. الفصل الثالث: في الترجيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2407 الفصل الأول في التعارض ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: شروطه. المبحث الثالث: إذا ثبت تعارض دليلين فهل يُقدم الجمع أو الترجيح؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2409 المبحث الأول تعريف التعارض أولاً: التعارض لغة: هو التقابل، وهذا قد يكون على سبيل المماثلة والمساواة، ومن ذلك قولهم: " عارضت فلانا في السير " إذا سرت حياله. وقد يكون على سبيل الممانعة والمدافعة، ومن ذلك قولهم: "عرض الشيء يعرض ": إذا انتصب وصار مانعا كالحجر في الطريق يمنع السالكين، ومنه قولهم: " اعترض الشيء دون الشيء " أي حال دونه. وهذا الثاني هو المناسب لمعنى التعارض في الاصطلاح كما سيأتي. ثانيا: التعارض اصطلاحاً هو: تقابل الدليلين على سبيل الممانعة. بيان التعريف: لفظ " تقابل " عام يشمل كل تقابل، فيدخل التقابل الواقع بين حكمين مختلفين كالوجوب والتحريم، ويدخل التقابل الواقع بين أقوال المجتهدين، ويدخل التقابل بين الدليلين. وعبارة: " تقابل الدليلين " أخرجت ما سبق إلا تقابل الدليلين. وعبارة: " على سبيل الممانعة " أتي بها لبيان أنه يشترط في الدليلين المتعارضين: أن يدل أحد الدليلين على غير ما يدل عليه الآخر كأن يدل أحدهما على الجواز، والآخر يدل على التحريم، فدليل الجواز يمنع التحريم، ودليل التحريم يمنع الجواز، فكل منهما مقابل الآخر، ومعارض له، ومانع منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2411 المبحث الثاني شروط التعارض ليس كل تعارض بين دليلين صحيحاً، بل إن للتعارض الصحيح شروطاً هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون الدليلان متضادين تمام التضاد بأن يكون أحدهما يجوز، والآخر يحرم؛ لأن الدليلين إذا اتفقا في الحكم، فلا تعارض كما بينا. الشرط الثاني: أن يتساوى الدليلان في القوة، فلا تعارض بين دليلين تختلف قوتهما من ناحية الدليل نفسه، كأن يدل حديث متواتر على تحريم شيء، ويدل حديث آحاد على جوازه، فهنا لا تعارض بينهما حيث يقدم الدليل المتواتر. والتساوي بين الدليلين يجب أن يكون من جميع الوجوه: فلا بد من التساوي في الثبوت فلا تعارض بين متواتر وآحاد. ولا بد من التساوي في الدلالة، فلا تعارض بين ما دلالته قطعية وما دلالته ظنية. ولا بد من التساوي في عدد الأدلة، فلا تعارض بين دليلين ظنيين، وبين دليل واحد ظني. الشرط الثالث: أن يكون تقابل الدليلين في وقت واحد؛ حيث إن اختلاف الزمن ينفي التعارض، ومن هنا قدم خبر: " كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يصبح جنباً وهو صائم " الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2412 وقد روته إحدى زوجاته - صلى الله عليه وسلم - على الخبر الذي رواه أبو هريرة: " من أصبح جنبا فلا صوم له ". الشرط الرابع: أن يكون تقابل الدليلين في محل واحد؛ لأن التضاد والتنافي لا يتحقق بين الشيئين في محلين: فالنكاح مثلاً يوجب الحل في المنكوحة، والحرمة في أمها، إذن لا تعارض بين قوله تعالى: (نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم) ، وقوله تعالى: (حرمت عليكم أمهاتكم) إلى قوله: (وأمهات نسائكم) ، وذلك لاختلاف من يقع عليها الحل ممن يقع عليها التحريم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2413 المبحث الثالث إذا ثبت تعارض دليلين فهل يقدم الجمع أو الترجيح؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب، من أهمها مذهبان هما: المذهب الأول: أنه يُقدم الجمع بين المتعارضين بأي نوع من أنواع الجمع، فإن تعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإنه يرجح أحدهما على الآخر، وذلك بأي وجه من أوجه الترجيح، فإن تعذر على المجتهد الجمع والترجيح، فإنه ينظر في تاريخ ورود الدليلين المتعارضين، فإن عرفه فإنه حينئذٍ ينسخ المتأخر المتقدم، فإن تعذر الجمع، والترجيح ومعرفة المتاخر من المتقدم، فإن المجتهد يحكم بسقوط الدليلين المتعارضين، ويرجع ويستدل على حكم الحادثة بالبراءة الأصلية، وكأن الدليلين المتعارضين غير موجودين. هذا مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الدليلين المتعارضين دليلان قد ثبتا، ويمكن استعمالهما معا، وبناء أحدهما على الآخر، فلا يمكن إلغاؤهما، أو إلغاء واحد منهما إذا أمكن العمل بكل واحد منهما من وجه.. الدليل الثاني: أنه فد ورد تقديم الجمع بين الدليلين عن ابن عباس - رضي اللَّه عنهما - حيث إنه لما قرأ قوله تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ) ، وقوله:. (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) قال - أى ابن عباس -: يُسألون في موضع، ولا يُسألون في موضع آخر، فقال - جامعا بينهما -: " لا يسألهم ربهم هل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2414 عملتم كذا وكذا؛ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقول لهم: لِمَ عملتم كذا وكذا؟ "، فهنا قدم الجمع على غيره. الدليل الثالث: أن الجمع بين الأدلة المتعارضة فيه تنزيههما عن النقص؛ لأن الدليلين المتعارضين بالجمع يتوافقان، ويزال الاختلاف المؤدي إلى النقص والعجز، بخلاف الترجيح فإنه يؤدي إلى إلغاء أحدهما وتركه؛ لأنه يوجب العمل بالراجح دون المرجوح، وكذلك النسخ والتخيير، حيث إنه يترتب عليهما ترك أحد الدليلين، وكذلك إسقاط الدليلين معا يترتب عليه ترك العمل بهما معا. المذهب الثاني: أنه يقدم الترجيح على الجمع، فقال أصحاب هذا المذهب في تفصيل ذلك: إنه يقدم النظر في تاريخ ورودهما، فإن علم أن أحدهما متقدم على الآخر، فإنه يحكم بأن المتأخر ناسخ للمتقدم، وإن تعذر معرفة تاريخ ورودهما: فإنه يرجح أحدهما على الآخر بأي وجه من وجوه الترجيح، فإن تعذر التاريخ والترجيح: جمع بينهما إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين اللذين لا مرجح لأحدهما أوْلى من إهدارهما، فإن تعذر الجمع ترك العمل بهما، وعدل إلى الاستدلال إلى ما دونهما في الرتبة. وهذا مذهب الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الصحابة - رضوان اللَّه عليهم - كانوا إذا أشكل عليهم حديثان، فإنهم يلجأون إلى الترجيح، وقد ثبت ذلك في وقائع منها: أنهم رجحوا حديث عائشة - رضي اللَّه عنها -: "إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل " على حديث: " إنما الماء من الماء". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2415 جوابه: هذا يدل على وجوب الترجيح بين الدليلين المتعارضين، وهذا لا نزاع فيه، ولكن النزاع في تقديم الجمع على الترجيح، أو العكس، وهذا الدليل لا يدل عل تقديم أحدهما على الآخر، ونحن نقول: إنه إذا تعذر الجمع لجأنا إلى الترجيح، فلما لم يمكن الجمع بين الحديثين السابقين، لجأوا إلى الترجيح. الدليل الثاني: أن العقلاء قد اتفقوا على أنه عند التعارض يقدم الراجح على المرجوح، واتفقوا - أيضا - على امتناع ترجيح المرجوح، أو مساواته بالراجح. جوابه: أن النظر إلى الراجح من الأدلة والمرجوح منها، إنما يكون لدفع التعارض بإسقاط أحدهما عن العمل، والأدلة بعد الجمع تكون متوافقة، فلا تحتاج إلى الترجيح أصلاً. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، وهو ظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2416 الفصل الثاني في الجمع ويشتمل على مبحثين هما: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: شروطه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2417 المبحث الأول تعريف الجمع بين الأدلة المتعارضة أولاً: الجمع لغة: هو تاليف التفرق، يقال: جمع الشيء عن تفرقة يجمعه جمعا فاجتمع، وتجمع القوم إذا التفوا حول بعض. ثانيا: الجمع في الاصطلاح هو: الائتلاف بين الأدلة الشرعية وتوافقها؛ وبيان أن الاختلاف بينها غير موجود حقيقة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2419 المبحث الثاني شروط الجمع بين الأدلة المتعارضة ليس كل جمع بين دليلين متعارضين يصح، بل إن للجمع الصحيح شروطا هي كما يلي: الشرط الأول: أن يكون كل دليل من الدليلين المتعارضين ثابت الحجية، فلا يجوز الجمع بين دليلين ضعيفين؛ لأنهما ليسا بدليلين. الشرط الثاني: أن يكون كل دليل من الدليلين المتعارضين مساويا للآخر، فلا يجوز الجمع بين دليل قوي ودليل ضعيف، بل يصار هنا إلى ترجيح الأقوى. الشرط الثالث: إذا كان الجمع بين الدليلين بالتأويل البعيد: فلا يجوز أن يخرج هذا التأويل عن القواعد المقررة في اللغة. ولا يجوز أن يخالف عرف الشريعة ومبادئها السامية. ولا يجوز أن يخرج الكلام به إلى ما لا يليق بكلام الشارع. الشرط الرابع: أن يكون الجامع من أهل الاجتهاد والنظر الدقيق في الشريعة. الشرط الخامس: ألا يخرج المجتهد بجمعه بين الدليلين عن حكمة التشريع وسره، ولا يخالف بجمعه وتأويله الأحكام الشرعية المتفق عليها، أو المنصوص عليها نصا قاطعا، أو ما علم من الدين بالضرورة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2420 الفصل الثالث في الترجيح ويشتمل على المباحث التالية: المبحث الأول: تعريفه. المبحث الثاني: أركانه. المبحث الثالث: شروطه. المبحث الرابع: هل الترجيح لا يوجد إلا إذا وجد التعارض، أو الترجيح لا يكون بين المتعارضين؟ المبحث الخامس: هل يجوز الترجيح بين دليلين قطعيين أو لا؟ المبحث السادس: حكم العمل بالراجح من الدليلين. المبحث السابع: هل يجوز الترجيح بكثرة الأدلة؟ المبحث الثامن: طرق الترجيح بين الأدلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2421 المبحث الأول تعريف الترجيح أولاً: الترجيح لغة هو: التمييل والتغليب، يقال: " رجح الميزان " إذا مال، ويقال: " أرجح الميزان " إذا أثقله حتى مال. ثانياً: الترجيح اصطلاحا هو: تقديم المجتهد لأحد الدليلين المتعارضين؛ لما فيه من مزية معتبرة تجعل العمل به أوْلى من الآخر. *** المبحث الثاني أركان الترجيح لقد اتضح من تعريف الترجيح أركان الترجيح وهي باختصار: الركن الأول: وجود دليلين: راجح، ومرجوح. الركن الثاني: وجود المزية في أحد الدليلين المتعارضين، وهو المرجح به. الركن الثالث: وجود المجتهد الذين يرجح أحدهما على الآخر. الركن الرابع: بيان المجتهد فضل ومزية الدليل الذي يريد ترجيحه على الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2423 المبحث الثالث شروط الترجيح بين الدليلين ليس كل ترجيح بين دليلين متعارضين يصح، بل إن للترجيح الصحيح شروطاً هي كما يلي: الشرط الأول: أن يتعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين، فإن أمكن الجمع فلا يصح ترجيح أحدهما على الآخر. الشرط الثاني: أن يكون الدليلان ظنيين، حيث إنه لا تعارض أصلاً بين دليلين قطعيين، وبين دليل قطعي، ودليل ظني، وبالتالي لا ترجيح هنا، بل لا بد أن يكون بين ظنيين؛ لأنهما قابلان للتفاوت. الشرط الثالث: أن يكون الدليلان متساويان في الحجية؛ فلا يصح ترجيح ما كان حُجَّة على ما ليس بحُجَّة، بل لا يسمى ذلك بترجيح أصلاً. الشرط الرابع: أن يعلم المجتهد تحقق شروط المعارضة بين الدليلين. الشرط الخامس: أن يكون المرجح قويا، بحيث يجعل المجتهد يغلب على ظنه أن أحد الدليلين أقوى من الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2424 المبحث الرابع هل الترجيح لا يوجد إلا إذا وجد التعارض أم الترجيح لا يكون بين المتعارضين؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أن الترجيح لا يوجد إلا بين الدليلين المتعارضين، ويظهر ذلك وقد سبقت الإشارة إلى ذلك في التعريف. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لأنه لولا التعارض لما وجدت حاجة إلى الترجيح والبحث عنه بعد تعذر الجمع، ومعروف أن الترجيح من جملة ما يدفع به التعارض، ومعروف - أيضاً - أنه لم يلجأ المجتهد إلى الترجيح إلا من أجل التخلص من التعارض. المذهب الثاني: أن الترجيح لا يوجد مع التعارض، ولا يشترط لتحقق الترجيح وجود التعارض، فيكون الترجيح مباينا للتعارض. وهو مذهب يعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن من شروط التعارض: استواء الدليلين من جميع الوجوه - كما سبق بيانه - والترجيح لا بد أن يكون لأحدهما فضل وزيادة، فالقول بالتعارض هو القول بتساوي الدليلين، والقول بترجيح أحدهما قول بعدم الساواة بينهما، فهما - إذن - قولان متناقضان. جوابه: أن استواء الدليلين شرط في التعارض العام بين الدليلين نفسيهما، وهذا لا يمنع من وجود جزئيات دقيقة في كل واحد من الدليلين يجعل أحدهما يرجح على الآخر، أو وجود مرجحات خارجية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2425 المبحث الخامس هل يجوز الترجيح بين دليلين قطعيين أو لا؟ لقد اختلف العلماء في هذا على مذهبين: المذهب الأول: أنه لا يجوز الترجيح بين دليلين قطعيين، سواء كانا نقليين، أو عقليين. وهو مذهب أكثر الحنفية، وأكثر الشافعية كالغزالي، والآمدي، وبعض المالكية كابن الحاجب، وبعض الحنابلة، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن الترجيح لا بد أن يكون موجبا لتقوية أحد الدليلين المتعارضين على الآخر، والدليل المقطوع به غير قابل للزيادة والنقصان، فلا يطلب فيه ترجيح. الدليل الثاني: أن الترجيح غير متصور في القطعي؛ لأنه إما أن يعارضه قطعي أو ظني. أما الأول - وهو احتمال معارضته بالدليل القطعى - فهو محال؛ لأنه يلزم منه ما يلي: إما العمل بهما معا وهو باطل؛ لأنه جمع بين النقيضين. وإما عدم العمل بهما معا وهو باطل؛ لأنه ترك لدليلين قد ثبتا. وأما العمل بأحدهما دون الآخر وهو باطل؛ لأنه تحكم؛ حيث لا ترجيح مع التساوي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2426 أما الثاني - وهو احتمال معارضته بالدليل الظني - فهو محال، لعدم تصور التعارض بين دليل قطعي ودليل ظني. الدليك الثالث: أن الترجيح: تقوية، وهي: مستحيلة في الدلائل القطعية، حيث إن احتمال النقيض إن كان قائما في أحد الدليلين لم يكن يقينا، وإن لم يكن احتمال النقيض موجوداً فإنه تمتنع التقوية والترجيح. المذهب الثاني: أنه يجوز الترجيح بين الدليلين القطعيين. وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية. دليل هذا المذهب: قياس الأدلة القطعية على الأدلة الظنية، بيان ذلك: أنه كما يجوز الترجيح بين الأدلة الظنية، فكذلك يجوز الترجيح بين الأدلة القطعية، ولا فرق، والجامع: أنها كلها أدلة من الشارع. جوابه: أن هذا القياس فاسد، لأنه قياس مع الفارق، والفرق بينهما من وجوه: الوجه الأول: عدم التفاوت في أكثر القطعيات، بخلاف الظنيات، فإنه يوجد تفاوت في العلم بها. الوجه الثاني: أن مدلول القطعي متحقق، لعدم جواز تخلف المدلول عنه بخلاف مدلول الظني. الوجه الثالث: أنه لا يحتمل النقيض في القطعي، دون الظني. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا لفظي، لا أثر له في الفروع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2427 المبحث السادس في حكم العمل بالراجح من الدليلين لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجب العمل بالراجح من الدليلين المتعارضين. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: إجماع الصحابة - رضي اللَّه عنهم - حيث إنهم كانوا يعملون بالراجح من الدليلين، ويتركون العمل بالدليل المرجوح وهذا ثبت في عدة صعور ووقائع منها: 1 - أنهم عملوا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا التقا الختانان فقد وجب الغسل " وتركوا العمل بقوله: " إنما الماء من الماء ". 2 - أنهم عملوا بحديث: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنبا وهو صائم "، وتركوا العمل بقوله: " من أدرك الصبح وهو جنب فلا صوم له ". الدليل الثاني: أن العرف يقتضي العمل بالراجح، وترك المرجوح، فإذا كان ترجيح الراجح متعين عرفا، فكذا شرعا. الدليل الثالث: أنه لو لم نعمل بالراجح: للزم العمل بالمرجوح ولا شك أن ترجيح المرجوح على الراجح ممتنع عقلاً، فلم يبق إلا العمل بالراجح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2428 المذهب الثاني: أنه لا يجب العمل بالراجح، بل إنه يلزم التخيير أو التوقف. وهو مذهب بعض العلماء. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن الأدلة المتعارضة لا تزيد على البينات المتعارضة والترجيح غير معتبر في البينات، فيقاس عليها الادلة المتعارضة، فكما أنه لا تقدم شهادة الأربعة على شهادة الاثنين، فكذلك لا يقدم دليل على دليل. جوابه: يجاب عن ذلك بجوابو: الجواب الأول: أن الحكم في الأصل المقاس عليه وهو: " أن الترجيح غير معتبر في البينات " مختلف فيه، حيث إنه معتبر عند بعض العلماء، ومنهم مالك. الجواب الثاني: أن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أنه لو اعتبر الترجيح في البينات بكثرة العدد؛ لأدى إلى عدم انضباط الأمور، وامتداد الخصومة؛ حيث إن الخصم سياتي بشهود أكثر من شهود خصمه، وهكذا الآخر، ثم لا ينتهي الأمر، ونظرا لذلك فإنه امتنع اعتبار الزيادة في البينات. بخلاف الأدلة المتعارضة، فكلما زاد ما يقوي دليلاً تقوى رجحانه. الدليل الثاني: قوله تعالى: (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ) . وجه الدلالة: أن اللَّه قد أمر بالاعتبار مطلقا من غير تفصيل، فلا وجه لوجوب العمل بالراجح، دون المرجوح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2429 جوابه: إن الآية تفيد الأمر بالاعتبار، وهو القياس - كما سبق بيانه - ولا تفيد ما ذكرتموه، فليس فيها ما ينافي القول بوجوب العمل بالراجح، حيث إن إيجاب العمل بأحد الدليلين لا ينافي إيجاب غيره. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي، كما هو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2430 المبحث السابع هل يجوز الترجيح بكثرة الأدلة؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذهبين: المذهب الأول: أنه يجوز الترجيح بكثرة الأدلة. وهو مذهب جمهور العلماء، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: قياس الأدلة على الرواة، بيان ذلك: أن رواية الاثنين أقرب إلى الصحة وأبعد عن السهو والغلط من رواية الواحد؛ حيث إن الشيء عند الجماعة أحفظ منه عند الواحد، ولهذا قال - صلى الله عليه وسلم -: "الشيطان مع الواحد، وهو مع الاثنين أبعد "، فيجب تقديم ما كثرت رواته، وإذا كان كذلك فإنه يجب تقديم الحكم الذي كثرت أدلته. الدليل الثاني: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل بقول ذي اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه " حتى أخبره أبو بكر وبعض الصحابة. وجه الدلالة: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - رجح بكثرة العدد. الدليل الثالث: أن الصحابة - رضي اللَّه عنهم - كانوا يرجحون بكثرة العدد، من ذلك: 1 - أن أبا بكر لم يعمل بخبر المغيرة: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أطعم الجدة السدس " حتى شهد معه محمد بن مسلمة. 2 - أن عمر لم يعمل بخبر: " من استأذن ثلاثا ولم يؤذن له فليرجع " حتى شهد مع الراوي بعض الصحابة، والأمثلة كثيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2431 الدليل الرابع: أن مخالفة الدليل خلاف الأصل؛ لأن الأصل في الدليل الإعمال، واستنباط الأحكام منه، فكثرة المخالفة أكثر مخالفة من قلتها، فإذا وجد في جانب دليلان، ووجد في جانب آخر دليل واحد: كان ترك العمل بالأول أكثر مخالفة ومحذوراً من الثاني، فيؤخذ بالأقل محذوراً، والأخف ضرراً. المذهب الثاني: أنه لا يجوز الترجيح بكثرة الأدلة، بل يشترط أن يكون المرجح به وصفاً للدليل المرجح، لا دليلاً مستقلا. وهو مذهب الحنفية. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: قياس الأدلة على الشهادات، بيان ذلك: أنه لا ترجح الشهادة بكثرة العدد؛ حيث إن شهادة شاهدين وشهادة أربعة سواء، فإذا كان الأمر كذلك في الشهادة، فكذلك يمنع الترجيح بكثرة الأدلة. جوابه: يجاب عنه بجوابين: الجواب الأول: أن الحكم في الأصل المقاس عليه وهو: " عدم الترجيح في الشهادة بكثرة العدد " مختلف فيه؛ حيث إن بعض العلماء أثبتوا الترجيح في الشهادة بكثرة العدد، ومنهم الإمام مالك، ولا قياس على أصل حكمه مختلف فيه. الجواب الثاني: سلمنا الحكم في الأصل وهو: " أنه لا ترجح الشهادة بكثرة العدد "، فإن هذا القياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، ووجه الفرق: أن الشارع منع الترجيح في الشهادة بكثرة العدد ومقصوده سد باب الخصومات، حيث إنه يترتب على ذلك أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2432 يقول الخصم: أنا آتي بعدد أكثر من عدده، فيقول الآخر: وأنا أفعل كذلك، فلا تنتهي الخصومة. بخلاف الترجيح بكثرة الأدلة، فلا يكون فيه ذلك. الدليل الثاني: أنه لو جاز الترجيح بكثرة الأدلة، للزم من ذلك تقديم القياس على خبر الواحد عند تعارضهما، وهذا ليس بصحيح، إذ لو وجد مائة قياس، وعارضت تلك الأقيسة خبر واحد كان ذلك الخبر راجحا، كما لو كان القياس راجحا، ولو كان للكثرة أثر في قوة الظن لترجحت الأقيسة على الحديث الواحد. جوابه: إن اتحد أصل تلك الأقيسة المتعددة المعارضة للخبر: كانت كلها في الحقيقة قياساً واحداً، وليست أقيسة متعددة، فإذا قدمنا الخبر عليها فإنا نقدمه على قياس واحد لا غير. وإن لم يتحد أصل تلك الأقيسة المتعددة فتكون مخالفة للقياس المعارض للخبر في الأصل. بيان نوع الخلاف: الخلاف معنوي؛ حيث إنه أثر في بعض الفروع الفقهية، ومنها: إذا ادَّعى رجلان شيئاً وهو في يد أحدهما، وأقام كل منهما بيّنة، فإنه بناء على المذهب الأول: تقدم بيِّنة ذي اليد على بيِّنة الآخر؛ لأنهما استويا في إقامة البيِّنة، وترجحت بينة ذي اليد لكون الشيء المتنازع عليه معه. أما على المذهب الثاني: فإنه لا تسمع بيّنة ذي اليد؛ لأن اليد دليل مستقل بإثبات الحكم، فلا يصلح لترجيح بيِّنة؛ لأنها منفصلة عن البيِّنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2433 المبحث الثامن في طرق الترجيح بين الأدلة ويشتمل على ما يلي من المطالب: المطلب الأول: طرق الترجيح بين منقولين. المطلب الثاني: طرق الترجيح بين معقولين. المطلب الثالث: طرق الترجيح بين منقول ومعقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2435 المطلب الأول في طرق الترجيح بين منقولين الترجيح بين الدليلين المنقولين يشمل الكتاب والسُّنَّة، لكن العلماء تكلموا في ذلك عن السُّنَّة فقط، دون الكتاب، والسبب في ذلك: أن القرآن قد وصل إلينا وهو متكامل لا زيادة فيه ولا نقصان لا يشك في ذلك أيُّ مسلم، ونظراً لكونه متواتراً في السند والمتن، فإنه لا تعارض بين آية وأخرى، فلا ترجيح فيه لآية على أخرى للقطع بأن كله من عند اللَّه، وإن وجد تعارض بين آيتين في الدلالة، فإنه تعارض يستطيع أي طالب علم أن يفك هذا التعارض. وأما السُّنَّة - وإن كانت مثل القرآن في وجوب الاتباع والعمل بمدلولاتها - فنظراً لكونها غير مقطوع بها من حيث السند والمتن فإنه يوجد تعارض فيها بين حديث وحديث آخر، وبالتالي لا بد من الترجيح بينهما، وطرق الترجيح. فالعلماء تكلموا عن طرق الترجيح في السُّنَّة لكون التعارض فيها يقع كثيراً وغالباً؛ بخلاف القرآن الكريم. وطرق الترجيح بين الأحاديث والأخبار تتنوع بحسب ما ترجع إليه، ولهذا جعلت الكلام عنها في المسائل التالية: المسألة الأولى: في طرق الترجيح التي ترجع إلى الرواة. المسألة الثانية: في طرق الترجيح التي ترجع إلى قوة السند وضعفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2437 المسألة الثالثة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى متن الحديث. المسألة الرابعة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى الحكم. المسألة الخامسة: في طرق الترجيح التي ترجع إلى أمر خارجي. وإليك بيان كل مسألة بكل طرقها، وبيان المتفق عليه والمختلف فيه منها، فأقول: المسألة الأولى: طرق الترجيح التي ترجع إلى الرواة: الطريق الأول: الترجيح بكون الراوي قريباً من الرسول - صلى الله عليه وسلم -. إذا تعارض خبران، وراوي أحدهما أقرب من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - وقت سماع الحديث، فإن حديثه يرجح على ما كان راويه أبعد منه؛ لأن الراوي القريب أوعى للحديث من البعيد، وأكثر سماعا له منه، فيكون - أي: القريب - أبعد من احتمال الخطأ. مثاله: التعارض الحاصل بين رواية ابن عمر، وأنس بن مالك في حكاية تلبية الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع، فروى ابن عمر أنه نوى مفرداً - أي بالحج فقط -، وروى أنس: أنه - صلى الله عليه وسلم - نوى قارناً، أي: بالحج والعمرة معا. فهنا ترجح رواية ابن عمر؛ وذلك لأنه أقرب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه ورد في آخر الحديث أن ابن عمر قال: " كنت آخذ بزمام ناقة رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، يسيل علي لعابها ". الطريق الثاني: الترجيح بكبر سن الراوي. إذا تعارض خبران وراوي أحدهما أكبر من راوي الآخر، فإنه يرجح الحديث الذي راويه اكبر سنا على الحديث الآخر؛ لأمور: أولها: أن الغالب أن كبير السن يكون أقرب الناس مجلسا إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2438 النبي - صلى الله عليه وسلم -؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا تختلفوا فتختلف قلوبكم ليلين أولو الأحلام والنهى، ثم الذين يلونهم ". ثانيها: أن محافظته على منصبه تحمله على تحرزه عن الكذب. ثالثها: أن الغالب في الكبار أنهم يتحرزون عن الكذب، ويحتاطون لدينهم، فلا ينقلون إلا ما كانوا متأكدين منه أكثر من الصغار. رابعها: أن الكبير أضبط للحديث من الصغير. ويستثنى من هذه القاعدة: الصغيرة الذي يحترز لدينه ويتميز بالضبط أكثر من الكبير أو مثله. مثاله: نفس المثال في الطريق السابق، وهو تعارض حديث ابن عمر، مع حديث أنس، فأنا نرجح حديث ابن عمر؛ نظراً لكبر سنه، لما ورد في آخر الحديث من قول ابن عمر: " أن أنسا كان صغيراً يلج على كنساء وهن متكشفات، وأنا آخذ بزمام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسيل عليّ لعابها ". الطريق الثالث: الترجيح بكون الراوي متأخر الإسلام. إذا تعارض خبران وراوي أحدهما كان متأخر الإسلام من الآخر، فايهما الذين يرجح؟ لقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: المذهب الأول: أنه يرجح حديث متأخر الإسلام. وهو مذهب أكثر الشافعية، وبعض المالكية، وبعض الحنابلة، وهو الحق؛ لما يلي من الأدلة: الدليل الأول: أن تأخره في الإسلام يدل على تأخره في روايته، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2439 فهو يحفظ آخر الأمرين من رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون الأخذ بخبره أوْلى. الدليل الثاني: أن ابن عباس قال: " كنا ناخذ الأحدث فالأحدث من أوامر رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - "، وخبر متأخر الإسلام هو الأحدث، فيكون هو الأَوْلى. الدليل الثالث: أن رواية متقدم الإسلام تعتريها عدة احتمالات هي كما يلي: فيحتمل أن يكون خبره مما سمعه في آخر الأمر من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فيكون مساوياً لمتأخر الإسلام. ويحتمل استماعه للخبر في أول الإسلام، فيكون متقدما في الزمان، مرجوحاً في العمل. ويحتمل أن يكون المتقدم منسوخا بالمتأخر. وإذا تطرق الاحتمال إلى الدليل بطل به الاستدلال. لذلك نرجح حديث متأخر الإسلام على متقدمه. المذهب الثاني: أنه يرجح خبر الراوي المتقدم في الإسلام. وهو مذهب بعض الحنفية، وبعض الشافعية كالآمدي، وبعض المالكية كابن الحاجب. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن المتقدم "عاش حتى مات متأخر الإسلام متساويا له في الصحبة، إلا أن المتقدم يزيد عليه بالتقدم؛ لقوة أصالته، وسبق معرفته بالإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2440 جوابه: أن سماع المتأخر متحقق التأخر، ولا يحتمل غير ذلك، أما سماع المتقدم فإنه يحتمل التقدم والتأخر، وما لا يحتمل مقدم على ما يحتمل. الدليل الثاني: أن المتقدم قد يطلع على ما لا يطلع عليه المتأخر، فهو أوْلى؛ نظراً لسبق معرفته، ولشدة احترازه عن الكذب صونا لمنصبه. جوابه: أن في رواية المتقدم احتمال، بخلاف الآخر. المذهب الثالث: أنهما متساويان، فلا نرجح رواية على أخرى. وهو مذهب بعض العلماء. دليل هذا المذهب: أن كل واحد منهما قد اختص بمزية لا توجد في الآخر، فالأول قد اختص بمزية الأصالة والتقدم، واطلاعه على ما لم يطلع عليه الآخر في الإسلام، أما راوي الحديث الثاني فإنه مختص بكونه لا يروي في الغالب إلا آخر الأمرين عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فكانت روايتهما سواء. جوابه: لا نسلم أن روايتهما سواء، بل إن رواية المتقدم تحتمل التقدم والتأخر، وأما رواية المتأخر فلا تحتمل إلا التأخر فافترقا. المذهب الرابع: التفصيل، وهو: إن كان التقدم في الإسلام موجوداً في زمن المتأخر، فلا ترجيح لواحد منهما على الآخر؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2441 نظراً لجواز أن تكون رواية المتقدم في الإسلام متأخرة عن رواية المتأخر فيه، ويحتمل العكس من غير ترجيح، فلا يقدم أحدهما على الآخر. أما إذا علم أن المتقدم في الإسلام مات قبل إسلام المتأخر، أو علم أن أكثر رواياته متقدمة على رواية المتأخر، فإن رواية المتأخر تكون أرجح؛ لأن ما علم تأخيرها على روايات المتأخر في الإسلام فهو متقدم ومرجح على روايات المتقدم في الإسلام، وما لم يعلم يكون نادراً، والنادر يلحق بالغالب الكثير، وهو مذهب فخر الدين الرازي. جوابه: أن احتمال تقدم رواية الراوي المتقدم احتمال قوي وإن كان موجوداً في زمن الراوي المتأخر، في حين أن هذا الاحتمال غير موجود في الراوي المتأخر، وما لا يحتمل مقدم على ما يحتمل. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، كما هو واضح. الطريق الرابع: الترجيح بكون الراوي كثير الصحبة. إذا تعارض خبران، وراوي أحدهما أكثر صحبة لرسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - من راوي الخبر الآخر، فإنه يرجح الخبر الذي راويه أكثر صحبة؛ لأمرين: أولهما: أن كثير المصاحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم - أعلم برواية الحديث، وأحفظ لها، وأكثر استيعابا لأقوال النبي - صلى الله عليه وسلم - وأفعاله وأعلم بمقاصد الشريعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2442 ثانيهما: أن كثير الصحبة أقوى إيماناً من غيره بسبب كثرة استماعه لمواعظه - صلى الله عليه وسلم -، فيكون تجنبه عن الكذب أكثر وأشد. الطريق الخامس: الترجيح بكون الراوي سمع من غير حجاب. إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين سمع الحديث من الراوي الأول من غير حجاب، وراوي الخبر الثاني المعارض له سمع الخبر منه وبينهما حجاب، فإنه يرجح خبر الراوي الذي سمع من الراوي الأول من غير حجاب؛ لأن الرواية من غير حجاب شاركت الرواية الأخرى في السماع، وتزيد عليها بتعين عين المسموع منه، فيكون آمناً من تطرق الخلل الموجود في الرواية الأخرى. لذلك ترجح رواية قاسم بن محمد بن أبي بكر عن عائشة - رضي الله عنها - أن بريرة عتقت وكان زوجها عبداً على رواية الأسود بن يزيد عن عائشة: أن بريرة عتقت وزوجها حر؛ ويرجح ذلك لأن قاسم بن محمد قد سمع من عائشة بلا حجاب؛ لأنها عمته، أما الأسود فقد سمع عنها مع الحجاب. الطريق السادس: الترجيح بكون الراوي قد اتفق على عدالته. إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين قد اتفق على عدالته، وراوي الخبر الآخر قد اختلف في عدالته: فإن الخبر الذي اتفق على عدالة راويه يرجح على الآخر، والعِلَّة في ذلك ظاهرة؛ حيث إن المتفق عليه مقدم على المختلف فيه في كل شيء. لذلك يُرجح خبر بسرة بنت صفوان في نقض الوضوء من مس الذكر على خبر طلق بن عليّ الحنفي المعارض له المفيد عدم النقض من مس الذكر؛ وذلك لأن خبر بسرة قد أخرجه مالك بإسناد ليس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2443 فيه إلا عدل متفق على عدالته، وأما رواة خبر طلق فإنه قد اختلف في عدالتهم. الطريق السابع: الترجيح بكون الراوي تتعلَّق القصة به، أو سفيراً فيها. إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبرين تتعلق القصة به، أو هو مباشر لها، أو سفير فيها دون راوي الخبر الآخر: فإنه يرجح خبر الراوي الذي تتعلق به القصة، أو كان سفيراً فيها على الخبر الآخر، وذلك لأن الراوي الذي تتعلق به القصة والقضية، أو هو مباشر لها أو سفير فيها أعرف بتفاصيل الموضوع، وأعلم بالقضية من غيره، فتكون روايته أقرب إلى الصحة، فيكون أميل إلى قبولها. لذلك يرجح خبر ميمونة - رضي اللَّه عنها -: " تزوجني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحن حلالان بسرف " على خبر ابن عباس - رضي الله عنهما -: " أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهو محرم "، وذلك لأن الراوية للأول هي التي عقد عليها، فهي أعرف بوقت عقدها، وتفاصيل الموضوع؛ لشدة اهتمامها به. ثم يؤيد ذلك ما رواه أبو رافع - رضي اللَّه عنه -: " أنه - صلى الله عليه وسلم - نكحها وهما حلالان "، فهذا يرجح على خبر ابن عباس؛ لأن أبا رافع كان سفيراً بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وميمونة، كما ورد التصريح به في بعض الروايات، وهذا مذهب كثير من العلماء. أما الحنفية فإنهم رجحوا خبر ابن عباس في هذا، لأنه أفضل فى الحفظ، وأحسن في الضبط، وأعلم بالشريعة منه. وقد جرى في ذلك مناقشات واعتراضات في هذا، تجده مبسوطا في كتب الفقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2444 الطريق الثامن: الترجيح بكون الراوي فقيهاً. إذا تعارض خبران، وراوي أحد الخبوين أفقه من راوي الخبر الآخر: فإنه يقدم الخبر الذي راويه أفقه على الخبر الآخر؛ وذلك لأن الراوي الفقيه أعرف بمدلولات الألفاظ، وأعلم باقتناص الأحكام الشرعية من الألفاظ، فهو - إذن - يميز بين ما يجوز وما لا يجوز، وبين ما يمكن حمله على ظاهره، وما لا يمكن فيه ذلك، فإذا سمع مثل ذلك فإنه يبحث عنه، وعن ما ليتعلق به من سبب نزوله ووروده حتى يطلع على ما يزول به الإشكال، بخلاف غير الفقيه، فليس كذلك " حيث إنه يروي ما يسمعه، وقد يؤدي إلى حكم غير صحيح، أو إلى حكم مخالف لمقاصد الشريعة. إذن يكون احتمال الخطأ في كلام الفقيه أقل، ويكون أكثر ضبطاً، وأشد اعتناء بنقل الكلام. لذلك يرجح خبر عائشة - رضي اللَّه عنها -: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يصبح جنباً من غير احتلام ويصوم " على خبر أبي هريرة - رضي الله عنه -: " من أصبح جنبا فلا صيام له ". الطريق التاسع؛ الترجيح بكون الراوي حسن الاعتقاد. إن الخبر الذي رواه راو حسن الاعتقاد يُرجح على الخبر الذي رواه مبتدع، لأن الثقة بكلام الراوي حسن الاعتقاد أكثر من غيره. لذلك يُرجح خبر قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إن النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عن صيام الدهر" على الخبر الذي رواه إبراهيم بن يحيى: أن رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - قال: " من صام الدهر فقد وهب نفسه لله "؛ لأن إبراهيم بن يحيى كان مبتدعاً - كما قال كثير من العلماء -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2445 الطريق العاشر: الترجيح بكون الراوي ورعاً. إذا كان راوي أحد الخبرين أورع من راوي الخبر الآخر، وأشد احتياطاً فيما يرويه: فإن خبره يرجح؛ لذلك الورع والاحتياط، فيكون كلامه أقل احتمالاً للخطأ. الطريق الحادي عشر: الترجيح بكون الراوي أعلم باللغة العربية. إذا كان راوي أحد الخبرين أعلم باللغة العربية من راوي الخبر الآخر: فإنه يرجح الخبر الذي رواه العالم باللغة العربية؛ لأمرين: أولهما: أن تطرق الخطأ إليه أقل. ثانيهما: أن من كان كذلك إذا سمع خبراً، وعرف أن فيه ما لا يحمل على ظاهره بحث عنه، وعن سبب وروده، وعن اشتقاقات كلماته حتى يزول الإشكال. فلذلك كان الوثوق برواياته أكثر. الطريق الثاني عشر: الترجيح بكون الراوي راجح العقل. إذا كان راوي أحد الخبرين أرجح عقلاً من راوي الخبر الآخر: فإنه يُرجح الخبر الذي رواه راجح العقل على من يختل عقله في وقت دون وقت؛ وذلك لتطرق احتمال روايته في وقت الخلل العقلي. لذلك رجح الحنفية خبر ابن عباس وهو: " أنه - صلى الله عليه وسلم - نكح ميمونة وهو محرم " على خبر ميمونة ورافع: " أنه نكحها وهما حلالان " وعللوا ذلك بأن ابن عباس أرجح عقلاً، وأعلم وأضبط من راوي الخبر الثاني. الطريق الثالث عشر: الترجيح بالتزكية، وفيه تفصيل: أولاً: أن يكون المزكي لأحد الراويين أكثر من الآخر، فخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2446 الراوي الذي زكاه الأكثر مرجح على خبر الأقل تزكية؛ لأنها أغلب على الظن. ثانيا: أن يكون المزكي لأحد الراويين أعدل وأوثق ممن زكى راوي الخبر الآخر، فيرجح الخبر الذي زكى راويه الأعدل والأوثق. ثالثا: أن تكون تزكية أحد الراويين بالحكم بشهادته، والآخر بالرواية عنه، فيرجح الخبر الذي حكم بشهادة راويه؛ لأن الاحتياط في الشهادة فيما يرجع إلى أحكام الجرح والتعديل أكثر منه في الرواية لذلك قبلت رواية العبد، والواحد، والمرأة، دون شهادتهم لوحدهم. رابعا: أن تكون تزكية أحدهما بالعمل بروايته، والآخر بالرواية عنه، فيرجح الأول؛ لأن الغالب من العدل أنه لا يعمل برواية غير العدل، بخلاف الرواية عنه؛ لأن قد يروي العدل عن شخص لو سئل عنه لسكت. خامسا: أن تكون تزكية أحدهما بصريح المقال، والآخر بالرواية عنه، أو بالعمل بروايته، أو بالحكم بشهادته فإنه يرجح الأول؛ لأن الرواية قد تكون عمن ليس بعدل، والعمل بما يوافق الرواية، والعمل بالشهادة قد تكون بغيرها وهو موافق لها، بخلاف. التزكية بصريح المقال؛ فإنه لا يحتمل غير التزكية والتعديل. لذلك يرجح خبر بسرة في نقض الوضوء من مس الذكر على خبر طلق، وهو عدم النقض من ذلك؛ لأن الأول قد أخرجه الإمام مالك، وليس في سنده إلا من هو متفق عليه، وكثر المزكون له، وأما رواة خبر طلق فقد قل مزكوهم واختلف في تعديل بعضهم. الطريق الرابع عشر: الترجيح بالشهرة، وهذا فيه تفصيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2447 أولاً: " أن يكون راوي أحد الخبرين مشهوراً بالحفظ، والإتقان، والضبط، دون راوي الخبر الآخر، فيرجح الراوي الأول، لأن شهرته في الضبط والحفظ والإتقان تؤدي إلى كئرة الثقة به، وقوة الاعتماد عليه، وقلة احتمال الخطأ والغلط منه. ثانياً: أن يكون راوي أحد الخبرين مشهور النسب أكثر من راوي الخبر الآخر، فيرجح الأول؛ لأن علو النسب والاشتهار به يسبب كثرة احترازه عما يوجب نقص منزلته المشهورة. ثالثاً: أن يكون راوي أحد الخبرين مشهوراً بدقة الإسناد أكثر من راوي الخبر الآخر، فيرجح الأول؛ لأن دقة الإسناد توجب علم الطمأنينة، فيكون قريباً من اليقين. لذلك رجح العلماء خبر شعبة وهو: " لا وضوء إلا من صوت أو ريح " على خبر بقية بن الوليد الكلاعي عن محمد الخزاعي وهو: " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال لمن قهقه في صلاته.. وأعد وضوءك "، وذلك لأن شعبة مشهور بين الأئمة، بخلاف بقية فإنه مجهول. الطريق الخامس عشر: الترجيح بعدم الالتباس في اسم الراوي. إذا كان روي أحد الخبرين معروف الاسم، ولم يلتبس اسمه بأسماء الضعفاء، بينما راوي الخبر الآخر قد التبس اسمه بأسمائهم فإنه يرجح الأول؛ لأنه أبعد من الاضطراب والشك. الطريق السادس عشر: الترجيح بكون الراوي أكئر ملازمة للشيخ المحدث. إذا كان راوي أحد الخبرين أكثر ملازمة للشيخ المحدث الذي يأخذ عنه الحديث، والآخر قليل الملازمة لذلك الشيخ، فإنه يرجح الأول؛ لأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2448 أولهما: أن المحدث قد ينشط تارة فيسرد الحديث على وجهه، وقد يتكاسل في بعض الأوقات فيقتصر على بعضه، أو يرويه مرسلاً. ثانيهما: أن من يكون جليساً للمحدثين أكثر يكون أعرف بطرق الأحاديث، وشرائطها. المسألة الثانية: طرق الترجيح التي ترجع إلى قوة السند وضعفه: الطريق الأول: الترجيح بكثرة الرواة. إذا كان رواة أحد الخبرين أكثر من رواة الخبر الآخر، فإن الخبر الذي رواته أكثر يرجح على الذي رواته أقل، وهو مذهب جمهور العلماء من السلف والخلف، وهو الحق، للأدلة التالية: الدليل الأول: أن قول الجماعة أقوى في الظن، وأبعد عن السهو والغلط والكذب. الدليل الثاني: أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يعمل بقول ذي اليدين: "أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول اللَّه " حتى أخبره بذلك أبو بكر وعمر. الدليل الثالث: أنه لما روى المغيرة بن شعبة - رضي اللَّه عنه -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " أطعموا الجدة السدس " قال أبو بكر: من يشهد معك؛ فشهد معه محمد بن سلمة. الدليل الرابع: أن الناس اعتادوا على الميل والأخذ بالأقوى في أمورهم العادية كالتجارة والزراعة، ولا شك أن الخبر الذي رواته أكثر أقوى من الخبر الذي رواته أقل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2449 وبعض الحنفية خالفوا في ذلك وقالوا: إنه لا يرجح بكثرة الرواة. دليل هذا المذهب: قياس الرواية على الشهادة، بيان ذلك: أن شهادة الشاهدين، والأربعة فكثر سواء، ولا فرق بينهما، كذلك خبر العدد في الرواية لا تؤثر في القبول وعدمه فيقبل الخبر سواء كثر الرواة، أو قلوا. جوابه: إن هذا - قياس فاسد؛ لأنه قياس مع الفارق، والفرق يتبين من وجهين هما: الوجه الأول: أن الشهادة مقدرة في الشرع بعدد، فإذا وجد هذا العدد وجب تعليق الحكم عليه، بخلاف الخبر فإنه غير منصوص على العدد فيه، فكان كلما كثر رواة الخبر كلما كان أقوى. الوجه الثاني: أن الشهادة قد حُدّدت بعدد معين لفصل الخصومات لأنه لو لم تحدد بعدد معين لقال الخصم: أنا سآتي بعدد أكثر مما أتى به خصمي. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي، هو واضح، فأصحاب المذهب الثاني لا يفرقون بين خبر رواه عشرة، وخبر رواه ثلاثة، أما أصحاب المذهب الأول فهم يفرقون فيرجحون الأول، ويتركون الثاني. الطريق الثاني: ترجيح المتواتر على الآحاد والمشهور، وهو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2450 الطريق الثالث: ترجيح الحديث المسند على الحديث المرسل على رأي الجمهور، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن الاعتماد في حجية الحديث على السند وصحة السند، وهذا يكون بالعلم بحال رجاله ورواته، والعلم بذلك متحقق في المسند، بخلاف المرسل، ولهذا تقبل شهادة الفرع إذا عرف شاهد الأصل، ولا تقبل إذا شهد مرسلاً. الدليل الثاني: أن المرسل قد يكون بينه وبين الرسول - صلى الله عليه وسلم - مجهول، وهذا الاحتمال منتف في المسند، فيرجح ما لا يحتمل على ما يحتمل. الدليل الثالث: أن المسند متفق على حجيته، بخلاف المرسل فقد اختلف في حجيته. الدليل الرابع: أنهما قد تساويا في الحكم الذي أفاداه ويزيد المسند بالإسناد، وما زاده ذلك إلا قوة بين الراوي المجتهد وبين النبي - صلى الله عليه وسلم -. الطريق الرابع: الترجيح بقلة الوسائط. إذا تعارض حديثان وأحدهما قليل الوسائط بين الراوي المجتهد وبين - صلى الله عليه وسلم - ويسمى: " عالي الإسناد "، أما الآخر فهو كثير الوسائط، فإنه يرجح قليل الوسائط؛ لأنه كلما قلت الوسائط والرواة كان أبعد عن احتمال الغلط والكذب، وأقوى في الظن اتصاله برسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم -. الطريق الخامس: الترجيح بالسلامة عن الاختلاف. إذا تعارض حديثان، لكن مسند أحدهما سالم من الاختلاف، والآخر مما اختلف فيه، فإنه يرجح الأول؛ لأن الاتفاق يقوي الحديث دون الثاني؛ لأن الاختلاف يضعف الحديث. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2451 المسألة الثالثة: طرق الترجيح التي ترجع إلى متن الحديث: الطويق الأول: الترجيح بقوة الدلالة. إذا تعارض خبران وأحدهما أقوى دلالة من الآخر؛ فإنه يرجح الأول؛ لقوة دلالته على الحكم. وإليك بيان ذلك: أولاً: يرجح الخبر الذي يحتمل احتمالات قليلة على الخبر الذي يحتمل احتمالات كثيرة، فاللفظ المشترك بين معنيين يرجح على اللفظ المشترك بين ثلاثة احتمالات؛ وذلك لأن كثرة الاحتمالات تضعف الدلالة. تانياً: يرجح الخبر الخاص على العام، والمقيد على المطلق. ثالنْاً: يرجح الخبر الدال على الحكم بالمنطوق على الخبر الدال على الحكم بالمفهوم الموافق والمخالف. رابعاً: يرجح الخبر الدال على الحكم بمفهوم الموافقة على الخبر الدال على الحكم بمفهوم المخالفة. خامساً: يرجح الخبر الدال على الحكم بمفهوم الشرط على الخبر الدال على الحكم بمفهوم العدد، أو اللقب وهكذا. سادساً: يرجح المتن الدال على الحكم مع ذكر العلَّة، على المتن الدال علوا الحكم بدون ذكر العِلَّة. سابعاً: يرجح الخبر الدال على العموم وباق على عمومه، على الخبر الدال على عموم مخصوص؛ لأن التخصيص يضعف دلالة اللفظ، لذلك قال بعضهم: إنه دلالة اللفظ بعد التخصيص على الباقي دلالة مجازية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2452 ثامنا: يرجح الخبر الذي لفظه فصيح على غيره، لكونه أقرب أن يكون لفظ - صلى الله عليه وسلم -؛ حيث إنه عليه السلام أفصح العرب فيبعد نطقه بغير الفصيح، وبذلك يظهر أن غير الفصيح مروي بالمعنى، فيكون من الراوي. الطريق الثاني: الترجيح بكون الخبر مرويا باللفظ: إذا تعارض خبران وأحدهما قد روي باللفظ، والآخر قد روي بالمعنى: فإنه يرجح الخبر الذي روي باللفظ؛ لأمرين: أولهما: أنه يكون أغلب على الظن بكونه من كلام الرسول - صلى الله عليه وسلم -. ثانيهما: أن المروي باللفظ متفق على جواز روايته، وعلى كونه حُجة، بخلاف المروي بالمعنى فقد اختلف فيه، والمتفق عليه مقدم على المختلف فيه. الطريق الثالث: الترجيح بكون لفظ الخبر مؤكداً. إذا تعارض خبران، ولفظ أحدهما مؤكد، ولفظ الآخر غير مؤكد، فإنه يرجح الأول؛ لأن الثاني يتطرق إليه الاحتمال والتأويل بخلاف الأول، فإنه لا يحتمل ذلك. الطريق الرابع: الترجيح بكون اللفظ مستقلاً. إذا تعارض خبران وأحدهما قد أفاد الحكم المراد من غير حاجة إلى إضمار وتقدير، والآخر يحتاج إلى ذلك، فإنه يرجح الأول - وهو الذي لا يحتاج إلى شيء -؛ لأمرين: أحدهما: أن الأصل استقلال كل نص بالإفادة وأخذ الأحكام، والإضمار خلاف الأصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2453 ثانيهما: أن المستقل بنفسه معلوم المراد منه، والمحذوف منه ربما يلتبس عليه ما هو المضمر منه. الطريق الخامس: الترجيح بكون المتن سالما من الاضطراب. إذا تعارض خبران ومتن أحدهما سالم من الاضطراب، بخلاف الخبر الآخر، فإنه مضطرب، فإنه يرجح الأول - وهو السالم من الاضطراب -؛ لأمرين: أولهما: أن ما لا اضطراب فيه يدل على حفظ راويه، - وضبطه، وسوء حفظ الخبر الذي وجد فيه اضطراب. ثانيهما: أن ما لا اضطراب فيه أشبه بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -. الطريق السادس: الترجيح بكون الخير مرويا في ثنايا قصة مشهورة. إذا تعارض خبران، وأحدهما قد روي في ثنايا قصة مشهورة معروفة عند أهل النقل، والخبر الآخر قد انفرد به الراوي وذكره بدون قصة: فإنه يرجح الأول، لأنه أقوى في النفوس وأقرب إلى السلامة من الغلط مما يرويه المنفرد بدون قصة. الطريق السابع: الترجيح بكون الخبر قولاً. إذا تعارض خبران وأحدهما نقل قوله - صلى الله عليه وسلم -، والآخر نقل فعله، أو تقريره: فإنه يرجح قوله على فعله، وفعله على تقريره، وقد سبق بيان ذلك. الطريق الثامن: الترجيح بكون المتن قد تضمن نهيا. إذا تعارض خبران وأحدهما نهي وما في معناه من النفي، والآخر أمر وما في معناه، فإنه يرجح الخبر الذي فيه النهي؛ لأن الغالب في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2454 النهي دفع المفسدة الموجودة في المنهي عنه، والغالب في الأمر بالشيء جلب المصلحة الموجودة في المأمور به، واهتمام العقلاء بدفع المفاسد أكثر وأشد من اهتمامهم بجلب المصالح، يؤيد ذلك: أنه يجب دفع كل المفاسد، ولا يجب جلب كل المصالح. *** المسألة الرابعة: طرق الترجيح التي ترجع إلى الحكم: الطريق الأول: ترجيح درء الحد على الموجب له. إذا تعارض خبران: أحدهما يثبت الحد على عمل مخصوص، والآخر ينفيه: فإنه يرجح الخبر الثاني - وهو: الذي ينفي الحد -؛ لأمور: الأول: أن الحد ضرر، والضرر يزال؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ". الثاني: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرأوا الحدود بالشبهات ". فالحدود تدفع، وتزال بالشبهات، والحديث المعارض الذي ينفي الحد أقل درجته يورث الشبهة، فيدفع الحد بها، فيعمل بمقتضى الحديث النافي له. الثالث: أن ترك إقامة الحد على من يجب عليه الحد أوْلى من إقامة الحد على من ليس عليه؛ لما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "لأن يخطئ أحدكم في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة ". الطريق الثاني: ترجيح الخبر الناقل على الخبر المقرر لحكم الأصل. فإذا ورد خبران: أحدهما مبقي على البراءة الأصلية، ويوبجب الثاني النقل عنها، وذكر حكم جديد، فإنه يرجح الثاني؛ لأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2455 أحدهما: أن الثاني يفيد التأسيس، والخبر الأول يفيد التأكيد وتقرير حكم الأصل، والتأسيس أوْلى من التأكيد. ثانيهما: أنه يوجد في الخبر الثاني زيادة علم، بينما الأول لا يوجد فيه ذلك، والذي يفيد الزيادة مقدم على ما ليس كذلك. الطريق الثالث: ترجيح الوجوب على الإباحة، والكراهة، والندب. إذا ورد خبران أحدهما يفيد إيجاب شيء، والثاني يفيد الندب، أو الكراهة، أو الإباحة، فإنه يرجح الأول - وهو المفيد للإيجاب -؛ لأمرين: أولهما: أن تارك الواجب مستحق للعقاب، بخلاف تارك المندوب، والكراهة، والإباحة. ثانيهما: أن ترجيح الواجب أحوط لدين المسلم. الطريق الرابع: ترجيح الخبر المحرم، على الموجب. إذا تعارض خبران: أحدهما يدل على تحريم شيء، والآخر يدل على وجوب ذلك الشيء: فإنه يرجح الأول - وهو الدال على التحريم -؛ لما سبق أن قلناه من أن الغالب أن التحريم لدفع المفسدة والموجب إنما أوجب لمصلحة فيه، واهتمام الشارع بدرء المفاسد أكثر من جلب المصالح، فلذلك يقدم المحرم على الموجب. الطريق الخامس: ترجيح ما يفيد التحريم على ما يفيد الإباحة. إذا تعارض دليلان أحدهما يفيد حرمة شيء، والآخر يفيد إباحته، فإن الأول - وهو ما يفيد الحرمة - يرجح؛ لأمور: أولها: أن في ترجيح لحرمة تقديماً للتأسيس على التأكيد؛ حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2456 إن تقديم المباح على الحرمة تبع للأصل، وهو أن الأصل في الأشياء الإباحة، فيكون الدليل لم يفد شيئا، بل أفاد نفس ما أفادته الإباحة الأصلية، فيكون جاء للتأكيد، فيكون تقديم المفيد للتحريم أوْلى؛ نظراً لقاعدة تقديم التأسيس على التأكيد. ثانيها: ما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " ما اجتمع الحلال والحرام إلا وغلب الحرام الحلال ". ثالثها: أن العمل بمقتضى الحرام أحوط؛ لأن ملابسة الحرام توقع في الإثم، بخلاف ملابسة المباح فلا توجب ذلك. الطريق السادس: ترجيح مثبت الطلاق والعتالتى على نافيهما. إذا تعارض حديثان أحدهما نافي للطلالتى والعتاق، ومبقي لعصمة الزوجية ولقيد العبودية، والثاني: موجب لتحقق الطلاق ورفع العصمة، أو العتاق، ورفع العبودية، فإنا نرجح الثاني - وهو: تحقق الطلاق والعتاق، ورفع العصمة وملك اليمين -؛ لأمرين: أولهما: أن الأصل عدم القيد من العصمة والرق. ثانيهما: أن المثبت عنده زيادة علم لا توجد عند النافي. الطريق السابع: ترجيح الأشد على الأخف. إذا تعارض دليلان: أحدهما: يفيد حكما أخف، والآخر يفيد حكماً أشد وأشق: فقد اختلف العلماء في أيهما الرجح على مذهبين: المذهب الأول: أنه يرجح الخبر الأثقل الأشد. وهو مذهب الجمهور، وهو الحق؛ للأدلة التالية: الدليل الأول: أن زيادة شدته ومشقته وثقله تدل على تأكد المقصود، وفضله على الأخف الأيسر، فالمحافظة عليه أوْلى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2457 الدليل الثاني: أن الأحكام الشرعية إنما شرعت لمصالح العباد، ومصلحة العباد في الأشق والأثقل؛ لأنها أكثر أجرأ كما ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: "ثوابك على قدر نصبك "، وفي رواية: " إن لك من الأجر على قدر نصبك ونفقتك ". المذهب الثاني: أنه يرجح الدليل الأخف على الأشد. وهو مذهب تاج الدين الأرموي، وتلميذه البيضاوي. أدلة هذا المذهب: الدليل الأول: أن مبنى الشريعة على التخفيف؛ لقوله تعالى: (الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا) . جوابه: لا نسلم ذلك، بل إن الشريعة مبنية على ما يقتضيه مصلحة العباد، ودفع المفسدة عنهم، وهذا يكون في الأشد والأغلظ والأخف والأيسر، ثم إن الآية نزلت في حالة خاصة - وهي التخفيف في القتال - فلا يستدل بها على إثبات قاعدة عامة. الدليل الثاني: أن التغليظ فيه ضرر، والضرر مزال عنا؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ". جوابه: لا نسلم أن التغليظ فيه ضرر، بل إن التغليظ إذا ورد فيه دليل صحيح، فإن فيه مصلحة كما بينا فيما سبق. بيان نوع الخلاف: الخلاف هنا معنوي له ثمرة كما هو واضح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2458 الطريق الثامن: ترجيح الخبر المحرم على الخبر - المفيد للكراهة. إذا تعارض دليلان: أحدهما يفيد حرمة شيء، والآخر يفيد كراهته: فإنه يرجح الأول - وهو المفيد التحريم -؛ لأن مفسدة الحرمة أشد من مفسدة الكراهة، فلذلك يرجح ما يفيد الحرمة احتياطا. *** المسألة الخامسة: طرق الترجيح التي ترجع إلى أمر خارجي: الطريق الأول: الترجيح بموافقة القرآن. إذا تعارض خبران، وأحدهما قد وافقته آية من الكتاب، دون الأخر: فإتا نرجح الأول - وهو الموافق للآية -؛ لأن الآية قد أفادت زيادة قوة في الظن في الخبر. الطريق الثاني: الترجيح بموافقة السُّنَّة. إذا تعارض خبران، وأحدهما يوافقه حديث آخر، دون الخبر الآخر، فإنه يرجح الأؤل - وهو الموافق لحديث آخر -؛ لأن الحديث الآخر قد أفاد زيادة قوة في الظن في الخبر الموافق له. الطريق الثالث: الترجيح بموافقة القياس. إذا اتفق خبران في كل شيء، إلا أن أحدهما قد وافقه قياس، دون الآخر، فإنه يرجح الأول - وهو الموافق للقياس -؛ لما قلناه؛ لأن القياس قد أفاد زيادة قوة في الظن في الخبر الموافق له. الطريق الرابع: الترجيح بالعمل به. إذا تعارض خبران في كل الوجوه، إلا أن أحدهما قد عمل الصحابة أو التابعون، أو أهل العلم بمقتضاه، والآخر لم يعمل به هؤلاء، فإنه يرجح الأول - وهو الخبر المعمول به؛ لأمرين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2459 أولهما: أن عملهم به يدل على أنه كان آخر الأمرين من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. ثانيهما: احتمال أن عملهم به لقوته، وعدم عملهم بالآخر لضعفه. الطريق الخامس: الترجيح بتأخر الوقت. إذا تعارض خبران، وأحدهما قد اقترنت به قرائن تدل على تأخر وقته، ولم يقترن بالآخر ما يدل على ذلك: فإنه يرجح الأول - وهو: ما دلت قرائن على أنه متأخر -؛ لأن المتأخر يكون هو آخر الأمرين من النبي - صلى الله عليه وسلم -، فيجب العمل به فيكون ناسخا للأول والقرائن هى: أولاً: كون إحدى الروايتين مؤرخة بتأريخ مضيق، بخلاف الآخر، فتكون الرواية غير المؤرخة هي الراجحة، لاحتمال تأخرها في الغالب. ثانياً: كون إحدى الروايتين ذكر فيها مكة، والأخرى ذكر فيها المدينة، فإن ما ذكر فيها المدينة مرجح على الأخرى، نظراً لتأخرها. ثالثاً: أن يعلم أن أغلب رواية أحدهما بعد رواية الآخر غالبا، فيرجح المتأخر. الطريق السادس: الترجيح باشتمال الخبر على زيادة. إذا تعارض خبران، وأحدهما فيه زيادة لا توجد في الآخر: فإنه يرجح الخبر الذي اشتمل على الزيادة؛ لأمور: أولها: أن الراوي الذي في خبره الزيادة عنده زيادة علم لا توجد عند غيره. ثانيها: أن دلالة الحديث الذي فيه زيادة دلالة ناطق، ودلالة الحديث الآخر دلالة ساكت، ودلالة الناطق مقدمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2460 المطلب الثاني في طرق الترجيح بين معقولين ويشتمل على المسائل التالية: المسألة الأولى: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى الأصل. المسألة الثانية: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى العِلَّة. المسألة الثالثة: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى الفرع. المسألة الرابعة: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى الأمور الخارجية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2461 المسألة الأولى: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى الأصل: الطريق الأول: إذا تعارض قياسان، وكان الأصل في أحدهما حكمه قطعي، وفي الآخر حكمه ظني: فإنه يرجح القياس الذي حكمه قطعي؛ لأن ما كان حكم أصله ظنيا يتطرق إليه الخلل، بخلاف ما كان حكمه قطعيا. الطريق الثاني: إذا تعارض قياسان، وحكم أحدهما قد جرى على وفق القياس، ومقتضى القواعد الكلية، وحكم القياس الآخر معدول به عن سنن القياس، فإنه يرجح القياس الأول؛ لكونه أبعد عن التعبد، وأقرب إلى العقول وموافقة الدليل. الطريق الثالث: إذا تعارض قياسان وأحدهما يقتضي الإباحة، والآخر يقتضي التحريم؛ فإنا نرجح القياس المقتضي للتحريم؛ لأمرين: أولهما: أنه إذا اشتبه المباح بالمحظور غلب جانب الحظر. ثانيهما: أن الخطأ في نفي هذه الأحكام أسهل من الخطأ في إثباتها. الطريق الرابع: إذا تعارض قياسان، أحدهما يثبت الحد، والآخر يسقط الحد، فإنه يرجح القياس المفيد إسقاط الحد، وهو مذهب كثير من الشافعية، وهو الحق؛ لدليلين: الدليل الأول: قوله - صلى الله عليه وسلم -: "ادرأوا الحدود بالشبهات "، والقياس المعارض أقل درجاته أن يكون فيه شبهه، والشبهه تدرأ الحدود. الدليل الثاني: أن الحدود ضرر، والضرر منفي في الإسلام، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: " لا ضرر ولا ضرار في الإسلام ". الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2463 الطريق الخامس: إذا تعارض قياسان أحدهما ينفي العتق، والآخر يثبت العتق، فإنه يرجح الثاني - وهو إثبات العتق -؛ لأمرين: الأول: أن العتق يتشوف إليه الشارع، دون الرق، فيقدم ما يتشوف إليه الشارع، وما يتفق مع مقاصد الشريعة، وأهداف الإسلام. الثاني: أن الأصل زوال قيد ملك اليمين وهو الأصل، فيكون القياس الموافق لهذا الأصل هو المرجح. الطريق السادس: إذا تعارض قياسان، واتفق أهل القياس على تعليل أحدهما، بخلاف الآخر: فإنه يرجح الأول - وهو المتفق على تعليل حكم أصله -؛ لأن المتفق على تعليله مقدم على المختلف الطريق السابع: إذا تعارض قياسان، أحدهما قد اتفق على عدم نسخ حكم أصله، والآخر قد اختلف في نسخ حكم أصله، فإنه يرجح الأول؛ لأن النسخ يؤدي إلى الخلل في فهم المقصود. *** المسألة الثانية: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى العلة: الطريق الأول: إذا تعارض قياسان، وكانت علَّة أحدهما قاصرة، وعلة الآخر متعدية: فإنه ترجح العِلَّة المتعدية؛ لأن العِلَّة المتعدية أتم فائدة من العلَّة القاصرة، وأكثر منفعة؛ لأنها تفيد تعميم الأحكام، وهو الأصل. الطريق الثاني: إذا تعارض قياسان، أحدهما وجدت العِلَّة فيه بصورة قطعية، والآخر وجدت العلَّة فيه بصورة ظنية، فإنه يرجح الأول؛ لأن القاطع لا يحتمل غير العلية، بخلاف الظن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2464 الطريق الثالث: إذا تعارض قياسان، وكانت علَّة أحدهما منعكسة - أي: كلما عدم الوصف عدم الحكم -، وعلة الآخر ليست كذلك: فإنه يرجح الأول؛ لأن عدم الحكم عند عدم الوصف دليل اختصاص الحكم بالعِلَّة، وأكدت تعلقه به. الطريق الرابع: إذا تعارض قياس أحدهما جلي - وهو: ما علم فيه نفي الفارق بين الأصل والفرع -، والآخر خفي - وهو ما لم يعلم ذلك - فإنه يقدم الجلي؛ نظراً لقوة الجلي. الطريق الخامس: إذا تعارض قياسان، أحدهما ثبتت عِلَّته عن طريق النص، والآخر عن طريق الإجماع، فإنه يرجح الثاني؛ لأن الإجماع لا يحتمل النسخ والتأويل، بخلاف النص. وكذلك النص يقدم على الإيماء. الطريق السادس: إذا تعارض قياسان أحدهما ثبتت عِلَّته عن طريق الإيماء بجميع أنواعه، والآخر ثبتت علَّته عن طريق غيره من الطرق الاجتهادية كالمناسبة، والدوران، فإَنه يرجح الأول؛ لأن الإيماء طريق أقوى من غيره، وما كان متفقا عليه أوْلى بالاتباع. وهكذا في جميع الطرق المثبتة للعلية - مسالك العلَّة - يقدم الأقوى على الأضعف: فيقدم الناسب على الدوران، والدوران على ما ثبتت عليته بالسبر والتقسيم، وهكذا. الطريق السابع؛ إذا تعارض قياسان، أحدهما علَّته عامة توجد في جميع الأفراد، والآخر علَّته خاصة قد خرج منها بعض الأفراد، فإنه يرجح الأول؛ لكثرة فوائد عِلَّته. الطريق الثامن: إذا تعارض قياسان: أحدهما عِلَّته تقتضي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2465 الاحتياط، والآخر عِلته تقتضي عدم ذلك: فإنه يرجح الأول، وهو واضح. الطريق التاسع: إذا تعارض قياسان: أحدهما يشهد لعلته أصلان - أي: يمكن استنباطها من أصلين - والآخر يشهد له أصل واحد، فإنه يرجح الأول؛ لأن ما يشهد له اثنان أقوى مما يشهد له واحد. الطريق العاشر: إذا تعارض قياسان: أحدهما علَّته ناقلة - أى: مفيدة حكما شرعيا جديداً - والآخر علَّته مبقية على الأصل، فإنه يرجح الأول - وهو القياس الذي عِلَّته ناقلة -؛ لأمرين: أولهما: أن الناقلة من قبيل المثبت، والأخرى من قبيل النافي، فيقدم المثبت على النافي؛ لأن فيها زيادة علم؛ قياسا على الخبرين. ثانيهما: أن الناقلة تفيد حكما شرعيا، والأخرى لا تفيد شيئاً إلا ما كان ثابتا قبل ذلك، فما كان مفيداً حكما شرعيا جديدأ أوْلى؛ قياسا على الخبرين المتعارضين. الطريق الحادي عشر: إذا تعارض قياسان: أحدهما عِلته مفردة، وعلة الآخر مركبة من أوصاف، فإنه يرجح الأول؛ لأنه كلما كانت العَلَّة أقل أوصافا كلما كان ذلك أقرب إلى القبول، وأقوى في الظن، وأقل اجتهاداً. الطريق الثاني عشر: إذا تعارض قياسان: أحدهما علته وصفا مشتملاً على الحكمة، والآخر علَّته نفس الحكمة: فإنه يرجح الأول؛ لإجماع العلماء على صحةَ التعليل بالعلَّة، واختلافهم في جواز التعليل بالحكمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2466 المسألة الثالثة: طرق الترجيح بين الأقيسة الثي ترجع إلى الفرع: الطريق الأول: إذا تعارض قياسان: أحدهما الفرع فيه مقطوع بوجود العلة فيه، والآخر مظنون بوجود العلة فيه: فيرجح ما كان الفرع مقطوعاً بوجود العِلَّة فيه؛ لأنه أغلب على الظن، وأبعد عن احتمال. الطريق الثاني: إذا تعارض قياسان: أحدهما ورد الفرع فيه متأخر عن أصله، والآخر متقدم، فيرجح الأول؛ نظراً لسلامته من الاضطراب، وبعده عن الاختلاف. الطريق الثالث: إذا تعارض قياسان مشتركان في عِلَّة الحكم أو جنسه، أو في العلَّة: فإنه يرجح القياس الذي كان الفرع فيه مشاركا للأصل في عين الحكم وعين العِلَّة، على القياس الذي كان الفرع فيه مشاركاً للأصل في جنس الحكم، وجنس العِلَّة؛ لأن التعدية باعتبار الاشتراك في المعنى الأخص أغلب على الظن من الاشتراك في المعنى الأعم. *** المسألة الرابعة: طرق الترجيح بين الأقيسة التي ترجع إلى الأمر الخارجي: الطريق الأول: إذا تعارض قياسان، أحدهما قد وافقه عمل أهل المدينة؛ بخلاف الآخر، فإنه يرجح الأول؛ لأن موافقته لعمل أهل المدينة قوى الظن به، بخلاف الآخر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2467 الطريق الثاني: إذا تعارض قياسان: أحدهما قد وافقه ظاهر الكتاب أو السُّنَّة، بخلاف الآخر: فإنه يرجح الأول؛ لما سبق. الطريق الثالث: يرجح القياس الذي وافقه عمل الخلفاء الأربعة على القياس الذي لم يوافقه عملهم. الطريق الرابع: يرجح القياس الذي وافقه قياس آخر، على القياس الذي لم يوافقه قياس آخر، وهذا على مذهب جمهور العلماء؛ لما سبق ذكره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2468 المطلب الثالث في طرق الترجيح بين منقول ومعقول المنقول قسمان: القسم الأول: منقول خاص. القسم الثاني: منقول عام. أط القسم الأول - وهو: المنقول الخاص - فهو نوعان: النوع الأول: أن يكون دالًّا على حكمه بالمنطوق. النوع الثاني: أن يكون دالًّا على حكمه بالمفهوم. فإذا تعارض القياس مع النوع الأول - وهو: المنقول الخاص الذي دلَّ على حكمه بالمنطوق -: فإنه يرجح المنقول الخاص؛ لأمرين: أولهما: أنه أصل بالنسبة إلى القياس. ثانيهما: قلة تطرق الخلل إليه. وإن تعارض القياس مع النوع الثاني - وهو: المنقول الخاص الذي دلَّ على حكمه بالمفهوم - فهذا يختلف باختلاف قوة أنواع المفاهيم، ويختلف بحسب اختلاف المجتهدين وما يقع في نفوسهم من قوة الدلالة، وضعفها، وهذا لا يمكن ضبطه بقاعدة، لذلك يكون هذا موكولاً إلى نظر الناظرين في آحاد الصور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2469 أما القسم الثاني - وهو: المنقول العام -: إذا عارضه القياس فقد اختلف العلماء في ذلك على مذاهب: أصحها: أن القياس يرجح على العام؛ لأنه يلزم من العمل بعموم ألعام إبطال دلالة القياس مطلقا، ولا يلزم من العمل بالقياس إبطال العام مطلقا، بل كل ما يلزم منه تخصيصه بالقياس، أو تأويله، ومعروف أن الجمع بين الدليلين على وجه أوْلى من العمل بأحدهما دمابطال الآخر، وذلك لأن القياس - المعارض للعام - يتناول المتنازع فيه بخصوصه، والمنقول يتناوله بعمومه، والخاص أقوى من العام. ما اعترض به على هذا: الاعتراض الأول: أن العموم أصل للقياس، والقياس فرع، والأصل مقدم على الفرع. جوابه: أن هذا الاعتراض إنما يلزم لو كان ما قيل بتقديم القياس عليه هو أصل ذلك القياس المقدم عليه، ولكن الأمر ليس كذلك، حيث إن القياس المقدم يجوز أن يكون فرعا لغيره. الاعتراض الثاني: أن تطرق الخلل إلى العموم أقل من تطرقه إلى القياس، فكيف مع ذلك يقدم القياس الكثير الخلل والاحتمالات على العام القليل الخلل والاحتمالات. جوابه: أن هذا الاعتراض معارض بمثله، فإن العام يحتمل أن يكون غير ظاهر في العموم، فيكون الخلل فيه أكثر من احتمال الخلل في القياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2470 وإن كان العام ظاهراً، فإنه يحتمل الخصوص، وهذا الاحتمال غالب على الشرع، من احتمال الغلط من المجتهد، يؤيد ما قلناه: قولهم: ما من عام إلا - قد خصص إلا قوله تعالى: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) أما القياس ولا يوجد فيه ذلك. هذا آخر المجلد الخامس، وهو آخر ما تيسر لي من الكتابة في هذا الكتاب الموسوم: " المهذَّب في علم أصول الفقه المقارن - تحرير لمسائله ودراستها دراسة نظرية تطبيقية " أرجو من اللَّه العلي القدير أن ينفع به طلاب العلم، وأن يكون ذخيرة صالحة في الآخرة. وكان الفراغ منه مساء يوم الإثنين الموافق للسابع والعشرين من شهر رجب من عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر من الهجرة النبوية الشريفة بمدينة الرياض حماها اللَّه. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وصلى اللَّه وسلم وبارك على أفضل خلقه نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. الأستاذ الدكتور عبد الكريم بن علي بن محمد النملة الأستاذ في قسم أصول الفقه بكلية الشريعة بالرياض جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2471 الفهارس العامة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 2472